آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي

البشير الإبراهيمي

الجزء الأول

ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. الجزء الأول 1929 - 1940 الناشر: دار الغرب الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــــــ

1977 - دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى

آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي

ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ تلمسان 1937 ــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة ــــــــــــــــــــــــــ منذ وفاة والدي الشيخ محمد البشير طالب الإبراهيمي- رحمه الله- في 20 مايو 1965، لم تفارقني ذكراه في حلي وترحالي، وفي يقظتي ومنامي، وذلك لأن العلاقة بيننا لم تكن تلك العلاقة التقليدية بين الابن وأبيه، أو بين التلميذ وأستاذه، بل كانت أقوى من ذلك بكثير، فقد كان بالنسبة لي أبا وأستاذا وصديقا ورائدا ومثلا أعلى أقتدي به، وأستنير برأيه في كل خطواتي، ولذلك فإن صدمتي بفقده جعلتني لا أستطيع الكتابة عنه طوال ثلاثين سنة، باستثناء المقدمة التي كتبتها للطبعة الثانية لـ "عيون البصائر"، بإلحاح شديد من شاعر الجزائر الكبير المرحوم محمد العيد آل خليفة (1). وكنت طوال هذه المدة أستلهم كل أعمالي وأقوالي من تربيته وتوجيهاته، وأحاول في كل المسؤوليات التي تقلدتها أن أنهج نهجه، وأنسج على منواله في حبه للجزائر، والإسلام، والعربية. وفي تفانيه للدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة حتى آخر رمق من حياته، وكنت أشعر وكأنه- رحمه الله- من وراء حجب الغيب يوجه خطاي للعمل الدؤوب في خدمة البلاد والعباد، وفي إرساء المبادئ السامية التي كافح من أجلها لتعيش الجزائر حرة عزيزة كريمة في كنف العدالة الاجتماعية. وإني وإن كنت لم أستطع الكتابة عنه طيلة هذه السنوات، فإني عملت على جمع آثاره في طبعة أولى (2)، بدأت تظهر منذ السبعينات في أربعة أجزاء، بالإضافة إلى الجزء الذي

_ 1) آثار الإمام الإبراهيمي، ج 3، - صلى الله عليه وسلم - 35. 2) بمساعدة الأستاذين حمزة بوكوشة- رحمه الله- ومحمد خمار. وقد صدر الجزء الأول سنة 1978، والجزء الثالث سنة 1981، والجزء الرابع سنة 1985، والجزء الخامس "في قلب المعركة" سنة 1994، و"عيون البصائر" تمثل الجزء الثاني من هذه الطبعة الأولى.

هذه الآثار وتاريخ الجزائر

طبع في حياته تحت عنوان "عيون البصائر". وها أنا اليوم- بعد ابتعادي عن المسؤوليات- أقدم للقراء طبعة جديدة من آثار الوالد بعد سنتين من البحث والتنقيب عما تركه من كتابات مخطوطة أو مطبوعة كانت متناثرة هنا وهناك. ولئن كانت هذه الآثار المطبوعة ضئيلة في حجمها بالنسبة إلى حياة الشيخ الحافلة، فإن كثيرا ضاع، وكثيرا مما ألقاه من دروس وخطب ومحاضرات لم يسجل لأنه كان يلقيه ارتجالا، ولم تتسن كتابة إلا أقل القليل منه، وكانت له مؤلفات وكتابات مخطوطة حول العديد من المواضيع في الدين واللغة والأدب والاجتماع ضاعت إبان حرب التحرير، إما عند بعض تلامذته أو في بيته بالجزائر العاصمة حين اقتحمه الجيش الفرنسي سنة 1957 - وهو بالمشرق العربي- وعاث في مكتبته تخريبا ونهبا، ففقدت مخطوطاته ومعظم كتبه. وبالرغم مما للوالد من أبحاث ومقالات فإنه يعد من ذلك الرعيل من المفكرين الذين شغلتهم الاهتمامات القومية ومسؤولياتهم في الحركة الإصلاحية عن الإنتاج المكتوب، وهو في ذلك كالشيخ سالم بوحاجب بتونس، والشيخ محمد بن العربي العلوي بالمغرب الأقصى، وقبلهما حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، فهؤلاء قضوا حياتهم في تكوين الرجال لا في تأليف الكتب، ولقد كان البشير الإبراهيمي يقدم الأهم على المهم إذ نذر حياته للإصلاح الديني والاجتماعي وتكوين الرجال القادرين على حماية إسلام الجزائر وعروبتها. وقد أكد ذلك في آخر حياته بقوله: "لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته، فأصبح مسلما عربيا، وصححت له موازين إدراكه، فأصبح إنسانا أبيا، وحسبي هذا مقربا من رضى الرب ورضى الشعب " (3). وكانت صورة الأمير عبد القادر الجزائري ماثلة أمامه دائما، لأن عبد القادر كالإبراهيمي كان لا يفصل بين العلم والعمل، ولا يفرق بين النضال والتفكير. ... هذه الآثار وتاريخ الجزائر: إن الحديث عن الإبراهيمي هو حديث عن الجزائر: أصالة وحضارة وصمودا ونهضة وتحررا، فقد جسد الجزائر في شخصيته: نشأة وتكوينا وإشعاعا وقولا وكتابة وسلوكا. إن آثاره التي توزعت حياته بمختلف مراحلها حافلة بما أثمره جهاده الطويل من جلائل الأعمال، فقد جسدت بصدق وأمانة حياة الجزائر خلال حقبة كاملة من تاريخها الحديث.

_ 3) آثار الإمام الإبراهيمي، ج 5، - صلى الله عليه وسلم - 288.

الحركة العلمية الإصلاحية الدينية

وهناك حقيقة لا بد من تأكيدها هنا، وهي أن مفتاح الدخول إلى هذه الآثار وفهمها حق الفهم لمعرفة الإبراهيمي حق المعرفة، ولتقديره بما هو جدير به، ليس الإطلاع على حياته فحسب، بل ضرورة الإطلاع على هذه الحقبة التاريخية المتميزة في حياة الجزائر والوقوف على مختلف أبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وفهم تطور الوعي في المجتمع الجزائري الذي تطورت معه أساليب المقاومة والجهاد من أجل التحرير والاستقلال لأن الذي لا يفهم طبيعة هذه المرحلة فهما دقيقا لا يستطيع أن يفهم رسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أو يدرك أهدافها البعيدة التي رسمتها وجاهدت من أجل تحقيقها، هذه الجمعية التي نشط فيها الإبراهيمي مع غيره من إخوانه العلماء، فكان نائبا لرئيسها الأول الإمام عبد الحميد بن باديس في حياته، ثم رئيسا لها بعد وفاته. وإذا استعرضنا العوامل الحاسمة في نهوض المجتمع الجزائري في العصر الحديث دينيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا، نجمل ذلك في حركتين بارزتين ومتكاملتين: 1 - الحركة العلمية الإصلاحية الدينية التي انطلقت بوادرها مع بداية القرن العشرين، ثم تطورت بقيام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالتدريس في قسنطينة، غداة تخرجه من الجامعة الزيتونية سنة 1913، ونضجت هذه اليقظة مع عودة بعض العلماء من مهجرهم بالشرق العربي إلى الوطن، أمثال أبي يعلى الزواوي، والطيب العقبي، والبشير الإبراهيمي، ثم تبلورت في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931، غداة احتفال فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر، اعتقادا منها أنها قضت على الشخصية الجزائرية نهائيا بقضائها على الإسلام والعروبة فيها، ومما قاله أحد الحكام الفرنسيين في الجزائر بهذه المناسبة: "إِنَّنَا لَنْ نَنْتَصَرَ عَلَى الْجَزَائِرِيِّينَ مَا دَامُوا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَكَلَّمُونَ الْعَرَبِيَّةَ، فَيَجِبُ أَنْ نُزِيلَ الْقُرْآنَ مِنْ وُجُودِهِمْ، وَأَنْ نَقْتَلِعَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ". 2 - الحركة السياسية ممثلة في تأسيس حركة "نجم شمال إفريقيا" في باريس من العمال المهاجرين لكل من تونس والجزائر والمغرب عام 1927 وما تلاها كتأسيس "حزب الشعب الجزائري " عام 1937، ثم "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" عام 1946، وما تولد عنها من منظمات سرية وعلنية تألقت بمواقف وتضحيات بطولية مشهودة، وأخيرا كل ما عزز الكفاح الوطني من حركات سياسية وثقافية كـ "أحباب البيان والحرية" و "الكشافة الإسلامية الجزائرية ". وإذا كانت الحركات السياسية اعتمدت- بحكم طبيعتها- الكفاح السياسي لبلوغ غايتها، وتجنيد فئات الشعب حول برامجها، فإن الحركة الدينية التي تمثلها "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين " مهدت السبيل باعتماد أسلوب الإصلاح الديني والاجتماعي الذي هيأ الأنفس

للإنصهار في الحركة السياسية، عن طريق التربية والتعليم والتكوين، وبناء المساجد، والنوادي، والمدارس، وإحياء المقومات الذاتية للشخصية الجزائرية، وربط الجزائر بمحيطها العربي الإسلامي الذي أراد الاستعمار انتزاعها منه، وبهذه العناصر تكون الوحدة الوطنية مصونة راسخة، ويكون الجهاد واجبا قائما، فيكون- بإذن الله- الانتصار المبين ميسورا مضمونا. ولا شك أن إصلاح العقيدة هو أساس كل إصلاح، فقد قال الإمام مالك (رضي الله عنه): «لَا يَصْلُحُ آَخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَا بِمَا صَلُحَ بِهِ أَوَّلُهَا»، وهو الشعار الذي رفعه المصلحون في الجزائر وجسدوه في أقوالهم وأفعالهم، وكتاباتهم، فها هو الشيخ مبارك الميلي- مؤرخ الجزائر وأحد علمائنا- يكتب في العشرينات في أحد أعداد جريدة "المنتقد"، "من حاول إصلاح أمة إسلامية بغير دينها، فقد عرض وحدتها للانحلال وجسمها للتلاشي، وصار هادما لعرشها بنية تشييده". إن الحركة الدينية التي قادها علماؤنا الأجلاء تعدى صداها حدود الوطن، وكانت ثورة ثقافية حقيقية- بمفهوم اليوم- قلبت أوضاع الشعب الجزائري، وجعلته يعيش في حالة تناقض دائمة مع الاستعمار، ويتفاعل مع قضايا أشقائه في المغرب الأقصى وتونس والمشرق العربي، وكانت حربا بدون هوادة على الجهل والتحجر والبدع والخرافات والخمول والاستكانة. لقد أدخلت تلك الثورة الثقافية على المجتمع الجزائري تحولات في مفاهيمه، إذ أيقظت فيه روح الأخوة والتضامن، وبعثت فيه الأمل الذي هو مفتاح الوصول إلى الغاية المنشودة، وأعدت لذلك الوسائل الملائمة التي رسمت الطريق إلى شاطئ الخلاص وبر الأمان. وهذه الحقيقة تؤكد الاتفاق الكلي بين الحركة الدينية والحركة السياسية في الغاية، أي العمل على تمكين الجزائر من استرجاع سيادتها واستقلالها وحريتها، وإذا كان هناك من فرق بين الحركتين فمن المؤكد أنه ليس في الهدف- إذ الهدف واحد وهو الانعتاق- وإنما في الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق ذلك الهدف. تبنت "جمعية العلماء"، مشروعا يقوم على الدين والعلم والأخلاق، إيمانا منها أن هذه العناصر الثلاثة توصل الشعب الجزائري إلى الاستقلال، بينما جعلت الحركة السياسية من الاستقلال الوسيلة إلى بناء هذه الأعمدة الثلاثة، وإن كان أحيانا بمسميات مختلفة، بيد أنها تصب دائما في نفس الاتجاه … وقد شاهدتُ في طفولتي بمدينة تلمسان في الثلاثينات كثيرا من تلامذة والدي وأنصاره يلازمونه في دروسه وخارج دروسه كمريدين أو أكثر، وهم في نفس الوقت منخرطون في حركة "حزب الشعب الجزائري"، ولم يكن لديهم أي شعور بالتناقض في الانتماءين، خلافا لما ركز عليه لاحقا بعض المؤرخين الفرنسيين في كتاباتهم، ممن كان همهم الأكبر التنقيص من دور الإسلام في الحركة الوطنية ثم في الثورة المسلحة …

هذه الآثار وحياة الإبراهيمي

وإذا كان هذا النوع من التجني على الحقيقة بالإصرار على زرع التناقض بين الحركة الدينية والحركة السياسية في تاريخ الجزائر المعاصر أمرا متوقعا من هؤلاء المؤرخين، لأن صراعنا معهم صراع حضاري متواصل عبر التاريخ بأشكال شتى منذ أشرق نور الإسلام على هذه الربوع، فإن المرء ليندهش حين يسمع من يردد تلك المقولات المغرضة من أبناء وطنه، أو في بعض الدوائر العربية، ممن يبحثون في بعض صفحات التاريخ عن حجج معينة لتبرير موقف سياسي آني يتعارض مع انتماء الشعب الجزائري وأصالته، أو طمعا في الحصول على "شهادة حسن السيرة" من الغرب، قصد توظيفها لغايات معينة لا علاقة لها إطلاقا بما ينبغي أن يتحلى به المؤرخ المنصف من أمانة وتجرد وموضوعية ونزاهة فكرية … وقد نلمس لهؤلاء عذرا إذا كان هذا الموقف "الاتباعي" نابعا عن جهل، فقد قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا وَأَحِبَّاءُ مَا أَلِفُوا». هذه الآثار وحياة الإبراهيمي: إذا استعرضنا حياة الإبراهيمي نجدها تنقسم إلى سبعة أقسام: 1 - مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (1889 - 1911): ولد بقرية "رأس الوادي " بناحية مدينة سطيف بالشرق الجزائري في 14 يونيو عام 1889، وفي بيت أسس على التقوى، من بيوتات العلم والدين، وقد أتم حفظ القرآن الكريم على يد عمه الشيخ المكي الإبراهيمي الذي اكتشف مواهبه المبكرة، وكان لها الفضل الأكبر في تربيته وتكوينه، حتى جعل منه ساعده الأيمن في تعليم الطلبة. من هذه المرحلة المبكرة من حياة الشيخ الإبراهيمي لم نعثر على آثار تذكر باستثناء بعض الرسائل الإخوانية (4) وتجدر الإشارة إلى أن الإستعمار الفرنسي في الجزائر كان ينتهج سياسة التجهيل والتفقير والطمس لمقومات الأمة وثوابتها، وذلك في كل أرجاء الوطن. 2 - الرحلة المشرقية الأولى (1911 - 1920): هاجر جدي، الشيخ السعدي الإبراهيمي إلى المدينة المنورة عام 1908، هروبا من ويلات الاستعمار الفرنسي، ولحق به والدي عام 1911، تأكيدا للتفاعل بين المشرق والمغرب، مرورا بمصر التي أقام بها ثلاثة أشهر، التقى خلالها بعدد من علمائها وأدبائها وشعرائها، وحضر بعض دروس العلم في الأزهر، وعندما استقر بالمدينة المنورة، درس فيها على كبار علمائها- الوافدين من كل أنحاء العالم الإسلامي- علوم التفسير

_ 4) نشرت مجلة "الموافقات" في عددها 4، السنة 4 (يوليو 1995) [ص: 762]، إحدى هذه الرسائل.

مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931)

والحديث، والفقه، والتراجم، وأنساب العرب، وأدبهم، ودواوينهم، كما درس علم المنطق والحكمة المشرقية، وأمهات كتب اللغة والأدب، ثم أصبح يلقي الدروس للطلبة في الحرم النبوي، ويقضي أوقات فراغه في المكتبات العامة والخاصة باحثا عن المخطوطات. والتقى خلال إقامته بالمدينة المنورة، في موسم الحج عام 1913، بالإمام عبد الحميد ابن باديس، وما من شك في أن تلك اللقاءات شهدت ميلاد فكرة تأسيس جمعية العلماء. وفي سنة 1917، انتقل الإبراهيمي إلى دمشق، حيث دعته حكومتها لتدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (مكتب عنبر)، وهي المدرسة العصرية الوحيدة آنذاك، بالإضافة إلى إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد في الجامع الأموي، وقد تخرج على يديه جيل من المثقفين كان لهم أثر بالغ في النهضة العربية الحديثة. من الأماكن التي كانت لها مكانة خاصة في قلب الوالد- بعد مسقط رأسه- المدينة المنورة، وكان- رحمه الله- يحثني- بعد الاستقرار- على قضاء شهر رمضان بالمدينة، لما للمكان من بعد روحي، ولسكانها من خلق وطيبة، ومدينة دمشق التي تزوج فيها بوالدتي رفيقة العمر- رحمها الله رحمة واسعة-، ودفن فيها والده وحماه وابنه. ومن هذه المرحلة لم نعثر على آثار مكتوبة للإبراهيمي، بالرغم مما كان له من نشاط علمي وثقافي تشهد عليه شخصيات كثيرة مثل الدكتور عبد الرحمن شهبندر في رسالة باسم "النادي العربي" تتضمن دعوة الإبراهيمي لإلقاء محاضرة فيه سنة 1919، وشهادة الدكتور جميل صليبا عن أستاذه (5)، ومن نشاط سياسي مؤيد لفكرة الجامعة الإسلامية. 3 - مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931): قرر الإبراهيمي العودة إلى الجزائر سنة 1920، وفي مخيلته فكرة حركة تحيي الإسلام والعربية في الوطن وتنشر العلم، وتبعث الأمة، وأعجب بعد وصوله بالنتائج المثمرة التي حققها ابن باديس الذي كان يقود حركة ثقافية وصحفية بمدينة قسنطينة، فأقام بمدينة سطيف وأنشأ بها مدرسة ومسجدا بعد أن رفض الوظيفة التي عرضت عليه من طرف السلطات الفرنسية، وتعاطى التجارة ليقوم بأوَد عائلته، وبقي على اتصال بابن باديس. وخلال هذه المرحلة تردد على مدينة تونس حيث كان يقيم أصهاره، وحيث كانت له صداقات في الأوساط العلمية والأدبية.

_ 5) مجلة " الثقافة " الجزائرية، عدد 87، مايو 1985، [ص: 55].

بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940)

من هذه المرحلة لم نعثر إلا على بعض الرسائل (6)، وبعض المقالات والمحاضرات التي نشرت في مجلة "الشهاب" ابتداء من عام 1929، والتي نفتتح بها الجزء الأول من هذه الآثار. 4 - بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940): في عام 1931 تأسست "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، كرد فعل إيجابي على احتفال فرنسا بمرور قرن على احتلال الجزائر، بعدما أيقنت أن الجزائر قد أصبحت إلى الأبد قطعة منها، مسيحية الدين، فرنسية اللسان، فجاء شعار الجمعية صارخا مدويا في وجه فرنسا، وراسما طريق الخلاص منها: "الْإِسْلَامُ دِينُنَا، وَالْعَرَبِيَّةُ لُغَتُنَا، وَالْجَزَائِرُ وَطَنُنَا". ووضع الإبراهيمي دستور الجمعية وقانونها الأساسي، وأصبح نائبا لرئيسها الإمام ابن باديس، ومنذ عام 1933 تكفل بالمقاطعة الغربية من القطر، واختار مدينة تلمسان مركزا لنشاطه المكثف، وأسس فيها "مدرسة دار الحديث" سنة 1937، بنيت على نسق هندسي أندلسي أصيل، فكانت مركز إشعاع ديني وعلمي وثقافي، واحتوت على مدرسة ومسجد وقاعة محاضرات. إن الجزء الأول من آثار الإبراهيمي يشتمل على ما عثرنا عليه خلال هذه المرحلة من حياته، وهي أدق حقبة في تاريخ الجزائر الحديث، نظرا لما شهدته من أحداث كان لها شأن كبير في تشكل الوعي الديني والسياسي للمجتمع الجزائري. 5 - قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (1940 - 1952): بعد أن رفض الإبراهيمي رفضا قاطعا كل محاولات فرنسا لإغرائه واحتوائه، أو تثبيط عزيمته، قررت السلطات الاستعمارية نفيه إلى قرية آفلو في الجنوب الغربي من الوطن، في مطلع الحرب العالمية الثانية. وبعد أسبوع من نفيه تلقى خبر وفاة رفيقه الإمام عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-، وخبر اجتماع أعضاء الجمعية وانتخابهم له رئيسا رغم الضغوط الفرنسية الرامية إلى انتخاب غيره، فتحمل مسؤولية قيادة الجمعية غيابيا، وتولى إدارتها بالمراسلة طول الأعوام الثلاثة التي قضاها في المنفى، وبعد إطلاق سراحه عام 1943، أصبح قائدا للحركة الدينية والعلمية والثقافية في الجزائر، يجوب ربوعها معلما وموجها ومرشدا، يوحد الصفوف ويؤسس المدارس والمساجد والنوادي ويهيئ العقول لساعة الصفر التي كانت تخطط لها نخبة من الحركة السياسية.

_ 6) نشرت إحدى هذه الرسائل في كتاب "دعائم النهضة الوطنية الجزائرية" لمحمد الطاهر فضلاء، [ص: 43].

الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962)

وقد زُجَّ به في السجن بعد أحداث مايو 1945، وبقي فيه عاما كاملا ذاق الأمرين في زنزانة تحت الأرض حيث الظلمة والرطوبة، مما استدعى نقله إلى المستشفى العسكري بقسنطينة، فتحمل هذه المحنة بصبر المجاهد، ويقين المؤمن. وفي سنة 1946 استأنف نشاطه، فبعث جريدة " البصائر" من جديد في السنة الموالية بعد أن توقفت أثناء الحرب، وأشرف على تحريرها، كما أسس معهدا ثانويا أطلق عليه اسم رفيقه وصديقه المرحوم عبد الحميد ابن باديس في قسنطينة، حظيت شهادته بالاعتراف من الجامعة الزيتونية ومن معاهد الشرق العربي، ومن هذا المعهد تخرج رجال قادوا الثورة المسلحة، فمنهم من استشهد في الجهاد الأصغر، ومنهم من ساهم غداة الاستقلال في إعادة بناء هذا الوطن، كقياديين أو إطارات سامية في الدولة، فكان منهم الوزير والسفير، والوالي والمحافظ والقائد العسكري والأستاذ ومدير الجامعة الخ … ويحتوي الجزءان الثاني والثالث من آثار الإبراهيمي على ما أنتجه خلال هذه الفترة التي هي أخصب مراحل حياته، ابتداء بما أوحت به قرية آفلو، التي لم نعثر- مع الأسف- إلا على القليل من المقامات والروايات والرسائل التي كتبت فيها، إلى ما كتبه أسبوعيا في جريدة "البصائر". أما مقالاته الافتتاحية فقد قام هو نفسه بجمعها لتطبع في كتاب سماه "عيون البصائر"، وهو يشكل الجزء الثالث من هذه الطبعة الجديدة. 6 - الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962): سافر الإبراهيمي إلى المشرق العربي للمرة الثانية عام 1952 ممثلا لجمعية العلماء ليسعى لدى الحكومات العربية لقبول بعثات طلابية جزائرية في معاهدها وجامعاتها، وطلب الإعانة المادية والمعنوية للجمعية حتى تستطيع مواصلة أعمالها وجهادها، والتعريف بالقضية الجزائرية في الأوساط السياسية في الدول التي زارها أو التقى مسؤوليها، ولدى جامعة الدول العربية. وقد اتخذ من مصر منطلقا لنشاطه، ورعى فيها أولى البعثات الطلابية، وكان سفيرا للجزائر وصوتها المدوي، يلقي المحاضرات والدروس- خاصة في مركزي الإخوان المسلمين والشبان المسلمين- والأحاديث الإذاعية قبل الثورة التحريرية وفي أثنائها. وقد زار في هذا الشأن- بعد مصر- كلا من المملكة العربية السعودية، والعراق، وسوريا، والأردن، والكويت، وباكستان. ووجه يوم 15 نوفمبر 1954 - أي بعد أسبوعين من اندلاع الثورة- نداء إلى الشعب الجزائري، يدعوه فيه إلى الالتفاف حول الثورة المسلحة، وخوض غمار الجهاد المقدس،

المرحلة الأخيرة (1962 - 1965)

والتضحية بالنفس والنفيس، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لحياة العزة والكرامة، وكان هذا النداء إسكاتا لكل من يريد التشكيك في شرعية الجهاد باسم الدين، ودفعا قويا للثورة الوليدة. ويشتمل الجزء الرابع على ما استطعنا جمعه من آثار الإبراهيمي، خلال القسم الأول من رحلته المشرقية الثانية (1952 - 1954)، أي قبل اندلاع ثورة التحرير، ويعكس نشاطه الحثيث في التعريف بواقع الجزائر وقضيتها. أما الجزء الخامس والأخير من آثار الإبراهيمي فيغطي الثورة التحريرية (1954 - 1962)، ويشتمل على ما جمعنا من مواقفه المعلنة والمنشورة عن ثورة الجزائر. 7 - المرحلة الأخيرة (1962 - 1965): وهي التي عاد الإبراهيمي فيها إلى وطنه بعد استعادة الاستقلال حتى وفاته في 20 مايو1965. وخلال هذه المرحلة اضطر إلى التقليل من نشاطه بسبب تدهور صحته من جهة، وبسبب سياسة الدولة التي شعر أنها زاغت عن الاتجاه الإسلامي، فانحصر نشاطه في حدثين ختمنا بهما الجزء الخامس من آثاره: - إلقاء أول خطبة جمعة بعد استعادة الاستقلال، افتتح بها مسجد "كتشاوة" بالعاصمة، الذي رجع كما كان مسجدا بعد أن حوله الاستعمار الفرنسي إلى كتدرائية طوال قرن وثلث، وقد ألقى الإبراهيمي هذه الخطبة المشهودة بحضور وفود من جميع الدول العربية والإسلامية. - إصدار بيان 16 أفريل 1964، الذي دعا فيه السلطة آنذاك للعودة إلى الحكمة والصواب، وإلى جادة الإسلام، بعد أن رأى البلاد تنحدر نحو الحرب الأهلية، وتنتهج نهجا ينبع من مذاهب دخيلة مضادة لعقيدتنا وروحنا وجذورنا. مشروع الإبراهيمي النهضوي: يُجمع تلامذة الإبراهيمي ورفقاؤه أن أهم ما كتب هو "عيون البصائر" أي الجزء الثالث من هذه الآثار، بما فيها من جهاد في سبيل الإسلام والعروبة في جزائر محتلة، وبما فيها من مقارعة الاستعمار على الصعيدين الديني والسياسي، وبما فيها من مناصرة لكل قضايا المسلمين مشرقا ومغربا، وخاصة قضية فلسطين، وبما فيها من روائع البيان العربي كسجع الكهان. ولكنني أرى أن محتويات الجزء الأول من هذه الآثار- وهي تمثل ما عثرنا عليه من آثار الإبراهيمي في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات- لا تقل أهمية عن "عيون البصائر"، إذ تتجلى لقارئها معالم مشروع نهضوي تستحق التأمل:

الدين

في سنة 1920 - بعد الرحلة المشرقية الأولى التي دامت قرابة عشر سنوات، والتي أقام فيها بالمدينة المنورة ودمشق وزار القاهرة في مستهلها، وتونس في ختامها- عاد الإبراهيمي إلى وطنه، ووجده- كما تركه- يئن تحت وطأة الاستعمار والجهل والفقر والتخلف، وفي ذهنه مشروع نهضوي يدخل الأمة الإسلامية في دائرة التقدم والتحديث، وينطلق من الإسلام، لأن الإبراهيمي الذي تأثر بأفكار الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا مقتنع أن في الإسلام علاجا لكل أمراض المجتمع، شريطة أن تستعمل الأسلحة الثلاثة في المعركة: العقل والعلم والعدل. وقبل أن تستوفى الشروط لقيام حركة تشمل القطر، استقر بمدينة سطيف، وبدأ يطبق مشروعه بإنشاء مدرسة ومسجد، وحافظ على استقلاله بممارسة التجارة ورفض الوظيف، هذا على الصعيد العملي، أما على الصعيد النظري فألقى- سنة 1929 - محاضرة بعاصمة الجزائر تحت عنوان: "التعاون الاجتماعي" (7)، حدد فيها معالم مشروعه النهضوي في إطار النسق الإسلامي والذي يقوم على أعمدة أربعة: الدين والعلم والأخلاق والإقتصاد. - الدين: " … إنه دين الفطرة، ولا يرجع في أحكامه إلا إلى النص القطعي من كتاب محكم أو سنة قولية أو عملية متواترة، وأن كل ما ألصق بالدين من المحدثات فهو بدعة يجب اعتبارها ليست من الدين وإن تراءت في صورة ما يقتضيه الدين … إن المعاملة مبنية على مراعاة مصالح البشر ونظام اجتماعهم العمراني، ولذلك كانت أغلب أحكام المعاملات المأخوذة من القرآن كلية قلَّ أن نعثر فيها على التفصيل، وإن الأنسب لسماحة الدين وبقائه وصلاحيته لكل زمان ومكان أن يكون للزمان والمكان والعرف والعادة والبيئة مدخل في تكييف أحكام المعاملات وتطبيقها على الحوادث الجارية ". - العلم: " … البحث في أنواع العلوم التي تصلح لنهضتنا، فهو معدود من لغو الحديث، واحتياج الحي إلى العلم في هذا الزمن أصبح قرين احتياجه إلى الطعام". - الأخلاق: "ولنا أساسٌ نبني عليه، ولا يعسر جد العسر إحياؤه هو الأخلاق الإسلامية المتوارثة، والتي نجد معظمها في القرآن في أوضح عبارة وأوضح بيان، ثم الأخلاق العربية المأخوذة من آدابهم التي هي أنفس ما خلفوه لنا من التراث". - الإقتصاد: " إن سوق المال اليوم معترك أبطال، وإن في جوانبه رماة ونحن الهدف، وإن مكان المال من الحياة مكان الوريد من البدن، وإن الزمان دار دورته، وقضى الله أن يصبح المال والعلم سلاحين لا يطمع طامع في الحياة بدونهما … والذي تقتضيه الحكمة الهادئة لنحفظ أنفسنا من هذه المزاحمة المريعة هو تأسيس شركات التعاون

_ 7) الجزء الأول، - صلى الله عليه وسلم - 50 - 58.

بين الفلاحين وبين التجار لتقي الصغار من الجانبين شرَّ تحكم الأجانب في أملاكهم ومجهوداتهم، ثم تأسيس مصارف مالية صغيرة تكون واسطة بين الجميع وتكون مع ذلك مستودعا للأموال المخزونة المعطلة ومرجعا لصناديق التوفير والاحتياط التي يجب أن تصحب هذه الحركة". هذا المشروع النهضوي الذي حدد معالمه الإبراهيمي عام 1929 ينطلق من وعي كامل أن الجزائر تنتمي إلى الحضارة الإسلامية، وأن في كل حضارة ثابتا ومتحولا، وأن المحافظة على الثابت هو حفظ للشخصية الوطنية من الاستلاب: "إن مشخصات الأمم منها جوهر ومنها عرض، وإن الجوهر منها هو الصالح للبقاء، وإنه لا يد للفرد وللجماعة في تكييفه كما يشاء أو كما تشاء، وأن تطوره موكول إلى تدبير الاجتماع لا إلى تدبير الجماعات، وأن العرض منها هو محل التبديل والتغيير، يصلح لزمن فيؤخذ، ولا يصلح لآخر فينبذ، فالمحافظة على جوهر المقومات ليست محافظة وإنما هي حفظ للقومية من الاندغام والتداخل وعماد لها أن تتداعى وتسقط، وأما الأعراض فهي قشور تتحول وتزول كأوراق الخريف توجد وتعدم، والشجرة شجرة" (8). وفي عام 1931، تأسست جمعية العلماء فأدرج الإبراهيمي مشروعه النهضوي في القانون الأساسي للجمعية الذي حرره في نفس السنة (9)، وفي نص أساسي صدر به سجل مؤتمر جمعية العلماء سنة 1935 (10)، والذي شرح فيه أسباب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم، والذي حدد فيه شروط النهضة الجزائرية التي- أكد من جديد- أنها يجب أن تقوم على الإسلام: "أي شباب الإسلام، إن الأوطان تجمع الأبدان، وإن اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها، ويصل بين نكرات القلوب فيعرفها فهو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة، ولكن التمسوها في الدين، والتمسوها من القرآن تجدوا الأفق أوسع، والدار أجمع، والعديد أكثر، والقوى أوفر". ثم حذر من المشروع التغريبي، وحدد موقفا واضحا وصارما من الاستعمار والتبشير والاستشراق والإلحاد، والطرقية والبدع والخرافات والأمية التي تمهد كلها لغزو المشروع التغريبي، وتقف في نفس الوقت عائقا دون تحقيق المشروع الإسلامي. ويؤكد الإبراهيمي أن العلوم العصرية- التي هي إحدى الدعائم لإنجاز مشروعه النهضوي- يجب أن ننهل منها بدون عقدة، لأن الحضارة "هي في الحقيقة تراث إنساني

_ 8) الجزء الأول من هذه الآثار، - صلى الله عليه وسلم - 46. 9) الجزء الأول من هذه الآثار، - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - 74 - 90. 10) الجزء الأول من هذه الآثار، - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - 158 - 200.

شخصية الإبراهيمي

تسلّمه أمة إلى أمّة، وتأخذه أمة عن أمة فتزيد فيه أو تنقص منه بحسب ما يتهيّأ لها من وسائل وما يؤثر فيها من عوامل … وقد أصبح احتكار المدنية لأمم خاصة تقليدًا شائعا متعاصيا عن التمحيص والنقد، ومن هذا الباب احتكار الغربيين للمدنية القائمة اليوم، وما هي في الحقيقة إلا عصارة الحضارات القديمة ورثها الغربيون عمن تقدمهم، وقاموا عليها بالتزيين والتحسين والتلوين، وطبعوها بالطوابع التي اقتضاها الوقت، وانتحلوها لأنفسهم أصلا وفرعا، ولا تزال التنقيبات عن مخلفات الحضارات القديمة تكشف كل يوم عن جديد يفضح هؤلاء المحتكرين ويقلل من غرورهم" (11). والمثقفون- في نظر الإبراهيمي- هم المسؤولون عن إنجاز مشروعه النهضوي لأنهم "هم حَفَظَة التوازن في الأمم وهم القَوَمَة على الحدود أن تهدم، وعلى الحرمات أن تنتهك، وعلى الأخلاق أن تزيغ، وهم الميزان لمعرفة كل إنسان حد نفسه، يراهم العامي المقصر فوقه فيتقاصر عن التسامي لما فوق منزلته، ويراهم الطاغي المتجبر عيونا حارسة فيتراجع عن العبث والاستبداد" (12)، وعلى المثقفين "الامتزاج بالأمة والاختلاط بطبقاتها والتحبّب إليها ومشاركتها في شؤونها الاجتماعية، والدخول في مجتمعاتها ومعابدها، ومشاركتها في عبادتها وفي الصالح من عوائدها .. ، وثقة الأمة بالمثقفين هي رأس المال في هذا الباب " (12). لقد طبَّق الإبراهيمي مشروعه النهضوي في حياته؛ إذ لقَّن العلم والدين والأخلاق كمدرس بالمدينة المنورة ودمشق في العقد الثاني من هذا القرن الميلادي، ثم كمدرس بمدينة سطيف في العقد الثالث، ثم كمدرس بمدينة تلمسان في العقد الرابع، ثم كزعيم حركة دينية وثقافية عظيمة بالقطر الجزائري في العقد الخامس، أما أهمية الاقتصاد والمال فلم يهملها فحث أنصاره وتلامذته على الاهتمام بهذا الجانب- خاصة بشراء ما أمكن من الأراضي الزراعية عن المعمرين، وهي أراضي كانت سلبت من أجدادنا، وبإنشاء تعاونيات بين التجار والحرفيين- واستطاع في الأربعينات أن يدفع تجار القطر الجزائري الكبار إلى إنشاء شركة كبيرة تواجه الاحتكارات الاستعمارية آنذاك (13). شخصية الإبراهيمي: لقد سمعت الشيخ العربي التبسي (14) - رحمه الله- يردّد في كثير من مجالسه: "إن الإبراهيمي فلتة من فلتات الزمان، وأن العظمة أصلٌ في طبعه ". والعظمة الحقيقية- في رأيي-

_ 11) "آثار الإمام الإبراهيمي"، ج1، - صلى الله عليه وسلم - 374. 12) "آثار الإمام الإبراهيمي"، ج2، - صلى الله عليه وسلم - 126 و 129. 13) هي شركة "آمال" التي تأسست سنة 1947. 14) كان نائب الإبراهيمي في رئاسة جمعية العلماء.

تكمن في القلب. والحقيقة إن الإبراهيمي كان عظيمًا بعقله ووجدانه، بقلبه ولسانه، فكل من تقلب في أعطافه نال من ألطافه، فالقريب والرفيق والسائل والمحروم والمريد والتلميذ يجد فيه الأب الشفيق والأخ الصديق، الذي لا يبخل بجهده وجاهه وماله- وإن قل- لتفريج الكروب وتهوين الخطوب، وما تقربت منه إلا ملك قلبك بحلمه، وغمر نفسك بكرمه، قبل أن يشغل عقلك بعلمه، ويسحر لبّك بقلمه، وكانت الخصال البارزة فيه الإيثار والحلم والوفاء. وفي تحديد هذه الشخصية يقول أحد رفاقه، الأستاذ أحمد توفيق المدني- رحمه الله- عندما تبوأ كرسيه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة: " … فتقدم الإبراهيمي الأمين يحمل الراية باليمين، لا يأبه للمكائد ولا للسجون ولا يبالي بالمنافي في الفيافي، بل دخل المعمعة بقلب أسد وفكر أسدّ، ووضع في ميزان القوى المتشاكسة يومئذ تدك الصفات التي أودعها الله فيه: - علمًا غزيرًا فيّاضًا متعدد النواحي، عميق الجذور. - وإطلاعًا واسعًا عريضًا يُخيّل إليك أن معلومات الدنيا قد جُمِعَت عنده. - وحافظة نادرة عزّ نظيرها. - وذاكرة مرنة طيّعة جعلت صاحبها أشبه ما يكون بالعقل (الإلكتروني). - .. كدائرة معارف جامعة سهلة التناول من علوم الدين التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد بحق، إلى علوم الدنيا مهما تباينت واختلفت، إلى شتى أنواع الأدبين القديم والحديث بين منظوم ومنثور، إلى تاريخ الرجال والأمم والدول، إلى أفكار الفلاسفة والحكماء من كل عصر ومصر، إلى بدائع الملح والطرائف والنكت، كل ذلك انسجم مع ذكاء وقّاد، ونظرات نافذة، تخترق أعماق النفوس وأعماق الأشياء. - وفصاحة في اللسان، وروعة في البيان، وإلمام شامل بلغة العرب، لا تخفى عليه منها خافية، وملكة في التعبير مدهشة، جعلته يستطيع معالجة أي موضوع ارتجالًا على البديهة، إما نثرًا أو نظمًا … - ودراية كاملة بجميع ما في الوطن الجزائري، يحدثك حديث العليم الخبير عن أصول سكانه وقبائله، وأنسابه ولهجاته، وعادات كل ناحية منه، وأخلاقها، وتقاليدها، وأساطيرها الشعبية، وأمثالها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية .. - كل ذلك قد توّج بإيمان صادق، وعزيمة لا تلين، وذهن جبّار، منظّم، يخطط عن وعي، وينفّذ عن حكمة، وقوة دائبة على العمل، لا تعرف الكلل ولا الملل. هذا هو البطل الذي اندفعنا تحت قيادته الموفقة الملهمة نخوض معركة الحياة التي أعادت لشعبنا بعد كفاح طويل لسانه الفصيح، ودينه الصحيح، وقوميته الواعية الهادفة " (15).

_ 15) مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، عدد 24، يناير 1969.

وتتجلى شخصية الإبراهيمي كذلك في ثقافته، إذ لم يكن عالما بالمعنى المعروف عن معظم علماء الدين التقليديين، بل كان عالما شاملا تعمق في كثير من فنون العلم والمعرفة، بالإضافة إلى علوم الدين، توّج ذلك كله ذكاؤه وموهبته الخارقة في سرعة الاستيعاب والاستنباط والاجتهاد، وتوظيف ذلك كله لخدمة الإسلام والوطن والأمة، مما أهّله لتَبَوُّإِ سدة الريادة والقيادة، وقد تحدث أحد تلامذته، الأستاذ عبد المجيد مزيان عن ثقافته فقال: "ونشهد كما عرفناه، نحن تلامذته- أنه كان من أعلم أهل عصره بالعلوم الإسلامية والعربية، كان إمامًا لا نظير له في علوم الحديث، وكانت نيته أن ينشئ مدرسة مغربية للحديث، لو ترك له النضال الفاتك بوقته قليلا من الوقت، وقد أنشأ مدرسة «دار الحديث» لهذا الغرض البعيد الأهداف … … وكان مفسّرًا للقرآن في دروس عمومية ودروس للطلبة الخواص، أتى فيها بإبداعات سجلتها عنه ذاكرة الرجال، ولو لم تجمعها المكتوبات، وكان معلما للتاريخ الإسلامي ببراعة تحليل وسعة نظر، يتطرق إلى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق لينير التاريخ بمنظار الفكر الإسلامي والالتزام الأخلاقي الذي تدعو إليه النهضة الثقافية والإصلاح، وكان أستاذًا في اللغة والآداب العربية، يجمع بين الأصيل والجديد، وإن كان في أسلوبه الخطابي معجبًا بروائع البلاغة العربية، متعشقًا لآثار الفطاحل المبدعين في العصور النيّرة من الجاحظ إلى ابن خلدون. وكان مع هذا كله قدوة في سهولة المعاملة والاتصال، بشوشًا مَرِحًا في مجالسه، واسع الصدر في ممارسة المسؤوليات متفجر الحيوية في أنشطته الثقافية، كاتبًا وخطيبًا، وصحافيًا وأستاذًا وإمامًا" (16). وتميز الإبراهيمي- أيضًا- بثقافة عصرية اكتشفتها شخصيًا عندما سألني في إحدى ليالي عام 1948 - وأنا بقسم الفلسفة في خاتمة تعليمي الثانوي- عن آخر درس تلقيته في علم النفس، فأخذ رأس الموضوع وشرح لي آراء وليم جامس ( William James) أحد مؤسسي المذهب العملي (البراجماتي)، وتحدث عن كثير من مفكري الغرب، ممن لم أكن سمعت بهم قبل ذلك اليوم مثل داروين ( darwin) وجون لوك ( john Locke) وجون ستيوارت ميل ( john s. mill) الخ. كما أوضح لي مساهمة العلماء المسلمين في كثير من الجوانب. وتتجلى شخصية الإبراهيمي في موقفه من الوظيف وتركيزه على حرية العالم الديني والمثقف حتى يستطيع القيام بواجبه لأنه كان يرى أنه "لا توجد في الإسلام وظيفة أشرف قدرًا، وأرحب أفقًا وأثقل تبعة وأوثق عهدًا وأعظم أجرًا عند الله من وظيفة العالم

_ 16) مجلة "الثقافة"، الجزائر، عدد 87، مايو 1985، [ص: 8].

الديني" (17)، وقد قام بهذه "الوظيفة" أحسن قيام في جميع مراحل حياته، مما جعله يرفض رفضا قاطعا كل العروض التي تقدمت بها السلطات الفرنسية لمناصب متعددة، معتبرا الوظيفة عند الحكومة رقًا، وأن ولاء العالم الديني للقرآن لا للسلطان، وأن ولاء المثقف للحكمة لا للحاكم. فبعد عودته إلى وطنه من رحلته المشرقية الأولى في العشرينات كانت الأمية سمة الأغلبية الساحقة من المجتمع الجزائري، وكانت هناك أقلية- لا تتعدى المئات- يمكن أن نطلق عليها اسم الطبقة المثقفة، وكانت هذه الطبقة تعيش بالوظيف: فالمثقف بالفرنسية معلم ابتدائي أو موظف بالبلدية، والمثقف بالعربية إما مُفْتٍ، أو إمام، أو قاضٍ، وكلهم يتقاضون مرتبات من الحكومة الفرنسية، وضمن هذه الأقلية هناك أفراد رفضوا الوظيف، منهم الإبراهيمي الذي عرض عليه منصب الإفتاء في مدينة سطيف في العشرينات، ثم منصب الإفتاء بمدينة بجاية سنة 1931 (18)، وفي بداية الحرب العالمية الثانية أعادت الحكومة الفرنسية الكرة وعرضت عليه إنشاء منصب "شيخ الإسلام" بالجزائر وبإسناده إليه إن قبل إلقاء أحاديث إذاعية تأييدا لفرنسا ضد ألمانيا، فرفض، وكلفه ذلك النفي ثلاث سنوات بقرية آفلو. وأشهد أنني عندما نجحت في امتحان البكالوريا سنة 1949، استشرت والدي عن نوعية الدراسة العليا التي ينصحني باتباعها، فقال لي- رحمه الله: اختر ما شئت، شريطة أن تمارس مهنة حرة، وألا تصبح موظفا عند الحكومة الفرنسية. وعندما أخبرته أنني سجلت في كلية الطب أهداني نسخة نادرة من "القانون في الطب" لابن سينا قائلا: هذا نموذج من مساهمة أجدادك في علم سوف تخوض غماره. وحتى إذا كان الحاكم من بني جنسه ودينه كان الإبراهيمي يؤمن أن الكلمة أثمن من أي سلاح، وأن مهمة الفكر هي إيقاظ ضمير الدولة لا خدمة رِكابها، وأن علاقة المثقف بالسلطة لا يمكن أن تكون علاقة ولاء. وهكذا- في رحلته المشرقية الأولى- طلب منه الملك فيصل بن الحسين بدمشق أن يتولى إدارة معارف الحجاز فرفض وفضّل العودة إلى الوطن (19). وهكذا إبّان حرب التحرير الجزائرية (1954 - 1962) أعلن تأييده للثورة فور اندلاعها قبل كل الشخصيات المعروفة آنذاك، ثم قدّم خدمات جليلة للثورة، داعيًا إليها، منوّهًا بعظمتها، مطالبًا الدول الإسلامية بدعمها بالمال والسلاح والدبلوماسية (20). ولكن عندما

_ 17) آثار الإمام الإبراهيمي، "وظيفة علماء الدين"، ج 4، - صلى الله عليه وسلم - 109. 18) محمد الصالح الصديق: مجلة الثقافة، الجزائر، عدد 87، مايو 1985، - صلى الله عليه وسلم - 365. 19) آثار الإمام الإبراهيمي، ج 5، - صلى الله عليه وسلم - 166. 20) آثار الإمام الإبراهيمي، ج 5، وأغلب ما احتوى عليه الجزء الخامس من آثار الإمام في خدمة الثورة التحريرية بالجزائر.

الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره

اقتضى الأمر لم يتردد في نصح المجاهدين باحترام شرعة الحرب في الإسلام (21). وهكذا- في الجزائر المستقلة- تعرض للإقصاء والتهميش لأنه رفض أن ينحاز إلى تيار ضد تيار داخل الثورة، وأن يتحول إلى بوق للنظام الحاكم، وبقي محتفظا باستقلال الرأي وصراحة الخلق، فأصدر- وهو على فراش المرض- بيانه الشهير يوم 16 أفريل 1964 (22)، حين رأى سياسة السلطة تبتعد عن الإسلام، وتؤدي إلى الحرب الأهلية وتهدد وحدة البلاد واستقرارها. الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره: إذا أردت أن تختصر رسالة الإبراهيمي في كلمات، فهذه الكلمات هي: الإسلام والعروبة والجزائر. - الإسلام: انطلاقا من أن الإسلام الصحيح هو عماد مشروعه النهضوي، فقد كرس الإبراهيمي حياته لغرسه في نفوس الأطفال (عبر المدارس)، وتقويته في قلوب الشباب (عبر النوادي)، وإنعاش عقول الكهول به (عبر المساجد)، حتى تصبح الأمة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، وتستطيع هكذا الخروج من الانحطاط الضارب، وإخراج المحتل الغاصب، فـ "الإسلام هو دين التحرير، وهو النبأ الذي كان أصحاب الأرواح الصافية يترقبونه، وهو الأمنية التي كانت تملأ نفوس الأصفياء المصطفين الأخيار من عباد الله ثم ماتوا قبل أن تتحقق. نقول: إن الإسلام هو (دين التحرير العام). فنرسل هذا الوصف إرسالا بدون تحفظ ولا استثناء، لأنه الحق الذي قامت شواهده، وتواترت بيناته، ومن شواهده وشهوده تلك الأجيال التي صحبت محمدا وآمنت به، واتبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتبعوهم بإحسان … والتحرير الذي جاء به الإسلام شامل لكل ما تقوم به الحياة وتصلح عليه المعاني والأشخاص، والدين الإسلامي لا يفهم التحرير بالمعنى الضيق؛ وإنما يفهمه على أنه إطلاق من كل تقييد، أو تعديل لوضع منحرف، أو إنصاف لضعيف من قوي، أو نقل شيء من غير نصابه إلى نصابه " (23). - العروبة: يركز الإمام في كتاباته ومحاضراته كثيرا على العروبة واللغة العربية، وذلك لعدة أسباب منها: أن العرب من أعرق الأمم في التاريخ، وأنهم من أكثرها

_ 21) نفس المصدر، - صلى الله عليه وسلم - 92 - 94. 22) نفس المصدر، - صلى الله عليه وسلم - 317. 23) ج 4، - صلى الله عليه وسلم - 357 و 358.

الجزائر

محافظة على الفطرة الإنسانية، يشيع ذلك في أمثالهم، وأخلاقهم، وآدابهم، ولأن الله كرمهم باختيار آخر أنبيائه وخاتم رسله منهم، ولأن فرنسا عملت طيلة وجودها بالجزائر على تحقير العروبة وتقليل شأنها في أعين الجزائريين لسلخهم منها وإبعادهم عنها، يقول الإمام الإبراهيمي: "إن العروبة جذم بشري من أرسخها عرقا، وأطيبها عذقا، عرفت التاريخ باديا وحاضرا، وعرف فيه الحكمة والنبوة، وعرفته الفطرة لأول عهودها فتبنته صغيرا وحالفته كبيرا … وإن العربية هي لسان العروبة، الناطق بأمجادها، الناشر لمفاخرها وحكمها، فكل مُدّعٍ للعروبة فشاهده لسانه، وكل معتز بالعروبة ذليل إلا أن تُمِدُّه هذه المضغة اللينة بالنصر والتأييد … إن الشعب الجزائري فرع باسق من تلك الدوحة الفينانة، وزهرة عبقة من تلك الروضة الغنّاء، عدَت عليه عوادي الدهر، فنسي مجد العروبة، ولكنه لم ينس أبوّتها، وابتلاه الاستعمار- عن قصد- بالبلبلة فانحرفت فيه الحروف عن مخارجها إلا الضاد" (24). - الجزائر: يؤمن الإبراهيمي أن أوطان الإسلام كلها وطن المسلم، ولكنه لا ينكر الفطرة ولا يعاكسها في حنينها إلى مسقط الرأس وشوقها إلى مرابع الصبا والشباب، لذلك كانت الجزائر شغل خواطره، ونجوى سرائره، لأنها حازت الحُسْنَ كله فكانت "جَمْعًا" وكان غيرها "مفردات"، فلا عجب- إذًا- أن يلقى الأذى في سبيلها لذيذًا، والعذاب عَذْبًا، والنّصب راحة، والحياة لها سعادة، والموت من أجلها شهادة رغم أنه لم يملك من أرضها شبرًا، وقد لا يحوز في ثراها قبرًا. "إنه يعتقد أن في كل جزيرة قطعة من الحُسن وفيك الحسن جميعه، لذلك كُنَّ مفردات وكنت جَمْعًا، فإذا قالوا: "الجزائر الخالدات" رجعنا فيك إلى توحيد الصفة وقلنا "الجزائر الخالدة "، وليس بمستنكر أن تُجْمَعَ الجزائر كلها في واحدة … ويمينًا لو تبرجت لي المواطن في حُللها، وتطامنت لي الجبال بقُلَلِها، لتَفْتِنني عنك لما رأيت لك عديلا، ولا اتخذت بك بديلا … " (25). ولعلّ مقاله "تحيّة غائب كالآيب" من أبلغ ما كُتب في حبّ الوطن. هذه الطبعة الجديدة: وفي الختام أتقدم بالشكر إلى كل من ساعدني على إخراج هذه الطبعة الجديدة، وأخص بالذكر:

_ 24) ج 3، - صلى الله عليه وسلم - 57. 25) ج 4، - صلى الله عليه وسلم - 183 و184.

- الأخوين محمد خمار ومحمد الهادي الحسَني اللذين ساعداني في جميع مراحل إعدادها: جمع النصوص المطبوعة، قراءة النصوص المخطوطة، التصحيح وإعادة التصحيح، وضع الفهارس. - الأستاذ سعد القاضي من مصر الذي قدم لي منذ عشرين سنة هدية ثمينة تتمثل في تسجيلات الأحاديث التي ألقاها الوالد بإذاعة "صوت العرب"، سنة 1955، والتي لم نجد لها نصا مكتوبا. - الأستاذ الحبيب شيبوب من تونس الذي أرشدني إلى بعض النصوص لم تظهر في الطبعة الأولى، وهو الذي يحفظ كثيرا من آثار الوالد. كما أتقدم بالشكر إلى الإخوة رفقاء الوالد وتلامذته الذين اتفقت رغبتهم مع رغبتي في تقديم هذه الآثار: - الأستاذ عبد الرحمن شيبان الذي قدم الجزء الثاني. - الدكتور أبي القاسم سعد الله الذي قدم الجزء الخامس. - الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله- الذي وعد بتقديم الجزء الرابع، ولكن حالت المنية دون الأمنية، فاخترت مقالًا كان كتبه عن الوالد سنة 1985، ليكون مقدمة للجزء الرابع. - الشيخ أحمد سحنون الذي وعد بتقديم الجزء الثالث، ولكن حادثًا أليمًا حال دون ذلك. - الدكتور عبد الرزاق قسوم الذي قدم الجزء الثالث، وهو من تلامذة تلامذة الوالد، ومغزى اختياره هو تواصل رسالة الإبراهيمي في الأجيال المتلاحقة. - وقد طلبت من الأستاذ محمد الهادي الحَسَني أن يفتتح كل جزء بتوطئة عن "السياق التاريخي" للجزء، حتى لا يحكم القارئ على فترة معينة بعقلية اليوم ومقاييسه. - الأستاذ الحبيب اللمسي، الذي أبى إلا أن يكون اسم " محمد البشير الإبراهيمي" ضمن قائمة مؤلفي "دار الغرب الإسلامي"، فله أسمى عبارات التقدير والامتنان، لما أحيى من تراث الغرب الإسلامي، ولما عرف بأعلام الغرب الإسلامي. وقد استغرق العمل في تحضير هذه الطبعة الجديدة عامين كاملين، ولا أدعى له الكمال، بل أنا على يقين أن هناك مخطوطات وتسجيلات ومراسلات وحتى مطبوعات في كثير من أنحاء العالم الإسلامي لم نهتد إليها، لذا أغتنم هذه الفرصة لأوجه نداء لكل من يملك شيئا من هذا القبيل أن يوافينا بصورة منه حتى تكون الطبعة القادمة لـ"آثار الإمام الإبراهيمي" أوسع وأنفع.

ويلاحظ القارئ أنني أدرجت بعض رسائل الإبراهيمي في هذه "الآثار" وكان من المنطقي، وكان من المفروض أن يخصص جزء منها لرسائله، ولكنني- مع الأسف- لم أعثر على أهم رسائله التي اطلعت على كثير منها في ظروف لا بد أن أشير إليها. في سنة 1948، اقتنى الوالد- رحمه الله- آلة كاتبة، ولعلها أول آلة راقنة بالعربية دخلت الجزائر، وهي من نوع olivetti، وطلب مني أن أتعلم الرقن، وصار في كل ليلة- بعد أن ينام أفراد الأسرة- يملي علي رسائله، وهكذا من 1948 إلى 1951 أملى علي مئات الرسائل، كانت في البداية مقتصرة على أصدقائه: محمد نصيف بجدة، تقي الدين الهلالي ببغداد، محمد بهجة البيطار بدمشق. إبراهيم الكتّاني بالمغرب الأقصى، ثم كثر المراسلون بعد انتشار جريدة "البصائر" في أنحاء العالم، وأذكر من بين هؤلاء: عبد اللطيف دراز بالقاهرة، عبد الكريم جرمانوس بالمجر، بعض أدباء المهجر بالبرازيل. وما زلت أذكر رسائل إلى مصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر، وطه حسين وزير المعارف سنة 1950 بعد أن قررت مصر فتح مركز ثقافي بالجزائر ثم تراجعت أمام ضغوط فرنسية. من خلال هذه الآثار، ومسيرة الإبراهيمي تتجلى للقارئ صورة واضحة عن تاريخ الجزائر الحديث من ليل طويل للاستعمار الذي استولى على الأرض، وأراد استعباد أهلها، واقتلاعهم من جذورهم الضاربة في أعماق التاريخ، إلى تصدي الحركة الوطنية- وجمعية العلماء جزء منها- لتلك الممارسات وامتداداتها، من طرقية تشجع الشعوذة والخرافات، والإلحاد والتبشير والاستشراق، والمسخ الثقافي الخ … فهناك تلازم بين حياة الإبراهيمي ونضال الشعب الجزائري، بلغ أقصى درجات تفاعله الإيجابي في اللحظات الأولى لاندلاع الثورة المسلحة المباركة سنة 1954، حين حث الإبراهيمي من القاهرة أبناء وطنه على احتضان هذه الثورة والانضمام إليها، باعتبارها تتويجا لمرحلة طويلة من الإعداد المادي والمعنوي للشعب الجزائري. كان الإبراهيمي- طيب الله ثراه- يدرك في أعماقه أن الاستقلال آت لا محالة، متى هانت التضحيات في سبيله، وكان يدرك أن هذا الاستقلال لن يكون سوى مرحلة في صراعنا الحضاري ضد قوى الاستعمار في مختلف أشكاله، أي أن أبناء الجزائر مطالبون بالإبقاء على تلك الجذوة الروحية حية في صدورهم، لأنها تعطي لحياتهم معنى، وتجعل لوجودهم عنوانا … وكان يحلم بذلك المجتمع الذي يضمن لكل أبنائه العفاف والكفاف، ويجمع في انطلاقته نحو المستقبل بين الأصالة والمعاصرة، بما تعنيانه من اعتزاز بمقوّمات الشخصية الوطنية، وأخذ سبيل العلم على مدارج الرقي والتقدّم. الجزائر في الفاتح من نوفمبر 1996. أحمد طالب الإبراهيمي

السياق التاريخي (1929 - 1940)

السياق التاريخي (1929 - 1940) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن مثل العلماء العاملين المصلحين كمثل الماء المعين؛ هذا يسوقه الله إلى الأرض الجرز فتهتز بعد همود، وتربو بعد جمود، فتنبت ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأولئك يبعثهم الله في أمتهم فيؤذنون فيها فتستيقظ بعد رقود، وتتحرك بعد ركود، وتنهض بعد قعود، وتنشط بعد خمود، وترشد بعد غواية، وتتآلف بعد تخالف، وتتعارف بعد تناكر، وتتصالح بعد تدابر، وتنسجم بعد تنافر، وتتوحد بعد تفرق، وتلتئم بعد تمزق، وتتخلق بعد انحلال، وتنتظم بعد اختلال، وتصح بعد اعتلال، وتهتدي بعد ضلال. وتتذكر بعد نسيان، وتتآخى بعد عدوان. لقد كان الناظر إلى الشعب الجزائري- قبل أن يؤدن فيه العلماء المصلحون- يحسبه يقظا وهو راقد، متحركا وهو هامد، نشطا وهو خامد، حيا وهو جامد، متحدا وهو متفرق، مهتديا وهو ضال، ذاكرا وهو ناس، واعيا وهو غافل، شاهدا وهو غائب. وقد استمر على تلك الحال حينا من الدهر حتى بعث الله- عز وجل- فيه أئمة راسخين في العلم مخلصين في العمل، أمارين بالمعروف، نهائين عن المنكر، فدعوه إلى الخير فأقبل، ونادوه إلى الكرامة فاستجاب، وعلموه من حقائق الدنيا والدين ما لم يكن له به علم، فاتخذ إلى ربه سبيلا، فأولئك "العلماء هم الذين أيقظوا الرأي العام من سباته" (1) و"إن مجددي فكرة الوطن الجزائري هم بالأحرى هؤلاء الذين أسسوا جمعية العلماء، أي الشيخ عبد الحميد بن باديس وأشد أتباعه حماسة كالشيخ الإبراهيمي " (2)، و " ان ما قدمه العلماء لإثارة إحساس

_ 1) شارل أندري جوليان: افريقيا الشمالية تسير. تعريب: المنجى سليم وآخرين، الجزائر: الشركة الوطنبة للنشر والتوزيع، تونس: الدار التونسية للنشر، 1976، - صلى الله عليه وسلم - 133. 2 محمود قاسم: الإمام عبد الحميد بن باديس، الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، القاهرة، دار المعارف، 1968، ص28، وهو ينقل عن lacouture في كتابه 5 hommes.

الجزائريين بالوعي الديني والقومي يفوق ما قدمه غيرهم " (3). لقد كان الإمام محمد البشير الإبراهيمي "فخر علماء الجزائر" (4) - كما وصفه الإمام ابن باديس- في الصف الأول من أولئك العلماء الذين أذنوا في الشعب الجزائري لينهض من سباته، ويأخذ للحياة سلاحها، ويخوض الخطوب لاسترجاع حقوقه، واستعادة استقلاله، والثأر لكرامته. لا يهون على ذوي المروءة والشمم وأصحاب الكرامة والهمم الانتقال من يسر المعيشة إلى ضنكها، ومن الحرية إلى عكسها إلا هدف سام وغاية نبيلة ومبدأ شريف؛ وذلك هو مثل الإمام الإبراهيمي الذي ترك دمشق- عام 1920 - حيث هناءة العيش، واطمئنان الجنب، والوجاهة الاجتماعية، والصدارة العلمية، والحرية النسبية، وعاد إلى الجزائر وهو يعلم أن سيكون في سموم وحميم وظل من يحموم الاستعمار الفرنسي. لم يرجع الإمام الإبراهيمي ليتفرج على محنة قومه، ويذرف الدمع على مأساة وطنه، ولكنه رجع ليخوض معركة إحقاق حق الجزائر وإزهاق باطل فرنسا، مهما يكلفه ذلك من أتعاب، ويصبه من أوصاب، وينله من عذاب. وقد قدر الإمام ابن باديس لأخيه الإمام الإبراهيمي هذه الوطنية السامية والتضحية الغالية فسارع إلى لقائه بتونس، معبرا بذلك عن حبوره بعودته وسروره برجوعه (5) استقر الإمام الإبراهيمي بنواحي سطيف، وكان على يقين أنه مراقب من السلطات الفرنسية، فكان يتحرك بحذر، ويعمل بحكمة، ويتصرف ببصيرة حتى لا يعطي أي مبرر لتلك السلطات لتبطش به، وتجهض مشروعه، خاصة وأن الجزائر كانت محكومة ببقية من قانون "الأنديجينا" الفظيع الذي يعطي الحق لأبسط موظف فرنسي أن يبطش بأي جزائري، ويسلط عليه ما شاء له الهوى من تعذيب أو تغريم أو سجن أو نفي. كان الإمام الإبراهيمي يراقب الأوضاع ويتحسس درجة الوعي عند مختلف فئات الشعب، وكان يتنقل في البلاد تحصيلا لرزق عياله، واتصالا بشرائح الشعب في المناسبات الاجتماعية والدينية، ولم تنقطع الاتصالات بينه وبين الإمام عبد الحميد بن باديس، فيتبادلان الآراء، ويناقشان المستجدات. وقد ساعد الإمام الإبراهيمي على الحركة عدم

_ 3) , Alistair Horne: Histoire de la guerre d'Algérie. Traduit de l'anglais par Yves du Guerny 39. Paris, Albin Michel, 1980, p39 4) آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، الجزائر، وزارة الشؤون الدينية، 1994، ج 6، - صلى الله عليه وسلم - 136. ومن المعلوم أن قيمة الوصف والموصوف تعرف من قيمة الواصف. 5) انظر مقال "الاستعمار الفرنسي في الجزائر" ومقال: "خلاصة حياتي العلمية والعملية" في الجزء الخامس من هذه الآثار.

ارتباطه بأية وظيفة، كما ساعده عدمُ انتمائه إلى أية هيئة على اتساع مجال رؤيته وحرية تفكيره. ومن الأدلة على حرص الإمام على أن يكون على بيّنة من الأمور- حتى لا يقفو ما ليس له به علم- حضوره - سنة 1921 - إحدى جلسات المجلس المالي (6) بمدينة الجزائر. إن ذلك الاحتكاك بفئات الشعب المختلفة، وذلك الاطلاع على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية في الجزائر، ومعرفة الأحوال النفسية المهيمنة على أفراد المجتمع؛ كلّ ذلك جعل الإمام الإبراهيمي يرى الوقت غير مناسب لتأسيس "جمعية الإخاء العلمي" التي اقترح الإمام ابن باديس تأسيسها سنة 1924 "لأن استعدادنا لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد" (7)، رغم اقتناعه بجدواها. إنَّ أهمَّ ما استخلصه الإمامُ الإبراهيمي من ملاحظاته للأوضاع ودراسته لنفسية الشعب الجزائري أنه- الشعب- محكومٌ "بعالَم الأشخاص"- بتعبير الأستاذ مالك بن نبي، فقد كان متعلقًا برجال السياسة لا ببرامجهم وأفكارهم، وكان في الميدان الديني متعلقًا بشيوخ الطرق الصوفية ولو شَرعوا له من الدين ما لم يأذن به الله فمَثَلُ الشعب الجزائري في ذلك العهد كَمَثَل الجاهليين الذين قال قائل يصفهم: لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ … فِي النَّائِبَاتِ عَلى مَا قَالَ بُرْهَانَا أكدت الملاحظة الدقيقة والدراسة المتأنية للإمام الإبراهيمي ما كان مقتنعًا به من أن الأمة غير المُهَيَّأة لا تتقبل الصالح من الأفكار، كما لا تُنبت الأرض غير المستصلحة الجيِّدَ من البذور، ولا تخرج الطيبَ من الأثمار. وكان مقتنعًا أنه لا شيء يهيئ الأمة للأعمال الجليلة ويُعدُّها للمشروعات العظيمة كنشر العلم، الذي يمحو الجهل، ويطرد الخرافة، ويحرّر العقل، وينجح العمل، ويزكي النفس. من أجل ذلك سعى الإمام الإبراهيمي إلى إحداث حركة تعليمية بمدينة سطيف، فتمكَّن من فتح مدرسة "لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة، وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم " (8).

_ 6) هو أعلى المجالس الفرنسية في الجزائر من سنة 1900 إلى سنة. ثُلُثا أعضائه فرنسيون وثُلُث من الجزائريين، وهذا المجلس هو الذي يشرف على ميزانية الجزائر ويوزعها بكيفية لا يستفيد منها إلا الأوربيون. وعن حضور الإمام الإبراهيمي جلسة هذا المجلس، انظر مقال "الاستعمار الفرنسي في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار. 7) انظر مقال "فلسفة جمعية العلماء" في هذا الجزء من الآثار. 8) انظر مقال: "خلاصة حياتي العلمية والعملية " في الجزء الخامس من هذه الآثار.

وقد تقبل أولو العلم وأهل النُّهى هذا العمل بقبول حسن، واستبشروا به خيرًا، وهنَّأوا مدينة سطيف وأهلها بما مَنَّ الله عليهم، إذْ بَعَث فيهم عالِمًا من أنفسهم، عزيز عليه ما عنتوا، حريصٌ عليهم، وحثُّوهُم على الالتفاف حوله لاستفادة مما آتاه الله من العلم والحكمة. وقد حفظ لنا التاريخ شيئًا من ذلك، حيث نشر الأستاذ عبد الحميد معيزة (1893 - 1927) قصيدة سجَّل فيها ملامح من تلك الحركة ومعالم من ذلك العمل فقال: سطيف لكِ البشرى فطيري سرورا … وجاري إذا شئتِ الدراري نورا فهذا (بشير) العلم ألقى بك العصى … فبري به جارًا، وسري مجيرا لنشر علوم الدين قام مشمرا … بعزمة صدق لا تلاقي فتورا إذا شئتَ علوم الأولين فأمَّه … فسَلْ بعلوم الأولين خبيرا (موطَّأٌ) كما شاء الإمام مهذب … وحكمة لقمان تفيض غزيرا وتفسير قرآن ستنفخ روحه … فتبعث في كل البرايا نشورا وإذا أردت البحث في علم عصرنا … تجده بكُنه الكهرباء بصيرا نعم، حل في أرجائك الفيح ناصح … أمين، فزيدي يا سطيف شعورا وأذَّن في الأرواح والقوم نُوَّمٌ … وقد خيّم الجهل المميت دهورا ويحضّ الأستاذ معيزة الناس على الإقبال على الإمام لنيل المعارف التي تمحو الجهل وتنير العقول كما تمحو آية النهار غَسَق الليل، فيقول: أقول لقومي حين شاهدت درسه … مقالاً يعيه العارفون خطيرا هلموا إلى نيل المعارف والعلى … فقد أسفر الصبح المنير سفورا وأنهى الأستاذ معيزة قصيدته بحثِّ الإمام الإبراهيمي على الصبر على ما يعترضه من عواثير، مبشرًا إياه بالفوز والنُّجْحِ: فيا أيها الشهم الذي شاع ذكره … فأنجد في كل البلاد ظهورا تصبَّر إذا ما الأمر صعب فإنما … يلاقي نجاحًا من يكون صبورا وداوم على هدي، وكن خير مرشد … ستحظى بفوز المصلحين أخيرا (9)

_ 9) جريدة "النجاح"، عدد 144، قسنطينة: 1924/ 2/1، وقد صدرت القصيدة بهذا التعليق: "ونحن بمعرفتنا لهذا العلامة نتحقق أن بلاد سطيف المتعطشة للعلوم العربية سيكون لها شأن في ميدان العلم والأدب. وكيف لا والشيخ البشير من النبغاء المحرزين على إجازات علمية من مشائخ الأزهر الشريف، فعسانا نرى من رجال سطيف وضواحيها إسعافاً وتأييدًا لهذا المبدإ الحسن والعمل المبرور حتى ينتشلوا أبناءهم من مصائب الجهل، والنوايا في أولئك الفضلاء حسنة".

ولم يكن الأستاذ عبد الحميد معيزة هو الوحيد الذي أشاد بجهود الإمام الإبراهيمي في هذه الفترة بسطيف؛ بل كانت الإشادة بجهوده واسعة، وكان الاعتراف بفضله كبيرًا، شارك في ذلك ثلة من الأدباء والعلماء منهم محمد بن الحاج إبراهيم السطيفي، وأحمد الغزالي، ومحمد الموهوب. ومما جاء في قصيدة الشيخ محمد بن الحاج إبراهيم السطيفي: بني وطني عوجُوا نحو سطيفكم … وحيوا (بشيرا) في الصباح وفي المسا (بشير) ينادي رافع الصوت جهرة … يقول: هلموا نَجْبُر الصدع والأسا (10) وبعد بضع سنين تمكن الإمامُ من تأسيس مسجد ببلدة رأس الوادي، ودعا - لافتتاحه - الإمام ابن باديس، الذي أشار إلى أن الأستاذ الإبراهيمي ألقى خطابًا عظيمًا (11)، ثم تعزز المشروعان- مدرسة سطيف ومسجد رأس الوادي- بمشروع ثالث سنة 1931 وهو مسجد كبير بمدينة سطيف (12). وبالرغم من أننا لم نعثر- حتى الآن- على أخبار بتأسيس مشروعات أخرى قبل تأسيس جمعية العلماء، فليس مستبعدًا أن يكون الإمام الإبراهيمي قد أسس مساجد أو مدارس أخرى أو وجّه غيره إلى تأسيسها. وكم أهمل التاريخ من أعمال! قد يقول قائل: وهل في فتح مدرسة أو تأسيس مسجد ما يدعو إلى هذا الاهتمام وإلى هذه الإشادة؟ لا ريب في أن هذا القائل- إن وُجِد- يجهل الوضع الذي كان سائدًا بالجزائر في ذلك العهد المظلم، فقد كان الفرنسيون يعتبرون فتح مدرسة أو تأسيس مسجد صغير أكبر جريمة، ويعتبرون مَن فعل ذلك أو دعا إليه قد جاء شيئًا إدًّا، لأن فيه عرقلة لهدفهم في الجزائر وهو الفَرْنسة والتنصير، ومَن عرف هذه الحقيقة اعترف. كما أن الأوضاع الإقتصادية المأساوية التي كان الشعب الجزائري ينوء تحتها- بسبب سياسة التفقير والتجويع التي سلّطها عليه الفرنسيون- تجعل من الصعب إقناعه بتقديم قليل مَوْجُوده لمثل هذه المشروعات، لأن في ذلك تحميله ما لا طاقة له به. كانت الركبان والأخبار قد طيّرت اسم الإمام الإبراهيمي في آفاق الجزائر، وأذاعت رسوخه العلمي في أطرافها، فاختير سنة 1929 لرئاسة لجنة الاحتفال بذكرى الدكتور محمد ابن شنب بالجزائر العاصمة (13)، وهو اختيار له دلالته.

_ 10) جريدة "النجاح"، عدد 145، في 1924/ 2/8. أما قصيدة الشيخ أحمد الغزالي فقد نشرت في عدد 146 من جريدة "النجاح" في1924/ 2/15. ونُشر تشطير محمد الموهوب لقصيدة الأستاذ معيزة في عدد 149 من جريدة "النجاح". 11) مجلة " الشهاب"، جزء1، مجلد6، قسنطينة، فبراير1930. 12) انظر مقال " افتتاح مسجد سطيف " في هذا الجزء من الآثار. 13) مجلة " الشهاب" جزء3 مجلد5، قسنطينة، أبريل1929.

لا شك أنه روعي في هذا الاصطفاء قيمة المحتَفَل بذكراه، فهو ليس شخصًا عاديًا، ولكنه شخصية علمية عالمية، فهو أستاذ بجامعة الجزائر، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق، ومحاضر بالمؤتمرات العلمية العالمية، ومحرّر كثير من مواد دائرة المعارف الإسلامية، ومؤلف كثير من الكتب الأكاديمية، ومحقق عديد من المخطوطات القيّمة، فإسناد رئاسة الاحتفال بذكراه إلى الأستاذ الإبراهيمي - رغم كثرة تلامذة الدكتور وأصدقائه من أساتذة جامعة الجزائر وغيرها من المعاهد العليا- اعتراف بأنه كفُؤها القدير وجُذَيْلُها المحكك، وأنه "نابغة الشرق الجزائري، العبقري الفذ رسول البيان " (14). ولا شك- أيضا- أن العلماء والأدباء الذين حضروا ذلك الاحتفال سمعوا من الإبراهيمي أروع مما سمعوا عنه، فأكبروه، وقَدَرُوهُ حق قدره، وهو ما دعا المشرفين على نادي الترقّي- وهو أهم نادٍ ثقافي وأدبي في الجزائر- إلى دعوته ليحاضر جمهوره وروّاده في موضوع "بيان فوائد الاجتماع " (15). أعمى الطغيان أعين الفرنسيين، وأصمّ الاستكبار آذانهم، وران الحقد على قلوبهم، فأقاموا سنة1930 احتفالات ضخمة بمناسبة مرور قرن على احتلالهم الجزائر، وصرّحوا بأقوال وقاموا بأعمال جددت في نفوس الجزائريين آلامًا نُسِيَتْ، وفتقت جروحًا رُتقَتْ، وكانت اللازمة التي ردّدها الفرنسيون قبل تلك الاحتفالات وفي أثنائها وعقبها، هي أنهم لا يحتفلون بنصر عسكري حققوه؛ ولكنهم يحتفلون بالقضاء على الإسلام واللغة العربية في الجزائر التي أعادوها إلى النصرانية وريثة الوثنية الرومانية، وإلى الفرنسية وريثة اللغة اللاتينية. وقد لخّص كاردينال الجزائر ذلك كله بقوله: " إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وإن عهد الصليب قد بدأ وسيستمر إلى الأبد (16). استغلت ثلة من علماء الجزائر، أيقاظ الشواعر، وأحياء الضمائر، وأصفياء البصائر تلك الاستفزازات الفرنسية ليُنَبّهوا الجزائريين إلى ما يُراد بهم من كيد، وما يُدبر لهم من مكر، وليُحْيوا في أنفسهم الأمل الدافع إلى العمل، ويقتلوا اليأس المميت للبأس. وتنادى أولئك العلماء إلى لقاء أثمر تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كانت بِدْعًا من الجمعيات، فأنارت الجزائر وأضاءت ما حولها، وبصّرت الجزائريين بما لم يبْصُروا به، وغيّرت ما بأنفسهم فغير الله - بعد حين- ما بهم، وتحوّلوا من "أَنْدِيجان"، (17) إلى شعب، ومن قبائل إلى أمّة.

_ 14) نفس المرجع. 15) انظر مقال "التعاون الاجتماعي" في هذا الجزء من الآثار. 16) د. محمد فتحي عثمان: "عبد الحميد بن باديس، رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة" الكويت، دار القلم، 1987، ص69. 17) كلمة فرنسية معناها "أَهْلي"، وكان الفرنسيون يطلقونها على الجزائريين احتقارًا لهم، وسخرية منهم، واستهزاء بهم.

وقد قام الإمام الإبراهيمي في ذلك الاجتماع التاريخي بدور فعّال، وبذل مجهودًا كبيرًا في أشغاله، وأسهم مساهمة نوعية في مناقشاته، فأبان علمًا، وأظهر حزمًا، وأبدى عزمًا، فَعُهِد إليه إعداد قانون الجمعية، فأعدّه بحكمة وبصيرة، فأكبره المؤتمرون، واعترفوا بفضله، فأسندوا إليه نيابة رئاسة الجمعية، فكان القوي الأمين. رأت الجمعية أن توزّع كُبَراءها على مناطق البلاد الرئيسية للإشراف على أعمالها، وتسيير شؤونها، فتولى الإمام ابن باديس الناحية الشرقية، وعُهِد إلى الشيخ الطيب العقبي بالناحية الوسطى، واختير الإمام الإبراهيمي للإشراف على الناحية الغربية، متخذًا من مدينة تلمسان مقرًا ومثابة. وما كان اختيار الإبراهيمي لهذه المقاطعة إلا لأنها "المعقل الحصين للمرابطين والطرقيين المتعاونين تعاونًا مكشوفًا مع الإدارة الاستعمارية، لذلك فقد كان لا بد لإنجاح الدعوة الإصلاحية في هذه المنطقة من وجود شخصية لها قيمتها العلمية والفكرية، وتتسم بالشجاعة والنشاط" (18). وفعلًا فقد كان الإمام الإبراهيمي كالشهاب الثاقب فيه النار المحرقة للبدع وأوليائها، وللإستبداد وزبانيته؛ وفيه النور المبين لمن كان له قلب أو ألقى السمع. أما سبب إقامته في تلمسان، وليس في وهران عاصمة المقاطعة الغربية، فيبدو أنه تحكم فيه ثلاثة اعتبارات هي: 1 - أهمية مدينة تلمسان التاريخية والحضارية، فهي عاصمة لإحدى أهم الدول الجزائرية هي الدولة الزيانية، وهي حاضرة علمية أنجبت واستقطبت كثيرًا من العلماء والأدباء. 2 - وجود إحدى المدارس العربية الثلاث بها، وهي مدارس أنشأتها فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، فهي أحد المراكز الاستشراقية الفرنسية في الجزائر، فكان لا بد من وجود شخصية علمية كبيرة تستطيع مواجهة تأثير الفكر الاستشراقي. 3 - تنفيذ موعدة وعَدَ بها الإمام ابنُ باديس مصلحي تلمسان، حيث سبق له أن زارها- سنة 1932 - وألقى بها درسًا، فأعجب به التلمسانيون، وأرادوا إبقاءه بينهم، فاعتذر، ووعدهم أن يرسل إليهم من هو أعلم منه (19). ألقى الإمام الإبراهيمي عصاه بمدينة تلمسان في بداية سنة 1933 فإذا هي تَلَقَّف الجهل والبدع، فقد كان القوم عاكفين على القبور، داعين إلى الثبور، متفرقين إلى شِيعَ، منقسمين إلى

_ 18) أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأثرها الإصلاحي في الجزائر. الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب1985، ص151. وكلمة المرابطين هنا لا صلة لها بالمرابطين الذين أسسوا الدولة المعروفة في المغرب العربي، وهي هنا مرادف لكلمة المتصوفين والطرقيين. 19) هذه القصة متواترة بين أعضاء جمعية العلماء، وحدثني بها أصحاب الفضيلة الشيوخ: بومدين التاجر، إمام مسجد دار الحديث- رحمه الله- وعبد الرحمن شيبان، ومحمد الصالح رمضان.

ـ[صفحة 32 ناقصة من المصور]ـ

ـ[صفحة 33 ناقصة من المصور]ـ

المقيم العام الفرنسي، فرفض المؤتمرون ذلك، وعقدوا مؤتمرهم في مدينة تطوان التي كانت تحت الإدارة الإسبانية. وفي هذه السنة أيضًا-1935 - عقد المؤتمر الرابع لجمعية العلماء، وقد كان مؤتمرًا متميزًا بما قُدّم فيه من بحوث، وما ألقي فيه من خطب، وما أنشد فيه من شعر، ولذلك قرر المجلس الإداري للجمعية أن تجْمَع تلك البحوث والخطب والأشعار وتنشر في كتاب بعنوان "سجل مؤتمر جمعية العلماء … " يسجل المراحل التي قطعتها، والأعمال التي أنجزتها. وقد عهد المجلس الإداري إلى الإمام الإبراهيمي بالإشراف على ذلك السجل، وكتابة تصدير له، وتلخيص عن كل تقرير، وبيان كيفية تنفيذ اقتراحاته. وقد كتب الإمام الإبراهيمي في هذا السجل بحثًا قيّمًا في فلسفة جمعية العلماء، شخص فيه أدواء المسلمين، وأخطرها هجر القرآن الكريم، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ووصف فيه الدواء الشافي لتلك الأدواء، وفصل القول عن الحركة الإصلاحية في الجزائر وما أنجزته من عظيم الأعمال في وقت قصير. وعرفت سنة 1936 نشاطًا سياسيًا كبيرًا في الجزائر، ومن أبرز مظاهر ذلك النشاط عقد "المؤتمر الإسلامي الجزائري"، الذي جمع- لأول مرة- مختلف التيارات السياسية الموجودة بالجزائر في ذلك العهد. وقد شكّل المؤتمر وفدًا سافر إلى باريس لتقديم الحد الأدنى من مطالب الشعب الجزائري إلى السلطة الفرنسية الجديدة، وهي حكومة الجبهة الشعبية. وقد اختلفت وجهات نظر المشاركين في المؤتمر في البرنامج الذي يتّخذ أساسًا للمطالب، حيث سبق لبعض الفرنسيين تقديم برامج لحل القضية الجزائرية. وكان لكل برنامج أشياع من السياسيين الجزائريين. كان ذلك الاختلاف عقبة كؤودًا في طريق المؤتمر لم يتجاوزها إلا باقتراح قدّمه الإمام الإبراهيمي وهو "أن تُلغى- تلك البرامج- كلها، وأن لا يتّخذ واحد منها أساسًا للمطالب الجزائرية، وذلك لأنها كلها وضعت في ظروف خاصة، وبنيت على اعتبارات خاصة … بل الواجب أن نضع لمطالبنا برنامجًا مستقلًا منتزعًا من حالة الأمة الجزائرية، منطبقًا على نفسيتها وميولها الخاصة" (33)، مع تقييد أي برنامج يوضع وأية مطالب تقدّم بـ "مسألة واحدة يُعَدُّ التساهل أو الغلط فيها جريمة، بل كفرا، وهي مسألة الحقوق الشخصية الإسلامية" (34)، لأن فرنسا كانت تشترط على الجزائريين التخلي عن الإسلام ونَبْذَ أحكامه في أحوالهم الشخصية مقابل مساواتهم في الحقوق بالفرنسيين.

_ 33) مجلة " الشهاب"، الجزء 4، المجلد 12، قسنطينة، جويلية 1936 وانظر مقال "يوم الجزائر" في هذا الجزء من الآثار. 34) نفس المرجع.

إن المدرك لروح فلسفة جمعية العلماء، العارف بمنطلقاتها الفكرية، العالِمَ بمقاصدها. المطّلع على أدبياتها يستيقن أن إسهام العلماء في هذا المؤتمر لم يكن إلا موقفًا مرحليًا، هدفوا من ورائه- في حال استجابة فرنسا لمطالب المؤتمر- إلى تخفيف الضغط عن الشعب الجزائري، وتحسين حالته الاقتصادية المتردية وأوضاعه الاجتماعية المأساوية، ورفع القيود عن التعليم العربي، ونيل نصيب من الحرية يمكّنهم من تثبيت أسس مشروعهم الحضاري الذي يُعد الشعب الجزائري ليوم الفصل، الذي يحق الحق ويبطل الباطل؛ فإن لم تستجب فرنسا لتلك المطالب - وهو ما كان العلماء يعلمونه علم اليقين، ويرونه رأي العين- اتخذوا من ذلك الرفض حجة أخرى يقنعون بها الذين يحسنون الظن بفرنسا أنهم لن ينالوا منها شيئًا، وأن وعودها برق خُلب. أما الموقف الحقيقي للجمعية فهو ما عبر عنه الإمام، الإبراهيمي في ذلك الوقت بقوله: "إن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تُسْتَرجَعُ إلا غلاَبا، (35). لم تخش فرنسا المطالب التي أقرها المؤتمر الإسلامي، فقد سبق للجزائريين أن قدموا - مَثْتى وفُراد - مثلها، ولكن الأمر الذي أَقَض مضجعها وأطار النور من عينيها، وأوجست منه خيفة هو تجمُّع الجزائريين في هيئة، واتحاد كلمتهم. كانت فرنسا تعلم أن الذي استطاع جمع الجزائريين على كلمة سواء هي جمعية العلماء، لأنها- فرنسا- تعرف "أن العربي في الجزائر، الذي لا يملك شيئًا يقتات به، ليس له إمكانية للتعبير عما يريده وما يرفضه في المجال السياسي سوى السير وراء ما يعتقده أنه طبقًا لعقيدته الإسلامية … ومن هنا كانت استجابته لتوجيه العلماء" (36)، لذلك قررت أن تقضي عليها، وأن تتخلص من رؤوسها المفكرة، وأن تئد عقولها المدبرة، وأن تسكت ألسنتها المعبرة، فدبرت مؤامرة في غَسَق الليل ونفذتها في وضح النهار. كانت المؤامرة ذات ثلاثة فصول، وعُيّن لكل فصل ميقات زماني ومكاني؛ فكان الفصل الأول بمدينة الجزائر يوم 2 أغسطس1936، حيث اغتيل مفتي الجزائر، وأوحِيَ إلى القاتل أن يصرّح بأن الشيخ الطيب العقي هو الذي حرّضه على القتل. ثم حصحص الحق، وصحا ضمير القاتل فتراجع عن أقواله، فبرّأ الله العقبي والجمعية. أما الفصل الثاني فقد جرى بمدينة قسنطينة بعد أسبوع من اغتيال المفتي بمدينة الجزائر؛ حيث أطلقت رصاصات على الشيخ الحبيباتني لاتهام الإمام ابن باديس باغتياله، ولكن الله - عز وجل- أنجى الشيخ الحبيباتني فلم يُصب بسوء، ورد الله الكائدين، فلم ينالوا ما أملُوا.

_ 35) جريدة "البصائر"، عدد 37 الجزائر، 2أكتوبر وانظر مقال " الإصلاح الديني لا يتم إلا بالإصلاح الاجتماعي " في هذا الجزء من الآثار. 36) باول شميتز: الإسلام قوة الغد العالمية. تعريب: محمد شامهْ، القاهرة، مكتبة وهبة1974، - صلى الله عليه وسلم - 145.

وأما الفصل الثالث فكان مقررًا أن يُخْرَج بمدينة تلمسان، حيث أراد الفرنسيون بالإمام الإبراهيمي كيدًا. فجعلهم الله من الأخسرين، ودافع عن الإمام بشخص يكتم إيمانه، يسمّى يحيى بُوثمَنْ- من بني ورتلان بالقبائل الصغرى- كان موظفًا في نيابة العمالة بتلمسان، استرق السمع، فعلم بالمؤامرة، فأخبر الإمام بأن الملأ يأتمرون به، ونصحه بالخروج من تلمسان بضعة أيام (37)، فخسر هنالك المبطلون. وشهدت سنة 1937حدثًا علميًا كبيرًا وتظاهرة إسلامية عظيمة بمدينة تلمسان، بمناسبة تدشين مدرسة دار الحديث التي وضع الإمام الإبراهيمي أساسها، ورقع قواعدها، وأعلى سمكها، وكان يعتبرها نواة لمشروع علمي كبير كانت تصوّره له الخواطر، يعيد به مجد تلمسان العلمي. أذّن الإبراهيمي في الجزائريين ليشهدوا افتتاح دار الحديث يوم27 سبتمبر1937، فلبّى نداءه الآلاف، وأتوه من كل فج في الجزائر يتقدمهم الإمام عبد الحميد بن باديس الذي رأى من آيات أخيه الإبراهيمي ما جعله يصفه- فيما بعد- بـ "محيي تلمسان " (38). عضت فرنسا على الإبراهيمي الأنامل من الغيظ؛ لأنه أحيا ما أماتته من دين ولغة، وأَنْشَر ما أقْبَرَتْه من أمجاد، ووحّد ما فرّقته من صفوف، ونزع من الصدور ما زرعته من خوف، فأمر الوالي العام الفرنسي بغلق دار الحديث يوم 31 ديسمبر وتحدّى الإمام الإبراهيمي السلطات الفرنسية و "رفض التوقيع على محضر الأمر بغلق المدرسة (40، وقدّم إلى المحاكمة بتلمسان يوم 27 يونيو 1939و " قُضي عليه بالغرامة " (41)، "وهو الحكم الذي كّدته محكمة استئناف الجزائر، ((42. ولكن هذا الترهيب، وهذا الترويع لم يُجد فرنسا، ولم يُقْعد الإمام عن مواصلة نشاطه، فاستمرّ في عمله، مؤمنًا بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، مستيقنَا أن الله يدافع عن الذين آمنوا، ويثبت أقدامهم، ويربط على قلوبهم. إن قيمة دار الحديث المعنوية والمادية، والأمل المعلّق عليها، ومكانة مؤسسها في قلب الإمام ابن باديس جعله يوليها اهتمامًا كبيرًا، فكان يذكرها في الخطب العامة والمجالس

_ 37) من محاضرة للشيخ محمد الصالح رمضان يوم 1996/ 5/7 بالمعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر، وانظر محمد خير الدين: مذكرات … 340/ 1. 38) جريدة "البصائر"، عدد 137الجزائر 28 أكتوبر 1938. وقد اختار الإمام الإبراهيمي موقع مدرسة دار الحديث في مواجهة الثانوية الفرنسية "دوسلان " ( de slane). 39) أبو القاسم سعد الله: الشيخ الإبراهيمي في تلمسان، مجلة "الثقافة"، عدد101، - صلى الله عليه وسلم - 93. 40) نفس المرجع، وهو ينقل عن تقرير والي ولاية وهران إلى الوالي العام الفرنسي. 41) مجلة "الشهاب"، جزء 8، مجلد14، قسنطينة، أكتوبر 1938. 42) أبو القاسم سعد الله: الإبراهيمي في تلمسان، مجلة " الثقافة"، عدد 101، ص93.

المقيم العام الفرنسي، فرفض المؤتمرون ذلك، وعقدوا مؤتمرهم في مدينة تطوان التي كانت تحت الإدارة الإسبانية. وفي هذه السنة أيضًا-1935 - عقد المؤتمر الرابع لجمعية العلماء، وقد كان مؤتمرًا متميزًا بما قُدّم فيه من بحوث، وما ألقي فيه من خطب، وما أنشد فيه من شعر، ولذلك قرر المجلس الإداري للجمعية أن تجْمَع تلك البحوث والخطب والأشعار وتنشر في كتاب بعنوان "سجل مؤتمر جمعية العلماء … " يسجل المراحل التي قطعتها، والأعمال التي أنجزتها. وقد عهد المجلس الإداري إلى الإمام الإبراهيمي بالإشراف على ذلك السجل، وكتابة تصدير له، وتلخيص عن كل تقرير، وبيان كيفية تنفيذ اقتراحاته. وقد كتب الإمام الإبراهيمي في هذا السجل بحثًا قيّمًا في فلسفة جمعية العلماء، شخص فيه أدواء المسلمين، وأخطرها هجر القرآن الكريم، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ووصف فيه الدواء الشافي لتلك الأدواء، وفصل القول عن الحركة الإصلاحية في الجزائر وما أنجزته من عظيم الأعمال في وقت قصير. وعرفت سنة 1936 نشاطًا سياسيًا كبيرًا في الجزائر، ومن أبرز مظاهر ذلك النشاط عقد "المؤتمر الإسلامي الجزائري"، الذي جمع- لأول مرة- مختلف التيارات السياسية الموجودة بالجزائر في ذلك العهد. وقد شكّل المؤتمر وفدًا سافر إلى باريس لتقديم الحد الأدنى من مطالب الشعب الجزائري إلى السلطة الفرنسية الجديدة، وهي حكومة الجبهة الشعبية. وقد اختلفت وجهات نظر المشاركين في المؤتمر في البرنامج الذي يتّخذ أساسًا للمطالب، حيث سبق لبعض الفرنسيين تقديم برامج لحل القضية الجزائرية. وكان لكل برنامج أشياع من السياسيين الجزائريين. كان ذلك الاختلاف عقبة كؤودًا في طريق المؤتمر لم يتجاوزها إلا باقتراح قدّمه الإمام الإبراهيمي وهو "أن تُلغى- تلك البرامج- كلها، وأن لا يتّخذ واحد منها أساسًا للمطالب الجزائرية، وذلك لأنها كلها وضعت في ظروف خاصة، وبنيت على اعتبارات خاصة … بل الواجب أن نضع لمطالبنا برنامجًا مستقلًا منتزعًا من حالة الأمة الجزائرية، منطبقًا على نفسيتها وميولها الخاصة" (33)، مع تقييد أي برنامج يوضع وأية مطالب تقدّم بـ "مسألة واحدة يُعَدُّ التساهل أو الغلط فيها جريمة، بل كفرا، وهي مسألة الحقوق الشخصية الإسلامية" (34)، لأن فرنسا كانت تشترط على الجزائريين التخلي عن الإسلام ونَبْذَ أحكامه في أحوالهم الشخصية مقابل مساواتهم في الحقوق بالفرنسيين.

_ 33) مجلة " الشهاب"، الجزء 4، المجلد 12، قسنطينة، جويلية 1936 وانظر مقال "يوم الجزائر" في هذا الجزء من الآثار. 34) نفس المرجع.

تحقيق الهدف الوطني، كانت له القدرة والذكاء والجرأة المستوحاة من حقده على فرنسا، كل ذلك ساعد على خدمة القضية التي يعمل من أجلها، في حين ضاعت القضية الفرنسية في الناحية" (47). وأكد المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان- وهو معاصر لهذه الفترة وشاهد عليها- أن الإبراهيمي "صار يسيطر من تلمسان على جهة وهران ببصيرة وهدوء " (48). إن هذا التأثير الكبير- دينيًا ووطنيًا- الذي أحدثه الإمام الإبراهيمي في الناحية الغربية من البلاد جعل السلطات الفرنسية- المحلية والجهوية والمركزية- توجس منه خيفة، وتعتبر صاحبه خطرًا على فرنسا إن هزم الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية أو طال أمدها، وهذا ما أشار إليه وحذّر منه والي ولاية وهران في تقريره إلى الوالي العام الفرنسي في 15 مارس 1940، بقوله: " وليس هناك شك أنه إذا وقعت هزيمة الجّيش الفرنسي، أو استمرّت الحرب مدة طويلة ومؤلمة فإن الإبراهيمي سيكون مركز الخطر لكل دعوات الثورة السلمية أو المسلحة" (49)، فأصدر الوالي العام أمر "اعتقال الإبراهيمي في ساعة مختارة طبقًا للإجراءات المقررة حتى لا يقع تجمّع في الشوارع " (50). وقبيل اعتقال الإمام الإبراهيمي جرب الفرنسيون وسيلة كانوا يستنزلون بها الهمم، ويشترون بها الذمم، وهي وسيلة الترغيب التي تعودوا استعمالها مع الذين أخلدوا إلى الأرض وأتبعهم الشيطان فلم يعيشوا لمبدإ، وقضوا حياتهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، فبعثوا إليه القاضي ابن حورة يعرض عليه منصب شيخ الإسلام، الذي سيحدث لأول مرة في الجزائر في مقابل تصريح منه يؤيد فيه فرنسا التي كانت طرفًا في الحرب العالمية الثانية و "المشاركة في تحرير صحف أنشأوها، وفي كتابة محاضرات تسجل للإذاعة مقابل منح مغرية، فخيب ظنهم ورفض كل تعاون معهم " (51). وكرّر الفرنسيون المحاولة "واستدعت إدارة تلمسان الشيخ، وحاولت إقناعه بسداد طلب الحكومة، فرفض … فقيل له: ارجع إلى أهلك ودِّعهم، وأحضر حقيبتك. فقال لهم: قد ودعتهم وها هي حقيبتي جاهزة" (52).

_ 47) أبو القاسم سعد الله: الإبراهيمي في تلمسان … مجلة "الثقافة"، عدد 101، ص103 وهو ينقل عن تقرير فرنسي. 48) شارل أندري جوليان: إفريقيا الشمالية تسير … - صلى الله عليه وسلم - 135. 49) أبو القاسم سعد الله: المرجع السابق، - صلى الله عليه وسلم - 104. 50) نفس المرجع، ص. 1 O1 وأمر الوالي العام باعتقال الإمام الإبراهيمي مؤرّخ في 8 أفريل 1940 ورقمه 336 51) محمد خير الدين: مذكرات، ج 1، - صلى الله عليه وسلم - 415. 52) أحمد قصيبة: الشيخ الإبراهيمي في منفاه بمدينة آفلو، مجلة "الثقافة، عدد 87، الجزائْر، مايو- يونيو 1985ص278.

علم الإمام ابن باديس بموقف أخيه الإمام الإبراهيمي، فازداد إكبارًا له وإعجابًا به، وكتب إليه رسالة في 4 ربيع الأنور1349هـ (13 أفريل 1940م)، أي قبل ثلاثة أيام من وفاته، ونص هذه الرسالة هو: " الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي، سلمه الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم: "الآن يا عمر" (53)، فقد صنت العدم والدين، صانك الله، وحفظك وتَرِكتك، وعظَّمتَهُما عظم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق وبيّضت محيّاهما بيض الله محيّاك يوم لقائه، وثبتك عدى الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان. والسلام من أخيكم عبد الحميد بن باديس " (54). وننبه القارئ غير المطلع على أوضاع الجزائر في هذه الفترة إلى أن هذه الأنشطة التي قام بها الإمام الإبراهيمي وإخوانه أعضاء جمعية العلماء من تعليم، وكتابة في الصحف، ودروس مسجدية، ومحاضرات في النوادي تمت في ليل من السياسة الاستعمارية غاسق، وفي جو من الإرهاب الفرنسي خانق، وفي بحر من القوانين الفرنسية الجائرة عائق، وتكفي الإشارة في هذا الشأن إلى منشور ميشال سنة 1933 وقرارات ريني وقانون شوطان في 1938 وجميعها يقضي بإغلاق المساجد في وجوه العلماء، وبمنعهم من التنقل في البلاد للوعظ والإرشاد، وبمنع تأسيس المدارس وتعليم اللغة العربية (55). وسيلاحظ القارئ تركيزًا على الطرقية المنحرفة، وقد يظن غير العارفين أن هناك مبالغة من الإمام الإبراهيمي في الاهتمام بهذا الموضوع، أو أنه افتعل معركة؛ ولكن الحقيقة هي أن كثيرًا من البلايا التي أصابت الجزائر وأهلها إنما كانت بسبب هذه الطرقية المنحرفة، التي ضلت وأضفَت جِبِلاَّ كثيرًا من الجزائريين؛ ففرقت صفهم، وشتَّتَتْ جمعهم، حيث بلغ عددها " نحو خمسين طريقة، وكل طريقة مخالفة لطريقة أخرى" (56)، وشرعت لهم من الدين ما لم يوص به الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا صلح المؤمنين، واستبدلت أورادها بالقرآن

_ 53) كلمة قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما قال له: " … إنك أحب إليَ من نفسي … ". 54) مجلة "الموافقات"، العد د 4، الجزائر، المعهد الوطني العالي لأصول الدين، محرم 1414هـ (جوان 1995م)، ص766. 55) عن منشور ميشال، وقرارات ريني، وقانون شوطان، انظر: مازن صلاح مطبقاني: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين … دمشق دار القلم، بيروت، دارة العلوم، 1988، - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - 193 - 224. 56) أبو يعلى الزواوي: جماعة المسلمين. مطبعة الإرادة، - صلى الله عليه وسلم - 32.) لا ذكر للناشر، ولا لمكانه، ولا لتاريخ النشر.

الكريم، وأفضلها من جعله عِضِينَ، وزهدت الناس في نيل نصيبهم من الدنيا، وظاهرت فرنسا عليهم، ويكفيها حطة أن يكون شعارها " أمُّنا باري- باريس- احفظها يا باري ". من أجل ذلك كان الإمام الإبراهيمي يعتبرها استعمارًا روحيًا، لا يمكن للشعب الجزائري أن يتحرر من عدوه، المحتل لأرضه، المستغل لخيراته، المهين لمقدساته إلا إذا تحرر من هذا الاستعمار الروحي، وشُفي من هذا الوباء الطرقي المنحرف الذي أعمى بصره، وأمات قلبه، وشل عقله، وأضل سعيه، وأهدر جهده. وكما أزعج الإمام الإبراهيمي الفرنسيين، وأطار النوم من أعينهم بما بث في الناس من وعي وطني، وما غرس في قلوبهم من روح نضالية، وما أشاع في أنفسهم من أمل؛ أقَض مضاجع منحرفي الطرقيين، وأرَّق جفونهم، وكدَّر مشاربهم، وأكسد تجارتهم بما علَّم من دين قيم، وما أذاع من سنة صحيحة، وما نشر من هدي سليم، فصار الناس يميزون بين ما هو من عند الله وبين ما هو من عند غيره، وأصبحوا يفرقون بين ما هو من سنة محمد- ص- وبين ما هو من أهواء غيره، ولم يعودوا يلقون السمع إلا لآية بينة، أو سنة صحيحة. ومع ذلك كله، فقد كان الإمام الإبراهيمي وجمعية العلماء يطبقون في محاربتهم الطرقية وبدعها قاعدة "أخف الضررين "، فقد ذكر العالم المغربي إبراهيم الكتاني، أن الإمام الإبراهيمي دعاه لحضور الاجتماع العام لجمعية العلماء بالجزائر العاصمة، وعرف " أن لجمعية العلماء قرارًا سريًا يقضي بمنع مقاومة الزوايا والمرابطين في بلاد القبائل- البربر- التي كان للكنيسة بها نشاط تخريبي هدام منظم " (57). ونود أن نَلْفِتَ الأنظار إلي تلك العلاقة العميقة والمتينة التي كانت تربط بين الإمامين عبد الحميد ابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي. لقد بدأت هذه العلاقة- على تقوى من الله ورضوان- في الحرم المدني الشريف، بالمدينة المنورة، وتجدرت في ميادين الجهاد ومقارعة العدو الفرنسي لاستخلاص الجزائر من بين أنيابه، ومقاومة الذين خانوا الله ورسوله وخانوا الوطن بموالاة عدوه، واسمّرت هذه العلاقة قوية نقية لم تشبها شائبة، ولم يعترها فتور، ولم يستطيع شياطين الإنس- رغم حرصهم- أن ينزغوا بينهما، وما ذلك إلا لأنها كانت علاقة خالصة لله عز وجل، خالية من حظوظ الذات ونوازع النفس، يحرسها تقدير متبادل وتتجلى هذه العلاقة- قبل تأسيس جمعية العلماء- في حرص الإمام عبد الحميد بن باديس على عودة أخيه الإمام الإبراهيمي من المشرق بعدما رأى غزارة علمه، وعرف قوة شخصيته، وأدرك عمق نظرته، وتبين صدق وطنيته، كما تتجلى في انتقال الإمام ابن باديس إلى

_ 57) انظر شهادة إبراهيم الكتاني في محمد خير الدين: مذكرات … ج1، - صلى الله عليه وسلم - 406.

تونس لاستقبال أخيه الإبراهيمي عند عودته إلى الوطن سنة 1920، وفي تبادل الزيارات بينهما. وتتبين هذه العلاقة- بعد تأسيس الجمعية- في تردد الإمام ابن باديس على الإبراهيمي في تلمسان، رغم بعد الشقة وكثرة الأعمال، وفي تكليفه بكثير من القضايا الهامة (الإشراف على سجل مؤتمر الجمعية رئاسة الاحتفال بحفل ختم تفسير القرآن الكريم - عدد مجلة الشهاب الخاص بحفل ختم التفسير- الرد على الطرقيين- إعداد برنامج الكلية الإسلامية .. ). أما من جانب الإمام الإبراهيمي فقد تجلت تلك العلاقة في الإخلاص لأخيه الإمام ابن باديس في حياته، والوفاء له بعد وفاته، فأطلق اسمه على المعهد الذي أسسه تخليدًا له، ورفع له ذكره بما كتبه عنه من كتابات كمًّا وكيفًا، وأشاد بفضله على الجزائر حتى اعتبر " كل ما يعلو فيها من أصوات صدى مردد للكلمات النارية التي كان يقذفها لسان مبين، يترجم عن علم مكين ودين متين، وهو لسان المرحوم باني النهضات الجزائرية من غير منازع الإمام عبد الحميد بن باديس " (58)، "الذي جمع الله فيه ما تفرق في غيره من علماء الدين في هذا العصر وأربىَ عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللماح، والفهم الغواص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر مع التمييز بين ضارها ونافعها، وكان مع التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها، إمامًا في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله قلم بليغ، شجاع، يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية، وفرسان منابرها، كما كان من كتب كتابها" (59). والإمام الإبراهيمي عندما كتب وقال ما قال عن أخيه ابن باديس لم يكتبه أو يقلهُ مُجامَلة: "فما كان مبنى الأمر بيننا- ما عشنا- على الرياء والمجاملة" (60). لقد من الله على الجزائر، إذ بارك في علاقة هذين الإمامين، وألَّف بين قلبيهما، وجمع جهديهما، وبعثهما فيها في أيام محنتها، وفي ساعة عسرتها، فجدد لها بهما أمر دينه، وأحيا بهما لغتها، وأخرجها بهما من الظلمات إلى النور، وبعثها بسعيهما من مرقدها، وأنقذها بهما من الاضمحلال. يضم هذا الجزء المقالات التي عُثِر عليها، وهي تغطي الفترة الممتدة من سنة 1929 إلى سنة 1940. ولا ريب في أن للإمام الإبراهيمي- قبل سنة 1929 - كتابات، ولكننا لم

_ 58) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في الجزء الرابع من هذه الآثار. 59) انظر مقال "الاستعمار الفرنسي في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار. 60) انظر مقال "ذكرى عبد الحميد بن باديس- الثامنة وموقع معهده منها" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

نعثر- حتى الآن- على شيء منها؛ إما لأنها لم تنشر وضاعت ضمن ما ضاع من آثاره وآثار غيره من علمائنا، إهمالَاَ، أو مصادرة من الفرنسيين؛ وإما نشرت في جرائد ومجلات لم تصل إليها أيدينا، حيث أشار بعض المؤرخين المختصين في هذه الفترة من تاريخ الجزائر إلى أن الإمام الإبراهيمي "ابتدأ منذ عام 1925 في كتابة بعض المقالات في جريدة الشهاب (61) وهذا ما ذهب إليه المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجْرُون (62)، والمؤرخ الجزائري محفوظ قداش 63))؛ وإما أنها نشرت بأسماء مستعارة حذر بطش الفرنسيين، وما كثر الكتابات التي لا تحمل أسماء أصحابها، أو موقعة بأسماء مستعارة في جرائدنا ومجلاتنا، وفي غير جرائدنا ومجلاتنا التي نشر فيها كُتَّابُنا؛ فإذا كان الإمام ابن باديس- وهو الذي كان يتمتع بحماية نسبية من والده- ينشر كثيرًا من مقالاته بأسماء مستعارة (العبسي - القسنطيني- الجزائري- الصنهاجي). فكيف لا يلجأ إلى هذه التقية من ليس له أد ى حماية. هذه- باختصار- هي أهم أعمال الإمام الإبراهيمي في هذه الفترة (1929 - 1940) من تاريخ الجزائر، مذكّرًا- مرة أخرى- بأن تلك الأعمال تمت في أصعب الظروف، وأنجزت في أحرج الأوقات، فعلى القارئ أن يضع ذلك كله في اعتباره، وأن لا يحكم عليها بمعطيات فترة أخرى وظروفها، وخاصة في بلدان غير الجزائر. محمد الهادي الحسني البليدة (الجزائر): 8 أكتوبر 1996.

_ 61) أحمد الخطيب: جمعية العلماء … مرجع سابق، - صلى الله عليه وسلم - 150. 62) Ch. R. Ageron: Histoire de l'Algérie contemporaine, Paris, P. U. F. , 1979, T2 p325 M. Keddach: Histoire du nationalisme algérien, Alger, SNED, (63 1980, T1, p. 222

قبل تأسيس جمعية العلماء

قبل تأسيس جمعية العلماء (1929 - 1931)

محمد بن شنب

محمد بن شنب* ما هذا الجمع الحاشد؟ وما هذه الزمر المحدودة؟ وما للأحياء حشروا في صعيد الأموات؟ أجل، ما لهذا الفريق الممتاز من إخوان الأدب وأخدان العلم وعشراء البحث ورصفاء التفكير وأسرة الكتابة والقلم- يظهرون بهذا المظهر الرهيب. وينزعون هذا المنزع الغريب، - لولا داع دعا وباعث بعث وسايق حث فأزعج. بلى ما هذا الحشد فوق التراب إلا لقضاء حق عزيز ثوى تحت التراب. مات محمد فعرفت هذه الطائفة من مات، وعرفت أنه مات فبكت فضله المدفون ونفعه الذي فات. مات محمد فأسف العارفون لفضله على فضله وما هو بالذخيرة المنزورة ولا الحظ المنقوص ولكنه البحر فيضا وسعة جوانب. وأسف المشفقون على هذا الوطن البائس أن ينقصف علمه المفرد وواحد الآحاد فيه قبل أن تتحقق آماله في العلم أو تتحقق آمال العلم فيه. مات محمد فأيقن زملاؤه وشركاؤه في الصنعة أنهم فقدوا بفقده ركنا من أركان العلم الصحيح، وعلما من أعلام التاريخ الصحيح، ومثالا مجسما من الأخلاق العالية والخلال الرفيعة، لا بل فقدوا معيارا من أصدق المعايير لقيم الروايات وعينا لا تغر صاحبها بالسراب، لا بل فقدوا عقلا هذبه العلم وعلما هذبه العقل فأنتجا خير النتائج، لا بل فقدوا مثالا كاملا من حياة العمل والنشاط والعبادة للعلم والفناء في العلم.

_ * خطبة ألقاها الإمام في حفل تأبين الفقيد محمد بن شنب بالعاصمة، مجلة الشهاب: الجزء الرابع، المجلد الخامس، ماي 1929، ص7

مات محمد فلم يخسر تلامذته تعليمه وإرشاده ونصحه واجتهاده، بل خسروا وراء ذلك الغاية التي يصبون إليها وينتظرها الوطن منهم، وهي الانطباع بطابعه في الذوق، في الأخلاق، في أسلوب البحث، في طرز التفكير، في الاعتماد على النفس، في الانقطاع للعلم والإخلاص له في الأدب النفسي، في الصبر على العمل- وإن شق- حتى الوصول إلى النهاية. في المحافظة على القومية الصحيحة. في اطراح الحظوظ والرعونات، في استخدام البصيرة في كل شأن من شؤون الحياة، في القصد. ذلك أن الرجل محافظ والمحافظة ألزم ما يكون لنهضة كنهضتنا لم تزل في طور الاختمار، تتجاذبها العوامل الخارجية أكثر مما تكيفها الضرورات الداخلية، فنحن أحوج ما نكون في هذا الموقف إلى محافظة مهذبة تسايرنا في أطوار الانتقال وتكون لنا قنطرة نعبر عليها من قديمنا إلى الصالح الذي ننشده، وتقينا شر الذبذبة التي هي وليدة الطفرة. الرجل كان محافظا حقا ولكنه محافظ بالمعنى المعقول، محافظة البصير الناقد الذي يرى أن مشخصات الأمم منها جوهر ومنها عرض، وأن الجوهر منها هو الصالح للبقاء وأنه لا يد للفرد ولا للجماعة في تكييفه كما يشاء أو كما تشاء، وأن تطوره موكول إلى تدبير الاجتماع لا إلى تدبير الجماعات- وأن العرض منها هو محل التبديل والتغيير يصلح لزمن فيؤخذ، ولا يصلح لآخر فينبذ. فالمحافظة على جوهر المقومات ليست محافظة وإنما هي حفظ للقومية من الاندغام والتداخل وعماد لها أن تتداعى وتسقط، وأما الأعراض فهي قشور تتحول وتزول فهي كأوراق الخريف توجد وتعدم والشجرة شجرة. والرجل مخلص في أعماله وما نجاحه في حياته العلمية إلا نتيجة إخلاصه، والإخلاص أحوج ما تحتاج إليه ناشئتنا في وقت ذهب فيه الإخلاص ضحية المداجاة والنفاق والغش والمؤاربة ومجموعها هو الرياء الخادع. الرجل صبور والصبر مطية النجاح وقوام الحياة كلها. الرجل معتمد على نفسه، يظهر ذلك في جميع أطوار تعلمه وإن الهمة التي سمت به إلى تعلم عدة لغات حية أجنبية وإتقانها هي عنوان هذا الخلق العظيم، خلق الاعتماد على النفس، والاعتماد على النفس خير ما حمل الآباء عليه أبناءهم فهو الرائد إلى السعادة وهو أساس الحياة الاستقلالية. الرجل مؤدب النفس مهذب الطباع وهذا الخلق أساس حسن العشرة وحسن العشرة أساس الجاذبية وما أحوج ناشئتنا إلى هذا الخلق القويم إذا لكانت الإفادة إذا أفادوا والاستفادة إذا استفادوا على قاب قوسين منا.

أما طرز التفكير فالإنصاف في حق الرجل أنه لم يكن مفكرا اجتماعيا بالمعنى الواسع ومن وصفه بذلك فقد ظلمه اللهم إلا مشاركة قومه في شعورهم الخاص وإحساسهم الخاص، واللهم إلا معنى آخر يماس التفكير وهو صدق الاستنتاج وسلامة الحدس، فقد كان نصيبه من هذا الخلق نصيبا موفورا. أما أسلوب البحث العلمي وبناؤه على المحاكمة والنقد فهو ظاهرة الرجل الخاصة به ونعته الصادق، ولا أكتمكم أني ما كنت شديد الإعجاب بالرجل إلا من هذه الخلة، ولا كتمكم السبب الذي أودع هذا الإعجاب في نفسي بهذه الناحية من نواحي الرجل دون نواحيه الكثيرة وكلها أجواء صافية، السبب هو أنني نظرت في جميع ما لدينا من تراث الأوائل مما نسميه علما وأمعنت في تتبع أطوار العلوم الإسلامية من النقطة التي وصل إليها مداها في الاتساع إلى المنشإ الأصلي فوجدت أن جميع علومنا الإسلامية في جميع أدوارها يعوزها الاختبار والنقد، يعوزها الاستقلال في الرأي، تعوزها الشجاعة إلى أن جاءت عصور الانحطاط فكان ذلك الاعواز بذرة فاسدة للتقليد في جميع علومنا حتى أصبحت أشباحا بلا أرواح، فلا عجب إذا أكبرت الرجل وأكبرت كل من يوفق إلى غرس هذه الملكة فيه في نفسه. العلوم الإسلامية موضوع تاريخي كسائر المواضيع التاريخية والباحثون في هذا الموضوع ثلة من الشرقيين وقليل من الغربيين، وجهات هذا الموضوع مترامية الأطراف ولا نعلم موضوعا لقي في أثناء تكوينه من الفواعل الداخلية والخارجية ما لقيه هذا الموضوع، لذلك قل من يجيد البحث فيه وقل في هذا القليل من تنتهي به أبحاثه إلى نتيجة يرتضيها التاريخ الصحيح. ولئن كان في طريق باحثي الغرب في هذا الموضوع عقبات تقوم لهم بالعذر عن التقصير فيه، فليس في طريقنا معشر الشرقيين من عقبة لولا تلك العلة المشؤومة التي هي عائقنا الأكبر عن الإنتاج الفكري والخصب العقلي، بل هي السبب الوحيد في موت ملكة الابتكار فينا، تلك العلة هي التقليد الذي أصبح ظاهرة من ظواهر العلوم الإسلامية وتاريخها. وإن المفكرين منا لينشدون نهضة تقضي على التقليد وتغرس ملكة الاستقلال في البحث التاريخي، وإن بوادر هذه النهضة قد ظهرت من عهد غير بعيد، وإن فقيدنا اليوم من الطلائع المبكرة لهذه النهضة بهذا الوطن وأن تبكيره هو سر خموله. نشأت العلوم الإسلامية في ظروف متفاوتة وفي أمم متفاوتة يجمعها الإسلام، فكان للظروف أثر في تكوين تلك العلوم ولاختلاف الجنس أثر في تكوينها أيضا، وكانت منذ نشأتها خاضعة للدين، فكان للدين أثره الأقوى فيها أيضا ثم تطورت تلك العلوم تبعا لتطور الحياة العامة، فكان للآداب الجنسية الخاصة وللآداب الدينية العامة أثر في ذلك التطور

وأصبح تاريخ العلوم الإسلامية يتناول تاريخ رجالها وتاريخ انتقالها في ظل الإسلام من الشرق إلى الغرب وتاريخ أطوارها قوة وضعفا، فلا عجب إذا أعجبت بهذا الفقيد وهو الذي إذا بحث في هذه المواضيع الشائكة أرضى الحق وأرضى التاريخ، وإن ناشئتنا لفي شديد الحاجة إلى تلقين هذا النوع من العلم في مبدإ نهضتنا العلمية وإلى الانطباع بهذا الطابع طابع الاستقلال والنقد. لست في موقفي هذا شاعرا أؤبن فأجري وراء الخيال في تصوير عظم المصيبة بفقيدنا العزيز لأجري دمعة جامدة أو أحرك عاطفة خامدة، كلا ليس هذا من شأني ولست بصاحبه وإني لتاركه إلى شعراء الحفلة فليبكوا ما شاءوا وليستبكوا ما شاءوا فالموقف حقيق باستنزال العبرات وتصعيد الزفرات وذهاب النفوس حسرات. وإنما وقفت لأبين لكم ناحية من نواحي الفقيد، وهي ناحية عرفها القليلون منا وجهلها الكثيرون، هذه الناحية هي الغرة اللائحة في حياة الراحل الكريم، وهذه الناحية هي في نظري سر نبوغه أو سر تفوقه أو سر غربته في هذا الوطن. هذه الناحية هي التي لاحت للعلماء من غربيين وشرقيين فاكبروا الرجل وأنزلوه المنزلة التي هو بها حقيق- هذه الناحية هي العظة البالغة والعبرة النافعة للناشئين منا في العلم وهي المثال الذي يجب أن يحتذه، حياة العلماء الذين وقفوا حياتهم لنفع البشر إلا أمثلة تحتذى ولها بعد ذلك أثرها في النفوس إن خيرا وإن شرا. امتاز الفقيد بعدة خلال جليلة مجموعها هي تلك الحياة الجليلة التي يبكيها الباكون منا اليوم ويعتبر بها المعتبرون. هذا الفقيد العظيم يصفه الواصفون بالمحافظة فيمدحها قوم ويذمها آخرون، ويصفه الواصفون بالنزعة الإسلامية الشاذة فيمدحها قوم ويذمها آخرون. ويصفه الواصفون بسعة الاطلاع على تاريخ العلم الإسلامي والتوفر على البحث فيه على المنهج العلمي المبني على المحاكمة والنقد والاستدلال. فتجتمع الآراء وتتفق المشارب وتلتئم الأهواء. يا ساكن الثرى ومستبدل الوحشة بالأنس، هذه طائفة من قرنائك وعارفي قدرك وتلامذتك جاءتك وأنت في ثراك تجدد بك العهد بعد الأربعين وإنها لغيبة طويلة لولا أن ما بعدها أطول. جاءت تجدد- ذكراك الخالدة وتعدد ما خلفت من تراث وما هو إلا علم صحيح ومبدأ صريح وكفى بهما ذخرا لك ولنا.

يا ساكن الثرى إن ذكراك هي الشعاع الهادي لهذه الطائفة فيما يعرض لهم من شؤون الحياة وتجاريبها. يا ساكن الثرى ومستبدل الغربة بالأهل، هذه الجزائر تناجيك بلسان طائفة من أبنائها البارين بك وبها وتقول: عرفك الغرب والشرق ولم تعرفك الجزائر حق المعرفة في حياتك، فهي تبكي عليك حق البكاء بعد وفاتك، وهذه الألفاظ هي دموع المقصر بعد العتب، والتائب بعد الذنب. يا ساكن الثرى نم هنيئا في جوار ربك، فهذا آخر العهد بشخصك الكريم ولكنه ليس آخر العهد بآثارك الخالدة. وإنا عليك يا محمد لمحزونون.

التعاون الاجتماعي

التعاون الاجتماعي* من أبهج ساعات العمر ساعة يقف فيها أخ يحادث إخوانه على بساط الشعور المشترك والإحساس الصادق والإخلاص في القول وحسن الإصغاء يتلو عليهم ما فيه العبرة من ماضيهم وحاضرهم. يذكرهم ما ليسوا عنه بغافلين من أخذ الأهبة للمستقبل المحجوب، يدعوهم إلى الجد في العمل المشترك، يدعوهم إلى التعاون في الصالحات، يدعوهم إلى نفض غبار الكسل والتواكل، يدعوهم إلى مجاراة السابقين في الحياة، يدعوهم إلى العمل لما فيه سعادة الدارين. يدعوهم إلى نبذ موجبات التفرق والتخاذل، يدعوهم إلى تقوية أسباب الإلفة والأخوة، يدعوهم إلى أخذ شؤون الحياة من أسبابها المعقولة، يدعوهم فيسمعون فيعرفون قيمة ما دعا إليه، فيفوز الداعي بفضيلة الدعوة والإرشاد إلى الحق والتنبيه إلى الواجب، ويفوز المدعو بفضيلة الاسترشاد والعمل بالنصيحة، ويلتقي الكل عند أشرف غاية في هذه الحياة وهي أداء الواجب الاجتماعي. إخواني: إن كنتم أولئك المستمعين فلست بذلك الداعي لولا هبة منكم نحو التقدم حركتني بعد السكون وأنطقتني بعد السكوت. قد استقر رأي جماعة من الإخوان على أن يكون موضوع المحادثة بيان فوائد الاجتماع ويعنون بالاجتماع الاتحاد … وهل تحتاج فوائد الاجتماع إلى بيان؟ فوائد الاجتماع هي ثمراته الناتجة عنه وثمراته هي ما ترون من أعمال تعجز القوة الفردية عن إتمامها، وما ترونه من مصانع تخرج المعجزات، وما ترونه من تقريب الأقطار وإخضاع البحار، وما ترونه من استخراج مواهب الأرض التي لا يستقل الفرد بإخراج جزء منها ولو

_ * محاضرة ألقاها الإمام بنادي الترفي بالعاصمة عام 1929، مجلة الشهاب (الأجزاء5، 6، 7) المجلد الخامس، جوان، جويليه، أوت 1929.

جمع مواهبه، وما ترونه من تسلط جبري على قوى الطبيعة واستخدامها بكل سهولة. ومن ثمرات الاجتماع ما تقرأونه في التاريخ من تغلب جماعات قليلة العدد قليلة المال على جماعات هي كثر منها عددا وأوفر مالا- نعم إن فوائد الاجتماع لا تحتاج إلى بيان- فالاجتماع يحدث عن نفسه باللسان الفصيح. وآثار الاجتماع هي الحقائق العريانة والشواهد الناطقة، فلئن تحدثنا في فوائد الاجتماع فإنما ذلك من باب التذكير، ولم يزل التذكير في كل أطوار الإنسانية مددا روحانيا يثير الخامل إلى العمل ويحث العامل على مواصلة العمل. نحن لا نحتاج إلى بيان فوائد الاجتماع، فقد أصبحت من البديهيات المسلمة. وإنما نحتاج في الدرجة الأولى إلى تكوين اجتماع حيوي منتج يتفق مع الحياة العامة في العموميات ويلتئم مع حياتنا الخاصة في الخصوصيات. هذا النوع من الاجتماع هو الذي يجب أن نسعى في تكوينه إن كان مفقودا، أو نسعى في ترميمه واستثماره إن كان موجودا. الحق الذي لا مراء فيه أنه لا يوجد عندنا اجتماع منتج بالمعنى الذي نريده ويتمناه العقلاء منا والمفكرون، والذي نشاهد آثاره عند غيرنا وندرك أنها نتيجة ذلك الاجتماع. والحقيقة التي لا مراء فيها أن حياتنا الخاصة- بصفتنا أمة ذات مقومات ممتازة- قد قدر لها أن تصبح تابعة لحياة عامة هي صرف السوق كما يقولون- هذه الحياة العامة فرقت القبائل والشعوب من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، فكنا من غرقاها، وطغى تيارها حتى دخل على الحضري قصره وعلى البدوي قفره. هذه الحياة العامة تحدثنا بلسان الحال أن غايتها توحيد المجموعة البشرية في مظاهر الحياة وخوافيها، في الميول والأهواء، في العواطف والمشارب، في النزعات والتأثرات- ولكن هل توافقها إرادة الحي- هذا الكائن العاقل؟ إن إرادة الحي غير إرادة الحياة، فالحي بصفته فردا يريد أن يحتفظ لنفسه بحق الاستئثار بقسطه الخاص من الحياة، وبصفته فردا من أمة يريد أن يحتفظ لنفسه بحق تكوين اجتماعه كما يريد، ونحن في اجتماعنا هذا أو في حديثنا هذا من هذا القبيل. إذن نحن محتاجون إلى تكوين اجتماع خاص تنتج عنه نهضة منظمة في جميع لوازم حياتنا القومية الخاصة، وألزم هذه اللوازم أربعة: الدين والأخلاق والعلم والمال. أما اللازم الأول وهو الدين فلا نبحث في درجة أهميته من بين اللوازم فذلك أمر ضروري، وإنما نقول إن اجتماعنا يقضي بإدخاله فيما تجب العناية به، وقد ظهرت في هذه السنين حركة توسمنا فيها لأول مرة أنها ستقوم بركن من أركان نهضتنا، وكانت هذه الحركة ترمي عن قوس الحقيقة في الرجوع بالدين إلى بساطته الأولى، وأنه دين الفطرة، وأنه لا يرجع في أحكامه إلا إلى النص القطعي من كتاب محكم أو سنة قولية أو عملية

متواترة، وأن كل ما ألصق بالدين من المحدثات فهو بدعة يجب اعتبارها ليست من الدين، وإن تراءت في صورة ما يقتضيه الدين. ومن الأسف أن هذه الحركة لم تنتج النتيجة المطلوبة ولم يصحبها من النظام والحكمة ما يجعلها سريعة الدخول في أذهان الناس. - 2 - فمن المفيد في اجتماعنا أن نعير هذه المسألة جانب الاهتمام ونسعى في تقريب حقائق الدين من أذهان الأمة على السنة الأولى في نشره وهي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونسعى في إقناع الأمة بأن هذا الدين دين عملي لا تستغرق معرفة أحكامه هذه العشرات من السنين التي يبددها طلاب العلم الديني منا، وأنه يجب الرجوع في طريق الاستدلال على العقيدة إلى طريقة القرآن وهي إلفات النفس وتوجيهها إلى الاستدلال بالمخلوقات على الخالق، وأن هناك فرقا عظيما بين العقيدة والعبادة والمعاملة وأنه لا مدخل لغير المعصوم في إثبات ما هو عقيدة أو ما هو عبادة، وأن المعاملة مبنية على مراعاة مصالح البشر ونظام اجتماعهم العمراني، ولذلك كانت أغلب أحكام المعاملات المأخوذة من القرآن كلية قل أن نعثر فيها على التفصيل، وأن الأنسب لسماحة الدين وبقائه وصلاحيته لكل زمان ومكان أن يكون للزمان والمكان والعرف والعادة والبيئة مدخل في تكييف أحكام المعاملات وتطبيقها على الحوادث الجارية. وأن التاريخ شهد بأن أسلافنا كانوا يراعون هذا المعنى في إدارتهم الإسلامية وفي سياستهم للشعوب الأخرى. يصحب هذا السعي سعي آخر ملازم له وهو السعي في نشر اللغة العربية التي هي لغة الدين ولغة الآداب القومية ولغة التاريخ القومي. وسعي ثالث لازم لهما وهو السعي في نشر التاريخ الإسلامي الصحيح بلغته، المتضمن للثقافة الإسلامية العربية، فإذا اشتمل اجتماعنا على هذه المساعي كنا قد عرفنا للاجتماع قيمته وأخذنا بثمرة من ثمراته وفائدة من فوائده وقلنا وقال الناس "إنه اجتماع منتج". وأما اللازم الثاني وهو الأخلاق فنحن أحوج ما نكون إليه في هذا الزمان الذي كثرت فيه المبادئ العاملة على هدم الأخلاق الخيرية وكثرت فيه الأذواق المتطرفة التي تستمرئ الرذيلة على الفضيلة. وإذا كان عقلاء الأمم التي هي أرقى منا بكثير تشكو فساد الأخلاق في أممها فمن نحن وأين نكون؟ فالواجب على اجتماعنا الذي ننشد تكوينه أن يبذل مجهودات قوية لرفع درجة الأخلاق عندنا، ومن فكري الخاص أن هذه الناحية من أمراضنا هي أيسر معالجة من جميع النواحي

إذا أحسنا تسيير الجهود الفردية في التربية المنزلية، لأن لنا أساسا نبني عليه ولا يعسر جد العسر إحياؤه وهو الأخلاق الإسلامية المتوارثة في الجملة والتي نجد معظمها في القرآن في أوضح عبارة وأوضح بيان، ثم الأخلاق العربية المأخوذة من آدابهم التي هي أنفس ما خلفوه لنا من التراث. فإذا تمكنا بالتدريج من قمع هذه الجراثيم الأخلاقية التي أفسدت مجتمعنا، وتكوين أفق أخلاقي، صالح، نكون قد جنينا من اجتماعنا شيئا هو ثمرة الثمرات وفائدة الفوائد. وأما اللازم الثالث وهو العلم بمعناه العام فالحقيقة الواقعة أننا لا زلنا فيه في مؤخرة الأمم، وغاية ما نبني عليه الأساس في هذا الباب هو هذا الشعور الذي نشاهده في جميع طبقاتنا وأوساطنا بلزوم العلم، وهذه الرغبة المتأججة في صدور الناشئين منا للعلم. ودوننا في الوصول إلى القدر الصالح منه عقبات أكبرها فقدان المال، فلو اجتمعنا وتظاهرنا وملأنا الدنيا أقوالا لما أفادنا ذلك من العلم قليلا ولا كثيرا بدون مال. إذن فالواجب على هيئاتنا المجتمعة محاربة الجهل بالعلم، ولا يتم ذلك إلا بالمال وأين المال وما أقل ما يكفي منه. لا ننكر أن عند أغنيائنا مالا يكفي لبعض الواجب، ولكن يحول دون إخراجه في المشاريع النافعة أسباب: شح مطاع في البعض وجهل بطرق النفع العام في البعض، وأخرى نشكو منها إلى الله وهي عدم ثقة بعضنا بالبعض، هذا الخلق المشؤوم الذي أصبح خلقا ذاتيا فينا ولا نبحث عن أسبابه في هذا الحديث. تعلمون أنه وجد في هذا القطر في عهده الأخير جماعة من أبنائه البررة حاولوا التعليم بأسلوب قريب وطريقة منظمة، كل في دائرة اختصاصه، وجعلوا أعمالهم وأوقاتهم تضحية وطنية متكلين على التضحية الوطنية من جانب الأغنياء وما جاوزوا مبادئ العمل حتى أعوزهم المال وأخطأ الاتكال، هنا وقعت المشادة الكبرى- قالوا للأغنياء: هاتوا المال، فقال بعضهم: هاتوا الثقة، وقال البعض: هاتوا الثبات، وقال بعضهم: لا ادفع مالي في غير ما يخص أهلي وعيالي. أما الفريق الثالث فقد عذرناه لأنه مخلص لشحه وأنانيته، وأما الفريقان قبله فهما تحت رجم الظنون. وكانت خلاصة هذه المشادة أن تعطلت تلك المؤسسات العلمية النافعة في أول نشأتها وحرم الوطن من فوائدها وخرج الفريقان بالأعذار الباردة كل يتنصل من العهدة والعهدة على الجميع. لو كان لنا أيها السادة جمعيات منظمة تقوم بهذا العمل لما كنا نحرم هذا الحرمان المؤلم ولشدت عضد هؤلاء المجاهدين، ولكان لها من مكانتها شفيع عند الأغنياء يقطع عذر المعتذر منهم ويخفف عاطفة الشح من الشحيح.

إن كنا نحب- أيها السادة- أن يكون لنا أثر محمود في سبيل العلم وخطوة واسعة فيه فلنحرم على أنفسنا عقيدتين: عقيدة الاتكال على الأعمال الفردية من فريق المعلمين أو من فريق الأغنياء وعقيدة الاتكال على الحكومة. وحسبنا أن نسعى السعي المتواصل لتأسيس جمعيات علمية. مكشوفة الجبين عريانة المقاصد تقوم للمعلمين بما عجزوا عنه من المال وتقوم للأغنياء بما طلبوه من الثقة والثبات وتنوب عن الكل في إدارة المؤسسات إدارة رشيدة تضمن سلامة العقبى والوصول إلى النتيجة. أما البحث في أنواع العلوم التي تصلح لنهضتنا فهو معدود من لغو الحديث واحتياج الحي إلى العلم في هذا الزمن أصبح قرين احتياجه إلى الطعام. وأما اللازم الرابع وهو المال فلا ننكر أنه أقرب نواحي نهضتنا إلى التحقيق ولا ننكر أن صلتنا بالمال لم تنقطع. وفي القطر ثروات هي نتائج جهود فردية وثروات هي بقية مما ترك الأولون. ولكن رغما عن هذا فلا مطمع لنا في اللحوق بالأمم الغنية المعتزة بغناها ولم نبلغ أن تكون لنا قيمة مالية في أسواقها الكبرى. وهذه هي درجة الاعتزاز بالمال. نحن في هذا المقام نتحمل واجبين: واجب الاحتفاظ بما هو موجود، وواجب استثمار الموجود حتى ينمو. وإذا أردنا القيام بالواجبين فلا بد لنا من اعتبار الأصول المرعية في كل من الاحتفاظ والاستثمار، وكلنا يعتقد أن الثروات التي نمت بين أيدينا إنما نمت بعد اطراح أساليب التنمية العتيقة واستعمال الأساليب الجديدة. (هنا وقفة)، أنبهكم أيها السادة إلى نقطة وهي أن المال ليس كبقية مقومات الحياة بل يفارقها في نظر جوهري وهو التأثر بالمزاحمة. فالزحام الشديد لا يكون إلا عليه والتكالب العنيف لا يكون إلا لأجله، وقد تموت في هذا الزحام أمة أو أمم لا تعرف كيف تزاحم ولا تحسن الدفاع حين تزاحم. فالمزاحمة في المال تضر وتنفع. وهذا العلم، وهو قرين المال وأخوه في تكوين الحضارة الوقتية تفيد المزاحمة فيه ولا تضر. وفي هذا المقام يجب ألا نغتر بالموجود ولا نقنع بطرق الاستثمار التي قلدنا فيها غيرنا، ولا تكون هذه النتائج التي لم يكن آباؤنا يحلمون بها قاطعة لنا عن طلب المقلد. وحذار أيها الإخوان من هذه القناعة المجيعة- فوراء هذه الأمة الضعيفة طوائف هي أقوى مراسا وأصح عزائم في المزاحمة على المال. وطوائف هي أشد سواعد لجمع المال، وطوائف هي أبصر من زرقاء اليمامة بمواقع المال، وطوائف لم تكفها الجهود الفردية حتى ظاهرتها بالآلاف والملايين من أمثالها، وطوائف لم تكفها القوى البدنية حتى ظاهرتها بالقوى العقلية والكيماوية، كل ذلك لأجل المال وفي سبيل المال. حذار أن يسبق الوهم العلم أو

يغشى الشك اليقين أو نركن إلى نزعة القناعة والكفاف، فإنما يحسن ذلك لو كنا وحدنا في الميدان أو كانت الوسيلة هي قوة الساعد وصحة الأبدان. أما والعلم للساعد ظهير والعقل للرجل نصير فليس من الحكمة أن نهن أو نكسل، وليس من الحكمة أن نقف في الاستثمار عند طرائق الآباء والأجداد. ألا فليعلم كل من لا يريد أن يعلم أن سوق المال اليوم معترك أبطال وأن في جوانبه رماة ونحن الهدف، وأن مكان المال من الحياة مكان الوريد من البدن، وأن الزمان قد دار دورته وقضى الله أن يصبح المال والعدم سلاحين لا يطمع طامع في الحياة بدونهما فلننظر مكاننا منهما ومكانهما منا. إن سنة الاجتماع تقضي ببقاء الأنسب، فإذا كنا نريد أن نكون أنسب للبقاء فها هي الحكمة الهادئة. - 3 - جربنا العمل الفردي- في سوق المال - فوجدناه ينتج نفعا فرديا فقلنا هو مفيد في الجملة إذ لا يتألف المجموع إلا من الفرد. ونظرنا إلى أعمال التعاون والاجتماع عند غيرنا فوجدناها تفيد فائدة اجتماعية فاستحسناها بهذا الشعور الجديد فينا، فلماذا لا يكون استحساننا سلما لخوضنا غمارها؟ أنا أعتقد أنه سيكون ولكن لماذا لا ندخل هذا الباب بالتروي والأناة. وما المانع؟ المانع فيما أرى أنه لم تزل فينا بقية من التلفت لماضينا المالي وما يصحبه من الراحة وبقية من الخمول المميت وبقية من الجبن وبقية من الميل إلى العلم النظري وبقية من التقليد في السطحيات وبقية من العاطفة الجافة، عاطفة الالتذاذ بأحاديث ما قال الناس وما فعل الناس- هذه البواقي تظاهرها عقيدة القناعة والكفاف هي التي جلبت لنا هذا الشلل، أضيفوا إلى الكل تلك الخلة المشؤومة التي ما زلنا نشكو إلى الله منها وهي عدم ثقة بعضنا بالبعض. أفلا يتكون من هذا المجموع آفة مهلكة هي السبب في كل ما نشكوه من موت عاطفة التعاون المالي فينا؟ والذي تقتضيه الحكمة الهادئة. لنحفظ أنفسنا من هذه المزاحمة المريعة هو تأسيس شركات التعاون بين الفلاحين وشركات التعاون بين التجار لتقي الصغار من الجانبين شر تحكم الأجانب في أملاكهم ومجهوداتهم، ثم تأسيس مصارف مالية صغيرة تكون واسطة بين الجميع وتكون مع ذلك مستودعا للأموال المخزونة المعطلة ومرجعا لصناديق التوفير والاحتياط التي يجب أن تصحب هذه الحركة. أنا أعتقد أنه إن جرت هذه المساعي بالحكمة والثقة المتبادلة وجرى معها مدد آخر من

أقلام الكتاب وألسنة الخطباء والمعلمين ببث روح التعاون والتوفير، فإن اليوم الذي تلمس فيه النتيجة باليد ليس ببعيد. تبقى لنا في هذا المقام عقدة واحدة تلوكها ألسنة القاصرين في العلم الديني ولم نسمع فيها ممن يعتد برأيه في الدين ويتكلم فيه بلسان الهدى والدليل كلمة واحدة، هذه العقدة هي مسألة تثمير المسلم لماله بالربا المتعارف في البنوك. والمسألة مع كونها متشعبة على الرغم منا ودينية على الرغم منا وإن كانت تمس الاجتماع فليس هذا الحديث كافيا للإلمام بأطرافها، والرجاء كل الرجاء من سادتنا علماء الدين أن يدرسوا المسألة من طرفها الديني والاجتماعي ويوافونا بآرائهم مؤيدة بالدليل ومبنية على حكمة الشريعة ومقاصدها. إخواني: العاقل من جارى العقلاء في أعمالهم في دائرة دينه وقوميته ووجدانه، والحازم من لم يرض لنفسه أخس المنازل، وأخس المنازل للرجل منزلة القول بلا عمل، وأخس منها أن يكون الرجل كالدفتر يحكي ما قال الرجال وما فعل الرجال دون أن يضرب معهم في الأعمال الصالحة بنصيب، أو يرمي في معترك الآراء بالسهم المصيب. إخواني: الأدلة قائمة على أننا محرومون من أقوال الرجال وأعمال الرجال، أقوال الرجال مقرونة بالصدق والانجاز وأقوالنا لغو من الحديث يجري على الألسنة مثل برسام المحموم، وأعمال الرجال مقرونة بنتائجها الملموسة باليد، وأعمالنا عبث من المحاكاة فنحن صبيان في العمل وإن كنا رجالا في الصورة والمظهر. إخواني: إن من كتم داءه قتله، ما دمنا ونحن بمعزل عن الحقائق وفي صمم عن استماع النصائح فنحن بعداء عن الحق، وما الحق إلا أن نتحد ونسعى بلا فتور. ما الحق إلا أن نتعاون، ما الحق إلا أن ندع التخاذل جانبا ونتصافح على الاستماتة في سبيل الحق، ما الحق إلا أن نزن الأشياء بموازينها فلا ندع المجال للوهم ينقض ويبرم ويبرز لنا السفاسف في صورة الجبال ويظهر لنا الجلائل بمظهر التافه الحقير، فهذا نوع غريب من أمراض النفوس ما فشا في أمة إلا وكان عاقبة أمرها خسرا. إخواني: نحن اليوم واقفون على أبواب حياة أدبية جديدة ومبدأ نهضة عمرانية لم تزل في طور التكون والنبات، وتدرجها في مدارج النمو متوقف على تدبيرنا، فإن أحسنا الصنع في تربيتها لم تلبث أن تؤتي أكلها وتدني جناها، وإن تواكلنا في المبدإ وتخاذلنا وتمادينا على ما نحن

عليه تأذن الله باضمحلالنا وحفت كلمة المقت علينا {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} إن التاريخ أفصح مخبر وأصدق ناقل وقد أخبرنا كيف كان عاقبة الذين من قبلنا وحذرنا أن نتعرض لمقت الله بما كسبت أيدينا، وأعيذكم أن تكونوا ممن تماروا بالنذر. أقول، ولا نكران للحق، إنه ما من نقيصة كانت سببا في هلاك الأمم قبلنا إلا وهي موجودة فينا على اختلاف تقتضيه طبيعة الزمان والمكان، وان تغافل الإنسان عن عيبه لمن دواعي الغرور، والغرور من دواعي التمادي في الغي والتمادي في الغي من موجبات الهلاك، وهل نقيصة أعظم من فقد الإحساس؟ وها نحن أولاء لا شعور ولا إحساس تمر الحوادث بنا تباعا فلا نعتبر ولا نزدجر. ويسير العالم بما فيه سيره إلى الأمام ونحن في موقف لا نتبين فيه موقع أقدامنا. فكأن القطعة التي نحن عليها من هذه الأرض واقفة لا تتحرك أو كأن الأمم كلها ورثت من الأرض التحرك إلا نحن. إذا فلسنا من هذا العالم أو هذا العالم ليس منا. فقد الإحساس أصبح من أكبر مميزاتنا إلا تلك الآلام التي تحدث عند مرور الحوادث حتى إذا مرت لم نجد في أنفسنا أثرا ولا عينا. سارت الأمم في مناهج العمران عنقا فسيحا ونحن في نومة أصحاب الكهف والرقيم، غفلنا عن أخذ الأهبة للتزاحم الاقتصادي فأدركنا سيله الجارف وسدت علينا منافذ الحياة وشتان ما بين الكسلان والعامل. يدعو الداعي من الأمم الحية العارفة بقيمة الحياة صارخا بقومه إلى عمل يكسبهم عزا ويفيدهم قوة ويدفع عنهم ضرا. فإذا قومه مهطعون إليه استماعا لقوله فامتثالا لأمره فتحقيقا لمرماه فتنجيزا للفعل فتعاونا عليه فوصولا للمطلوب، ويدعو الداعي منا إلى خير فإذا قومه منه يسخرون وإذا كلامه لا يكاد يتجاوز لسانه كالوتر الذي لم يشتد فوقه لا يكاد السهم يخرج حتى يسقط. أمرنا بالإرشاد والتذكير فهل ذكر الخاصة أو امتثل العامة. أمرنا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر وفيهما كل خير فهل امتثلنا. أمرنا بالعمل للدارين فخسرنا الحاضرة ويوشك أن نخسر الغائبة. عمدنا إلى الدين وأحكامه فأخرجنا الكثير عن حقيقته وأهملنا حكمته وأسراره ووقفنا عند الصور المجردة، ثم لم نكتف بذلك حتى ألصقنا به الكثير من البدع وحملناه ما لا يطيق منها، ثم لم نكتف بذلك حتى اتخذناه مطية للتفريق فالتبس الحق بالباطل، ولا عالم يميز هذا من ذاك، وإن وجد فالخاصة له بالمرصاد والعامة في شقاق بعيد.

إخواني: هذه نفثة مصدور ولا بد للمصدور من بث. وإني، والحق يقال، أتسلى بجمعيتكم هذه وأتوسم فيها الخير وأرجو أن تكون طليعة سعد وفأل يمن للوطن وأن تكون مثالا صالحا لبنيه يحتذون حذوه في التعاون على الصالحات والدعوة إلى النهوض. أتمنى ذلك وأفتخر به وأنصح لحضراتكم أن لا تهنوا في العمل وأن تتحلوا بالثبات وأن لا تقنعوا بالدرجة التي أنتم عليها، فإن وراءها مطلبا أسمى وأعلى ولا يمكن الوصول إليه إلا بالتعاون الاجتماعي، فإن الأعمال الفردية قل أن تأتي بالنتيجة المطلوبة. وأعيذكم أن تكونوا ممن يجهل قيمة النفع العام أو يعرف ولكن لا ينفع ولا يعاضد. وبقي أنكم لا تتأخرون بعد الآن عن إمداد أمثال هذه المشاريع بالمساعدة المادية والمعنوية لا سيما بعد ظهور النتائج المشتركة، وعلمكم أن المال أساس كل عمل وأن القليل مع الاجتماع كثير. وإن أثنينا عليكم فلأن الشكر مدعاة المزيد والكامل يقبل الكمال.

_ تعليق مجلة "الشهاب" (وهو بقلم الشيخ عبد الحميد بن باديس): "الأستاذ الإبراهيمي صاحب هذه المحاضرة نعده- بحق- من أعيان الطبقة الأولى من كتاب الجزائر وخطبائها وأدبائها ومفكريها ورجالها العاملين على نهضتها. وهو اليوم يباشر الأعمال المالية في ناحيته بعلم وأمانة ونشاط، ويعلم الناس هذه الصفات الثلاث في التجارة تعليما عمليا كما يدعوهم دائما إليها بقوله. مضت مدة على هذا الأستاذ كنزا دفينا لم تجن الأمة ثمرات يراعه، وطالما وجهنا إليه عتب الصديق على الصديق فيعتذر ويعتذر، إلى أن ألقى محاضرته هاته بنادي الترقي العظيم بالعاصمة، وجاءنا بها من عنده أحد خلص أصدقائه. نقدم شكرنا وشكر قرائنا للأستاذ ونستزيده من هذه الدرر الغوالي لنبثها بين أبناء دينه ووطنه، دام لهما".

الإنسان أخو الإنسان

الإنسان أخو الإنسان* عندنا جملة وجدت منذ وجد البشر ولم يختلف العقلاء في فهم مؤداها وهي من أفذاذ الجمل الجامعة ومن القضايا المعقولة التي تطابق العقل والدين على تصديقها واعتبارها من البديهيات المسلمة من حيث الجملة وإن اختلفا في تفصيلها. ونرى كثيرا من جزئيات الأديان السماوية راجعة إليها ومبنية عليها. اختلف تعبير اللغات عن تلك الجملة ومآلها إلى وفاق في المعنى وترجمتها في لغتنا "الإنسان أخو الإنسان"، فهذه الجملة على قلة ألفاظها ترمي إلى معنى لو ذهب أبلغ الناس إلى تحليله وشرحه لانتهى إلى العجز ووقف دون الوصول إلى المقصود. مؤذى هذه الجملة الصريح عقد الأخوة بين أفراد البشر بموجب الإنسانية التي هي حقيقة سارية في كل فرد. ومقتضى هذه الأخوة أن يشارك الإنسان الإنسان في جميع لوازم الحياة سرورا وحزنا لذة وألما مشاركة معقولة تنتهي إلى حدود لا تتعداها، بحيث يعلم العالم الجاهل ويرشد النبيه الغافل ويواسي الغني الفقير ويقع التعاون المتبادل بين الناس في كل جليل وحقير. ومن مقتضى هذه الأخوة المساواة في الحقوق البشرية العامة، تلك المسألة التي طالما بذل فلاسفة الأمم قواهم لتقريرها وتمكين دعائمها في الكون، وعملت الشرائع على تنميتها وتغذيتها بالمبادئ الصحيحة حرصا على راحة البشر وهناء الإنسانية. من مقتضى هذه الأخوة إلغاء سنة التمايز والاستئثار التي سنها المستبدون في القرون الخالية وكانت سلاحا مهولا في وجه الحق.

_ * الشهاب، الجزء الثامن، المجلد الخامس، سبتمبر1929، ص: 11.

تفاوتت الأمم على اختلاف الأطوار والأجيال في فهم هذه الحقيقة أولا والعمل بها ثانيا، وكان اختلافهم يرجع إلى سببين ذهبا بفريقين من الناس إلى سوء المصير فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. السبب الأول نزعة الاستئثار الطبيعية التي نشأ عنها الاستبداد الفردي والشعبي، والاستبداد شر ما سيست به الأمم وهو الذي طوح الإنسانية في مهاوي الشقاء. وقد مضى الاستبداد غير مأسوف عليه ولكنه أنتج في العالم نتاج سوء وأثمر ثمرا مرا، ذلك النتاج هو ثاني السببين. ذلك النتاج هو الإباحية الخاطئة الكاذبة التي أصبحت تتهدد الإنسانية بما هو شر من الاستبداد، ذلك النتاج الذي قرر مزدك الفارسي تعاليمه الفاسدة، فكان كمن حلل السم أو نفث الغازات في الهواء والماء العنصرين المقومين للحياة، فلا كان مزدك ولا كانت تعاليمه. والسبب الحقيقي لهذا البلاء المتناسل هو تحكيم الهوى على العقل. وأهواء النفوس إذا غلبت غطت على الحقائق وأحالت النور ظلاما واليقين وهما والحق باطلا. ليس من غرضنا أن نقض على مسامعكم تاريخ هذه المسألة وتفريعاتها وأطوارها وقسط كل أمة منها، فذلك ما لا يسعه المقام. وإنما نشير إلى الطور الذي وصلت إليه المسألة في وقتنا الحاضر وما يتصل به لنبني عليه غرضنا من تأسيس الجمعيات. والذي تسمعونه مني إنما هو حقائق تاريخية معجونة بفكري الخاص وأرجو أن أكون موفقا في الرأي. لا ننكر أن مسألة تآخي البشر لم تأخذ حقها من التطبيق تمام الأخذ إلى الآن ولم يعمل بمقتضياتها التي أشرنا إليها تمام العمل إلى الآن. وإنما يمتاز عصرنا الحاضر بترقي العلوم والصنائع والتوسع في متممات العمران وكمالياته والاطلاع على حقائق الكون ومخبآته، واستثمار مواهب الطبيعة وخيراتها، ونشأ عن ذلك ترق في الأفكار وشعور عام لجميع الطبقات على تفاوت بمقدار التعلق بالعلوم، ونشأ عن ذلك التفاوت رجوع إلى نزعة الاستئثار والامتياز فنشأ عن ذلك الإكباب على الماديات والمسابقة في ميدانها. فنشأ عن ذلك شعور المقصر بقصوره، فنشأ عن ذلك تدافع واختلاف في المصالح، فنشأ عن ذلك احتكاك واتصال بين الأمم المتباعدة يسرته سهولة المواصلات التي هي من ثمرات العلم. ونشأ عن ذلك كله وعن هذه المصارعات الاجتماعية شعور آخر بضرورة تآخي البشر وآل الخلاف إلى وفاق والتباعد إلى تقرب والفوضى إلى هدوء وسلام.

لا نقول إن المسألة استقرت في نصابها وإنما نقول: إنها تنمو على الأيام شيئا فشيئا وإنها سائرة إلى الأمام، ودعاة السلام من كل أمة والعلماء منهم والفلاسفة قائمون عليها بالدعوة إليها ونشرها، وما دام الحال على ما نرى فلا شك في وصولها إلى الأمد المرجو. دخلت هذه المسألة في الطور الذي ذكرناه من اليوم الذي ولدت فيه النهضة العلمية الجديدة، فهي مصاحبة للعلم في سيره وتابعة له في أطواره، لكنها بقيت مدة من الزمن وهي نظرية في أذهان المفكرين حتى تقوَّت الدواعي على إبرازها لميدان العمل. وهي أول خطوة خطتها للأمام وأول بشارة للقائمين على هذه المسألة والمتتبعين لحركتها- بحياتها ووصولها يوما ما إلى الدرجة المطلوبة من الكمال. ومن رأيي الخاص أن الوصول إلى هذه الغاية ممكن ولكنه بعيد. من الدلائل على نمو هذه الحركة وحياتها تأسيس الجمعيات من عهد غير بعيد لمساعدة المنكوبين في هذه الحياة بلا ميز بين الجنسيات والأديان. أُسّست الجمعيات العلمية لإنقاذ البشر من نكبة الجهل، ولا مصيبة أكبر من الجهل، ولا مرض أفتك منه. أُسّست الجمعيات الطبية لإنقاذ البشر من الأمراض التي هي آفة الإنسانية. أُسّست الجمعيات المالية لإنقاذ البشر من داهية الفقر الذي مآله إتلاف هذا النوع بل هو الجائحة الكبرى للإنسانية وهو منبع الشرور والفظائع. أُسّست الجمعيات الصناعية وهي عبارة عن معامل تخرج آلات لمحاربة الفقر. أُسّست الجمعيات الرياضية وهي خادمة للبشر مادة ومعنى وعامل على ترقيته روحا وجسما. أُسّست الجمعيات الأدبية، وهي نصيرة الحقائق وعدوة الأوهام والخرافات، هذه الجمعيات التي ذكرتها لكم وهي قليل من كثير، كانت من أكبر العوامل في تآخي البشر وتقرب الشعوب من بعضها ومن أقوى الأسباب في غلبة الاتصال على الانفصال، والتعارف على التناكر والوفاق على الخلاف والاجتماع على الافتراق، بل تغلب العلم على الجهل والحق على الباطل والفضيلة على الرذيلة.

الإنسانية: آلامها واستغاثتها

الإنسانية: آلامها واستغاثتها* الإنسانية تلك الأم الرؤوم التي لا تحابي واحدا من أبنائها دون آخر ولا تميز بين بار منهم وفاجر، ولا تفرق بين مؤمن منهم وكافر، تلك الأم المعذبة بالويلات والمحن، من ويلات الحروب التي أتلفت الملايين إلى ويلات الأمراض والطواعين إلى ويلات الزلازل والبراكين. الإنسانية التي لو تمثلت بشرا لتمثلت بقول الشاعر العربي: فَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّقَيْتُهُ … وَلَكِنَّهُ رُمْحٌ وَثَانٍ وَثَالِثٌ عجيب لهذه الإنسانية ما كفاها من مصائب الدهر تقاطع أبنائها وتدابرهم، ونصب الحبائل وبث المكائد لبعضهم بعضا. ما كفاها من مصائب الدهر أن يكون في أبنائها قوي يستعبد ضعيفا، وشريف يستخدم مشروفا. ما كفاها أن تنقلب الحقائق على أبنائها المارقين العاقين فيركبون مطايا الخير للشر، ويستعملون سلاح النفع للضر، ويتوسلون بالدين لجمع الدنيا، ما كفتها هذه المصائب المجتاحة، حتى ظاهرتها الطبيعة الجبارة على هذه الإنسانية المسكينة. يا لله أما كفتها مصائب الأرض حتى تظاهرها مصائب السماء؟ ألا فليرحم الإنسانية من في قلبه رحمة، ألا وان الإنسانية تستغيث فهل من مغيث، وتستنجد فهل من منجد؟ استغاثت الإنسانية قديما بأبنائها الصادقين، على أبنائها المارقين. استغاثت من المفسدين لنظام الفطرة، والعاملين على تفريق هذه الأسرة فأغاثها الأنبياء والمرسلون والعباد الصالحون. واستغاثت من عباد المادة الحائدين عن الجادة، فأغاثها أنصار الروح، والمقدسون للروح، والقائلون بخلود الروح. واستغاثت من أعداء العقل المفكر، وعباد الحس والمحسوس، فأغاثها الحكماء الربانيون والفلاسفة الإشراقيون، واستغاثت من

_ * الشهاب، الجزء الأول، المجلد السادس، فيفري 1930.

طواغيت الاستبداد وقياصرة الاستعباد، فأغاثها دعاة الديموقراطية وأنصار المساواة والإنصاف فما كاد المتنبي واضع شريعة التمايز بين السادة والعبيد يجف ثراه، حتى قيض الله له فيلسوف المعرة ناسخا لتلك الشريعة الجائرة، ومبشرا بشريعة الأخوة السمحة. واستغاثت من المشعوذين المحتالين، والممخرقين المبتدعين والضالين المضلين، الذين يستغلون جهل الجهلاء، ويمتصون دماء البسطاء البائعين للشفاعة، العابدين للوهم، المغترين بالأسماء والألقاب، وشهرة الأنساب. الوارثين لما لا يورث من التسلط على العباد. بعظمة الآباء والأجداد - فأغاثها العلماء المصلحون، وحزب الله المفلحون. وهي الآن تستغيث من داهيتين وتستجير من غائلتين. ولا ندري متى تغاث. ولا في أي وقت تجاب. هي تستغيث من داهية الحرب وتحكيم السيف في مواقع الخلاف. فمتى يقف عقلاء الأمم بين الصفين موقف دعاة التحكيم يوم صفين؟ لا ندري. ولا ندري لماذا لاندري. وهي تستغيث من غائلة الفقر وشروره وجيوشه التي يجزها من خراب العالم لتخريب معموره. فمتى يفقه أغنياء الأمم هذا السر، فيعملون على اتقاء الشر؟ لا ندري ولا ندري لماذا لا ندري. إنما الذي ندريه، ونقوله ولا نخفيه، هو أنه لو تساند أغنياء الأمم ومدوا أيديهم متعاضدين، وعرفوا كيف يحاربون الفقر باستجلاب الفقير والأخذ بيده لأحسنوا لأنفسهم وللعالم. ولو فعلوا ذلك لدفعوا عن العالم غارة شعواء تلتهم الأخضر واليابس. وشرا مستطيرا يستأصل. بل لو بذل أغنياء المسلمين ما أوجبه عليهم الإسلام من الزكاة. وعرف عقلاؤهم كيف يستخدمونها لقاموا ببعض من هذا الواجب الاجتماعي. هذه نفثة مصدور، وللنفوس ثورة ثم تسكن.

خطبة جمعية

خطبة جمعية* الحمد لله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. من يضلل الله فلا هادي له ومن يهدِ فما له من مضل. فنسأله الهداية لإحياء السنن والوقاية من شرور البدع. ونشكره على أن وفق لإحياء هذه الشعيرة بهذا البلد وأعان على إتمام شروطها وتكميل أسبابها ونستزيده من فضله حتى تقام شعائره، وتنفذ حدوده وأوامره. فلولا توفيقه ما تمّ عمل. ولولا إعانته ما ظفر راغب بأمل. ونشهد أن لا إله إلا الله المتعالي عن هواجس الظنون، المنفرد بالإنشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون ونشهد أن سيّدنا محمدًا عبده ورسوله فاكّ العقول من أسر اعتقالها. ومحرر الحقائق من شوائب الأوهام وأكبالها. صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا. أيّها الناس، إن يومكم هذا من الأيام المشهودة، وسمه دينكم بسمة هي الغرة اللائحة في جبين الأيام، وهي هذه الشعيرة التي تقيمون أركانها، وتجتمعون لأجلها. فاحمدوا الله تعالى على الهداية، واسألوه أن تكون كل ساعة تأتي بعد ساعتكم هذه خيرًا مما قبلها. وأن يكون اجتماعكم هذا فاتحة اجتماعات في الخير تنقضي مع العمر، تتآمرون فيها بالمعروف وتتناهون عن المنكر، وتتواصون بالحق وتتواصون بالصبر. عباد الله لو كانت كلمة الحكمة توازن بالذهب، أو تقدّر بالمال والنشب، لكانت كلمة علي بن أبي طالب هي تلك الكلمة. وفوقها قدرًا وقيمة تلك الحكمة التي ثقفتها الفكرة العالية. ومحضتها الخبرة الراقية. وهي قوله- رضي الله تعالى عنه-: "قِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ مَا يُحْسِنُهُ".

_ * مجلة الشهاب، (ج 1، م 6)، رمضان 1348هـ / فيفري 1930م. ألقيتْ هذه الخطبة في جامع قرية "رأس الوادي" في أوّل جمعة أُقيمتْ فيه.

الخطبة الثانية

بيّن لنا- رضي الله عنه - وهو مصدر البيان، وينبوع التبيان، أن الأعمار هي الأعمال، وبالإحسان فيها تتفاوت قيمة الرجال، وأن ذلك لا يرجع إلى وزن بميزان، ولا كيل بقفزان، وإنما هو عقل مفكّر، ولسان متذكّر. ومن لا عمل له، فلا عمر له. ومن لا أثر له في الدين يمتثل به أمر ربّه، ولا أثر له في الدنيا تزدان به صحيفة كسبه. فوجوده عدم، وعُقباه ندم وحياته مسلولة الاعتبار. وإن شارك الأحياء في الصفة والمميزات. فاحرصوا، رحمكم الله، على أن تكون لحياتكم قيمة. واربأوا عن أن تكون في كفة النحس والهضيمة. واسعوا في الوصول بها إلى القيم الغالية، والحصول منها على الحصص العالية. وان الأعمال التي تجمل الحياة وتُغليها، وتقف بها في مستوى الإجلال وتحييها لا تعدو نوعين: وظائف العبادات التي هي سور الوحدانية، والعنوان الصادق على الإخلاص في العبودية، وهي أخفّ النوعين محملًا وأقربهما تحصيلًا وعملًا، لأن الله لم يكلفكم من عبادته إلا باليسير، وشغل بها القليل من أوقاتكم وترك لكم الكثير. والنوع الثاني السعي فيما تقوم به هذه الحياة الدنيا من الأعمال وتتوقف عليه عمارتها، وهذا يرجع إلى الدين بإخلاص النية، وتمحيض القصد للجري على حكمة الله وتأييد سننه الكونية. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكشف عن قلوبنا- لإدراك الحقائق- حجاب الغفلة والسِّنة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده. ونشهد أن لا إله إلّا الله شهادة من آمن به وأخلص توحيده، واعتمد عليه في كل أموره، فرجا وعده وخاف وعيده، ورفع أكف الابتهال والضراعة طالبًا لطفه وتسديده، وفضله وتأييده. ونشهد أن سيّدنا محمدًا عبده ورسوله إتمامًا لنصاب العقيدة، وتنويهًا بمزاياه الحميدة، كما نصر الحق وأكثر عديده، وخذل الباطل وأبلى جديده، وتمّم مكارم الأخلاق بصفاته المجيدة وأقواله السديدة، وبعث آخر الأنبياء فكان لَبِنَة التمام ورويّ القصيدة، - صلى الله عليه وسلم -. أيها الناس، اتّقوا الله تعالى حق التقوى، وحافظوا على حدوده في السرّ والنجوى، وامتثلوا أمر ربّكم الذي كسبكم به فخرًا وتعظيمًا، وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. واعلموا أن يومكم هذا خصّص للاجتماع والعبادة والحسنى والزيادة. فأقيموا القصد في التقرّب من بعضكم ودعوا الأحقاد

والتباغض. وأَسبِلُوا على ما فرط من بعضكم للبعض أذيال الستر والعفو. والزموا خلق الرضا والصفح. فكونوا عباد الله رحماء بينكم، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وفّقني الله وإياكم لصالح القول والعمل ووقاني وإياكم شر مزالق الزلل. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} عباد الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

الخطابة والتمثيل

الخطابة والتمثيل* التمثيل والخطابة عند الأمم الحية توأمان، وأخوان شقيقان. وأن منزلتهما من دواعي التهذيب والتربية الفاضلة لأرفع منزلة، وأن مكانتهما من بين مقوّمات الأخلاق لمنزلة الطعام والشراب من بين المقوّمات الجسدية. وما بنيت نهضة من النهضات الأخلاقية في الأمم الجديدة إلا وللتمثيل والخطابة في بنائها القسط الأوفر والحظ الأولى. وليس موقف الممثل بينهم دون موقف الخطيب ولا موقع الرواية من نفوسهم دون موقع الخطبة. فإنما الخطيب والممثل شيء واحد- الممثل خطيب إذا أحسن تصوير المغزى وشخّص الحقائق الغائبة للمشاهدين كالحاضر المشاهد، وألبس الخيالات لباس الواقع المحسوس. والخطيب ممثل إذا عرف كيف يقصّ الخبر وكيف يستخرج العبر، وكيف يسوق المؤثرات فيترك في نفوس سامعيه أعمق الأثر.

_ * الشهاب، الجزء الثالث، المجلد السادس، أبريل 1930. مقتطفة من خطاب مرتجل.

نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم

نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم (1931 - 1940)

كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين

كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين* على الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر ذي الحجة الحرام عام 1349هـ الموافق للخامس من ماي 1931م، اجتمع بنادي الترقّي بعاصمة الجزائر اثنان وسبعون من علماء القطر الجزائري وطلبة العلم فيه إجابة لدعوة خاصة من لجنة تأسيسية متألفة من جماعة من فضلاء العاصمة عميدها السيد عمر اسماعيل أحسن الله جزاء الجميع، وغرض الدعوة هو تحقيق فكرة طالما فكر فيها علماء القطر فرادى وهي تأسيس ((جمعية العلماء المسلمين))، وقد لبّى الدعوة كتابة بالقبول والاعتذار نحو الخمسين عالمًا. كان اجتماعهم بصفة جمعية عمومية لوضع القانون الأساسي للجمعية، وعيّنوا للرئاسة المؤقّتة الشيخ أبا يعلى الزواوي وللكتابة الأستاذ محمد الأمين العمودي، ووُضِعَ القانون وتلاه كاتب الجلسة على رؤوس الأشهاد فأقرّته الجمعية العمومية بالإجماع وانفضّت الجلسة على الساعة الحادية عشرة، وعلى الساعة الثانية بعد زوال ذلك اليوم أُعيد الاجتماع العمومي لانتخاب الهيئة الإدارية طبقًا لمنطوق مادة من القانون الأساسي، وحيث كان الانتخاب لا يمكن بطريقتيه السرية والعلنية لتوقّفه على الترشيح ولاعتبارات أخرى لاحظتها الجمعية، فقد سلكت الجمعية طريقة الاقتراح فألقي عليها اقتراح باختيار جماعة معيّنة ووقع الإجماع على اختيارها، وهذه أسماؤهم: الأساتذة: عبد الحميد بن باديس، محمد البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، محمد الأمين العمودي، مبارك الميلي، إبراهيم بيوض، المولود الحافظي، مولاي بن الشريف، الطيب المهاجي، السعيد اليجري، حسن الطرابلسي، عبد القادر القاسمي، محمد الفضيل اليراتني. وأعلنت الجمعية لهؤلاء المشايخ أن عملهم الآن مقصور على انتخاب رئيس لهم ونائب.

_ *مجلة الشهاب، الجزء الخامس، المجلد السابع، غرة محرم 1350هـ / ماي 1931م، قسنطينة.

رئيس وكاتب عام ومساعد وأمين مال ومساعد. وأن يعيدوا النظر في القانون الأساسي ويقدّموه للحكومة للتصديق. وأنفضت الجلسة على الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم. وعلى الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم أيضا، اجتمعت الهيئة الإدارية خاصّة ما عدا الأستاذين ابن باديس والطرابلسي الغائبين، فانتخبت للرئاسة الأستاذ عبد الحميد بن باديس، وللنيابة عنه الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي، وللكتابة العامة الأستاذ الأمين العمودي، ولمساعدته الأستاذ الطيب العقبي، ولأمانة المال الأستاذ مبارك الميلي، ولمساعدته الأستاذ إبراهيم بيوض. وبقية الأساتذة المذكورين للعضوية والاستشارة، وانفضت الجلسة على الساعة التاسعة والنصف مساءً، وعلى الساعة الرابعة من مساء يوم الأربعاء الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام 1349هـ الموافق للسادس من ماي سنة 1931م، عقدت الهيئة الإدارية أول جلسة بنادي الترقي برئاسة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي، حضرها جميع الأعضاء ما عدا الأستاذين ابن باديس والطرابلسي، وأعادت النظر في القانون الأساسي فأقرّته بالإجماع وقرّرت ترجمته باللغة الفرنساوية، وتقديمه للحكومة طالبة منها التصديق عليه. وانفضّت الجلسة على الساعة السادسة مساءً. وعلى الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الخميس الموالي عقدت الهيئة الإدارية جلسة برئاسة الأستاذ عبد الحميد بن باديس وعرضت عليه الأعمال السابقة فوافق عليها، وانفضّت الجلسة على الساعة التاسعة صباحًا. وعلى الساعة الثالثة بعد زوال ذلك اليوم أقامت اللجنة التحضيرية حفلة شاي في نادي الترقي دعت إليها جميع الضيوف الذين حضروا وأعضاء الجمعية الدينية وجماعة من النوّاب الأهليين وهيئة إدارة النادي، وأعلن رئيس اللجنة التحضيرية السيد عمر إسماعيل أنه استدعى جناب مدير الأمور الأهلية المستشرق السيد ميرانط فاعتذر عن الحضور. وبعد أن غصّ النادي بالمدعوين من جميع الطبقات ارتجل الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابًا بدأه بشكر اللجنة التحضيرية على ما قامت به من الأعمال وبذلته من الجهود في هذا السبيل، وأثنى على السادة العلماء الذين قاموا بواجب تلبية الدعوة وثنى بشكر رجال النادي الذين فتحوا أبواب ناديهم في وجوه العلماء وقابلوهم بكل تجلة واحترام. ثم عمّم الشكر لجميع أعيان العاصمة على ما أظهروه من الابتهاج والعطف على مشروع العلماء وما تلطّفوا به من تمهيد المثوى وإكرام الوفادة، وأنهم خلّدوا للعاصمة ذكرًا مجيلًما وأعادوا لنا ذكرى تلمسان وبجاية وتاهرت وغيرها من عواصمنا العلمية الزاهرة في التاريخ، ثم أثنى على المستشرق السيد ميرانط بما يستحقه رجل مثله خبر الشؤون الأهلية وكسبته معارفه العربية ذوقا لطيفًا به عرفنا وبه عرفناه.

ثم أفاض الأستاذ في الاعتذار لنفسه على عدم حضوره في اليومين الأولين وصرّح أنه قد فاته بفوات ذلك خير عظيم وتأسى بواقعة أبي خيثمة واعتذاره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وناشد إخوانه العلماء أن تكون لهم أسوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قبول عذر أبي خيثمة. ثم تكلّم على الجمعية ومقاصدها فذكر من تاريخها أنها فكرة قديمة دعا إليها الكتّاب في الصحف العربية الجزائرية وتداولها المفكّرون بالبحث في المحافل الخاصة والعامة، وكتب فيها كتّاب "الشهاب" عدة مقالات وبقيت محتاجة إلى رجل أو رجال ذوي إرادة وإقدام يخرجونها من القول إلى الفعل حتى قيض الله لها هؤلاء الفضلاء (أعضاء اللجنة التأسيسية) فكان فضل العمل مدّخرًا لهم كما كان فضل التفكير والقول لكل من فكر في الموضوع وقال. وذكر من مقاصدها جمع شمل هذه الطائفة المتفرقة لتتعاون على ما هي مهيأة له من نصح الأمة وإرشادها لما ينفعها في دينها ودنياها، وان من الثمرات الباكرة لهذا الاجتماع تعارف أبناء هذه الأسرة النبيلة ذلك التعارف الذي طالما نشدناه فما وجدناه- ولقد كان أمنية في النفوس وهوى في الضمائر فأصبح حقيقة واقعة وأمرًا ملموسًا، ولقد كان همًا معتلجًا في القلوب وخواطر مختلجة في الصدور، فأصبح اليوم صوتًا جهيرًا وأذانًا بالحق عاليًا، ولقد كان موكولًا إلى الصدف والحظوظ والاتفاقات فأصبح اليوم ملكاً في أيدينا- وان من مقاصد الجمعية توكيد عرى الإخاء بين أبناء هذه الطائفة، وحملهم على نبذ أسباب الشقاق واطراح دواعي التفرّق بينهم ونسيان كل ما هفت به الأفكار مما يدعو إلى فرقة أو عصبية، وليقدروا أنهم خلقوا خلقًا جديدًا. ثم وجّه الخطاب إلى العلماء وحضهم على مؤازرة الجمعية وتشهيرها وتحبيبها للعامة ليكون لها من النفع بمقدار ما يكون لها من السلطان على النفوس، وإنما هو سلطان كتاب الله وسنّة رسوله، وأن يكون شعار الجمعية التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وقد أطال الأستاذ في إسداء النصائح النافعة فليبلغ الشاهد الغائب. وختمت الجلسة بما قام به تلاميذ المكاتب القرآنية من تلاوة آيات من الذكر الحكيم وانشاد قصائد ومقاطيع شعرية ومحاورات أدبية بأسلوب روائي، وقد كان لذلك المنظر روعة ووقع وتأثير لا يأتي عليها الوصف. عن جمعية العلماء المسلمين نائب الرئيس محمد البشير الإبراهيمي

القانون الداخلي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين

القانون الداخلي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين* الفصل الأول: فيما يرجع إلى نظام الجمعية وإدارتها: الأعمال الإدارية - واجبات الأعضاء الإداربين وحقوقهم - واجبات الأعضاء العاملين وحقوقهم. ـ[المادة:1]ـ: الإسم الرسمي القانوني للجمعية هو "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، فيجب أن تُدعى به في الخطابات الخاصة والعامة، وفيما يكتب بشأنها في الصحف السيارة وأن يكون هذا الإسم طغراها في المحاضر والمراسم والمنشورات العامة التي تصدر باسمها، وفي المؤلفات التي يؤلفها أعضاؤها، أو تكون لها يد في تأليفها أو نشرها. ـ[المادة:2]ـ: للجمعية اجتماعان: إداري وعمومي. فالإداري يختصّ بأعضاء مجلس الإدارة وجوبًا، ويجوز لغيرهم من بقية الأعضاء العاملين حضور هذا الاجتماع اختياربًا، حسب منطوق المادة … من القانون الأساسي. والعمومي يشمل كل عضو عامل دفع اشتراكه عن السنة السابقة للاجتماع. ـ[المادة:3]ـ: الإجتماع الإداري يقع لزومًا مرتين في السنة، عند نهاية كل ستّة أشهر قمرية، ويكون الاجتماع الثاني سابقًا للاجتماع العمومي متصلًا به، والاجتماع العمومي يقع في غرّة محرّم من كل سنة قمرية.

_ وجدنا في أوراق الإمام كرّاسًا مرقمًا من ورقة 10 إلى ورقة 55، يحتوي على مسودة للقانون الداخلي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي ننشرها اليوم، وهي مؤرخة بسطيف سنة 1931، ونترك للمؤرخ أن يجيب عن السؤال التالي: هل خصصت الأوراق التسع الأولى المفقودة للقانون الأساسي للجمعية الذي عرض على الاجتماع التأسيسي المنعقد في العاصمة؟ أو هل المجتمعون استوحوا القانون الأساسي من هذا القانون الداخلي؟

ـ[صورة الكراسة]ـ

ـ[المادة:4]ـ: من حق الرئيس وحده استدعاء مجلس الإدارة لعقد اجتماع زائد على الاثنين إذا دعت الضرورة لذلك، بشرط أن يشرح للمجلس وجه تلك الضرورة، ولكون ذلك بموافقة ثلثي الأعضاء الإداريين بالكتابة. ـ[المادة:5]ـ: لا بدّ من الاستدعاء كتابةً لكل اجتماع، وإن كان وقته معلومًا، ويكون الاستدعاء قبل شهر ليوم الاجتماع، ويكون برسائل خاصة، والاستدعاء بجميع أنواعه من وظائف الكاتب العام، ولا يتوقف على إذن الرئيس إلّا في الاجتماعات الاستثنائية الزائدة على المقرر، وكل تقصير يقع في الاستدعاء ويؤدّي إلى خلل في نظام الجمعية فعهدته على الكاتب العام وحده. ـ[المادة:6]ـ: الجمعية شخص معنوي، مظهره المجلس الإداري المنفّذ، وقوة المجلس الإداري مستمدّة من الجمعية العمومية بواسطة الانتخاب، وهو ناطق باسمها وممثّل لها، وعليه فكل ما يسند في هذه اللائحة إلى الجمعية فالمراد المجلس الإداري. ـ[المادة:7]ـ: الغاية من اجتماع الجمعية العمومية في الموسم المقرر في المادة … هي: أ) توكيد التعارف بين طبقات هذه الطائفة. ب) تقديم الاقتراحات النافعة للمجلس الإداري ليكون على بصيرة في أعماله المقبلة. ج) الاستفادة من المذاكرات والمحاضرات. د) استماع تقارير أعمال المجلس الإداري ومعرفة ما تمّ منها في السنة الماضية والإطلاع على تحضيراته للسنة المقبلة. هـ) انتقاد ما هو قابل للانتقاد من تلك التحضيرات. و) استماع تقارير المالية والإطلاع على مصارفها. ز) انتخاب المجلس الإداري الجديد، إنْ كان الأول قد قضى مدّته. ـ[المادة:8]ـ: يرأس الجمعية العمومية رئيس المجلس الإداري وتبتدئ أعمالها على هذا الترتيب: 1 - افتتاح الرئيس. 2 - تلاوة الكاتب العام للتقرير العام المبيّن في المادة … 3 - تلاوته لتحضيرات السنة المقبلة المبينة في المادة … 4 - عرض أمين المال لميزانية الموسم الماضي. 5 - عرضه لميزانية العام الجديد. 6 - المصادقة عليها من الجمعية العمومية. 7 - استماع تقارير رؤساء الشُّعَب على الترتيب. 8 - استماع اقتراحاتهم.

9 - الاقتراحات العامة. 10 - الخطب الخاصة بالجمعية على ترتيبها في البرنامج. 11 - المحاضرات العامة على ترتيبها في البرنامج. 12 - حفلة الختام. فإن كان المجلس الإداري قد انقضت مدته، وكان من أعمال الجمعية العمومية انتخاب المجلس الجديد كانت عملية الانتخاب قبل حفلة الختام، وتكون حفلة الختام تحت إشراف المجلس الجديد. ـ[المادة:9]ـ: يحضر المجلس الإداري في اجتماعه الأخير المتصل بالاجتماع العمومي برنامجًا لترتيب أعمال الاجتماع العام وتقسيمها على الساعات والأيام. ـ[المادة:10]ـ: يجب على كل من أراد أن يخطب أو يحاضر في الجمعية العمومية أن يكتب بذلك للمجلس الإداري قبل: جلسته الأخيرة بأسبوع، ويبيّن موضوع الخطبة أو المحاضرة تفصيلًا بإرسال نسخة منها أو بيان نقط الموضوع، ليضعها في مكانها من البرنامج ويعيّن لها حصّتها من الزمن. ـ[المادة:11]ـ: يفتح الرئيس جميع الجلسات بهذه الجملة: "بسم الله نفتتح الجلسة"، ولختمها بهذه الجملة: "والحمد لله ربّ العالمين". ـ[المادة:12]ـ: لا يتكلّم أحد في الجمعية العمومية أو المجلس الإداري إلّا بإذن الرئيس، ولا يتجاوز الكلام في الاقتراح عشر دقائق، فإن كان الكلام إيرادًا أو ردًّا أو دفاعًا زيد إلى العشر دقائق. ـ[المادة:13]ـ: الأفكار في المجلس الإداري والجمعية العمومية محترمة، والمقاطعة ممنوعة، والكلام مناوبة، فإذا هفا المتكلم بما يمسّ الدين، أو بما يمسّ شرف الجمعية في غير نقد، أو بما يمسّ شرف شخص في غير نصح ولا تذكير، فالإسكات من حقوق الرئيس. ـ[المادة:14]ـ: طلب الكلام يكون برفع السبّابة اليمنى، والكلام في الاقتراحات يواجَه به الرئيس، وفي المعارضة يقابل به المعارض. ـ[المادة:15]ـ: كل من عاقه عائق عن الحضور فعليه أن يكتب بعذره للرئيس، ويُعتبر المعتذر حاضرًا في تكميل النصاب لا في التصويت. ـ[المادة:16]ـ: الجمعية العمومية لا تُعتبر منعقدة إلّا إذا حضرها ثلثا الأعضاء العاملين المقيدين في الديوان الدافعين لقيمة اشتراكهم، والمجلس الإداري لا تُعتبر مقرّراته قانونية نافذة إلّا إذا حضره ثلثا الأعضاء الإداريين.

ـ[المادة:17]ـ: يتألف المجلس الإداري من رئيس ونائبين، وكاتب عام ونائبين، وأمين مال ومساعدَيْن، وحافظ أوراق ومراقب، وسبعة مستشارين. والزيادة في عدد المستشارين من خصائص الجمعية العمومية، ولا يزيد عدد أعضاء المجلس الإداري على واحد وعشرين، وتسند وظيفة حافظ الأوراق إلى كاتب اللجنة الدائمة. ـ[المادة:18]ـ: يحضّر المجلس الإداري في الجلسة الأولى من كل سنة برنامجًا إجماليًا بالأعمال التي يتناولها في تلك السنة على الترتيب، ويكتبه الكاتب في "ديوان الأعمال"، ويبدأ بالمفاوضة ثم التقرير ثم التنفيذ، وتسمّى الأعمال - مما دامت في دور المفاوضة - أعمالًا محضّرة، فإذا أقرّها المجلس الإداري سُمّيَت أعمالًا مقرّرة، فإذا نفّذها سُمّيت أعمالًا منفّذة، ولا يجوز للمجلس أن يخالف ترتيب البرنامج. ـ[لمادة19]ـ: يجب أن يكون للمجلس الإداري أربعة دفاتر: واحد رسمي وثلاثة عادية، وعلى هذه الدفاتر يتوقف ضبط أعماله: الأول يثبت فيه الأعمال المحضّرة بمثابة مسودات ويسمّى ديوان الاقتراحات، والثاني يثبت فيه الأعمال المقرّرة ويسمّى ديوان المقرّرات، والثالث يرسم فيه أسماء الأعضاء، كل طبقة على حدة على هذا الترتيب: أعضاء الطبقة الأولى- أعضاء الطبقة الثانية- أعضاء الطبقة الثالثة- أعضاء مؤّيدون، والرابع تضبط فيه الحسابات المالية على الطريق المتعارف. وتجب المحافظة على هذه الدواوين كلها حتى ديوان الاقتراحات لأن ما لم يتقرّر اليوم قد يتقرّر مرّة أخرى، فيكون ذلك الديوان دستورًا للمجلس الإداري يرجع إليه عند اللزوم. ـ[المادة:20]ـ: يرسم ديوان الأعضاء على الصورة الآتية: يكتب على الصحيفة اليمنى اسم المشترك ولقبه ونسبه وطبقته، والمبلغ الذي يشترك أو يتبرّع به سنوًيا، وعنوانه مضبوطا بالقلمين العربي والفرنسي في أودية مفصولة بخطوط قائمة، ويترك ما بقي من الصحيفة اليسرى ليكتب فيه ما يحتاج إليه من الملاحظات. ـ[المادة:21]ـ: يرسم الكاتب في دفتر الاقتراحات أسماء الحاضرين من الأعضاء الإداريين إن كان النصاب تامًا، ويذكر أسماء المتخلفين، ثم يرسم تاريخ الجلسة: يسمّي الساعة ونسبتها من اليوم، ويسمّي اليوم ونسبته من الشهرين العربي والإفرنجي، والسنتين كذلك، ثم يرسم الموضوع وافتتاح الرئيس، ثم يرسم جميع المفاوضات إيرادًا ونقضًا، ثم يرسم ما قرّ عليه القرار، وبرسم ساعة انفضاض الجلسة. فإن تقرر الموضوع نقله إلى دفتر المقررات ملخصًا مقتصرًا فيه على ما به الحاجة، ولا لزوم لنقل الآراء والإيرادات والاعتراضات. ـ[المادة:22]ـ: التقرير في الموضوع المختلف فيه يكون بأغلبية الأصوات، فإن تساوى الطرفان عددًا فالطرف الذي فيه الرئيس مرجح، والتصويت برفع الأيدي، وطلب التصويت من خصائص الرئيس ولا يلتجئ إليه إلّا إذا لم يكف الدليل ولا الإقناع في إرجاع المخالف.

ـ[المادة:23]ـ: الأعضاء الإداريون متبرعون بأعمالهم، فلا يتقاضون من الجمعية شيئًا في مقابل العمل الإداري، ولا يعفون من دفع اشتراكاتهم، ولا تشمل هذه المادة من توظّفهم الجمعية في وظائف خاصة كالتعليم. ـ[المادة:24]ـ: انتخاب الجمعية العمومية للمجلس الإداري يكون على الكيفية الآتية: بعد نهاية الأعمال المتقدمة في المادة … تنصّب الجمعية كبر الأعضاء سنًّا رئيسًا مؤقتًا، وكاتبًا من أصغرهم سنًا، ويقف رئيس المجلس المنحل فيعرض على الجمعية قائمة المجلس القديم ويطلب منها تجديد انتخابها، فإن قبلتها بالإجماع أو الأكثرية فذاك، وإلّا فيزيد فيها وينقص منها، وتتكرر العملية حتّى يحصل الوفاق، ولا يحضر الانتخابات إلّا الأعضاء العاملون المبيّنة أوصافهم في المادة …، ولا يحضره الأعضاء المؤيّدون. ـ[المادة:25]ـ: إذا نقص عدد الأعضاء الإداريين لموت أو عذر يقبل معه الاستعفاء فلا يُعاد الانتخاب للكل ولا للبعض، إلا إذا نقص العدد على النصاب المقرر وهو ثلثا المجموع. ـ[المادة:26]ـ: لا يتساهل المجلس الإداري في قبول الاستعفاء من عضويته، ولا يقبل الاستعفاء إلا بعد مراجعة المستعفي وتحقق عذره، وقبول الاستعفاء من المقررات التي تتوقف على رأي أكثرية المجلس. ـ[المادة:27]ـ: رئيس المجلس الإداري هو الذي يمثل الجمعية أمام القضاء طالبة كانت أو مطلوبة، وعند جميع المراجع الرسمية كذلك، لكن لا يعتبر ناطقًا باسمها إلّا فيما يوافق منهاجها أو يجلب لها مصلحة، ولا يعتبر كلامه حجة عليها إلا إذا وافق عليه المجلس الإداري، وعليه فكل مقام يستلزم التروي والتثبّت يجب عليه أن لا يتكلم فيه إلا بعد استشارة المجلس الإداري. ـ[المادة:28]ـ: لا يجوز لأحد أن يردّ على ما يُكتب ضد الجمعية إلّا بعد الاستئذان من المجلس الإداري، ومن فعل بدون ذلك ولو في مصلحتها فالجمعية توليه ما تولّى ولا تكافئه ولو بكلمة شكر. ـ[المادة:29]ـ: لا يجوز لأحد أن يتكلم باسم الجمعية في ما يخالف خطتها أو يجر لها أذى، ومن فعل فالعهدة عليه وحده والجمعية بريئة منه. ـ[المادة:30]ـ: انتخاب الجمعية العمومية للمجلس الإداري توكيل شرعي نافذ، لا ينحل ولا يفسخ إلّا بانقضاء المدة المقررة. ـ[المادة:31]ـ: تطبع الجمعية بطاقات صغيرة من المقوى على شكل أوراق التعريف، وتعطيها مجانًا للأعضاء الإداريين والأعضاء العاملين من الدرجات الثلاث وللأعضاء المؤيدين كشهادة بانتسابهم إليها، يمضيها الرئيس والكاتب العام ويوضع عليها ختم الجمعية، وتذكر فيها ميزاتهم.

ـ[المادة:32]ـ: للأعضاء الإداريين حق المراقبة العامة على أصحاب الأعمال الخاصة من معلمين ومحصلين، لا في مناطقهم الخاصة فقط، بل في عموم القطر، ومن واجبهم أن يبدوا ملاحظاتهم في هذا الصدد في كل اجتماع إداري، فإن رأوا خللًا أو تقصيرًا في سير الأعمال والسكوت عنه يؤدي إلى نتائج سيئة فذلك من دواعي عقد الاجتماعات الاستثنائية، ليُبادِروا حسم الداء قبل إعضاله. ـ[المادة:33]ـ: كل اقتراح يُقدّم للجمعية من سائر الأعضاء- عاملين كانوا أو مؤيدين- يجب أن يكون مكتوبا وممضى باسم صاحبه، وعلى حافظ الأوراق أن يرتب الاقتراحات ويقدمها للمجلس الإداري، ويستثنى من اشتراط الكتابة الاقتراحات التي تلقى وقت انعقاد الجلسات فإن المشافهة فيها تكفي، وعلى الكاتب العام أن يكتبها في ديوان الاقتراحات. ـ[المادة:34]ـ: إذا اقتضى الحال أن تكون الجلسة سريّة أمر الرئيس كل من في قاعة الاجتماع بالخروج، ولا يبقى إلّا الأعضاء الإداريون، ويسوغ لكل عضو إداري أن يطلب سرية الجلسة إذا كان هناك مقتضى، وللرئيس وحده أن يُحضِر في الجلسات السرّية مَن في حضوره مصلحة. ـ[المادة:35]ـ: تؤسّس الجمعية مراكز فرعية تسمىّ شُعَبًا في كل بلدة من بلدان القطر، وتقوم كل شُعبة على رئيس وكاتب وأمين مال وأعضاء مستشارين لا ينقص عددهم على خمسة ولا يزيد على عشرين. ـ[المادة:36]ـ: تسمى عاصمة الجزائر بالنسبة للجمعية مركزًا عامًا، وتُسمىّ الشُّعَب مراكز فرعية. ـ[المادة:37]ـ: أعمال هذه الشُّعَب إدارية محضة تأتمر فيها بأوامر الجمعية، ولا حق لها في التقرير مباشرة، وشأنها في الأمور العملية الوقوف عند حدّ الإرشاد والتنبيه، ووظيفتها تنحصر فيما يأتي: - تقييد المشتركين التابعين للشُّعبة وتُرسل القوائم إلى المجلس الإداري. - موافاة المشتركين المجلس الإداري بتقارير وافية على أكثر البدع فُشوًّا في ناحيتهم، ليسعى في محاربتها بإرشاد الشعبة. - إعانته على تأسيس ما يؤسسه من المكاتب القرآنية في نواحيهم. - إرشاد المجلس الإداري إلى كيفية تنفيذ مقاصده في تلك الناحية. - تقوية الثقة بالجمعية في نفوس العامة وتحسين سمعتها عندهم. ـ[المادة:38]ـ: رئيس الشعبة هو وحده المسؤول أمام المجلس الإداري في كل ما يُعدّ من أعمال الجمعية، ويتفرّع على هذا أنه هو القابض لمال الجمعية، فيجب أن يمضي الوصولات بخطه وأن لا يترك مال الجمعية عنده أكثر من أسبوع.

ـ[المادة:39]ـ: من واجبات رؤساء الشُّعب وكتّابها وأمناء ماليتها أن يكتبوا كل ما تقتضيه وظيفتهم المفصّلة في المادة السابقة في ديوان خاص يحتفظون به، وينقلون منه محاضر يمضيها الرئيس والكاتب وأمين المال يرسلونها إلى المجلس الإداري قبل خمسة عشر يومًا لانعقاده. ـ[المادة:40]ـ: الاجتماعات في الشُّعَب موكولة إلى اختيار رؤسائها بشرط أن يرسلوا تقاريرهم في الأجل المبين في المادة السابقة. ـ[المادة:41]ـ: يسوغ للأعضاء الإداريين أن يكونوا رؤساء شُعَب في المناطق التي ينتسبون إليها. ـ[المادة:42]ـ: العضو العامل هو كل عالم مسلم محصّل لعلمه باللغة العربية، جزائري الموطن، وكل متعلم بالشروط المذكورة وإن لم يصل إلى درجة العالميّة، وكل شاب حافظ للقرآن بالشروط المذكورة، ساع في التعلّم راغب فيه، فهذه ثلاث طبقات. والعضو الإداري هو كل عالم مسلم محصّل لعلمه باللغة العربية، جزائري الموطن، مقتدر على القيام بالأعمال الإدارية، ذو مواهب تؤهّله للخدمة العامة، معروف بالاستقامة والإخلاص للعلم، سواء كان تعلّمه في القطر الجزائري أو خارجه، وسواء كانت شهادته العلمية رسمية أو عرفية. ـ[المادة:43]ـ: دخول الطبقات الثلاث في الجمعية واجب أدبي يتحاض عليه جميع أفراد تلك الطبقات ويتواصون به، ولكن لا يتحقق ذلك الدخول ويعتبر قانونيا إلّا بطلب كتابي اختياري، ولا يُعتبر الطلب إلّا إذا كان مصحوبا بدفع قيمة الاشتراك السنوي وتقييد اسمه في الديوان المعدّ لأسماء الأعضاء العاملين، ولا يحصل الطالب على لقب عضو عامل في جمعية العلماء إلّا بعد وضع اسمه في الديوان. ـ[المادة:44]ـ: يترقّى الأعضاء العاملون من الدرجة الثالثة إلى الثانية بالتقدم في العلم وزيادة التحصيل وبالاجتهاد والمثابرة، ويترقى أعضاء الدرجة الثانية إلى الأولى بظهور أثر كتاب نافع أو القيام بمحاضرات نافعة أو بتعليم منتج أو بالتحصيل على شهادة رسمية من أحد المعاهد الإسلامية. وحق الترقية من خصائص المجلس الإداري وهو يستمدّ معلوماته في هذا الشأن من تقارير رؤساء الشُّعَب. ـ[المادة:45]ـ: يتساوى الأعضاء العاملون من جميع الطبقات في واجب مادّي وهو دفع الاشتراك المقرّر، وفي واجب أدبي وهو الإخلاص للجمعية، ويتساوون مع ذلك في حق وهو انتخاب المجلس الإداري وفي واجب وهو واجب المراقبة والنقد. ويمتاز أعضاء الدرجة الأولى بحق وهو الترشيح للعضوية الإدارية، وبواجب وهو تنفيذ أغراض الجمعية ومقاصدها.

ـ[المادة:46]ـ: من واجبات كل عضو أن يخلص للجمعية، وآية الإخلاص أن يذيع سمعتها في الأوساط العامية ويقوم بالدعاية لها والتنويه بها والإشادة بذكرها، ولا يدخر وسعًا في تعزيز جانبها. ـ[المادة:47]ـ: من واجبات كاتب الجلسة أن يقرأ بإذن الرئيس في افتتاح كل جلسة كل الاقتراحات التي وقعت في الجلسة الماضية ولم يفصل فيها بإلغاء ولا تقرير، ولا لزوم لقراءة ما ألغي ولا ما قرر منها. ـ[المادة:48]ـ: من واجبات الكاتب أن يقرأ على الجمعية العمومية مقررات السنة الماضية ومنفذاتها بقصد الإعلام والإبلاغ، ولا حق للجمعية في معارضة شيء مما قرر ونفّذ. ـ[المادة:49]ـ: من واجبات أمين المال أن يقرأ على الجمعية العمومية ميزان السنة الماضية بالتفصيل بعد أن يقرّرها المجلس الإداري بقصد الإعلام والإبلاغ، ولا حق لها في معارضة ما قرّر، ومن واجباته أن يقرأ عليهم الاعتمادات التي يلزم صرفها للسنة المقبلة، ولهم الحق في إبداء الملاحظات الفردية، ومن وظيفة الكاتب أن يدوّنها إذا كانت سديدة. ـ[المادة:50]ـ: من واجبات المراقب العام أن يقف بنفسه على تنفيذ ما يقرر المجلس الإداري تنفيذه من الأعمال على الوجه الذي يريده مع الحزم والتدقيق في التنفيذ، وعليه أن يرحل إلى الآفاق لذلك، ونفقاته اللازمة في التنقلات من صندوق الجمعية على التفصيل الآتي في فصل المالية. ـ[المادة:51]ـ: من واجبات حافظ الأوراق أن يرتّب الملفات والوثائق، وبجمع قصاصات من كل ما يُكتب في شأن الجمعية في الصحف والمجلات العربية والفرنسية، بعد أن يكتب على تلك القصاصات بالحمرة تاريخ تلك الجريدة وعددها واسمها. ـ[المادة:52]ـ: من واجبات الكاتب العام أن ينشر جميع مقررات المجلس في الصحف العربية لزومًا وفي الفرنسية إن اقتضى الحال ذلك، بإمضائه في مدّة لا تتجاوز خمسة عشر يومًا من تاريخ انفضاض الاجتماع، ولا حجّة على الجمعية في كل ما يترجم على أنه من أعمالها ومقرراتها إلّا إذا كان بقلم كاتبها أو بأمره وتحت مسؤوليته. ـ[المادة:53]ـ: من أعمال المجلس الإداري وضع ملفات لكل موظفيه من معلّمين ومحصلين تُدوّن فيها أطوارهم وسيرهم. ـ[المادة:54]ـ: كل ما وقع في هذه اللائحة من الأسماء الدالّة على مدلولات خاصة كالشّعْبة والطبقة والمركز والديوان فهي أسماء رسمية واصطلاحات خاصة مقصودة يجب استعمالها في كل ما تكتبه الجمعية أو يكتب لها، ولا يجوز تبديلها بما يرادفها.

الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة

الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة: ـ[المادة:55]ـ: حدّد القانون الأساسي وظيفة هذه اللجنة وبيّنها أوضح تبيين، فأعمالها إنما هي أعمال ترتيب وتحضير لشيء موجود، فلا يلزمها وضع ديوان خاص ولا إدارة خصوصية، بل إدارة المجلس الإداري هي إدارتها. ـ[المادة:56]ـ: اللجنة الدائمة وكيلة عن المجلس الإداري في دائرة محدودة، وكاتبها هو حافظ أوراق الجمعية، وعليه فهي مسؤولة أمام المجلس الإداري عن أداء تلك الوظيفة، وكاتبها مسؤول وحده في خصوص وظيفته. ـ[المادة:57]ـ: اللجنة الدائمة في الجزائر العاصمة وأرباضها تُغني عن شُعْبة فرعية فيها، فلها وظيفتان: وظيفتها الأصلية التي أسست لأجها، ووظيفة شعبة فرعية، ومن هذه الجهة الثانية يجب أن توضع في قائمة الشّعَب، وتقوم بالأعمال التي تقوم بها الشعَب على التفصيل المتقدم في المواد…… من الفصل الأول. ـ[المادة:58]ـ: اللجنة الدائمة لا تعتبر منحلّة أو مستغنى عنها إلّا إذا اتفقت إقامة أربعة من أعضاء المجلس الإداري بمدينة الجزائر على الدوام، وهم الرئيس أو أحد نائبيه، والكاتب العام أو أحد نائبيه، وأمين المال أو أحد مساعديه، وعضو مستشار. ـ[المادة:59]ـ: تعيين اللجنة الدائمة تابع لانتخاب المجلس الإداري، ومدّتها تابع لمدته، وأسماء أعضائها توضع في قائمة المترشحين للعضوية الإدارية ولكن بعنوان "اللجنة الدائمة" وانتخاب الجمعية العمومية لهيأة المجلس تستلزم تعيين هذه اللجنة بالشروط المذكورة في القانون الأساسي، وكلما نقص منها عضو فمن حق المجلس الإداري تعيين آخر بدله بعد استشارته للأعضاء الباقين من اللجنة. ـ[المادة:60]ـ: يحسن حضور أعضاء اللجنة الدائمة في كل اجتماع إداري- ما عدا الجلسات السرّيّة- ليطلعوا على المباحثات مباشرة وليكونوا على بصيرة من أعمالهم، وقد يكون حضور الرئيس والكاتب لازمًا. ـ[المادة:61]ـ: أعضاء اللجنة الدائمة متبرعون بأعمالهم كالأعضاء الإداريين. ـ[المادة:62]ـ: إذا اضطرت اللجنة الدائمة إلى مخاطبة أحد الأعضاء الإداريين كالكاتب العام أو أمين المال فيما يتعلق بوظيفتيهما فلا يسوغ لها أن تخاطبه رأسًا، بل يجب عليها أن تخاطب رئيس المجلس الإداري وهو يحول الخطاب إلى صاحبه بعد أن يمضيه ويلاحظ عليه، وذلك ليكون للرئاسة معناها وهو الإطلاع على كل ما يجري في الجمعية. ـ[المادة:63]ـ: وإذا اضطر أحد الأعضاء الإداريين إلى مخاطبة اللجنة الدائمة فلا يخاطبها رأسًا بل يجب عليه أن يخاطبها بواسطة الرئيس وهو يحوّل الخطاب إليها بعد إمضائه.

الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها

الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها: قواعد عامة - المقاصد الأولى - المقاصد الثانوية - الأعمال التطبيقية - كيفية تنفيذها - وسائل التنفيذ. ـ[المادة:64]ـ: تجري الجمعية في جميع أعمالها الآتية على أربع قواعد: تقديم الأهم على المهم - ما لا يدرك كله لا يترك كله - درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة - قليل العمل خير من كثير القول. وتجري في الديني منها خاصّة على الرجوع إلى صريح الكتاب وصحيح السنّة، ثم الرجوع إلى الإجماع الثابت والقياس الجلي فيما لا نصّ فيه، ثم الترجيح فيما اختلفت فيه الأنظار والاجتهادات. وتجري في الاجتماعي منها خاصّة على قواعد: ما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ، وأن مستقبل الأمة إنما يُبنى على ماضيها، وأنه لا تنافي بين الإسلام والمدنية الصحيحة بل هو روحها وخلاصتها إذا أقيم على وجهه الصحيح، وأن نواميس الكون هي سنن الله فيه، وأن الأخذ بأسباب الحياة هو تحقيق لحكمة الله في تلك السنن، وأن تجديد الأمة الجزائرية إنما هو في غير ما هي به مسلمة وفي غير ما هي به عربية. وتجري في الدعوة إلى الله على قدم سيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم - المنزّل عليه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وتجري في حجاجها ومناظراتها على الاستدلال البرهاني ثم الإقناعي ثم الخطابي، وتعدل عن الشعريات والسوفسطائيات، كما تعدل عن المواربة إلى الصراحة وعن اللجاجة إلى الإنصاف من نفسها. وتجري في توزيع الأعمال والوظائف على اعتبار الكفاءة والأهلية. وتجري في وزن الرجال وأقدارهم على اعتبار أعمالهم لا على تقدم أعمارهم. ـ[المادة:65]ـ: أول مقاصد الجمعية طائفة العلماء والطلبة باستعمال كل الوسائل لحملهم على التخلق بالأخلاق الإسلامية، وتذكيرهم بما غفلوا عنه وأهملوه من الأخوة الدينية والأخوة العلمية وما تقتضيانه من واجبات وحقوق، وحملهم على الاتحاد والتعاضد ونبذ الشقاق والتقاطع حتى يكونوا مظهرًا للفضائل الإسلامية، عاملين بالحق هُداة به دُعاة إليه، فهم من الأمة بمنزلة القلب من الجسد: تصلح إذا صلحوا وتفسد إذا فسدوا. ـ[المادة:66]ـ: الأمة الجزائرية أمّة إسلامية عريقة في إسلامها، فالإسلام هو دينها الذي تفاخر به وميراثها الخالد، والعربية لغة كتابها ومستودع آدابها وحكمتها، فالجمعية تريد أن ترجع بهذه الأمة- من طريق الإرشاد- إلى هداية الكتاب والسنّة وسيرة السلف الصالح لتكون ماشية في رقيّها الروحي على شعاع تلك الهداية.

ـ[المادة:67]ـ: تتذرع الجمعية بكل الذرائع لإحياء فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجههما الديني، ومن الوسائل التي تستخدمها لهذه الغاية: أولًا: تأليف لجان مؤقّتة بحسب ما يسعه الجهد، ولو من العوام المتدينين، يقومون بالدعوة اللسانية لترويج هاتين الفريضتين. ثانيًا: تحقيقها بالفعل بين أعضاء الجمعية فتأخذ في شرطها عليهم أن لا يفترق اثنان منهم من اجتماع إلّا عن تآمر بمعروف وتناهٍ عن منكر، وتواص بالحق وتواص بالصبر. ثالثًا: الإيعاز إلى الصحف أن تكتب هاتين الجملتين بحروف كبيرة، مجردة أو مقرونة بجمل تقتضي التآمر والتناهي والتواصي، وللكتّاب أن يتعاهدوا هذا الموضوع بالكتابة فيه. رابعًا: الإيعاز للمدرّسين أن يطرقوا هذا الموضوع في دروسهم، وللمفسّرين منهم أن يفسروا الآيات الكثيرة الواردة في هذا الموضوع ويبيّنوا آثار ترك هاتين الفريضتين في الأمة. خامسًا: الإيعاز إلى شعراء الملحون أن ينظموا قصائد ومقاطيع تتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وتسعى الجمعية في نشرها بين العامّة وترغيبهم في حفظها. سادسًا: طبع كراريس تجمع الآيات الواردة في هذا المعنى والأحاديث الصحيحة وأقوال الحكماء من الشعراء ونشرها بين الناس مجّانًا. سابعًا: الإيعاز إلى مَن فيه الأهلية من خطباء المساجد أن يتناولوا هذه المواضيع في خطبهم. ثامنًا: ومن أهم وسائل الجمعية لنيل غايتها تسمية مَن فيه الكفاءة من أعضائها وُعّاظًا مرشدين لترسلهم على نفقتها إلى نواحي القطر، وتنظم لذلك رحلات تراعى فيها عدّة اعتبارات: أن تلقى المحاضرات بلغة عامية أو قريبة من العامية، وأن يكون المحاضر المتجول مبشّرًا لا منفرًا، وأن لا يخرج في أحاديثه الخاصة والعامة على منهاج الجمعية، وأن يكون ملمًّا بالدخائل النفسية لسكان تلك الناحية حتى يعرف من أين يأتيهم، وأن يكون ممثلًا للجمعية بقوله وفعله وحاله، ومن الكمال أن يكون لكل مرسَل علاقة شخصية بالناحية التي يُرسل إليها أو ذكر شائع أو سمعة حسنة، وتنظيم هذه الرحلات وتحديد المواضيع التي يقع فيها الكلام وتحديد أوقاتها من خصائص المجلس الإداري. ـ[المادة:68]ـ: بهذه الوسائل نفسها تتوسّل الجمعية لإماتة البدع والخرافات المخالفة للدين، ولإحياء السنن الصحيحة الثابتة، ولمقاومة المحرمات الضارة كالخمر والميسر والزنا والسرقة، وقتل النفس، والتزوّج في العدة، وعضل البنات، وكل أموال اليتامى، والرشوة، وحرمان النساء من الميراث، وحبس المطلقات عن التزوّج، والإسراف في غير الخير، والعوائد الفاشية في المآتم والأعراس، والكذب والغيبة والنميمة، وتعويد اللسان على الطلاق واليمين. ولإقامة الفرائض المتروكة كالصلاة والصوم والزكاة.

ـ[المادة:69]ـ: تدرس الجمعية أحوال المجتمع الجزائري من جميع جهاتها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، وتعهد إلى مَن فيه الكفاءة من أعضائها- واحدًا أو أكثر- بوضع برنامج واسع مفصّل وافٍ ببيان أصول العلل وكيفية معالجتها على وجه تألفه نفس الجزائري، فلا ينفع الدواء إلّا إذا عُرفت حقيقة الداء، ولا تُعرف حقيقة الداء إلّا بمعرفة أسبابه ومناشئه، والحكيم من عالج المرض بإزالة أسبابه، ومن واجبات الواعظ أن يعظ الناس على قدر استعدادهم، ومعرفة ذلك الاستعداد متوقف على تفهّم نفسية الأمة، فإذا فهم العالم نفسية الأمة عرف كيف يقودها إلى الخير وعرف أي طريق تؤخذ منه. وهذا نموذج يمهّد السبيل أمام واضعي البرنامج: نبدأ بإصلاح العقيدة مثلًا. والعقيدة الحقّة لها ميزان دقيق وهو الكتاب والسنّة، فإذا عرضنا كثر عقائد الناس على ذلك الميزان وجدناها طائشة، فأي سبيل نسلكه لتقويمها، إن اقتصرنا على بيان العقيدة الصحيحة واجتهدنا في إقامة الأدلّة، فإن التأثير يكون قليلًا لأن النفوس قد اصطبغت بعوائد وتقاليد مستحكمة، والفِطر قد فسدت بما لابَسَها من خرافات وأوهام. فالواجب إذن أن نبدأ بمحاربة تلك البدع والخرافات بطرق حكيمة تقرب من أذواق الناس، فإذا ماتت البدع والخرافات وصَفَت الفِطر من ذلك الشوب سَهُلَ تلقين العقيدة الصحيحة وتلقّتها النفوس بالقبول. ـ[المادة:70]ـ: يبتدئ البرنامج ببيان الأسباب التي أدّت بالناس إلى الإعراض عن الكتاب والسنّة وأبعدتهم عن هدايتهما، ثم ببيان ما يلزم سلوكه لإرجاعهم إلى تلك الهداية، ثم يبيّن الأقسام الأربعة التي انبنى عليها الإسلام وهي: العقائد، والعبادات العملية، والمعاملات، والأخلاق. ويبيّن نصيب الأمة الجزائرية من كل واحد منها، ويبيّن أثر الدين في الاجتماع. ـ[المادة:71]ـ: تضع الجمعية خريطة للقطر الجزائري تبيّن فيها مناطق العمل، وتُتبعها بفهارس تبيّن فيها خصائص كل منطقة وما يغلب على أهلها من أخلاق صالحة أو فاسدة، ودرجة استعدادهم للخير والشرّ وأسباب ذلك، وما يكثر في كل منطقة من البدع والتقاليد الموروثة، وأثر تلك التقاليد في مجتمعهم الخاص. فإذا أنجزت الجمعية هذا العمل تكون قد مهّدت الطريق لنفسها وأنارت السبيل، وربحت من الوقت في المستقبل أضعاف ما تضيعه في وضع هذه الخريطة وملحقاتها، وأمنت على أعمالها أن تسير على غير منهاج وعلى أوقاتها أن تضيع عبثًا وعلى أموالها أن تنفق في غير مفيد. ـ[المادة:72]ـ: ظهرت في السنين الأخيرة حركة مباركة في هذا القطر تجلّت في شيئين: تأسيس جمعيات التعليم والبرّ والإحسان، وتأسيس المساجد في المدن والقرى. فدلت هذه الحركة على تطوّر فكري في الأوساط العامية متّجه إلى الدين، وقد تكون هذه الحركة من الإرهاصات السابقة لوجود جمعية العلماء. فمن واجب الجمعية أن تغتنم هذه الفرصة وتعمل

لتنشيط تلك الحركة أولًا والأخذ بيدها ثانيًا، وتدريجها في مدارج الكمال حتى تنقلها من حسن إلى أحسن ثالثًا. وللجمعية في الوصول إلى هذه الغاية أن تتقرّب من تلك الجمعيات بالهداية والإرشاد حتى يصبح أعضاؤها والقائمون بها من أعضاء جمعية العلماء عملًا وتأييدًا- وهم أحق بها وأهلها- ثم تنظر في وجوه البر التي كانت تؤديها فتوجهها إلى ما هو داخل دخولًا أوليًا في مقاصد الجمعيات وهو التربية والتعليم، ولا يمضي زمن حتى تصبح تلك الجمعيات منابع تربية وثقافة. وهذه الجمعيات قوات موزّعة وقد أفادت المجتمع وهي متفرقة، فكيف بها إذا اجتمعت؟ وقد أفادت في خدمة الأبدان، فكيف بها إذا توفرت على خدمة الأرواح؟ وعلى الجمعية أن تسعى في تعمير هذه المساجد الجديدة وتصييرها معاهد علمية يقوم مدرّسوها وخطباؤها بتنفيذ مقاصد الجمعية على أحسن الوجوه، وإذا سارت الجمعية في هذا السبيل سيرًا موفقًا رشيدًا فلا يمضي قليل زمن حتى تمحى البدع والمنكرات. ـ[المادة:73]ـ: كانت الحركة التي ذكرناها سببًا في ظاهرة جديدة وعاطفة شريفة ماتت من صدور المسلمين الجزائريين منذ أحقاب، وهي وقف الأملاك على المساجد والمدارس وكل المشاريع الخيرية، فكثيرًا ما سمعنا بعد ظهور الحركة الأولى ما يشف عن رغبتهم في إحياء هذا النوع من المبرّات، فعلى الجمعية أن تشجع هذه العاطفة الشريفة وتنظرها بعين الروية والاهتمام، وإذا كان في القانون الدولي (1) تشريع يقتضي حفظ هذه الأوقاف فإن الأغنياء ينشطون لإشراك الفقراء فيما آتاهم الله. ـ[المادة:74]ـ: تُعنى الجمعية بترغيب أعضائها العاملين في اقتناء الكتب النافعة كأمهات التفسير والحديث وفقهه واللغة والأدب والأخلاق والتصوّف العملي والتاريخ، وترشدهم إلى أعيانها وتُرغبهم في المطالعة، والغرض من ذلك هو تنمية ملكة الاستحضار والوصول منها إلى العلم الاستدلالي. ـ[المادة:75]ـ: تعنى الجمعية وتوصي كل مَن فيه الكفاءة بإحياء دروس الحديث من كتبه الصحيحة والتاريخ ومتون اللغة والأدب وعلم الأخلاق والأصول، ومن حقّها تعيين الكتب وأسلوب التدريس على التفصيل المقرّر في البرنامج التعليمي الملحق بهذه اللائحة. ـ[المادة:76]ـ: سينفتح أمام الجمعية- في زمن قريب أو بعيد- أبواب من العمل لم تكن لها في حساب، فمن الحكمة والحزم أن تحتاط للأمر قبل وقوعه، وما ذلك إلا بإعداد طائفة من الناشئة وتلقينهم أساليب الإدارة نظرًا وعملًا لتجدهم في يوم من الأيام عونًا لها في إدارة المؤسسات من مكاتب وملاجئ ومحميات، ومن المسلّم أن هذا النوع من النظم الاجتماعية

_ 1) نسبةً إلى الدولة.

وهو الإدارة ينقصنا جدًا، وإذا سهل على الجمعية أن تجد معلّمين نظاميّين لمكاتبها القرآنية فإنه لا يسهل عليها أن تجد مديرًا لمكتب جامعًا للشروط. وتحقيقًا لهذه الغاية فالجمعية تستدعي الشبّان النابهين الذين يرون في أنفسهم حافزًا للقيام بالأعمال الاجتماعية أن يحضروا في جميع جلساتها ويشاهدوا أساليب العمل. وتعدّ ذلك خطوة أولى تخطوها لتحقيق هذا الغرض. ـ[المادة:77]ـ: تسعى الجمعية في تكثير عدد المكاتب القرآنية على التدريج في أهم مراكز القطر، ويحتوي برنامجها على تعليم الخط العربي والنحو والصرف وحفظ القرآن مع تفهيم مفرداته وضروريات الدين والأخلاق الإسلامية، وتختار من كتب التعليم أقربها للإفادة، وتأخذ الأساتذة بتنفيذ ذلك البرنامج على وجه الدقّة. ـ[المادة:78]ـ: تعهد الجمعية إلى جماعة من العلماء المستقلين في علم الدين- تسميهم لجنة الإفتاء- ليكتبوا في المسائل التي عمّت فيها البلوى وكثر فيها خلاف الناس، وكانت مثار نزل مستمرّ وجدال مستمر بين الأمة حتى دخل في المعمعة مَن يحسن الكلام ومن لا يحسنه، مثل مسائل الربا والمزارعة والقراض والأوراق المالية، والروائح واللحوم والشحوم الأجنبية، وطعام الكتابي والمطالبة بالأرش على الضرر الأدبي، والتقليد في رؤية الهلال وغير ذلك، وتكون الكتابة على أسلوب البحث والاستدلال ونقد الأدلّة، ثم يبيّنوا للناس حكم الشريعة في هذه المسائل بعد فحص الجمعية لها لإجازتها، وتنشر تلك الكتابات باسم الجمعية حتى تكون فصلًا في محلّ النزاع. ـ[المادة:79]ـ: من الحاجيات للجمعية أن تكون لها مجلة تنشر محاضراتها ومقالاتها العلمية، وحيث أنها في طور التأسيس فهي تعدّ مجلّة "الشهاب" مجلتها، وعليه فهي تعهد إلى طائفة من كتابها أن يكتب كل واحد في الفرع الذي يتقنه من فروع العلم النافعة على طريقة البحث العلمي. ـ[المادة:80]ـ: تحارب الجمعية داء الأميّة بكل ما تملك من قوة، ومن وسائل هذه الغاية أن تعنى بتعليم ما تستطيع من اليتامى الذين عدموا الكافل، ولا تقتصر على تعليمهم الصناعة بل تتجاوز بهم إلى التعليم الصناعي ليدخلوا الحياة مسلحين بآلة من آلات الكسب. ـ[المادة:81]ـ: من غايات الجمعية النبيلة تأسيس كلية دينية عربية بمدينة الجزائر، تدرّس فيها علوم الدين من وسائل ومقاصد، والغاية الكبرى من هذه الكلية هي تقريب العلوم التي يهاجر أبناء الوطن لتحصيلها في الأقطار الأخرى. ـ[المادة:82]ـ: لا تتشاغل الجمعية بالمناقشات الفارغة والسفاسف التي ليس فيها ثمرة عملية، وتحثّ كل منتسب إليها متعهد سلوك سبيلها أن لا يشغل نفسه ويضيع وقته في تلك الصغائر

ـ[صورة الكراسة]ـ

الفصل الرابع: في مالية الجمعية

والمحقرات ولغو الحديث، فالحياة أشرف من أن يكون من وظائفها اللّغو واللعب واللهو، ومن صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، وكفى بهذا أدبًا تأخذ به الجمعية نفسها. ـ[المادة:83]ـ: قد يكون في هذه الأمة مَن لا يروق له مشرب الجمعية أو لا يرى رأيها فيما تقرره من الأعمال، فإن كان منشأ ذلك سوء الفهم فالجمعية تسلك مع هذه الطائفة سبيل الإفهام والإقناع، وسيئ الفهم قد يحسن فهمه، وإن كان منشأ ذلك سوء القصد فالجمعية تسكت عنهم لأن سيئ القصد لا يحسن قصده إلّا بتوفيق من الله، وإذا أمنت الجمعية أن تخطئ في نفسها فلا يضيرها أن يخطئ الناس فيها. وقد يوجد في هذه الأمة من يناصبها العداء، وواجبها نحو هؤلاء السكوت وتوكيلهم إلى الله، وحسبها ردا عليهم أعمالها، إلّا إذا وصل العداء إلى درجة إفسادها أو إفساد أعمالها، فيجب عليها أن تدفع بالتي هي أحسن. ـ[المادة:84]ـ: بعد التأسيسات الأولية يجب أن يكون للجمعية جريدة تنطق باسمها وتعبر عن مقاصدها، وحيث أن الوقت لا يسمح بذلك فهي تنشر في الصحف الوطنية العربية قراراتها ومناشيرها. ـ[المادة:85]ـ: يتداعى أعضاء المجلس الإداري بكلمة الأخ فلان لا غير، ويتداعون فيما يكتبون لبعضهم بكلمة الشيخ فلان، وُيعرضون عن ذلك الأدب السخيف المبني على كثرة الألقاب. الفصل الرابع: في مالية الجمعية: مقادير الاشتراك - التبرعات - كيفية جمع المال - كيفية حفظه واستثماره - في ماذا يُصرف. ـ[المادة:86]ـ: مقدار الاشتراك حدّده القانون الأساسي بعشر فرنكات سنويا للأعضاء العاملين، وبخمسة وعشرين فرنكًا إلى خمسمائة فرنك سنويًا للأعضاء المؤيدين، وهذا إنما هو تحديد لأقلّ الواجب، وما زاد على قدر الاشتراك فهو داخل في باب التبرّع، وباب التبرع مفتوح ومبناه على التطوّع والاختيار وطيب النفس، والجمعية في هذا السبيل لا تخرج على المناهج الإسلامية والآداب المحمدية في الترغيب في الصدقات وبيان ما أعد الله للمصدّقين والمصدقات، وأن بذل المال في المشاريع النافعة من آيات الإيمان، وأن إنفاق العفو من المال يشيّد خالد الأعمال. ـ[المادة:87]ـ: التبرعات قسمان: ناجزة وهي ما يدفعه المحسنون مرّة واحدة، ودورّية وهي ما يلتزم به… ـ[هنا ينتهي الكرّاس المخطوط في ورقته 55]ـ

إفتتاح مسجد سطيف

إفتتاح مسجد سطيف* بسم الله الرحمن الرحيم كانت فكرة تأسيس مسجد بهذا الربض من هذه المدينة هجستْ في نفوس بعض المصلحين ممن يريدون الخير لهذه البلدة، وأوّل خاطر تولدتْ عليه الفكرة في نفوسهم هو أنهم كانوا يقلبون وجوه الرأي في أي الوسائل أفعل وأي الطرق أقرب لمحاربة هذه الآفات المبيدة وهذه الجوائح المتلفة التي نسميها الخمر والقمار والفجور وأصولها وفصولها، هذه الجوائح التي طغت في السنوات الأخيرة وجاوزت حدود الستر والتعاون إلى درجة الهتك والاستهتار، وجرفت في طريقها بقية الأخلاق الصالحة والعادات المستحسنة، وأتتْ على ما هنالك من حياء وعرض، واستباحت مع الأخلاق الصالحة الأموال والأبدان. فظهر لها- بعد إجالة الفكر وإعمال الروية- أن أنفع وسيلة لمحاربة هذه الأمراض الخطيرة هي محاربة أسبابها، ومن أقوى أسبابها ضعف الوازع الديني في نفوس المسلمين، ذلك الوازع الذي كان يفعل في النفوس التي استولى عليه ما لا يفعله السيف ولا الدرهم. وتبيّن لهم أن الرجوع إلى الهداية الإسلامية هو الدواء الوحيد لهذه الأمراض، وأن أوكد الواجبات على كل من يريد الإصلاح لهذه الأمة هو تقوية الشعور الديني في نفوس الأفراد، لأنّ الناحية الدينية هي الناحية التي يسهل على المصلح استمالة الجمهور إليها، فإذا مال الجمهور إليها سهل جذبه بها إلى ما يراد به من خير وإصلاح. ولكن بماذا تكون تقوية الشعور الديني وإعداد النفوس للرهبة منه والرغبة فيه؟ أَبِالكتابة في الجرائد؟ هذا زرع غير مثمر لأن القراءة مفقودة والأمة أمّية والأمر لله، أم بالمحاضرات

_ * وجدنا في أوراق الإمام هذه المسودة لخطاب أُلقي بمناسبة افتتاح مسجد سطيف. وقد تمّ الاحتفال بافتتاح المسجد يوم 20 أكتوبر 1931.

والخطب؟ وهذا أيضًا سبيل غير ميسور لعدم استكمال أسبابه، أم بترتيب دروس دينية بأسلوب لا تتجافى عنه أذهان العامة، وهذا أيضًا كالأول، وإذا أمكن هذا ففي أي محل؟ انتهى بهم كل ما ذكرناه إلى لزوم تشييد مسجد جامع بهذا القسم من البلدة حيث يكثر السكان المسلمون، تتولى الإشراف عليه هيأة إسلامية محضة، ليكون المسجد نفسه دعاية إلى الخير، ولتقام فيه الصلوات وهي دعاية أخرى، وليذكر فيه اسم الله وهي دعاية ثالثة، وليكون سببًا في اجتماع المسلمين وهي دعاية رابعة. ولا يخفى أن هذه البلدة- ولا نكران للحق- تنقصها فضيلة من أمهات الفضائل وهي الاجتماع المثمر للتعارف، وقد فاتتها بفوات هذه الفضيلة مجموعة من مجاميع الأدب الغالية وهي آداب الاجتماع، وفَاتَها بفوات ذلك كله خير عظيم وهو ما يتمتع به المجتمعون من ثمرات الاجتماع. وهذا في الحقيقة نقص معيب وتقصير شائن، خصوصًا وهو نقص فيما نستطيع الكمال فيه، والمتنبي يقول: وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئاً … كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ ... خرجتْ هذه الفكرة من القول إلى الفعل، وكان خروجها عبرة للمعتبرين، فقد كان الناس فيها فريقين: فريق غلب عليه التفاؤل وصدق العزيمة وقوة الإرادة، فكان يرى النتائج مقرونة بالمقدمات، والخواتم متصلة بالْبِدَايات، وهذه الصومعة الشاهقة تكاد تلحق بأسباب السماء والأساس لم يحفر بعد، وهكذَا فلتكن العزائم، ومئات الآلاف كأنّها منقودة ولمّا يجمع منها فلس. وفريق غلب عليه التشاؤم، فكان يرى أن تحقيق هذه الأعمال بعيد المنال، لأنها تتوقّف على الأموال، والأموال عليها أقفال، وتتوقف على صبر متين، ووقت هو في نظرهم ثمين، وفاتهم أن همم الرجال تهدّ الجبال، وكذلك كان، فقد وُضعتْ مسألة الجامع في سوق الخير كما توضع السلعة، فكثر المشترون للثواب بأموالهم، والمصدقون للأقوال بأفعالهم. واستبشر المؤمنون ببيعهم الذي بايعوا به، وأصبحت مسألة الجامع ميدان زحام، ومنار همّة من كل همام. أيها السادة: إن لله في هذا الجامع حكمة، فقد كان مصداقًا للمثل الذي ضربه نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - بحال الثلاثة الذين دخلوا عليه وهو جالس مع أصحابه، فيما روينا في صحيح

البخاري فأقبل عليه اثنان منهم وأعرض الثالث، ووجد أحد الرجلين فرجة فجلس فيها، وجلس الأخر خلف الصف استحياءً، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديثه قال: ألا أخبركم عن الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد بذل قوم في هذا الجامع أموالهم لا يرجون إلا الله والدار الآخرة، وتوقف قوم ابتلاهم الله بأن لا يخالفوا إلّا فيما اتفق عليه الناس، فكانوا سببًا في إثارة مشاكل ومعاكسات في وجه هذا المشروع عطلتْ السير ولكنها لم تأت عليه من القواعد، ومكايد ومعارضات جرحتْ ولكنها لم تصب المقتل، ولو كان شرّ هؤلاء الكائدين قاصرًا على أنفسهم لهان الأمر، ولكنهم أبوا إلّا أن يصدّوا عن سبيل الله مَن آمن به، وإلّا أن يكونوا كمن انخزل بالناس يوم أُحُد. ولا غرابة عند العقلاء في شأن هؤلاء، فما زال الخير يُبتلى بالشرّ ليزداد الخير ثبوتًا في نفسه وثباتًا في نفوس الخيرين، وما زال الباطل يقف في جنب الحق لا ليعارضه ولكن ليكون حجّة ناطقة على أن الحق هو الحق. أيها السادة: لقد كان في تاريخ هذا الجامع عبرة لأولي الألباب، فهو يحدثكم بالصدق أن التعاون يأتي بالعجائب، وهو يحدثكم أن الفئة القليلة تستطيع جمع الصبر والثبات وجمع الحكمة والنظام أن تأتي ما هو شبيه بخوارق العادات، وهو يحدثكم أن الباطل لا يغلب الحق وإنْ تظاهر بأعوانه وتكاثر بإخوانه، وهو يريكم رأي العين كيف يعمل الفرد للجماعة، وكيف تعمل الجماعة للأمة، وهو يحدثكم أن في هذه الأمة المسلمة المرزوءة في تربيتها وأخلاقها بقيّة خير، لو أحسن أولو الرأي منها استغلاله، ولو جروا في التصرف فيه على السداد لَجاءوها بالخير العميم، ولَمشوا بها على الصراط المستقيم. أيها السادة: إن الرجل الوحيد الذي يعدّ بحق صاحب هذه الفكرة التي ما زلنا نبدئ القول فيها ونعيد، هو السيد الحكيم عبد القادر السماتي، رئيس الجمعية الدينية، وقد نكون ظالمين إذا سمّيناه صاحب الفكرة وسجلناها باسمه، بل هو صاحبها الذي فكّر فيها وقدّر، وهو صاحبها الذي أحكم فيها ودبّر، وهو صاحبها الذي دافع عنها وحامى، وناضل دونها ورامى، وهو صاحبها من لدن كانت في ذهنه فكرة إلى أن صارتْ على يديه جامعًا مشيّدًا، وسيبقى صاحبها بما عُرف به من جدّ وحكمة إلى أن تؤتي ثمراتها. وإذا ذكرنا عبد القادر فإنما نذكر الإخلاص والجدّ والثبات والبصيرة، وهي خصال ما اجتمعتْ في رجل من رجالنا إلّا أخرجتْ لنا منه العمل المنظّم والتدبير المحكم، وكلَّ ذلك يجمع عبد القادر.

وإذا ذكرنا عبد القادر فلسنا بناسين أصحابه الذين آزروه على الخير، وأعانوه على الرشد، ووضعوا أيديهم في يده، متعاهدين على العمل إلى بلوغ الأمل، فلكل واحد منهم حظه ونصيبه في بناء هذه المنقبة الخالدة، وإنْ ننس فلا ننس فضيلة الشيخ التهامي معيزة قاضي البلدة، وفضيلة الشيخ الطيب الجودي مفتيها، وحضرة السيد بن عزوز بن الشيخ المختار عميد الجمعية وعمادها، والخيّر الفاضل السيد الأخضر بن المكّي، أجزل الله ثوابهم، وأحسن مآبهم، وجزاهم أحسن ما يجزي العاملين بالدين والعاملين للدين. ... أيها السادة: هذا إجمال سمعتموه منا على الجانب المحسوس من هذه المنقبة الذي قام به إخوانكم أعضاء الجمعية الدينية، وهو الجانب الذي إذا عددنا أعمالهم قلنا ها هو، وإذا خرجوا عن التواضع وفاخروا به- وحق لهم الفخر- أشاروا إليه وقالوا ها هو، وإذا كذّب به مكذِّب أو ارتاب فيه مرتاب ردّ عليه الوجود بلسان فصيح: ها هو. فاسمعوا مني إجمالًا آخر على الجانب المعنوي- الجانب المطوي في همم هؤلاء الرجال البررة- فإن لهم أعمالًا من دون هذا الجامع هم لها عاملون، ولعلّ في الكلام على هذا الجانب المطوي ما يُثير حماس الذين يسارعون في الخيرات، ويُذكي من هممهم فيزدادون احتقارًا للمال في جنب هذه الأعمال. ولعلّ في ذكر هذا الجانب المطوي ما يذكّرنا بأفعال أسلافنا الأبرار الذين كانوا يُنفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله. ولعلّ الجانب المطوي سيكون أروع وأبدع من هذا القسم الذي تمّ بناؤه، وأدلّ على بُعْد هِمَم القائمين بهذا العمل وإخلاصهم النيّة في خدمة هذا الوطن. هذا الجانب الذي شوّقتكم إلى سماع الحديث عنه هو تعمير هذا الفراغ الغربي بعدّة مدارس قرآنية يُعلَّم فيها كتاب الله للبنين والبنات، وتعلّم فيها مبادئ العلوم العربية والدينية بصورة عملية مفيدة، وتخصص قاعة لمكتبة عمومية ستكون تابعة للجامع ومنسوبة إليه ومكملة له. وتخصيص قاعة كبرى تلقى فيها محاضرات باللغة العامية في بيان ما تلزم معرفته من العقائد والعبادات والأحكام العملية والآداب الدينية والأخلاق الإسلامية العامة وخصوصًا ما يرجع إلى حسن العشرة وتربية الأولاد وسياسة الأهل والأقارب، لتكون العائلة الإسلامية

على أصول الاجتماع الإسلامي لتخفّف الجمعية ما استطاعت من مصائب التفكك الذي نراه في العائلات ومصائب الطلاق والعقوق. ومحاضرات كذلك في بيان فوائد الاقتصاد والتوفير وتقبيح الإسراف والتبذير خصوصًا ما يتصل بالعموم كالإسراف في الأفراح والمآتم ويدخل في هذا الباب محاربة القمار. ومحاضرات كذلك في أصول حفظ الصحة البدنية والصحة العقلية، ويدخل في هذا الباب محاربة الخمر الفاتك بالعقول والفجور الفاتك بالأبدان. كل ذلك على المنهج الديني في الترغيب والترهيب، والتبشير والتنفير حتى لا تخرج الجمعية عن مقصدها من تقوية الشعور الديني في نفوس سكان هذه البلدة إلى أن يرجع الوازع الديني إلى سلطانه. وحتى لا تقع الجمعية فيما وقع فيه المتنطّعون من شبان الشرق، تركوا حكمة الدين في تحريم الخمر وزواجر القرآن في التعبير عنه والتمسوا تحريمه من قوانين أمريكا وقلدوها في تأسيس الجمعيات لمنع المسكرات. تركوا فخرهم الذي يتيهون به على الأمم ووضعوا أنفسهم في مؤخرة الأمم وما أقبح بالمسلم أن يطلب الحكمة من غيره وعنده معدن الحكمة، وأن يتطفّل على موائد الغير وعنده الجفنة الرافدة. أيها السادة: إن الجمعية الدينية تفخر بما تم على يدها من هذا المشروع الواسع وتعترف بأنها إنما قامت ببعض الواجب، وهي ساعية بتوفيق الله في إتمام بقية هذا الواجب وهي المدارس القرآنية، وهي تعترف بأن العهد الذي أخذته على نفسها ثقيل وأن الوفاء به أثقل، وتصرح للملإ بأنها إذا اقتصرت على تشييد الجامع فكأنها لم تصنع شيئًا، وأن الركن الأكبر لا زال مرهونًا للمستقبل وهو بناء المدارس، ثم وسائل تعمير الجميع ثم التعمير الفعلي للجميع، وما وسائل التعمير إلا المال الذي يرصد لتكون حياة الجامع مضمونة وحياة هذه المؤسسات مضمونة. وما التعمير الحقيقي إلا العلم والتعليم. وهي على هذا تطلب من المحسنين أن يتعاهدوها بالإحسان ويمدوها بالمال فلا بقاء لهذه المؤسسات إلا بالإحسان المتواصل والمدد المتوالي. وإنها تعد نفسها قائمة بواجب كفائي لا ترجو عليه من المخلوق جزاء ولا شكورا وقد أحسن إليها قوم وأساء إليها آخرون، فقالت للمحسنين أحسنتم وللمسيئين هداكم الله، عالمة أن من أساء اليوم سيحسن غدا إذا ظهر الحق واتضح السبيل، فهي تقابل الإساءة بالعذر تمهيدًا لمقابلة إحسانه بالشكر.

وتصرح بأن أعمالها مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها ولا سر، وأن أموالها مضبوطة بكيفية لا يدخلها الخلل ولا يتطرق إليها الريب، فليس عندها في المال رئيس ولا مَرْءُوس وقابضها هو البنك، وحسبكم بأعمال البنوك دقة ونظامًا. وإن هذا الجامع بيت من بيوت الله، فهو وقف على جميع المسلمين، ومن نظامه أنه يفتح من طلوع الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، فلا يمنع مصل ولا مدرس ولا متعلم، وعلى من أراد التدريس فيه أن يخبر رئيس الجمعية ويتفق معه على الساعة التي يلتزمها منعا للفوضى والاختلال. أيها السادة: من موجبات الاغتباط والسرور أن المعنى الذي أسست لأجله الجمعية الدينية ببلدة سطيف هو بعض مما أسست لأجله جمعية العلماء، وحيث أني متشرف بكوني عضوًا في الجمعية الدينية ونائب رئيس في جمعية العلماء، فمن حقي أن أتكلم بكل صراحة أن جمعية العلماء تبتهج بالجمعية الدينية وكل ما يجري على منهاجها، وتعدّها من كبر المساعدات على نشر مبادئها وتنفيذ برنامجها، وتعد وعدا صادقًا بأنها لا تقصر في بذل النصائح الدينية والإرشادات العلمية. وإن الجمعية الدينية تتقبل بيد الشكر كل ما يرد عليها من جمعية العلماء من النصائح والإرشادات في العدم والدين، وتعد ذلك من التواصي بالحق الذي أمر الله به في كتابه.

ديوان أبي اليقظان وجريدة النور

ديوان أبي اليقظان وجريدة النور* الأخ المحترم سيدي أبو اليقظان الحاج إبراهيم حفظه الله وسدد في سبيل الحق خطاه. سيدي: وصلتني هديتكم اللطيفة وقد كتب عليها الإهداء بخط يدكم، فقبلت الهدية وشكرت مهديها، وهيهات ما شكري بكفاء. وما أنا بقادر على الوفاء. وما كدت أنتهي من مطالعة الديوان وأخلص من غمرة الإعجاب به والعجز عن تقريظه حتى وافتني جريدة "النور"، فكانت نورًا على نور، وانتقل الخاطر من طريقة إلى طريقة ومن خيال إلى حقيقة- هذه الحقيقة هي التي يجب أن تقف عندها الخواطر- هذه الحقيقة هي رافعة الحجاب ومثيرة الإعجاب ومزيلة السلب بالإيجاب، هذه الحقيقة هي ثباتكم والعواصف هَوْجَاء، ووثباتكم والطريق عوجاء. أكثر الله من أمثالكم في العامدين، وجعل لكم لسان صدق في الآخرين. ودمتم لأخيكم البشير الإبراهيمي

_ * جريدة النور عدد 9، في 28 جمادى الثانية 1350هـ / 10 نوفمبر 1931.

الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس

الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس* (رزئ عرش ريغة العظيم بفقد هذا العظيم من رجاله، ولقد كان- رحمه الله- رجل همة وشهامة وحزم وصرامة. وكان شيخ طريقة ولكنه نزيه عن أوساخ أيدي الناس، يعطي ولا يأخذ، وله أتباع كثيرون ولكنه لا يستخدمهم ولا يترفع عليهم ولا يقبل منهم ذلًا ولا خنوعًا ويأمرهم عند مقابلته بالاقتصار على المصافحة. ولما ذهبنا لعزاء إخوانه فيه، كاتب هذه السطور والشيخ البشير الإبراهيمي والسيد عبد الرحمن بن بيبي زرنا قبره للعظة والتذكر والدعاء، فألقى الشيخ البشير الكلمة التالية وهو خير ما بين صفات الفقيد رحمه الله وعزّى أهله وقومه فيه): في هذا البسيط الواسع وعلى هذه الهضبات الشمّاء قضيت أنا والفقيد خمس سنوات كاملة من أعمارنا لم نفترق فيها إلّا لمامًا. خمس سنوات كاملة بلونا فيها سراء الحياة وضراءها، وتقاسمنا فيها نعيم العيش وبؤسه واعترضتنا فيها الحوادث ألوانًا فكنا نقتحمها برأيين كرأي، ونصدر عنها اثنين أشبه بواحد. خمس سنوات كاملة كنا نقرأ فيها دروسًا في العلم يحضرها الناس ودروسًا أخرى في تحليل معاني الأخوة والصداقة نستجلي فيها خفايا الأنفس ومكنونات الضمائر ولا يحضر هذه الدروس إلا هو وأنا. خمس سنوات كاملة ولكنها مرّت كأحلام النائم وانقضت أواخرها تتعثر بأوائلها ثم ضرب الدهر بضربانه وفرّقتنا الأيام بين مشرق ومغرب، وكنّا نظن أن لا فراق فصرنا نعتقد أن لا لقاء، ثم قضى الله بجمع الشمل مرة أخرى فإذا العهد هو العهد وإذا الذي بيننا لا

_ * مجلة الشهاب، الجزء الثاني عشر، المجلد السابع، غرة شعبان 1350هـ/ ديسمبر 1931م، قسنطينة.

يزداد على تراخي الأيام إلا متانة ولا يزداد على انبتات الحبل إلا اتصالًا. وإذا تلك الأخلاق الشريفة التي تكوّنت منها تلك النفس الهادئة قد صادمتها الحوادث فشاب ذلك اللين شوب من الصلابة، وشاب ذلك الهدوء شوب من التنمر، وقد عدّ الناس هذه النزعة الجديدة منه تطوّرًا في الجوهر، وأنا أعدها تطورًا في المظهر. من واجبي إذن أن أتحدّث عن الفقيد حديث من عاشر وجرّب، ومن واجبي أن أنوّه من صفات الفقيد بصفة فاق بها أقرانه ولم يلحقه فيها لاحق وما كثر خصاله الحميدة لو كان في الوقت متسع لذكرها، هذه الصفة التي تعد هي الغرة اللائحة من خلال الفقيد هي الشهامة بأوسع ما تدل عليه كلمة الشهامة، فقد كان حامل لوائها والسابق المجلي إذا تسابقت الرجال في ميدانها. ولقد كانت تطير الحوادث وتقع فتجد عنده لكل ورد منها صدرًا ولكل مبدإ عاقبة. ولقد كانت الملمّة تنزل بصديقه فيسايقها رأي منه يفض مشكلها أو مال منه يكسر من شرّتها. ولقد كانت الكرامة تمتهن فيكون له منها الولي النصير. ولقد كان الملهوف تحزبه الحاجة فيكون له الغياث المفرج. فيا رفيق الأمس إن من حقوق الرفقة أن نقف على قبرك اليوم ولو كان من حقوق الصحبة أن ندفع ما حلّ بك لبذلنا غوالي الأعلاق اليوم كما بذلنا غوالي النصائح بالأمس، ولوجدتنا اليوم أوفياء في الدفاع كما كنا بالأمس أمناء على حقوق الصحبة. لحقت بجوار ربّك ولم تبقَ إلا الذكريات من حياتك، فرحمة الله عليك وبركاته.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المجلس الإداري للجمعية

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المجلس الإداري للجمعية - 1 - * اجتماع يوم الخميس الحادي عشر شوال 1350هـ الموافق للثامن عشر فيفرى 1932 على الساعة العاشرة صباحًا بنادي الترقي- الجزائر. أعضاء مجلس الإدارة: ـ[الحاضرون]ـ: الشيخ عبد الحميد بن باديس، رئيس - محمد البشير الإبراهيمي، نائبه - الطيب العقبي، نائب الكاتب العام - مبارك الميلي، أمين المال - إبراهيم بيوض، نائبه - الحاج حسن الطرابلسي، مستشار - الطيب المهاجي - مولاي بن الشريف - السعيد اليجري - عبد القادر القاسمي. ـ[الغائبون لعذر]ـ: المولود الحافظي - الأمين العمودي - محمد الفضيل اليراتني. انعقدت الجلسة برئاسة الرئيس وبمحضر المذكورين، فافتتح الرئيس بشكر الحاضرين وقبول عذر المعتذرين، ونوّه بالجهد الذي اقتحمه هؤلاء الحاضرون، وذكر أن عنوان الاجتهاد في خدمة الجمعية هو الحرص على حضور اجتماعاتها والاستهانة بالمشقات التي تعرض، وبالمصالح الخصوصية، ثم تكلم باسم الجمعية فأبدى مشاركتها لرجال النادي المحترمين في الأسف لموت عميده المعمر البركة السيد الحاج مَمَاد المنصالي وأن الخسارة بموته لا تخص النادي بل تعمّ الجمعية لما كان يحمله الفقيد من الإحساسات الجميلة نحو دينه ورجال دينه الذين يمثلون الجمعية، ولما كان يحمله من غيرة على الحق، ولما كان يحمله من حب للسنة وأنصارها. ثم تقرر ترتيب الجلسات اليومية على الساعة التاسعة صباحًا وعلى الساعة الثالثة والنصف من مساء كل يوم. وانتهت الجلسة على الحادية عشر صباحًا.

_ * جريدة " النجاح "، عدد 1279، 11 مارس 1932م.

جلسة مساء الخميس

جلسة مساء الخميس: ثم انعقدت الجلسة على الساعة الثالثة والنصف من مساء ذلك اليوم في النادي وبرئاسة الرئيس، وقام بوظيفة الكاتب محمد البشير الإبراهيمي، وبعد تلاوته لمحضر جلسة الصباح كانت فاتحة الأعمال عرض كل عضو مما أتمه من الأعمال التي كلف بها في اجتماع رجب الماضي، فابتدأ رئيس لجنة العمل الدائمة بعرض ما أتمّه من الأعمال الإدارية المنوطة به، ثم عرض رؤساء الشُّعَب على الترتيب أعمالهم التي أنجزوها في هذه المدة بصفة كونهم رؤساء شعب، وبسط القائمون بالإرشاد والتذكير أعمالهم تفصيلًا، من دروس ومحاضرات، فشكرهم الرئيس باسم الجمعية وحمد لهم بنوع خاص عدم خروجهم عن منهاج الجمعية في الدعوة إلى الحق بالحسنى. ثم شرح الرئيس حالة الجمعية المعنوية وطلب من الأعضاء أن يبسط كل واحد للمجلس حالة الجمعية في ناحيته وإلى أي مدى بلغت سمعتها، وآراء الناس من جميع الطبقات فيها، حتى يكون ذلك الشرح نورًا للمجلس يسير عليه فيما هو مقبل عليه من أعمال وحتى يزيده ذلك مكنة فيما يقرره وحتى يتّقي ما يجب اتقاؤه من الجمعية- وإن كانت مرشدة- لا يستغنى عن الإرشاد إذا كان حكيمًا- فبسط كل واحد من السادة الأعضاء مشاهدته ومسموعاته وما سئل عنه وما أجاب به. ثم بسط الرئيس للمجلس مما تمّ في مسألة توحيد الصوم والإفطار واتفق المجلس على أن ما تمّ في هذه السنة من مساعي الجمعية على نزارته واستعجاله وعدم توفّر المسائل الكافية لتنفيذه- قد كان له أثر حميد وهو زلزلة التعصّب الذي كان هو السبب الأعظم في الخلاف، وتقرّر نشر نداء في هذا المعنى للأمة تذكر فيه بما تمّ. ويشكر الراجعون إلى الحق المنكرون للخلاف ويلام المتعنتون. واتفق المجلس أيضًا على أنه يلزم التذكير بهذه المسألة والاعتناء بها في طول السنة، ومن وسائل الاعتناء بها وضعها في رأس قائمة المسائل الشرعية التي تُقدَّم للجنة الإفتاء التي ستنظم في الاجتماع العمومي الآتي إن شاء الله، وستضم تلك اللجنة رجال القطر المطلعين على أسرار الشريعة ومداركها. ثم أشعر الرئيس المجلس أن من الاحتياطات التي تتخذ للسنوات المقبلة السعي لدى الحكومة لفتح خطوط التيليفون طول ليلة الثلاثين من شعبان ومثلها من رمضان، والطلب من قضاة العواصم الثلاث (1) أن يكونوا على استعداد في هاتين الليلتين، ومن ثبتت عنده الشهادة الشرعية منهم يخبر عمالته عمومًا بواسطة قضاة النواحي، ويخبر قاضيي العمالتين (2) وهما يعمّمان الخبر كل في عمالته

_ 1) المقصود عواصم المقاطعات الجزائرية الثلاث وهي وهران، ومدينة الجزائر، وقسنطينة. 2) مُثَنَّى عَمَالَة، وهي المحافظة أو الولاية.

جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350

بتلك الواسطة. فأقرّ المجلس كل هذا وشكر لرجال الشرع الذين أعانوا على تقليل الخلاف، وثبت أن عناية جمعية العلماء بإزالة الخلاف في الصوم والإفطار لا تؤتى ثمرتها المطلوبة إلا إذا انضمّت إليها عناية رجال القضاء، لأن الشهادات تؤدَّى عندهم، والأحكام تصدر عنهم، والجمعية لذلك تطلب منهم أن تكون هذه المسألة منهم بمحل الاهتمام والعناية، وانفضت هذه الجلسة على الساعة الخامسة والنصف مساءً. جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350: انعقدت الجلسة في اليوم المذكور بنادي الترقّي على الساعة التاسعة صباحًا برئاسة الرئيس وحضور الأعضاء الحاضرين في الجلسة المتقدمة، وافتتح الرئيس الجلسة، وقام محمد البشير الإبراهيمي بوظيفة الكاتب، وبعد تلاوة محضر الجلسة السابقة كانت فاتحة الأعمال المعروضة- تأسيس الشُّعَب الفرعية في العمالات الثلاث. بسط الرئيس الكلام عن تأسيس الشعب على مقتضى مواد اللائحة الداخلية، وذكر فوائدها للجمعية وما تقوم به من خدمات، وإن الجمعية لا تستطيع عمل شيء مثمر وتنفّذه بدون الشعب الفرعية فهي بمثابة الشرايين التي تحمل مادة الحياة للجمعية، وتأسيس الشعب هو الوسيلة الوحيدة لتشريك طائفة من الأعضاء العاملين في المقاصد العلمية التي أسست الجمعية لأجلها، وتبين للمجلس من وقائع وملاحظات قدّمها بعض الأعضاء أن ما وقع تأسيسه من الشعب في الاجتماع الماضي قد بني في الأغلب على اعتبارات نظرية تعاصت عند إرادة تطبيقها يجب تعديلها بكيفية لا تتعاصى على التطبيق. -2 - * واقترح الرئيس تعميم الشعب حتى في القرى الصغيرة التي فيها طلبة، وأيّد اقتراحه بأن المقصد هو ارتباط المنتسبين للعلم ببعضهم وتعويدهم على الاجتماع والعمل للجمعية، وأنه يجب الاستعجال بذلك من الآن فتقرر في الشق الأول الاقتصار على الأهم من المراكز، والأهمية لا تعتبر بكثرة السكان وإنما تعتبر بالصلاحية للعمل.

_ * في العدد 1282 بنفس الجريدة، أي "النجاح"، 18 مارس 1932.

جلسة مساء يوم الجمعة

وتقرّر في الشق الثاني لزوم الاستعجال بما يسعه الوقت ويدخل في الإمكان، بحيث لا يأتي ميعاد الاجتماع العمومي في محرم الآتي حتى يكون للجمعية من الشعب الفرعية ما تتكون منه الجمعية العمومية بصورة قانونية. وحيث تقرر أن تأسيس الشعب أمر ضروري لحياة الجمعية، وأن ما أسس منها في الاجتماع الماضي لا يفي بالحاجة، فضلًا عن عدم صلاحيته عند التطبيق، وفضلًا عن كون البعض ممن عيّنوا لرئاسة الشعب لم يجيبوا المجلس الإداري بعد أن كاتبهم، فقد أخبر المجلس في هذه المرة بعض تلك الشعب وهي التي تشكلت بكيفية تطبيقية صالحة وشرعت في العمل على ما حددته اللائحة الداخلية لها- واعتبر الباقي ملغى- وان المجلس لا يقرّر بعد الآن تأسيس شعبة إلا بإشراف وفد منتدب يعيّنه المجلس الإداري لجهة معينة ويزوده بإرشادات يسير عليها وبأمره بأوامر يأتمر بها ويحدد له حدودًا لا يتعداها. وقد عيّن المجلس الإداري عدة وفود لكل وفد رئيس، وعيّن لكل وفد جهة خصوصية من العمالات الثلاث، وحدد للوفود تاريخ السفر، وأسند لهذه الوفود حق تأسيس الشعب - الذي هو من خصائصه- على الشروط المبينة في اللائحة الداخلية، وبين لهم الأصول التي يلزم اعتبارها في الشعبة وأهمّها الصلاحية والضرورة، فلا يقتصر على المراكز الكبرى، ولا يتوسع إلى القرى والمداشر، وإنما ينظر في المصلحة وما تقتضيه، وقد قرر المجلس لهذه الوفود دستورًا تسير عليه، ورسم لهم خطة يلتزمونها على الترتيب في تنقلاتهم، وهي: أولًا: مقابلة حاكم البلدة وتقديم الجمعية له. ثانيا: إلقاء رئيس الوفد درسا هامًا يتضمن الإرشاد والتذكير على منهج الجمعية يجتنب فيه الألفاظ والعبارات الجارحة والمثيرة للريب والشغب ولا يتعرض فيه للشخصيات. ثالثًا: إلقاء محاضرة في الدعاية للجمعية ببيان مقاصدها. رابعًا: تأسيس الشعبة من الأعضاء العاملين بتلك الجهة وهو المقصود، وتقرّر أن كل رئيس وفد يحمل معه تعيينًا رسميًا من المجلس بإمضاء الرئيس ليستظهر به عند اللزوم. وانفضت الجلسة على الساعة الحادية عشر صباحًا. جلسة مساء يوم الجمعة: ثم انعقدت الجلسة على الساعة الثالثة والنصف من يوم الجمعة المذكور بنادي الترقّي برئاسة الرئيس وعضوية جميع الحاضرين في جلسة الصباح، وقام الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي بوظيفة الكاتب، وبعد تلاوة لمحضر الجلسة السابقة رجع الكلام إلى تأسيس الشعب، فعرضت

جلسة يوم السبت

على المجلس أسماء الشعب التي تمَّ تأسيسها على وجه مرضٍ صالح منطبق على مقاصد الجمعية واللائحة الداخلية، وتُليت أسماء أعضائها ووظائفهم وأسماء الأماكن الملحقة بتلك الشعب وبيان ما شرع فيه بعضها من الأعمال وعرّف المجلس بمن أمكن التعريف به من أولئك الأعضاء، فأقرّ المجلس تلك الشعب وأبقى لنفسه حق النظر في زيادة أعضاء الشعب إن لزم ذلك واقتضاه الحال إلى النهاية التي حدّدتها اللائحة الداخلية وهي ثلاثة عشر عضوًا. جلسة يوم السبت: انعقدت الجلسة في صباح اليوم المذكور بنادي الترقّي على الساعة التاسعة صباحًا برئاسة الرئيس وعضوية المذكورين، وافتتح الرئيس الجلسة، وبعد تلاوة الكاتب لمحضر الجلسة السابقة كانت المسألة المعروضة حسب البرنامج هي مسألة المال والحساب عليه ومجلدات الوصولات وما تمّ فيها، فدفع كل من جمع مبلغًا من الاشتراكات والتبرّعات ما معه لأمين المال ودفعت المجلدات التي تمّت وأجريت كل جزئية من ذلك على منهجها القانوني وسلّم المال المجمّع لرئيس اللجنة الدائمة ليودعه في البنك الجزائري كالعادة. وانفضت الجلسة على الساعة الحادية عشر صباحًا. جلسة مساء السبت: ثم انعقدت الجلسة مساء يوم السبت المذكور على الساعة الثالثة والنصف مساءً بنادي الترقّي تحت رئاسة الرئيس وبعضوية الأعضاء المذكورين، وبعد افتتاح الرئيس وتلاوة الكاتب لمحضر الجلسة السابقة جاء دور الاقتراحات، فقدّم أعضاء المجلس وغيرهم من الحاضرين اقتراحاتهم وقيّدت كلها في ديوان الاقتراحات وتُليت مكاتيب واردة من الخارج وكتبت كلها في الديوان على ترتيبها، ثم شرع المجلس في درسها وتقرير ما يمكن تقريره وإرجاء ما يتعيّن إرجاؤه إلى الوقت المناسب وإلغاء ما يتصادم مع القانون الأساسي أو مع مقاصد الجمعية العامة. وها هي الاقتراحات على ترتيبها: 1 - اقترح الأخ مبارك الميلي إحداث ثلاث لجان: الأولى: تسمىّ مجلس الفتوى، يتركب من الرجال المطلعين على أسرار الشريعة ومقاصد الأحكام، وتشتغل بتحرير القول في المسائل الشرعية التي عمّت بها البلوى، (وقد وضع لها فهرس في اللائحة الداخلية). والثانية: تسمىّ اللجنة العلمية، وتتألف من الرجال المثقفين، وتشتغل بالبحث في التاريخ والآثار والكتب العربية القيّمة إلى آخر ما يعطيه مفهوم الاسم.

والثالثة: تسمىّ اللجنة الأدبية، وتتكوّن من الأدباء والشعراء الجزائريين، وتقوم بالبحث في الآداب العربية بأوسع ما يعطيه مفهوم هذه الكلمة. ويحدّد المجلس الإداري لهذه اللجان دوائر بحثها وتعمل تحت إشرافه وهو يتولى نشر تلك الأبحاث وإذاعتها. فأما اللجنة الأولى فتقررت في ضمن اللائحة الداخلية، وأما اللجنتان الأخريان فقد تقررتا في هذه المرة بالإجماع وأضيفتا لمحلهما من اللائحة، والمجلس يعمل من الآن لإحضار قوائم بأسماء أعضاء هذه اللجان ووضع التمهيدات اللازمة لأعمالها، ثم يقدمها للجمعية العمومية في محرم الآتي، ويضيف لها لجنة رابعة تسمىّ لجنة التعليم تتركب من الرجال الذين باشروا التعليم العربي المبني على الاختيار في التطبيق. (يتبع) (1)

_ 1) لم نعثر على بقية المقال في جريدة "النجاح "، ومن المؤكّد أن البقية لم تنشر.

مات شوقي

مات شوقي! * مات شاعر الإسلام الذي كان يعتزّ بمفاخره، ويشدو بمآثره. وينطق بلسانه. ويجول في ميدانه، ويدعو إلى جامعته، ويمشي في ركاب خلافته. مات شاعر العربية الذي تشرّب روحها وتملّكت هي روحه، فحمى أسلوبها ونغمتها، وعرضها على أهل هذا القرن معربة عنه كما أعربت عما قبله بليغة فصيحة، فحمَل لواءها خفّاقًا في الآفاق، كما تُوِّج على شعرائها في الأقطار باستحقاق. مات شاعر الشرق الذي كان يهتز قلبه لهزّاته، وتضطرب حياته لاضطراباته، وترتفع آهاته مع آهاته، فيدوّي صوته حتى لتتحرّك له جبال، ويهلع منه رجال، وتسري كهرباؤه حتى لَترتبط بها بعد الشتات أوصال، وتحيا بها بعد الموت آمال. مات شاعر الإسلام والعربية والشرق، فعزاءً فيه للإسلام والعربية والشرق، وعزاءً فيه لمصر كنانة الله، من الإسلام والعربية والشرق. ورحمة الله عليه في أبناء الإسلام والعربية والشرق العامدين، وسلام الله عليه في رجال الإسلام والعربية والشرق الخالدين.

_ * الشهاب، المجلد 8، الجزء11، نوفمبر 1932.

الإسلام والمسلمون

الإسلام والمسلمون* شجون من الحديث عنهما وعن الإصلاح الديني ــــــــــــــــــــــــــــــ وحدة الدين واللسان: الأمة الجزائرية هي قطعة من المجموعة الإسلامية العظمى من جهة الدين، وهى ثلة من المجموعة العربية من حيث اللغة التي هي لسان ذلك الدين. والأمم الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها ما برحت تفاخر أمم الأرض بذلك الدين وهذا اللسان، وإن كان بعضها ضعيف الحظ فيهما أو في أحدهما. تفاخر بالإسلام لأنه في حقيقته الأصلية مجمع للفضائل الإنسانية، وتفاخر باللسان العربي لأنه ترجمان هذا الدين وكتابه المبين، وهو بعد ذلك مستودع الحكم ولسان الشعور والخيال. فالأمم الإسلامية بهذا الدين وبهذا اللسان، وحدة متماسكة الأجزاء يأبى لها الله أن تتفرّق وإن كثرت فيها دواعي التفرّق، ويأبى لها دينها- وهو دين التوحيد- إلا أن تكون موحّدة، وتأبى لها الفضائل الإسلامية إلا أن تكون مظهرًا للفضيلة في هذا العالم الإنساني، فإذا كان في تلك الأمم من يضار الفضيلة أو يخونها في اسمها فما ذلك من الإسلام في شيء؛ وإنما هو انحراف مزاج سببه سوء فهم، أو غلبة وهم، أو دعوى طباع أو هو تقليد واتباع.

_ * نُشِر هذا المقال في العدد (4) من جريدة "السنة " بتاريخ 6 محرّم 1352هـ / فاتح ماي 1933م (كُتب في تلمسان).

الإسلام والتاريخ

الإسلام والتاريخ: وإن التاريخ شهد هذا الدين في عنفوان شبابه وتهيؤ أسبابه وازدخار عبابه، فشهد له بالفضل الأتم، والخير الأعمّ للبشر كلهم- بله أبنائه المتبعين لشرائعه- وشهد أن سلف هذه الأمة ما لمسوا حاستي السعادة إلا به، وما كانوا أساتذة الكون إلا بهديه، ولا دانت لهم المشارق والمغارب إلا بالتأدّب بآدابه والتخلّق بأخلاقه، ثم نشر تلك الآداب وتلك الأخلاق على الأمم. وإن التاريخ لم يعرف دينًا من الأديان لم يبق على أساس الجنسية ولم يرجع على قواعدها إلا دين الإسلام فهو لا يختصّ بجنس، وهو صالح لكل جنس وهو موافق لكل فطرة وهو ملائم لكل نفس. وقد اندفع في سيره الأول بسيرته الأولى إلى جهات المعمور الأرج وانتظم أممًا مختلفة الأجناس واللغات والطبائع والألوان، فأصبحت تلك الأمم- على ما بينها من تباين خلقي- أمة واحدة مطبوعة بطابع واحد وهو طابع الإسلام ومصبوغة بصبغة واحدة وهي صبغة الإسلام، فما هو السرّ في هذا؟ السرّ هو أنه دين فطري روحي، يحمل في طيّاته نهاية الكمال الإنساني وأن أصوله بُنيت على حكمة من خالق الحكمة، فتجد في عقائده غذاء العقل وفي عباداته تزكية النفس، وفي أحكامه رعاية المصلحة، وفي آدابه خير المجتمع، وأن دينًا يأخذ من شرطه التخلّق بالأخلاق الشريفة، ويعمد إلى الأرواح مباشرة فيغرس فيها أصول الفضائل الإنسانية، ويعمد إلى الحيوانية فيهذب في حواشيها، ويكسر من حدّتها، ويفل ما فيها من شره وشراسة، ويعمد إلى ما بين المستضعفين والمستكبرين من حاجز وفروق فيجعلها جذاذًا، لحقيق بأن ينتظم تلك الأمم ومثلها معها. بلى، وإن التاريخ لم يشهد دينًا جمع بين مطالب الروح والجسم إلا هذا الدين، وأن السعادة لا تتمّ في الدارين إلا بالتوفيق بين المطلبين، وهذه عقبة العقبات في طريق السعادة وسبب الأسباب في استكمالها واختلافها، وأين تقع القوانين التي هي وضع البشر من التوفيق بين هذين المطلبين. وإذا كان في الديانات السماوية قبل الإسلام ما لا يفي بحاجة البشر من تحصيل السعادتين، فكيف بالقوانين الوضعية ونحن نرى أرقاها في أرقى الأمم، موجهًا إلى استطلاع البدن، وإشباع شهواته ورغائبه، ونراها لا تحمل من جراثيم الإصلاح الروحي إلا قليلًا لا يشفي ولا يكفي.

الإسلام والبيان العربي

هذا وإنّ ما يقصّه التاريخ من اضطراب الأمم وتخبّطها في سبيل الحياة، إنما هو ناشئ عن هذا السبب، وهو عدم التوفيق بين المطلبين، وبهذا التوفيق تتفاضل الأديان، وبه تتحقق حكمة وجود الإنسان وسطًا بين أفق الحيوان وبين المَلإِ الأعلى، وبه كانت الشريعة الإسلامية آخر الشرائع وكانت أكمل الشرائع، وكانت ناسخة لجميع الشرائع نسخًا لا هوادة فيه، ولهذا عمّت دعوتها ولهذا خاطبت العالم البشري بلسان واحد وبلهجة واحدة إن كانوا لا يعرفونها فإنهم سرعان ما يألفونها لأنها تدعو الأرواح لما يزكيها وتدعو الأجسام لما يحفظها ويقيها، كل ذلك من طريق الفطرة التي يشترك جميع الناس فيها. الإسلام والبيان العربي: هذا الإسلام … فأما اللسان العربي فهو لسان هذا الدين الذي نزل به كتابه، وهو- يعد- ترجمانه الحاذق الذي نقل الإسلام وما فيه من عقائد سامية، وحكم غالية، وأخلاق عالية، وأسرار جليلة، وآداب قيّمة إلى أمم أجنبية عن لغة هذا الدين، وأخذهم بها أخذة السحر بكيفيةٍ تريهم أن الدين هو اللغة وأن اللغة هي الدين، فبينما هما دين ولغة إذا هما شيء واحد، وإذا تلك النفوس التي كانت بعيدة عن مزاج هذا الدين وعن مزاج لغته تعتقد أن معنى العربية جزء من معنى الإسلام، وإذا بهذا الدين وبهذه اللغة يقرّبان البعيد من تلك الأهواء ويؤلفان بين المتنافر من تلك الميول. ثم تصحو الأفئدة، وينكشف الغطاء عن حقيقة واحدة وهي أن تلك الجنسيات تلاشت في هذه الجامعة الروحانية التي لا تعرف جنسًا وجنسًا، وإنما تعرف الإنسان لأنه إنسان يترقّى بمواهبه ويكرم بتقواه. شيئان أوفيا بالعالم الإنساني على مشرع السعادة. هدي الإسلام في البيان العربي: تلك لعمري حقيقة لا ينكرها إلا من غلب على عقله، (وتمت كلمة ربّك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم). التربية الإسلامية والنقائص البشرية: غير أن لهذا الطبع الإنساني لدات، رافقته في مراحل الوجود من أول التاريخ وكان لهن من مستقرّ العقل فيه، ملاعب وأحضان، هن التقليد والوهم وهنات أخرى تَمُتُّ لهذين بالنّسب الوثيق، فكان لها على الطبائع ما يكون للترب على تربه من تأثير وتسلط وقد باعدت

بعد المسلمين عن الهداية الإسلامية

حقائق الإسلام ما بينهن وبين الطبع البشري حقبة، وأقامته على صراط الفطرة السوي، وكأنما أنشأته نشأة مستأنفة، بما حرّرته منه من شوائب الاسترقاق لهذه الهنات وغيرها، حتى أصبح لا يدين بالعبودية إلا لله، ثم عاد المسلمين من ذكرى تلك الهنات عيد وطاف بهم طائف من العصبية التي محاها الإسلام لأول ظهوره، وإنّ العصبية لأصل البلاء كله، فنشأت فيهم العصبية إلى الجنس وإن لم يعمر من التاريخ صفحة، والعصبية إلى الرأي وإن لم يتعلق به من السداد نفحة، والعصبية للآباء وإن لم يكن لهم في الصالحات أثر، والتعصّب للأشياخ حتى فيما زاغ فيه الفكر وعثر. لهذه العصبيات، صارت الأمة الواحدة أممًا وصارت السبيل الواحدة سبلًا إذ نشأت عن العصبيات آثارها اللازمة لها فساءت الحال وتراخت حبال الأخوة الإسلامية وضعف أثر الوازع الديني في النفوس، فضعف لضعفه أعظم ركن في الإسلام (وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) فطغت المحدثات على السنن حتى غمرتها وأصيبت العلوم الإسلامية بما أصيب به المجتمع الإسلامي من فتور، ولابست حقائق الدين شبهات أعضل أمرها وساء أثرها، وأتى التقليد بنيان الاستدلال من القواعد فجفّ العلم وعقمت العقول، وكان شر نتيجة لتلك المقدّمات كلها بُعْدُ الأمة الإسلامية عن هداية كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من أمّته. بُعد المسلمين عن الهداية الإسلامية: قد لمسنا- عن غير قصد- موضوعًا واسع الجنبات مترامي الأطراف، ولعلّنا نوفّق إلى تعمير بعض صحائف هذه الجريدة بفصول منه تفصل ما أجملناه هنا لأن الكشف عن النواحي الغامضة من هذا الموضوع من أوكد ما تتطلبه النهضة الإصلاحية الدينية، وأوجب ما تجب معرفته على القائمين بها مناشئ العلل وأسبابها وتاريخ نشأتها ليزدادوا بصيرة فيما يحاولونه من إصلاح فاسد أو تقويم معوج. وقد يتعجّب الباحث المسلم المطّلع على أحوال المسلمين لعهدنا هذا، إذ يرى التقاليد والأوهام شائعة بينهم على اختلاف أجناسهم وتباعد ديارهم ويراها متشابهة الآثار فيهم، ويراهم في الاستمساك بها والمحافظة عليها وكأنما يسيرهم إلهام واحد أو يسوقهم إليها قانون واحد، يرى ذلك كله- وهو واقع- فيرى ظاهرًا من حال هذه الأمة يدعو إلى العجب، ولكنه إذا تعمّق في البحث يعثر بالأسباب واضحة العلل معقولة، فيزول العجب. وقد يرى ذلك بعينيه الباحث الغربي أو من يحمل عصبية على المسلمين أو زراية بدينهم فيرد ذلك في منشئه إلى دين الإسلام ويخرج من بحثه بنتيجة خاطئة، وهي أن الإسلام يحمل في خفاياه جراثيم التأخّر والانحطاط والاستسلام للأوهام والخرافات ويخرج من ذلك إلى أنه

جناية المسلمين على الإسلام

لا رجاء للمسلم في الرقي ومجاراة السابقين في الحياة إلا بالخروج من دينه … شعوذة يمهّدون بها السبيل لمروق المسلم من حظيرة الإسلام، وكم لعبت بهذه النغمات أصابع على أوتار فلم يبال الإسلام بما وقع منها ولا بما طار … جناية المسلمين على الإسلام: وحسب التاريخ في نقض هذه الشعوذة أن يشهد بأنه سبق لهذا الدين في بعض فصوله أن كان سبب تقدّم وعمران لم يشهد نظيرهما، والسبب الواحد لا تنشأ عنه مسببات متناقضة، فالإسلام الذي كان سببًا في الصلاح لا يكون سببًا في الفساد، والإسلام الذي من مقاصده إسعاد البشر لا يكون أبناؤه أشقى الناس به، والإسلام الذي حرّر العقل من قيوده ليفكر ويدبّر، لا يكون سببًا في تقييده والحجر عليه، والإسلام الذي شرع المساواة في حقوق الحياة لا تنشأ عنه الأنانية والأثرة والتمايز … ولا والله حلفة بارة، ما جنى المسلمون جناية المتعمّد الذي يقارف الجريمة وهو يعلم أنها جريمة، ولكنهم أتوا- في جميع أزمانهم- من قبل أمراء مستبدّين ورؤساء جاهلين، ومن ورائهم طائفة من علماء السوء تتبع مساقط الدرهم والدينار، وتتفيأ ظلال الجاه الكاذب والسمعة الزائفة، فكانت هذه الطوائف الثلاث- في كل زمان- إلبًا على الأمة تتقارض- المصالح على حساب الأمة، وليتهم ما رزأوها في أخلاقها، وأفسدوا فطرتها وزعزعوا يقينها بالله وابتلوها بأهوائها ووساوسهم، وفرقوا منها ما جمعه الدين، وأدخلوا عليها مع الزمن دخيلًا من التقاليد ودخلًا من الطباع جعلاها تعرف ما أنكر دينها، وتنكر ما عرفه. شدّة تمسّك المسلمين بالنسبة للإسلام: وهي- على ذلك كله- أمة مسلمة، تزدجر إذا وعظت وتتذكر إذا ذكرت، وأن محل رجاء المصلحين في هذه الأمة هو هذا الخلق العريق الذي ملك على المسلم إحساسه وهو الاعتزاز باسم الإسلام والافتخار بالنسبة إليه، والأنفة من الخروج من هذه النسبة، والرضى بالهون والدون في سبيل هذه النسبة … وإن من أوضح الشواهد على رسوخ هذا الخلق في المسلم أنك تقول لتارك الصلاة- مثلًا- أنت لا تصلي، فيقول لك نعم، وتعيّر مانع الزكاة بالشحّ وقبض اليد، فيقول لك قد كان ذلك، وتقول للمبتدع: أنت مبتدع، فلعله ينصف ويعترف، ولكن إياك أن تقول لواحد من هؤلاء أنت لست بمسلم، ولو قلت لرأيت التنمّر والتنكّر، وسمعت الجافي المكروه من القول.

قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها

قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها: هذه النقطة هي محل الرجاء، فليتخذها بناة الإصلاح قاعدة يقيمون عليها هيكل الإصلاح، وليقودوا لهذا الأخ المعتزّ بنسبته، بارك الله عليك أيها الأخ أنت مسلم، ولكن للإسلام واجبات يقضي بها عليك، وواجبات يتقاضاها منك، وآداب يروّضك عليها لتستحقّ بذلك منازل الكرامة في دنياك وآخرتك، وهو يريد تكميلك فلا تنقصه، وبريد أن تكون حجة به فلا تكن حجة عليه، وأنت منسوب إلى الإسلام ولكن هل يسرك ممن ينتسب إليك العقوق وتضييع الحقوق فصحّح العقيدة، وروّض جوارحك على التكاليف، وقف عند حدود الشرع، وخذ نفسك بالصالحات، واقضِ لأخيك بما تقضي به لنفسك، فإذا أنت المسلم الكامل، وإذا أنت عبد الله وحده…؟ آية الإسلام في قوّة رسوخه في القلوب: إني لو شئت أن آتي ببدع من الرأي في معرض الاستدلال على حقيقة هذا الدين لقلت: إن ما عمّ المسلمين من تنكّب عن هداية دينهم، وهو في عمومه من الأدلة على حقيقة دين الإسلام، وانه الدين لا دين غيره، فاعجب لدين ينتزع الشواهد على صحّته من حالتي الإقبال والإدبار، واعجب لدين يسم طباع بنيه بسمة التوحيد في حالتي الوفاء والجفاء، واعجب لدين تغفل القلوب عن وعي حقائقه، وتكسل الجوارح عن أداء وظائفه، وتتجرّد النفوس عن حلاه، وهي مع ذلك كله، على أشدّ ما عرفت من العصبية والتشيعّ له والاعتزاز بالنسبة إليه وإنّ ههنا لسرًّا لم أتبينه فلم أحسن التعبير عليه…؟

تعالوا نسائلكم

تعالوا نُسائلكم* - 1 - أما إن الحق لا يثبت بالدعوى ولكن بالدليل، وأن العبرة بالمسمّيات لا بالأسماء وبالأفعال لا بالأقوال، ولو أن كل من سمّته أمّه "صالحًا" كان صالحًا على الحقيقة وكل من سمّته الحكومة "عدلًا" في المحكمة كان عدلًا على الحقيقة لكنّا سعداء بكثرة الصالحين والعدول فينا. ولو أن كل من تسمّى "حسنًا" لا يأتي لمكان اسمه إلا الفعل الحسن لطم الحسن على القبح، ولكن من وراء هذه الأسماء الجميلة أفق الواقع تتهاوى فيه هذه الأسماء وتنفلق فلا نجد إلا الحقيقة من فعل يصدق أو يكذب.

_ * مقال متسلسل نشره الشيخ تباعًا باسم "كاتب نقّاد" من أعضاء جمعية العلماء. المقال الأول: العدد (7) من جريدة "السنّة"، 22 ماي 1933م. المقال الثاني: العدد (9) من نفس الجريدة، في 5 جوان 1933م. المقال الثالث: العدد (11) من نفس الجريدة، في 19 جوان 1933م. وقد صدّر المقال الأول بالمقدّمة التالية: الشعب الجزائري المسلم بفطرته، الكريم في عنصره، الجاهل بحقائق دينه- في أكثريته- واقع اليوم بين قوّتين تتجاذبانه: قوّة العلماء المصلحين الداعين إلى الله وإلى الإسلام كما جاء به محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يبغون على ذلك جزاء ولا شكورًا، وقوة الشيوخ الطرقيين الذين وقفوا- إلا أقلّهم- سدًا حائلًا بين العلماء وبين أتباعهم من عامّة الأمة. ثم هم والمدعون للدفاع عنهم لا يألون جهدًا في تنفير العامة من العلماء بالتقوّل فيهم والتزيّد عليهم والتشويه لسمعتهم حتى ليقول قائلهم في كلمة مشهورة عندهم: "العلماء مصابيح ونحن مراويح" يعنون أنهم يطفئونهم. وما علموا أن الله متمّ نوره ولو كره الكارهون. فكان من واجب النصح للعامة أن تعرّف بحقيقة هؤلاء الشيوخ تعريفًا يتركهم أمام الأمة على حقيقة حالهم دون أي زيادة عليهم ولا تنقيص لشخصياتهم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}. وعلى هذا القصد نشرنا المقال التالي الذي تعمّد فيه كاتبه الصراحة لأجل ذلك البيان والكشف المقصودين. وإن هذا المقال هو آخر ما ينشر من نوعه لأنه آخر صفحة من كتاب. وإن الجريدة بعد تمام نشره، تعرض عن القوم إعراضا كليًا وتوجّه همّها إلى بيان السنن النبوية وتوضيح المسائل العلمية. والله المستعان.

وإذا عذرنا الأم تسمّي ولدها باسم جميل، ثم تأتي أفعال الولد مكذّبة لاسمه فيشفع لها الفأل، فنقول: أرادت شيئًا وأراد الله ضده- وإذا عذرنا الحكومة فيمن تسمّيه عدلًا وتشفع لها الرسوم الاصطلاحية فنقول: راعت ظاهر الشهادة ولم ترع باطن الخلق- إذا كان ذلك كذلك فما بال أصحابنا "علماء السنّة" (1) يتّسمون باسمٍ لا يلتقون مع معناه في طريق ولا يقوم عليه شاهد من أقوالهم ولا ينتزع عليه دليل من أفعالهم- لولا أنها الشعوذة لبستهما فأنكرناهم فيها فلبسوها فأنكرناها عليهم، فخرجوا من باب اللباس إلى باب التلبيس، وقالوا نحن قوم أصحاب أسماء، قد أسقطنا الواقع من اعتبارنا، وأسقطنا الأعمال من حسابنا فلا نرفع بها رأسًا ولا رجلًا، وما دمنا بهذه الصفة وما دامت في الأمة بقايا من البله والغفلة و "النية" (2) فلندع أنفسنا بالعلماء وإن لبسنا من الجهل سرابيل، ولنسمِّ أنفسنا "علماء السنّة" وإن كنّا نخوض في البدعة خوضًا- فجاء هذا الاسم كما ترى وليس في الأسماء أكذب منه ولا أشدّ منافرة لمسمّاه. وإذا كان في أفعال العباد ما لا يتمّ إلا بتوفيق من الله، فإن فيها ما لا يتهيأ لصاحبه إلّا بخذلان من الله أيضًا، ومن أمثلته ما تهيّأ لأصحابنا من دعواهم في السنّة دعوى آل حرب في زياد (3). ولو كان للسنّة معانٍ يضيع بينها القصد وتختلف وجوه التأويل، لقلنا هم علماء السنّة "الدرهمية" أو "الكسكسية" (4) ففسّرناها بما هو الأشبه بهم أو لكان لنا عذر في السكوت- ولكن القوم دلونا بكلامهم الذي أذاعوه، وبميزانهم الذي وضعوه ورمزهم الذي ابتدعوه- أنهم يريدون هذه السنّة النبوية- التي قضوا أعمارهم في الكيد لها ومكاثرتها ببدعهم المضلّة- لعمري إنه لا أسخف من هذه الإضافة المتنافرة الجزئين وإذا حلت في ذوق فإنما هو من يسمّى "أبا جهل" عدو الشيطان. فهل يحسن بنا، وقد أنضينا قرائحنا في تعلّم هذه السنّة المطهرة وبذلنا في العمل بها جهد المستطيع، وركبنا المخاطر في الدعوة إليها، هل يحسن بنا بعد هذا كله أن نسكت لهؤلاء عن هذه الدعوى الباطلة، ونوليهم منّا ما تولّوا ونبلعهم ريقهم، وهل يحسن بنا أن لا يكون لنا في الدفاع عنها ما كان منّا في الدعوة إليها؟ إنا إذن لمقصرون!

_ 1) "علماء السنّة": جمعية أوحت فرنسا بتأسيسها لتضاربها جمعية العلماء. وهي تتكون من الطرقيين ورجال الدين التابعين للإدارة الفرنسية. 2) النية: كلمة دارجة يستعملها العامة في معاني الغفلة والبله. 3) إشارة إلى ادعاء معاوية بن أبي سفيان بن حرب نسب "زياد ابن أبيه السياسي العربي الشهير- إلى أهله، وهو ما لم يثبت إلا بالادعاء". 4) "الكُسْكُسِيَّة": نسبة إلى الأكلة الشعبية المعروفة بالمغرب العربي عمومًا وهي "الكُسْكُسي".

إن هذه السنّة المطهرة تأبى علينا أن نهن مع هؤلاء الأدعياء، أو نلين لغمزاتهم أو نتسامح معهم أو نقرّهم على باطلهم أو نخلي لهم الميدان ليفسدوا من هذه الأمة ما أصلحه الدين، ويفرّقوها بكثرة النسب بعد أن وحّد الله نسبتها، وينحطّوا بها إلى أسفل الرتب بعد أن رفع الله رتبتها. وإن هذه السنّة المطهرة تأبى لنا إلا أن نسمّيهم بأسمائهم وأن نفضح مخازيهم ونكشف سوآتهم وننزع عنهم هذا الثوب المستعار، ونظهرهم للأمة كما هم في الحقيقة والواقع لا كما هم في الزعم والدعوى، ويومئذٍ يتبيّن للناس أن بين هؤلاء وبين السنّة بعد المشرقين. إن نسبة هؤلاء القوم إلى السنّة كنسبة عمرو الذي قال فيه الشاعر: أرفق بعمرو إذا حركت نسبته … فإنه عربي من قوارير! لا جرم أنهم سنيّون من قوارير، لكننا لا نرفق بهم على النحو الذي دعا ذلك الشاعر الهازئ، فإن عمروًا لم يضر أحدًا بادعائه النسبة العربية، وهؤلاء أضرّوا بل أضلّوا: فمن الرفق بالأمة وبهم أن نكسر القوارير فينكسر معها الضلال والإضلال!! إننا لَنعلمُ حقًا أن هذه الطائفة التي سمّت نفسها علماء السنّة ترجع في أصولها إلى ثلاثة: شيخ (مزوّر)، وعالم مأجور، وعامي مغرور، فاجمع أنت هؤلاء الثلاثة وأخبرنا هل يكون الحاصل هو "العلم بالسنّة"؟ لا شكّ أن الحاصل يكون شعوذة (غالية) من الأول، يؤيّدها علم (رخيص) من الثاني، كل ذلك لإيقاع الثالث في الفخ، فهو الذي يدفع ثمن الغالي والرخيص، وهو المغبون أولًا وآخرًا. يا للرزية! ألا يكون علم هؤلاء إلا أداة لتثبيت الباطل في الطرفين، وإلا شهادة زور ولكنه زور (علمي) ولذلك يؤخذ بها من مبطل لمبطل ثم لا يكون حظ العالم إلا ما يأخذه شاهد الزور على شهادة الزور، ثم لا يكون الثلاثة إلا من "علماء السنّة". تعالوا أيها القوم نصارحكم، فقارضونا صراحة بصراحة أليس هذا العامي المسكين هو محل النزاع بيننا وبينكم؟ دعونا من الكذب على السنّة والتلبيس باسم السنّة ودعونا مما ترموننا به من الوهابية ودعوى الاجتهاد، فقد علمنا وعلم العقلاء أن ذلك كله منكم تحامل وتداه تريدون أن تبعدوا به عن محل النزاع وتستجرونا مما نحن فيه إلى ما لسنا منه بسبيل. نقول لكم: دعوا هذا (العامي) على فطرته ليتلقّى الهداية الدينية على يد أهلها سليمة كفطرته، بيضاء كقلبه، نقية كصدره، ونحاكمكم في هذا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وهدي السلف الصالح من أمّته، فلا تسلمون ولا تجادلون بالحسنى بل كلّما قرعتكم الحجة

وعضكم الدليل، رجعتم بنا إلى أصول من طباعكم هي المباهتة والمغالطة والقول بغير علم، وهو شر ما يتخلّق به متخلّق وأوهن ما يعتمد عليه مجادل. ونقول لكم: سلّموا العلم بالكتاب والسنّة وهدي السلف إلى من مارسها بالبصيرة النافذة، وتناولها بالذهن الوقاد والقريحة الحيّة، وأنفق فيها من عمره مثل ما أنفقتم في اللهو واللغو والتطبيل والتزمير- فتمارون وتصرون وتستكبرون، فويحكم إن (التسليم) من أصول طرائقكم فيما تزعمون … فهل يجب التسليم عندكم للمتخمّر إذا تخمّر، فعبث بالمقامات العليا من نبوية وملكية وألوهية، ويجب التسليم عندكم للمشعوذ إذا شعوذ وللشيطان إذا استحوذ، وللمجذوب إذا اختلّت أعصابه وضاع صوابه وسال لعابه، ولا يجب التسليم لكتاب الله إذا قام دليله، ولهدي نبيّه إذا اتضح سبيله…؟ وهل من محادة لله ورسوله أعظم من هذه؟ وهل في مراتب الاستخفاف بالدين أسفل من هذه؟ فهاتوا مخلصًا من هذا، وهيهات أن تجدوه ولو كان الشيطان لكم نصيرًا. ولسنا ندري أيعلم علماؤكم هذا أم يجهلونه ولكن الذي ندريه أنكم لغير هذا آجرتموهم. وإن كان علماؤكم من الطراز الذي كانت تعلن عنه جريدة البلاغ فتنعت الواحد منهم بأنه مدرّس بقرية كذا وأن عنوانه بقهوة كذا فلا تصدق إلا في آخر النعتين- فقد أضفتم إلى الاستخفاف بالدين الاستخفاف بالعلم. إن محلّ النزاع بيننا وبينكم هو هذا العامي. نريد أن نحرّره من استعبادكم ونطلقه من أسركم، وتريدون أن يبقى عبدًا تستغلّون خراجه ولا يستقيم لكم هذا منه إلا بجهله وغفلته. فأنتم تجهدون في تجهيله وتضليله ومن ذرائعكم لذلك أن تبعدوا ما بيننا وبينه فهلا واحدة هي أقرب إلى النصفة والمعدلة وهي أن لا تضلّوه إذا لم تهدوه وأن تتركوا له مَالَه إذا لم تصلحوا حاله. نريد لهذا العامي أن يؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالكعبة قبلة وبالقرآن إمامًا وبمحمد رسولًا، وأن لا يرجو النفع إلا من ربّه ولا يستدفع الضرّ إلا به، وأن لا يستعين بعد الأسباب الكسبية إلا بقوّته، وتريدون منه أن يؤمن مع ذلك أو قبل ذلك أو بعد ذلك بأنكم أولياء الله وإن استبحتم الحرمات وركبتم المحرمات، وأن يشرككم مع الله في الدعاء أو يدعوكم من دونه وأن يلتجئ إليكم حتى فيما هو من خصائص الألوهية، وأن يشدّ الرحال لبيوتكم كما يشدّها لبيت الله- فاجبهونا بالتكذيب إن استطعتم. أليس فيكم من يبيع الأولاد للعقيم ويبيع الراحة للسقيم؟ أليس فيكم من يهدّد المسلم بخراب البيت وموت الأولاد وهلاك الحرث والماشية إذا هو قطع عادة أو قصر في شيء من رسوم الخدمة؟ أليس فيكم من كتب على قبر أبيه:

هذا مقام إبراهيم … ومن دخله آمنا لا يخشى من الجحيم … ومن النار الحاميا فأضاف إلى تلك الشنعاء شنعاء أخرى وهي تحريف آية من كلام الله؟ أليس فيكم من يقول في صراحة إِنه يتصرّف في الوجود ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء ثم ينحل هذا التصرف غيره لتكون له أسوة؟ إن وجودًا يكله الله لتصرّفكم لأهون وجود، وهل بلغ هذا الكون البديع من الهوان على الله أن يكله إلى تدبيركم أيها الحمقى ونحن نراكم أعجز الناس عن تدبير (خبزة) فلا تبلغونها إلا بدفع دينكم ثمنًا لها. أليس من الشائع في معتقدات العامة التي هي من وضع أيديكم أن من زار مقام فلان ثلات مرات كتبت له حجة؟ وهل في التعطيل لأركان الدين أشنع من هذا؟ لكم الويل أَكُلُّ هذا في سبيل إشباع بطونكم؟ بلى، كل هذا فيكم وفيكم غيره مما نعد منه ولا نعدده وإننا لنعلم أن منكم من ينكر هذا في نفسه ويبرأ منه، ولكن لماذا لا يمدّ يده إلينا ويرفع صوته معنا بالإنكار لهذه الشناعات التي صارت لكم سمة ونعتًا وعرفتم بها وعرفت بكم؟ لماذا لا ينضمّ إلينا فيكون لنا من بعضكم الصالح عون على بعضكم الطالح لولا أنكم تتقارضون سكوتًا بسكوت لأن ضلالكم (مصلحي) والمصلحة أنواع. أفي الحق ما بعضه حق وبعضه باطل؟ وفي الأوصاف ما إن وصف به فلان ابن فلان كان خيرًا وكان حسنًا وكان فضيلة وكان بحيث يحمد ولا يذم ويشكر ولا ينكر، وإن وصف به فلان الآخر كان شرًا وكان معصية وكان رذيلة وكان وكان، أوَّلًا: ففيم نزاع الناس في أن هؤلاء لصوص؟ أإن فارقوا اللصّ في هيئته فارقوه في أنه يأخذ مال الناس غلابًا ويأخذونه بما يشبه الرضى وفارقوه في طرائق الاحتيال للتخلّص من القانون- يريدون منّا ألا نسمّيهم لصوصًا، كلا إنهم لصوص ويزيدون على اللص العادي بواحدة- وما يزيدون بها إلا النقص، وهي أنهم يتلصصون باسم الدين. ولقد كان الظن بكم غير ما هو الآن إذ كنتم فرادى يعمل كل واحد منكم في دائرته الخاصة ويسير في طريقه ويحمي مناطق نفوذه ويجرّ النار لقرصه وكانت أسباب العداوة بينكم مستحكمة تمدّها أسبابها الطبيعية وما أسبابها إلا المزاحمة في المصالح الدنيوية والمنافسة على الرياسة والمكاثرة بالاتباع فكنّا نراكم على باطل ولكنه باطل موزع القوة وذلك أوهن له، وكنا لذلك نرجو لكم الرجوع إلى الحق ونرجو منكم معاونة الداعين إليه، فما راعنا في وقت نحن ننتظر فيه منكم الإنابة إلا تألبكم ضد الحق واجتماعكم لحربه فعلمنا أن ذلك الباطل الموزع بعضه من بعض وأن هذه هي غايته لا ما مَوَّه به المموّهون منكم.

فأجمعوا أمركم ثم كيدوا الحق فما أنتم ببالغين إلا ما يبلغه من يريد أن يغطي على الشمس بكمه وهو لا يدري أن وراء كمّه أرض الله الواسعة. أجمعوا أمركم وحدّدوا عقد الإجارة مع علمائكم واستوثقوا منهم ولا تأمنوهم فقد خانوا الله وأحرى بهم أن يخونوكم وإنما هم قوم مع الدراهم كثرة أو قدة لا مع المبادئ حقًا أو باطلًا ومع البطون ملئًا وفراغًا لا مع الآراء صوابًا أو خطأ. أما نحن، فوالله ما نباليكم مجتمعين ولا متفرقين وما رهبناكم وأمركم إلى إقبال والدنيا لكم تبع وأهلها لكم شيع، فكيف نرهبكم وأمركم إلى إدبار وقد ضجّت الدنيا من خفاياكم وخباياكم وزواياكم وبلاياكم ورزاياكم، وكم اشتكت منكم الجيوب إلى علّام الغيوب. ووالله ما وهمنا في شأنكم ولا كذبتنا الحقيقة وما أنتم اليوم إلا من عرفنا بالأمس.

- 2 -

- 2 - * عهدنا أدعياء السنّة تجّارًا حاذقين لا يخفى عليهم ما يروج وما يكسد وعرفنا أن رأس مالهم التدجيل وعرفنا أن بضاعتهم هي هذه الأمّة المسكينة التي أحكموا الحيلة في تخديرها بالرؤيا والمنامات والفداء والمكفرات، وزعزعوا عقيدتها في الله بما أثبتوه لأنفسهم من التصرف في الكون أحياءً وأمواتًا ومن مشاركة الخالق فيما تفرّد به من الخلق والأمر، وأفسدوا فطرتها الدينية بما ابتدعوه لها من عبادات ميكانيكية هي إما زيادة في الدين أو نقص منه. وغايتها الانحلال من هذا الدين، وبسطوا أيديهم إلى خلق الشهامة والإباء من نفوسها فقتلوه واستباحوا منها المحرّمات واتّخذوا من ذلك كله ذريعة لابتزاز أموالها. ولولا أنهم علموا ميل الأمة إلى السنّة وأحسّوا بانعطافها إلى معنى السنّة الحقيقي لما جاءوا بهذه الكبيرة ولما اتخذوا من هذا الاسم حيلة يطيلون بها زمن التخدير، وخدعة شيطانية يتألفون بها الشارد، وحبالة يصطادون بها المتفلّت وما كثر المتفلّتين. ولعلّ هذه الحيلة هي آخر حيلهم. ونحن- والله- فقد أصبحنا تجّارًا حاذقين لا يخفى علينا ما يدقّ وما يجلّ من أباطيلهما وأوهامهم التي قادوا بها الأمة زمنًا فما قادوها إلا إلى الهلاك، ولكن رأس مالنا الحق نقوله وندفع به عنه ونرشد هذه الأمة المسكينة إليه، ونداوي منها ما جرحته تلك الأيدي القاسية، وفرق ما بيننا وبينهم أننا ندعو إلى السنّة وهم يدعون إلى البدعة، ونحن ندعو إلى أخوة

_ * نشر هذا المقال في العدد (9) من جريدة "السنّة" بالمقدمة التالية: كان للمقال السابق صدى في جميع الطبقات، لما رأوا فيه من الحقيقة الواضحة والبيان الناصع، وجاءنا الناس والكتب يتساءلون عن هذا الكاتب النقاد البليغ الذي تركهم يلمسون الحقائق لمسًا ويشاهدونها عيانًا. وها هو اليوم مقاله الثاني يزيدهم بصيرة بالحق ويعرفهم بقوّته وإن بقي اسم الكاتب محجوبًا. وهؤلاء هم رجال الجمعية (جمعية العلماء) وهذه منزلتهم في العلم والدين والبيان.

الإسلام نشدّ بكتاب الله حبالها ونجمع بسنّة رسول الله أوصالها وهم يدعونها إلى الفرقة والفرق وخلاف الطرق. وفرق آخر بيننا وبينهم أننا نذكِّر الأمة بكتاب الله وما صحّ من سنّة نبيّه وهم يذكرونها بالطبل والمزمار. وأننا لا نسألها أجرًا عما أوجب الله علينا من إرشادها ولا نرزأها شيئًا من مالها ولا نبيع لها الأدعية لتملأ لنا الأوعية ولا نغرّها بالمغفرة ولا نهوّن عليها معصية الله واطراح دينه بالفداء والمكفرات في مقابلة لقم محدودة أو دراهم معدودة ولا نغريها بترك الأسباب اتكالًا على الأنساب، ولا نقرّها على الاستسلام والخضوع لغير الله، ولا نقارضها سكوتًا عن باطلها بنطق في مدحنا، ولا نشرع لها من الدين ما لم يأذن به الله. أتدرون عواقب ما صنعتم بهذه الأمّة؟ إنكم اقتلعتم ببدعكم كل ما غرس الإسلام فيها من فضائل فمكّنتم فيها لأعراض الانحلال والتفكك والسقوط. وأتيتم على ما فيها من ذكاء ونشاط وعمل فأصبحت بين الأمم وهي مضرب المثل في البلادة والجمود والكسل ولو كنا وحدنا في أرض الله لهان الأمر في الجملة ولكن من ورائنا الأجانب عن هذا الدين يتربّصون به الدوائر فيأخذونكم في عداد أبنائه ويأخذون أعمالكم في عداد أعماله. فهل في أعمالكم ما يبيّض وجه الإسلام ويدفع عنه عادية الألسنة والأقلام، وإن منكم من يرقص أمام أولئك الأجانب رقص القرود وتلبسه شيطانيته فيلتهم الزجاج والحديد والحيات وهم يضحكون ولا رأي لهم إلا أن هذا هو الإسلام وهذه هي تعاليمه وهذه آثاره، ولا منطق لهم إلا أن هؤلاء أتباع طريقة كذا، وطريقة كذا من الإسلام، فهذا هو الإسلام ونحن نقول لهم إن الإسلام لا يعرف طريقة كذا ولا طريقة كذا فهو بريء من هذه البعران والتماسيح وهو من أفعالهم أبرأ. فأي الفريقين أصدق تعبيرًا على محاسن الإسلام وأحسن تصويرًا لفضائله في نفس الأجنبي؟ أنحن بأقوالنا أم أنتم بأفعالكم؟ أرأيتم كيف تلجئنا الضرورات إلى البراءة منكم إلجاءً وتدفعنا إليه دفعًا لا نملك معه الإرادة إذا كان لا يستقيم لنا الدفاع عن هذا الدين إلا بذلك، وهما أمران ما من أحدهما بد فإمَّا أن أفعالكم حق فالإسلام بكتابه وسنّته وهدي أَئِمَّته باطل، وإما أن الإسلام هو الحق فأنتم وأعمالكم تكونون ماذا؟ وأخرى- ألا تدرون أن هناك محاضرات تلقى وخطبًا تتلى وكتبًا تطبع وتنشر وجمعيات تقوم بجميع ذلك- كل ذلك (لِلطَّعْن) في الإسلام بكم وبأفعالكم واتخاذكم حجّة عليه.

ثم أتدرون الغاية من ذلك كله؟ هي حمل العالم المتحضّر على احتقاركم واعتباركم في الهمج الرعاع الذين لا يصلحون لصالحة ولا يستقيمون على ما يريدون بل على ما يُراد منهم، وحمل الجمهور اللاهوتي منه على اقتحام مأسدة الإسلام لأن فيها ثعالب … فما أنحسكم على الإسلام. إن للاهوتيين من العالم أن ينتزعوا من أعمالكم حجة مدارها على هذا القياس ما دامت العبادة بالبندير أو بالبيانو فالبيانو أرشق، وما دام الأمر بين أكل الأفاعي وبين أكل الخبز المقدّس فالخبز أفضل، وما دامت المغفرة تُباع بالدراهم عندنا وعندهم فنحن سواء، فما أعظم جنايتكم على الإسلام. إني قلت، وما زلت أقول، إن محاسن هذا الدين كوّنت له أعداء من غير المنتسبين إليه يرمونه بكل نقيصة، وإن حقائقه ومقاصده السامية كوّنت له أعداء من المنتسبين إليه يرمونه بكل معضلة. وإن عداوة الأولين منشأها سوء القصد وعداوة الأخيرين منشأها سوء الفهم وليسوا سواء في القصد والغرض ولكنّهم سواء في الأثر. ونقطة التلاقي بين الفريقين هي التعطيل المحض لهذا الدين إذا قدِّر لهم أن ينالوا منه نيلًا، ولو رزق الأولون شيئًا من الإنصاف ورزق الأخيرون شيئًا من صحة الفهم وصدق النظر لأصبحنا معهم في وفاق ولأصبح الإسلام الحقيقي دينًا عامًا يطوي في ملاءته النوع البشري كله. أيها الناس، إن نقطة النزاع بيننا وبين هؤلاء هو ما علمتم: هو هذه العامة التي أضلّوها وأذلّوها وغاية الشيطان أن يضلّ، وأرادوا أن تعبدهم من دون الله وهو ما يئس منه الشيطان بنصّ الحديث، فإن كان بعد ذلك بيننا وبينهم نزاع في شيء فهو وسائلهم التي يمهّدون بها لهذا القصد، فإن كان بعد ذلك خلاف في شيء كمراتب العبادة وإباحة كراء الأسواق فتلك أغشية يريد علماؤهم المأجورون أن يحجبوا بها الحقيقة ويستجرّونا بها للخروج عن محل النزاع، فإن كان بعد ذلك شيء فهو لا شيء إلا أنهم يقولون عنّا بغير فهم: إنهم وهّابيون وكذا وكذا، ولسنا نستغرب صدور ذلك عنهم فإن من لا يستحي أن يقول على الله بغير علم لا يعزّ عليه أن يقول على المخلوق بغير فهم. ألا لا يرتابنَّ بعد هذا البيان مرتاب ولا يشكن شاك بعد اليوم في أن اجتماع أصحابنا وتلبثهم حول اسم السنّة إنما هو للدفاع عن (الخبزة) المشتركة. إن موقفنا معكم قد أصبح يتقاضانا الصراحة وتسمية كل شيء باسمه فقد طال ما سكتنا عنكم فتجرأتم وطالما كنينا ولم نصرّح وحوّمنا ولم نرد استيلافًا لكم وطمعًا في استصلاحكم، فلم يزدكم ذلك منّا إلا عتوًا واستكبارًا حتى حامت حولنا الظنون وأصبحت الشبه تتساقط بساحتنا، فأصبح من المتحثم علينا أن نشرحكم شرحًا يحلّ المشكلات وبفكّ

المقفلات، وقد فتح الله علينا في فهمكم حتى لا يغمض علينا منكم معنى ولا تلتوي عبارة، وحتى لو أن الله مسخكم جملًا يضمّها كتاب يُكتب عليه (تأليف ابن قشوط بشرح الحافظي) لما كلَّ لنا ذهن ولا قعدت بنا قريحة عن فهمكم، وإن كان لا يصدر عن الرجلين إلا العسلطة والثرثرة وتلفيق شيء لشيء، وسبحان الفتّاح … وإن هذا القلم الذي خط الألف من هذا الموضوع لا يجف ولا يكف حتى يخط الياء منه، وإن صاحب هذا القلم قد ابتلاه الله بدرس التعقيدات الإنسانية، وهو يزعم أنه زعيم بتحليلها وإرجاع كل عنصر منها إلى أصله وقد أتى من أول هذا المقال بلمحة إنْ لم تكن مصدّقة لهذا الزعم فهي منبّهة على قيمته وهو ماضٍ بعد في جريه حتى يحلّل الموضوع وما وضعتم بهوامشه من تعقيدات، وصبرًا أيها القارئ الكريم فإن هذا القلم ما بعد بكم عن عنوان هذا المقال إلا ليقرّبه إليكم فارتقبوا ولا تعجلوا، وما الحيلة وقد أبى أصحابنا إلا أن يكونوا موضوعًا تضطرب فيه الأفكار وتزدحم عليه الأقلام. وإن من تمام الحل لهذه العقدة أن نأتي على جميع ما يقولونه ونشرحه شرحًا يكشف عمّا بين أقوالهم وبين مقاصدهم من بعد. ونبيّن للناس أنهم غالطون في بعضها ومغالطون ببعضها، ثم نأتي على ما يقولونه عن أنفسهم وما يدعونه لها ونعطي القرّاء عهد الله أننا نخرج من هذا الشرح ونحن في كفة من الميزان وخصومنا في كفّة- وما هو إلا ميزان السنّة الصحيحة- لينظروا أيّنا أرجح. فهم يقولون لو سكت لنا المصلحون في كذا وكذا لسلَّمنا لهم الباقي أو- على الأقلّ- لم تكن منّا هذه الطيرة وهذا التألب وهذه القضية. ونحن نعلم أننا لو تساهلنا معهم وجاريناهم على الظاهر من قولهم فسكتنا لهم عن هذا (الكذا) لقالوا أيضًا لو سكتوا لنا عن كذا آخر حتى نسكت لهم عن الجميع، فالقوم لا يرضيهم منّا إلا السكوت البات كما يقول رئيسهم (1) في شروطه المعروفة للقرّاء. ولا يرضيهم إلا كم الأفواه وتكسير الأقلام لم لا نحصل منهم على الرضا التام حتى نرقص رقصهم ونفحص الأرض بأرجلنا فحصهم ونضرب معهم البندير ونبلع الزجاج والمسامير. ولو كان ما يقولون حقًا وكانوا على شيء من الإنصاف لسلّموا لنا شيئًا من شيء واعترفوا بما يسهل عليهم الاعتراف به ولم يقعوا من الدفاع على الباطل في الإنكار للحق وإذن لكانوا معنا في أهون الشرّين. على أننا قد سكتنا على كثير من أباطيلهم فسكتنا على ما لا يجوز السكوت عنه حتى لنحسب أننا بذلك السكوت شركاؤهم في الباطل وأن الله مؤاخذنا عن ذلك. قد سكتنا- يا لكم الله- عن كتب ابن عليوه وما فيها من البلايا والجرائم وكبائر الإثم والفواحش وأن من يسكت عن كتب ابن عليوه يسكت عن عظيم من الشر وشنيع من

_ 1) أي رئيس جمعية "علماء السنة" وهو الشيخ المولود الحافظي.

المنكر لا تبرك الإبل به. وأن انتشار هذه الدفاتر في هذه الأمة المسلمة يفوق انتشار الأوبئة والطواعين فيها، وأن الواجب على علماء هذه الأمة أن يحموها من تلك الكتب كما يحمى المريض من بعض الأطعمة وبعض المياه التي تمدّ المرض وتزيده إعضالًا، وأن أيسر ما تستحقه تلك الكتب هو الإحراق. ويقولون عنّا إننا وهّابيون، كلمة كثر تردادها في هذه الأيام الأخيرة حتى أنست ما قبلها من كلمات: عبداويين وإباضيين وخوارج. فنحن بحمد الله ثابتون في مكان واحد وهو مستقر الحقّ، ولكن القوم يصبغوننا في كل يوم بصبغة ويسموننا في كل لحظة بسمة، وهم يتخذون من هذه الأسماء المختلفة أدوات لتنفير العامة منّا وإبعادها عنّا وأسلحة يقاتلوننا بها وكلّما كلّت أداة جاءوا بأداة، ومن طبيعة هذه الأسلحة الكلال وعدم الغناء، وقد كان آخر طراز من هذه الأسلحة المفلولة التي عرضوها في هذه الأيام كلمة "وهابي" ولعلّهم حشدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها وحفلوا بها ما لم يحفلوا بسواها ولعلّهم كافأوا مبتدعها بلقب (مبدع كبير). إن العامة لا تعرف من مدلول كلمة "وهابي" إلا ما يعرفها به هؤلاء الكاذبون، وما يعرف منها هؤلاء إلا الاسم وأشهر خاصة لهذا الاسم وهي أنه يذيب البدع كما تذيب النار الحديد، وأن العاقل لا يدري ممَّ يعجب: أمن تنفيرهم باسم لا يعرف حقيقته المخاطب منهم ولا المخاطب أم من تعمّدهم تكفير المسلم الذي لا يعرفونه نكاية في المسلم الذي يعرفونه، فقد وجّهت أسئلة من العامة إلى هؤلاء المفترين من علماء (السنّة) عن معنى الوهابي- فقالوا هو الكافر بالله وبرسوله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. أما نحن فلا يعسر علينا فهم هذه العقدة من أصحابنا بعد أن فهمنا جميع عقدهم، وإذ قد عرفنا مبلغ فهمهم للأشياء وعلمهم بالأشياء، فإننا لا نرد ما يصدر منهم إلى ما يعلمون منه ولكننا نردّه إلى ما يقصدون به وما يقصدون بهذه الكلمات إلا تنفير الناس من دعاة الحق ولا دافع لهم إلى الحشد في هذا إلا أنهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت أنصابهم ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله وقد ضجّ مبتدعة الحجاز فضجّ هؤلاء لضجيجهم والبدعة رحم ماسّة، فليس ما نسمعه هنا من ترديد كلمة وهابي تقذف في وجه كل داع إلى الحق إلا نواحًا مرددًا على البدع التي ذهبت صرعى هذه الوهابية، وتحرّقًا على هذه الوهابية التي جرفت البدع، فما أبغض الوهابية إلى نفوس أصحابنا وما أثقل هذا الاسم على أسماعهم ولكن ما أخفّه على ألسنتهم حين يتوسلون به إلى التنفير من المصلحين، وما أقسى هذه الوهابية التي فجعت المبتدعة في بدعهم وهي أعزّ عزيز لديهم ولم ترحم النفوس الولهانة بحبّها ولم ترث للعبرات المراقة من أجلها.

وإذا لم يفهم أصحابنا من معنى الوهابية إلا أنه محو البدع، فقد استقام لهم هذا المنطق الغريب على هذا النحو الغريب وهو أنه ما دامت الوهابية هي محو البدع، وما دامت وصفًا لا رجلًا وما دام كل وصف ككل كسوة عسكرية كل من يلبسها فهو عسكري يُعرف بها ولا تُعرف به، وما دام المصلحون ينكرون البدع فهم وهابيون وإن لم يؤمنوا للحجاج سبيلًا ولم يأتوا بابن سعود وقومه قبيلًا اهـ. من كتاب ابن قشوط. ونحن نقول لهم على هذا النمط من المنطق الغريب: ما دامت جريدة الإخلاص مكتوبًا على وجهها الأول (ولتكن منكم أمة) - وما دام مكتوبًا على وجهها الثاني يجب السكوت البات على عوائد الأفراح والأتراح والاحتفالات والمآتم. وما دامت هذه العوائد بعضها منكر وبعضها غير معروف، وما دامت الجريدة وجاردها كالثريدة وثاردها يأكلها ولا تأكله فأصحاب جريدة الإخلاص ليسوا (منكم) وليسوا (أمة) …! أهـ - بتخليط. هذا فهم دارسي التعقيدات مثلي، وأما الفهم السطحي فهو أن دين أصحابنا هو البدعة وما تفرّع عنها، ومن كفر ببدعهم فهو الكافر في اصطلاحهم، وعليه فالوهّابيون كفّار والمصلحون كافرون. ألم يقل لنا الحافظي- نفعه الله- مرارًا إن لكلّ قوم اصطلاحهم …! يا قوم- إن الحق فوق الأشخاص وإن السنّة لا تسمىّ باسم من أحياها، وإن الوهّابيين قوم مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده ويفوقون جميع المسلمين في هذا العصر بواحدة وهي أنهم لا يقرون البدعة، وما ذنبهم إذا أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله وتيسّر لهم من وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر؟ أإذا وافقنا طائفة من المسلمين في شيء معلوم من الدين بالضرورة وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندهم- والمنكر لا يختلف حكمه بحكم الأوطان- تنسجوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم وازدراء بنا وبهم، وإن فرّقت بيننا وبينهم الاعتبارات، فنحن مالكيون برغم أنوفكم، وهم حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة. ونحن نعمل في طريق الإصلاح الأقلام، وهم يعملون فيها الأقدام. وهم يعملون في الأضرحة المعاول ونحن نعمل في بانيها المقاول. وما رأيكم في أوروباوي لم يفارق أورباه إلا مرة واحدة طار فيها بطيارة فوقعت به في الهند، فرأى هنديًا يصلّي، ثم طار بها أو طارتْ به فوقعتْ به في مراكش فرأى مراكشيًا يصلّي فقال له: أنت هندي لأنك تصلي، ألا تعدون هذا القياس منه سخيفًا؟ إلّا لا تعدوه كذلك فقد جئتم بأسخف منه في نسبتنا إلى الوهابية.

إننا نجتمع مع الوهابيين في الطريق الجامعة من سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وننكر عليهم غلوّهم في الحق كما أنكرنا عليكم غلوّكم في الباطل فقعوا أو طيروا فما ذلك بضائرنا وما هو بنافعكم. … ومن المضحكات أن جريدة "الإخلاص" وضعت فوق اسمها آية وتحته حديثًا كأنهما شعار لها ولكنّك لا تكاد تجاوز الاسم وما فوقه وما تحته حتى تجد نفسك وكأنما خرجت من بحر لبرٍ ولا تجد أثرًا ولا رائحة من معنى الآية ولا من معنى الحديث ولا تذوق لهما طعمًا، وتمرّ على صحائفها الأرج بأنهارها وسواقيها فلا ترى إلا دعاء للشر لا للخير ولا ترى إلا بدعًا تشهر وتنصر ومنكرًا لا يغير. ولا ترى من أصحاب الجريدة إلا طائفة قائمة (ثائرة) على الحق تهدمه، وعاكفة على الضلال تقويه وتبرمه وتعظمه وتكرّمه. وعذرهم القائم في ذلك أنهم لو حقّقوا من أنفسهم معنى الآية والحديث لأصبحوا وهّابيين حقًا ولأصبحنا نعيرهم بهذا الاسم كما عيّرونا به والنار ولا العار.

- 3 -

- 3 - وهم يقولون عنّا لو أسقطوا من حسابهم فلانًا وفلانًا لـ … ولا يأتون في جواب "لو" هذه بشيء سديد ونحن يحقّ لنا أن (نكاشف) ولو مرة في العمر فدعوني آخذ نوبتي في المكاشفة عن جواب (لو) هذه وهاكم تركيب الجملة "لو أسقطوا من حسابهم فلانًا وفلانًا "لاثنين" لقلنا لهم أسقطوا فلانًا وفلانًا لاثنين آخرين حتى لا يبقى …" وفاتهم أننا تسعة "كما يقولون" وهذا الإسقاط الذي يطلبونه يتناول اثنين اثنين، فلا بدّ من بقاء واحد. والسر في ذلك الواحد … وما قولكم في ذلك الواحد إذا صاح صيحة الحق فاجتمع عليه تسعمائة وابتدأ الأمر بأشدّ مما انتهى به. ألا يكون ذلك أنكى عليكم؟ أم تظنون أن تنويمكم ضرب على المشاعر الحسّاسة كلّها، وإن ذكركم ملأ الآذان حتى لم تعد تسمع صيحة الحق، ومتى أنار الدنيا هلال مقنع؟ يا قوم، اظهروا ما تجمعون به وتعالوا نتساقط على الكيف لا على الكم كما تريدون ونحن تسعة كما تقولون وأنتم تسعة آلاف … فيوشك إن فعلتم أن لا يسقط منا اثنان حتى تسقطوا جميعًا لأن نسبتكم من العمل الذي تدعونه نسبة الزؤان من القمح وعند الغربال الخبر اليقين. إنها لخدعة الصبي على اللبن كما يقول علي، كرّم الله وجهه. على أن المسألة ليست مسألة أشخاص، فنحن نرى أن الإصلاح مبدأ وفكرة وأنتم ترونه زيدًا وعمرًا. ونحن نرى أن هذه الفكرة أو هذا المبدأ إن لم يقم بفلان قام بغيره وأنتم ترون أنه إن لم يكن فلان لم يكن مبدأ. ونحن نرى أن فرقًا بين جمعية تتكوّن حول مبدإ اقتضاه تدبير الاجتماع الإنساني فهي مترابطة بجاذبية مبدإ وهي ذائبة في مبدإ وهي دائبة في العمل للمبدإ وبين جمعية تتكوّن حول نفسها لتنصر نفسها بنفسها فتنصر مدبرًا بمدبر وتدافع ما لا يدفع بما لا يدفع ويكون من أول أكاذيبها على الناس أن تكذب في اسمها.

إن أسوأ السوء في أصحابنا أنهم يقدمون على الأمور الكبيرة بالأنظار القصيرة، وإننا لا نجاوز هذا المقام حتى نكشف للقرّاء الكرام عن حقائق تجب معرفتها لعلّهم يفهمون بها العقد الملتوية من شيوخ الطرق بالأمس وعلماء السنّة اليوم، ويطّلعون على مواطن الضعف من إدراكهم، وإذا أفهمنا المستعدّين للفهم فما علينا أن لا يفهم أصحابنا. وهل نحن معهم إلا كما قال ابن الرومي: ولا أنا المفهم البهائم والطـ … ير سليمان قاهر المرده إن المتتبع لتاريخ هؤلاء الدجّالين يجدهم لم يخلوا من التحرّق على الإصلاح والتنكّر له في جميع أطواره وعلى اختلاف مظاهره فقد كانوا متنكرين له وهو جنين فلما ظهر في الأفراد ازدادوا له تنكّرًا وعليه نقمة، فلما ظهر في شكل جمعية أجمعوا أمرهم وشركاءهم لحربه بهذه المكائد. ألم تعلموا أنهم قبل أن يظهر الإصلاح بهذا الوطن وتلهج الألسنة باسمه كانوا يلعنون ابن تيمية وابن حزم ومحمد عبده وغيرهم من أئمة الإسلام الذين جهروا بإنكار البدع، فلما ظهر الإصلاح بالمظهر الفردي كان أمضى سلاح يقاومونه به قولهم تيمي، عبداوي. هذا ما نعلمه من حالهم ونستيقنه، ولكن القوم ظهروا في الدور الأخير بأقوالهم وأقوال خطبائهم وعلمائهم وكتّابهم وشعرائهم بمظاهر مختلفة لا تتفق مع تلك الحقيقة وقل هو الجهل أو قل هي الشعوذة. فتراهم يتّخذون الأشخاص هدفًا ويرمون حتى تنفد النبال ويطاعنون حتى تنكسر النصال على النصال فتقول أنت إن القوم لا يقاومون إصلاحًا وإنما يحاربون أشخاصًا لهم معهم تِرَاتٌ وذحول وتراهم كذلك يقولون الإصلاح المزعوم، الوهمي، الكاذب، فتقول أنت إن القوم ينشدون إصلاحًا واقعيًا حقيقيًا صادقًا، ولكنّك تراهم مع هذا وذاك غرقى في البدع الصفاء والمنكرات العمياء وتراهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ويشترطون السكوت عن تلك البدع وتلك الأباطيل لأن لهم وحدهم فيها فائدة- وإن أهلكت الأمة كلها- فتقول أنت وحدك ومن غير عناء، هذا غير الأول، وهذا ليس من ذاك، وهذا ليس يتفق مع الإصلاح المزعوم ولا الحقيقي. هؤلاء هم أصحابنا ببردين من تمويه ومغالطة. ونحن، فقد تعلّمنا منهم قليلًا من التمويه والمغالطة نستعمله عند الحاجة فإن أفاد فالفضل لهم. فلنسأل أصحاب تلك الألسنة الكاذبة وتلك الأقلام الكاتبة سؤالًا هو في الإبهام من نوع علومهم، وفي البساطة على قدر فهومهم فنقول لهم: أي هدف ترمون بهذه الشتائم المصبوبة؟ وأي غرض تقصدون بهذه المكائد المنصوبة؟

فإن كنتم تريدون الأشخاص الذين تصرحون بأسمائهم، وتعرضون بنعوتهم وسيمائهم، فقدخلطتم. وإن كنتم تريدون المبدأ مبدأ الإصلاح حتى تموت هذه الفكرة وتنطفئ هذه الجمرة فقد غلطتم. وإن كنتم ترمون الاثنين لعلمكم أن موت المصلحين موت للإصلاح "والعكس" فقد تهتم في العماية وخبطتم. ثم نقول لهم بشيء من التفصيل: إذا كنتم ترمون الأشخاص لذواتهم كما يظهر من كلامكم لأنهم مصلحون وليسوا بصلحاء كما يبدو لأفهامكم، فطالما ظهرتم بمظهر الناصح بما لم ينتصح فيه، والواعظ بما لم يتعظ به، والمعلم لما هو أجهل الجاهلين له، والكاذب على الله ورسوله وصالح المؤمنين فلم يبقَ لكم محمل تحملون عليه في هذه إلا الغش لأمة محمد. والغش لها مدرجة الخروج منها وأخسر بها صفقة. ثم أية نتيجة تظفر بها أيديكم من وراء رمينا بالتُّهم والشناعات؟ إن كنتم تريدون بذلك تنقيص حظنا من الاعتبار الدنيوي والجاه الكاذب، فقد بعنا حظنا منه بخردلة إلا ما كان في حق الله حتى يقضى، أو في نصر ددينه حتى يرضى. وإن كنتم ترمون الفكرة فكرة الإصلاح فقد طاش سهمكم فإن فكرة الإصلاح حق ومغالب الحق مغلوب ومحاربه محروب- نعم إن الإصلاح حق وما وراء الإصلاح إلا الإفساد وأنتم أهله. وهل بعد الحق إلا الضلال وأنتم خيله الموجفة ورجله، ولكن الحق لا يغلب. وإن كنتم ترمون المصلحين ليموت الإصلاح بموتهم فهذا محل الضعف من إدراككم، فإن الإصلاح لا يموت بموت المصلحين الذين تعرفونهم. وإن الإصلاح أمانة إلهية تنتقل من صدر إلى صدر ولا تدخل مع الميت إلى القبر. فلم يبق لكم محمل تحملون عليه في هذه إلا محادة الحق وقد حقّت عليكم الكلمة ويوشك أن يأخذكم الله بعدله. ثم نقول لهم ما هو أبعد عن أفهامهم وأشدّ منافرة لتصوّراتهم وأوهامهم وهو أن هذه الجمعية التي تحاربونها في أشخاصها ومبدئها قد كوّنتها الأمة وأنتم منها، فهل تكذبون النفس أو تعاندون الحسّ؟ نقول إن هذه الجمعية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) كوّنتها الأمة، ونزيد القول بأن جميع أفراد الأمة أنصار لها شعروا أو لم يشعروا. ومعنى هذا أنه ما تهيأت وسائل تكوين الجمعية وتهيأت أسبابها إلا بعد أن صارت حاجة من حاجاتها وإلا بعد أن استلزمتها ضرورتها الاجتماعية واقتضتها سنة تعاقب الأطوار، ولماذا لم تنشأ في أول القرن الرابع عشر الهجري أو في أول القرن التاسع عشر الميلادي مثلًا؟ السر في ذلك هو أنها دفعت إلى التكوين دفعًا بعوامل أقواها الشعور بحق كان مهجورًا وبحال أمثل من الموجود كان مقبورًا.

أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية

لعلّ في هذا التقسيم غموضًا وسببه أمران: الأول أنه مأخوذ من حال أصحابنا، وآخر ما أخذ من الغامض أن يكون غامضًا، والثاني أنني "بوجادي" (1) فيما تعلّمته من أصحابنا. - ومن المؤسف أن كانت التجربة في هذا الفصل- فهاكم الحقيقة في موضوعنا. أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية. إن مما لا يفهمه أصحابنا علماء السنّة، أن الأسباب الداعية لتكوين جمعية العلماء طبيعية، وأن رجالها القائمين عليها أدوات ليست مقصودة بالذات، وأن جماعة يؤخرها الانتخاب ويقدّمها ويوجدها الاختيار ويعدمها لهي فكرة خالدة خلود الجبال. فجمعية العلماء المسلمين ومبدؤها الإصلاحي الديني هما في الحقيقة شيء واحد. هما فكرة معتصرة من حال الأمة الجزائرية المسلمة في اجتماعها ومن حيث إنها أمة قابلة للتطوّر، وقد اقتضاها الوجود فوجدت والتزمها التطوّر فظهرت، وقد حان حينها وشبت عن طوق الخفاء فتكوّنت كالنبتة يراها الرائي ضعيفة طرية ليّنة ويراها مع ذلك تشقّ الأرض الصلبة والتراب المتماسك في طريقها إلى الكمال، وما لقوّة النبتة خضعت الأرض الصلبة ولكن لقوّة الحياة وسلطان الوجود. ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟ وعلى هذا فلو لم تقم هذه الفكرة بهؤلاء الأشخاص لقامت بآخرين مثلهم، فإذا رماهم الزمان بطائفة مبطلة مثل أصحابنا رماها الله بخذلان من عنده حتى يبلغ الحق مداه وتتمّ كلمة الله فيه. إن الجمعيات لا تبقى ولا يضمن لها الدوام إلا إذا كان في المعنى الذي أسّست لأجله عنصر من عناصر التجديد لطائفة أو لأمة وتكون قواعد العمران وأصول الأديان مقتضية له في حياة تلك الأمة الروحية أو المادية. وما من جديد في حياة الأمة إلا وله أصل اندثر وذهبت منه العين أو الأثر، فتقوم الجماعات أو الجمعيات بإحيائه أو تجديده فيكون لمعنى الاجتماع- وفيه قوّة- مؤازر من معنى الجدة وفيه قوّة أخرى، فتصير القوّتان للجمعية بمثابة جناحين تطير بهما إلى الكمال. وليست بهذه القوة ولا بهذه المثابة، الجمعيات التي تؤسّس لإبقاء قديم على قدمه وحال على ما هي عليه كمن يؤسس جمعية بني فلان لأنهم بنو فلان لا لمعنى آخر زائد على ذلك يجلب لهم نفعًا جديدًا، أو، يعلمهم عملًا مفيدًا أو يدفع عنهم ضرًا مبيدًا، أو يقتضي لهم من الكمال؟ مزيدًا. وكمن يؤسس جمعية الفلّاحين لأنهم فلّاحون فقط، لا لمعنى آخر

_ 1) بوجادي: كلمة عامية ومعناها مبتدئ لمّا يتعلّم بعد.

جديد يصلح فاسدهم أو ينقلهم من صالح إلى أصلح. وكمن يؤسّس جمعية للأميين ليبقوا أميين، أو جمعية الضُّلَّال ليبقوا على ضلالهم، أو جمعية العمي ليبقوا على عماهم، لا شيء آخر زائد على ذلك. فمثل هذه الجمعيات التي ضربنا بها الأمثال لا تدوم- إذا وجدت- لخلوّها من عنصر الجدة المقتضي للنمو والتكامل. وقد وجد منها نمط على سبيل المثال وهو جمعية علماء السنّة. فكان ذلك النمط مثالًا للمعدوم وكان ذلك النمط شاذًا في بلاد الشذوذات والاستثناآت. وقد أراد أصحاب ذلك النمط الشاذ أن يفرضوه فرضًا على سنن الله في كونه، وإن سنّة الله لكفيلة بطرحهم وطرح نمطهم فليرتقبوا ... وإذا كان في العلم ما يفيد فإن في بعضه ما ينكي ويغيظ وهو ما نعلم به أصحابنا شيوخ الطرق من طبائع الجمعيات وأمزجتها وما تفرغه على الداخلين فيها من ألوان، فهم يجهلون هذا كله، ولولا جهلهم به لما أقدموا على الدخول في جمعية علماء السنة، ولفرّوا منها فرار السليم من الأجرب، ولكان أهون الشرّين عليهم شرّ الإصلاح ولكن لا بدّ من مصداق لقول الشاعر: يقضى على المرء في أيام محنته … حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن فاسمعوا أيها الشيوخ الفضلاء، نعلمكم احتسابًا ولا نسألكم على هذا التعليم أجرًا، ولو كنّا نضمر لكم غشًا لغششناكم في هذه النقطة لأن النصح فيها لا يتفق مع مصلحتنا، فاسمعوا: إن من طبيعة هذه الجمعيات التي كنتم منها في أوسع عافية لولا أن الجأكم إليها (هم الزمان) أنها تغطي على الأسماء والألقاب وهي رأس مالكم، وأنها تقضي على الشهرة والصيت وهي حبائلكم وشباككم التي تصطادون بها العامّة. ومن مزاجها أنها تسوي بين الناس في السمعة، حتى يصير القنديل كالشمعة، ويوازن البحر بالدمعة، وهذا شيء لا يوافق مزاجكم المعجون بالأنانية والاستئثار. ومن ألوانها التي تصبغ بها الداخلين فيها المناوبة في الكلام، والسؤال والجواب والأخذ والرد والإيراد والدفع والمواجهة بالتكذيب وقول لا، ولماذا؛ وهذه كلها أشياء ثقيلة على مزاجكم اللطيف لم تتعوّدوها ولم توطنوا أنفسكم عليها، وإنما تحسنون من هذا كله نوعًا مخصوصًا في مقامات مخصوصة مع قوم مخصوصين رضتموهم على أن يجتمعوا حولكم ويستمعوا قولكم، فتقولون لهم قال الله فيما تقولتموه، قال رسول الله فيما قال مسيلمة، فلا يعتقدون إلا أن ذلك كما قلتم. ولقد قال رجل منكم- وكلكم ذلك الرجل- لأتباعه وهو يحضهم على دفع المغرم للزاوية: يَالَخْوان (2)، قال الله: لا تنالوا البر والبحر حتى تنفقوا، فقالوا جميعًا صدق الله.

_ 2) مفردها "الخُوني"، وتطلق على أتباع الطرق الصوفية، وقد يكون معناها "أيها الإخوان".

إن مزاجكم، أيّها الشيوخ، ومزاج الجمعيات شيئان متنافران وإنما تتفقون معها في واحدة هي أغيظ لكم مما نافرتموها فيه، وهي أنها مثلكم تأخذ من أتباعها ولا تعطيهم، ولا أثقل من اشتراكات الجمعية إلا طلعة جابيها على نفوس تعوّدت أن تجبى إليها ثمرات كل شيء. هذه حالتكم التي نعرفها لكم ونعرفكم عليها فهل تتنزلون من علياء سماواتكم حين تدعون إلى الحضور في جمعية علماء السنّة فتستجيبون؟ وهل تخلعون رداء الكبرياء والأنانية فتتنازلون إلى المساواة مع بعضكم وإلى مساواة واحد منكم لأتباعه إذا قدّر لهم أن يتشرّفوا بالحضور معه خصوصًا إذا جاء وقت الانتخاب، وقيل فلان (الخوني) فاز وفلان "الشيخ" خاب، وهل توطّنون تلك النفوس المدللة، التي تعوّدت أن تأمر ولا تؤمر، وأن تقول ولا يقال لها، وأن لا تجاب إلا بـ "نعم سيدي" وتلك الآذان التي ألفت سماع (يا سيدي معروف دعوة الخير) وتلك الأيدي التي ألفت التقبيل- من المهد- على الفطام مما ألفت وتعوّدت؟ ومن العناء رياضة الهرم. لهفي على تلك الأسماء التي كانت ترنّ في الآذان، وتنادى من (قاصي الأوطان) وتحدى بها الركبان، وتهينم بها الرهبان. وقد ذابت في اسم واحد وهو جمعية علماء السنة كما تذوب البدعة في الوهابية. ولهفي على تلك الآراء التي كانت كأنها التنزيل تقابل بالوجوم والاطراق، ولا تعارض ولا تراجع، وقد صارت في هذه الجمعية السخيفة تعارض بقول سخيف: "ينظهر لي (3) يا سي الشيخ رأيك هذا ما يصلحش بنا (راك غالط فيه، ويلزمك تسحبو) " ... له الويل .. وبفيه الحجر ... وما معنى (يسحبو) .. وهل لم يجد من يقول له هذه الكلمة إلا لمن لم يتعوّد أن (يسحبوا) .. أولى لك يا ابن البربرية ولو غيرك قالها ... ولو في غير هذه الجمعية المسخوطة قلتها ... إذ لتناولتك الهراوي من يدي العربي والشاوي. لا تظنّوا، أيها الفضلاء، أنني ساخر بكم، لا، وحقكم إنني لجاد، ولقد أخذني من الرقّة لكم في هذا المقام ما لم أعهده من نفسي، وأنفت لتلك الأسماء المشهورة أن تصبح في جمعية علماء السنّة مقبورة، وتلك الأوامر المطاعة، أن تصبح بين أمثال ذلك السخيف مضاعة، ولكنّكم أنزلتم أنفسكم بهذه المنزلة فسلوا من جرّكم لماذا جرّكم، أليفيدكم أم ليبيدكم؟ وإني لا أرجو منكم على هذه النصيحة أن تشكروني بلفظة ولا أن تنظروني بلحظة.

_ 3) أي يظهر لي ... يَبْدُو لي.

جمعية العلماء: دعوتها وغايتها

جمعيّة العلماء: دعوتها وغايتها* (الخطاب النفيس الذي ألقاه الأستاذ البشير الإبراهيمي، نائب الرئيس، مساء الثلاثاء4 ربيع الأول الماضي، اليوم الثاني للاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين). ــــــــــــــــــــــــــــــ نبتدئ الكلام باسم الله وحمده، وبالصلاة والسلام على سيّدنا محمد بن عبد الله رسول الله وعبده، وبالرضى عن آله وأصحابه أنصار الحق وجنده، المؤمنين بعهده، المصدقين لوعده، وباستنزال الرحمة الشاملة على أئمة الهدى ونجوم الاقتداء الذين طالما ساورهم الباطل بسلطانه وأَيْدِه وكاثرهم بجموعه وحشده، ودمدم عليهم بهزيمه ورعده- فما وهنوا عند ارخائه، وما استكانوا عند شدّه، وما انخدعوا لهزله ولا لعبوا عند جده- وعلى عباد الله الصالحين المصلحين الذين وقفوا عند شرعه وحده، وأخلصوا عملهم لله بيقين القلب وعقده، وابتلاهم الله بالشر والخير فتنة فقالوا كُلٌّ من عنده، ووفقهم لفهم حقائق الأشياء فما التبست عليهم المعاني ولا سموا الشيء باسم ضدّه. ونحيي بتحيات الله المباركات الطيّبات هذه الوجوه النيّرة وما تحتها من نفوس خيّرة. من كل مدعو إلى الخير مجيب وداع إليه قد أجيب. وندعو لما دعا له كتاب الله من تأكيد الأخوة، والأخذ في أسبابها بالقوّة. وندعو للعلم الذي هو سلّم السعادة ورائد السيادة، ونستعيذ بالله من شر التفرّق- الذي حذّر منه الرحمن ودعا إليه الشيطان- فنحن عباد الرحمن والواجب علينا امتثال أمره، وأعداء الشيطان والواجب علينا اتقاء شرّه واجتناب مكره.

_ * مجلة "الشهاب"، الجزء التاسع، المجلد التاسع، غرة ربيع الثاني 1352هـ/ أوت 1933م.

أيها الإخوة الكرام، لعلّكم تظنون أنكم ستسمعون موضوعًا مبتكرًا أو خارجًا عن متعلقات جمعية العلماء، وما دام قدومكم لأجل جمعية العلماء وقلوبكم مع جمعية العلماء وركوبكم المشقات والأتعاب في سبيلها، فليكن حديثنا كله لا يخرج عما يتعلق بجمعية العلماء، وأن هذه الجمعية- بمقاصدها وغاياتها- لموضوع يأتي على مواضيع القول كلها، وأن القول فيها ليستغرق أوقات القائلين. وقد جمعكم الله وأنتم أنصارها وذووها في صعيد واحد كأنكم تقولون هذا هو المظهر، ومن ورائكم أعدادكم ممن قعد بهم العجز أو حالت بينهم وبينها الأعذار، وقد أرسلوا بالبرقيات والكتب وفيها ما سمعتم. فكأنهم يقولون وهذا هو المخبر. ولعلّ أروع ما شهدته الجزائر في تاريخها الحديث هو اجتماع هذه السنة، ولعل غرة أيامها في هذا التاريخ يومان هما أمسكم ويومكم. وأين تقع تلك الاجتماعات الضخمة التي كانت تشهدها فتشهد المظاهر الفخمة على المخابر الوخمة، وتشهد أشتاتًا من الناس لأشتات من المقاصد والغايات- من اجتماع وحّدته الغاية التي لها يعمل حتى كأن من فيه رجل واحد، ووحّدت الغاية رأيه فهو رأي واحد وقبل ذلك وحَّده الحق فجاء أفراده من النواحي المختلفة بسائق واحد وشعور واحد. هذا مظهر الجمعية وهذا مخبرها من حيث القوة والمتانة والمقام والمكانة، فأين مظهرها وأين مخبرها في العمل الذي أسّست لأجله؟ إن جمعيتكم هذه أُسّست لغايتين شريفتين، لهما في قلب كل عربي مسلم بهذا الوطن مكانة لا تساويها مكانة، وهما إحياء مجد الدين الإسلامي وإحياء مجد اللغة العربية. فأما إحياء مجد الدين الإسلامي فبإقامته كما أمر الله أن يُقام بتصحيح أركانه الأربعة: العقيدة والعبادة والمعاملة والخلق، فكلّكم يعلم أن هذه الأركان قد أصبحت مختلّة، وأن اختلالها أوقعنا فيما ترون من مصائب وبلايا وآفات. اختلّت العقائد ولابسها هذا الشوب من الخرافات والمعتقدات الباطلة فضعفت ثقتنا بالله ووثقنا بما لا يوثق به. واختلّت العبادات فخوت النفوس من تلك الآثار الجليلة التي هي سر العبادة والتي هي الباعث الأكبر على الكمال الروحي. واختلّت الأحكام فانتهكت الحرمات واستُبيحت المحرّمات وتفكّكت روابط الأسرة الإسلامية، وقطعت الأرحام وتعادى المسلمون وتباغضوا وتنكّر الأخ لأخيه، وضعف الوازع الديني الذي يهيئ النفوس للانطباع بطابع واحد فأصبحت مستعدّة للتكيّف بما يقبح وما

يحسن- ثم غلب ما يقبح على ما يحسن فخرجت الفضيلة الإسلامية من عقل المسلم ومن نفسه وحلّت محلها الرذيلة- ثم جاء الاحتكاك بالأجانب عن هذا الدين ومعهم عاداتهم وأخلاقهم فوجدت السبيل ممهدًا، ووجدت نفوس المسلمين عورات بلا مدافع ولا محام فتمكّنت فيها ومكّنت لغيرها، والشر يعدي، وكان من نتائج ذلك ما ترون من انحلال وتفكّك. ولو كنّا نعبد الله حق عبادته ونبني العبادة الخالصة على عقيدة خالصة، لكان من آثار تلك العبادة في نفوسنا ما يقيها من شرور هذه العوائد العادية. واختلّت الأخلاق وفي اختلالها البلاء المبين، وان الأخلاق في دينكم هي شعب الإيمان، فلا يختلّ خلق إلا وتضيع من الإيمان شعبة. وقد أجمع حكماء الأمم على هذه الحقيقة التي قرّرها الإسلام بدلائله وأصوله وهي أن الأمم لا تقوم ولا تحفظ وجودها إلا برسوخ الأخلاق الفاضلة في نفوس أفرادها. ولهذا نرى الإسلام يأخذ في شرطه على أبنائه أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ويبدئ في هذا المعنى ويعيد، ويضرب الأمثال ويبيّن الآثار، ويلفت النفوس إلى الاعتبار بمن مضوا وإلى سنن الله الخالية فيهم. لو لم يكن من أصول دينكم، أيها الإخوة، وتعاليمه إلّا هذا الأصل- وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- لكفاه دلالة على أنه دين اجتماع وعمران وحياة وبقاء، ولو لم نُضِع- فيما أضعنا من تلك الأصول- إلا هذا الأصل لكفانا مقتًا واستحقاقًا لغضبه واستبداله بنا قومًا غيرنا. وأما إحياء مجد اللسان العربي فلأنه لسان هذا الدين والمترجم عن أسراره ومكنوناته، لأنه لسان القرآن الذي هو مستودع الهداية الإلهية العامة للبشر كلهم، لأنه لسان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - صفوة الله من خله، والمثل الأعلى لهذا النوع الإنساني الذي هو أشرف مخلوقات الله، ولأنه لسان تاريخ هذا الدين ومُجَلّي مواقع العبر منه، ولأنه قبل ذلك وبعد ذلك لسان أمة شغلت حيّزًا من التاريخ بفطرتها وآدابها وأخلاقها وحكمها وأطوارها وتصاريفها في الحياة، ودولها في الدول، وخيالها اللامع الخاطف الذي هو أساس فنّها وآرائها في عالمي الكون والفساد. وكلّكم يعلم أن هذا اللسان ضاع من بيننا فأضعنا بضياعه كل ذلك التراث الغالي النفيس من دين وتاريخ، وأن اللغة هي المقوّم الأكبر من مقوّمات الاجتماع البشري، وما من أمة أضاعت لغتها إلا وأضاعت وجودها، واستتبع ضياع اللغة ضياع المقوّمات الأخرى.

ويأبى لكم الله والإسلام أن تضيعوا لغة كتاب الله ولغة الإسلام. يأبى لكم الله إلّا أن ترجعوا إليها لا لتحيوها، بل لتحيوا بها الفضيلة الإسلامية في نفوسكم ولتحيوا بها الحياة التي يريدها الله منكم، فجمعيتكم- بعون الله وبفضل هممكم- تركب لهاتين الغايتين من الوسائل كل ممكن، فمن محاضرات ودروس عامّة إلى دروس خاصّة إلى تنشيط وإرشاد لهذين، وهي تعتمد في الإعانة على القيام بهذا العهد الذي قطعته على نفسها- بعد الله- على كل من يصله صوتها من أبناء هذه الأمة، وهي تعتقد أنها لا تستغني عن الإعانة من أنصارها مهما قلت، وأنها لا تستغني عن حنكة الشيب وتجاريبهم، ولا عن اعتدال الكهول وحكمتهم ولا عن نشاط الشبّان وفتوّتهم، وإن تكافل هذه القوى الثلاث سيخرج للأمة الجزائرية جيلًا مزودًا بالإسلام الصحيح وهدايته والبيان العربي وبلاغته، عارفًا بقيمة الحياة سبّاقًا في ميادينها متحليًا بالفضائل عزوفًا عن الرذائل، عارفًا بما له وما عليه واقفًا في مستقر الحقيقة الواقع، لا في ملعب الخيال الطائر. أيها الإخوة الكرام، ليس من معنى سعي جمعيتكم لهاتين الغايتين أنها تعرض عما سواهما، وأنها لا تقيم الوزن لهذه العلوم التي أصبحت وسائل للحياة أو هي الحياة نفسها- كما ظنه الظانون بهذه الجمعية، فظنوا بها ظنّ من لم يفهم شيئًا من حقيقتها- فهي تعمل للغايتين وتعمل لما وراء الغايتين من كل نافع مفيد لا ينافي كليات الإسلام وأصوله. وإن في سماحة الإسلام الذي تدعو إليه، وفيما هو مقرّر في مقاصده من عدم التحجير على العقول أن تفكّر وعلى الأيدي أن تعمل، وعلى الأرجل أن تسعى، وعلى الألسن أن تتفتّق بكل مفيد، إن في كل ذلك لجوابًا للظانّين وردًا على ما ظنّوه. هذه هي غاية الجمعية التي تسعى لها وتبذل كل عزيز في الوصول إليها- وسواء تبدّلت الإدارة أو بقيت، وسواء واجهها الدهر بالبشر والطلاقة أو بالتجهّم والعبوس، وسواء أحسنت العبارات تأدية معناها للناس أو لم تحسن، وسواء خفّت لهجات الناشرين لدعوتها أو اشتدّت- فتلك هي الغاية، وتلك الحالات كلّها إنما هي أعراض تسرع بالجمعية في الوصول إلى الكمال أو تُبطئ، ولكنها لا تخرجها عن مبدإ ولا تزحزحها عن جادته. وإننا نبتهل إلى الله أن يقيّض لها في كل دور من أدوارها رجالًا مخلصين حكماء يستلمونها بيضاء نقية ويسلّمونها لمن بعدهم أشدّ ما تكون بياضًا وأشدّ ما تكون نقاءً، ويتلقّونها وهي أمانة وعهد فيؤدونها لمن بعدهم وهي أمانة وعهد. وأن يمكن لهم من وسائل التيسير كل ما عجزنا عنه وأن يسدّد خطاهم في حملها، ويشدّد عزائمهم في الدفاع عنها، وأن يقوّي بصائرهم في تحمّلها وأدائها، فما هي بميثاق الفرد للفرد ولكنّها عهد الجيل للجيل.

أيها الإخوة الكرام، إني لم أرَ مثلًا أضربه لجمعيتكم هذه، وهي لم تزل في المهد، إلا شيئًا نسمّيه تباشير الصبح، هو تلك اللمع المتفرقة من النور في الشرق قبل أن ينشقّ عمود الفجر، يرتاح لها الساري في ظلمات الليل؛ لأنه يرى فيها العنوان الصادق على قرب الخروج من المعاسف والخبط في مضلّات السبل. ويرتاح لها المهموم الساهر الذي يبيت يراعي النجوم لأنه يرى فيها متنفسًا لهمّه وسببًا لسلواه وإن لم تكن حدًا لبلواه. ويرتاح لها المقرور الشاتي لأنه يرى فيها مخايل من آية النهار. ويرتاح لها الناسك لأنه يسمع فيها الداعي المثوب بعبادة ربّه. ويرتاح لها الشاعر لأنه يرى فيها مسرحًا لخياله وأفقًا لروحانيته. ويرتاح لها العامل الملتذ بعمله لأنه يرى فيها الأَمَارة المؤذنة بقرب وقت العمل. ولكن هل يدرك النائمون شيئًا من تلك اللذة؟ نعم إن جمعية العلماء هي تباشير الصبح وسترونها تتصدّع عن فجر صادق، ثم عن شمس مشرقة. أطال الله أعماركم، أيها الإِخوة، حتى تتملّوا بكل ما في تلك الشمس من إشراق ونور وبهاء وجمال، وبكل ما تحمله تلك الشمس من أسباب الحياة.

ثلاث سنوات من عمر جمعية العلماء

ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء* ألحّت طائفة كبيرة من حاضري الاجتماع العام على الأستاذ الإبراهيمي أن يقول كلمة على أثر تلاوة الرئيس للتقرير الأدبي المنشور بهذا العدد من الشهاب، فارتجل خطبة بليغة كان لها وقع عظيم في نفوسهم فألحّوا عليه مرة أخرى أن يلخّص لهم تلك الخطبة لتنشر على قرّاء الشهاب في هذا العدد الخاص بالجمعية ففعل، وكتب ما وعته ذاكرته وذاكرة بعض الإخوان الحاضرين من معاني الخطبة وكثير من ألفاظها، وها نحن ننشرها شاكرين تفضّله، قال (1): ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الإخوة الكرام، ثلاث سنوات مرّت على هذه الجمعية المباركة وكانها يوم مر أو ليلة تقضت بالسهر، فإذا كانت المبادئ تدلّ عدى الخواتم فستمرّ عديها- إن شاء الله- السنون الكثيرة، وستستقبدها نامية مباركًا فيها، فلا تستقبلها إلا كما يستقبل الصائم عيده مثولة وأجرًا، واطراح كلف، والملجج في البحر صعيده، فرحً! وبشرى واستدبار تلف، ولا تستقبلها إلا عن سنة تحيا وبدعة تموت وحق يُشاد وباطل يُهدم، وحقيقة تثبت ووهم يتلاشى وفضيلة تنشر ورذيلة تقبر. ثلاث سنوات مرّت من عمر الجمعية وما هي بالشيء الكثير في أعمار المبادئ والمشاربع التي تستمدّ حياتها من العناصر الخالدة، وإن كانت شيئًا كثيرًا في أعمار الكائنات الحسية التي تستمذ حياتها من العناصر الفانية. ثلاث سنوات مرّت فعددنا مبدأها باليوم والشهر والسنة إذ كان من حق التاريخ أن يقول عنها كلمة، ومن حق هذه الكلمة أن تكون منتظمة ومن حق النظام أن يكون على وضع زماني مخصوص.

_ * مجلة "الشهاب"، الجزء التاسع، المجلد العاشر، أوت 1934، [ص:402]. (1) تعليق مجلة "الشهاب".

ثلاث سنوات مرّت على هذه الجمعية كما تمر لياليها السوداء على هذا البحر الأخضر فيعدها ولا تعده. وإذا كان أولها- وهو يوم- مبدأ لوجود الجمعية اصطلح عليه الناس يوم اصطلحوا على أن يقولوا: ولد فلان ومات فلان، فلا يكون بين وجوده وعدمه إلا مراحل تنتهي بيوم، فهل من معنى هذا أن لهذه الجمعية مراحل في الوجود تنتهي بيوم؟ كلا. إن وجود هذه الجمعية هو وجود الحقائق الخالدة، وإذا كانت تعمل لمعنى لا يحدّه الزمان فهيهات أن يحدّها ليل ونهار. إن هذه الجمعية كالسحاب ساقه الله إلى بلد ميت فلا يقلع حتى يحييه، وإذا كان إحياء المطر للأرض معنى فوق التحديد فكذلك معنى هذه الجمعية، وان سائق المطر للبلد الميت هو سائق هذه الجمعية لهذا الوطن المشرف على الموت. وإن جاعل المطر سببًا في إحياء الأرض هو جاعل هذه الجمعية سببًا في إحياء هذا الوطن، فليكفكف المبطلون من غلوائهم وليقصر المرجفون عن إِفكهم وليعلموا أنه لا راد لما الله سائقه وأنهم ليسوا، وإن اجتمعوا، بمعجزي الله. إن الحد الأخير الذي يحدده التاريخ لهذه الجمعية هو اليوم الذي يصبح فيه المسلمون كلّهم بهذا الوطن ولا مرجع لهم في التماس الهداية إلا كتاب الله وسنّة رسوله، ولا سلطان على أرواحهم إلا الله الحي القيوم، ولا مصرف لجوارحهم وإرادتهم إلا الإيمان الصحيح تنشأ عنه الأعمال الصحيحة فتثمر آثارًا صحيحة. هو اليوم الذي يصبح فيه المسلمون إخوانًا متناصرين أو أعوانًا متآزرين تجمعهم جامعة القرآن وإن فرّقت بينهم المناسب والأوطان. هو اليوم الذي يصبحون، وقد حطّموا القيود والأغلال التي أثقلتهم فذهبت بدينهم ودنياهم من أهواء اتّبعوها، وبدع في الدين ابتدعوها، وسفاسف ما أنزل الله بها من سلطان افتجروها واخترعوها. يوم يصبحون كما كان سلفهم ذاتًا واحدة تدبرها روح واحدة وتصرفها إرادة واحدة. يوم يصبح المسلمون متساوين في العبودية لله لا يعبدون غيره ولا يدعون سواه، ولا يسلمون وجوههم إلا إليه ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله. وقد عرفوا المقامات الثلاثة فأعطوا لكل مقام حقّه غير منقوص- عرفوا مقام الألوهية فأعطوه ما يستحق من توحيد وتمجيد، وعرفوا مقام النبوّة فأعطوه ما يستحقّ من تعظيم واحترام واقتداء وتأسٍّ، وعرفوا مقام أنفسهم فأعطوها ما تستحقّ من تزكية وتكميل بالاستقامة على صراط الدين، والتسابق إلى التفاضل بالتقوى والاهتداء بسنن الله في كونه وبسننه في دينه.

أيها الإخوة الكرام، يقول فريق من الناس ممن لم يرزق صوابًا في الرأي ولا سدادًا في التفكير، إن الجمعية فرّقت كلمة الأمة وجلبت عليها الاضطراب والفتنة والتشويش، في كلمات من هذا القبيل لا تصدر إلا ممن لم يعرف موقعه من الأمة ولا موقع الأمة منه، وليت شعري، متى كانت هذه الأمة مجتمعة حتى يقول قائل إن الجمعية فرّقتها؟ وأنّى لها أن تجتمع، وان أمامها في كل طريق ناعقًا ينعق باسم طريق وداعيًا يدعو إلى التفريق؟ بل كيف تجتمع وللشيوخ فيها ما للذئاب الضارية في قطيع الغنم؟ أم كيف تجتمع والشيوخ قد قسموها إلى مناطق نفوذ، وأحاط كل شيخ رعيته بأسوار منيعة من الترغيب والترهيب؟ كيف تجتمع وأتباع كل طريقة يعتقدون أنهم أهدى سبيلًا من أتباع بقية الطرق، وأن طريقتهم تضمن لسالكها الغنى في الدنيا وحسن الخاتمة عند الموت، وإن قتل النفس التي حرّم الله بغير حق؟ أم كيف تجتمع وفيهم من يرى من واجبات طريقته ومن شروط المحافظة عليها أن لا يصلي خلف طرقي آخر يخالفه في الطريقة- وإن اشتركا في لقب الإسلام- لا لشيء سوى ذلك؟ ونحن نقول لهم إذا كانت الأمة قبل اليوم متفرّقة وكلها على باطل، فهي اليوم- بحمد الله وبفضل هذه الجمعية- متفرقة وبعضها على الحق. وإن أهون الشرّين ما بعضه خير. ويقول فريق آخر إن هذه الجمعية ضالّة مضلّة، وإنها عاملة على هدم الدين في ألفاظ محوكة على نول من الباطل، وهؤلاء القائلون موتورون، والموتور معذور، فهم يتحاملون على الجمعية ويحملون لها بين جنوبهم مكائد وأضغانًا ويرون أنه لا يتم وجودهم إلا بعدمها، وقد ناصبها هذا الفريق العداوة من يوم تأسيسها، ورأى فيها نذير الشؤم وطائر النحس، ولمح فيها زوال سلطانه المحدود على هذه الأمة الضعيفة، فهو يرمي هذه الأقاويل بين أظهر الغافلين للنيل من كرامة الجمعية والتنقيص من قيمتها، إذ أعجزهم أن يقابلوا حقّها بباطلهم، وقد كانت هذه الطوائف كثيرة فقلّلها الله، ومعتزة بباطلها فأذلّها الحق. ولو أن هذه الطائفة أوتيت قليلًا من الرشد والإنصاف لكانت للجمعية مكان الأخ من أخيه، ولحمدوا لها سعيها في خدمة الأمة، ولعادوا من نحلهم المفرّقة إلى دعوتها الجامعة التي هي دعوة الله لخلقه على لسان أنبيائه. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

أيها الإخوة الكرام، إن هذه الجمعية التي هببتم لنصرها هي من جهة فكرة، وهي من جهة أخرى مشروع، وقد قام أفراد من أعضائها بخدمتها من الوجهة الأولى وبلغوا بها إلى درجة تغبط، وما كنا لنطمع بالوصول إليها في هذه المدة الوجيزة، وإن من أظهر آثار هذه الخدمة ما نراه من تيقّظ غشي الطبقات كلها، وما نراه من إشراق بدأَ يدبّ إلى مكامن السرائر من النفوس. وأما خدمة الجمعية من الوجهة الثانية، وهي أنها مشروع يسير بنظام، ويدار على أعمال تحتاج إلى مدد من رأي ومدد من مال، فالله يشهد أننا كلّنا مقصّرون في هذه الناحية تقصيرًا لا يغتفر. فقوموا بالواجب، أيها الإخوان، من خدمة المشروع كما قام إخوانكم بواجبهم في خدمة الفكرة، وإني أعيذكم بالله أن تكونوا من المقصّرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ملخص خطاب ألقي بنادي الترقي

مُلخصُ خطاب ألقي بنادي الترقّي*. طلبنا من الأخ محمد البشير الإبراهيمي أن يلخّص لنا خطبته التي ارتجلها في المأدبة التي أعدّتها إدارة نادي الترقّي العامر لمجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد انفضاض الاجتماع العام، فكتب لنا ما وعته ذاكرته منها، وها نحن ننشرها على قرّاء الشهاب تخليدًا لها وحرصًا على جمع أكثر ما قيل في هذا الاجتماع، وهذا نص ما كُتب (1): ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الإخوة الكرام، إن هذه الأمّة الجزائرية أمّة واحدة ولا كلام، ربّها الله وإمامها القرآن ونبيّها محمد ولغتها العربية ودينها الإسلام. وإنها تحمل ما تحمله الأمم من المقوّمات الكلية، وإن كانت لا تحمل ما تحمله الأمم من المؤهلات للحياة. وقد أخذت تشعر بنقائصها الاجتماعية وأخذت تتلمّس سبل الهداية لسدّ تلك النقائص، وتجلّى هذا الشعور في رغبتها الصادقة في العلم، ورغبتها الصادقة في التعارف والاجتماع، ومن الشواهد التي لا تُنكر والبيّنات التي لا يكابر فيها على هاتين الرغبتين ما رأيتموه بأعينكم في هذا النادي من اجتماع علماء الأمة ومتعلميها ومؤيدي العلم فيها، وما سمعتموه بآذانكم من الصرخات الداوية في رحاب هذا النادي. أيها الإخوة، إن أخوف ما نخافه على هذه الأمّة- وهي في الخطوة الأولى من نهضتها- أن تتشابه عليها السبل ويضيع صوابها بين تفاؤل المتفائلين وتشاؤم المتشائمين- وان تكبو في غبار هذه المشادات القائمة وفي ميدان الأنظار المختلفة- في أي الطرق هي أقرب للغاية وأمكن منها وأشد ملاءمة لروح الأمّة.

_ * مجلة "الشهاب"، الجزء التاسع، المجلد العاشر، أوت 1934، [ص:415]. 1) تعليق مجلة "الشهاب".

إن اختلاف الأنظار في أوائل نهضات الأمم ضروري وطبيعي ولكنه قد يطغى فيه غير المعقول على المعقول، فيكون ذلك عائقًا للسير ومطيلًا للمدة وقاطعًا عن التقلّم ومميتًا للشعور. أيها الإخوة، إن المهمة التي تقوم جمعية العلماء المسلمين بأدائها- وهي السير بهذه الأمّة إلى الحياة من طريق العلم والدين- هي أقوم الطرق وأمثلها وأوفقها لمزاج الأمة. وسيأتي يوم توضع فيه الموازين القسط للعاملين وستتبين الأمة الأوفياء من الغادرين والنصحاء من الغاشين، وستجزي هداتها تكرمة وذكرًا في الآخرين. أيها الإخوة، أنا لا أعتد من هذه الأمة بملايينها الستة، وهي على الحالة التي نراها عليها من التفكّك والتخاذل وضعف البصائر في دينها ودنياها، ولا أَعْتَدُّ من عناصر الحياة فيها إلا بهذا العنصر الذي بدأ يتكوّن حول عقيدة واحدة ومبدإ واحد، معتصمًا بالحق متسلّحًا بالصبر والثبات، متدرّعًا بالفضيلة، عالمًا أن الحياة في الدنيا للعاملين وأن العاقبة في الآخرة للمتّقين، وأن سنة الله كفيلة بذوبان العناصر الضعيفة كلها، وسيغتالها الجوع العقلي لأنها لم تعلم، وسيغتالها الجوع البدني لأنها لم تعمل، فلا يبقى إلا هذا العنصر المستعدّ للبقاء. فعلى العاملين من قادة هذه الأمة وهداتها أن يتعاهدوا هذا العنصر النامي بالعناية، وأن يحوطوه بالرعاية، وأن يأخذوا بيده إلى الكمال الذي استعدّ له، فلا يمضي زمن حتى تتكوّن لنا أمّة صحيحة العقول، صحيحة العقائد، صحيحة التفكير صحيحة الأبدان، صحيحة الأعمال. تلك هي الأمة التي نرجوها ونعلّق عليها الآمال. تلك هي الأمّة التي تمحو سيّئاتنا بحسناتها، ونتّكل عليها أن تثأر لنا من الزمان، وأن الاتكال على الضعيف ضعف، وأن الاتكال على القويّ قوّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

عرض الحالة العلمية

عرض الحالة العلميّة* (المحاظرة التي ألقاها الشيخ في صباح اليوم الثالث من أيام الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين). ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة الكرام، إن موضوع هذه المحاضرة- عرض الحالة العلمية- هو ثمرة اقتراح اقترحه علي الأخ الرئيس (1) بالأمس، فمن حقّه علي أن أشكره على إرشادي لموضوع قد يكون مفيدًا إذا جمعت أطرافه، ولكن أنّى لي ذلك وإن غيري لأملك به منّي. ولو ان الأخ الرئيس- سامحه الله- سلّط على هذا الموضوع نظرات المؤرّخ الصائبة المستقصية لكان خيرًا وأحسن تمثيلًا، وإذا كان من حقّه عليّ أن أشكره فمن حقّي عليه أن أحمِّله حظه من عهدة التقصير فيما قصرت فيه من موضوع يحتاج إلى بصيرة نافذة وذهن نيّر ووقت متّسع وأنا لا أملك شيئًا من هذه. وإني اخترت كتابتها لتكون أعون على التنسيق والضبط، وتنشر إذا رأيتم انها تستحق النشر، ولتبقى لي تذكرة أتسلى بها إذا رأيتم رفضها وعدم استحقاقها للنشر، وإن أعصى ما يتعاصى على الكاتب والخطيب ضبط الموضوع. فقد يطغى الموضوع على الكاتب أو الخطيب فتتفلّت حواشيه فلا يملك لها جمعًا وتند على فكره أشياء وإذا هو مقصّر من حيث أراد الكمال ومخطئ من حيث توخّى الإصابة. كثيرًا ما كنت أسمع الأخ الرئيس يعتذر في مقامات الكتابة ودواعيها (بأنه مدرّس)، كأن التدريس ومعاناته وأسلوبه واصطلاحاته ملكت عليه أمره وأضعفت منه ملكة الكتابة، وكنت أراه مع ذلك يأتي بالإبدل إذا كتب فأقول: لو أني كثرت من الدروس إكثاره،

_ * مجلة "الشهاب"، الجزء التاسع، المجلد العاشر، أوت 1934، [ص:386]. 1) الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.

لقفوت في الكتابة آثاره، فلما كثرت الدروس وساويته في عددها أو كدت تبلَّد طبعي وجمد فكري وجفّت قريحتي وجاءت النتيجة معي بالعكس، فعلمت أن كثرة الدروس قد تكون مددًا يمد، وقد تكون سدادًا يسدّ وعوائق تصدّ. فاسمعوا أيها الإخوة، كلامًا موضوعه ابن فكرة وانشاؤه ابن فكرة، فإن جاد فمنهما وإن قصر ففي قصر الوقت شافع للتقصير. أيها الإخوة الأعزاء، إن الإصلاح العلمي هو ناحية من نواحي الإصلاح الكثيرة التي يجب أن تعطيها جمعية العلماء المسلمين فضل اهتمام واعتناء، ولو لم يحدث من الحوادث ما جعل اتجاه الجمعية إلى الإصلاح الديني أقوى لكان الإصلاح العلمي أول ما تعالجه، وتبذل فيه جهودها لأنه ألصق باسمها وأكثر ارتباطا بحرفة رجالها، ويكفينا دليلًا على خطر الإصلاح العلمي وقيمته ان أكبر عناصر الإصلاح الديني الذي لا يمتري في لزومه عاقل يستمدّ قوّته من شيء يسمّى علمًا ومن أشياء تسمّى علماء، وقد سمعنا بآذاننا من يقول وقرأنا لمن يقول: إن الرجوع إلى الكتاب والسنّة ضلال مبين، ولمن يقول: البدع الدينية والعوائد الدينية. وهو مع ذلك معدود في العلماء على رغم أنوفنا، وقوله هذا معدود في العلم على رغم أنوفنا، وإذا كانت هذه الأقوال من العلم فمن العلم أيضًا أن تؤول ظواهرها إذا لم ترق لكم بواطنها، ولا يزال ظهر التأويل ذلولًا عند هذه الطائفة، فأما أن لا نعد تلك الأقوال من العلم ولا نعد أصحابها من العلماء فأمر لا يسلمه لنا كثير. إن تقديم الجمعية للإصلاح الديني على الإصلاح العلمي ضرورة اقتضاها طغيان الفساد في العقائد حتى أصبح من آثاره اللازمة التزهيد في العلم. وليس معنى هذا أن الجمعية لم تحم حول الإصلاح العلمي. فدروس رجالها واسلوبهم في دروسهم، كل ذلك أمثلة من الإصلاح العلمي ونهج جديد نهجوه له وطريقة تحتذى فيه، وإنما نريد أن المظهر الممتاز الذي ظهرت به الجمعية وتجلّت آثاره واشتهرت أخباره حتى غطّى على جميع مقاصدها هو الإصلاح الديني، وقد تكون دواعيه طبيعية ومنها ما أسلفناه. وقد يظن الظانون وتنطق ألسنتهم بهذا الظن، أن هذه المنكرات التي نحاربها ونشتدّ في حربها هي قليلة الخطر ضعيفة الأثر، وأننا غلونا في إنكارها وأنفقنا من الأوقات والجهود في حربها ما كان حقيقًا أن يصرف في ناحية أخرى أهم كالإصلاح العلمي. وفات هؤلاء الظانين أن من اللوازم القريبة لتلك المنكرات التي تشتدّ الجمعية في محاربتها التزهيد في العلم وإفساد الفطر وفشل العزائم وقتل الفضائل النفسية وإزالة الثقة بالنفس من النفس، وتضعيف المدارك وتخدير المشاعر وهي رذائل لا تجتمع واحدة منها مع ملكة علمية صحيحة فكيف بها إذا اجتمعت.

فكان من الحكمة أن تبتدئ الجمعية بتطهير النفوس من هذه الرذائل، وأن تجعل من صرخاتها عليها نذيرًا للناشئة أن تتلطخ نفوسهم بشيء من أوضارها، وأن تكون دروس رجالها مؤدية لغرضين: لغرض الإصلاح العلمي بأسلوبها ولغتها ومناهجها ونوع كتبها، ولغرض الإصلاح الديني بمعاليها ومواضيعها، حتى إذا تهيأت لها الأسباب لدراسات منظمة في مدارس منظمة وجدت نفسها وقد فرغت من وسيلة من أعضل الوسائل وأعصاها على العلاج وهي إعداد النفوس لانطباع الملكات العلمية الصحيحة فيها. وإذا كان الإصلاح العلمي بمعناه العام المتعارف- وهو اختيار أقرب طرائق الإلقاء لذهن المتعلم واختيار أقرب الكتب لأداء المعنى الصحيح ولفهمه وتدريبه على تطبيق النظريات على العمليات- إذا كان هذا الإصلاح لم يتم في مصر وتونس- وحالهما غير حالنا- وهما تملكان من الوسائل لذلك ما لا نملك، وتتصلان من النظام والإدارة بما لا نتصل به- مع صراخ المتعلمين وإلحاحهم ومناداتهم بضرورة الإصلاح ومؤاتاة روح النظام العصري لهم- فكيف يتم لنا شيء من ذلك ونحن قليل مستضعفون، لا نملك بعد الاعتماد على الله إلا ثقتنا بأنفسنا وأبناء بررة من شبابنا الصالح المرجو للصالحات المدخر لحمل راية الإصلاح بعدنا، المرشح لاقتحام ميادينه الذي لم يفسد التعليم القديم الجاف عليه أمرهُ ولم يخدش ملكاته، ومع ذلك فقد استطعنا أن نخطو في الإصلاح العلمي خطوات واسعة وأن نلفت الأنظار إلى عملنا القليل. وأمامنا سبيلان ستتخذهما الجمعية من وسائلها لغايتها من الإصلاح العلمي، أولهما: مؤتمر سنوي تعقده بالعاصمة العلمية مدينة قسنطينة يحضره كل القائمين بالتعليم من أعضائها العاملين، فتتبادل الآراء وتتلاقح الأفكار وتستفيض المباحث عن أصول التربية والتعليم وأقوم طرائقهما، وعن الأساليب والكتب التي تجمع بين العلم والعمل، وسيكون من نتائج هذا المؤتمر توحيد التعليم، وهو الرغبة التي لم تزل مناط آمال المصلحين بهذا الوطن. وثانيهما: عكاظ علمي سنوي تقيمه في مدينة الجزائر على أثر اجتماعها العام، وتمتد أيامه إلى ما فوق الأسبوع، ويلقي كل أعضائها العاملين محاضرات ليتمرّنوا على الخطابة في مواضيع الدعوة والإرشاد. وسيعمل المجلس الإداري لوضع نظام مفصّل لهذين المؤتمرين، فإذا تمّ لنا ما نريد منهما، ووفّقنا لتحقيقهما كانت الغاية منّا قاب قوسين أو أدنى. أيها الإخوة الأعزاء، عرض الحالة العلمية يتوقّف على مقارنة دقيقة بين الماضي والحاضر، وهذه المقارنة قد تشق على المؤرّخ الذي نريد أن يكون دقيقًا في مقارناته، فيستقي الحاضر من الواقع المشاهد ثم يرتقي السلّم ليشاهد القرن الثالث عشر آخره وأوله، والثاني عشر كذلك، فلا يجد من

الآثار العلمية الكتابية ما يكون مرآة تتجلّى فيها روح عصرها إلا بعض ما أبقته الليالي من رسائل في الاخوانيات تدلّ على مقام أصحابها في الأدب، ولا تدلّ على مقامهم في العلم، إذ كانوا لا يسمّون الأدب علمًا ولا يعتدون به ولا يقيمون له اعتبارًا، ومن أوراق في التوثيق والفتوى لا تدل على شيء، وليس بعد ذلك إلا توافه من لغو الحديث كانوا يسمّونها شعرًا وما هي من الشعر في شيء. وقد اطّلعنا على أكثرها، فإذا هي من لون واحد وإذا هي مصروفة في الغالب إلى مدح المشائخ والكبراء، وإذا هي أخت الأشعار الملحونة الرائجة في السوق لأنها منقطعة الصلة بالشعر في أعاريضه وأضرُبه، ومنقطعة الصلة بالعربية في ألفاظها ومعانيها، ومنقطعة الصلة بالخيال في تصرفه وانتزاعه. بل أنا أحكم بأن في الشعر الملحون ما هو شعر على الحقيقة، فقد سمعت من شعر القرن الماضي ما يفيض حكمة وحثًا على الفضائل والكمالات، وتخويفًا من الله والآخرة، وسمعنا منه ما يتضمّن المغازي والسير وإن كان معظمه كذبًا، ولكننا لم نجد لشعر إخواننا العلماء أثرًا في هذه المواضيع. وإذا كانت هذه المقارنة تعسر على المؤرّخ الذي يريد إرضاء الحقيقة على طريقة الواقع ويحمله النهم بحبّ الاطّلاع على الإشراف على ما وراء ذلك، فيرى أن العلوم العربية ضعفت في هذا الوطن منذ خراب أمصار العلم الكبيرة فيه كبجاية وتلمسان، ثم يخرج بنتيجة وهي أن ذلك الضعف الذي حلّ بالعلم من أول المائة العاشرة ألحَّ عليه حتى أودى به، ويقول لو كان علم لكانت آثار. وإذا كانت المقلّمة، من آثار ابن خلدون بهذا الوطن في المائة الثامنة، وبدائع السلك من آثار ابن الأزرق في المائة التاسعة فأين آثار القرن العاشر إذا استثنينا مؤلفات الأخضري وطائفة لا تتجاوز عدد الأصابع. ثم أين آثار القرن الحادي عشر وما بعده إلا بضع رحلات لا قيمة لها إذا قيست برحلة ابن بطوطة في الإحاطة، أو برحلة خالد البلوي في الأدب، أو برحلة ابن رُشيْد الفهري في المحاورات العلمية والرواية، أو برحلة التيجاني التونسي في التنسيق التاريخي. وإذا كان في هذه القرون عالم أجاد علمًا أو خلف أثرًا متقنًا- وهو ما لا ينكر- فهو كالشاذ من القاعدة فلا يرجح به ميزان المقارنة. إذا كانت هذه هي العقبة التي تعترض المؤرّخ فإننا بمنجاة منها في طريقنا إلى عرض الحالة العلمية في الوقت الحاضر، لأننا إنما نقارن يومنا بأمسنا وطورًا بطور فإن زدنا فجيلًا بجيل وحالًا بحال، فقد خلقنا كلنا بهذا الوطن فوجدنا علمًا لا نشكّ في أنه مأخوذ من علم كان قبله بصورته أو بما يقرب منها قوة أو ضعفًا. ووجدنا علماء لا نشك في أنهم أخذوا عن

علماء كانوا قبلهم مثلهم أو على مقربة منهم، لا نشك في هذا وإن كنا نعلم أن طريقة السلف في التزام السند العلمي واعتباره جزءًا من العلم قد اندثرت من أيام بجاية. وأن الحال لم يزل على ذلك إلى أن هبّت على هذا الوطن نفحة من نفحات الله في هذا العهد الأخير فأصبح كتاب الله يدرّس بكيفية حية مثمرة وعلى أساس أنه هداية عامة لجميع البشر، وانه حجة الله البالغة على خلقه في كل زمان وفي كل مكان، وأصبحت سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُدرّس من أصولها الصحيحة، ويبيّن فيها وفي كتاب الله مقارنة الحكمة للحكم والدليل للمدلول والعلم للعمل، وأصبحت العربية تدرّس بكيفية تؤدي إلى تحصيل الملكة القيّمة والذوق الصحيح، وأنتجت لنا هذه الدراسة شعراء نفاخر بهم وكتابًا وخطباء، وأصبح الشعر والكتابة والخطابة أدوات تقدّم ووسائل حياة لهذه الأمة إذا لم تنصرف في الفنون السخيفة التي كانت تنصرف فيها، ولم تضطرب في الميادين الضيّقة التي كانت تضطرب فيها، بل انطلقت أمام الحياة تمهّد لها السبيل وتفتح لها المغالق. فإذا قارنّا الآن فلنقارن حالنا قبل هذه النهضة بحالنا الآن- ونحن في عنفوانها- لنعلم أي مدى بلغنا وإلى أية مرتبة وصلنا، وليكون ذلك حافزًا لنا إلى التقلّم، ولنأنس بذلك كما يأنس المسافر حينما يقطع مرحلة من مراحل السفر. أيها الإخوة الأعزاء، إن أكبر ميزة يمتاز بها هذا الطور الذي نحن فيه من أطوارنا العلمية هي الاستدلال، فلقد كان العلم إلى ما قبل النهضة مباشرة عبارة عن أقوال يسلمها الشيخ لكتابه، وسلّمها التلميذ لشيخه، فإذا استقامت تراكيب الكتاب وأفادت معنى صحيحًا لم يكن في ذهن الشيخ قوة على التماس الدليل، ولم يكن من حق التلميذ أن يطالبه بالدليل، إذا تاقت نفسه إلى الكمال بمعرفة الشيء بدليله، أو انقدح في نفسه خاطر من شك في صحة تلك القضية فأراد أن يطرده بالدليل كما يطرد خاطر الشر بالاستعاذة بالله. ولقد كان التسليم أصلًا من أصول الأدب في جميع ما يعمر مجالسنا العلمية من الأحاديث، وإن هذا لهو المنفذ الواقع الذي دخلت علينا منه الخرافات والأحاديث الموضوعة والمبالغات السخيفة والآراء المضطربة وكبائر الغلو ومويقاته، حتى أصبحت كلها علمًا وأصبحنا مكرهين على تحمّله وأدائه، وإنما انتقلت إلينا عدوى هذه النزعة- نزعة التسليم- من مشائخ الطرق، فقد كانت مسيطرة على مجالسهم وخلواتهم وكانوا يأخذون أتباعهم فيما يأخذونهم به من أصول التربية بتحقيق معناها من أنفسهم ليروضوهم بها على الطاعة العمياء لهم، ومن كلماتهم التي سارت مثلًا "سلم تسلم" و "سلم للرجال في كل حال". فكان من آثار هذه النزعة في النفوس ما أنتم تعلمون وما أنتم تشاهدون وما أنتم تعانون.

ثم انتقلت هذه النزعة إلى مجالس العلم فسيطرت عليها وفتكت بعقول المعلمين والمتعلمين، وكان من آثارها هذا الارتخاء الذي نشاهده في ملكاتنا العلمية وهذا الفتور المستحكم الذي استحال إلى انحطاط وتَدَلٍّ في العلم، وقد يستحيل- إذا تمادى- إلى موت وعدم. فهذه إحدى جنايات القوم على العلم وإن لم يتعمدوها. ومن الحقائق أن العلم تأثر بالطرق وتعاليمها إلى حد بعيد، خصوصًا في هذا الوطن، ولو كان موضوع المحاضرة يسمح ببيان هذا التأثر وتحليله لبَيَّناه. فالغرّة اللامعة في جبين هذه النهضة العلمية هي اقتران العلم بدليله، فأصبح علماؤنا يعملون بالدليل، ويدعون إلى الدليل ويطالبون بالدليل، ويحكمون الدليل ولو في أنفسهم. ولقد هالت هذه النزعة القوية- نزعة الاستدلال- أُسراء المألوف وأحلاف الجمود فأكبروها ووسموها بأنها دعوى اجتهاد ودعوة إليه، واتّخذوا منها غميزة يَزِنون بها رجال الجمعية، وذريعة لصرف الأغرار من الطلبة عنها، وتحريك العامة عليها بما يهولون عليهم من أمر الاجتهاد ويعظمون من حرماته. وما بالهم- عافاهم الله- لا يفرّقون بين الاستدلال والاجتهاد، ولو أنصفوا لعلموا أننا دعاة نظر لا دعاة اجتهاد، ندعو إلى العلم التطبيقي العملي ونأخذ به أنفسنا قبل كل أحد، وأن تطبيق الجزئيات على الكليات ليس من الاجتهاد في شيء، وإنما هو روح العلم ولا علم بدونه. ثم ما لهم- سامحهم الله- يجمعون بين المتناقضات فيحجرون الاجتهاد على الأحياء والأموات إلا على طائفة معيّنة كانت في زمن معين، وقد مضت ومضى زمانها وجفّ القلم بأقوالها، ويبنون على هذا أنه لم يبق من سبيل في علم الدين إلا التقليد، قلنا ولمن؟ قالوا لأولئك المجتهدين، قلنا: سلّمنا فهلمّ بنا إلى كتبهم وآرائهم المتصلة الأسانيد إليهم، ولكنهم يتناقضون فيقلدون حتى في أدقّ دقائق العبادات العملية التي لا تؤخذ إلا من نص صريح من آية محكمة أو حديث صحيح- المهدي الوزّاني وابن الحاج- حتى فيما لا نسبة فيه للإمام ولا عزو لأحد من أهل التخريج. ومن غرائب تأثير الحق في نفوس المستعدين له أن هذه النزعة الاستدلالية قد تجاوزت آفاق الطلبة المزاولين للعلم إلى الطبقات التي تليهم، فأصبحت نفوسهم نزاعة إلى طلب الدليل في أمور دينهم، وأصبحت أبصارهم تخشع وأعناقهم تخضع إذا أقيم لهم دليل من آية قرآنية أو حديث نبوي ممن يعتقدون أمانته وصدقه، وإذا كان قصور أفهامهم قد قعد بهم عن فهم ما بين الدليل والحكم من صلة، فقد كان من ثمرات هذه النزعة الجديدة فيهم أنهم

صاروا عارفين بقيمة الدليل، ولا يقبلون الباطل حين يلقى إليهم بالسهولة التي كانوا يقبلونه بها، بل يترددون ويتوقفون وقد يفتق ذلك التردد والتوقف عن المخرج إلى الحق. وكم ألقموا المبطلين حجرًا وأغصوهم بِرِيقِهِمْ حينما يلقون إليهم بباطلهم فيقولون لهم: وأين الدليل؟ وما أثقلها من كلمة على نفوس ألفت التسليم وقادت الأمة بزمامه. فهذا تطور في أحوال العامة يبدو غريبًا لمن لم يبل غرائب النفوس البشرية، ويدعو للاغتباط والسرور، وأخرى هي أدعى للسرور والاغتباط وهي أن هذه الطبقات العامية التي تواظب على سماع الدروس والمحاضرات قد أصبحت تفهم العربية الفصحى حق الفهم بتأثير الممارسة والمران فلا يلتوي عليها غرض من أغراضها ولا يغمض عليها معنى من معانيها. ولقد بدأت دروسي ومحاضراتي في تلمسان بالعربية الفصحى وأَخَذْت نفسي بذلك أخذًا أصل فيه إلى درجة الاغراب أحيانًا، وكان لي من وراء ذلك الالتزام غرضان: أحدُهُما إقامة الدليل للمتعلمين باللغات الأجنبية على أن الفصحى لا تعيا بحمل المعاني مهما تنوعت وعلت، وأنها تَبُذُّ اللغات في ميدان التعبير عن الحقائق والخيالات والخواطر والتصورات، وقد بلغت من هذا الغرض ما أريد. والغرض الثاني أن أُحْدِث في نفوس العامة المحبين للعلم والدين أسفًا يقضّ مضاجعهم فَيَدُعُّهُم إلى تدارك ما فاتهم منها في أبنائهم. وكنت أرى من عامة السامعين حسن إصغاء ينبئ باهتمام عميق فأتأوله على أنه تآثر بالآيات والأحاديث التي يكثر تردادها في الدرس منزلة على ما سيقت له- والتأثُّر بكلام الله وكلام رسوله طبيعي في المسلم- وكم كنت أخشى أن يَنْفَضُّوا من حولي يومًا لعدم فهم ما يسمعون لولا أنني آوٍ إلى ركن شديد من كلام الله ورسوله. وما زلنا على هذا حتى فعل المران فعله وأصبحوا يفهمون ويذوقون ويخرجون وهم يتدارسون. وقد رجعت إلى العامية في بعض الدروس فاستهجنوها ونبت عنها أذواقهم، وإني لا أدري لماذا لا نعجب للعامي يتعلّم الفرنسية بالسماع ونَعْجَب- بل لا نكاد نصدق- له أن يتعلّم العربية بالسماع، مع أن العربية أقرب إلى عاميته وفطرته وروحه. وبلغني عن حاضري محاضرات الأخ العقبي في هذا النادي ما هو من هذا القبيل، ولقد سمعت بأذني من واحد منهم في طريقي إلى الحراش، وقد وقف بنا القطار في بعض مواقفه، فسمعنا رجلًا يسأل سؤالًا غير مشروع، فقال له صاحبنا بالعامية: "ما تقراش سورة الأنعام" إقرأ قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} الآية، وتلاها بلهجة صحيحة ثم تبيّن لي من حديثي معه أنه عامي وأنه واعٍ لما يسمع متأثر به.

أيها الإخوة الأعزاء، إن مجلى العبرة في هذا الحديث أن جمعية العلماء إن استطاعت أن تكوّن جمهورًا علميًا يفهم العربية الفصحى بالسماع كما يفهم الفرنسية بالسماع، فقد استطاعت أن تأتي بأعجوبة الدهر وأن تفتح للعلم طريقًا غير طريق الكتابة، وأن تعيد للعربية معجزتها الأولى وهي تفتق الأمية عن الحكمة في العرب. أيها الإخوة الأعزّاء، هذه الظواهر التي أطلنا القول فيها كلها من آثار ميزة الاستدلال وآثار الشيء تابعة له، فنحن لم نخرج عن موضوعنا: عرض الحالة العلمية. ومن أكبر الميزات التي يمتاز بها هذا الطور العلمي الذي نحن فيه العمل والإنتاج والدخول في الميادين العامة والتغلغل في شؤون الحياة، فقد كان الناس بهذا الوطن إلى ما يتصل بالنهضة لا يعرفون من العَالِمِ إلا رجلًا منعزلًا عن العالم. لا همّ له إلّا- بما يتصل بمعيشته، وأكبر أمره بينهم أن يفتيهم في المسائل الجزئية التي لا تتجاوز واحدًا كمسائل الصلاة والصوم أو اثنين كأحكام النكاح والطلاق أو حيًا وميتًا كموص ووصي أو إنسانًا وبهيمة كراعٍ وشاة وفذها. فهو يفتي في الطلاق ولا يبحث عن أسباب الطلاق الفاشية، ويفتي في الأيمان ولا ينهى الناس عن الحلف ولا عن الحنث فيه بعد انعقاده، ويحرّم الخمر والميسر ولا يبيّن للناس مضارّهما ولا يزجرهم عن تعاطيهما- وبالجملة فهو رجل انقطعت الصلة بينه وبين أهل زمنه، فإن قدرت له ملابسة الناس جمع جماعة قليلة يقرئهم درسًا خاصًا لا علاقة له بحالهم أو يتلو معهم حزبًا. أما المعرض العام، معرض الأمة الزاخر بالمفاسد والموبقات، فشيء لا شأن للعلم به، وأما هداية الأمة وضلالها فأمرهما- في نظره- موكول إلى الله الذي وكله إلى العلماء ... وبهذه السيرة التي كانوا عليها خرجت قيادة الأمة من أيديهم إلى أيدٍ لا تحسن قيادة الأمة ... ولو أنهم عملوا للصالح العام ولو قليلًا، لوجدنا الطريق معبّدًا ولخفّفوا علينا من هذا العناء الذي نقاسيه، ويا ليتنا خرجنا معهم كفافًا لا علينا ولا لنا، ولكنهم أبقوا من سكوتهم ضجة للمبطلين علينا، فما أنكرنا عليهم منكرًا تئط منه السماوات إلا وتصايحوا: لماذا لم ينكره العلماء قبلكم ومن العناد احتجاجك على ميت ... وويل لك إن سكتَّ ... وألف ويل إن نطقت ...

أيها الإخوة الكرام، إن خروج قيادة الأمة الإسلامية من أيدي العلماء هو أكبر الأسباب فيما وصلت إليه من انحطاط، وهو أمر قديم العهد، ونحن نعلم علم القطع أن علماءنا في القرون الوسطى كانوا وليس بأيديهم من أمر الأمة شيء، وأهم جهات الاتصال بينهم وبين الأمة وهي التدريس والإمامة والفتوى والقضاء؛ كانت تعطى لهم من أيدي الأمراء المستبدّين تفضلًا لا استحقاقًا، فإذا خطب الخطيب منهم فيجوز أن ينسى شيئًا أو أشياء مما يهم المسلمين ولكنه لا ينسى- أبدًا- الدعاء لأمير نصبه، أو الترخم على واقف يعيش من فضل جرايته، ولا زالت ألفاظهم في الدعاء والترحّم جاربة في الخطب الدينية إلى الآن بالشرق. أما مؤلفاتهم- رحمهم الله ورضي عنهم- التي خلفوها لنا في الفقه، فقد كتبوها وهم في ديارهم وخلواتهم، ولم يُبْنَ الكثير منها على مراعاة الأحوال العامة، وقد يبنون الأحكام في المعاملات على ما تقتضيه أنظارهم الخاصة، ويولدون من كلام من قبلهم اقتضاءات ووجوهًا من التأويل، فإذا خرجوا إلى السوق وجدوا اليد المصرفة لأزمة الأمة غير يدهم، والقانون الذي تسأس به الأمة تابعًا لأهواء الأمراء لا لما سَطَّروه وأتعبوا أنفسهم في تدوينه، ووجدوا سيف الاستبداد يأمر وينهى، ووجدوا أنفسهم في غمار العامة مسيرين بتلك اليد وبتلك الأهواء وبذلك السيف. ولذلك يرى الباحثون المحققون أن هذه التفريعات التي امتلأت بها كتب الفتوى لا ينطبق الكثير منها على مصالح الناس، لأنها لم تبنَ على رعاية تلك المصالح التي هي أساس حكمة التشريع، ولا سبب لذلك إلّا خروج القيادة الفعلية من أيدي العلماء. وكان من آثار ذلك أن جهل العلماء أنفسهم وأضاعوا مكانتهم الحقيقية، وكثيرًا ما اتخذهم الأمراء آلات لتسخير العامة وتسكين ثائرها. ثم انتقلت قيادة الأمة من أيدي الأمراء إلى أيدي الرؤساء الروحيين، وأصبح العلماء تبعًا لهؤلاء كما كانوا تبعًا لأولئك، ولا ذنب للعامّة في هذا كله وإنما الذنب ذنب العلماء الذين غفلوا أولًا وسكتوا آخرًا حتى خرج الأمر من أيديهم، وقد أدركنا من بقايا هذا السكوت المخزي أن شيخ الطريق الجاهل الأمِّي يجلس في مجالس الوعظ والتذكير، فيذكر مريديه بغير ما أنزل الله ويُجلِسُ بجنبه عالمًا مأجورًا على السكوت ليتّخذ من سكوته حجة وعونًا على إضلال العامة، ولعمري إن هذه شر نهاية وصل إليها المجتمع الإسلامي في كثير من أوطانه. أيها الإخوة الكرام، وما لي لا أذكركم بأوضح فارق جوهري بين حالتينا بالأمس واليوم وأجل ما استطعنا الوصول إليه في نهضتنا العلمية الحاضرة، وهو تكوين زعامة علمية حقيقية بهذا الوطن في أقرب مدة، وهي غاية قصرت عنها الأقطار الإسلامية الأخرى، فلم نعهد في الكثير منها إقرار الزعامة العلمية في نصاب. ولا زلنا نراها على كَثْرَةِ المتأهلين لها متغلغلة الركاب.

أما في وطننا هذا وفي نهضتنا هذه، فإننا نفخر بأنها بنيت على إقرار الزعامة العلمية، وأن النهضة العلمية كسائر النهضات لا تبنى إلا على أساس "الزعامة"، وأن جميع ما يعترض النهضات من بطء وإسراع تابع لوضع الزعامة ومستقرّها. وما دامت الموازنة بين أمسنا ويومنا، فقد كان علماؤنا بالأمس- ولا زالت بقاياهم إلى اليوم- وأمرهم فوضى وشملهم شتيت لم يكوِّنوا زعامة، ولم يعترفوا لزعيم. وإني لأذكر ذلك السكوت الذي يسود مجالسهم إذا اجتمعوا، وتلك النظرات التي يتبادلونها، وأذكر ذلك الملل الذي يغشى تلك المجالس. وأذكر تلك الأحوال التي تلبسهم إذا خلا كل واحد منهم بنفسه، فأصبح زعيم نفسه، وأذكر تلك الأساليب التي كنّا نسمعها من عالم إذا سئل عن ترجمة عالم وعن درجته في العلم أو عن فتوى أفتى بها أو رأي أبداه في مسألة نحوية، وأذكر تلك العبارات التي كانت تبدر منهم في تنقيص بعضهم بعضًا أمام العامة. أيها الإخوة الكرام، ومن الميزات التي لا يغفلها الباحث في عرض الحالة العلمية والموازنة بين الحالين، الاقتصار على لُباب العلم والرمي إلى أغراضه السديدة، واطراح القشور وما لا محصول له من المباحث، وإيثار العلم المفهوم على العلم المحفوظ. وقد بدأ اتجاه التعليم يستقيم، وظهر من آثاره اختيار الكتب العامرة المملوءة علمًا، المعينة على تكوين الملكات، الخالية من النظريات المجردة والمماحكات اللفظية، ولا نذهب بعيدًا في الفرق بين هذه الحالة وبين ما قبلها، فإن بقايا الحالة القديمة لا تزال موجودة ولا تزال هي الغالبة في مجالس التدريس، وإنما نريد التنويه بهذه الحالة التي بدأت بشائرها تخفق في جوّنا العلمي، مغتبطين بها راجين لها النمو السربع والرقي المستمرّ. أيها الإخوة، ومن مميزات هذا الطور الذي نحن فيه من أطوارنا العلمية روح التآخي المُنْبَثَّة بين هذه الطائفة من أعضاء الجمعية، والمحبّة التي ينطوون عليها لبعضهم ولإخوانهم في العلم، وإن تجافوا في المبدإِ، وأنهم إذا أغضبهم من عالم شيء فإنما هو خذله للحق أو نصره للباطل، وهو من نوع البغض في الله الذي أدبنا به الدين. وإن السبب الأقوى في هذا التآخي وهذه المحبّة هو الاتصال والتعارف، وستعمل الجمعية على تقوية هذه الروح في النفوس بتقوية أسبابها، فلا أحد أحوج إلى التعاون من هذه الأسرة العلمية، ولا يتم هذا التعاون ويؤتي ثمراته إلا بتآخٍ يغمرهم، ومحبة تربط بين قلوبهم حتى يكونوا قدوة صالحة لغيرهم، فمن العار أن يدعوا الأمة إلى التآخي، وهم غير متآخين، وإلى المحبَة وهم غير متحابين.

ومن مميزات هذا الطور الذي نحن فيه، اقتران العلم بعزة النفس والعزوف عن الدنايا، والتخلّق بمحامد الأخلاق وإظهار صولة العلم في مواقف الدفاع عن الحق، وهي صفات لازمة للعلم، فمن عجز عن جمعها معه في نفسه كان علمه وبالًا عليه. وإن هذه ميزة ما كنا نعرفها في الطبقة التي أدركناها من العلماء إلا قليلًا. وإن جمعية العلماء تفتخر بأن هذه الميزة الأخلاقية هي الصفة الغالبة على رجالها، وأنها أول مظهر ظهروا به على الأيام، ثم امتحنتهم الأيام فلم يزدهم ذلك إلا اعتصامًا بهذه الخلال، ولم يزدهم ذلك الاعتصام إلا إجلالًا ومهابة، وقد نبزهم خصومهم بكل نقيصة حتى إذا وصلوا من قائمة النقائص إلى سقوط الهمّة والطمع والمداهنة في الحق جمجموا، فإن تقوَّلوا فيها أتوا بالهذر الذي يردّه العدو قبل الصديق. ومن مميزات هذا الطور العلمي إتقان اللغة العربية علمًا وتعليمًا، وإجادتها تكلّمًا وكتابة وخطابة، فقد قامت هذه النهضة على ألسنة تنثر الدر من العلم، وألسنة تنفث السحر من البيان وأقلام تسيل رحمة في مواطن الرحمة، وتمجّ السمام أو تنثر السهام في مواطن الغضب للحق والذود عن الحق. وقد كانت لدروس الأخ الأستاذ ابن باديس- ولا نكران للحق- أقوى الآثار في تكوين هذه الملكات وتقويم هذه الألسنة وتثقيف هذه الرماح. فمن تلامذته كتّاب القطر اليوم، ومن تلامذته شعراء القطر اليوم، ومن تلامذته المفكرون والدعاة الذين هم دعائم الحركة الإصلاحية. وقد أصبح الطراز الأدبي الجزائري طرازًا مستقلًا يُحْتَذى ولا يَحتذي، ليست عليه مسحة التآثر والمحاكاة، وإذا كانت ناشئتنا متأثّرة بالتعاليم الزيتونية فإن ذلك التأثر لم يجاوز العلميات أما الأدبيات فلا. إخواني الأعزاء، بقيت عدة نواح عقلية روحية هي من مميزات هذا الطور العلمي الذي نحن فيه لم أشأ أن أقدّمها لكم بتراء مشوّهة لضيق الوقت. وبقيت عدة جهات عملية نظامية هي في باب الإصلاح العلمي أدخل منها في عرض الحالة العلمية، وقد أشرنا إليها في عرض الحديث المتقدم. ولعلّكم سمعتم ما يحمل محمل الإطراء لحالتنا والتنقيص لما سبقها؛ وهو أمر لا محيد عنه في باب الموازنة بين حالين. ونحن في هذه الكلمة نزن حاضرًا بماضٍ، ولو كنا نزن حالنا بما يجب أن نكون عليه لكان لنا نحو آخر من القول ننحوه، ولكان حقًا علينا أن نذكر النقائص والعيوب، ولكان نقصًا ما سمّيناه اليوم كمالًا.

وإن من نقائصنا المتّصلة بحالتنا العلمية الحاضرة ثلاثًا لا كمال معها، ومن المؤسف أن ناشئتنا العلمية المستشرفة إلى الكمال لا تفكر في السلبي منها ولا الإيجابي. هذه النقائص الثلاث هي: - ضعف الميل إلى التخصّص. - ضعف الميل إلى الابتكار. - الكسل عن المطالعة. وإذا كانت الأوليان متعسرتين لفقد دواعيهما، فإن الثالثة أقرب إلى الإمكان. الحقّ أقول إن شبابنا المتعلّم كسول عن المطالعة، والمطالعة نصف العلم أو ثلثاه. فأوصيكم يا شباب الخير بإدمان المطالعة والإكباب عليها، ولْتَكُن مطالعتكم بانتظام حرصا على الوقت أن يضيع في غير طائل. وإذا كنتم تريدون الكمال فهذه إحدى سبل الكمال.

مقدمة سجل مؤتمر جمعية العلماء

مقدّمة سجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء* انعقد المؤتمر السنوي الخامس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بنادي الترقي بالجزائر في يوم الأحد السادس عشر من جمادى الثانية عام 1354 والأيام الثلاثة الموالية له. فاجتمعت فيه الجزائر العربية المصلحة المجاهدة في سبيل العلم الصحيح والدين الحق واللسان المبين. وكان ذلك الاجتماع الذي ثوب داعيه فأسمع، وسمع واعيه فأهطع، تعبيرًا فصيحًا على تقدير المؤتمرين لدينهم ولغتهم ودليلًا ملموسًا على ما وصلت إليه حركة الإصلاح الديني من قوة وتغلغل في القطر الجزائري، فقد ضمّ هذا المؤتمر بين حناياه أبناء المدن والقرى والخيام، وجمع أبناء السواحل بأبناء الجبال وأبناء الصحاري، وسكّان الشرق بسكّان الغرب وتجلت كرامة جمعية العلماء في اجتماع قطر في ناد، وبحر في واد، ووطن في عطن. حضر ذلك الجمع الحافل- وهو ما بين عضو عامل في جمعية العلماء وعضو مؤيد لها- لسائق واحد إلى اتجاه واحد، وهو تأييد مبدإ الذي تعمل له جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهوّن عليهم ما لاقوا من مس اللغوب، وخفة الجيوب إيمانهم بمبدإ وفرحهم بنجاحه وعرفانهم لقيمته، جزاهم الله أحسن ما يجزي العاملين المخلصين لدينهم ولغتهم. تقدم المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين أمام المؤتمرين فأدى الحساب لا على المال ومآخذه ومصارفه فقط، بل وعلى تلك الأعمال الجليلة التي قام بها، والأمانة الثقيلة التي حملها، فشكروه معترفين بجميله، وأولوه ثقتهم الكاملة فيما مضى وفيما يأتي.

_ * من كتاب سجلّ مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي انعقد بنادي الترقّي بالعاصمة في سبتمبر سنة 1935، المطبعة الإسلامية الجزائرية، قسنطينة، [ص:1 - 4].

وقد سنّ رئيس جمعية العلماء في هذه السنة سنّة صالحة فعهد (في ظرف ضيّق) إلى طائفة من أعضاء الجمعية الإداريين والعاملين أن يضعوا تقارير محدودة في مسائل مهمّة لها الشأن الأول في اجتماعيات الجزائر، ولها المقام الأول من اهتمام جمعية العلماء، وهي: 1 - الأمية وآثارها وطرق مقاومتها. 2 - التعليم بقسميه المسجدي والمكتبي، وشرح أحواله وعوارضه التي هو عليها الآن وكيف ينبغي أن يكون. 3 - الإسراف المالي ومظاهره من الولائم والمآتم. 4 - الوعظ والإرشاد والطرق التي ينبغي أن يؤدى بها. على أن تلقى تلك التقارير في المؤتمر لتكون نموذجًا للأعمال التي تقوم بها الجمعية وليبدي ذوو الرأي آراءهم في طرق تنفيذها. قام كل واحد من المقرّرين بما عهد إليه، وسمع المؤتمر تقارير بليغة مؤثرة تحمل روح الخطابيات وقوّتها. ولا ندّعي أن تلك التقارير كانت كلّها وافية، ولكنها منبّهة على أغراض لها خطر ولها بال، وإن لم يبلغ البحث فيها حد الكمال. وستكون هذه التقارير معوانًا للباحثين العاملين وحملة الأقلام على طرق هذه المواضيع والإفاضة فيها والتوسّع في تفاريعها. وإنما بادرنا إلى الاعتراف بأنها غير وافية اعتذارًا معجلًا للناقدين بعد ظهور هذه النشرة. فالحق أن معظم تلك التقارير ينقصها عنصر ضروري من عناصر الكمال، ونعني به (الإحصاءات المدققة) وهو الأساس الذي تبنى عليه التقارير في هذا العصر. وأن بناء التقارير على أساس الإحصاء، استحضار للواقع بشواهده وبيّناته، وعرض محسوس يصير الغائب مشهودًا. ولكن عذر المقرّرين عن كل تقصير هو أن الوقت الذي حدّد لهم لا يتّسع للتبسّط في البحث والتقصّي والاحصاء والاستنتاج، وستعطى هذه المسألة في السنة الآتية كل ما تستحقّه من العناية، فتوزّع المواضيع على أهل الكفاءة والاختصاص في وقت واسع وتراعى فيها العمليات دون النظريات. ... وفي الاجتماع الإداري السابق للمؤتمر قرّر المجلس أن يسنّ في اجتماع هذا العام سنة أخرى صالحة حتى تكون له ميّزات محسوسة. تلك السنّة هي أن يخصّص يوم كامل في آخر الاجتماع للخطب والقصائد، وفتح هذا الباب لكل مستعدّ من الحاضرين بشرط أن تكون الخطبة مكتوبة قابلة للنشر، غير خارجة عن دائرة الأدب والعلم والدين. فقرّر المجلس

تمديد أيام الاجتماع إلى أربعة يخصّص آخرها لسماع الخطب رغمًا عما في ذلك من تضييق على الوافدين من أطراف القطر البعيدة. وقد تلقّى المؤتمر هذا القرار بالارتياح ورأى فيه تحقيقًا لغرض طالما جال في نفوس الأدباء، وهو إقامة عكاظ سنوي تتدرّب فيه ناشئتنا الإصلاحية على الكلام في العموميات، وتتمرّن على الخطابة ومناحيها لتستعدّ للقيام بالدعوة والإرشاد. وإن الخطابة لركن الإصلاح الركين. وقد نفّذ هذا القرار- مع ضيق الوقت أيضًا- وتمّت أعمال المؤتمر الرسمية في الأيام الثلاثة الأول، وكان اليوم الرابع حافلًا بالخطب المتنوّعة على نظام مقرّر، خطب فيه نحو من عشرين خطيبًا، وجاء دور الشعر فألقيت عدة قصائد. ... ولما انفضّ المؤتمر محققًا للآمال التي كانت معلّقة عليه، ونجح نجاحًا بعيد المدى برغم المتشائمين والمعاكسين. وكانت الظواهر التي امتاز بها عن الاجتماعات السابقة محسوسة ملموسة شهد بها كل من حضر وكل من سمع. وكافية لتسميته (مؤتمر) بعد أن كان يسمّى (الاجتماع العام) عهد إليّ إخواني أعضاء المجلس الإداري بجمع تلك التقارير التي ألقيت في المؤتمر والخطب التي تليت والقصائد التي أنشدت في اليوم الأخير، وترتيبها ونشرها في كتاب يطبع على نفقة الجمعية. اتفق المجلس الإداري على تسميته وشكله وعدد ما يطبع منه. وكذلك عهدوا إليّ بكتابة فصل يكون تصديرًا للنشرة وبتعقيب كل تقرير بكلمة في خلاصته وبيان كيفية تنفيذ ما فيه، لتكون مرجعًا للمكلفين بالتنفيذ من رؤساء شعب الجمعية وغيرهم. وقد امتثلت وفعلت، بقدر ما استطعت، إلا أن حوادث مفاجئة لم تكن تخطر لي ولا لإخواني على بال حالت بيني وبين تقديمه للطبع في الوقت المحدد فتأخّر عن منتظريه والمتشوّقين إليه أشهرًا. وإني الآن أتقدّم به إلى القرّاء معتذرًا لهم آسفًا على أن لم يكونوا قرأوه قبل اليوم، مؤكّدًا لهم أنه لا يد لي في هذا التقصير، جازمًا أن هذا التأخير لا يقلّل من قيمة هذا السجلّ ككتاب تاريخي، يسجّل درجة من الدرجات التي صعدتها الجمعية من سلّم الحياة ومرحلة من المراحل التي قطعتها. وإن كان يقفل من قيمته كنشرة سنوية. بل أزعم في ثقة أنه قد يأتي من المكروه محبوب، وأن نشره في وسط السنة هو بمثابة مؤتمر ثان، فلم يكد الناس ينسون روعة المؤتمر وبهجته حتى تفاجئهم ممثلة في سجلّ المؤتمر. ثم لا ينتهون من التأثر بهذا السجل الحافل حتى يغشاهم المؤتمر الآتي إن شاء الله على حال أتمّ، وشكل أكمل.

فلسفة جمعية العلماء

فلسفة جمعية العلماء* بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وإمام المتقين. وعلى آله وصحبه أجمعين. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. آمنت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إمامًا، وبسيدنا محمد نبيًا ورسولًا. أقسم ما كنت أدري لم فاضت نفسي بهذه الآية عندما أخذت القلم لأكتب هذا التصدير لنشرة جمعية العلماء؟ ولم جاشت بهذا الاعتراف الشامل لكليات الإيمان في هذا الوقت؟ ولكنني بعد أن كتبت الآية وسجلت الاعتراف وضعت القلم ورجعت إلى نفسي أسائلها فيما بيني وبينها: بأي شعور كانت مغمورة؟ أو أي انفعال كان يساورها حين أملت على القلم هذه الآية، وحين فاضت بهذا الإقرار الذي لا داعي إليه من مثلها في مثل هذا الوقت؟ فخفقت خفقة هي أشبه شيء بلفتة المذعور، كأنها تبحث عن هذا الشعور في الماضي المتصل بالحال، وتبين لي أنها كانت سابحة في جو من التفكير في حال المسلمين، واستعراض ماضيهم السعيد وحاضرهم الشقي، وتلمس الأسباب والعلل لهذا الانحطاط المريع، بعد ذلك الارتفاع السريع، وكأنها وقفت بعد ذلك الاستعراض موقف الحيران المدهوش تسأل: كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان. ولكن الأولين آمنوا فأمنوا

_ * من كتاب سجلّ مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بنادي الترقّي بالعاصمة في سبتمبر سنة 1935، المطبعة الإسلامية الجزائرية، قسنطينة، [ص:5 - 72].

واتبعوا فارتفعوا. ونحن ... فقد آمنا إيمانًا معلولًا، واتبعنا اتباعًا مدخولا. وكل يجني عواقب ما زرع. ثم أدركتها الرهبة فلجأت إلى الابتهال فالتقى اللسان والقلم على هذه الآية: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أما أن المسلمين الأولين سعدوا بالقرآن واتباع الرسول فهذا ما لا مراء فيه، وهو الحقيقة العارية التي جلاها التاريخ على الناس من جميع الأجناس، وزكاها بشاهدين من آثار العلم ونتائج العقل. فإن احتمل أن يجهل هذه الحقيقة جاهل فهم سواد المسلمين قبل غيرهم. وإن وقف باحث عند الظواهر السطحية وقال: سعدوا بالاتحاد مثلًا قلنا له: وما الذي وحدهم بعد ذلك التفرق الشنيع غير القرآن؟ أو قال قوم: استيقظت فيهم عواطف الخير ونوازع الشرف حين ماتت في الأمم فسادوها وقادوها، قلنا له: نعم. ولكن ما الذي أيقظ فيهم تلك العواطف وتلك النوازع وما هم إلّا ناس من الناس، بل قد كانوا قبل القرآن أضل الناس. وليسوا من جذم واحد حتى تتقارب فيهم النوازع الجنسية التي يتوارثها أبناء الجذم الواحد ويترابطون بها وسهل استيقاظها فيهم فجأة. لأننا لسنا نعني بالمسلمين الأولين العرب وحدهم، وإنما نعني بهم الأمم التي دانت بالإسلام في قرونه الأولى، تربت في كنف القرآن وتحت رعايته، وطبعت على غرار الهدي المحمدي. فحرر القرآن أرواحها من العبودية للأوثان الحجرية والبشرية، وحرر أبدانها من الطاعة والخضوع لجبروت الكسروية والقيصرية، وجلا عقولها على النور الإلهي فأصبحت تلك العقول كشافة عن الحقائق العليا، وطهر نفوسها من أدران السقوط والإسفاف إلى الدنايا، فأصبحت تلك النفوس نزاعة إلى المعالي مقدمة على العظائم. وحدد لها لأول مرة في التاريخ صلة الروح بالجسم ومدى تعاونهما في التدبير، وكيفية الجمع بين مطالبهما المتباينة، وعلمها لأول مرة في التاريخ كيف يستغل الإنسان استعداده وفكره، ففتح أمامه ميادين التفكر والاعتبار، وأمره أن يسير في الأرض ويمشي في جوانبها ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض. وقد كان الناس قبل القرآن على جهل مطبق بهذا (الاستعمار الفكري) حتى بينه القرآن الكريم، ووضع قواعده، وأرشدها لأول مرة في التاريخ أن الإنسان أخو الإنسان لا سيده ولا عبده، وأنّ فضله في المواهب، وأن تساوي الناس في استعمار الأرض تابع لتساويهم في النشأة، وهذا تقرير لمبدإ المساواة وهو المبدأ الذي لم يسبق الإسلام إليه سابق، ولم يلحقه فيه لاحق، وإن زعم المتبجحون ... بهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوس بأصحابها تفتح الآذان قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسان الأرواح قبل الأشباح، وتعلن في صراحة القرآن وبيانه حقوق الله على الإنسان، وحقوق الإنسان في ملك الله، وحقوق الإنسان على أخيه الإنسان. إنّ الذي صنع هذا كله- وأبيك- للقرآن.

ولكن ما هو هذا القرآن الذي نكرره في كل سطر؟ أهو هذه (الأحزاب الستون) أو (الأجزاء الثلاثون) التي نحفظها وننفق على حفظها سنوات الطفولة العذبة، وسنوات الشباب الزهر. ثم لا يكون حظنا منه عند هجوم الكبر إلا قراءته على الأموات بدريهمات، واتخاذه جُنة من الجِنَّة وغير ذلك من الهنات الهينات؟ إن كان هو هذا فَلِمَ لم يفعل في الآخرين فعله في الأولين؟ ولمَ نرى حفاظه اليوم- على كثرتهم- أنقى الناس من هذه المعاني التي كان القرآن يفيضها على نفوس حفاظه بالأسى؟ ونجدهم دائمًا في أخريات الناس أخلاقًا وأعمالًا حتى لقد أصبحوا هدفا لسخرية الساخر، يتكسبون بالقرآن فلا يجديهم، ويقعون في المزالق فلا يهديهم، مع أنهم يقرأون فيه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. فنعم: إن القرآن هو هذه الأحزاب الستون التي نقرأها اليوم بألفاظها وحروفها ونقوشها، منقولًا بالتواتر القطعي، محفوظًا بحفظ الله من كل ما أصاب الكتب السماوية من قبله من النسيان والتبديل وتحريف الكلم عن مواضعه. كبر بتواتره عن الاسناد والمسندين، وشهادة المعدلين والمجرحين، قد نيّف على ثلاثة عشر قرنًا ولم يشك المسلمون في حرف منه فضلًا عن كلمة، وفي الأرض عدد حصاها أعداء له يتمنون بقاصمة الظهر أن لو ينطفئ نوره، ويستسر ظهوره، ويرضخون في سبيل محوه من الأرض بما كسبت الأيدي واحتقبت الخزائن من الأموال، وبما أخرجت بطون النساء من الرجال، وبما أنتجت القرائح من مكر واحتيال وكيد ومحال. فلم ينالوا منه نيلًا إلا مضضًا تنطوي عليه جوانحهم، ووغرًا تنكسر عليه صدورهم، وشجى تنثني عليه لهواتهم، وحقدًا تغلي مراجله في نفوسهم، وقد أبقاهم الله وأبقى لهم منه المقيم المقعد وهم بهذا الحال وهو بهذا الحال إلى يومنا هذا، فلينم المسلمون ملء جفونهم، ولينعموا بالًا من هذه الناحية، وليعلموا أن القرآن أُتِيَ من قبلهم ... ولكن سر القرآن ليس في هذا الحفظ الجاف الذي نحفظه، ولا في هذه التلاوة الشلاء التي نتلوها، وليس من المقاصد التي أنزل لتحقيقها تلاوته على الأموات، ولا اتخاذه مكسبة، والاستشفاء به من الأمراض الجسمانية. وإنما السر كل السر في تدبره وفهمه، وفي اتباعه والتخلق بأخلاقه. ومن آياته {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، ومن آياته {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} و {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}.

تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام

هذه هي الطريقة الواحدة التي اتبعها المسلمون الأولون فسعدوا باتباعها والاستقامة عليها، وهذا هو الإسلام متجليا في آيات القرآن، دين واحد جاء به نبي واحد عن إله واحد، وما ظنك بدين تحفه الوحدة من جميع جهاته؟ أليس حقيقًا أن يسوق العالم إلى عمل واحد وغاية واحدة واتجاه واحد على السبيل الجامعة من عقائده وآدابه؟ أليس حقيقًا أن يجمع القلوب التي فرقت بينها الأهواء، والنفوس التي باعدت بينها النزعات، والعقول التي فرق بينها تفاوت الاستعداد؟ بلى والله إنه لحقيق بكل ذلك. ... إن الإسلام في جوهره لإصلاح عام منَّ الله به على العالم الإنساني بعد أن طغت عليه غمرة حيوانية عارمة، اجتاحت ما فيه من فطرة صالحة ركبها رب العالمين، وما فيه من أخلاق قيمة وشرائع عادلة قررها الهداة من الأنبياء والمرسلين والحكماء المصلحين، وصحبتها غمرة وثنية وقفت في طريق الفكر فعاقته عن التقدم وابتلته بما يشبه الشلل، وقطعت الصلة بين الإنسان وبين خالقه، وعبّدت بعضه لبعض، ثم عبدته للأصنام وعبدته للأوهام، ولكن الله تداركه برحمته فجاءه بالإسلام بعد أن مدت هذه الغمرات مدها، وبلغت حدها، واستشرف لحال خير من حاله ونور يجلو ظلمته، وكان ذلك النور هو الإسلام. وكان مستقر الدين من نفوس البشر تتعاوره نزعتان مختلفتان وهما التعطيل المحض والشرك، وكان العالم كله يضطرب بين هاتين النزعتين وقد ملكتا عليه أمره فلا تسلمه المهلكة منهما إلّا للموبقة، ولم يسلم من شرهما حتى الملّيون الكتابيون، فجاءه الإسلام بالدواء الشافي وهو التوحيد الخالص مؤيدًا بالأدلة التي تبتدئ من النفس، وأن نظرة في النفوس حين تتجلى بغرائبها، ونظرة في الآفاق حين تتعرض بعجائبها لتفضيان بصاحبها إلى اليقين الذي لا شك بعده، وهذا هو ما حرمه البشر قبل نزول القرآن فوقفوا في الطرفين المتناقضين من شرك وتعطيل، وهذا هو ما دعا إليه القرآن فهداهم به إلى سواء السبيل. تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام: تلتقي الأديان السماوية في كلمة سواء ومقصد أعلى وهو جمع أهلها على الهدى والحق، ليسعدوا في الدنيا ويستعدوا لسعادة الأخرى. بهذا جاءت الأديان المعروفة، وبهذا نزلت كتبها. والقرآن الذي هو المهيمن عليها يخبرنا بأن كتاب موسى إمام ورحمة، وأن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس، وأنهما جاءا بما جاء به القرآن من الدعوة إلى عبادة إله واحد

والرجوع إليه وحده فيما يعلو كسب البشر، ومن بث التآخي بين الناس وعدم استعباد بعضهم للبعض، ومن الأمر بالخير والنهي عن الشر، ويخبرنا أن من وصايا الله الجامعة لتلك الأمم على ألسنة رسلها هي أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وأن تلك الأمم لم تحفظ وصية الله فتفرقت في الدين شيعًا، وجعلت السبيل الواحد سبلًا، واختلفت في الحق من بعد ما جاءها من العلم والبينات فقامت عليها الحجة وحقت عليها كلمة الله وكان عاقبة أمرها خسرًا. والقرآن يبدئ ويعيد في هذا الباب ويقص علينا من مبادئ بني إسرائيل ومصائرهم ومواردهم ومصادرهم ما فيه مزدجر، كل ذلك لنعتبر بأحوالهم، ولا نسلك الطريق الذي سلكوا فنهلك كما هلكوا. ولم يأل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمته نصحًا وابلاغًا في هذا الباب، وكيف لا وقد أنزل عليه ربه {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فكان أخشى ما يخشاه على أمته أن يدب فيها داء الأمم قبلها فتختلف كما اختلفت، وتتفرق في الدين كما تفرقت. وقد وقع ما كان يخشاه - صلى الله عليه وسلم -، فتفرقت أمته في الدين ولعن بعضها بعضًا باسم الدين، وأكل بعضها مال بعض باسم الدين، وانتهكت الأعراض والحرمات باسم الدين، واتبعت سَنَنَ من قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. ولم تنتفع بتلك العظات البالغة والنذر الصادعة من كلام الله وكلام رسوله، حتى حقت عليها الكلمة وصارت إلى أَسْوَإ حال من الخزي والنكال. ولعل لتلك الأمم الكتابية ما يشبه العذر في المصير الذي صارت إليه لضياع كتبها التي هي منبع الهداية بين التحريف والتبديل والنسيان والتأويل. أما هذه الأمة فإن حبل الله المتين فيها ممدود، وباب الفقه فيه مفتوح غير مسدود، ووارد منهله العذب غير مُحَلَّإٍ ولا مطرود. ولكن تناوله أولهم بالتأويل، وآخرهم بالتعطيل حتى اتخذوه مهجورًا، وجعلوا تفسيره وفهمه أمرًا محظورًا، فحرموا ما فيه من شفاء ورحمة، وعلم وحكمة، وبلاغ وبيان، وهدي وفرقان، ونور وحياة، وعصمة ونجاة، وباقيات صالحات، فلم يزالوا لاهين بالانتساب الصوري إليه، حتى دلتهم حوادث الدهر عليه، فاستشعروا- وهم بين براثن من السباع البشرية تتخطف، وصوالجة من الأمم الغالبة تتلقف- غيبة هاديه الذي كان يهيب بالأرواح إلى العز، وفقد حاديه الذي كان يسوق النفوس إلى الكرامة، واختفاء نوره الذي كان يجلو البصائر ويزيل الغمم. فأقبلوا يتلمسونه، وانثالوا عليه يتحسسونه، يرجون منه ما يرجو المدلج الحيران من انبلاج الفجر، وراعي السنين الغبر من انْهلال القَطْر، وقد قوّى أملنا في رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ما نراه من اصطباغ الحركة الإصلاحية الحديثة بالصبغة القرآنية، فهي سائرة إلى غايته، داعية إليه، مرشدة به، مستدلة بآياته، به تصول وبه تحارب، وعليه تحامي،

بدء تفرق المسلمين في الدين

ودونه تنافح، وما الحركة الإصلاحية في يومنا هذا بضئيلة الأثر ولا هي بقليلة الأتباع، وإن هذا لموضع الرجاء في رجوع المسلمين إلى القرآن. ... أي شباب الإسلام: حملة الأمانة ومستودع الآمال وبناة المستقبل وطلائع العهد الجديد. خذوها فصيحة صريحة لا تتستر بجلباب، ولا تتوارى بحجاب. إن علتكم التي أعيت الأطباء واستعصت على حكمة الحكماء هي من ضعف أخلاقكم ووهن عزائمكم. فداووا الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، وأسوا العزائم بالقرآن تقو وتشتد. وإن الذي قعد بأمتكم عن الصالحات وأعدها لها في أخريات القافلة هو اختلاف قلوبها وتشتت أهوائها. فأجمعوا على القرآن آخرها كما جمع محمد - صلى الله عليه وسلم - أولها، ينتج لكم هذا الآخر ما أنتجه ذلك الأول من عزائم شداد، وألسنة حداد، وهمم كبيرة، وعقول نيرة. وإن أول أمتكم شبيه بآخرها عزوفًا عن الفضائل، وانغماسًا في الرذائل فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة النعم، رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأمية أعلام العلم والحكمة. فإن زعم زاعم أن الزمان غير الزمان، فقولوا: ولكن الإنسان هو الإنسان. وإن هذا القرآن وسع الحياة الأبدية فبينها حتى فهمها الناس واعتقدوها وسعوا لها سعيها فكيف لا يسع حياتكم هذه ... ؟ أي شباب الإسلام: إن الأوطان تجمع الأبدان، وان اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها ويصل بين نكرات القلوب فيعرفها هو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة ولكن التمسوها في الدين والتمسوها من القرآن تجدوا الأفق أوسع، والدار أجمع، والعديد كثير، والقوى أوفر. بدء تفرق المسلمين في الدين: أقام سلفنا الصالح دين الله كما يجب أن يقام، واستقاموا على طريقته أتم استقامة، وكانوا يقفون عند نصوصه من الكتاب والسنة، لا يتعدونها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانت أدواتهم لفهم القرآن، روح القرآن وبيان السنة ودلالة اللغة والاعتبارات الدينية العامة، ومن وراء ذلك فطرة سليمة وذوق متمكن ونظر سديد وإخلاص غير مدخول واستبراء للدين قد بلغ من نفوسهم غايته وعزوف عن فتنة الرأي وفتنة التأويل.

أدبهم قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فكانوا أحرص الناس على وفاق، وكانوا كلما طاف بهم طائف الخلاف في مسألة دينية بادروه بالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله فانحسم الداء وانجابت الحيرة. وكان العلماء هم المرجع الأعلى للعامة في كل ما يحزبُها من شؤون دينها يرجعون إليهم بلا عصبية ويصدرون عن رأيهم بلا عصبية، وكان العلماء يمثلون الاستخلاف الديني والوراثة النبوية تمام التمثيل، يقودون الأمة بالحق إلى الحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا تأخذهم في الله لومة لائم. وأول ما نشأ في المجتمع الإسلامي من جراثيم التفرق في الدين الكلام في القدر والخوض في الصفات، وقارن ذلك حدوث الخلاف في الخلافة هل هي شعبة من الدين تفتقر إلى تنصيص من الشارع، أو هي مصلحة دنيوية ترجع إلى اختيار أهل الرأي من الأمة، وقد سبق الخلاف العملي الخلاف العلمي في هذه المسألة، وهي المعترك الأول الذي اشتجرت فيه الآراء حتى تطرفت، بعد أن اشتجرت فيه الرماح حتى تقصفت، كما أنها أول مسألة امتزجت فيها الأنظار الدينية بالأنظار الدنيوية (أو السياسة) كما يقولون اليوم، وفي هذا المعترك نبتت جرثومة التعصب الخبيثة. ثم توسعت الفتوحات وبسط الإسلام ظله على كثير من الممالك التي كانت لها أثارة من عمران وشيء من سلطان، ودانت له كثير من الأمم، وفي كل أمة طوائف دخلت في الإسلام وهي تحمل أوزارًا من بقايا ماضيها، وما كادت هذه المجموعات البشرية تمتزج ويفعل الإسلام فيها فعله، حتى ظهرت عليها أعراض التفرق. فظهر أصحاب المقالات في العقائد، وأحدثوا بدعة التأويل الذي هو في الحقيقة تحريف مسمى بغير اسمه. وتوفرت الدواعي لظهور المذاهب الفقهية والمذاهب الكلامية والمذاهب الصوفية في أزمنة متقاربة، وكان لترجمة الفلسفة اليونانية والحكمة الفارسية والهندية أثر قوي في تعدد المذاهب الكلامية والصوفية، بما أتت به الأولى من بحث في الالهيات على الطريقة العقلية الصرفة، وبما غذّت به المتكلمين من الأنظار المختلفة وأمدتهم به من طرائق الجدل وقوانينه، وهذا، هو مبدأ التفرق الحقيقي في الدين، لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام، والصوفية يقولون إن علومهم هي لباب الشريعة وحقيقتها. أما المذاهب الفقهية فحدوثها ضرووي وطبيعي ما دامت السنة لم تجمع، وبعد جمعها لم تكن وافية بالتنصيص على الوقائع. الجزئية، ومتونها وأسانيدها بعد خاضعة للتزكية

والتجريح لأنها لم تنقل بطريق التواتر، وما دامت مدارك المجتهدين الذين هم المرجع في هذا الباب متفاوتة بالقوّة والضعف في الاستنباط ووجوه القياس وعلله، وما دامت الوقائع التي تناط بها الأحكام لا تنضبط، وقد استحدث العمران أنواعًا جديدة من المعاملات الدنيولة لا عهد للإسلام الفطري بها، وصورًا شتى من المعايش ووجوه الكسب لم تكن معروفة، فمن سماحة التشريع الإسلامي ومرونته أن تتناول هذه المستحدثات الجديدة بأنظار جديدة، وتستنبط من أصوله أحكام لفروعها، وكل هذا لا حرج فيه وليس داخلًا فيما نشكوه، بل نحن أول من يقدر قدر تلك الأنظار الصائبة والمدارك الراقية، ويقيمها دليلًا على اتّساع التشريع الإسلامي لمصالح الناس، وصلاحيته لجميع الأزمنة، وينكر على من سدّ هذا الباب على الأمة فزهّدها في استجماع وسائله، ونحن أول من يقدر قدر أولئك الأئمة العظام الذين هم مفاخر الإسلام. والمذاهب الفقهية في حدّ ذاتها ليست هي التي فرقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزموا الناس بها أو فرضوا على الأمة تقليدهم، فحاشاهم من هذا، بل نصحوا وبينوا وبذلوا الجهد في الإبلاغ وحكموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل، والتفريع والتأصيل، ولهم في باب استخراج علل الأحكام، وبناء الفروع على الأصول، وجمع الأشباه بالأشباه، والاحتياط ومراعاة المصالح ما فاقوا به المشرعين من جميع الأمم. وإنما الذي نعده في أسباب تفرق المسلمين هو هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدهم للمذاهب، والتي نعتقد أنهم لو بعثوا من جديد إلى هذا العالم لأنكروها على أتباعهم ومقلديهم، وتبرأوا إلى الله منهم ومنها، لأنها ليست من الدين الذي اؤتمنوا عليه، ولا من العلم الذي وسّعوا دائرته. وكيف يرضون هذه العصبية الرعناء ويقرون عليها مقلدتهم، ومن آثارها فيهم جعل كلام غير المعصوم أصلًا وكلام الله ورسوله فرعًا يذكر للتقوية والتأييد إن وافق، فإن خالف أرغم بالتأويل حتى يوافق، وهذا شر ما بلغته العصبية بأهلها، ومن آثارها فيهم معرفة الحق بالرجال، ومن آثارها فيهم اعتبار المخالف في المذهب كالمخالف في الدين، يختلف في إمامته ومصاهرته وذكاته وشهادته إلى غير ذلك مما نعدّ منه ولا نعدده. وقد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وإنّ في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوبًا. أما آثارها في العلوم الإسلامية فإنها لم تمدها إلّا بنوع سخيف من الجدل المكابر لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا عاصم من شرور هذه العصبية إلّا صرف الناشئة إلى تعليم

فقهي يستند على الاستقلال في الاستدلال، وإعدادها لبلوغ مراتب الكمال، وعدم التحجير عليها في استخدام مواهبها إلى أقصى حد. ... وأما المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرق المسلمين وتمزق شملهم، ولكنها لما كان موضوعها البحث في وجود الله وإثبات صفاته، وما يجب له من كمال وما يستحيل عليه من نقص- كل ذلك من طريق العقل- كانت دائرتها محدودة وكان التعمق فيها من شأن الخواص، وقعد بالعامة عن الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته من جدل وعقليات يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحجاج، فليس علم الكلام كعلم التصوّف مطية ذلولًا يندفع لركوبها العاجز والحازم. فالتصوف شيء غامض يسعى إليه بوسائل غامضة، ويسهل على كل واحد ادعاؤه والتلبيس به. فإن خاف مدعيه الفضيحة لم يعدم سلاحًا من الجمجمة والرمز وتسمية الأشياء بغير أسمائها. ثم الفزع إلى لزوم السمت والتدرع بالصمت والإِعراض عن الخلق، والانقطاع والهروب منهم ما دام هذا كله معدودًا في التصوف وداخلًا في حدوده. ولا كذلك علم الكلام الذي يفتقر إلى عقل نير وقريحة وقادة وذكاء نافذ، ويحتاج منتحله إلى براعة وَلِسْنٍ ومران على المنطق ومقدماته ونتائجه وأقيسته وأشكاله. ولم كل هذه العدد؟ كل هذه العدد للمناظرات وما تستلزمه من إيراد ودفع وإفحام وإلزام. وأين العامة من هذا كله؟ لذلك لم يكن لها من حظ في هذا العلم إلّا معرفة أسماء بعض الفرق والانتصار لها انتصارًا تقليديًا، ولذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة، ولم تتغلغل في العامة كما تغلغلت آثار التصوف. وقد انقرضت تلك الفرق وانقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق، بل مات بموتها شاغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم، وجعل بأسهم بينهم شديدًا، وألهاهم بما يضر عما ينفع. تلاشت تلك الفرق ولم تبق إلّا أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ، والا آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء وتبصرة للحصفاء. ولم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموسًا في الأنساب إلّا اسمان يدوران في أفواه العامة وأشباه العامة ويستعملونهما في أغراض عامية وهما (أهل السنة والمعتزلة). ومن المحزن أن دراسة علم التوحيد حتى في كلياتنا (الراقية) كالأزهر والزيتونة لا تزال جارية على تلك الطرائق، وفي تلك الكتب، ولا تزال تقرر فيها تلك الآراء، ولا تزال تذكر فيها أسماء تلك الفرق التي لم يبق لها وجود. ويستعرض سيدنا المدرس تلك

الآراء ثم يدحضها ويقيمها ثم ينقضها. وتقتطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك. ويا ضيعة الأعمار! أما الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر ومبشرو المسيحية على الإسلام، ويفتنون بها العلماء فضلًا عن العوام، فإن كلياتنا (العلمية الدينية) ومدرسميها لا يعيرونها أدنى اهتمام، ولا يعمرون بها وقت الطلبة. فيا للفضيحة! ... وإذا نحن وازنا بين ما أجداه علينا علم الكلام وبين ما خسرناه بسببه وجدنا الخسارة تربو على الربح. فتوحيد الله مقرر في القرآن بأجدى بيان وأكمل برهان. وصفاته لا يطمع طامع أن يأتي في إثباتها بأكمل مما أتى به القرآن. وطريقة القرآن في التنزيه أقوم طريقة، وقد جرى عليها الصحابة فكانوا أكمل الناس توحيدًا مع أنهم لا يعرفون الجوهر والعرض. وهل يبقى زمانين؟ ولا الكم ولا الكيف بمعانيها الفلسفية الدقيقة. وعلى هذا فما معنى إضاعة الوقت وإعنات النفس في معرفة هذا العلم المسمى بعلم الكلام. ولو كان هذا العلم المستحدث ذا قواعد طبيعية لا تنقض، كقواعد الحساب أو الهندسة مثلًا، لخف ما يلقى الناس في تعلمه من عناء، ولكننا رأينا تلك القواعد تتهاوى في المناظرات القولية أو القلمية كفقاقيع الماء، فلا يكاد يبني الباني حتى ينبري له هادم ينقض ما بنى ويتبر ما علا. فوا أسفاه على تلك الحملات العنيفة التي كانت جهادًا ولكن في غير عدو. ووالهفاه على ذلك النقع المثار وقد انجلى عن غير فتح ولا غنيمة. وواحسرتاه على ذلك الذكاء الذي كانت تكاد تشف له حجب الغيب، ذكاء أبى بكر الباقلاني وفخر الدين الرازي وأبي الهذيل وابن المعلم، وقد ضاع فيما لا تعود على الإسلام منه عائدة، ولا تنجرُّ له منه فائدة. وإنك لتطالع تفسير الرازي مثلًا فتتلمح من جملته ذكاء يشع، وقريحة تتقد وألمعية تكاد تنتزع منك بنات صدرك، فتظن أن سيكشف لك عن الجهات المتصلة بنفسك من القرآن، ويجلي لك سنن الله في الأنفس والآفاق. وإذا بالظن يخيب والفال يكذب، إذ ترى تلك القوى مصروفة إلى جهة غير التي تريد. وترى الرجل وقد غلب على ذكائه وجرفته العادة التي تملكته إلى الآراء والعقليات وإثارة الشبهات. وترى ذلك الذهن العاتي يتخبط في مضائق هي دون قدر القرآن ودون قيمة ذلك الذهن، حتى ليسف فيزعم لك- مثلًا- أن أولي العلم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}، هم أهل الاصول ...

ونحن نعتقد أن الرجل وأمثاله من الأذكياء ما أتوا إلّا من غرامهم بهذه المباحث الكلامية واستهتارهم فيها. ويمينًا لو أن تلك الجهود التي تفرقت على الكلام تألفت على جهة عقلية أخرى لفتحت في العلم فتحًا أغر زاهرًا، ولتعجلت به الفخر للإسلام وأهله. وأما المذاهب الصوفية فهي أبعد أثرًا في تشويه حقائق الدين وأشد منافاة لروحه، وأقوى تأثيرًا في تفريق كلمة المسلمين، لأنها ترجع في أصلها إلى نزعة غامضة مبهمة، تسترت في أول أمرها بالانقطاع للعبادة والتجرد من الأسباب والعزوف عن اللذات الجسدية والتظاهر بالخصوصية، وكانت تأخذ منتحليها بشيء من مظاهر المسيحية، وهو التسليم المطلق، وشيء من مظاهر البرهمية وهو تعذيب الجسد وإرهاقه توصلًا إلى كمال الروح زعموا. وأين هذا كله من روح الإسلام وهدي الإسلام؟ ولم يتبين الناس خيرها من شرها لما كان يسودها من التكتم والاحتراس، حتى جرت على ألسنة بعض منتحليها كلمات كانت ترجمة لبعض ما تحمل من أوزار. فراب أئمة الدين أمرها، وانفتحت أعين حراس الشريعة فوقفوا لها بالمرصاد، فلاذ منتحلوها بفروق مبتدعة يريدون أن يثبتوا بها خصوصيتهم كالظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، إلى ألفاظ أخرى من هذا القبيل لا تخرج في فحواها عن جعل الدين الواحد دينين. وما كاد السيف الذي سلّ على الحلّاج وصرعى مخرقته يغمد ويوقن القوم أنهم أصبحوا بمنجاة من فتكاته، حتى أجمعوا أمرهم وأبدوا للناس بعض مكنونات أسرارهم ملفوفة في أغشية جميلة من الألفاظ، ومحفوفة بظواهر مقبولة من الأعمال. وحاولوا أن يصلوا نحلتهم تلك بعجرها وبجرها بصاحب الشريعة أو بأحد أصحابه فلم يفلحوا، وافتضحت حيلتهم وانقطع الحبل من أيديهم، فرجعوا إلى ادعاء الكشف وخرق الحجب والاطلاع على ما وراء الحس إلى آخر تلك (القائمة) التي لا زلت تسمعها حتى من أفواه العامة وتجدها في معتقداتهم. ثم أَمِرَ أمر هذه الصوفية وتقوّت على الزمن، والتقت مع الباطنية وغيرها من الجمعيات التي تبني أمرها على التستر على طبيعة دساسة وعرق نهل ومزاج متحد. واختلطت تعاليم هذه بتعاليم تلك، وتشابهت الاصطلاحات وابتلي المسلمون من هذه النحل بالداء العضال. وقد اتسع صدرها بعد أن تعددت مذاهبها، واختلفت مشاربها في القرون الوسطى والأخيرة من تاريخ الإسلامء فانضوى تحت لوائها كل ذي دخلة سيئة وعقيدة رديئة حتى أصبح التصوف حيلة كل محتال، وحلية كل دجال. وأن هذه الطرق المنتشرة بين المسلمين والتي تربو على المذاهب الفقهية عدًّا، كلها، على ما بينها من تباين الأوضاع، واختلاف الطباع، وتنافر الأتباع، تنتسب إلى هذا التصوف. ولكنه انتساب صوري اسمي، وشتان ما بين الفرع وأصله. فمبنى التصوف في أغلب مظاهره- كما أسلفنا- على الانقطاع والزهد في الدنيا، والتجرد والتقشف ورياضة النفس على المشاق وفطمها عن الشهوات. ومبنى هذه

آثار الطرق السيئة في المسلمين

الطرق في ظاهر أمرها وباطنه على حيوانية شرهة لا تقف عند حدّ في التمتع بالشهوات، والانهماك في اللذائذ واحتجان الأموال من طريق الحرام والحلال، واصطياد الجاه وحب الظهور والاختلاط بأهل الجاه وإيثارهم والتزلف إليهم. آثار الطرق السيئة في المسلمين: خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به ... ليعذرنا الشاعر الميت أو أنصاره من الأحياء إذا استعملنا مصراع بيته في ضد قصده. فهو يريد أن المشهود، أكمل من المفقود، ونحن نريد العكس. فإن أبوا أن يعذرونا احتججنا بأن الشاعر المرحوم هو الذي جنى على مصراعه فقد أرسله مثلًا وهو يعلم أن الأمثال "كالكومينال" (1) ارث مشاع، وقصاع بين جياع، تتناهب وتتواهب. ولم كل هذا الصراع. على مصراع. وأمثال قومي في البلاد كثير؟ ... ومع ذلك فلم يحضرني منها الآن إلا كل قبيح اللفظ، فأنا متمسك بحجتي في المصراع برغم أنف الشاعر ورغم أنوف أنصاره. خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به. والمقصود واضح، فإن قارئ هذا العنوان ربما تحلب ريقه طمعًا في أن ننقل له الغابر من الأخبار والمدون في الأسفار من هذه الآثار. فتقاضانا الكسل من جهة والحرص على تعجيل النفع له من أخرى أن نحيله على ما يراه مع مطلع كل شمس من هذه الآثار السيئة التي شتتت شمل المسلمين، وفرقت كلمتهم وفككت روابطهم، وتركتهم أضحوكة الأمم وسخرية الأجيال بعد أن أفسدت فطرتهم واقفرت نفوسهم من معاني الخير والرجولة. فإذا تأمل مليًا وجد في المشهود ما يغنيه عن التطلع للماضي المسموع واستفاد في آن واحد عبرة الحاضر وعظة المستقبل، وكفانا مؤونة الإفاضة والاستقصاء لأنه يعلم من الدراسة اليسيرة لهذا الحاضر المشهود أن كل ما يراه في المسلمين من جمود وغفلة، وتناكر وقعود عن الصالحات ومسارعة في المهلكات، فمرده إلى الطرق ومأتاه مباشرة أو بواسطة منها، فلا كانت هذه الطرق ولا كان من طرقها للناس.

_ 1) كلمة فرنسية ( communel)، ومعناها بلدي، نسبة إلى البلدية.

ومن مكرها الكُبَّار أن تعمد إلى العلماء وهم ألسنة الإسلام المنافحة عنه فترميها بالشلل والخرس، وتصرفها في غير ما خلقت له. فقد ابتلت هذه الطرق علماء الأمة في القديم بوساوسها وأوهامها حتى سكتوا لها عن باطلها، ثم لم تكتف منهم بالسكوت بل تقاضتهم الاقرار لها والتنويه والتمجيد، وابتلتهم في الحديث بدريهماتها ولقمها حتى زادوا على السكوت والاقرار الاتباع والانتساب، والوقوف بالأعتاب. حتى أصبحنا نرى العالم المؤلف يعرف نفسه للناس في صدر تأليفه بمثل قوله: فلان المالكي مذهبا الأشعري عقيدة التيجاني طريقة. وفي وقتنا هذا بلغ الحال بالطرق أنها أذلت العلماء إذلالًا واستعبدتهم استعبادًا. ولم ترض منهم بما رضيه سلفها من سلفهم من حفظ الرسم واللقب وإبقاء السمة والمكانة بين العامة، بل أغرت العامة بتحقيرهم وإذلالهم. ... وإذا كان الناظر في أحوال المسلمين ممن رزق ملكة التعليل وأراد إرجاع كل شيء إلى أصله الأصيل ومنبته الأول، فإنه لا يعسر عليه أن يرجع أمهات علل المسلمين الدينية والاجتماعية إلى هذه الطرقية الكاذبة الخاطئة، التي أصبحت من قرون فكرة تسود العالم الإسلامي وتتحكم في دينه ودنياه، وتتدخل في حياته وسياسته ثم تستحكم في طباعه، فإذا هو في غمرة من الذهول مطبقة أضاع معها آخرته ودنياه. إن أعظم مصيبة أصابت المسلمين- وهي جفاؤهم للقرآن وحرمانهم من هديه وآدابه- منشؤها من الطرق. فهي التي غشَّت المسلمين لأول ما طاف بهم طائفها. وغشيتهم بهذه الروح الخبيثة روح التزهيد في القرآن. وكيف لا يزهد المسلمون في القرآن وكل ما فيه من فوائد وخيرات وبركات قد انتزعتها منه الطرق، وجردته منها ووضعته في أورادها المبتدعة، ورسومها المخترعة، ونحلته شيوخها ومقدميها وصعاليكها؟ ولماذا يعنِّي الناس أنفسهم في فهم القرآن وتدبره، وحمل النفس على التخلق بأخلاقه والوقوف عند حدوده، إذا كان كل ما يناله منه- مع هذا التعب- يجده في الطريق عفوًا بلا تعب وبلا سبب أو بأيسر سبب. فإذا كان هذا القرآن يفيد معرفة الله- وهي أعلى مطلب- فالقوم عارفون بالله، وإن لم يدخلوا كتّابًا، ولم يقرأوا كتابًا. وكل من ينتسب إليهم فهو عارف بالله بمجرد الانتساب أو بمجرد اللحظة من شيخه. وقد كان قدماؤهم يتخذون من مراحل التربية مدارج للوصول إلى معرفة الله فيما يزعمون وفي ذلك تطويل للمسافة وإشعار بأن المطلوب شاق. حتى جاء الدجال ابن عليوه واتباعه بالخاطئة، فأدخلوا تنقيحات على الطريق ورسومًا أملاها عليهم

الشيطان. وكان من تنقيحاتهم المضحكة تحديد مراحل التربية (الخلوية) لمعرفة الله بثلاثة أيام (فقط لا غير)، تتبعها أشهر أو أعوام في الانقطاع لخدمة الشيخ من سقي الشجر، ورعي البقر، وحصاد الزرع وبناء الدور مع الاعتراف باسم الفقير، والاقتصار على كل الشعير، ولئن سألتهم لم نزلتم مدة الخلوة إلى ثلاثة أيام؟ ليقولن فعلنا ذلك مراعاة لروح العصر الذي يتطلب السرعة في كل شيء، فقل لهم: قاتلكم الله. ولم نقصتم مدة الخلوة، ولم تنقصوا مدة الخدمة أيها الدجاجلة؟ وقد قرأنا كثيرًا من رسائلهم التي يتراسلون بها فإذا هم ملتزمون لصفة واحدة يصف بها بعضهم بعضًا، وهي صفة (العارف بالله) وأكثر الطرقيين سخاء في إعطاء هذا اللقب هم العليويلة. ونحن ... فقد عرفنا كثيرًا من هؤلاء (العارفين بالله) فلم نعرفهم إلّا حمرًا ناهقة. فكيف تبقى للقرآن قيمة في نفوس الناس من هذه الناحية بعد هذا التضليل؟ وكيف لا يستحكم الجفاء بين الأمة وقرآنها مع هذا التدجيل والصد عن سواء السبيل؟ وإذا كان هذا القرآن متعبدًا بتلاوته اللفظية وهو ستون حزبًا فإن تلاوة انجيل التيجاني القصير وهو (صلاة الفاتح) مرة واحدة تعدل ستة آلاف ختمة من القرآن. وإذا كان القرآن قد شرع الغزو وهو من أحمز الأعمال وأشقها، فإن تلاوة هذا الإنجيل التيجاني مرة واحدة تعدل آلاف الغزوات، وهي لا تقوم إلا على حركة اللسان من غير اقتحام للميدان، ولا تعرض للرمح والسنان. وإذا كان القرآن يفرض الحج وفيه ما فيه من مصاعب ومتاعب، فإن انجيل التيجاني تعدل تلاوته آلاف المرات من الحج ومئات الآلاف من الصلاة كما هو منصوص في كتب التيجاني وكتب أصحابه. فأي تعطيل للقرآن أعظم من هذا؟ وأي تهوين لشعائر الإسلام ونقض لحكمها أكبر من هذا؟ وأي تزيين للتفلت من تلك الشعائر يبلغ ما يبلغه هذا الكلام من مثل هذا الدجال؟ اللهم إننا نعلم بما علمتنا أن دين التيجاني غير دين محمد بن عبد الله. وأنت تعلم أي دين هو، فضعه حيث تعلم وعامله بما يستحق. أما والله ما بلغ الوضاعون للحديث، ولا بلغت الجمعيات السرية ولا العلنية الكائدة للاسلام من هذا الدين عشر معشار ما بلغته منه هذه الطرق المشئومة. فإذا خرجت من هذا الباب، باب التزهيد في القرآن مقتنعًا بما بينا لك من الأمثلة فقد خرجت بنتيجة، وهي أن هذه الهوة العميقة التي أصبحت حاجزة بين الأمة وقرآنها هي من صنع أيدي الطرقيين.

وانظر الآن إلى الطرق وإلى أهل الطرق بعد أن باعدوا بين الأمة الإسلامية وبين قرآنها، وخلا لهم وجهها، وخلت جنبات النفوس من الحارس اليقظ، ومكنوا فيها خلق الخوف منهم والرجاء فيهم والطاعة والخضوع لهم، وأصبحت مقاليد العامة والدهماء -وهم معظم الأمة المحمدية- في أيديهم. أنظر في أي سبيل صرفوها؟ إنهم بعد أن أفسدوا فطرتها وأماتوا ما غرسه الإسلام فيها من فضيلة، وفككوا كل ما أحكم بينها من روابط أخوة، وراضوها على الذل والمهانة والخضوع وسدوا عليها منافذ النور فاستقامت لهم على ذلك، فرقوها فرقًا وقسموها إلى مناطق نفوذ يتزاحمون على استغلالها واستعمارها، وأغروا بينها. العداوة والتضريب والبغضاء، وإنك لتسمعهم يقولون الاخوة والاخوان فاعلم أنهم لا يريدون أخوة الإسلام العامة ولا يرعون من حقوقها حقًا، وإنما يريدون أخوة الشيخ وأخوة الطريق. وكل ما يجب عليك من حق فهو لأخيك في الطريق أعاذك الله منها. وأن هذه الأخوة القاطعة تفرض عليهم أن يبغضوا كل من لم يتصل معهم بحبل الشيخ، وينابذوه ولا يجتمعوا معه ولو في العبادات الشرعية كالصلاة وقراءة القرآن، أو البدعية كحلقهم الخصوصية، بل يبلغ الغلو ببعضهم (كالتيجانية) أن لا يصلوا خلفه ولا يصاهروه. وتسمعهم يقولون الإحسان وهم لا يريدون الإحسان الذي دعا إليه القرآن. وعندهم أن حق الشيخ قبل حق الزوجة والأولاد والآباء والأجداد، وحق الشيخ في المال قبل حق الفقير والمسكين. بل إنهم يصرفون لهم الزكاة كاملة وينقلونها لأجلهم من بلد إلى بلد. فأين حكمة الله في الزكاة؟ وأين مصارفها التي بينها القرآن؟ لعمرك إن الطرقية في صميم حقيقتها احتكار لاستغلال المواهب والقوى، واستعمار بمعناه العصري الواسع، واستعباد بأفظع صوره ومظاهره. يجري كل هذا والأشياخ أشياخ يقدس ميتهم وتشاد عليه القباب، وتساق إليه النذور، ويتمرغ بأعتابه، ويكتحل بترابه، وتلتمس منه الحاجات وتفيض عند قبره التوسلات والتضرعات، ويكون قبره فتنة بعد الممات كما كان شخصه فتنة في الحياة. ثم تتوالد الفتن فيكون اسمه فتنة، وأولاده فتنة، وداره فتنة وإذا هو مجموع فتون، تربو عدا على ما في مجموع المتون. وما ضر هؤلاء الأشياخ- وقد دانت لهم الأمة وألقت إليهم يد الطاعة ومكنتهم من أعراضها وأموالها- أن يأخذوا أموالها سارقين، ثم يورثونها أولادًا لهم فاسقين، يبددونها في الخمور والفجور، والسيارات والملابس والقصور. ما ضرهم أن تهزل الأمة إذا سمنوا؟ ما ضرهم إذا فسدت أخلاقها ما دام خلق البذل والطاعة لهم صحيحًا؟ ما ضرهم أن تتفرق كلمة الأمة ما دامت مجمعة على تعظيمهم واحترامهم، ومغضية على شرهم وإجرامهم؟

دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام

ولكن الذي يضيرهم ويقض مضاجعهم هو أن ترتفع كلمة حق بكشف مخازيهم وحيلهم الشيطانية، وتنفير الناس منهم وتحذيرهم من إفكهم وباطلهم؛ فهنالك تقوم قيامتهم وينادون بالويل والثبور، ويقاومون بما لا يخرج عن طريقتهم في التضليل ودس الدسائس، ويبلغ بهم الحال أن يتناسوا الفوارق الطرقية بينهم والمنافسات الاستعمارية والأحقاد القديمة، ويتصافحوا على (الزردة) (2) ويتقاسموا ولكن لا بأسماء أشياخهم، خشية أن تثور الثوائر الكامنة فيحبط ما صنعوا ... لأن هذه النقطة ليست محل تسليم. فهلا اجتمعتم بالأمس أيها الكاذبون. وهلا خيرًا من هذا وذاك وهو الرجوع إلى الحق. دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام: سيقول بعض الناس: ان ما ذكرتموه من آثار الطرق السيئة كله صحيح وهو قليل من كثير، ولكن هذه الطرق لم يعترها الفساد والافساد إلّا في القرون الأخيرة، وأنتم- معشر المصلحين- تذهبون في إنكاركم إلى ما قبل هذه القرون، وتتناولون فيما تكتبون وما تخطبون وما تدرسون المحدثين والقدماء والأصول البعيدة والفروع القريبة. حتى بسطتم ألسنتكم بالسوء إلى مقامات وأسماء كانت قبل اليوم كحمام الحرم. ولعل خصومكم يكونون أدنى للرجوع إلى الحق لو سكتم لهم عن هذه الأسماء. لهذا القائل نقول- بعد شكره على الاعتراف ببعض الحق- إن الجزء الأخير من كلامك مقتبس مما يشنع به علينا خصوم الإصلاح، وهو أننا ننبش القبور ولا نحترم الأموات، وننكر كرامات الأولياء ومراتبهم (من غوثية وقطبانية) إلى أكاذيب يلفقونها وأراجيف يتناقلونها عنّا. فاسمع يا هذا: إنء حجة الإسلام قائمة، وميزانه منصوب، وآدابه متمثلة في سيرة الصحابة والتابعين، واننا لا نعرف في الإسلام بعد قرونه الثلاثة الفاضلة ميزة لقديم على محدث، ولا لميت على حي، وإنما هو الهدى أو الضلال، والاتباع أو الابتداع، وليست التركة التي ورثناها الإسلام عبارة عن أسماء تطفو بالشهرة وترسب بالخمول ويقتتل الناس حولها كالأعلام، أو يفتنون بها كالأصنام. وإنما ورثنا الحكمة الأبدية والأعمال الناشئة عن الإرادة، والعلم المبني على الدليل. وإن المسلمين غلوا لق تعظيم بعض الأسماء غلوًا منكراً فأداهم ذلك الغلو إلى نوع غريب من عبادة الأسماء نعاه القرآن على من قبلنا ليعظنا ويحذرنا ما صنعوا. وقد عزل عمر خالد بن الوليد. وقال: خشيت أن يفتتن به الناس.

_ 2) حفلة يقيمها الطرقيون، فيها رقص وجذب مختلط، ويتناولون فيها الطعام.

ونحن حين نحكم على الأشياء نحكم عليها بآثارها. وآثار هذا الغلو في المسلمين كانت الشر المستطير والتفرق الماحق. ونحن إذ ننكر إنما ننكر الفاسد من الأعمال، والباطل من العقائد سواء علينا أصدرت من سابق أم من لاحق، ومن حي أم من ميت. لأن الحكم على الأعمال لا على العاملين، وليس صدور العمل الفاسد من سابق بالذي يحدث له حرمة أو يصيره حجة على اللاحقين، بل الحجة لكتاب الله ولسنّة رسوله، فلا حق في الإسلام إلا ما قام دليله منهما واتضح سبيله من عمل الصحابة والتابعين بهما، أو إجماع العلماء بشرطه على ما يستند عليهما. وبهذا الميزان فأعمال الناس إما حق فيقبل أو باطل فيرد. وقد روى الثقات عن الإمام مالك أنه من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا. وإنكاره على الإمام عبد الرحمن بن مهدي وضع الرداء أمامه في الصلاة وعده ذلك من الحدث معروف، وحكايته مع الرجل الذي سأله عن الإحرام من مسجد المدينة وقال له: إنما هي بضعة أميال أزيدها، واستشهاد الإمام بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، كل ذلك معروف مشهور. ومع أننا نعلم أن الطرق منتشرة في العالم الإسلامي وأن آثارها فيه متشابهة، وأنها هي السبب الأقوى في كثير مما حل به من الأرزاء والنكبات، وكثيرًا ما كانت مفتاحًا لاستعمار ممالكه، فإن حربنا موجهة أولًا وبالذات إلى طرقية الشمال الافريقي، وبينها من الوشائج ما يجعلها كالشيء الواحد. فعلى مقدار هؤلاء الذين نعرف جنسهم وفصلهم، وفرعهم وأصلهم نفصل القول، وإلى هذا الهدف نسدد السهام. والأمر بيننا وبينهم من يوم شنت الغارة دائر على أحوال وسائر على مراحل ينتقلون بنا من إحداها إلى الأخرى ولا نزال نطاردهم وهم يلتجئون من ضيق إلى أضيق إلى الآن. وذلك أننا لما أنكرنا عليهم باطلهم الذي يرتكبونه باسم الدين، زعموا أن الطريق هي الدين، ولما نقضنا لهم هذه الدعوى تنزلوا فزعموا أن لها حبلًا واصلًا بالدين وسندًا متصلًا بالسلف، ولما بينا لهم أن الحبل مقطوع وأن السند منقطع قالوا إن هذه الطرقية مرت عليها قرون ولم ينكرها العلماء، فبينا لهم أن عدم إنكار العلماء الباطل لا يصيره حقًا، ومرور الزمن عليه لا يصيره حقًا، وقلنا لهم إذا كان سلفكم في الطرقية يعملون مثل أعمالكم فهم مبطلون مثلكم، وإذا كانوا على المنهاج الشرعي فليسوا بطرقيين، ونحن نعلم من طريق التاريخ لا من طريق الشهرة العامة أن بعض أصحاب هذه الأسماء الدائرة في عالم التصوف والطرق

كانوا على استقامة شرعية وعمل بالسنة ووقوف عند حدود الله. فهم صالحون بالمعنى الشرعي، ولكن الصلاح لم يأتهم من التصوف أو الطرق وإنما هو نتيجة التدين، وفي مثل هؤلاء الصالحين الشرعيين إنما نختلف في الأسماء، فنحن نسميهم صالحي المؤمنين وهم يسمونهم صوفية وأصحاب طرق، فيا ويلهم إن طريقة الإسلام واحدة، فما حاجة المسلمين إلى طرق كثيرة. ثم ما هذا التصوف الذي لا عهد للإسلام الفطري النقيّ به؟ إننا لا نقره مظهرًا من مظاهر الدين أو مرتبة عليا من مراتبه، ولا نعترف من أسماء هذه المراتب إلّا بما في القاموس الديني: النبوة والصديقية والصحبة والاتباع ثم التقوى التي يتفاضل بها المؤمنون، ثم الولاية التي هي أثر التقوى، وإن كنا نقره فلسفة روحانية جاءتنا من غير طريق الدين ونرغمها على الخضوع للتحليل الديني. وهل ضاقت بنا الألفاظ الدينية ذات المفهوم الواضح والدقة العجيبة في تحديد المعاني حتى نستعير من جرامقة اليونان أو جرامقة الفرس هذه اللفظة المبهمة الغامضة التي يتسع معناها لكل خير ولكل شر؟ ويمينًا، لو كان للمسلمين يوم اتسعت الفتوحات، وتكونت (المعامل) الفكرية ببغداد ديوان تفتيش في العواصم ودروب الروم ومنافذ العراق العجمي، لكانت هذه الكلمة من "المواد الأولية" المحرمة الدخول ... فقد أصبحت هذه الكلمة التي غفلوا عنها أمًّا ولودًا تلد البر والفاجر. ثم تمادى بها الزمن فأصبحت قلعة محصنة تؤوي كل فاسق وكل زنديق وكل ممخرق وكل داعر وكل ساحر وكل لص وكل أفاك أثيم. وانظر طبقات الشعراني الكبرى وما طبع على غرارها من الكتب تجد أصناف المحتمين بهذه القلعة- وهم ببركة حمايتها- طلقاء من قيود الشريعة. وإن هذه القلعة لهي المعقل الأسمى والملاذ الأحمى لأصحابنا اليوم. فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي، وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي، وكل مسلوب العقل صوفي، وكل آكل للدنيا بالدين صوفي، وكل ملحد في آيات الله صوفي، وهلم سحبًا. أفيجمل بجنود الإصلاح أن يدعوا هذه القلعة تحمي الضلال وتؤويه أم يجب عليهم أن يحملوا عليها حملة. صادقة شعارهم "لا صوفية في الإسلام" حتى يدكوها دكًا وينسفوها نسفًا ويذروها خاوية على عروشها؟ إن احترام الصوامع والأديرة- لأن فيها قومًا فحصوا أرؤسهم وحبسوا نفوسهم- مشروط بما إذا لم تكن مأوى للمقاتلة، وإلا زال احترامها.

والحقيقة أن الطرقيين أرادوا أن يصبغوا طرقهم بالقدسية الدينية فانتحلوا لها هذه الأباطيل وأعطوها خصائص الدين كلها. ألم تر أنهم يعدون الخروج من طريقة ولو إلى طريقة أخرى كالارتداد عن الدين يموت فاعله على سوء الخاتمة قبحهم الله؟ فما هو إلّا خروج من ضلالة إما إلى هدى وإما إلى ضلالة أشنع. ولما فضحناهم من هذه النواحي كلها لجأوا إلى العامة يستصرخونها باسم الغيرة على الأوائل ... وأن كثيرًا منهم ليعني بالأوائل أباه القريب وجده. وقد كان في هؤلاء الأوائل الذين يعنونهم من ينتحل ظواهر من التدين، وفيهم من يفعل فعل الأبالسة. ونحن أدركنا كثيرًا منهم وبلونا أخبارهم فوجدنا ظواهر مموهة على بواطن مشوهة، وأكبر جرحة دينية فيهم عندي إقرارهم لتلك الأماديح الشعرية الملحونة التي كان يقولها فيهم الشعراء المتزلفون، وينشدونها بين أيديهم في محافلهم العامة، وفيها ما هو الكفر أو دونه الكفر من وصفهم بالتصرف في السموات والأرضين، وقدرتهم على الإغناء والإفقار وإدخال الجنة والإنقاذ من النار. دع عنك المبالغات التي قد تغتفر، كل ذلك وهم ساكتون، بل يعجبون لذلك ويطربون، ويثيبون المادح علمًا منهم أن ذلك المديح دعاية مثمرة تجلب الأتباع وتدر المال. ولو كانوا على شيء من الدين لما رضوا أن يسمعوا تلك الأماديح وهم يعلمون كذبها من أنفسهم، ويعلمون أن فيها تضليلًا للعامة وتغريرًا بعقائدها، وأن تلك الأماديح المنشورة بين الناس في وطننا هذا هي سر انتشار الطرقية وتغولها فيه، وقد سمعنا الكثير منها ولنا فيها وفيمن قيلت فيه فلسفة خاصة، سنفردها بالكتابة في فرصة أخرى إن شاء الله. وبالجملة، فهذا الطراز الطرقي الذي أدركناه من آباء وأبناء يجمعهم قولك طلاب دنيا وعباد شهوات. ولو أكلوا أموال الناس بالباطل من غير أن يتخذوا الدين شباكًا لهان أمرهم على الناس ولاتّقوهم بما يتقون به اللصوص، ولوكلناهم نحن إلى القوانين والوزعة. فأما أن يعبثوا بالدين كل هذا العبث، وبما حرم الله من أعراض المسلمين وأحوالهم ثم يريدون أن نسكت عنهم كما سكت العلماء من قبلنا، فلا والله ولا كرامة. ولعل أسخف طور مر على الطرقية في تاريخها هو هذا الطور الأخير. فقد أصبح من أحكامها أن شيخ الطريقة لا يلد إلّا شيخ طريقة. وهم- قطع الله دابرهم- لا يعرفون من السنة إلّا تناكحوا تناسلوا إلخ، فكثر نسلهم وكثرت بكثرته (مشائخ الطرق)، وأصبح أمر هذه المشيخة لا يتوقف على تربية ولا تسليك ولا إجازة، وإنما يتوقف على قاعدة "خبز الأب للابن" أو على شيء آخر وهو التولية الحكومية مثل ما نعلم عن مصر وتونس والجزائر من صدور الإرادات السنية والأوامر العلية والمراسيم الحكومية بولاية المشيخة الطرقية. فيا للسخرية ... وأغرب من هذا أننا رأينا لأول مرة في تاريخ الطرقية شيخ الطريقة بالانتخاب عند الطائفة العليوية المجددة العصرية (المودرن).

أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير

إننا لا نحمل لهؤلاء المشائخ ولا لأولادهم ولا لأحفادهم حقدًا ولا نضطغن عليهم شيئًا، ولا ننفس عليهم مالًا من الأمة ابتزوه، ولا جاهًا على حسابها أحرزوه، وليس بيننا وبينهم ترات قديمة، ولا ذحول متوارثة، ولا طوائل مغرومة. وإنما هو الغضب لله ولدينه وحرماته انطقنا فقلنا، وشنناها غارة شعواء على الآباء والأبناء، ما دام هذا الغصن من تلك الشجرة، ولو كنا من الشعريات بسبيل لقلنا مع القائل: لَا أَذُودُ الطَّيْرَ عَنْ شَجَرٍ … قَدْ بَلَوْتُ الْمُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير: لا نزاع في أن أول صيحة ارتفعت في العالم الإسلامي بلزوم الإصلاح الديني والعلمي في الجيل السابق لجيلنا هي صيحة إمام المصلحين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده- رضي الله عنه- وأنه أندى الأئمة المصلحين صوتًا وأبعدهم صيتًا في عالم الإصلاح. فلقد جاهر بالحقيقة المرة، وجهر بدعوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى الرجوع إلى الدين الصحيح والتماس هديه من كتاب الله ومن سنة نبيه، وإلى تمزيق الحجب التي حجبت عنا نورهما وحالت بيننا وبين هديهما مبينًا بصوت يسمع الصم، وبلاغة تستنزل العصم، ان علة العلل في سقوط المسلمين وتأخرهم وراء الأمم، وانحطاطهم عن تلك المكانة التي كانت لهم في سالف الزمن هي بعدهم عن ذلك الهدي الروحاني الأعلى. وانه لا يرجى لهم فلاح في الدنيا ولا في الآخرة، ولا صلاح حال يستتبع صلاح المآل، ولا عزة جانب، ترد عنهم عادية الغاصبين من الأجانب، إلّا إذا راجعوا بصائرهم، واسترجعوا ذلك الهدي الذي لم يغصبه منهم غاصب، وإنما هجروه عن طوع أشبه بالكره، واختيار أشبه بالاضطرار، فباءوا بالمهانة والصغار، والضعة والخسار. كانت تلك الصيحة الداوية من فم ذلك المصلح العظيم صاخّة لآذان المتربصين بالإسلام، ولآذان المبطلين من تجار الولاية والكرامات وعبدة الأجداث والأنصاب، ولآذان الجامدين من العلماء. وجموا لها وملكتهم غشية الذهول علمًا منهم أن أول آثارها إذا تغلغلت في النفوس هو قطع الطريق على المتربصين وهدم سلطان المبطلين الزائف، ومكانتهم الكاذبة، وجاههم الخادع، وجفاف المراعي الخصبة التي كانوا يسيمون فيها شهواتهم ولذاتهم، ونضوب المنابع الروية من المال التي كانوا يعلّون منها وينهلون. ولقد وقفوا بعد زوال تلك الغشية صفًا واحدًا في وجه ذلك المصلح يجادلونه بالبهت، ويكايدونه بالإفك، وألبوا عليه الألسنة والأقلام، ووقفوا له بكل مرصد، ورموه بكل نقيصة. فلم ينالوا منه نيلًا إلّا قولهم إنه كافر، وهنة وهنة، وهذه هي النغمة المرددة التي كان فقهاء

الجيل البائد في وطننا هذا وفي غيره يرددونها مقرونة بالسب واللعن، وقد ورثها عنهم أهل هذا الجيل واشتقوا منها اشتقاقات غريبة، وهي أسلحتهم التي يقذفون بها في وجوه المصلحين كلما أعيتهم الحجة، وأعوزهم الدليل. وكان الأستاذ الإمام أعجوبة الأعاجيب في الألمعية وبعد النظر وعمق التفكير وحدة الخاطر واستنارة البصيرة وسرعة الاستنتاج واستشفاف المخبآت، حكيم بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معنى. منقطع النظير في صدق الإلهام وسداد الفهم، وصدق العزيمة، وخصب القريحة واستقلال الفكر، ونصاعة الاستدلال، وتمكن الحجة. موفور الحظ من طهارة الدخلة، والانطباع على الفضيلة، مستكمل الأدوات من فصاحة المنطق، وذلاقة اللسان، وقرطسة الفراسة، ودقة الملاحظة، وسلاسة العبارة، ومطاوعة البديهة، ورباطة الجأش، وكبر الهمة ووفرة الملكة الخطابية، وقوة العارضة في البيان، واتساع الصدر لمكاره الزمان وأهله. حجة من حجج الله في فهم أسرار الشريعة ودقائقها وتطبيقها، وفي البصر بسنن الله في الأنفس والآفاق، وفي العلم بطبائع الاجتماع البشري وعوارضه ونقائصه. وبالجملة، فالرجل فذ من الأفذاذ الذين لا تكونهم الدراسات وإن دقت، ولا تخرجهم المدارس وإن ترقت، وإنما تقذف بهم قدرة الله إلى هذا الوجود وتبرزهم حكمته في فترات متطاولة من الزمن على حين انتكاس الفطرة، واندراس الفضيلة وانطماس الحقيقة، فيكون وجودهم مظهرًا من مظاهر رحمة الله بعباده وحجة للكمال على النقص، وإصلاحًا شاملًا وخيرًا عميمًا. ولو أن قول الشاعر: هَيْهَاتَ لَا يَأْتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِ … إنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَبَخِيلُ لم يبتذله المترجمون للرجال بوضعه في غير موضعه حتى صاروا ينشدونه في حق أشخاص يتكرم الزمان علينا بمآت من مثلهم في كل جيل، لولا هذا الابتذال السخيف لهذا البيت لقلنا: إن أحق رجل بانطباقه وصحة إطلاقه عليه هو الأستاذ الإمام. فرضي الله عن الأستاذ الإمام. حمل لواء الإصلاح بعد موت الإمام تلميذه الأكبر ووارث علومه السيد محمد رشيد رضا. وقد كان في حياة الإمام ترجمان أفكاره باعتراف الإمام، والمنافح عنه والمدافع دونه. واضطلع بعد موته بحمل أعباء الإصلاح حين نكل عن حملها أقوام، وضعف عن حملها

أقوام، واستقل بتسيير سفينته فكان الربان الماهر وأقام على مبادئ أستاذه وفيًا لها وله، فتمادى على إصدار التفسير على منهاج الإمام من حيث وقف الإمام، وجمع تاريخ حياة الإمام فكان أضخم عمل استقل به فرد، وليس تاريخ الأستاذ الإمام بالأمر الهين الذي يقوم به فرد، لو لم يكن ذلك الفرد (رشيدًا). كان أكمل آثار الشيخ رشيد في حياة الإمام إنشاء مجلة المنار، وأنفس ذخر علمي اشتملت عليه هو دروس الإمام في التفسير التي هي النواة الأولى لتفسير المنار. وتلك الفتاوى الجليلة التي كان ينشرها في أمهات العقائد والأحكام على ذلك النحو العجيب من الاستقلال في الاستدلال. ولعمري، لو أن رشيدًا قصر كما قصر غيره ولم يجمع خلاصات دروس الإمام، لأضاع على العالم الإسلامي كنزًا علميًا لا يُقوّم بمال الدنيا. بارك الله في أوقات الأستاذ رشيد، فاستمر بعد موت الإمام على إصدار المنار واتسق أفق انتشاره في الأقطار الإسلامية وكثر قراؤه- أو تلامذته كما كان يقول رحمه الله- وأحدث، حتى في أصلبها عودًا وأشدها جمودًا، انقلابًا فكريًا في فهم الدين وصلته بالدنيا، وألف المؤلفات الكثيرة، ونشر من مؤلفات المصلحين من القدماء ما زاد به الإصلاح الحاضر تمكينًا ورسوخًا، فكانت تلك المؤلفات غذاء صالحًا للنهضة العلمية، وساهم في الإصلاح العلمي والإصلاح السياسي لقومه، وبني وطنه، وإن كانت بعض آرائه في هذا الأخير لا تخلو من الشذوذ. وكان طول حياته بلاء مسلطًا على طاثفتين: دعاة التدجيل من المسلمين ودعاة النصرانية من المسيحيين. فلم نعرف في التاريخ من فضح الطائفتين شر فضيحة غير الأستاذ السيد رشيد. وإن أزهر الصحائف في سجل حياته هي تلك المواقف العاتية التي كان يقفها في الدفاع عن الإسلام ونصره، ورد عوادي الكفر والضلال عنه. وعاش ما عاش مرهوب شباة اللسان مرهوب شباة القلم، إلى أن لحق بربه راضيًا مرضيًا في هذا العام. فشعر العالم الإسلامي بأن خسارته فيه لا تعوض. وان من واجب الوفاء والاعتراف بالفضل لأهله، أن نجري ذكره بما يتسع له المقام في هذه النشرة الإصلاحية التي تمت إلى أعماله ومبادئه بالنسب العريق، وتتصل إلى علومه ومعارفه الواسعة بالسبب الوثيق. وقد فعلنا. ولكن أين تقع هذه الجمل مما يوجبه الوفاء لرجل، هو في بناء الاصلاح الركن والدعامة، وفي هيكل الإصلاح الرأس والهامة؟ وعسى أن تساعد الأقدار فنوفيه بعض حقه.

لقيته- رحمه الله- ببلدة دمشق على أثر انتهاء الحرب العظمى وقد جاءها ليتصل بالهيئات العاملة لخير العرب، وليزور أهله في القلمون من لبنان الشمالية. ونزل ضيفًا على صديقنا العالم السلفي الشيخ بهجت البيطار. وبيت آل البيطار في دمشق هو مبعث الإصلاح ومطلعه. ولعميدهم الشيخ عبد الرزاق البيطار ورفيقه الشيخ جمال الدين القاسمي صداقة باذخة الذرى، وصلة وثيقة العرى بالأستاذ الإمام، تجمع الثلاثة وحدة الفكرة والرأي والسلفية الحقة والاستقلال في العلم. والبيطار والقاسمي عالمان جليلان لم أدركهما حين دخلت دمشق. ولكني قرأت من آثارهما في الكتب التي كتباها، ورأيت من آثارهما في النفوس التي ربياها، ما شهد لي أنهما ليسا من ذلك الطراز المتعمم الذي أدركناه بدمشق، ولثانيهما آثار مطبوعة هي دون قدره، وفوق قدر علماء مصره. كنا نذهب ليلًا إلى دار صديقنا البيطار للسمر مع الشيخ رشيد. ورفيقي إذ ذاك الأستاذ الشيخ الخضر بن الحسين، المدرس الآن في الأزهر. وأشهد أنها كانت ليالي ممتعة يغمرنا فيها الأستاذ رشيد بفيض من كلامه العذب في شؤون مختلفة. وإن أنس فلا أنس إحسانه في التنقل ولطف تحيله في الخروج بنا من معنى آية إلى شأن من شؤون المسلمين العامة. وكان في الليالي التي اجتمعنا به فيها يستولي على المجلس ويملك عنان القول، فلا يدع لغيره فرصة للكلام إلّا أن يكون سؤال سائل، مع اشتمال المجلس على طائفة عظيمة من أهل الأفكار المستقلة والألسنة المستدلة. وأخبرني عارفوه أن تلك عادته، فإن كان ما قالوه حقًا فهي غميزة في فضله وأدبه. وبمناسبة لقائي للشيخ رشيد، فأنا ذاكر قصة لها تعلق به، وهي تنطوي على ضروب من العبر وتكشف عما يضمره العلماء الجامدون للعلماء المصلحين من كيد وسوء نية، وما يصمونهم به من عظائم، مما لا يصدر من مسلم عامي فضلًا عن العالم. وإنني أذكر القصة، بدون تعليق. صادف قدوم الشيخ رشيد إلى الشام عزمي على الرجوع إلى الجزائر، وخرج الشيخ رشيد إلى القلمون فخرجت بعده إلى بيروت في وجهتي إلى المغرب. وكان من رفاقي في هذه الوجهة الأستاذ محمد المكي بن الحسين شقيق الشيخ الخضر المتقدم. فاجتمعنا ذات صباح بالشيخ يوسف النبهاني الخرافي المشهور في دكان أحد التجار، وكان النبهاني سمع بي فجاء مسلمًا قاضيًا لحق الجوار بالمدينة المنورة، إذ كنا قد تعارفنها فيها، فإنا لكذلك إذ مر بنا الشيخ رشيد ولم يرنا ولم نره. وما راعني إلّا النبهاني يلفت رفيقي ويسأله: أتعرف هذا؟ فأجابه: وكيف لا؟ هذا الشيخ رضا. فما كان من النبهاني إلّا أن قال: هذا أضر على الاسلام من ألف كافر، فكان امتعاض قطعت نتائجه سرعة الانفضاض.

نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر

نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر: لا يطلق- في هذا المقام- لفظ حركة في العرف العصري العام إلّا على كل مبدإ تعتنقه جماعة وتتساند لنصرته ونشره والدعاية والعمل له عن عقيدة، وتهيئ له نظامًا محددًا وخطة مرسومة وغاية مقصودة، وبهذا الاعتبار، فإن الحركة الإصلاحية لم تنشأ في الجزائر إلّا بعد الحرب العالمية. والتأثير الأكبر في تكوينها على هذه الصورة يرجع في الحقيقة إلى سنة الادالة الكونية التي اقتضاها تدبير الاجتماع، ويرجع في الظاهر- فيما نرى- إلى العوامل الآتية: الأول: نوازع جزئية محدودة أحدثتها في النفوس المستعدة الأحاديث المتناقلة في الأوساط العلمية عن الامام عبده، ولو من خصومه الممعنين في التشنيع عليه وسبه ولعنه- وما أكثرهم بهذا الوطن! فكانت تلك الأحاديث تفعل فعلها في النفوس المتبرمة من الحاضر والمستشرفة إلى تبدله بما هو خير، وتكيفها تكييفًا جديدًا وتغريها أولًا بالبحث عن منشإ هذه الخصومة العنيفة لهذا الرجل. فإذا علمت أن منشأ ذلك دعوته إلى القرآن، أو ادعاؤها الاجتهاد، كما كانوا يقولون قرب هذا الاسم منها، فأحبته ولجت في الانتصار له، وإن لم تتبين مشربه كل التبيّن. ويضاف إلى هذا العامل قراءة "المنار" على قلة قرائه في ذلك العهد، واطلاع بعض الناس على كتب المصلحين القيمة، ككتب ابن تيمية وابن القيم والشوكاني. فهذا عامل له أثره في التمهيد للدعوة الإصلاحية. الثاني: الثورة التعليمية التي أحدثها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحية والتربية الصحيحة التي كان يأخذ بها تلاميذه، والتعاليم الحقة التي كان يبثها في نفوسهم الطاهرة النقية، والإعداد البعيد المدى الذي كان يغذي به أرواحهم الوثابة الفتية. فما كادت تنقضي مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من فكر صحيحة وعقول نيرة ونفوس طامحة، وعزائم صادقة، وألسن صقيلة، وأقلام كاتبة. وتلك الكتائب الأولى من تلاميذ ابن باديس هي طلائع العهد الجديد الزاهر، وقد سمع الناس لأول مرة في الجزائر من بعض تلك البلابل شعرًا يؤدي معنى الشعر كاملًا، وقرأوا كتابة تؤدي معنى الكتابة. ثم زحفت من أولئك التلاميذ في ذلك العهد أيضًا كتيبة جرارة، سلاحها الفكرة الحية الصحيحة، إلى جامع الزيتونة لتكمل معلوماتها ولتبني على تلك الفكرة الحية وعلى ذلك الأساس العلمي الصحيح، بناء علميًا محكمًا. ورجعت تلك الطائفة إلى الجزائر، فكان من مجموعها وممن تخرج بعدها من تلاميذ الأستاذ، ومن تلاميذ جامع الزيتونة، جنود الإصلاح اليوم وقادته وألويته المرفرفة، وأسلحته النافذة.

الثالث: التطور الفكري الفجائي الذي خرج به الجمهور من ثمرات الحرب العظمى. ومن آثار ذلك التطور انحطاط قيمة المقدسات الوهمية في نظر كثير من الناس. ومما أعان على نمو هذا الأثر في النفوس تطور زعماء التخريف وأساطين التدجيل بالانكباب على المال، والتكالب في جمعه والانهماك في الملذات ومزاحمة العامة في الوظائف والنياشين (3)، بعد أن كانوا وكان سلفهم القريب يتظاهرون بالبعد عن هذه المواقف، ويتنصلون من النياشين إذا عرضت لهم، ويكثرون في مجالسهم من مثل هذه الجملة (لا شيعة إلّا شيعة ربي) (4) إغراقًا منهم في التلبيس على العامة، واستبقاء لطاعتها وتجنبًا لنفورها. ولكن الحرب العظى فضحتهم بآثارها وأطوارها. الرابع: عودة فئة من أبناء الجزائر البررة المخلصين من الحجاز مهد الإسلام الأول ومنبت الدعوة إلى الحق ومبعث الإصلاح الإنساني العام، بعد أن تلقوا العلم هناك بفكرة إصلاحية ناضجة مختمرة. وإن هذه الفئة التي رجعت من الحجاز بالهدي المحمدي الكامل قد تأثرت بالإصلاح تأثرًا خاصًا مستمدًا قوته وحرارته من كلام الله وسنة رسوله مباشرة، ولم تكن قط متأثرة بحال غالبة في الحجاز إذ لم يكن للإصلاح في ذلك الوقت شأن يذكر في الحجاز إلّا في مجالس محدودة وعند علماء محدودين. ولو شاء ربك لرمى الجزائر بقافلة من الحجاز مضللة تتخذ من حرمة الجوار شركًا جديدًا، وتجعل منه غلًا في الأعناق شديدًا، كما رماها بطائفة من الأزهريين الجامدين فزادوها قرحًا على قرح وكانوا ضغثًا على إبالة، ولكن ربك أرحم من أن يكثر عداد أولادها العاقين فيزيدها بذلك ويلًا على ويل وترابًا على سيل. بهذا العامل الرابع تلاحق المدد وتكامل العدد، وانفسح للإصلاح الأمد، واتضح منه الصدد، والنهج اللاحب الجدد. وهناك رجال ظهروا بفكرة إصلاحية محدودة، ولكنها على كل حال محمودة ... وذلك قبل أن يظهر الإصلاح (التعاوني) ويزخر عبابه وتتسق أسبابه، فقاوموا البدع في دوائر ضيقة وكان لهم في القضاء على بعضها مساع موفقة، ولهم في ذلك نيتهم وقصدهم، ولو كنا في مقام المؤرخ المتقصي، لقمنا بما يوجبه الإنصاف في حقهم، فخير ما طبع عليه امرؤ الانصاف، ولكنها نظرات عجلى نريد من ورائها ارتباط الكليات فحسب.

_ 3) الأوْسِمة، مفردها نِيشَان. 4) الشِّيعَة هي الوِسام. ومعناها: لا وِسَام إلا وسام الله.

الخطوة الأولى

الخطوة الأولى: كان معقولًا جدًا أن الإصلاح الديني لا يطمئن به المضجع في هذه الديار ولا ترسخ جذوره إلّا إذا مهدت له الأرض ونقيت، ولا بد بعد وجود المقتضيات من إزالة الموانع، وموانع الإصلاح بهذه الديار وعوائقه هي طائفة أو طوائف تختلف اسمًا وصفة، وتتحد رسمًا وغاية، والمصلحون إذ ذاك يلتقون على فكرة ولا يلتقون على نظام ولا في جمعية، لأن جمعية العلماء لم تؤسس بعد. فكانت الأوساط الإصلاحية في ذلك العهد يتجاذبها رأيان يلتقيان في المقصد وبختلفان في المظهر العملي للإصلاح وكيف يكون؟ أحدهما، صرف القوّة كلها وتوجيه جهود متضافرة إلى التعليم المثمر، وتكوين طائفة جديدة منسجمة التعليم مطبوعة بالطابع الإصلاحي علمًا وعملًا، مسلحة بالأدلة، مدربة على أساليب الدعوة الإسلامية والخطابة العربية، حتى إذا كثر سواد هذه الطائفة وكان منها الخطيب ومنها الكاتب ومنها الشاعر ومنها الواعظ ومنها الداعي المتجول، استخدمت في الحملة على الباطل والبدع على ثقة بالفوز. وهذا رأي له قيمته وخطره، وكان كَاتِبُ هذه الأسطر من أصحاب هذه الفكرة في ذلك الوقت. والرأي الثاني أخذ المبطلين مغافصة والهجوم عليهم وهم غارّون، واسماع العامة المغرورة صوت الحق فصيحًا غير مجمجم، ويرتكز هذا الرأي على أن هذه البدع والمنكرات التي يريد الإصلاح أن يكون حربًا عليها هي أمور قد طال عليها الأمد، وشاب عليها الوالد، وشبَّ عليها الولد وهي بعد شديدة الاتصال بمصالح ألفها الرؤساء حتى اعتبروها حقوقًا لهم، وأنس بها العامة حتى اعتقدوها فروضًا عليهم، فلا مطمع في زوالها إلّا بصيحة مخيفة، تزلزل أركانها، ورجة عنيفة تصدع بنيانها واعصار شديد يكشف الستر عن هذا الشيء الملفف، والسر الذي يأبى أن يتكشف، ليتبينه الناس على حقيقته، وأقل ما يكون من التأثير لهذا العمل أن تضعف هيبته في نفوسهم وتضؤل رهبته في صدورهم، وهنالك يسهل العمل في نقضه، وتخف المئونة في هدمه. وهذا رأي له خطره وقيمته كذلك؛ فإن هذه الأسماء (مرابط وشيخ طريق وما شاكلهما) التي أصبح الناس الآن يتقززونها وينددون بها جهارًا قد كانت محاطة في ذلك الوقت بسور من الإجلال والقدسية، وهذه الأباطيل التي صارت بغيضة إلى كل نفس ملعونة بكل لسان، قد كانت في ذلك العهد ترتكب بين قلوب من العامة واجفة، وألسنة راجفة، خوفًا من أن يخطر الانكار بالبال فيحل الوبال.

جمعية العلماء فكرة

وعليه فالشدة أحزم. وقد رجح الرأي الثاني لمقتضيات لله من ورائها حكمة، فأنشئت جريدة "المنتقد" بقسنطينة لهذا الغرض، وكان اسمها نذيرًا بالشر لأهل الضلال فإنه مُتَحَدِّ لما نهوا عنه، وهاتك لحرمة ما شرعوه في كلمتهم التي حذروا بها العامة وهي قولهم: "اعتقد ولا تنتقد". وانبرت للكتابة في "المنتقد" أقلام كانت ترسل شواظًا من نار على الباطل والمبطلين، ثم عطل المنتقد فخلفه الشهاب (الجريدة) ثم أسست جريدة الإصلاح ببسكرة فكان اسمها أخف وقعًا وإن كانت مقالاتها أسد مرمى وأشد لذعًا، وأسماء الجرائد كأسماء الأناسي يظن الناس أنها وليدة الاختيار المقتضب والشعور الطافر، وغلطوا ... إنما هي وليدة شعور متمكن وتأثر نفساني عميق تزجيه مؤثرات قارة، وليس هذا محل التفصيل لهذا المبحث الطويل. ثم تطور الشهاب الأسبوعي فأصبح مجلة شهرية استلمت قيادة الحركة من أول يوم وورثت الأقلام التي كانت تكتب في الجرائد قبلها، ولم تهن لمجلة الشهاب في حرب الباطل وأهله عزيمة ولم تفل لها شباة. وكم لها من مواقف شريفة في خدمة الحركة الإصلاحية، وكم لها على النهضة العلمية والأدبية من أياد! وها هي ذي لم تزل ثابتة القدم واضحة النهج مرفوعة الرأس، ولو اتسع وقت الأستاذ مؤسسها لكتابة مباحث التفسير بصورة منظمة ومع توسع في طريقته البديعة، لكانت خير خلف للمنار. ولو أعطاها حملة الأقلام العالية ما يجب لها من حق لاتسع نطاقها، وكثرت أوراقها، ولو قام أغنياؤنا بما لها عليهم من واجب لشبت عن الطوق الذي هي فيه. ولكن داءنا هو التقصير في الواجب. قآه من التقصير في الواجب. وإلى جنب هذه الحركة القلمية كانت حركة أخرى تسايرها وتؤازرها وتغذيها وهي حركة التعليم التي انتشرت بالمراكز المهمة من عمالة قسنطينة. فدروس العلم كانت تجتذب أفواجًا من الشباب، ودروس الوعظ والإرشاد كانت تجتذب الجماهير إلى حظيرة الإصلاح وتحدث كل يوم ثغرة في صفوف الضلال، وقد تلاقت الحركتان على أمر قد قدر، فكان هذا الأمر هو تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. جمعية العلماء فكرة زارني الأخ الأستاذ عبد الحميد بن باديس- وأنا بمدينة سطيف أقوم بعمل علمي- زيارة مستعجلة في سنة أربع وعشرين ميلادية فيما أذكر. وأخبرني بموجب الزيارة في أول جلسة، وهو أنه عقد العزم على تأسيس جمعية باسم (الإِخاء العلمي) يكون مركزها العام

جمعية العلماء عقيدة

بمدينة قسنطينة العاصمة العلمية. وتكون خاصة بعمالتها، تجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير وتكون صلة تعارف بينهم، ومزيلة لأسباب التناكر والجفاء، وذهب يقص عليَّ من فوائدها ما لم أنكره ذوقًا وإحساسًا وإن كنت استبعدته عملًا وواقعًا لاعتبارات ذهبت بذهاب وقتها، ولم أكاشف الأخ الأستاذ بها خشية أن أثبطه- وما التثبيط من شيمي- ولم يزل كلامه يقنعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أخي، وتنازعنا الحديث في منافع هذه الجمعية، فتكشفت لنا عن فوائد لا تحصى، وأذكر أني عددت من فوائدها إيقاف الطلبة عند حدودهم ودرجات تحصيلهم حتى لا يَغُرّوا ولا يغتروا إلخ. وفي تلك الجلسة عهد إلي الأخ الأستاذ أن أضع قانونها الأساسي فوضعته في ليلة وقرأته عليه في صباحها، فاغتبط به أيما اغتباط وودعني راجعًا إلى قسنطينة بعد أن اتفقنا بديًّا على أعضاء الإدارة وأن يكونوا كلهم من مدينة قسنطينة، وعلى تذليل عقبات يتوقف على تذليلها نجاح المشروع وعلى ترجمة القانون الأساسي وتقديمه للحكومة ثم دعوة العلماء إلى الاجتماع. ولما وصل إلى قسنطينة وعرض الفكرة على الجماعة الذين يجب تكوين المجلس منهم أيدوا الفكرة وقرروا القانون بعد تعديل قليل، ثم حدثت حوادث عطلت المشروع، وأخبرني الأستاذ باديس بذلك فلم أستغرب لعلمي أن استعدادنا لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد، وأن عملًا عظيمًا كهذا لا يثبت على الفكرة الطائرة والخطرة العارضة، ولا يتم في الخارج إلّا بعد استقراره في الأذهان، ولا بد له من زمن واسع حتى يختمر وتأنس إليه نفوس ألفت التفرق حتى نكرت الاجتماع. فسكتنا وتركنا الزمان يفعل فعله، فماذا كان؟ جمعية العلماء عقيدة: من الأعمال ما يكون الفشل فيه أجدى من النجاح، وهذا هو ما شهدناه في تأسيس جمعية الإخاء العلمي. فقد فشلنا في تأسيسها ظاهرًا وفيما يبدو للناس، ولكن تلك المحاولات لم تذهب بلا أثر في المجتمعات العلمية الجزائرية حتى كان من نتائجها بعد أعوام جمعية العلماء المسلمين. إن ذلك الاسم اللطيف الذي وضعه الأستاذ باديس للجمعية وهو "الإخاء العلمي" طار على الأفواه وتطاير عن الأقلام، ورددته مجالس التعليم ومحافل الأدب، ثم تخطاها إلى نوادي السمر، وكان لطفه داعيًا لانجذاب القلوب واستهواء الأفئدة، فنبه الغافل وأيقظ النائم، وحث الخامل وقوى العزائم، وأشعر أهل العلم أن العلم رحم، وأنها مجفوة بينهم

فيجب أن توصل، وأشعر العامة أن قوتها من قوة علمائها، وأن قوّة العلماء لا تتحقق إلا بتآخيهم على العلم واجتماعهم على العمل. وإننا نعرف لأخينا الأستاذ باديس ذوقًا دقيقًا في وضع الأسماء وصوغ العناوين، وإنه يكاد يكون ملهمًا في هذا الباب، ونعرف أنه اكتسب ذلك من أسلوبه التدريسي المبني على التحديد والإحاطة والدقة. ولقد كان من المعقول- والحرب مشبوبة بين المصلحين والطرقيين- أن يكون اسم الجمعية (الإصلاح الديني) ولكن المصلحين- وهم أول من فكر في مشروع جمعية العلماء وزعيمهم هو أول من وضع ذلك الاسم- لم يكونوا يقصدون من هذه الجمعية، من يوم تصوروها فكرة إلى يوم أبرزوها حقيقة واقعة، إلّا غرضًا واحدًا وهو جمع القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم في العلم، لتتعاون على خدمة الدين الإسلامي واللغة العربية والنهوض بالأمة الجزائرية من طريقهما، ولو كان عند المصلحين شيء من سوء القصد الذي يرميهم به خصومهم لظهر أثره في تسمية الجمعية أولًا باسم الإخاء العلمي وثانيًا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والاسم هو العنوان المتضمن لكل ما وراءه من معان. طاف طائف هذا الاسم اللطيف "جمعية الإخاء العلمي" بالآذان واستقر بعدها في الأذهان، وكل كلمة من كلماته الثلاث محببة إلى النفوس جميلة الموقع منها، فالاجتماع أمنية كل عاقل، والتآخي طلبة كل مخلص، والعلم نشيدة كل حي، فكيف إذا اجتمع العلم والتآخي فيه والاجتماع على استثماره؟ ولكن أنّى للأمة الجزائرية باجتماع العلماء وتآخيهم في العلم، وإن الطائفة التي يطلق عليها هذا الاسم حقيقة أو ادعاء بهذا القطر هي طائفة متنافرة متنابذة، كأن من كمال العلم عند بعضها أن يبغض العالم العالم، وبجفو العالم العالم، شنشنة مُعْظَم الشر فيها آت من الزوايا الطرقية التي تعلم فيها أولئك العلماء أو علَّموا فيها، والكثرة الغالبة في علماء الجزائر قبل اليوم تعلمت بالزوايا أو علمت العلم في الزوايا، فمن الزوايا المبدأ وإليها المصير. وزوايا الطرق في باب العلم كمدارس الحكومات هذه معامل لتخريج الموظفين، وتلك معامل لتخريج المسبحين بحمد الزوايا والمقدسين. أما العلم وحقيقته وصراحته وحريته فلا رائحة لها في هذه ولا في تلك، وسنفصل القول في هذه المسألة- التعلم بالزوايا وآثاره في نفوس المتعلمين- في فصل آخر فإن لهذه المسألة بابًا واسعًا في تاريخ الجزائر العلمي، ونعود لموضوعنا. إن الرجاء كان ضعيفًا في تحقق أمنية اجتماع العلماء من تلقاء أنفسهم إذا لم يدفعهم دافع قوي من استعداد الأمة، وقد وجد هذا الاستعداد. فقد دب في الأمة الجزائرية دبيب الحياة وقوّى فيها الشعور بسوء الحال التي هي عليها، والشعور بالفساد هو أول مراحل الإصلاح، وتجلى هذا الشعور بالعمل في عدة نواح

جمعية العلماء حقيقة واقعة

من حياتها العامة: فتجلى في الناحية الاقتصادية بالدخول في ميادين الكسب التي كانت وقفًا على غير المسلم الجزائري، وتجلى في الناحية الأدبية بتأسيس النوادي والجمعيات المختلفة، وتجلّى في الناحية العلمية بالإقبال على القراءة والتعلم باللغتين العربية والفرنسية وبالبذل على العلم والتغرب في سبيله، وتجلّى في الناحية الدينية بتشييد المساجد في القرى والانفاق عليها من مال الأمة الخالص، وتجلّى في الناحية النفسية بالتفكير الجدّي المستقيم. ومن مظاهره الاعتماد على النفس في الأعمال التي ذكرنا والإيمان بجود شيء اسمه الأمة، بعد أن كانت هذه الأمة تعتمد في دنياها على الحكومة، وفي آخرتها على "المرابطين" (5) وشيوخ الطرق وتشعر أنها ذائبة في هاتين القوتين. ومن الحق أن نقول إن شعور الأمة الجزائرية وإن ظهرت آثاره في جهات حياتها المختلفة ولكنه يبدأ فوّارًا حارًّا بصفة خصوصية في جهتي الدين واللسان العربي، وهما الجهتان اللتان عرفت الأمة الجزائرية بالتمسك بهما والغيرة عليهما. ومن الحق أيضًا أن نقول إن أكثر الفضل في تنبيه ذلك الشعور في الأمة يرجع إلى ما كان يبثه رجال الإصلاح الديني فرادى بين الأمة، فلم يمض إلّا قليل من الزمن حتى غمر الأمة شعور عام بلزوم إصلاح عام يشمل الدين والعلم والاجتماع، ورأت نهج الإصلاح في هذه المقومات الثلاثة واضحًا. فكانت دواعيه أسبق وأسبابه أوثق، وأصبحت فكرة تأسيس جمعية من علماء الأمة لتشرف على هذا الإصلاح، وتتولى تخطيط مناهجه عقيدة راسخة مستولية على عقول العوام والخواص، وأصبحت بواعث تأسيسها صادرة من الأمة لا من العلماء وحدهم، فانقاد الجميع أمة وعلماء إلى تأسيس هذا المشروع العظيم بما يشبه الاضطرار، وتَمَّ ذلك بكل سهولة وبدون كلفة. جمعية العلماء حقيقة واقعة: رأيت الآن أن السر في تأسيس جمعية العلماء بتلك السهولة وبتلك المحاولة الهينة هو استعداد الأمة لظهور هذا المشروع العظيم فيها. فانقادت إليه بشعرة، وانجرت إلى بناء صرحه بنملة، وعلمت مما أجملناه لك من مراحل هذا المشروع أن الشعور به كان من نصيب طبقات مخصوصة وهم المتأثرون بالإصلاح، وفي ناحية محدودة من القطر وهي إقليم قسنطينة، ثم تغلغل في الأقاليم الثلاثة في بضعة أعوام وتحوّل التفكير في مكان التأسيس من قسنطينة التي هي الجناح إلى الجزائر التي هي القلب، ومعنى هذا كله أن الأمة الجزائرية استيقنت سفه الأيدي التي كانت تقودها باسم الدين فصممت على التفلت منها وإلقاء المقادة إلى أيدي العلماء لتبتدئ السير في نهضتها على هدى وبصيرة، فقالت للعلماء اجتمعوا فاجتمعوا.

_ 5) لا يقصد بها المرابطون المعروفون في تاريخ المغرب الإسلامي، ولكنها مرادف للطرقيين.

لم يكن تأسيس جمعية العلماء المسلمين خفيف الوقع على الجماعات التي ألفت استغلال جهل الأمة وسذاجتها وعاشت على موتها، ولكن التيار كان جارفًا لا يقوم له شيء، فما كان من تلك الجماعات إلّا أن سايرت الجمعية في الظاهر وأسرت لها الكيد في الباطن، وكان المجلس الإداري الذي تألف بالاختيار في السنة الأولى غير منقح ولا منسجم لمكان العجلة والتسامح، فكان من بين أعضائه أولو بقية يخضعون للزوايا وأصحابها رغبًا ورهبًا، وكان وجودهم في مجلس الإدارة مسليًا لشيوخ الطرق ومخففًا من تشاؤمهم بالجمعية لسهولة استخدامهم لهم عند الحاجة، فإما أن يتخذوهم أدوات لإفساد الجمعية وإسقاطها، وإما أن يتذرعوا بهم لتصريفها في مصالحهم وأهوائهم. أما المصلحون فقد صرحوا من أول يوم بأنهم سائرون بهذه الجمعية على مبدإ الذي كانوا سائرين عليه من قبلها، ومنه محاربة البدع والخرافات والأباطيل والضلالات ومقاومة الشر من أي ناحية جاء. وانقضت السنة الأولى في التنظيم والتنسيق وبدأت الأعمال تظهر مراتب الرجال، فاضطلع المصلحون وحدهم بالأعمال التمهيدية- وما هي بالحمل الخفيف- ولما جاء أجل الانتخاب للدورة الثانية هجم العليويون ومن شايعهم على ضلالهم تلك الهجمة الفاشلة بعد مكائد دبروها، وغايتهم استخلاص الجمعية من أيدي المصلحين، وجعلها طرقية عليوية واستخدامهم هذا الاسم الجليل في مقاصدهم الخاطئة كما هي عادتهم في إِلباس باطلهم لباس الحق، ووقف المصلحون لتلك الهجمة وقفة حازمة أنقذت الجمعية من السقوط ومحصتها من كل مذبذب الرأي مضطرب المبدإ، وتألف المجلس الإداري من زعماء الإصلاح وصفوة أنصاره، ورأى الناس عجيب صنع الله في نصر الحق على الباطل. لم يقف العليويون وأذنابهم عند حدّ ذلك الهجوم الذي كان أوله كيدًا وآخره فضيحة، بل أجمعوا أمرهم وشركاءهم وقرروا في اجتماع تولى كبره رئيسهم الأكبر أحمد بن عليوه محاربة جمعية العلماء بكل وسيلة وبكل قوّة. وتقاسموا على ارتكاب ما يحل وما يحرم في هذا السبيل، وانفتقت لهم الحيلة بإرشاد بعض أذناب الإدارة على تأسيس جمعية طرقية في معناها وحقيقتها، حلولية في باطن باطنها، علمية في ظاهرها وما يراه الناس منها ليوهموا العامة أنهم يحاربون العلم بالعلم، لا العلم بالجهل، فبثوا في الزوايا وعبيدها دعوة جامعة إلى تكوين هذه الجمعية التي وصفوها بأنها جبهة قوية تقف في وجه الإصلاح وتنازل جمعيته وجهًا لوجه ودارًا لدار بعد أن لم يبق أمل في إسقاطها بالحيلة، أو الاستيلاء عليها بالمكر. وكان من هذا كله أن تأسست جمعية علماء السنّة من علماء مأجورين، وطلبة مدحورين، من كل من في عنقه للزوايا مِنَّةُ الخبز، ولها عليه فضل التعليم الأشل، وله فيها

موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق

رجاء العبد في سيده، من تلك الطائفة التي لا ترعى للعلم حرمة، ولا تشعر له في نفوسها بعزة ولا كرامة، وقد اجتمعوا كلهم على النداء من كل صوب كضوال الإبل، وحشروا في غمرة من الذهول أوهمتهم أنهم سيصبحون بفضل سادتهم مشائخ الطرق، وبجاه موالاتهم للحكومة (6) موظفين (مُنَيْشَنِين) (7). دخل الجميع- لأول مرة في تاريخ حياتهم- جمعية لا يدرون بمن تدار ولا كيف تدار، وسمعوا لأول مرة كلمات: النظام، والاشتراك، والمواد، واللجان، وسمعوا خطبًا مأجورة لا فرق عندهم بينها وبين عزائم الجان، ثم تقاضتهم الجمعية ما لا عهد لهم به ولا ألفته نفوسهم وهو المال- الاشتراك- التبرع- الاعانة، فقالوا في أنفسهم إن هذا لشيء لم نخلق له، ان هذا لشيء يراد، ان آباءنا عودونا أن نأخذ ولا نعطي، ان زوايانا "قائمة" فما معنى هذه الزاوية "المنفرجة" التي اسمها جمعية علماء السنة، ان نكاية الإصلاح فينا لأهون علينا مما تدعوننا إليه. اصطدمت هذه الجمعية المفروضة على الدهر بأسباب التفرق الجوهرية في أول يوم، وأراد حاو تلميذ أن يلاعب أساتِذَتَه الحواة، فكان الضحية وحده. ثم خرج مجلس هذه الجمعية بمواكبه إلى الأمة يسألها المال والتأييد، فقابلته بما يستحق من طرد ومقت، ولم يمض إلّا قليل حتى حلّ الله ما عقدوا، وتَبَّرَ ما شيدوا، ورأى الناس عبرة العبر في انهيار الباطل وانخذال أهله، وعدوها من عجائب صنع الله لجمعية العلماء المسلمين، وقرأوا قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق: مبدأ جمعية العلماء المسلمين هو الإصلاح الديني بأوسع معانيه، الذي كان يعمل له المصلحون فرادى، وإنما كانوا مسيرين بفكرة لا تستند على نظام فأصبحوا مسيرين بتلك الفكرة نفسها مستندة على نظام مقرر، وبرنامج محرر. وقد كان حال المصلحين مع الطرق ما علمه القارئ من الفصول السابقة، فلما تأسست جمعية العلماء لم يزيدوا على تلك الحال ولم ينقصوا منها، لأن هؤلاء المصلحين لا يعملون - مسالمين ومحاربين- إلّا عن إيمان وعقيدة، وعقيدتهم في الطرق هي أنها علة العلل في الافساد ومنبع الشرور، وأن كل ما هو متفش في الأمة من ابتداع في الدين، وضلال في

_ 6) معناها الولاية الفرنسية العامة. 7) من (النيشان) وهو الوسام، أي مُوَسَّمِين .. حاملى الأَوْسِمة.

العقيدة، وجهل بكل شيء، وغفلة عن الحياة، والحاد في الناشئة، فمنشؤه من الطرق، ومرجعه إليها كما علمت بعض ذلك من فصل آثار الطرق السيئة وستعلم بعضه. فلا يجهلن جاهل، ولا يقولن قائل: ان المصلحين شغلوا أوقاتهم بالطرق واستنفدوا قوتهم في مقاومتها حتى ألهتهم عن كل شيء، وربما كان فيما شغلوا عنه ما هو أحق بالاهتمام مما شغلوا به، وهذه نقطة يجب إيضاحها دفعًا للأوهام. اننا علمنا حق العلم، بعد التروي والتثبت ودراسة أحوال الأمة ومناشئ أمراضها، ان هذه الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرق المسلمين، لا يستطيع عاقل سلم منها ولم يبتل بأوهامها أن يكابر في هذا أو يدفعه، وعلمنا أنها هي السبب الأكبر في ضلالهم في الدين والدنيا، ونعلم أن آثارها تختلف في القوّة والضعف اختلافًا يسيرًا باختلاف الأقطار، ونعلم أنها أظهر آثارًا وأعراضًا وأشنع صورًا ومظاهر في هذا القطر الجزائري والأقطار المرتبطة به ارتباط الجوار القريب منها في غيره، لأنها في هذه الأقطار فروع بعضها من بعض، ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كل شر، وأننا حين نقضي عليها- ان شاء الله- نقضي على كل باطل ومنكر وضلال، ونعلم زيادة على ذلك أنه لا يتم في الأمة الجزائرية إصلاح في أي فرع من فروع الحياة مع وجود هذه الطرقية المشئومة، ومع ما لها من سلطان على الأرواح والأبدان، ومع ما فيها من افساد للعقول وقتل للمواهب. ان كاتب هذه الأسطر قدر له أن يقيم في الحجاز سنوات عديدة في العهد العثماني، والحجاز معرض الأمم الإسلامية، فرأى أن هذه الطرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام، ورأى أنها تختلف في التعاليم والرسوم والمظاهر كثيرًا، ولا تختلف في الآثار النفسية إلّا قليلًا، وتجتمع كلها في نقطة واحدة وهي التخدير والإلهاء عن الدين والدنيا. ولقد- والله- كنت أرى المسلمين المختلفي الأقطار والأجناس واللغات يجتمعون في حرم رسول الله وفي مهبط الوحي الجامع، فلا أجد بينهم ذلك الأنس الذي كان يجده المسلم حين يلتقي بالمسلم، ولا أقرأ في وجوههم تلك البشاشة التي كانت تسابق الألسنة إلى التحية، فلا أعلِّل تلك الظاهرة الجافية بتباعد الديار، إذ لو كان الشعور بالأخوة صادقًا صحيحًا لكان بعد الدار أدعى إلى الشوق والحنين في الغيب، وإلى كرم اللقاء وبشاشة الوجه في المشهد، ولا أعلله باختلاف اللغات لأن النفوس والوجوه والأسارير لا تحتاج إلى ترجمان. ولكني كنت أعلل هذا اللقاء العابس بما أحدثته فينا المفرقات الروحية- وهي الطرق والمذاهب- من تنافر عَظُمَ على الزمان حتى جعل الإخوة أعداء. وكم كنت أمتعض حين أرى الحنفي لا يصلي خلف الشافعي، والشافعي لا يصلي خلف المالكي! بل كنت أمتعض لتعدد الأئمة من أصله، ولتعدد الحلق الطرقية التي لا

موقف الجمعية في التعليم

تجمع الناس لمدارسة علم، وإنما تجمعهم لتحكيم وهم، وأقول في نفسي إذا لم تجتمع قلوبنا في حرم رسول الله على دين الله، فهل ينفعنا اجتماع الأبدان؟ ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن جمعية العلماء لم تنفق أوقاتها كلها ولم توجه قواتها بأجمعها إلى هذه الجهة فقط كما يتوهم بعض الواهمين، بل إن للجمعية برنامجًا إصلاحيًا عمليًا حكيمًا، وهي موزعة أعمالها على فصوله، معطية كل فصل ما يستحقه، واقفة في كل عمل عند ما يتهيأ لها من وسائله، ويتيسر من أسبابه، ولو لم يتجهم لها الزمن، ولم تصادمها العقبات المتنوعة، ولم تقف في وجهها العوائق المتكررة، لسارت في جميع فروع الإصلاح التي يشملها برنامجها سيرًا حثيثًا، ولكنها تحمد الله على تلك المكاره التي شددت من عزائمها، وسددت من خطاها، وكملت من حنكتها، وزادتها ثباتًا في الحق، أضعاف ما تحمده على المحابّ التي تسرّ وقد تغر. موقف الجمعية في التعليم: موقف الجمعية في التعليم العربي والديني هو أبرز مواقفها، فقد كان التعليم العربي الحر يدور في دائرة ضيقة من أمكنته وأساليبه وكتبه، فسعت الجمعية بما استطاعت من أسباب أن توسع دائرة الأمكنة بإحداث مكاتب حرة للتعليم المكتبي للصغار، وبتنظيم دروس في الوعظ والإرشاد الديني في المساجد، وبتنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة في النوادي، وصحبها توفيق الله تعالى فنجحت مساعيها في هذا الباب نجاحًا عظيمًا، وأثمرت أعمالها اثمارًا نافعًا، ولولا موانع من الأحكام الإدارية الجائرة في غلق بعض المكاتب، والتضييق في إعطاء الرخص، وإيصاد المساجد في وجوه الوعاظ لكانت النتيجة اليوم مما تغتبط به الجمعية العاملة المخلصة، وتغتبط به الأمة المتعطشة المقبلة، وتغتبط به الحكومة التي يجب أن تحكم على الأشياء بنتائجها، وإن كانت حكومتنا إلى الآن- مع الأسف- تتجاهل هذه النتائج أو ترتاب فيها أو تتصورها على خلاف ما هي عليه. كذلك سعت الجمعية إلى إصلاح أساليب التعليم، فقضت في تعليمها بقسميه المكتبي والمسجدي على تلك الأساليب العتيقة العقيمة التي كان يباشر بها التعليم، والتي ما زالت مثارًا للشكوى والتذمر في مكاتب التعليم ومعاهد العلم بغير الجزائر، ولم تستطع تلك المكاتب والمعاهد التخلص منها مع ظهور فسادها. أما في المساجد فطريقة الجمعية في الوعظ والتذكير هي طريقة السلف، تذكر بكتاب الله، تشرحه وتستجدي عبره، وبالصحيح من سنّة رسول الله، تبينها وتنشرها، وبسيرته

العملية، تجلوها وتدل الناس على مواضع التأسي منها، ثم سير الصحابة وهديهم، ثم سير حملة السنة النبوية، وحملة الهدي المحمدي في أقوالهم وأعمالهم كذلك. وأسلوب الجمعية في التعليم الديني في المساجد على إطلاقه العناية بالمعنى والنفوذ إلى صميمه من أقرب طريق يؤدي إليه، وتجليته للسامعين بالصور العملية التطبيقية، والإعراض عن اللفظيات والخلافات وكل ما يشوش أو يبعد عن تصور المعنى المقصود. وأما التعليم المكتبي فأسلوب الجمعية في تلقين العربية هو أحد مفاخرها، فهي تعهد إلى الأساتذة الذين هم لنظرها بتلقين التلامذة أبسط القواعد في أسهل التراكيب، ثم تمكينها من نفوسهم بالتمرينات التطبيقية، والحرص على اشرابهم معنى ما يقرأون والاجتهاد في تربية ملكة الذوق والاستنتاج في نفوسهم، وفي إصلاح اللهجات التي حرفتها العامية عن سبيلها العربي وتقويم اللسان على الحروف وهيأتها ومخارجها، والتشجيع على التكلم أمام الناس بما يمليه الخاطر من غير اعتماد على وحي معلم أو كتاب، واقتلاع تلك العادة السيئة التي كانت سائدة في المكاتب، عريقة في الأوضاع المنزلية، وهي عادة الهيبة والحصر. وللجمعية- بحَمْدِ الله- في هذا الباب أساتذة لا يقصرون عن كمال، ولا يدفعون عن أولية. وقد ظهرت نتائج هذا التعليم جلية في كل تلميذ قرأ في المكاتب التي لنظر الجمعية ولو مدة قليلة. فاستقامت الألسنة، وصحت اللهجات، وبدأت ملكة الخطابة تنطبع في بعض البلابل البشرية، ويرجى أن يكون لهذا مبدإ الحسن ختام أحسن منه. ويدخل في باب التعليم المكتبي قراءة القرآن، فالجمعية تعطيه جزءًا من اهتمامها، وكيف لا تهتم بالقرآن وهو سلاحها الذي به تناضل، وسيفها الذي به تصول، وعدتها في الشدة، وعلى الدعوة إليه بنت مبدأها الإصلاحي، وفي الدعوة إليه لقيت الأذى، ورميت بالعظائم؟ إن جمعية العلماء على ما خدمت به القرآن من تبيين حقائقه للناس، ونشر فضائله بينهم، وتحبيبه إلى نفوسهم، وشرح مزاياه فيهم، وجعله أساسًا في التذكير والوعظ- على كل ذلك تتمنى لو تتفسح أمامها السبل، ويخف عنها ما تلاقيه في طريقها من معاكسة الطرقيين وأذنابهم، وإعنات الحكومة وعمالها- لتقوم كل القيام بما يجب عليها للقرآن من حق، فتنشئ من أبناء الأمة جيلًا قرآنيًا يتقن حفظ القرآن وأداءه، ويحسن فهمه والعمل به ويتخلق بأخلاقه ويتربى على هديه، ثم ينشر بواسطته دين الله في أرض الله. ومن فروع التعليم المكتبي تعليم الأميين من الكبار مقدار ما يرفع الأمية عنهم، وهذا الفرع من أهم فروع التعليم في نظر الجمعية، ولها فيه الأمل الفسيح وإذا كانت أعمالها فيه

لحدّ الآن قليلة، ومساعيها ضئيلة، فإن مقاصدها في محاربة الأمية جليلة، ومتى تم استعدادها لهذه المسألة من تعميم الشُّعَب وتيسر المال فإنها ستشن على الأمية غارة شعواء، وستبلغ منها ما تريد ان شاء الله. وأما المحاضرات التهذيبية فأسلوب الجمعية فيها أسلوب الخطابيات المؤثرة في العقول، الحافزة للنفوس، المنبهة للمشاعر على طريقة الترغيب والترهيب. وللجمعية- من فضل الله- ألسنة سيالة، ومحاضرون قد بلغوا الغاية، فصاحة ورباطة جأش، ونصاعة لفظ، وتفننًا في المواضيع وملكًا لها، ومتانة إلقاء. هذا شأنها في إصلاح الأسلوب، وأما إصلاح الكتب فإن عمدة الجمعية في التذكير على كتاب الله، وحديث نبيه عليه الصلاة والسلام، ومدرسوها ما منهم إلّا من له في العلم مقام معلوم، وهم يلتزمون في تذكيرهم الأحاديث التي صحت أسانيدها ومتونها، ودواوين الحديث الصحيحة المعتمدة موجودة متوافرة، فلا عناء في هذا الباب ومن بركات جمعية العلماء على هذا القطر أن أمهات التفسير الموثوق بها وكتب الحديث الصحيحة راجت بين الناس، وعمرت الخزائن، واكتسحت تلك الكتب التي ضللت الناس وقتلت مشاعرهم، وان الأحاديث الصحيحة بدأت تتداول على الألسنة، وتتناول في المجالس، وترصع أحاديث الناس في مواطن الاستدلال، وان رواية الحديث بدأت تنتعش. أما الدروس الأخرى فإن الجمعية تختار لها من الكتب ما هو أقرب إلى الإفادة وأعون على تحصيل الملكة العلمية، وتجتنب الكتب الجامدة المعقدة التي لا تفتق ذهنًا ولا تبعث في نفس الدارس نشاطًا، وتختار للمطالعة في مختلف العلوم، الكتب الحية السهلة، وليس هذا محل تفصيل القول في الكتب وما لها من أثر في نفس الدارس والمطالع، وما لها من دخل في نتائج التعليم، وإن ميدان القول فيها وفي صالحها وفاسدها لفسيح وان في رجال الجمعية البارزين لمن هو من أهل الاختصاص في هذا الباب. إن جمعية العلماء تبث في أساتذتها وتلامذتها وجميع أعضائها والمتعلمين على طريقتها روح المطالعة النافعة، والبحث العلمي السديد، وترشدهم إلى كيفية المطالعة وطرائق البحث في التاريخ والاجتماع والأدب، والرجال والكتب، وإذا كان المتأهلون لهذه المباحث الآن تصدهم عنها شواغل الدروس وغيرها، فإن النهضة الجزائرية العلمية التي كونتها جمعية العلماء، والحركة الفكرية التي غذتها ستتمخضان بناشئة تساهم في الابحاث العلمية ان شاء الله مساهمة قيمة.

موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة

موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة: وقفت جمعية العلماء المسلمين من البدع العامة والشعائر المستحدثة كبدع المساجد، وبدع الجنائز، وبدع المقابر، وبدع الحج، وبدع الاستسقاء، وبدع النذور، كما وقفت من بدع الطرق وضلالات الطرق وقفة المنكر المشتد الذي لا يخشى في الحق لومة لائم في وقت استحكمت فيه هذه البدع حتى أصبحت دينًا مستقرًا، وعقيدة راسخة، فغيرت بالقول، وأغارت بالفعل، وبينت بالدليل، وقارعت بالحجة، وطبقت بالعمل، وكان في أعمال أعضائها أسوة حسنة للناس. وشعارها في هذا الباب أن كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة. وقد أقر الله عينها بإماتة بدع كثيرة، واحياء سنن كثيرة، وانها لترجو- بمعونة الله- أن تقضي على البقية الباقية من البدع برغم صراخ المبطلين، وعويل المستغلين، وفقها الله وسدد خطاها. موقف الجمعية من الالحاد: الالحاد ضيف ثقيل حل بهذا القطر منذ انتشرت بين أبنائه الثقافة الأوروبية من طريق التعليم اللاديني أو من طريق التقليد الأعمى، وغذته غفلة الآباء والأولياء عن هذه الناحية الضعيفة من أبنائهم. ذلك أن الناشئ الذي يتلقى التعليم في هذه المدارس اللايكية يحس من أول أيامه في التعليم بمنافرة ما يتعلمه في المدارس من حقائق الكون مثلًا لما تعوّد سماعه من أهليه، ثم يزداد ما يسمعه في المدارس رسوخًا في نفسه بما يقام عليه من الدلائل فيزداد على قدر ذلك نفورًا من كل ما يسمعه من أهليه، ثم ينقلب ذلك النفور منهم ومما يسمعه منهم احتقارًا لهم وله، ولكل ما يلابسهم من عوائد وأزياء حتى ينتهي به الأمر إلى الدين إذ يجد أبويه وأقاربه لا يعرفون منه إلّا قشورًا ممزوجة بالخرافات، ثم هم لم ينشئوه على احترام الدين ولم يشربوه حبه من الصغر ولم يروضوه على إقامة شعائره، فإذا تمادت به مراحل التعليم وهو على هذه الحالة، شب على الوحشة من قومه ولغته ودينه وملك الالحاد عليه أمره إلّا من رحم ربك، وهذه عاقبة طبيعية للإهمال المتفشي في مثل الأوساط الجزائرية، فإن كثيرًا من الآباء يطلقون لأبنائهم الحبل على الغارب ولا يحوطونهم بالرعاية اللازمة لحماية دينهم وأخلاقهم وقوميتهم، بل يكلونهم إلى عادات فاسدة ومؤثرات ضعيفة لا تقوى على مقاومة ما يجدّ على مشاعرهم ويغزو عقولهم كل يوم من مؤثرات قوية جذابة مسلحة بالدليل. على أن من فضل الله على الجزائر أن الالحاد لم يتسرب إلى عقول أبنائها المتعلمين إلّا بنسبة ضئيلة، والسر في ذلك يرجع من جهة إلى تصلب الجزائري في دينه وإن كان جاهلًا به، ومن جهة أخرى إلى سياسة الميز الخاطئة التي يشهد المتعلم آثارها حتى في التعليم وصفوت التعليم.

وقد كان لجمعية العلماء الآثار المحمودة في مقاومة الالحاد بما يبثه رجالها من حقائق الدين، وبما يشرحونه في دروسهم ومحاضراتهم من مطابقته للعقل واتفاقه مع قضايا العلم ومسايرته للحياة المدنية، وبما أرشدوا إليه الآباء من رعاية الأبناء والظهور أمامهم بمظهر القدوة الصالحه فى الدين والخير والفضيلة. وان من الأسباب التي مكنت للإلحاد في نفوس الشبان المتعلمين مجانية علماء الدين الجامدين لهم ونفورهم منهم، وهي عادة ما يزال يتسم بها هذا الصنف من العلماء إلى الآن، وبهذه العادة السيئة كادوا يضيعون على الأمة طائفة من أبنائها هم ذخرها للمستقبل وعدتها للشدة، ولكن رجال جمعية العلماء يعلمون أن هذه الطائفة المعرضة للالحاد هي زهرة الأمة وانها جديرة بكل عناية واهتمام، وأنها- وإن لم تسلم طائف الالحاد- سالمة من الجمود والتخريف، وأنها أقرب إلى الإصلاح والرجوع إلى الحق بما معها من إدراك صحيح وبما فيها من ملكات الاستدلال، لذلك مازجوا هذه الطائفه وخلطوها بأنفسهم وعرفوا كيف يجذبونها إلى المحاضرات والدروس الدينية، فكان لهذه الطريقة الرشيدة أثرها الصالح في تقويم زيغ الزائغين منها وإرجاعهم إلى حظيرة الدين بكل سهولة، ونتجت عن ذلك نتيجة أخرى وهي تحبيب هذه الطائفة في اللغة العربية حتى أصبح الكثير منها معنيًا بها، نادمًا على ما فرط في جنبها، متداركًا بقدر الإمكان ما فاته منها. إن هذا الجهد الذي تجهده جمعية العلماء في مقاومة الالحاد هو غاية الممكن في هذا الباب. أما الدواء الذي يجتث هذه العلة من أصلها فهو قيام الآباء بواجبهم من التربية الدينية الصحيحة، وما دام أبناؤنا يأوون إلى بيوت قواعدها الجهل والخرافات، وقعائدها الجاهلات الخرافيات، فنحن بين حالين لا ندري أيهما شر؟ الأمية ومعها التخريف، أو القراءة ومعها الإلحاد. وإنك لا تبعد إذا قلت إن لفشوّ الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة أثرًا كبيرًا في فشو الإلحاد بين أبنائها المتعلمين تعلمًا أوروبيًا، الجاهلين بحقائق دينهم؟ لأنهم يحملون من الصِّغر فكرة أن هذه الأضاليل الطرقية هي الدين، وأن أهلها هم حملة الدين، فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل، فأنكروها حقًا وعدلًا، وأنكروا معها الدين ظلمًا وجهلًا؟ وهذه إحدى جنايات الطرقية على الدين. أرأيت أن القضاء على الطرقية قضاء على الإلحاد في بعض معانيه وحسم لبعض أسبابه؟ وقد قرأت في هذه الأيام لكتاب تونسي مقالًا يَنْعَى فيه على جمعية العلماء إهمالها لهذه الجهة من جهات الفساد وهي جهة الإلحاد، واعتذر عن علماء جامع الزيتونة بأنهم، وإن قعدوا في نواحي الاصلاح التي تخبّ فيها جمعية العلماء وتضع، قاموا في حرب الإلحاد بما شكرهم عليه، ولكنه حصر عملهم في هذا السبيل في خطب جمعية ينددون فيها بالإلحاد ويحذرونه.

موقف الجمعية من التبشير

وفات هذا الكاتب الفاضل أن جمعية العلماء لم تسكت عن الالحاد بل هاجمته في أمنع معاقله، ونازلته في أضيق ميادينه. كما فاته أن صرعى الالحاد لا يغشون المساجد، فما تأثير الخطب الجمعية التي تلقى على المصلين؟ وهل يداوى المريض بتحذير الأصحاء من المرض أو أسباب المرض؟ ألا إن العالم المرشد كالطبيب، لا ينجح في إنقاذ المريض من الموت إلا بغشيان مواقع الموت ومباشرة جراثيم الموت. موقف الجمعية من التبشير: التبشير بشكله الحاضر نتيجة من نتائج التعصب المسيحي المسلح، ومولود من مواليد القوّة الطاغية التي تسمي كل ما ترضى عنه من الأعمال المنكرة حرية دين أو حرية فكر، أو حرية تجارة، وأداة من أدوات السياسة في ثوب ديني وشكل كهنوتي، دفعته أولًا ليكون رائدها في الفتح وقائدها إلى الاستعمار، وأمدته بالمعونة والحماية، والصيانة والرعاية، فمد اشطانه، وأصبحت جميع الأوطان أوطانه، حتى إذا صاح صائح بالويل أو صرخ مستغيث بالليل، قالت السياسة: اسكت فعمل التبشير من عملي، هو حر وأنا حامية الحرية، وهو (انساني) وأنا منقذة الإنسانية. وهذا التبشير المسيحي (الإنساني) يرى أن أعدى عدو له المصلحون المسلمون لأنهم يدعون إلى الإسلام النقي، والإسلام النقي لا مطمع للتبشير في طرق حماه. وما عهدنا بالشيخ رشيد رضا- رضي الله عنه- ومنازلاته للمبشرين ومناظراته للمبشرين ببعيد. وضع أساس التبشير في الجزائر الكردينال لافيجري وأسس مراكزه المهمة، ثم أتمت الجمعيات التبشيرية ما بدأ به، وهي جمعيات قوية يمدها الأغنياء من المسيحيين (المتسامحين) بالملايين من المال، ويمدها رجال الكهنوت ونساؤه بالأعمال، وتمدها الحكومات (اللادينية) بالمعونة والتأييد. وقد راعت هذه الجمعيات في اختيار المراكز نفسية السكان وحالة المعيشة، ومن أهم المراكز مركز "ورقلة" في الجنوب الجزائري حيث يكثر طروق المجاعات، ومركز "بني اسماعيل" قرب بجاية ومركز "ايغيل علي" ومراكز زواوة. ولقد كان من المعقول أن يثمر التبشير في القطر الجزائري ويأتي بنتائج أكثر مما يأتي به في الأقطار الأخرى لعدة اعتبارات، أولًا: تقادم عهده، وثانيًا: صولة الاستعمار الذي يحميه، ثالثًا: فشوّ الجهل والأمية والفقر في الأمة التي هي فريسة التبشير، رابعًا: انتشار الطرقية التي هي ظئر التبشير وكافلته والممهدة له حسًا ومعنى، وإن جهل هذا قوم فعدوا

موقف الجمعية من بقية الرذائل

من حسناتها مقاومة التبشير، خامسًا: قعود علماء الدين عن المقاومة وسكوتهم عن المعارضة قبل جمعية العلماء. ولكن الواقع أن التبشير مع طول المدة واستكمال العدة لم يلق النجاح الذي يتناسب مع الجهود المبذولة فيه، والسبب الأكبر في ذلك يرجع إلى شيء واحد هو تصلب الجزائري في دينه مهما بلغت به العامية والأمية والفقر. هذا كله قبل وجود جمعية العلماء، فأما بعد وجودها- وما وجودها ببعيد العهد- فإن من برنامجها مقاومة التبشير بقدر المستطاع، وإلى الآن لم تتوفر لديها الوسائل الكافية لتنظيم مقاومة منتجة، وأهم عنصر في هذا الباب هو المال، ورغمًا على ذلك فقد ارتفعت أصوات حارة بمقاومة التبشير من جوّ جمعية العلماء في المحاضرات العامة والصحف السيارة. ولكنا نعتقد، كما هو الواقع، أن الأقوال ليست هي السلاح الذي يحارب به التبشير مهما كانت حارة بليغة متينة الحجة، وقصاراها التحذير من الوقوع في اشراك المبشرين. وإنما السلاح الماضي الفتاك في هذا الميدان هو المال. ولعمري كيف تستطيع أن تقاوم جمعيات منظمة من ورائها أمم غنية تغدق عليها المال، مجهزة بالجيوش الوفيرة من الرهبان والراهبات والأطباء والممرضات، يوحد الجميع أخلاق ممتازة من الصبر والثبات والإيمان الجازم بحسن عاقبة ما وقفوا أنفسهم له. ولو أن عند أغنياء المسلمين بعض ما عند هؤلاء من سماحة اليد في سبيل الدين، لطووا هذا التبشير الزائغ ولنشروا الإسلام في أقطار الأرض كلها، وإن دينهم ليأمرهم بهذا، ولكن أين هم من دينهم؟ موقف الجمعية من بقية الرذائل: لا نبالغ إذا قلنا إن من بواكر النجاح الأولى التي جنتها جمعية العلماء، إرجاع الغاوين من المسلمين إلى حظيرة الدين، ولا يحصى عدد الذين تأثروا بمواعظها فأصبحوا يحافظون على الصلوات بشروطها الحسية والمعنوية، ولا عدد الذين هجروا أم الخبائث "الخمر". بل لقد كانت نتائج الإعراض عن الخمر ملموسة بارزة ضج لها تجار الخمر وتنادى بائعوها بالويل والثبور وتعالت أصواتهم بالتذمر، كما تعالت أصوات مشائخ الزوايا وسدنة القبور. وبالجملة، فقد وقفت الجمعية من جميع الرذائل المتفشية في الأمة الجزائرية- من خمر وفجور، ومسارعة في الأيمان الفاجرة، وترك صلاة، وشهادة زور- موقف الخصم الجبار، وحملت عليها- وما زالت تحمل- حملات صادقة شكرها لها المنصفون وإن قلل من شأنها المتعسفون.

جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي

جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي: نسمع نغمات مختلفة ونقرؤها في بعض الأوقات كلمات مجسمة- صادرة من بعض الجهات الإدارية أو الجهات الطرقية- تحمل عليها الوسوسة وعدم التبصر في الحقائق من جهة، والتشفي والتشهير من جهة أخرى، هذه النغمات هي رمي جمعية العلماء تارة بأنها شيوعية، وتارة بأنها محركة بيد خفية أجنبية، وتارة بأنها تعمل للجامعة الإسلامية أو العربية (8) أو تعمل لنشر الوهابية، والطرقيون لا تهمهم إلّا هذه الكلمة الأخيرة، فهي التي تقض مضاجعهم وتحرمهم لذيذ المنام، وحالهم معها على الوجه الذي يقول فيه القائل: فَإِذَا تَنَبَّهَ رُعْتَهُ وَإِذَا غَفَا … سَلَّتْ عَلَيْهِ سُيُوفَكَ الْأَحْلَامُ وكيف لا يحقدون عن هادمة أنصابهم، وهازمة أحزابهم؟ فتراهم لاضطغانهم عليها يريدون أن يسبوها فيسبوننا بها من غير أن يتبينوا حقيقتها أو حقيقتنا. والقوم جهال ملتخّون من الجهل، وحسبهم هذا. أما الجهات الإدارية فيهمها كل شئ ويعنيها كل شيء. وكل شيء في المنطق الإداري محتمل الوقوع، ولو كان من القضايا التي لا تلازم بين طرفيها، ولو لم تظهر الإدارة في كثير من المواقف بتأييد الطرقية والتحيز لها، لقلنا فيما ترمينا به هو حزم السياسة والسلام، وقد اطلعنا على كثير من تقاريرها السرية المتعلقة بنا، فرأينا العجب العجاب، ولسنا نلوم الإدارة على تحريها واحتياطها، وتشددها واشتراطها، بقدر ما نلومها على جهل وَزَعَتِهَا واشراطها. فعجيب- والله- ومؤلم- والله- أن تعتمد في التحري علينا وعلى دروسنا ومحاضراتنا رجالًا لا يفقهون فقه اللغة العامية ومغازيها، فضلًا عن العربية الفصحى، ونحن قوم لساننا عربي فصيح نصرفه قي وجوه القول المختلفة، ونديره على حقائق اللغة ومجازاتها ومترادفاتها ومشتركاتها، ونسيمه في حكمها وأمثالها، وسائر تصاريفها وأحوالها، أفيجوز في حكم الانصاف أن تؤخذ التقارير عنا من قوم هذا شأنهم؟ نقول "الجهد" فيفهمون "الجهاد" ونقول "الأساس" فيفهمون "السياسة"! فإن قالت الادارة إنهم محلفون (كما قال لي كبير إداري فاوضته في هذا الأمر) فهي أول من يعلم أن التحليف- قد- يمنع من الكذب، ولكنه لا يمنع أبدًا من الجهل باللغة. سمعنا تلك الكلمات وقرأناها وعلمنا أنها نتائج تقارير سرية تبذل فيها جهود وأموال، وعلمنا المغازي التي ترمي إليها، والدوافع التي حملت عليها، وفهمنا أنها استنباطات واختلافات لا قيمة لها لأنه لا وجود لها، وإنما يراد بها التهويل والتضليل ومآرب أخرى، كما يهول على الأطفال بالغول وما لا حقيقة له. ونحن قد شببنا عن طوق الطفولة فلم نعر

_ 8) المقصود الفكرة العربية لأن الجامعة كمؤسسة لمَّا تتكون بعد.

هذه الكلمات التفاتًا، ولا شغلتنا بجواب، ولا أصغت منا صاغية، ولا صدتنا عن عمل، ولا أوهنت لنا عزيمة ولا فلت لنا حدًا، ولا بالينا بقائليها بالة. أما الطرقيون فلعلمنا أنهم رمونا بالكفر فكيف بما دونه؟ وأما الجهات الأخرى فلعلمنا أن سبيلها الحجة والدليل، فلندعها حتى تقيم الدَّليل، ولكن مع هذا كله يجب أن نقول هنا كلمة في حقيقة هذه الجمعية طالما قلناها وهي عملها مترجمًا في سطر، ومداها محصورًا في شبر، كما يقال للشمس هي الشمس، فيكون ظهورها هو علة تعيينها، ونورها هو سبب تبيينها. جمعية العلماء جمعية علمية دينية تهذيبية، فهي بالصفة الأولى تعلم وتدعو إلى العلم، وترغب فيه وتعمل على تمكينه في النفوس بوسائل علنية واضحة لا تتستر، وهي بالصفة الثانية تعلم الدين والعربية لأنهما شيئان متلازمان وتدعو إليهما وترغب فيهما وتنحو في الدين منحاها الخصوصي، وهو الرجوع به إلى نقاوته الأولى وسماحته في عقائده وعياداته، لأن هذا هو معنى الإصلاح الذي أسست لأجله ووقفت نفسها عليه، وهي تعمل في هذه الجهة أيضًا بوسائل علنية ظاهرة. وبمقتضى الصفة الثالثة تدعو إلى مكارم الأخلاق التي حض الدين والعقل عليها لأنها من كمالهما، وتحارب الرذائل الاجتماعية التي قبح الدين اقترافها وذم مقترفيها، وسلكت في هذه الطريق أيضًا الجادة الواضحة. وبهذه الصفة تعمل لترقية فكر المسلم بما استطاعت، وترشده إلى الأخذ بأسباب الحياة الزمنية، وتريه ما يتعارض منها مع الدين وما لا يتعارض. فالجمعية- بهذا الوصف الحقيقي لها- أداة من أدوات الخير والصلاح، وعامل لا يستهان به من عوامل التربية الصالحة والتهذيب النافع، وعون صالح لأولي الأمر على ما يعملون له من هناء وراحة، تشكر أعماله ولا تنكر. ولئن قالوا: ان هذه الجمعية فرقت الأمة ... لنقولن ومتى كانت هذه الأمة مجتمعة حتى يقال إن الجمعية فرقتها؟ ان الأمة كانت فرقًا شتى كلها على الباطل والضلال، فجاءت جمعية العلماء فردت تلك الفرق إلى فرقتين، إحداهما على الحق والهدى، هذه هي الحقيقة لا ما يهذي بها قصار النظر صغار العقول. والجمعية فيما وراء هذا مرتبطة بالعالم الإسلامي أفرادًا وشعوبًا بما يترابط به المسلمون من حقائق دينهم ومظاهره، وهذه ناحية ارتباط طبيعية ذاتية، وصلة اشتباك روحية فطرية

خاتمة

يلتقي عليها المسلمون كلهم في مشارق الأرض ومغاربها، كما يلتقي العقلاء كلهم على معقول واحد من غير أن تتلاقى الأجسام، أو تتناقل الأقدام أو تتراسل الأقلام. وفيما عدا هذا فالجمعية جزائرية محدودة بحدود الجزائر، مربوطة بقانون الجزائر، لأن أعضاءها كلهم من أبناء الجزائر. فهل فهم الخراصون؟ لا يسرنا أن يفهموا، ولا يسوءنا أن يجهلوا أو يتجاهلوا. خاتمة اقتصرنا في هذه العجالة على هذا العرض الموجز لأصول الاصلاح الديني وحركته الأخيرة التي هي طور من أطوراه، وعلى لمع من تاريخ هذه الحركة بالقطر الجزائري، وأشرنا إلى بعض الحوادث العظيمة بكلمات قليلة، لأن القراء في الجزائر يعرفونها وإليهم سقنا الحديث، وأما إخواننا خارج الجزائر فعذرنا إليهم أننا لم نذهب في هذه العجالة مذهب الاستقصاء التاريخي، وإنما سلكنا مسلك من يستخرج العبر من الحوادث، ولعلنا شارفنا الغاية في هذا الباب. كان المنتظر أن نكتب هذه العجالة بأسلوب علمي في مواضيع علمية، أو في موضوع له تعلق بجوهر الإصلاح كمناهجه وطرقه، أو مكانته من بين فروع الإصلاح الدنيوي وصلته بها، أو ببيان الارتباط بينه وبين نفسية الأمة. ولكننا آثرنا هذا الموضوع لأنه في نظرنا أهم من جهة كشفه على كثير من المغالط التي هي حديث الناس اليوم. وآثرنا هذا الأسلوب الشعري لخفته على أذواق القراء، وقربه من نفوس الأدباء، ولأن الطريقة الأدبية في الكتابة هي أملك الطرائق لنفوس القراء بالجزائر، وعسى أن نكون وفقنا إلى إصابة مواقع التأثير من نفوسهم.

الأمية

الأمّيّة* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوة الكرام: إن الكمال والنقص وصفان يتعاقبان على الفرد كما يتعاقبان على المجموع، وهذا الإنسان العاقل خُلق مستعدًّا للكمال، وقد هيّأ له خالقه الحكيم أسبابه ومكّن له وسائله، ونصب له في داخل نفسه وخارجها أمثالًا يحتذيها لبلوغ الكمال، ووضع بين عينيه صور الموجودات وعوارض الكمال والنقص فيها لينتزع من قوانين الكمال فيها قانون كماله، وليجتنب من علمه بأسباب نقصها أسباب نقصه، وإن كانت أصول الكمال والنقص في العالم الإنساني تختلف عن أصولها في غيره من العوالم، لأن لاختيار الإنسان مدخلًا كبيرًا وأثرًا قولًا في كماله ونقصه، والاختيار من خصائص هذا الإنسان. ومما علمناه من شؤون الاجتماع البشري أن الكمال فيه نسبي إضافي، فما من كمال إلا وفوقه كمال، وأن الكمال في المجموع متوقف على الكمال في الأفراد، وأن النقص في المجموع مترتب على النقص في الأفراد؟ فمتى أخذ الأفراد بأسباب الكمال وسلكوا له وسائله كمل المجموع. ومتى قعد الأفراد عن تعاطي أسباب الكمال فشت النقائص في المجموع. وإنما تتفاوت حظوظ الأمم في الكمالات المكتسبة كالغنى والعلم والتضامن والتعاون والاتحاد والترقي في أسباب المعيشة.

_ * تقرير عن الأمية ألقي في مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي انعقد بنادي الترقي بالعاصمة في سبتمبر 1935، (كتاب سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المطبعة الإسلامية الجزائرية، قسنطينة، [ص:85 - 93]).

ويتضح من هذا كله أن كل ما يسمى من أحوال الأمم تطورًا هو في الحقيقة عبارة عن مداورتها بين النقص والكمال صعودًا وهبوطًا. أيها الإخوة: نحن نريد من الكمال هنا الكمال المكتسب الذي في مكنة الانسان الوصول إليه بالتعمل والتهمم والمزاولة، ولسنا نعي الكمال الخلقي التكويني الذي لا يد للمخلوق فيه، ذلك الكمال الذي يتفاوت فيه العاملون حتى يكونوا كما قال الشاعر: وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا … إِلَى الْمَجْدِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ وإن سنة الله في الأمم أنها تتقاعس عن الفضائل وتتناعس عن الكسب وتنغمس في النقائص فتتدهور إلى الحد الذي تقتضيه قوة تلك النقائص وأسبابها. فإذا أراد الله بها خيرًا بصّرها بتلك النقائص وأشعرها بمعنى الكمال، وأيقظ في نفوسها دواعيه فيأخذ أفرادها بأسباب الكمال متعاونين أو متنافسين حتى يصلوا إلى أقصى مراتبه. فإذا شعروا ولم يعملوا لبلوغ الكمال مع القدرة على العمل فقد باءوا بالعيب الفاضح وكانوا هم المعنيين بقول المتنبي: وَلَم أرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا … كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ والكمالات- أيها الإخوة- كلما زادت في الأفراد كانت مقلدًا في قوة حيوية الأمم، كذلك النقائص هي نقص في حيوية الأمم، وقد تنتهي بالأمة إلى الفناء والعدم. ومن الأمثلة الصريحة التي لا تحتاج إلى ترتيب الأقيسة في الاستدلال عليها، نقيصة الأميّة. فإنها لا تفشو في أمة وتشيع بين أفرادها إلا فتكت بها وألحقتها بأخس أنواع الحيوانات، ومكنت فيها للجهل والسقوط والذلة والمهانة والاستعباد. الأميّة- بمعناها اللغوي العرفي- وهو الجهل بالقراءة والكتابة، مرض فتّاك، ونقيصة مجتاحة، ورذيلة فاضحة، وشلل وزمانة في جسم الأمّة التي تُبتلى بها. فإذا كنا نعرف من شؤون الأفراد أن من يصاب منهم بشلل تتعطل منه وظيفة العضو المصاب، كذلك يجب أن نعرف من شؤون الأمم هذه الآثار السيئة التي تنشأ عن الأمّية، وهي تعطيل المواهب والقوى مع الفرق العظيم بين تعطيل وظائف أجزاء الجسم وبين تعطيل أجزاء الأمّة. لا تفشو الأميّة في أمّة إلا أفقدتها معظم خصائص الحياة. وأكبر جناية تجنيها الأميّة على الأمم هي القضاء على التفكير. والتفكير هو المعيار الذي توزن به القيم العقلية في الأمّة سموًّا وإسفافًا. ومحال أن يسمو تفكير الأمي لأن فكره في

قفص من أمّيته، وهو كالطائر قصّ جناحاه فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه (طائر). وما دامت المدركات الإنسانية قاصرة على البسائط لا تتناول المدركات العليا، فإن التفكير يكون بسيطًا. فإن ارتفع قليلًا فذلك إما آت من فطرة سليمة أو من تجاريب صحيحة. أما آفاق التفكير الفسيحة التي تسبح فيها أفكار المفكرين، فإنها لا تفتح إلا بالقراءة والدراسة. وأنّى للأمّي بهما. وان فيما نراه سائدًا في أوساطنا الجزائرية من بساطة التفكير وتدلّيه خصوصًا في الشؤون العامة، إن في ذلك الذي نراه ونشاهده ونتأسف له لدليلًا على أن هذه الأميّة هي أخت الوثنية في الفتك بالعقول وتعطيل مواهبها. فلا كانت الأميّة ولا كانت الوثنية، من رضيعتي لبان واحد، وربيبتي حجر واحد. والأميّة، أيها الإخوان، تتفاوت شناعتها وقبحها في الأمم بتفاوت عهود البداوة والخضرمة والحضارة، فيهون أمرها نوعًا في الأمم البدوية القريبة من مناحي الفطرة في مظاهر حياتها. ومن هذا القبيل شأن العرب. فإن الأميّة لم تقعد بهم عن مجاراة أمم الحكمة وإن قعدت بهم عن مجاراة أمم العلم والصناعة. وما ذلك إلا لأن حياتهم كانت بسيطة غير معقدة. ومع ذلك فإن أهل الكتاب كانوا يعدّونها في العرب وصمة وحطة وسبب احتقار. فقد حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. والعرب أنفسهم كانوا يشعرون بغضاضة الأميّة كما يشعر الجاهل بغضاضة الجهل. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}. ونستثني من هذا كله حال نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - ونعته بالأمّي، فإن ذلك كان لحكمة ظاهرة السر معقولة المعنى، وكان معجزة، والمعجزة من أفق آخر فوق العادات والقواعد والسنن. ويتجلّى قبحها وشناعتها وغضاضتها في عهود الحضارة كحالنا اليوم، فإن الحياة في عهدنا تتطلب ممن يريدونها ويحرصون عليها تفكيرًا منظمًا ينبني عليه عمل منظم، وتتطلب منهم اضطرابًا في سكون وسلمًا في حرب وحربًا في سلم وأنواعًا شتّى من المصارعات بين الهوى والعقل في الحي الواحد وبين الحي والحي في الميدان الواحد وعلى المطلب الواحد. فهذا بعض ما تفرضه الحياة على الأحياء وتعدّه من شروطها. وأما الأميّة فإنها تطبع المصابين بها بطابع حيواني ساذج، فنراه حيًا كميت ومتحركًا كساكن، يضطرب من نفسه في المضطرب الضيّق ويقف عند حدود تفكيره وقفة الجبان الهيوب المتردّد، وتمرّ عليه مواكب الحياة المجدّة في السير والتنقّل، الممعنة في الحركة والتحوّل، وحظه من ذلك كله التفرج والاستغراب. أيها السادة: إن الأمم الحية في وقتنا هذا ما حييت إلا بالعلم الاختباري التطبيقي، وأساس هذا العلم- وإن علا- القراءة والكتابة. ولما انتهى العلماء منهم إلى أبعد غاية في العلم وتسنموا منه أعلى ذروة، التفتوا يتبيّنون الطريق التي وصلوا منها إلى هذه الغايات

البعيدة، فرأوا أن مفتاح الباب الذي منه دخلوا ومبدأ الطريق الذي منه وصلوا هو "ألفبا"، وأن أول منعم عليهم بهذه النعم الجليلة هو أول من علّمهم هذه الحروف الضئيلة. لذلك نرى من آثارهم ونسمع هن أخبارهم في نشر العلم ومحاربة الجهل ما يفوق الوصف، ونرى من أعمالهم ونسمع من أقوالهم في ذم الأميّة ومحاربة الأميّة ما نقضي معه بالعجب. فهناك جهود تُبذل وأموال تُصرف وطرائق تُخترع للقضاء على الأميّة واقتلاع جرثومتها الخبيثة. لأن القوم يعتبرونها- كما هي في الواقع- آفة اجتماعية مهلكة، فهم يحاربونها كما يحاربون الجراد والدود، ويقاومونها كما يقاومون الأوبئة والطواعين. ونحن نرى ظلّها كل يوم يتقلص من بين هذه الأمم، وطوفانها ينحسر حتى ليوشك أن لا يبقى في بعضها أمّي واحد. وإن الإحصاءات الرسمية المدققة تدلّ دلالة قاطعة على أن القوم جادّون في هذه الحرب وأن عدد الأميّين كل يوم في تناقص، وأن نسبتهم كل عام في هبوط بحيث يقولون إن الأمّة الفلانية لم يبق فيها من الأميّين إلا عشرة في المائة والباقون كلهم قرّاء، وقد أصبحت هذه النسب محفوظة في تاريخ الأمم الحديثة ومعدودة من أحاديث فخرها ومجدها، إذ لا معنى لقلة الأميّين إلا كثرة المتعلمين وسعة انتشار العلم. فأين نسبتنا من هؤلاء؟ وأين مساعينا من مساعيهم؟ وأين خطباؤنا؟ لم لا يحملون على الأميّة حملة شعواء؟ ولم لا يعطونها من الاهتمام ما أعطوه لقرن الثور وفضائل الشهور؟ وأين شعراؤنا؟ لم لا يشاركون في حملة منظمة ويدعون إليها بقصائدهم المثيرة المحركة؟ وأين علماؤنا الذين برّأهم الله من داء الأميّة؟ لماذا لا يسعون في تطبيب غيرهم منها؟ أم هم يريدون أن تبقى الأمّة أميّة ليبقوا سادات ومشائخ؟ فإن كان هذا مرادهم فأنبئوهم عني أنه ليس من الشرف السيادة على طغام، والرعاية على أغنام. وأين أغنياؤنا؟ يخرجون الأموال ويشيّدون المدارس ويقفون في مكافحة هذا الداء الفتّاك موقف الأبطال؟ إخواني، هذا حديث عن أضرار الأميّة وويلاتها. فهل حديث عن إزالتها ومقاومتها؟ وأي سلاح تحارب به هذه الأمّة الصمّاء؟ إني أظن أن أول هيئة اجتماعية فكرت في محاربة الأميّة بصورة منظمة في هذا الوطن هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأن أول رجل أعرفه فكّر في مقاومة الأميّة بصورة

جدّية هو رئيسها المحترم. وأذكر أنني تحادثت معه في هذا المعنى، وقلّبنا وجوه الرأي فيه منذ سنوات، وربما كان ذلك قبل تأسيس الجمعية. فبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هى أول هيئة علمية منظمة بهذا القطر، وعليها، لا على غيرها، يكون التعويل والاعتماد في هذه المسائل الكبيرة. وبما أن هذا التقرير يلقى باسمها وفي مؤتمرها، فإن كل ما أعرضه عليكم يجب أن ينفّذ باسمها وأن تتوصل إلى تنفيذه بجاهها ونفوذها عند الأمّة من حيث إنها الجمعية الوحيدة التي أخذت على عاتقها خدمة الأمّة. وأول ما يجب عليها أن تبدأ به هو توجيه نصائح عامة ونداءات صارخة تستفز بها شعور الأمّة، وتثير نخوتها وحماسها لتحمل على الأميّة بقضها وقضيضها حملة صادقة. وأقل ما يكون لهذه النصائح من التأثير أنها تهئ الأذهان وتشرع الطرق وتجعل لنا من الخامل الكسلان عونًا على نفسه. وحيث إننا جرّبنا التعليم الموجود بقسميه فلم يفدنا في التخفيف من مصائب الأميّة، فقد قام الدليل على أنه غير كاف في المقصد الذي نتحدّث عنه وأن وسائله ناقصة، ووجب أن تضاعف الجهود وأن تنظم الخطط على قاعدة طبيعية بالنسبة إلينا، وهي أننا نريد تبديل الأميّة بتهذيب ولا نريد تبديلها بصناعة، لأننا نعتقد أن تبديل الأميّة بصناعة بالنسبة إلينا هو نوع من الأميّة وارد في غير اسمها. والأميّة بالنسبة إلينا صارت مرضًا نفسانيًا، والأمراض النفسانية لا تداوى إلا بما يوافق المزاج الخاص. هنا يتشعب العمل أمام جمعية العلماء لأنه كما يجب عليها أن تعالج الكبار من داء الأميّة، يجب عليها أن تحمي الصغار المعرّضين لغوائلها وفتكها. أما الصغار، فإن المصل الواقي لهم من هذه العلة هي تلقينهم مبادئ القراءة والكتابة من الصغر. وأقل ما يجب على الجمعية في هذا السبيل الوصايا والتحذيرات المؤكدة لآباء الناشئين لئلا يتراخوا أو يفرطوا في هذا الواجب. ثم عناية خاصة مضاعفة بالتعليم الذي تقوم به الجمعية، يكون أساسه والقصد منه رفع الأميّة وحماية الناشئة منها. وكلنا يعلم أن تعميم التعليم بقدر المستطاع قطع لانتشار الأميّة وتضييق لدائرتها.

ولقد كانت لجمعية العلماء جولات صادقة في هذا المضمار وهو تعليم الصغار رغم العراقيل والصعوبات. ولكنها الآن- وقد أرادت أن تحمل على الأميّة- أمام واجب أعظم يستدعي عملًا أوسع ومجهودًا أثقل. وإذا نحن بذلنا كل ما يستطاع أن يبذل في سبيل تعليم الناشئة من أقوال وأفعال، رجعنا البصر إلى الكبار الذين فاتهم سن التعليم بحكم أعمارهم وشلّت الأميّة مواهبهم، فنجد الواحد منهم إنسانًا في صورته ونطقه، ولكنه ليس بإنسان إذا لزمه وضع خطه في وثيقة أو كتابة حرفين لأهله الغائبين أو قراءة ورقة استدعاء من حاكم أو قراءة تاريخ تتوقف على أجله المسمى مصلحة من مصالحه وتترتّب على فواته مفسدة ومضرّة. وهذا القسم أحق بالشفقة والرحمة من سابقه، وأهم ما تعمله الجمعية في حق هؤلاء هو الجهود الفردية، فيجب أولًا أن تتقدم لكل أعضائها العامدين وتأخذ عليهم عهد الله وميثاقه على أن يعلم كل واحد منهم أميّا أو كثر من أقاربه مبادئ الكتابة والقراءة والعمليات الأربع في الحساب، ويحفظه سورًا من القرآن على صحتها. وتتوسل الجمعية لهذا بطبع حروف الهجاء مركّبة ومفردة على صحائف من المقوى وبطبع الأرقام الحسابية كذلك، وبطبع سور من القرآن بالحرف الغليظ، وبطبع جمل تتضمن معاني مستقلة في العبادات والعقائد والفرائض. ثانيًا: تعمد الجمعية إلى الجمعيات القانونية، وإن كانت قليلة عندنا، وإلى المجموعات التي يجتمع أفرادها في حرفة أو عمل كسائقي السيارات في بلدة أو صانعي الأحذية في سوق أو حومة (1)، فتتقدم إليهم بالنصيحة والإرشاد أولًا ثم بالعمل ثانيًا، لأن مثل هذه المجموعات أقرب إلى النظام والضبط لأنهم يجتمعون في الغالب في ساعة معيّنة وأكثر ما تكون في الليل. وكيفية العمل مع هؤلاء أن تلزمهم بدفع مبلغ معيّن من المال في كل شهر ثم تلزم طالبًا من الطلبة أن يعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة وأرقام الحساب وبسائط عملياته في ساعتين من كل ليلة، في مقابلة ذلك المبلغ الشهري الذي يجمعونه. مثلًا: ناد فيه مائة عضو منهم سبعون أميًّا يدفع كل واحد منهم ثلاثة فرنكات شهريًا فتلك 210 تعطى لطالب، ويعلّمهم الكتابة والقراءة، ويقال مثل ذلك في أصحاب الحرف المشتركين في الصنعة.

_ 1) حيٌّ من أحياء مدينةٍ أو قرية.

فإذا استطعنا أن نعمم هذا الترتيب على عشرة نواد وعشرين مجموعة من أصحاب الحرف، فإننا نتوصل في مدة قريبة إلى تعليم نحو من ألفي رجل وإخراجهم من سجن الأميّة، وإلى إيجاد سبيل لمعيشة ثلاثين طالبًا أو إعانتهم على المعيشة. وهما فائدتان مزدوجتان وغرضان شريفان يشرّف الجمعية جدًّا أن تقوم بهما. فهاتان الطريقتان اللتان بسطناهما لتعليم الكبار هما أقرب الطرق تحققًا. وإذا كان في تنفيذ الثانية صعوبة، فإن في كل عمل صعوبة، ولكن همم الرجال تدك الجبال. وقد جرّبنا هذه الصعوبات فوجدناها دروسًا نافعة لنا وشاحذة لعزائمنا فلا ترمينا الليالي بحادثة إلا إذا أخذت من نفوسنا مأخذها ثم تركت فينا عزمًا وصلابة وتمرّسًا بمكاره الحياة. هذا عرض مجمل للأميّة ومضارها وطرق مقاومتها، أعجلني الوقت عن استيعابه وإرسال القول فيه، وتحليله وتكثير طرائقه. وإذا ظهرت ثمراته، فسيكون ذلك داعيًا إلى إعادة القول وتفصيله. والله يأخذ بأيدينا وأيديكم.

إلى كتاب "البصائر"

إلى كتّاب "البصائر"* إلى حملة الأقلام من أنصار الجريدة والذادة عنها والحريصين على أن تكون مكانتها في النفوس مكافئة لمكانة الجمعية، نسوق هذه الكلمات الآتية تذكيرًا لحضراتهم وتنبيهًا على ما يجب أن يراعوه فيما يوافون به الجريدة من ثمرات أقلامهم. إن جريدة البصائر هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين. ومعنى هذا أن مبدأ الجريدة هو مبدأ الجمعية، ومبدأ الجمعية وإن تعدّدت مناحيه يرجع إلى كلمتين ذواتي مدلول واسع وهما (العلم والدين). فالجمعية لم تخرج منذ تأسست عن مبدئها الواضح الجليّ وهو خدمة العلم والدين والدعوة إليهما. ولسنا نقيم وزنًا لما رماها به المتخرصون الذين لا يفرّقون بين من يعمل لشخصه وبين من يعمل لفكرة عامة، جهلًا منهم، أو لا يريدون أن يفرّقوا مكرًا ومكايدة. لا نقيم لهؤلاء وأمثالهم وزنًا ما دمنا نعمل عن عقيدة في الحق وإخلاص له، وقد جرّبنا أقوالهم وبلونا آثارها فما كانت إلا وبالًا عليهم وما كانت إلا قوّة للجمعية وتمكينًا لها. وقد كشف الزمان عن الحقائق، وحقّت كلمة الله فكانت العاقبة للحق والصبر والتقوى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، اللهم قد صبرنا فآتنا عقبى الصابرين، اللهم وقد غفرنا فاشهد.

_ * جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 2، الجمعة 15 شوّال 1354هـ 10 جانفي 1936م، وهي الكلمة التي وُجّهت باسم المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين.

إن الجمعية قد جرت على سنة الله في تطور الكائنات وقد كان من أطوارها طور للتمهيد، وطور لإزالة الأنقاض، وهي الآن في طورها الثالث وهو طور البناء والتشييد. ولكل طور من هذه الأطوار حكمه وحكمته وظروفه وملابساته وأسبابه ومقتضياته، كما كان لجرائدها السابقة: السنّة فالشريعة والصراط حظ من هذا التطور، وكان لكل ما نشر في تلك الجرائد ظرف خاص أوجبه، وسبب خاص اقتضاه، وما أكثر المفاجآت في أطوار التمهيد والتأسيس، وما أكثر ما تلد تلك المفاجآت من أشياء تسمّى خروجًا عن الموضوع وما هي إلا من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو من باب الوسائل التي لا تصوّر المقاصد إلا بعد تصويرها، أو من باب الضرورات القاهرة. إن لله في هذه الجمعية وجرائدها حكمة هو مجليها لوقتها. فقد كانت أسماء جرائدها رموزًا إلى أطوارها، ونحمد الله الذي ألهمنا تسمية هذه الجريدة بالبصائر. فقد تجلّت على الناس في وقت انقشعت فيه سحب الرين والشكوك عن البصائر، وأيقن الناس إلا قليلًا منهم، أن ما تدعو إليه الجمعية من علم ودين حق لا ريب فيه، وستكون "البصائر" البرهان القائم على استبصار الجمعية فيما تدعو إليه من الإصلاح الديني والعلمي، وعلى استبصار الأمّة فيما تدعى إليه منهما. لذلك كله يجب علينا وعليكم- أيها الإخوان الكرام- أن نسير بالجريدة فيما يكتب فيها على خطة تتفق مع الطور الحاضر للجمعية، وهو طور البناء والتشييد، معتقدين أن حركة الإصلاح هي حركة فرغ من وسائلها وإعداد أذهان العامة والخاصة لقبولها، ولم يبق إلا الاشتغال بالمقاصد العملية، وأهمها توجيه الجهود كلها إلى بيان الحقائق العلمية والدينية بالدروس والمحاضرات والكتابة، وأن كلمة الإصلاح قد أصبحت علمًا غالبًا محدّد المعنى والحقيقة على هذا المبدإ السامي الذي ندعو إليه. ونعتقد أن من حق الله علينا الدعوة إليه، وقد كنا بالأمس قليلًا مستضعفين فأصبحنا- بحمد الله- كثيرًا ظاهرين، وسيعمّ الإصلاح الديني هذه الأمة لا بقوتنا بل بقوة الله، وسيتفق الناس عليه حتى كأن لم يكن بينهم فيه خلاف، وسيهتدي الضال ويرشد الغوي، وثقوا أنه ما اختلف اثنان في الحق إلا وأرغمهما الحق على الاتفاق فيه. أما هذه الخطة التي يقتضيها التطور فنجملها لكم في الأصول الآتية: الأول: علاقتنا بالإدارة الجزائرية علاقة صفو ومسالمة بالتي هي أحسن في خصوص دائرتنا التي نعمل لها وهي العلم والدين، والنظر في هذه العلاقة وتحديدها في الجملة من خصائص المجلس الإداري لجمعيتكم، وهو كما تعهدونه وفوق ما تعهدونه لا ينام عن حق ديني أو علمي لهذه الأمّة تخوّلها إياه القوانين والمبادئ الجمهورية، ولا يسكت حيث يجب

النطق ولا يركب لمطالبه إلا المشروع المعقول من الوسائل، ولا ييأس من إنصاف الحكومة وعدلها، فدعوا الكتابة في هذا الأصل- إن لزمت الكتابة فيه- لإخوانكم أعضاء مجلس الإدارة المطّلعين المسيرين لسفينة الجمعية المطلعين على دقائق الأحوال وجلائلها. الثاني: الشخصيات- وما أدراكم ما الشخصيات- التي ما دخلت في أمر إلا أفسدته، فلا تتنزّلوا لدركاتها ولا تغمسوا أقلامكم في حمأتها. الثالث: تحامل المتحاملين على الجمعية والجريدة بقصد الشغب وإثارة الكوامن الدفينة، فلا تتشاغلوا بهم ولا تضيّعوا أوقاتكم في الردّ عليهم، إلا أن يكون في الردّ عليهم درء لضرر محقق. الرابع: أصل النزاع بيننا وبين خصوم الإصلاح، وهذا الأصل هو أدق المواضيع التي كتبت فيها الأقلام وجالت في ميادينها، وكانت تضطر أحيانًا بحكم البيان للحقيقة إلى تسمية الأشياء بأسمائها، فتجرح أقوامًا لم يتعودوا مرارة الحقيقة ولم يوطّنوا أنفسهم على مواجهتها كفاحًا، وهذا أمر قد كفيناه فلا نعود إليه وأصبح من حظ المحاورات الكلامية التي تقع في مجالس الدعوة والتذكير، ونشأت في المصلحين طبقات تقوم بالوسائل وتقوم بالكماليات فأراحوا الكتاب ومهّدوا لهم سبيل التفرغ إلى ما هو أهم وأولى. أما أقلام كتاب "البصائر" فيجب أن تشرح الحقائق الكلية من دينية وعلمية، وتبيّن الحق بدلائله وشواهده، وتسمّيه باسمه، وتشرح الباطل وتفضحه بشبهاته وأوهامه بما نعهده فيها من نصرة الحق والغضب له، ولكن يجب أن تسمو عن النبذ والتلويح، وفرق بين أسلوب في الكتابة وأسلوب، ومعرض للكلام ومعرض. وليعلم من لم يكن على بصيرة من أمرنا أننا لا ندعو إلا إلى الله ودينه ونبيّه وسنّة نبيّه وهدي السلف الصالح من أمّته. وإننا لا ننكر على أحد لذاته أو اسمه أو شهرته، وإنما ننكر على المبطل باطله أو وقوفه في طريق الحق. ولو أنصف خصومنا لعلموا أن إنكارنا عليهم هو دليل أخوّتنا لهم، بل دليل صدقنا في هذه الأخوّة، فلو لم يكونوا إخواننا في الدين لما أنكرنا عليهم ما أنكره الدين، وأن الدين الذي أوجب علينا أن ننكر المنكر يوجب عليهم الفيئة إلى الحق، ويوجب علينا جميعًا التحاكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه والرضا بحكمهما والتسليم لهما والرجوع إلى سبيلهما الجامعة، وقد دعوناهم إلى هذا ولا نزال ندعوهم، ونسأل الله لنا التوفيق والإخلاص في الدعوة ولهم الهداية والتوفيق للأنصاف، ولا نيأس من روح الله {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.

إننا لا نريد التضييق عليكم- أيها الكتّاب الكرام- وإنما نريد إلفاتكم إلى الميادين الفسيحة والمراعي الخصيبة وتوجيهكم إلى ناحية التفكير العميق والبحث المنتج، فأمامكم من المواضيع ما تنفد الأعمار ولا ينفد. أمامكم حقائق الدين وفضائله، وآداب الإسلام وحكمه فاشرحوها وبيّنوها. وأمامكم السنن الميتة فأحيوها نشرًا ونصرًا كما أحييتموها علمًا وعملًا، وارفعوا أصواتكم بلزوم إحيائها. وأمامكم مباحث التاريخ الإسلامي وعبره وعظاته وسير أمجاده فأحيوها تحيوا بها وتحيوا ... ! أمامكم أمراضنا الاجتماعية وجوائحنا النفسية والخلقية التي حجبت عنا وجه الحياة، وأخفت علينا مسالكه فشرحوا الداء وبيّنوا الدواء، ومزّقوا الجلابيب التي أضفاها الجهل على عقولنا فلم تفقه معنى الحياة. أمامكم العلم بآفاقه المتّسعة فبيّنوا ورغبوا وأهيبوا بالغافلين عنه والمتخلفين عن ركبه أن يشمروا ويسارعوا وأن يتمسكوا بأسبابه ويأخذوه عن أقطابه. أمامكم اللغة وعلومها وآدابها فابحثوا ونقبوا واحدوا ركابها وطربوا، واسعوا لبيان فضلها سعيكم لتعليمها، وأشربوا قلوب أولاد هذه الأمة: انه ما غرّد بلبل بغير حنجرته. أمامكم العلم والدين وإذا قلنا لكم العلم والدين فقد قلنا لكم قليلًا ودللناكم على كثير! ... والإحسان الإحسان- أيها الكتّاب الكرام- فلا تكتبوا إلا فيما تحسنون موضوعه.

كتاب "السعادة الأبدية"

كتاب "السعادة الأبدية"* - 1 - لسنا في هذا المقال ننقد كتابًا ولا كاتبا وإنما ننقد فكرة خبيثة تمدها عقول وتغذّيها أسباب، ثم تبرز على الألسنة والأقلام بصور مختلفة، فلا يقولن قائل قرأ الكتاب: ما أهون الصيد وما أعظم الصائد؟! وليقرأ المقال إلى آخره فسيتبيّن ما نعني. "الكاتب" وقع في يدي، على سبيل المصادفة، كتاب صغير الحجم، فقرأت على غلافه ما يقرأه الناس عادة من اسم الكتاب واسم المؤلف ومحل الطبع الخ. فإذا هو من النوع الذي يواجه قارئه بجهل مؤلفه من أول سطر. فقد كتب جامعه على الغلاف "السعادة الأبدية" لأبي مدين الخ، فأوهمني كما يوهم كل قارئ أن الكتاب من تأليف "الشيخ أبي مدين" مع أنك لا تكاد تنحدر ببصرك إلى الكتلة الثانية من الكلمات حتى تقرأ لمؤلفه "محمّد حميدو" المدّرس بالمدارس الدولية (1)، فتقول في نفسك: لمن هذا الكتاب يا ترى؟ أهو للشيخ أبي مدين شعيب بن الحسين؟ أم هو للشيخ المدرّس بالمدارس الدولية؟ قرأت تلك الكتل الكلمية المكتوية على الغلاف واستدللت مستعينًا بما أعلمه عن الشيخ أبي مدين من أنه لم يكتب كتابًا ولم يدوّن تأليفًا، على أن الكتاب للثاني لا للأول. ثم تجاذبتني الخواطر: ماذا عسى أن تكون قيمة المؤلف بعد تلك الجهلة الفاضحة في تركيب عربي بسيط لا يخفى على تلميذ فضلًا عن مدرّس في المدارس الدولية؟ وماذا عسى أن

_ * "البصائر"، السنة الأولى (من السلسلة الأولى)، عدد (18)، بتاريخ 8 ماي 1936، (بدون إمضاء). 1) التابعة للدّولة الفرنسية.

يكون موضوع الكتاب بعد أن لم يدل اسمه على موضوعه؟ وماذا عسى أن تكون الصلة بين الشيخ أبي مدين الصوفي المربي في القرن السادس وبين مدرّس في المدارس الدولية في القرن الرابع عشر، ألا تكون هذه الصلة هي التاريخ؟ ثم ألا يكون موضوع هذا الكتاب الصغير بحثًا تاريخيًا في ناحية من سيرة هذا الصوفي الكبير الذي شغل الناس قرونًا بالحديث عنه بلسان العلم، ثم شغلهم قرونًا أخرى بالحديث عنه بلسان الجهل والتخريف؟ ألا يكون هذا الكتاب الصغير، أسلوبًا ممتعًا من أساليب الدراسة التاريخية الفنية التي يتبجح أمثال هذا المدرّس بإحسانها ويدينون باحتكارها لسادتهم الأوروبيين؟ وما عهدنا ببعيد من ذلك المدرّس الذي كتب يقول ما معناه ان خرّيجي "المدارس" (2) أقدر على تعليم علوم الدنيا والدين! .. تنازعتني هذه الخواطر قبل أن أفتح الكتاب، وكاد سوء الظن يغلب فأرميه وأحكم عليه بالسخافة حكمًا معجلًا. ولكنني ذكرت المثل "إن الجواد عينه فراره" ففتحت الكتاب فبدأت الجهالات تتوالى، فاعتصمت بالصبر وألزمت نفسي بقراءته كله من شفقه الغارب، إلى فجره الكاذب. فبماذا خرجت من هذه الليلة الداجية؟ لا أكتم القارئ أني خرجت كما تقول العامة بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها، فعاهدت نفسي أن لا أجمع عليها خيبة الأمل في الكتاب ومؤلفه، وحرمان القراء من حديث عنهما، يفيدهم عبرة ومثلًا ويفيد المؤلف شيئًا اسمه "عرفان القدر"، فقد دلّنا بكتابه على أنه لا يعرف قدر نفسه، وما أحوج المؤلف قبل كل الناس إلى مثل هذا الدرس، بل ما أحوجه إلى مثل هذا التأديب، لعله يذكر أو ينيب! ... أنت، يا حضرة القارئ، صادق إذا سمّيت قرعة الطيور كتابًا لأنك تجد فيه وحدة متناسقة وتأصيلًا وتفريعًا وخروجًا من بلدة إلى مملكة، وكل هذا تنقل إن لم يكن في الصدق ففي النظام. وأنت صادق حين تسمى مجربات الديربي والزناتي في الرمل ورجوع الشيخ إلى صباه، كتبًا لأنها سخافات منظمة، ولأن لأصحابها ذوقًا في الترتيب وشخصية في الموضوع. ولكنك لا تصدق أبدًا إذ سميت هذا السواد كتابًا وإن كان صاحبه مدرّسا، وإن سمّاه السعادة الأبدية.

_ 2) هي ثلاث مدارس أنشأتها فرنسا سنة 1857 بالجزائر لتخريج أعوانها الذين يكونون واسطة بينها وبين الشعب الجزائري (قضاة، أئمة، تراجمة) والمدارس توجد في تلمسان والجزائر وقسنطينة.

ذلك أنه ليس لصاحب هذه الورقات شيء فيها يستطيع أن يضع يده عليه ويقول: هذا لي، إلا جملة في مقدمة الكتاب نبز فيها المصلحين بالإنكار على الاولياء فلم يوفق فيها لأنها جاءت نبزة عامية تَنِمُّ عن تصور عامي بسيط في ذهن مستوخم ثقيل، وما عدا تلك الجملة الباردة التي تنبز صاحبها بالجهل قبل أن تنبز المصلحين بالإنكار على الأولياء، ما عدا ذلك، فبضع حكايات منقولة من البستان لابن مريم ومثلها من نفح الطيب، كأن صاحبها قصها بالمقص من الكتابين ووضعها بين أيدي عمال المطبعة لينقلوها بنصها، ويولّدوا منها كتابًا اسمه "السعادة الأبدية" كما يفعل أصحاب جريدة النجاح (مثلًا) بالأهرام والبلاغ وغيرهما ليولّدوا منها جريدة اسمها جريدة النجاح. فأين كتاب "السعادة الأبدية"، يا حضرة المدرّس، إذا قمنا بحق الوكالة العلمية ورددنا أمانة المقري للمقري وأمانة ابن مريم لابن مريم؟ أين كتاب "السعادة الأبدية" الذي لا نشك أنك أعلنت عنه قبل صدوره- وإن لم نتشرف بوصول الإعلان إلينا- ولا نشك أنك أذعت في قبيلك من المدرّسين وخلطائك من الأوروبيين ورؤسائك من المديرين (المتقاعدين) والواقفين، أنك مشغول بتأليف كتاب في مناقب الشيخ أبي مدين أو كراماته فتطلعوا، واستشرفوا، وترقّبوا، وانتظروا، فإذا بك لم تأتهم إلا بحكايات من كتابين هم أعرف بهما منك، فيا للخجل! أين أثرك الخاص في الكتاب؟ وأين نتاج ذهنك منه؟ وأين ميسمك فيه؟ وأين طابعك عليه؟ وأين (شخصيتك) كما يقول الأوروبيون الذين طالما تطاولتم علينا باقتفاء آثارهم في طرائق البحث؟ إن شيئًا واحدًا مما سألناك عنه لا يوجد في كتابك، فلتعلم الآن أننا لسنا ننقم عليك صغر حجم الكتاب، فرب كتاب "صغير الحجم كثير العلم"، ولسنا ننقم منك تلك النبزة التي نبزت بها المصلحين في شيء تجهل أصله وفرعه، فما أهونها عليهم، ولسنا ننقم عليك تخصيصك الكرامات بالذكر تأييدًا لتلك النبزة، وإنما ننقم منك ومن أمثالك هذه الشعوذة المزرية بشرف العلم وهذا التهافت المخجل على الكتابة في مباحثه. إنكم لا تزالون من انتسابكم للعلم وانتحالكم للتدريس تحت حماية "الديبلوم" في غفلة من الدهر وفي أوسع عافية منه، حتى إذا تقحمتم هذا التقحم وتهجمتم هذا التهجم على الكتابة والتأليف انتقم منكم العلم ففضحكم بأيديكم على رؤوس الاشهاد. ألا أدلك، لوجه الله، على شيء لو فعلته كنت تحسن لنفسك فترفع ذكرها، وتحسن إلى العلم بزيادة شيء نافع فيه، وتحسن إلى القرّاء بإفادتهم شيئًا يقولون عنه هذا فكر المدرّس لا نقله، وتحسن إلى العالم الفكري الذي تعيش فيه وهو عالم لا يعرف (قال) إلا

ناقدًا أو ممحّصًا وإنما يعرف (فكّرت) و (قلت)، وتحسن إلى الأمّة التي تنتسب إليها فتأتيها بشيء جديد، يوقظ فيها الذكرى الصالحة وينبّهها إلى القدوة الحسنة ويرفع رأسها فخرًا ويجلو عليها صفحة بيضاء من صحائف سلفها. أتدري ما هو هذا الشيء؟ هو هذا الذي وقعت عليه كما يقع الحيوان الأعجم [حاشاك] (3) على الجواهر فيدوسها بأرجله، ولا يدري إلا أنها من جنس ما يداس إذ لم تكن من جنس ما يؤكل. ومع انطباق هذا التشبيه فإنني أدلّك فاسمع: إننا عرفنا حياة الشيخ أبي مدين حق المعرفة وعرفنا مكانته في علوم الشريعة، وعلمنا مبلغ تأثره بعصره وتأثيره في عصره، وعلمنا سيرته العملية تمام العلم، وقرأنا كلامه في المعارف الإلهية والمنازع الصوفية ووزناها بميزان الشريعة فميّزنا ما يقبل مما يرد، ونحن نعظّمه تعظيمًا شرعيًا راسخًا برسوخ أسبابه لا تعظيمًا تقليديًا زائفًا. فعلمنا من كل ذلك أن في تاريخ حياته جوانب عامرة، وأن على بعض كلامه إشراق الحكمة وروحانية الحكماء. فلماذا لم تعمد، يا حضرة المدرّس!، إلى البحث في عصره، وروح عصره وتأثيره في عصره، فترضي علماء الأوروبيين الذين تروقهم أمثال هذه المباحث؟ أو إلى جانب من تلك الجوانب العامرة من سيرته فتجلوها على قومك في معرض من الكلام ينبّه الغافل، ويعلم الجاهل، ويزّين لهم الاقتداء في الصالحات، وبهذا ترضي أمّتك الفقيرة إلى مثل هذا. إننا نبهناك إلى هذا مع علمنا أنك لا تملك وسائله، وما وسائله إلا الذهن النيّر والقريحة الصافية والنيّة الصالحة، قبل ذلك وبعده ... أما ما جئت به فإن أدنى عامي من سكان قرية "العُبّاد" التي فيها مدفن الشيخ يشاركك في معرفته ويزيد عليك بعشرات من مثله، وإذا ساواك العامي في هذه المادة أو فاقك فيها، فما معنى الديبلوم؟ إننا لا نزال نقول لك ولأمثالك من العوام إن الكرامات هي الجهة العقيمة في سير الصالحين، ونوضح لكم ذلك بأنها ليست من أعمالهم الكسبية التي يقتدى بهم فيها. أما الجهة العامرة المنتجة من سير الصالحين فهي أعمالهم الصالحة، وأخلاقهم الحميدة، التي يقتدي بهم الناس فيها ويكونون فيها للناس أسوة حسنة. فلماذا تتركون هذه الأعمال التي لا يكون الصالح صالحًا إلا بها، والتي ينتفع بها كل من يقتدي بهم فيها،

_ 3) كلمة تقال في الجزائر إذا جرى الحديث عن شيء مستقبح أو مستقذر. ومعناها (تنزيهًا للقارئ أو السامع).

وتهربون إلى الكرامات التي ليست بشرط في الصلاح الشرعي، وليست مما يمكن الاقتداء فيه؟ ومعنى هذا- إن كنت لا تفهم- أن الصالح لا يكون صالحًا إلا بالأعمال الصالحة المشروعة ولو بغير كرامة، ولكنه لا يكون صالحًا بدون عمل ولو جرت على يديه جميع خوارق الدنيا. ومعناه أيضا- زيادة في التفهيم حتى يفهم البهيم (4) - أنك تستطيع الاقتداء بالشيخ أبي مدين- رضي الله عنه- في صدق لهجته وفي وقوفه عند حدود الله، وفي برّه بالمساكين، وفي تواضعه ووفائه، وفي حسن عبادته لله، وفي معرفته بقدر نفسه أيضا ... ولكنك لا تستطيع أن تقتدي به فيما يحكى عنه من الكرامات والخوارق- ولو صحّ وقوعها منه- لأنها ليست من عمله الشرعي الذي كُلّف به، وليست من تقوى الله التي يتفاضل بها الصالحون، وليست مناطا شرعيًا للتعظيم. وهل إذا خضع الأسد للشيخ فلان مثلًا أستطيع أنا الاقتداء به في ذلك، أو يحسن بي أن أقتدي به في ذلك لو استطعته؟ وهل يكون خضوع الأسد للشيخ فلان هو الدليل على صلاحه وولايته واستحقاقه للتعظيم مني؟ وإن كان هذا هو دليل الولاية، فما أكثر أمثال الشيخ فلان في "سيرك عمار" ... فاعلموا يا هؤلاء، أننا لا ننكر الكرامات، بمعنى أننا نقول إنها لا تقع، ولم تقع، ولن تقع، لا فنحن أعقل من أن نقول هذا. وإنما ننكر افتتانكم بها، وغلوّكم فيها إلى هذا الحد الذي شغلكم عن الاقتداء بالصالحين في الصالحات. وننكر على من غشّكم بها فألهاكم بما لا ينفع عما ينفع. وننكر على الجاهلين الذين لا يفرّقون بين ما يمكن وقوعه وما لا يمكن وقوعه، فلو فهمتم (لنا) أن سنن الله الثابتة لا تخرق [لخاطر] فلان وفلان، وإنما تخرق العوائد، وان العوائد متغيرة، وإن المعتاد قد يصير غير معتاد، وإن غير المعتاد قد يرجع معتادًا. لو فهمتم معنى هذا وفهمتم معنى إكرام الله لعباده لأنكرتموها استهانة بها في جنب ما كرم الله به عباده الصالحين من التوفيق للصالحات.

_ 4) أي الحمار.

- 2 -

- 2 - * نرجع إلى المدرّس (1): إن هذا المدرّس لم يزد على أن فضح نفسه وأساء إلى العلم وسخر من قراء كتابه. أما فضيحته لنفسه فلا شأن لنا بها. والنفس نفسه وقد أنزلها المنزلة اللائقة بها. وأما إساءته إلى العلم فهي التي أنطقتنا. وقد فحصنا الكتاب كما يفحص الطبيب المريض المشرف على الموت، فإذا سكن النبض قال: قد مات. ونحن نقول إن هذا الكتاب ولد سقطا فلم يعمر به فراغ في الخزائن ولا فراغ في النفوس. وأما سخريته من القرّاء فإنهم لا يفهمون من الكتاب إلا أنه علم، والعلم كالسلع رخيص وغال، فإذا لم يجدوا لا هذا ولا ذاك فماذا عسى أن يقولوا؟ إنهم يقولون إن المؤلف أراد أن يتقرب إلى قلوب طائفة مخصوصة ليروّج كتابه بينها بحكم "الماركة " (2) والاسم، لا بحكم الحقيقة والعلم ... ودليل ذلك أنه بدأ بنبز المصلحين ليدخل من هذا الباب إلى نفوس تلك الطائفة، ثم اقتصر من البحر على قطرة فقال: ومن كراماته، ومن كرامته، لأن هذه هي الجهة الحساسة في الموضوع. وهي كذلك الجهة الرائجة في هذه الأيام (جذبًا ودفعًا) ليكون النبز والكرامات- وهي كل ما في الكتاب- أدعى لرواج الكتاب ... ولو استشارنا حضرة المؤلف وباح لنا بذات صدره، لقلنا له: لا تطمع في رواج الكتاب بين هذه الطائفة إلا إذا كنت عازمًا على إهداء نسخه كلها. لأن هؤلاء القوم تعوّدوا (هات) ولم يتعوّدوا (هاك)، ولكل امرئ ما تعوّد.

_ * "البصائر"، السنة الأولى (من السلسلة الأولى)، عدد (19)، بتاريخ 15 ماي 1936. 1) المدرّس المشار إليه هو "عبد الحميد حميدو" لا محمد كما ذُكر خطأ في القسم السابق من المقال. 2) كلمة أجنبية معناها "العلامة".

وقد علمنا من تحرياتنا المستعجلة حين كتابة هذا [التقريظ]، ان أحق الناس بالترويج لهذا الكتاب وتقديم الإعانة المادية له- وهو مقدّم ضريح الشيخ (3) وسادن قبره- رجل عفريت لا يستنزل عن فلوس النذور بمثل هذه الرقية، ولا يتنازل من كبشه، حتى عن أكارعه وكرشه ... وما حاجته إلى هذا الكتاب؟ ومعظم زوّار الضريح ريفيون، وهم من فضل الله على المقدم أميون، وغير الريفيين قد تأثروا بتعاليم ذلك (الأعرج) (4) فلا مطمع في إرجاعهم إلى النية (5) والزيارة بهذا الكتاب، ولا بمآت من مثل هذا الكتاب. وزيادة على ذلك فإن لهذا المقدم وزملائه منزعًا آخر في بغض الكتب على الإطلاق وتبغيضها للناس كيفما كانت ولو من ماركة السعادة ... ، وهو اعتقادهم أنها تذكّر بالقراءة. والناس- في نظرهم- نيام، فإذا قرأوا استيقظوا. أرأيت، أيها القارئ، كيف لعبت التصاريف بأخينا المؤلف حتى أوقفته تحت المثل (لَا مَاءَكِ أَبْقَيْتِ وَلَا حِرَكِ أَنْقَيْتِ)؟! على ان قصد المؤلف للتقرب من هذه الطائفة ليس هو كل ما في الباب. بل علمنا من تحرياتنا وإمعاننا في البحث وتشممنا للروائح وتفرّسنا في [البصمات]، ما هو أهم من هذا وأحق بالاعتبار. وهو بيت القصيد من هذا المقال الطويل. فقد علمنا- والعلم عند الله- أن للمؤلف صلة طبيعية بمدير متقاعد لمدرسة تلمسان. وقال قائل بعد أن قرأ الكتاب: "إني لأجد ريح فلان لولا أن تفنّدون". قلنا: ومن فلان؟ قال: "هو رجل له دعوى في الاستشراق، وتطفل على موائد المستشرقين، وله اشتغال بالمباحث الإسلامية، وبالأخص الدين والعادات. وهو يتناول هذه المباحث بعقل مريض، ونفس مملوءة حقدًا على الإسلام، وغايته من كل أعماله تصوير الإسلام للأوروبيين تصويرًا مشوّهًا قبيحًا، وحمل الجاهلين منهم بحقائقه على اعتقاد أن الإسلام هو هذه المظاهر السخيفة التي يقوم بها الطرقيون. وقد كان يلقي إلى عهد قريب بمدينة تلمسان محاضرات (اثنينية) على لفيف من عوام المعمرين في هذا الموضوع. ثم وجد من ضباع الطرقيين مطية ذلولًا لبلوغ غايته تلك. فقد أوحى إليهم- بعد أن اشترى ضمائرهم "بزردة" وضمائر الطرقيين في بطونهم- أن يجتمعوا لميقات يوم معلوم في صعيد واحد على اختلاف نحلهم، ويمثلوا بغاية الدقة أمام آلة التصوير السينمائي كل ما في الطرق من مهازل ومخاز على أنها شعائر إسلامية- كما يقول

_ 3) أي القَيِّم عليه. 4) الأعرج: هو الإمام الإبراهيمي نفسه. 5) معناها الغَفْلَة والبَلَاهة.

الحافظي- ففعلوا، ولاعبت السفافيد البطون، ولعبت الأشداق بقطع الزجاج وأوراق [الهندي] (6) الشائكة، وخرجت الحيات والأفاعى من اسفاطها لتزين هذا المشهد [الإسلامي]،. ولا تنس- فإن القوم لم ينسوا- الأعلام المرفرفة والبنادير المهفهفة، والشارات المختلفة، والكر والايجاف، والرقص والارتجاف، كل ذلك، والآلة المصورة لا تغادر كبيرة ولا صغيرة إلا سجلتها. وخرج من كل ذلك [فيلم سينمائي] محبوك ليعرض على العالم المتمدن مكتوبًا عليه [هذا هو الإسلام]. ولم ينقص من كماله إلا أن السينما لم تكن ناطقة إذ ذاك، ولولا ذلك لسجلت الأذكار، والآهات، والشخرات، والنخرات، ولتشرفت عواصم الحضارة بسماع [والشبليكو يا الهي!] (7). ونحن لا نقول في هذا الفيلم إلا أنه فضيحة مسجلة، ولا نلوم هذا المدير المستشرق على عمله هذا لأنه عمله الذي خلق له ووقف نفسه عليه. وإنما نعدّ هذا العمل من أوزار الطرقية الآثمة، ومصائبها على الإسلام. وما هذا بأوّل أوزارها ولا بأوّل مصائبها. ولو لم يكن هؤلاء الطرقيون محسوبين علينا، ولم يكن إفكهم محسوبًا عند أمثال هذا المدير على ديننا، لما زاد اهتمامنا بهم على اهتمامنا بمستشرق جاهل نرد خطأه في العلم، ولا نقوم زيغه في العقيدة. ولكن القوم محسوبون علينا كرهًا بطبولهم، ومزاميرهم، وزجاجهم، ومساميرهم، وسبحهم، وأعلامهم، وأنصابهم، وأزلامهم. وهيهات أن نسكت عنهم حتى نصفي معهم الحساب، ونميز القشر من اللباب. علمنا كل هذا وعلمنا معه أن هذا المدير المتقاعد المستشرق لا يزال مغيظًا محنقًا على الإصلاح، ولا يزال يعظ الطرقيين بتلمسان ويذكرهم (خالصًا مخلصًا) بلزوم التمسّك بالعوائد الإسلامية، وبلزوم المحافظة على (البردة) وملحقاتها في الجنائز، كل ذلك لمحبّته في الإسلام والمسلمين ولمحافظته على الآثار ... فلم نَرْتَبْ في أن للرجل أثرًا في كتاب السعادة الأبدية، وأن (هذا الفسيل من تلك النخلة) وأن (هذا الفصيل من ذلك الذود)، وابتهجنا باكتشاف عنصر جديد من عناصر البحث، وعامل خفي من عوامل المقاومة للحركة الإصلاحية سنشتغل به ونشغله عن نفسه. وأيضًا أن المسألة ليست مسألة كتاب ومؤلف. ولكنها فكرة تقوم بكل

_ 6) الهَنْدي: التين الشوكي. 7) أخبرنا بعض مصلحي تلمسان أن للعيساوية ذكرًا مخصوصًا يقولون فيه: "والغزالي يا إلهي! والشبلي يا إلهي! الخ."؛ وانهم يحرّفون كلمة [الشبلي] فيقولون: [والشبليكو]. وهكذا يحفظها الأتباع على الأشياخ. وسبحان من طبع على قلوبهم!

كتاب، وبكل مؤلف، وتقوم بكل عمل، فتعجلنا هذه الكلمة ننقد فيها كاتبًا وكتابًا، ونحن في الحقيقة إنما ننقد فكرة خاطئة. ولا نخرج من هذه الكلمة حتى نعد القرّاء بكلمة أخرى فيها قيمة هذا المدير العلمية ببيان أخطائه فيما ترجم ونشر، وشعوذته في سوق الاستشراق، أما آراؤه في الجهة التي تخصّص لها فسيكون لنا معه فيها شأن. ***

أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين؟؟

أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين؟؟ * لسنا ممن يكبر (شيخ الإسلام) للقبه، ولا ممن يعرفه بمركزه ومنصبه، ولا ممن يزنه بِدَثْرِه ونشبه، ولا ممن يستهوي بديوانه وكتبه، وإنما نكبره لعلمه، ونكبره من نواحي هذا العلم بآثاره في العلم إن كانت، وبأعماله للعلم إن وجدت. ولكن ما الحيلة؟ وقد طلعت علينا فتواه الأخيرة تحمل هذه الطغرى: فلان شيخ الإسلام لا فلان العالم. فشغلتنا بالنظر في هذه الطغرى عن النظر في كون الفتوى علمًا أو ليست بعلم، وألهتنا بما ننكر عما نعرف. فلنبدأ بالنظر الأول ثم لنعد إلى النظر الثاني. ثم لا يكون اشتغالنا بالنظر الأول عبثًا. فإن هذه الفتوى بمكان هذه الطغرى منها، تقول للناس: إن قوّتي من قوة هذه الطغرى، وشهرتي من شهرتها، وإن موقع هذه الطغرى مني موقع شارة الجندي من الجندي، وسر هذه الشارة في الجندي كما تعلمون هو سر السبعية في السبع يرهب بالمنظر أضعاف ما يرهب بالمخبر. وقد شاع في محافل (الطرقية) بالجزائر وفي محافل (المروقية) (1) بتونس أن لسان حالها يقول: إنني فتوى شيخ الإسلام وكفى. فوجب أن نقول لها: لا يا هذه، إنك لم تهتكي الخدر على نيام، ولم تطرقي الحمى عن سواد مغفل، وإنك طفت منا بعقول لا تدين بهذه الألقاب، وإن تشرفت بالإضافة، ونفوس لا تنقاد إلا للدليل وإن كان صاحبه غفلًا من (اللقب) عاطلًا من الرتب، فلا يضيرك عندنا أن لو جئت من عند شيخ ... وبيدك الدليل، ولا ينفعك ان جئت من شيخ الإسلام بصريح التناقض وسخيف التأوبل، فانزعي هذا البرقع وهلم نحتكم على سفور وإن كنا لا نقول به في الغانيات.

_ * جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 20، الجمعة 1 ربيع الأول 1355هـ / 22 ماي 1936م. 1) المروقيّة: من المَرَق.

أما اننا لا نكبر هذا اللقب فلأننا لم نكبره يوم كانت تعطيه المؤهلات الحقيقية، ولمنحه الرأي العام العلمي. فيقال شيخ الإسلام "ابن القيم" وشيخ الإسلام "ابن حجر" مثلًا فما أغنى هذا اللقب عندنا عن الأول معشار ما أغنى عنه (إعلام الموقعين) وغيره من كتبه، ولا أغنى عن الثاني معشار ما أغنى عنه "فتح الباري" وغيره من آثاره، فكيف نكبره الآن وحاله هي حاله؟ وإن هذا اللقب في أمثال "ابن القيم" ليؤدّي معنى الائتمان على حقائق الإسلام أن تقلب، وعلى عصابة نصره أن تغلب، ومعنى الاحتفاظ على أوضاعه أن تغير، وعلى دلائله الصريحة أن تزور، فيقال في السنّة إنها بدعة، وفي البدعة إنها سنّة، ويقال في دين الله: إن عمل الناس اليوم جرى ... فشيخ الإسلام من هؤلاء هو ناشر حقائق الإسلام في المسلمين إرضاء لله لا ناشر أهواء المسلمين في الإسلام إرضاء لهم ... وسبحان من رفع قدر الإسلام على الأديان حتى في المواضعات العرفية التي تقال على التوسع والتساهل لا على الدقة والتحديد. أتدرون ما معنى هذا؟ معناه أن الناس يقولون في إطلاقاتهم العرفية "حاخام اليهود" ولا يقولون حاخام اليهودية، ويقولون "بطريرك النصارى" ولا يقولون بطريرك النصرانية. فإذا جاءوا إلى الإسلام قالوا: "شيخ الإسلام" ولم يقولوا شيخ المسلمين، مع أنهم قالوا قديمًا أمير المؤمنين. إنني أؤمن بأن هذه الأوضاع اللفظية لم ترسل على ألسنة الناس عبثًا، وبأنها اندفعت من أفواههم بسائق وجداني من نفوسهم يؤيّده الواقع، وبشعور متمكّن فيها بأن كلًا من "الحاخام" والبطريرك يسوس أمّة بدين يكيفه على أهوائها ويؤثر رضاها على رضاه، وبأن شيخ الإسلام يسوس أمة بدين ثابت الأساس يحكمه في طباعها لتأتلف، ولا يحكمها في أوضاعه لئلا تختلف، ويروضها على أحكامه وأخلاقه وآدابه لتتأثر به، ولا يروضه على أهوائها لئلا توثّر فيه، وغايته إيثار رضى الدين الحق على رضاها، وبذلك تتم غاية الإسلام في المسلمين، ويتحقق كمال المسلمين بالإسلام، ولهذا أضيف كل واحد من الثلاثة إلى الجهة التي يجب عليه إرضاؤها، وكأن في تلقيب كل واحد بلقبه الخاص به اشعارًا له بالجهة التي يفرض عليه اللقب اعتبارها. وفي ظني أنه لو لم يكن المؤمنون في عهد عمر- رضي الله عنه- مظهرًا للإيمان الحقيقي، ولم تكن أقوالهم وأفعالهم تمثيلًا صحيحًا لحقائقه حتى كأنهما شيء واحد، لما قالوا "أمير المؤمنين" ولما قال لهم عمر: "أنتم المؤمنون وأنا أميركم"، وهل كان المؤمنون في زمن عمر كمؤمني اليوم؟ وإذا استقام هذا فما قولكم- يرحمكم الله- في شيخ الإسلام صاحب الفتوى في قراءة القرآن؟ قولوا ما شئتم، فإنني لا أدعوه بعد اليوم إلا شيخ المسلمين في غير ظلم ولا تحيّز،

بل أعتقد أنني- إذ أسمّيه بهذا- إنما أسمّيه بأحب الأسماء إليه لأنه آثر رضاهم على رضى الحق، وإرضاءهم على إرضاء الدين. ثم لا تسألوني عمن أعني بهؤلاء المسلمين، فهم، بالضرورة غير من أغرى بهم قوة الحاكمين. وما ظنكم؟ لو أن التاريخ الإسلامي العامر يؤلف من عظمائه هيئة (امتحان) ويكون من أصولها أن تعطي على درجات الامتحان ألقابًا معرفة لا غالية ولا مجحفة، ثم يتقدم إليها "ابن القيم" بكتاب "زاد المعاد" على أنه "أطروحته" العلمية، ألا يكون الإنصاف أن يعطى لقب شيخ الإسلام؟ ويتقدم إليها الشيخ الطاهر بن عاشور بفتواه هذه على أنها "تازه" (2) العلمي (وعفوًا فإن لكل زمان تعبيرًا) ألا يكون من العدل أن يعطى لقب شيخ المسلمين؟ هذه هي حجتي فيما اعتزمت عليه، فإن غضب الشيخ، فأمري وأمر الإسلام إلى الله. والآن- وقد فرغنا من جهة اللقب وبينا قيمته عندنا وأسباب هوانه علينا وأنصفنا الحق- نتكلم على الجهة العلمية فنصف الشيخ كما هو وننصفه، ثم نتكلم عن الجهة العملية. (وله الله علينا اننا ننصفه). ولعل الشيخ إذا تنزل وقرأ كلامنا وسلّم أننا أنصفناه في واحدة، يتحقق أننا أنصفناه في الجميع. ولعله بعد ذلك ينصفنا من نفسه كما أنصفناه من نفوسنا. كنتُ من عشرين عامًا مضت- وأنا بدمشق الشام- أسمع ذكر الأستاذ "الطاهر بن عاشور" من إخواننا الذين رافقوه في مراحل التحصيل بجامع الزيتونة، فكانوا يتفقون على عدّه في مقدمة الأذكياء من طبقتهم. ثمّ يتفقون على عدّه بعد التخرّج في طليعة المتخرّجين على الطريقة الاستدلالية في العلم، مع اعترافهم بأن هذه الطريقة ليست نتيجة للتعليم الزيتوني وحده، ثم يرتقي به بعضهم فيعده في زمرة العلماء المستقلين في العالم الإسلامي، والمستقل في مذهبنا الكتابي اليوم هو الذي يحكم الدليل. وغلا بعضهم- في مجلس لا أزال أذكره- فعقد تنظيرًا بينه وبين رجل من أئمة العلم والإصلاح ولا أزال أخجل كلما ذكرت ذلك التنظير. وكانوا يعدون بجنبه أذكياء آخرين قطعتهم العوائق عن إتمام التحصيل، أو عاقتهم الوظائف عن إظهار المواهب. فكنا نتأسف جميعًا لفعل العوائق بالأذكياء ولحرمان الأمّة من ثمرات ذكائهم، ولم نكن ندري إذ ذاك أننا سنتأسف على ذكاء الشيخ الذي لم تعقه العوائق عن التحصيل بل ساعدته الأيام على العلم. وانفسحت أمامه سبله، وأمدّته خزانة جده العالم، وخزانة جده الوزير بأسباب البحث والتوسع وأمدّه نشبهما بوسائل الانقطاع للعلم والتفرغ له. كنت أسمع هذا كله عن الأستاذ فلا أصدّق ولا أكذّب، جريًا على طبعي في عدم الحكم على الأشياء قبل استبانة آثارها، ولم أكن قرأت له إلا تقريظًا، وتأبينًا لا يدلان على

_ 2) من الكلمة الأجنبية these أي الأُطروحة الجامعية.

طائل. ثم وردت من المشرق على تونس، وعرض لي من أول يوم ما زهدني في الشيخ، فقد حملني بعض أصدقائه من المشرق أمانة كلامية أبلغته إياها بواسطة لمكان العجلة. وفهمت من جوابه ما دلّني على مقدار الوفاء في الرجل ... وعلى شيء آخر لا أسمّيه. ثم عرفت الشيخ بخلصائه وخواص تلامذته أكثر مما عرفته بشخصه، ومن هؤلاء من أعتقد سداده وأحترم رأيه ولا أتهم ذوقه في تحديد القيم العلمية، فعرفت منهم ومن القليل الذي قرأته للشيخ من الآثار، أنه على جانب من استقلال الفكر، وحيوية التفكير وأنه واسع الاطلاع، ممتع المذاكرة، يقظ البديهة، ملمّ بأحوال زمانه، يرجع منه جليسه إلى ذهن كيس، وطبع مرتاض على الآداب المدوّنة، ويرجع منه مذاكره في أحوال المسلمين إلى ذاكرة واعية لشؤونهم وشعور بآلامهم وآمالهم وعلم دقيق بأمراضهم الاجتماعية والدينية. وهل أنبئكم بمقياس آخر غريب من مقاييسي الخاصة في وزن الرجل؟ كنت قرأت- وأنا بالمدينة المنوّرة- تفسير المرزوقي لديوان الحماسة، وهو تفسير أي تفسير! ولما دخلت الشام بحثت عن نسخة منه فلم أظفر بها، فذكرته في مجالس الأدباء، ونوّهت بمكانته وشوّقتهم إليه وتعاهدنا على أن ننسخه إذا ظفرنا به، ونروّجه حتى يقيّض الله له من يطبعه. ولما قدمت إلى تونس مصرًّا على ذلك العهد، سألت عن الكتاب فقيل لي إنه موجود، لإنه مستعار عند "الشيخ الطاهر بن عاشور"، وإنه يكاد يحتكره احتكارًا. فكان هذا الخبر (بمجرده) مزيدًا في قيمة الرجل الأدبية عندي لأن حسن اختيار الكتب أول عوامل الإصلاح في نفس العالم. هذه معرفتي بالرجل من جهته العلمية، ولولا هذه المعرفة لما أبهت لفتواه الأخيرة في قراءة القرآن على الأموات، ولعددتها كما هي في الواقع من ذلك النوع الرخيص الذي لا صلة فيه بين المسألة ودليلها. وقد امتلأت المجلّدات بالألوف من هذا النوع فماذا عسى أن تقلد فيه واحدة؟ أما جهة الرجل العملية، فإنني أصرّح على رؤوس الأشهاد، والأسى يحزّ الفؤاد، ان أمل الأمّة خاب فيه من أول خطوة خطاها في حياته العملية، فالرجل بموجب قيمته العلمية لم يخلق لنفسه، بل نقول إنه لم يخلق للأمّة التونسية وحدها وإنما هو للأمّة الإسلامية كلها، وإن الأمّة الإسلامية لا تتشابك- على كثرة المفرّقات- إلا بهؤلاء العلماء الذين يجتمعون على استقلال الفكر واتحاد الوجهة. ولا تتلاقى في الدين- على كثرة القواطع- إلا على هذه المعاني السامية في نفوس هؤلاء العلماء، وهي معان تستمد قوّتها من (قال الله وقال رسوله).

وإننا لا نجد لصاحبنا أثرًا يُذكر في هذا الميدان ولا صالحًا من الأعمال حصل على يده للأمة التونسية أو للأمّة الإسلامية. فقد ولي صاحبنا القضاء، أو قضاء الجماعة على اصطلاحنا. وهذا المنصب بتونس في حقيقة أمره شعبة من شعب الملك، بل معنى من معاني التمكين و (حرز) من خواصه المنع والتحصين، واكسير يحيل الخروج عن الحد إلى نتائج الضد، فلا تسمّى السيئة معه باسمها، ولا يترتب عليها ما يترتب على السيّئات من عذل أو عزل، بل تعدّ من أسباب الترقية، وقد دام هذا إلى وقت قريب. فهذا المنصب طريق واسعة إلى الإصلاح وميدان فسيح للأعمال، ووسيلة يفترصها الرجال العاملون لإظهار مواهبهم، ولا ينقص صاحبها إلا أن يكون عالمًا، وصاحبنا الشيخ عالم كما وصفناه، وأنصفناه، وأول ما يحتاج إلى الإصلاح- حين ولي هذا المنصب- القضاء الشرعي نفسه في نظمه وتراتيبه وتوضيح مناهج التداعي، وحسم أسباب الشر في المنازعات الوراثية المتسلسلة، وتربية العائلة القضائية من أعوان وشهود ووكلاء ومقاديم على العفة والنزاهة. والقضاء هو المظهر الأول للعزة، فلم يجر صاحبنا في الإصلاح قدمًا، ولم يجرّر فيه قلمًا وضاعت الفرصة على محبي الإصلاح والعاملين للإصلاح. ثم (ارتقى) إلى الإفتاء، وهو وسيلة لا تقلّ عن سابقتها شأنًا وقوة لو استُخدمت في الإصلاح لأتت بنتائج ذات خطر، ثم إلى رئاسة الإفتاء المالكي فيما أظن، (وهنا خانتني الذاكرة)، ثم تمخضت الأحداث الطافرة عن تبدّل في الأوضاع وتفنن لا خطر له في عالم الاختراع، فأصبح صاحبنا شيخًا للجامع المعمور وشيخ إسلام. وتهيأت له بهذه الوظائف التي لا وراءها كل أسباب العمل، وأصبح يظاهر بين درعين من الثقة به والرضى عنه، ويستند إلى ركنين من المشيختين. فماذا فعل؟ وماذا أجدت مشيخته للجامع على الجامع؟ وكنا ننتظر للجامع في أيامه إصلاحًا واسع النطاق، وسعدًا مشرق الآفاق، فلم تكن إلا تلك النكبة المشؤومة على الجامع وعلى المسلمين والتي مهّدت السبيل للداء الوبيل؟ وهذه جهته العملية جلوناها على القرّاء باختصار، وإذا محّصنا هذه الجهة التي هي مناط الإكبار للرجل فلم نجد فيها كبيرًا لم يبق لفتياه من شأن إلا أنها فتوى رجل فقيه ... ينقدها من يشاء نقدها ولو كانت ملفوفة في (شال) ويتركها من يشاء تركها، فما ثقل بها ميزان ولا شال. أما أنا فإنني أحتفظ بحقي في المسألة. وبعد، فهل يظن الشيخ أننا لا نعرف من أحوال تونس إلا كما يعرف هو من أحوال الجزائر مثلًا؟ أو أننا لا نعنى بها وبغيرها من بلدان الإسلام إلا بشبه من عنايته؟ أو يتوهم أن

مكانة تونس في نفوسنا ومكانة جامعها المعمور كمكانة شاطئ خير الدين من نفسه؟ أو يعد كلامنا إذا تكلمنا عن تونس فضولًا ولغوًا. ليعلم الشيخ أننا- والحمد لله- نعرف عن بلدان الإسلام ما يعرفه هو عن المرسى والديوان، وأن الدار ليست داره وحده، وأن أخوّة الإسلام توجب علينا أن نمد أعيننا إلى ما وراء الرسميات والجغرافيات، فنحاسب أمثاله إن وجب الحساب، ونعاتبهم إذا لزم العتاب، وإننا نفهم من "جامع الزيتونة" و "الأزهر" وغيرهما أنها أوطان جامعة للمسلمين تذوب فيها الاعتبارات الفارقة، وتموت بين جدرانها النزعات المارقة، فما ثم إلا الإسلام ولسانه. وإننا نحمل لهذه (الأوطان الجامعة) من الاحترام والتقدير ما لا نحمله لديارنا ومتَبَوَّإِ صغارنا، ونتمنى لها أن تتقدم فتخرج الودائع الكمينة، وتحقق المعاني الدفينة. وإن حال هذا الكاتب بالخصوص مع جامع الزيتونة كالحال التي يقول فيها شوقي للأزهر: مَا ضَرَّنِي أَنْ لَيْسَ أُفُقُكَ مَطْلَعِي … وَعَلَى كَوَاكِبِهِ تَعَلَّمْتُ السُّرَى فأنا لم أتخرج في جامع الزيتونة، ولم أقرأ فيه حرفًا، ولكني تخرّجت، بالمدينة المنوّرة، على أضوإ كواكب الزيتونة في وقته ولا أحابي؛ الشيخ "محمد العزيز الوزير التونسي"- رحمه الله- فكانت لي بسببه صلة بالزيتونة مرعية المتات، آمنة الانبتات (وإلى اللقاء يا جناب الشيخ).

_ تعليق: في الجزء الثالث من آثار الإمام الإبراهيمي- عيون البصائر- وفي المقال المعنون: "الرجال أعمال". نجد الإمام الإبراهيمي ينوّه تنويهًا عظيمًا بالأستاذ الشيخ الطاهر بن عاشور في صورة تخالف الصورة المرسومة هنا؛ وهي حالة تذكرنا بموقف عمرو بن الأهتم من الصحابي الزبرقان بن بدر في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد مدحه مدحًا كريمًا ثم هجاه هجوًا أليمًا في وقت واحدث؛ ولما رأى الاستغراب في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى، رضيت عن ابن عمّي فقلت أحسن ما علمت ولم أكذب، وسخطت فقلت أقبح ما علمت ولم أكذب". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحرًا". انظر العقد الفريد، لابن عبد ربه، ج 2، - صلى الله عليه وسلم - 64 - 65 [عبد الرحمن شيبان].

بين عالم وشاعر

بين عالم وشاعر* دارت مكاتبة خاصة بين الأستاذ الإبراهيمي وشاعر الشباب وكانت في أمر يتصل بسير الحياة العام. كانت في بؤس طائف طافه بالشاعر، فحاول العالم تعويذه بآيات الأمل وتمائم الرجاء، فلما اجتمعنا بالصديقين انتزعنا منهما ما دار بينهما، ورأينا من حقوق قراء "الشهاب" الاطلاع عليه، لا سيّما وقد كان مثير هذا الحوار قصيدة (1) نُشرت في مجلتهم. ... ---------- كتاب العالم ---------- الحمد لله وحده تلمسان يوم 3 صفر 1355 إلى ولدي الروحي الأستاذ محمد العيد ولدي: طالما قرأت في وجهك الشاحب آيات الحزن، وتلمحت في قسماتك دلائل الهم والأسى، وكم حَرَّكْتُك بمعاريض من القول علني أستبين شيئاً من حقيقة هذا الهم الدفين

_ * مجلة "الشهاب"، الجزء الثالث، المجلد 12، جوان 1936، [ص:135]. 1) قصيدة للشاعر محمد العيد، نُشرت في "الشهاب"، الجزء الثاني، المجلد الثاني عشر، ماي 1936، [ص:64] تحت عنوان "زفرات".

الذي تنطوي عليه أحناؤك وهذا الأسى المبرح الذي أعلم أنك تقاسيه. فكنت كمن يستجلي المعنى الدقيق من اللفظ المعقّد، وإن بين التعقيد ونفوس الشعراء "الأتقياء" نسباً وثيقاً. ويا لله للنفوس الشاعرة التقية وما تلاقيه من عناء ممض يتقاضاها الشعر إطلاقاً، فيتقاضاها التقى تقييداً ... لها الله فماذا تفعل! أتظن أننا جاهلون بهذه المنازع العجيبة التي تنزعها في شعرك وبمناشئها من نفسك، فاحمد الله على أن في قومك من يعرفها ويتذوقها ويطرب لها ... ما لهذه النفس الكبيرة في هذا الهيكل الصغير يهفو بها الشعر في مضطربه الواسع فلا يبلغ مداه حتى يقول: خلا القلب من حب العباد وبغضهم … وأصبح بيتاً للذي حرم البيتا ويقول: وتبت يا رب تبت ويقول اليوم: ولولا رجاء الذي … إليه أنا زالف إنها، وأبيك، لنزوة الشعر تعتلج في الفؤاد بنزعة التقى. طالما سمعت منك كلمة "اليأس"، وبودّي أن لا أسمعها منك مرة أخرى لأنني أعدها غميزة في شاعريتك. ولولا شذوذ نعرفه في نفوس الشعراء كأنه من معاني كمالهم لما صدّقنا باجتماع اليأس والشعر، وكيف ييأس الشاعر وهو ملك مملكة الآمال وسلطان جو الخيال. فإن كان تقياً رجع من "رجاء الله" إلى ما لا يحدّ له أمد. فكيف تيأس نفس الشاعر لولا ذلك الشذوذ؟ لقد قال أولكم: حرك مناك إذا اغتـ … ـمت فإنهن مراوح وما قالها لغيره إلا بعد أن جرّبها في نفسه ... فلا تيأس يابني ولا تكذب إمامك الذي يقول: خلق الشاعر سمحاً طرباً. قرأت زفراتك هذه الساعة في الشهاب وأنا طريح الفراش، أعالج زكاماً مستعصياً ونزلة شعبية، وسعالاً مزمناً وأولاداً يطلبون القوت أربع مرات في اليوم وتلاميذ يطلبون الدرس سبع مرات في اليوم والليلة فقلت: وهذه أخرى. إن ولدنا هذا لذو حق. وكتبت لك هذه الكلمات كما يكتب الأب الشفيق إلى ولده الرفيق. وعسى أن يكون فيها ترويح لخاطرك. محمد البشير الإبراهيمي

جواب الشاعر

جواب الشاعر (2) أبي ((البشير)) سلام … زاكٍ وشوق كبير لا زلت فينا منارًا … بضوئه نستنير وافى كتابُك يهدي … إليَّ المنى ويشير تذكو العبارة فيه … ما ليس يذكو العبير إذا فؤاديَ سال … به وطَرْفي قرير قَدِ ارتددت بصيرًا … فكيف يغوى البصير؟ قميص يوسف ألقى … به عليَّ (البشير)! يا آسي اليأس زدني … كشفاً فأنت خبير اليأس داء عسيف … والبرء منه عسير فرجت عن مستطار … بلاؤه مستطير وكدت تجلو ضميري … لو كان يجلى الضمير! فليس يجزيك عني … إلّا الإله القدير غفرانه لم يشقى … في الخلق جم غفير!؟ شقّ المرائر إربًا … هذا الشقاء المرير! كم للمعافين جار … من بوسه يستجير يرى كجذلان حر … وهو الأسيف الأسير يا لاهج الذكر باسمي … والجاحدون كثير! لا باد فينا لك اسم … ولا انقضى لك خير عفوًا فإن يراعي … عيٌّ وباعي قصير عفوًا فما لي جناح … به إليك أطير لا قَفْوَ إثرَ سَريٍّ … فوق الثريا ... يسير نفحتني بخطاب … كالزهر وهو نضير فهل تعير بيانًا … لرده هل تعير؟؟ يعيا الفرزدق عما … تقوله وجرير يا واصف الخير زدني … من وصف ما تستخير يدق بين ضلوعي … قلب كسيف كسير أخشى عليه انتكاسًا … والانتكاس خطير صِفْ وصفةً ليَ أخرى … فيها الشِّفاء الأخير محمد العيد آل خليفة

_ 2) "الشهاب"، الجزء الثالث، المجلد 12، جوان 1936، [ص:137].

لا يبني مستقبل الامة إلا الأمة

"لا يبني مستقبل الامّة إلا الأمّة"* - 1 - أي أبنائي! إني أنا الأم الولود المنجبة … للطرف الغرّ الحسان المعجبة …… فلم غدت محاسني محجبة؟ …… ولدت الغرّ الميامين، من آبائكم الأولين، فأوسعوني برًّا وتكرمة، وكافأوني وفاءً وإحسانًا. وفد عليّ الإسلام فكنت له حصنًا، ووفدت معه اللغة العربية فقلت لها حسنًا. ثم اتخذتهما مفخرتي دهري، ووضعتهما بين سحري ونحري، وأقسمت أن أتلقب بهما طول عمري. ألا لستم لي حتى ترعوا عهدي برعاية عهدهما، وتحقّقوا وعدي بالاستماتة في سبيلهما. أنا الأم، ومن حق الأم أن تسمّي ولدها، وقد سمّيتكم العرب المسلمين وأشهدت التاريخ فسجّل. فلستم مني إن عققتموني بتبديل الاسم أو تفريق المسمّى. إني قريرة العين بيومكم هذا إذ وسمتموه بوسمي، وسميتموه باسمي، وشرّفتموه بالإسلام، وزنتموه بالعروبة. "لسان حال الجزائر" هبّت الأمّة الإسلامية الجزائرية بجميع طبقاتها على تلك الدعوة الجامعة التي أذاعها "الأستاذ عبد الحميد بن باديس" رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والدكتور "ابن جلول" رئيس جمعية النواب بعمالة قسنطينة إلى عقد مؤتمر إسلامي جزائري عام، تُعرض فيه

_ * جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 23، الجمعة 22 ربيع الأول 1355هـ/ 12 جوان 1936م.

مطالب الأمة وحقوقها، وتتبادل فيه الآراء بين علماء الأمة ونوابها وذوي الرأي منها فيما يتفق من هذه المطالب والحقوق مع الأوضاع الحكومية الحاضرة. هبّت الأمّة كلّها على صوت الداعي فأعلنت يقظتها وشعورها واستعدادها، وتضامنها واتحادها، وساعدها (اعتدال الزمان) على إظهار قواها الكامنة، وعلى انطلاق ألسنتها بالتعبير الواضح عن آلامها، فتجلّت جزائريتها وإسلامها للعيان في يوم مشهود هو يوم 17 ربيع الأول سنة 1355هـ الموافق ليوم 7 جوان 1936، وفي مدينة تاريخية هي مدينة الجزائر، وفي صالة "الماجستيك" الفسيحة. لم يمض على الجزائر الإسلامية، في تاريخ ارتباطها السياسي بفرنسا، يوم أغرّ محجل، تمثّلت فيه الأمّة روحًا وجسمًا، وتلاشت فيه الفوارق الاعتبارية كهذا اليوم. ففيه التقى، عن فكرة وعقيدة، الجزائري بأخويه القسنطيني والوهراني، وفيه اجتمع- على تلك الفكرة- المصلحون والطرقيون وعلماء الدين ورجال السياسة، والشيوخ والشبان والتجار والفلاحون والعمال، جمعت الكل صفتا الإسلام والجزائرية، ووحّدتهم قسوة الأيام، وألّفت بينهم المحن والهموم، فاندفعت ألسنتهم تعبّر عن رغائب الدين بلغة الدين، وعن رغائب الدنيا بلغة السياسة. والنقطة التي يلتقي عندها الكل، هي الإسلام والجزائرية، لذلك كان ضروريًا أن يكون مدار البحث على الإسلام ولسانه، والمسلم وحقوقه في الحياة. ... انعقد المؤتمر برئاسة الزعيم السياسي الدكتور ابن جلول، نائب قسنطينة المالي (1) ومستشارها العمالي (2) ورئيس جمعية نوابها، ومثّل فيه نواب العمالات الثلاث جميع منتخبيهم، ومثّلت فيه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المعنى العالي الذي هو سمة المؤتمر، وهو الإسلام، فحق أن يقال: إن الأمة الجزائرية كلها حُشرت في هذا المؤتمر، وإن قدرت الجرائد الفرنسية من ضمتهم قاعة المؤتمر بخمسة أو ستة آلاف شخص وحزرناهم نحن بسبعة آلاف أو يزيدون. سبق يوم المؤتمر يوم تمهيدي بنادي الترقّي اجتمع فيه أنصار المؤتمر من شبّان العمالات الثلاث، قدموا في شكل جمعيات مفوّضة من طبقات الشباب الراقي العامل ليمثّلوا عنصر

_ 1) نسبة إلى المجلس العالي الذي أسّسته فرنسا سنة 1900 بالجزائر، ليشرف على ماليتها، وقد كان بمثابة البرلمان. أُلْغِيَ سنة 1947، وعُوّض بما يسمّى "المجلس الجزائري". 2) نسبةً إلى العَمَالَة وهي المحافظة أو الولاية.

التجديد في الأمّة، ولينصروا المؤتمر ويؤيّدوا النواب ويعينوهم بالقول والعمل، وشاركهم في هذا الاجتماع كثير من نواب العمالات الثلاث أيضًا. وكم كان جميلًا من أولئك الشبان ومن أولئك النواب أن يلوذوا بجمعية العلماء المسلمين، ويسترشدوا بها ويمزجوا رأيها برأيهم، ويظهروا مجتمعين على معنى الوفاء لها والإخلاص لمبادئها والاعتراف بفضلها على هذه الأمّة فيما أيقظت من مشاعر، ونبّهت من إحساسات وجمعت على المصلحة العامة من قلوب! وكانت الليلة التي أسفر صباحها عن المؤتمر، تمهيدية أيضًا، تقاربت فيها وجوه النظر المختلفة حتى اتفقت، وكانت ليلة بهيجة اجتمعت فيها عناصر القوة الثلاثة: العلماء والنواب والشبان، وتمثلت فيها العمالات الثلاث أكمل تمثيل. وخلاصة ما استقر عليه الرأي في هذه الليلة، أن المطالب الجزائرية تنقسم إلى قسمين: قسم لا يختلف فيه نظر ولا يتشعب فيه رأي، لأنه عبارة عن مظالم صريحة وأوضاع شاذة كانت تعامل بها الجزائر بصورة استثنائية، كحرية القول والفكر والكتابة والاجتماع والتنقل والتعليم العربي والمساجد وكرفع القوانين الاستثنائية الشاذة الخ. وقسم يحتاج إلى تأمل ودقة نظر، وهي الحقوق السياسية، وأشد مسائل هذا القسم تعقيدًا مسألة النيابة في البرلمان. وقد كانت تغمر المحافل الجزائرية أسماء برامج عتيقة في وضعها أو في معناها، ولكل برنامج أشياع وأنصار، وكان من رأي كاتب هذه الأسطر وجماعة من المفكرين، إلغاء تلك البرامج كلها، لأنها وُضعت في ظروف ضيقة وبُنيت على اعتبارات فردية، وفي بعضها ما لا يتفق مع الرغائب الجزائرية الإسلامية، وفي بعضها ما يتصادم مع الذاتية الجزائرية الإسلامية ووضع برنامج إسلامي جزائري روحًا ومعنًى واسمًا، ينتزع من حالة المسلم الجزائري التي هو عليها الآن، وكان من حسن التوفيق أن رجعت الآراء إلى هذا الرأي، فاجتمع الحاضرون في تلك الليلة التمهيدية على تسمية المؤتمر باسم "المؤتمر الجزائري الإسلامي"، وعلى عدم اعتبار البرامج القديمة أساسًا له، وعلى المطالبة بحقوق المسلم الجزائري السياسية تامة غير منقوصة مع المحافظة التامة على أحواله الشخصية الإسلامية تامة غير منقوصة مع إصلاح الخلل الواقع فيها الآن، وعلى إعطائه حق النيابة في البرلمان على أساس الانتخاب المشترك المتحد بحيث ينتخب المسلمون مع الفرنسيين نائبًا واحدًا سواء كان مسلمًا أو فرنسيًا، وكل مسلم له حق الانتخاب اليوم في المجالس الجزائرية من بلدية وغيرها، له حق الانتخاب في النيابة البرلمانية. ثم المساواة في الحقوق التي تتبع هذا التساوي في الانتخاب النيابي البرلماني. وتفاوض الحاضرون في جميع المسائل التي يجب عرضها في المؤتمر وتقديمها باسمه، وفي نظام المؤتمر ومكتبه وخطبائه، فوقع الاتفاق الإجماعي على إسناد رئاسة المؤتمر للزعيم

السياسي الدكتور ابن جلول، وتأليف المكتب من النواب والعلماء والشبان، فمن النواب على الجزائر: الدكتور تامزالي النائب المالي، والدكتور البشير عبد الوهاب النائب العمالي، والسيد محمد الطاهر طيار، والصيدلي عبد الرحمن بوكردنّه، النائبان البلديان. وعن قسنطينة: السيد عبد الرحمن بن خلاف، والدكتور سعدان، والصيدلي عباس فرحات، النواب العماليون. وعن وهران: السيد محمد بن سليمان النائب البلدي بتلمسان، ونائب رئيس جمعية النواب بوهران، والدكتور الجيلاني بن التهامي، والسيد محمد لالوت، النائبان البلديان. وعن العلماء: الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي. وعن الشبان والهيئات الاجتماعية جماعة منهم. ووقع الاتفاق، على أن يتكلم باسم وهران الدكتور ابن التهامي، فيعلن للمؤتمر تضامن وهران مع العمالتين في جميع المطالب، ويتكلم باسم الجزائر الدكتور عبد الوهاب بمثل ذلك، ويتكلم باسم قسنطينة الصيدلي عباس فرحات، ثم يتعاقب الخطباء.

- 2 -

- 2 - * يوم المؤتمر: ما كادت الساعة المقرّرة لافتتاح المؤتمر تدق، حتى كانت قاعة "الماجستيك" الفسيحة وإيوانها الفخم وشرفاتها كلها، مكتظة بالوافدين من الأقطار الثلاثة (1)، فكان منظرًا مؤثّرًا، وإن الناظر ليدرك لأول نظرة أن طبقات الأمّة كلها تمثّلت في المؤتمر، فترى العامل، والتلميذ والفلاح، والغني، والفقير، والوجيه، والخامل، والفتى، والشيخ، ممتزجين متلاصقين، فتحكم بالبداهة كيفما كان سنّك وحظك من شهود المجتمعات، أنه أول مشهد من نوعه شهدته في عمرك بهذا الوطن. انتظم المكتب بهيئته التي أسلفنا القول عنها واستقرّ رجال الصحافة في المقاعد التي خُصّصت لهم، وافتتح المؤتمر الدكتور عبد النور تامزالي النائب المالي والبلدي بكلمة رحّب فيها بالمؤتمرين وتمنّى لهم النجاح باسم مدينة الجزائر التي هو عضو في مجلسها البلدي، ونائب شيخها. ثم قام رئيس المؤتمر الدكتور صالح بن جلول فخطب خطبة طويلة وصف فيها حالة الأمة، وبيّن الأسباب الداعية لعقد المؤتمر والمقاصد التي ستعرض عليه. وأعلن في الأخير أن النواب كلهم مجمعون على المطالبة بالحقوق السياسية، ومنها التمثيل في البرلمان لا على أسس البرامج الشخصية الرائجة، بل على أسس المساواة التامة والتعميم التام، والمحافظة التامة على الأحوال الذاتية الإسلامية بحيث ينتخب الجزائريون على اختلاف أجناسهم، نائبًا واحدًا، ويكون حق الانتخاب البرلماني حقًّا لكل مسلم جزائري له حق الانتخاب المحلي، مع المحافظة والاعتراف للمسلم الجزائري بذاتيته الشخصية الإسلامية وأحكامه الإسلامية.

_ * جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 24، الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ/ 19 جوان 1936م. 1) أي المقاطعات الثلاث أو المحافظات الثلاث وهي وهران، والجزائر العاصمة وقسنطينة.

ثم قام بعده الدكتور الجيلاني بن التهامي النائب البلدي بمستغانم متكلمًا باسم اتحاد نواب عمالة وهران، فأعلن للمؤتمرين تضامن جمعيته مع جمعيات النواب على هذه المطالب. وقام بعده الدكتور البشير عبد الوهاب نائب البليدة العمالي، فأعلن باسم نواب عمالة الجزائر تضامنهم مع إخوانهم على تلك المطالب. وتكلم بعده الصيدلي عباس فرحات نائب سطيف العمالي، فأعلن ما أعلنه زميلاه من قبل، وعلم شاهدو المؤتمر أن كلمة النواب مجتمعة على المطالب ومتفقة في النقطة التي كانت محل نزاع وهي نقطة التمثيل البرلماني وكيفيته. ثم تكلم الدكتور سعدان نائب بسكرة العمالي عن سكان القسم العسكري الجنوبي (2)، فاقترح على المؤتمر المطالبة بحذف المحاكم العسكرية الشاذة وتصيير الأقسام الجنويية مدنية، فوافق المؤتمر بالإجماع على هذا الاقتراح. ثم فتح الرئيس الباب للخطباء من النواب والعلماء والشبان على ترتيبهم المقرر، فخطب نحو العشرة منهم، وكانت خطب النواب والشباب كلها دائرة على أن الجزائر المخلصة المرتبطة بفرنسا ارتباطًا وثيقًا المقيمة على ولائها لها في أيام الشدة والرخاء أصدق البراهين، ليس من العدل ولا من الإنصاف أن لا تأخذ حقها في الحياة مستوفى. وليس من العدل ولا من الإنصاف أن ترزأ في ذاتيتها، وأن تدفعها ثمنًا لتلك الحقوق زيادة على ما دفعته من أثمان غالية. وأنها تحافظ على هذه الذاتية التي هي مناط فخرها بكل الوسائل، وأنها تساس في القرن العشرين بقوانين استثنائية لا تليق بمكانتها ولا بسمعة فرنسا. فمن الحق والعدل أن تُلغى هذه القوانين الجائرة وتُمحى من الوجود، وأنها محرومة في القرن العشرين من الحقوق التي يتمتع بها الفرنسيون. فمن الحق والعدل أن تشاركهم في التمتع بتلك الحقوق كما شاركتهم في القيام بالواجبات. ثم انتهى دور الخطابة إلى العلماء، فخطب الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خطبة مؤثرة نوّه فيها بقيمة هذا المؤتمر في تاريخ الجزائر. فعلا الهتاف والتصفيق، ثم تخلص إلى ذكر المطالب الخاصة بالدين واللغة العربية فشرحها للناس شرحًا وافيًا، وأعلن أنه قدم بخلاصة تلك المطالب تقريرًا لمكتب المؤتمر لينظمه مع المطالب الجزائرية. وتقدم للحاضرين بأن يرفعوا أيديهم إن كانوا موافقين على هذه المطالب، فارتفعت في لحظة واحدة سبعة آلاف يد وعلا الهتاف. ...

_ 2) كان جنوب الجزائر خاضعًا للحكم الفرنسي العسكري.

اللغة العربية

كان الدكتور ابن جلول رئيس المؤتمر قد تعرّض في الاجتماع التمهيدي للمؤتمر- للغة المؤتمر وهل تقع المفاوضات والمحادثات فيه بالعربية أو الفرنسية، فحكم الواقع في المسألة وهو أن تكون الخطب السياسية باللغة الفرنسية لتتأدى المعاني بألفاظها الاصطلاحية وليكون مراد المؤتمر منها واضحًا لا شبهة فيه، وليكون صدى المؤتمر مطابقًا لحقيقته، ولتسهل مهمة الصحافيين الأوروبيين، وأن تكون الخطب المتعلقة بالمطالب الدينية من علماء الدين باللغة العربية. لذلك كانت الخطب التي سبقت خطبة الأستاذ الشيخ ابن باديس- ما عدا خطبة الأستاذ العمودي- كلها بالفرنسية. وكانت أول خطبة ألقيت باللغة العربية الفصحى هي خطبة الأستاذ ابن باديس، فأرهفت الآذان وطفح البشر على وجوه الحاضرين. وخطب بعده كاتب هذه الأسطر. والأستاذ الشيخ الطيب العقبي، فتجارت اللغتان في المؤتمر إلى غاية واحدة وتمثّلت فيه تمثّلًا صحيحًا. كانت خطبة الأستاذ الشيخ الطيب العقبي طويلة، وكانت فيها مواقف فائرة، تعرض فيها لبعض المعاملات الشاذة والقرارات الجائرة، في مسألة المساجد والجمعية الدينية في الجزائر. فنقد تلك المعاملات، وتلك القرارات نقدًا حارًّا، ولم يكن فيه خارجًا عن الموضوع كما زعم بعض الناس، لأن الأستاذ العقبي لم يتعرض لقرار منع التدريس الحر في المساجد إلا استدراكًا على الخطباء الذين تعرّضوا لقرار شوطان وقرار ريني، وطلبوا إلغاءهما فذكرهم الأستاذ بأن هناك قرارًا ثالثًا (3) نسوه مع أنه لا يقلّ عنهما شذوذًا ومنافاة للعدل والإنصاف. ... نص المطالب التي قدّمها لمكتب المؤتمر رئيس جمعية العلماء خاصة بالدين واللغة العربية. اللغة العربية تعتبر اللغة العربية رسمية مثل اللغة الفرنسية، وتُكتب بها مع الفرنسية جميع المناشير الرسمية، وتعامل صحافتها مثل الصحافة الفرنسية، وتعطى الحرية في تعليمها في المدارس الحرّة مثل اللغة الفرنسية.

_ 3) المقصود هو القرار المعروف باسم "ميشال" الأمين العام لولاية الجزائر بالعاصمة. وقد صدر القرار سنة 1933، ويقضي بمنع أعضاء جمعية العلماء من إلقاء دروس الوعظ والإرشاد والتعليم في المساجد.

الديانة

الديانة 1 - المساجد: تسلم المساجد للمسلمين مع تعيين مقدار من ميزانية الجزائر لها يتناسب مع أوقافها، وتتولى أمرها جمعيات دينية مؤسسة على منوال القوانين المتعلقة بفصل الدين عن الحكومة. 2 - التعليم الديني: تؤسس كلية لعلوم الدين ولسانه العربي لتخريج موظفي المساجد من أئمة وخطباء ومدرّسين ومؤذّنين وقيّمين وغيرهم. 3 - القضاء: ينظّم القضاء، بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية، يكون انتخابها تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق، وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرج منها رجال المحاكم، منها تدريس تلك المجلة، والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية، وطبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها. "عبد الحميد بن باديس" ختم المؤتمر بالموافقة الإجماعية على كل ما عُرض عليه من المطالب، وبالموافقة على أن يرفع باسم المؤتمر الشكر للحكومة الشعبية والثقة بها بتلغراف تُليت مسودته على المؤتمر فأقرّها. ثم عرضت اقتراحات خاصة قبلت كلها بالإجماع، منها التنويه بالرجال العاملين للقضية الجزائرية وذكرهم بالخير، فتقرر إرسال تشكرات المؤتمر للوزيرين فيوليت وموتي على مساعيهما المحمودة لخير الجزائريين. وتقرّرت إقامة تذكار للأمير خالد الجزائري، وهتف المؤتمرون باسم "م. ألبان روزي" باعتبار أنه أول من رفع صوته من السياسيين بحق الجزائر. واقترح الأستاذ العقبي عقد مثل هذا المؤتمر كلما جدّ في القضية الجزائرية شيء، فقبل هذا الاقتراح بالإجماع. ولما كان من الأصول المتّبعة في كل مؤتمر تأسيس لجنة تنفيذية باسمه تنظّم أعماله ومقرراته وتتعقبها وتواصل العمل على تنفيذها ورفعها إلى المراجع الخاصة، فقد كان آخر ما قرّره المؤتمر الإسلامي الجزائري لزوم تأسيس لجنة تنفيذية للمؤتمر تقوم بتلك الأعمال، وترك النظر في نظامها وأعضائها لمكتب المؤتمر على أن يؤسسها في مساء ذلك اليوم. وفي مساء يوم المؤتمر اجتمع زعماء النواب ورؤساء اللجان بنادي الترقّي وقرروا تأسيس لجنة وقتية تتركب من ثلاثة نواب وثلاثة من العلماء وثلاثة من الشبان، تتولى تنظيم المطالب وترتيبها وتسعى في تكوين اللجنة التنفيذية التي يجب أن تكون دائرتها أوسع والتمثيل فيها أعم. فتألفت اللجنة الوقتية من الدكتور ابن جلول، والمحامي طالب عبد السلام، والصيدلي

عبد الرحمن بوكردنه عن النواب، والشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ محمد خير الدين عن العلماء، والسيد ابن الحاج، والسيد بو شامة، والسيد عبد الله العنابي عن الشبان. وقد واصلت هذه اللجنة الوقتية أعمالها وعقدت جلسات متعددة، فرتّبت المطالب ونظّمت أوراق المؤتمر، وقرّرت- في سبيل تكوين اللجنة التنفيذية- أن تسعى في تأسيس لجان تسمّى لجان المؤتمر في المدن الكبرى من العمالات الثلاث، وكل مدينة تستتبع ملحقاتها لتكون هذه اللجان الفرعية قوة ومددًا للمؤتمر، وأن تنتدب كل لجنة عضوًا من أعضائها ليكون عضوًا في اللجنة التنفيذية. وقرّرت اللجنة الوقتية عقد اجتماع في الخامس جويلية الآتي بنادي الترقي بالجزائر، يحضره نواب اللجان المنتدبون عنها لتكوين اللجنة التنفيذية منهم، وفي هذا الاجتماع تسلّم اللجنة الوقتية أعمالها والمطالب والأوراق التي تحت يدها، للجنة التنفيذية. وبعد أن أتمّت اللجنة الوقتية أعمالها الأولية سلّمت جميع ملفات المطالب إلى هيئة متركّبة من الأستاذ ابن الحاج، والأستاذ الأمين العمودي، والسيد اوزقان، لأنهم مقيمون بمدينة الجزائر، وعهدت إليهم بحفظ الملفات حتى تسلّم إلى اللجنة التنفيذية وبمخابرة لجان المؤتمر وتلقي الأجوبة منهم بعنوان الأستاذ ابن الحاج. وتفرّق بقية الأعضاء ليسعوا في تأسيس تلك اللجان قبل الخامس جويلية. وفّق الله العاملين وأعانهم وسدّد خطاهم ووقاهم شر المفسدين. ... هذا وصف مجمل للمؤتمر وخلاصة موجزة عن أعماله، وقد وصفته الجرائد الفرنسية الصادقة في مهنتها أحسن وصف، وصوّرته الجرائد العربية الصادقة في دينها ووطنيتها أصدق تصوير. ولم يبق بعد هذا إلا عمل الأمّة، وعملها في هذا الباب محصور في تأييد المؤتمر بالقول والفعل وإزالة العراقيل من طريقه، وحمايته من كيد الكائدين، والمحافظة على روحه ومبادئه، ووصفيه الجميلين الإسلام والجزائرية، فالمؤتمر مؤتمر الأمّة الجزائرية الإسلامية. باسمها انعقد وباسمها تكلم ولمصلحتها سعى، وعن رغائبها عثر، وعن حقوقها دافع وناضل، فلتمدّه بالتأييد والمعونة، ولتحذر شرور المفسدين والخائنين والموسوسين والدساسين ولتقابلهم بما يستحقونه من النبذ والخذلان!!! إن هذا المؤتمر هو حجر الأساس في بناء مستقبل الأمّة، ولا يبني مستقبل الأمة إلا الأمّة.

- 3 -

- 3 - * من آثار المؤتمر الإسلامي طاف بالأمة الجزائرية في سنينها الأخيرة طائف من يقظة وانتباه لا عهد لها به في سنيّها الغابرة. وتفشت تلك اليقظة في جميع طبقات الأمة كما يتفشّى الروح الحيواني في أجزاء البدن كلها. وانتظم ذلك الانتباه جميع مرافق الحياة المادية والمعنوية في الأمّة فظهرت آثاره جلية في التفكير. وظهرت آثاره في الإقبال على العلم. وظهرت آثاره في الاقتصاد والعمل وظهرت أخيرًا في السياسة. وكان من أول ما تنبّه له شعورها- وهي بين النوم واليقظة- أن تجلو ماضيها القريب معتبرة، وتبلو حاضرها المضطرب مختبرة، لتقدم على بناء مستقبلها مستبصرة، فإذا في ذلك الماضي ما تَزِرُّ العيون منه على مثل القذى، وتنقلب النفوس منه بما ينقلب به الحي من السوأة العريانة، أنقاض من الخرافات لابست الدين الحق حتى أصبحت تسمّى دينًا، وأشتات متناقضة من الاستسلام المطلق باسم الدين، مظهره الانقياد لتجار الدين، ومن الثوران الجامح باسم الحفاظ والغيرة. مَظْهَرُهُ عداء مستحر بين ذوي القربى في الوطن، ونزاع مستمر بين ذوي القربى في الرحم وقد أَمِرَ أَمْرُ هذه الرذائل حتى أصبحت تسمّى فضائل. وأخلاط من عواري الميول والمشارب تلوّنت بها النفوس الجوفاء حتى أصبحت تسمّى أخلاقًا، وسفاسف من لغو الحديث لا تثير ذكرى ولا تذكي حماسًا، ولا تهز عاطفة، وقد غمرت المجامع حتى أصبحت تسمّى أدبًا.

_ * جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 26، الجمعة 13 ربيع الثاني 1355هـ/ 3 جويلية 1936م. وكتب هذا المقال بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي الجزائري.

ومجموعة من الرطانات لا تجلي قصدًا ولا تبين مرادًا ولا تترجم عن مكنون، وقد استولت على الألسنة والأقلام فأصبحت تسمّى لغة. وأمشاج متنافرة من التقاليد الزائفة والعادات المرذولة داخلت المجتمع فأصبحت تسمّى اجتماعًا، هذا هو الباب الأخير من تاريخ الماضي الذي استجلته الأمة الجزائرية فلم يجل لها إلا المحزن المكرث. ثم انفتحت عينها من حاضرها على دين قد عبث به العابثون واتخذوه مكسبة، وأزهقوا روحه وجرّدوه من أسباب القوة والتأثير، وعطلوه من خصائصه ومزاياه، وكانوا عونًا لأعدائه على هدمه، وعلى دنيا ليست كدنيا الناس وكأنما اقتطعت من زمان غير هذا الزمان لتبقى أثرًا عاديًا في متحف الوجود ممثلة للعيان ما تمثّله الصورة الفوتوغرافية في كتاب تاريخ ... وعلى رقعة من الأرض زكية الاغلال طيبة الغلال، تناهبتها الأيدي العاتية وتقاسمتها الكتائب المغيرة حتى لم يبق لها منها إلا حظ الميت، قبر يمسح بالشبر ولكنها على رغم ذلك تسمّى وطنًا. وعلى أوشال من الرزق يبضّ بها الكد المرهق وينتضح بها العرق المتصبب، وينطف معها دم المهج، وتنتزع من أنياب الأفاعي انتزاعًا ولكنها مع ذلك كله تسمّى مالًا ... وعلى غثاء من الأناسي كغثاء السيل المتساوي الغيبة والمشهد في تقدير حياته، لا يحكم ما يريد ولا يفقه ما يراد به، قد محت الأحداث من مخيلته معنى الماضي فهو يعيش بلا ماض، ومعنى المستقبل فهو لا يفكر في مستقبل إلا بأضعاث من الآمال لم تسندها أعمال، كل اعتماده في المستقبل على ميت مقبور أو معدوم (منتظر)، ولكن هذا الغثاء برغم ذلك كله يسمّى أمّة ... وعلى قضايا ملفوظة ومسائل محفوظة، مقطوعة العلائق مع أدلّتها، مجفوة الأرحام من أصولها تسلخ عليها الأعمار، وتقطع عليها الأنفاس، لم يعمل فيها فكر ولم يرضها تمحيص، ولكنها مع ذلك تسمّى علمًا ... وعلى عوائد متوالدة بين أب (باهلي) وأم حنظلية، وقد فاض عليها جلال الدين وقدسية العبادات فأصبحت تسمّى شعائر دينية ... وعلى قيادة روحانية سفيهة شهوانية عارمة، تحكمت في أفكار الأمّة بالوهم، وتسلطت عليها بما يشبه التنويم المغناطيسي، ومكّنت فيها للذلة والفقر فهيأتها للفناء العاجل كل ذلك باسم الدين.

وعلى قيادة بدنية مستنزفة قد تعرقت القوى تعرّقًا وامتصتها امتصاصًا وعمدت إلى مواقع الشعور من الأمّة فضربت عليها بالخدر والترقيد، وإلى منابع الرجولة فيها، فغورت قلبها ولم تستبق فيها من أسباب التفكير إلا ما يهيئُهَا للتسخير. وقد اصطلحت تلك القيادة وهذه السيادة على كل ما يفسد الأمّة ويضعف روحها ويشلّ حيويتها من جهل وفقر وكل ما يلده الجهل والفقر من مفاسد وموبقات. هل رأيت جسمًا اصطلحت عليه الأدواء والعلل وتآخت على هيكله حتى كأن بينها- على تباين أسبابها- رحمًا مبرورة؟ ذئاب من القادة تتخطف، وصوالجة من السادة تتلقف، أفيبقى على هذين باقية من أمّة أو بقية من كائن؟ اللهم لا. وآخر ما فتحت عليه عينها سياسة مضطربة الجوانب، مقلقة الركائب، لا يقرّ لها قرار إلا على المنشور "والقرار"، ولا تبنى أبياتها إلا على الوتد المفروق، والقاعدة ذات الشذوذات والفروق، والأسباب الخفية المتقلبة مع الغروب والشروق. إن أمّة تفتح عينها على مثل هذا وتشعر بعواقبه ومصايره، ثم لا تموت من شدة الفزع والهول لأمّة ممدودة أسباب البقاء متراخية حبال العمر، جزيلة الحظ من الحياة وكذلك تكون الأمّة الجزائرية إن شاء الله. بلى، وإن سنن الله في الأمم غير سننه في الأفراد {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. دهش هؤلاء القادة الروحانيون لهذه الحالة المفاجئة التي ظهرت على الأمّة الجزائرية وعدّوها غريبة، واعتبروها نذير شؤم على سلطانهم الوهمي ومخيلة اضمحلال لقوّتهم الكاذبة. وأقبلوا على الأمّة يهدّئونها كما يهدّأ الصبي، يحاولون المحال من ردّها إلى النوم الذي نفضته جفونها والمهاد الذي جافته جنوبها. وأنّى يستطيب المهاد، أو يعاود النوم من لفحته الشمس المهجرة وفاتته الركبان المبكرة واستشعر التخلف فاعتزم اللحاق، هذا ما لا يكون. ولما استيأس القادة وكذّبهم الأمل، كرّوا على الأصوات التي أيقظت الأمّة والنذر التي أهابت بها إلى الانتباه يوسعونها لعنًا وسبًّا، ويصبّون الشتم والقذف عليها صبًّا، ويبذلون الوسع في إخماد نأمتها وإخفات أصواتها، ولكن صدق عليهم المثل "أوسعتُهم سبًّا وراحوا بالإبل". ووجم السادة لهذه الحالة وعدّوها مريبة، وامتدت ظنونهم السيئة بها إلى غير حدّ، ينتحلون الأسباب، ويخترعون العلل ويبتكرون من الوسائل ما يعيد النائم إلى نومه. ولكن هيهات للسيل إذا أتى أتيه أن يقف قبل أن يمدّ مدّه، ويبلغ حدّه.

ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟ وقد كان بين دهشة الأولين، وبين وجوم الآخرين مجال لعمل العاملين. ومهّدت دهشة المفاجأة ووجوم البغت لهذه الحالة الطارئة فأصبحت حالة طبيعية قارة يحفها من جلال الحق ما يزيدها روعة، ويمدّها من أهل الحق وأنصاره في كل يوم ما يرفدها بالمعونة والأخذ باليد، ويوليها على الزمان رسوخًا واتساعًا. وليس بعد التثاؤب والتمطي إلا الانتعاش والانبعاث، ولكن ماذا يصنع خائر القوى من فعل السنين، مقصوم الظهر من ثقل الأحداث، واني الخطا من طول الخدر، متخاذل الأعصاب من كثرة السكون؟ .. أيتحامل على ضلع ويتكلف القوة ليغبر في وجوه السابقين، لم له عذره إن سقط في مقدمة الركب من الإعياء؟ أم يستجم ليعدّ العدّة وإن طالت المدة؟ إن الأمّة الجزائرية لم تعدم من لطف الله ما يبيّن لها السداد في أوجه الرأي المختلفة ويهديها إلى سلوك المنهج الواضح، إذا دقت الموالج والمخارج، فقد أفاقت من نومتها في عجيج من الأصوات اختلط فيها الناصح بالغاش، وعلى فتنة متماحلة التبس فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال. ولكن الله اللطيف- جلت قدرته- خار لها وألهمها رشدها ووفّقها لبناء حياتها- على بصيرة- على قديم ديني مستقيم وجديد دنيوي واضح. ورأت على ضوء ذلك الإلهام أنه لا يستقيم لها عمل، ولا يواتيها نجاح فيما هي مقدمة عليه من تجديد في حياتها إلا مع التنقيح المعجّل لكل ما ورثته من أخلاق، لا تنهض بصاحبها في عصر النهوض، والعزل البات لأولئك الذين كانوا يتحكمون في إرادتها وضميرها ويصرفونها كما يشاؤون وتشاء أهواؤهم، لا على ما تقتضيه مصلحتها والقطع الحاسم لتلك الأيدي الآثمة وتلك الألسن الخاطئة التي كانت تسعى للتفريق وتدعو إلى التفريق. وقد بدأت الأمّة تنفّذ ما صمّمت عليه فأصبحت تربأ بمقادتها أن تضعها في يد من تلك الأيدي التي قادتها زمنًا طويلًا، فما قادتها إلا إلى الخزي والنكال، وتبعد عن صفوفها كل أفاك أثيم يزيّن لها الباطل ويشوّه لها الحق، ويغريها بالتفرق لتذل ويحقرها إلى نفسها لتمتهن، وهي ماضية في هذا التنقيح ممعنة فيه واصلة منه- إن شاء الله- في الزمن القريب إلى أشرف الغايات.

يوم الجزائر

يوم الجزائر* من الوفود؟ تترامى بهم قطر الحديد، من كل فج سحيق، وتتهادى بهم السيارات، من مختلف النواحي والجهات، تهوي أفئدتهم إلى مدينة الجزائر، ولو كان وراء البحر مطلب لخاضوا البحر إليه، أو كان في أعماقه مأرب لغاصوا في لججه عليه. من الوفود؟ يعلو وجوههم البشر والابتهاج، وتلوح على قسماتهم أَمارات الفرح والسرور، وترتسم على أساريرهم سمات الطرب والارتياح. لم يزدادوا على النصب إلا نشاطًا، ولم يورثهم اللغوب إلا عزمًا ومضاءً، لم يعقهم شغل، ولم تثبطهم حاجة، ولم يثنهم بعد شقة. من الوفود؟ تواردت توارد القطا على منهل، وتزاحمت تزاحم الحجيج على منسك، تحدثك عنهم سيماهم انهم قوم تنازعتهم آمال دافعة، وأشغال قاطعة، فهجروا الأشغال وانقادوا للآمال، وتقرأ من حركاتهم واتجاهاتهم، وتطلعهم، وتحسبهم أنهم قدموا لغاية واحدة وأنهم كانوا فيها على ميعاد، وتستعرضهم تصعيدًا وتصويبًا، فلا ترى فيهم إلا المغوار وأبا المغوار فتقول إنهم جمعوا على تثويب متجاوب الأصداء وحشروا لميقات يوم معلوم، وأن الذي جمع هذه الأشتات على اتحاد الوجهة وائتلاف المنزع كما تجمع طاقة الزهر على الحسن والشذى لا على التئام الألوان، واتساق الأوراق والأغصان، لأمر خطير ونبأ عظيم. من العلماء؟ يزجرون المواكب ويقودون الكتائب، ويقدمون الصفوف ويمهدون لأنفسهم مكان العامل في الجملة والطليعة من الحملة. والبسملة من اللوح يشاركون في الرأي

_ * بيان شامل للمؤتمر الإسلامي الجزائري، مجلة "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد 12، جويلية 1936م

ويساهمون في المشورة ويرتجلون الفتيا في المشاكل المستعصية فتأتي كفلق الصبح. وتعلو أصواتهم بالدعوة إلى الاجتماعات، والخطابة في المجتمعات، يُراع حمى الدين فإذا هم ذادة، وتُدعى الأمّة إلى العظائم فإذا هم قادة، ويمثّلون للأمّة علماء سلفها الذين كانوا معاقلها المنيعة عند حلول النوائب، وأعلامها الهادية عند اشتباه المسالك، ومراجعها إذا ناب خطب أو حزب كرب بعد أن كان الظن بهم أنهم قرّاء فواتح وكتاب "خواتم" وأحلاس معابد كبر شأنهم في الأمّة أن يقولوا هذا حرام وهذا حلال. من النواب؟ الموفون بالعهد على شيوع الختر، المنجزون للوعد على كثرة الإخلاف، الحاملون للأمانة على انتشار الخيانة والغدر، المضطلعون بما حملوا من أعباء على فشو القصور والتقصير، المسيّرون للسفينة في موج كالجبال وليل خافت الذبال، وعواصف هوجاء، وطريق محفوفة بالأخطار ملتوية عوجاء، السائرون بالقافلة في صحراء طامسة الاعلام دامسة الظلام على هداية الرأي الأصيل إذا أعوز الدليل، والبصيرة النافذة إذا غش المستشار، والحق البين إذا اشتجرت المطامع والأهواء، والصبر الجميل إذا تقولت السياسة، والعزيمة الصادقة إذا ساور اليأس. من الشبان؟ فتيان الحمى وجنود الحق ورعاة الماضي وبناة المستقبل ومعاقد الأمل الباسم، وطلائع العهد الجديد، ومستودع القوة في الأمّة، وسرّ التجدّد والاستمرار فيها، ومبعث النشاط والحياة منها. ما لهم يتدفقون تدفق السيل، ويندفعون اندفاع الأَتِيِّ المزبد؟ ما بالهم ينبعثون انبعاث السهام المسدّدة فلا يطيش منهم سهم ولا تخطى لهم رماية؟ ما بالهم متساوين كأسنان المشط، مستوسقين ككعوب الرمح متسقين كنجوم الجوزاء؟ كأن لم تكفهم قوة الشباب ولم يقنعهم سلطان الشباب فأرادوا أن يسندوهما بقوة الاتحاد وسلطان الاتحاد؟ ما بالهم يخرجون عن طبع الشباب ويتنصلون من غرارة الشباب فيتّسمون بوقار الشيخوخة وجلالها ويظهرون بمظهر الحنكة والتمرّس؟ مهلًا فلذات الأكباد، وثمرات الأفئدة، وتزوّدوها نصيحة خالصة محضتها التجربة ومحّصها الاختبار، قد مضى أمسكم بخيره وشرّه، وسينطوي يومكم هذا على غرّه، وإنما أنتم أبناء الغد والغد محجوب، فتدرعوا له بالأخلاق الفاضلة تملكوا أزمته وتتقوا مذمته، وإنما أنتم موكولون إلى العمل والعمل محسوب، فأعيذكم أن يقول التاريخ عنكم ما قال عنا، وإنما أنتم أبناء العروبة والإسلام فكونوا للعروبة والإسلام.

أمس واليوم

أفتمارونني على ما أرى؟ أما والله ما كذب العيان ولا أخطأ الحدس انها- وأبيكم- لَلأُمّة الجزائرية المسلمة العربية الفتية الناهضة، نفضت الغبار في غير تثاقل ولا تناعس، وستغبر في وجوه السابقين. إنها الأمّة الجزائرية وقد أسلمت مقادتها لمن يحسن القيادة في دينها ودنياها، بعد أن استفاقت على وقع الأحداث وإلحاح العوادي وحلول الغير ونعيق النعاة وتلاعب الأيدي السفيهة تعلن حياتها، وتثبت وجودها وتستأنف تاريخها وتبني مستقبلها بيدها، وتعيد المعجزات العيسوية كرة أخرى، نطق في المهد، أو قيام من اللحد. أمس واليوم كانت حالة الجزائر قبل اليوم حالة مريبة لا تدعو إلى الاطمئنان. تفرق شنيع في الأمّة لم يسلم معه دين ولا دنيا. والتباس حالك في المقاصد لا يظهر معه خطأ من صواب، ولا غي من رشد، ولا مفسدة من مصلحة، وسفه فظيع في الانتخابات لم يثمر إلا شَنآنًا وتمزيقًا. ولم يلد إلا نوابًا لا يغنون عند حلول الخطب بالأمّة غناء، وكانت السياسة الجزائرية تسير إلى غايات الاستعمار المتطرفة على أوضاع شاذة، هي شر ما خلفت عصور العسف والظلم. وكانت الأمّة محرومة حتى من رفع الصوت بالشكوى والتظلم، فلم يكن من المرجو لهذه الأمّة أن يدال ليسرها من العسر ولسعادتها من الشقاء، حتى قيّض الله لها من رفع صوته بالإصلاح وهيّأها للاجتماع على الصالحات فتدرجت في هذا السبيل واستبانت طريق الهدى فسارت عليه، وأول ما أونس منها من بواكير الرشد حسن اختيارها لنوابها ومحاسبتها لهم على أعمالهم واجتماعها على المطالبة بحقوقها بواسطتهم. رفعت الأمّة الجزائرية صوتها مطالبة بحقوقها عدة مرات بواسطة نوابها الأحرار فرادى ومجتمعين. وخاطبوا حكومة الجزائر مرارًا فلم يلقوا منها إلّا كل معاكسة لما كان يسودها من تأثير حزب الاستعمار، وسافر وفد النواب المعلوم إلى فرنسا في صيف سنة 33 فلقي تلك الخيبة المريرة التي أذكت حماسة الشعب الجزائري فضاعفت نشاطه، وكانت عليه خيرًا عميمًا، وأنتجت للسياسة الاستعمارية عكس ما تريد. وكانت حكومة فرنسا كلما تعالى صوت المطالبة تعمد إلى المسكنات والمخدرات، فأرسلت مرة لجنة من مجلس الشيوخ يرأسها م. فيوليت الوالي العام الأسبق للجزائر لتدرس الحالة وتشير بالعلاج. وأرسلت أخيرًا وزير الداخلية لذلك العهد م. ريني. ولم تكن لتلك المسكنات من نتيجة ولا تأثير، والحالة بالجزائر لا تزداد إلا ارتباكًا. وحالة المسلم الجزائري تنتقل من سيّئ إلى أسوأ. والحكومة الجزائرية متصاممة عن سماع صوت المطالبة، ممعنة في

سر تعليق الآمال على الجبهة الشعبية

إخفائه، إلى أن جاءت نتيجة الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة بفوز أحزاب الجبهة الشعبية، فارتفع صوت الأمة الجزائرية بالمطالبة من جديد وحدثت فكرة المؤتمر. سرّ تعليق الآمال على الجبهة الشعبية يهرف الجاهلون بحقيقة المسلم الجزائري أو المريدون به شرًّا بكلمات لا قيمة لها في تأويل المظهر الذي ظهر به الجزائريون من تعليق آمالهم وإعلان ثقتهم في الجبهة الشعبية، ويفسّرون هذا المظهر بأنه اتجاه حقيقي نفساني نحو الاشتراكية المتطرفة أو الشيوعية، وهو تفسير خاطئ بعيد عن الحقيقة. فإن المسلم الجزائري قد أقام الأدلة التاريخية على تصلبه في جزائريته وإسلامه، وعلى أنه ليس من السهل على الأحداث أن تكيّفه بغير كيفيته التي طبعها عليه دينه ومقوّماته. وهو بعد شكور على الإحسان لأول ما يرى مخايله، وقد تعاقبت على فرنسا في عهدها الأخير حكومات تنتمي إلى أحزاب، فلم تر الجزائر من جميعها بارقة خير ولا مخيلة إحسان ولو بالقول، ولا شفقة عليها ولا رحمة بها ولا رثاء لحالها، بل كانت على العكس من ذلك ترى من تلك الحكومات المتعاقبة زيادة في الإرهاق وإمعانًا في العسف، وتسمع عبارات التهديد والوعيد صريحة فصيحة، وقد تسمع في بعض الأوقات الوعود المعسولة فتبادر بالشكر المضاعف ثم لا تكون النتيجة على طول الانتظار والصبر إلا الخيبة وتجرع مرارة الإخلاف. فلما فازت الأحزاب الشعبية، ومبادئها الإنسانية معروفة لجميع الناس، وبادرت بالإعلان بلسان صحفها والإفصاح عما تبيّته للشعب الجزائري من إصلاح سياسي واجتماعي، وما تضمره له من خير ورحمة هو أهل لهما، وَاحْتَفَّ بتلك التصريحات والوعود ما دلّ على أنها ليست من جنس الوعود السالفة التي لم ينجز منها ولا واحد. لمّا وقع كل ذلك، كان من المعقول جدًا أن يكون هوى المسلمين الجزائريين مع الجبهة الشعبية وميلهم إليها وأن يقابلوا الخير بمثله، خصوصًا وقد كانت تلك التصريحات والوعود من أحزاب اليسار مصوغة في قالب يقتضي العطف على الشعب الجزائري والاعتراف بجميله وأهليته لتلك الحقوق، ويا ما أشرف عرفان الجميل إذا كان متبادلًا بين الطرفين. إن من خصائص هذه الأمّة الجزائرية عرفان الجميل لأهله ومكافأة الإحسان بالإحسان، وهي خلال طبعها عليها دينها. وقد سمعت من أحزاب اليسار وعودًا جميلة عريضة، فقابلتها بشكر جميل عريض طويل، ثم هي تنتظر فإن خرجت تلك الوعود إلى حيّز الإنجاز جعلت الشكر عليها وقفًا والإخلاص كفاءً، وإن خابت الظنون في هؤلاء كما خابت فيمن مضى قبلهم لجأت إلى الصبر والثبات كعادتها في النائبات، ولا تيأس من روح الله ولا تسمّي الأشياء بغير أسمائها فتقول للمسيء أحسنت وللكاذب صدقت.

فكرة المؤتمر

إن هذه الأمّة الجزائرية فقدت كل شيء، ولكنها لم تفقد دينها الذي علّمها كيف تميّز المحسن من المسيء، وعلّمها كيف تكافئ الإحسان وإن قلّ، بالإحسان الكثير، وكيف تكافئ الإساءة بالإساءة عدلًا وبالإحسان فضلًا، فليدع المتخرصون هذه الأمّة المظلومة، وليعذروها في مظهرها الجديد الذي ظهرت به ولا يحملوه على أنه نكاية في حزب وتحيّز إلى حزب. فمن الظلم الفاضح أن تلوم الجائع المغرور إذا هش لكلمة الإحسان، ونطقت جوارحه قبل لسانه بشكر المحسن، وقد كانت هذه الأمّة تقابل أقل من هذا بأكثر من هذا، وعند المسيو فيوليت الخبر اليقين، فسلوه يخبركم أنه لم يظفر سياسي بمثل ما ظفر به من حب الجزائريين وتقديرهم وامتلاك قلوبهم، كل ذلك لكلمة خير قالها فيهم وسعي صالح سعاه في مصلحتهم، على ما يتطرق ذلك السعي من شكوك واحتمالات وعلى أنه لم ينجز من سعيه قليل ولا كثير. فكرة المؤتمر يسجّل التاريخ المنصف فكرة عقد المؤتمر الإسلامي الجزائري للأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد كان نشر في جريدة (لاديفانس) في عددها الصادر في 3 جانفي سنة 1936 آراء له في السياسة الجزائرية كان لها وقع عظيم، ومن تلك الآراء التي ارتآها الأستاذ عقد مؤتمر إسلامي جزائري، فكان أول من فكّر في عقد هذا المؤتمر قبل فوز الجبهة الشعبية بأشهر، وللأستاذ- حفظه الله- آراء في شؤون الأمة الجزائرية ترجع في مردّها إلى هذا الأصل. وهو أن المرجع في مسائل الأمة هو الأمة، والواسطة لذلك هي المؤتمرات. ونحن مع تسليمنا لوجاهة فكرة الأستاذ، نعتقد مستيقنين أنه لو دعا داعٍ قبل اليوم إلى عقد هذا المؤتمر- كيفما كانت منزلة الداعي في الأمة- لما باء إلا بالخيبة والفشل لأسباب يعرفها كل أحد، أما وقد فازت الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية وأصبحت أزمة الحكومة الفرنسية بيدها فقد أصبح عقد المؤتمر ميسورًا ومتأكّدًا في آن واحد، فماذا وقع؟ كانت الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر العام من قسنطينة، وكانت قوية مؤثرة بقوة مصدرها ومكانته في الأمة، ومصدرها رئاسة جمعية العلماء التي هيأت الأمة للاستجابة لدعوة الحق، بعد أن علّمتها الحق، ورئاسة جمعية النوّاب التي لم تعرف الأمة معنى النيابة وحقيقة النيابة إلا منها، والتي ضربت المثل للإخلاص للمصلحة العامة والتفاني في خدمتها، وللأمة بهاتين الجمعيتين ثقة واسعة الحدود ثابتة الأسس. لذلك كان صوتهما مجتمعًا أشدّ تأثيرًا في النفوس وأدعى إلى الاستيثاق والقبول. فما كادت تسمع تلك الدعوة الجامعة وتقرأ في الصحف عن عقد المؤتمر، الصادرة عن رئيس جمعية العلماء ورئيس جمعية النوّاب بقسنطينة حتى تلقّته الأمة بآذان مرهفة ونفوس متطلعة مستشرفة.

لم يكن بين الدعوة إلى المؤتمر وبين عقده إلا أيام قليلة فلم تنظّم له دعايات واسعة كما هو الشأن في المؤتمرات الخطيرة، بل كان الاعتماد فيه على إحساس الأمة واتجاهها الصادق إلى المطالبة بحقوقها أكثر من الاعتماد على الدعاية والإعلان. وكل ما وقع من الأعمال التمهيدية انعقاد لجان تحضيرية من الشبّان والعمّال ورجال الصنائع والفلّاحين وقدماء المحاربين، في قسنطينة والجزائر وتلمسان وبعض مدن القطر، لتنظيم المطالب الخاصّة المتعلّقة بهذه الهيئات ولإعانة المؤتمر على أعماله العامة. ولو تراخى الزمن وانفسحت المدة بين الدعوة إلى المؤتمر وبين عقده لكان المظهر أروع، والعديد أكثر. ولعلّ بعض الناس يرى من الحكمة أن لو تأخّر انعقاد المؤتمر مدة عن الدعوة حتى تعدّ له العدد اللازمة، وحتى تدرس المطالب وتختمر الآراء، وتتقارب وجهات النظر، إذ ليست المطالب الجزائرية من الأمور الهيّنة التي لا يضرّ وقوع الغلط فيها، بل هي في حقيقتها بناء مستقبل الأمة بأسرها، وان غلطة واحدة في تلك المطالب لتؤدّي إلى تجرّع الأمة مرارتها أحقابًا. والجواب عن هذه الملاحظة التي سمعناها بآذاننا من بعض أولي الرأي، ان السبب الأكبر الداعي إلى التعجّل بالمؤتمر أقرب إلى الحكمة من هذه الملاحظة على سدادها، وهذا السبب هو مسابقة الحوادث العائقة، والمفاجآت الطارقة التي قد تعرقل المؤتمر وتبطئه، أو تفسده وتبطله، وأقلّ ما يترتب على هذا من المفاسد تفسخ العزائم وفشل الإرادات وانتكاث القوى، وما أكثر هذه الطوارئ في هذا الوطن، وما أكثر العاملين على هدم المشاريع، فما عسى أن يكون في التعجّل من أخطاء موهومة لا يوازن بما ينشأ عن التأخّر من أخطار محققة، على أن من مبررات التعجّل أيضًا انعقاد المؤتمرات على أثر تشكيل الوزارة الجديدة وهو مبرر له مغزاه. ولعلّ هذه الملاحظة لا تندفع إلا إذا حلّلنا المطالب الجزائرية بعض تحليل، ذلك أن هذه المطالب ترجع إلى أصلين: مفاسد تدرأ ومصالح تجلب. وقد تستقلّ إحداهما عن الأخرى وقد تتلازمان، فإذا طلبنا إلغاء (الانديجينه) (1) مثلًا فقد طلبنا درء مفسدة محققة لا يتنازع فيها اثنان من غير أن تترتّب على درئها مصلحة إيجابية. وإذا طلبنا إلغاء قرار شوطان القاضي بتعطيل الصحف العربية قبل بروزها، فهذه مفسدة يترتّب على درئها مصلحة إيجابية وهي حرية الصحف العربية، فنكون قد حصلنا على فائدتين: درء مفسدة وجلب مصلحة. وهكذا يقال في حرية الفكر والاجتماع والتنقّل وفتح

_ 1) كلمة فرنسية ( indigenat) معناها "الأهالي"، ويطلقها الفرنسيون على الجزائريين احتقارًا لهم. وقانون الأنديجينة صدر في سبعينيات القرن الماضي، لا يطبق إلا على الجزائريين، وهو أبشع القوانين المعروفة في العالم وأقساها.

النقط التاريخية في المؤتمر

المساجد، والمطالب التي هي من هذا القبيل لا يختلف فيها جزائريان ولا يتسرب إليها الغلط بحال، وليس عندنا إلا مسألة واحدة يعدّ التساهل أو الغلط فيها جريمة بل كفرًا، وهي مسألة الحقوق الشخصية الإسلامية، ومسألة أخرى اختلفت فيها الأنظار ثم اتفق المؤتمر فيها على رأي حاسم وهي مسألة التمثيل البرلماني، وسيعلم القارئ تفصيل القول فيهما في هذا المقال. النقط التاريخية في المؤتمر: على الساعة التاسعة من صباح يوم السبت السابق ليوم المؤتمر اجتمع بنادي الترقي أفواج من شبان العمالات الثلاث، منتدبين من اللجان التحضيرية التي تشكلت في مختلف المدن ومفوضين في النيابة عنها والتكلّم باسمها. وفي هذه اللجان تجتمع كل القوى الجزائرية وتتمثل جميع عناصر الحياة منها. وشاركهم في هذا الاجتماع نواب تلمسان البلديون من بينهم السيد محمد بن سليمان نائب رئيس جمعية النواب بوهران، والسادة محمد القلعي المحامي، ومحمد بن مرزوق ومحمد حميدو وبنعوده بوعياد نواب بلديون بتلمسان، والدكتور الجيلاني بن التهامي نائب بلدي بمستغانم، والسيد محمد لالوت نائب بلدي بسيدي بلعباس، والسيد بن عمارة نائب بلدي بتيارت، والدكتور سعدان نائب عمالي ببسكرة. وجمهور من أعيان العمالات الثلاث. وتفاوض الجميع- في جو مشبع بالإخاء والتضامن والشعور باشتراك المصلحة- في كل النقط التي تهم المؤتمر، وحلّلوا كل ما كان مشكلًا من نقط الخلاف فتوصلوا فيها إلى حل قاطع. وحضر في المناقشات الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء وكاتب هذه الأسطر والشيخ محمد خير الدين على معنى المشاورة وإعطاء الرأي في كل ما يتعلق من المطالب بالدين واللغة العربية. وانفضّ هذا الاجتماع على الساعة الثانية عشرة، وفي عشية ذلك اليوم اجتمعت هيئات الشبان والأعيان بالنادي الرياضي لإتمام أعمالها التحضيرية، واجتمعت هيئات النوّاب بقاعة "قيون تيل" لذلك الغرض، وعلى الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم اجتمع النوّاب وممثلو جمعية العلماء والشبان والأعيان بقاعة "قيون تيل"، وفي هذا الاجتماع تمّ الاتفاق على صورة المطالب التي تعرض على المؤتمر للموافقة عليها وعلى الرأي النهائي لكيفية التمثيل البرلماني، وفيه اتفق الحاضرون على نظام المؤتمر وكيفيته، وأن يكون مركبا من النوّاب والعلماء والشبّان، وعلى إسناد رئاسة المؤتمر العام إلى الدكتور بن جلول. وانفضّ هذا الاجتماع على الساعة الثانية عشرة ليلًا، وتمادى النواب على أعمالهم الخصوصية إلى الساعة الثانية قبل الفجر.

يوم المؤتمر

يوم المؤتمر: كان يوم الأحد 17 ربيع الأنور عام 1355، الموافق للسابع من شهر جوان سنة 1936، هو يوم الجزائر المشهود الذي يحق لها أن تبدأ به تاريخها الجديد، ففيه تجلّى تضامن الجزائر الإسلامية وإخاؤها واتحادها، كما تجلّى فيه شعورها الصادق وإحساسها باشتراك المصلحة، وفيه زالت الفوارق الممقوتة والاعتبارات الزائفة، فإذا رأيت ثَمَّ رأيت إخاءً شاملًا وائتلافًا حقيقيًا، وإذا قرأت الوجوه والأسارير قرأت ما لا تفي به العبارة ولا يحيط به الوصف. وإذا تفرّست أوحت إليك الفراسة بما يملأ نفسك غبطة ويفعم جوانحك سرورًا. وإذا سمعت الألسنة تخطب والأيدي تصفّق والحناجر تهتف جزمت بأن هذا الجمهور تحرّكه إرادة واحدة، وتصرفه إرادة واحدة ويهزّه شعور واحد فاض على الألسنة فكان كلامًا وتردَّد في الحناجر فكان هتافًا، واحتبس في الأفئدة فخفّت الأيدي للتعبير عنه فكان تصفيقًا. خطب الدكتور تامزالي باللغة الفرنسية مرحّبًا بالمؤتمرين باسم مدينة الجزائر، ثم خطب بعده الدكتور بن جلول خطبة الافتتاح وشرح أغراض المؤتمر فأجاد، وبلغ من نفوس السامعين المراد. وتكلّم بعده الدكتور بن التهامي فالدكتور عبد الوهاب، فالصيدلي عبّاس فرحات، فكان كلامهم على وتيرة واحدة، ومعناه إعلان البشرى للأمة المستشرفة باجتماع النوّاب وأهل الرأي على كلمة واحدة في جميع نقط المطالب، ثم تعاقب الخطباء فكنت تسمع كلامًا مختلفًا وتفهم معنى واحدًا ترجمته بلغة النفس "نحن إخوة اجتمعنا أمس على الألم وحده ونحن اليوم مجتمعون على الألم والأمل وإن هذا الأمل لا يتحقق إلا باتحادنا فلنتحد". ومن أبهج ما ترى، وألطف ما تسمع، خطيب فرنسي هو المسيو سكوت مندوب الشعبة الاشتراكية. فقد خطب فضرب على النغمة التي كنت تسمعها من الخطباء المسلمين، ثم انتهت النوبة إلى العلماء، فقام الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس باللغة العربية الفصحى فخاطب الأرواح بلغتها وأتى بيوت الأفئدة من أبوابها وهزّ السامعين هزّات، ثم شرح المطالب الدينية والمطالب المتعلقة باللسان العربي، وبيّن أنها جزء جوهري في المطالب الجزائرية العامة، وتكلّم بعده كاتب هذه الأسطر فنوّه بهذا اليوم وقال أنه دليل حياة هذه الأمة كما أنه أساس مستقبلها، وكانت كلمة الختام للأستاذ الشيخ الطيب العقبي فأصاب مواقع التأثير من نفوس السامعين، وكانت في خطبته مواقف مثيرة لم يَعْدُ فيها كلمة الحق- وكلمة الحق مرة المذاق- فقد استدرك على الخطباء الذين ندّدوا قبله بالقرارات الاستثنائية الجائرة قرارًا لم يذكروه ولم يحوموا حوله، مع أنه أشنع القرارات وأحقّها بالتشنيع والتنديد لأنه ضرب الأمة في الصميم، وهو قرار ميشال أو منشور غلق المساجد في وجوه علماء الأمة ومنشوره بحل الجمعية الدينية بالجزائر، فشهر به وبيّن قبحه وفظاعته وضرره.

قائمة القرارات

ثم عرضت المطالب العامة على المؤتمر فأقرّها بالإجماع، فأصبحت قرارات يجب على أولي الرأي والمسيرين للمؤتمر السعي بكلّ الوسائل لتنفيذها باسم الأمة، ويجب على الأمة أن تتساند وتتعاضد وتقف صفًا واحدًا من وراء قادتها المخلصين، وأن تحافظ على المؤتمر وقراراته كما تحافظ على أعزّ عزيز لديها. قائمة القرارات: 1 - ثقة المؤتمر بالحكومة الشعبية الجديدة وشكرها على عواطفها نحو الأمة الجزائرية. 2 - إلغاء جميع القوانين والقرارات الاستثنائية الخاصّة بالمسلمين. 3 - تخويل المسلمين الجزائريين جميع الحقوق التي يتمتعّ بها الفرنساويون مع المحافظة التامّة على المميزات الإسلامية التي يتمتعّ بها المسلم الجزائري في أحواله الذاتية الشخصية مع إدخال إصلاحات عليها. 4 - تخويل المسلمين الجزائريين حق التمثيل في البرلمان الفرنسي على هذه الصورة:* انتخاب مشترك بين المسلمين والفرنسيين. * تعميم في المنتخبين المسلمين على الصورة الجارية الآن في انتخاباتهم المحلية. * تأكيد في المحافظة على الأحوال الشخصية الإسلامية. 5 - تأسيس لجنة تنفيذية للمؤتمر على الوجه الآتي بعد. قائمة الاقتراحات الفردية: 1 - إلغاء الولاية العامة وما يتبعها من الأوضاع الإدارية كالدوائر المختلطة (2) والقوّاد (3)، وإلغاء مجلس النيابة المالية الذي يتحكم في الميزانية الجزائرية وإلغاء المجلس الأعلى المبني عليه. 2 - إلغاء المحاكم العسكرية. 3 - عقد المؤتمر بهذا الاسم وبهذه الروح وعلى هذه المبادئ عند كل مناسبة. 4 - تكريم الرجال الذين عملوا لخير الجزائر بلا فرق بين أجناسهم، الأحياء بشكرهم باسم المؤتمر، والأموات بإحياء ذكراهم، وجرى في هذا الموقف ذكر فيوليت وموتي والأمير خالد والبان روزي.

_ 2) الأقسام التي يقطنها الجزائريون والفرنسيون، ويحكمها قانون عنصري، وسيّرها شخص يسمى "متصرّف". 3) جمع "قايد"، موظفون جزائريون مسؤولون عن القرى، وهو كشيخ البلدية في المدينة.

أهم مقررات المؤتمر

5 - طرح كلمة "أنديجان" وهجر استعمالها. 6 - العفو عن المحكوم عليهم في حوادث 5 أوت (4). ليس من شأن هذه المجلة الشهرية أن تفيض في نقل الخطب وتفصيل الوقائع، وإنما هذا من شأن الصحف اليومية والأسبوعية، وقد قامت الصحف الفرنسية والعربية بهذا الواجب وأظهرت اهتمامًا عظيمًا بالمؤتمر فأرسلت محرّريها ومصوّريها لحضوره، ونشرت عنه صورًا صادقة، وأبى لها إنصافها للتاريخ وإخلاصها لمهنتها إلا أن تعترف بروعته ونظامه وشرف مبادئه، ومن شَذَّ شَذَّ في النار. وإذا لم يكن التفصيل من شأن هذه المجلة، فإننا كتبنا فيها من نقط المؤتمر ما فيه إثارة للعبرة وإرسال للمثل وحسب قرّائها منها هذا. أهم مقررات المؤتمر: أول برنامج عرف في عالم السياسة الفرنسية الجزائرية مختصًا بالمسلمين الجزائريين هو برنامج م. فيوليت، وصاحبه من أبرز المشتغلين بالسياسة الأهلية الجزائرية، وقد أدار برنامجه على اعتبارات سياسية دقيقة لا يفهمها إلا الراسخون في علم السياسة، وأفرغه في قالب لفظي مستهوٍ خلّاب، ينطوي على معانٍ غامضة ويحتمل وجوهًا كثيرة من الاحتمالات والتفسيرات، ومنها ما يعدّ في الاعتبار النفسي الجزائري من الشعريات، ومثل هذه المعاني قد تكون عند التطبيق مثارًا للإشكال والعسر. وقد يكون من الحكمة في وضع برنامج مثل هذا يُبنى عليه مصير أمة كاملة أن تكون معانيه بمقربة من افهام العامة، خصوصًا إذا كان تنفيذه يتوقّف على رأي تلك الأمة أو على تأييدها. ثم ظهر بعد برنامج فيوليت برنامج النائب "قيرنوت" وتصاول البرنامجان في مجلس الشيوخ فلم يظفر واحد منهما بقبول، وبين البرنامجين خلاف في النقط الجوهرية من الموضوع، وفي كليهما جهات صالحة، غير أن برنامج فيوليت كان أكثر استهواءً لخاصّتنا وشبابنا وأسير على ألسنتهم وبذلك بذ قرينه في الشهرة والحظوة، وظهر برنامج (كيطولي) نائب قسنطينة فلم يلقَ في الأوساط الجزائرية أدنى اعتبار. وظهر في آخر وقت برنامج دوروكس، نائب الجزائر، فكان حظّه قريبًا من حظ سابقه. فلما أعلنت الدعوة إلى المؤتمر كانت الأنظار مختلفة في أي البرامج يجب أن تكون المطالبة بالحقوق على أساسه، وكان أنصار برنامج فيوليت أكثر عددًا في الطبقات المتنوّرة

_ 4) وقعت في قسنطينة سنة 1934، بسبب سَبّ يهودي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

اللجنة التنفيذية

وأقوى نفوذًا، ومن العجيب الدالّ على تقدير هذه الأمة للجميل أن معظم تأثّر أنصار هذا البرنامج آتٍ من اسم صاحبه واشتهاره ببعض المواقف في صالح المسلمين أكثر مما هو آت من التحقّق بصلاحيته في العاجل أو في الآجل، فهل هناك دليل أكبر من هذا على ذهاب هذه الأمة في المكافأة على الإحسان إلى الأمد الأقصى. كان من رأينا في هذا النزاع والتحيّز إلى البرامج أن تلغى كلها، وأن لا يتّخذ واحد منها أساسًا للمطالب الجزائرية، وذلك لأنها كلها وضعت في ظروف خاصة وبُنيت على اعتبارات خاصّة، وقد ذهبت تلك الظروف وتلاشت تلك الاعتبارات وأصبحنا نسمع من شبه المسؤولين في الحكومة الشعبية أن حكومتهم مستعدّة لإعطاء أكثر ما يمكن من الحقوق للأمة الجزائرية، فلا يكون من السداد ولا من الحكمة أن نتقيّد في ظرف كهذا ببرنامج لو كلّف واضعه بوضعه في هذا اليوم لما رضي به لنا ولوضعه على نحو آخر، بل الواجب أن نضع لمطالبنا برنامجًا مستقلًّا منتزعًا من حالة الأمة الجزائرية منطبقًا على نفسيتها وميولها الخاصة، وقد صارحت بهذا الرأي إخواننا نوّاب عمالة وهران في اجتماعهم الأخير بتلمسان عندما رأيتهم مختلفين حول أسماء البرامج، فرجعوا إلى هذا الرأي واقتنعوا بسداده. ثم لما قدمنا الجزائر وجدنا إخواننا كلهم رجعوا إليه واقتنعوا بسداده، وكانت نتيجة هذا كله أن قرّر المؤتمر عدم تقييد المطالب ببرنامج معيّن وعدم بنائها على أساس برنامج مخصوص. ومعنى هذا كلّه أن المؤتمر بحكمه هذا وقراره هذا قد فضّ أعظم مشكلة وأزال أكبر خلاف كان يأتي- لو ترك- بأسوإ الآثار في المجتمع، فشكرًا للمؤتمر الإسلامي الجزائري على هذا القرار الخطير. اللجنة التنفيذية: المؤتمرات في الحقيقة قوّات تشريعية تستمدّ قوّتها من الجمهور الحاضر المقرّر والجمهور الغائب المؤيد، والقوة التشريعية تحتاج دائمًا إلى قوة تنفيذية، تتابع الأعمال حتى تنتهي بها إلى التنفيذ، لذلك كان من الأصول المتّبعة في المؤتمرات أن تؤسس لها لجنة تُسمّى اللجنة التنفيذية، وظيفتها تنفيذ كل ما يقرره المؤتمر وتطبيقه على النحو الذي قرّر عليه، فإذا قرّر المؤتمر مطلبًا أو اقتراحًا سعت اللجنة في تنفيذه بجميع الوسائل وتتحمّل مسؤولية كل ما يقع من تقصير أو إخلال. وعلى هذه السنة جرى المؤتمر الإسلامي الجزائري، فقرّر تأسيس لجنة وأقرّها المؤتمرون بالإجماع.

ما تم بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف

إن الأعمال العظيمة أو الكبيرة إذا وكلت إلى فرد ضاعت أو اختلّت، وتوزيع الأعمال - مقرونة بالمسؤولية- على أفراد معينين أدعى للسرعة والإنجاز وعدم الضياع والاختلال، وإذا كانت مقررات المؤتمر الإسلامي الجزائري كلها مطالب واقتراحات، فإن مهمة اللجنة التنفيذية تنحصر في تنظيمها وترتيبها وطبعها في كرّاس يسمّى "كرّاس المؤتمر الإسلامي الجزائري" وتقديمها للمراجع الحكومية المختصّة بواسطة وفد من النوّاب توفده أو بما تراه من الوسائط. وقد تمّت على الوجه الآتي: ما تمّ بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف: اجتمع بنادي الترقّي في مساء يوم المؤتمر رؤساء جمعيات النوّاب وكثير من أعضائها البارزين وممثلو جمعية العلماء ورؤساء لجان الشبّان المؤيدين من العمالات الثلاث، وتداولوا إبداء آرائهم في كيفية تنفيذ قرار المؤتمر النهائي القاضي بتشكيل لجنة تنفيذية للمؤتمر. فاتفقت الآراء على أن اللجنة التنفيذية يجب أن تمثّل فيها الأمة تمثيلًا واسعًا، وقبل النظر فيها يجب تأليف لجنة مؤقتة من تسعة أعضاء: ثلاثة من النوّاب، وثلاثة من العلماء، وثلاثة من الشبّان، على اعتبار واحد من كل طائفة عن كل عمالة لترتب مطالب المؤتمر وتنظّم مقرّراته وتهيئ العمل للجنة التنفيذية، ويوكل إلى هذه اللجنة المؤقتة النظر في تكوين اللجنة التنفيذية بما تراه بعد الدرس والتمحيص. فتألّفت اللجنة الموقتة فعلًا من ثلاثة نوّاب هم الدكتور بن جلول رئيس المؤتمر، والمحامي عبد السلام بن الطالب، والصيدلي عبد الرحمن بوكردنة وثلاثة من العلماء وهم المشايخ محمد خير الدين، الطيب العقبي، البشير الإبراهيمي، وثلاثة من لجان الشبّان، وهم الأستاذ بن الحاج والحاج والمهندس عبد الرحمن بوشامة، والسيد عبد الله العنابي. وقد وكل النوّاب أمرهم إلى أحدهم وهو الصيدلي عبد الرحمن بوكردنة، وفوّضوا إليه أن يتكلم باسمهم في هذه اللجنة ويبرم مع إخوانه ما يراه صالحًا، وشارك في أعمالها بصورة فعلية الأستاذ الأمين العمودي والشيخ محمد خير الدين ممثلين لجمعية العلماء، واضطر السيد عبد الله العنابي إلى الرجوع إلى بلده فوكّل الشاب أوزقان. لبثت اللجنة الموقتة أسبوعًا كاملًا- بعد ارفضاض المؤتمر- توالي اجتماعاتها بنادي الترفي، فرثبت المطالب والقرارات والاقتراحات ونظّمتها، ومهّدت طريق العمل للجنة التنفيذية وعبدتها، واستقرّ الرأي في كيفية تشكيل اللجنة التنفيذية أن يقوم الأعضاء العاملون في اللجنة الموقّتة بعد رجوعهم إلى دوائرهم بجولات منظمة في أقسام العمالات الثلاث،

مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

ويقيمون فيها اجتماعات عامة يشرحون فيها أعمال المؤتمر وقراراته، ويبيّنون فوائده وثمراته الحاصلة والمرجوّة، ويدعون الأمة إلى حمايته وتأييده ويؤسّسون في كل قسم لجنة فرعية، تسمّى (لجنة المؤتمر) برئيسها وكاتبها وأمين مالها، وتنتظم كل لجنة جميع الملحقات التابعة لذلك القسم حتى القرى الصغيرة، على أن تقوم هذه اللجان بالدعاية للمؤتمر والدعوة إلى تأييده، ويراعى في تأسيسها المعنى الذي أسست عليه اللجنة الموقتة بالجزائر من جميع العناصر الثلاثة: النوّاب والعلماء والشبّان، فإذا تمّ تأسيس لجان المؤتمر على هذه الكيفية المنظّمة انتخبت كل لجنة منها عضوًا من أعضائها ليكون عضوًا في اللجنة التنفيذية التي سينعقد أول اجتماعاتها في الخامس من شهر جويلية الآتي بنادي الترقّي بالجزائر. وبهذه الكيفية تكون اللجنة التنفيذية للمؤتمر ممثّلة للأمة أكمل تمثيل. ثم أودعت اللجنة الموقّتة جمع أوراق المؤتمر وملفّاته بعد فحصها وإحصائها عند ثلاثة من أعضائها المقيمين بالعاصمة، وهم الأستاذ بن الحاج والحاج ممثلًا للشبّان والأستاذ الأمين العمودي ممثلًا للعلماء، والصيدلي عبد الرحمن بوكردنه ممثلًا للنوّاب، وعهدت إليهم بأن يكونوا نقطة اتصال بين المؤسسين للجان المؤتمر، حتى إذا تمّ تأسيس اللجان وانتخبت أعضاء اللجنة التنفيذية وانعقدت الجلسة الأولى في الخامس من جويلية بصفة رسمية، سلّموا لها كل ما تحت أيديهم من أوراق المؤتمر وقراراته، وبذلك تكون اللجنة الموقّتة قد أتمّت أعمالها وأدّت الأمانة إلى أهلها. وسيكون أول أعمال اللجنة التنفيذية طبع المطالب والقرارات باللغتين العربية والفرنسية في كراسة تسمّى "قرارات المؤتمر الإسلامي الجزائري"، وتشكيل وفد من النوّاب يسافر إلى فرنسا باسم المؤتمر لتقديم مطالبه. مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: للأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وصاحب جريدة "المنتقد" الشهيدة ومجلة "الشهاب" آراء ناضجة حكيمة في السياسة الجزائرية، وقد رفع صوته بها قبل أن يرتفع أي صوت آخر من أصوات اليوم، ونشرها في "المنتقد" و "الشهاب" وغيرهما في عدة مناسبات يوم كانت الألسنة خرساء والأقلام مقيّدة. ولما قدّم لمكتب المؤتمر مطالب جمعية العلماء المسلمين المتعلقة بالدين واللسان العربي صدر تقريره الموجز البليغ ببيان رأيه الخاص في المساواة والنيابة، ثم أردفه ببيان مطالب الجمعية. وهذا نصّ التقرير:

حقوق الأمة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية

حقوق الأمّة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية -…-…-…-…-…-…-…-…-… مقدّمة إن الأمّة الجزائرية قد شاركت الأمة الفرنسية في مواقف الموت فمن الحق والعدل أن تساويها في مواقف الحياة. إن الحياة تُشترى بالأرواح والأبدان والأمّة الجزائرية قد بذلت أرواحها وأبدانها مع الأمة الفرنسية ومثلها، ومن دفع الثمن فمن الحق والعدل أن يأخذ المثمن. إن الأمة الجزائرية سمعت في أيام الشدّة ومواطن اليأس من الأمة الفرنسية أنهما يستون في السلم كما تساويا في الحرب. فأما الذين ماتوا في تلك الأيام فقد ماتوا وقلوبهم تنعم بذلك الأمل المعسول. وأما الذين بقوا فبقيت قلوبهم تتجرّع الخيبة بعد الخيبة وتنطوي على الألم بعد الألم. إن الأمة الفرنسية لا تستغني عن الأمّة الجزائرية كما لا تستغني الأمة الجزائرية عنها، فمن الخير لهما معًا أن لا تشعر واحدة منهما من ناحية الأخرى بنقص في الود أو ظلم في الحقوق. وعلى هذا بنينا ما نقدّم من الحقوق التالية طالبين من الأمة الفرنسية، وخصوصًا من الحكومة الشعبية الجديدة التي تمثّل الشعب الفرنسي والمبادئ الجمهورية أصدق تمثيل- باسم الحق والعدل- تنجيزه. الأوضاع والمعاملات الخاصة: لا تتحقق المساواة المطلوبة إلا برفع جميع الأوضاع الخاصة مثل المتصرفيات ومجالس "الكريمينال" (5) والمعاملات الخاصة مثل الانديجينه وأعطيات الجندية وزيادة مدة الخدمة العسكرية، والبرنامج الخاص بالتعلّم في المكاتب الابتدائية وغيرها، وحرمان عمّال الجزائر من كثير مما يتمتع به العمّال الفرنسيون. النيابات: لا يمكن للأمة الجزائرية أن تنال حقّها من الحياة على الأرض الجزائرية ما دامت لا تمثّلها في جميع المجالس إلا أقلية، فأوّل مطلب في النيابة هو تسوية نواب الجزائريين

_ 5) كلمة فرنسية معناها الجرائم، الجنايات.

أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر

بالنّواب الفرنسيين في جميع المجالس، ثم مطلب توحيد النيابة البرلمانية بكلا المجلسين بحيث يشارك في انتخاب النوّاب البرلمانيين مشاركة فعلية جميع سكّان الجزائر على اختلاف أجناسهم وعقائدهم مع بقاء المسلمين على جميع ذاتياتهم الإسلامية. هذا التصدير قدّمه الأستاذ للمؤتمر باسمه الخصوصي، على أنه رأي من الآراء يضمّ إلى نظائره، وبعد هذا بيّن في إيجاز بليغ مطالب جمعية العلماء وقدّمها باسمها وهي: ـ["اللغة العربية"]ـ تعتبر اللغة العربية رسمية مثل اللغة الفرنسية، وتكتب بها مع الفرنسية جميع المناشير الرسمية، وتعامل صحافتها مثل الصحافة الفرنسية، وتعطى الحرية في تعليمها في المدارس الحرة مثل اللغة الفرنسية. ـ[" الدين"]ـ 1 - المساجد: تسلّم المساجد للمسلمين مع تعيين مقدار من ميزانية الجزائر لها يتناسب مع أوقافها. وتتولّى أمرها جمعيات دينية مؤسسة على منوال القوانين المتعلقة بفصل الدين عن الحكومة. 2 - التعليم الديني: تؤسّس كلية لتعليم الدين ولسانه العربي لتخريج موظفي المساجد من أئمة وخطباء ومدرسين ومؤذنين وقيّمين وغيرهم. 3 - القضاء: ينظّم القضاء بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية، يكون انتخابها تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق، وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرّج منها رجال القضاء، منها تدريس تلك المجلة والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية، وطبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها. هذه هي النقط الأساسية التي تنبني عليها المطالب الدينية قدّمها رئيس جمعية العلماء بإسمها للمؤتمر لتكمل بها مطالب الأمة الجزائرية في نواحي حياتها الأخرى، وقد وافق المؤتمر على هذه المطالب بإجماع برفع الأيدي بهيئة رائعة موثرة، وجمعية العلماء على استعداد تام لشرح هذه النقط وبيان تفاصيلها وكيفية تطبيقها. أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر: كانت تلك الخطة العلنية التي ظهر بها ممثلو جمعية العلماء المسلمين في هذا المؤتمر من الدعوة إليه وحياطته وتأييده مثار ابتهاج عظيم عند المخلصين للوطن والعاملين على خيره، لأنهم يعلمون ما في مشاركة العلماء في المؤتمر من خير وفائدة للأمة وما فيها من

المؤتمر الجزائري الإسلامي العام

قوّة، وتمكين للمؤتمر، ومثار فرح واغتباط في الطبقات العامية لأنها ترى في حضور العلماء للمؤتمر ضمانًا وكفالة لأعزّ عزيز لديها- وهو الدين واللغة العربية- وكانت من جهة أخرى مثيرة لسخط أشخاص ومقامات عرفناها وبلوناها، فلم نعرف منها الرضى بما يسر المسلمين ولا الفرح بما يقرب بعضهم من بعضهم. ولم نبل منها إلا كل معاكسة لمصالحهم، ونحن لا يهمّنا من أمر هؤلاء الأشخاص ولا هذه المقامات شيء ما دمنا قد أدّينا واجبنا نحو ديننا ولغتنا وشاركنا في عمل صالح لأمّتنا. وإنك لتسمع بعض الألسنة التي تترجم عن قلوب جاهلة أو مريضة تردّد هذا السؤال: ما معنى مشاركة العلماء في مؤتمر سياسي؟ كأنهم يريدون تخويفنا بهذا الغول الموهوم غول السياسة، وتفويت الفرصة علينا بمثل هذه الترهات. وكم أضاعت هذه الترهات على الغافلين من فرص! وإننا لنعلم أن وراء الأكنّة، شخوصًا مجتنة، في كيد الأبالسة وخفاء الجنة، وإن هذه الشخوص جربت العلماء فوجدتهم لا يلينون لغامز، فيسوءها أن ينعقد المؤتمر، ويسوءها بنوع خاص أن يشارك العلماء فيه، فيكتسب قوة من قوّتهم وثباتًا من ثباتهم ولونًا راسخًا مما عرفوا به من الرسوخ، ثم يتحوّل غيظها عنه إلى قالة السوء يشيعونها عليه، وأحدوثة الاستهجان يرمونه بها في طوائف مخصوصة تردّد تلك الأصداء وتلبس علينا بأن المؤتمر يهمها أكثر مما يهمّنا بآية أنها لا تستهجن إلا جوانب النقص فيه، ومن جوانب النقص- في هذا المنطق الزائف- اشتراك العلماء في المؤتمر. فويحكم .. ان العلماء الذين تعنونهم، هم من الأمة في الواقع والحقيقة، في حال أنكم لا تعدون منها إلا على الزعم والدعوى، وان العلماء يمثّلون الوصف الذي ما كانت الأمة أمة إلا به وهو الإسلام ولسانه، وإن مطالب الأمة التي رفعت صوتها بها في المؤتمر ترجع إلى أصول أربعة، الدين والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وإن لكل مطلب من هذه المطالب فروعًا متشابكة، وإن كل أصل من هذه الأصول يحتاج إلى بحوث ودراسات تفتقر إلى كفايات واختصاصات، وإذا كان في نوّاب الأمّة ومفكريها من فيه الكفاية والمؤهلات لدراسة المطالب السياسية ووصل مقدماتها بنتائجها وإعطاء رأي ناضج فيها، أو كان في فلّاحينا وتجّارنا من نعتمد عليه وعلى رأيه في المطالب الاقتصادية مثلًا، فمن للمطالب الدينية وما يتبعها من اللغة العربية غير العلماء؟ المؤتمر الجزائري الإسلامي العام: يجد القرّاء على وجه كل جزء من أجزاء "الشهاب" مبدأه في الإصلاح السياسي هكذا: "الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات"، ونحن

نعني بذلك أن الأمة الجزائرية قد قامت لفرنسا بكل ما طلبته منها من نفس ونفيس، فمن الحق الواجب على فرنسا ومن العدل الذي لا يقوم أمر أمة إلا به، ومن مقتضى المؤاخاة الحقيقية التي لا تكون إلا عندما يشعر الإنسان بأنه غير مغموط الحق ولا مهضوم الجانب من صاحبه، أن تعطي فرنسا للجزائريين جميع حقوقهم دون أي تنقيص لهم عن غيرهم، ولا أدنى تمييز لهم عنهم، وليس لها أن تطالبهم بالانخلاع عن أقل شيء من مميزاتهم في قوميتهم ودينهم ولغتهم، فقد قاموا بما فرضته عليهم من الواجبات وهم على قوميتهم ودينهم ولغتهم، فلتعطهم جميع الحقوق وهم على قوميتهم ودينهم ولغتهم. وعلى هذا مبدإ كنا نقاوم (بروجي) (6) الرجل العظيم الذي لا ننسى فضله م. فيوليت، لما فيه من عدم التسوية في الحقوق لا بين الجزائريين والفرنسيين ولا بين طبقات الجزائريين أنفسهم، ومما فيه من تهيئة الطبقة المثقفة للاندماج مع السكوت التام عن الدين واللغة. إن جمعية العلماء هي المؤتمنة عن الدين ولغته العربية. وإليها يرجع الفضل في احيائهما بهذا الوطن- برغم الأفاكين- وإليها يرجع الفضل أيضًا في المطالبة بحقوقهما بالصوت الجهير يوم كانت الأصوات خافتة، والقلوب من الرهبة واجفة. وإن من دلائل عناية الله بهذا المؤتمر وتيسيره لليسرى، أن اجتمعت فيه أقانيم الكمال كلها، حتى أصبح- على الحقيقة- مؤتمرًا إسلاميًا جزائريًا.

_ 6) كلمة أجنبية " projet" معناها مشروع.

كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي

كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "أيها الإخوان المسلمون الكرام: ليس هذا أول يوم دُعيت فيه إلى الحق فأجبت؛ ولكنه أول يوم دعيت لسماع الحق غير مجمجم، وليس هو أول اجتماع رائع شهدته، ولكنه أول اجتماع شهدته لسماع أداء الحساب من الرجال العاملين، ولقد كنتم لا تُدعَون ولا تُستشارون ولا يعتبر لكم شأن ولا يقرأ لكم حساب، تدبّر لكم المكائد منكم ومن غيركم وأنتم لا تعلمون فأصبحتم اليوم معتبرين تستشارون في كل شيء، وتؤخذ آراءكم السديدة وتطلعون على كل شيء، أصبح منكم رجال يعملون للخير العام مهما تفرقت الأهواء ومهما تلبّدت الأجواء. إن وفدكم الذي سافر إلى باريس ليعرب عن مطالبكم قد أدّى الأمانة على أكمل وجه، لا يعرف شخصًا ولا هيئة خاصة، إنما هو كل لا يتجزأ، هو وفد المؤتمر الجزائري الإسلامي، وفد الأمة الجزائرية إذا حملته الأمانة العظيمة فقد أدّاها، وإذا جمّلته بالوصفين الكريمين فقد ذهب متّصفًا بهما ورجع أقوى ما يكون اعتزازًا وتشبّعًا بهما: الإسلام والجزائر ... أيها الإخوان: إن دينكم الحنيف يأبى لكم إلا أن تكونوا مسلمين بكل ما في الإسلام من معنى، وإن تاريخكم الزاهر يأبى إلا أن تكونوا عربًا ولغتكم عربية، بكل ما في العرب والعربية من معنى، وأعيذكم بالله والدين والتاريخ أن تحيدوا عن هذين الوصفين".

_ * من خطاب ألقاه الإمام الإبراهيمي يوم 2 أوت 1936، بالملعب البلدي بالجزائر العاصمة على أثر عودة وفد المؤتمر الإسلامي من باريس. جريدة الأمة، عدد 85، فى 11 أوت 1936.

مقتل الشيخ كحول

مقتل الشيخ كحول* ليسجّل التاريخ ولتشهد الأجيال المقبلة تحقيقات وتفاصيل مهمة ــــــــــــــــــــــــــــــ الكيد لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، اعتقال الأستاذ الشيخ "الطيب العقبي" ستة أيام بلياليها السود في سجن بربروس بالجزائر، المكيدة مدبّرة فيما يظهر، الخصوم كبار ولكن الله أكبر، ماذا يريد الكائدون من وراء هذه المكيدة؟ تفتيش نادي الترقّي (بيت الأمة الجزائرية)، تفتيش إدارات جريدة "البصائر" وجمعية العلماء والجمعية الخيرية، حجز دفاتر وأوراق الإدارات المذكورة، إغلاق النادي وتلك الإدارات كلها، ضرب الحصار على النادي بقوّات البوليس والحرس المدني والجاندارمة والجيش الأسود، الخروج بالأستاذ العقبي من نادي الترقّي بين هذه المظاهر الرهيبة، الغاية من هذه الإرهابات، تلقي الأمة للصدمة بالصبر والهدوء التام، موقف جمعية العلماء من هذه المظاهر، الإجراءات العدلية وتطوراتها، الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه السيد عباس التركي، تجلي شعور الأمّة وعواطفها الصادقة، انهيال البرقيات ورسائل التهنئة من داخل القطر وخارجه، آثار اعتقال الأستاذ في الأمم الإسلامية، فتح نادي الترقّي وابتهاج الأمة بذلك. ... سكتنا حتى هدرت الشقاشق وقرّت، وظهرت الحقائق واستقرّت، ونثلت الجرائد كنائنها وأخرجت الصدور دفائنها، وهدأت العاصفة وافتضحت المكيدة، وانجلت الرغوة عن اللبن الصريح.

_ * جريدة "البصائر"، العدد 32، السنة الأولى، الجمعة 15 جمادى الثانية 1355هـ/ 28 أوت 1936م.

سكتنا طول هذه المدة، وما كان سكوتنا- علم الله- سكوت المشدوه عقدت الحيرة لسانه، ولا سكوت الجبان المنخوب سكن الهلع جنانه، ولا سكوت الغافل الغرير تفجؤه أحداث الدهر فيجم لها ويطرق، ولا سكوت المبطل يشهر الحق عليه دلائله فيعيا عن البيان، ولكننا سكتنا سكوت المعتد بيقينه، المستبصر في مآخذ شؤونه ومتاركها، الواثق بأن هذه الحوادث- وإن اعتكرت ظلماؤها- غمرات ثم ينجلين، وأن هذه المكائد مردودة في نحور الكائدين وأن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. ثارت العاصفة فعلمنا من زمانها ومكانها وجميع ملابساتها أنها موجّهة إلى هدف، وأن جمعية العلماء هي بعض ذلك الهدف، واندفعت الأقلام الخاطئة تكتب في شأنها وتخط، والألسنة الكاذبة تتحكّم في موقفها وتشتط، بل قد تطايرت كلمات الاتهام لجمعية العلماء صريحة من أفواه كان الثرى أولى بها من ذلك، وقذفتها ألسنة لا تترجم عن حق ولا تصدر عن يقين. أما وقد تبيّن للناس في آخرها ما اعتقدناه نحن في أولها، وهو أن الحادثة من أولها إلى آخرها رواية مخجلة فضح نور الحق ممثليها، فجاءت أخزى ما تكون تخاذلًا في الأجزاء وتشويشًا في الفصول، فقد وجب أن نقول كلمتنا فيها ولا يضيرنا إن كنّا أول الناس اعتقادًا للحقيقة وآخِرَهُم قولًا في بيانها. مضت على جمعية العلماء خمسة أعوام وهي تدعو إلى الحق والفضيلة، ثابتة الخطى في طريقها متمسّكة بمبدئها مجادلة عنه بالبرهان العلمي، راكبة متن التسامح مع خصومها، متحلية بالأدب القرآني الجليل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وكم أقام خصومها حولها من ضجيج، وكم نصبوا في طريقها من عراقيل، وكم بثوا لها من مكائد. وما نقموا منها إلا أنها تدعو إلى الفضيلة، والفضيلة غريبة عند هؤلاء، وتدعو إلى الحق، والحق ثقيل عليهم، وتنهض بالإسلام ولسانه وهما لا يلائمان بعض الأمزجة، ولا نقموا من رجالها إلا أنهم لا يلينون لغامز، ولا يثنيهم الوعيد والتهديد، ولا تستهويهم الوظائف والرتب، ولا يستنزلون عن مبدئهم الحق بالرقى، ولا يتساهلون في واجب، ولو تجلّت عليهم الدنيا بألطافها، ولا يعنون لباغ ولو حشد لحربهم مَنْ بأقطارها. كبر على الخرافيين الضالين ما تدعو إليه هذه الجمعية من حق ديني واضح، ولو كان كعمود الصبح، ورأوا في هذه الدعوة زعزعة لأركان سلطانهم، وكبر على المستبدين الظالمين ما تدعو إليه من تنقيح للأخلاق التي هي قوام الحياة، ورأوا في هذه الدعوة عنادًا لما بيّتوه من قتل مشاعر هذه الأمة وسدّ منافذ الحياة في وجهها. فأجمع هؤلاء وأولئك أمرهم على حربها وتدبير المكائد لها. واتّبعوا ما تتلو الشياطين عليها، فشدد هؤلاء وضيّقوا، وأعنتوا وأرهقوا، بعد أن صاح أولئك وأعولوا، وبالغوا وهوّلوا.

وقفة على أطلال الحادثة

ثم كانت حركة المؤتمر الإسلامي الجزائري في هذه السنة، فضربت الجمعية في الدعوة إليه بسهم على أنها دعوة إلى الحق والخير، وشاركت في تكوينه والحضور فيه، على أن ذلك جزء من عملها ونوع من إيصال الخير إلى الأمة، وأدمجت مطالبها الدينية في مطالبه على أنها جزء من مطالب الأمة الجزائرية مكمّل لها، بل هو الجزء الذي لا حياة لها بدونه جمعًا للجهود وحصرًا للعمل وتوحيدا للصفوف. ثم شاركت في اللجنة التنفيذية للمؤتمر على أنها إحدى عناصر القوة الثلاثة التي قام عليها المؤتمر، ثم شاركت في الوفد الإسلامي الذي أوفدته اللجنة التنفيذية إلى باريس، وتجلّت قوة الجمعية بمواقفها الثلاثة: من المؤتمر، واللجنة التنفيذية، والوفد، تمام التجلّي. هنا ضاق ذرع المبطلين بهذه الجمعية وبالمؤتمر الذي هي إحدى دعائمه، وبالمطالب التي يوشك أن تتحقّق وينتزعها الإنصاف من بين أشداق الأسد، وبالأمة التي أصبحت معلّقة الآمال بالجمعية وبالمؤتمر، وعلم أولئك المبطلون أن الأمر إذا تمادى على هذا الحال فإن سلطان الاستبداد إلى زوال، وإن هذه الحملة ستذهب في نظرهم بقيصر، فلا قيصر بعد اليوم فكانت المكيدة الشنعاء، وكان الاغتيال الشنيع وكان الاعتقال المزعج، وكانت الضجّة التي اتّسع مداها وطبّق الشرق والغرب صداها، وكانت الإثارة والاستفزاز اللذان وقى الله شرّهما وأحسن عاقبتهما، ووازر هذه الشناعات كلها صحف تتأوّل وألسنة تتقوّل، تقابلها من جهتنا عقيدة في الحق لا تتحوّل وثبات لا يتزلزل، وثقة بالله ثم بالقضاء العادل لا تتغير ولا تتبدل. وقفة على أطلال الحادثة: عهدنا من حواة العيساويين أنهم يعرضون ألعابهم الغريبة ليمتّعوا لا ليروعوا، وانهم يودعون أسفاطهم الحيات والثعابين من الأرقط وذي الطفيتين حتى إذا جاء وقت العرض أظهروا ذواتهم للناس، ليكون الأنس بمرآهم- وهم من جنس الآدميين- مخففًا من الوحشة لمنظر تلك الحيّات والتنكر منها. أما عيساويو حادثتنا فإنهم يقومون بألعابهم المفزعة من وراء حجاب كثيف، ويدبّرون المكائد في غسق الليل، ولكن أعمالهم تدل عليهم كما يدلّ أحد المتلازمين تلازمًا طبيعيا على الآخر حتى ليوشك أن يضع العارفون بأسرار المكائد أيديهم عليهم ويقولوا هذا فلان وهذا فلان. دبّر هذا الفريق المختفي المكيدة التي نتحدّث عنها وأحكموا التدبير، فجاءت وكأنها كتاب يشتمل على مقدمات وفصلين ولواحق، ولكن شاءت الأقدار أن تسقط المقدّمات من نسخة المؤلف فلم يقرأها الناس، ويبقى الفصلان فصل في الاغتيال وفصل في الاعتقال.

أول تحد للمكيدة

ويدلّ أسلوب الفصلين على أن المؤلف كان متوجهًا إلى توليد فصل ثالث من الفصلين وهو فصل في الهيجان. وعلى هذا الفصل تتفرّع اللواحق التي بها يتمّ الكتاب ... يا لله لهذه الأمة المسكينة! أكلّما طلبت رفدًا أو استنجزت وعدًا أو تعلّقت بسبب من أسباب الحياة وقف لها الكائدون بكل مرصد، وحالوا بينها وبين ما تريد، وركبوا الصعب والذلول في سبيل حرمانها من حقّها في الحياة، وقد كانوا قبل اليوم يركبون جميع الوسائل لمنع صوتها من الوصول إلى آذان العدل؟ فلما أعياهم هذا، واخترق الصوت الحجب على محافتها وأسمع داعيه وأوشك أن يستجاب، عدلوا إلى ما رأيت أثره، وسمعت خبره. بدت بوارق الأمل في الحكومة الشعبية وآنست الأمة الجزائرية تبدّلًا في الأوضاع، فاجتمعت وعقدت المؤتمر وقرّرت المطالب، وأرسلت الوفد وأعلنت ثقتها بالحكومة الشعبية، لأنها بدأت بالجميل ووضعت كلمة الشفاء في أذن "العليل"، وبدأت بوادر الإصلاح تظهر، هنالك كبر على هؤلاء الكائدين أن يروا هذا الشعب متمتعًا ببعض حقوقه الطبيعية، متحليًا- تحت راية فرنسا- بما يناسب سمعة فرنسا وشرف فرنسا، فاهتبلوا حادثًا بسيطًا عاديًا- إن لم يكونوا سببًا فيه- وبنوا عليه ما أحرج الأمة ليخرجوها عن صوابها فيقع منها ما يسمّى في اصطلاحهم ثورة، ويسمّى مرتكبه في نظرهم ثائرًا، فإذا تمّ لهم ذلك كله تقطعت الصلات بين الأمة الجزائرية وبين الحكومة الشعبية، ولم يبق لجانب ثقة بالجانب الآخر وكان الربح المعجّل لهؤلاء الكائدين هو حرمان هذه الأمة من حقوقها والإمعان في إرهاقها وإذلالها إلى أن لا يبقى فيها عرق ينبض بالمطالبة بحق، ولولا أن الله- وله المنة وحده- فضح الكائدين بظهور الحق في الحادثة، لتمّ لهم ما يريدون وفوق ما يريدون ولقضوا على هذه الأشباح التي تؤرق جفونهم وتقضّ مضاجعهم ولكن تدبير الله فوق كل تدبير. أول تحدِّ للمكيدة اغتيل الشيخ كحول في رابعة النهار وفي يوم احتشدت فيه عشرات الألوف من الأمة الإسلامية لتسمع أعمال الوفد من رجاله ولتعلن ابتهاجها بالمرحلة التي قطعتها من حياتها الجديدة وهي إسماع صوتها لفرنسا .. وكانت خطبة أخينا الأستاذ العقبي في هذا الاجتماع الرائع صريحة في تحديد الآراء، فصيحة في التبليغ والأداء، بليغة في النصح بلزوم السكون. وبلغنا خبر الاغتيال ونحن في غمرة من الفرح بنجاح الوفد في تبليغ أمانة الأمة للحكومة وفي تبليغ جواب الحكومة للأمة، فاستفظعنا الحادثة وقلنا: محال أن تسفك الدم يد صفقت طربا بيوم المؤتمر وبيوم سفر الوفد وبيوم رجوعه، ومحال أن يملي القتل قلب أفعم سرورًا بهذه المشاهد الثلاثة، ومحال أن تعيه أذن واعية للنصائح التي بثّت يوم المؤتمر ويوم الوفد،

وهما يومان لهما ما بينهما وما بعدهما، ومحال أن يرتكب هذا الجرم شخص يشعر بما تشعر به الأمة في هذه الأيام، إذًا فالقاتل ليس من الأمة إما حقيقة وإما حكمًا، وإذن فَهُوَ عدو للأمة يريد هو أو يريد من حرّكه للقتل أن يكدّر عليها صفوها وينغّص عليها سرورها، ولعلّ له من وراء ذلك مآرب أخرى أرادها وأدار الجريمة عليها، ولم يكن موضع الغرابة عندنا في ذلك اليوم قاتلًا ومقتولًا فهذا أمر اعتيادي يقع مثله في كثير من الأيام، ولكن موضع الغرابة أن يكون المقتول فلانًا وأن يكون قتله في ذلك اليوم وفي تلك الحصة التي هي منتصف الساعة العاشرة والاجتماع لم ينفضّ بعد. شممنا رائحة الكيد من تلك اللحظة، ثم قرأنا في بعض الخطب والمقالات جملًا فيها دس وفيها تحريش، وفيها إشارات مبهمة فوكلنا الأمر إلى الله الحق، وانتظرنا التحقيق العدلي وبدأت الألسنة تهرف، والأقلام ترجف، والتحقيق يدور في طريق طامس إلى أن صدر الأمر بتفتيش نادي الترقّي وإدارة جمعية العلماء وإدارة جريدة البصائر، وعقب ذلك اعتقال الأستاذ الشيخ الطيب العقبي. لم نندهش للتفتيش لعلمنا بنتائجه، ويقيننا أنه شيء اقتضته الاجراءات العدلية، وإنما أخذناه دليلًا مجسمًا على أن الحادثة رواية محبوكة الأطراف، وبعد التفتيش والختم وقع اعتقال الأستاذ العقبي فتجلّت المكيدة وتمّ تمثيل دورها الثاني في جو يدعو إلى الاستفزاز: الجمهور محتشد تتخلله قوات البوليس السري والعلني ومن ورائه الحرس المدني وقوات السينيقال (1) بمعداتها، وهذا المظهر كله يجمعه قولك: جذوة وريح. وكيف لا يؤثر هذا المنظر في نفوس ترى، مع احترامها للأجراءات العدلية، ان من الحكمة الوصول إلى غايتها بغير هذه الصورة وعلى غير هذا الوجه؟ كانت النفوس ثائرة، ولكن الله لطف فكانت القيادة للعقل لا للعاطفة، وكانت الجماهير المحتشدة عند حسن الظن بها، ومن خفي لطف الله أن كان الأستاذ الأكبر الشيخ (عبد الحميد بن باديس) رئيس جمعية العلماء حاضرًا ومعه الأستاذ (محمد خير الدين) وكاتب هذه الأسطر وجماعة من الأساتذة العاملين في الجمعية فتقدمنا إلى الجمهور الحاشد أن يتلقّى الصدمة بالصبر، وأن يقابل المكيدة بما يحبطها ففعل وانقاد، وبثثنا في الأحياء دعاة يدعون إلى الهدوء والسكينة فامتثل الناس، ومرّت أيام اعتقال الأستاذ المظلوم من دون أن يحدث فيها ما يكدّر الأمن أو يخلّ بالنظام، وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبّريها وردّهم الله بغيظهم لم يبلغوا أملًا والحمد لله.

_ 1) الجنود السنغاليون المجندون في الجيش الفرنسي.

مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي

مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي: كان القاتل "عكاشة" في بدء التحقيق معه اعترف بالقتل، وانه إنما قتل بدافع وجداني لا أثر لإيعاز الغير فيه، وذكر السبب الذي أثار هذا الدافع في نفسه، وذكر أنه اشترى السلاح الذي قتل به من محل سماه، ونشرت البلاغات الرسمية تفاصيل هذا التحقيق. ثم بعد أيام، ولأسباب يعلمها علّام الغيوب، رجع عن هذا كله وأدلى للمحققين برواية جديدة ذات فصول وهي: ان الشيخ الطيب العقبي هو الذي أوعز إليه بارتكاب هذه الجريمة، وانه هو الذي أعطاه الموسى التي قتل بها، وانه وعده بثلاثين ألف فرنك أجرة على القتل، وكان ذلك كله بحضور رجلين لم يسمهما ولكنه وصفهما بصفات سطحية تنطبق على كثير من الناس- وان ذلك كله وقع في "نادي الترقي" في عشية يوم معين- فاستندت العدلية على هذا واعتقلت الأستاذ العقبي على الصورة التي ذكرناها بعد أن فتّشت خزائن الإدارات التي ذكرناها وحجزت الكثير من دفاترها وأوراقها. وهنا محل اندهاش الرأي العام في القطر الجزائري وجمهور عظيم من العقلاء والمفكّرين في غيره ممن يعرفون الأستاذ العقبي معرفة عيان أو معرفة سماع، ويعرفون مكانته في العلم والدين والإصلاح، وممن يعرفون جمعية العلماء ومبادئها وأصول دعوتها، وانها إذا عادت فإنّما تعادي المبادئ لا الأشخاص، وإذا خاصمت فإنما تخاصم في العموميات لا في الشخصيات، وإن الأصول التي بنت عليها دعوتها هي التعليم والتحابب والتسامح. ومنطق الرأي العام في اندهاشه واستغرابه ينبئ على اعتبارين يرجع أحدهما إلى الجاني عكاشة ويرجع الآخر إلى الشيخ العقبي. فالاعتبار الأول هو أن عكاشة رجل جان معترف بالجناية، مجرم عريق في الإجرام، وله سوابق مسجّلة. فينبغي أن تؤخذ أقواله بغاية التروّي والتعقّل وعدم الوقوف عند ظواهرها، وعرضها على ميزان المنطق وعلم النفس، وإلا فإن كل ذي مكانة كمكانة الشيخ العقبي سيتبوّأ مكانه في "بربروس" ما دام كل مجرم كعكاشة. نعم يجوز أن يكون عكاشة ارتكب الجناية بإيعاز، ويحتمل أن يكون مأجورًا، ولكن الرواية التي قصّها على العدلية ذات أجزاء لا يستقلّ جزء منها عن الآخر ولا يمكن أن ينظر في كل واحد على حدة وإنما ينظر إليها مجموعة، وعمل العقل هنا إنما هو فيما بين هذه الأجزاء من ترابط أو تفكك، فإذا انهار منها جزء انهارت بقية الأجزاء.

والرأي العام لا يهضم هذه الأجزاء التي تألفت منها رواية عكاشة لا مجتمعة ولا مفترقة، ويستحيل في نظره أن موعزًا بالقتل يعطي السلاح للقاتل ويتحكّم في قوّته واختصاصه، وان موعزًا بالقتل مهما كانت درجته في الذكاء والبلادة يتّصل بمجرم لا يعرفه ويفضي إليه بسرّ مثل هذا، وان مؤامرة مثل هذه تدبر في لحظة، وفي "نادي الترقّي" الذي لا ينقطع روّاده وفي يوم جمعة، وبعد درس في الوعظ الديني وتفسير لكلام الله يرقّق القلوب ويسيل المدامع من خشية الله، ومن الواعظ الذي لم يزل لسانه رطبًا بكلام الله. كما يستبعد أن قاتلًا يقتل للمال ثم لا يأخذ الأجرة بعد تمام العمل، فهل أخذ عكاشة الثلاثين ألفًا؟ .. وممن أخذها؟ وقد بقي طليقًا مدة يتيسّر له فيها أن يأخذ الأجرة أو بعضها ... وأما الاعتبار الثاني الراجع إلى الأستاذ العقبي وجمعية العلماء التي هو من أكبر الممثلين لهديها وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتًا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتًا في الدعوة إليه، فإن الرأي العام في القطر الجزائري- من المسلمين وغير المسلمين- ولا نستثني من خصوم الإصلاح إلا القليل، يعرف حق المعرفة من هو الأستاذ العقبي في ورعه وتقواه وعلمه وهداه؟ ويعرف أن ما وصمه به عكاشة هو شيء مصنوع لا مطبوع، وان العقبي لم يخلق قتّالًا وإنما خلق قوالًا للحق أمّارًا بالمعروف، نهاءًا عن المنكر، وقّافًا عند حدود دينه، وان شدّته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله وأنه رجل كفاح ولكن في غير هذه الميادين، وأن الغيلة والدسّ والتحريش كلها مياه لا ترشح من هذا الإناء، وأن رجلًا مثل العقبي أدّبته الأخلاق الإسلامية الصحيحة وطبعته الهداية القرآنية العالية على غرارها يستحيل أن تخالط هذه المقاصد السافلة قلبه أو تجمعه بأصحابها سبيل. ويعتقد الرأي العام أن الأستاذ العقبي لو لم يمنعه دينه وتقواه مما وصمه به عكاشة لمنعه شرفه وهمّته ومروءته، ولو لم تمنعه هذه الثلاثة لمنعه عقله وذكاؤه. فهل يعقل أن تهمة سخيفة كهذه من مجرم كعكاشة تعلق بمتحصّن بهذه الحصون المنيعة كالعقبي ويكون لها من القيمة ما يصيره متهمًا بالإجرام، ومن الأثر ما يدخله سجن "بربروس"، ومن النتيجة أن يقال له بعد ستة أيام قضاها في السجن: أنت حر ولكن تحت الطلب؟ ... هذا هو محل اندهاش الرأي العام الجزائري واستغرابه وتساؤله، مع الاحترام الكامل للعدالة الفرنسية، وان استغراب هذه الحادثة لم ينحصر في الجزائر وحدها بل جاوزها إلى حيث تبلغ سمعة الأستاذ العقبي ويصل ذكر جمعية العلماء، فقد قرأنا في مئات البرقيات

والرسائل الخاصة الواردة علينا من مختلف الأقطار، وقرأ الناس معنا في الصحف السيّارة، عربية وفرنسية، ان اعتقال الأستاذ العقبي قوبل في جميع الأقطار بامتعاض عام، وان ذلك الامتعاض هو الذي أنطق الألسنة وحرّك الأقلام. ومعلوم أنه لا يذكر اسم الأستاذ العقبي إلّا وتذكر بذكره جمعية العلماء، وأن الناس ليعرفون من رجال هذه الجمعية المسيّرين لها ما يعرفونه عن الأستاذ العقبي، ويعلمون من مكانتها العظيمة وسمعتها الشريفة وصيتها البعيد مثل ما يعلمون من مكانته وسمعته وصيته، ويعرفون مواقفها المشرّفة في خدمة الإسلام والعربية، وان دعوتها الإصلاحية التي رسخت في القطر الجزائري وتغلغلت في جميع أوساطه وطبقاته دعوة واضحة المعالم بيّنة الحدود مبنية على البرهان لا على السفسطة، وعلى الإقناع لا على المشادَّة، وعلى التحابب لا على التنافر، وعلى الجمع في الحق لا على التفريق في الباطل. وهي تعمل لغايات شريفة بوسائل شريفة، وفي النهار الضاحي لا في الليل المظلم، ومن مباديها أن لا تنتصر بالباطل ولا تنتصر للباطل، ولا تتكثّر بالمبطلين ولا تتزوّد بالكذب ولا تأمر بالشيء حتى تكون أول فاعل له، ولا تنهى عن الشيء حتى تكون أول تارك له. وإذا كان أساس عملها كله تطهير المجتمع الإسلامي من العقائد الباطلة والأخلاق السافلة ومحاربة الشرّ من أي طريق جاء، فمحال أن ترضى عن الأشرار أو تقبل بالشرّ. وقد لقيت في تاريخ حياتها خصومات عنيفة وواجهت خصومًا أقوياء. وكانت في جميع ذلك مظلومة واحتملت من الأذى والكيد والعدوان والتهم الباطلة ما تنوء به الجبال، فلم تلجأ في جميع مواقفها إلا إلى الحق والصبر. وإذا نسي الناس فإنهم لم ينسوا حادثة الاعتداء على الأستاذ "عبد الحميد بن باديس" الذي هو رئيس هذه الجمعية منذ تأسست إلى اليوم، فقد تآمر العليويون على اغتياله حيث ثقلت عليهم وطأة الحق الذي كان يقوله ولا زال يقوله فيهم وفي أمثالهم، وانتدب أشقاها لقتله في قسنطينة وضربه الضربة القاضية لولا وقاية الله ولطفه، ففي ذلك المشهد الذي تطيش فيه الألباب وتتفشى فيه روح الانتقام قوى الله الأستاذ- وهو أعزل- فأمسك خصمه الفاتك المسلّح ولبّبه بثيابه، ثم تجلّى على قلبه المطمئن بالرحمة فقال- وجرحه يثعب دمًا- للجمهور المتألّب المتعطّش لدم الجاني: "إياكم أن يمسّه أحد منكم بسوء" حتى تسلموه للمحافظة، ولولا هذه الكلمة لقطعوا الجاني إربًا إربًا، وقد خلد هذه الحادثة شاعر الجزائر الأستاذ محمد العيد في قصيدة يقول فيها: وكادت يد الجاني المُسَخَّرِ تعتلي … يد الشيخ لولا الله أدركه لولا وان أنس لا أنس الذين تضافروا … على الفتك بالجاني فقلت لهم مهلا

المستغربات في هذه الحادثة

إن معاملة الأستاذ الرئيس للجاني عليه بالرحمة والاستبقاء واطفاءه لنائرة تلك القلوب التي كانت تغلي حقدًا عليه- بتلك الجملة الرحيمة- لنفحة من نفحات الأخلاق النبوية التي يدعو الأستاذ ورفاقه إليها، وأساس من الأسس التي بنت عليها جمعية العلماء دعوتها، ومثل شرود في الرفق والرحمة والسلام، وحجة قاطعة لألسنة المتقوّلين على هذه الجمعية والرامين لها بالسوء. المستغربات في هذه الحادثة (2) الرأي العام الجزائري- ونحن معه- يحترم القضاء الفرنسي إلى أقصى حدود الاحترام، ويعتقد نزاهته واستقلاله عن المؤثرات الخارجية اعتقادًا لا شائبة فيه للريب، ويحمل من الثقة الكاملة به ما لا يحمله لأية سلطة أخرى ولا لأية هيئة سواه، فإذا جاوزنا أفق القضاء، فإن الرأي العام يقف من بعض النقط في هذه الحادثة موقف المستغرب الحيران كما وقف من أصلها موقف المستفظع المستنكر. والرأي العام الجزائري- بفضل المعاملات الشاذة الجارية بهذا القطر- أصبح يقظًا حسّاسًا دقيق الملاحظة لا تفوته ظاهرة دون التعليق عليها، ونحن لا نزعم للرأي العام صدق الفراسة في كل شيء، وإنما نسوق بعض ما تدور عليه أحاديث الناس في هذه الحادثة للاعتبار وللتدليل على أن هناك رأيًا عامًا لا نستهين به وإن استهان به أقوام. يستغرب الرأي العام بقاء الجاني بعد اعترافه بارتكاب الجريمة أيامًا وليالي في إدارة الإخبار السري، ويؤيد الرأي العام في هذا الاستغراب بعض أوساط المحاماة. ويستغرب تفتيش خزانة جمعية العلماء ما دامت التهمة موجّهة نحو شخص معيّن أو أشخاص معينين، ويستغرب إقفال مكتب الخيرية ومسجدها مع أنها تؤدي عملًا دينيًا بمسجدها الذي يصلي فيه الناس، وعملًا إنسانيًا بما يقوم به مكتبها من إحسان للبائسين وإعانة للمنقطعين. ويستغرب الكلمات السفيهة التي واجه بها رئيس البوليس السرّي وبعض أعوانه الأستاذ العقبي أثناء الذهاب به إلى السجن. ويستغرب المعاملة الجافية التي عامل بها ذلك الرئيس وأعوانه كلًا من السيدين محمد بن مرابط ورشيد بطحوش، ويستغرب قول ذلك الرئيس للسيد عباس التركي حينما طلب منه التعجيل باستنطاقه "إن نازلتك طويلة فارجع في العشية"، فمن أين علم السيد الرئيس ان نازلة عباس طويلة إلا إذا كان عكاشة قد سمّاه باسمه، والمفروض أنه لم يسمّ واحدًا من الرجلين ...

_ 2) البصائر: العدد 33، السنة الأولى، الجمعة 17 جمادى الثانية 1355هـ / 4 سبتمبر 1936م.

ويستغرب موقف الجرائد الفرنسية اليومية، فقد كانت منذ اعتقل الأستاذ العقبي تكتب الفصول الطوال بالعناوين الضخمة وتنشر الصور المثيرة ولا تقتضب من البلاغات الرسمية حرفًا ولا كلمة وتصوّر الاحتمالات بصورة الحقائق المسلمة، وتصف حادثة الاغتيال بأنها نتيجة مؤامرة واسعة النطاق وترسل الكلمات الجارحة جزافًا حتى بلغ التهوّر بإحداهنّ أن كتبت في الموضوع بتاريخ يوم الأربعاء الثاني عشر من أوت مقالًا فيه عتاب لقاضي التحقيق المحترم على ما سمّته بزعمها تراخيًا في الإجراءات، وقالت في هذا الفصل بدون حياء ولا خجل: ان الشخص الثاني من شريكي العقبي في المؤامرة قد ركب البحر أمس. ولم يبق عليها إلا أن تقول هو فلال بن فلان. فمن أين لهذه الجريدة أن المسافر هو أحد المتآمرين؟ وما الذي حملها على ذلك لولا التحريش الذي هو جزء من "المكيدة" وما الذي أبقته للقضاء بعد هذا البيان؟ بل ما الذي أبقته لعكاشة؟ مع أن عكاشة الذي هو المحور في القضية لم يسمّ واحدًا من الشريكين الخياليين، وإنما وصفهما بصفات مبهمة. فكيف ساغ لهذه الجريدة التي لم تحترم القضاء ولم تحترم نفسها ولا قرّاءها أن تقول ما قالت وتعتدي على الأبرياءَ وتتدخل فيما هو من اختصاص عكاشة وحده؟ أم كيف لا نعذر في اعتقادنا أن هذه الحادثة من أولها إلى آخرها مكيدة مبيتة، وانها موجّهة إلى هدف مخصوص، ما دمنا نقرأ مثل هذا الكلام في جريدة لا يصدرها الجن ولا يقرأها الجن وإنما يصدرها أبناء آدم ليقرأها أبناء آدم؟ لسنا- والحمد لله- ممن يتهم الأبرياء ولا ممن يقف في طريق العدالة أو يثير في وجهها الغبار ليحجب الحقيقة عنها، ولا ممن يرسل الكلام جزافًا، وقد قلنا في طالعة هذه الكلمة ولا زلنا نقول ان الحادثة مكيدة، ونحن قوم ندين بالقرائن كجميع العقلاء، ونؤمن بالمثل- "لا دخان بلا نار"، وقد حصلنا نصف العلم بهذا يوم قال السيد ميشال في منشوره المعروف ما قال، وأوصى أعوانه تلك الوصايا الأكيدة بمراقبة ما سمّاه الحركة الوهّابية وتتبع خطواتها في الاجتماعات العمومية، وتوجيه التهم التي تقتضي الإحالة على "البركي" (3). وحصلنا النصف الثاني يوم قالت هذه الجريدة ما قالت، وأوحي إليها بما لم يوحَ إلى عكاشة. وحسب العاقل من الأمور مبادئها وخواتمها. إننا لا نظن أنّ أمثال صاحب هذه الجريدة يحتكرون لأنفسهم ملكة الاستنتاج والقياس، ولا ان الحرية التي وسعتهم إلى حد مراغمة الحقائق ونبز الأبرياء تضيق بنا إلى أن لا نقول ان هذه النتائج من تلك المقدمات.

_ 3) النيابة العامة.

مرامي الإشاعات الأولى

ثم كانت خاتمة الغرائب وأم العجائب ان هذه الجرائد التي كانت بالأمس تكتب فتطول، وتحكي فتهول سكتت بعد الإفراج عن الأستاذ العقبي دفعة واحدة وسكنت تلك الأعصاب الهائجة فسكنت بسكونها الأقلام، كأنه لا يعنيها في المسألة جريمة وقتيل، وإنما يعنيها أن ينحرف الحق وتزيغ العدالة فتساق التهمة إلى الأبرياء. فلما استقام الحق في نصابه وجرت العدالة على مِنهاجِها ساءها ذلك فسكتت، وان سكوتها لدليل عند العارفين على كلامها، وقد أصبح الناس كلهم عارفين ... مرامي الإشاعات الأولى: تناثرت لأول وقوع حادثة الاغتيال كلمات من مصادر مختلفة متفاوتة في الاعتبار ولم نحملها نحن على أنها تكهّنات من شأنها أن تصدر في مثل هذه الغيلة المحاطة بالغموض، بل حملناها بحسب المقامات التي صدرت عنها على أنها مقصودة وانها ترمي إلى أشياء سيكشفها الزمن. قال قوم إن القتل سياسي، وقال آخرون إن القتل ديني، وقال غيرهم ان القتل شخصي ... ومستند الرأي الأول: ان القتيل غمس يده في حركة المعارضة للوفد الإسلامي الجزائري ومطالبه، وكتب التلغراف المعروف يتبرأ فيه من الوفد بنوعيه السياسي والديني، فمغزى هذا الرأي سوق التهمة إلى الوفد. ومستند الرأي الثاني: ان القتيل عالم ديني أو على الأقل ذو منصب ديني، وقد عرف بالخصومة لحركة الإصلاح الديني، ومغزى هذا الرأي جر التهمة إلى جمعية العلماء أو إلى النادي الذي هو مركزها أو إلى العقبي الذي هو ممثلها الأكبر في العاصمة. ونحن لا نملك على الناس أهواءهم وألسنتهم، ولا نتحكّم في تخميناتهم واعتقاداتهم، كما اننا لا نذهب ظنون الناس بيقيننا في الطرف السلبي من المسألة وهو ان الاغتيال ليس نتيجة مؤامرة تتصل بالوفد أو بجمعية العلماء أو بالنادي، أما الطرف الآخر الإيجابي، وهو مصدر الاغتيال، فلا شأن لنا به ولا يقين لنا فيه بل نكل علمه إلى الله، ونكل الكشف عنه إلى القضاء العادل. لا يصحّ الاعتقاد بأن القتل له صلة بالمعارضة للوفد، فالمعارضون كثير والمعارضة معهودة، ولا بالمضادة لحركة الإصلاح الديني، فالمضادة قديمة والقدم مظنة النسيان والخمود، والرجل واحد من عشرات الألوف من هذه الفرقة التي تحقد على الإصلاح الديني وتحمل لأصحابه الحقد والضغينة، ونحن لا نعتبر هذه الفرقة عدوة لنا وإنما نعتبرها بقية من حملة الفكر القديم الخرافي، تعتمد على نظريات سيذهب بها انتشار الإصلاح،

وتستند على سناد من القوة التي لها هوى في بقاء ما كان على ما كان، ولا تلتئم مصلحتها مع الإصلاح الديني، وسينهار هذا السناد بظهور الحق، ونحن على يقين ان وجود هذه الفرقة طبيعي، ومن سنن الله التي لا تقاوم، وسيكتسحها الزمن وتقلباته لعدم صلاحية ما هي عليه لهذه التقلبات، فقصارى صنعنا مع هذه الطائفة أن نتربّص بها صنع الله. وقد تكالبت علينا هذه الفرقة في بعض الأحايين، وجاء بعض أفرادها في باب الكيد لنا بما لم يأت القتيل بعشره، ومع ذلك فلم تحدّثنا أنفسنا أن نلتجى في مقاومتها إلى الطرق السافلة التي تأباها تربيتنا الإسلامية، وتأباها أصول مبدئنا الإصلاحي المبني على التسامح قبل كل شيء. أما الشيخ كحول الذي يحاول المغرضون جعله ممتازًا في باب المضادة للإصلاح ليبنوا عليه ما تسوّله لهم أنفسهم، فإننا لا ندّعي- بهتانًا- أننا أصدقاء له، ولكننا لا نجيز لأحد أن يدّعي علينا أننا أعداء له بالمعنى العرفي الذي يفهمه الناس من كلمة العداوة وهو الذي يكون من آثاره إضمار الشر والسعي في الانتقام، وإنما نحن معه كشأننا مع بقية الناس، نرى رأيًا في الدين ويرى هو خلافه، والحكم بيننا هو الدليل فإذا لم يقنع فأمره إلى الله. ونحن لا نعتبر من هذا الرجل بخصوصه وصفه بالعلم وإنما نعتبر علاقته بالحكم، والرجل كما عهدناه ذكي نزاع بطبيعته إلى الاستقلال الفكري، فلو تركته الظروف لكان في عداد المصلحين، وعلى هذا فمعارضته للإصلاح الديني ليست ذاتية وإنما هي مصطنعة، وإذا كان في الرجل ميزة يمتاز بها عن خصوم الإصلاح فهي هذه. والرجل يجمع إلى وظيفه الديني وظيفًا آخر إداريًا، وكلتا الوظيفتين بطبيعتهما لا تخلو من ملابسات واحتكاكات تغرس لصاحبها البغضاء في نفوس أقوام والمحبة في نفوس آخرين، وصاحب الوظيف الديني في هذا الوطن الشاذ الأوضاع غير محدود العمل ولا مضبوط المسؤولية ولا واضح العلاقة مع رئيسه، وإنما هو كالقدح الفرد يستعمل حينًا آلة كيد وحينًا جارحة صيد، ولذلك كانت معارضة الرجل بالتلغراف المشهور قليلة التأثير في نفوس العقلاء لعلمهم أنه كتب باسمه لا بيده ... ونحن، للاعتبارات التي ذكرناها، وبطبيعة مبدئنا الإصلاحي الديني نقول بألسنة لم تتعوّد الكذب والمداجاة، ومن أفئدة لم يستقرّ فيها مع الخوف من الله الخوف من المخلوق: إننا لم نفرح لمصرع الشيخ كحول كما يظن الخراصون، ولم نتمن قط أن تكون خاتمته هذه الخاتمة، بل قابلنا الجريمة عند السماع بها بالأسف العظيم والاستنكار الشديد، واستعذنا بالله من كيد الكائدين ومكر الماكرين وغدر الغادرين، وسألناه توفيقًا يعصم من مصارع السوء ويقي من مزالق الفتن ويحفظ من عواقب المحن.

الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه

الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه: لم يخالجنا الشك لحظة في أن مصير الأستاذ العقبي ورفيقه السيد عبّاس التركي هو الإفراج وبراءة الساحة، وان الحق في هذه التهمة الشنعاء سيتجلّى للعيان، ولكننا كنّا نذهب في تقدير المدة مذاهب لا تحكم فيها إلا نتائج التحقيق، وقد لبث الأستاذ في السجن ستة أيام بلياليها، ولبث رفيقه نصفها ولم نمتعض- علم الله- للسجن وان عظم خطبه، ولا للسجين وان جل عندنا قدره، ولكننا كنا نمتعض لحظ هذه الأمة العاثر وطالعها المنكود، فهي كلما أقدمت على خير وشارفت الوصول إليه وبسطت الراحتين لتناوله، رماها الشيطان بفتنة هوجاء، أقل آثارها إطالة المدة، ومضاعفة الشدة، ومع ذلك الامتعاض فإن رجاءنا في الله وحده لم ينقطع، وثقتنا بالعدالة ورجالها لم تتزعزع. كان اليوم السادس من اعتقال الأستاذ العقبي هو اليوم المعين للتحقيق معه ومقابلته بالجاني، وكنا ننتظر نتيجة هذه المقابلة بوثوق بالحق، واطمئنان إليه. واستدعى قاضي التحقيق الأستاذ من معتقله وجيء بالجاني، وكان محاميا الأستاذ حاضرين، فلما مثل الجاني أمام القاضي وألقى عليه الأسئلة في الموضوع رجع على تلك الوصمة التي رمى بها الأستاذ، واعترف اعترافًا صريحًا بأنه مبطل فيها ومفتر على الأستاذ، وانه يرجو منه في هذا المجلس أن يسامحه ويعفو عنه، وأعلن أنه رجع عن الباطل إلى الحق، وكانت مفاوضة بين القاضي والمحاميين في قانونية إطلاق الأستاذ ورفيقه أسفرت عن لزوم الإفراج عنهما في تلك العشية. أطلق سراح الأستاذ ورفيقه في لحظة واحدة في منتصف الساعة السادسة وذهب بهما المحاميان إلى بيتيهما من طريق قليلة السلوك تفاديًا من التشويش والهيجان، ولكن الخبر انتشر بسرعة واهطعت الخلائق إلى داري الأستاذ ورفيقه (وكانتا متصاقبتين)، وطفق الناس في الشوارع يهنئ بعضهم بعضًا والبشر يطفح على وجوههم والدموع تسيل فرحًا، وكان مشهد الجموع المتدفقة على الأستاذ للتهنئة والتحقق من سراحه مشهدًا رائعًا، تجلّت فيه عواطف المحبة والأخوة الإسلامية والتقدير للرجال العاملين. واضطربت أسلاك البرق والتلفون في ذلك المساء تحمل البشرى إلى أطراف القطر وإلى خارج القطر. ثم تضافرت الأخبار وحملت إلينا الوفود ان تلك الليلة كانت ليلة عيد ضاحك مبتهج في جميع البلدان، وان كثيرًا من الناس أحيوها إلى الصباح في مرح وسرور وابتهاج، وانهم نسخوا بها كل ما اعتراهم من حزن وألم لاعتقال الأستاذ. ثم انهالت علينا في الأيام الموالية رسائل التهنئة، برقية وبريدية من القطر الجزائري وغيره من الأقطار، وكانت ترد علينا في كل ساعة عشرات البرقيات من الصباح إلى الساعة

فتح نادي الترقي وما يتصل به

العاشرة ليلًا، ثم انثالت وفود التهنئة من الأماكن القريبة والبعيدة يحملهم الشوق ويستتفزّهم السرور، لم يثنهم بعد الشقة ولا مس المشقة ولا كثرة الأشغال عن ذلك، ورأينا العجب العجاب من وحدة في الشعور وصدق في الأخوة وقصد في التقدير وتفانٍ في الإخلاص للرجال العاملين ما كنّا نظنّه ولا نطمع فيه، وربّ نقمة في طيّها نعمة. أما آثار اعتقال الأستاذ في الأمة الجزائرية وغيرها من الأمم الإسلامية ومدى تأثيره في الحركة الإصلاحية على الخصوص، فسنفرد له مقالًا خاصًا. فتح نادي الترقّي وما يتّصل به: بقيت النفوس بعد الإفراج عن الأستاذ العقبي متطلعة إلى فتح نادي الترقي وإدارة "البصائر" والخيرية، وكنت ترى على وجوه القوم بقية استياء وتتفرس ان في الصدور همًا. فتقول متعجبًا: أبعد ظهور الحق وانتصاره والإفراج عن الأستاذ يبقى مجال للكدر والاستياء؟ ولكنك لا تلبث أن تعرف ان مبعث هذا الاستياء هو إغلاق نادي الترقّي معقل الأمة التي كانت تأوي إليه كلما نابت نائبة أو حزب كرب، فتؤويها منه الساحة الواسعة والفناء الرحب، وان نادي الترقي لحقيق بهذه المكانة من نفوس الأمة، فكم نبتت فيه من مشاريع نافعة، وكم رنت في أبهائه أصوات مصاقيع خطباء العربية، وكم شبّت في أحضانه جمعيات مفيدة، وكم كان قدوة في الصالحات، وكم نسج الناس على منواله في تأسيس النوادي في أنحاء القطر، وحسبه شرفًا أنه مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وفيه تعقد اجتماعاتها السنوية العامّة، وحسبه فضلًا على الأمة ما له من الأيادي على مؤتمرها العام في هذه السنة، ففيه انعقدت الجلسات التمهيدية للمؤتمر، وفيه انعقدت اللجنة التنفيذية للمؤتمر في أيامه المشهودة، وفيه اقتبلت الأمة الجزائرية وفدها بعد رجوعه من باريس. لعمرك ان ناديًا هذه أياديه على الأمة وهذه مكانته في النفوس لحقيق بالحزن لإغلاقه والتطلع لفتحه، وقد تمت الإجراءات اللازمة لفتحه عشية يوم الاثنين الرابع والعشرين من أوت، ففتح في تلك العشية وتدفق الناس على رحابه مبتهجين بفتحه مجددين التهنئة لبعضهم بذلك، وأدّى الناس فريضة المغرب من تلك الليلة في مسجد الخيرية. وتمّت الأفراح بخروج الأستاذ العقبي في صبيحة تلك الليلة من داره إلى النادي بعد أن قضى أيامًا لا يخرج من داره التماسًا للراحة والاستجمام. فرح المؤمنون في هذه الليلة المباركة بنصر الله واعتبروا بلطيف صنعه، وأيقنوا ان العاقبة للصبر والتقوى، وصدق الله وعده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده.

آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائرية ونتيجته للدعوة الاصلاحية

آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائرية ونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة* أما والله لو استقبل الكائدون لجمعية العلماء من أمرهم ما استدبروا لما فعلوا فعلتهم الأخيرة ولتابوا التوبة النصوح من هذه المحاولات الفاشلة التي ما جرت لهم إلا الخزي والخيبة. ولو كان لخصوم هذه الجمعية بقية من إدراك لكان في تجاربهم المتكررة ما يَزَعُهُم عن الكيد لها والمكر بها، ويلزمهم بالإقلاع عن حربها وتغيير الرأي فيها وتخلية الطريق لها، ولكنهم قوم أكل الحقد قلوبهم وغطّى الهوى على بصائرهم، فكلما خابوا في مكيدة جاوز بهم الهوى موطن الاتعاظ بها وحرّكهم إلى سعي ضائع في أختها أو في أكبر منها. هم يريدون بما يمكرون شيئًا واحدًا ويرمون بما يكيدون إلى هدف واحد، وهو القضاء على جمعية العلماء بهذه المكائد التي يستفرغون فيها الوسع ويحكمون لها التدبير ويجمعون عليها الرأي بعد أن بذلوا أضعاف ذلك في صدّ الناس عنها وتنفيرهم منها فلم يفلحوا. وقد كانوا في هذه المرة أقوى ما كانوا أملًا في النجاح، وتوهّموا أن الظروف خدمتهم بتمهيد أسباب المكيدة وتهيئة الجو الصالح لها، فجاءتهم الخيبة من مبعث الأمل، وكانت صدمة الفشل عنيفة ومرارته لا تطاق، وأراد ربّك الحق أن تبقى هذه الجمعية شجى في حلوقهم، وان يكون من أسباب بقائها وتثبيتها ما تريده هي من بناء وما يراد بها من هدم، وأن يكون من دلائل حيويتها أن يرجع المناضلون لها في ميدان العلم بالرأي المحجوج، وأن يرجع المنازلون لها في ميدان العمل بالرأس المشجوج، وهذا شأن الحق والباطل مهما اصطرعا فلا تكون قوة الباطل إلا مزيدًا في قوة الحق.

_ جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 34، الجمعة 24 جمادى الثانية 1355هـ/ 11 سبتمبر 1936م، ومجلة "الشهاب"، الجزء السابع، المجلد الثاني عشر، أكتوبر 1936.

لسنا نجهل هذا من سنن الله فلم نشك لحظة منذ وضعنا قدمنا في طريق الإصلاح الديني ورفعنا الصوت بالدعوة إليه في أن الله سيديل للحق من الباطل، وأنه يبتلي أولياءه بالأذى والمحنة ليمحصهم ويكمل إعدادهم للعظائم. ولم نزل على يقين تتجدّد شواهده ان في المصائب التي تصيبنا في سبيل الإصلاح شحذًا لهممنا وإرهافًا لعزائمنا، وتثبيتًا لأقدامنا، وإلفاتًا للغافلين عنّا إلى موقعنا من الأمة وموقفنا من أعدائها، وقد ألفنا هذه المكائد التي تنصب لنا حتى ما نبالي بها وأصبح حظنا من "الكشف" أن نعلم من أوائلها أواخرها، ومن مقدّماتها نتائجها ... واننا لنبتهج بالمصيبة تصيبنا في سبيل الإصلاح أضعاف ما يبتهج غيرنا بالطيبات والمسار، ونعد كبيرها- مهما أعضل وآذى- صغيرًا هينًا، وخفيها- مهما أفظع وبغت- ظاهرًا جليًا، ونأسى لإغبابها عنا كما يأسى الممحل للجدب، ونرتقب إلمامها بساحتنا كما يرتقب غيرنا النعم والخيرات، لعلمنا ان المعاني التي تتركها في نفوسنا هي المعاني التي نصبو إليها، وأن تمرسنا بها باب من أبواب الرجولة وسبيل من سبلها. ولقد كانت كبرى المكائد التي دبّرت للجمعية في تاريخ حياتها- المكيدة التي اغتالت الشيخ كحولا واعتقلت الأستاذ العقبي ولوّحت إلى اثنين كان أحدهما- بعد أن طاش السهم واختلّ الحساب- عباس التركي محمد وعلي، فقد اختار القائمون عليها من شخوص الجن أصلح الأوقات لإثارة الفتن، وأمتن الأسباب لتحريك الاحن. وساندهم فيها الرامح والناشب من حملة الأقلام ليمدّوا الحمأة بالماء ويمدّوا النار بالوقود، ولكن هل كانت العاقبة بعد ذلك الحشد كله لنا أو لهم؟ وهل كانت النتيجة في مصلحتنا أو في مصلحتهم؟ ينقسم خصوم الإصلاح- بعد اجتماعهم في أصل الموضوع- إلى فريقين: أقوياء وضعفاء. فالأقوياء يقومون بالدسّ وتبييت السوء لرجال الجمعية، والضعفاء يقومون بالتشهير وإشاعة قالة السوء عنها والشماتة المؤلثة بها، وكثيرًا ما تستمدّ أعمال هؤلاء من أقوال هؤلاء، وتجد ألسنة الضعفاء مادة للغزل والحوك من أعمال الأقوياء فتتطاول وتجتري، وتكذب وتفتري، وإذا لم تغض العقول من أعنة الألسنة لم تقف في الاستهتار عند حد. وأصحابنا لا عقول لهم وإنما هم أتباع أهواء وأبواق فتنة. وفي هذه الحادثة الأخيرة أمعن فريق الضعفاء في الشماتة إلى حد أنهم أقاموا الزينات وتبادلوا التهنئات ورجعوا من شعيرة "التزربد" (1) إلى طبع أصيل، وذهبوا في تأويل الرأي المبهم لعكاشة في "الاثنين" مذاهب شتى، وود كل واحد منهم- بدخول الحبس- لو كان من عكاشة مكان الملقن ... حتى يرفع عنه الحيرة والإشكال في هذين الاثنين، ولو أعطوا ما

_ 1) من الزَّرْدَة، وهي الحفلات التي يقيمها الطرقيون، وترتكب فيها المنكرات ويُهَلُّ في ذبائحها لغير الله.

تمنوا لرأينا منهم لأول مرة في حياتهم اتفاقًا يغبطون عليه في تعيين الاثنين وتبيين الاسمين ... وإذا كان الأقوياء يقادون بالهوى فما الظن بالضعفاء؟ إن خصومنا الضعفاء جهال بمعاني الحياة وأسبابها، جبناء في مواقفها، أذلة مع كل من ينازعهم حبلها، وهم لذلك كله لا يدركون معنى من معاني الشرف والرجولة وهم- لمهانتهم- يفهمون من أسباب العلو أسباب المهانة ولا يفهمون من أسباب "الحبس" إلا ما هم أهله من التزوير والإفلاس، وكل أموال الناس، وإلّا ما يرتبط بنفوسهم الوضيعة من نتائجه كالاحتقار وازدراء العيون. أما الأسباب الشريفة والمعاني الشريفة، والنتائج الشريفة، فهيهات أن تخطر لهم ببال. أما خصومنا الأقوياء فهم أول من يعلم أن دخول السجن شرف ما بعده شرف إذا كان في سبيل الحفاظ للدين أو الخدمة للوطن أو الإسعاد للأئة أو غير ذلك من الشؤون العامة التي يكبرها الناس ويفيضون عليها الاحترام والتقديس، وان الحبس لهذه الأسباب بقدر ما يضيق على صاحبه أيامًا معدودات يوسع له في آفاق الشهرة والخلود. لذلك نراهم يضنون به علينا ويبتعدون بنا عن طريقه، مع أنهم يملكون أسبابه ووسائله ما داموا يملكون الظلم والاستبداد والكذب "ومن أوتي الكذب فقد أوتي الأسلحة كلها"، ولكنهم لم يتورّعوا- ولن يتورّعوا- عن إدخالنا للسجن باسم الإجرام. إذا لم يذكروا ان حبل الكذب قصير وان المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وان غير المجرم بالطبع لا يكون مجرمًا بالصناعة، وان الحيلة تفلح في كل شيء إلا في تبديل طبائع الموجودات الحقيقية، وان الاعتماد على مجرم بالطبع- في تلويث بريء بالطبع- إجرام لا يغتفر، وان إكراه الأسباب على أن تؤتي غير نتائجها الطبيعية يوشك أن يفضح صاحبه فلا تجري الأسباب إلا على سننها ولا تؤتي إلا نتائجها. ومن العجيب أن خصومنا الأقوياء الأذكياء لم يذكروا كل هذا حينما أقدموا على فعلتهم وأتوا بها شنعاء على الأيام. فأنتجت لهم هذه الحادثة ضد ما أملوا وأتتهم بعكس ما أرادوا. وقد أملى عليهم الحقد أن ينتقموا من هذه الأمة، فانتقمت منهم الأمة، وظنّوها غريرة كما عهدوها تنقاد للكائد، وتنخدع للصائد، فكشف لهم الغيب ما لم يعهدوا ولم يتعوّدوا. أرادوا أن يثيروها على السلطة أو على نفسها فلم يفلحوا، وأرادوا أن يشوّهوا سمعة جمعية العلماء بينها فلم ينجحوا، وأرادوا أن يشتتوا شمل هذه الجمعية وشمل أنصارها، فما زادت على الشدة إلا التحامًا والتئامًا، وأرادوا أن يحطوا من قدر الأستاذ العقبي وينقصوا من سمعته فزادوه علوًا وسموًا.

كل ذلك أرادوا، وفيه فكّروا وقدروا، وعليه أداروا المكيدة من أولها، ولكن الله اللطيف أراد غير ما يريدون فحلّ ما عقدوا وأطفأ ما أوقدوا، وكانت النتيجة ما تقرأه بيانًا لعنوان المقال. كان من آثار الحادثة برمّتها في الأمة الجزائرية أن علّمتها كيف تصبر في الشدائد، وكيف تقضي على كيد الكائدين بالصمت والسكينة، وعلّمتها أن أعداءها لا يقفون في مضارتها عند حد، وعلّمتها أن لا تعتمد في النهوض على من لا يرضى لها أن تنهض وأن لا تستند في حياتها إلى من لا يقنع منها إلّا بالموت وأن لا تسأل البقاء ممن يسعى في افنائها، وأوقفتها على نوع من الأسلحة التي يحاربها بها أعداؤها وأرتها كيف يستعمل هذا السلاح فلم تعد تأبه له ولا للمتسلّح به، وكشف لها هذا الدرس البليغ عن جانب خفي طالما تعب الناصحون في بيانه، وهو ان هذه الأمة تشارك في مضاربة بلا ربح، وتقاد في ليل بلا صبح، وتضطرب بين أهواء متعاصية عن الكبح، وانها تحيا في القرن العشرين بمؤثرات القرون الوسطى، وتُساس في عصر العلم والنور بصور من سياسة عصور الجاهلية المظلمة، وانها تقات بالتضليل والتخذيل والتجهيل والتعليل، فإذا استبانت منهجًا أو حنت إلى ألفة أو صبت إلى علم أو طلبت حقيقة، ردّت إلى عتمة الليل بعنف ولكنه قانوني، وظلم ولكنه عدلي، واستبداد ولكنه شوروي، وكيد ولكنه نظامي ... كل هذا فهمته الأمة وفهمت معه أن لا ثقة إلا بالله ثم بالحق الذي جعله نظامًا للوجود، وأن لا اعتماد إلا على الله ثم على نفسها، وأن لا خوف إلا من الله ثم مما اجترحت الأيدي. وهذا ما أملاه هذا الدرس البليغ على الأمة، فكان لها عبرة وذكرى وكل ذلك ببركة هذه الحادثة فما أبرك هذه الحادثة على الأمة ... وكان من آثار اعتقال الأستاذ العقبي، بموضعه من جمعية العلماء ومكانته فيها، أن جمع عليها القلوب ولفت إليها الأنظار وأسمى مكانتها في النفوس أضعافًا مضاعفة، وزاد نفوذها انتشارًا ومبادئها رسوخًا في جميع الأوساط، وتحقق لجميع الطبقات في الأمة أن هذه الجمعية قامت على أساس من الحق، وعملت للحق، وأوذيت في سبيل الله والحق، وأن قيامها بالحق هو الذي ألّب عليها الأعداء، وجلب لها الأذى والبلاء، وان هذه الحادثة المدهشة نتيجة حقد متأصّل عليها ويأس مرير من القضاء عليها بغير هذا النوع من الكيد، وان سمو مبدئها ونبل غايتها هما السبب الأكبر في نصب العراقيل لها، وبث الأشراك من حولها، وانها لو لم تكن على الحق لصافاها المبطلون ومادوها حبل الولاء، وانها- وقد ظلمت في هذه الحادثة ظلمًا بيّنًا مكشوفا عرفه حتى البله- مظلومة في كل ما مرّ من أدوار تاريخها، وان رجالها لا يعملون

لذواتهم وإنما يعملون للغتهم ودينهم ومصلحة أمّتهم، وان من يحتسب في سبيل الإسلام والعربية حتى دخول السجن لحقيق بأن تمتلئ القلوب المتعلقة بالإسلام والعربية بلجلاله وتعظيمه وتهبُّ النفوس المتشبّعة بالإسلام والعربية لنصرته وتأييده وكذلك كان. وقد كان الناس في القطر الجزائري قبل هذه الحادثة في جنب جمعية العلماء فرقًا منهم المنتصر الغالي ومنهم المحب المقتصد، ومنهم القُعْدي المذبذب ومنهم المبغض المسرف، وكل ذلك مبني على تفاوتهم في إدراك حقيقتها وتفهّم مقاصدها، فجاءت هذه الحادثة فكانت سببًا في تلاقي أطراف هذه الفرق وإجماعهم على محبّتها والاقتناع بحقيقة مبادئها. وان كثيرًا من الغالين في بغضها والتشنيع عليها ليقولون: نشهد إنها لمظلومة، وتراهم أكثر ميلًا إليها وعطفًا عليها وإكبارًا لرجالها مما كانوا عليه من قبل. ولقد قال لي قائل ذكي ما معناه: ان محاكاة القدر لا تكون قدرًا من جميع جهاتها، فلأمرٍ ما كان القتيل كحولا ولم يكن رجلًا سياسيًا، ولأمرٍ ما كان المتهم العقبي ولم يكن رجلًا آخر، انهم يقولون انهما رجلا دين، ولكن الدين لا يقتل الدين (ونطق بهما بلفظ الاسم) وما قالوا ذلك إلا ليبنوا عليه أن رجال الإسلام يصطرعون ونحن لا نؤمن بالمقارنة ولا نؤمن بهذه المقدمات، وأحرى أن لا نؤمن بما يبنون عليها من النتائج ... فقلت له: افهم كما شئت فما أنا على افهام الناس بمسيطر. وقال لي ظريف آخر: ان الجماعة كانوا يرموننا بأننا نتّخذ الدين آلة لأغراضنا ويعدّون ذلك بابًا من أبواب سفاهتنا، وها هم اليوم يقلّدوننا في اتخاذ الدين آلة للأغراض ... ولعمري إن أسخف أنواع التقليد ما كان في أمر وهمي. فكان جوابي له عين جوابي للأول. هذه الآثار هي إحدى بركات هذه الحادثة على جمعية العلماء، فما أبرك هذه الحادثة إذًا على جمعية العلماء ... ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار، ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار، وكان يوم اعتقاله يومًا اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يومًا اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور، وأقوى ما في هذا الإجماع المنقطع النظير انه كان بسائق وجداني جمع بين من يعرف الأستاذ معرفة عيان وبين من يعرفه معرفة سماع وبين من لم يعرفه إلا من هذه الحادثة. كما جمع بين المسلم والنصراني واليهودي، وان أمرًا تجمع عليه هذه الطوائف المتباينة من الناس لأمر عظيم، وان من يقرأ مئات البرقيات ورسائل التهنئة ويتأمّل إطباقها على معنى واحد- وهى من مصادر متباينة- يعدم أنها من وضع إلهي فوق قوى البشر.

أما آثار هذه الحادثة في فرنسا فقد قرأها القراء في الجرائد الباريسية وغيرها. وأما آثارها في الأقطار الإسلامية، فقد كانت دعاية عميقة الأثر للأستاذ العقبي ولجمعية العلماء ولحركة الإصلاح الديني لا تقوم بالمال ولا يبلغ مرضى الدعايات عشرها ولو بذلوا فيها الملايين الكثيرة ... إننا لنشكر بهذه المناسبة لإخواننا في الأقطار الإسلامية مشاركتهم الصادقة لنا في السرّاء والضرّاء والتفاتهم الجميل نحونا، ونعتبر هذه المشاركة ظاهرة التحام جديدة في المجتمع الإسلامي، وسمة بر برحم الدين المجفوة بيننا، ولمحة عرفان لما تناكرناه من أخلاقه بل مصداقًا لما وصف به النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمني أمّته، ونبتهج بتحقق هذا الوصف في الوقت الذي نبذل فيه وسعنا لإحياء الآداب الإسلامية بيننا. وليهنأ جمعية العلماء ما لقيته من إجلال وإكبار وتقدير واعتبار، وذيوع لاسمها ومبادئها وانتشار، وليهنأ المصلحين ما ربحوه من مؤيدين وأنصار، وما أفادتهم حادثات الدهر من اتعاظ واستبصار، وليهنأ أخانا العقبي- نعمة الله عليه- بحسن الذكر في الأولين ولسان الصدق في الآخرين، وبالنصر على أعدائه حينما أرادوا به كيدًا فجعلهم الأخسرين ...

الإصلاح الديني لا يتم إلا بالإصلاح الإجتماعي

الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي (خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ألقاها صبيحة اليوم الأول من أيام الاجتماع) * ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الاخوان: أما وقد جاوزت جمعيتكم خمس مراحل من وجهتها الموفّقة، وسلخت سنوات من عمرها العامر بالصالحات، وقطعت خمسة أشواط في مبدئها الذي عاهدت الله على أن تبلغ غايته أو تموت في الدفاع عنه والنضال من دونه، ولقيت من العوارض والعوائق ما ذللته العزائم ومهّدته الهمم. وكانت نتائج ذلك كله عكس ما ظنّه المتشائمون، ورأت من عجائب صنع الله لها وبره بها وخِيَرَتِهِ لها ما لم تكن تحلم به، إلى أن كانت الحادثة الأخيرة التي ظن مدبّروها أنها القاضية على الجمعية والخانقة لأنفاسها والمقوّضة لها من أساسها، فكانت عليها كنار الخليل بردًا وسلامًا، وانها لأول حادثة في تاريخ الجمعية جمعت بين الضدين: سوء الوقع وحسن الأثر، فقد امتحن فيها إحساس الجمعية ومسّ فيها مكمن الغيرة من الأمة الإسلامية، ولو هفت منا الحلوم أو خفيت على الأمة موارد الحادثة ومصادرها، لرأيتم معنى عاليًا من معاني الحفاظ الكمينة في هذه الأمة الفقيرة إلا من الشرف والعزلاء إلا من العزائم، ولقرأتم صفحة من صفحات البطولة ظنّ الناس أن مكانها من تاريخ الجزائر الحديث خال، ولأرينا العابثين بمقدّرات الأمم كيف تكون عواقب العبث، ولكن الله سلّم وألهم الرشد فأريناهم كيف يكون الصبر في الشدائد وكيف يكون التنبّه للمكائد، وأذقناهم مرارة الخيبة وغصص اليأس وكنا نحن الفائزين. أما وقد تمَّ كل ذلك، فقد وجب أن نقف على رأس هذه الأعوام الخمسة ونستعرض الأعمال التي تمّت فيها على يد الجمعية استعراض المعتبر بماضيه وحاله، الموازن بين

_ * الاجتماع العام الخامس لجمعية العلماء المسملين الجزائريين الذي عُقد بنادي الترفي بعاصمة الجزائر في سبتمبر 1936. جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 37، الجمعة 16 رجب 1355هـ / 2 أكتوبر 1936م.

أعماله وآماله، المستبصر في مبادئه ومصائره المغتبط بما قدم من صالح، وإن قلّ، المستشرف للعظائم وإن هالت وجلت. نقف لا لنعدّ الأيام والشهور، ولكن لنعد الأعمال ونزن الأعمال بآثارها ونرى إلى أي حدّ في النجاح وصلنا، وعلى أية درجة في الإصلاح حصلنا. إننا- أيها الإخوان- لا نزن الأعمال بما هي عليه في أنفسها ضخامة وضؤولة، وإنما نزنها بآثارها المنبعثة منها المترتبة عليها. وإن كثيرًا من الناس حتى من أنصار الجمعية ليستقلّون هذه الأعمال في أنفسها ويحتقرونها في حدّ ذاتها فيغمطون الجمعية حقّها ويقولون انها لم تعمل شيئًا له خطر. وما أوتوا- عافاهم الله- إلا من غفلتهم عن آثار الأعمال ونسيانهم ان من الأعمال ما هو كعود الكبريت جسمه ضئيل وأثره جليل، أو كخيط الكهرباء جوهره دقيق وعمله عظيم، وان الأعمال التي يريدها هؤلاء من الجمعية ويصحّ إطلاق اسم الأعمال عليها في عرفهم، مدارس عديدة تشاد، ودروس مختلفة تُلقى، وأموال طائلة تجمع، ومرتبات ضخمة تفاض وبعثات علمية تنظّم، ومشاريع عملية تؤسّس، وصحف منوّعة تنشر، ودراسات منظّمة تذاع في الأمّة، ومواقف فاصلة تنجلي عن قوة القوي وضعف الضعيف. إن هذا الذي يريدونه لعظيم، وان النفوس المتعلّقة به لكبيرة وانه لمن آمال جمعية العلماء، يشغل تفكيرها وتجمع له أسبابه وترصد لبلوغه كل شارقة، فاما أن تطالب به وهي لم تستكمل وسائله فلا ... وأما أن تقاس أعمالها بهذا المقياس فلا ... إن أقصر الناس نظرًا من يسقط في حكمه على الأشياء اعتبار الزمان والمكان والفاعل والقابل والأوضاع الخصوصية. ولو ذكر هؤلاء الأمة الجزائرية في طورها الحاضر ووضعها الحاضر، وذكروا كيف تُساس والقوانين التي بها تُساس، وذكروا الجمعية وأنها تكوّنت في ليل من السياسة غاسق وجوّ من مكائدها قاتم، وقاسوا يومهم بأمسهم، ونظروا من الأعمال إلى آثارها ومن الآثار إلى اتّساعها ومن الاتّساع إلى الحدود والآفاق، لكانوا في حكمهم أقرب إلى النصفة والمعدلة. إنني- أيها الإخوان- أحاول في موقفي هذا أن أقصّ عليكم طائفة من الآثار المشهودة والغايات المحمودة التي وصلت إليها جمعيتكم في بضع سنين، وأحاول أن أشرح لكم النواحي التي لقيت فيها النجاح، والميادين التي صادفت فيها الفوز. أيها الإخوان: من الغلط أن يقال إن جمعية العلماء جمعية دينية يجب أن ينحصر عملها في الإصلاح الديني بمعناه الذي عرفه الناس، ومن فروع هذا الغلط ما رماها به بعض مرضى

العقول وصرعى الجهل من أنها خرجت عن مدارها حين زجّت نفسها في بعض شؤون الحياة غير الدين. والحقيقة أن هذه الجمعية تعمل من أول يوم من تكوينها للإصلاح الديني وللإصلاح الاجتماعي، وكل ذلك يسع الإسلام، وكل ذلك يسعه مدلولها وموضوعها وقافونها. فالإسلام دين واجتماع. وإذا كانت دائرة الأول محدودة فإن دائرة الثاني واسعة الأطراف، وان الإصلاح الديني لا يتمّ إلا بالإصلاح الاجتماعي، ولهذا الارتباط بين القسمين، فإن جمعية العلماء- وهي الجمعية الرشيدة العالمة بحقائق الإسلام- عملت منذ تكوينها في الإصلاحين المتلازمين، وهي تعلم أن المسلم لا يكون مسلمًا حقيقيًا مستقيمًا في دينه على الطريقة حتى تستقيم اجتماعيته فيحسن إدراكه للأشياء وفهمه لمعنى الحياة وتقديره لوظيفته فيها وعلمه بحظه منها وينضج عقله وتفكيره ويلم بزمانه وأهل زمانه ويتقاضى من أفراد المجموعة البشرية ما يتقاضونه منه من حقوق وواجبات، ويرى لنفسه من العزّة والقوّة ما يرونه لأنفسهم وتربط بينه وبينهم رابطة الأخوة والمساواة والمصلحة لا رابطة السيادة عليه والاستحسار دونه. وقد نجحت الجمعية إلى حدّ بعيد في إفهام الأمة هذه المعاني الاجتماعية وتوجيهها إلى مجاراة السابقين وتهيئتها لأن تكون أمّة عزيزة الجناب مرعية الحقوق ثابتة الكيان محفوظة الكرامة صالحة للحياة مساوية للاحياء، وفي اعلامها أن بغي القوي على الضعيف قد طمس معالم الحق بينهما وردّهما إلى نوع من الحيوانية كالذي بين الذئب والخروف، حتى أصبحت الاممتطالة في الأقوياء طبيعة والاستكانة في الضعفاء طبيعة، وان طبيعة الأولين لا تتبدل إلا بعد تبدّل طبيعة الآخرين وان الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا. ويا ويح الجاهلين، أيريدون من كلمة الإصلاح أن نقول للمسلم قل: لا إله إلا الله مذعنًا طائعًا وصلّ لربّك أواهًا خاشعًا، وصم له مبتهلًا ضارعًا، وحج بيت الله أوّابًا راجعًا، ثم كن ما شئت نهبة للناهب، وغنيمة للغاصب، ومطية ذلولًا للراكب، ان كان هذا ما يريدون فلا ولا قرة عين، وإنما نقول للمسلم إذا فصلنا: كن رجلًا عزيزًا قويًا عالمًا هاديًا محسنًا كسوبًا معطيًا من نفسك آخذًا لها عارفًا بالحياة سبّاقًا في ميادينها، صادقًا صابرًا هيّنًا إذا أريد منك الخير، صلبًا إذا أردت على الشر. ونقول له إذا أجملنا: كن مسلمًا كما يريد منك القرآن وكفى ... ونجحت الجمعية- كذلك- نجاحًا جليًا مشهودًا ظهرت آثاره للعيان وَلَمَسَهُ الموافق والمخالف والمعتدل والمتجانف، في تصحيح عقائد الأمّة الجزائرية وتطهيرها من شوائب الشرك القولي والعملي التي شابتها، فصحّت العقائد وصحّت لصحّتها الإرادات والعزائم،

وسنرى من نتائج ذلك صحة الأعمال التي تصدر عن تلك الإرادات وتلك العقائد، وسنرى من آثار طهارة النفوس قوّة في الأخلاق وسموًا في التفكير، ونزوعًا إلى الفضائل لأن هذه الأشياء متلازمة لا تنفك بحال. أصبح المنتسبون إلى الإصلاح ولو من العامة يخلصون لله في عباداتهم وإيمانهم ونذورهم وأدعيتهم، ونبذوا كل ما كانوا عليه من عقد فاسد أو قول مُفْتَرى أو عمل مبتدع في هذه الأبواب كلها، وأصبحوا يفرقون بين السنّة والبدعة والمشروع وغير المشروع ويعتقدون أن الإنسان مجزي بعمله رهين بكسبه، وليست هذه النتيجة بالأمر اليسير وما كنّا- لولا عون الله- لنبلغ هذا الحد من النجاح فيها، ولكن ماذا أنفقنا من الأعمال في هذا السبيل؟ وماذا زرعنا حتى جنينا كل هذا الريع الزاكي؟ الحق ان هذه الآثار الجليلة كلها راجعة إلى المقالات التي نشرتها صحف الإصلاح والدروس والمحاضرات التي ما زال يلقيها دعاة الإصلاح المنتشرون في القطر. ولما كان الحق بينًا في نفسه سهل على الداعين إليه بيانه والاستدلال عليه ونقض الشبهات القائمة حوله وإن اختلفت مراتب المدعوين في سرعة التلقّي بالقبول. وقد اتضحت الفكرة الإصلاحية في هذا الباب وحفظت مسائلها وعلمت دلائلها حتى أصبح في مقدور كل إنسان بيانها والدعوة إليها لإقامة الحجة عليها، وهذا شأن الحق في كل زمان. نجحت الجمعية أيضًا في إلفات الأمة إلى القرآن وفي جمعها عليه وحملها على التدبّر في معانيه، لتأخذ منه كل نفس على قدر استعدادها وتستنير من عبره وزواجره ما يسوقها إلى الخير ويزعها عن الشر حتى يكون المؤمن مسوقًا بالقرآن مدبرًا به. وسنرى من تأثير القرآن في النفوس ما يحقّق الأمنية التي تاق إليها حكماء الأمم وأعياهم الوصول إليها، وهي الكمال الروحي من طريق سمو الأخلاق وهي الغاية التي وصل إليها سلفنا وما وصلوا إليها إلا بالقرآن. وقد كانت هذه الأمة معرضة عن القرآن مشغولة عنه بما لا يفيد، معتقدة فيه العقائد السخيفة مستغنية عن فهمه بحفظه مع تقصيرها في أداء لفظه، مستعيضة عن تلاوته بتلاوة الأوراد والأذكار، وعن دراسته بدراسة كتب جافّة من وضع المخلوق لا تبعث في النفس نشاطًا ولا تنشر في القلوب حياة ولا تغرس في الأفئدة فضيلة، ولا تقتلع منها رذيلة، ولا تشرف على القلوب المظلمة بنور، ولكنها بدأت اليوم ترجع إلى القرآن وتستجلي أنوار الهداية وأسرار الكائنات من آياته، وتأخذ الحياة قوية من تعاليمه، وكأنها برجوعها إلى القرآن تجدد نفسها وتستأنف في الحياة تاريخها، وعسى أن تنتهي من هذه الوجهة الجديدة إلى غايتها، فتنتهي إلى السعادة والخير.

وأفلحت الجمعية في تبيين السنّة النبوية المحمدية معنى ومفهومًا، وحمل الأمة على الرجوع إليها علمًا وعملًا، والتمسّك بالصحيح الثابت منها فعلًا وتركا، والاهتداء بهدي السلف الذين هم نقلتها وتراجمتها والمؤتمنون على فهمها، والعاملون بها والواقفون عند حدودها، والناشرون لدقائقها والناصرون لحقائقها والمبلغوها سهلة سمحة إلى الأمم على أنها بيان لكتاب الله توالفه ولا تخالفه، وشرح عملي لدين الله يؤيده ولا يعانده، وطريق إلى سعادة الدارين لا يضلّ سالكه، ولا يفلح تاركه، وسلّم موصل إلى الحياة العزيزة الكاملة المبنية على العمل المغذي للهمم والإقدام المغذي للعزائم والقوة التي هي عماد الحياة. نجحت الجمعية كذلك في نشر سير عظماء الإسلام الحقيقيين الذين قاموا بحمله، والذين قاموا بنشره، والذين قاموا بتمثيل هديه وتطبيق قواعده وأصوله في النفوس بالتزكية والتهذيب، وفي العقول بالتنوير والتأديب، وفي الأمم بالتعليم والرفق والتسوية، وفي الأرض بالتعمير والأمان، وفي الحكم بالعدل والإحسان، وفي الملك بالعزة والقوة. وإنّ سيرة الواحد من هؤلاء لهي الإسلام كاملًا مجسمًا، وان مثال هؤلاء الرجال هم الذين يجب علينا أن نجلو سيرهم على الناس ونتلو أخبارهم ونتقصاها ونحمل أنفسنا على الاقتداء بهم وتأثر خطاهم في كل شيء، والنفوس تؤخذ بالاحتذاء والمحاكاة أكثر مما تؤخذ بالجِبِلَّة والطبع، وإن أمثال هؤلاء هم عماد التاريخ الإسلامي الذين تبذل الجمعية جهدًا غير قليل في احيائه بهذا الوطن وفي تحبيبه للمسلمين ليبنوا حاضرهم الخرب على ماضيهم العامر وليعلموا أنهم ليسوا عالة على التاريخ، ولا متطفلين على الزمن ولا واغلين على مائدة الحياة، وإن مكانهم من التاريخ- لو عرفوا- هو الصدر، وإن حظهم من الحياة غير منزور، لو أحسنوا كيف يحيون. ومن العجيب أن الأمم الإسلامية- وهي أغنى الأمم في باب الأسماء العظيمة- كانت وما تزال الكثرة منها تحتفي بأسماء نالت- في جنون من الدهر وعربدة من التاريخ واضطراب في العقل- حظًا من الشهرة بما لا يشرف قدرًا ولا يعلي منزلة ولا يثير ذكرى حية، وأفاضوا على هذه الأسماء صبغة من التقديس وجعلوها معاقد لِأَيْمَانهم واعلامًا لولدانهم، وإننا لنجد في الأسماء الرائجة بيننا ترديدًا فاحشًا لهذه الأسماء المنومة، وقل أن نجد بيننا اسما من الأسماء التي تعد تواريخ مستقلة وبدءًا في الخلق وتجديدًا في الحياة، والتي تثير عند سماعها معاني العزة وذكريات الشرف والرفعة. ونجحت الجمعية- أيها الإخوان- في إلفات الأنظار إلى شيء لم يكن بيننا منسيًا، وإن كان مجفوًا وهو هذا اللسان العربي الشريف الذي هو قطعة من كياننا

التاريخي وشرط أساسي لوجودنا القومي وشهادة قاطعة بصحة نسبنا الديني ونسبنا الجنسي، وإن من العار الفاضح أن يفخر الواحد منا بانتسابه إلى العرب وهو لا يعرف شيئًا عن لغة العرب ولا شيئًا من تاريخ العرب، وقد أشرفت هذه اللغة الشريفة على الاضمحلال بهذه الديار لولا أن تداركتها جمعية العلماء وأخذت بيدها وانتشلتها من الحضيض الذي وصلت إليه، فاستعادت على يدها شبابها، ووصلت بسبب الدين الحنيف أسبابها، وأصبحت الجزائر في مدة قليلة تفاخر أمصار العربية الكبرى ومنابتها الأصلية بأدبائها وكتّابها وشعرائها وخطبائها. أيها الإخوان: إن جمعيتكم تفخر بأنها نجحت في جمع طوائف عظيمة من الأمّة الجزائرية على الحق بعد أن كانت كلها متفرقة على الباطل، واستطاعت أن تعلمهم معنى الاجتماع على الحق والخير وكيفية الاجتماع على الحق والخير، وتحبّب إلى نفوسهم كلمة الاجتماع وحضور المجتمعات بعد أن كانت لا تجتمع إلا على شر أو مأثم. وبأنها نجحت في دعايتها إلى العلم النافع الصحيح وفي دعايتها إلى الأخوة الإسلامية الحقيقية- وبأنها انتصرت في حملتها على الخرافات والأوهام والدجل وانتصرت أو كادت في حربها للجمود والعوائد الضارة والتقاليد السخيفة- وبأنها أفلحت في تربية الأمة على عدم الخوف إلا من الله والرهبة إلا منه وأن تواصل فيه وتقاطع فيه وأن تبني حياتها على الأعمال والأسباب، وفي تربيتها على تقدير الكفايات وتقديم الأكفاء لشؤونها العامة، وفي إرشادها إلى وجوه البذل المشروعة المعقولة بعد أن كانت تبذر أموالها فيما يضر ولا ينفع، وفي تحبيب الدين وشعائر الدين إلى طوائف من الشباب المهمل وإشرابهم معنى العزة الإسلامية وكرامة النفس. وإذا رجعنا إلى الأخلاق، أيها الإخوان، وجدنا نجاح الجمعية ظاهرًا في جمهرة من الأخلاق الفاضلة غرستها في نفوس الأمة الجزائرية، فجمعية العلماء هي التي علمت الأمّة خلق التضحية في الصالح العام، وخلق الصبر عليه ومطاولته وخلق القصد في الاعتقاد والتفكير وخلق الاعتماد على النفس، وخلق الصراحة في القول والجرأة في الرأي والكلام إلى ما يتصل بهذه الأخلاق من فروع ولوازم. أيها الإخوان: إن أغرب ما يؤثر عن جمعيتكم بل هو أول ما نجحت فيه، هو إثبات وجودها في وقت كانت تتناثر فيه الجمعيات كحب الحصيد، وتتهاوى المشاريع كأوراق الخريف، والاحتفاظ بتوازنها في طريق غاصّ بالعواثير، وتسييرها لسفينة الحق في بحر مضطرب الأمواج، وثباتها في وجه الباطل في وقت تكالب فيه الأعداء وتخاذل الأولياء، فهنا العبرة البالغة للمعتبرين، وهنا الموضوع الخصيب للباحثين المستنتجين.

أيها الإخوان: هذه لمحات مقتضبة غير مرتبة ولا متناسقة من آثار جمعيتكم قصصناها عليكم لا إدلالًا بالعمل، فهو في ذاته قليل، ولا افتخارًا بالنتائج فوراءها ما هو أكمل منها وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، ولكن تسلية على ما لم تصل إليه اليد من الكمال الذي ننشده وينشده أنصار الجمعية وهي بعد سائرة في طريقها، متكلة على الله معتمدة على ولائكم لها وإخلاصكم في خدمتها. وإن التفافكم حولها هو ذخرها الثمين الذي تعدّه لبلوغ الكمال والإقدام على عظائم الأعمال، ودرعها الحصين الذي به ترد عدوان العادين وكيد الكائدين. وقد فزعت بالأمس فهببتم هبة رجل واحد، كلكم يذود وكلكم يحمي، وإن لهبتكم تلك لَمعنًى عرفه أعداء الجمعية فأطرقوا، ثم انجلت الغمة فهببتم هبة أخرى كانت أروع وأوقع، فهل أنبئكم أن تلك الهبات هي الامداد التي تمد الجمعية بالحياة والبقاء والبركة والنماء.

من قصيدة للأستاد الإبراهيمي

من قصيدة للأستاد الإبراهيمي* فإن شئتموا أن تسمعوني محاضرا … أحاضركم عن حضرة الغوث والقطب هنالك يدري الجاهلون حقيقتي … ويهتز ناديكم ويعرف ما خطبي وان سكوتي مسحة مستعارة … من (المدفع) الصخاب والصارم الشطب ... أنا المرء لا أعطي إلى القطب مقودي … ولو دفعتني الحادثات إلى القطب

_ جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 43، الجمعة 28 شعبان 1355هـ / 13 نوفمبر 1936م.

إما سنة وإما بدعة

إما سنّة وإما بدعة* نشرت جريدة لسان الدين: (دين العليويين) في العدد 22 مقالًا تحت عنوان "المصلحون يحاربون لا إله إلا الله" تعرضت فيه لجنازة مرّت في تلمسان وتهافتت فيه على الافتراء والبهتان أيما تهافت وزوّرت فيه ما شاءت أن تزور. ونحن ما كنا لنتعرّض لها كما هو دأبنا مع مثيلاتها من عيون الاستعمار وفضول الخرافات لولا ما يحتّمه علينا واجب أداء شهادة لله ولرسوله وللمؤمنين. وما كنا لنتعرض لهذه السفاسف والجزائر تجتاز ظرفًا من أحرج ما مرّ عليها منذ الاحتلال، ووقتًا عصيبًا عصفت فيه بنا وبمقدساتنا عواصف المستعمرين وذيولهم من المنتسبين للجزائريين. ولكن ما الحيلة وهؤلاء القوم من إخواننا- وإن أبوا- لا يريدونها إلا شحناء ولا يبتغونها إلا عوراء. والشحناء نستعيذ بالله من اسمها والعوراء نعوذ بالله منها وحتى من وصفها. المسألة بيننا لا تتجاوز أحد أمرين: إما سنّة نحن وهم سواء في امتثالها والإذعان لها. أو بدعة نحن وهم سواء في تجنبها وقتلها. هذا باعتبار الإسلام الجامع بيننا. أما إذا كان الطرف الآخر لا يدين بما ندين فما كان لنا أن نأخذ من على غير ملتنا بما وجب علينا أخذ أنفسنا به. الأمر- يا لله لهذا الدين- بيننا وبين إخوان لنا في الدين والجنس والوطن. إخواننا فيها وإن كانوا لا يراعونها ولا يراعون عهدها وميثاقها الذي واثقنا الله به. من باب ما هو معلوم من الدين بالضرورة إذا قلنا إِن تشييع الجنائز على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان بما يناسب جلال الموت ورهبته، والذي يتناسب وينسجم مع التشييع هو الخشوع

_ * جريدة "البصائر"، عدد 56، 19 فيفري 1937، بدون توقيع.

والتذكر والاعتبار بمن حملوا على الأعواد. والخشوع معروف هو غير الصراخ والعويل والضجيج والتهويل وقد شيّع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وبناته، وشيّعه أصحابه من بعده وشيّع الصحابة- رضوان الله عليهم- بعضهم بعضًا كذلك على هيئة واجمة رهيبة تأثيرها في مشاهديها تأثير ما بعده من تأثير. إنهم يقولون ان ذكر الله في تشييع الجنائز يلهي باقي المشيّعين عن لهو الحديث، نحن معهم على هذا بشرط أن يكون الذكر تفكرًا واعتبارًا لا طبلًا ومزمارًا. أما ما هم عليه من رفع أصواتهم في التشييع بلا إله إلا الله وبما سوّلت لهم أنفسهم وزين لهم شياطينهم فهو منكر أنكره الله ورسوله وأصحابه والأيمة المرتضون. إن لا إله إلا الله لا توضع في غير مواضعها يا قوم! فما لكم إذا قيل لكم لا تضعوها في غير محلها، ومنه الجهر بها في التشييع قلتم متجرئين إننا نحارب لا إله إلا الله؟ كبرت كلمة تخرج من أفواهكم ... تقولون إننا نلهي بها الناس عن الفضول، فكان كلامكم هذا أصلًا من أصول الفضول، وقد شاهدنا الناس لا يكثر كلامهم والتعرض لشؤون دنياهم في الجنائز إلا عند ما يغمرون بضجيجكم وصخبكم؛ ثم هل لمخلوق- أيًّا كان- أن يزيد في دين الله ما ليس منه؟ كلا! وما لنا ولهذا الموضوع وقد فرغ منه الناس كتابة وبحثًا، وهدى الله بذلك خلقًا كثيرًا كتب الله لهم النجاة من هؤلاء الذين سيقول أتباعهم القليلون- والحمد لله-: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا). ولو كانوا ممن يبتغي إلى الله سبيلًا كما يزعمون لكفاهم أن ينظروا كتاب الجنائز من موطأ مالك - رضي الله عنه - أو من البخاري أو مسلم أو غير هذه من كتب الحديث الصحيحة ولكنهم إشربوا حب البدعة حتى الثمالة. فما لنا نجادلهم بالحديث وبالكتاب المنير؛ وهم لم ينقادوا حتى للفقهاء الذين يدعون أنهم لهم مقلدون؟!. أما علمت أن القوم يحاجونك في مشروعية البردة بما لا يليق إلا بهم كأنهم بذلك- يكشفون عن منتهى عهدهم بالدين وبالسنّة وكأنهم بذلك يقولون إنما نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون. افتتحوا أضحوكتهم في موضوع ديني محض بقولهم "من عهد ملوك بنى زيان والأتراك إلى يومنا الحاضر وسكان (تلمسان) يشيعون جنائزهم كسائر البلاد الإسلامية بذكر [لا إله إلا الله محمد رسول الله] وبقراءة القرآن وتلاوة (البردة). انصتوا يا معشر أقطار السماوات والأرض! لقد قامت عليكم الحجة فلا تشيّعوا جنائزكم بعد اليوم إلا بالنهيق، والعواء

والنباح، وصياح الديكة، وثغاء الشاء. ولكن حذار زئير الأسد! وما زئير الأسد إلا سخط الله على من يغيّر ما بدين الله ويعبث بسنّة رسول الله وينحط بلا إله إلا الله محمد رسول الله إلى دركات لا تليق بجلالها وكمالها. أما وقد جارينا هذه الجريدة إلى هذا الحد في هذيانها المحموم فلا يسعنا إلا أن نقول لها: أما تعرضك لما سميته صاحب نادي (طنجة) ومحششة نهج (لا مورسيير) فإنه في غير محله من مقال تنافحين فيه عن "لا إله إلا الله" ... ! ولوكنت منصفة تضعين لكل مسمى ما يليق به من الأسماء لقلت غير مخطئة (صاحب نادي الشباب الوطني الإصلاحي) الذي أيقظه الله على عبث الطرق والطرقية، فأصبح باسم الله ثم بمن بعثهم الله من رجال الإصلاح جند هدى بعد أن كان بفضل غواية حزبك جند ضلال وأصبح شوك قتاد يسد على الطرقية مذاهبها ويشوك مواكبها. وادّعيتم أن بعض المصلحين ندموا على تشييع الجنازة بالسنّة وجاءوا إلى أغْواثِكُم وأقطابكم يعتذرون فطردوهم! ما هذا الكذب الأزرق، أمن ذاق حلاوة الإيمان يسلوها؟ أمن هو على هدى من ربه يرضى أن يقف على شفا جرف هارٍ ينهار به في جهنم؟ اعد نظرًا يا عبد قيس ........ إن كان لك إلمام بالأدب العربي. وقد هددتنا (لسان دينهم) باجتماع الطرقيين وعقد حلف بينهم ضد هجمات المصلحين وانتظرنا ما تقرّره دول الحلفاء! وطال انتظارنا، وإلى هذه الساعة ما اجتمع لهم شمل ولا تألف لهم ما شتته الله. ونحن نقول لهم لم تجتمعوا يوم كنتم ولا ثاني لكم في هذا الوطن تعيثون وتقتلون هذه الأمة وتأسرون! فكيف وقد غشيكم من المصلحين نور لا أنتم قادرون على طمسه ولا هو آئل إلى نقصان ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كرهتم. هداكم الله وأزال الغشاوة عن أبصاركم وبصائركم. وختامًا انه والله وألف والله قسمًا لا حانثون فيه ولا آثمون، ليحزننا أن نتعرض لمثل هذا الموضوع والجزائر- الوطن العزيز- تتقلب على جمرات، والعدو الكاشح يطعنها في كل ما تأتيه طعنات، ونحن من وراء ذلك، ومن أمامه ومن فوقه ومن تحته، سخرية الساخر، وهزء الهازئ، وأضحوكة الضاحك فلا حولَّا وَلا قوة إلا بالله.

المؤتمر الإسلامي الجزائري

المؤتمر الإسلامي الجزائري* مظهر اتحاد الأمة الجزائرية وقوتها. من أوكد الواجبات على الأمة الالتفاف حوله وإزالة كل ما يقف في طريقه. البشرى بقرب انعقاد المؤتمر الثاني. ــــــــــــــــــــــــــــــ من الحقائق المسلمة أن اسْمَ (المؤتمر الإسلامي الجزائري) أصبح عنوانًا لاتحاد الأمة الجزائرية وقوّتها، ورمزًا لأمانيها القومية ومطالبها الحيوية، وشغلًا للألسنة المتحدثة عنها قبولًا ورفضًا، ومعجمًا جامعًا لكل الحقوق التي تصبو إليها الأمة الجزائرية. انعقد المؤتمر الأول في اليوم السابع من شهر جوان من السنة الماضية بتلك الصورة الرائعة التي لم تبرح الأذهان، فكان أول خطوة خطتها الأمة الجزائرية في عهدها الجديد، وأول صفحة خطتها من تاريخها المجيد. تمثلت فيه الأمة بجميع عناصرها راجعة إلى عنصر واحد هو عنصر الإسلام والجزائرية، مدفوعة بدافع واحد هو دافع الشعور بالحرمان من الحياة والشعور بالحاجة إلى الحياة. كان ذلك الاجتماع مجلى لقوّة الاتحاد والأخوة والتضامن، وكان درسًا بليغًا في باب استحقاق هذه الأمة للحياة نوه به رجال البرلمان الفرنسي على منابر الشورى، ونبهوا على قيمته رجال الحكم المسؤولين، وكان إنذارًا لخصوم هذه الأمة والعاملين على تفرقتها والكيد لها، وكان حجة للمنصفين علا بها صوتهم وقوي بها جانبهم وشد بها أزرهم، وكان تكذيبًا مريرًا للمتخرصين الأفاكين المتقولين على هذه الأمة الأقاويل والظانين بها ظن السوء. ومعلوم أن هذه الأمة كانت بين عاملين: عامل على تجريدها من دنياها فهو يجهد في التجريد ويتمنى المزيد، وعامل على تجريدها من دينها فهو يدأب في ذلك ما وسعه الدأب ويكيد ما وسعه الكيد. ثم يلتقي العاملان في نقطة واحدة وهي القضاء على هذه الأمة، حتى إذا تم للعاملين ما أرادا وظن كل منهما أن الغاية تحققت، (جاء المؤتمر الإسلامي الجزائري) يقول للأول:

_ * جريدة "البصائر"، السنة الثانية، العدد 67، الجمعة 3 ربيع الأول 1356هـ / 14 ماي 1937م.

حسبك! لا قيصر بعد اليوم، إن ما تم في النوم لا يتم في اليقظة، وما أمكن مع الافتراق لا يمكن مع الاجتماع، فتعالَ نتقاسم الحظوظ في الحياة! ثم لا حرج إذا طالبتني بمقاسمة الحظوظ في الممات، فاعرض كلمتي على الحق تجده تفسيرها، وعلى العدل تجده مدلولها، وعلى قائمة الاخوة والمساواة والحرية تجدها شواهد لها! ويقول للثاني: كذبك الظن، إن الإسلام كامن في هذه النفوس كمون النار في الحجر، وقد قدح المؤتمر زنده فأورى، إن في نفس هذه الأمة قبسًا من الحياة يشع منه نورها، فإذا هي مهدية، وتنقدح منه نارها فإذا هي قوية، وإن هذا القبس لا يخبو ما دام الإسلام والعربية. ... ولد المؤتمر الإسلامي الجزائري كامل البنية لا نقص فيه- إلّا في العرضيات، وان زعم الجاهلون أنه ينطوي على نقائص فما ذلك إلّا لنقص في عقولهم أو مرض في نفوسهم، وبدت عليه مخايل القوّة من يوم تأسيسه فلهجت به الألسن وأصبح اسمه لازمة الحديث في المسألة الجزائرية، فأيده المؤيدون من غير الأمة على مقدار اعتقادهم في نفعه واعانته لهم على إقامة العدل، وقاومه المعارضون على مقدار اعتقادهم في مضادته لمصالحهم، أما الأمة- وهي صاحبة الكلمة فيه- فقد تعاهدته بما يجب من رعاية فحفظت ذكره وحاطته بما يضمن بقاءه من نظم وتأسيسات، وان لقيت في سبيل ذلك- حتى من أبنائها- ما لا يحصى من المشاكسات والمعاكسات، وواجبها في هذا المقام أن المؤتمر هو كنزها الثمين، فلتشد عليه يد الضنين. لا نفيض في تاريخ المؤتمر فإن ذلك ما ستتدفق به ألسنة الخطباء في المؤتمر الثاني القريب، وإنما نقص خلاصة ما قررته لجنة "66" للمؤتمر في اجتماعها الخطير الذي عقدته بنادي الترقي يوم 9 ماي الجاري. اجتمعت لجنة "66" للمؤتمر الإسلامي الجزائري يوم الأحد تاسع شهر ماي الجاري على الساعة التاسعة صباحًا بنادي الترقي برئاسة الدكتور (البشير عبد الوهاب) وحضر الاجتماع أغلب الأعضاء من جهات القطر المختلفة، وبعد تلاوة برقيات المعتذرين بسط الرئيس الحالة الأدبية للجنة التنفيذية للمؤتمر وقفى على أثره الكاتب العام ببيانٍ وافٍ وشرح للحالة الأدبية ثم قفى عليهما أمين المال ببيان للحالة المالية. ثم طرحت مسألة الاستعداد للمؤتمر الثاني فقسمته اللجنة إلى نقط مترتبة لتتفاوض في كل نقطة على حدة، فكانت النقطة الأولى تاريخ انعقاده.

أصر فريق من الأعضاء على لزوم انعقاده في سابع جوان إحياء لذكرى المؤتمر الأول، وإبقاء لمعناه التاريخي الرابع وهذا شيء لا يخالف فيه أحد، ولكن عرض رأي آخر له وجاهته وتقديره وهو أن سابع جوان بل شهر جوان كله وقت أنهماك طائفة عظيمة من الأمة في أشغال فلاحية أو تعليمية، فالمحافظة على اليوم المعين تؤدي قطعًا إلى حرمانهم من شهود المؤتمر وحرمان المؤتمر من تأييدهم. فوقع إجماع اللجنة على تعيين يوم الأحد الأول من شهر جويلية القابل تاريخًا للمؤتمر الثاني وعلى لزوم إحياء ذكرى سابع جوان بجعله عيدًا للأمة. ولتحقيق ذلك قررت اللجنة لزوم احتفال جميع لجان المؤتمر الفرعية والمركزية والعَمَالية في ذلك اليوم باجتماعات عامة تحضرها طبقات الأمة،- ولزوم إرسال برقيات للحكومة من جميع اللجان تتضمن المطالبة والالحاح في تنجيز المطالب، ويكون إرسال البرقيات كلها في ساعة واحدة وهي الساعة السادسة من مساء الإثنين سابع جوان. ثم تفاوضت اللجنة في الترتيبات اللازمة لانعقاد المؤتمر الثاني فأقرت ما يلزم من التحضيرات والوسائل، لأن إعداد المؤتمر من خصائص اللجنة التنفيذية، ووقفت عند حدود نص اللائحة الداخلية التي كانت وضعتها لجنة "66" في أول سنة المؤتمر الماضية ونص المادة: "إن المؤتمر يتكون من الأعضاء المفوضين الذين ترسلهم اللجان الفرعية والمركزية بشهادات رسمية بشرط أن لا يمثل اللجنة الفرعية أكثر من ثلاثة أعضاء، ولا يمثل اللجنة المركزية أكثر من ستة أعضاء". وبناء على هذا فقد قررت اللجنة أن يجتمع الأعضاء المفوضون من اللجان يوم السبت السابق ليوم الأحد الأول من جويلية، فينتخبوا المقررين للمسائل المختلفة ويوزعوا الأعمال ويعينوا الخطباء المختصين للمواضيع الجوهرية للمؤتمر. ويوم الأحد يكون الاجتماع العام الذي تحضره طبقات الأمة كلها، ويوم الإثنين يجتمع الأعضاء المفوضون للأعمال اللازمة. فأيام المؤتمر المقررة هي ثلاثة أيام. أما تفاصيل هذه القرارات وتعيين مواقيت الساعات بالضبط وتعيين أماكن الاجتماع فإنها من خصائص مكتب اللجنة وستعلنها الكتابة العامة للأمة عن قريب. ... نحن إنما نريد بهذه الخلاصة الموجزة أن نزف البشرى للأمة الجزائرية بقرب انعقاد المؤتمر الإسلامي الجزائري، وأن نلفت نظرها إلى لزوم الالتفاف حوله وإزالة كل ما يقف في طريقه أو يصد عن سبيله.

إلى الطرقيين

إلى الطرقيين* بمناسبة رسالتهم الى جمعية العلماء ــــــــــــــــــــــــــــــ - 1 - في هذه الأيام التي تحركت فيها الأمة الجزائرية للمطالبة بحقوقها الدينية والسياسية وتقاربت آراؤها في تلك المطالب، وأوشكت أن تتّحد على المصلحة العامة. وفي هذا الوقت الذي رفعنا فيه الصوت بالدعوة إلى نبذ ما بقي في الأمة من الحزازات الحزبية والنزعات الطائفية، لتظهر في هذا الموقف الحرج بالمظهر الذي يرضي ربّها ويعزّ دينها ويحزن خصومها. وفي هذا الوقت الذي انتقلنا فيه من ميدان انتصر فيه الحق على الباطل، والعلم على الجهل، والسنّة على البدعة، والحقيقة على الخرافة، والدليل على الشبهة، إلى ميدان آخر من ميادين الحياة أعددنا له العدّة التي كانت مفقودة، ووجّهنا له الأمّة التي كانت بحبال الطرقية مشدودة، ورجونا أن ينتصر فيه العدل على الجور، والمساواة على الأنانية والأثرة، ويعتز فيه الشرف الإسلامي القومي بجميع مقوّماته. وفي هذا الوقت الذي فرغنا فيه من حرب الطرقية وأضاليلها، وأرحنا الألسنة والأقلام من بيان آثارها السيئة في المسلمين، وقتلها لمشاعرهم، وتفريقها لكلمتهم، وتفريغها لجيوبهم، وانتهاكها لأعراضهم، وقضائها على الأخلاق الصالحة في نفوسهم، وتمكينها فيهم للعبودية لغير الله والذلّ لغير الله والخوف من غير الله. وفي هذا الوقت الذي شعر فيه المسلمون بتقوّض الهيكل الطرقي وتداعي أركانه للسقوط، وشعرت فيه جمهرة المسلمين بلزوم الاعتصام بحبل الله المتين وهو القرآن،

_ * جريدة "البصائر"، العددان 80 و 81، السنة الثانية، 3 و 17 سبتمبر 1937، (بدون إمضاء) وقد عثرنا على مسودة المقال بخط الإمام.

والرجوع إلى هديه والتحاكم إليه وإلى سنّة مَن نزل على قلبه، وبلزوم إحياء الأخوة الإسلامية الواسعة الجامعة وطرح الأخوة الطرقية الضيقة المفرّقة. وفي هذا الوقت الممتاز بهذه الخصائص في تاريخ الجزائر الحديث، تظهر فيه هذه الطرقية الخاطئة بمظهر غريب يتنافى مع موقف الأمة الحاضر، وإن لم يكن غريبًا من طبع الطرقية وأخلاقها من يوم ابتلي بها العالم الإسلامي إلى الآن. وقد مهّدوا لهذا المظهر المريب بدعوى طويلة عريضة والانتصار للعلم والحرص على نشره وقد كانوا بالأمس أعدى عدوّ له، وبدعوى أطول منها وأعرض في السعي لتوحيد الأمة، وقد كانت طرقهم هي السبب في تفريقها وتمزيقها، وبدعوى أعرق منهما في باب البهت والزور وهي أن الحركة الإصلاحية الدينية هي التي فرّقت كلمة الأمة الجزائرية. تجلّى هذا المظهر الجديد بالأمس في اجتماع الطرقيين الذي سمّوه كذبا "المؤتمر الديني العام"، وما هو في الواقع إلّا زردة من زردهم المعتادة دفعهم إليه الحنين إلى الزرد، فإذا هو هي لم ينقصه إلّا الطبول والمزامير، ولم يزد فيه إلّا أنهم خطبوا فيه وكتبوا عنه وسمّوه بغير اسمه. ثمّ تجلىّ هذا المظهر في جمعيتهم التي سمّوها "جامعة اتحاد الطرق الصوفية" وغمروها بكثير من الدعايات الكاذبة على طرائقهم المعروفة. ... كل العقلاء يعلمون ويعتقدون أن هذه الألفاظ التي يكسون بها هذا المظهر الجديد ألفاظ لا حقيقة لها، لأن معانيها ليست طبيعية فيهم فمتى كانت الطرقية ناصرة للعلم وهي تعلم أن لا وجود لها مع وجوده؟ ومتى كانت الطرقية سببًا من أسباب الاجتماع على الخير العام؟ ومتى كانت من طبيعتها الأصلية أن توحّد الناس بالمعنى الاصطلاحي للاتحاد؟ نعم: إنها توحّد معتنقيها في شيء واحد، في غايتها التي هي شرّ شرورها وهو هذا الاستسلام المطلق الذي تبتليهم به، وهذا البله المستحكم الذي أنساهم خالقهم وحقائق دينهم وتاريخهم وأذهلهم عن أنفسهم، وانتزع منهم أخلاق الرجال وعزائم الرجال، وصيّرهم آلة مُسخَّرَة في يد الشيخ وأبناء الشيخ والمقرّبين من الشيخ، ثم صيّرهم آلةً في يد كل ظالم للأمة ومعتدٍ على صفوفها، ثم مطيةً لكل راكبة، ثم حجّة على انحطاط المسلمين، ثم حجّة على الإسلام نفسه. وكل العقلاء يعلمون أنه إذا كان هذا الاندفاع الجديد من الطرقيين ليس من طبيعة الطرقية، فهو واقع- لا محالة- بدوافع خارجية، بعضها من زعماء الطرق الذين نضبت

موارد رزقهم منها، فهم يحاولون استدرار الرزق، وبعضها من المتحكّمين في هذه الأمة الذين أحسّوا بتقلّص ظلّ استبدادهم فهم يحاولون لها استمرار الرزق، ويعلمون بذلك أن الغاية المرجوة لهؤلاء الدافعين والمدفوعين هي التشويش على العاملين لخير هذه الأمة، وإلقاء الأحجار في طريقهم، وإشغالهم بهذه المظاهر الباطلة عن الحق الذي يعملون له، وإبعاد من يقع في حبالة كيدهم من العامة عن حظيرة الاتحاد الحقيقي. ولو كان لهؤلاء المدفوعين بقية عقل يوجه إليها الخطاب، وبصيرة تنفذ إلى عواقب الأمور، وصلة بالأمة تحملهم على الشفقة عنها- لما أقدموا على الظهور بهذا المظهر الجديد، ولَتعلّموا أن اليد التي حركتْهم إنما حركتهم لتصفع بهم الأمة الإسلامية، وأنها إنما حركتهم لتسكن بهم الحركة المنبثة في الأمة الإسلامية، وأنها إنما أيقظتهم لتوقظ بهم فتنة في الأمة، ولتحدث بهم خللًا في صفوف الأمة وشللًا في الأعضاء العاملة للأمة- ولكن القوم لا يعقلون، وهيهات أن يعملوا لكرامة الأمة وإعزازها، وهم بشهادة التاريخ والواقع الساعون في إذلالها، أو يسعوا في إنقاذها من الظلم وهم كانوا ولا زالوا أظلم الناس لها، استعبدوا أرواحها ثم عبَّدوا أبدانها للغير وأَكَلَةِ مَالِهَا باسم الدين، ثم أسلموها للمعتدين. ولقد تفرسنا فيهم فصحَّت الفراسة، وبلَوْناهم فصدق الابتلاء، وجرَّبْناهم فكشفت التجربة على أنهم لا يعرفون الأمة إلا في مواقف الاستعباد وابتزاز الأموال، فإذا مَسَّها الضر وتنكَّر لها الدهر تنكَّروا لها وتجاهَلُوها، وإن علاقتهم بالأمة علاقة السيد بعبده والمالك لمملوكه لا علاقة المسلم بأخيه المسلم، يحب له ما يحب لنفسه، وأنهم مطايا الاستعمار الذُّلُل وأيديه الباطشة؛ بل القنطرة التي هوَّنت عليه العبور، وانهم كانوا ولا زالوا على خلاف ما وصف الله به عباده المؤمنين أعزة على الأمة أذلة على المستعمرين والحكام المستبدين، وأن ليس في صحائفهم السوداء موقف يعز الإسلام أو يرفع المسلمين. وهذا تاريخهم الماضي الملحود، وتاريخهم الحاضر المشهود يسجلان عليهم أنهم أعوان على هذه الأمة للدهر، وحلفاء عليها للفقر، وإِلْبٌ على دينها مع التبشير بالكفر، وانهم هم الذين أَمَاتُوا رهبة الإسلام ونخوة الإسلام بخضوعهم واستسْلامهم، كما أمَاتُوا حقائقه بأساطيرهم وأوهامهم، وأنهم مردوا على الملق والمداهنة المزرية بشرف الإسلام في المواقف التي تسمو عن المجاملة وتقتضي نهاية الصدق في المعاملة. ولئن شِئْنا لنفضحنهم فضيحة يَسِمُهُم عارها إلى يوم القيامة، ويَصِمُهم بأنهم ليسوا من الأمة ولا كرامة، وتكون خاتمة الحجج الناطقة باستسلامهم واحتقارهم لأنفسهم ولإسلامهم، فقد وقعت بأيدينا من زمن قريب نسخة مخطوطة من القانون الأساسي لجمعية الطرق الدينية بقسنطينة مطبوعة بختم الجمعية وممضاة بإمضاء كاتبها العام فعجبنا أولًا لعدم طبع القانون كما هو شأن الجمعيات، ثم تَلَمَّسْنا السر في مواده فإذا في بعضها ما نصه: إن

ـ[مخطوطة]ـ

عامل العمالة (1) هو الرئيس الشرفي للجمعية، وإن كل متصرف إداري يكون هو الرئيس الشرفي للشعبة التي تتأسس- في دائرته، فحينئذ علمنا السر في عدم طبع القانون وانه خشية الافتضاح عند الأمة التي أصبحت تحس وتميز وتدرك، وعلمنا السر في هذا الاندفاع الأخير ... وفرضنا مع ذلك أنهم لو كتبوا هذا القانون قبل أعوام لافتخروا جهارًا بما فيه من خزي وألزموا الأمة بما فيه إلزامًا، وحمدنا للحوادث أن أوقفتهم هذا الموقف المزري حتى أصبحوا يتسترون بما كانوا به يفتخرون. وسنستدرك ما قصروا فيه من طبع القانون بنشره على الأمة. ويا ويحهم .. أفي الوقت الذي يعترف فيه أشد الحكام استبدادًا بأنه لا مدخل له في الدينيات، وفي الوقت الذي نجاهد فيه لانتزاع مساجدنا وجمعياتنا الدينية من أنياب السلطة، وفي الوقت الذي نسمع فيه من رجال فرنسا المسؤولين: إن تدخل الحاكم غير المسلم في أي شيء ديني إسلامي- وإن لم يمنعه القانون- هو عارٌ وأمر قبيح، لا يجمل بحاكم ذي همة أن يرضى به، في هذا الوقت يعمدون عن طوع واختيار إلى إسناد رئاسة الشرف عن جمعيتهم المنسوية إلى الدين إلى الحكام الإداريين .. لو لم يكن في الأمر ما فيه ... ... نكتب هذا والأسف يملأ جوانحنا على أَنْ عُدْنا للكتابة في موضوع فرغنا منه بحثًا وتحليلًا، وفارقناه على أن لا نعود إليه حصرًا للجهود وانتقالًا إلى ما هو أعم فائدة. ولكن القوم- بعد سكوت عميق، وبعد خيبة شاملة في مُنَاوأتهم للحق الذي ندعو إليه- عادوا للتحكك بنا بالباطل والتهجم علينا بالكذب وراجعوا شنشنتهم القديمة في التدجيل والتضليل، وادعاء العلم وهم ليسوا من أهله، والظهور بنصر الدين وهم أول القائمين بخذله، والهتاف باتحاد الشعب الجزائري وهم القاطعون لأصله المنقطعون عن فصله. قرأنا منذ أيام في الجرائد الافرنسية بمدينة الجزائر إعلانًا من جامعة اتحاد الزوايا عن اجتماع لهم عقدوه، وزعموا في التنويه به المزاعم- وهذا لا يهمنا- وأنهم دعوا جمعية العلماء للحضور فيه بقصد المناظرة في مسائل الخلاف بينهم وبينها فأحجمت عن الحضور - وهذا محل الشاهد-. نترك المناظرة ومسائل الخلاف للفصل الآتي، ونقول في أصل دعوتنا إلى الاجتماع معهم: إنها كذب وبهتان، وإنها لم تقع، ولم تبلغنا بوجه من وجوه التبليغ، لا مَعَ رسول ولا برسالة،

_ 1) أي المُحافِظ أو الوالي.

وقد نشرنا تكذيبًا لهذه الفرية في تلك الجرائد باسم مراقب جمعيتنا العام، ونحن نتحقق انه لا دعوة ولا مناظرة، بل ولا اجتماع بالمعنى المعروف للجمعيات، ولا ذلك العديد الأوفر الذي زعموه من الحاضرين، وإنما الغاية هي ما أسلفناه، ولكنها كانت مكيدة مفضوحة. ثم قرأنا في جريدة النجاح تفصيلًا أو تعريبًا لما أذاعوه في الجرائد الفرنسية، وفيه وصفنا بالجماعة الوهابية، فلم نزدد من العلم إلا أن هيفاء عادت إلى أديانها ولم نبال بهذا ولم نستغرب الكذب مِمَّن رأس ماله الكذب. هذا فصل أول، وأما الفصل الثاني فهو أننا تلقينا صبيحة يوم الاثنين الماضي رسالة مضمونة متتوجة باسم جامعة اتحاد الطرق الصوفية، ومنتعلة باسم كاتبها العام. وبين التاج والنعل سطور جميلة الخط (قريبة الأسلوب في أساليب التوثيق من المحاكم) ولكن تحتها من المعاني ما يضحك الثكل، ففيها بعد البَسْمَلة بالقلم العريض: تعالوا إلى المناظرة. وفيها بعد اسم رئيس جمعية العلماء والسلام عليه ورحمة الله ما نصه بالحرف: "أما بعد، فإنكم تعلمون علم اليقين أن ما فكك الأمة المسلمة الجزائرية ومزق وحدتها حتى صارت متنافرة متخالفة بعد أن كانت متقاربة متألفة هو ما أدخلتموه عليها من التشكيك في أمر دينها اعتقادًا وعملًا، وأفتيتموها في كل مسألة خلافية بما يعد خروجًا عن دائرة الحق والإنصاف وولُوجًا في ورطة الشذوذ والاعتساف، ولطالما انتظرنا رجوعكم إلى الجادة، ولكن ذهب انتظارنا سدى. وبناءً على هذا فإننا ندعوكم باسم الدين إلى "المناظر" في المسائل الآتي ذكرها، ونرجوكم أن لا تتخلفوا كما تخلفتم في المرة الأولى عن موعد المناظرة، ولكم الشكر". هذا نص الديباجة، وبعدها سرد المسائل، وهي إحدى عشرة مسألة وسنشرحها، وبعدها شروط المناظرة التي غفلوا عنها في الدعوة الأولى المكذوبة.

- 2 -

- 2 - الدعوة إلى المناظرة: بقطع النظر عن هذه الدعوة التي هي من فروع المظهر الجديد، وبصرف النظر عن الداعي إليها والغاية منها وقد فهمها القارئ من عموم الكلام السابق، وبصرف النظر عن هذه الجرأة التي لم نعهدها في الطرقيين ومأجوريهم، وبصرف النظر عن المسائل التي سموها مسائل خلاف، (وسنجيب عنها ونفصل القول فيها للأمة لا لهم)؛ بصرف النظر عن هذا كله نقول: إن المناظرة في الشيء تستدعي نظيرين، أي مثيلين في المعنى الذي يتناظران فيه، والمناظرة المطلوبة هنا في مسائل علمية دينية لَابَسَها تاريخ المسلمين الطويل، وداخلتها عوائدهم واجتماعياتهم وأثر فيها هذا وذاك. وإذا كنا نحن الطرف الأول في هذه القضية، ونحن علماء نقول في الدين بِدَلِيلهِ المعتبر، ونتكلم في التاريخ بعلله وأسبابه، ونقول في العادات بمناشئها وآثارها، ونرجع كل شيء إلى أصله، ونرد كل حادثة إلى سببها، ونربط بين الدليل ومدلوله والعلة ومعلولها، فإن الطرقيين بالطبع هم الطرف الثاني، وهل بلغ الطرقيون أن يكونوا نظراءنا بالعلم والدين والتاريخ والاجتماع؟ نحن نعرفهم حق المعرفة، ونعرف أنهم جهلاء ويفخرون بالجهل، وأنصاف أميين ويتباهون بالأمية، إذ ليس العلم ولا القراءة شرطًا في طرقهم ولا في مشيختهم، ونعرف أنهم لا يملكون من أسلحة هذا الميدان إلا العناد والإصرار على الباطل. ولو كانوا علماء لما بلغ النزاع بيننا وبينهم إلى هذا الحد، ولرَجَوْنا- إن لم يزَعْهم الدين- أن يزَعَهم العلم.

ولقد نعلم أنهم لا يجهلون هذا من أنفسهم، ولا يبلغ بهم الغرور أن يناظروا علماء من الطراز الذي تحتوي عليه جمعية العلماء، وإنما يعتمدون في هذه المناظرة على موجودات آلية يسمونها علماء عوَّدوها أن تنطق باسمهم وتسبح بحمدهم وتحامي عنهم بالباطل. ونحن لا نعترف بالعلم لهذا الصنف المتهافت على أبواب الزوايا المتعيش من فضلاتها، ويأبى لنا شرف العلم أن يكون هؤلاء المسلوبو الإرادة الفاقدو الاستقلال في العلم نظراءنا في المناظرة، لأننا بلَوْنَاهم في العمل فوجَدناهم جبناء، وبلَوْنَاهُم في العلم فوجَدناهم يحكمون الهوى ولا يحكّمون الدليل، وبلَوْناهم في الكتابة فوجَدْنا أَمْثَلَهم يسمي البدع المنكرة عوائد دينية .. أَمَعَ هؤلاء تكون المناظرة؟ لا، وشرف العلم. فقد تحقق أن هذه المناظرة التي دعوا إليها ساقطة سقوط شرطها الأساسي مِن قِبَلهم وهو النظير. أَلا إنهم من إِفْكِهم ليتداهون ويختلون بهذه الدعوة إلى المناطرة، لنُجِيبَهم فنعترف لهم بالكفاءة، أو نسكت عنهم فيقولوا عنا: أَحْجَموا وخافوا، أو نُجيبَهم بالحقيقة (كما فعلنا) فيقولوا: إن جمعية العلماء تحتقر العلماء ويتباكون ويشنعون. ولا والله ما شيء من هذه اللوازم بصحيح وما كنا لنَزنَهم بغير الميزان الذي وضعوا أنفسهم فيه، وما كنا لنُصِمَّ آذاننا عن دعوة حق تُوجَّه إلينا، وإننا لننقاد إلى الحق بشعرة، وماكنا لِنَكِعَ عن النزال، لو كان في الميدان أبطال، وما كنا لنحتقر العلماء المشرفين للعلم المنقادين به إلى الحق، وأما العلماء الأذناب والعلماء الذيول والعلماء الذين يؤثرون الخَلْقَ على الحق فهيهات أن نقيم لهم وزنًا. ثم ما لهؤلاء القوم يؤكدون في رسالتهم إلينا الكذبة التي افتجروها وهي أنهم دعونا إلى المناظرة في المراض البلدي (1) فتأخرنا؛ ثم يجيئون في آخر رسالتهم بشروط للمناظرة منها أن تكون تحت إشراف لجنة من أساطين العلم والدين والفتيا، ومنها أن تكون تحت إشراف الحكومة لحفظ الأمن .. ! ومنها أن تكون في مكان بعيد عن الصخب والشغب ... تعالى الحق: أين كانت هذه الشروط يوم دعونا- بزعمهم- للمناظرة؟ وهل كانت متوفرة كلها؟ أم بدا لهم من فضيحة الكذبة ما لم يكونوا يحتسبون؟ أيتها الأمة: إننا مع هؤلاء القوم على النحو الذي قال فيه الشاعر: بنو دارمٍ أكفاؤهم آل مسمع … وتنكح في أكفائها الحبطات

_ 1) أي الملعب البلدي.

وإن لنا في الدعوة الإصلاحية سلفًا صالحًا يبتدئ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينتهي إلا بقيام الساعة، وإنَّ لهم في بدعهم وضلالاتهم سلفًا طالِحًا يبتدئ من الشيطان ولا ينتهي إلا بقيام الساعة، وإن بين سلفنا في الهداية وسلفهم في الضلال في القرون والأجيال نحوًا مما بيننا وبينهم اليوم؛ وإن العاقبة في كل قرن وكل جيل للحق، وإن في العلماء الذين بَجَّلُوهم تقليدًا وجهلًا، وينتسبون إليهم كذبًا ودجلًا مَنْ هو حجة عليهم بعمله لو كانوا يفقهون، ومن هو أنكى عليهم منّا في التشنيع والإنكار لو كانوا يقرأون، ولكنهم لا يفقهون ولا يقرأون. وإن علماء هذا العهد في الأقطار الإسلامية الأخرى فريقان، فريق يحمل على المبتدعة حملتنا وينتصر للحق انتصارنا، ويدعو المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وهدي السلف الصالح من أمته دعوتنا، وفريق ضعفت إرادته فاشترى المبتدعة ضميره ودينه ولسانه وقلمه، فأصبح ينصر أباطيلهم باسم العلم، ويزيّن أضاليلهم باسم الدين، ويدافع عنهم كما يدافع (المحامي) المأجور عن القاتل وهو يعلم يقينًا أنه قاتل. وإن من هذا الفريق الأخير من سمَتْ همّته إلى أسفل فانتحل الطريقة مع العلم، وجمع بين الزاوية والمدرسة، وزاوج بين الاتِّجار في السبح وبين التدريس، فأصبح بطريقة النحت اللغوي (طرعميًا) أو (طقعميًا). إن الخلاف بيننا وبين هؤلاء ليس في مسائل علمية محصورة يعدّونها في كل بلد بعدد ويكثرون حولها اللغط ليوهموا الأمة أن الخلاف علمي ... وما لهم وللعلم؟ إنهم ليسوا علماء حتى يغاروا للعلم أو يقولوا فيه أو يكونوا طرفًا من طرفي الخلاف في مسائله. وإنما الخلاف بيننا وبينهم في طرقهم وزواياهم وما يرتكبونه باسمها من المنكرات التي فرّقت كلمة المسلمين وجعلت الدين الواحد أديانا، فقلنا لهم ولا نزال نقول: (لا طرقية في الإسلام)، وأقمنا على ذلك الأدلة من الدين وتاريخه الأول والعقل ومقتضياته، فلماذا يرجعون بنا بعد هذا كله إلى العلم الذي هو بريء منهم وهم بُرآء منه؟ والكلمة الأخيرة التي يجب أن يسمعوها من هذا الفصل هي أنهم عوام، ووظيفة العامي الاستماع والاتّباع، فإن أرادوا التحلّي بفضيلة عرفان القدر والوقوف عند الحد فها هوذا الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد أظل زمانه وسيحضره علماء أفاضل من غير الجزائر؛ فليتفضّلوا بحضوره ليسمعوا كلمة الحق فصيحة داوية وليتبيّن حقيقتنا من كان يأخذنا منهم بالظنة ... ونؤكد لهم أن لنا من ديننا وقوة يقيننا ما يغنينا عن الالتجاء إلى الحكومة في حفظ الأمن ... فهل يستجيبون لهذا؟ وهلا يؤدبون كاتبهم الذي رمانا بما لا يشرّفنا ولا يشرّفهم من جعل المناظرة تحت إشراف الحكومة لحفظ الأمن؟

هذا في المناظرة وسنعود بعد قريب إلى مسائلهم. ... وبعد الدعوة إلى المناظرة يقول كاتب الرسالة: أما بعد، فإنكم تعلمون علم اليقين الخ ... ما سردناه سابقًا، (اسمحوا لي أن أوجّه الخطاب في هذه المرة فقط إلى حضرة الكاتب). نحن يا حضرة الكاتب نعلم علم اليقين ونتحقّق حق اليقين أن الذي فرّق الأمة ومزّق وحدتها حتى أصبحت متنافرة إلى آخر ما وصفتها به هي الطرق التي أنت أحد رعاياها أو الموظفين في مملكتها، لا بالآثار البعيدة غير المباشرة بل بأصولها التي بنيت عليها، وبشروطها الموثقة من شيوخها وبعهودها المأخوذة على أتباعها. أتتجاهل أن من العهود المؤكدة على المريد أن لا يدخل في طريقة أخرى ولو بعد موت شيخه (على المشهور)، وأن لا يدخل في زاوية أخرى ولا يصلّي فيها ولا يحضر مجالس ذكرها، وأن لا يعدّ أخًا له إلّا أهل طريقته، وأن يعتقد أن شيخه أكمل المشائخ وأن طريقته أفضل الطرق، وأن ما عدا شيخه مفضول أو مدع، وما عدا طريقته فباطل بحيث لو أردنا أن نحتجّ عليكم بكم لكانت النتيجة هكذا: كل طريقة في نظر الأخريات باطلة، فالكل باطل، وكل شيخ طريقة في نظر زملائه مدع أو محجوب أو كذاب فالكل كذلك بشهادة بعضهم على بعضهم، وهكذا ننتزع الدليل على بطلانكم من غير أن نخرج من العالم الطرقي. أتتجاهل أن من العهود في بعض طرقكم أن لا يصلي ذو الطريقة خلف ذي طريقة أخرى ولا يصهر إليه وأن لا يزور قبر مسلم إلا قبر شيخه وذوي طريقته إلى غير ذلك. أتتجاهل أن الأمة الجزائرية كانت متفرقة إلى فرق بعدد الطرق التي فيها على النحو الذي ذكرناه وكلها على الباطل، فجاءت جمعية العلماء فصيّرت الأمة فرقتين إحداهما على الحق؟ هذا ما تعلمه علم اليقين ويعلمه كل منصف لا ما ألزمتنا به من قولك إنكم تعلمون علم اليقين كذا .. ولعنة الله على من يعلم ما ذكرت ...

إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان

إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان - 1 - * الدعوة العامة إن أكبر دعامة تقوم عليها النهضة الجزائرية الحديثة، هي تأسيس المدارس الحرة بمال الأمة، وقد قامت (تلمسان) بقسطها من هذا الواجب فشيدت مدرسة (دار الحديث) على طراز ليس له نظير في القطر الجزائري كله. وستحتفل بفتحها في اليومين المذكورين (27 و 28 سبتمبر)، وسيكون الاحتفال عرسًا علميًّا تتجلّى فيه الأخوة الإسلامية والنخوة العربية. يحضر الاحتفال المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكل من يستطيع الحضور من أعضاء جمعية العلماء بعد الانتهاء من اجتماعها العام، وقد وجّهت الدعوة إلى كل من عرفنا عنوانه من وجهاء وأعيان القطر، ونرجو ممن لم تصله الدعوة أو لم نعرف عنوانه أن يعتبر هذه الدعوة المنشورة في البصائر، دعوة خاصة. ونرجو من جميعهم بكل تأكيد أن لا يقصروا في الحضور. تلمسان (محمد البشير الإبراهيمي)

_ * جريدة "البصائر"، السنة الثانية، العدد 81، الجمعة 12 رجب 1356هـ/ 17 سبتمبر 1937م.

- 2 -

- 2 - * دعوة المجلس الإداري لجمعية العلماء ... وبعده قام نائب الرئيس الأستاذ البشير الإبراهيمي وأخذ يحاضر الوافدين بحديثه الطريف الممتع وقد ابتدأ المحاضرة بقوله: أيها الإخوة الكرام، لقد حملني إخوانكم التلمسانيون أمانة يجب علي أن أبلغها إليكم وهي أنهم يسلّمون عليكم ويعاهدونكم على التفاني في خدمة الجمعية ونشر مبادئها، ويبشّرونكم بأنهم شيّدوا للإسلام والعربية معهدًا لم يكن له نظير في تاريخ الجزائر الحديث، كما أنهم يتشوّقون ويتشرّفون أن يكون فتح هذا المعهد لأوّل مرّة بيد علامة الجزائر وزعيم نهضتها الأستاذ عبد الحميد بن باديس، وهذا المعهد هو مدرسة «دار الحديث»، المسمّاة على دار الحديث الأشرفية التي أسّست منذ قرون في دمشق الشام، تلك المدرسة التاريخية التي تخرّج منها أئمة في العلم وفحول في الأدب، والتي كان من مدرّسيها الإمام الحافظ محي الدين النووي والإمام النظار تقي الدين السبكي. ثم ...

_ * "الشهاب"، السنة 13، العدد 8، أكتوبر 1937: من افتتاحية "الشهاب" المخصصة للمؤتمر السنوي العام لجمعية العلماء، عنوانها "في عيد النهضة الجزائرية الحديثة" بقلم فرحات الدراجي.

- 3 -

- 3 - * كلمة في «دار الحديث» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها السادات الأفاضل، أيها الآباء المكرّمون، أنا من نتاج هذه المدرسة يوم أن كانت اسمًا بلا مسمّى، ومن زرع هذا الحقل من قبل أن تتناوله يَدُ الإصلاح، وتعمل في فلاحته وفلاحة همّة الفلّاح، ومن بواكر الثمار لهذه الحديقة من قبل أن تتّسع أرجاؤها ويشاد بناؤها. فكل المراحل التي قطعتُها- وإن كانت قصيرة- فهي على هذه المدرسة محسوبة، وكل الآمال التي لي في العلم فهي إلى فضل هذه المدرسة منسوبة. وكيف لا أمتلئ زهوًا وإعجابًا وأملًا في الحياة وطموحًا إلى غاياتها بعد أن رأينا المدرسة التي تذوّقنا حلاوة العلم الصحيح فيها، وسرنا على نور الهداية الإسلامية تحت اسمها وسمعتها، رأيناها تترقّى في الوجود الحسي من أماكن مستعارة إلى بيوت بالإجارة، إلى مكان بسيط لا يليق بشرف العلم، ولا يتناسب مع قدر "تلمسان" وعظمتها التاريخية ومجدها الخالد، ولا بقيمة أستاذنا محي "تلمسان". تترقّى في مثل هذه المدّة القليلة إلى هذه القمّة العليا، وتظهر في هذا الشكل العجيب المدهش جامعةً بين الفن العربي البديع والشكل العصري الأنيق، وتبدو آيةً في الضخامة والجمال، والسعة والكمال. أيها الآباء المحترمون: إننا إذا قال الناس: إن الوقت وقت علم وإن العصر عصر تقدم، نقول لهم: إن ديننا دين العلم ودين التقدّم، فلسنا في هذا السبيل بين عصر وعصر، ولكننا

_ * مسوّدة كلمة أملاها الشيخ على نجله الأكبر محمد -وعمره آنذاك 13 سنة- الذي ألقى الكلمة.

بين خمول كنّا فيه وغفلة عن أوامر ديننا ونواهيه، وبين يقظة في ذلك الدين أذّن مؤذّنها، ووجد من يدعو إليها ويبيّنها، ولا غرابة في رجوع الشيء إلى أصله ولا في طلب صاحب الحق لحقّه، وإنما الغريب ما كنّا فيه من نوم عميق، وبُعدٍ عن العلم سحيق، وعماية تخبّطنا في ظلماتها أحقابًا، وخرافات ورثناها أعقابًا وأعقابًا. أيها الآباء المحترمون: إن هذه المدرسة هي الشاهد الذي لا يكذِب على صدق النهضة الإسلامية العلمية ونضوجها ووصولها إلى درجة الكمال التي يفرح لها العاملون، وييأس منها الظالمون. إن أثر ذلك يكون بلا شك نفعًا في تقديرنا لهذا الدين واعتبارنا لهذه اللغة، ونحن في هذا الطور لا نتأثّر إلّا بالمحسوسات، فلا نعرف مما تقولون لنا إلّا قولكم: هذا الإسلام وهذه مساجده، وهذا لسان العرب وهذه معاهده. فأمّا أن تقولوا لنا: هذا الإسلام ولا مسجد، وهذه علوم الإسلام ولا معهد، فاعذرونا إذا استهوتنا هذه المعاهد المشيّدة للألسنة الأجنبية، وتخطفتنا دعايات البشر من كل جانب. أيها الآباء: هذا هو السرّ في ضعف الدعاية الإسلامية في أبنائكم، وموت العاطفة العربية فيهم، ولو أن أجدادنا فعلوا مثل ما فعلتم لرأيتم منا غير ما رأيتم، ولعملنا نحن للأجيال القادمة أضعاف أضعاف ما عملتموه لنا، ولأعدنا نحن إلى الإسلام سيرته الأولى وإلى العربية شبابها الزاهر. أيها الآباء: قد تعوَّدْتُم أن تستهينوا في رغبات أبنائكم بكل عزيز، لأنهم أعزّ عليكم من كل عزيز، وتعوّدنا نحن أن نتقدّم إليكم بالرغبات التافهة، فاستهينوا في سبيل المدرسة بالمال العزيز في سبيل أبنائكم الأعزّة، واحمدوا الله على أن أصبحنا نتقدّم إليكم بالمطالب الجليلة والرغائب الكبيرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

- 4 -

- 4 - * تحيّة «دار الحديث» للشاعر محمد العيد أُحيّي بالرِّضى حَرَمًا يُزَارُ … ودارًا تُستظلُّ بها الدِّيارُ وروضًا مستجدَّ الغرس نضْرًا … أريضًا زَهْرُهُ الأدب النُّضار وميدانًا سترتبعُ المَهاري … بساحتِه وتستبق المِهار (1) وعينًا ما لمنْبعها مَغاضٌ … وأُفقًا ما لأَنْجُمِهِ مغار أُحيّي خيرَ مدرسةٍ بناها … خِيارٌ في معونتهم خيار "تلمسانُ" احْتَفَتْ بالعلم جارًا … وما كالعلم للبُلدان جار لقد لَبِسَتْ من الإصلاح تاجًا … يَحِقُّ به لأهليها الفَخار فكان له بها نَصْرٌ وفَتْحٌ … وكان له ذُيوعٌ واشْتهار لقد بُعِث (البشيرُ) لها بشيرًا (2) … بمجدٍ كالرِّكاز بها يُثار وفي (دارِ الحديث) له صوانٌ … بديعُ الصّنْع مصقولٌ مُنار به عَرَضَ (البشير) فنونَ علم … وآدابٍ ليَجْلُوها الصغار فَيَا (دارَ الحديثِ) عِمِي نهارًا … وعُمْرُكِ كلُّه أبدًا نهار ويا (دارَ الحديثِ) عليكِ تُلْقَى … مُهمَّاتٌ لنا ومُنًى كبار وفي (بَلَدِ الجِدار) (3) كنوزُ دين … وعلم لا يليق بها ادِّخار (تلمسانُ) ابْتغي أبدًا مَدارًا … فأُختُكِ في السماء لها مدار

_ * ديوان محمد العيد، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1967، [ص:79]. 1) المهاري: الجمال المنسوبة إلى مهرة بن حيدان من عرب اليمن وهي مشهورة بسرعتها، والمهار جمع مهر: ولدُ الفرس. 2) يريد الأستاذ الإمام محمد البشر الإبراهيمي الذي كان المؤسس لمدرسة (دار الحديث) والمشرف بنفسه على تشييدها. 3) هي مدينة تلمسان.

ضَعِي عن قرنكِ الضَّافي خِمارًا … فقرنُ الشمس ليس له خِمار (تلمسانُ) اكشِفي عن رائعاتٍ … من الآثار جَلَّلَها الغُبار وبُقْيا عبقرياتٍ غِزارٍ … نمتها عبقرَّياتٌ غِزار إلى (إدريس) (4) أو (زيان) (5) يومي … وُيومِضُ تحتها نورٌ ونارُ (تلمسان) احْفَظي ذكرَ ازدهارٍ … لمُلْكٍ فيكِ كان له ازْدِهار ففي هذا الثَّرَى الزَّاكي قديمًا … لنا ازدهرتْ حَضاراتٌ كِبار وفي هذا الثَّرَى الزَّاكي قديمًا … تَفَشَّى العدلُ وانْتَشَرَ اليَسار وفي هذا الثَّرَى الزَّاكي قديمًا … سما (مازيغُ) (6) واستعلى (نِزار) عليك تآخَيَا أدَبًا ودينًا … وحولَكَ ضَمَّ شَمْلَهما الجِوار هما حَمَيَا ذِمارَك بِالعوالي … قُرونًا فاحْتَمَى بهما الذِّمار وحاصَرَ تُرْكَكِ الإسبانَ حينًا … فعادَ عليكِ بالأمن الحِصار مضوا لم يتركُوا غير ادِّكارٍ … لَنَا في القلب لو يُجْدِي ادِّكار فقل لِبَنيهمُ ابْنُوا من جديدٍ … بناءً لا يُهدِّدُهُ انهِيار وصغْ لبني (تلمسانَ) التَّحايا … كطاقات يرِف بها العمار ووفِّ بني (تلمسان) اعتبارًا … وأدنَى ما جَزيت به اعتِبار لقد حَنَّت جوانحُنا إليهمْ … وسارت قَبْلَما سار القطار أتَيْناهُمْ ضُحًى ولهم حُبُورٌ … وإشرافٌ وشوقٌ وانتظار وسرنا بينهم جَنْبًا لجَنْبٍ … كمِثْل الزَّند يكْنُفُه السوار يُكَبِّر حولنا منهم جهارًا … رجالٌ كل دعْوتهم جهار ألم تَرَ صورةَ الأجْداد فيهمْ … عليها من ملامحهمْ إطار فَقِفْ تَرَ غَرْسَهُمْ يَنْمو بِدارًا … بدارٍ نحوَها اشتدَّ البِدار بها (دارُ الحديث) لها يُنَادي … وفيها (ابن الصَّلاح) له يُشار وليس ابن الصَّلاح سوى (بشير) … لنا انتشرتْ معارفُه الكثار حَمَى أكنافَها لله جُنْدٌ … وجُندُ الله ليس له انكسار وجاءتْها المواكبُ خاشعاتٍ … عليها الطُّهر يَبْدو والوقارُ

_ 4) اٍدريس الأصغر بن اٍدريس بن عبد الله مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب وقد كانت تلمسان ضمن المملكة الإدريسية في بعض الاْحيان. 5) زيان: جدّ ملوك تلمسان الزيانيين، وقد بقيت بقاياهم إلى ما بعد المائة العاشرة للهجرة وهم من بني عبد الواد، قبيلة من زناتة. 6) مازيغ: أحد الأجداد الذين يرجع إليهم معظم القبائل البربرية.

ومن وحي السماء لها دليلٌ … ومن وحي السماء لها مَنارُ ونحن بنو السّماء لها انسبُونا … فليس سِوى السماء لنا نِجار تَخذْنا الدينَ في الدنيا شعارًا … وما كالدِّين في الدنيا شِعار لنا للعلم تَثْويبٌ وحفْزٌ … وتنقيبٌ وكشف وابْتكار وفي (دارِ الحديثِ) رياضُ علْم … عليها نَضْرةٌ ولها اخْضرار بدت منها ثمارٌ طيِّباتٌ … شهيَّاتٌ فأَرْضَتْنا الثِّمار على طُلّابِها ومُعَلِّميها … من البَركاتِ دِيماتٌ ثِرار وطاب جنَابُها الحاني قرارًا … لهم ما طابَ في الخُلد القرار

تعطيل مدرسة «دار الحديث»

تعطيل مدرسة «دار الحديث» * تعوّدنا أن نكظم الغيظ إذا كربتنا الحوادث، وتعوّدنا أن نطوي النفوس على مكروهها إذا رمتنا الأيام بما لا صبر عليه، شنشنة من الصبر طبَعنا عليها دينُنا، وخُلُق من الرزانة هَدَتْنا إليه التجارب المتكررة، خصوصًا بعد أن أصبحنا نساوَم على الصبر، وأصبحنا نُرمى بالأحداث عن عمد، استفزازًا لعواطفنا، وتحريكًا لشواعرنا، واستدراجًا لنا إلى المعاطب إن غلبنا على الصبر فبدرت منا بادرة. وتعطيل مدرسة «دار الحديث» مسألة لا تهمّ جمعية العلماء وحدها بل تهمّ الأمة الجزائرية كلها، وتثير شعورها كلها إلّا فلولًا من المنهزمين في معارك الحقّ لا يقام لهم وزن ولا تعتبر لهم قيمة، فكان اللائق أن يذل في الصحف خبر التعطيل، وأن تدوي حوله صرخات الغضب، وقد بلونا هذه الأمة الوفية في هذه السنوات الأخيرة، فرأينا من آيات شعورها بوجودها أنها أصبحت تتأثر فرحًا بالأعمال التي تحقّق ذلك الوجود فتندفع في الطرب والابتهاج إلى الحدّ الذي يشبع ذلك الشعور، وتتأثر حزنًا لحدوث المعاكسات لتلك الأعمال فتندفع في الغضب والاحتجاج على مقدار ذلك الشعور. ومن المصائب "الاستثنائية" على هذه الأمة أن القوانين تفرض عليها أن تفرح بمقدار وأن تحزن بمقدار. وإنّ شرّ ما تبتلى به الأمم التحكّم في العقائد والتحكّم في الضمائر، وقد ابْتُلِيَت هذه الأمة بهذا الشر من جهة الجامدين الذين تحكّموا في عقائدها، ومن جهة المستبدّين الذين تحكّموا في ضمائرها، وهي الآن في دور اجتلاء بين شعورها بحقّها في الوجود، وبين هذه الحواجز والسدود، التي يُقيمها لها أهل الاستبْداد وأهل الجمود، والعاقبة للمتقين.

_ * جريدة "البصائر"، عدد 100، السنة الثالثة، 18 فيفري 1938 (بدون إمضاء).

وقد اجتمع الموجبان- موجب الفرح وموجب الحزن- حول «دار الحديث»، فتحناها في 27 سبتمبر الأخير، فاحتشدت في تلمسان عشرون ألفًا من أبناء هذه الأمة في حفلة ضاحكة مستبشرة يعلوها جلال العلم ووقار الدين وسكينة التقوى وروعة النظام، وتجمعها جامعة الابتهاج بأعظم معهد علمي ديني شُيّد بأموال الأمة في الجزائر الحديثة، وينطق ذلك كله بأنّ الأمة المتمثّلة في تلك الألوف قد شعرت بوجودها، وأنها مندفعة اندفاعًا نفسانيًا إلى إقامة البرهان على ذلك الوجود، بشهودها لذلك المشهد وظهورها بذلك المظهر كانها تقول لِمَن يتمارى حتى في القمر إذا اتسق: ها أناذه أفكّر بفكري، وأقدّر برأيي، وأعمل بيدي، وأنفق من مالي. ولكن القانون الذي يفرض عليها أن تفرح هونًا ما، رأى أنها جاوزت الحدّ وأسرفت في الفرح فسَكَتَ ثلاثة أشهر يحاول هضم هذا التعدّي منها فلم يستطع، ويحاول محاكمة كل مَن حضر فلم يستطع، وبعد لَأْيٍ ظهر له أن يحاكم المتسبّب في تلك الأفراح وهو منشئ «دار الحديث» الإبراهيمي، بدعوى أنّه كان سببًا في جمهرة أو تجمهر الناس بدون رخصة ... ودع حديث المحاكمة فله شأن آخر، وهات الحديث عن التعطيل. ... في أوّل جانفي وهو يوم التهادي والتواصل واجتماع القلوب على السرور عند الغربيين خرج قرار تعطيل «دار الحديث»، فجاء بدعة التحف في هدايا الموسم، وكان القرار مبهمًا غير مفسَّر الأسباب ولا مميَّز المقاصد، فسألنا رسميًا فقيل لنا إنّ التعطيل خاصّ بالتعليم الابتدائي وإن دروس الإبراهيمي لا تدخل في القرار ولا يشملها التعطيل، وتناقلت الأفواه الخبر وبدأت بوادر الغضب والاحتجاج الصارخ تبدو، ولو زاد الغضب والهيجان لكان بردًا على أفئدة لها في ذلك هوى ولها من ورائه مأرب، ولكننا سكتنا حتى تتجلّى الأسباب وتنجلي العماية، واقتصرنا على احتجاج جمعية العلماء بلسان مؤتمراتها العمالية. ولو تعجّلنا فأذعنا في الأمة خبر التعطيل، وأعطيناه ما يستحقّ من التحليل، وصبغناه بما يقتضيه الحادث من التهويل، لانفجر الغضب وتوالت الصرخات، وتدفّق سيل الاحتجاجات والمظاهرات، وإذًا لوقف القانون الذي يفرض على الأمة أن تغضب بمقدار في الطريق، وإذًا لَسِيقَ إلى المحاكمة والتحقيق، لا رجل واحد بل فريق، ولو قال قائل للحكومة: أخبريني، لقالت له: سلْ قرار "ريني"، ولو قال لها: اعذريني، لقالت: يأبى ذلك قرار "ريني". هذا بعض العذر في عدم استعجالنا بنشر الحادث وذيوله، وإنْ كنا نعلم أن الأمة متعطشة لذلك متلهّفة عليه، وأن الرأي العام ساخط على ذلك القرار متظلّم منه، وقد أوعزنا إلى بعض الصحف الفرنسية اللسان أن لا تتعجّل بنشر تفاصيل الحادث إلى حين، فعدّ ذلك

بعض قاصري النظر منا تقصيرًا، وعدّه بعضهم تهوينًا لحادث يستحقّ التهويل، وأشاع بعضهم أننا الْتجأنا إلى الاستجارة ببعض ذوي النفوذ عند الحكومة، وإن شيئا من ذلك كله لم يقع، فما عهدوا منا التقصير في حادث كهذا، ولا التهوين لما حقُّه التهويل، ولا الاستخذاء عند الصدمات، ولا الالتجاء إلى الشفاعات، وإنما يستخذي الجبان الوكل، وإنما يستجير المجرم المعتدي ... ونحن فقد تمرّسنا بالأحداث الفعلية والتهويلات القولية حتى لا نبالي أيها طار وأيها وقع. وإذا ضاع حقّ النفوس المتعطشة لمعرفة أسباب الحادث فما ضاع حقّ التاريخ الذي يقصّ الخبر، لاستجلاء العِبَر، ودَيْن التاريخ أحقّ أن يُقْضَى.

المولد النبوي

المولد النبوي* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها السادة، قرأت كثيرًا ممّا فاضت به قرائح الشعراء من القصائد المولدية التي يذكّرون بها المسلمين في نشأة دينهم، ويجدِّدون عهدهم فيها بميلاد نبيّهم، فوجدت كل أولائك الشعراء لا يخرجون عن دائرة تقليدية اتّبع فيها آخرهم أولّهم، وهي ذكر الخوارق التي صحبت مولده - صلى الله عليه وسلم -، ثم يتخلّصون إلى مدحه والتوسّل به وذكر شمائله وأوصافه الذاتية وقليلًا من أخلاقه النفسية، ممّا لا يثير في النفس حركة ولا يحملها على قدوة ولا يستفزّها إلى عمل، ثم يصفون ليلة الميلاد أوصافًا خيالية شعرية يزيّنونها بالمبالغة والإغراق كانهم- عفا الله عنهم- لا يدرون أنهم يُحيُون ذكريات عملية تنبني عليها أجيال مجهزة لمستقبل، وأن تلك الأجيال رهينة بما يصوّرون لها من تاريخ، ويخططون لها من أمثلة، ويضربون لها من أمثال، وإنما هم شعراء يقولون ما يلذّ في الأسماع لذّة منقطعة ويؤثّر في العواطف تأثيرًا محدودًا. وكنتُ قليل التأثّر بتلك المولديات لسلوكها مسلكًا واحدًا من الوصف والمدح والإكثار من الخوارق وحشر الغرائب- ما يُعقل منها وما لا يعقل- مع أن إثبات تلك الغرائب من طريق الإسناد والرواية ممّا لا مطمع فيه. وما زلتُ أستثقل تلك المبالغات من المرحلة الأولى من مراحل سني وإدراكي، ومما زلتُ أحسّ بأن في نفسي تشوفًا إلى شيء وراء تلك المبالغات، هو بيان سرّ عظمة هذه الليلة من بين الليالي، إذْ تملأ هذه العظمة نفسي ولا أتبيّن أسبابها وبواعثها حتى قرأتُ قول شوقي في مطلع قصيدته الهمزية:

_ كلمة أملاها الإمام على نجله الأكبر محمد طالب الإبراهيمي الذي ألقاها بدار الحديث (أفريل 1938)، وكان عمره 14 عامًا.

وُلِدَ الْهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِيَاءُ … وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ قرأتُ هذا البيت ووقفت عنده أتأمّله وأستجلي معانيه، فمَحا كل ما في نفسي من آثار تلك المبالغات، بل محا كل ما في ذاكرتي من جميع ما قرأته من القصائد المولدية، وكشف لي هذا البيت الواحد عن سرّ عظمة هذه الليلة وفضلها على الليالي. وإن من يحب أن يستجلي حقيقة هذه الليلة يجب عليه أن يستعرض تاريخًا كاملًا هو تاريخ البشرية قبل الإسلام بجميع أجناسها ولغاتها وعاداتها وأديانها وأنظمها في الحياة ومذاهبها في التفكير وموازين العقل عندها، فإذا هو فعل ذلك ووازن بين ذلك الطور الكامل وبين الطور الذي انتقلت إليه البشرية بعد الإسلام بسبب الإسلام، حينما زحف أبناء الجزيرة على الشرق والغرب يحملون هَدْيَ الإسلام وعدله وميزانه وأخلاقه وعقائده وفرقانه، ويعملون على نشرها بين الأمم وتثبيتها في النفوس، إذا هو فعل ذلك عرف- مثلما عرفتُ- سرّ عظمة هذه الليلة، وذكر - مثلما ذكرتُ- من الفروق بين ماضي البشرية قبل الإسلام وبين مستقبلها بعد الإسلام، وعرف أن القافلة الإنسانية ما زالت منذ آدم تتخبّط في ظلمات من الجهل والشرّ والفوضى، تسير فلا تسير إلّا إلى الهلاك، وتقيم فلا تقيم إلّا على الضيم، وطالما ارتفعت أصوات الحق في أطرافها من المرسلين والحكماء، فضاعت تلك الأصوات بين غوغاء الباطل، أعظلت أمراضها، وعجز أطبّاؤها، واستفحل الشرّ بين أفرادها، وتخاذل العقل أمام الوهْم، وتهافتت الحقائق أمام الشبَه، وطغت الحيوانية بما فيها من تكالب ونَهَم وغرائز سافلة، فجاء العدوان والظلم والتناحر والقتال والمطامع. فكانت على كل ذلك في أشدّ الحاجة إلى هادٍ يهديها إلى سبيل الحق وإلى حام يحميها من عدوان الباطل، وكان من قدر الله أن يكون ذلك الهادي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ودينه الإسلام، وكانت ليلة الميلاد بذلك غرّة في الليالي الدُّهم. أيها السادة، إن بيت شوقي يصوّر الحالة السائدة في العالم قبل الإسلام وأنها ضلال في ضلال وظلام في ظلام، وكذلك كانت هي، ويصوّر ولادته - صلى الله عليه وسلم - ولادة للهدى الماحي لذلك الضلال، فهي ليلة لم يولد فيها رجل، ولو كانت كذلك لما كان لها فضل على بقية الليالي، ولكنها ليلة وُلدَ فيها الهدى بأكمله والرحمة بأجمعها، وإن الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله لهو الهدى الكامل لبني آدم كلهم، والرحمة الشاملة لجميعهم، وإن العالم كله في ذلك الوقت كان متعطشًا ومتشوفًا إلى رحمة الله لما أعوزته الرحمة من أفراده، ولقد أصاب مطلوبه ونال مرغوبه في آية واحدة من القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}، وهي آية جامعة للجناحين اللذين يطير بهما الإنسان وهما الأمر والنهي، وما زالت سعادة الإنسان وشقاؤه معلّقين على ما يفعله وما يتركه،- فيسعد إذا فعل الخير، ويشقى إذا عكس القضية.

أيها السادة، حقيقةٌ ما يصوّره شوقي من ولادة الهدى ليلة ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يصوره من استنارة الكائنات، كأن الفجر طلع على الدنيا بنوره وإشراقه فمحا الظلم وأحيى الأمم وملأ الكون بهجة وبشاشة ورونقًا، وصحيحٌ ما تخيله شوقي من أن للزمان فمًا كان مطبقًا على مضض، ولسانًا كان مفحمًا بالشر ملجمًا بالباطل، فكانت ليلة ميلاده - صلى الله عليه وسلم - مصحوبة بالهدى والحق والنور، سببًا في تبسّم فم الزمان وافتراره وفي إطلاق لسانه بالثناء وانتشاره، ولقد كان الزمان عابسًا لما يقع من شرور بني آدم وضلالهم، فلا عجب أن يتهلّل ويستبشر حينما تمخضت إحدى لياليه عن ميلاد سيّد البشر الذي جاء بالهدى ودين الحق. ليس السرّ- أيها السادة- في أن مولودًا وُلِدَ، ولو في بيت رفيع العماد كبيت عبد المطلب، وهو مَن هو في بني هاشم، وهاشم هو مَن هو في قريش، وقريش سنام العرب وعمّار البطحاء وسدنة بيت إبراهيم. وكم من مولود وُلِد في تلك الليلة وفي أمثالها من الليالي، فما زانوها ولا زانتهم، ولا زادوا الوجود الذي أتوه شيئًا، ولا نقصوا العدم الذي فارقوه نقطة، ولا زادوا في سجل التاريخ حرفًا. إنما السرّ الذي يجب أن يتبيّنه السامعون الواعون هو أن هذه الليلة وُلد فيها الهدى الذي محق الضلال، ووُلد فيها الحق الذي محا الباطل، ووُلد فيها النور الذي نسخ الظلام، ووُلد فيها التوحيد الذي أمات الوثنية، ووُلدت فيها الحرية التي انتقمت من العبودية ووُلد فيها التساوي الذي قضى على الأثرة والأنانية، ووُلد فيها التآخي الذي أبطل البغي والعدوان، ووُلدت فيها الرحمة التي قضت على القسوة والجبروت وعلى البخل وآثاره، ووُلدت فيها الشجاعة التي تنصُر الحقيقة وتمهّد الطريقة، وبالإجمال وُلد فيها الإسلام وما أدراكم ما الإسلام. أيها السادة، هذه بعض الذكريات التي توحيها إلينا ليلة المولد النبوي، فتثير الهمم الرواكد، وتستفز العزائم الفاترة، وتصحّح ما اندثر من الحقائق والعقائد، أحْيُوا هذه الذكريات في نفوسكم ونفوس أبنائكم وبناتكم، تحيوا ويحيوا مسلمين صالحين مصلحين هادين إلى الحق مهديّين به. والسلام عليكم ورحمة الله.

ختم ابن باديس لتفسير القرآن

ختم ابن باديس لتفسير القرآن* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ------ 1 - تمهيد ------ أتم الله نعمته على القطر الجزائري بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لتفسير الكتاب الكريم درسًا على الطريقة السلفية. وكان إكماله إياه على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة متواليات مفخرة مدخرة لهذا القطر. وبشرى عامة لدعاة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي كله، تمسح عن نفوسهم الأسى والحزن لما عاق إمام المصلحين محمد عبده عن إتمامه درسًا، ولما عاق حواريه الإمام رشيد رضا عن إِتمامه كتابة. إن إكمال تفسير القرآن على تلك الطريقة في مدة تساوي- بعد حذف الفترات- المدة التي كمل الله نزوله فيها، يعد في نظر المتوسمين إيذانًا من الله برجوع دولة القرآن إلى الوجود، وتمكين سلطانه في الأرض، وطلوع شمسه من جديد، وظهور المعجزة المحمدية كرة أخرى في هذا الكون. ثم كان الاحتفال بختمه بمدينة قسنطينة في الثالث عشر من ربيع الثاني عام 1357 دليلًا على انسياق الأمّة الجزائرية المسلمة إلى القرآن واستجابتها لداعي القرآن واجتماع قلوبها على القرآن وشعورها بلزوم الرجوع إلى هداية القرآن، ولا معنى لذلك كله إلا أن إحياء القرآن على الطريقة السلفية إحياء للأمّة التي تدين به.

_ * "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد 14، جوان- جويلية 1938، [ص:153]، عدد خاص من "الشهاب" بمناسبة ختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لتفسير القرآن.

ثم جاءت حفلات التكريم للأستاذ المفسّر ولوفود القرآن، وما لقيته تلك الوفود من سكان الحاضرة القسنطينية من صدق الحفاوة وكرم اللقاء وبشاشة المظهر وتهلل الأسرة وإكرام المثوى وإغداق الضيافة، آية بالغة على أن القرآن فعل فعله في تلك النفوس فجمعها على التقوى وهداها لكريم الخلال وبسط شعاعه على جوانبها المظلمة، فتعارفت بعد التناكر وتآلفت بعد التخالف، ويوشك أن يأتي بعد هذا التعارف الخير الكثير. ولما كانت مجلة "الشهاب" هي لسان الحركة الإصلاحية التي قرّبت ما بين الأمّة وبين قرآنها من بعد، وأزالت ما بينهما من جفاء، كانت تلك المجلة حقيقة بأن تؤرّخ لهذا الموسم القرآني العظيم وتدوّن وصفه وما قيل فيه ليبقى تذكرة خالدة للأجيال المقبلة، وصفحة لامعة في تاريخ النهضة الدينية العلمية بالجزائر، وعلمًا هاديا لمؤرخيها والباحثين عن أطوارها من أبناء الغد. وهل يمنع من ذلك أن صاحب المجلة هو الأستاذ المفسّر، وأن معظم ما قيل في الاحتفال دائر على تقريظه والثناء عليه والتنويه بأعماله؟ قد كان بعض ذلك، وأبت للأستاذ همّته العلمية وإخلاصه العمل لله أن لا ينشر في "الشهاب" إلا ما هو من حقوق الدين والعلم والعربية دون ما هو من حظوظ النفس وتمجيد الشخص. ولكن إخوانه من رجال العلم والأدب الحريصين على تخليد هذا الاجتماع القرآني المنقطع النظير رغبوا منه أن يتنازل عن حقه من مجلة "الشهاب" هذه المرّة، وأقنعوه بأن كل كلمة قيلت في مدح شخصه والثناء عليه فهي مصروفة إلى أعماله، وإلى مبدإ الذي وقف حياته عليه وإلى النهضة التي كان- بحق- بانيها ومشيّد أركانها وإلى الأمّة التي أنفق عمره وقواه في سبيل نفعها وإحيائها. وبأن تسجيل هذه الصفحة الوضّاءة من صفحات الإصلاح، من الواجبات على "الشهاب" لتتصل خطواته في خدمة الإصلاح الديني وتسجيل أطواره، وتتناسق صحائفه المدونة لتاريخه وأخباره، فاقتنع- حفظه الله- وأذن في أن يكون هذا العدد من "الشهاب" خاصًا بالاحتفال وتوابعه. وطلب من رفيقه الوفي كاتب هذه السطور أن يكتب بقلمه كلمة في تصدير العدد، وكلمة في تصوير الاحتفال وتلخيصًا لما علق بذهنه من ألفاظ درس الختم ومعانيه ففعل بقدر ما وسعه وقته وحاله، وعسى أن نكون وُفّقنا لإرضاء المتعطّشين المترقبين الذين حبستهم الأعذار عن حضور الاحتفال. تلمسان ....................................... الإبراهيمي.

كلمة التصدير لهذا العدد

----------------- 2 - كلمة التصدير لهذا العدد* ----------------- سُئل بعض العلماء: أية آية تصلح أن تكون عنوانًا على القرآن كله بحيث إذا كُتبت على ظهر المصحف كانت تعريفًا كاملًا به، شاملًا لجميع المعاني الكلية التي يجدها المتصفح فيه كما تعرف الكتب الكبيرة بجمل قصيرة، فكان جواب هذا العالم: الآية التي تصلح لذلك هي قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. ولعمري، لقد وُفّق هذا العالم القرآني إلى الصواب فيما أجاب به. فالقرآن كتاب يحمل في ثنييه دين الله الكامل، وكل ما سبقه من الكتب والصحف فهي إرهاصات له وبشارات به وإشارات إليه. ابتعث به نبيه الأمين محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لهذا العالم الإنساني كله حين بلغ رشده الاجتماعي واستعد للكمال واستشرف لسائق من وراء العقل يكون سندًا له إذا زلّ، وهاديًا له إذا ضل، ومصححًا لخطإه إذا أخطأ، ومخرجًا له من ظلمات الحيرة إذا التبست عليه مناهج الحياة، ومفسحًا له في آماله إذا ضيقت عليه هذه الحياة المحدودة حدود الآمال، ومحررًا له من أصناف العبودية الفكرية والبدنية التي تقلب فيها قرونًا، ومرشدًا إياه إلى وسائل الكمال التي كان يطلبها فلا يجدها. والآية الكريمة التي جعلها جوابًا لسائله بيان إلهي معجز للحكم التي اقتضت نزول القرآن والحكم التي نزل لبيانها القرآن والمثل العليا للكمال الإنساني الذي دعا إليه القرآن متدرجة في وضعها البياني تدرجها الطبيعي من نفس سامعها، بلاغ فإنذار، فعلم، فتذكّر. وأمثال هذا العالم من ربانيّ هذه الأمّة ممن درسوا القرآن وتدبروه ومارسوه وراضوا أنفسهم على بيانه، واستنبطوا منه الحكم التي أنزل لتحقيقها والعلوم التي جاء لتجليتها على الناس، يكون من خصائصهم هذه الملكة، ملكة استعراض القرآن في مثل ارتداد الطرف كلما تحرك لهم وجدان وأرادوا أن يزنوه، أو نجم في آفاق نفوسهم خاطر وأرادوا أن يصححوه، أو ألقي عليهم سؤال وأرادوا أن يجيبوا عليه. وما ظن بصاحبنا هذا أنه راعى القانون الاصطلاحي الجدلي في انطباق الجواب على السؤال، وإنما هي هيمنة القرآن على نفوس أصحابه، وإلهامها الإصابة في الرأي والتسديد في الجواب والفيح في الخصومة.

_ * "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:156].

فالسائل يطلب آية جامعة (لوظائف) القرآن، لا جرم أن أول ما يخطر ببال المجيب أمثال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ .. } الآية. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ .. } الآية. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وغيرها من الآيات المبيّنة لأصول الدعوة القرآنية. ثم يلتمس راية تجمع هذه الأصول مع التنويه بهذا الكتاب الجامع لها، فيقع على تلك الآية أو ما شاكلها والآيات الجامعة (لوظائف) القرآن كثيرة، ومن السهل السريع الوقوع عليها عند هذه الطائفة التي أوتيت قوة الاستعراض. وقد يسأل عالم آخر فيقع على قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أو قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}. والكل مصيب رضي القانون الجدلي أم سخط. وإن كان هناك تفاوت بين الآيات في الإحاطة والبيان، فلكل جملة تزيد في آية موقع ودلالة، ولكل كلمة تزيد في جملة معنى وحالة. أما أنا- ولا أعوذ بالله من كلمة أنا- فلو أُلقي علي هذا السؤال لتمردت على قوانين الجدال وأجبت على المغافصة والارتجال، ولم أرع إلا الاعتبار المناسب ومقتضى الحال. وجررت السائل (عن وظائف) القرآن إلى (وظائف) أهل القرآن مع القرآن، وقلت للسائل ضع على ظهر المصحف بالقلم العريض قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} واجعل جملتي {فَاتَّبِعُوهُ} و {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} بين أقواس علّ هذه الأقواس المحنية تصيب من قارئه شاكلة انتباه فتزعجه إلى معرفة أن هاتين الآيتين هما جواز الداخل إلى أقطار القرآن، وعل هذه القلوب القاسية تستشعر حق القرآن عليها ووظيفتها التي يجب أن تقوم بها نحوه، وهي التدبر لمعانيه واتباعه. إن حقوق القرآن علينا من التدبر والاتباع، هي التي يعروها ما يعروها من الإهمال والضياع والتفريط والغفلة. فهي التي يجب التنبيه لها والتذكير بها دائمًا والدلالة على مواقعها من آيات الكتاب العزيز، وهي التي يجب على العالم القرآني أن يختار للتذكير بها أصرح الآيات في معناها وأظهر الجمل في الدلالة عليها وأقرب الألفاظ لأذهان الناس. وإذا قارنا بين {لِيُنْذَرُوا} وبين {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وجدنا بينهما فرقًا جليًّا لا يُستهان به في مقام التذكير والإبلاغ في التأثير. فإن الإنذار- وإن كان معناه الإعلام بالشيء مع التخويف من عواقبه- لا يستلزم التدبر الذي هو انفعال نفساني ذاتي يفضي إلى النظر في إدبار الشيء وغاياته على وجه من التكلف والتدرج يفيده بناء تفعُّل وأثر الإنذار تأثير خارجي، وأثر التدبر تأثر ذاتي، والإنذار لا يشعر النفس ما يشعرها التدبر من العهد المسؤول والأمانة الثقيلة.

أما الاتِّباع فهو ثمرة التدبر وهو الذي لا تتحقق الغايات التي يرمي إليها القرآن إلا به، وقد تكرر ذكره في القرآن في معارض شتّى تدلّ مُستعرضها على أنه هو سرّ التديّن والتألّه. وانه المحقق للكمال وانه العاصم من الضلال والهلاك فليتدبر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ}، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي}. ويا للعجب من بيان القرآن وبيّناته وإعجازه بفنون إيجازه. إن الاتباع ضرب من قَفْوِ أثر الغير وترسم خطاه والانقياد له وجعل الهوى تبعًا للهوى مع اطمئنان بالمشاركة في النتيجة خيرًا كانت أو شرًا. وفي معناه من الهجنة أنه ينافي الاستقلال الفكري في الفكريات والذاتي في الذاتيات، فتجد القرآن يدفع عنك أثر هذه الهجنة العارضة فيأمرك بالتدبر واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة في وظائفها الفطرية قبل أن يأمرك بالاتباع، حتى تطمئن إلى أنك إنما تتبع فيما فيه حَقّ وخير ورحمة، ثم إذا أمرك بالاتباع فإنما ذاك فيما يتعالى على فكرك إدراكه أو يصعب عليك تمييزه أو يخاف فيه غلبة الأهواء عليك. وبعد الأمر ينهى عن اتباع الهوى المضلّ عن سبيل الحق، وعن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وعن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباع أولياء من دون الله، وعن اتباع السبل المتفرقة، توكيدًا للمعنى الإيجابي وإيضاحًا للحق الذي يجب أن يتبع. إلا أن المتدبرين للقرآن لا يخرجون من هذا الاستعراض البديع إلا مؤمنين موقنين بأن الاتباع الذي يدعو إليه القرآن هو عين الاستقلال التام للفكر والإرادة والعقل والوجدان لأنه يحميها من شرور الأهواء ويؤويها إلى حمى الحق وحده والاحتماء بالحق الذي قامت به السموات والأرض واستقر عليه تدبير الكون ونظامه- استقلال ما وراءه استقلال. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}. هذا حق القرآن علينا يجب أن نتخذ الآيات المنبّهة عليه فواتح في المدارسة وأن تتجاوب أصداؤها في جوانب نفوسنا حتى لا ندخل حرمه إلا بعد أن نكون عرفنا حقه. إنه لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عصر هم فيه أبعد عن القرآن منهم في هذا العصر، ولم يمض على الدعاة إلى الحق وقت عظمت فيه العهدة واستغلظ الميثاق مثل هذا الوقت، وإنه لا مخرج لهم من هذه العهدة ولا تحلل من هذا الميثاق إلا بالدعوة إلى القرآن. فلا عجب- ونحن نشعر بثقل هذه الأمانة- من أن ترتفع أصواتنا بالدعوة إليه. وإنما العجب

الذي لا عجب بعده أن نسكت أو نقصر وإن من أحكم الوسائل لجذب الأمّة إلى القرآن، وصف القرآن، وتشويق الناس إلى الإقبال عليه وتدبّره وفهمه. فمن التسديد في الرأي والمقاربة في العمل أن ترشد الأمّة الإسلامية إلى معرفة ما ضيّعت من خير وما خسرت من هداية، بتضييعها للقرآن وإنما تعرف ذلك ويبلغ مكامن الوجدان من نفوسها، من وصفه والإشادة بشأنه والتنويه بجلاله وخطره والتنبيه على ما يحتوي عليه من العلوم الكثيرة بألفاظ قليلة، وتقريب ما ينطوي عليه من المرامي المفيدة، بالكلمات القريبة، وشرح ما فيه من الحقائق المتفرقة بالجمل الجامعة، فإن ذلك يكون أدعى لرجوع النفوس الجامحة عنه إليه وأعون على فيأتها إلى حماه والاستظلال بظله والاستمساك بحبله. وليت شعري، أي بيان يضطلع بهذا؟ إن وصف القرآن وأساليب التشويق إلى القرآن لا توجد على أكملها في غير القرآن، فلو أن البلغاء من كل أمة وفي كل جيل اجتمعوا على أن يصفوه ببعض ما وصف به نفسه. وكانت قلولهم على قلب رجل واحد وألسنتهم على لسان رجل واحد لعجزوا وقعد بهم القصور دون الغاية من ذلك. ولقد وصفه جماعة من الباحثين في إعجازه وأسراره، والمتكلمين على قصصه وأخباره والمنقّبين على مثلاته وعبره، والغائصين على نكت التناسب بين آيهِ وسوره. فجاءوا بما يشبه قصورهم الإنساني لا بما يشبه كماله الإلهي! ووصفه قبلهم أعداؤه اللد من مضغة الشيح والقيصوم أوصافًا منصفة فما بلغ هؤلاء ببلاغتهم ولا أولئك بإيمانهم وعلومهم غاية مما يريدون. وصفه الوليد بن المغيرة فقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وأن أعلاه لمثمر. فعبّر بهذا الوصف عن وجدانه النفسي وعن أثر القرآن في ذلك الوجدان. ولاتصال الشعور بالوجدان جاء هذا الوصف شعريًا كما ترى. وكأنه انصاف منتزع من نفس جائرة، وإقرار مقتلع من سريرة حائرة. ووصفه شرف الدين البوصيري وصفًا لا غاية بعده من كلام المخلوق في الروعة الشعرية وتمكن الاقتباس وصدق التمثيل فقال: الله أكبر إن دين محمد … وكتابه أقوى وأقوم قيلا طلعت به شمس الهداية للورى … وأبى لها وصف الكمال أفولا والحق أبلج في شريعته التي … جمعت فروعًا للهدى وأصولا لا تذكروا الكتْب السوالف عنده … طلع الصباح فأطفئوا القنديلا ويا لله لهذا التمثيل المحكم في المصراع الأخير وما يحدثه في النفوس المفتونة بالمحسوسات.

إننا نعد من إعجاز القرآن في البلاغة ما هو شائع في جميع آياته من الدقة المتناهية في تحديد المعاني وتصوير الحقائق وتنزيل الألفاظ في مراتبها وتلوين الأساليب والتزاوج بين الصفتين أو الصفات حتى كأنهما صفة واحدة كالقوي الأمين والغني الحميد، والحفيظ العليم، والعليم الحكيم. فليقصر الواصفون وليدعوا القرآن يصف نفسه بتلك الدقة العجيبة وذلك التصوير الرائع. وليسلك الدعاة سبيلهم إلى نفوس الناس بهذه الأوصاف الرائعة من هذه الآيات الجامعة، فإن ذلك أدعى إلى التأثير والتأثر وأبلغ في باب التشويق من كل تبويب في الكلام وتحبير وتزويق. أين يقع كل ما وصفه به البشر من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وما في هذه الآية من جمع أصول الإصلاح التي جاء بها القرآن مرتبة في الذكر ترتيبها في الوجود. وأين يقع كل ذلك من قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}؟ اللهم لا .. كانت الأمّة العربية قبل الإسلام- ومثلها جميع الأمم- في جاهلية جهلاء .. فهي من الوجهة الفكرية في أحط الدرجات، ومن الوجهة الاجتماعية في أخس الحالات. وكانت لا تملك من أسباب النهضة إلا لسانًا قويمًا وفطرة غير معقدة. ولكن ماذا يغني اللسان الخصيب إذا كان يصدر عن فكر جديب؟ فجاءها الله بالقرآن وفيه كل ما كان الفكر العربي يتطلبه من العقائد النقية والحقائق العلمية، وكل ما كان اللسان العربي يصبو إليه من آفاق وميادين. فنهض العرب به وبلسانهم الذي نزل به وأنهضوا الأمم معهم، تلك النهضة التي زلزلت العالم الروحي العقلي فأذهبت مخارقه وثبتت حقائقه، وزلزلت العالم المادي فذهبت بطغيانه وشروره ورذائله وأقرّته على التشريع العادل والمعاملة الرحيمة. ثم لاءمت بين الروح والمادة بمعاني التوسط والاعتدال البادية في عقائد الإسلام وآدابه وأحكامه. وجاءت بالمعجزة الكونية الكبرى في تحقيق الحلم الإنساني بتلك الملاءمة وهي أمنية عجزت عن تحقيقها كل تعاليم الأرض، ولم تف بها تعاليم السماء قبل الإسلام لحكمة وأمر قد قدر. وانساح الإسلام في الأرض يزجي جيوش الأخلاق قبل جيوش الخلائق، وبسط ظله على الأقطار الممتازة بخصوبة الأرض، وعلى الأمم الممتازة بخصوبة الفكر وزرع تعاليمه في عقول مستعدة، وأفاض عليها من روحه: إن الغاية في هذا الوجود سيادة في الحق وسيادة بالحق وأن لا سبيل إليهما إلا بالعلم والعمل وأن عمران الأرض متوقف على عمران العقول والنفوس. وبنى بذلك تلك الحضارة التي لا ينكرها إلا مكابر يماري في الشمس وضحاها. إن الآفة الكبرى التي قضت على الحضارات وجعلت عاليها سافلها، هي التفرق بين بناتها والمستحفظين عليها، وقد كان للمسلمين- من بين الأمم القديمة والحديثة- معتصم

باذخ لو اعتصموا به لوقاهم من التفرق فوقى حضارتهم من الانهيار. وهو القرآن ودينه الإسلام- نعمة خُصّوا بها دون الأمم-. كانت تعصف بهم من عواطف التفرق وتثور فيهم من طبائع الملك وغرائز المنافسة فيه ما أقله كاف في تدمير الممالك وتتبير الحضارات، فيرجعون إلى القرآن ويعتصمون بالإسلام فيجدون فيهما الْوَزَر الواقي، إلى أن داخلتهم الأعراق المدسوسة، ومازجتهم الجراثيم الغريبة وابتلوا بلقاح سوء مما أفسد من قبلهم وكان من تأثير ذلك أنهم انتقلوا من التفرق الذي يعصم منه الدين إلى التفرق في الدين نفسه وفي القرآن نفسه. ثم زهدوا في الدين فلم تبق إلا الصور العملية بلا روح. وزهدوا في القرآن إلا الألفاظ المثلوة بلا نذير، حتى كانت عاقبة أمرها خسرًا، وذاقت السوء بما صدّت عن سبيل الله. إن أسلافنا قاموا بما شرط عليهم القرآن في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}. فتحقق معهم وعد الله في القرآن: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. فكانوا خلفاء الأرض يقيمون فيها الحق والعدل وينشرون فيها الخير والرحمة ويطهرونها من الشرك والوثنية ويحققون حكمة الله بإقامة سننه الكونية والشرعية، لا يراهم الله إلا حيث يرضيه أن يراهم. لأن مما أفادهم القرآن استجلاء العبر من قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}. وكان هؤلاء السلف يعلمون لماذا أُنزل القرآن؟ ويعلمون أنه كتاب الدهر ودستور الحياة، وحجة الله الباقية إلى قيام الساعة وأنه واف كل الوفاء بإسعاد البشر في الحياتين، وأن عدم فهمه وعدم العمل به وعدم تحكيمه كل ذلك تعطيل له. ففهموه أولًا وحكموه في أهوائهم ونزعاتهم فاستأصل باطلها ولطف من نزواتها، ورجعوا إليه في فهم الحقائق الغامضة في الحياة والدقائق المشكلة في الكون والأخلاق التي يجب أن يتعايش بها الناس، فرجعوا إلى معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد انضوت تحت لوائه أمم مختلفة الأهواء والمنازع والفهوم، فوحّد أهواءها وقارب بين منازعها وفهومها ووفّق بين مصالحها، وهذه النقطة التي عجزت عنها التربية التعليمية والقوانين الوضعية إلى يومنا هذا.

يعتقد المسلمون كلّهم أن سلفهم كانوا أكمل إيمانًا من خلفهم وهذا صحيح، ولكنهم لا يبحثون عن علة كمال الإيمان في السلف حتى لكأنهم يعتقدون أن ذلك بوضع إلهي وتخصيص رباني لا يد للكسب فيه، وهذا خطأ فاحش وجهل فاضح. وما دام الكلام في الإيمان، فهاته وانظر كيف فهمه السلف ومن أي معين استقوا فهمه ومن أي أفق استجلوا حقائقه. ثم انظر كيف فهمه الخلف ومن أين سقطت عليهم هذه الفهوم السخيفة. ثم أرجع كل معلول إلى علته بلا إجهاد للذهن ولا إنضاء للقريحة. إن السلف تذرّعوا لفهم القرآن ذريعتين: الذوق العربي الصحيح، والسنة النبوية الصحيحة. وقد كانوا يؤمنون بأنه كل لا يتجزأ وأن بعضه يفسّر بعضه وقد استعرضوه بعد فهمه بتلك الذرائع، فوجدوه يُعرِّف الإيمان بالصفات اللازمة والتي يتكون من مجموعها، فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآية ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}. ويقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى آخرها. ويقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى آخرها. ويقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) إلى آخرها. ويقول غيرها من الآيات الجامعة لشعب الإيمان وخصاله وصفاته الذاتية، ثم وجدوه لا يذكر الإيمان في المعارض المختلفة إلا مقرونًا بالعمل الصالح ففهموا من القرآن ما هو الإيمان وما هي الأعمال الصالحة، فآمنوا وعملوا الصالحات فكان إيمانهم أكمل إيمان بالعمل والكسب لا بشيء آخر من الخوارق والاختصاصات. وعلى هذا النحو فهموا العبادة وتوحيد الله وكمالاته المطلقة والرسل ووظائفهم والملائكة الخ. أما الخلف فقد عدلوا عن هذا كله منذ صاروا يفهمون الإيمان من القواعد التعليمية وفقدوا الذوق والاسترشاد بالسنة. إن هذه القواعد الجافة التي لا صلة بينها وبين النفس إنما تنفع في الصناعات الدنيوية، أما في الدين فإنها لا تغني غناء وقد أفسدته منذ أصارها الناس عمدة في فهمه حتى ضعف إيمانهم وضعفت تبعًا له إرادتهم وأخلاقهم، وكيف يفلح من يعدل في تفهم الإيمان عن الآيات المتقدمة إلى قولهم إن الإيمان هو التصديق وإن النطق شرط أو شطر فيه وإن النسبة بين الإيمان والإسلام كذا إلى آخر القائمة؟ وكيف يكون مؤمنًا (حقًا) من يبني إيمانه على هذا الجرف الهاري؟ إن هذا موضوع واسع الجنبات وهو يتصل بباب أمراض المسلمين وأسبابها ولا تتسع هذه الكلمة لبعض القول فيه فكيف باستيعابه.

تدبر القرآن واتباعه هما فرق ما بين أول الأمّة وآخرها وإنه لفرق هائل، فعدم التدبر أفقدنا العلم، وعدم الاتباع أفقدنا العمل. وإننا لا ننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه. ولا نفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وإن هذه النهضة المباركة المنتشرة اليوم في الأقطار الإسلامية بشير خير بقرب رجوع المسلمين إلى هذه الهداية، لأن هذه النهضة بنيت أصولها على الدعوة إلى كتاب الله وتفهمه والعمل به. وقد كان من بواكير ثمار هذه النهضة في باب التأليف تفسير الإمام النقاد محمود الألوسي على ما فيه من تشدد في المذهبية. وتفسير الأمير صديق حسن خان، ثم جاء إمام النهضة بلا منازع وفارس الحلبة بلا مدافع الأستاذ الإمام محمد عبده فجلا بدروسه في تفسير كتاب الله عن حقائقه التي حام حولها من سبقه ولم يقع عليها. وكانت تلك الدروس آية على أن القرآن لا يفسر إلا بلسانين لسان العرب ولسان الزمان ... وبه وبشيخه جمال الدين، استحكمت هذه النهضة واستمر مريرها. ثم جاء الشيخ محمد رشيد رضا جارًيا على ذلك النهج الذي نهجه محمد عبده في تفسير القرآن. كما جاء شارحًا لاَرائه وحكمته وفلسفته في الدين والأخلاق والاجتماع. ثم جاء أخونا وصديقنا الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قائد تلك النهضة بالجزائر بتفسيره لكلام الله على تلك الطريقة وهو ممن لا يقصر عمن ذكرناهم في استكمال وسائلها من ملكة بيانية راسخة وسعة اطلاع على السنة وتفقه فيها وغوص على أسرارها. وإحاطة وباع مديد في علم الاجتماع البشري وعوارضه. وإلمام بمنتجات العقول ومستحدثات الاختراع ومستجدات العمران يمد ذلك كله قوة خطابية قليلة النظير. وقلم كاتب لا تفل له شباة. بارك الله في عمر الأستاذ فأتمّ تفسير كتاب الله ببيانه المشرق في خمس وعشرين سنةً من غير أن تختل أعماله العلمية الكثيرة ولا أعماله المستغرقة لدقائقه في سبيل هذه النهضة. وعرفت الأمّة الجزائرية قيمة ما أتمّ الله على يد الأستاذ فاحتفلت بهذا الختم كأعظم ما تحتفل أمّة ناهضة بأثر ناجح من آثار جهودها. وكان من الإحسان في هذا العمل العظيم ومن الإحسان للنهضة أن تسجل من هذا الاحتفال صورة منبهة على حقيقته، فصدر هذا العدد من "الشهاب" وهو لسان حال هذه النهضة، خاصًا بهذه المنقبة مخلدًا لهذا الأثر، مسجلًا لبعض أوصافه وما قيل فيه. ونحن بما لنا من الصلة الوثيقة بهذه النهضة ومن العمل النزر فيها نغتبط بهذه الخطوة السديدة وهذه المرحلة الجديدة التي تمّت بختم التفسير، ونرجو أن تكون في المرحلة الثانية أوسع مدى في الهداية وأكثر حظًا من التوفيق. ونهنّئ أخانا الأستاذ بما خصّه الله به من التوفيق في خدمة دينه ولغته وأمته.

كلمة في الاحتفالات

---------------------------- 3 - كلمة في الاحتفالات وتصوير وصفي للاحتفال العظيم بختم القرآن العظيم* ---------------------------- الاحتفالات- بنظامها العصري- مجامع مفيدة من جميع جهاتها، لجميع روّادها. فهي بالنظر العام أدوات تعارف وتواصل وربط بين من لم تتهيأ لهم أسباب الاجتماع إلا في هذه الاحتفالات. وأسواق بضائعها الخطب والمراجعات القولية، وأرباحها الإيجابية آداب الاجتماع. وتلاقح الأفكار، واقتباس الكلمات واستيقاظ الهمم. واستعجال الآراء وانتشال التفكير من المستوى العامي الغث وصقل الأذهان، وتمكّن مجموعة من الملكات منها ملكة استعراض الآراء وملكة استجماع الخواطر، وأرباحها السلبية زوال الدهشة من لقاء الناس والاستيحاش منهم وغشية الاضطراب والارتباك. والبرء من آفة العي والحصر. وهي- لعمرك- نقائص حظ مجتمعنا- على الخصوص- منها عظيم. وهي للدعاة ميادين دعاية يجدون فيها متسعًا رحبًا لنشر آرائهم بدون كلفة وبدون نفقة لأنها تحشد لهم طبقات من الناس ما كانوا ليستطيعوا جمعها. وهي للمرشدين والمربّين الاجتماعيين فرص لبث الإرشاد بين الجمهور وتوجيهه للخير والمنفعة. وهي للخطباء وأصحاب اللسن ذرائع تمرين وارتياض على الكلام وتوسّع في وجوه القول وتمرّس بمكافحة الجموع، وهذه كلها فوائد لا يُستهان بها في باب التربية. إن هذه الاحتفالات بمثابة دروس تطبيقية معظم تلامذتها من الدهماء الذين حرموا المدارس والدروس النظامية. وإذا كان هذا الصنف كثيرًا في الأمم فمن الرحمة به وحسن الرعية له ومن الحكمة في استصلاحه وتربيته أن يوسّع له في هذه الاحتفالات ويكثر له منها وأن تبتكر له المناسبات لإقامتها. وإن أكثر الناس استفادة من الاحتفالات وأبلغهم إفادة فيها وأثقلهم عهدًا في توجيهها إلى الصالح النافع أو إلى الفاسد الضار، هم الخطباء، فعليهم وحدهم يتوقف إصلاحها أو إفسادها، وليست خصوصية الأسباب ولا تحديد النظم بمانعة للخطباء من بلوغ غرضهم ما دام باب المناسبات والاستطرادات واسعًا رحب الجوانب، وما دام وجود الخطباء في الاحتفال جزءًا ضرورًيا بحيث لو خلا من عنصرهم- في هذا العصر-

_ * "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:168].

احتفال لكان زردة متمدنة مظلومة في اسمها، فوجودهم هو الفارق الجوهري بين مسمّى (احتفال) ومسمّى (زردة). ... تتفاوت الاحتفالات بتفاوتها في سمو المعاني التي تقام لأجلها، فبقدر سمو السبب وعموميته تكون قيمة الاحتفال، ثم تنزل تلك القيمة وترخص كلما تفه السبب أو خصّ حتى تصل إلى درجة الساقط الذي لا وزن له. ولا يدخل في هذا الباب إلا بضرب من التوسع والتساهل. فأسمى هذه الأسباب ما يذكر الجمهور بأمجاده التاريخية ومفاخره القومية وفيه نخوة أماتها الضيم، وفحولة قضى عليها التأنث، وذكرى أخنت عليها الغفلة والنسيان، وأصالة خَبَّثَتْها الأعراق الدسيسة، وعزيمة أطفأتها طباع الضعف والفسولة، وأريحية غطى عليها اللؤم المخزي والشح المطاع، وشواعر خدرتها تهدئة الدخيل وزمزمة الحاوي وهينمة الواغل ... ثم ما يجلو عليه حقيقة دينية أو علمية غشيتها الأوهام والخرافات. ثم ما يحقق له مصلحة في الحياة كانت مجهولة أو حقًا فيها كان ضائعًا. ثم ما يكشف له عن وجوه الإصلاح الاجتماعي ليعملوا له، وعن وجوه الفساد فيه ليتقوه. ثم ... لا ثم ... هذا من جهة الأسباب والبواعث. فأما من جهة الأشكال والصور فأعلى ما فيها أن ينساق إليها الجمهور بسائق وجداني، وأخسّ ما فيها أن يساق إليها سوقًا، أو أن يخدع فيها عن وجدانه بالمرغبات الخادعة. ... لكل أمّة أسباب طارئة وبواعث تاريخية تدعوها إلى إقامة الاحتفالات. وقد تنبهت الأمم الحية إلى ما فيها من الفوائد فجعلت الاحتفال بها جزءًا من حياتها ومادة من قوانينها الاجتماعية. وإن الأمّة الإسلامية لأغنى الأمم من هذه البواعث التاريخية وكلها من ذلك الطراز العالي الذي أشرنا إليه. ومعظمها بواعث دورية يفضي الباعث منها إلى باعث فلا تفتأ الأمّة مستعرضة ماضيها كله ولا تزال في غمرة من المنبهات المنعشة. عندنا معشر المسلمين ليلة الميلاد النبوي وعندنا يوم الهجرة ورأس السنة الهجرية ويوم بدر ويوم أحد ويوم فتح مكة وغير ذلك من الأحداث التي وقعت في عهد النبوّة، ولكل واحد من هذه الأحداث مغزى سام وأثر بالغ في تاريخنا، وهلم إلى ما بعد من الوقائع

الشهيرة الفاصلة حتى تنتهي إلى فتح صقلية ومواقع الحروب الصليبية وفتح القسطنطينية، وهلم ما يخصنا معشر الأفارقة كبناء القيروان واستواء طارق على الجبل، وهلم ما تقتضيه المناسبات في بعض الأوقات كفتح خيبر ودخول عمر لبيت المقدس. وتعال إلى القوّاد والفاتحين والأجواد والعلماء والحكماء والفلاسفة والشعراء- ولا تعد من الدر إلا كباره- تجد ما زخرفه التاريخ وفاضت به العصور. ومع هذه المفاخر فقلّ أن تجد قطرًا إسلاميًا سنّ أهله سنّة صالحة في إحياء هذه الذكريات وإحياء الأمّة بها، إلا في القليل المشوّه الذي لا ينقع غلة ولا يصيب مرمى. إن غفلتنا عن إحياء ذكريات أمجادنا التاريخية هي التي أزهقت في الأمم الإسلامية روح التأسّي فأفقرتها من الرجال وجعلت تاريخها الحديث خلوًا من المثل العليا، حتى اندسّ هذا العرق الخبيث في آدابنا فترانا إذا التمسنا مثلًا في الجود، طوينا تاريخ الإسلام كله كأنه صفحة مغسولة، وجئنا من العصر الجاهلي بحاتم وقل مثل ذلك في عنترة والسموأل. فإذا قصرنا الخطو وقاربنا النجعة، وقفنا عند العصر الأول للإسلام. فهل خلت العصور التي بعدهم من مثل كاملة ومن مفاخر خالدة؟ لا. فقد تأسّى عصر بعصر وجيل بجيل، فجاءت عصور زاهرة وأجيال عامرة. فلما جهل التاريخ وانقطعت العلائق الواصلة بين عصوره، ضعفت روح التأسّي ثم تلاشت، وصرنا إلى هذا الفقر الشائن في المثل، وهذا الخواء المزري في التاريخ. وقد زادتنا أضاليل الغاشين إمعانًا في الغفلة وإغراقًا في الركود. ففقهاء هذه العصور الجرداء يعدّون التاريخ علمًا لا ينفع وجهالة لا تضرّ، والأجانب يعيّروننا بأننا أمّة تعيش في الماضي ويغشّون سفهاءنا في معرض التنصح بأمثال هذه الكلمات ليًا بألسنتهم وتزهيدًا في هذا الماضي زيادة على زهدنا فيه. وهم يعلمون أننا نعيش بلا حاضر. ويوجسون خيفة من أن يلمّ بنا طيف من ذلك الماضي الزاهر فنبني عليه حاضرًا من جنسه أكمل منه. أَلا إنهم- من إفكهم- ليقولون: دعوا ماضيكم، فهل تركوا هم ماضيهم؟ إننا نراهم أحرص الناس على الاعتداد به والاستمداد منه والامتداد معه إلى عصور الخرافات والأساطير. وما لنا وللغاش والناصح! إن لنا لماضيًا عبقريًا حسدتنا عليه الأمم التوالي، بعد أن جرضت به الأمم الخوالي. فمن مصلحتنا وحدنا أن نحيي ذكرياته في نفوسنا وأن نستمد منه قوة لأرواحنا وأن نربّي ناشئتنا على احتذاء مثله وعبقرياته. وإن إقامة الاحتفالات لتلك البواعث لطريق قاصد إلى ما نريد من ذلك. ***

سنت مجلة "الرسالة" الغرّاء نوعًا من الاحتفاء ببعض هذه البواعث، فجرت على إصدار عدد ممتاز للسنة الهجرية، وجلا كتّابها الكرام علينا عبرًا كانت مخبوءة، وأثاروا في نفوسنا ذكريات كانت منسية. ورأينا من بركات هذه السنّة التي سنّها الأستاذ الزّيات- أمتع الله به- أن أقلامًا عربية متينة كانت متنكرة للإسلام وتاريخه تعفّر وجههما الصبوح بالغبار وتمجّ في مشرعهما الصافي السمام المنقع، وقد أصبحت تفتن في إبانة حقائقهما وإظهار معالمهما بما أوتيت من قوة بيان ونصاعة برهان، ثم كتب الأستاذ صاحب الرسالة مرة أو مرّتين- لا أذكر- في ذكرى يوم بدر، وكأنه- حفظه الله- يريد بهذا الصنيع أن يجعله منبهة للأمم الإسلامية إلى ما وراءه من خير، ولكن لم يكن على منهاجه إلا القليل. ومنذ سنوات احتفلت عصابة من أحياء القلوب والشواعر بموقعة حطين، وهي من المواقع الفاصلة في الحروب الصليبية ومن الصفحات المشرقة في تاريخ صلاح الدين، وتكلم فيها جماعة من رجال الإسلام، ونشرت كلماتهم في كتيّب وقرأناه، فإذا هو احتفال يثير رواكد الهمم، ويكاد ينفخ الحياة في الرمم، ولقد- والله- أشجاني وأبكاني، وما زال يشجيني ويبكيني كلما ذكرته، قول صديقنا الأستاذ خير الدين الزركلي في أنشودة حطين: لكل أمر حين … خل البكا حينا هاتي صلاح الدين … ثانية فينا الشامخ العرنين … عزا وتمكينا وجددي حطين … أو شبه حطينا لك الله أيها الشاعر. وهل يأتيك بصلاح الدين إلا أمّتك؟ وهل يجدّد لك حطين إلا قومك الذين بدأوها؟ ولكن، هل أمّتك مستعدة لأن تأتيك بصلاح الدين مرّة أخرى؟ وهل قومك أهل لأن يجدّدوا موقعة حطين وفيهم أمثال عبد الله ... ؟ قد خلت الآجام … من رابض فيها أحي في أمّتك وقومك خلق التأسّي بمن قلت فيه: فصاح: لا عدوان … لا بغي لا إرهاق قد فرض الإيمان … مكارم الأخلاق وأنا الضمين بأنهما يأتيانك بجمع من صلاح الدين، ويجدّدان لك حطين، وأشباه حطين. لا نريد للمسلمين أن يعكفوا على تلك الاحتفالات المولدية الشائعة التي يقتصر فيها على تلاوة القصص المشوّهة، فإن ذلك الطراز لا يتفق مع شرف الذكرى وجلالها. وإن القصص المولدية الحشوية، والخطب المنبرية الرائجة هما سبب تنويم هذه الأمة وأصل بلائها.

ولا أن نعكف على ذلك النوع الشائع في مصر كمولدي البدوي والرفاعي وغيرهما، فإن ذلك النوع- زيادة على إفساده للدين والأخلاق- لا يثير في النفوس ذكريات ماجدة ولا معاني شريفة وإنما يمكّن فيها للتخريف والدجل. ولا ذلك النوع الشائع في الأوساط الشيعية من احتفالهم يوم عاشوراء بذكرى مقتل الحسين- عليه السلام- فإنه فضلًا عما يقع فيه من المنكرات المخجلة، لا يثير إلا الحفائظ والإِحن ولا يثمر إلا توسيع شقة الخلاف، ولقد حضرت احتفالهم مرّة واحدة بدمشق في تربة تُعرف بأرسلان، فعجبت كيف تصدر تلك الشناعات من مسلم، وعلمت لأول مرّة: إلى أي حدّ ينتهي التعصّب والغلوّ، ثم ذاكرت عالم الشيعة بدمشق الشيخ عبد المحسن العاملي وهو عالم فاضل أديب معتدل في ذلك، فأنكر ما أنكرت بالقول، واعتذر عن الإنكار بما فوق ذلك بما يعتذر به علماء الدين في كل مكان. لا نرضى للمسلمين بهذا الطراز البالي من الاحتفالات التي ذكرنا بعض أنواعها، فقد عكفوا عليها قرونا، فما زادتهم إلا خبالًا وانحطاطًا، وإنما نريد منهم محوها واستبدالها بما هو خير. وقد تتابع السواد الأعظم من إخواننا المصريين في هذا النوع السخيف مثل ما تتابع الفريق المثقف منهم في تقليد الغربيين في هذا الباب بلا تحفّظ ولا استمساك، فبينما سواد الأمّة وعديدها الأكثر، عاكف على الأضرحة، يقيم حولها احتفالات الموالد ويرجو منها الإمداد وعلماء الدين يمدّونهم في الغيّ بسكوتهم، ومشيخة الأزهر تزكي أعمالهم بتقبيل شيخها لمقود جمل المحمل. نرى الطرف الآخر يتهالك على تقليد الغربيين في ولائمهم واحتفالاتهم السخيفة بالتوافه والسفاسف ويستهتر في هذا التقليد حتى تطغى احتفالات الغرب الدينية والقومية حتى على المواسم الشرقية الدينية، وهذه جرائدهم ومجلاتهم تشهد- في ضجر وعتب أو في رضى وإعتاب- بأن هذه الطائفة، وهم عمار الحواضر يحيون ليلة الميلاد المسيحي وعيد رأس السنة المسيحية ولا يأبهون لعيد الفطر ولعيد الأضحى. ولعمري إن هذا لهو الاستعمار الروحي الذي لا يُعدّ الاستعمار المادي معه شيئًا مذكورًا! أولم يكن لهم آية أن شوقي- رحمه الله- يقول على لسان كليوباطرة ملكة مصر، تخاطب خدم قصرها: لا تسيروا على ولائم روما … سرفًا في الفسوق واستهتارا مصر إن أولمت سمت بالأغاني … درجات وأسمت الأشعارا

فهذه كليوباطرة وهي كما يقولون: أنثى أفنت العمر في الهوى. أنفت (أو أنف لها شوقي) أن تسير ولائمها على ولائم روما. فلئن كان هذا الكلام مما ألم معناه بخاطر كليوياطرة وجرى لفظه على لسانها فهي أصدق وطنية وأنبل نزعة من هؤلاء المقلّدين، وإن كان إنما تخيّلها شوقي كذلك فما أراد إلا عظة هؤلاء وما عنى إلا إياهم وما وجّه الخطاب إلا إليهم. وليس شيء من ذلك بمستنكر على شوقي. ويا ليت إخواننا هؤلاء استبدلوا غربًا بغرب فقلّدونا نحن- ما دام التقليد مبلغ جهدهم- في كثير من هذه المعاني التي يقلّدون فيها الغربيين، ألسنا مغاربة؟ ألسنا أحق باسم الغرب بالنسبة إلى مصر؟ وإنما أوروبا شمالي مصر. وقد شرع لهم حافظ هذه التسمية في قوله: وَدَعُونا نشم ريح الشمال أم يقولون: إننا برابرة ومتوحشون: فنعم وكرامة عين. ولكننا مع ذلك شداد في الاستمساك بحبال الشرقية في كثير من مناحي الحياة. ولقد صاحبنا الاستعمار أكثر من قرن فما استطاع لنا هضمًا. خالفنا الاتجاه قليلًا ولمسنا ببعض العتب علاقة عزيزة علينا، وعزيزًا علينا أن نراها مسرفة في التقليد، غالية في المتابعة على غير هدى على حين نأتم بها ونعدها لإمامة الشرق كله، فليهنأ إخواننا أننا تلامذتهم، ولكن في غير ما هم فيه تلامذة الغرب ... ... لم تعرف الجزائر في ماضيها من الاحتفالات إلا تلك الصور العادية الساذجة في العيدين الدينيين، وإلا الزرد الموسمية في بعض الجهات، وإلا نوعًا آخر هو أقرب إلى الاحتفال المنظّم لو خلا من المحظورات الدينية. وحلا بالمشارب القومية والفوائد الاجتماعية. والعامة تُطلق على هذا النوع اسم "الأركاب" وهم يعنون جمع ركب بسكون الكاف كأركاب خالد ابن سنان بصحراء بسكرة، وركب عامر لقبر عطية قرب قلعة بني حماد، وركب قسنطينة لقبر ابن عبد الرحمن بالجزائر، وركب البليدة لقبر الشيخ أبي مدين بتلمسان، وكلها من شدّ الرحال غير المشروع، وكلها قريبة من النوع الذي نعيناه على المصريين وإن كانت أقلّ منه فسادًا أو إفسادًا. وعرفت الحواضر الجزائرية شبه احتفال بالمولد النبوي، يقتصر فيه على التجمير والتقصير وتلاوة قصة من القصص الحشوية الشائعة. ولقد حضرت- منذ سنوات- حفلة مولدية من هذا النوع بحاضرة الجزائر، وسمعت عالمًا أزهريًا يقرأ على الناس قصّة مولدية- لعلها مولدية

المناوي- فسمعت من بعض ما كان يقول قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى من أمام كما يرى من خلف بعينين خلقهما الله في قفاه ... وكان بجنبي فقيه مقرئ، خفيف الروح، سلفي النزعة، فتغامزنا بالإنكار ولم نستطع جهرة إذ كان ذلك قبل انتشار الحركة الإصلاحية، ثم أسر إليّ على سبيل الدعابة قوله: أبى الله إلا أن نكون أسبق منكم لكل شيء فعندنا من هذه (الماركة) من العلماء من يقول ويكتب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولد من السبيل المعتاد ... ولبثت الجزائر محرومة من هذا النوع المفيد الذي يغرس المعاني السامية في النفوس بأسبابه وبواعثه، ويزرع المبادئ العالية والمعارف والآداب في العقول بما يقال فيه إلى أن كان عهدها الأخير وكانت نهضتها العلمية الدينية. فلأوائل هذه النهضة شعرت بما للاحتفالات من أثر صالح في النهضات، فالتفتت إليها وجعلتها إحدى ذرائعها لتعضيد الأعمال والمشاريع ونشر المبادئ الصالحة وبث الأفكار النافعة، وترقت بها مع الزمن حيث النظام واختيار المناسبات حتى أصبحت تنافس أرقى ما عُرف من نوعها عند الأمم الأخرى. ... لعل أروع احتفال شهدته الجزائر في عهدها هذا هو الاحتفال بفتح مدرسة «دار الحديث» بتلمسان في أواخر شهر سبتمبر من السنة الخالية، فقد كان بدعًا من الاحتفالات في نظامه. وفي ضخامة العمل الباعث عليه، وفي جلال المناسبة والذكرى، وفي احتشاد الأمّة له، وفي علوّ الطبقة التي شهدته وتكلّمت فيه من العلماء والشعراء، وقد وصفته الجرائد في حينه، وإنما جلبته هنا مناسبة الحديث عن الاحتفالات. ثم جاء الاحتفال بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لدروس التفسير بالجامع الأخضر بقسنطينة- وهو الذي ألهمنا كتابة هذه الكلمة- فكان شاهدًا لما ذكرناه قريبًا من تطور هذه الأمّة في هذه الناحية، ودليلًا على أن نظام الاحتفالات بلغ في هذا القطر كماله، وعلى أن روح التأسّي في الصالحات حييت في هذه الأمّة وانتعشت، وانها أصبحت تهتبل الفرص المواتية فتحسن الاختيار. أذكر أننا كنا في جماعة من الرفاق الأوفياء، تذاكرنا مرّة في إقامة حفلة تكريم لرفيقنا الأستاذ بن باديس تنويهًا ببعض حقه على العلم وشكرًا لأعماله الجليلة وآثاره الحميدة في التعليم بهذا الوطن، واعترافًا بكونه واضع أسس النهضة. وإنصافًا لكونه أسبقنا إلى التعليم وأشدّنا اضطلاعًا به وأكثرنا إنتاجًا وتخريجًا فيه ... وذهبنا في تقدير الفوائد التي تُجنى من هذا الاحتفال مذاهب لا غلوّ فيها ولا إسراف. ثم فاتحنا أخانا الأستاذ بهذه الفكرة، فكان الجواب قوله: دعوا هذا حتى تختم دروس التفسير- وبيننا يومئذ وبين الختم سنوات-

كأنه يرى أن عمله في التفسير هو أجلّ أعماله في التعليم، وأنه بإتمامه لهذا العمل يستكمل مزية الاستحقاق للتكريم والإجلال من أمّته إذ يكون قدّم لها عملًا تامًا ناضجًا وصورة كاملة من مجهوداته زيادة على ما خرج لها من رجال ... كأنه- حفظه الله- كان معلّق البال بهذا العمل ويخشى أن تقطعه قواطع الدهر. وأراد الله، فحقّق للأستاذ أمنيته من ختم التفسير وللأمّة رجاءها في تسجيل هذه المفخرة للجزائر، ولأنصار السلفية غرضهم من تثبيت أركانها بمدارسة كتاب الله كاملًا. وبدت مَخَايِل الختم من أواخر السنة الخالية فكثر الحديث في الاسمار وفي المنتديات عن الاحتفال وصوّرت منه الخواطر احتفالًا ملء الأمل. وكذلك كان. والحمد لله. تألّفت لجنة تنظيم بمركز الاحتفال "قسنطينة" وأعدّت للاحتفال برنامجًا محيطًا محكمًا وجعلت شعاره كله (القرآن) فالوفود وفود القرآن والضيوف ضيوف القرآن، وأذاعت توقيت الاحتفال باليومين الرابع والخامس من شهر ربيع الثاني، ثم عدلت عنهما إلى الثاني عشر والثالث عشر منه لعوارض قاهرة لا يملك معها الخيار. وأضرّ تأخير ذلك الأسبوع بطوائف من الأمّة كانت تسابق بالاحتفال أشغال الصيف وتكاليف الفلاحة، وهي تكاليف لا يملك معها الخيار أيضًا .. انهالت الوفود القريبة الدار على قسنطينة يوم الجمعة وتلاحقت الأمداد يوم السبت، وشعر الناس شعورًا عامًا أن الجامع الأخضر لا يسع الوافدين إذا انهال سيلهم، وان محلًا ما من المحلات العامة لا يسعهم أيضًا. فألهموا من غير تواطؤ، العمل بقاعدة التمثيل فأرسلت كل بلدة وفدًا محدود العدد يمثّلها، فلم تبق بلدة من عمالة قسنطينة كبيرة أو صغيرة إلا ومثّلها وفد في مهرجان القرآن، فرأينا هناك وفود البلدان الساحلية من بجاية إلى الحدود التونسية ووفود مناطق التلول من سطيف إلى سوق أهراس ووفود المناطق الصحراوية من بسكرة إلى سوف. وتكاملت عقود هذه الوفود بوفد عاصمة الجزائر الضخم المؤلّف من مائة وثلاثين شخصًا، ثم وفد تلمسان وهو أقصى الوفود دارًا عن قسنطينة، فبينهما ما يزيد عن ألف ميل، ولكن جاذبية القرآن هوّنت عليه النصب واللغوب. رأى الوفد التلمساني أن يقطع الطريق من الجزائر إلى قسنطينة في سيارة أوتوبيس ذات أربعين مقعدًا ليجمع بين الفائدة والنزهة وعمل بالاتفاق مع الوفد الجزائري على أن يخرج الوفدان من الجزائر معًا ويدخلا قسنطينة مساء السبت معًا. وبلغ أهالي سطيف أن الوفدين يمران ببلدتهم فأبى عليهم كرمهم إلا أن يقيموا لهما حفلة شاي فاخرة. وأرسلوا للوفدين استدعاء مع رسول خاص، مبالغة منهم في البر والاحتفاء. وخرج الوفدان من العاصمة على الساعة السادسة من صباح السبت في قطار من

السيارات الضخمة يتكوّن منها منظر ساحر خلّاب ووصلوا سطيف على الثالثة بعد الزوال، فتلقّاهم إخوانهم السطيفيون على بضعة أميال من المدينة بباقات الزهر وطيب التحية، واجتمع الجميع على مائدة الشاي الحافلة. ثم استقل قسم من وفد سطيف سيارة ذات خمسين مقعدًا، وخرج الجميع آمّين قسنطينة، وقد زاد الموكب كمالًا وجمالًا. خرج أعضاء لجنة الاحتفال من قسنطينة في بضع سيارات للقاء موكب الوفود على خمسة وعشرين ميلًا إبلاغًا في المبرّة، فتهلّلت الأسارير عند اللقاء وطفحت الوجوه بالبشر وانطلقت الألسنة بالتحيات المباركات وتصافحت القلوب قبل أن تتصافح الأيدي وامتزج شماس الأصيل بشعاع الوجوه المستبشرة، فكان منظرًا سحر أخاذًا لا يستقل بوصفه إلا شاعر، ولست بشاعر. ثم انتظمت السيارات موكبًا بديعًا وزحفت إلى قسنطينة فدخلتها بعد المغرب وليس وصف مشهد دخول هذا الموكب إلى قسنطينة وانغماس الضيوف والمضيفين في غمرة من نشوة الفرح البالغ إلى حدّ الذهول بالذي يسعه بياني وإن وسعه إدراكي وعياني. اجتمعت وفود الغرب بوفود الشرق في مدرسة التربية والتعليم التي أعدّت مكاتبها وطبقاتها وقاعاتها لهم أحسن إعداد. وبعد أداء فريضة العشاء انصرفوا إلى موائد المضيفين على تقسيم عجيب ومزج غريب يرجع الفضل والشكر فيه إلى لجنة الاحتفال. وقد تبارى كرام القسنطينيين- أحسن الله إليهم- في إكرام الوافدين وهزتهم الأريحية هزّة بعد العهد بمثلها، وتجلّت الضيافة العربية الباذخة في أجلى صورها، يزينها نظام دقيق دفع هجنة الفوضى ووصمة الاختلال التي تصاحب الاحتشاد والكثرة. فلم يتخلف مضيف عن ميعاد، ولم تختل لضيف وجبة، ولم يفترق للمجتمعين في منزل شمل. وتضاعفت الوفود صباح الأحد، فتضاعفت الحفاوة والبشر وتجلّى الاستعداد الهائل واتسعت الصدور فاتسعت المنازل وتنوّعت صنوف البر حتى وسعت تلك الوفود الزاخرة سكنًا مرفهًا وكلًا مترفًا في أيام الاحتفال ولياليها. وارتفعت الكلف بين كل نزيل وأبي مثواه حتى لتحسبهم إِخوة رحم أو عشراء دهر. ثم تلطفوا فخصّوا الوفود التي لم تسبق لها زيارة قسنطينة، بنوع من التكريم وهو الطواف بهم في أوقات الفراغ على معالمها وقناطرها العجيبة وواديها المدهش ومناظرها الساحرة وغمروهم بفيض من الرقة واللطف أسرت ألبابهم وأنطقتهم ببليغ الشكر فانقلبوا إلى أهلهم يحملون الإعجاب والإكبار ويضمرون المحبة الصادقة والولاء المحض. هذه هي الاجتماعات التي كنا ننشدها فلا نجدها، هذه الاجتماعات التي تثمر التعرّف الحقيقي وتجمع أفراد الأمّة على الدين والخير والعلم. وقد زادها إخواننا القسنطينيون تمكينًا وشرعوا من آداب الضيافة مناهج سيحتذيها المترسمون ويذكرونها لهم بالجميل.

وما ظنّ الذين يفترون علينا الكذب ويتقوّلون علينا الأقاويل؟ أفي مثل هذا الاحتفال من أعمالنا شائبة نقد أو رائحة إضرار بأحد؟ ... كان من المتوقع- على بعد- أن تسمح الإدارة بوقوع الختم في الجامع الأعظم لاتساعه لأضعاف ما يتسع له الجامع الأخضر- وقد طلب منها ذلك واتخذت وسائله- فأبت، فما كان من لجنة الاحتفال وكرام القسنطينيين إلا أن قرّروا أن يفسحوا في المجالس للوافدين وأن لا يزاحموهم في مقاعد الجامع الأخضر ساعة الدرس، ونفّذوا هذه الخطة على أن تكون مكافأتهم من الأستاذ إعادة درس الختم في ليلة أخرى بعد انحسار الوفود عن قسنطينة. وما كادت تشرق شمس يوم الأحد حتى اكتظّ الجامع الأخضر بالوفود، فلم يبق فيه متنفس وشمل الخشوع تلك الصفوف المتراصّة حتى لا حركة ولا ضوضاء. وتجلّى جلال كلام الله في بيت الله فكان مشهدًا يستنزل الرحمات، ويتكفّل باستجابة الدعوات. وصعد الأستاذ المفسّر منبر الدرس فشخصت العيون وخفتت الأنفاس واستهلّ بتلاوة المعوذتين. وشرع في تفسيرهما بما هو معهود منه، فلا يحتاج إلى نعت ولا إلى إطراء (وقد نشر ملخص الدرس في هذا العدد). استغرق الدرس ما يقرب من ساعة ونصف أخذ الناس فيها على نفوسهم، وجلّلتهم سحابة من الخشية والسكينة. وكذلك المؤمنون الذين يخشون ربّهم بالغيب تقشعرّ جلودهم عند سماع كلامه، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله. وختم الأستاذ المفسّر الدرس بأدعية قرآنية وابتهالات مأثورة، ثم طلب من الحاضرين أن يسألوا الله الرحمة والمغفرة لأخيهم حسين باي، مؤسّس الجامع الأخضر ومحبسه في سبيل العلم وإقام الصلاة وذكر الله كما هو منقوش على رخامة في المسجد. وذكر أن من علامات إخلاص هذا الرجل في عمله وحسن نيّته أن يسّر الله ختم تفسير كلامه من أوله إلى آخره في مدة خمسة وعشرين عامًا بهذا المسجد، فانطلقت الألسنة بالدعاء والترحّم وافترقوا على مثل ما اجتمعوا عليه بقلوب خاشعة ونفوس متراحمة وألسنة رطبة بحمد الله وشكره على ما وفّق إليه من الخير وأعان. وكان هذا اليوم مقصورًا على درس التفسير، حرصًا على كلام الله أن يستقل تأثيره بالنفوس وأسره للأفئدة، وعلى عظاته أن تتصل بشغف القلوب. وخصّ سائر اليوم لاستراحة الوافدين ووقوفهم على معالم المدينة ومناظرها بعد أن أذنت لجنة الاحتفال فيهم باحتفالات الغد وأعماله. ***

كان يوم الإثنين الموالي ليوم الختم موعدًا لإقامة حفلة تكريم للأستاذ المفسّر، وهي الحفلة التي سبقت الإشارة إليها في كلامنا. وكان لها حظ من تصميمنا واعتزامنا، فسخر الله أسبابها في هذا اليوم. وقد تلطفت لجنة الاحتفال فأسندت رئاستها إلى كاتب هذه السطور. وكان موضع الاحتفال قاعة "كليّة الشعب" الفسيحة. أهطعت الوفود إلى كليّة الشعب قبل الساعة المقرّرة بساعات ولم يثنهم طول الانتظار ولا اكتظاظ القاعة حرصًا على ضمان المقاعد. وصنع القسنطينيون في هذا اليوم صنيعهم بالأمس، ففسحوا في مجالس كلية الشعب كما فسحوا في الجامع الأخضر إكرامًا للوفود. وأبت الوفود إلا أن يكون لها شرك في معنى التكريم وأن يكون لأسمائها وبلدانها دخل في عداد المكرمين، فكان التكريم باسم العلماء زملاء الأستاذ وشركائه في العمل وباسم تلامذته وباسم هذه الوفود الحاشدة. ودقت الساعة التاسعة، فتصدّرت هيئة جمعية العلماء سدّة القاعة واكتنفهم خطباء الحفلة وشعراؤها من تلامذة الأستاذ عن اليمين والشمال، وتقدّم رئيس الحفلة فقدم مقرئًا، أسمع الناس آيات من كلام الله، ثم فتح الرئيس باب الخطابة بارتجال كلمات. ثم قدم الخطباء على مراتبهم ثم الشعراء كذلك، وسيرى القارئ في آخر هذا العدد تلك الخطب والقصائد منشورة. ولما كانت ساعات الاحتفال محدودة لا تتسع لجميع الخطباء ولا للقليل منهم، وكان التلامذة يمثّلون طبقات تمتد من أوائل النهضة إلى الآن، فقد رؤي حرصًا على الوقت والفائدة الاقتصار على من يمثّل تلك الطبقات، فتقدّم من يمثّل المتخرّجين في أوائل الحركة ثم من يمثّلون وسط الحركة واستفحالها، ثم من يمثلون الطبقة المباشرة للتعليم في السنوات الأخيرة ثم من يمثّلون الطبقة النازحة إلى جامع الزيتونة ثم من يمثّل الطبقة المستقلّة بالتعليم ثم من يمثّل تلاميذ التلاميذ. وبعد انتهاء الخطباء أعلن الرئيس استراحة ربع ساعة ثم الرجوع لسماع الشعراء. ولما انتهى دور الخطباء والشعراء المقرّرين في منهاج الحفلة، وقف كاتب هذه السطور وارتجل خطابًا تغنّى فيه بجمال يوم القرآن وهو يوم الختم وبفوائد الخير التي سيعود بها على الأمة الجزائرية. وقد حاول كاتبان من كتّاب الحفلة أن يلتقطاه عند الإلقاء ففاتهما منه الكثير. وتقدّم إليّ الحريصون على تخليد الحفلة كاملة أن أكتب ما علق بالذاكرة من ألفاظها ومعانيها، فكتبت ما يقرؤه القارئ في آخر الخطب. وأنا أبرأ من ادعاء محاذاته كما ألقي ارتجالًا في ألفاظه ومعانيه. وبعد خطبة الرئيس، قام الأستاذ المحتفل به وارتجل خطبة ضافية نستعيض عن وصفها ها هنا بتلخيص معانيها ونشرها مع الخطب.

وانفضّ الاحتفال على الساعة الثانية إلا ربع بعد الزوال. ومن لطائف الاتفاق أنه خطر لبعض الهيئات تقديم هدية تذكارية للأستاذ، ولم تعلم هيئة بما اعتزمت عليه الأخرى من نوع الهدية. فلما قدّمت الهدايا أمام الجمهور بعد انتهاء الخطابة كان تناسقها مفاجأة مدهشة، وهي محفظة كتب عربية ثمينة قدّمها وفد تلمسان، وقلم تحبير ثمين معه قلم رصاص قدّمتها هيئة جمعية التربية والتعليم، ونسخة من تفسير المنار قدّمتها هيئة جمعية العلماء، ونسخة من كتاب فتح الباري قدّمتها لجنة الاحتفال. وكما كانت هذه الهدايا لطيفة في معناها التذكاري وفي رمزها العلمي وفي تناسقها، فقد كان سرور الأستاذ بها عظيمًا ووقعها في نفسه لطيفًا. ثم تمّ التناسق ولطف الذوق في حفلة المساء حين قدّم له تلامذة كشافة الرجاء مصباحًا كهربائيًا ظريفًا وقدّم له تلامذة الشباب الفني (زربية) سجادة صلاة. ... وفي مساء الثلاثاء اشتركت ثلاث جمعيات علمية وفنية ورياضية في إقامة احتفال زاهر فخم في كليّة الشعب ابتهاجًا بضيوف القرآن. أما الجمعيات: فهي جمعية التربية والتعليم وجمعية الشباب الفني الفنية وجمعية كشافة الرجاء الرياضية. وأما الاحتفال فكان ناجحًا إلى أقصى حدود النجاح، مؤثّرًا إلى أبعد غايات التأثير، ظهرت فيه جمعية "الشباب الفني"- على حداثة عهدها- بمظهر الكفاءة والتجديد وسلامة الذوق والانسجام بين العازفين في المظهر وبين القطع في المخبر. وقد عزفوا قطعًا مشجية وترنم عليها التلامذة بأناشيد أشجى، حتى لقد رأيت كثيرًا من عمار الصفوف الأمامية يبكون تأثّرًا، وان أنس فلا أنس التلميذين اللذين أنشدا نشيد الترحيب على عزف (البيانو)، انهما لطراز عال في رخامة الصوت وسلامة الأداء وجمال المنطق حفظهما الله وأقر بهما أعين الأمّة التي تعلّق رجاءها على أمثالهما. إن التطويل في وصف هذه الحفلة يفضي إلى التقصير. وخلاصة القول فيها إنها كانت زادًا روحيًا قدّمته قسنطينة لوفودها بعد أن جاوزت الغاية فيما قلّصته لهم من أطايب الغذاء البدني. وإن سرّها وسحرها ليسا آتيين من الاطراب في العزف والإطراف في الأناشيد والإجادة في التمثيل والاتزان في الحركات، وإنما هما آتيان من شيء آخر وراء هذا كله، هو أمل الأمّة في أبنائها، كان صورة في الأذهان ومخيلة في الأدمغة، فرأت منه في هذه الليلة

نموذجًا عمليًا يبشّر بتحققه كله، إن الزمان بأحداثه يستطيع أن يمحو من نفوس الوافدين كل ما رأوا وما سمعوا ولكنه لن يستطيع محو شيئين: درس القرآن وهذه الحفلة، وإن الوافدين ليستطيعون أن يقابلوا كل إكرام لقوه من إخوانهم القسنطينيين بمثله أو بأحسن منه إلا إكرامهم بمثل هذه الحفلة. وانفض هذا الاحتفال في نهاية الساعة الواحدة بعد نصف الليل بعد أن ختمه الأستاذ بن باديس بكلمة توديع. ... من المظاهر التي شاهدها الناس كلهم في هذا الاحتفال بسوابقه ولواحقه، الهدوء الشامل، فلم تحدث أية حادثة ولو بسيطة على كثرة الاحتشاد وشدة الازدحام واختناق التعاريج في المدينة. وليس مرجع ذلك إلى التنظيم الآلي، ففي أدون من هذا الاحتفال نرى الفوضى تطغى على النظام، وطباع السوء لا تنهنه بالزجر وإنما مرجع ذلك إلى التنظيم النفسي وإلى أدب القرآن وقد ملك أزمة النفوس. وإن هذا النوع من التربية الدينية هو الذي نريده للأمّة، وهي تربية كثيرة الفوائد قليلة التكاليف، وقد جرّبت فصحت. فهل من معين لنا على تثبيتها وتعميمها؟ وكأن إدارة الأمن العام بقسنطينة أدركت ذلك فلم نر منها مظاهر الاستعدادات الاستثنائية التي كنا نراها في مثل هذه المشاهد، وحسنًا فعلت.

خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

------------------------------ 4 - خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي ختم به تفسير القرآن* ------------------------------ كلمة ببن يدي التلخيص: أكمل طرائق المتقدمين من علماء هذه الملة في تلقين العلوم- طريقة الإملاء. والإملاء نتيجة لاستِحْكام الملكة في العلم واستقلال الفكر فيه، أوسعة المحفوظ ورحابة آفاق الحافظة. واستحكام الملكة واستقلال الفكر وقوّة الحافظة مزايا تكاد تكون خالصة لعلماء سلف هذه الأمة لم يبلغ علماء الأمم الأخرى مُدَّ أحدهم فيها ولا نصيفه. وكانت وظيفة السامعين كتابة ما يُملى عليهم كله أو خلاصته، وكانت المحابر والأقلام والأوراق هي الأدوات اللازمة لروّاد مجالس العلم، إلّا في مقامات مقابلة الأصول وضبطها. فهنا لا بدّ من إحضار النسخ الكاملة من الكتب. ومن ثمرات تلك الطريقة المثلى في التلقين والتلقي كتب الأمالي في الحديث واللغة والأدب، وفي تراجم المحدثين والأدباء الشيء الكثير من ذلك، وإن لم يُبق لنا الدهر منها إلّا الأقل من القليل. ولما انتهى عصر الرواية بجمع روايات السلف في التفسير ورواياتهم للأحاديث والسنن، ودُوّنت أصول اللغة والأدب والعلوم المتفرعة عنها وجاء دور الاستغلال لها، نشأت عوامل الانحطاط في العلوم الإسلامية، وكان من أظهر مظاهرها جفاف القرائح وجدب الأفكار وضعف القوى الحافظة، وانحطت طرائق التلقين تبعًا لذلك وانحصرت في الطريق الشائعة إلى اليوم، وهي التزام كتاب تتعدّد نسخه بتعدّد المتلقين له، يحلّل الشيخ عباراته ويشرح معانيه، وانحطت وظيفة السامعين من الكتابة والتقييد إلى الاستماع المجرد. ولسنا نعيب طريقة التزام الكتب وشرح معانيها بالكلام، فذلك في حقيقته نوع قاصر من الإملاء، وإنما نَنْعَى على السامعين إهمالهم لكتابة ما يسمعون فتضيع عليهم الفوائد التي يلقيها الأستاذ وقد تكون قيّمة، كما تضيع في عصرنا هذه الخطب والمحاضرات المرتجلة التي لا يكتبها ملقيها ولا متلقيها.

_ * "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:186]، قسنطينة.

ولسنا بصدد التأريخ لهذه الطرائق والمقارنة بينها، وبيان وجوه النقص والكمال فيها، وإنما ننبّه في هذا المقام إلى أن أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية، لأنها شغلت المعلم والمتعلم معًا بالكتاب عن العلم، إذ أصبح همّهما كله مصروفًا إلى تحليل الكتاب وفكّ عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة، وفي بعض هذا ما يستغرق الوقت ولا يُبقي سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلّياته، وبعيد جدًا على من يدرس علمًا على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلًا لمن يقرأه من مثل مختصر خليل على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقدة التي ذهب الاختصار بكثير من أجزائها، وفي بيان التقديم والتأخير في الألفاظ، وربط المعمولات بالعوامل البعيدة، وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مراجعها، والطفرة بالذهن من مذكور إلى مقدر، وهذا هو كل ما يشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابًا في الفقه، ودراسة الكتب لذاتها أصبحت اليوم فنًّا كماليًّا من التاريخ لا أصلًا في تعلّم العلوم. والدارس لتاريخ العلوم الإسلامية يتجلّى له هذا في تراجم علماء تلك العلوم، إذ يجد فيها دائمًا أشباه هذه العبارة: كان أقوم الناس على كتاب الجمل للخونجي، أو على كتاب التهذيب للبرادعي، أو على كتاب الشامل لابن الصباغ. كان نافذًا في إقراء المحصّل للرازي. كان سديد البحث في مختصر ابن الحاجب الأصلي، كثير المناقشة لعباراته. وأين سداد البحث وكثرة المناقشة في عبارة كتاب من تحصيل الملكة في علم؟ إن الأصولي الحقيقي هو الذي يُنفق ممّا عنده أو يُقرئه من أي كتاب كان، ولا يفتتن بكتاب معين هذا الافتتان، وإن الفقيه الحقيقي هو الذي يفهم الفقه لا الذي يفهم كتابًا في الفقه، وفي وقتنا هذا نسمع علماء المعاهد المشهورة يتمدّحون بمثل هذا ويصفون من يحسن إقراء التنقيح للقرافي على هذه الطريقة بالأصولي المحقق ... ولقد حاول جماعة من العلماء الحفّاظ في القرون الأخيرة إصلاح هذه الحالة وإحياء طريقة الأمالي فلم ينجحوا، لافتتان جمهور المتعلمين بالكتب وانصرافهم عن العلم إلى كتب في العلم. حاول ذلك الحافظ ابن حجر وهو أهل لذلك، ولكن أهل زمانه لم يكونوا أهلًا له، ونعى معاصره ابن خلدون المؤرخ طرق التلقين في زمنه وكثرة المؤلفات والمختصرات في العلم وعدّها عائقة عن التحصيل، وحاول ذلك بعد ابن حجر تلميذه الحافظ السيوطي وهو أهل لذلك على ما فيه من تبجّج واستطالة، وقد شكا في بعض رسائله إخفاقه في هذه المحاولة بعبارة مرّة، ووصف انصراف الجمهور عنها بأنه من غلبة الجهل وكلال الهمم وضعف العزائم. نجمت في هذه العهود الأخيرة ناجمة اضطراب وتبرّم من طرائق التعليم المتبعة وكتبه الملتزمة، وارتفعت الأصوات بالشكوى من أضرارها وسوء عواقبها، وكان الأستاذ الإمام

الشيخ محمد عبده أعلى الحكماء صوتًا بلزوم إصلاحها وأبلغهم بيانًا لأضرارها وسوءاتها ومعايبها، وأسدّهم رَأْيًا في تغييرها بما هو أجدى منها وأنفع، وأكثرهم عملًا جديًّا في ذلك. وكان من إصلاحاته العملية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان- رحمه الله- وهو مَن هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا تفسير الجلالين ويستهلها بقراءة عبارته. ولكن السامعين لتلك الدروس- على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة، وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها ممّا لم تنطوِ عليه حنايا عالم ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامهم لتقييد تلك الدروس إلّا قليلا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد، ولو لم يقيّض الله محمد رشيد رضا لهذا العمل الجليل لضاع كله، ولكن الله وفقه لحفظ معاني تلك الدروس وسدّد قلمه في أدائها، ثم نهج نهجه بعد موته وسار على شعاع هديه في تفسير كلام الله فأبقى لهذه الأمة الأسفار القيمة المعروفة بتفسير المنار. ... مدّت حركة الاصلاح العلمي مدّها بعد موت الإمام وانتشرت في الأقطار الإسلامية وأسفرت عن إصلاح حقيقي لأساليب التعليم في المعاهد الحرّة، وعن إصلاح صوري في المعاهد الرسمية، ولا تزال الحرب قائمة في هذه المعاهد بين طلاب الإصلاح وبين أنصار الجمود، وستكون العاقبة للمصلحين بإذن الله. ولقد كان من حسن حظ الجزائر أن باعث النهضة العلمية فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد وضع أساس هذه النهضة على قواعد صحيحة من أول يوم، فسلك في درس كلام الله أسلوبًا سلفي النزعة والمادة، عصري الأسلوب والمرمى مستمدًا من آيات القرآن وأسرارها أكثر ممّا هو مستمد من التفاسير وأسفارها. وقد قرأنا له في بعض افتتاحيات مجلة "الشهاب" أنه يعتمد في هذه الدروس على تفاسير مخصوصة في مواضيع مخصوصة، كالطبري في المأثور والكشاف للزمخشري في أسرار الإعجاز. وذلك صحيح ومفيد لمن يجعل فهوم الرجال مقاييس لفهمه، ولا يعطيها أكثر من أنها فهوم تصيب وتخطى، أما المعنى الصحيح لكتاب الله فيستجليه من البيان العربي والشرح النبوي ومن مقاصد الدين وأسرار التشريع، ومن عجائب الكون وسنن الله فيه ومن أحكام الاجتماع الإنساني، ومن تصاريف الزمن ونتائج العقول وثمرات العلوم التجريبية. وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن على هذه الطريقة في القطر الجزائري، فإن من دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيّدها بالكتابة، ولو

وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخزا لا يُقوَّم بمال، ولاَضْطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال، ولتمخض لنا ربع قرن عن تفسير يكون حجة هذا القرن على القرون الآتية. ومن قرأ تلك النماذج القليلة المنشورة في الشهاب باسم مجالس التذكير علم أي علم ضاع وأي كنز غطى عليه الإهمال. ولما كان اليوم المشهود بختم هذه الدروس جمع أحد الحاضرين ما وعته ذاكرته وأمكنه تقييده من معنى درس الختم في تفسير المعوذتين وتصرف في ألفاظه بما لا يخرج عن معانيه، إذ لم يكن من الميسور أن يلتقط الألفاظ كلها. فجاء بهذه الخلاصة التي ننشرها على الناس في هذا العدد الخاص بالاحتفال لافتين أنظارهم إلى أن هذه الخلاصة محيطة بمعاني الدرس مع تصرف ضروري اقتضته مساوقة ما كتب لما قيل. ... استهل الأستاذ الدرس بعد الاستعاذة والتسمية بالتحميد المأثور: الحمد لله إن الحمد لله. نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد فما له من مضل، ونشهد أن لا إله إلّا الله ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ثم عقّب بما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ به خطبه. وجرت عادة المُحدِّثين والمُفَسِّرين أن يفتتحوا به مجالس التحديث والتفسير، وإن اختلفت الروايات في ألفاظه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم قال توطئة للدخول في تفسير المعوذتين ما معناه مع تصرف وتوضيح: بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا وأن يشتبها وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته، فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بهما دائرة بينهما موصوفة بأحدهما ولا بدّ. ذلك من قدر الله ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني. وحكمته المبيَّنة في وحيه هي ابتلاء خلقه ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم بعد أن وهبهم العقل والتمييز، وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلًا منه تعالى ورحمة، وحكمة أخرى وهي تمرين هذا الإنسان في حياتيه العلمية والعملية، وتدريب فكره على اختيار

_ * الشهاب: هو الأستاذ الإبراهيمي كاتب التلخيص.

الأنفع على النافع، والنافع على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه. والإنسان يكتسب القوّة والدربة بتمرّسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره، وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة، وسائق لها ومُهَيِّئٌ لما يظهر أنه من بدواتها. وهذا العمل الفكري تظهر قوّته في نواح منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر، وأدق منه التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين. فإن الخير درجات وأنواع، والشر كذلك دركات وأنواع. والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه. وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر. وقد أمدّه الله بهذه المعونة من دينه الحق، ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد، وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة، والمبصرات عند عروض الشبهة، والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان وطواف طائفه. ومن هذه المعوذات عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك وهي شر، وحقائق تقي صاحبها الوهم وهو شر. وعبادات تربي مقيمها على الخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. وأعمال تثبِّتُ فاعلها على الحق. وأقوال يمليها القلب العامر بتقوى الله والخوف من مقامه على الألسنة لتكون شهادة لها وعنوانًا عليها، والألسنة تراجمة القلوب، فكان ممّا شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل، وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن، وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ باسم الله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة. أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ خَيْرٌ مِنْهُنَّ قَطُّ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ». وفي رواية أخرى في مسلم عنه تسميتهما بالمعوذتين، وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضًا وصف عقبة بن عامر بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. فتسمية هاتين السورتين بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة كأسماء جميع سور القرآن، وقد يقال المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص. وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذًا من الشرك وهو أصل الشرور كلها. وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما، وأما ما يذكر في نزولهما في قصة سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك لم يصح سببًا لنزولهما، وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن

الأعصم أصل ثابت في الصحيح، وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما، وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما، ولنا فيما صح غنية عما لم يصح. وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة، وهي ناحية التعوّذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيهما، ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عابس الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا ابن عابس ألا أدلّك، أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون»، قال: بلى يا رسول الله، قال: «قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، هاتين السورتين». فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ، وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به. ولهاتين السورتين خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض، ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع، وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما وهما كالسورة الواحدة. فما هي الحكمة في ختم القرآن بهما؟ وترتيب السور توقيفي ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في الإتقان وجماعة. يستطيع ممارس القرآن ومتدبره ومتلقيه بالذهن المشرق والقريحة الصافية أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعًا، ولكن أجلاها وأوضحها أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن. وتحصين لهذه النعم المنثالة من القرآن عليه أن يكدرها عليه كيد كائد أو حسد حاسد. فإن من أوتي الشيء الكريم ورزق النعمة الهنية هو الذي تمتد إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء، وتقذفه عيونهم بالشرر وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء، ويشتد عليه تكالبهم سعيًا في سلبه منه أو تكديره عليه، وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار نفاسة ما تملك تكون هدفًا لمكائد الكائدين، وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري، ومن أوتي القرآن فقد طوي الوحي بين جنبيه وأوتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين ومهوى أفئدة الكائدين، فكان حقيقًا، وقد ختم القرآن حفظًا أو مدارسة أو تلاوة، أن يلتجئ إلى الله طالبًا منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم الذي كمل له، وهذه النعمة الشاملة التي تمت عليه. هذه حكمة، وأخرى: وهي أن من أوتي القرآن وتفقّه فيه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأحاط بالعلم من أطرافه وملك كنزه الذي لا ينفذ. وان من آفات العلم اغترار صاحبه به، وقد يتمادى به الغرور حتى يسوّل له أن ما أوتيه من العلم كافٍ في وقايته من الأضرار ونجاته من الأشرار، فكان من رحمة الله بصاحب القرآن ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به، أن ختم بهاتين السورتين كتابه لتكونا آخر ما يستوقف القارئ المُتَفَقِّه، وينبهه إلى

أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلّا الآن، وهي أنه مهما امتدّ في العلم باعه واشتد بالحكمة اضطلاعه، فإنه لا يستغني عن الله ولا بد له من الالتجاء إليه والاعتصام به، يستدفع به شر الأشرار وحسد الحاسدين، وكفى بهذه التربية قامعًا للغرور، وإنه لشر الشرور. هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتبًا ترتيبه التوقيفي وبين هاتين السورتين في اتحاد موضوعهما. وأما المناسبة الخاصة بين السورتين وبين سورة الإخلاص، فهي أن سورة الإخلاص قد عرَّفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد. فإذا قرأتَ القرآن وتدبّرتَه على ترتيبه، ووجدتَ توحيد الله منبثًا في آياته وسوره، متجليًّا ذلك التجلي الباهر بمعارضه وصوره، سادًّا ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع، كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن، هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد، وكأنها وصية مودعّ مشفق بمهمّ يخشى عليك نسيانه فيعمد فيها من الكلام إلى ما قلّ ودلّ ولم يملّ. ومِن صِدقِك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته، أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه، بصدق معاملتك لله وإخلاص توحيدك إياه. فأنت وقد آمنت وصدّقت وخرجت من سورة الإخلاص متشبعًا بمعانيها، ومنها معنى الصمد، تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدّرة بالشرور، وأن لا ملجأ إلّا ذلك الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحد، فَتَجِيءُ المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الالتجاء الذي هو من تمام التوحيد. ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاث جمع بينهن في التَسْمِيَةِ، ففي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث عن نفسه بالمعوذات، وسياق النسائي لحديث عقبة بن عامر المتقدم أن رسول الله قرأ وقرأت معه الإخلاص ثم قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فلما ختمهن قال: «ما تعوّذ بمثلهن أحد». وكما جمع - صلى الله عليه وسلم - بينهن في التسمية والتعوذ جمع بينهن عمليًّا في قراءة الوتر. هذا إجمال المناسبة الخاصة بين السور الثلاث.

سورة الفلق

سورة الفلق: قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الأمر المفرد للنبي- عليه السلام-، ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن أن تقدر في مثل هذا الأمر أيها الرسول أو أيها النبي، لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي- عليه السلام-، وأن لا تقدر يا محمد كما هو جار على الألسنة وفي التصانيف، فإن القرآن لم يخاطبه باسمه. والأمر لنبيّنا أمر لنا لأننا المقصودون بالتكليف، ولا دليل على الخصوصية، فهو في قوّة قل أنت وقل لأمتك يقولون. وأعوذ: أستجير وألتجى، ويتعدى هو وجميع تصاريفه بالباء كأستجير، والعوذ والعياذ مصدران منه كالصوم والصيام، وفي القرآن مما جاء على المعنى اللغوي {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} ومن كلام العرب: قد استعذت بمعاذ. والرب: الخالق المكوّن المربي، ومواقع استعمال هذه الكلمة في القرآن هي التي تكشف كل الكشف عن معناها الكامل. والفلق: الفجر المفلوق المفري، ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن: الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه، كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم. ومما وصف به ربنا نفسه في القرآن: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}، و {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، فهما من أسمائه تعالى. ومواقع هذه الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب في القرآن، كمواقع أسماء المخلوقات التي أقسم بها الله، كلاهما عجيب معجز، فكل لفظة تستعمل في المقام الذي يناسبها وتناسبه، وكل لفظة تبعث في الأسلوب الذي وقعت فيه متانة وقوّة وفي معناه وضوحا وجلاء، وسر إضافة الفلق إلى "ربّ" هنا، أن الفجر بمعناه العرفي هو تشقق الظلمة عن النور، فإن الليل يكون مجتمع الظلمات مسدول الأرواق، فإذا جاء الصبح حصل الانفراق. والذي يبقى بعد ذلك الانفلاق هو النور الذي نفى الظلمة، ولا ينفي ظلمات الشر والضلال والباطل إلّا أنوار الخير والهدى والحق من خالقها وفالق أنوارها، وكما أضيف الفلق بمعنى الفجر إلى كلمة رب هنا، أقسم به في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ}. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}: من كل مخلوق فيه شر، فلا يدخل في عمومه إلّا كل شرير من أي العوالم كان، كما يدخل في عموم الناطق كل ذي نطق، أو من شر كل مخلوق، ومن مخلوقات الله ما هو خير محض كالأنبياء والملائكة، ومعلوم أن المخلوقات كلها خلقت

بحق ولحكمة فهي في نفسها خير. فإن كان لا ينشأ من أعمالها أو آثارها إلا الخير فهي الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحيانًا أو دائمًا فعملها هو الشر وهو المستعاذ منه. وتصحّ نسبة هذا القسم إلى الله من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين لا من حيث الرضى والتكليف، فالله لا يرضى بالشرّ ولا يكلف به، وقصارى إبليس وهو مادة الشر في هذا الوجود أن يزيّن الشر ويلبسه بالخير، فالشر بيد الله خلقة وحكمة لا رِضًا وتكليفًا، والخير بيد الله خلقة وحكمة ونعمة وأمرًا. وقد يكون الشرّ ذاتيًّا لا ينفك، وقد يكون نسبيًّا باعتبار حالة تعرض واتجاه يقصد، ونعم الله على عباده قد تنقلب عليهم شرًا وبلاء بسبب سوء تصرفهم فيها، كالمال الذي سماه الله خيرًا في القرآن، يكسبه صاحبه من الوجوه المشروعة وينفقه في الوجوه المشروعة، ويتحرى رضا الله في جمعه وتفريقه فيكون خيرًا بذاته وبعمل صاحبه، ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شرًا لا من ذاته بل من عمل صاحبه. وهذا العالم الإنساني المكلف هو الذي يتجلّى الخير والشرّ في أعماله، ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقًا. وإنما عيب عليه الشر وقبح منه لأنه قادر على تمييزه واجتنابه ومكلف بذلك، وقد وضع له الدين قوانين ثابتة للخير والشر وَوَضَّح له أن الخير ما نفع وأن الشر ما أضر، ولكنه وإنْ أوتي قوّة التمييز لم يؤت قوّة الاستعصام ابتلاء من الله، فأما المخذول فيأتي الشر عامدًا متعمدًا وهو يعلم أنه شر، وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز، والخير والشر لا يوزنان بميزان حسّي يستوي الناس كلهم في إدراكه، وقد تَدِقُّ الفوارق بينهما حتى تخفى، وفي هذه المواقف يجب الالتجاء إلى الله ليرينا الخير خيرًا ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر، فلا يلتبس علينا شيء بشيء، وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح، تندفع ألسنتنا وتقول: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}. وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين رب والفلق، فإن رب الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فتُرَى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شي منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالمًا فقد تخفى عليه حقائق المعقولات فيزيغ فكره ويطغى. ومناسبة أخرى وهي أن الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام، وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام، ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأُنس بالنور والبشاشة له هو عين ما يلابسه من الأُنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه هو عين ما يضايقهم من ذلك في الشر.

هذا كله في الشر على عمومه ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيئ أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان. هذه الثلاثة هي: الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد. والغاسق: الليل المظلم والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة. ووقب: دخل في الوقب وهو النقرة في الشيء. والنفاثات: السواحر ينفثن الريق، واللفظ جمع نفاثة كثيرة النفث. والعقد: جمع عقدة بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها. والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين. فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفي عمله أو يخفى أثره يجلّ خطبه ولعظم خطره، فيعسر التوقّي منه والاحتياط له، لأنك تتقي ما يظهر ويستعلن، لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص. أما نكتة الترتيب فإن الليل ليس شرًا في نفسه ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس، قوية في الاعتبار، مسبّبة للحكم على أحدهما بحكم الآخر. بخلاف النفاثات والحساد فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتيًّا لهما، ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي، كما أن بين الإثنين تفاوتا في ذاتية الشر وقوّته وعسر التوقِّي منه. فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه، بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير، فشره أشد والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترقٍّ من الأخف إلى الأشد. ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهرًا بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد فإن الجميع ظلام، ظلام الزمن وظلام السحر وظلام الحسد. وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد للمراد: الأول أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظّلم وتكاثفها، فكأن بعض أجزائها يدخل بعضًا، والظلام يبدأ خفيفًا مشوبًا بإسفار من الشفق أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويحلولك حتى يغطّي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب. والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني،

وفائدة القيد حينئذٍ أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم. فالطارق يطرق والسارق يسرق والحيات تنتهس، والضواري تفترس. وظلام الليل يستر ذلك كله ويعين عليه ويعوق عن الاستصراخ والاستنجاد، والعرب تقول في ما يشير إلى هذا: الليل أخفى للويل. فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال شر يقع في زمان، والاحتمال الثاني أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسّيًّا فيقتضي ظرفًا مكانيًّا، وما هذا الظرف إلّا الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها، ويكون دخوله فيها أبين من دخوله في الفضاء، وملؤه إياها أشد، فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء خصوصًا من الآدميين، والمستعاذ منه شر يقع في مكان، أعلى الاحتمالين لما كان الليل معوانًا لذوي الشر على شرهم، أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه. والنفاثات: صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء، وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلًا كان أو امرأة، وإما للنساء وخُصِّصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهُنَّ به أشهر. والنفث: إخراج الهواء من الفم مدفوعًا بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل. والنفث وإن كان عامًا لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطًا ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم، وينفثون على كل عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلّا لأنه يؤثّر في بعض النفوس القابلة للتأثر به، حاش النفوس المعصومة كنفوس الأنبياء، فإن شرور الدنيا وأسواءها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم، ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يوهمه لفظ الرواية فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني. ونحن نعتقد دينًا أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده، ونقطع علمًا وتجربة أن للقوى النفسية تأثيرًا أعظم من تأثير القوى الجسمانية، وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون، وتأثير التنويم في المنوّم، وأن التأثير والتأثر النفسانيين يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوّة وضعفًا، وأن تأثير العين ليس من ذاتها وإنما هو من النفس التي من وراء العين، ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تُحدث ذلك الأثر، وإن هذا التأثير لون من ألوان النفس، فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيرًا، وإن كانت شريرة كان شرًا.

فالنفث المذكور في الآية إن أثَّر فإنما يؤثر بالقوّة النفسية التي من ورائه، والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلّا نفث الشر، لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق وإنما تنفث السم، وكالعدو يلقاك بطعن الأَسَل، لا بطعم العسل إذ كان ذلك من طبيعة العداوة. هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة. وأما النفوس الخيرة الطيبة كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير. وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه، يبدأ برأسه ووجهه يفعل ذلك ثلاث مرات، فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله، ثم قالت في تمامه: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك، وفي رواية: كان يقرأ بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها، وفي رواية مسلم عنها أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله. فهذه الأحاديث- وهي ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المعوذات وينفث حين القراءة نفث الخير قطعًا. وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها، وأن النفث إيصال للقوّة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيرًا وشرًا، ولولاهما لما كان النفث إلّا من فعل السحرة. والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءًا من روحانيتها على نفس أخرى أو على بدن، وكأن تحرلك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية واستدعاء لها، حتى تتصل بالريق الذي ينفث كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادي. وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثًا مجردًا بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة. ومن الشواهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم من حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا (تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل) ثم رفعها وقال: بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى بها سقيمنا بإذن ربنا. (بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع): إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة، فلا يستقل بتفسيره إلّا الزمن، وكذلك كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - المبيّن له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع، لم تفهم أسرارها ومغازيها إلّا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في

الكون، وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في وصف القرآن: "لا تنقضي عجائبه". والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامد والفهم الجامد، وإنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم، وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات: لم يأت مصداقها أو تأويلها بعد. يعنون أنه آتٍ وأن الآتي به حوادث الزمان ووقائع الأكوان وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه. ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أسبابه في هذا الحديث؟ فماذا تراهم يقولون؟ يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بِرِيق النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاء ما بعده من شفاء. ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال، في التراب (مكروب)، وفي الريق (مكروب)، فأنَّى يَشْفيان مريضًا أو ينفسان عن مكروب. ويقول الكيمياوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل. ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمدًا رسول الله. فقد علّم الناس من قبل أربعة عشر قرنًا أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه تَشْفي من القروح والجروح، ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدًا من المحبة والإخلاص له، وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به، وليقرر لهم من منن الوطن منّة كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تغذي وتُروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تَشْفي، فليس هذا الحديث إرشادًا لمعنى طبي، ولكنه درس في الوطنية عظيم، ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب، فإنه بباب حب الوطن أشبه. وما نرى رافع العقيرة بقوله: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … بوادٍ وحولي إذْخر وجليل وهل أرِدَنَّ يومًا مياه مجنة … وهل يبدوَنَّ لي شامة وطفيل إلّا سائرًا على شعاعه. وما نرى ذلك الغريب المريض الذي سئل فيم شفاؤك؟ فقال: شمة من تربة اصطخر، وشربة من ماء نهاوند إلّا من تلامذة هذا الدرس، ولقد زادنا إيمانًا به بعد

ايمان أنه يقول: تربة أرضنا بريقة بعضنا، ولم يقل: تربة الأرض بريق بني آدم، فليس السر في تربة وريق ومرض، ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوطنية والقومية لا ما يتبجح به المفتونون. ويقول الروحانيون: إن هناك روحًا طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها وتغذي بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوّها وهوائها، من ريقة منفوثة نفث الخير من نفس مؤمنة قوية الروحانية طيبتها، فمكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني. وإذا تجلّت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب. ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول. وهكذا تأتي بعض المتون من كلام الله وكلام رسوله معجزة للعقول، فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون، والعلوم حرف العقول، والزمان من وراء الكل يصيح أن انتظروا ... ومن شرها حاسد إذا حسد: الحاسد الذي قامت به صفة الحسد، وهو الذي يحب أن تسلب النعم من غيره، وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزين له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد ويتمنى أن لا يبقى على وجه الأرض منعم عليه، وإنما ينشأ الحسد من العُجْب وحب الذات فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلًا لنعم الله، وكفى بهذا محادة للمُنْعِم. والحسد شر تلازمه شرور، العُجب والاحتقار والكِبْر، وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها، حسد آدم عُجْبا بنفسه فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، ورآه لا يستحق السجود احتقارًا له فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}، ثم تكبر ولم يسجد ورضي باللعنة والخزي. ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إمامًا. والحسد شر على صاحبه قبل غيره لأنه يأكل قلبه ويؤرق جفنه ويقضّ مضجعه، ولا يكون شرًا على غيره إلا إذا ظهرت آثاره بأن كان قادرًا على الإضرار أو ساعيًا فيه ولهذا قال تعالى: إذا حسد. والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلا العجز. وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه، امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين، ونعمة العافية والعلم والجاه والحكم، وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

سورة الناس

وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج، وقد وصف الحكماء له أنواعًا من العلاج فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء للغزالي. سورة الناس: قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}: قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان)، وعلمنا أنها تسمية نبوية وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما، أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو: الناس، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: الفَلَق، والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام ومن ثلاثة أنلا منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة. والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام: قسم يصدر عنه الضرر ويعمله، وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه وهو شر من الأول، وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح ومالك هديها وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فهو يحسن له الأشياء القبيحة، ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يُرديه من القبائح، ويأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قريبًا منه متصلًا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك، ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا وأكثر شرًا وأخسر عاقبةً خصص التعوذ منه بسورة كاملة. رب الناس: هو مربّيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما منّ به عليهم فيما ينفعهم، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، وأصله من رَبَّه يَرُبُّه ربًا إذا قام على إنشائه وتعاهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ولفظه لفظ المصدر، ولكن معناه معنى اسم الفاعل كالعدل يراد به العادل. ومالك الناس: هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية. وإله الناس: هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية. وبلاغة الترتيب إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني. فالأول: طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية، والثانى: طور القوّة والتدبير، وهما من مظاهر الملك، والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية.

والمستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه، وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها أو بما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوّة الموسوسة مثل قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}. أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وخالقه كقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. وكقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}. وكقوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}. فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها. والرب رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته. ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجّه الخطاب وإليهم يساق التحذير، وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما، فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم لتثبيت سنّة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم. ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربويين وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال. وقد ضلوا بالفعل في ربويية الله وفي ألوهيته. ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ويصدّوهم عما شرع الله. وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء. واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية، لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق، وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبًا عليه، وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر. ففي تخصيص الناس بالذكر تنبيه إلى أنهم أحوج المربُويِينَ إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد. ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنَّة من استعباد الأقوياء. ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس،

وهو الأماثل والأخيار منهم، الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}. ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس، توضيح المعنى وإلفات النفس إليه وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم. من شر الوسواس: الوسواس هنا صفة الموسوس وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال والزلزلة، وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء، والعرب تسمي حركة الحلي وسواسًا، وهذا المعنى واضح في المراد هنا فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع، وبحْكم الحيلة في ذلك ولا يرمي رميته إلّا في الخلوات. وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضرورًّيا من الفرق بين المصلحين والمفسدين أن الأولين يصدعون بكلمة الحق مجلجلة، ويرسلون صيحته داوية ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق، وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا، ويستترون إذا فعلوا، ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية، ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات. والخناس: وصف مبالغة في الخانس من الخنوس وهو التأخر بعد التقدم، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي، إغراقًا في الكيد وتقصيًا في التطور حتى يبلغ مراده. فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا، وهجومًا وانتهازًا، واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ). يرشدنا بذلك لنُعِدَّ لكل حالة من حالاته عدتها. ولنُضيِّق عليه المسالك التي يسلكها، كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد، لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ثم دواليك حتى تملّ أو يملّ. وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد فهو مبالغة في التحذير منه لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره. الذي يوسوس في صدور الناس: قال يوسوس بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها، وقال في صدور الناس. والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستوح القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها، ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر وإنما هو فيه، ولذلك قال: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح

والحرج والضيق والشفاء والإخفاء والإكنان- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية ولا أجزاءها المادية وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس يوجّه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر لأنها مجمع القوى. وقال في صدور الناس ولم يقل في قلوب الناس، لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنًا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يَظْهَرُه ولا يستطيع له نقبًا. من الجِنّة والناس: الجِنَّة جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين. واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون في قوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}. ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة ليلتئم طرفا الكلام ويحصل التقصي الوصفي في المستعاذ به والمستعاذ منه. وقد قسم القرآن الشياطين وهم القائمون بوظيفة الوسوسة إلى قسمين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول، وشيطان الجن ميسر للشر، فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله، ومن شياطين الإنس بطانة السوء وقرين السوء. وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}. وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ}، وهو من باب توزيع الجمع على الجمع أي لكل واحد قرين، فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن لم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس، يزينون له ما بين يديه وما خلفه، ويصدّونه عن ذكر الله، فماذا يصنع؟ ما عليه إلّا أن يلتجئ إلى الله ويستعيذ به ويتذكر، فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ، وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية لسرّ من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى لسرّ آخر، فيقدم السماء على الأرض في مقام ويؤخرها عليها في مقام آخر، ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن في آية الأنعام لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء وهي من الإنس أظهر ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح. وفي آية "الناس" قدم الجنة على الناس لأن الحديث عن الوسوسة وهي من شياطين الجنّ أخفى وأدقّ، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمرّ، فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد فيربى عليه ويكون شرًّا

منه لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به، ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جِنِّيٌ لإنسي ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولّد منها فتن ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل، وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفّل كان شرّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملإ الأعلى وأوشك أن يكون خيرًا محضا لولا أن العصمة لم تكتب إلّا لطائفة منه وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإلإنسإن إذا انحط يكون شرًا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال. انتهى تلخيص الدرس وقد حرصنا على ما وعته الذاكرة من معانيه وقيده القلم من ألفاظه، ثم تصرفنا في المواضيع التي طرقها الأستاذ بما لا يخرج عن مراده ولا يخالف طريقته في تفسير كلام الله. والله ينفعنا بالقرآن ويوفقنا إلى خدمته.

خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم

------------------------------ 5 - خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم للأستاذ ابن باديس في كليّة الشعب* ------------------------------ "ارتجل الأستاذ خطبته هذه فلم تصطد أقلام الكاتبين من ألفاظها إلا قليلًا مشوّشًا لم يحفظ ترابط المعاني بين أجزائها، فألحّ جماعة من السامعين المعجبين على الأستاذ أن يكتب ما علق بذاكرته من ألفاظها ويضيف إليها بقلمه ما يربط بين معانيها حرصًا على تخليدها في خطب الاحتفال، فحقّق رغبتهم بكتابة ما يراه القارئ منشورًا بعد هذا": أيها الملأ الكرام: ما أشرقت شمس في الجزائر الحديثة على مثل يومكم بالأمس، ولقد مضى بجلاله وروعته ولم ينطق في وصفه لسان بكلمة ولا اختلجت في نعته شفتان بحرف، لا زهدًا فيه ولا عدم عرفان لحقّه ولا غبنًا لحقيقته، كيوم شوقي الذي قال فيه: غبنت حقيقته وفات جمالها … باع الخيال العبقري الملهم وإنما هو كلام الله وبيت الله عقدا الألسنة بجلالهما وحبسا النفوس على جمالهما، فجاء اليوم وجاءت كليّة الشعب يقضيان من ذلك حقًا غير مغفل. إن يوم أمس من أيام الأُمَم، ولأيام الأمم غرر لوامع في تاريخها، ويد صناع في بناء مجدها، وصلة لا تنضب بتكوين أسباب بقائها وعظمتها، كما أنها شهود ناطقة بما في الأمة من معاني العزّ والعظمة. لسنا نعني بأيام الأمم، هذه الأيام المتعاقبة التي يجمعها نسق الأسبوع وتُعرف بالاعلام وتمتاز بمراتبها العددية في الشهر، فقد تمرّ الآلاف منها على الأمم من غير أن تجمعهم جمعها على مأثرة تكسبهم عزًّا ومن غير أن توحّدهم آحادها على عمل يرفع لهم ذكرًا. ثم لا تكون زيادتها إلا نقصًا في أعمار الأفراد وإبلاء للجديد من حياة المجموع. وإنما نعني هذه الأيام التي هي لمع في الدهور، وشيات في غرر العصور، هذه الأيام التي تعرف بما يقع فيها من الأعمال، لا بما يوضع لها من الاعلام، وتذكر بآثارها في الأمم، لا بمواقعها من الأسبوع أو الشهر، هذه الأيام التي تطول وتتسع حتى تستغرق القرون وتستوعب الأجيال على حين يبقى غيرها محدودًا بمطلع الشمس ومغربها.

_ * "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:277]

إن أحدًا من المسلمين لا يجهل يوم بدر ولا يجهل- وإن كان عاميًّا- أثره في ظهور التوحيد على الشرك، ولكن قليلًا منهم من يعرف أن اسمه يوم كذا وأن نسبته من الشهر كذا، وقد غربت شمس يوم بدر منذ مئات الآلاف من الأيام وجرّ عليه الفلك أذيال عشرات الآلاف من شركائه في الاسم، فلم يعف له رسمًا ولم يطمس له أثرًا. ومات معناه الزمني المحدود ولكن معناه التاريخي النفسي لم يمت بل هو باق ما بقي الإسلام، طويل العمر ما طال، واسع المعنى ما اتسع. ولقد علّمتنا لغة العرب فنًّا في مصاص الأشياء فقهنا منه أن من النساء عقائل، وأن في الأموال كرائم، وأن في الجواهر فرائد، وأن في النجوم دراري، وأن في الشعر عيونًا، وأن في الذخائر اعلاقًا إلى آخر ما يجري على هذا النسق، حتى إذا وصلنا إلى الأيام، وهذا أشد- من كل شيء- ارتباطًا بشؤوننا، لم نجد لمصاصها في اللغة إلا أوصافًا يتعاورها اشتراك الموصوفات، وبتجاذبها اختلاف الاعتبارات، ثم يذيلها شيوع الاتصاف وتبذل الاستعمال حتى تقصر عن التأدية، خصوصًا حين يفيض الوصف التاريخي على الوصف اللغوي، وإن من معجزات القرآن تسميته ليوم بدر بيوم الفرقان. ولكن يسلينا أن ما قصرت فيه اللغة فلم تأت فيه بوصف يليق بجمالها وجلال هذه الأيام، قد وفى به التاريخ فلم نحفظ من أيام الأمم الكثيرة إلا أيامًا قليلة فكان ذلك منه تعبيرًا فصيحًا على أن هذه الأيام هي الخوالد من بين الأيام البائدة. وهي الغرر في الكثرة البهيمة، وهي المشهودات وغيرها غفل. وكان ذلك منه وضعًا تاريخيًا يخصص الأوضاع اللغوية. فإذا قلنا هذا يوم خالد ويوم أغرّ ويوم مشهود اطمأنت النفوس إلى تمام التأدية بمراعاة الوضعين التاريخي واللغوي. أيها الإخوان: إن يومكم الذي نتحدث عنه هو اليوم الأغرّ المحجل في تاريخ الجزائر الحديث ولا أبعد إذا قلت إنه اليوم الأغرّ في قرون من تاريخ الإسلام. هذا هو اليوم الذي يجب أن نؤرّخ له في الطور الجديد من أطوار نهضتنا العلمية الدينية، ونؤرّخ به لمبدَإِ ازدهارها واثمارها، ونموّها وإِبدارها. هذا هو اليوم الذي التفَّت فيه الأمّة حول دينها ولغتها فأثبتت أنها أمّة مسلمة عربية يأبى لها دينها أن تلين فيه للعاجم، وتأبى لها عربيتها أن تدين فيها للأعاجم. هذا هو اليوم الذي تعلن فيه هذه الأمّة انابتها إلى ربها، وتكفيرها عن ذنبها ورجوعها إلى الله رجوع عبد أوبقته جرائره، وافتضحت سرائره، وانقطعت أواصره، وعزّ مغيثه وناصره، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فرجع على الطريق التي منها هرب. فإن هروب هذه الأمة من الله هو تفلتها من كتابه وبعدها عن هدايته، والتماسها الوصول إليه على غير

طريقه، فضلّت وتاهت قرونًا وها هي ذي تفيء إلى الله على طريق كتابه وسنّة محمّد وأصحابه وعسى هادي الحائرين أن يعود عليها بعوائد برّه وإحسانه. هذا هو اليوم الذي يختم فيه إمام سلفي تفسير كتاب الله تفسيرًا سلفيًا ليرجع المسلمون إلى فهمه فهمًا سلفيًا، في وقت طغت فيه المادة على الروح ولعب فيه الهوى بالفكر، وهفت فيه العاطفة بالعقل، ودخلت فيه على المسلم دخائل الزيغ في عقائده وأخلاقه وأفكاره، وفي أمّة تقطعت صلاتها بالسلف وضعف تقديرها للقرآن، فأصبح ملهاة آذان ومشغلة لسان، وأصبح حفاظها يقْرأُونَه للتبرّك أو يتجرون به في المقابر، وعوامها ينزلونه منزلة البصل والكرّاث فيستشفون بحروفه من أمراض سببتها الحرارة أو جلبتها البرودة، وعلماؤها يدرسونه بلغة المصطلحات العرفية، ويتناولونه بأذهان حشيت بالأفكار الطائفية، والتعصبات المذهبية، والمحامل الجدلية، والتوجيهات اللفظية، وبكتب مُلئت بالإسرائيليات المصنوعة والآثار الموضوعة والنظريات، والطلبة- وهم صرعى هذه الفتن- يتلقونه بألسنة جافت البيان العربي وصرفتها العجمة في منهاج غير منهاج العرب، ففسد الذوق واختلّ التصور- وبأفكار غطّى عليها الجمود وسدّ عليها منافذ التفكير- وبنفوس ركبها الملل والسأم، فرضيت بسماع ما لا يفهم وتلقّي ما لا يعقل، وهان الزمان في حسابها فأصبحت تنفق منه جزافًا، واختلّ تقدير الأشياء عندها فأصبح كل مقروء علمًا وكل قارئ عالمًا. وأشهد، لقد كنت ضيفًا بتونس منذ سبع عشرة سنة، فقيل لي عن عالم من مشائخ جامع الزيتونة ومن أبعدهم صيتًا في عالم التدريس: إنه يقرئ التفسير. فشهدت يومً! درسه لِأُكوِّن فكرة عن دراسة التفسير في ذلك المعهد الجليل. وكنت معنيًّا بهذا البحث وجلست إليه أكثر من نصف ساعة، فوالذي نفسي بيده ما سمعت منه كلمة واحدة من الآية التي هي موضوع الدرس ولا لمحت إمارة ولا إشارة تدُلّ على أن الدرس في التفسير. وما كان كل الذي سمعت إلا حكاية لجدل عنيف وتمثيلًا لمعركة لفظية مستعرة بين السيد الجرجاني وعبد الحكيم حول عبارة لعلها لمفسّر من المفسّرين الاصطلاحيين، ثم انقضت الحصة وقام الطلبة المساكين يتعثرون، تبدو عليهم سيماء التعب والملل والخيبة، وقمت أنا مستيقنًا أن هذه الطريقة في التفسير هي أكبر الحجب التي حجبت المسلمين عن فهم كتاب الله ثم زهدتهم فيه وصدتهم عن موارده. أيها الإخوان: إن الأمّة الإسلامية التي يقرأ الناس أخبارها في التاريخ فيقرأون المدهش المعجب، ويرى الناس آثارها في العلم والتشريع والأدب والحكمة فيرون الطراز العالي البارع، فيستوي المحب والمبغض في الاعتراف بأن أمّة هذه أخبارها وهذه آثارها لهي الأمّة حق الأمة، إن تلك الأمّة ما كانت أمّة بذلك المعنى وتلك الأوصاف إلا بالقرآن.

فالقرآن هو الذي ربّاها وأدّبها وزكّى منها النفوس، وصفّى القرائح، وأذكى الفطن، وجلا المواهب، وأرهف العزائم، وهذّب الأفكار، وأعلى الهمم، واستفزّ الشواعر، واستثار القوى، وصقل الملكات، وقوّى الإرادات، ومكّن للخير في النفوس، وغرس الإيمان في الأفئدة، وملأ القلوب بالرحمة، وحفز الأيدي للعمل النافع والأرجل للسعي المثمر، ثم ساق هذه القوى على ما في الأرض من شر وباطل وفساد فطهّرها منه تطهيرًا وعمرها بالخير والحق والصلاح تعميرًا. أيها الإخوان: قارنوا بين هذه الأمّة الإسلامية المطوية في بطن الأرض وفي بطون الكتب، وبين هذه الأمّة الإسلامية التي تدب على وجه الأرض تجدوا الفرق بعيدًا جدًا، ووجوه الشبه مفقودة البتة مع وجود الاشتراك في الاسم والنسبة. ثم التمسوا السبب تجدوه قريبًا منكم، وما هو إلا هذا القرآن أقامه الأولون وجمعوا عليه قلوبهم وراضوا نفوسهم على أخلاقه، فعلمها الإيمان والأمان والإحسان، واتخذه الآخرون مهجورًا فحقت عليهم كلمة الله في أمثالهم. فمن لي بمن يرسلها في مسلمي الدعوى والعصبية صيحة داوية: يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن؟ أيها الإخوان: إن هذه البسيطة لم تشهد منذ دحاها الله صلاحًا عامًا وسعادة شاملة كالذي جاءها به القرآن يوم أنزله الله على قلب نبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم - فأنذر به العالمين ونشره ورثته الأمناء من بعده نقي الجوهر ناصع الحجة. وإن هذا العالم الإنساني لم يشهد منذ برأه الله على ظهرها إفسادًا عامًا وشرًّا مستحكمًا وطاعونًا أخلاقيًا جارمًا إلا مرتين، على كثرة ما شهد من الطواعين الجسمانية. أما إحداهما فكانت قبل الإسلام يوم كان العالم الإنساني كله فريسة للأثرة والاستعباد والاستبداد والفساد والإفساد، ويوم كان بحرًا متلاطم الأمواج بالرذائل، ويوم كان العقل عبدًا للهوى والفكر عبدًا للوهم، والحقيقة أمة للخرافة والفطرة رهينة الاعتلال والاختلال، ويوم كان هذا العالم كله خاضعًا لشهوات مضطرمة وحيوانية عارمة ووثنية متغلغلة. ولكن الله- جلت قدرته- تداركه، وبه رمق، بالإسلام دين السلام وكتابه القرآن كتاب العدل والإحسان، وبرسوله الأمين يحمل منه للعالَم المثخن الدواء الشافي، ويمسح على مواقع الألم منه بالكف الكافي. فما هي إلا فترة حتى أصبح العالم يمرح في السعادة ويسبح في النعيم وينعم بالأخوّة والتسامح ويتقلب في أعطاف العدل.

وأما الثانية فهي في عهدكم هذا. ولو أنكم تستشهدون التاريخ: أية المرّتين كانت أشرّ وأشرّ وأدهى وأمرّ، لقال لكم غير متَجَانِفٍ لإثم: إن شرّ المرّتين آخرتهما. ولساق لكم من الحجج ما لا تستطيعون له دفعًا. فإن الشرّ الأول كان من بعض دواعيه الجهل، أما هذا الشرّ فكل دواعيه العلم. وقد كان الشر يعرض على الناس باسمه وفي ثوبه الحقيقي فأصبح يعرض عليهم باسم الخير وفي ثوب الخير. وقد كان العالم متباعد الأجزاء متقطع الأوصال. وفي تباعد الأجزاء تقليل من بواعث الشر، فأصبح العالم مزدحمًا حتى ليكاد يلتحم. ومن ازدحامه والتحامه نشأت معضلته الاجتماعية الكبرى وهي مشكلة الأغنياء والفقراء التي لم يفلح في حلّها علم العلماء ولا حكمة الحكماء ولا قوّة الأقوياء ولا دهاء الدهاة، والتي تفاقم خطبها واضطرم لهيبها حتى أصبح بنو آدم المتآخون في نسبه فريقين مضطغنين يتربص كل فريق بأخيه دائرة السوء. ويا ويل هذه الأرض إذا انفجرت الأحقاد بين أبنائها. وقد عرفنا التاريخ أن أصل البلاء بين البشر جاء من عصبياتهم المختلفة. وكان مما يهون تلك العصبيات أنها محدودة وأنها تعالج بعصبيات أخرى فيخف ضررها وتتلاشى قوّتها. ولكن مشكلة اليوم أن تلك العصبيات التي كانت تنفع حينًا وتضرّ أحيانًا ذابت كلها في عصبيتين جامحتين كلتاهما ضرر وكلتاهما شر. إن رحمة الأرض آتية من السماء، وقد جاءت أديان السماء فعلّمت الفقير كيف يرضى ويصبر، وعلّمت الغني كيف يحسن ويرحم، فلماذا لا يرجع بنو الأرض إلى حكم السماء ورحمته؟ ولماذا لا يلتمسون مُثُل الإحسان الكاملة في القرآن؟ أيها الإخوان: هذا داء العالم البشري فأين دواؤه؟ وهذا مرضه العضال فأين طبيبه؟ وهل يتداركه الله بلطفه فيهدي البشر إلى اتباع ما جاء به القرآن من تسامح وتعاون على الخير؟ فيا أيها المشفقون على العالم الإنساني أن يأكل بعضه بعضًا، انصحوه بالرجوع إلى الإسلام وكتابه يجد فيهما ظلال السلم وبرد الرحمة وعز القناعة وشرف التقوى ويتمتع من كل ذلك بنعمة السلام. ويا أيها المسلمون، أنتم أطباء هذه المعضلات ولكنكم جاهلون، وأنتم الحكم المَرْضِيُّ في هذه المشكلات ولكنكم غائبون. ولو كنتم حاضرين حضور سلفكم لمشاهد العالم ومنازعاته العامة لوقفتم- كما وقفوا- بعقائدهم وسطًا بين التناهي والتقصير، وبزكاتهم المرضية حكمًا بين الغني والفقير، وبرحمة الإسلام سدًّا بين الآجر والأجير، وإذًا

لزرعتم في طول العالم وعرضه الخير والرحمة، وكشفتم عن أقويائه وضعفائه كل كرب وغمّة. وإذًا لرفعتم عن العالم هذه الأصار والأغلال وفزتم من بين حكمائه وعلمائه بتحقيق نقطة الإشكال. إن العالم في عذاب، وعندكم كنز الرحمة؛ وإن العالم في احتراب، وعندكم منبع السلم، وإن العالم في غمة من الشك، وعندكم مشرق اليقين. فهل يجمل بكم أن تعطلوه فلا تنتفعوا به ولا تنفعوا؟ طبّقوا على أنفسكم جزئية واحدة من إصلاحاته كالزكاة، واظهروا بها للعالم على صورتها العملية الكاملة، وحقيقتها العلمية العليا. ثم قفوا بين الصفين، لا كموقف عمرو بمصاحفه يوم صفين. وأشربوا نفوسهم ما أشربت نفوسكم من معنى قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. ومن معنى قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، وأنا الضمين لكم أنهما يتحاجزان ويتسامحان في طرفة عين. إن دينكم دين إصلاح وسبب إصلاح ومظهر إصلاح وكما أوجب عليكم الإصلاح بين المؤمنين مدح الإصلاح بين الناس. أحيوا قرآنكم تحيوا به، حقّقوه يتحقق وجودكم به. أفيضوا من أسراره على سرائركم ومن آدابه على نفوسكم ومن حكمه على عقولكم تكونوا به أطباء ويكن بكم دواء. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. هذه الآية هي دستور الإسلام العام وهذه الآية هي التي نواجه بها كل من رمانا بالتعصب أو بالظلم أو بالأنانية أو بالقسوة. وصدى هذه الآية هو الذي سمعه الناس مردّدًا في الجامع الأخضر خمسًا وعشرين سنة آخرها أمس. أيها الإخوان: تكلم الخطباء والشعراء في المعنى الذي أقيمت لأجله الحفلة، وهو تكريم أخينا الأستاذ عبد الحميد بن باديس وتمجيد أعماله في خدمة الدين والعربية والعلم، وشغلتهم حقوق هذه الحفلة عن حقوق يوم أمس المشهود، وأوشكنا أن نضيع واجبه وأن يمر فلا يتغنى بأوصافه لسان، ولعل الأقلام تجفوه تبعًا لذلك فلا يجري في وصفه قلم. وقد توزعتني الخواطر حين قمت: أأسلك ما سلكه الخطباء والشعراء من تمجيد أخينا بما هو أهله؟ ولو أني جريت في هذا المضمار وأسلس لي الكلام قياده، كان في ذلك الوفاء

التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير

لأخينا المبجل، والجفاء ليومنا الأغر المحجل. وإن أنا قمت بما يوجبه الوفاء ليوم القرآن قصرت في حق أخ اعتقد أن ما قاله الشعراء والخطباء في حقه قليل، وكيف تفي حفلة مثل هذه، محدودة الساعات، بتمجيد رجل طوّقت هذا الوطن مننه. فإن قمت ببعض ما يجب للقرآن وليوم القرآن فحسبي في التنويه بأعمال أخي الأستاذ أن هذا اليوم بعض حسناته. ------------------------- 6 - التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير ------------------------- 1 - الأستاذ محمد بن العابد الأستاذ محمد بن العابد من قدماء تلامذة الأستاذ بن باديس ومن بواكر النهضة الأدبية. أديب مشرف على الكمال، كاتب جزل الأسلوب، متين التراكيب، وفيّ للقواعد المقرّرة، مشرق الديباجة، سلس المعاني، وصّاف لخفايا النفوس ومساوي الاجتماع، شاعر رصين الشعر على إقلاله منه، باشر تعليم النشء الصغار من سنين، فحذق أساليبه وتمرّس به، فاكتسب الدؤب والصبر والجلد، وله في تربية الصغار وتحبيب العلم إلى نفوسهم طرائق نفسية هو فيها نسيج وحده، وهو الآن من الأعوان المعتمدين للشيخ ابن باديس على التعليم. 2 - الأستاذ عبد الحفيظ الجنّان الشيخ عبد الحفيظ الجنّان شاب كله شعور وقلب، فتح عينيه على بوارق النهضة الإصلاحية الأولى فخطا أول خطوة في الحياة على ضوئها، ثم واصل سيره على هداها، لم ينحرف به عن صراطها إقلال ولا رقّة حال، ولا أذى راصد ولا كيد مبيت، بل ظلّ يزداد ثباتًا كلما زادته الحوادث عركًا، تلقّى العلم على الأستاذ ابن باديس سنين، ثم عاجلته الظروف وغمسته في العمل فاشتغل بتلقين القرآن للصبيان، فقدّم للنهضة عملًا لا يقدّره حق قدره إلا القليل، وإن كان لا يُحسنه من العاملين للنهضة إلا القليل، وهو تقويم ألسنة الصبيان على النطق بالحروف العربية نطقًا صحيحًا متينًا مبرّأ من الزيغ عن المخارج الأصلية،

_ * "الشهاب"، المجلد 14، الجزءان 4 و 5، جوان وجويلية 1938

ومن الحيد عن الصفات المحققة، وقيمة هذا العمل في أنه تنشئة لِأَلْسِنَة الأطفال منذ تفتقها، ولِلَهَواتِهِم من يوم تشققها على سلامة النطق ومتانة التعبير، وهنا باب من أبواب الفصاحة يعرف قيمته مَن عرف أي بلاء صبّته العجمة على العربية من طريق مخارج الحروف وصفاتها. والشيخ الجنّان، قبل ذلك وبعده، حركة دائمة ويد عاملة في كل الاجتماعات والجمعيات المتصلة بالنهضة. 3 - الأستاذ مبارك جلواح الأستاذ مبارك جلواح شاعر وجداني رقيق، له نبرات مشجية في التفنّن بمحاسن اللغة العربية ومفاخر السلف الأمجاد، تغمره روح جزائرية قومية مكن لها في نفسه نقاء النشأة والتربية، وزكاء العرق والقبيل. قليل العناية بالصقل والتمحيص، ومن هنا جاء ما يرى في شعره من إسناد بعض الكلمات إلى ما لا يلائمها، ومن عدم الانسجام في بعض التراكيب، ومن نبو بعض المفردات في جملها، ولو أنه ملك زمام القواعد، وراض نفسه على إجادة السبك بممارسة كلام الفحول، لكان منه للجزائر شاعر أي شاعر. 4 - الأستاذ عمر بن البسكري الشيخ عمر بن البسكري داعية جهير الصوت بالإصلاح، كاتب متين القلم في الدينيات، سديد الرأي فيها، قوي الحجّة في مباحثها، كسبه ذلك قيامُه على كتب الفحول من فقهاء السنّة أمثال ابن تيمية وابن القيم والشوكاني، وهي كتب تربّي ملكة البيان كما تربّي ملكة البرهان. والشيخ عمر يقرض الشعر في المناسبات المتصلة بفنه، فيرسله ملونًا بعاطفته متأثرًا بإحساسه، عامرًا بالمعاني، ويغفل عما وراء ذلك من أحكام الصنعة وسياسة التراكيب، لذلك تجد في شعره- على قفته- عيونًا من الأبيات بين أخوات لها متفاوتة الحظوظ في إجادة السبك، ويقرأ القارئ شعره وكتابته، فيحكم بأن الشيخ عمر الشاعر غير الشيخ عمر الكاتب. والشيخ عمر أجلد دعاتنا وكتّابنا على المطالعة والقراءة، وما زلنا ننعى على علمائنا وأدبائنا هذا الكسل المزري عن القراءة، ونردّ إليه كل ما يظهر في إنتاجهم من ضعف ونقص. ولو أن الشيخ عمر أعطى كتب الأدب ودواوين الشعر من العناية مثل ما أعطى كتب فقه السنة، لاسْتحكم سبكه وفَحُل شعره وجزلت تراكيبه.

وإن مطالعاته الدينية التي تفتح لذهنه آفاق الإصلاح، وتلهمه سداد الرأي والقول فيها، لمحتاجة إلى مدد من مطالعات أدبية، تمكّن لأسلوبه في الشعر، وتزيد طريقته في الكتابة متانة وقوّة، وأن عَسَى أن يتسع وقته لذلك. 5 - الأستاذ السعيد الصالحي الشيخ السعيد الصالحي أصيل النسب في العلم، سديد الخطا في التعليم، قريب المنهج في إرشاد العامة إلى الدين الصحيح، لطيف الاحتيال في الدخول إلى نفوسهم، خصوصي النزعة والتأثير، جاءه ذلك من بيئته التي نشأ فيها وأُفقه الذي اضطرب فيه، ثقيل الوطأة على دجاجلة العلم وسماسرة الدين، بارز الأثر في الإصلاح الديني: عمل له في وطنه فمكن أصوله وأحكم قواعده، وقطع البحر في سبيل إرشاد إخوانه المسلمين وجمع كلمتهم على الهدى والحق، فتجلّت أخلاقه الإسلامية المتينة في الصبر والثبات والعزيمة والإخلاص. يتأثر- من ألوان الأدب القديم- باللون الأندلسي الشائع، ويقرض قليلًا من الشعر مصبوغًا بذلك اللون الذي اصطبغت به نفسه، ولكنه- كغالب إخوانه قالة الشعر بهذه الديار- ينقصه استعراض أساليب البلغاء وتحدّيها وتمرين القريحة على محاكاتها، وتيقظ الذهن إلى أسرار فقه اللغة ومواقع فصحها، ومجانبة الرخص النحوية، وتحكيم استعمالات الفصحاء في القواعد النظرية، وعسى أن تكون كلمتنا هذه حافزة لهممهم، فما أردنا بها إلا ذلك. 6 - الحاج أحمد البوعوني الحاج أحمد البوعوني، مع علو سنّه وأخذه عن طبقة بعيدة الصيت في عالم الشهرة كالشيخين عبد القادر المجاوي وحمدان الونيسي وغيرهما ممن كان الأخذ عنهم مدعاة للفخر والاستطالة وشموخ الأنف، فإنه مثال من علماء السلف في إنصافهم وإيثارهم الاستفادة على كل شيء، وإن من آثار هذا الخلق في نفسه أنه ما كان الأستاذ ابن باديس- وهو في درجة أحفاده وممن شاركه في الأخذ عن بعض أولئك المشائخ- يتنصّب للتدريس بقسنطينة حتى أخذ الشيخ البوعوني- مع جلالة قدره وسنّه- مكانه بين التلامذة، وكان أجلدهم على ملازمة الدروس الكثيرة، وأوسعهم عارضة في البحث والمناقشة، فإذا فرغ من الدروس المقررة قضى بقية أوقاته في تفقّد التلامذة وتحريضهم على المطالعة وتحضير الدروس وإعادتها لهم، مما لا يضطلع به حتى الشبان الأقوياء. ومن لطائف الاتفاق في ربط الأحفاد بالأجداد أن الشيخ البوعوني- أبقاه الله- كان ينظم القصائد في تهنئة مشائخه في المناسبات وفي أختام دروسهم المهمة، وقد بارك الله في عمره

حتى شهد الاحتفال بختم التفسير من الشيخ ابن باديس، وقد حضره كله في ربع قرن فيما نعتقد، ففاضت نفسه المنصفة بهذه القصيدة، وكانت قصائده تاريخًا لثلاثة أجيال كاملة. إن الشيخ البوعوني حجّة الله على علماء عصره الذين يذهب بهم الكبر والاستنكاف إلى حرمان أنفسهم من العلم، استطالةً واغترارًا بمكانتهم في السن أو الجاه، واحتقارًا لمن هو دونهم سنًّا وإن كان فوقهم علمًا. 7 - الأستاذ محمد العيد الأستاذ محمد العيد، شاعر الشباب وشاعر الجزائر الفتاة، بل شاعر الشمال الافريقي بلا منازع. شاعر مستكمل الأدوات، خصيب الذهن، رحب الخيال، متسع جوانب الفكر، طائر اللمحة، مشرق الديباجة، متين التركيب، فحل الأسلوب، فخم الألفاظ، محكم النسج ملتحمه، مترقرق القوافي، لبق في تصريف الألفاظ وتنزيلها في مواضعها، بصير بدقائق استعمالات البلغاء، فقيه محفق في مفردات اللغة علمًا وعملًا، وقاف عند حدود القواعد العملية، محترم للأوضاع الصحيحة في علوم اللغة كلها، لا تقف في شعره- على كثرته- على شذوذ أو رخصة أو تسمح في قياس أو تعقيد في تركيب أو معاظلة في أسلوب، بارع الصنعة في الجناس والطباق وإرسال المثل، والترصيع بالنكت الأدبية والقصص التاريخية. ومن يعرف محمد العيد، ويعرف إيمانه وتقواه وتديّنه وتخلّقه بالفضائل الإسلامية، يعرف أن روح الصدق المتفشية في شعره إنما هي من آثار صدق الإيمان وصحّة التخفق، ولعلم أنه من هذه الناحية بدع في الشعراء. رافق شعره النهضة الجزائرية في جميع مراحلها، وله في كل ناحية من نواحيها وفي كل طور من أطوارها وفي كل أثر من آثارها القصائد الغرّ، والمقاطيع الخالدة، فشعره- لو جمع- سجل صادق لهذه النهضة، وعرض رائع لأطوارها. وقد سَمَتْ نفسه في العهد الأخير إلى الشعر الفلسفي ونظم فيه عدّة مقطوعات لزومية رائعة نشر القليل منها. وإذا كان في النهضة العلمية الأدبية بالجزائر نواحي نقص فمنها أن يبقى شعر محمد العيد غير مجموع ولا مطبوع (1).

_ 1) شاءت الأقدار أن يقوم بطبع ديوان محمد العيد، نجل الإمام الإبراهيمي، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي: "ديوان محمد العيد" (الجزائر 1967، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع).

تلمسان وابن خلدون

تلمسان وابن خلدون* رأت تلمسان قرى ومدنًا لا تساويها في القيمة العلمية والجلالة التاريخية تهتمّ وتفتخر برجال من أبنائها لا يساوون في النبوغ والعظمة ذلك الرجل الذي قلّب وجه التاريخ، بما وضع له من قواعد، وشرع له من سُنن، وابتدع له من جديد، وحمى له من حمى، وهو أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، وأرادت تلمسان اليوم- وهي المدينة الكريمة- أن تُكرم هذا الرجل الذي أكرمها وكان أحد بناة مجدها، وأن تعرف له بعض حقّه، وأن تحيي ذكره بإحياء ذكراه، فأوحت إلى أحد أبنائها- كاتب هذه الأسطر- أن يقوم بهذا الواجب عنها في هذا اليوم الذي تتم به خمسة قرون وسبعون سنة على آخر وفادة وفدها هذا العبقري العظيم على هذه المدينة، تذكارًا لصلته بها وصلتها به، ولما أبقاه لها في تاريخه من فخر خالد، وما أبقاه على ثراها من أخ برّ، هو أبو زكريا يحيي الذي زان سلطنة بني زيان وحفظ أمجادها في كتابه "بغية الرواد" وعسى أن أقوم في هذه العجالة بما يقتضيه وحي هذه الأم من الوفاء لها ولابن خلدون، أبيّن سيرته وأحلّل حياته وأكشف عما بينه وبين تلمسان من وشائج القربى، وعما كان لها من تأثير في عقليته العظيمة ومداركه الواسعة بما لقّنه علماؤها من فنون وعلوم. ... لم يكن ابن خلدون تلمسانيًا بمعنى أنه وُلد فيها ونشأ بين ربوعها أو كان له سلف من أهلها، وإنما هو حضرمي الجذم يتصل بأقيال (حضرموت) اتصالًا يرجع إليه ما في الرجل من سمة الملك والتسامي للملك، ثم يبتدئ في الإسلام بوائل ابن حجر الصحابي الجليل ابتداءً

_ * "الشهاب"، المجلد 14، الجزء6، أوت 1938 (بدون إمضاء).

يرجع إليه ما في الرجل من نزعات دينية قوية وخلال روحية مستحكمة، ويرجع إلى هذين ما في الرجل من ملكة عربية عريقة الأصل قوية الأسر ومن بيان قوي التأثير نافذ السحر، ثم تأتي الفتوحات الإسلامية فيُكتب لأحد أجداده الخروج من جزيرة العرب الأولى إلى جزيرتهم الثانية (الأندلس)، وإنّ لله فيمن ساقهم سائق الفتح من إحدى الجزيرتين إلى الأخرى لَحكمةً ظهرت آثارها فيما شيّد للغة العرب وآدابها من بنيان، وفيما تمكّن لهما من سلطان. ويكفينا ابن خلدون نفسه مؤونة البحث عن أجداده في الإسلام فيقول: إن سلفه استوطنوا (إشبيلية)، وكانت لهم بها نباهة وذكر وامتياز بالوظائف العالية، وكل ذلك مما مهّد لهذه النفس الكبيرة التَّبَوُّؤُ في العالم الذي ظهرت فيه، وببيّن أن أحد أجداده الأدنين انتقل من الأندلس إلى (بونة) ومنها إلى (تونس)، وما كاد يطوي التاريخ منهم اثنين حتى ظهر فيهم من طوى التاريخ في ملاءته وهو أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، إذن فليس بين هذا العظيم وبين تلمسان شابكة إلّا ما عسى أن يكون من اتصال في الروايات العلمية لأحد أجداده، والروايات العلمية هي الرابطة الكبرى في تلك العصور بين تلمسان والأندلس، فالرجل حضرمي أندلسي تونسي، ولكن قدّر له ولتلمسان أن يكون بينهما ما هو أقوى على الدهر من وشائج الأرحام، وهو ما لقّنه وهو بتونس من علماء تلمسان الذين كانوا في ركاب السلطان أي الحسن المريني، فكأن تلمسان أرادت، إذْ لم يصلها العظيم، أن تصله، وإذ لم يكن من أبنائها أن تتبنّاه. ومن هنا تبتدئ العلائق بين تلمسان وابن خلدون، وهي في أوّلها علمية وسنعرف ما آخرها، وكان ابن خلدون وهو أعلم الناس بقيمة تلمسان العلمية في عصره، كان يزمع الرحلة إليها لاستكمال معلوماته وإرواء نفسه الظمأى من مناهلها، فتعجلت تلمسان له ذلك بما أوفدت مع السلطان أي الحسن إلى تونس من علمائها وهم (علماء الدنيا). يقصّ ابن خلدون في بيان رائع أثناء خاتمة تاريخه وفي معرض اكتساح السلطان أبي الحسن لافريقية- حكاية ملاقاته بهؤلاء الأعلام من علماء الأندلس وتلمسان، وبذكر ذلك البيان في نخوة كيف كان يتردد عليهم لتغذية نفسه، فيفهم القارئ المتنعّم أن اجتماعه بهم لم يكن عن داع بسيط كما يندفع طالب العلم إلى الأخذ عمن هو أعلم منه، وان هناك لطيفة روحانية جذبته إلى هؤلاء الأعلام ومؤثرًا نفسانيًا وهو سمعة تلمسان في أذنه ومكانتها في قلبه وشهرتها العلمية في ذاكرته، واننا نراه يذكر اسم الإمام الآبلي التلمساني في مقدمته مرارًا في صورة استفتاء في دقائق اجتماعية فلسفية، فيصدر عن رأيه ويشهد له بالتمكن وقوة العارضة، فنفهم السرّ فيما كان متأثرًا به من تلمسان وشهرتها الفنية في ذلك العصر، ثم قدّر الله أن ينغمس في السياسة وخدمة الدول، واستشرفت نفسه إلى تحقيق ما هي مستعدة له من ذلك، ولم يجد في الدولة الحفصية التي نشأ في ظلّها بتونس ما يشبع نهمته لأنها فرع دولة هرِمت وماتت، ففيها من آثار الهرم والموت ما سيلحقها بأمّها.

وكانت الدولة المرينية التي قامت على أنقاض الدولة الموحدية بالمغرب متوثبة إلى الفتح، مندفعة إلى القوة بالقوة، جاذبة إليها عظماء الرجال وأساطين الفكر، فتوسّم ابن خلدون أن بضائعه النادرة الغالية لا تنفق إلّا في سوقها، فاتصل بها واتصلت به، وكان طبيعيًا أن تلمسان هي جسر مرورها إليها، فدخلها في طريقه إلى حاضرة بني مرين وتلاقى الحبيبان بعد طول الفراق وإلحاح الأشواق، وانتهت تلك الإرهاصات بالمعجزة ... ثم كانت الأحداث في الدولة المرينية المتقلبة تدفع هذا الرجل الفذ تارةً إلى الصدر وتدفعه تارةً عن الصدر، وكان النزاع محتدًا بين بني مرين وبني زيان على تلمسان، كل يريد أن تكون درّة في تاجه، فكانت تلك الأحداث وذلك النهل مما يثمر اتصال الحبيبين "تلمسان وابن خلدون"، فدخلها مرارًا وأحلته المكان الرحب بين صدورها وأمرائها وعلمائها حتى خطبته لأن يكون مدبّر دولتها والمصرف للأمر والنهي فيها واللسان الناطق عن ملوكها، فأبى لا استقلالًا لقيمتها في نفسه ولكن رأى بنظره الثاقب أنه لا يستقرّ فيها له قرار، وبين بني مرين وبني زيان ما بينهم من مصاولة عليها ومنازعات فيها، فتخلّص بحيلة إن لم تبلغ منه تلمسان ومن علومه وآرائه كل مُناها فقد أبلغتها بعضًا، وهو إبقاء أخيه الكاتب المؤرخ أي زكريا يحيى ابن خلدون كاتبًا بالأعتاب الزيانية، ثم تقلبت به صروف الدهر، فأقام سنوات بمدينة بسكرة واغتبط بها وأفاء عليه أمراؤها الأكارم بنو مزني من نعمهم وإكرامهم ما أنساه حواضر الملك العظيمة وعطايا الملوك الجسيمة، وكانت تربطه صلة الصهر بمدينة قسنطينة، فلا شك بأنه كان ينتابها في بعض الأحايين لتلك العلاقة، ينفّس فيها بعض هموم نفسه الكبيرة، ولا بأس بوزارة حينًا ببجاية وهي مدينة العلم إذّاك وبها من فرسان المعقول والمنقول العدد الوفير، وكثير منهم يتصل بمؤرخنا بلحمة الأساتذة والمشائخ، ورحم العلم موصولة بين بجاية والأندلس وتلمسان وقسنطينة، وكانت بجاية إذّاك تمث لكل مدينة من هذه المدن بالصلة الوثيقة، فمؤرّخنا قد كان يتقفب من مراكش إلى تونس بين عواصم علمية متشابهة الأعلام، متشابكة الأرحام، وإنْ فرقت فيها بواعث السياسة والتنافس في الملك، ونشهد في تضاعيف كلامه وكلام مَن أرّخ له من معاصريه فمَن بعدهم حنينًا من المؤرّخ العظيم إلى تلمسان وأعلامها الذين هم مشائخه وأقرانه، وإلى معالمها التي هى مرابعه وأوطانه، ورسائل ترد عليه من أخيه ومن ملوك تلمسان بواسطته، فلم تنقطع صلته بتلمسان يومًا، ولو ساعده الدهر فيما نرى لَسقط به هواه على هذه المدينة المحبوبة سقوط الحائم على الماء، وفي اختياره لقلعة بني سلامة وانقطاعه بها تلك السنوات التي كتب فيها مقدمة التاريخ البديعة دليلٌ على هذا الميل، لأن تلمسان أقرب مدن افريقيا إلى قلعة بني سلامة. هذه الجمل موجزة لبيان صلة خاصة من صلات المؤرّخ العظيم بمدينة من مدن قطره يغفلها مَن كتب عنه من كتّاب الشرق، وعذرهم في ذلك عدم عرفانهم بعظمة هذه المدينة في ذلك الوقت، وعسى أن ترشح القريحة ببعض أسباب هذه العظمة على صفحات "الشهاب" الأغرّ.

العربية: فضلها على العلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية

العربية: فضلها على العلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية* الخطاب الذي ألقاه الأستاذ البشير الإبراهيمي، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في أحد أيام اجتماعها العام الماضي تفضّل الأستاذ بتقديمه لهذه المجلة). أيها الاخوة الكرام: كلّفني الأستاذ الرئيس أن أحاضر هذا الجمع العربي الحاشد بكلمات في ناحية زاخرة من نواحي لغته الجليلة، وجانب عامر من جوانبها الفسيحة- وهو فضلها على العلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية- إشادة بفضل هذه اللغة الشريفة، في هذا الاحتفال العلمي، ووفاء ببعض حقّها علينا وحفزًا لهممكم- وأنتم أبناؤها البررة- أن تهن في خدمتها أو تقصر في حقّها، وإعلانًا للمعنى الذي قامت جمعية العلماء بتحقيقه، وهو إحياء هذه اللغة وإحياء الدين الذي ترجمت محاسنه واضطلعت بحمل أسراره. ثم عهد إليّ الأستاذ أن أكتب ما ألقيه عليكم ليعمّ نفعه السامعين والقارئين. وإن هذا الموضوع الذي سامني الأستاذ الكتابة فيه موضوع علمي تاريخي لا تعلق الحافظة بأسبابه كلها ولا تقوى على جمع أطرافه، وإنما عماده البحث والتنقيب وإقامة الشواهد وحشد النصوص، وهذا ما لا يسعه وقت التكليف وهو يومان تتخللهما فروض المجلس الإداري وواجبات جمعية العلماء. لذلك كله سلكت في الكتابة مسلكا أدبيًا يستمدّ من الخيال أكثر مما يستمدّ من الحقيقة ويعتمد على الخطابة أكثر مما يعتمد على البرهان، ويرمي إلى إلهاب الحماس في نفوسكم أكثر مما يرمي إلى تقرير الحقائق فيها.

_ * "الشهاب"، الجزء الأول، المجلد الخامس عشر، فيفري 1939، [ص:11].

فإن بلغت رضاكم بما تسمعون فذلك، وإن قصرت عن الغاية كان ضيق الوقت وسعة الموضوع شفيعي في التقصير. أيها الاخوة، انشقّت اللغة العربية من أصلها السامي في عصور متوغلة في القدم، وجرت في ألسنة هذه الأمة التي اجتمعت معها في مناسب المجد وأرومات الفخر، وشاء الله أن يكون ظهورها في تلك الجزيرة الجامعة بين صحو الجو وصفو الدو والمحبوة بجمال الطبيعة ومحاسن الفطرة لتتفتّق أذهان عمار تلك الجزيرة عن روائع الحكمة مجلوة في معرض البيان بهذا اللسان، وقد كانت هذه اللغة ترجمانًا صادقًا لكثير من الحضارات المتعاقبة التي شادها العرب بجزيرتهم. وفي أوضاع هذه اللغة إلى الآن من آثار تلك الحضارات بقايا وعليها من رونقها سمات. وفي هذه اللغة من المزايا التي يعز نظيرها في لغات البشر الاتّساع في التعبير عن الوجدانيات، والوجدان أساس الحضارات والعلوم كلها. وهذه المدنية التي تردّد لفظها الألسن ويصطلح المؤرّخون على نسبتها إلى أمم مختلفة ويميّزون بينها بطوابع خاصة ويشتدّ المتعصّبون في احتكارها لأمة دون أمة كأنها خلقت معها أو كأنها ذاتية لها، هي في الحقيقة تراث إنساني تسلّمه أمة إلى أمة وتأخذه أمّة عن أمّة فتزيد فيه أو تنقص منه بحسب ما يتهيأ لها من وسائل وما يؤثر فيها من عوامل. وخير الأمم وأوفاها للمدنية هي الأمّة التي تقوي الجهات الصالحة في المدنية وتكمل النقائص الظاهرة فيها، وتسعى في نشرها وإشراك الناس كلهم في خيراتها ومنافعها، وخير اللغات ما كانت لسانًا مبينًا للمدنية تسهّل على الناس سبيلها وتمهّد لهم مقيلها. ... وقد أصبح احتكار المدنية لأمم خاصة تقليدًا شائعًا متعاصيًا عن التمحيص والنقد، ومن هذا الباب احتكار الغربيين للمدنية القائمة اليوم، وما هي في الحقيقة إلا عصارة الحضارات القديمة ورثها الغربيون عمن تقدمهم، وقاموا عليها بالتقلين والتحسين والتلوين وطبعوها بالطوابع التي اقتضاها الوقت وانتحلوها لأنفسهم أصلًا وفرعًا، ولا تزال التنقيبات عن مخلّفات الحضارات القديمة تكشف كل يوم عن جديد يفضح هؤلاء المحتكرين ويقلّل من غرورهم. ومن العجائب أن هذه الحضارة القائمة الآن تساندت في تكوينها وفي تلوينها عدة لغات مختلفة الأصول، ولم تستطع أن تقوم بها لغة واحدة على حين أن العربية قامت وحدها ببناء حضارة شامخة البنيان ولم تستعر من اللغات الأخرى إلا قليلًا من المفردات.

أيها الإخوان: ازدهرت حضارات الأمم القديمة من العرب وفارس والهند والصين ومصر واليونان والرومان وزخرت علومها، وكانت كلها مبنية على أصول عامة متشابهة، وكانت لكل حضارة لغتها المعبّرة عن محاسنها والكاشفة عن حقائقها، وكان لتلك اللغات أثر بيّن في بقاء الحضارة وانتشارها، وكل من بقاء الحضارة وانتشارها يتوقف على ما في اللغة من قوة وحياة واتّساع، فاللغة من الحضارة جزء لا كالأجزاء، كاللسان من البدن عضو لا كالأعضاء. ثم اندثرت تلك المدنيات والعلوم إلا ما بقي من آثار الأولى منقوشًا على الأحجار، وما بقي من آثار الثانية مكتوبًا في الأسفار. ولولا اللغات لم نتبين من الحضارات ما تبيّناه. أيها الإخوان: كانت الحضارات القديمة تقوم على تعبد يسدّ شعور النفس البشرية بالخضوع إلى قوة أعلى منها، فإن لم يكن هذا التعبّد حقًا طغت عليه الخرافة وأصبحت الخرافة جزءًا من المدنية. وتقوم على تشريع يوزّع العدل بين الناس ويحفظ مصالحهم الدنيوية، فإن لم يستند هذا التشريع على وحي سماوي أو نظام شوري طغى عليه التحكّم والاستبداد وأصبح الاستبداد جزءًا من تلك المدنية. وتقوم على نتاج القرائح البشرية من علوم، فإن لم تكفل هذه القرائح حرية شاملة لابسها التزوير والكذب وأصبح التزوير والكذب جزءًا من تلك المدنية. وتقوم على لغة تسع تلك المدنية بيانًا وإفصاحًا، فإن ضاقت اللغة خسرت المدنية، وإن حضارة اليوم لم تسلم من بعض هذه النقائص والعيوب. كانت هذه حال الحضارات إلى أن جاء الإسلام بالحضارة التي لا تبيد والمدنية المبنية على حكم الله وآداب النبوّة، فكان التوحيد أساسها والفضائل أركانها والتشريع الإلهي العادل سياجها واللغة العربية الناصعة البيان الواسعة الأفق لسانها. وبذلك كله أصبحت مهيمنة على المدنيات كلها ووضع الإسلام هذه الحضارة الخالدة على القواعد الثابتة مما ذكرناه. وقامت اللغة العربية ببيانها على أكمل وجه، وكانت الأمة المدخرة لتشييد هذه الحضارة التي نسمّيها بحق الحضارة الإسلامية هي الأمة العربية. فهم العرب لأول عهدهم بالإسلام وبإرشاد القرآن أن هناك أممًا قد خلت عمرت الأرض ومكّن لها الله فيها، وكانت أكثر أموالًا وأعزّ نفرًا وأثبت آثارًا، وامتثلوا أمر القرآن بالسير في الأرض والنظر في آثار تلك الأمم والاعتبار بمصائرها وعواقبها، ونبّههم القرآن إلى أن مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، فكان هذا الإرشاد القرآني المتكرر حفزًا إلى التنقيب عن آثار المدنيات القديمة ودراستها والاطّلاع على الصالح النافع منها والأخذ به. وكان من آثار هذا التنبيه القرآني أن تفتّحت أذهان المسلمين- ولا أعنيكم- إلى دراسة

هذه المدنيات واقتباس النافع منها، وكان من فضل القرآن على العالم أنه أبقى بهذا الإرشاد على علوم كادت تندرس وعلى آثار مدنيات كادت تنطمس. إن الفائدة الكبرى التي يعلّقها القرآن على السير في الأرض والوقوف على آثار الأمم البائدة هي الاعتبار بحال الظالمين وعقبى الظالمين ليعلم المعتبر أن الظلم هو سوس المدنيات فيقيم العدل، وإذا جاء العدل جاء العمران، وإذا جاء العمران قامت المدنية، وكان العدل سياجها والعلم سراجها، وهذه هي مدنية الإسلام. إن إرشاد الإسلام للمسلمين بأخذ الصالح النافع أينما وجد هو الذي دفعهم بعد تمكّن سلطانهم وتمهد ملكهم إلى البحث عن الآثار العقلية للأمم التي سبقتهم، فاطلعوا على ما أنتجت قرائح يونان وفارس والهند في العلم والآداب فنقلوها إلى لغة القرآن ووجدوا فيها خير معين على ذلك. أيها الإخوان: هنا الجانب العامر من لغتكم، وهنا النقطة التي سقنا هذا الحديث كله من أجلها، وهنا الموضوع وهو فضل اللغة العربية على العلم والمدنية. أيها الإخوان: لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متّسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب، لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس والهند، وَلَأَلْزَمَتْهُم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عربًا بعقول فارسية وأدمغة يونانية، ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمّته. لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون. قامت اللغة العربية في أقلّ من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونُظمها الاجتماعية وآدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها، والرياضيات بجميع أصنافها، والطب والهندسة والآداب والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة والحاضرة، وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا يزال يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوّة فيك، وإمّا أنْ تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك. وقد تفطن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم ولم ينتقلوا إليه. وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع بانتشاله من أيدي الغوائل وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل، وبذلك طوّقت العالم منة لا يقوم بها الشكر، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير.

أيها الإخوان: إن كثيرًا من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا على طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وان المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية ويوفونها حقّها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم، عنهم أخذوها وعن لغتهم ترجموها وانهم يحمدون للدهر أن هيّأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس وصقلية وشمال أفرلقيا وثغور الشام حتى أخذوا عنهم ما أخذوا واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا يزال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية ومعاهد شمال افريقيا ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله ويعترفون لكل فاضل بفضله. ... وها هنا، أيها الإخوان، مسألة يجب الكشف عن حقيقتها، فقد كثرت فيها المغالطات وجنى عليها تعصّب المتعصبين من ذوي الدخائل السيّئة من الغربيين ومقلّدتهم حتى أصبح باطلها حقًا وكذبها صدقًا ووهمها حقيقة، وحتى أصبح هذا الوهم من المسلّمات التي لا تقبل الجدل عند أبنائنا الذين تلقّوا العلم على أيدي أولئك المتعصبين، وهي ان العرب ليس لهم فيما ترجموا إلا النقل المجرد، وانهم لم يزيدوا شيئًا في التراث الفكري الذي نقلوه، وأن وظيفتهم في هذه الوساطة وظيفة الناقل الأمين الذي ينقل الشيء كما هو ملفوفًا من يد إلى يد. أغلوطة ملأت كتب الكثير منهم وترددت على ألسنتهم يمهّدون بها إلى وصم العربي بأنه بليد الفكر جامد القريحة سطحي التفكير مسدود الشهية العلمية، ويتوسّلون بذلك إلى تزهيد العربي في مزايا إسلامه واحتقاره لها ولهم. والحقيقة التي يؤيّدها الواقع ويشهد بها المنصفون منهم أن العرب حينما نقلوا علوم الأوائل كما كانوا يسمّونها نقلوا بدافع وجداني إلى العلم ورغبة ملحّة فيه، وانهم نقلوا ليستقلّوا وليستغلّوا ولينتفعوا بثمرة ما نقلوا ولا يتم لهم هذا الاستقلال في العلم إلا بالتمحيص والتصحيح. ومن الثابت عندنا أن عهد الترجمة كان عهد اضطراب في هذه العلوم المترجمة ردّت فيه التبعة على المترجمين، ثم انجلت الرغوة وعمل الفكر العربي الوقّاد عمله فصحّح أغلاط الفلاسفة وصحّح نظريات الرياضة، وجاء دور الاجتهاد في هذه العلوم فاستقلّ الفكر العربي

بالفلسفة وكيّفها على ذوقه الخاص. واستنبط في هذه العلوم طرائق وأنواعًا لم تكن معروفة من قبل للأوائل، وصحّح العلل وكشف عن الأوهام وانتقد انتقاد المستقلّ. وما كان الفارابي وابن سينا وأبو سليمان المنطقي في المشارقة ولا ابن باجة وابن طفيل وابن برجان وابن رشد وابن الهذيل، في الأندلسيين، بالمقلدين في علوم الأوائل. أيها الإخوان: إن العربية لم تخدم مدنية خاصة بأمّة، وإنما خدمت المدنية الإنسانية العامة، مدنية الخير العام والنفع العام، ولم تخدم علمًا خاصًا بأمّة وإنما خدمت العلم المشاع بين البشر بجميع فروعه النافعة. ومن يستقرئ خاصة هذه اللغة لعلم الطب وحده يتبين مقدار ما أفاءت هذه اللغة على البشرية من خير ونفع. وقد كانت هذه اللغة في القرون الوسطى يوم كان العالم كله يتخبّط في ظلمات الجهل هي اللغة الوحيدة التي احتضنت العلم وآوته ونصرته. أيها الإخوان: هذا فضل لغتكم على المدنية الإنسانية وفضلها على الأمم غير العربية، وأما فضلها على الأمم العربية فإنه يزيد قدرًا وقيمة على فضلها على الأمم الاأخرى، وإذا قلنا الأمم العربية، فإننا نعني الأمم الإسلامية كلها، لأنها أصبحت عربية بحكم الإسلام ولغة الإسلام. فاللغة العربية منذ دخلت في ركاب الإسلام على الأمم التي أظلّها ظلّه كانت سببًا في تقارب تفكيرهم وتشابه عقلياتهم وتمازج أذواقهم وتوحيد مشاربهم. وإن هذا لمن المناهج السديدة في توحيد الأمم المختلفة الأجناس. ولولا العربية لاختلفت الأمم الإسلامية في فهم حقائق الدين باختلاف العقليات الجنسية، وقد وقع بعض هذا ولكنه من القلة بحيث لا يظهر أثره في الحركة العامة للأمة. إن الأمم التي دخلت في الإسلام متفاوتة الدرجات في الانفعالات النفسية وأنماط التفكير، متفاوتة في الإدراك والذكاء، متفاوتة في القابلية والاستعداد، متفاوتة في التصوير والتخيّل، ولكن اللغة العربية فتحت عليها آفاقًا جديدة في كل ذلك ما كانت تعرفها لولا العربية، ودفعتها بما فيها من قوة وبما لها من سلطان إلى التفكير والتعقّل على منهج متقارب، وحفزت الأفكار الخامدة إلى التحرّك وزادت الأفكار المتحرّكة قوة على قوة. أيها الإخوان: إن اللغة العربية هي التي قاربت بين الفكر الفارسي المنفعل القلق وبين الفكر البربري الرصين الهادئ ثم هيأت لكل فكر قابليته. واللغة العربية هي التي سهّلت لهذه الأمم المختلفة أسباب العلم والمدنية ومهّدت لها الطرائق المؤدية إليهما حتى أخذت كل أمة حظها منهما.

واللغة العربية هي التي أفضلت على علماء الإسلام بكنوزها ودقائقها وأسرارها، وأمدّتهم بتلك الثروة الهائلة من المصطلحات العلمية والفنية التي تعجز أية لغة من لغات العالم عن إحضارها بدون استعانة واستعارة. فبحثوا في كل علم وبحثوا في كل فن وملأوا الدنيا مؤلفات ودواوين، ومن عرف كتاب أبي حنيفة الدينوري في النبات وكتاب أبي عبيدة في الخيل وكتاب الهمداني في تخطيط جزيرة العرب وكتاب الجاحظ في الحيوان وكتب الأَئِمَّة في الطب والنجوم والإبل، رأى العجب العجاب من اتّساع هذه اللغة وغزارة مادتها، وعلم مقدار أفضالها على الأمة العربية. كما ان من يقرأ شعر الشعراء النفسيين من الفرس بهذه اللغة وشعر الشعراء الوصافين من الأندلس يتجلى له أي إِفضال أفضلته العربية على تلك القرائح الوقّادة التي وجدت في العربية فيضًا لا ينقطع مدده، وأضافته إلى فيض الاستعداد. وما أمتن الإنتاج الأدبي إذا كان يصدر عن اتساع في اللغة واتساع في الخيال. أيها الإخوان: إن النهضة العربية الحاضرة في الشرق مفتقرة إلى كثير من المصطلحات العلمية والصناعية. وما زلنا نقرأ من سنوات عن اهتمام قادة النهضة بهذه المشكلة ونقرأ اختلافًا في الوجهة، وهل الأصلح البحث عن مصطلحات عربية أصيلة، أو استعارة هذه المصطلحات من لغات العلم الأجنبية، وان غاية ما استنجد به أصحاب الرأي الأول المعاجم اللغوية، وأعتقد أنه لو كانت الكتب العلمية والفنية التي كتبها أسلافنا موجودة بين أيدينا ولم تغلها غواثل الدهر لوجدنا فيها من هذه المصطلحات ما يفي بحاجتنا أو يقارب، ولكنها- ولا للأسف- ضاعت، وضاعت علينا بضياعها ثروة لا تقوم بمال. هذا كتاب الحيوان لأبي حنيفة شدّت في طلبه الرحال من عشرات السنين وأنفقت على تحصيله بدر المال، وتبارى هواة الكتب في طلبه في جميع أقطار الأرض، فلم يعثر له على أثر. وان من يقرأ ما ينقله عنه ابن سيده في كتاب المخصّص يسترخص في سبيله كل غال ويستسهل كل صعب. أيها الإخوان: هذا عرض بسيط لبعض ما للغتنا من فضل على العلم والمدنية. وان هذا المبحث في حد ذاته موضوع طريف يحتاج إلى بحث عميق ودراسة مستفيضة، ويتطلب جهدًا قويًا ووقتًا متّسعًا. ولو أن باحثًا عربيًا يساعده وقته وحاله على استقراء هذا الموضوع لكتب فيه المجلدات، ولبثّ في ناشئتنا روحًا جديدة من الحماس للغتهم والتعلّق بها والكدّ في تحصيلها والتعاظم بجمالها، ولكان ذلك مقاومًا لروح التزهيد الخبيثة التي لابست عقولهم. أيها الإخوان: إن المستعربين من علماء المشرقيات فريقان متّفقان في الاعتقاد بجمال هذه اللغة والاعتراف بمزاياها على العلم والمدنية، مختلفا الدواعي والبواعث في معاملتها.

فريق ينظر إليها نظر الهون والمصلحة فينادي بموتها ويعمل على موتها ويزهد فيها الناس ويتجنى عليها وينحلها العيوب. وفريق ينظر إليها نظر العلم المجرد فيتعلّمها بإخلاص ويحضّ على تعلّمها ويشيد بذكرها في المحافل والكتب. وإن لهذا الفريق في خدمة هذه اللغة أيادي بيضاء يستحقّون عليها الشكر العظيم من أبناء هذه اللغة. فكم كتبوا عنها مؤلفات وكم عقدوا للبحث عن دقائقها مؤتمرات، وكم طبعوا من أسفارها القيّمة في اللغة والأدب والتاريخ والعلوم، ولو لم يكن من فضلهم عليها إلا إحياء أمهات علمية عجزنا نحن عن إحيائها لكان ذلك موجبًا لعرفان جميلهم، وإذا كان فضل العربية عليهم في القديم عظيمًا، فقد قابلوا الفضل بفضل ولهم الشكر على كل حال. إن في هذه النقطة موضع اعتبار، وهي انه إذا كان الأجنبي عن هذه اللغة يعرف لها فضلها فيحى من آثارها ما استطاع، ويحث قومه على تعلّمها والاستفادة من ذخائرها، وحكومته من ورائه تجمع له مئات الآلاف من أسفارها القيّمة، فماذا صنعنا نحن ونحن أبناؤها حقيقة؟ الحق ان ما صنعناه نحن لهذه الأم ضئيل، وان ما أنفقناه في سبيلها قليل، ولكن النية في خدمتها صحيحة والرغبة في تعلّمها ملحّة. وعلى الله قصد السبيل.

منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية

منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية* إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، جمعية إسلامية في سيرها وأعمالها، جزائرية في مدارها وأوضاعها، علمية في مَبْدَئِها وغايتها. أُسّست لغرض شريف تستدعيه ضرورة هذا الوطن وطبيعة أهله، ويستلزمه تاريخهم الممتدّ في القدم إلى قرون وأجيال. وهذا الغرض هو تعليم الدين ولغة العرب التي هي لسانه المعبّر عن حقائقه للكبار في المساجد التي هي بيوت الله، وللصغار في المدارس على وفق أنظمة لا تصادم قانونًا جاريًا، ولا تزاحم نظامًا رسميّا، ولا تضر مصلحة أحد ولا تسيء إلى سمعة أحد، فجميع أعمالها دائرة على الدين، والدين عقيدة اتفقت جميع أمم الحضارة على حمايتها، وعلى التعليم، والتعليم مهنة اتفقت جميع قوانين الحضارة على احترامها وإكبار أهلها. وان هذه الجمعية مستندة في نظام تأسيسها على القوانين الفرنسية التي تتّسع لحرية الاجتماع وحرية الجمعيات. وانها لم تحد منذ تأسيسها إلى الآن عن المقاصد والأعمال التي أُسّست لأجلها. وان كل أعمالها ظاهرة مشهودة، وان جميع أعضائها جزائريون تجري عليهم القوانين الفرنسية، وان كل ما يقومون به فهو مما تبيحه القوانين الفرنسية. ولم تكتفِ الجمعية بهذه الأعمال الشاهدة على نفسها، بل ظلّت في جميع المناسبات ترفع صوتها بإيضاح خطتها وبيان غايتها. والأمّة الجزائرية الإسلامية العربية المقصودة بالتعليم، وصاحبة الحق الطبيعي فيه، تعلم هذا من جمعية العلماء وتتحققه. وتتطلبه بطبيعتها وتعده ضروريًا لحياتها. ولذلك

_ * جريدة "البصائر"، السنة الرابعة، العدد 160، الجمعة 16 صفر 1358هـ/ 7 أفريل 1939م.

التفّت حول جمعية العلماء وأقبلت على ما خطته لها من مناهج في تعليم الدين والعربية على بصيرة ويقين. ... ومع هذا كله فالحكومة الجزائرية لم تزل تعامل هذه الجمعية معاملة قاسية، وتمعن في التشريعات الجائرة لقتل حركتها التي هي حركة الإسلام والعربية بهذا الوطن، وتطارد رجالها القائمين على التعليم كما يُطارد المجرمون، وتغلق مدارسها التهذيبية كما تغلق المحلات الضارة، وتنتزع رخص التعليم من أيديهم بلا سبب قانوني، وتمتنع من إعطاء الرخص لطالبيها منهم بلا مانع قانوني، ثم التصامم في الأخير عن سماع كل شكوى وكل مراجعة. إن للحكومة الجزائرية خطة مرسومة نحو جمعية العلماء هي ماضية في تنفيذها بكل قساوة وبكل فظاعة. ولم يبق لنا شك في تلك الخطة ولا في الوسائل المحضّرة لها، ولا فيما تنتحله الحكومة من المبررات لسلوكها ولا في مراميها القريبة والبعيدة. ولم يبق لنا شك في أن مقصد الحكومة هو قتل الإسلام والعربية بهذا الوطن بمحو تعليمهما الصحيح وإسكات رجالهما الأكفاء. ... وقد كانت حكومة الجزائر ترمي الجمعية بألسنتها الرسمية وغير الرسمية بأنها وهابية، وهي تعلم أن الوهابية مذهب ديني لا شأن للحكومات به، ثم افتضحت هذه التهمة. فانتقلت إلى رميها بموالاة الشيوعية. فلما حلا مشرب الشيوعية للحكومة رمت الجمعية بموالاتها للفاشيستية، وباتصالها بالأجانب، وهي تعلم أن الفاشيستية جزء من معنى الحكومة، وأننا بلونا كلا الجزأين وذقنا منهما الأمرّين. ولا ندري ماذا تدخره الحكومة للجمعية من هذه الأنواع التي لا تستند على منطق ولا واقع. كل هذه الاتهامات جرت على ألسنة رجال الإدارة ومن أقلام كتّابها، وسُمعت من منابر الخطابة الرسمية. وكلها اتهامات لا وجود لها إلا في خيال المتخيلين لها المريدين بجمعية العلماء شرًا. وجمعية العلماء تحدّت في الماضي وتتحدّى في المستقبل كل من يرميها بمثل هذه الأباطيل أن يأتيها على ذلك ولو بشبهة أضعف من خيط العنكبوت، وهي تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لن يأتي بها.

وجمعية العلماء تعد نفسها- بحق- أشرف من أن تكون ذنبًا لهيئة أخرى مهما كانت قيمتها، أو أداة لأجنبي مهما كان جنسه. وانها مقيدة في عملها بدائرة الدين الإسلامي ولغته، وبدائرة الوطن الجزائري، وبدائرة القوانين الفرنسية التي بنيت عليها الجمهورية الديمقراطية. وجمعية العلماء تسخر من هذه الاتهامات التي لا قيمة لها والتي لا يصدقها حتى المجانين، معتدة بصدقها في خدمة مَبْدَإِهَا الإنساني الديني العلمي. أما ما تتظاهر به الحكومة الجزائرية من تسامح في التعليم الديني العربي مع هيئات غير جمعية العلماء، وما تستر به قسوتها وغضبها على رجال الجمعية من لين ورضى عن غيرهم، فجمعية العلماء تعلم حق العلم أن الهيئات الملحوظة بالرضا من الحكومة الجزائرية هي الهيئات الطرقية. وتعلم حق العلم أن الطرقية بشكلها الحاضر هي من صنع يد الحكومة، وان الحكومة تعلم كما نعلم أن الطرقية ليست وسيلة تعليم وتهذيب، وإنما هي أداة تجهيل وتخريب. وان آثارها في عقول الأمم التي ابتُليت بها هي التخريف والجمود. ووا أسفاه! إن من العار على حكومة علمية ديمقراطية أن تنصر الجمود والتخريف على العلم والتثقيف. فالهيئة الطرقية التي تنصرها حكومة الجزائر وتخصّها بالرضا والإمداد وتظهرها بمظهر الدين والعلم والتعليم، لتستر بمسايرتها لها محاربتها جمعية العلماء وتقيم من منحها رخص التعليم الحجة على عدم حربها للدين والعلم، هذه الهيئة الموصومة بما ذكرنا هي- في حقيقتها- تشكيل حكومي مؤقت أريد به شل الإسلام والعربية، وهي- في حقيقتها- (ديكري) (1) مؤلف من أشخاص لا من كلمات يضاف إلى ديكري النوادي (2) وديكري 8 مارس (3)، وانه، وإن كان أعمق منها أثرًا، أقصر منها عمرًا ... فأعضاء شُعَب جمعية العلماء المجتمعون بنادي الترقي يوم الاثنين 27 مارس سنة 1939 مجمعون على كل ما تقدم فهمًا واعتقادًا ومجمعون على استنكار هذه المعاملات الجائرة للتعليم الديني العربي. ومجمعون على اعتبارها طعنات موجّهة إلى صميم الإسلام والعربية ومصمّمون على الثبات في حقّهم، ومتضامنون على الوقوف في وجه الباطل والاحتجاج الصارخ على قانون 8 مارس وما سبقه من قوانين جائرة وما نشأ عنه وعنها من تطبيقات جائرة.

_ 1) كلمة أجنبية معناها مرسوم. 2) مرسوم يمنع نوادي جمعية العلماء من بيع المشروبات (قهوة- شاي) حتى تفلس تلك النوادي وتغلق أبوابها، وينفض من حولها الشبان الذين تتخذ جمعية العلماء من تلك النوادي أماكن لتوجيههم. 3) مرسوم أصدره رئيس الحكومة- وزير الداخلية الفرنسي "شوطان" في 8 مارس 1938 يعتبر فيه اللغة العربية أجنبية في الجزائر، ويمنع تعليمها.

الأستاذ محمد بن مرزوق

الأستاذ محمد بن مرزوق* فجعت مدينة تلمسان عمومًا وطائفة الإصلاح خصوصًا بموت الأستاذ الخير محمد بن مرزوق سليل البيت المرزوقي الشامخ البنيان، ورئيس شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأحد دعاتها الثابتين. لقي ربّه ليلة الأربعاء 22 جمادى الثانية بعد مرض لازمه زهاء عام، ولم يفد فيه علاج ولا حيلة، فكان موته صدمة لاقاها المصلحون بالصبر، وكان أثرها فيهم بقدر ما فقدوه بفقد الراحل الكريم من خلال صالحة وعزيمة ثابتة، ويقين لا تشويه الشائبة. كان كل حظ الفقيد من العلم مبادئ عربية تلقّاها عمن أدرك من مشائخ ذلك العصر في تلمسان، وتعاليم مدرسية رسمية تلقّها بمدرسة تلمسان الحكومية. ثم بعد حصوله على شهادتها الأخيرة سمتْ به همته إلى تحصيل الشهادة العليا من مدرسة الجزائر فحصَّلها، وبدأ حياته العملية مدرّسًا حكوميًا بالسودان، ثم مدرّسًا بمدرسة الألسن الشرقية بباريس، ولم يرض ذلك كله شيئًا من همته ولا اتّفق مع ما هو مستعدّ له، وكأنه كان يروّض نفسه الأبية على شيء لم يخلق له، ثم انخرط في السلك القضائي من أول مراتبه فلم يلبث فيه إلا قليلًا، ثم دخل في التدريس الرسمي ببلدة "بلعبّاس"، فكانت آخر رتبة لتلك الرياضة التي راض بها نفسه على الوظائف، فلم تتفق واحدة منها مع تلك النفس الحرّة. ولو أن نفسه كانت من طراز تلك النفوس التي تعشق الوظيفة بما فيها من قيود، لبلغت به اليوم أقصى تلك الدرجات وحلته بحلاها. ولكنها رجعت به، مع رقة الحال، إلى أقرب

_ * جريدة "البصائر"، العدد 180، 25 أوت 1939 (بدون إمضاء).

عمل من الحرية وهو "الوكالة الشرعية"، وما زال يتبلغ بما يحصله منها محتفظا بإيمانه وحريته وشرف نفسه إلى أن لقي ربّه. انتُخب عضوًا بالمجلس البلدي مرات متواليات، فكانت ثقة الأمة به في محلّها وكان في حياته النيابية- التي استغرقت بضع عشرة سنة من عمره- مثال الصدق والإخلاص وأداء الواجب، لم يدنس شرفه بمطمع ولم يغمس يده في دنيئة، مع رقة حاله وكثرة عياله، وكان طاهر العقيدة متينها في دينه، صائب الرأي سديد التفكير في الشؤون الدينية العامة. سمعتُ من فيه- رحمه الله- أن التعاليم المدرسية الحكومية أثّرت في نفسه تأثيرًا سيئًا كانت نتيجته الإلحاد، ولكن هذه الغمرة انجلت عنه سريعًا، وتلتها غمرة تألم مطبقة، ولما لم يجد أمامه مظهرًا إلا النحلة الدرقاوية انتحلها وغرق فيها إلى الأذنين، ولكنه أدرك بفكرته السليمة فسادها ومُنافاتها لدين الحق، فانتشل نفسه من تلك الوهدة، وبقي يرقب فجر الهدى حتى انبلج فجر نوره بظهور الحركة الإصلاحية على يد جمعية العلماء، فكان الرجوع إلى مبادئها خاتمة المطاف لنفسه التواقة إلى الحق. ... كان يوم دفنه يومًا مشهودًا، فقد مشى في جنازته زملاؤه النواب من مسلمين وأوروبيين ونائبا شيخ المدينة ونائب عامل عمالة وهران بتلمسان وكثيرون من موظفي المجلس البلدي، وغمر هؤلاء الرسميين بحر لجي من طبقات الأمة يتقدمهم أعضاء الجمعية الدينية التي كان عضوًا فيها، وشعبة جمعية العلماء التي كان رئيسًا لها، والجميع واجمون مطرقون كأن على رؤوسهم الطير، تأدّبًا بآداب السنّة المطهرة. فبهذه المناسبة نُعلن البشرى لإخواننا المصلحين بأن إقامة الجنائز على منهاج السنّة الشريفة توطدت بتلمسان، وغلبت على بِدَع الطرقية، وانتصرت انتصارًا حاسما بعد صراع عنيف وثبات من المصلحين مجيد. ولما وصلت تلك الجموع إلى مصلّى المقبرة اصطفت الصفوف وتقدم للصلاة عليه محمد البشير الإبراهيمي، وبعد الصلاة تحلقت أفواج الخلائق وهو قائم على الجثمان لم يبرح مكانه، فتقدم الأستاذ عبد السلام طالب النائب المالي والعمالي وتلا خطبة مختصرة بالعربية، وتقدم بعده نائب شيخ المدينة فارتجل خطابًا مؤثّرًا بالفرنسية باسم مدينة تلمسان. ولم يسبق للإبراهيمي أن خطب على جنازة منذ دخل تلمسان لعدم تأتّي المناسبة، وكان في هذا المشهد بادي التأثر، دامع العين، خاشع الطرف، حزين الملامح، فدفعه ذلك التأثر بالمشهد المحزن، بعد أن رمقته العيون من كل جانب، إلى ارتجال خطبة أسالت المدامع

وأثارت كوامن الأسى، وحرّكت في أنفس الشيوخ عروق الخشية والخوف من الله، وحفزت نفوس الكهول إلى التسابق في الصالحات وحسن التأسّي بالعاملين وعرّفهم معنى كرامة النفس وشرفها في سيرة الراحل الكريم، وجلّت لنفوس الشبان عِبَر الحياة وطرائقها في سِيَر من سبقهم. ولقد- والله- وجلت نفوس وخفقت أفئدة واهتزت من ذلك الخطاب حتى من الذين كانت تعوقهم عوائق الشرّ وتصدّهم رؤوس الضلال عن سماع كلام الإبراهيمي في دروسه ومحاضراته. رحم الله الراحل المودعّ وعزّى فيه جميع إخوانه المصلحين الأحرار.

ختم الدروس السنوية «بدار الحديث»

ختم الدروس السنوية «بدار الحديث» * - 1 - الدعوة إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة من الأعمال التي تسجّل بماء الذهب لجمعية العلماء على الوطن الجزائري بعد أن قضت عليهما خرافة الطرقية وضعف المنتسبين للعلم عن إدراك حقائقهما. ولقد سنّ هؤلاء للقرآن سننًا ابتدعوها للانتفاع به وكل أموال الناس باسمه، ولولا ذلك لما بقي يحفظ حتى اليوم. وأما السنة فلم يبق لها أثر إلا في المجلدات- على قلّتها- عند من يقرأها على سبيل التبرك، ولقد أدركنا من هؤلاء مَن إذا دخل "الطبّالون" داره لمناسبة: كانت "النوبة" الأولى على صحيح البخاري بعد وضعه على كرسي وقيام "المعلمين" وقوفًا إجلالًا لما بين أيديهم، وكأنهم وضعوا لهذا الغرض "نوبة" يتفننون في تأديتها بغير المعتاد. كما أدركنا مَن إذا ألمّ به ملمّ فزع إلى ضريح الشيخ أبي مدين طالبًا اللطف من الله (قطعًا) على يده بعد أن يقدّم بين يديه سلكة من القرآن (1). وإنك لَتعجب كل العجب إذا حدّثتك عن صاحبنا: إنه ممن يدرس علم التوحيد، ويقرأ صحيح البخاري بالجامع الأعظم. أما اليوم وقد عمّت الدعوة القطر كله، وكان حظ تلمسان منها كبيرًا بسبب مَن اختاره الله لها، فقد كثرت دروس التفسير وكتب السنّة حتى من إخواننا الطرقيين الذين كانوا في

_ * جريدة "البصائر"، العدد 180، 25 أوت 1939، ولعل هذا الوصف بقلم الأستاذ محمد بابا أحمد من تلامذة الشيخ. 1) أي ختمة من القرآن.

غفلة عنهما، مشتغلين بخلواتهم وجلواتهم، وكأنهم شعروا بضعف ما في أيديهم فاغتنموها فرصة أضافوها إلى مذهبهم. ونحن نتفاءل بهذه الإضافة كيفما كانت، معتقدين قرب اليوم الذي يظهر الله كتابه على سائر الكتب ولو كره المشعوذون. ... كان يوم الجمعة 17 جمادى الثانية موعدًا لختم سورة إبراهيم- عليه السلام- الذي صادف إتمامها العطلة الصيفية بهذا العام، وقد شاركت العمالة الوهرانية في حضوره، وما غربت شمس ذلك اليوم حتى كانت تلمسان تتماوج بزرافات المصلحين الذين ساقهم حادي القرآن إلى الاقتباس من نور هذا الختم الميمون، وما أفل سراج السماء حتى بزغ وجه العلّامة الأستاذ الشيخ عبدالحميد ابن باديس الذي وفد على تلمسان ممثلًا لعمالتي قسنطينة والجزائر في هذا الختم المبارك. وما دقّت الساعة التاسعة حتى كان باطن «دار الحديث» كظاهرها يتلألآن بنوري الإصلاح والمصباح، وعلى المنصّة من قاعة المحاضرات جلس الشيخان كفرسي رهان في حلبة البيان، محاطين بكواكب العرفان، وبعد أن شخصت الأبصار وخشعت الأصوات دوّى صوت الإبراهيمي مفتتخا لدرسه بقوله: الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. وقبل أن نتعرض لما التقطناه من جواهر هذا الدرس، أذكر بكل إعجاب ما للهجة الأستاذ في تلاوة الآيات المراد تفسيرها من التأثير على السامعين، لقد تعوّدنا أن نفهم الآيات من تلاوته قبل تفسيره وبيانه الشافي. ولنقتصر على ما استطعت تقييده من توطئة الدرس معتذرًا بسرعة الأستاذ في التقرير، قال لا فُضَّ فوه: المقارنة بين فاتحة السورة وبين خاتمتها وبين قصّة إبراهيم- عليه السلام- تشعرنا بالصلة الوثيقة بين إبراهيم ومحمد- عليهما السلام-، إذْ كل منهما قد ابتلي لمحاربة الأوثان وبثّ التوحيد الخالص في البشر. واستعرض الكثير مما قصه الله علينا من شأن إبراهيم في القرآن، وانه أكثر الأنبياء ذكرًا، وما كثر ذكر شيء في القرآن إلا للاعتبار.

وقد ناضل إبراهيم- عليه السلام- في محاربة الأوثان، واستدل بالمكونات على المكوّن إلى أن أعياه أمرها، فهاجر إلى ربّه وترك قومه وما يعبدون، والعبرة الكبرى في نقل إسماعيل- عليه السلام- إلى أرض الحجاز، وسكنى إسحاق بأرض كنعان، إذ أخرج الله من صلبيهما فرقتين عظيمتين العرب وبني إسرائيل، وقد جدّد الله لهما دين أبيهما على يد الرسل- عليهم السلام-، فأما بنو إسرائيل فقد كانوا يقابلون رسلهم بما قصّه الله علينا في القرآن مثل قوله تعالى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا}، {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، زيادة على قتلهم الأنبياء بغير الحق، فكانت العاقبة عليهم وضربت عليهم الذلّة والمسكنة، وأما بنو إسماعيل من العرب فقد آووا ونصروا وأوذوا في نشر الدعوة إلى الله بما هو معلوم، وما دخلت عليهم الدخائل إلا بعد موت محمد - صلى الله عليه وسلم - على يد علماء السوء من أمته، وبهذه النظرة الملقاة على تاريخ الأمتين يتبين نجاح دعوة محمد- عليه السلام- ومحاربته للأوثان، فإنه ما مات حتى هدّمها بيده الشريفة، وطهّر وطنه منها بيد أن إبراهيم- عليه السلام- هاجر من أرضها. ولم يكتف نبيّنا من هدم الأصنام حتى هدّم محبّتها من القلوب، وشيّد بدلها إيمانًا صحيحًا مكانها، ثم عرج الأستاذ على ما وصلت إليه أمة محمد- عليه السلام- من انحطاط الأخلاق، وإن السبب الوحيد في هذه الوثنية التي لا تزال القلوب تحنّ إليها هو البعد عن القرآن وما جرّ على المسلمين هذا البلاء الذي ملك عليهم أمر دينهم ودنياهم إلا سكوت علمائهم وضعفهم عن مقاومة الحجّة بالحجّة والدليل بالدليل إلى آخر ما قال، وبعد أن أتمّ الدرس قدّم الأستاذ الشيخ عبد الحميد ابن باديس ليلقي كلمة على الحاضرين، فكانت تلك الكلمة درسًا عظيمًا يجدر بنا أن ننبّه عن نقط هامة من هذا الدرس الجليل. قال - حفظه الله- بعد الحمدلة والتصلية: هذه كلمة ليست درسًا مستقلًا بنفسه، وإنما هي تتميم لدرس الأخ الأستاذ الإبراهيمي، اقتضاها حديث مجلس دار فيه كلام بيني وبين الإخوان على أن الاسم دليل على المسمّى، واننا كثيرًا ما وجدنا مطابقات بين الاسم والمسمّى، وذلك مطرد حتى في تسمية الأولاد. وقد عرف العرب هذا، واستشهد بتسمية عبد المطلب لنبيّنا- عليه السلام-، وبما قيل له في ذلك وبما أجاب. والقصد من هذا الاستدلال أن المسمىّ للشيء يلاحظ معنى ذلك الاسم. وإننا نجد في القرآن أسماء الله تعالى من هذا القبيل، كما نجد ذلك في أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - التي في القرآن والتي في حديث: لي خمسة أسماء الخ الحديث. ومن تفقّه في أسماء القرآن كان له الحظ العلمي والعملي، ذكّرني هذا قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ ... }، فقد سماه الله كتابًا، وقرآنًا، وفرقانًا، وذكرًا، وبلاغًا، ونورًا.

فتسميته له بالكتاب تنبيه لنا بما في الكتابة والخط من الفوائد لنكون أمّة كاتبة، فإن أول ميزان توزن به الأمة هو ما فيها من النسبة المائوية بين الذين يكتبون والذين لا يكتبون. هذا هو الحظ العلمي، أما العملي فقد نفّذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصّة أسرى بدر. وتسميته بالقرآن تنبيه لنا بما في القراءة من فوائد بعد معرفة الكتابة، لأنهما الأساسان اللذان تنبني عليهما أمور الدنيا والآخرة. وتسميته بالفرقان لينبهنا بالعلوم الكونية والعلوية لنفرّق بين الأسباب الشرعية والكونية، أما الذي يكتب ويقرأ ولكنه لا يفقه أسرار الكون فإن كتابته وقراءته حجّتان عليه. وتسميته بالذكر لأنه كتاب غير خارج عن سنّة الوجود، ولأنه يكشف لنا الحجب عما حجب عنا، فمن رام أن يذكر الناس فالقرآن هو الذكر. وتسميته بالنور لأنه يكشف لنا عن الحقائق المعنوية كما أن النور يكشف عن الحسّيات. هذه جملة مختصرة على أسماء القرآن وشينا بها هذا الدرس، وهي حظّنا من العلم. أما حظّنا من العمل فهو فتح هذه المدرسة لأن الدعوة إلى العلم لا يردّها عقل. إن تلمسان ظُلمت ظلمين: ظُلمتْ بإغلاق مدرستها، وظُلمتْ بعدم إعطاء الرخصة، لقد سلك التلمسانيون السبل المشروعة، أشهد أنهم قد أدّوا واجبهم في دائرة القانون. ثم إني لا أخاطب المصلحين دون الطرقيين، لأن المدرسة لتلمسان لا للمصلحين. الطرقية التلمسانية لم تكن بأقلّ ظلمًا من المصلحين، أقول هذا وأجدّد القول، وما بقي لنا إلّا أن نقرأ، ولو أغلقتْ علينا أبواب المدرسة. ألا فليشهد التاريخ! انتهى كلام الأستاذ بعد أن أسال الدموع الحارة بهذه العبارات النافذة لأعماق القلوب. وعلى الساعة العاشرة والنصف انفض الجمع يحمل بين جوانحه حبّ القرآن والعلم ويحسّ بوخز العار الذي لحقه من تعطيل «دار الحديث».

- 2 -

- 2 - * درس في التفسير (سعادة المسلمين في العمل بالقرآن) بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ (1) لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا (2) بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا (3) أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4)، سورة إبراهيم (5)، الآية 52. السورة التي ختمت بهذه الآية الجامعة الفذة (6) هي سورة إبراهيم عليه السلام، وما أكثر السور التي ذكر (7) فيها إبراهيم وقُصَّ فيها قصص إبراهيم، وما أحق الكثير منها بأن يسمى بهذا الاسم، لما فيها من زيادة التفصيل في أصل دعوته، ومُحاجته لقومه أو مُحاجة قومه له، أو لما فيها من غرابة الحادثة وَروْعة سياقها كقصة ابتلائه (8) بذبح ولده في سورة الصافات (9)، وقصة

_ * هذا الدرس ألقاه الشيخ ارتجالًا بدار الحديث بتلمسان بحضور الشيخ عبد الحميد بن باديس، ووجدت مسودته بين أوراقه، وقد علق عليها الأستاذ محمد فارح ونشرها على حلقات في جريدة "الشعب"، ابتداءً من عدد 6426، الثلاثاء26 رمضان 1404هـ، 26 جوان 1941م. 1) كفاية في العظة والتذكير، والإبلاغ: الإيصال ومثله التبليغ، والاسم: البلاغ. 2) ليُنصحوا به ويخوفوا من عقاب الله. 3) وليتحققوا بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة. 4) وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة. 5) مكية، وآياتها اثنتان وخمسون، وإبراهيم بن آزر أو بن تارح أبو الأنبياء وامامُ الحنفاء. 6) الفذة: أي المنفردة في مكانتها أو كفايتها أو في مضمونها وايجازها. 7) ذكر إبراهيم في خمس وعشرين سورة هي: "البقرة، آل عمران، النساء، الأنعام، التوبة، هود، يوسف، اٍبراهيم، الحجر، النحل، مريم، الأنبياء، الحج، الشعراء، العنكبوت، الأحزاب، الصافات، ص، الشورى، الزخرف، الذاريات، النجم، الحديد، الممتحنة، الاْعلى". 8) الابتلاء في الأصل: التكليف بالأمر الشاق، ثم أطلق على الاختبار والامتحان. 9) الآيات من 102 إلى 113.

تبشير الملائكة له ولزوجته بالولد، بعد أن مسّهما الكِبرُ في سورة هود (10). وهاتان الحادثتان أغربُ من حادثة بناء الكعبة المذكورة في هذه السورة (11)، وفي سورتي البقرة (12) والحج (13)، وان كان بناء الكعبة أعظم منهما أثرًا وأيسرَ ذكرًا، ولكن تسمية السُّوَر القرآنية ليست بالهوى والتّشهّي، والمناسبات الفنية، والاعتبارات الذوقية، والملاحظات الاصطلاحية، وإنما هي توقيف من رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فحسْبُنا فيها الاتباع. وهذه السورة التي ختمت بهذه الآية بُدِئت بقوله تعالى: {كِتَابٌ (14) أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ (13) النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (16).} وإن استهلالَ سورة نسبت إلى إبراهيم واختتامَها بالتنويه بكتاب الإسلام لَإشْعارٌ لنا بالصلة الوثيقة بين دين إبراهيم ودين الحق الذي جاء هذا الكتاب لبيانه، وبالأصالة العريقة التي انفرد بها هذا الدين الحنيف، تلك الأصالة التي قرّرتها آيات من القرآن في توحيد الله وفي تقرير سُننه في الخَلق والتكوين والجزاء وسرائر (17) البشر، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ (18) بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (19) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ (21) لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (22).} وقال تعالى، بعد أن ذكر طائفة من شؤونه في خلْقه: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (23).} وقال: { ... مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ (24).} فإبراهيم الّذي جعله الله إمامًا للناس هو الأب الروحي لكل من أسلم قلْبَه ووجْهه لله، وقد أخرج الله من صلبه طائفتين عظيمتين كانتا في تاريخ العالم الإنساني مظهرًا لدين الله في

_ 10) الآيات من 69 الى 76. 11) سورة إبرا هيم، الآيات 35، 36، 37. 12) الآيات من 125 إلى 129. 13) الآية: 26. 14) هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئه أنت. 15) لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإيمان. 16) الآية الأولى من سورة إبراهيم. 17) جمع سريرة، والسريرة ما يكتمه الإنسان في ضميره. 18) ألم يخبر بما في التوراة. 19) أتم وأكمل ما أمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته. 20) انه لا تحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى. 21) ليس للإنسان إلّا عمله. 22) سورة النجم، الآيات من 36 إلى 41 - الجزاء الأوفى: الاتم والأكمل. 23) سورة الأعلى، الآيتان: 18، 19. 24) سورة الحج، الآية 78.

الأرض: بنى إسرائيل، والعرب، وإن كانت الطائفتان مُتَفَاوِتتَيْنِ كلَّ التفاوت في فهم الدين، وتذوقه، وتحمّله، وأدائه، والائتمان عليه، بتفاوت الاستعداد والزمن، وظهور الرسالة، وقوّة الاضطلاع، واستحقاق الاستخلاف والتَّمكين. ويكفينا فرقًا بين الِاستعداد والِاستعداد أَنَّ بني إسرائيل قالوا لأَعظم (25) رسُلهم، بعد أن قادهم إلى العِزّ، وأنقذَهم من الِاستعباد والهوان، وبعد أن رأوا الآيات (26)، وانثالتْ (27) عليهم النِّعَم الإلهية على يديه: ... (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (28).} واتخذوا (29) في غيبته عجلًا جسدًا (30) له خوار، ولم يكفهم ذلك، بل ... {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (31)}، ولم يفارقهم الحنين إلى الوثنية، فقالوا، عندما رأوا ما يذكِّرُهم بها: ( ... اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (32)}، ثم خلفوه في دينه بعد موته أسوأَ خلافة، فبدّلوا وغيروا، وحرّفوا الْكَلِمَ عن مواضعه ونسُوا (33) حظًا مما ذُكّروا به حتى ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وتأذّن (34) ليَبْعَثَن (35) عليهم إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومهم (3) سوءَ العذاب، كما هو مشاهد بالعيان في كلِّ زمان وفي كلّ مكان. وكأن تاريخ الإنسانية عَيِيَ بهم، فهم يترددون على لَهَوَاته (37) تردُّد اللُّقْمة غيرِ السَّائغة إلى يوم القيامة، ومن جار على حقائق الله جارت عليه حقائقُ الوجود. أمَّا العربُ فكانوا لرسولهم على النقيض ممّا كانت عليه إسرائيل لِرسولها، فلم يَرْتَبْ مُؤْمِنٌ منهم بعد إيمانه، ولم تخالطْ يقينَه في الله وفي الحق شبهةٌ، ولا طاف بنفسه طائفُ الوثنية بعد أن عَمرت بالتَّوحيد، بل آوَوْا ونَصَرُوا، وجاهدوا وصبروا، وفارقوا ديارهم وهاجروا، ثم خلفوه في دينه بعد موته أحسن خلافة، فهمًا وعملًا ونشرًا وتطبيقًا، وما دخلت

_ 25) موسى عليه السلام. 26) البراهين. 27) انهالت، انصبت. 28) سورة المائدة، الآية 24. 29) تراجع الآية 148 من سورة الاعراف. 30) لا روح فيه. 31) سورة طه، الآية 88. 32) سورة الأعراف، الآية 138. 33) تركوا نصيبًا وافيًا مما أُمِرُوا به في التوراة، تراجع الآية 13 من سورة المائدة. 34) أعلم، أو عزم وقضى. 35) لَيُسَلِّطَنَّ. 36) يذيقهم ويكلفهم، تراجع الآية 167 من سورة الأعراف. 37) جمع لهاة، واللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.

الدخائل (38) على دين محمد - صلى الله عليه وسلم - إلّا بعد قرون، بعد أن انتهى أمره إلى أخلاف (39) السوء من الأمراء والمستبدين والعلماء الجامدين، ومع ذلك فلا زال دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يزال مكين (40) الأساس، واضح الاعلام بهذا القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديْه ولا من خلفه، وان هذا القرآن لم يَعْتَنِ بتحليل أمة وتفصيل سيرها مثلَ ما اعتنى بأمة إسرائيل ليحذِّرنا مما صنعوا حتى لا تصيبنا عواقب ما صنعوا، كما أن القرآن لم يُفِضْ في دعوة رسول من رسل الله، ولم يفصل طرف الحِجَاج بين رسول وقومه ما أفاض وفصّل في دعوة إبراهيم ومحاجّته (41) لأبيه وقومه، ليعرفنا بهذا الاب العظيم الذي زرع النبوة في العامر والغامر (42) من أرض الله، فأقر ابنه اسحاق في أرض كنعان، وأقر ولده إسماعيل في الحجاز لحكمة يَسْتجليها (43) المستعبرُ، ولا تعْمَى على المتدبر، وليدلنا على ما لهذا الأب العظيم من يد في إقامة ركن التوحيد وما له من أثر في حرب الوثنية والوثنيين، وليُشْعِرَنا بأنَّ لنا في بناء الحق وهدمِ الباطل ونشر الهداية والخير أصلًا عريقًا، ونسبًا طويلًا عريضًا، ومتى شعر الْإنسان الصحيح الفطرة بزكاء (44) الأصْل وطهارة المنبت، تحركت فيه نوازع النخوة (45)، وهاجت به عروق الأصالة والعتق، فكان ذلك داعية له إلى العزوف (46) عن الدنايا، والتعلق بأسباب الشرف والكمال، وحسن التأَسّي في مكارم الاخلاق. وبعض هذا هو سر سلوك المربين للأمم في إشرابها تاريخها، واستنارتها بسِيَر أمجادها وأبطالها، وان في القرآن لأسوةً في كل شيء حتى في هذا الباب، فهو يخاطب بني إسرائيل حتى في مقامات التنديد وتعديد المثالب (47) بأحَبّ النسب إليهم، فينسبهم إلى إسرائيل الذي هو مناط (48) فخرهم، ومعقِد عَزْمهم، وصخرةُ تاريخهم، ليستفزَّهم بذلك، ويُنبهَهم أنّ لهم أصلًا أصيلًا في الشَّرف يحسُن (49) عليهم أن يرجعوا إليه ويقْبُح بهم أن يعقوه ولا يقتدوا به.

_ 38) ما أدخل في الإسلام أو نسب إليه وليس منه ... 39) جمع خلف، والخلف: الابن الطالح، والأخْلافُ: الأبناء الطالحون. 40) راسخ الجذور، ثابت الأركان عظيم القدر. 41) مجادلته. 42) الغامر من الأرض خلافُ العامر وهو ما غمره ماء أو رمل أو تراب وصار غير صالح للزرع. 43) يستكشفها. 44) صلاح الأصل. 45) المروءة، العظمة، الحماسة. 46) الانصراف عن الشيء، الزهد فيه، الإعراض عنه ... 47) المعايب، النقائص. 48) موضع فخرهم، أو علته وسببه. 49) يحق عليهم، يجب عليهم، أو يحسن لهم أو بهم.

وأكبر الفوائد لنا، فيما قصَّ القرآنُ من قَصص إبراهيم، ما تضمنته من العلوم، ففيها، على تقارب أساليبها واختلاف السور المتضمنة لها ما بين مكية ومدنية، آيات للمتوسمين (50)، ومجالات لأفكار المتدبرين (51)، يقرأها المتدبر فيخرج منها بدستور جامع في التوحيد والدعوة إليه، وما يلزم الداعي من قوّة في الجدل، وبراعة في أساليبه، وصبرٍ على المقارعة والنّضال في سبيله، وقدرةٍ على التحايل في إقناع النّفوس الضالّة والعقول التي لا تهضم البرهان، وصبرٍ على جفاء الأقارب، وشدةٍ وحزم في التبرؤ منهم وقطعِ حبالهم. إن المتذوق لأسرار القرآن، المستخرج لِلَطَائِفِ المُقارنات بين نفوس المصطفين من عباد الله، لَيُدْرِكُ بالذوق النّفسي ذلك الحنان، وتلك الرقة التي تقطر من قول نوح اليائس من ابنه (52 م): { ... رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، وتلك الشدة من خطاب إبراهيم لأبيه، ومن إيذانه بالبراءة، بعد ما تبين له أنه عدوّ لله. وإذا كان المظهر الأعلى للتوحيد من العبادات هو الدعاء، فإن أدعية إبراهيم التي قصها الله علينا هي أشرف تلك المظاهر في التنزيه المحض (52)، والأدب الكامل، وهي الأسلوب الذي يجب أن يحتذيه (53) كل داع موحِّد، وإذا كانت الوثنية هي داء الإنسانية العضال، وهي العدو الذي حاربه نوح (54) ألف سنة إلّا خمسين عامًا، فما آمن معه إلّا قليل، وكانت خاتمة دعوته تلك الشكوى المؤلمة، وذلك السخط المنبعث من مناجاته ربَّه في السورة (55) المسماة باسمه، وفيها يقول عن قومه: { ... رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (56). وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (57). وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ (58) آلِهَتَكُمْ، وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (59)، وإذا كان هذا شأن نوح مع الوثنية والوثنيين، فإن

_ 50) المتفرسين، توسم الشيء: تفرسه أي ثبت نظره وأدرك الباطن من نظر الظاهر. 51) تدبر الأمر: تفكر فيه ونظر في عاقبته واعتنى به، والمتدبرين: المتفهمين والمتفكرين. 52 م) سورة هود، الآية: 45. 52) الإبعاد الخالص أو التام عن أي قبيح أو شبهة. 53) أن يتبعه ويقتدي به. 54) النبي الثاني ممن ذكروا بعد آدم عليه السلام وأول الرسل إلى الأرض، كما جاء في حديث الشفاعة عن أبي هريرة في صحيح مسلم: "يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض". 55) سورة نوح، الآيات: 21، 22، 23. 56) ضلالًا في الدنيا وعقابًا في الآخرة. 57) بالغ الغاية في الكبر. 58) لا تتركن. 59) أسماء أصنام عبدوها، ثم انتقلت إلى العرب فكان "ود" لكلب، و "سواع" لهذيل و "يغوث "لغطفان" و "يعوق" لهمدان، و "نسر" لآل ذي الكلاع من حمير.

شأن إبراهيم معها غير هذا الشأن، شأنه أنه قبَّحها في نظر قومه أشنع تقبيح، وقرعهم (60) على عبادتها أعظم تقريع، ولما لم تغن فيهم تلك القوارع (61) ولم توثر في نفوسهم القاسية البراهين الصوادع (62)، راغ (63) يجلي (64) تلك الأوثان ضربًا باليمين حتى جعدها جذاذًا (65) وحطمها تحطيمًا، وهذه هي المرتبة الرفيعة، مرتبة تغيير المنكر باليد سنّها أبو الأنبياء إبراهيم وتبعه فيها موسى حينما قال للسامريّ (66): { ... وَانْظُرْ (67) إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ (68) عَلَيْهِ عَاكِفًا (69) لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (70)، وتبعهما خِتَامُهم وأفضلُهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فحطم أوثان العرب المحيطة بمكة، وأرسل أصحابه يهدمونها في كلّ حيّ، ولم تغنِ عن طاغية ثقيف شفاعةُ ثقيف. ومن آفات البعد عن هداية القرآن وعلوم القرآن وتربية القرآن أن الوثنية التي أودت (71) بالأمم قبلنا، وكانت علة العلل في ضلالها وشقائها، ولقي منها رسل الله الْأَلاقي (72) حتى قال نوح في الوثنيين من قومه، بعد أن ذكر أسماء أوثانهم: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا (73) ... )، وقال إبراهيم في أوثان قومه: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ (74) ... )، هذا المرض الفتاك الذي استعصى على أولي (75) العزم من رسل الله علاجُه، هو الذي غفل عنه المسلمون، وهون شأنَه علماؤهم الجامدون حتى استشرى (76) وأَعضل.

_ 60) أوجعهم باللوم والعتاب. 61) جمع القارعة، والقارعة: الداهية التي تُفْزع الناس بأهوالها ... 62) البينة الكاشفة، المفصلة. 63) مال إلى الأوثان خفية ليحطمها، أقبل، انهال عليها ضربًا. 64) يخرج ويكسر، يزيل. 65) قِطَعًا مهشمة، مكسورة أو مكسرة. 66) ساحر منافق من بني إسرائيل أضل قوم موسى في غيابه وأرجعهم إلى عبادة العجل. 67) سورة طه، الآية 97. 68) ظللت، دمت. 69) لزمتَ عيادته، واظبتَ عليها، أقمت عليها. 70) لنذرينه، لنطيرنه رمادًا في البحر. 71) أهلكتها، قضت عليها. 72) نوازل الدهر، الأحاجي والألغاز، المتاعب والمشاق، ومفردها: الالقية. 73) سورة نوح، الآيتان: 23، 24. 74) سورة إبراهيم، الآية 36. 75) أهل العزيمة الصادقة، من الرّسل: مشاهير الرسل الكرام: انظر الآية 35 من سورة الأحقاف 76) اشتدّ وتفاقم، وأعضل أي عسر واستغلق ...

فهذه القِباب المشيدة، وهي أوثان هذه الأمة، أضلت كثيرًا من الناس، وأكثر من الكثير، وافتتنوا بها، وبأسماء اصحابها حتى ألهتْهم عن دنياهم وأفسدت عليهم أخراهم، وغلوا (77) في تعظيمها حتى أصبحت معبودة تُشَدُّ إليها الرحال، وتقرَّبُ لها القرابين والنذور، وتسأل عندها الحاجات التي لا تسْأَلُ إلّا من الله، ويحلف بها من دون الله، ويتآلى (78) بها على الله، وما جَرَّ هذا البلاء على الأمة الإسلامية حتى أضاعت الدين والدنيا، إلّا سكوتُ العلماء عن هذه الأباطيل أول نشأتها، وعدمُ سدِّهم لذرائعها حتى طغت هذا الطغيان على عقول الأمة، ولو أنهم فقهوا الأمة في كتابِ ربها، وساسوها بسنة نبيها لكان لها من سيرة إبراهيم ومحمد عاصمٌ أي عاصم من هذا الشر المستطير. إنني أحث التّالين لكتاب الله من حفّاظه والمُنصِتين له من المحافظين على سماعه منهم، على تدبر الآيات الجامعة لقصص إبراهيم، كلما مرت بهم آية البقرة (79) من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى (80) إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (81) فَأَتَمَّهُنَّ (8)، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (83)، قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي (84) الظَّالِمِينَ) والآية (83) الأخرى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي (86) حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ (87) الَّذِي كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وآية (88) الأنعام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ (89) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (90).}

_ 77) بالغوا، تجاوزوا الحد. 78) يقسم ويحلف، تألى وأتلى، وآلى، والالوة: القسم. 79) الآية 124 (البقرة). 80) الابتلاء في الأصل: التكليف بالأمر الشاق، ثم أطلق على الاختبار والامتحان. 81) بأوامر ونواه. 82) فأداهن. 83) قدوة ومنارًا. 84) لا ينال هذا الفضل العظيم أحد من الكافرين. 85)) البقرة، الآية 258. 86) الذي: "نمرود بن كنعان الجبار"، جادل. 87) فبهت: فأخرس، وغلب، وانقطعت حجته. 88) الأنعام، الآية 75. 89) الملك العظيم، أو الآيات أو العجائب ... 90) من الراسخين في اليقين، واليقين: إزاحة الشك، وتحقيق الأمر، والوضوح، أو العلم الحاصل عن نظر واستدلال.

بلاغ للناس: البلاغ والبلوغ مصدران للفعل "بلغ" الثلاثي، ومعناهما الوصول إلى النهاية في الأزمنة أو الأمكنة وغيرهما من الأمور الأخرى، وتصاريف هذه الكلمة في القرآن الكريم لا يخرج عن هذا المعنى، كقوله تعالى (91): { ... حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ (92) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ... }، {لَهُ (93) دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِلَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ (94) فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ... } {قُلْ (95) فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ (96) الْبَالِغَةُ ... }، {وَقَالَ (97) فِرْعَوْنُ (98) يَا هَامَانُ (99) ابْنِ لِي صَرْحًا (100) لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (101)}، وتبليغ الرسل وبلاغهم يؤديان هذا المعنى أيضًا، فهو إيصال كل ما كلفوا إيصالَه عن الله إلى عباده من دينه، وشرائعه ووحيه إيصالًا كاملًا غير منقوص. ويقال شيء بالغ إذا كان متناهيًا في صفة مميزة كقوله تعالى (102): {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... } أي عهود مؤكدة بالأيمان متناهية في التأكيد والتوثيق (103)، ومنه بلوغ الحلم، وقد يقصر بهذه الكلمة عن معنى التناهي، وتطلق على ما يقاربه ويشارفه لمعنى، وهذا النحو، وهو اطلاق اللفظ على قريب من معناه، شائعٌ في العربية، معدود من مجازاتها المشهورة، وعليه حُمِلَ قوله تعالى (104): {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ (105) بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ، ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ يَتَّقِ (106) اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، فليس

_ 91) سورة الأحقاف، الآية 15. 92) أدرك كمال قوته وعقله، وغاية نموه، نضج، قوي ... 93) سورة الرعد، الآية 14. 94) ليصل الماء إلى فمه. 95) سورة الأنعام، الآية 149. 96) الحجة البينة الواضحة: أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب. 97) سورة غافر، الآية 36. 98) فرعون اسم أطلق على ملوك مصر القدماء، ومنهم فرعون الخروج الذي اضطهد بني إسرائيل وعزم على قتل موسى فطارده وغرق في البحر. 99) وزير فرعون. 100) قصرًا عاليًا. 101) الطرق والوسائل. 102) سورة القلم، الآية 39. 103) الأحكام. 104) سورة الطلاق، الآية 2. 105) فراجعوهن إلى عصمة النكاح ان شئتم مع الإحسان في صحبتهن أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن. 106) ومن يراقب الله في أعماله ويقف عند حدوده يجعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا.

المراد ببلغن هنا انتهين إلى آخر ما يعتددن به، لأنهن، إن وصلن إلى ذلك، ملكن أمر أنفسهن، ولم يبق للرجال حق في إمساكهن ومراجعتهن. وجميع الكلمات التي تلتقي مع كلمة بلغ في حروفها تلتقي معها في معناها، كالبلاغة في الكلام، وهي أن يبلغ المتكلم ما يريد من السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل والوجدان من النفس، والمبالغة في القول أو العمل هي أن يبلغ إلى نهاية الممكن من نوعهما، والبُلْغة من العيش هي أقل ما يمسك الرمق، والأقل نهاية في التدلّي والتبلغ تَفَعُّلٌ وممارسةٌ من البلغة، ومع هذا الشرح لتصاريف هذه الكلمة التي تلتقي في أصل واحد، فإن معنى كون القرآن بلاغًا لا يفهم بمجرد التعريفات الاصطلاحية، ولا بالوقوف عند حدود الذلالات اللفظية، فبلاغ معناه وصول، وهذا لا يقنع، وبلاغ بمعنى شيء بالغ أو شيء مبلغ لا يقنع، وإنما يفهم هذا ونحوه بالذوق القرآني، فإذا قلنا في معنى الجملة: هذا القرآن بما فيه من الحكم والأحكام، وبما فيه من الترغيب والترهيب، وبما فيه من رغائب الروح والجسد، وبما فيه من علوم وحقائق، وبما فيه من بيان حقوق الله على عباده وحقوق العباد بعضهم على بعض، وبيان ما ضمنه لعباده من حقوق إلى غير ذلك مما اشتمل عليه، نهاية وكفاية للناس في الاتعاظ والاعتبار، بحيث لا يحتاجون إلى غيره في إصلاح نفوسهم واعدادها للحياة السعيدة في الدارين، إذا قلنا ذلك لم نبعد في تفسير هذه الكلمة وإصابة الصواب في موقعها من هذه الجملة. {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}: الإنذار اعلام مع تخويف، قال تعالى (107): {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (108)}، {فَإِنْ أَعْرَضُوا (109) فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ (110) صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، ويقابله التبشير، وهو الاخبار بما يُسر ويبهج، مثل قوله تعالى (111): {يُبَشِّرُهُمْ (112) رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.} وقد تستعمل البشارة في الضد كقوله تعالى: { ... فَبَشِّرْهُ (113) بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. والْإنذار والتبشير هما أهم وظائف الرّسل، قال تعالى (114): {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... }، وقد كانت أولى وظائف نبينا

_ 107) سورة الليل، الآية 14. 108) تتلهب، تتأجج، تستعر ... 109) سورة فصلت، الآية 13. 110) خوفتكم عذابًا شديدًا مهلكًا. 111) سورة التوبة، الآية 21. 112) البشرى: الخبر المفرح، والبشارة المطلقة لا تكون إلّا بالخير. 113) سورة لقمان، الآية 7. 114) سورة الأنعام، الآية 48.

عليه الصلاةُ والسلام، النذارة، أمر بالانذار الخاص لعشيرته بقوله تعالى (115): {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، ثم أمر بالإنذار العام بقوله (116): {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}. والإنذار سابق على التبشير طبعًا، لأنه يتعلق بالكافرين والمشركين، ويتوجه به إليهم، فإذا زعزع الانذار كفرَهم وشرْكهم، وآمنوا بالله، واتبعوا رسلَه، وعملوا الصالحات، جاء التبشيرُ. قال تعالى (117): { ... أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا (118) إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ (119) صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... } (120) وقدّم التبشير على الانذار في اللفظ أحيانًا، لأنه النتيجةُ والمقصود والثمرة (121). وقد يُطلق النَّذير على كل ما فيه إنذار وتخويف من الحوادث الكونية كقوله تعالى (122): {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}، {وَلَقَدْ (123) يَسَّرْنَا (124) الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (125)}، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا (126) فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ (127) النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ (128) مُنْقَعِرٍ- (أي منقلع من مغارسه) -. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}، {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (129)}، والقرآن مُنْذِرٌ. ويستخلص من معنى هذه الجملة أن القرآن أنزل للإنذار، وتشهد لذلك آيات قرآنية كثيرة، أصرحها في المراد قوله تعالى (130): {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ

_ 115) سورة الشعراء، الآية 214. 116) سورة المدثر، الآيتان: 1، 2. 117) سورة يونس، الآية 2. 118) الوحي: الإشارة، والرسالة والكتابة، وغلب استعمالُه فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله. 119) سابقة فضل ومنزلة رفيعة. 120) سورة البقرة، الآية 25. 121) يظهر أن الخطاب إذا كان للرسول قُدِّم التبشير على الإنذار وإذا كان للناس مباشرة على لسان الرسل قدم الْإنذار على التبشير. 122) سورة النجم، الآية 56. 123) سورة القمر، الآيات 17، 22، 32، 40. 124) سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ. 125) متعظ. 126) ريحًا عاصفة باردة. 127) تقلع الناس. 128) أصول نخل. 129) القمر، الآية 41. 130) سورة الانعام، الآية 19.

بَلَغَ ... } وقوله (131): {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى (132) وَمَنْ حَوْلَهَا ... }، {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ (133) ... }، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ (134) بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (135)}، وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} (136)، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} (137)، وقوله (138): {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ (139)}، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: هو نتيجة لما قبله لأن شأن الإنذار أنه يدعو إلى التأمل وإعمال الفكر، والتأمل يستتبع الفهم، أي وليعلموا، بعد إنذار القرآن إياهم عواقب الجهل بالله والشرك به وبعد تأمّهم وتدبّرهم في دلائل القرآن وحججه، علمًا يقينيًا ما لم يكونوا يعلمونه، أو كانوا يعلمونه علمًا مشوبًا بالشكوك والأوهام، وهو أن الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وسخر الشمس والقمر دائبين (140)، وسخّر الليل والنهار، إله واحد لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، ولا يشاركه مخلوق في شيء من الخلق والتدبير. ولا شك أنّ أول ما جاء به القرآن ووضّحه، وأعاد القول فيه وأبدأ، وأقام عليه الأدلة التفصيلية، وأحال عباده فيه على عقولهم ووجداناتهم، هو التوحيد. {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}: أصلُه وليتذكر، أدغمت التاء في الذال لتقاربهما في المخرج، والتذكر تفعُّلٌ من الذكر الذي هو ضد النسيان، والمراد من الذكر هنا ذكر القلب لأنه الذي يقابل بالنسيان، بخلاف ذكر اللسان الذي أصبح فتنة للمسلمين فإنه عمل جارحة، وهو فعل يُقَابَل بالترك، وإنما طالبنا الله أن نذكره بقلوبنا ولأنفسنا لنستشعر دائمًا عظمته وجلاله، ونخافه ونرجوه، فيكون ذلك مدعاةً للوقوف عند حدوده، وذلك هو نهابة الكمال الإنساني. ولما كان الشيطان (141) بالمرصاد لهذا الآدمي، وكان هذا الشيطان قد أعطى الله العهد

_ 131) سورة الانعام، الآية 92. 132) مكة، سميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجتهم وأعظم القرى شانًا. 133) سورة الاعراف، الآية 2. 134) سورة مريم، الآية 97. 135) قومًا أشداء الخصومة كثيري العناد. 136) سورة يس، الآية 6. 137) سورة يس، الآية 70. 138) سورة الشورى، الآية 7. 139) يوم اجتماع الخلائق للحساب. 140) يجريان بانتظام لا يفتران. 141) روح شريرة، كلّ عات متمرد من إنس أو جن أو دابة، هناك تفاصيل فيه طويلة.

وأقسم لَيُغْوِينَّه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (142)} وكانت مداخلُه إلى قلبه كثيرة، كانت أكبر وسيلة له إلى ذلك أن ينسيه ربَّه، وكان التذكر، وهو تكلف الذكر ومجاهدة النفس عليه، أمضى سلاح، يحارب به المؤمن الشيطان. فالتذكر نتيجة عراك بين النفس المُنيبَة (143) والشيطان، ولذلك كان أمرًا شاقًا لا يقدر عليه إلا الموفقون، قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (144)}، وقال: ... (143) {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}. وقال هنا: في آية درسنا ... {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، والألباب جمع اللب وهو العقل، قيل مطلقًا، وقيل هو العقل الخالص من الشوائب أخذا من أصل معناه، فَلُبُّ الشيء ولبابه هو خالصه، وهذا هو الذي يجب أن تفسَّر به هذه الكلمة في القرآن، لأننا نجده لا يذكرها إلّا في المسائل التي لا تدركها إلا العقولُ الزكية (146) الراجحة كقوله تعالى: ... (147) {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ (148) فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. قال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. هذه الآية الكريمة من أبلغ الآيات، وأجمعها لوصف القرآن وبيان الحكم التي انطوى عليها والحقائق التي أنزل لِبيانها، فهي تعريف جامع لأشتات الفوائد المفصلة في آياته وسوره، وأنا اختار في مرجع هذه الإشارة من هذه الآية أنها راجعة إلى القرآن كله، ما نَزَلَ منه قبل نزول هذه الآية المكية وما لم ينزل باعتباره كلام الله الذي قدر إنزاله لهداية خلقه، وهذا أحد احتمالات ثلاثة يقتضيه اللفظ، وهو أعمها، وأقواها، وأقربها إلى الذوق القرآني وإلى اسلوب الآيات الواردة في وصف القرآن كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ (149) ... }، {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (150) ... }، {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ... (151)}، ولتناسب طرفي هذه السورة، فقد بدئت بذكر الكتاب الموصوف بقوله: {أَنْزَلْنَاهُ} لتحقق النزول، والكتاب إنما يطلق على القرآن كله.

_ 142) سورة ص، الآية 82. 143) التائبة، الراجعة إلى الله. 144) سورة الأعلى، الآية 10. 145) سورة غافر، الآية 13. 146) الطاهرة، الصالحة، النيرة. 147) سورة البقرة، الآية 269. 148) العلم النافع الذي يؤدي إلى العمل الصالح. 149) سورة الانعام، الآية 92 والآية 155. 150) سورة الجاثية، الآية 29. 151) سورة الأنبياء الآية 50.

وثاني الاحتمالات أن الاشارة راجعة إلى هذه السورة، سورة إبراهيم، ورغم كونها ليست من السور الطوال فإنها مشتملة على الأصول المذكورة في هذه الآية، ففيها البلاغ، والإنذار، والإعلام بتوحيد الله، والتذكير، ومثلها كثير من سور القرآن. وثالثها أنها راجعةٌ إلى ما بعد قصة إبراهيم من هذه السورة، وَيَبْتَدِئ من قوله تعالى (152): {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ (153) فِيهِ الْأَبْصَارُ}، وهذا الاحتمال ضعيف ضيق، لا يقتضيه سياق الآيات التي قبله، وفرق بين الإشارة في هذه الآية والإشارة في قوله تعالى (154): {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ (155) لِلْمُتَّقِينَ}، فإن الإشارة في تلك الآية يحسُنُ أن يكون مرجعها خاصًا، وهو قصة أُحُد (154) التي توسطتها هي، لقد وقع في قصة أحد من الحوادث ما استوجب تنبيه المسلمين أَنَّها من سُنَنِ الله التي لا تتحول ولا تتبدل إكرامًا للنبي ولا لأتباعه، والتي بني عليها هذا الدين، وقد جاء قبل تلك الإشارة قوله تعالى (157): {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، وبعدها قوله تعالى (158): {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فكان الأقرب في مرجع الإشارة أنه خصوص ما ورد في أثناء قصة أحد من توبيخ المسلمين على مخالفة أمر الرسول وما وقع منهم من التنازع والفشل، ونهيهم عن الوهن، والحزن، والتألم ليس الفرح. وكلمة بلاغ أوسع معنى في الاستعمالات القرآنية من كلمة بيان، كما يظهر لمتدبر القرآن، المتفقه في أسرار مفرداته وتراكيبه، المستقرئ لمواقع الكلمات فيه. وهذه الآية من حجج الله البالغة على المسلمين الذين نبذوا القرآن ظهريًا، واتخذوه مهجورًا، وعطلوه عما أنزل إليه تعطيلًا، فهي وأمثالها من الآيات الواردة بمعناها، تبين الفوائد العملية التي نزل القرآن لتحقيقها والتي هي الحكمة من انزاله، وهم يصدون عن سبيله بالتزهيد فيه، أو يبغونها عوجًا بتأويله. فالله تعالى يأمر نبيه أن يذكّر بالقرآن، ويأمره أن

_ 152) سورة إبراهيم، الآية 42. 153) تفتح فيه الأبصار ولا تغمض هولًا وفزعًا. 154) سورة آل عمران، الآية 138. 155) وَعَظَ: نَصَحَ وذكَّر بالعواقب. 156) غزوة انهزم فيها المسلمون بعد انتصارهم في معركة بدر، وقعت في السنة الثالثة الهجرية. 157) سورة آل عمران، الآية 137. 158) سورة آل عمران، الآية 139.

يقول لأمته (159) ... {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ... } ويقول (160): {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ…}. وهذه الفوائد كلها لا تتحقق إلّا بفهمه والعمل به، ولكن سواد المسلمين اليوم وقبل اليوم بقرون، ومن ورائهم علماؤهم، أصبحوا يعتقدون، وأعمالهم تشهد باعتقادهم، أن القرآن إنما أنزل لتتلى ألفاظُه تعبُّدًا وتبركًا أو هدية للآخرين، وتكتب حروفه استشفاء من الأمراض والعاهات الجسدية. ان هذه الآية وأمثالها هي أسلحتنا التي ندفع بها في نحور أعدائنا، وحوافزنا إلى ما نحاوله من فهم القرآن وتفهيمه، وإلى ما ندعو إليه من إرجاع المسلمين إلى حظيرة القرآن.

_ 159) سورة الانعام، الآية 19. 160) سورة الاسراء، الآية 9.

من خطبة عيد الأضحى

من خطبة عيد الأضحى* الحمد لله المبدئ المعيد، الوليّ الحميد، ذي العرش المجيد، الفعّال لما يريد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ضد ولا نديد، شهادةَ مخلصٍ في التوحيد، راجٍ للحسنى والمزيد، ونشهد أن سيدنا محمّدًا عبده ورسوله لَبِنَةَ التمام وبيتُ القصيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريّته والتابعين، والناصرين لسنّته بالقول والفعل إلى يوم الدين. الله أكبر! الله أكبر! عباد الله! إن هذا العيد من شعائر الإسلام العظيمة، وسُنن الدين القويمة، شرع الله فيه هذه الصلاة لنجتمع بقلوبنا وأجسادنا، ونتعاطف ونتراحم ونتسامح ونتصافح، وتظهر الأخوّة الإسلامية على حقيقتها، وشرع فيه الأضحية لنوسع فيها على العيال، وندخل الفرح على النساء والأطفال، ونتصدق منها على الفقراء والسُّؤَّال، وبهذا يشترك المسلمون كلهم في هذا اليوم في السرور، ويتقارب الأغنياء والفقراء بالرحمة، وتتواصل أرواحهم وأجسادهم بالأخوّة والمحبّة، ويتذكرون جميعًا ما أتى به الدين الحنيف من خير وصلاح ومعروف وإحسان. الله أكبر! عباد الله! إن سنّة الأضحية مرغب فيها من نبينا - صلى الله عليه وسلم - من كل قادر عليها لا تجحف بحاله، ولما كانت قربةً إلى الله فإنه يشترط فيها أن تكون كاملة الأجزاء، سليمة من العيوب لقوله تعالى في مقام الكمال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، ولقوله تعالى في مقام الذمّ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}. وقد كان نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - يرغّب في التصدق من لحمها على الفقراء في أعوام المجاعة والفقر كعامنا هذا، وينهى عن الادخار في مثل هذه الأحوال، فاجمعوا أيها الناس- على سنّة رسول الله- بين الأكل والصدقة على الفقراء، فإن الوقت وقت عسير، وإن عدد الفقراء- وهم إخوانكم- كثير ...

_ 5 مسودة خطبة وجدت في أوراق الشيخ ويرجع تاريخها إلى سنة 1939 أو 1940.

عباد الله! إن هذه الشعيرة الدينية وأمثالها من الشعائر هي كالربح في التجارة، لا ينتظره التاجر إلا إذا كان رأس المال سالمًا، أما راس المال في الدين فهو تصحيح العقائد، وتصحيح العبادات، وتصحيح الأخلاق الصالحة، واتباع سنّة نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - في كل ما فعل وترك، والمحافظة عليها والانتصار لها، ونبذ البدعَ المخالفة لها، ثم صرف الوقت الزائد على ذلك في الأعمال النافعة في الدنيا، فإن الله لا يرضى لعبده المؤمن أن يكون ذليلًا حقيرًا، وإنما يرضى له بعد الإيمان الصحيح أن يكون عزيزًا شريفًا عاملًا لدينه ودنياه، معينًا لإخوانه على الخير، ناصحًا لهم، آخذًا بيد ضعيفهم، محسنًا لهم بيده ولسانه وبجاهه وماله. فصحّحوا عقائدكم في الله، واعلموا أنه واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، هو المتفرد بالخلق والرزق والإعطاء والمنع والضرّ والنفع. فأخلصوا له الدعاء والعبادة، ولا تدعوا معه أحدًا ولا من دونه أحدًا، وطهّروا أنفسكم وعقولكم من هذه العقائد الباطلة الرائجة بين المسلمين اليوم، فإنها أهلكتهم وأضلّتهم عن سواء السبيل، وإياكم والبِدعَ في الدين فإنها مفسدة له، وكل ما خالف السنّة الثابتة عن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة. وصحّحوا عباداتكم بمعرفة أحكامها وشروطها ومعرفة ما هو مشروع وما هو غير مشروع، فإن الله تعالى لا يقبل منكم إلا ما شرعه لكم على لسان نبيّه - صلى الله عليه وسلم -.

موقفنا من الطرقية وصحفها

موقفنا من الطرقية وصحفها* أما الطرقية فقد فرغنا منها هدمًا وتخريبًا، واقتحمنا عليها معاقلها الحصينة، ودككنا صياصيها المنيعة، واستبحنا حماها بكلمة الله، واقمنا على أنقاضها بناء الحق. بدأنا ذلك كله بإزالة هيبتها الباطلة من الصدور، ومحو سلطتها الكاذبة من النفوس، ثم كشفنا عن نسبتها المزورة إلى الدين الحنيف. فما تمّ لنا ذلك حتى انهارت من أساسها، وتلك عاقبة كل بناء بُني على الوهم والتزوير. وقد أحيانا الله حتى شهدنا جنازتها بلا ردة، وهلنا عليها التراب بأيدينا غير آسفين. فمن كان يؤرخ للطرقية بهذا الوطن ولاشتدادها فيه وامتدادها منه فليحبس قلمه، فهذه آخر صحيفة من كتابها، وليختمه بتسجيل سنة الوفاة، بإقحام سطر: ماتت:- لا رحمها الله- بين سنة كذا وكذا ... هذه هي الحقيقة العارية والواقع المجرد، وإِنْ هذه الفورات من أبنائها وأحفادها ومواليها ورعاياها إلا مناحات معقودة عليها، وإن سَمُّوها جمعيات ومؤتمرات وما سوّل لهم الغرور من الأسماء. وما هذه الأصوات المرجوعة منهم، وما هذه الزمزمة الصحفية إلا ترتيل العميان الموظفين على قبرها (يفدونها) فدية الثأر لا فدية النار، ويبكونها ميتة وهم يظنون أنهم ينصرونها حيّة. ماتت الطرقية وانقطعت أنفاسها، وجاءها قضاء الله الذي فرقت دينه وهوّنت حقّه، ونازعته في جبروته، وصرفت أوباشها في ملكوته، فلم يدفعه عنها دافع ولم يصرفه عنها أعلامها المنشورة ولا بناديرها.

_ * مسوّدة مقال وجدت في أوراق الشيخ ويرجع تاريخها إلى سنة 1939 أو 1940.

ومن كان في مرية من موتها فآية الآيات اجتماع أبنائها، فوالله ما اجتمعوا وهي حيّة، وما كان من طبع أمهم العجوز أن تترك أولادها يجتمعون، وما اجتمعوا إلا بعد خمود أنفاسها. ولقد كانوا في حياتها مفترقين متنابذين متنابزين، يحمل بعضهم لبعض من الحقد الشنيع ما يحمله العدو لعدوّه، ولما طفقت ألسن الحق تنوشها، وَجموا لأول مرّة ثم علموا أنها القاضية، وأن القضاء عليها قضاء على ما يتمتعون به من مال وسلطان، فتنادوا مصبحين وتناشدوا الرحم أن يتهادنوا حتى يأخذوا بثأر العجوز فيا ويحهم: إن قتيل الشرع لا يودى. أعرضنا عن هذا الهذر الذي تنضح به الصحف الطرقية والصحف التابعة لها حقبة من الزمن، احتقارًا لها وترفعًا بأنفسنا عن النزول إلى ميدان المهاترة التي لم نخلق لها والتي هي خلق ذاتي فيهم ووصف لازم لهم. أعرضنا عن مجاراة تلك الصحف في السباب والشتائم التي تسوّد بها صحائفها كل أسبوع حرصا على أوقاتنا أن تضيع فيما لا عائدة منه، وعلمًا بأن هؤلاء القوم لم يخرجوا عن مدارهم، فيوم كان حماة هذا الدين غائبين عن الميدان كانوا هم ممعنين في إفساده وتشويهه وإذلال أهله واستغلال قواهم، ولوم هبّ الحماة ذائدين عنه ودَوَتْ صيحة الحق قاموا هُمْ يدحضون الحق بالباطل، ولقابلون الصدق بالبهت والإفك، ولحاربون أولئك الحماة بالتقول عليهم والنيل من أعراضهم، وهم في الحالين حرب على الإسلام الحق، وإنهما طوران في إفساد الإسلام يختلفان في الوسائل ويجتمعان في الغايات. أعرضنا عن تلك الصحف وأصحابها، حرصًا على الواجبات التي خلقنا لها، وعلى الأعمال التي تتقاضاها تلك الواجبات منا- وما هي بالقليلة- أن يزاحمها عامل غريب ويأكل من الوقت ومن الجهد ما هما خليقان به، وكل دقيقة يصرفها العاقل في مجاراة هؤلاء النابحين هي مقتطعة من العمر قاطعة عن العمل. وماذا يقول العقلاء فيمن نبحته الكلاب جريًا على عادتها، ونزوعًا إلى طبيعتها، فقطع وقته في مجاراتها ومكايدتها كما يكايد العاقل العاقل؟ لا شكّ أنهم يقولون إن عقله كعقول الكلاب. كل هذه المعاني كانت هي الحاملة لنا على الإعراض عن هذه الصحف وأصحابها والمرور بلَغْوِها مرّ الكرام، وكنا نظن أن في أصحابها بقية من عقل وفضلة من صواب تردّهم إلى الجادّة بعد ما ينتهي الطامع منهم إلى أو إلى اليأس من مناه، وبعد ما تبرد حرارة الحاسد منهم وتخمد شرته، وتنطفئ سورة غلّه، وما جميعهم في نظرنا إلا حاقد أو طامع، ولكن القوم أسرفوا في البغي ولجّوا في الاستهتار، وخرجوا من أفانين من الكذب والافتراء إلى أفانين ... ، ومتى كان مبنى أمرهم على الكذب فلتهأنهم بُعد الشقّة وطول السفر وامتداد المراحل، فإن الكذب لما تنضب موارده. فما ظن هؤلاء- ويحهم- بنا؟

أيظنون أننا أحجمنا عن منازلتهم عن ضعف وخور؟ ألا ساء ما يظنون. إن الأقلام التي جندلتهم بالأمس، ومزّقت أشلاءهم، وتركت بكل رابية صريعًا، لم تزل مسنونة، ولم تزل مسددّة كالسهام، مشرعة الرماح، وما هي من الظالمين ببعيد. أم يظنون أننا مرضنا بالنعيم، وأقعدَنا الرخاء عن الصدام، ساء مآلهم، إن العزائم التي حاربناهم بها يوم كانوا أقوياء لم تزل راسخةً رسوخ الرواسي. أم يحسبون أن الخلاف دبّ بيننا، فأضعف القوة التي يعرفونها منا، خدعة من أماني الشيطان زوّرها لهم كتّابهم المرجفون، فصوّروها كما يتمنون ليخفّفوا نار الحسد التي تأكل صدورهم. أما نحن والحمد لله فعلى ما يتمناه المؤمن الصادق إلفة واتحادًا، ومحال أن يبلغ الشيطان أمنيته من جماعة جمع بينها المبدأ الصحيح، والرأي الصريح، وألّف بينها العمل والأمل.

إلى جريدة "الإصلاح"

إلى جريدة "الإصلاح"* الأخ الأستاذ الشيخ الطيب العقبي- حفظه الله- وسدّد في الحق خطاه. قد اطّلعت- أيها الأخ- على العدد الأول والأخير من جريدة "الإصلاح" على حين فترة من الجرائد، وكلال طبع من معاناة التعليم، فتحقّق عندي ما لم أكن أجهله من أن صروف الدهر وأحداث الزمان لا تنال من النفوس الكريمة نيلًا إلا من ظواهرها، ولا تُغيّر من الأعراق الأصيلة شيئًا من أعراضها، وأنها أعجز من أن تمتد إلى مكامن المبادئ الراسخة والعقائد الثابتة. كذلك يبتلي الزمان الجرائد بمثل ما يبتلي به النفوس، ويأخذ منها ويدع، فلا يأخذ من الجرائد المؤسّسة على فكرة إلا كما يأخذ السيل من الصخرة الصمّاء. سرّني من جريدة "الإصلاح" ما يسرّ كلّ معتنق للفكرة من وجود لسان يعبّر عنها، وسنان يناضل دونها، وسرني فوق ذلك ما يسرّ بناة الإصلاح من معانٍ لا تستوفيها كلمات في رسالة.

_ * جريدة "الإصلاح"، العدد 16، 11 جانفي 1940، وقد نُشرت الرسالة في الصفحة الأولى من الجريدة وبالمقدمة التالية للأستاذ العقبي: ما كاد المصلحون الصادقون يرون جريدة "الإصلاح" تبعث من مرقدها وترجع إلى الحياة مرة ثانية حتى بادروا إلى التهافت على اقتنائها، وأقبلوا على مطالعتها بمزيد عناية وشوق ولهفة، وأخذت الطلبات بإرسالها إلى الجهات التي أغفلنا الإرسال إليها أو أرسلنا إليها بكمية غير كافية- ترد على إدارة الجريدة، الأمر الذي شجّعنا وجعلنا ننشط إلى مضاعفة طبعها والزيادة فيه، بعد أن كنا حدّدنا الطبعة الأولى بأربعة آلاف نسخة فقط ... وقد أعرب لنا الكثيرون منهم مشافهة، وكتب إلينا آخرون عن ابتهاجهم بصدور "الإصلاح" وإعجابهم به، ووعدوا جميعًا بمؤازرته ومساعدته. فحيّا الله الإصلاح والمصلحين وبارك لهم في "الإصلاح" وبارك فيهم. وقد كان في طليعة الإخوان المنشطين والكرام الكاتبين حضرة العلامة الجليل الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين (المقصود نائب الرئيس، لأن الرئيس في ذلك الوقت- جانفي 1940 - هو الإمام ابن باديس). ونظرًا لما لكتابه في هذا الموضوع من الأهمية والقيمة العلمية الأدبية، أحببنا تقديمه إلى القرّاء كما هو بنصه الرائق، ومعناه الفائق، قال:

أما بعثه بعد سنين فممّا لا عجب منه عندي ما دمت أعرف العزيمة التي بعثته، وكلّ من يستحضر صورة "الإصلاح" القديم و"الإصلاح" الجديد ير أن الروح المديرة واحدة والفكرة المصرِّفة واحدة، فلم يبق من الفوارق إلا بضع سنوات وهي ليست بذات أثر في حياة الفكر. وإن أخاكم لا يرجو لتلك العزيمة "العقبية" إلا أن يزيدها الله ثباتًا في الدفاع عن الحقيقة، وأن يقيها عثرات القلم وفتنة الرأي. في 20 ذي القعدة سنة 1358 ودمتم لأخيكم محمد البشير الإبراهيمي

تعزية الإبراهيمي في فقدان السيد الرشيد بطحوش

تعزية الإبراهيمي في فقدان السيد الرشيد بطحوش* جاءنا من الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي هذا الكتاب: لم يبلغني إلا اليوم خبر وفاة الأخ العامل الخير السيد رشيد بطحوش، ولا تسأل عما غمرني من الهم والأسى والأسف لموت هذا الأخ، وعما استعرضته من شمائله ولطفه وأعماله الخيرية التي فاتت بفواته وماتت بموته، رحمه الله وألهمنا جميعًا فيه الصبر واغتنام الأجر. أعزّيكم- أيها الأخ- فيه وأرجو أن تبلّغوا تعزيتي إلى إخوانه وجميع المرزوئين فيه، ولجميعكم طول البقاء. دمتم أيها الأخ سالمين لأخيكم محمد البشير الإبراهيمي

_ جريدة "الإصلاح"، العدد 17،،28 جانفي 1940.

افتراء مستشرق

افتراء مستشرق* وهل أتاك نبأ المغرور … وما أتى من كذب وزور معلولة الآراء والأنظار … عارية السوءات للنظّار لقيطة لقيها كفاحي … مريبة كالنسل من سِفاحِ جانبت الحقائق الملموسَهْ … وجافت الوقائع المحسوسَهْ ضمّنها أحكامه على الأمم … تبًّا له من حاكم وما حكم مقدمات بعدها نتائج … لكنها محلولة الوشائج عدا على التاريخ وهو أبلج … لكن بيان المفترين يحلَج وأنكر الخصائص المسلمة … لمن غدوا نور العصور المظلمة وخص بالذم وبالتنقيص … سامًا وابْنيه على التخصيص ومن يكن ذا نسب لصيق … أزرى بكل نسب عريق يا غر مهما زدت في التسامي … لن تدرك الأصل المنيف السامي وهل لجنسكُم من النّبوَّة … ومن زكاء النبت والبنوَّة ومن سمو الريح والضمير … ومن رقي الفكر والتفكير بعض الذي أورثنا الخليل … ونسله المبارك الجليل وهل لكم ما شاد إسرائيل … وما بنى للحقّ إسماعيل يا غر أو يا هر إن الهِرَّا … ليس يخيف الليث أن أهرا يا غر إنّ المجد لا يجتلبْ … بذمّكَ الغير ولا يُسْتَلَبْ يا غر لو مَجَّدْتَ قومك بما … فيهم ولم تزد لكان أسْلَما

_ يُرَجّح أن يكون هذا المستشرق هو ألْفِرْد بِلْ ( alfred bel)، ولعله هو نفسه الذي أشار إليه الإمام في تعليقه على كتاب "السعادة الأبدية" المنشور في هذا الجزء من الآثار.

ولم تجد من ينقد الكتابا … أو يقتضيك اللوم والعتابا لكن عدوت طورك المحدودا … وقلت قولًا مفترى مردودا فلا تلم إذا انبرت أقلام … للحرب، والموتور لا يلام ومَن رمى الناس بغير حق … رموه بالحق وغير الحق ومَن أصاب منهم أصيبا … وكان يوم الملتقى عصيبا ومَن يحط من يشا ويصنع … كما يشا، فالدهر ليس يخضع قد قلت فاسمع ما يقال فيكا … ردًا ودحضًا والثرى بفيكا وإن كلب السوء قد يجرُّ … لقومه البلوى بما يجرّ نغار عن أحسابنا أن تمتهنْ … والحرّ عن مجد الجدود مؤتمن أنكرت فضل العرب فيما ابتكروا … من صالحات شأنها لا ينكرُ أنكرت ما شادوه للحضارة … وما كسوها من حلى النضارة

_ فهرس الجزء الأول

_ فهرس الجزء الأول

_ فهرس الجزء الأول

دار الغرب الإسْلامي بيروت- لبنان لصاحبها: الحبيب اللمسي شارع الصوراني (المعماري) - الحمراء، بناية الاْسود تلفون: 350331 - 009611 / خليوي.638535 - 009613 فا ك!: 742587 - 009611 / ص. ب5787 - 113 بيروت، لبنان DAR AL-GHARB AL-ISLAMI - B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم 1997/ 9/3000/ 326 التنضيد: مؤسسة الخدمات الطباعية (حسيب درغام وأولاده) المكلس، ص. ب. 009/ 50 لبنان

1997 COPYRIGHT DAR AI- GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 - Beyrouth Tous droits réservés. Il est absolument interdit de reproduire ce livre ou le conserver dans le but de prendre les informations, ou le transformer d'une manière ou d'une autre soit à l'aide d'une photocopieuse, suivant des cassettes magnétiques, des moyens .mécaniques ou électriques sans l'autorisation écrite de l'éditeur Cette représentation ou reproduction, par quelque procédé que ce soit .constituerait une contre-façon sanctionnée du code pénal

OEUVRES DE L'IMAM MOHAMED BACHIR Ibrahimi préparé et présenté par son fils Dr. Ahmad Taleb-Ibrahimi 1 Tome (1940 - 1929) DAR AL-GHARB AL-ISLAMI

OEUVRES DE L'IMAM MOHAMED BACHIR Ibrahimi

الجزء الثاني

ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. الجزء الثاني 1940 - 1952 الناشر: دار الغرب الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــــــ

1997 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية، أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي

ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ الجزائر 1949 ــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث هداية ورحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. إذا كان من العظماء من لا يقدره معاصروه حق قدره، وإنما تنتصر له الأيام عندما تؤكّد مصداق ما نادى به ودعا إليه، فإن من العظماء من ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في حياتهم ومن بعد مماتهم، ومن هؤلاء الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله. إن التقديم لآثار شيخنا يضطر صاحبه إلى الحديث عن مجالات كثيرة، نظرًا لِغِنَى مواهبه، وسعة علمه واطلاعه وقوة شخصيته من جهة، ونظرًا لتعدد اهتماماته وطول جهاده وامتداد تأثيره من جهة أخرى، ولكن المجال لا يسمح بالتطويل. خلل ذاتي: عرفت الجزائر ثورات وأعمالًا كثيرة، من عهد المقاومة الأولى بقيادة الأمير عبد القادر، لكنها جميعًا لم تحظ بالانتصار الحاسم على العدو، وليس السرّ في تلك النتائج السلبية خللًا في القيادة: إيمانًا وإخلاصًا ومهارة حربية، ولكنّ السرّ كان في أمور كثيرة، منها ما يرجع للظروف العالمية التي كانت في تلك العهود، تعمل على بسط العدوان والاحتلال والاستغلال لا على نشر الحرية والعدل والاستقلال. على أن الخلل الأكبر في الخيبات التي مُنيت بها الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية، خلل ذاتي يتمثل في تدهور البنية الاجتماعية للشعوب الإسلامية، بما تفشى فيها من خمول وأنانية، وتوأكل وتخاذل وفهْمٍ سيىء لمعاني القضاء والقدر، وطاعة أولي الأمر والنجاة والتهلكة، والجهاد والاجتهاد إلى غير ذلك من الأمراض التي لا تساعد على تعبئة كل الطاقات لمواجهة العدو المشترك والاحتلال المخيم بكلَاكِلِه على

في رحاب الآثار

البلاد والعباد، وهو ما سمّاه مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، وهي الحقيقة التي عبّر عنها القرآن الكريم- كسُنّة من سُنَن الله في خلقه- في قوله عزّ وجل في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وهو الشعار الذي رفعه دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي على لسان جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وشكيب أرسلان، وعبد العزيز الثعالي، وحسن البنا، ومولاي محمد العربي العلوي، ورجال جمعية العلماء في الجزائر. لقد أدّى الفهم السيى للإسلام ببعض العلماء الجامدين المتخاذلين- في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- إلى إصدار فتاوي تُجَرِّم وتُحرِّم كل ثورة أو انتفاضة ضد الأعداء المحتلين، وهذا من الأسباب التي أدّت إلى ظهور الإصلاح لتصحيح العقيدة وتقويم الانحراف. ونعني بالإصلاح هنا المفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهمًا صحيحًا وطبّقوه تطبيقًا سليمًا، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرّب إلى أذهان بعض المفكرين السياسيين المقلدين للغرب في حقّه وباطله، حتى أصبح من المسلّم به عند كثير من أبنائنا اليوم أن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرّج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، عنيف ومفاجئ، وما دروا أن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائمًا نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلًا، ويتم ذلك بمجرد تغيير سلطة بسلطة وحاكم بحاكم. في رحاب الآثار: لعل من المفيد أن نتعرّض في تقديمنا هذه الآثار إلى غايات الحركة الإصلاحية، التي كان الهدف منها العمل على النهوض بالجزائر لاسترداد سيادتها، ومواكبة ركب الحضارة مع الأمم المالكة زمام أمرها، الساعية إلى ما فيه سعادتها ومجدها. وكانت الوسيلة إلى تحقيق ذلك هي الإصلاح الديني والاجتماعي الذي اضطلعت به جمعية العلماء بأمانة وكفاءة. وكان للإمام الإبراهيمي في جهاد الجمعية مع الرَّئِيسُ الأول ابن باديس وبعده الأثر الأكبر فيما حقّقته الجمعية من غايات، أهمّها افتكاك الجزائر حريتها واستقلالها. ومن الخسارة التي لا تُعَوّض أن كثيرًا مما كتبه شيخنا قد ضاع في خضمّ جهاده وجهاد الشعب الجزائري نتيجة أعمال العدو الفرنسي الذي لم يقتصر على نهب الخيرات وتدمير المكتسبات المادية لشعبنا، بل امتدّت يده الآثمة إلى إتلاف الذخائر العلمية والآثار الفكرية لعلمائنا، وهذا ما يفسّر عدم العثور على كثير من آثاره وآثار غيره من علمائنا.

فلسفة الإصلاح

من ذلك أن الشيخ بلقاسم بن روَّاق- مدير مدرسة جمعية العلماء بمدينة بعلباس- أطلعني على رسالة جاءته من الشيخ البشير الإبراهيمي من أفلو، يعلن فيها أنه بصدد تأليف كتاب عن حياة ابن باديس في ثلاثة وعشرين فصلًا، وأنه يحتاج- لأجل ذلك- إلى مراجع يرجوه أن يزوّده بما يتيسر له منها، وقد كان من فصول الكتاب فصل خصّصه لعقد مقارنة بين ابن باديس وابن العميد الذي كان يُلَقَّب بالأستاذ الرَّئِيسُ كما يقول المتنبي: فدعاك حسّادك الرَّئِيسُ وأمسكوا … ودعاك خالقك الرَّئِيسُ الأكبرا وقد كان القصد من هذه المقارنة توجيه أبناء الحركة الإصلاحية إلى أن يطلقوا على إمامهم عبد الحميد بن باديس لقب الأستاذ الرَّئِيسُ عوضًا عن الأستاذ الإمام، الذي كانوا ينعتونه به في تلك الحقبة، وذلك لاعتبارين: أولًا: أن لقب الأستاذ الإمام قد شاع إطلاقه في المحافل الإصلاحية- مشرقًا ومغربا- على الشيخ محمد عبده. ثانيًا: أن لقب الأستاذ الرَّئِيسُ أَدْعَى لتذكير الناس بجمعية العلماء التي أنشأها ورأسها ومات مجاهدًا في تحقيق أهدافها. غير أن هذا الكتاب لم نعثر له على أثر، لأنه قد يكون من جملة ما اندثر من آثاره. فلسفة الإصلاح: إن الإصلاح- كما يفهمه المسلمون الصادقون لا كما يروّج أعداء الإسلام- هو الغاية من إرسال الله تعالى الرسل إلى الناس، قال شعيب لقومه الغارقين في الضلال والفساد في العقيدة والسلوك: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} الآية 88 من سورة هود. ويضطلع بمهمة الإصلاح لشؤون البشر- بعد مصلح الإنسانية الأعظم محمد- صلوات الله عليه وسلامه- وخلفائه الراشدين- علماءُ الأمة الإسلامية، عملًا بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما: «العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (شرح السنّة للبغوي، ج1، ص 276). والإصلاح الديني المنشود هو عمل وقائي وعلاجي، أي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أمانة في ذمة المؤمنين والمؤمنات ما دامت السموات والأرض. قال

تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية 71 من سورة التوبة. ومعنى هذه الآية الكريمة الجامعة أن الإصلاح وقبول الإصلاح واجب على كل مؤمن ومؤمنة. لكن قيادة العمل الإصلاحي للجماعات والشعوب والأمم لا يتولاه إلا من أوتي الأمانة والكفاءة أسوة بما جاء في القرآن الكريم على لسان يوسف عليه السلام، إذ رشّح نفسه ليتحمّل مسؤولية شؤون المالية والاقتصاد بأرض مصر بعد أن أحس بتقدير الملك لمواهبه. قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} الآيتان 54 - 55 من سورة يوسف. وقد أوتي القائد الثاني للحركة الإصلاحية في الجزائر الأستاذ الإبراهيمي- مثل سلفه ابن باديس- من شروط القيادة ما يجعله بحق يحظى بمكانة مرموقة في فقه الإسلام وعلومه، وملك ناصية اللغة وأدبها وفنونها، واستيعاب تاريخ الأمة الإسلامية ومذاهبها، في شؤونها الدينية والاجتماعية، فاستحق بكل ذلك وغيره من الكمالات، العضوية في المجامع العلمية واللغوية بدمشق والقاهرة وبغداد، وتقدير الأوساط العلمية والأدبية والسياسية في بلده الجزائر وفي المغرب والمشرق. وقد قال فيه الفيلسوف المرحوم الأستاذ منصور فهمي حينما استمع إلى محاضراته: "إن هذا المنبر الذي يقف فيه الشيخ ساحة مقدسة، ينبغي أن يدخلها الناس كما يدخلون الحرم، وقال: إنه لم يسمع ولم يرَ- في حياته- من هو أفصح أو أبلغ من الشيخ الإبراهيمي، ودعا جميع العلماء والأدباء في الوطن العربي إلى أن يلقوا إليه مقاليد اللغة والبيان، ثم خاطب الشيخ قائلًا: "أنت ملك العربية لهذا العصر، ملكت ناصيتها ونواصينا"، وبعد ذلك أعلن الأستاذ كامل الكيلاني المبايعة. وكتب الإمام الشهيد سيد قطب في البصائر- العدد 214، في 7 جمادى الأولى 1372هـ/ 23 يناير 1953م- مقالًا ينوّه فيه بجهاد جمعية العلماء ورئيسها الشيخ الإبراهيمي، جاءفيه: "لقد وجّه الاستعمار همّه في الجزائر إلى سحق العقيدة وسحق اللغة، وعن هذا الطريق كاد يصل إلى غايته، فلما انتفضت الجزائر بالحياة كانت العقيدة هي المشعل الذي أضاء لها الطريق، وكانت اللغة هي الحبل الذي تتماسك به الجموع الشاردة في الظلام.

الإصلاح وجمعية العلماء

وإني لأكتفي اليوم بهذه الكلمات القلائل تحية لجمعية علماء الجزائر وشيخها الجليل الذي يجاورنا اليوم، فيبعث فينا من روحه القوي شعاعًا حارًا، ويشعرنا بأن في العالم الإسلامي رجالًا .. رجالًا من طراز فريد ولن يموت هذا العالَم وهو يبعث من أعماقه بمثل هؤلاء الرجال". الإصلاح وجمعية العلماء: لم يكتب أحد عن الإصلاح الديني والاجتماعي بعد الإمامين المصلحين: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، والعالم السوري الشيخ عبد القادر المغربي- فيما سجله في كتابه "البيّنات" الصادر في القاهرة سنة 1925 - أبلغ وأشمل وأعمق مما كتبه أستاذنا الإمام الإبراهيمي في وثيقة قدّمها في المؤتمر الخامس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بنادي الترقي بالعاصمة، في سبتمبر 1935، حيث تناول فيها بالتفصيل تاريخ الإصلاح الديني والاجتماعي، في الجزائر والمشرق والمغرب، وسجل بتحليل عميق أدواء الجزائر والأمة الإسلامية قاطبة، في شتى المجالات الدينية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فأرجع كل تلك الأدواء إلى "علة العلل" فيما حلَّ بالأمة الإسلامية من تخلّف وتيه وتفرّق وضعف، واستكانة، واستغلال، واحتلال، فيقول: "كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرّقون ويضلّون وعندهم الكتاب الذي جمع أوّلَهم على التقوى؟ فلو أنهم اتّبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان، وأنزلهم منزلة الضّعة والهوان، ولكن الأولين آمنوا فأَمِنُوا واتبعوا فارتفعوا، ونحن ... فها قد آمنّا إيمانًا معلولًا، واتّبعنا اتّباعًا مدخولًا، وكل يجني عواقب ما زرع". خصائص أدب الإبراهيمي: إن الأستاذ الإبراهيمي قبل أن يكون إمامًا مصلحًا، وفقيهًا أصوليًا، ومربيًا حكيمًا، وسياسيًا محنكًا، كان أديبًا شاعرًا، وخطيبًا مفوّهًا، يهزّ القلوب ببيان ساحر، يعيد إلى الأذهان ما كان للخطابة العربية من مكانة وسلطان في عهودها القديمة الزاهرة. وهو محدّث بارع لطيف، يعمر مجالسه بالحكمة، ويجمّلها بالنكتة، ويعطرها بأريج اللطف، ينعش الأرواح، ويؤنسها بشعاع من الفكر يهدي العقول. وهو ديوان لأيام العرب وآدابهم وتقاليدهم، في أفراحهم وأحزانهم، في حربهم وفي سلمهم، يروي عن فهم وبصيرة، ويصدر عن حافظة واعية خارقة للعادة، وذاكرة تحت الطلب ملبية منجدة.

وهو شاعر فحل في الفصيح والملحون، يذكّرك بالمعرّي في لزومياته، وأبي الطيب في حكمه وأمثاله، وشوقي في ملاحمه وبدائعه. أما أسلوبه في الكتابة فمتنوّع بحسب الموضوعات وأحوال المخاطبين والمناسبات، فتخاله أحيانًا ابن بسّام في ذخيرته، أو ابن العميد في إخوانياته، أو الزّيات في لوحاته، وتحسبه في بعض الأحيان محررًا في جريدة يومية، بساطة وواقعية، من غير إسفاف أو حشو أو سوقية، فهو بحق معجزة من معجزات الثقافة العربية الإسلامية والبيان العربي في القرن العشرين. ومن الأنماط الكتابية التي تكاد تجمع هذه الأساليب كلها رقة وجزالة، وقربًا وسموًا وسطحية وعمقًا، هذه الفقرة عن قضية فلسطين التي تهمّ العرب والمسلمين كلهم على اختلاف مداركهم واهتماماتهم، من أول نكْبَتِها إلى اليوم، وذلك إذ يقول كأنه يخاطبهم في ساعتنا الحاضرة: "أيها العرب، إن قضية فلسطين محنةٌ امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست تُنال بالشعريات والخطابيات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوّة". "إن الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه". "وكونوا حائطًا لا صَدْع فيه … وصفًا لا يرقع بالكسالى" وإلى جانب هذه الثروة الزاخرة، والمهارة الفنية الزاهرة، فهو يَحْيا بإيمان يجعله دائمًا في اهتمام واقعتمام بقضية بلده الكبرى مع الاحتلال الطويل البغيض، وقضايا الأمة العربية الإسلامية المبتلاة كلها بالاحتلال والاستغلال على اختلاف في الدرجات والمظاهر، وقد عبّر عن هذه المعاني في جملتها بعبارات موجزة صارخة مؤثرة الإمامُ الراحل المرحوم الشيخ محمد الغزالي، صديق الجزائر وشريكها في عهد جهادها، في ليل الاستعمار، ومساعِدُها ومنير دربها ومربّي جيلها في عهد الحرية والاستقلال، ومقاسمها آلامها وجروحها في عهد محنتها وفتنتها، إذ يقول رحمه الله: " ... وأذكر من أولئك الزعماء اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، عرفتُه، أو تعرّفت إليه، في أعقاب محاضرة بالمركز العام للإخوان المسلمين ... كان لكلماته دوّي بعيد المدى، وكان تمكّنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رزق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة، يذكّرنا بأدباء العربية في أزهى

عصورها، لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدّنا إليه- على قيمته المعنوية- إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين وغيظه المتفجّر ضد الاستعمار، ورغبته الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم، ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يحرّروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خطبته يزأر كأنه أسد جريح، فكان ينتزع الوجل من أفئدة الهيّابين، ويهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: "إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء" (1). من الصفات البارزة التي يعرفها العاملون والعاملات في ميدان التربية والتعليم والوعظ والإرشاد عن إمامهم وقائدهم الإمام الإبراهيمي أنه كان يحنو ويعطف عليهم عطف الأب على أبنائه، ويبذل أقصى ما في وسعه لإرشادهم وتوجيههم إلى أحسن السبل لأداء مهمتهم على الوجه الأكمل، مع حرصه الشديد على حل مشكلاتهم المادية والأدبية مع الجمعيات المحلية القائمة بشؤون المدارس والمساجد والنوادي، والدفاع عن كرامتهم وحقوقهم أمام السُّلَط الاستعمارية الباغية. وكان آخر واجب أدّاه هذا الأب الشفوق نحو أبنائه والقائد الأمين نحو جنده حرصه على أن ينالوا حقوقهم- في عهد الاستقلال- من دولتهم التي كانوا في طليعة بناة أركانها، وذلك بتولّيه- عام 1964 - رئاسة اللجنة الوطنية لإدراج الأساتذة والمعلمين الأحرار في سلك الأسرة التعليمية الكبرى للتمتعّ بجميع ما يمنحه قانون الوظيفة العمومية من حقوق للموظفين المرسمين، ماديًا وأدبيًا. وتمكّن بهذا الإجراء العادل عدد كبير من المعلمين والمربين والمرشدين الأحرار من أخذ حقوقهم كاملة، وكانت شهادات الحصول على هذه الحقوق موقعة كلها بتوقيع الإمام الإبراهيمي. وقد سجّل هذه المكرمة الوطنية في إبانها، الكاتب، الشاعر الأستاذ المرحوم حمزة بوكوشة بقصيدة عنوانها "نصر وفتح"، إذ يقول: نصرٌ به استبشرتْ في الخلد قحطان … وهنّأت تَغْلِبًا في العرب عدنان فتْحٌ به الدين والفصحى قد ارتفعا … فوق السماك، وقبل اليوم قد هانوا كان الجزاءَ لمن وفوا بعهدهمُ … إن الوفاء لدين الله قربان لفتية كسيوف الهند مصلتة … لا يُعقَد العز إلا حيثما كانوا ففي النوادي لهم ذكرى وموعظة … وفي المساجد تذكير وقرآن وفي المدارس تعليم وتربية … لِصِبْيَةٍ حظهم علم وإيمان فهم رصيد به كانت جزائرنا … -رغم الزواج- لم يضعف لها شان

_ 1) مجلة الثقافة الجزائرية، ع 87، مايو- يونيو 1985. وانظر مقدمة الجزء الرابع من هذه الآثار.

إن خير ما نختم به هذه الكلمة عن هذا العبقري، الذي لا يجود بمثله الزمان إلا نادرًا، هو ما جاء في ابتهالات له ناجى بها ربّه العزيز الرحيم في تقريره الأدبي عن جمعية العلماء سنة 1951، بعد خمس سنوات من استئناف نشاطها إثر الحرب العالمية الثانية، وهو دعاء ينطبق على أوضاعنا في الجزائر وفي الأوطان العربية والإسلامية جمعاء: "اللهم ارزق أمة محمد التفاتًا صادقًا إليك، والتفافًا محكمًا حول كتابك، واتّباعًا كاملًا لنبيّك، وعرفانًا شاملًا بأنفسهم؛ فقد جهلوها، وتعارفًا نافعًا بين أجزائهم فإنهم أنكروها، وبصيرة نافذة في حقائق الحياة فقد اشتبهت عليهم سبلها الواضحة؛ وهب لهم من لدنك نفحة تصحّح الأخوة السقيمة، وتصل الرحم المجفوة، وتمكن للثقة بينهم، واتحادًا يجمع الشمل الممزّق، ويعيد المجد الضائع، ويرهب عدوّك وعدوّهم، ورجوعًا إلى هديك يقربهم من رضاك، ويسبّب لهم رحمتك، ويزحزحهم عن عذاب الخزي، فإنه لا يذل من واليت ولا يعزّ من عاديت" (2) ونسأل الله عزّ وجلّ أن يتغمّد برحمته ورضوانه صاحب هذه الآثار الذي قال، بحق وصدق، عن جهاده من أجل الجزائر: "إنني ما زلت أقارع الغاصبين لحقّك في ميدان، وأكافح العابثين بحرمتك في ميدان، وأعلم الغافلين من أبنائك في ميدان" (3). وصلّى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار. عبد الرحمن شيبان

_ 2) انظر التقرير الأدبي في هذا الجزء من الآثار. انظر مقال "تحية غائب كالآيب" في الجزء الرابع من هذه الآثار.

السياق التاريخي (1940 - 1952)

السياق التاريخي (1940 - 1952) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رأينا في السياق التاريخي للجزء الأول من هذه الآثار بعض ما قام به الإمام الإبراهيمي من أعمال قبل تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأهم نشاطاته بعد تأسيسها، وأشرنا إلى بعض ما جاء في تقارير المسؤولين الفرنسيين عن نشاطه في تلمسان التي تمكن "أن يكسب نصف سكانها" (1)، وأن يسيطر منها على الناحية الغربية للجزائر (2)، وعرفنا محاولة الفرنسيين لشراء ذمته واستنزال همته، وأنهم لما استيأسوا منه خلصوا إلى نفيه، وعلمنا كيف تلقى الإمام- بصبر أولي العزم- ذلك النفي والتفريق بينه وبين صاحبته وبنيه، فما وَهن لما أصابه في سبيل الله ولا هان، ولا ضعف لما ناله في سبيل الجزائر ولا استكان، فلم يضرع للطاغين، ولم يذل للباغين. وبعد بضعة أيام من نفيه تلقى خبرًا فَاجعًا هزه من الأعماق، وبرّح بقلبه، وأسال عَبَراته - وهو العصي الدمع-؛ ذلك الخبر هو وفاة أخيه الإمام عبد الحميد بن باديس يوم 16 أفريل 1940. لم يكن الموت هو الذي أَجزع الإمام الإبراهيمي، فله من متانة العقيدة وحصانة الإيمان واستبحار العلم ما يحول بينه وبين الجزع من قضاء الله وقدره، ولكن الذي آلمه وهَيَّجَ أشجانه هو عدم تمكنه من وداع رجل كان يعتبره "العَلَم الفرد"، وكان يراه "أمة في رُمَّة"، لأنه "أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَر، ودينًا لآبَسَتْه المحدثات والبدَعُ، ولسانًا أكلته

_ 1) عبد الكريم بو الصفصاف: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ... قسنطينة، دار البعث 1981، [ص:393]، وهو ينقل عن تقرير فرنسي مؤرخ في 4 - 1 - 1941. 2) شارل أندري جوليان: افرلقيا الشمالية تسير، تعريب المنجى سليم ... الجزائر، ش. و. ن. ت 1976، ص 135.

الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطى عليه النسيان، ومجدًا أضاعه وَرَثَةُ السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب" (3). كان الفرنسيون متأكدين أن رئاسة جمعية العلماء ستؤول إلى الإمام الإبراهيمي، فسعوا جهدهم لمنع ذلك، وبذلوا من زخرف القول وخُلَّب الوعود ما بذلوا لكي تُصْرَف رئاسة الجمعية إلى غيره، وقد "اقترح علينا الكولونيل شون ( Shoen) وابن حورة- المبعوثان من طرف الوالي العام الفرنسي- تقديم شخصٍ معَيَّنٍ لرئاسة الجمعية خلفًا للشيخ ابن باديس، نظرًا لما يتمتع به من مرونة وبُعد نظر، وستجدون من السلطات كل عون ومساعدة" (4). ولكن إخوان الوفاء عزموا وصمموا أن ليس للجمعية من دون الإبراهيمي رئيس، وأنه أحق بها وأهلها، فانتخبوه- وهو غائب- لرئاستها، وقدَّموه- وهو المغضوب عليه من فرنسا- لقيادتهم. إن مثَل الرجل العظيم كَمَثَل المغناطيس، هذا تنجذب إليه المعادن لقوة جاذبيته، وذاك يلتف حوله الرجال الكُمَّلُ لقوة شخصيته، وعلو همته، وكمال مروءته. إن من آيات الله التي أراها الناس في هذه الجمعية أن رئيسَيْها الأول والثاني اصطفاهما إخوانهما لرئاستها من غير أن يسعيا إليها، واختاروهما لقيادتهم وهما غائبان، في الوقت الذي كان أعضاء الأحزاب والجمعيات الأخرى يصطرعون على رئاسة أحزابهم وجمعياتهم، ويكيد بعضهم لبعض، بل وبقتل بعضهم بعضًا لَهْثًا وراء رئاسة أو تشبُّثًا بها. إن العظيم الحق هو من تطلبه الرئاسة، ويقدمها إليه الخِيَرةُ من الرجال. وهنا ملاحظة ينبغي الإشارة إليها لما لها من دلالة، وهي أن الفرنسيين لم يحاولوا فرض رئيس على حزب أو جمعية، أو إبعاد شخص عن رئاسة حزب أو جمعية إلا بالنسبة لجمعية العلماء؟ فقد ساوم مِيرَانْتْ- مدير الشؤون الأهلية بالولاية العامة- الإمام ابنَ باديس على ترك الجمعية (5)، وضغطوا لإبعاد الإمام الإبراهيمي عن رئاستها. كل ذلك لأنهم كانوا مستيقنين

_ 3) انظر مقال "الرجال أعمال" في الجزء الئالث من هذه الآئار. 4) الشيخ محمد خير الدين: مذكرات، الجزائر، مطبعة دحلب، 1985، ج1، [ص:345]. ولم يذكر الشيخ اسم الشخص المُعَيَّن الذي اقترحه مَبْعُوثا الوالي العام. وانظر أيضًا الشيخ عبد الرحمن شيبان: في الذكرى المائوية لميلاد الشيخ الإبراهيمي، جريدة الشرق الأوسط، عدد 3827، لندن في 21/ 5/ 1989. 5) يذكر تلاميذ الإمام ابن باديس أن ميرانت استدعاه، وعندما حضر وجد والده عند ميرانت الذي قال للإمام: إن والدك معرَّضٌ للإفلاس ولا ينقذه منه إلا فرنسا، وشرطها لإنقاذ أبيك أن تتخلى عن الجمعية. انظر أنور الجندي: الفكر والثقافة المعاصرة في شمال افرلقيا، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965، [ص:57]. وقد رفض الإمام هذه المساومة رغم حراجة موقفه أمام والده ... وعندها قال الإمام: اليوم- فقط- أدركت سِرَّ يُتْم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إشارة إلى موقفه مع أبي طالب، إذ لو كان والده في مكان عمه لكان موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر حرجًا ...

"أن العلماء يمثلون أكبر الخطر على الفكرة الفرنسية في الجزائر" (6)، وكانوا مدركين أن الأحزاب الأخرى- وإن رفع بعضها شعار الاستقلال السياسي- كانت تتبنى أفكار فرنسا الحضارية، وتستلهم قِيَمَها المادية، وتستوحي مبادئها اللائكية، وإذا كان بعض مناضلي تلك الأحزاب تبنوا القيم الحضارية للجزائر من دين ولغة وأخلاق فقد تبنوها عن عاطفة، لأنهم كانوا يجهلونها، ومن جهل شيئًا عاداه، وإن لم يعاده لم يخلص في خدمته والتمكين له، وإن أخلص في خدمته ضره- بجهله- من حيث يريد نفعه ... وقد دلت الشواهد والتجارب على ذلك ... وهذا ما نفسر به دفاع بعض الفرنسيين عن الحركة الوطنية الجزائرية في المجال السياسي، ونضالهم معها قبل إعلان الثورة وفي أثنائها، في حين لم نجد فرنسيًا واحدًا دافع ويدافع عن مبادئ جمعية العلماء إلا أن يكون ممن شرح الله صدورهم للإسلام، وأحسن مثال على هذا ذلك الصمت الذي قابل به الفرنسيون- أحزابًا، ومنظمات إنسانية، ونقابات، وشخصيات، وصحافة- عملية اختطاف الشيخ العربي التبسي- نائب رئيس جمعية العلماء- سنة 1957، الذي لم يظهر له أثر إلى يوم الناس هذا، وهذه هي الحقيقة التي أكدها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. لبِثَ الإمام الإبراهيمي في المنفى بِآفْلُو ثلاث حِجَج، وكانت السلطات الفرنسية في أثنائها تراقبه مراقبة صارمة، حيث "منع (حاكم البلدة الفرنسي) الناس من الاتصال به، وبَثَّ بواسطة عملائه في الجمهور أن هذا الرجل عدو لأولياء الله الصالحين، وهو يحاربهم، ولا يعترف بهم ولا بفضلهم وكرامتهم ... وأمر هذا الحاكم من جهة أخرى الموظفين والأعيان بأن يقاطعوه تمامًا لأنه عدو لفرنسا ( Anti-Français)) (7)، ولكن ذلك كله "لم يمنعه من متابعة نشاطه الإصلاحي بصورة خفية" (8)، وتحت هذه المراقبة الصارمة كان الإمام يسَيِّر شؤون الجمعية- بقدر ما تسمح به ظروف الحرب- عن طريق زواره من آله وصحبه، الذين تأذن لهم السلطات الفرنسية بزيارته. ولم يشغله همه الخاص عن التفكير في همِّ وطنه ومعاناته، وكان يتمنى أن تأتيه الأخبار بما يثلج صدره، وهو قيام ثورة تعصف بالوجود الفرنسي في الجزائر، فقد سأل ذات مرة

_ 6) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية ط 3، الجزائر، م. و. ك. 1986، ج 3 ص 151، وهو ينقل عن تقرير أمْني فرنسي بعنوان: "الجزائر في نصف قرن". 7) أحمد قصيبة: الشيخ الإبراهيمي في منفاه ... مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1983، صص 278 - 279. 8) أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ... الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1983، ص 134، وهو ينقل عن تقرير فرنسي رقمه 31، وتاريخه 4 مارس 1941، وهو موجود بمصلحة الوثائق بولاية وهران، بالجزائر.

الأستاذ أحمد قصيبة: "هل بلغك أو سمعت شيئًا؟ هذا هو الوقت الذي يجب أن يستغله الشعب الجزائري" (9)، كما كان يفكر في بعث نشاط الجمعية بعد الحرب، ويفكر في الرجال الذين يدفع بهم إلى الصفوف المتقدمة في المعركة الحضارية الشرسة، التي تخوضها الجمعية لإفشال المشروع الفرنسي في الجزائر، ومن ذلك قوله للأستاذ أحمد قصيبة: "إن قدر الله أن نستأنف حركتنا فإنني لن أتركك بالأغواط" (1). استغل الإمام الإبراهيمي ذلك الفراغ الذي فرضه عليه العدو، فسلَّى نفسه بكتابات كثيرة، تدل بقيتها على قيمتها، وكان يسلِّم ما يكتبه إلى تلامذته الذين كانوا يزورونه، وللأسف الشديد فإن أكثر هذه الكتابات قد ضاع، فأما ما استعاده الإمام من هذه الكتابات فقد "سطا على بعضها الجيش الفرنسي في إحدى مداهماته لبيت الشيخ فمزقها شر ممزق" (11)، وأما ما بقي عند تلامذته فقد أحرق كثير منهم أوراقهم- في أثناء حرب التحرير مخافة بطش الفرنسيين- أو خزنوها تحت الأرض (12) مما عرضها للتلف. ومن أهم ما كتبه الإمام في هذه الفترة عدة فصول من كتاب عن أخيه الإمام عبد الحميد بن باديس، فقد روى فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان أنه اطلع على رسالة بعثها الإمام الإبراهيمي من منفاه إلى الشيخ بلقاسم بن رواق- المشرف على الحركة الإصلاحية تعليمًا وإرشادًا في مدينة بَلْعبّاس- يخبره فيها بانكبابه على تأليف ذلك الكتاب. ولا شك أن خسارة العلم والتاريخ بضياع هذا الكتاب لا تعوَّض، لأنه ليس هناك من هو أعرف بالإمام ابن باديس، وأقدر على الكتابة عنه مثل أخيه الإمام الإبراهيمي. وقد ذكر الأستاذ محمد الغسيري أن الإمام الإبراهيمي - عندما كان في المنفى- "وضع برنامجًا حافلاً للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمنه أصولاً عظيمة من علم التربية، وقد سألناه أن يُجَرِّدَ لنا منه فصولاً عملية تتعلق بالسنوات الست الابتدائية، ففعل وسلَّمه لنا لنطبعه ... (و) عاقنا عن طبعه عدم استعداد مطابعنا لطبع مثله ... وها نحن نتعجل بنشر المقدمة التي صدره بها استاذنا الجليل" (13). ولا نعلم- لحد الآن- إن كان هذا البرنامج ما يزال ضمن أوراق الأستاذ محمد الغسيري- رحمه الله- أم لعبت به يد الأيام كغيره من آثار الإمام.

_ 9) أحمد قصيبة، مرجع سابق، صص 283 - 284. 10) نفس المرجع، [ص:284]. 11) عبد الرحمن شيبان: في الذكرى المائوية لميلاد الشيخ الإبراهيمي، جريدة الشرق الأوسط، عدد 3827، لندن في 21 - 5 - 1989. 12) أحمد قصيبة ... مجلة الثقافة عدد 87، [ص:290]. 13) انظر مقدمة مقال: "مرشد المعلمين" في هذا الجزء من الآثار.

أما القليل من إنتاج الإمام في مرحلة آفلو؟ الذي نجا من الضياع فهو موجود في هذا الجزء، وهو ذو طابع أدبي، ومنه رواية الثلاثة، التي يقول عنها الشيخ محمد الصالح رمضان: "وأما رواية الثلاثة الشعرية الهزلية النقدية فقد نسخ منها الشيخ الجيلالي الفارسي فصلين فقط وسحبها ... وهي غير تامة إذ ينقصها الفصل الثالث والأخير" (14). في أوائل سنة 1943 - وبعد نزول قوات الحلفاء في الجزائر في نوفمبر 1942 - حدث نوع من الانفراج السياسي، فعاد الإمام الإبراهيمي من المنفى، ولكنه وُضِع تحت المراقبة الإدارية حتى انتهاء الحرب، وفي تلك السنة- 1943 - تمكنت الجمعية بقيادة الإمام الإبراهيمي من تشييد سبعين مدرسة (15)، وهو عدد ضخم، نظرًا لظروف الحرب المقيدة للحركة، وللمسغبة التي كان يعانيها الشعب الجزائري. ومن أهم مواقفه في هذه الفترة ردُّه على ما تقدم به الجنرال دوغول في شهر مارس 1944 من إصلاحات، وأهمها ما سُمِّي آنذاك بحق المواطنة الفرنسية للجزائريين، الذي "ندد به الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء، على أنه خطوة نحو إدماج لا يرضى به الشعب المسلم بأي ثمن" (16). كما أسهم الإمام مساهمة كبيرة في لَمّ شمل السياسيين الجزائريين، لتكوين هيئة سياسة تجادل عن حقوق الشعب الجزائري، حيث "تَمَّ بسعيه- وسعي إخوانه العلماء- في وقت لا يقل حرجًا وضيقًا عن وقتنا هذا جمع الأحزاب في هيئة أحباب البيان" (17)، التي ضمت جميع القوى الوطنية في الجزائر باستثناء الشيوعيين. إذا كانت مؤامرة فرنسا لإفشال المؤتمر الإسلامي سنة 1936 قد استهدفت أفرادًا، فإن مؤامرتها لإفشال تجمع "أحباب البيان" قد استهدفت الشعب الجزائري كله، فكانت حوادث 8 مايو 1945، و"هي حوادث محكمة التدبير، مبيتة، مجمع عليها من جامعة المعمرين بإملاء رجال الحكومة أو مُمَالَأتِهِم" (18). لقد قُتل في هذه الحوادث- في بضعة أيام- أكثر من خمسة وأربعين ألف جزائري، "ودمَّرت الطائرات (بأمر من وزير الطيران شارل تيون الشيوعي) 44 مَشْتَى (قرية) " (19)، واعتقل

_ 14) محمد العيد تَاوَرْتَه: نثر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ج 2، ملحق 2، وهي رسالة ماجستير غير منشورة. 15) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في الجزء الرابع من هذه الآثار. 16) شارل أندري جوليان: افرلقيا الشمالية تسير ... [ص:326]. 17) انظر مقال "دعوة مكررة إلى الاتحاد" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 18) انظر مقال "وَيْحَهم ... أهي حملة حربية" في الجزء الثالث من هذه الآثار.

آلاف الجزائريين، و"كان الإبراهيمي على رأس القائمة" (20)، الذي سيق إلى السجن العسكري بمدينة الجزائر، حيث وضِع في زنزانة انفرادية تحت الأرض لمدة سبعين يومًا، لا يخرج منها إلا ربع ساعة في اليوم، ثم نُقل إلى قسنطينة ليوضع في زنزانة أخرى- في انتظار محاكمته- حتى ساءت حالته الصحية، فكان ينقل منها إلى المستشفى العسكري ويعاد إليها طيلة أحد عشر شهرًا، مما أدى إلى تدهور صحته، وإصابته بأمراض بقي يعاني منها إلى أن توفاه الله. ومن أعمال فرنسا عقب حوادث 8 ماي 1945 سَنُّ قانون لا يوجد فيما عرف الناس من قوانين أكثر قسوة ووحشية منه، والغريب العجيب أن المؤرخين وشهود تلك الحوادث أهملوا الإشارة إلى هذا القانون رغم بشاعته، ولم يشِر إليه ويندد به- فيما نعلم- إلا الإمام الإبراهيمي، الذي ذكر أن فرنسا "سنَّتْ قانونًا مَتْنُه من وحي الرومان، وشرْحُه من فقه الإسبان يقضي بمنع أيَامَى القتلى من التزوج، وبعدم قسم المواريث المتخلفة عنهم، وبعدم السماح لأهل البر والإحسان بتبني يتاماهم" (21). أُعلن العفو العام! وأُفرِج عن المساجين، فخرج الإمام الإبراهيمي من السجن يوم 16 مارس 1946، وقبل أن يستعيد جزءًا من قوته، ويسترد شيئًا من صحته عاود النشاط بعزيمة أمضى، وإرادة أقوى، فملأ بنشاطه المكان والزمان، وجاب الجزائر كلها: سهلها وحَزْنَها، تلَّها وصحراءها، حواضرها وبواديها، يؤسس المدارس، ويشيد المساجد، ويفتح النوادي، ويصلح بين الناس، ويؤلف بين القلوب، ويشحذ النفوس، وبفضل ذلك النشاط الدائب والعمل الهادف صارت جمعية العلماء تمثل ضمير الأمة، وحافظة شخصيتها، وحامية كيانها، ومُحْيِيَةَ مقوماتها، دمالى هذه المعاني أشار الشاعر مفدي زكريا- أحد قادة حزب الشعب الجزائري-: جمعية العلماء المسلمين ومَنْ … للمسلمين سواكِ اليوم منشود؟ خاب الرجآ في سواكِ اليوم، فاضطلعي … بالعبء، مُذْ فرَّ دجال ورعديد سيروا، ولا تهنوا، فالشعب يرقبكم … وجاهدوا، فَلِواءُ النصر معقود أمانة الشعب، قد شُدَّت بعاتقكم … فما لغيركمُ، تُلقَى المقاليد (22) وأصبح الإمام الإبراهيمي زعيمًا لهذه الأمة، تُلقي السمع لقوله، وتسترشد برأيه، وتهتدي- فيما تأتي وتترك- بفكره، وتنزل في قضاياها على حُكمِه، وتتخذه أسوة حسنة لها

_ 20) عبد الرحمن بن العقون: الإبراهيمي فقيد العروبة والإسلام، مجلة الثقافة، عدد 87، [ص:406]. 21) انظر مقال "وَيْحَهم ... أهي حملة حربية؟ " في الجزء الثالث من هذه الآثار، والمقصود بالتبني هنا هو الكفالة. 22) مفدي زكريا: ديوان اللهب المقدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، [ص:268]، والقصيدة بتاريخ 25 أكتوبر 1953.

المنجزات

في الاستمساك بشخصيتها وقدوة طيبة في الدفاع عن ذاتيتها. إن أجملَ ما في هذه الزعامة أنها لم تكن قائمة على دعاية حزبية زائفة، ولكنها كانت ذاتية في الإمام، مظاهرها التدين الصادق، والعلم الغزير، والعمل الوفير، والإعراض عن السفاسف، والترفع عن التوافه، والإخلاص في العمل، وقد أشار الشاعر مفدي زكريا إلى بعض هذه الأعمال، فقال محييًا الإمام الإبراهيمي: التحيات، باعث الرجة الكبـ ... رى، تهاوى حيالها الأصنام والذي ألهب العزائم فانْفَـ ... ضَّت تَبَارى، يسوقها الإقدام والذي فكَّ طلسم الشعب فارتـ ... دَّ بصيرًا، وانجاب عنه الظلام والذي أنقذ العروبة لما ... نصبت للعروبة الألغام وحمى (دولة الكتاب) وكانت ... في الحمى (دولة الكتاب) تضام (23). إذا كان حصر نشاط الإمام الإبراهيمي واستقصاء منجزاته على رأس جمعية العلماء في هذه الفترة (1946 - 1952) من الصعوبة بمكان، فلا أقل من الإشارة إلى أهم تلك المنجزات، وهي: أولًا: في ميدان التربية والتعليم: 1) تأسيس معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة: أهمَّ الإمام الإبراهيمي مصيرُ التلاميذ الذين أنهوا مرحلة التعليم الابتدائي بمدارس الجمعية، ففكر في تأسيس معهد يكون عنوان مرحلة جديدة في جهاد الشعب الجزائري الحضاري، يستكمل فيه أولئك التلاميذ دراستهم، ولكن إخوانه العلماء "كانوا متفقين على أن الزمن غير صالح للشروع في العمل نظرًا لحالة الأمة المالية، وتوالي الأزمات عليها" (24). ولكن الإمام- إيمانًا منه بربه، وثقة في الأمة التي رباها على البذل في الصالحات، وثقة بمكانته في قلوب أبنائها- صمَّم على إنجاز المشروع، ولم يخيب الله مسعاه، فاستجابت الأمة، ودفعت قليل موجودها في سبيل وجودها، فتم تأسيس معهد أطلق عليه اسم الإمام عبد الحميد بن باديس، فكان تكوينه "أعجوبة من أعاجيب الفجاءة" (25). وأوحى ربك إلى الإمام الإبراهيمي أن يسعى لربط المعهد الوليد بجامع الزيتونة العَهيد، وللإمام من وراء ذلك الربط هدفان:

_ 23) نفس المرجع، ص 240 - 241. 24) انظر مقال "معهد عبد الحميد بن باديس: ما له وما عليه" في هذا الجزء من الآثار. 25) انظر مقال "المعهد والمدارس" في هذا الجزء من الآثار.

2) بناء المدارس

• ايجاد علاقة ثقافية علمية بين المؤسسات العلمية العربية، وهي فكرة نحسب أن الإمام الإبراهيمي حائز فيها بالسبق تفضيلاً؛ فأنشأ الأزهر فرعًا له في لبنان، وأنشأت جامعة القاهرة فرعًا لها في السودان. • تمكين حاملي شهادة المعهد من الالتحاق بالمؤسسات التعليمية العليا في المشرق العربي، لأنه "ينوي توجيه النوابغ إلى استكمال معلوماتهم في جهة أخرى غير الزيتونة" (26). وهذان الفكرتان تدلان- وغيرهما- على النظرات المستقبلية للإمام الإبراهيمي، وما أكثرها عنده، فقد كانت بصيرتُه أحَدَّ من باصرته. ورغم كثرة أعمال الإمام وتعدد مشاغله، فقد كان يولي المعهد عناية خاصة، يزوره باستمرار، ويسهر على حسن سيره، ويذلل ما يعترضه من عقبات، ويوفر له الإمكانات، ويختار له الكفاءات، ويكثر عنه الكتابات، ولم يكتف بجهوده الخاصة؟ فأسس له حركة سماها "حماة المعهد" (27). إن الأعمال العظيمة والمنشآت الكبيرة لا تقاس بما أُنفق فيها من أموال، وما بذل في سبيلها من مجهودات؛ ولكنها تقاس بالظروف التي أُنجزت فيها، والأهداف التي رسمت لها، والنتائج التي حققتها. من أجل ذلك كان الإمام الإبراهيمي يعتبر المعهد إنجازًا عظيمًا، لأنه أُنجز في ساعة العسرة، وأُسِّسَ في ظروف مادية قاسية، وفي بحر من العراقيل الإدارية الشديدة؛ ولأنه عُهِد إليه تكوين جيل صحيح العقيدة، متين الخُلق، سليم التفكير، رِسالي المهمة، وأما النتائج فقد كان الإمام مطمئنًا إليها من أول يوم في حياة المعهد، بما وفَّر له من برامج سليمة، وتربية صالحة، وإدارة حازمة، وأساتذة أكفاء، ثم جاءت الأيام فصدَّقت ذلك كله، وأخرج المعهد للجزائر رجالاً في جميع المجالات، ولم يُكتب في تاريخ أحد منهم خيانة للوطن، أو تفريطًا في ثابت من ثوابته، أو ركونًا إلى عدوه. 2) بناء المدارس: يعتقد الإمام الإبراهيمي أن التعليم "نوع من الجهاد"، ويرى المدارس "ميادين جهاد"، ويعتبر المعلمين "مجاهدين"، مستحقين لأجر الجهاد، لأن "التعليم هو عدو الاستعمار الألد".

_ 26) انظر مقال "معهد عبد الحميد بن باديس: ما له وما عليه" في هذا الجزء من الآثار. 27) العربي التبسي: مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر، جمع: شرفي أحمد الرفاعي قسنطينة، دار البعث 1981، ج1 [ص:171].

إن هدف الجزائر في تلك المرحلة هو التحرر من الاستعمار، وقد كان الإمام مقتنعًا أن ذلك التحرر لن يتم إلا إذا هيِّئت وأُعِدَّت وسيلته، فلا يمكن أن "تسبق غايةٌ وسيلتها"، وما الوسيلة- في رأيه- إلا العلم بأوسع معانيه، "فهذه الجهود الجبارة التي تبذلها جمعية العلماء في سبيل العربية والإسلام والتعليم كلها استعداد للاستقلال، وتقريب لأجله" (28)، وذلك ما يهوِّن عليه وعلى إخوانه العلماء ما يلاقونه من محاكمات وسجون، "ولكننا سندخل هذه المحاكم برؤوس مرفوعة، وسنتلقى هذه الأحكام بنفوس مطمئنة بالإيمان، وسندخل السجون بأعين قريرة" (2). ومن أجل ذلك حمَّل الإمام الإبراهيمي جسمه المريض ما لا طاقة له به من أسفار كثيرة، وترحال دائم، وتنقل مستمر، ليضع حجر أساس مدرسة في الشرق، ثم ينتقل لتدشين مدرسة في الغرب، وهكذا دواليك ... وعلى القارئ أن يقدر الجهد الكبير الذي بذله الإمام طيلة ستة أعوام -1946 - 1952 - ، إذا عرفنا أنه في سنة 1948 وحدها بُدئ بناء 37 مدرسة عبر التراب الوطني (30). وللإمام الإبراهيمي من وراء هذه التنقلات الكثيرة المضنية فلسفة اجتماعية، وهي معرفة مدى انتشار الوعي وارتفاعه في الأمة، وتعويدها على التجمعات الهادفة بدل تلك التجمعات الحزبية أو البدعية، ونزع رهبة السلطات الفرنسية من قلوب أفرادها. ويلاحظ في هذه الفترة التوسع في تعليم البنت الجزائرية، في مجتمع كان يعتبر تعليم البنت إحدى الكبر، وقد جادل الإمام الإبراهيمي جدالًا كبيرًا عن حقها في التعليم، بل عن واجبه عليها، إذ الإسلام يجعل العلم فريضة على المسلم ذكرًا كان أو أنثى، وبذلك وصل عدد الإناث في مدارس الجمعية إلى 5696 بنت سنة 1951، ليقفز إلى ثلاث عشرة ألف بنت سنة 1953، وهو عدد ضخم نظرًا لظروف ذلك العهد الاجتماعية والنفسية والمادية. وقد كان الإمام يخطط لإنشاء دار للمعلمات، ومعهد للبنات على غرار معهد ابن باديس للذكور، وجامعة عربية إسلامية تجمع بين الروح الإسلامية الشرقية والعلوم الحديثة النافعة (31).

_ 28) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في الجزء الرابع من هذه الآثار. 29) انظر مقال "عادت لعترها لميس" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 30) انظر مقال "جناية الحزبية على التعليم والعلم" في هذا الجزء من الآثار. 31) بدأ التفكير في هذه الجامعة في حياة الإمام ابن باديس الذي طلب من أخيه الإمام الإبراهيمي "أن يضع برنامجًا لدروس الكلية وكتبها ودرجاتها ومناهج التربية فيها وطرائق التعليم العالي ... ففعلتُ وجاء البرنامج حافلًا بالتدقيقات الفنية في التربية، والاعتبارات العملية في التعليم، والكتب القيمة للدراسة، ومعه تخطيط للكلية ومرافقها. فلما قرأه قال لي: كأني أرى بعيني ما خطه قلمك حقيقة واقعة". انظر مقال "ذكرى عبد الحميد بن باديس الثامنة وموقع معهده منها" في هذا الجزء من الآثار، وقد يكون هذا البرنامج ضمن أوراق الإمام ابن باديس.

3) تكوين لجنة التعليم العليا

ساء الاستعمار الفرنسي أن تُقْبِل البنت الجزائرية على مدارس جمعية العلماء، حيث تتلقى العلم النافع، وتتربى التربية الصالحة، وتتخلق بالخلق القويم، فأوحى إلى شياطينه أن يثيروا الغبار حول ذلك التعليم، ويشيعوا قالَةَ السوء عن مدارس الجمعية التي "عرضت الأعراض للتمزيق". وسلَّ الإمامُ قلمه البتار على أولئك الرهط، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وكشف هدف تلك الحملة، وهو أن الاستعمار "متشائم بتعليمها- الجمعية- للبنت المسلمة، لأن نتيجته تكوين بنت صالحة، تصبح غدًا زوجة صالحة، وبعد غد أُمًّا صالحة، وهاله أن تعمر البيوت بالصالحات فَيَلِدْن جيلاً صالحًا صحيح العقائد متين الإيمان، قويم الأخلاق، طموحًا إلى الحياة، فتطول به غصته ثم تنتهي به قصته ... (ولأن) الاستعمار بعيد النظر، عارف بما للمرأة في أمتها من الأثر، فهو- لذلك- حرَّكَهُم، وما زال يحركهم لإثارة هذا الغبار الأسود في وجه جمعية العلماء، (لـ) زعزعة ثقة الأمة بالجمعية في خصوص تعليم البنت" (32). وقد عانت مدارس جمعية العلماء كثيرًا من عراقيل السلطات الفرنسية، وأصاب معلميها كثيرٌ من الأذى، لأنهم كانوا يقومون بعملية "تحصين" و "تطعيم حضاري" ضد الفَرْنَسَة والتنصير، ولذلك كانت تلك السلطات تعتبر تلك المدارس "عبارة عن خلايا سياسية، والإسلام الذي يمارسونه- العلماء- هو مدرسة حقيقية للوطنية" (33). وللتقليل من تأثير مدارس جمعية العلماء على الأطفال الجزائريين وإفسادًا لذلك التطعيم الحضاري والتحصين المعنوي حاولت السلطات الفرنسية فرض تدريس اللغة الفرنسية لمدة خمس عشرة ساعة أسبوعيًا في مدارس الجمعية، فـ"رفضتُ المفاهمة في المشروع بحذافيره، وفي جملته وتفصيله، وَأَبَى لي ديني أن أعطي الدنية فيه، وأبَتْ لي عروبتي أن أقر الضيم للغتي، وأبى لي شرف الجمعية وشرف العلم أن أتمادى في مفاهمة ضالة عقيمة في حق طبيعي ثابت ... وللحكومة أن تسقط السماء علينا كِسَفًا، وأن تتجنى علينا ما شاء لها التجني والظلم" (34). 3) تكوين لجنة التعليم العليا: يؤمن الإمام الإبراهيمي أنه "إذا اختلفت الأصول والمناهج في أمة كانت كلها فاسدة، لأن الصالح كالحق لا يتعدد ولا يختلف" (35)، و"أن توحيد الغايات لا يأتي إلا بتوحيد الوسائل" (36)،

_ 32) انظر مقال "في كل ناد أثر من ثعلبة" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 33) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية، الجزائر ط 3، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986، ج 3، ص 151، وهو ينقل عن تقرير أمني فرنسي عنوانه "الجزائر في نصف قرن". 34) انظر مقال "التعليم العربي والحكومة رقم 9" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 35) انظر مقال "مرشد المعلمين" في هذا الجزء من الآثار. 36) انظر مقال "حقوق الجيل الناشئ علينا" في الجزء الثالث من هذه الآثار.

4) إنشاء الشهادة الابتدائية

ولذلك قرر- مع إخوانه قادة الجمعية- إنشاء لجنة خاصة بالتعليم، فأنشئت في 13 سبتمبر 1948، و"كانت بمثابة وزارة تربية شعبية" (37)، وعهِد إليها بوضع البرامج، وتقرير كتب الدراسة، وإصدار اللوائح التنظيمية، وتعيين المعلمين، ووضع الدرجات لهم، واختيار المفتشين، وتنظيم ملتقيات تربوية وندوات بيداغوجية لمناقشة قضايا التعليم، وتحسينه، ورفع مستواه. ويدل إنشاء هذه اللجنة على التطور الذي أحرزته الجمعية، وعلى الروح التنظيمية التي أصبحت تطبع أعمالها. 4) إنشاء الشهادة الابتدائية: انسجامًا مع ذلك التطور الذي أشرنا إليه آنفًا، أنشأت الجمعية شهادة تثبت لحاملها متابعة الدراسة الابتدائية، وتسمح له بمتابعة المرحلة التعليمية الموالية. ولا شك أن الجانب المعنوي النفسي لهذه الشهادة أكبر من جانبها المادي. ويظهر هذا الأثر المعنوي في محتوى هذه الشهادة، حيث كتِب في ركنها الشمالي الأيمن عبارة "الشعب الجزائري"، اعترافًا- من جهة- بمجهوده في ميدان الإنفاق على التعليم، وإقرارًا- من جهة أخرى- بسيادته العليا إلى أن يحين الوقت لاستعادة دولته، وتفويض ممثليه المنتخبين بممارسة هذه السيادة التي اغتصبت منه سنة 1830. وتحت كلمة الشعب الجزائري كتب "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، إشارة إلى أنها الممثلة لهذه السيادة، وتحت كلمة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كتب "لجنة التعليم"، وهي الهيئة التنفيذية لسياسة الجمعية في ميدان التربية والتعليم، والتي سماها فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان "وزارة تربية شعبية". أما في الركن الشمالي الأيسر فيوجد رسْمٌ لمدرسة يعلوها لواءٌ مسطور عليه "الإسلام- العربية- الجزائر"، إشارة إلى ثلاثية الشعب الجزائري المقدسة المعارِضة لسياسة التنصير، والفَرْنَسَة اللُّغوية، والإدماج السياسي للشعب الجزائري في الدولة الفرنسية. 5) إرسال البعثات الطلابية إلى الدول العربية: بدأت جمعية العلماء التفكير في إرسال بعثات طلابية إلى المشرق سنة 1938، ولكن الحرب العالمية الثانية حالت دون تنفيذ ذلك. فلما وضعت الحرب أوزارها، واستأنفت الجمعية نشاطها، وانتهت من عملية تنظيم شؤونها، فكرت- مرة أخرى- في مسألة البعثات، وبدأت بأقرب البلدان إلى الجزائر وهما تونس والمغرب، حيث بلغ عدد الطلاب فيهما- سنة 1953 - ألفًا ومائتي طالب، ئم تمكنت من إرسال الفوج الأول إلى مصر في السنة الدراسية 1951 -

_ 37) عبد الرحمن شيبان: في الذكرى المائوية لميلاد الشيخ الإبراهيمي، جريدة الشرق الأوسط، عدد 3827، لندن 21 - 3 - 1989.

ثانيا: في ميدان التنظيم

1952، وكان ذلك الفوج يضم خمسة وعشرين طالبًا وطالبة واحدة- هي زوجة أحدهم-، وفي السنة التي بعدها حطت ثلاثة أفواج رحالها في كل من العراق وسوريا والكويت، "بفضل مساعي الرَّئِيسُ الجليل- الإبراهيمي- وزميله في الكفاح الأستاذ الفضيل الورتلاني" (38). وإذا كانت الحكومات العربية في المشرق قد تحملت تكاليف إيواء أولئك الطلبة، فإن جمعية العلماء هي التي تولَّتْ إيواءهم في تونس والمغرب، حيث اكترت دارين- في تونس- لإسكانهم (39)، واكترت مركزًا لِجَمعية الطلبة (40)، هذه الجمعية التى تأسست في الثلاثينات "بتحريض من الإمام الإبراهيمي إثر اجتماع عقده مع العمال والطلبة في أحد أحياء العاصمة التونسية، وهو حي الحجامين" (41). ثانيا: في ميدان التنظيم: 1) المركز العام: لم يكن للجمعية قبل سنة 1947 مقر خاص بها، وبعد أن استأنفت نشاطها عقب الحرب العالمية الثانية قررت أن يكون لها في العاصمة مقر خاص يتناسب ومكانتها الدينية وقيمتها العلمية وأهميتها السياسية، وقد اختير هذا المركز في حي القصبة التاريخي- قلب العاصمة- لما يمثله هذا الحي من أمجاد وأبعاد في تاريخ الجزائر. ومَنْ أعلم من جمعية العلماء ورئيسها بإيحاءات التاريخ ودوره في شحذ همم الشعوب، وشحن نفوسها، ودفعها إلى استعادة دورها في صنع التاريخ والإسهام في الحضارة، وهو ما أشار إليه فضيلة الشيخ أحمد سحنون في قصيدته التي ألقاها بمناسبة افتتاح هذا المركز، فقال: وفيك يُبعث ماض طالما حييت … على مآتيه أجيال وأعصار يا فتية الضاد حان الوقت فاطرحوا … هذا الْوَنَى وانهضوا، فالناس قد طاروا سيروا على نهج آباء لكم سلفوا … فإنهم في طريق المجد قد ساروا شقوا الزحام إلى العلياء واقتحموا … أَخطارها، إنما العلياء أخطار اسعوا لتحيَوْا حياة العز، أو فَرِدُوا … حوض الردى، فالردي يمحى به العار أرواح آبائكم في الخُلد قد هتفت: … تحرروا فجميع الناس أحرار (42).

_ 38) محمد خير الدين: مذكرات ... 1/ 232. 39) انظر مقال "محمد خطاب" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 40) انظر مقال "السيد محمد خطاب الفرقاني" في هذا الجزء من الآثار. 41) محمد صالح الجابري: التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1995، [ص:37]. 42) انظر القصيدة "بوركت يا دار" في الجزء الثالث من هذه الآثار.

2) التوسع في تأسيس الشعب

2) التوسع في تأسيس الشُّعَب: الشُّعبة هي أصغر مؤسسة في هيكلة جمعية العلماء ومهمتها تأطير الحركة الإصلاحية والإشراف على تأسيس المدارس والمساجد في المدن والأحياء، وقد كان عدد هذه الشُّعَب- عشية اندلاع الحرب العالمية- 58 شعبة، ثم وصل العدد- سنة 1953 - إلى 300 شعبة (43)، مما يدل على الانتشار الواسع الذي حققته الجمعية، والمكانة الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها لدى الشعب الجزائري، مما يؤكد مقولة "إن جمعية العلماء عبارة عن دولة داخل دولة" (4). 3) توسيع المجلس الإداري وتنقيح القانون الأساسي للجمعية: كان الاجتماع العام لجمعية العلماء الذي عقد بالجزائر العاصمة يومي 30 سبتمبر 1 أكتوبر 1951 اجتماعًا متميزًا، حيث جُدِّدت فيه مبايعة الإمام الإبراهيمي لقيادة الجمعية، ووُسِّع مكتبها الإداري، ووُزِّعت أعمال الجمعية على لجان، ونُقِّح القانون الأساسي الذي وضع سنة 1931، حيث تقرر أن يكون للرئيس نائبان بدل نائب واحد، وللكاتب العام ثلاثة نواب بدل نائب واحد، ولأمين المال نائبان، ورُفِع عدد المستشارين إلى ستة عشر بدل أحد عشر مستشارًا. ومن أهم ما اتخذه المجلس الإداري الجديد هو منح لقب رئيس شرفي لجمعية العلماء لبعض العلماء غير الجزائريين مِمَّن عرف بحمل الفكرة السلفية الإصلاحية والدفاع عنها. ولا نعلم جمعية- غير جمعية العلماء- في العالم العربي والإسلامي اتخذت مثل هذه الخطوة، وهذا دليل آخر على النظرة الإسلامية والاستراتيجية لقيادة جمعية العلماء، ولا ريب في أن صاحب هذه الفكرة هو الإمام الإبراهيمي نفسه. أما العلماء الذين تقرر منحهم هذه الرئاسة الشرفية فهم: محمد بن العربي العلوي (المغرب)، أحمد بن محمد التجاني (المغرب)، عبد العزيز جعيط (تونس)، عبد اللطيف دراز (مصر)، محمد أمين الحسيني (فلسطين)، عبد القادر المغربي (طرابلس الشام)، محمد بهجت البيطار (دمشق)، محمد نصيف (الحجاز)، تقي الدين الهلالي (بغداد)، مسعود الندوي (باكستان) (45). 4) بعْثُ النشاط في فرنسا: بدأ نشاط الجمعية في فرنسا سنة 1936، وتوقف بسبب الحرب العالمية، وبانتهائها عادت الجمعية إلى النشاط هناك، فاشترت "مركزًا متواضعًا ليكون رمزًا للمشروع ونقطة بدء

_ 43) انظر مقال "مذكرة ايضاحية" في الجزء الرابع من هذه الآثار. 44) مقدمة الدكتور أبي القاسم سعد الله لكتاب الأستاذ مازن صلاح مطبقاني: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، دمشق، دار القلم، بيروت، دارة العلوم، 1988، [ص:15]. 45) جريدة البصائر، عدد 172 - 173، الجزائر 15 أكتوير 1951.

5) فتح مكتب القاهرة

في تحقيقه" (46)، وأسست شُعَبًا في أمهات المدن الفرنسية كمرسيليا، وليون، وباريس، وليل وغيرها. وأوفدت بعض أعضائها يعلمون المغتربين دينهم، ولغتهم، وتاريخ أمتهم. وكانت الجمعية تعتبر "هذه المسألة كبيرة، ومسؤوليتها عند الله وعند الناس ثقيلة" (47)، ولذلك أولاها الإمام ما تستحقه من عناية، وتردد على فرنسا عدة مرات، تفقدًا للحركة، وتشجيعًا للقائمين عليها. ولو توافر المال لحققت الجمعية في ميدان هداية المسلمين الضالين نتائج طيبة، ولأَتَتْ في مجال دعوة غير المسلمين إلى الإسلام بنتائج باهرة. إن جمعية العلماء هي الهيئة الوحيدة التي نقلت جزءًا من نشاطها من الجزائر إلى فرنسا لإنقاذ تلك الجالية من الذوبان والانسلاخ من دينها ولغتها ووطنها، أما حزبا نجم شمال افريقيا وحزب الشعب الجزائري فقد نشآ هناك، ولم يكن لهما نشاط يذكر في ميدان الصراع الحضاري، واقتصر نشاطهما على عقد تجمعات، وتوزيع منشورات، بل لقد كانا يجدان- أحيانًا- تعاطفًا وتعاونًا من بعض الفرنسيين. 5) فتح مكتب القاهرة: أسست جمعية العلماء في أواخر سنة 1950 "مكتبًا رسميًا متألفًا من ثلاثة من أبناء الجزائر المقيمين في القاهرة" (48) ليكون "سفيرًا أمينًا بين الجزائر وأخواتها العربيات شعوبًا وحكومات" (49)، و "إن أشرف ما قام به السعي في قبول بعثات من أبناء الجزائر باسم جمعية العلماء في المعاهد العلمية الكبرى على نفقة الحكومة المصرية وبعض الحكومات الشرقية" (50). وقد ازدادت أهمية هذا المكتب وتكثَّف نشاطه بعد سفر الإمام الإبراهيمي إلى المشرق سنة 1952. ثالثًا: في ميدان التوجيه والإعلام: 1) إعادة إصدار جريدة البصائر: صدرت البصائر أول مرة سنة 1935، وفي بداية الحرب العالمية الثانية قررت الجمعية توقيفها حتى لا تجبرها السلطات الفرنسية على قول ما لا تريد. وفي سنة 1947 أعاد الإمام

_ 46) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في الجزء الرابع من هذه الآثار. 47) انظر مقال "التقرير الأدبي" في هذا الجزء من الآثار. 48) نفس المرجع. 49) انظر رسالة الإمام الإبراهيمي إلى السيد فاضل الجمالي، رئيس الوزراء العراقي في الجزء الرابع من هذه الآثار. 50) انظر مقال "التقرير الأدبي" في هذا الجزء من الآثار.

الإبراهيمي إصدار جريدة البصائر رغم المصاعب المادية الحادة التي كانت تعانيها الجمعية والشعب الجزائري. وقد حمَّل العلماء رئيسهم مسؤولية إدارة البصائر ورئاسة تحريرها، فحمَّلوه- بذلك- أثقالاً مع أثقاله، ولكنه قام بالمهمة أحسن قيام، ولم يَؤُدْه حفظها والارتقاء بها إلى أعلى مستوى. لقد دبَّج الإمام الإبراهيمي في البصائر أروع المَقالات، وأبدع التحليلات، وخاض على صفحاتها أصدق الهجمات على الاستعمار وسياسته، وأعنف الحملات على الذين خانوا أمانة الإسلام والأوطان، ولولا ذلك القلم السيال والفكر الجوَّال والعزم الصوال لكانت جريدة البصائر كبقية الجرائد. لقد كان الإمام الإبراهيمي للبصائر كالأم لطفلها، يمتص حليبها وهو أزكى ما في جسمها، وكالزهرة للنحلة، تمتص رحيقها وهو ألذ وأشهى ما فيها، وهو ما جعل الناس في داخل الجزائر وخارجها يُقبلون عليها إقبال الظمآن على الماء، ويستعجلون يوم صدورها، لما يجدونه فيها من مقالات إبراهيمية تقنع العقول وتُحْيِي القلوب، وتشفي الصدور، في أسلوب بديع وبيان رفيع يُذَكِّر بأزهى عصور اللغة العربية، حتى أصبحت البصائر لكثير من أصحاب الأقلام سُلمًا إلى المجد وسبيلاً إلى الشهرة. وقد كان يصيب البصائر ما يصيب الجرائد ذات الفكر الرشيد والرأي السديد والمبدإ العتيد من أزمات مالية تكاد تخمد صوتها وتطفئ نورها فيتداركها الإمام الإبراهيمي- بجهوده الخاصة- فتعود سيرتها الأولى ناطقة بالصدق، صدَّاعة بالحق شاهدة بالعدل، قاذفة بالشهب المحرقة على الطغاة والبغاة ومن ألقى إليهم بالمودة. كان الإمام الإبراهيمي يعتبر البصائر هي صوت الجزائر، لا صوت جمعية أو حركة فقط، ولذلك كان حريصًا أشد الحرص على أن يكون هذا الصوت معبرًا أصدق تعبير عن حقيقة الجزائر المسلمة الدين، العربية الانتماء، المجاهدة لاسترجاع كيانها السياسي، والعاملة لاستئناف دورها الحضاري، وكان أشد حرصًا على أن تصل البصائر إلى خارج الجزائر، فوصلت إلى الشرقين العربي والإسلامي، وإلى الأمريكتين الوسطى والجنويية (51). لقد كانت السلطات الفرنسية تدرك قوة جريدة البصائر في كشف حقيقة سياستها، وتعرف قدرة البصائر على إقناع الناس بحق الجزائر في استعادة سيادتها، فكانت تلك السلطات تتدخل مباشرة فتمنع- أحيانًا- دخول البصائر إلى الأقطار التي- تسيطر عليها، وتُوعِزُ - أحيانًا- إلى إدارة البريد لكي تحجزها فلا تصل إلى من تُرسَل إليهم في الأقطار الأخرى.

_ 51) انظر مقال "البصائر في سنتها الرابعة" في هذا الجزء من الآثار.

2) وفود الوعظ والإرشاد

2) وفود الوعظ والإرشاد: من سُنن جمعية العلماء الحسنة أنها كانت توزع أعضاءها على مُدن الجزائر وقراها في شهري أغسطس وسبتمبر من كل سنة، وفي شهر رمضان المعظم؛ يُثَبِّتُون- بدُرُوسِهِم- المهتدي، ويَهْدُون الضال، ويذَكِّرون الجميع بواجباتهم الدينية والدنيوية. وقد كانت جريدة البصائر تنشر أسماء أولئك العلماء، والمناطق التي عُيِّنُوا فيها، وتحض الشعب على الإقبال على هذه الدروس. وقد حدَّد الإمام الإبراهيمي في أحد مقالاته مهمة أولئك الوعَّاظ والمرشدين قائلاً: "عليهم أن يمَكِّنوا- ما استطاعوا- في نفوس السامعين معاني الشرف والرجولة، وشرف النفس، والاعتزاز بالإسلام والعروبة، فإن الإسلام جاء لجميع ذلك، وان سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائرة على ذلك، فالإسلام دين العزة والكرامة، والشرف والفضيلة، فمن لم يكن بهذه الصفات فإسلامه ناقص بقدر نقصانه فيها وإن صلى وصام وحج البيت ماشيًا" (52). وقد وصف المؤرخ الفرنسي شارل روبير آجرون تلك الوفود بالوفود "السياسية- الدينية" (53)، لأنها لم تكن تقتصر في دروسها على القضايا الدينية بمعناها المتعارف عليه، ولكنها كانت تتجاوز ذلك إلى القضية الوطنية، فتنَبِّه العقول، وتوقظ الشواعر، وتهيِّءُ النفوس ليوم لا ريب فيه يحق الحق ويبطل الباطل. وقد كانت السلطات الفرنسية تراقب- بواسطة عملائها- أولئك العلماء، وتسجل أقوالهم، وترصد الأفكار التى ينشرونها بين الناس، ومن ذلك ما سجلته مصالحها الأمنية من أن الشيخ عباس بن الحسين - عضو المكتب الإداري لجمعية العلماء- ألقى خطابًا يوم 3 سبتمبر 1954 بمدينة نَدْرومة جاء فيه: "لا تعتقدوا أن الجزائر نائمة، إنها تناضل في سرية، كما ناضلت تونس والمغرب، وخلال شهر أو شهرين- وفي جميع الأحوال قبل سنة- ستنهض مثل جميع الدول العربية ... وأنه من هذه المساجد سيخرج جنرالاتنا، وقادتنا الحربيون، وجيشنا" (54). ولذلك فكثيرًا ما كانت السلطات الفرنسية تمنع أولئك العلماء من إلقاء الدروس، وتقود بعضهم إلى مخافر الشرطة للاستجواب الذي ينتهي ببعضهم إلى السجون. رابعًا: المجال الديني: إن القضية التي صال فيها الإمام الإبراهيمي وجال، وكتب فيها وقال هي قضية تحرير الدين الإسلامي من سيطرة الدولة الفرنسية، التي كانت تعتبر إشرافها على الدين الإسلامي "مسألة جوهرية"، خرقت لأجلها دستورها الذي ينص على أن فرنسا دولة لائكية.

_ 52) انظر مقال "دروس الوعظ في رمضان" في الجزء الثالث من هذه الآثار. Ch. R. Ageron: Histoire de l'Algérie Contemporaine. Paris. P.U.F. T. 2. 1979, P. 582 (53 Jacques Carret: l'Association des Oulamas d'Algérie (p.21 et 23, S.D., S.E.) (54

خامسا: في الميدان السياسي

وقد لبَّت الدولة الفرنسية بعض مطالب الجزائريين الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، ولكنها أصَمَّتْ أذنيها وأغمضت عينيها عن مطلبهم في القضية الدينية إلى أن طُرِدت من الجزائر. لقد أكْثر الإمام الإبراهيمي جدالَ فرنسا في هذه القضية، وساق لها من الحجج الدينية والقانونية والتاريخية ما يُقْنِع لكي تنفض يديها من القضية، وتعيد الحق إلى أصحابه، ولكن القوة المادية جعلتها لا تُلقي السمع لأية حجة، ولا تقتنع بأي منطق، ولا تخضع لأي دليل. وكما هاجم الإمام الإبراهيمي السياسة الفرنسية في هذا الميدان وكشف حقيقتها؛ صبَّ حِمَمَه وأرسل صواعقه على أدوات تلك السياسة، وما أدواتها إلا أولئك الأئمة الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وأعطوا الدنية في دينهم، واختاروا أن يكونوا حجة عليه وعلى قومهم، ورَدُّوا مكانة الإمام أسفل سافلين، وهو ما أدى بالإمام الإبراهيمي أن يفتي بأن الصلاة وراءهم باطلة، خاصة بعد أن كشف أوغسطين بيرك- مدير الشؤون الأهلية في الولاية الفرنسية العامة في الجزائر- أن تعيين أولئك الأئمة لا يراعى فيه إلا خدمتهم للدولة الفرنسية (5). خامسًا: في الميدان السياسي: حاول- وما يزال يحاول- الجَهَلَةُ والحَسَدَة أن ينكروا على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إسهامها الكبير في العمل الوطني لاستعادة الاستقلال واسترجاع السيادة، ويتمثل هؤلاء المنكرون في الشيوعيين، وفي المتعصبين من حزب الشعب الجزائري- حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وفي بعض الكتاب والصحفيين من جيل الاستقلال الذين يحتطبون في حبال هؤلاء وأولئك. إن الحقيقة هي أن جمعية العلماء اهتمت- كما يقول الإمام الإبراهيمي- بـ"لباب السياسة" "لأن ديننا يعد السياسة جزءً من العقيدة ... ولأن السياسة نوع من الجهاد، ونحن مجاهدون بالطبيعة، فنحن سياسيون بالطبيعة" (36). وإذا كانت المعركة في الجزائر في جوهرها- منذ الاحتلال إلى استعادة الاستقلال-هي معركة بين "الفَرْنَسَة" وبين "العروبة"، وبين "النصرانية" وبين "الإسلام"؛ فإنه لم يكن لغير جمعية العلماء عمل دائب وفكر صائب في تلك المعركة، وذلك لسبب بسيط هو أن ذلك "الغير" لم يكن يملك أدوات تلك المعركة ووسائلها، فضلاً عن أن يدرك أبعادها،

_ 55) انظر مقال "شهادة الشيخ بيرك على رجال الدين- وشهد شاهد" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 56) انظر مقال "بداية النهاية" في الجزء الرابع من هذه الآثار.

وأن يَسْتَبين أهدافها، وما وسائلها إلا "العقيدة الصحيحة"، و "العلم الواسع"، ولذلك اعتبر الفرنسيون "أن العلماء يمثلون أكبر الخطر على الفكرة الفرنسية في الجزائر" كما أشرنا إلى ذلك آنفًا. من أجل ذلك أسهمت جمعية العلماء- في عهد الإمام الإبراهيمي- في الأنشطة السياسية الجادة، بل لقد كان لها ولرئيسها الدور الريادي والرَّئِيسُي في بعضها، ومن هذه الأنشطة: 1) سعي الإمام الإبراهيمي في جمع الأحزاب والشخصيات الوطنية في هيئة أحباب البيان. 2) رفضه المشروع الذي تقدم به الجنرال دوغول سنة 1944، القاضي بإدماج الشعب الجزائري في فرنسا، وهو "ما لا يرضى به الشعب المسلم بأي ثمن". 3) دعوته لتوحيد الأحزاب الجزائرية، وسعيه في ذلك طيلة "ستة أشهر كاملة" (57). 4) رسالته القوية إلى رئيس الجمهورية الفرنسية سنة 1949، حيث أكَّد له فيها أن الشعب الجزائري "أصبح لا يؤمن إلا بأركان حياته الأربعة: ذاتيته الجزائرية، وجنسيته، ولغته العربيتين، ودينه الإسلامي، لا يستنزل عنها ... ولا يبغي عنها حِوَلاً، ولا بها بديلًا" (58). 5) إسهام جمعية العلماء في تأسيس "الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها". 6) اتصاله بالوفود العربية والإسلامية في مؤتمر الأمم المتحدة الذي عُقِد بباريس في آخر سنة 1951، واقترح عليها "عرض قضية الجزائر على الجمعية العامة في دورتها الحالية" (59). وقد أقام الإمام الإبراهيمي لتلك الوفود مأدبة ألقى فيها خطابًا قويًا، شرح فيه لتلك الوفود قضية الجزائر والمغرب العربي عمومًا. كما أَوْعَد فيه الاستعمار الفرنسي بأن وراء اللسان خطيبًا صامتًا هو السنان، وأن الشبان الجزائريين سينطقون بما يخرس الاستعمار، وأن بقايا دماء أجدادنا فينا سيجلِّيها الله إلى حين. ودعا فيه إلى احتقار الاستعمار وتقليم أظافره وهَتْمِ أنيابه، وشبَّه الطامعين في توبة الاستعمار بالخروف الطامع في توبة الذئب (60).

_ 57) انظر مقال "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين (2) " في هذا الجزء من الآثار. 58) انظر مقال "كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 59) فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عَرفته، مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:123]. 60) انظر مقال: "خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية في الأمم المتحدة" في هذا الجزء من الآثار.

ومما تجدر الإشارة إليه أن ميصالي الحاج- رئيس حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية- أقام هو الآخر مأدبة لتلك الوفود، وألقى كلمة طلب فيها من الفرنسيين "أن يعيدوا إلينا حريتنا، ويعاملونا على قدم المساواة والأخوة" (61). والمفارقة هي أن الجمعية المتهمة زورًا بأنها لم تعمل للاستقلال، ولم تؤمن بالكفاح المسلح، يدعو رئيسها إلى عدم الثقة في الاستعمار، ويهدد هذا الاستعمار في عُقْرِ داره بأن الشباب الجزائري سينطق بما يخرسه، وأن دماء آبائنا فينا سيجلِّيها الله، ويحرِّض على تقليم أظافر الاستعمار وهَتْمِ أنيابه، وأن حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية الذي يحاول بعض مناضليه احتكار الوطنية، ويدَّعون أنهم الوحيدون الذين عملوا للاستقلال، يدعو رئيسه الفرنسيين إلى "أن يعيدوا إلينا حريتنا، ويعاملونا على قدم المساواة والأخُوَّة". لقد كان لخطاب الإمام الإبراهيمي أثر قوي في عقول تلك الصفوة من رجال العرب والمسلمين، الذين لم يتعودوا أن يسمعوا من علماء الدين مثل الذي سمعوه من الإمام الإبراهيمي: فصاحة لسان، وقوة بيان واهتِمامًا بما يحدث، ومتابعة لما يجري، وتفطُّنًا لمكائد الأعداء، وإدْراكًا لوسائلهم، وظهر تأثرهم فيما علَّقوا به على ذلك الخطاب، حيث قال الزعيم التونسي محي الدين القليي واصفًا الإمام الإبراهيمي بأنه "إمام هذا الزمان، المصلح، المجدد، مفخرة علماء الإسلام" (62)، وقال الزعيم فارس الخوري، رئيس الوفد السوري: "أنا وقفت لِأداءِ شهادة، فقد سمعت كثيرًا من الخطباء في هيئة الأمم المتحدة، وهم- لا شك- النخبة المختارة من دولهم للتأثير على السامع، وغيرهم كثير، ولكن أشهد- فَثِقوا بشهادتي- أنني لم أتأثر مثل تأثري الليلة بكلمة فضيلة الشيخ الإبراهيمي، وليس تأثري راجعًا إلى فصاحته وبلاغته فقط، وإنما تأثرت بذلك، ولكونه يتكلم من عقله وروحه، ويخرج الكلام مساوقًا لشعوره، ومسوقًا بصدقه وفضيلته خاطبنا الليلة بنبضات قلبه، وفيض من إيمانه وعقيدته" (63). 7) دعوته إلى تشكيل "اتحاد أحزاب الشمال الإفريقي"، ونجاحه في تحقيق ذلك، بهدف متابعة الكفاح ومضاعفته في سبيل تحرير افريقيا الشمالية، ولتنسيق عملها داخل افريقيا الشمالية، وفي الميدان الفرنسي والدولي وقد شارك في ذلك الاتحاد: من الجزائر: حزب البيان الجزائري، وحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية.

_ 61) انظر خطاب ميصالي الحاج كاملاً في جريدة المنار عدد 11، الجزائر 8 ديسمبر 1951، [ص:3]. 62) جريدة البصائر عدد 183، الجزائر 18 أفريل 1952. 63) عبد الرحمن بن العقون: الكفاح القوي والسياسي ... الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986، ج3، [ص:224].

ومن تونس: الحزب الحر الدستوري الجديد، والحزب الدستوري التونسي. ومن المغرب: حزب الاستقلال، وحزب الإصلاح، وحزب الشورى والاستقلال، وحزب الوحدة. وقد أُنْهِيَ نص الميثاق بين هذه الأحزاب بالعبارة التالية: "دعا إلى هذا الميثاق وسعى فيه، وشهد به محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" (64). تلك- باختصار شديد- هي أهم أعمال الإمام الإبراهيمي ونشاطاته على رأس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فترة قصيرة من الزمن، وسلسلة طويلة من المحن، وبحر متلاطم من الفتن، وقد شهد إخوانه وتلاميذه الذين عملوا تحت قيادته "أنه لولا علمه ولسانه وصبره وتأثيره الذي يشبه السحر لما كانت جمعية العلماء، ولولا براعته في التصريف والتسيير لما سار لجمعية العلماء شراع في هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن" (63)، وأنه "يتفقد إخوانه ويتعهدهم، ولا يهدأ باله حتى يطمئن عليهم، وإذا التقى بواحد من تلامذته أو إخوانه ومعارفه فإنه لا يفارقه حتى يكون على اطمئنان من حالته المادية والاجتماعية ... فإذا وجد خلة سدها إن استطاع، ويبذل في ذلك رأيه وَجَاهَهُ، فيقترض من هذا ليقرض هذا، وإذا عوتب في ذلك يقول: أنا أجد من يقرضني، وهؤلاء لا يجدون من يقرضهم، ولقد يكون في حاجة إلى الشيء فيُؤْثِرُ به غيرَه، فهو من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ولقد رأيته يومًا في حاجة إلى المال فاقترض شيئًا، فما كاد ذلك النصيب يدخل جيبه حتى جاءه من طلب منه الإعانة على السفر إلى تونس ليذهب ويحارب في فلسطين فدفع إليه أكثر المبلغ الذي اقترضه منذ دقائق وهو منبسط الوجه والجبين، وأنا أكاد أتميز من الغيظ، ولما فارقنا الرجل أنكرت عليه ذلك فقلت له: وما يدريك أن هذا مدجل؟ فقال لي: وما يدريك أنه صادق؟ ... وكان لا يخرج من بلدة دخلها إلا بعد أن يصلح ما فيها من خصومات ... وكان يقول: إن اتحاد هذه الجماعات ضمان لبقاء المشاريع ... وان القضية الجزائرية لا تنجح إلا بالاتحاد" (66).

_ 64) محمد خير الدين: مذكرات ... ج 1، صص 366 - 368. وانظر أيضًا أحمد بن سودة: أيام مع إمام مسجد باريس، جريدة الشرق الأوسط، عدد 3826، لندن في 20/ 5/ 1989 و Ch. R. Ageron: Histoire de l'Algérie Contemporaine. Paris, P.U.F. T.2/ 581 65) انظر مقدمة محمد الغسيري لمقال "مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة" في الجزء الثاني من هذه الآثار. 66) حمزة بوكوشة: لحظات مع الشيخ البشير الإبراهيمي، جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر 21 مايو 1970.

إن المتصفح- بموضوعية- تاريخ الجزائر في هذه الفترة (1940 - 1952) سيجد- دون عناء- أن الشخصية المحورية فيها هي شخصية الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فقد كان المرشد الأبرز، والموجه الأكبر للشعب الجزائري في جميع الميادين: الدينية، والتعليمية، والسياسية، وهو ما جعل الجزائريين يولونه ثقتهم ويلقون السمع لتوجيهاته، ويعلقون عليه أملهم؛ فقد رأوا فيه ناصحًا أمينًا، وقائدًا حكيمًا، وموحدًا للصفوف التي فرقتها الأهواء، وجامعًا للكلمة التي شتَّتَتْها المصالح الشخصية والمآرب المادية، ولاحظوا أنه لا يأمر بمعروف حتى يكون أول عامل به، ولا ينهى عن منكر حتى يكون أول تارك له، وأن أفعاله تسبق أقواله، وأن المبادئ عنده ليست قابلة للمساومة، وليست خاضعة للمناورات السياسية، والمغانم النيابية التي أصبح أغلب السياسيين يلهثون وراءها. محمد الهادي الحسني البليدة (الجزائر)، 18 أكتوبر 1996

في المنفى أو من وحي آفلو

في المنفى أو من وحي آفلو (1940 - 1943)

رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني

رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني* الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني حفظه الله، أخي: أعتقد أن الراحل أخي العزيز لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس، وأعتقد أن فقده لا يحزن قريبًا دون بعيد، وأن أوفر الناس حظًا من الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد وبقيمة الخسارة بفقده للعلم والإسلام، لا للجزائر وحدها. فلهذا بعثتُ أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض، بعد أن فاض، ببقاء آثاره في الحياض، وأنهاره في الرياض، كما يعزى على مغيب الشمس بشفقها وعن ذبول غضارة الشباب ببقاء رونقها، وإن كانت التعازي تعاليل، لا تطفئ الغليل، ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجنًا، إلى كبد تتنزى حزنًا. وظنّي في أخي أنه لو كان يعرف عنواني لكان أوّل معزٍّ لأول معزَّى. واحسرتاه! رحم الله الراحل العزيز، جزاء ما بثّ من علم وزرع من خير، وثقف من نفوس، ولله ذلك اللّسان الجريء، وذلك الْجَنَّانُ المشعّ، وذلك الرأي الملهم، وإنّا لفقدك يا عبد الحميد لمحزونون. أخوكم الحزين الإبراهيمي

_ * نشرت في كتاب "حياة كفاح" (مذكرات أحمد توفيق المدني) الجزء الثاني، [ص:337]، (الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1977)، وقد أرسلت من أفلو في شهر أفريل 1940، على أثر وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس.

تساؤل نفس

تساؤُل نفس* سؤال: أين- يا أخت- الحسام المنتضى … لصروف الدهر في اليوم العصيب أين- يا أخت- الإمام المرتضى … ذو البيان الحرّ والرأي المصيب أين؟ من أن أمحل الفكر مضى … يرحض الأمحال بالفكر الخصيب جواب: جاءه المحتوم من صرف القضا … فقضى، لم يرض بالدنيا نصيب سؤال: أين- يا أخت- هلال الداجيه … فارس الحلبة كشاف الكرب كان نورًا في الليالي الساجيه … ويل قومي إن توارى أو غرب أين- يا أخت- إمام الناجيه … وأمين الله عن مجد العرب جواب: حُرِمتْ منه النفوس الراجيه … وتملت حظها منها الترب سؤال: أين حامي الدين من شوب الضلال … ومجير الحقّ من إِفك الهوى أين- يا أخت- حواري الجلال … صيقل الأذهان إكسير القوى عاف خفض العيش في برد الظلال … وامتطى للمجد نزاع الشوى جواب: خبر الأظعان والحي الحلال … أن نجم الدين فيهم قد هوى سؤال: أين ليث كان بالأمس هنا … خادرًا قد ملأ الدنيا زئير أغلبا في لبدتين ارتهنا … عن عرين الدين يرمي ويجير ما ونى عن فرصة أو وهنا … هل رأيت المخذم العضب الطرير جواب: هجر الغيل وأسرى موهنا … والحمى أصبح نهبًا للمغير سؤال: أين منا اليوم- يا أخت- الرَّئِيسُ … كم به قد رفع القوم الرؤوس ما له غاب؟ فما منه حسيس … ما له أقصر واليوم عبوس من رمى الأمّة بالجد التعيس … وسقاها جرع الغم كؤوس جواب: غاله من خاتل الموت دسيس … فهو قد أصبح رهنًا في الرموس ... والسلام عليكم مجتمعين على الحق ومتفرّقين في خدمة الحق. آفلو، يوم السبت 13 رجب الفرد 1359هـ، الموافق 18 أغسطس1940م. أخوكم المعتد بوجودكم وعطفكم محمد البشير الإبراهيمي

_ * ذكر هذا النصّ أحمد قصيبة في مجلة "الثقافة"، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985.

رسالة إلى الأستاذ أحمد قصيبة

رسالة إلى الأستاذ أحمد قصيبة* بسم الله والله أكبر، ولدنا الأستاذ أحمد بن أبي زيد يسّره الله لليسرى: وصلتني رسالتكم الكريمة فأحمد الله لي ولكم على نِعَمه المتواترة، ونسأله التوفيق والإعانة وحسن العاقبة وتيسير الصالحات. قد جاءت رسالتكم وأنا أكتب رسالة بالفرنسية إلى ولدنا الشاذلي ورفاقه، فسطرت فيها سلامكم عليهم. رجاؤنا في الله قوي ولكنه رجاء الموحدين العارفين بسننه الكونية، فلا نرجو أن نحيا من غير أن نستعدّ للحياة، وإنما نرجو أن يوفّقنا الله إلى هذا الاستعداد. أوصيكم باستكمال هذا الاستعداد الكَسْبِي من نفوسكم، وأوصيكم بأن تكونوا بررة بهذه اللغة الشريفة لتُحيوها فتَحْيوا بها، وما ذلك إلّا بالتعمّق في فقهها والاصطباغ بآدابها وحِكَمها، وسبيل ذلك كلّه المطالعة المنظّمة. لم تأت هذه الوصية عفوًا، ولكنني أرى من مجرى الأحوال والحوادث أنّ هذه اللغة لا تزال في ليل مظلم مما تلقّاه من حرب أعدائها وجفاء أبنائها، وأنّ ميدان العراك بينها وبين الحوادث لم يزل فسيحًا، فاستعدّوا للذود عن حياضها، والنضح عن حقيقتها، وستكون العاقبة لها إن استعددتم لهذا الدفاع الجديد. إنّ في الجوّ غبرة، يثيرها الفجرة، ولا يطفئ وهجها إلّا الأبناء البررة، وإياكم أعني، وإنّ في الأرض أحابيل منصوبة، لذوي الحقوق المغصوبة، تُنسي جميع ما سبقها من الأحابيل، والجور الوبيل، فكونوا رجال اليوم والغد، وتسلّحوا بالأخلاق الإسلامية الحقيقية، لا هذه المظاهر التي غرّنا بها الغرور، وإنّ اعتماد هذا الدّين وهذه اللّغة في هذا الطور على هذا الجيل الذي تتوسطونه، وتتولّون زعامته، فانظروا ما أنتم فاعلون. سلامي إلى جميع الإخوان. آفلو، في 1 شعبان المبارك 1359هـ، الموافق 4 سبتمبر 1940م. والدك: الإبراهيمي

_ مجلة "الثقافة"، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985.

رسالة الضب

رسالة الضبّ* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضرة الفيلسوف ولدنا الأستاذ أحمد بن أبي زيد قصيبة حفظه الله ... وما زلت أنعتكم في رسائلي إليكم بالفيلسوف تنادرًا ومباسطة وتظرفًا، وأنا لا أجهل أنكم تنطوون على شمائل فيلسوف أو تحملون روحه بالتعبير العصري، حتى جاءت هديتكم لأحمد على يدي وهي عبارة عن ضبّ وورل محنطين بالنخالة لا بالموميا، فعاتبتكم- فيما أذكر- عتاب مغفل بما معناه: أني شببت عن طوق هذه الأحناش، وما كان ذلك العتاب إلا عنوانًا على غفلتي في ذلك الوقت- على الأقل- ثم فاء علي عازب عقلي وضائعُ فكري، ووضعت الضبّ أمامي وتأملت خلقته مرّات في أيام، فوالذي خلق الضبّ والدب، وأنبت النجم والأبّ، فخلق النوى والحب، لقد أذكرني ضبّكم بما كنت أحفظه عما قيل في الضبّ وعلى لسانه، وما ضرب من الأمثال المتعلقة به، ما لو خلعت عليه أيام الصبا جددًا، ونفضت عليه ماء الشباب مدادًا ومددًا، لم أكن لأذكره. فقد كان هذا الحيوان محظوظًا عند العرب دون كثير من الحيوانات الجزرية فدرسوا ظاهره وباطنه، وعرفوا طباعه فأكثروا فيه القول حتى بلغ هيامهم به، وتمنطقهم بذكره أن نحلوه بعض الخصائص الإنسانية، وزادوا فنحلوه فضيلة لا توجد في الإنسان ولا في غيره من الحيوان كما ستسمع.

_ * وجّه الإمام هذه الرسالة إلى تلميذه الأستاذ أحمد ابن أبي زيد قصيبة في مدينة الأغواط، بعد أن أهدى هذا الأخير ضبًا محنّطًا للطفل أحمد نجل الإمام، وكان ذلك بتاريخ 11 شوال 1359هـ. (نوفمبر 1940).

والحق أن الضب حيوان عربي جزري، ولا تقل إنه صحراوي وأن الصحراء ليست خاصة بالعرب، فإن هذه الصحراء التي هي آية من آيات الله. في أرضه، أو هي باب الفلسفة من هذا الكتاب الأرضي لم يعمرها الله بأمة تشرّبت معانيها، وتغلغلت في دقائقها، ولاءمت روحُها روحَها مثل الأمة العربية، وسل التاريخ ينبئك، فهو لم يعرف أمة خلعت عليها الصحراء فطرتها وأفرغت عليها إفراغًا سابغًا غير الأمة العربية. ومن ههنا جاشت نفوس العرب وتفتقت قرائحهم عن روائع الفلسفة الوصفية للصحراء وأرضها وسمائها وليلها ونهارها وأغوارها وأنجادها وبراريها القاحلة وشجراتها ومعايشها وقيظها وصرّها وحيوانها ونباتها، وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف النجوم حتى قربتها تشبيهاتهم إلى الإدراك البشري، واعتبر ما قالوه في سهيل والجوزاء والسماكين الأعزل والرامح والثريا والخضيب والدبران والنسرين الواقع والطائر على كثرة النجوم وكثرة ما قالوه فيها، وإذا كانت النجوم لا تحصى عدًا، فقل ذلك فيما قالته العرب فيها. ومن بدائع تشبيهاتهم في النجوم أخذ المعري تلك المنازع الغريبة وتلك النظرات الفلسفية البعيدة الغور المنبثة في لزومياته، وهي باب على حدة من فلسفته الكونية وما نبع ذلك الزلال ونبغ ذلك السحر الحلال إلا مما تركه العرب من تشبيهاتهم لها وتخيلاتهم فيها. وانظر أوصافهم البديعة لظلمة الليل وروعته وأثرها في نفوسهم وقارن ذلك بوصفهم للنجوم ينكشف لك بعض السر من تلك النفوس وارتباطها بكونها وامتزاجها به، ولا أبعد إذا قلت إنه ليس للأمم مجتمعة ما للعرب في هذا الباب. وليس لأمة من الأمم ما لهم في وصف الحيوانات الضارية، وأن أمم الحضارة على وفرة أدواتها لم تدرس الضواري إلا بعد أن دجّنتها، وفاتهم أن التدجين يذهب بكثير من الخصائص الطبيعية لها فيفوت بذلك على الدارس كثير من النتائج، واعتبر ذلك بِتدجيننا- ونحن بشر- كيف اغتال خصائصنا ومقوّماتنا، ومسخ معنوياتنا حتى أصبحنا أحط من بعض أنواع الحيوان. أما العرب فخالطوا الضواري في أغيالها واقتحموا مآسد خفان والثرية وترج وغيرها وذللت أرضها أقدامهم، ومنهم من عايش الضواري حتى ألفها وألفته وجمع بينهما عالم كعالم المثال عند الصوفية، فلطفت في السبع سورة السبعية وشرتها وامتدت في العربي الميزة الحيوانية، وتقاربت الغرائز في الجو الحيواني الوسط فصدق الوصف وحق التصوير. ولو لم يكن العربي أميًا وكان ممن يدرس الأشياء على المناهج العلمية، لأتى العالم بالمعجزات. وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف الحشرات والزواحف والإلمام بطبائعها ووجوه تصرفاتها وسعيها في معائشها وتناسلها ودراسة ما بينها من امتزاج وتنافر، وصف عن عيان ودراسة في الجو الطبيعي.

وليس لأحد ما لهم في وصف النبات والشجر، وتحليل مكاسرها بالعجم والغمز، وتحقيق طعومها وخصائصها وتقسيم أنواعها وتسمية مفرداتها من شَثّ وطباق وآء وتنوم وثمام وشيح وقيصوم ثم غرب وشويط ونبع وسراء ومرخ وعفار، إلى غير ذلك مما بلغوا في تصويره في أشعارهم درجة تقرب من تصويره بالألوان، وقد اضطرّ رواة اللغة ونقلتها في عهد التدوين إلى إفراد هذا النوع- وهو النبات والشجر- خاصة بالتأليف، فلأبي عبيدة والأصمعي ولأبي حاتم والنضر بن شميل ولكراع النمل ولأبي زيد الأنصاري ولكثير غيرهم كتب خصّوها وسمّوها باسم النبات والشجر. ولإمام هذا النوع أبي حنيفة الدينوري كتاب "النبات"، وهو البحر الذي لا ساحل له، وهو مفخرة اللغة العربية بلا منازع، وهو الكنز الذي لم يرزأنا الدهر بأنفس منه ولا أثمن، ولا أغلى، وان مصيبتنا به لتفوق مصائبنا في الأعلاق الثمينة، وإن خسارتنا له لخسارة يعز عنها العوض، لولا سلوة بتلك الشذرات التي ينقلها عنه أصحاب المعاجم مباشرة أو بواسطة، وان هذه الكتب الخاصة بالنبات والشجر لبرهان مستقل قائم على مقدار اتساع هذه اللغة الشريفة وإحاطتها، ودليل من جهة أخرى على فضلها على المعارف البشرية وجواب مسكت للذين يهرفون بتنقص هذه اللغة ويرمونها بضيق العطن والقصور عن استيعاب المعارف، وتوبيخ مر لزعنفة من أبناء العرب العاقين الذين يلوون ألسنتهم بمثل هذا الكلام ويشايعون لجهلهم وفسولة أخلاقهم وانحراف أمزجتهم العربية، أعداءها على ذمها والزراية بها والتقليل من خطرها، وأنا لا أرى دواء لهذه الزعنفة التي ضلّت عن جهل إلا الاحتقار فما بفقدهم ينقص عديد العرب، ولا برطانتهم يقل شأن العربية ويخف وزنها. وانهم عندي لأهل للرحمة بما جهلوا، لا للحسد على ما علموا، ولو علموا أو حفظوا فصلاً واحدًا مما وضعته العرب لجماعات الحيوان وطوائفه، كالأجل والرجل والسرب والعانة والقطيع إلى آخر هذا النوع أو لأصواتها- وما أكثرها- لأشرفوا على بحر لجي يجدون عنده رطانتهم ضحضاحًا غمرًا، لا يغمر كعب إنسان، ولو علموا أن العرب تقول: خطيب وَعُوع فيكون مدحًا، وخطيب وعواع فيكون ذمًا، ولهم في كل كلمة مرمى من الاشتقاق مصيب، لو علموا ذلك ونحوه من أسرار الاشتقاق، وهو باب من أبواب وفصل من كتاب وقزعة من سحاب، لأقلعوا عن غيّهم وكفّوا من غلوائهم، ولكنه الجهل يعمي ويصمي. واذا أردت أن تفهم بعض السر في خصيصة العرب في الوصف، فاعلم أنّ الصحراء لبستهم- ولبسوها- حتى أصبحت حياتهم جزءًا منها فأورثتهم ملكة التأمّل، ولو سمّيناها ملكة الحواس لكان هذا هو الصحيح ومنها جاءتهم دقة الحسّ ولطافة الشعور وصدق التصوير، ولا نشترط على التاريخ أن يأتينا بأمة أمية من أممه يطاول بها أمة العرب في هذا

((فصل)) ونعود إلى الحديث عن الضب

الباب، بل نتنازل وندعوه لأن يأتينا بأمة من أمم الحضارة تستطيع أن تقف بجانب العرب في هذا الميدان. ((فصل)) ونعود إلى الحديث عن الضبّ، فأنا أعترف أني ما حققت معنى المثل العربي المشمهور "أعقد من ذنب الضبّ" إلا بعد دراستي لضبّكم، وأن هذا المثل لأشهر من "قفا نبك ... " وانه لممضوغ بكل لسان، ممجوج على سن كل قلم، تقرأه في كل صحيفة وفي كل كتاب، وما أكثر العقد- والتعقيدات- في زماننا التي يحسن ضرب هذا المثل لها، ولو أن الذين يضربون هذا المثل تقليدًا واتّباعًا رأوا الضبّ ورأوا ذنبه وتحسّسوا تلك العقد الشائكة في ذنبه، لكان تمثلهم أوقع في نفوسهم ولكانت نفوسهم أشدّ تأثّرًا به، وعلى مقدار التأثر يكون التأثير، ولعلموا مع ذلك إصابة العرب في مواقع التمثيل ومراميهم في مضارب الأمثال، وأن في المخلوقات أشياء كثيرة ذات عجر أو عقد أو أبن، ولكن العرب آثروا الضبّ في التمثيل لأنه حيوان صغير مسالم ليّن المجسّة كليل الظفر إلّا عن حفر الكدى ليتّقي لا ليتّقى، ومع هذه الصفات الرخوة فذنبه معقّد ذاك التعقيد العجيب، وهو شائك، وهو لحامله شكة وحامله منه شاكي السلاح، وقد حكى لي بعض من رآه يضرب به الأفعى حتى يقتلها. وقد أكثرت العرب من ضرب الأمثال بهذه الزواحف والحشرات الحقيرة، فكان ذلك تنويهًا بشأنها وتنبيهًا للمتوسمين والباحثين في مخلوقات الله ليزداد المؤمن إيمانًا بالخالق ويزداد المتفقّه فقهًا في حقائقها، ويزداد الباحث توسّعًا في المعرفة، والمعرفة ميزة هذا الجنس. وقد قالوا ضلّ دريص نفقه، وهو تصغير درص اسم لجرو الفار، وقالوا: "تخلصت قائبة من قوب" للفرخ من البيضة، وهذا باب واسع في أمثالهم يقبح بالمتأدبين من ناشئتنا أن لا يجعلوا له حظًا من حفظهم وبحثهم، وأنا فقد رأيت الضبّ سلوخًا ومطبوخًا- وإن لم آكل لحمه- عند البدو في نجد الغربية مما يلي المدينة المنورة، ورأيته عند دافة من أعراب الحجاز دفت على المدينة في عام ممحل فما أثارت رؤيته في نفسي إلا ذكرى أنه عرض على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يده فقيل له: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: «لا أحرم ما أحلّ الله، ولكنه ليس بأرض قومي- وإن نفسي لتعافه-» وفي هذا الجواب روايات، وان خالد بن الوليد حين سمع هذا الجواب تناوله من بين يدي رسول الله فأكله، ويؤخذ من جوابه - صلى الله عليه وسلم -، أن الضبّ غير موجود بمكة في زمنه، ولم أوفق إلى سؤال أهل مكة عنه في زمننا هذا، ولو سألت لكان زيادة في العلم واليقين، لأن الحديث ظني، وان تعددت طرقه واشتهر بإخراج الصحاح له.

وهذا التقصير الذي شاهدته وشهدت به على نفسي ناشئ عن قصور في ملكة التأمّل والبحث إذ ذاك، لأنها كانت مزاحمة بالأبحاث الدينية، وان رواية هذا الحديث في مجالس الرواية لا تثير في النفس أكثر من الاهتمام بحكم أكل لحمه شرعًا، وهو اهتمام له حظ واعتبار في موضوعه وجوّه الخاص، ولكن المثال البارد الفج "الصامط" (1) الذي لا يثير في النفس اهتمامًا بل يثير فيها اغتمامًا هو المثال الذي تعلّمناه من كتب النحو، وهو قولهم: " ... هذا جحر ضب خرب" يمثلون به للجر بالمجاورة أو بالتوهّم لا أدري، وانما الذي أدريه هو أن هذا النوع من الجر مسموع عن العرب، وهو من شذوذاتهم اللغوية وانحرافاتهم عن مقاييس لغتهم، وهو مقبول منهم لكنه مقصور على ما سمع منهم، فلا يسوغ لنا نحن طرده من كلامنا حتى لا نفسد اللغة على أنفسنا بهدم القواعد الصحيحة والجري على غير منهاج، ولهذه الشذوذات في العربية فلسفة خاصة لم يشبعنا أحد بالحديث عنها حتى الآن، ولو وجدت متسعًا من الوقت لكتبت فيها ما يصحّ أن يكون نواة في الموضوع، إذا تعاهده الباحثون أصبح شجرة ذات أكل شهي. ولفيلسوف هذا الفن أبي الفتح عثمان بن جني جمل متفرقة في هذا الموضوع لكنها تنطوي على نظرات سديدة وتدلّ على انفساح ذرع الرجل في هذا العلم، وإذا كان هذا النوع من الجر مسموعًا موقوفًا على السماع فلست على ثقة من أن مثال النحاة مسموع من العرب وإنما هو مثال سوقي انتحلوه، ثم قلّد آخرهم أولهم فيه على عاداتهم، وهل يصحّ لهم أن يمثلوا لمسألة سماعية بمثال مصنوع؟ لا. ودليلي على أن المثال مصنوع أمران: ـ[الأول]ـ: أن نطق العرب لا يساعد على ما ادّعاه النحاة فيه، لأن كلمة خرب التي يدّعي النحاة جرّها جاءت مقطعًا في الجملة لم تعقبها كلمة أخرى، فإذا نطق بها عربي نطق بها ساكنة الآخر بلا شك، فمن أين يظهر الجر الذي ادّعوه فيها؟ ووددت لو ذاكرت بعض نحاة العصر المفتونين بالمباحث اللفظية العقيمة في هذا التوجيه لأسمع رأيهم، وما عسى أن يأتوا به من حجج فارغة، وكم في كلام الفارغين من تسلية للهم وتزجية للوقت وترويح للخواطر المكدودة بشرط أن يكون السّامع موفور الحظ من الصبر. ـ[والثاني]ـ: أن معنى المثال على برودته وجفافه لا يتفق مع ما يعرف العرب عن الضبّ من أنه لا يحفر جحره إلا في الكدى (جمع كدية) وهي جبيل صلب الأرض متماسك التراب، ولذلك يضيفونه إليها كثيرًا فيقولون: ضب الكدية، وضب الكدى، يستعملون هذا كثيرًا في كلامهم، وفي مقصورة ابن دريد، بيت مختومة بضب الكدى ولا أذكرها الآن وليس عندي ما أراجعها فيه، وقد قال الشاعر:

_ 1) كلمة عامية معناها ثقيل الظل.

سقى الله أرضًا يعلم الضبّ أنها … بعيد عن الأدواء طيّبة البقل بنى بيته فيه على رأس كدية … وكل امرئ في حرفة العيش ذو عقل فقد وصف هذه الأرض التي اختارها الضبّ لسكناه، بأن الضبّ- وهو الاختصاصي في هذه الهندسة- كأنه يعلم أنها بعيدة من الآفات، وأكبر الآفات في نظر الضبّ السقوط والانهيار والخراب. وقال الشاعر الآخر فزاد المعنى المراد توضيحًا، وهو يتحدث عن الضبّ: ويحفر في الكدى خوف انهيار … ويجعل بيته رأس الوجين والوجين: هو الأرض الصلبة الغليظة، ومن هذه الكلمة جاء قولهم: رجل موجّن، قوي عظام الأضلاع والصدر. ومنها ميجنة الثياب، آلة تدق بها، ومنها جلد موجّن: مضروب بعد الدبغ حتى تتداخل أجزاؤه وتلطف فيلين مع القوة. فهذا البيت شاهد على أنه "ليس جحر ضب خربًا"، ولهذه الخاصية في اختيار الضبّ للكدى، تصفه العرب بصفة ملازمة فيقولون "ضب دامي الأظافير" جمع أظفور. قال الشاعر: تَرَى الشرّ قد أفنى دوائر وجهه … كضبّ الكُدَى أفنى أنامِلَه الحَفْرُ ومن تهكّمات المعري وهمزاته، أن صاحبه أبا القاسم المغربي المشهور في علم التاريخ والأدب بالوزير المغربي، اختصر في حداثة سنّه كتاب "إصلاح المنطق" ليعقوب ابن السكيت، وأهدى منه نسخة إلى صفيّه المعرّي، وكانت بينهما أسباب متينة العرى، فكتب له المعرّي جواب الإهداء رسالة من أبدع رسائله، وفيها نقد لكتاب ابن السكيت على طريقة المعرّي الغريبة في سخريته العجيبة يقول فيها، إن لم تخني الذاكرة. "وقد أكثر يعقوب من الاجتهاد، في إقامة الأشهاد- يعني الشواهد- حتى ذكر رجز الضبّ وانّ مَعَدًّا من ذلك لجِدُّ مُغْضَب، أعَلَى فصاحَتِهِ يُسْتَعانُ بالقَرْض، ويُسْتَشْهَدُ بأحناش الأرض، ما رُؤبَةُ عنده في نفير، فما قَوْلُكَ في ضبّ دامي الأظافير ... ". وهذه الرسالة الرائعة مطبوعة مصحّحة فيما طبع "كامل كيلاني" مع رسالة الغفران، فإن كانت عندك فراجعها، فلعلّ الحافظة لم تضبط ألفاظها، ومحل الشاهد فيها لموضوعنا وصفه الضب بما كانت تصفه العرب من أنه "دامي الأظافير" ولا سبب لذلك إلا حفره لجحره في الكدى الصلبة، وهذه كلها دلائل على فساد مثال النحاة إعرابًا ومعنًى. ولا ننكر أن بعض جحر الضِّباب تخرب، وقد خربت مدائن الرومان والفراعنة فضلًا عن جحور الضباب، ولكنه

((فصل)) ورجز الضب الذي أشار إليه المعري

بارد جاف متخاذل خاذل لحافظه، إذ يوهمه خلاف الواقع، ومنه ومن أمثاله خذل المتأدبون بكتب النحو الذين قعدت بهم همّتهم عن التأدب بلغة العرب من شعرهم وخطبهم، ولم يحصل واحد منهم ملكة صحيحة في هذه اللغة ولا ذوقًا صحيحًا في أدبها، والواجب في الأمثال أن تكون جملًا حكيمة ذات معان مستقيمة وألفاظ قويمة حتى يحصل الحافظ لها فائدتين: الحكم اللفظي والمعنى الذي يترك أثرًا في النفس، ومن مجموع هذه الأمثلة يتكوّن الأدب والأديب. وقد نعى ابن خلدون في زمنه هذا الذي نعيناه وانتقد من مزاولي النحو ما انتقدناه- وهو لعمري- نقد صريح ما عليه غبار. وانظر قولهم "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" كيف لعب به الزمن وتعاوره الاستعمال حتى أصبح ما ليس بصحيح فيه صحيحًا وأصبح قاعدة طبية، وما هو من الطب ولا قاله طبيب ولا هو بصحيح في الواقع والتجربة ولا بمُطّرِدٍ ضرره على فرض وقوع ضرر منه في جميع الأمزجة، وقد استعمله النحاة مثالًا لحكم لفظي فأدّوا مرادهم به على أكمل وجه، ولكن لما لم يكن معناه صحيحًا أوقع أممًا وأجيالًا في الخطأ، فحفظه الناس ونقلوه من الاحتجاج به على حكم أعرابي إلى الاستشهاد به على حكم حيوي، وأصبح الناس يتحامون الجمع بين اللبن والحوت عن عقيدة قرّرها في نفوسهم هذا المثال، وإذا كانت في المِعَدِ معدة ضعيفة تتأثر من الجمع بين غداءين، فمحال أن تكون حجة على معد بني آدم في علم أو عالم الكروش. أما أنا وحياتك- كما يقول الزاهري- فإنني ما رأيت أصلح لمعدتي من الجمع بين السمك واللبن والفضل لهذه الطبيعة التي لا تقلد في السفاسف. ((فصل)) ورجز الضبّ الذي أشار إليه المعرّي وانتقد على ابن السكيت الاحتجاج به أصله مزعم من مزاعم العرب التي لا حقيقة لها، إذ زعموا أن الحيوانات كانت كلها تتكلّم ونحلوا بعضها كلمات وجملًا وأبياتًا من الشعر، وليس وضعهم لما وضعوا من هذا من ذلك النوع المعروف عند جميع الأمم، وهو وضعهم أشياء على ألسنة الحيوانات إيغالًا في الحكمة وتطرقًا لتربية النفوس البشرية وسوقها لفضيلة أو صدّها عن رذيلة، فإن هذا النوع من الأدب السامي هو نمط من التربية الصالحة كما في كتاب "كليلة ودمنة"، ولكن العرب كانوا يعتقدون هذا اعتقادًا، وإن لم يكن عامًا فيهم. وفي شعر أمية بن أبي الصلت المتأله بيت في تقرير هذا المعنى، ولم أتذكر الآن ألفاظ هذا البيت، وقد سمعت من العوام وشاهدت من يعتقد هذه العقيدة.

((فصل)) ومن مزاعم العرب في الضب

ومن فروع هذا المزعم عند العرب أنهم زعموا أن السمكة قالت للضب: وردًا يا ضب. فقال الضب: أصبح قلبي صَردَا … لا يشتهي أن يَرِدَا إلا عَرادًا عرِدَا … وصِلِيّانًا بَرِدَا فهذا هو رجز الضب وهو مبني على اعتبار صحيح، وهو أن الضب لا يشرب الماء، ولعلّه يكتفي عنه برطوبة الهواء الذي يستنشقه والعشب الذي يأكله، كما قالوا في الظباء التي تجتزي عن الماء بما تأكله من حشيش رطب، ولذلك سمّى العرب هذه الظباء جوازي واحدتها جازية. ولهذه الكلمة ذكر مستفيض في كلامهم، وبها سمّيت الجازية المرأة التي بنيت عليها قصة بني هلال أو بطلة الرواية. ((فصل)) ومن مزاعم العرب في الضب أنه أول من دلّ على نفسه، إذ كانت الحيوانات كلّها تتكلّم، فزعموا أن صائدًا مرّ بوادٍ فيه ضب فلم يتوجّه إلى صيده، فخاطبه الضب بقوله: انك لو ذقت الكُشى بالأكباد .. لما تركت الضب يعدو بالواد: والكشى جمع كشية وهي شحمة مستطيلة في الضب يقول آكله إنه لا ألذ منها، ومعنى قوله- لو ذقت الكشى بالأكباد- لو أكلتها ملفوفة بالأكباد أو ممزوجة بها فهو- زيادة عن كونه دلّ على نفسه- أرشد إلى كيفية ونوع من أنواع الملفوف- وتذكّرنا كلمة الكشى بكلمة للزمخشري من كَلِمَهِ النوافي وهي: ما الأعراب بالكشا- أولع من القضاة بالرشا. وأنا أرى أنّ دعوى العرب لدلالة الضب على نفسه أو تزيينه للناس أكله بطيب شحمه، أرى هذه الدعوى ترجمة غامضة لحقيقة كونية تكلّم عنها الحكماء الباحثون في أسرار الكون والمستشرفون لحكمة الخالق في مخلوقاته، وهي أن الحكمة العليا في ألوان الفواكه الزاهية ذات التّلاوين والتهاويل كالخوخ والإجاص والتفّاح وغيرها في مقاديرها وأشكالها هي الدعاية إلى أكلها بمجرّد النظر إليها من الإنسان والحيوان، فإن الرؤية بالعين تسبق الذوق باللسان وتبين الطعم واللذاذة. فتلك الألوان والأشكال هي دعايات تستهوي من فيه قابلية الأكل وتدعوه إلى التجربة، فإذا تمّت التجربة صارت عادة في العقلاء وغريزة فيمن سواهم، ولولا هذه الدعاوى المستهوية في الألوان والتهاويل لما أقدم عاقل ولا غيره على تجربة شيء لم يعرفه لاحتمال أن يكون فيه داؤه لا غذاؤه، والحي إذا عرض له خيال الموت ذابت كل الاعتبارات في نفسه، ويعد هؤلاء العلماء والحكماء وجود هذا المعنى في الفواكه بمثابة المحافظة على بقاء نوعها وتسلسل نسلها، وهي السنة المعروفة في عالم الحيوان بنظام التوالد النوعي والتلاقح

((فصل)) وكما يستطيب العرب لحم الضب

الجنسي، فلو فرضنا وجود تينة واحدة في العالم في بقعة لا يوجد بها آدمي لكان من المترتب على هذا الفرض انقراض صنف التين بعد موت تلك الشجرة، ولكن تلك التينة قد أودعت فيها الحكمة ما يحفظ بقاءها النوعي بعد فنائها الشخصي، وذلك أن ألوان ثمرها تستهوي الطيور إلى أكلها ثم تزرع بذورها التي تخرج مع الفضلات في الصخور أو الأودية، فتنبت منها شجيرات صغيرة ثم تنمو وتثمر دواليك، وقل مثل ذلك في النخلة وغيرها. وكم رأينا في شقوق الصخور الشاهقة- حيث لا تصل يد إنسان- أشجارًا من التين عظمت حتى صارت دوحًا وما نبتت إلا من البذور الخارجة مع رجيع الطيور. وعلى هذا فلا يبعد أن يكون قومنا العرب أدركوا ذروا من هذه الحكمة- وليس ذلك بعجيب منهم- فجعلوا دلالة الضب على نفسه تعبيرًا بلسان الحال عن هذه الحكمة، ولا شك أن الآكل الأول للضب ما أكله إلا بعد أن استهواه شيء فيه من سماته الظاهرة كالكشية، وكم لله من سر خفي! ((فصل)) وكما يستطيب العرب لحم الضبّ حتى صار لهم أثرًا وخبرًا، كانوا يستطيبون أكل بيضه ويسمّى في لغتهم "المكن". يقول المتنبي في وصف قوم من الأعراب: خُرَّابِ بَادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ … مَكْنُ الضِّبَابِ لَهُمْ زَادٌ بِلَا ثَمَنِ. والمتنبي ممن يحسن التبدي والتعاريب، ويحسن وصف البدو مدحًا أو ذمًا، وهذا البيت من هذا الطراز. وقال شاعر آخر، وأظنّه إسلامي يتعارب، ولست أتذكر اسمه الآن: أكلت الضباب فما عفتها … واني لأهوى لحوم الغنمْ وركّبت زبدا على تمرة … فنعم الطعام ونعم الأدم وقد نلت ذاك كما نلتم … فلم أرَ فيها كضبّ هرم وما في البيوض كبيض الدَّجَا … جِ وبَيْضُ الجراد شفاء القرم ومكن الضباب طعام العُرَيْبِ … ولا تشتهيه نفوس العجم وكيف لا يستطيب لحم الضباب ومكن الضباب من يقول شاعرهم، وهو عروة بن الورد: عشية رحنا سائرين وزادنا … بقية لحم من جَزورٍ مُمَلَّحِ

((فصل)) وتضرب العرب المثل بالضب

إننا نعرف العرب ونعرف أنهم قوم يزنون الحياة بغير ما تزنها به أمم البطون والفروج، وموازينهم في الحياة تدور على قطب واحد وهو المحمدة والذكر الحسن، وفي ذلك يقول أولهم- وما هو بالأول في هذا الباب- وهو يخاطب زوجته: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له … أكيلًا فإني لست آكله وحدي أخا طارقًا أو جار بيت فإنني … أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي ويقول آخرهم، وما هو بالآخر في هذا الباب: وإنما المرء حديث بعده … فكن حديثًا حسنًا لمن وعى ((فصل)) وتضرب العرب المثل بالضب في عدة غرائز، فيضربون به المثل في الحيرة فيقولون: أحير من ضب، ويزعمون- وهم أعرف الناس به- أنه إذا بَعُدَ عن جحره خبل ولم يهتد إليه على خلاف المعهود في أمثاله من سكّان الأجحار، وهو على خلاف المعهود في الطيور ذوات الأوكار، ويضربون به المثل في العقوق فيقال: "أعق من ضب"، ويفسّرون عقوقه بأنه يأكل حُسُولَهُ، جمع حِسْل وهي جراؤه الصغار وهو لَحِمٌ ونباتي معًا، واللحم هو الذي يأكل اللحم وجمع على لواحم. يقولون لا آتيك سِنَّ الحسل يعنون التأبيد إذ يزعمون أن الحسل لا تسقط له سن. ((فصل)) ويزعمون أن الضب له نزكان، أي ذكران واحدهما نزك، ويعدون هذا من فضائله وخصائصه، وكثيرًا ما فكرت في هذا الزعم، ما يصنع بالنزكين؟ أَيَكُوم بهما معًا في آن واحد؟ ويلزم من هذا أن يكون لأنثاه فرجان، أم يستعمل أحدهما حتى إذا كَلّ وفتر استعمل الآخر؟ كما يستعمل البطل سيفين على التعاقب احتياطًا لكلال أحدهما أو انثلامه، وإذا كان حقًا ما يقولون فلا نشكّ أن الخالق لم يخلقهما عبثًا، ولم أزل في ريب حتى قرأت حكاية عامل لخالد القسري، أهدى إليه في يوم نيروز سلة مملوءة ضبابًا وكتب معها أبياتًا في وصفها منها قوله: ترى كل ذيّال إذا الشمس عارضت … سما بين عرسيه سمو المخايل حِسْلٌ له نزكان كانا فضيلة … على كل حافٍ في البلاد وناعل فوقعت في جرة أخرى من قوله: سما بين عرسيه لما يفهم منه أن له زوجتين، ولعلّ من خصائصه- ما دام محلًا للخصائص- أنه خلق بنزكين لِيَكومَ كل عرس بنزك،

((فصل)) ولما ذكرناه من علاقة العرب بالضب

ويكون اختصاصه بالنزكين مرتبطًا باختصاصه بالعرسين، وزاد في الحيرة أن في غيره من الحيوان بما فيه الإنسان من له أكثر من عرس، وذكر الحمام والدجاج يسافد العشرات من إناثها، وليس لجميعها إلا نزك أو ذكر واحد، وما دمنا لم نجرّب ولم ندرس دراسة استقراء. فلنقل ما قالته العرب إنها خصوصية أو فضيلة، ومن أحبّ شيئًا نحله ما شاء من الكمالات، ثم قرأت في بعضِ كتب اللغة: أن ذكر الضب يسمّى نزكًا، وأن لكل ضبّ نزكين وأن فرج أنثاه يسمّى قُرْنة، ولأنثى الضب قرنتان، فإن صحّ هذا ظهرت الحكمة في النزكين. ((فصل)) ولما ذكرناه من علاقة العرب بالضبّ سمّوا به على عاداتهم في التسمية بالأشجار والنبات والأحجار والحيوان، ولهذه الأسماء العربية المنقولة من أسماء الجماد والنبات والحيوان فلسفة خاصة كنت أمليت فيها دروسًا عديدة على تلامذة دار الحديث بتلمسان في 1357هـ، وكتبها عنّي التلاميذ وجعلتُها مقدّمة لدرس أنساب العرب، وقد سئل بعض العرب، ما لكم تسمّون أبناءكم بأسماء قبيحة جافية، وتسمّون عبيدكم بأسماء حسنة كسرور ورباح؟ فأجاب العربي: إننا نسمّي عبيدنا لأنفسنا، أما أبناؤنا فهم لعدوّنا. يعني أن العبيد للخدمة والمهن المنزلية أو للقيام على الماشية، وكلها سلم واطمئنان، فكان المناسب هذه الأسماء المفرحة التي تجري مجرى الفأل. وأما الأبناء فمرمى العرب من كثرة النسل الاعتزاز بهم والاعتماد عليهم في الغارات والانتصاف من الأعداء، وأليق الأسماء بهذه المواقف: "جندل" و "نهشل" و "صخر" و "ليث" و "فهد" و "عوسجة" و "حرب" لأنها تثير في نفوس الأعداء خيالات من معانيها، ومن الغريب أن العرب لم تُسَمِّ ضبًّا بلفظ المذكّر إلا قليلًا، وأغلب ما سمّت به ضبة بلفظ المؤنث وهو علم على عدة قبائل يطلقون عليها الضباب. ومن أشهر من تسمّى بهذا الاسم ضبة بن أذ بن طابخة وهي قبيلة مشهورة يعدّها النسّابون الجمرة الثالثة من جمرات العرب، وجمرات العرب هي قبائل استقلّت ولم تحالف غيرها لعزّها ومنعتها، ولفظها مأخوذ من التجمّر، وهو التجمّع، وهذه الجمرات هي نمير بن عامر وضبة بن أدّ والحارث بن كعب، ويقول علماء النسب إن الجمرتين الأخيرتين انطفأتا بالمحالفة لأن ضبة بن أد حالفت الرباب والحارث بن كعب حالفت مذحج، وبقيت نمير بن عامر جمرة متّقدة لم تحالف أحدًا إلى أن جاء الإسلام، وكما تسمّى هذه القبائل جمرات تسمّى جمارًا.

((فصل)) وقد جرى في هذه الرسالة ذكر الوزير المغربي

يقول الفرزدق: خطرت ورائي دارمي وجماري. ونسيت الشطر الأول. ومما يطربني من كلام الشعراء في ذكر الجمرة والجمار قول مهيار الديلمي تلميذ الشريف الرضي في إحدى قصائده: يا ابنة (الجمرة) من (ذي يزن) … في الصميم العِدِّ والبيت الرحيب وبا بني: إن مما آسف عليه أسفًا لا ينقضي، ضياع هذا العلم من بيننا، علم أنساب العرب وأيام العرب وأمثال العرب، وإنها لكنوز من المعارف وأجزاء كاملة من التاريخ والأدب ومحال أن يزدهر الأدب العربي ويؤثر آثاره المرغوبة في ناشئتنا إلا إذا استكمل الأدباء هذه الأجزاء المفقودة. وعلى ذكر اختيار العرب في التسمية ضبّة دون ضب، أذكركم بكلام كنت قرأته لبعض علماء اللغة المتبحّرين في فهم أسرارها، وهو أن العرب يلحقون تاء التأنيث بصفات المذكّر كثيرًا كـ"علامة" و"فهامة" و"تكلامة " و"تلقامة" و"رحلة " و"هزأة"، وهي كثيرة في كلامهم، قال: وهم يرون فيما هو منها مدح إلى معنى الداهية، وفيما هو منها ذم إلى معنى البهيمة العجماء، وهو كلام فقيه في العربية محيط بأسرارها ومقاصد واضعيها وخلجات نفوسهم، وأظن أن صاحب هذه النظرية هو ابن الأعرابي أحد فقهاء اللغة المبرزين، ولا أقطع بذلك. ((فصل)) وقد جرى في هذه الرسالة ذكر الوزير المغربي، وهو رجل يقبح بمتأدب أن يجهله، وهو رجل غريب الأطوار بعيد الهمة عجز المؤرّخون أن يحلّلوا سيرته تحليلًا صحيحًا، ولم يقل لنا التاريخ إلا أنه مغربي، كان أبوه من رجال الدولة الفاطمية بمصر ومن دعائمها وخواصّها، ثم قتله الخليفة الحاكم بأمر الله وهرب ولده هذا إلى القدس وأثارها شعواء على الحاكم بدهائه وكيده، ثم تقلبت به الأحوال ودخل بغداد فأقام الخلافة العبّاسية وأقعدها خوفًا منه وتقلب فيها في عدة ولايات من كتابة ووزارة لبعض ملوك الطوائف فيها، ولا نشكّ في أن أصله من القيروان أو من هذه النواحي، ودخل أسلافه في ركاب الخلفاء الفاطميين إلى مصر حين فتحوها، وكان شعلة ذكاء وحفظ للآداب وأصناف المعارف، واجتمع بالمعرّي وهو صغير بحلب، فانعقدت بينهما ألفة متينة تستشفّ مما تراسلا به بعد الفراق، وحسبك شهادة المعرّي دليلًا على مكانته في العلم والأدب، وقد غمض الكثير من تاريخه وتاريخ أوليته بغموض تاريخ الفاطميين. وكثيرًا ما أذكر هذا الرجل فأذكر بذكره أبا علي الملياني، أحد كتّاب الدولة المرينية وأصله من مليانة، فقد كان يشبه الوزير المغربي في الطموح إلى العلا وفي الاستبداد وركوب العظائم، نوّه به ابن الخطيب في كثير من كتبه ووصفه في كتابه

"التاج المحلى" بقوله: الكاتب الباتك والصارم الفاتك، ثم ذكر من أفعاله الدالّة على بعد همّته مكيدة كادها لبعض أعدائه، وفتكة فتكها بهم ظهر فيها دهاؤه وإقدامه، واشتهر بها تاريخ حياته وقال في آخر الترجمة: وتركها شنعاء على الأيام وعارًا في الأقاليم على حَمَلَة الأقلام. هذا ما جرى به القلم مما جر إليه ذكر الضبّ الذي أهديتموه لولدي الصغير، فأحسنتم بذلك إلى شيخ كبير، فقد تذكّر بسببكم بعض ما كان ناسيًا، وأبى إلا أن يشكر إحسانكم بكتابة هذا القدر إليكم عسى أن تستفيدوا منه فائدة، فيكون جزاء على تسبّبكم في الخير، ولو كان هذا لِحَدَثانِ في المطالعات الواسعة أو في وقت الحداثة وامتلاء الحافظة، لكانت هذه الرسالة مزاحمة لرسائل القدماء في الإحاطة وجمع الأطراف. ولكن عذري عندكم وعند من يطّلع على هذه الرسالة فيجد فيها قصورًا أو وضعًا لبعض الأسماء في غير موضعها أنني أمليتها في ليلة، وما أملاها إلا فكر كليل عن حافظة مختلّة نسيت أكثر ما وعت وضيّعت كثيرًا مما استودعت، مع اضطراب الحال واشتغال البال، وعسى أن تكون هذه الرسالة تذكرة بالحال الذي كتبت فيه والبلدة التي صدرت عنها والزمان الذي أنشئت فيه؟

مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة

مقامة في رثاء الإمام ابن باديس مناجاة مبتورة لدواعي الضّرورة* تقديم محمد الغسيري ــــــــــــــــــــــــــــــ الوفاء قليل في البشر، وأوفى الأوفياء من يفي للأموات، لأن النسيان غالبًا ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم. وما رأينا في حياتنا رفيقين جمع بينهما العلمُ والعمل في الحياة، وجمع بينهما الوفاء حين استأثر الموت بأحدهما، مثلما رأينا إمامي النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، رحمَ الله الميت، ومدّ في عمر الحي حتى يحقق للجزائر أمنيتها. من أعلى ما امتاز به أستاذنا الجليل، ورئيسنا الأكبر، محمد البشير الإبراهيمي من شرف الخلال (نكرانُ الذات) فهو لا يزال يعمل الأعمال التي تعجز عنها الجماعات وتنوءُ بها العصَب، وهو مع ذلك لا ينسب الفضل إلا لإخوانه ورفقائه الأموات والأحياء. يصرّح بذلك في خطبه الدينية، ومحاضراته الجامعة، ويقول: إن كل فضل في هذه الحركة العلمية النامية يرجع إلى جمعية العلماء، وإنه لولا جمعية العلماء لما كان هو. ونحن أبناؤه نشهد، وإخوانه يشهدون أنه لولا علمه ولسانه وصبره وتأثيره الذي يشبه السحر، لما كانت جمعية العلماء، ولولا براعته في التصريف والتسيير لما سار لجمعية العلماء شراع في هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن. ... مات ابنُ باديس، في حين كان رفيقه، في الجهاد وقسيمه في العلم والعمل محمد البشير الإبراهيمي منفيًّا في قرية "آفلو" من الجنوب الوهراني، بحيث لم يحضر دفنه، ولم

_ " نُشرت في العدد 76 من جريدة "البصائر"، 18 أفريل 1949م، وقد كتبت في أفريل 1941م.

يؤبّنه بكلمة، فعوّض ذلك برسائل تعزية كتبها إلى إخوانه بثَّ فيها حزنه للمصيبة، وصوّر فيها آثارها، ولم تنسه الفجيعة ما يجب من النصائح بالثبات، واستمرار السير، فجاءت رسائلَ من ذلك الطراز الساحر الذي لا يحسنه إلا الإبراهيمي، ولا أدري أيحتفظ إخواني بتلك الرسائل الفنية أم ضيّعوها؟! ولما مضت على موت الأستاذ سنة، ورفيقه لا يزال في المنفى، أرسل الرَّئِيسُ الجليل من منفاه هذه المقامة إلى مقيمي الذكرى الأولى لابن باديس وتلاها في حفل مختصر كاتب هذه الكلمة، فأبكت العيون، وجدّدت الأسى. رغبنا إلى أستاذنا أن ننشر هذه المقامة في ذكرى هذه السنة، إذْ كان عاجزًا عن كتابة كلمة خاصة بها لمرضه واشتغاله، فأذن- أبقاه الله- بعد امتناع لأن أستاذنا- حفظه الله- لا يرى السجعَ معبّرًا عن النوازع العميقة، وإن كان هو، إمامَ العصر بلا منازع في هذه الطريقة الأندلسية البديعة التي لا يحسنها إلا من جمع بين الطبع والصنعة، وملك أزمة اللغة والغريب ... وحلّت في الأخير رغبتنا منه محل القبول، حرصًا على هذه المقامة أن تضيع إن لم تسجّل، وكم من نفائس مثل هذه المقامة، وكم من رسائل، وكم من تحف فنية من أدب الهزل والنكتة، وكم من ملاحم شعرية، بلغت الآلاف من الأبيات! ما زالت مطمورة في أوراق الأستاذ، وفي حافظته العجيبة، وإذا لم يحرص أمثالنا من تلامدة الأستاذ على استخراجها ونشرها ضاعت، وخسر الأدب والعلم خسارة لا تعوّض، وها هي ذي المقامة الباديسية، وننبِّه إلى أن الأستاذ حذف منها كثيرًا مما لا تسمح الظروف بنشره. تلمسان محمد الغسيري ... سلام يتنفس عنه الأقاح بإزهاره وايراقه، ويتبسم عنه الصباح بنوره وإشراقه. وثناءٌ يتوهج به من عنبر الشجر عبيره، ويتبلج به من بدر التمام، على الركب الخابط في الظلام، منيره. وصلوات من الله طهورها الروح والريحان، وأركانها النعيم والرضوان. وتحيات زكيات تتنزل بها- من الملإ الأعلى- الملائكة والروح، ونفحات ذكيات تغدو بها رسل الرحمة وتروح، وخيرات مباركات يصدّق برهانُ الحق قولها الشارحَ بفعلها المشروح.

وسلام من أصحاب اليمين، وغيوث من صوادق الوعود، لا صوادق الرعود، لا تخلف ولا تمين. وسحائب من الرحمات تنهل سواكبها، وكتائب من المبشرات تزجى مواكبها. وسوافح من العبرات تنحلّ عزاليها، ولوافح من الزفرات تسابق أواخرها أواليها. على الجدث الذي التأمتْ حافتاه على العلم الجم والفضل العد، ووارَى ترابه جواهر الحجا والذكاء والعزم والجد، وطوَى البحر الزخار في عدة أشبار، فأوقف ما لا حدّ له عند حد، واستأثر بالفضائل الغزْر، والمساعي الغرّ، والخلال الزهر، فلم يكن له في الأجداث ند، وأصبح من بينها المفردَ العلم كما كان صاحبه في الرجال العلمَ الفرد. وسلام على مشاهدَ كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت ظلال رعايته وتعهّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر، ونوره الزاهر، مغمورة، وعلى جمعيات كان شملها بوجوده مجموعًا، وكان صوته الجهير، كصوت الحق الشهير، مدوّيًا في جنباتها مسموعًا. مشاهد كان يراوحها للخير والنفع، وكانت آفاقها بأنواره مسفرة. ومعاهد كان حادي زُمَرها إلى العلم، وهادي نُزَّاعها إلى الإحسان والسلم، فأصبحت بعده مقفرة. ومدارس، ما مدارس، مهدها للعلم والإصلاح مغارس، ونصبها في نحور المبطلين حصونًا ومتارس، وشيّدها للحق والفضيلة مرابطَ ومحارس. وسلام على شيخه الذي غذّى وربّى، وأجاب داعيَ العلم فيه ولبّى، وآثر في توجيهه خير الإسلام، فقلّد الإسلام منه صارمًا عضبًا، وفجّر منه للمسلمين معينًا عذبًا، فلئن ضايقته الأيامُ في حدود عمره. فقد أبقت له منه الصيت العريض، والذكر المستفيض، ولئن سلبته الحلية الفانية فقد أَلْبستْه من مآثره حُلل التاريخ الضافية، ولئن أذاقتْه مرارة فقده، فقد متّعته بقلوب أمّة كاملة من بعده، ولئن حرمته لذة ساعات معدودة، فقد أسعدته به سعادةً غير محدودة. وسلام على إخوان كانوا زينة ناديه، وبشاشةَ واديه، وكانوا عمَّار سامره، والطيبَ المتضوع من مجامره، والجوارحَ الماضيةَ في تنفيذ أوامره. وسلام على أعوان كانوا معه بناة الصرح، وحماة السرح، وكانوا سيوف الحق التي بها يصول، وألسنة الصدق التي بها يقول، أبتْ لهم عزة الإسلام أن يضرَعوا أو يذلّوا، وأبتْ لهم هداية القرآن أن يزيغوا عن منهاجه أو يضلّوا، وأهلك العالمَ زللُ العلماء فتقاسموا بشرف

العلم أن لا يزلوا، تشابهت السبل على الناس فاتخذوا سبيل الله سبيلًا، وافترق الناس شيعًا فجعلوا محمدًا وحزبه قبيلًا. ... ولقد أقول على عادة الشعراء- وما أنا بشاعر- لصاحبين من تصوير الخيال أو من تكييف الخَبال، تُمثِّلهما الخواطر تمثيلَ صفاء، وتقيمهما في ذهني تمثالَ وفاء: بكِّرا صاحبي فالنجاح في التبكير، وما على طالب النّجْح بأسبابه من نكير، تنجحا لصاحبكما طِيةً، لا تبلغ إلّا بشد الرحل وتقريب المطية، فقد خُتِمت- كما بُدئت- الأطوار، بدولة الرحال والأكوار، فادفعا بالمهرّية القود، في نحر الوديقة الصيخود، ولا تخشيا لذْع الهواجر، وإن كنتما في شهريْ ناجر، ولا يهولنَّكما بعد الشُّقة، وخيال المشقَّة، ولا الفلَوات يصمّ صداها، ويقصر الطرف عن مداها، ولا السراب يترجرج رقراقُه، ويخدع الظامئ المحرور مُراقه. سيرا- على اسم الله- في نهار ضاح، وفضاء منساح، ضاحك الأسرة وضّاح، وتخلّلا الأحياءَ فستجدان لاسم من تنتجعانه ذكرًا ذائعًا في الأفواه، وثناءً شائعًا على الشفاه، وأثرًا أزكى نماءً وأبقى بركةً على الأرض من أثر الغمام المنهل، فإذا مسّكما الملال، أو غشّى مطيّكما الكلال فاحدوا بذكراه ينبعث النشاط، وينتشر الاغتباط، وتغْنيا بها عن حمل الزاد، وملء المزاد، وتأمنا غوْل الغوائل، من أفناء دراج ونائل (1). سيرا- روحي فداؤكما من رضيعيْ همة، وسليليْ منجبة من هذه الأمّة- حتى تدفعا في مسي خامس، له يوم الترحل خامس، إلى الوادي الذي طرّز جوانبه آذار، وخلع عليه الصانع البديع، من حَلْي الترصيع، وحلل التفويف والتوشيع، ما تاه به على الأودية فخلع العذار. وأتِيا العُدوة الدنيا فثمَّ المنتجعَ والمرَاد، وثمّ المطلب والمراد، وثمّ محلة الصدق التي لا يصدر عنها الوُرّاد، وثمّ مناخ المطايا على حُلّال الحق، وجيرة الصدق، وعشراء الخلود، الذين محا الموت ما بينهم من حدود، اهتفا فيها بسكان المقابر عني: ما للمقابر لا تُجيب الداعي … أوَ ما استقلَّت بالسميع الواعي

_ 1) أولاد دراج، مجموعة قبائل ترجع أصولها إلى هلال بن عامر جد القبائل العربية التي أغارت على شمال أفريقيا، فخربوا، ولكنهم عربوا، ومواطن أولاد دراج إلى الآن هي ما بين المسيلة (المحمدية) وطُبْنة من مقاطعة قسنطينة، وأولاد نائل مثلهم ولكنهم أكثر منهم عددًا، ومواطنهم تتصل بمواطن إخوانهم أولاد دراج ولكنها تتسع في مقاطعة الجزائر، ولا تزال المخايل والسمات العربية ظاهرة في هذه القبائل.

وخصّا القبر الذي تضمّن الواعيَ السميع، والواحدَ الذي بذّ الجميع، فقولا له عني: يا قبر، عزَّ على دفينك الصبر، وتعاصى كسرُ القلوب الحزينة على من فيك أن يُقابَل بالجبر، ورجع الجدال، إلى الاعتدال، بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر. يا قبر، ما أقدر الله أن يطويَ عَلمًا ملأ الدنيا في شبر! يا قبر، ما عهدنا قبلك رمسًا، وارَى شمسًا، ولا مساحة، تكال بأصابع الراحة، ثم تلتهم فلكًا دائرًا، وتحبس كوكبًا سائرًا. يا قبر، قد فصل بيننا وبينك خطّ التواء، لا خطّ استواء، فالقريب منك والبعيد على السواء. يا قبر، أتدري من حويت؟ وعلى أي الجواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمّة، في رُمّة، وعلى عالم في واحد. يا قبر، أيدري من خطّك، وقارب شطّك، أيّ بحر ستضُم حافتاك؟ وأيّ معدن ستزن كفتاك؟ وأيّ ضرغامة غاب ستحتبل كفتاك؟ وأيّ شيخ كشيخك وأيّ فتى كفتاك؟ فويح الحافرين ماذا أودعوا فيك حين أودعوا؟ وويحَ المشيّعين من ذا شيّعوا إليك يوم شيّعوا؟ ومن ذا ودّعوا منك إذ ودّعوا؟ إنهم لا يدرون أنهم أودعوا بنَّاء أجيال في حفرة، وودّعوا عامر أعمال بقفرة، وشيّعوا خدن أسفار، وطليعة استنفار، إلى آخر سفرة. يا قبر، لا نستسقي لك كل وطفاء سكوب، تهمي على تربتك الزكية وتصوب، ولا نستدعي لترويض ثراك المثقلات الدوالح، والغوادي والروائح، ولا نحذو في الدعاء لك حذو الشريف الرضي، فنستعير للنبت جنينًا ترضعه المراضع، من السحب الهوامع، تلك أودية هامت فيها أخيلة الشعراء، فنبذتهم بالعراء، وزاغوا بها عن أدب الإسلام ومنهاجه، وراغوا عن طينته ومزاجه. بل تلك بقية من بقايا الجهل، ما أنت ولا صاحبك لها بأهل. ... قولا لصاحب القبر عني: يا ساكنَ الضريح، نجوى نضو طليح، صادرة عن جفن قريح، وخافق بين الضلوع جريح، يتأوبه في كل لحظة خيالك وذكراك، فيحملان إليه على أجنحة الخيال من مسراك، اللهب والريح، وتؤدّي عنهما شؤونه المنسربة، وشجونه الملتهبة، وعليهما شهادة التجريح. إن من تركت وراك، لم يحمد الكرى فهل حمدت كراك؟ وهيهات، ما عان كمستريح! يا ساكن الضريح، أأكني؟ أم أنت كعهدي بك تؤثر التصريح؟ إن بُعدك، أتعب من بَعدك. لقد كانوا يلوذون من حياتك الحية بكنف حماية، ويستذرون من كفاءتك للمهمات

بحصن كفاية، ويستدفعون العظائم منك بعظيم، وأيم الله لقد تلفتت بعدك الأعناق واشرأبت، وماجت الجموع واتلأبت، تبحث عن إمام لصفوف الأمّة، يملأ الفراغ ويسد الثلمة، فما عادت إلا بالخيبة، وصفر العيبة. يا ساكنَ الضريح، مت فمات اللسان القوّال، والعزم الصوّال، والفكر الجوّال، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد، ويتطاير عليه شرر الحقد، ولكن لم يمت الإسم الذي كانت تقعقع به البرد، وتتحلّى به القوافي الشرُد، ولا الذكر الذي كانت تطنطن به الأنباء، وتتجاوب به الأصداء، ولا الجلال الذي كانت تعنو له الرقاب، وتنخفض لمجلاه العقاب، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان. مات الرسم، وبقي الإسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم. وعزاء فيك لأمّة أردت رشادَها، وأصلحت فسادَها، ونفقت كسادَها، وقوّمت منآدها، وملكتَ بالاستحقاق قيادَها، وأحسنتَ تهيئتها للخير وإعدادَها، وحملتها على المنهج الواضح، والعلمَ اللائح، حتى أبلغتها سدادَها، وبنيت عقائدها في الدين والحياة على صخرة الحق، ومثلك مَن بنى العقائد وشادها، أعليت اسمها بالعلم والتعليم، وصيّرت ذكرها محل تكريم وتعظيم، وأشربتها معاني الخير والرحمة والمحبة والصدق والإحسان والفضيلة فكنت لها نعم الراحم وكنت بها البر الرحيم. ولقد حييتَ فما كانت لفضلك جاحدة، ومتّ فما خَيَّبتْ من آمالك إلا واحدة (2). وهنيئًا لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تستكفيهم، وتضعُ ثقتك الغاليةَ فيهم، من إخوانك العلماء العاملين، الصالحين المصلحين. فهم- كعهدك بهم- رُعاة لعهد الله في دينه، وفي كتابه، وفي سنّة نبيّه، دعاةٌ إلى الحق بين عباده، يلقَوْن في سبيله القذى كحلا، والأذى من العسل أحلى. وسلام عليك في الأوّلين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في العلماء العاملين، وسلام عليك في الحكماء الربّانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين. آفلو (3)، 22 ربيع الأول 1360هـ/ 9 أفريل 1941.

_ 2) هي القيام بثورة جارفة تكتسح الاستعمار الفرنسي، وتنتزع بها منه حريتها واستقلالها، فهذه هي الأمنية التي كنا نتناجى بها ونعمل لتصحيح أصولها، وقد حقّقت الأمّة الجزائرية الماجدة هذه الأمنية بعد نحو أربع عشرة سنة على أكمل وجه. 3) آفلو: قرية نائية في جبل العمور من الجنوب الوهراني، وهذه القرية هي التي اختارتها السلطة العسكرية الفرنسية منفى لكاتب هذه الكلمات في أول الحرب العالمية الثانية قضى فيها ثلاث سنوات.

رواية الثلاثة

رواية الثّلاثة* هَذِهِ -أَكْرَمَكَ اللَّهُ- رِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ أُرْجُوزَةٌ أَكْثَرُهَا ((لُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ)) تُمَثِّلُ حَالَةَ ثَلآثَةٍ مِنَ الْأَسَاتِذَةِ، لَا يُدْفَعُونَ عَنْ فَضْلٍ وَلآ أَدَبٍ وَلآ ذَكَاءٍ وَمَا فِيهِمْ إِلَّا بَعِيدُ الْأَثَرِ فِي الْحَرَكَةِ الْإِصْلآحِيَّةِ، وَاسِعُ الخُطَى فِي مَيْدَانِ تَعْلِيمِ النَّاشِئَةِ وَتَرْبِيَّتِهَا. وَكَانَ لَهُمْ شَيْخٌ يُقَارِضُونَهُ بِرًّا بِبِرٍّ، وَتَكْرِمَةً بِتَكْرِمَةٍ، وَكانَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ يَأْبُوهُمْ وَيَحْبُوهُمْ (1)، وَكَانَتْ لَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةٌ خَاصَّةٌ، يُعَامِلُهُمْ بِحَسَبِهَا حَنَانًا وَلُطْفًا وَتَثْقِيفًا، وَكَانُوا يَعُدُّونَ أَيَّامَ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِ- وَهِيَ قَلِيلَةٌ - غُرَرَ أَعْمَارِهِمْ يَتَسَبَّبُونَ لَهَا الْأَسْبَابَ، لِمَا يُفِيضُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَرائِفِ الْأَدَبِ، وَلَطَائِفِ الْحِكْمَةِ وَيُطَايِبُهُمْ بِهِ مِنْ بَارِعِ الُّكَتِ، وَمُلَحِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَفَاكِيهِ، وَغَرَائِبِ اللُّغَةِ وَالْأَخْبَارِ، فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفونَ فِي تَرْجِيحِ وَزْنِهِ فِي الْمَوَازِينِ وَالْمُغَالَاةِ بِقِيمَتِهِ إِلَى أَبْعَدِ الْغَايَاتِ. ثُمَّ طَرَقَ الدَّهْرُ بِحَادِثٍ حَالَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا رَسائِلَ تَنْفُضُ عَلَيْها القاوبُ مَا تُكِنُّ، وَتُودِعُهَا النُّفُوسُ والْعَوَاطِفُ مَا تُجِنُّ (2)، فَكَانَ الظَّنُّ بِالثَّلَاثَةِ، أَنَّهُمْ يُجَلُّونَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ، وَيَسْبِقُونَ جَمِيعَ النَّاسِ فِيهِ. وَلَكِنَّهُمْ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ نَسُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ التُّرَابِ دَسُّوهُ، وَقَطَعُوا حَبْلَ الاِتِّصَالِ الْكِتَابِي بِهِ الْبتَّةَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ الشَّيْخِ، أَوْ أَلْقَى هُوَ عَلَى لِسَانِ الشَّيْطَانِ، هَذِهِ الْأُرْجُوزَةَ الطَّوِيلَةَ، وَنَحَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ فُصُولٍ وَمَعَانٍ فِي صُوَرِ مَجَالِسَ، يَتَجاذَبُونَ

_ * آفلو، 1941م. 1) يأْبُوهُم: يُعاملهم معاملةَ الأبِ لأبنائه. يَحْبُوهم: يُعطيهم. 2) تُكِنُّ: تستر. تُجِنُّ: تُخفى.

فِيهَا أَطْرَافَ الْحَدِيثِ عَنْ هَذِهِ الزَّلَّةِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا، فَرَادٌّ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَسَائِلٌ وَمُجِيبٌ وَهَاجِمٌ وَدَافِعٌ، وَبَانٍ وَهَادِمٌ، وَتَنْعَقِدُ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُنَاسَبَاتٌ وَأَشْبَاهُ مُنَاسَبَاتٍ، فَتَتَوَالَدُ مِنْ بَيْنِهَا أَغْرَاضٌ فِي الْأَدَبِ، وَمَنَاحٍ فَي النَّقْدِ وَخَبَايَا الْأَنْفُسِ وَالطَّبَائِعِ، وَقَدْ أَلْبَسَ الشَّيْخُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لَبُوسًا خَاصًا فِي كُلِّ مَا نَحَلَهُ مِنْ قَولٍ، وَسَلَكَ بِهِ مَسْلَكًا خَاصًّا لَمْ يَحِدْ عَنْهُ عَلَى طُولِ الرِّوَايَةِ. نَظَمَ الشَّيْخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَتَخَيَّلَ مَعَانِيَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُتَضَارِبةٍ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ وَالْمَلَلُ أَلْزَمَ صِفَاتِهَا، فَجَعَلَهَا مِذَبَّةً لِلْوَحْشَةِ، وَمَجْلَبَةً لِلْأُنْسِ وَأَدَاةً لِلتَّسْلِيَةِ. الثَّلَاثَةُ هُمْ: الشَّيْخُ السَّعِيدُ بْنُ حَافِظٍ مُدِيرُ مَدْرَسَةِ التَّرْبِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ الحُرَّةِ بِقَسَنْطِينَةَ، وَالْأُسْتَاذَانِ: عَبْدُ الْحَفِيظِ الْجَنَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَابِدِ (الجَلَّالِي)، الْمُعَلِّمَانِ بِهَا، وَشَيْخُهُمْ هُوَ مُؤَلِّفُ الرِّوَايَةِ. كَانَتِ الْفِكْرَةُ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِانْقِطَاعِ الثَّلَاثَةِ وَجَفَائِهِمْ لِلشَّيْخِ إِلَّا الْفَرَنْكُ، أَعْنَي قِيمَةَ طَابَعِ الْبَرِيدِ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ إِلَيهِ، وَهُوَ لَا يَطْمَعُ مِنْهُمْ فَي أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ، وَهُوَ فِي مِحْنَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا أَحْوَجُ إلَى الْمُقَوِّيَاتِ الرُّوحِيَّةِ مِنْهُ إِلَى الْمُقَوِّمَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَكَانَ يَبْلُغُهُ عَنْهُمْ مَا يَعْتَقِدُهُ فِيهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ- وَهُمْ بِحُكْمِ وَظِيفَتِهِمْ مُجْتَمِعُونَ دَائِمًا- الْحَدِيثَ عَنْهُ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ، وَيَضِيقُونَ ذَرْعًا بِالرِّسَالَةِ مِنْهُ يَأْتِي لِغَيْرِهِمْ. وَلَكِنَّهُمْ إِذَا حُدِّثُوا بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ، أَوْ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، جَمَدَتِ الْعَوَاطِفُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّ الرِّيقُ، وَانْتَصَبَ خَيَالُ الْفَرَنْكِ اللَّعِينِ، فَقَضِى عَلِى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ تَأَلُّمًا نَفْسَانِيًّا، وَتَخِزُهُمْ ضَمَائِرُهُمْ، وَلَكِنْ شَبَحُ الْفَرَنْكِ يَمْسَحُ كُلَّ ذَلِكَ مَسْحَةَ السُّلُوِّ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ كَاتِبٌ، فَلَا تُعْطِي عَمَلِيَّةُ السَّبْرِ عِنْدَ الْاُصُولِيِّينَ إِلَّا عِلَّةً وَاحِدَةً لِهَذَا الْجَفَاءِ وَهَذَا الْجَفَافِ، وَهِيَ (الْفَرَنْكُ)، وَيَطُولُ الْأَمَدُ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُحِسُّ بِلُصُوقِ هَذَا الْعَارِ، وَقُبْحِ أَثَرِهِ، هُوَ الْمُدِيرُ، وَيَرَى أَنَّ الْعَارَ لَحِقَ الثَّلَاثَةَ مُشْتَرِكِينَ، فَيَجِبُ أَنْ يَغْسِلُوهُ مُشْتَرِكيِنَ، وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا وَمَا زَالُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ أَمْرينِ: حُبِّ الشَّيْخِ، وَحُبِّ الْفَرَنْكِ، فَلْيَجْتَمِعُوا لِيُرَجِّحُوا أَحَدَ الْحُبَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَيَكْتُبُ اسْتِدْعَاءً إِلَى رَفِيقَيْهِ لِلْحُضُورِ وَالْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ الْخَطِيرِ. وَفِي هَذَا الاِسْتِدْعَاءِ مَخَايِلُ مِنْ تَنَطُّعِ الْإِدَارِيِّينَ وَغَطْرَسَةِ الْمُدِيرِينَ وَسَخَافَةِ الْمُعَلِّمِينَ وَيَصِلُ الاِسْتِدْعَاءُ إِلَى الرَّفِيقَيْنِ مُجْمَلًا، لَا بَيَانَ فِيهِ لِغَرَضٍ، إِلَّا تَهْوِيلًا وَتَطْوِيلًا فَأَلْهَمَهُمَا سِرُّ الْفَرَنْكِ، أَنَّ فِي هَذَا الْجَمْعِ شَرًا سَيَذْهَبُ بِفَرَنْكٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ بِأَبْعَاضِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَهُمْ يَحْفَظُونَ مِنْ تَفَارِيقِ الْأَدَبِ قَوْلَ الْأَعْرَابِي لِابْنَتِهِ: (الدِّرْهَمُ عُشُرُ الْعَشَرَةِ، وَالْعَشْرَةُ عُشُرُ الْمِائَةِ، وَالْمِائَةُ عُشُرُ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفُ عُشُرُ دِيَتِكِ)، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمَا عَلَى طُولِ الرِّوَايَةِ حَذِرَيْنِ

يَقِظَيْنِ لِمَكَايِدِ الْمُدِيرِ يُوجِسَانِ خِيفَةً مِنْ عَرْضِ الْمَقْصُودِ، وخُصُوصًا ابْنَ الْعَابِدِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِرَفِيقَيْهِ مِنْ بَابِ إِلَى بَابٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَسْتَطْرِدُ لِيَبْعُدَ بِالْجَلْسَةِ عَمَّا عُقِدَتْ لِأَجْلِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرٌ مِنْهُ، وَغَطْرَسَةٌ وَشَيْطَنَةٌ، وَهُرُوبٌ مِمَّا كَانَ يَتَخَيَّلُهُ مِنَ الشَّرِّ وَمَا الشَّرُّ عِنْدَهُ إِلَّا مَا عَلِمْتَ. عَقَدُوا الْجَلْسَةَ الْأُولَى، وَخَطَبَ الرَّئِيسُ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ بِصِفَةِ الْبَشِيرِ، لِيُنَبِّهَ الْجَمَاعَةَ إِلَى مَا يُقّرِبُهُمْ مِنَ الْحَقِيقَةِ بَرَاعَةَ اسْتِهْلَالٍ، كَمَا يَرْكَبُهَا النَّظَّامُونَ لِلْمُتُونِ، وَكَمَا يُسَمُّونَهَا، فَجَرَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ إِلَى كَلِمَاتٍ، وَجَاءَتْ مُشْكِلَةُ رِئَاسَةِ الْجَلْسَةِ، فَاحْتَلَّتْ مَكَانَ الْمُشْكِلَةِ (3)، وَتَبارَى الْأُسْتَاذَانِ فِي الْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ لِلْكَلَامِ، حَتَّى انْتَهَتِ الْجَلْسَةُ الْأُولَى "الطَّوِيَلةُ" بِحَلِّ الْمُشْكِلَةِ الْفَرْعِيَّةِ وَاتَّفَقُوا- بَعْدَ مُحَاوَرَاتٍ وَمُدَاوَرَاتٍ - عَلَى رِئَاسَةِ "الْمُدِيرِ". وَجَاءَتِ الْجَلْسَةُ الثَّانِيَّةُ، وَالرَّئِيسُ يَحْمِلُ إِحْسَاسًا قَوِيًّا، بِأَنَّهُ لَاقٍ، وَلَا بُدَّ- دُونَ الوُصُولِ إِلَى عَرْضِ الْمَقْصُودِ- عَقَبَاتٍ مِنَ اسْتِطْرَادَاتِ ابْنِ العَابِدِ وَافْتِتانِهِ فِي النَّقْدِ وَالْهُجُومِ وَالْخُرُوجِ. وَأَنَّهُ لَاقٍ أَكْبَرَ مِنْهُمَا، إِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى الْمَقْصُودِ وَعَرَضَ الْقَضِيَّةَ، وَوَقَفَتْ مُشْكِلَةُ الفَرَنْكِ فِي الطَّرِيقِ، وَانْتَهَوْا فِي حَلِّهَا إِلَى طَرْقِ حِمَاهُ (4)، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الإِنْصَافَ الكَامِلَ يقْتَضِيهِمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوهُ أَثْلَاثًا، وَلَكِنَّ الْفَرَنْكَ الْمَلْعُونَ لَا يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةٍ انْقِسَامًا صَحِيحًا، فَمَنْ ذَا يَدْفَعُ الْكُسُورَ "الصَّانْتِيمَاتِ"؟ وَهَذِهِ مُشْكِلَةٌ عَلَى حِدَةٍ. وَالْإِنْصَافُ النَّاقِصُ يَقْتَضِي أَنْ يَدْفَعَ الفَرَنْكَ ابْنُ الْعَابِدِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ أَعْزَبُ، وَهُمَا مُتَأَهِّلَانِ وَلَهُمَا أَطْفالٌ، وَكَانَ الرَّئِيسُ نَفْسُهُ يَتَمَنَّى الْحَلَّ الثَّانِي، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّانَ لَا يُوَافِقُ بِسُهُولَةٍ عَلَى الْحَلِّ الْأَوَّلِ، بِمَا فِيهِ مِنْ مُشْكِلَةِ الْكُسُورِ، وَأَنَّ ابْنَ الْعَابِدِ لَا يُوَافِقُ عَلَى الْحَلِّ الثَّانِي، فَلْيَلْتَجِئْ إِلَى الْحِلِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْإِنْصَافُ الْكَامِلُ، وَتَقُومُ مُشْكِلَةُ الْكُسُورِ. لِذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ الْجَلْسَةِ مَسْأَلَةُ "الْصَّوْتَيْنِ" لِلرَّئِيسِ، وَجَعَلَهَا فِي مُقَدِّمَةِ الْأَعْمَالِ، وَانْتَقَلَ مِنْهَا بَعْدَ مَعَاسَرَةِ الْجَمَاعَةِ لَهُ فِيهَا إِلَى أُخْرَى وَهِيَ زِيَادَةُ عُضْوٍ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الرَّفِيقَيْنِ، لِيَتَغَلَّبَ رَأْيَهُ عَلَى رَأْيِهِمَا فِي الْخِلَافِ، وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الْحَلِّ الْأَوَّلِ كَانَ الْعُضْوُ الرَّابِعُ مُصَحِّحًا لِلِقِسْمَةِ، وَمُزِيلًا لِمُشْكِلَةِ الْكُسُورِ، لِأَنَّ الفَرَنْكَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ انْقِسَامًا صَحِيحًا. وَقَدْ عَاسَرَهُ الرَّفِيقَانِ (وَخُصُوصًا ابْنُ الْعَابِدِ) فِي مَسْأَلَةِ الصَّوْتَيْنِ، وَزِيَادَةِ العُضْوِ، مُعَاسَرَةً شَدِيدَةً، فَاحْتَالَ عَلَى عَوَاطِفِهِ بِقَصِيدَةٍ قَافِيَةٍ، بَلِيغَةِ الْمَعَانِي، تُؤَثِّرُ عَلَى الْأُدَبَاءِ، أَمْثَالِ ابْنِ الْعَابِدِ، فَلَانَ بَعْدَهَا وَمَالَ إِلَى الْمُيَاسَرَةِ.

_ 3) فاحتلّت مكانَ المشكلة: يريد بها المشكلة الأصلية وهي مشكلة فَرنْكِ الْمُكَاتبةِ. 4) ضَمِيرُ حِمَاهُ يَعُودُ عَلَى الفرنكِ.

وَانْتَهَتْ مَسْأَلَةُ الْعُضْوِ بِمُوَافَقَةٍ تَامَّةٍ بِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقَصِيدَةُ، وَالثَّانِي إِعْلَانُ الرَّئِيسِ لِاسْمِ الْعُضْوِ الْمَزِيدِ، وَاسْمُهُ مَحْبُوبٌ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَقَدْ تَوَسَّمَ الْخَيْرَ فِي ابْنِ الْعَابِدِ، وَطَالَتِ الْجَلْسَةُ، وَتَعَدَّدَتْ مَشَاهِدُهَا، وَضَاقَ ذَرْعُ الْجِنَّانِ بِهَذَا التَّطْوِيِلِ، فَثَارَ ثَائِرَهُ، وَأَسْمَعَ الرَّفِيقَيْنِ قَوَارِصَ التَّأْنِيبِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَلِّهِ، فَقَدْ بَقِيَ الْمَوْضُوعُ سِرًا مَطْوِيًّا فِي صَدْرِ الرَّئِيسِ، يُرِيدُ أَنْ لَا يُفْشِيَهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْعُضْوُ الْجَدِيدُ. وَبَعْدَ انْتِهَاءِ الْجَلْسَةِ، وَتَقْرِيرِ التَّالِيَةِ فِي الْغَدِ، كَتَبَ الرَّئِيسُ اسْتِدْعَاءً مُطَوَّلًا إِلَى الْأُسْتَاذِ بُوشْمَال، وَهُوَ الْعُضْوُ الْجَدِيدُ، يَدْعُوهُ إِلَى الْحُضُورِ فِي الْجَلْسَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَبُثُّ شَكْوَاهُ الْمُرَّةَ مِنْ رَفِيقَيْهِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالْقَصْدِ مِنَ الاِجْتِمَاعِ، بَلْ طَوَى السِّرَّ عَنْهُ كَمَا طَوَاهُ عَنْ رَفِيقَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ. جَاءَتِ الْجَلْسَةُ الثَّالِثَةُ، وَحَضَرَ أَبُو شِمَالِ، وَفِيهَا كَشَفَ الرَّئِيسُ الْغِطَاءَ عَنِ الْحَقِيقَةِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَتَمْهِيدٍ بَلِيغٍ، فَشَرَحَهَا الرَّئِيسُ، وَسَلَّمَهَا الْجَمَاعَةَ، وَاعْتَرَفُوا بِالْمُشْكِلَةِ وَالدَّاءِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْحِلِّ وَالدَّوَاءِ، جَاءَ الفَرَنْكُ، وَقَعَدَ فِي السَّاقِيَةِ. وَهُنَا يَشْتَدُّ الْخِلَافُ، وَتَحْتَدُّ الْمُنَاقَشَةُ، وَتَقُومُ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ وَتُعْرَضُ الْحُلُولُ، فَيَكُونُ بوَشْمَالَ مِنْ أَنْصَارِ الْحَلِّ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا يَقُولُ لِلرَّئِيسِ: أَهْمِسُ في أُذْنِ الرَّئِيسِ هَمْسَهْ … نَقْسِمُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ خَمْسَهْ وَيَكُونُ الرَّئِيسُ وَالْجَنَّانُ مِنْ أَنْصَارِ الْحَلِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى ابْنِ الْعَابِدِ. وَيَنْبَرِي ابْنُ الْعَابِدِ لِنقْضِ هَذَا الْحُكْمِ الْجَائِرِ، وَالدِّفآعِ عَنْ نَفْسِهِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْمَشْهَدُ الْأَخِيرُ، فَيَقِفَ ابْنُ الْعَابِدِ، وَيَرْتَجِلَ ذَلِكَ الْفَصْلَ، فِي الدِّفَاعِ عَنْ فَرَنْكِهِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ سِوَاهُ، وَيَفْتَنَّ فِي وَصْفِهِ وَإِطْرَائِهِ، لِيُبَرِّرَ ضَنَانَتَهُ بِهِ، وَمِنْ أَبْلَغِ مَا يَقُولُ فِيهِ: أَعَزُّ عِنْدِي مِنْ وَحِيدِ أُمِّهِ … كُلُّ الْمُنَى فِي ضَمِّهِ وَشَمِّهِ وَيَخْتِمُ الْفَصْلَ بِنُكْتَةٍ، يُحَتِّمُ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ الاِعْتِرَافَ بِهَا، وَهِيَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلشَّيْخِ ... وَيَصِفُ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ أَبْلغَ وَصْفٍ، لِيَشْرَحَ سَبَبَهَا فَيَقُولُ: وَهَلْ أَتَاكُمْ- وَالْكِذَابُ يُرْدِي- … أَنِّي سَلَلْتُ بُرْدَهُ مِنْ بُرْدِي لِأَنَّهُ قَدْ سَبَّنِي سَبًّا شَنِيعْ … مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كُنْتُ كَالْحِصْنِ الْمَنِيعْ وَنَالَ مِنِّي سَجْعُهُ الْقَبِيحُ … مَا لَمْ يُبِحْهُ فِي الْوَرَى مُبِيحُ

مظاهر الأبطال الثلاثة في الرواية

وَعَدَّنِي مِنْ عُصْبَةِ الْيَهُودِ … وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ شُهُودِي قَدْ قَرَأُوا كِتَابَهُ إِلَيَّا … وَأَثْبَتُوا تَشْنِيعَهُ عَلَيَّا مَظاهر الأبطالِ الثلاثةِ في الرِّوايةِ: بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَظْهَرٌ، ظَهَرَ بِهِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِفِ الرِّوَايَةِ، تَحْقِيقًا لِشَخْصِيَّتِهِ فِيهَا، وَيَسْتَطِيعُ الْمُحَلِّلَ لِلرِّوَايَةِ، أَنْ يَسْتَخْرِجَ مَنَاحِيَ أُخْرَىَ غَيْرَ مَا نَذْكُرُهُ وَإِنَّمَا نَذْكُرُ الْأُصُولَ: 1 - فَالرَّئِيسُ يَظْهَرُ بِمَظْهَرِ الْمُدِيرِ الَّذِي لَمْ تُفَارِقْهُ رُسُومُ الْإِدَارَةِ. 1) الْمُحَافَظَةِ عَلَى تِلْكَ الرُّسُومِ حَتَّى فِي الْمَوَاقِفِ الَّتِي يَجِبُ إِلْغَاؤُهَا فِيهَا.2) الْخَائِفِ الَّذِي لَا يَلْتَمِسُ الْقُوَّةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُهَا مِنْ غَيْرِهِ. 3) السَّيِّئُ الظَّنِّ بِالرَفِيَقِيْنَ يَحْكُمُ عَلَيْهِمَا أَنَّهُمَا يَحْمِلَانِ لَهُ حِقْدًا، وَيَنْطَوِيَانِ لَهُ عَلَى ضَغِينَةٍ، مِمَّا يَحْمِلُهُ الْمُعَلِّمُونَ لِلْمُدِيرِينَ، فَهُوَ يُدَاوِرُهُمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ مُدَاوَرةَ الْكَيْدِ، وَيَسْعَى كُلَّمَا لَاحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا ظَهِيرًا لَهُ عَلَى الْآَخَرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفْلِحْ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْالْتِحَامَ بَيْنَهُمَا شَدِيدٌ وَلِأَنَّهُمَا عَلَى حَذَرٍ دَائِمٍ مِنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَصَغُوهُ فِي الْغَالِبِ لِلْجَنَّانِ. وَالْجَنَّانُ يُبَادِلُهُ بُعْضَ ذَلِكَ إِخْلَاصًا فِي مَحَلِّ الْإِخْلَاصِ، وَمُكَايَدَةً فِي مَحَلِّ الْكَيْدِ. 2 - وَالْأُسْتَاذُ ابْنُ الْعَابِدِ يَظْهَرُ بِمَا يَأْتِي لِجَمَالِهِ: 1) (مُتَوَقِّعٌ لِلشَّرِّ وَالْخَسَارَةِ الْمَالِيَّةِ) مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الاِجْتِمَاعَاتِ. 2) مُعَارِضٌ لِلرَّئِيسِ فِيمَا يَقُولُهُ حَقًا أَوْ بَاطِلًا. 3) بَاذِلٌ جُهْدَهُ فِي إِبْعَادِ هَذِهِ النَّكْبَةِ، وَتَأْخِيرِهَا بِقَدَرِ الْإِمْكَانِ. 4) غَيْرُ وَاثِقٍ بِالْجَنَّانِ إِلَى النِّهَايَةِ، فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى النَّكْبَةِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا. 5) مُوَلِّدٌ لِلْأَعَاجِيبِ مِنَ الْهَنَاتِ الْيَسِيرَةِ. 6) وَاقِفٌ بِالْمِرْصَادِ لِنَقْدِ مَا يَجِبُ نَقْدُهُ، وَقَدْ أَجَادَ فِي الْكَثِيرِ. 3 - وَالْأُسْتَاذُ الْجَنَّانِ يَظْهَرُ فِي الْمَظَاهِرِ الْآتِيَةِ: 1) الْمُسَالَمَةُ وَالْمُلَايَنَةُ إِلَّا فِي مَوَاقِفِ الْجِدِّ. 2) اللَّعِبُ عَلَى حَبْلَيْنِ وَلَوْ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. 3) السَّعْيُ فِي الْإِصْلَاحِ كُلَّمَا تَفَاقَمَ خِلَافٌ. 4) الْمَيْلُ إِلَى الشِّرْعَةِ وَالْحَزْمِ. أسلوب الرواية أَمَّا أُسْلُوبُهَا فَهُوَ سَهْلٌ مُنْسَجِمٌ، مُتَلَاحِمُ النَّسْجِ، مَتِينُ التَّرْكِيبِ، فَصِيحُ الْمُفْرَدَاتِ، لَيْسَ فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَلَا رُكُوبُ الضَّرُورَاتِ، الَّتِي أَلِفَ الرَّاجِزُونَ رُكُوبَهَا، بَرِيءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ

وَالْحَشْوِ الَّذِي أَلِفُوا أَنْ يَخْتِمُوا بِهِ الْأَبْيَاتَ، ضُعْفًا مِنْهُمْ، وَضَيْقَ عَطَنٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَقِصَرَ بَاعٍ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَتَرَاكِيبِهَا، وَفِي أَكْثَرِ أَبْيَاتِهَا "لُزُوُمُ مَا لَا يَلْزَمُ" مِنَ الْتِزَامِ حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي الرَّوِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَقْبُولٌ مُتَمَكِّنٌ. وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّجْنِيسِ، وَكُلُّهَا مِنَ النَّوْعِ الْعَالِي، الْمُتَمَكِّنِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الْبَرِيءِ مِنْ التَّكَلُّفِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ اسْتِرْسَالِ الطَّبْعِ، وَقُوَّةِ الْأَسْرِ، وَرُوحِ الْمَلَكَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَفِيهَا أَبْيَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِمَعَانِيهَا، تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَفِيهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ، الَّتِي لَمْ يَأْلَفِ الْكُتَّابُ وَالشُّعَرَاءُ اسْتِخْدَامَهَا، وَحَبَّذَا لَوْ اسْتَعْمَلُوهَا وَأَكْثَرُوا مِنْهَا، فَإِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي ثَرَاءِ اللُّغَةِ وَتَوْسِيعٌ لَهَا، وَلَيْسَ فِي الْأَرَاجِيزِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي امْتَلَأَتْ بِهَا الدُّنْيَا شَيْءٌ سَهْلٌ مُسْتَسَاغٌ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ أَرَاجِيزِ فُحُولِ الْبَيَانِ، مِثْلُ رَقْمِ الْحُلَلِ لِابْنِ الْخَطِيبِ، وَدُوَلِ الْإِسْلَامِ لِشَوْقِي، وَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا طَاعَ لَهُمُ الزِّجَزَ وَانْقَادَ كَعُلَمَاءِ شَنْقِيطْ، مَعَ السُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ فِي النَّظْمِ، وَمَتَانَة السَّبْكِ. وَبَعْدُ، فَقَدْ دَاعَبْنَا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، ثَلَاثَةَ أَسَاتِذَةٍ، هُمْ لَنَا أَبْنَاءٌ، وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِخْوَةٌ كُلُّهُمْ أُدَبَاءُ، فَعَسَى أَنْ تَكُونَ حَافِزَةً لِهِمَمِهِمْ فِي التَّدْرِيبِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الرَّاقِي مِنَ الْأَدَبِ الْهَزْلِيِّ. وَلَوْ نُظِّمَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي عُصُورِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَدَبِ، لَطَارَتْ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَلَقَّاهَا الرُّوَاةُ وَالنَّقَلَةُ بِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ إِجْلَالٍ. محمد البشير الإبراهيمي

صورة الاستدعاء من المدير

صورة الاستدعاء من المدير إِلَى الْفَتَى عَبْدِ الْحَفِيظِ الْجَنَّانْ … أَدَامَهُ الْمَوْلَى الْحَفِيظُ الْمَنَّانْ مُؤَدِّبِ الصِّبْيَانِ فِي مَدْرَسَتِي … وَحَامِلِ الْأَثْقَالِ مِنْ غَطْرَسَتِي مَسْكَنُهُ فِي زَنْقَةٍ لَا تُعْرَفُ … إِذْ طُمِسَتْ مِنْ جَانِبَيْهَا الْأَحْرُفُ وَوَسْمُهُ إِمْسَاكُ قَرْنِ الثَّوْرِ (5) … فِي يَدِهِ كَنَافِخٍ فِي الصُّورِ وَهَذِهِ عَلَامَةٌ مُنْفَصِلَهْ … تَتْبَعُهَا عَلَامَةٌ مُتَّصِلَهْ ... ثُمَّ إِلَى الشَّيْخِ الْأَدِيبِ الْكَاتِبْ … الْمُرْتَقِي لِأَسْفَلِ الْمَرَاتِبْ الْمُرْتَضَى مُحَمَّدِ بْنِ الْعَابِدْ … لَا زَالَ فِي جُهْدِ الشَّقَا يُكَابِدْ مُفَسِّرِ الْقُرْآنِ لِلْأَطْفَالِ … مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ إِلَى الْأَنْفَالِ مُقَرِّرِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَهْ … وَحَافِظِ الْمَسَائِلِ الْمُكَرَّرَهْ مَقَرُّهُ أَنْ لَيْسَ ذَا مَقَرِّ … يَقِيهِ مِنْ حَرِّ لَظَى وَالْقَرِّ وَوَسْمُهُ الْإِقْعَاءُ فِي مَنَاخِرِهْ … وَفَتْحَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي آخِرِهْ بَعْدَ سَلَامٍ مُحْكَمٍ مَرْبُوطِ … وَقَهْوَةٍ بِالتِّينِ وَالْبَلُّوطِ وَسُكَّرٍ مِنَ الرِّمَالِ مُجْتَلَبْ … وَلَبَنٍ مِنَ الْجِمَالِ مُحْتَلَبْ وَسُفْرَةٍ قَدْ جَمَعَتْ حُبُوبَا … الْفُولَ وَالْخُرْطَانَ وَالْكُبُوبَا وَقِدْرَةٍ قَدْ ضُمِّنَتْ أَخْلَاطَا … اللِّفْتَ وَالتَّرْفَاسَ وَالْبَطَاطَا فِي غُرْفَةٍ تُضَاءُ بِالنُّجُومِ … أَوْ شُرْفَةٍ تُقْذَفُ بِالرُّجُومِ أَرْجُوكُمَا أَنْ تَحْضُرَا سَريعَا … لِتَدْفَعَا خَطْبًا دَهَى مُرِيعَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي اُكَونُ فِيهَا … مُرَفَّهًا فِي عِيشَتِي تَرْفِيهَا فِي يَوْمِ تِسْعٍ مِنْ شُبَاطَ الْمَاضِي … لِأَنَّنِي أَكُونُ فيهِ (فَاضِي) (6) فِي مَكْتَبِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ النَّاسِ … مِنْ أَرْضِ قَجَّالٍ إِلى مَكْنَاسِ فَإِنْ جَهِلْتُمْ فَاسْأَلَا أَيَّ صَبِي … يُرِحْكُمَا مِنَ الْعَنَا وَالتَّعَبِ وَاعْطِيَاهُ خَمْسَةً مَنْقُوبَهْ … وَقَدْ تَفَصَّى قَائِبٌ مِنْ قُوبَهْ حَاشِيَةٌ - والشَّرْطُ أَنْ تَتَّفِقَا … قَبْلَ المَجِيءِ ثُمَّ لَا تَفْتَرِقَا

_ 5) قرن الثَّوْر: يستعمله بعض الناس لوضع مسحوق التبغ الذي يُسْتَنْشَق. 6) فاضي بالفاء وليس بالقاف. في اللسان العامي معناه: مستريح من الشغل.

الجلسة الأولى

وَتَتْبَعَا الْأَوَامِرَ الْمَسْطُورَهْ … هُنَا كَإِبْلٍ فِي الْفَلَا مَقْطُورَهْ لَا تَصْحَبَا الْعِصِيَّ وَالدَّبَابِسَا … وَالْحَجَرَ الصَّلْدَ الثَّقِيلَ الْيَابِسَا وَالْمُوسَ وَالْقَادُومَ وَالْفُؤُوسَا … وَكُلَّ شَيْءٍ يَشْدَخُ الرُّؤُوسَا وَلْتَخْلَعَا نَعْلَيْكُمَا فِي الْخَارِجِ … فِي الْخُطْوَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعَارِجِ وَتَطْرُقَا الْبَابَ الصَّغِيرَ طَرْقَا … طَرْقَ دُهَاةِ الْأَنْكَلِيزِ الشَّرْقَا وَبَسْمِلَا وَكَبِّرَا وَحَوْقِلَا … وَالْتَزِمَا الصَّمْتَ وَلَا (تُشَقْلِلَا) (7) فَإِنْ أَذَنْتُ فَادْخُلَا عَنْ عَجَلِ … وَإِنْ سَكَتُّ فَاذْهَبَا فِي خَجَلِ وَلْتَدْخُلَا بِحَسَبِ الْحُرُوفِ … وَالْمِيمُ قَبْلَ الْعَيْن فِي (الْمَعْرُوفِ) هَذَا وَمَنْ كَانَ طَوِيلَ الْأَنْفِ … فَلْيَتَرَبَّصْ سَاعَةً فِي الْكُنْفِ يَرْتَاضُ بِالتَّنَفُّسِ الْعَمِيقِ … وَيَصِلُ الزَّفيرَ بِالشَّهِيقِ وَهَذِهِ وَرَقَةُ اسْتِدْعَاءِ … كَأَنَّهَا شَهَادَةُ اسْتِرْعَاءِ أَمْضَيْتُهَا مِنْ تَحْتُ لَا مِنْ أَعْلَى … كَمَا لَبِسْتُ فِي الْأَخِيرِ النَّعْلَا (8) وَالْحَقُّ لَا يَحْتَاجُ لِلتَّرْقِيعْ … لَا سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ التَّوْقِيعِ وَلَمْ أُطِلْ خُنْفُسَتِي كَالْحَافِظِي … وَإنَّمَا خُنْفُسَتِي (ابْنُ حَافِظِ) (9) الجلسة الأولى: (مَكْتَبُ الْمُدِيرِ: أَوْرَاقٌ مُبَعْثَرَةٌ، أَقْلَامٌ مُغْبَرَّةٌ، وُصُولَاتٌ مُعَلَّمَةٌ بِالْأَحْمَرِ، الْمُدِيرُ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيِّهِ، الْجَنَّانُ وَاقِفٌ، ابْنُ الْعَابِدِ مْقَعْمزٌ). الْمُدِيرُ: حَمْدًا لِمَنْ جَمَعَكُمْ (في الْبِيرُو) … وَهْوَ بمَا تَنْوُونَهُ خَبِيرُ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى الْبَشِيرِ … مَا صَفَّرَ الْقِطَارُ فِي أَشِيرِ وَمَا جَرَى الْمِحْرَاثُ فِي الْهَنْشِيرِ … وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ فِي أَمْشِيرِ وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ … مُنِيرَةٌ فِي الْقَصْدِ كَالْهِلَالِ وَالشُّكْرُ لِي إِذْ كُنْتُ فِي الْجَمْعِ سَبَبْ … وَكَانَ لِي فيهِ وَجِيفٌ وَخَبَبْ

_ 7) تُشَقْلِلا: كلمة عامية معناها لا تُثَرْثِرا. 8) من تحت الخ: كان بعض القضاة يضع خاتم توقيعه في أعلى الوثيقة. 9) الخنفسة الأولى أراد بها نوعًا من التوقيع المعقد يشبه الطغراء. والثانية هي تلك الدويبة السوداء الكريهة الرائحة وهذه مداعبة لابن حافظ. والشيخ الحافظي: هو رئيس جمعية الطرقيين في الماضي.

يَا أَيُّهَا الْإِخْوَانُ أَهْلًا (بِيكُمْ) … إِنِّي قَبْلَ الِابْتِدَا أُنْبِيكُمْ بِوَاجِبَاتٍ اسْمُهَا النِّظَامُ … قَدْ سَنَّهَا الْأَمَاثِلُ الْعِظَامُ يَجِبُ أَنْ تَنْتَخِبُوا رَئِيسَا … لَكُمْ وَحَاشَوا الْمُمْلِقَ الْبَئِيسا ابْنُ الْعَابِدِ: أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْ ذِي الْكَلِمَهْ … فَإِنَّهَا تَصُخُّ سَمْعِي ... الْمُدِيرُ: ... وَلِمَهْ؟ ابْنُ الْعَابِدِ: لِأَنَّهَا ذَاتُ مَعَانٍ مُؤْلِمَهْ … وَأَنَّهَا تُثِيرُ ذِكْرَى مُظْلِمَهْ الْمُدِيرُ: بِيِّنْ لَنَا الْمَعْنَى وَخَلِّ الذِّكْرَى … فَجَمْعُنَا يُحْدِثُ مِنْهَا ذِكْرَى ابْنُ الْعَابِدِ: إِنَّ الرَّئِيسَ فِي كَلَامِ الْعُرْبِ … مَنْ شُجَّ فِي يَافُوخِهِ بِالضَّرْبِ الْجَنَّانُ: دَعْنَا مِنَ اللُّغَةِ وَالْإِغْرَابِ … فِيهَا فَتِلْكَ شِيمَةُ الْأَعْرَابِ وَانْظُرْ إِلَى التَّنْكِيتِ فِي قَوْلِ الْخَطِيبْ … فَإِنَّ ذِكْرَ الْبُؤْسِ شَيْءٌ لَا يَطِيبْ وَلَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ … تَعْرِيضُ ذِي الْغِنَى بِذِي الْإِمْلَاقِ الْمُدِيرُ: لَا تَبْتَئِسْ فَكُلُّنَا بَئِيسُ ... الْجَنَّانُ: ... قِيَاسُهُ وَكُلُّنَا رَئِيسُ ابْنُ الْعَابِدِ: انْظُرْ إِلَيْهِ كَيْفَ قَالَ لَكُمُ … وَلَمْ يَقُلْ مِنْكُمْ فَمَاذَا تَحْكُمُ؟ الْجَنَّانُ: أَنَا أَرَى أَنَّ الرَّئِيسَ قَدْ حَكَمْ … لِنَفْسِهِ وَمَا لَنَا إِلَّا الْبَكَمْ أَوْحَى لَهُ الْمَكْتَبُ وَالْكُرْسِيُّ … مَنْزِلَةً مَا نَالَهَا إِنْسِيُّ وَكُلُّ حَالٍ لِلْمَالَ يَرْمُزُ … فَانْظُرْ فَأَنْتَ الْقَاعِدُ (المْقَعْمِزُ) (10) الْمُدِيرُ: اِلْتَزَمُوا النِّظَامَ يَا إِخْوَانِي … فَأَنْتُمُ فِي الْخَيْرِ مِنْ أَعْوَانِي وَنَحْنُ جَمْعٌ ... الْجَلَّالِي: ... بَلْ أَقَلُّ الْجَمْعِ … كَمَا أَتَى بِهِ الدَّلِيلُ السَّمْعِي الْمُدِيرُ: وَالْجَمْعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِدْ … يَقُودُهُ لِتَحْصُلَ الْفَوَائِدْ الْجَلَّالِي: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْقِيَادَهْ … وَإِنْ غَدَتْ فِي عَصْرِنَا سِيَادَهْ قَدْ كُنْتُ عِنْدَ قَائِدٍ مَأْفُونِ … فِي مَاءَةٍ تُنْسَبُ لِلفَكْرُونِ (11) دَرَيْتُ مِنْهُ الْفِعْلَ وَاشْتِقَاقَهْ … كَمَا عَلِمْتُ السُّمَّ وَانْتِشَاقَهْ

_ 10) مقمعز: قاعدٌ على قدميه فقط، قِعْدَة المستوفز. 11) القائد في النظام البائد مثل رئيس البلدية في النظام الحالي. المأفون: ضعيف الرأي. تنسب للفكرون الخ: يريد قرية "عين الفكرون" الواقعة في الطريق ما بين قسنطينة وعين البيضاء، العرب تسمي الماء: ماءَةً، يَعنون بها الماء ينزلُ الناسُ به للورد وتكونُ مباءَةً لاستيطانهم.

الْمُدِيرُ: اِنْتَقِلُوا بِنَا إِلَى الْمُفيدِ … مِنْ عَمَلٍ مُوَفَّقٍ سَدِيدِ وَعَيِّنُوا الرَّئِيسَ حَتَّى نَشْرَعَا … فِي الْقَصْدِ مِمَّا رُمْتُهُ وَنُسْرِعَا فَالْأَمْرُ مُحْتَاجٌ إِلَى التَنْجِيزِ … بِسُرْعَةٍ فِي زَمَنٍ وَجِيزِ وَلَيْسَ فِي زِيَادَةِ الْكَلَامِ … إِلَّا الزِّيَادَةُ مِنَ الْمَلَامِ فَاجْتَهِدُوا فِي غَسْلِ هَذَا الْعَارِ … مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَدَ فِي الْأَشْعَارِ وَقَبْلَ أَنْ تَدْهَمَنَا الْقَوَافِي … بِوَطْأَةٍ شُرُورُهَا ضَوَافِي فَتَغْتَدِي رُبُوعُنَا عَوَافِي … تَجْرِي بِهَا الرَّوَامِسُ السَّوَافِي الْجَلَّالِي: تُخِيفُنَا بِالْعَارِ وَالْأَشْعَارِ … وَلَسْتُ مِنْ حَلْيِهِمَا بِالْعَارِ (12) وَلَيْسَ فِيهِمْ شَاعِرٌ سَوَاءِي … وَالشُّعَرَاءُ كُلُّهُمْ وَرَائِي أُخِيفُهُمْ طُرًّا وَلَا أَخَافُ … وَطَالَمَا سَاجَلْتُهُمْ فَخَافُوا الْمُدِيرُ: أَنَا النَّذِيرُ فَاسْمَعُوا نَصِيحَتِي … وَأَرْهِفُوا أَسْمَاعَكُمْ لِصَيْحَتِي فَالشَّرُّ لَا يُدْفَعُ بِالتَّعَاجُزِ … عَنْ دَفْعِهِ وَالْبُعْدِ وَالتَّحَاجُزِ وَالدَّمُ لَا يُغْسَلُ بِالْأَبوَالِ … وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ بِالْأَقْوَالِ قُومُوا جَمِيعًا مُتَنَاصِرِينَا … مُسْتَبْصِرِينَ مُتَظَافِرِينَا لِتَتَّقُوا مَسَبَّةً وَبَهْدَلَهْ قَدْ جَلَّلَتْ ... الْجَنَّانُ: ... أَنَا أَفُضُّ (الشَّقْلَلَهْ) (13) بِكَلْمَةٍ تَثْني الْفَصِيحَ مُفْحَمَا … الْحَقُّ سَدَّى وَالْبَيَانُ أَلْحَمَا إِنَّ الْجَمَاعَةَ وَمَا أَسْعَدَهُمْ … وَعَنْ سَبِيلِ السُّوءِ مَا أَبْعَدَهُمْ (14) أَعْنِي بِهِمْ جَمَاعَةَ التَّعْلِيمِ … وَعُصْبَةَ التَّهْذِيبِ فِي الْإِقْلِيمِ قَدْ وَضَعُوكَ أَيُّهَا الْمُدِيرُ … فِي رُتْبَةٍ أَنْتَ بِهَا جَدِيرُ وَفِيهِمُ لِعَارِفِ الْفَضْلِ أُسَى … وَمَنْ يَحِدْ عَنْ نَهْجِهِمْ فَقَدْ أَسَا الْمُدِيرُ: صَرِّحْ أَبِنْ فَالْخَيْرُ فِي التَّصْرِيحِ … قَدْ تَبْرَأُ الْعِلَّةُ بِالتَّشْرِيحِ الْجَنَّانُ: أَقُوُلهَا فَصيحَةً صَرِيحَهْ … قَاطِعَةً لِصَاحِبِي مُرِيحَهْ أَنْتَ امْرُؤٌ تَصْلُحُ لِلرِّئَاسَهْ… وَأَنْتَ أَهْلُ الْحِذْقِ وَالْكِيَاسَهْ

_ 12) هذا اعتراف منه بأنه غير عارٍ من العار. 13) الشقللة: كلمة عامية استعملت تملحًا. وتوجد من نوعها كلمات في الرواية، وكلها متمكنة في مواضعها (ش). 14) يعني جماعة التربية والتعليم وهم أهل لكل مدح.

وَأَنْتَ تَدْرِي بِالْقَضَاءِ الْفَصْلِ … مِنْ أَيْنَ يُؤْكَلُ (الدِّمَاغُ الْمَصْلِي) (15) وَهَذِهِ فَرْعٌ عَنِ الْإِدَارَهْ … فَخُذْهُمَا بِالْحَقِّ عَنْ جَدَارَهْ وَهَكَذَا فَلْيَكُنِ الْمُدِيرُ ... الْجَلَّالِي: ... وَهَكَذَا فَلْيَكُنِ البَنْدِيرِ الْمُدِيرُ: مَا لَكَ لَا تَفْتَأُ تَزْدَرِينِي … وَبِكَلَامِ السُّوءِ تَعْتَرِينِي أَمَا عَلِمْتَ أَنَّنِي أَمِيرُكْ … وَأَنَّنِي مِنْ قَبْلِهَا مُديرُكْ (16) الْجَلَّالِي: كَذَبْتَ بَلْ يَمِيرُنِي لِسَانِي … وَالْعِلْمُ نِعْمَ الذُّخْرُ لِلْإِنْسَانِ أَمَّا تَرَانِي كُلَّ يَوْمٍ أَكْدَحُ … بِهِ كَأَنِّي فِي صَفَاةٍ أَقْدَحُ لَوْلَاهُ مَا رَقَقْتُمُ عَلَيَّا … وَلَا تَرَامَى خُبْزُكُمْ إِلَيَّا وَأَنْتَ لَوْلَاهُ لَمَا عَامَلْتَنِي … وَلَا بِقَوْلٍ طَيِّبٍ جَامَلْتَنِي بَلْ أَنْتَ لَوْلَاهُ لَمَا عَرَفْتَنِي … وَكُنْتَ فِي بَعْضِ الزُّبَى جَرَفْتَنِي وَأَنْتَ لَوْلَا حِرْفَتَي حَذَفْتَنِي … وَمِنْ صُخُورِ رَاشِدٍ قَذَفْتَنِي (17) وَأَنْتَ لَا تَمِيرُ حَتَّى هِرَّهْ … يُشْبِعُهَا مِنَ الطَّعَامَ بُرَّهْ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَمِيرَا … حِمَارَةً تُعْلِفُهَا الغَمِيرَا (18) الْجَنَّانُ: وَهِمْتَ حَقَّا فِي الَّذِي فَهِمْتَ … وَفِي خَيَالِ الشُّعَرَاءَ هِمْتَ

_ 15) هذا تصرّف منه في المثل وهو: "يعرف مِنْ أَيْنَ تُؤكلُ الكَتِفُ". 16) كلمة أَمِيرُك صالحة بلفظ واحد أن تكون وصفًا من الإمارة. والضمير مضاف إليه. وهذا هو الذي قصد إليه المدير. وأن تكون مضارعَ المتكلمِ. من مَارَ يَمِيرُ إذا جَلَبَ الميرةَ وهي القُوتُ. ومنه قوله تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}. وهذا المعنى هو الذي فهمه الْجَلَّالِي وسبق إلى ذهنه، لأنه أقرب إلى تصوّره، وأسبقُ إلى إحساسه. فبنى عليه ذلك الافتنانَ العجيبَ ولله دَرُّهُ. وهذه الكلمة تُستخرج منها عِدة تجنيساتٍ. تقول: أَمِيركَ أعُولُكَ. وتقول: أنا لِعِيَالي أمير. قال الراجز: وَلي عِيَالٌ وَأَنَا أَمِيرُهُم … أَقُوتُهُمْ في الْمَحْلِ أَوْ أَمِيرُهُمْ وقال: أَميرُنَا يَمِيرُنَا بِخُبْزَهْ … فَإِنْ طَلَبْنَا غَيْرَهَا فَدَبْزَهْ (*) وقال: إِنَّ أَبَا عَمْرو غَدَا أَميرَنا … لَكِنَّهُ في الْمَحلِ لَنْ يَمِيرَنَا وقالَ: لَقَدْ أَطَعْنا أَيُّهَا الأَمِيرُ … بِالصِّدْقِ إِنْ كُنْتَ لَنَا تَمِيرُ وقال: إِنِّي إذا مَارَ السَّحَابُ مَوْرَا … وَأَصْبَحَ الْمَاءُ الْقَرَاحُ غَوْرَا أَمِيرُ جِيرَانِي وَأَهْلِي مَيْرا … مُجْتَهِدًا وَلَا أَمِيرُ الطيْرَا وهذه الأراجيز في الكلمة كلها جاهلية، لراجز في آفلُو مَنْفَاهُ، وهو صاحبُ الروايةِ. (*) دَبْزة: لَكْمَة. 17) من صخور راشد الخ: هو سيدي راشد الذي تُنسبُ إليه القنطرةُ العجيبة في قسنطينة. 18) الغَمِيرُ: الحشيشُ الدقيقُ الملتفُ حَوْلَ النباتِ الكبير، ولا زالت مستعملةً حتى الآن، وقد أدخلناها في كتاب "بقايا فصيح العربية في اللسان العامي".

إِنَّ الرَّئِيسَ يَا أَبَا عُمَارَهْ … لَمْ يُرِدِ الْمَيْرَ بَلِ الإِمَارِهُ سِيَاقُهُ عَلَى الْمُرَادِ مُشْتَمِلْ … وَلَفْظُهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مُحْتَمِلْ الْجَلَّالِي: وَاحَرَبَا فَهَذِهِ أَكْبَرُ مِنْ … تِلْكَ وَبِادُعَائِهَا أَنَا قَمِنْ فَانْظُرْ تَجِدْ مَخَايِلَ الإِمَارِهْ … فِي هَيْأَتِي وَاضِحَةَ الأَمَارَهْ وَلَوْ صَحَا الدَّهْرُ لَكُنْتُ مَلِكَا … وَمَا نَهَجْتُ شَرَّ نَهْجٍ سُلِكَا (19) وَأَرْضُنَا ضَمَّتْ رُفَاتًا لِنَبِي … فَإِنْ طَلَبْتُ الْمُلْكَ لَمْ أُؤَنِّبِ (20) أَمَّا الْمُدِيرُ فَأَرَاهُ يَدَّعِي … مَا لَا يُوَاتِيهِ كَدَعْوَى الضِّفْدَعِ (21) أَغَرَّهُ أَنْ كَانَ مِنْ قَجَّالِ … وَأَنَّهَا بِالْقُرْبِ مِنْ أَقْجَالِ (22) وَهْيَ مَجَالُ النَّزْعَةِ الدَّعِيَّهْ … وَمُسْتَرَادُ الدَّعْوَةِ الشِّيعِيَّهْ جِبَالُهَا كَانَتْ كَمِثْلِ الْمَهْدِ … لِحِفْظِ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّ الْمَهْدِي هَيْهَاتَ مَا أَقْجَالُ مِنْ قَجَّالَ … إِلَّا كَجَزْلِ الشِّعْرِ فِي الْأَزْجَالِ وَأَهْلُ قَجَّالٍ إِذَا تَسَامَوْا … لِلْمَجْدِ عَنْ مِنْهَاجِهِ تَعَامَوْا يَأْتُونَ فِي فَخَارِهِمْ بِمَسْعُودْ … كَمَنْ أَتَى الْوَغَى بِسَيْفٍ مِنْ عُودِ (23) وَذِكْرَهُ فِي الذِّكْرِ غَيْرُ مَشْهُودْ … وَلَيْسَ فِي تَارِيخِنَا بِالْمَعُهُودْ يَدْعُونَهُ يَا قَالِعَ الْفُرْسَانِ … وَجَالِبَ الْأُسُودِ فِي الْأَرْسَانِ لَغْوٌ مِنَ الْمَيْنِ الصُّرَاحِ قَدْ جَرَى … عَلَىَ لِسَانِ الْجَاهِلِينَ قَدْ سَرَى (24) وَلَمْ يُزَحْزِحْ أَكُفَلًا عَنْ سَرْجِهِ … وَلَا اسْتَفَزَّ ثَعْلَبًا مِنْ حَرْجِهِ (25) وَفَخْرُهُمْ فِي عَصْرِنَا بِاثْنَيْنِ … مِنْ خِيرَةِ الرِّجَالِ دُونَ مَيْنِ

_ 19) شر نهج في نظره هو التعليم، ولم يدر أن التعليم كثيرًا ما كان طريقًا إلى الإمارة ووضع صاحبها المطرقة ليرفع الصولجان. 20) النبي الذي يعنيه هو خالدُ بنُ سِنَان العَبْسي الذي تقول الأساطير إن قبرَه على أميال من قرية "أولاد جلّال". 21) دعوى الضفدع أقصوصة من أقاصيص الرافعي. 22) أقْجَال قرية قرب سطيف، لا تزال أطلالُها ماثلةً وهي التي اختارها أبو عبد الله الشيعيّ، الداهيةُ لِبَدْءَ دَعْوتِهِ بين برابرة كتامة، وكانوا يُسمّونها "دار الهجرة" تسميةً ذاتَ مَغْزىً سياسي. 23) سيدي مسعود ينسب إليه الجامع الأعظم بقرية قَجَّال، ويقول عنه العامة والطلبة: أن سيدي عبد الرحمن الأخضري تَخَرّج منه. والقَجَّالون يحلفون به من دون الله ويقولون: "وحقّ سيدي مسعود قلَّاع الفُرْسان". 24) المين: الكذب (ج). 23) الأكْفَلُ: هو الذي لا يتمالك في ركوب الخيل.

لَكِنَّهُمْ شَانُوهُمَا بِالْإِسْمِ … وَالْإِسْمُ لِلرِّجَالِ مِثْلُ الْوَسْمِ (26) فَفَارِسُ الْخَيْلِ دَعَوْهُ الْكُسْكُسَا … كَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كُسْ كُسَا (27) وَفَارِسُ الْعِلْمِ نَمَوْهُ عَمْدَا … لِأَحْمَدُوشَ وَعَدَوْهُ الْحَمْدَا الْمُدِيرُ: أَسْرَفْتَ فِي النَّبْزِ وَلَمْ تَرْعَ الْأَدَبْ … وَالْمَرْءُ إِنْ أَجْدَبَ عَقْلُهُ جَدَبْ وَأَنْتَ وَغْدٌ مِنْ بَنِي جَلَّالِ … فَهَلْ سَأَلْتَ الْعُرْبَ عَنْ جَلَّالِ؟ وَهْوَ الَّذِي يَقْتَاتُ مَحْضَ الْعَذِرَهْ … وَالْفَضَلَاتِ النَّجِسَاتِ الْقَذِرَهْ وَمِنْهُ جَاءَتْ صِفَةُ الْجَلَّالَهْ … وَأَكْلُهَا يَحْرُمُ فِي ذِي الْحَالَهْ وَطُولُ أَنْفِكَ مِنَ الشُّهُودِ … عَلَى امْتِدَادِ الْعِرْقِ ... الْجَنَّانُ: ... فِي الْيَهُودِ الْمُدِيرُ: مَا قُلْتُهَا أَنَا وَلَكِنْ قَالَهَا … زَمِيلُكَ الغِرُّ وَمَا اسْتَقَالَهَا الْجَنَّانُ: مَا قُلْتُ إِلَّا مَا رَمَى إِلَيْهِ … مَعْنَاكَ أَوْ دَلَلْتَنِي عَلَيْهِ وَالطُّولُ وَالْأَنْفُ مَعًا وَالْقَافِيَهْ … قَرَائِنٌ بِالْقَصْدِ مِنْكَ وَافِيَهُ الْجَلَّالِي: الشِّرْكُ لَا يَدْفَعُ عَنْكُمَا الدَّرَكْ … وَالذَّنْبُ بَيْنَ الْقَائِلَيْنِ مُشْتَرَكْ وَلَا أَشُكُّ أَنَّ ذَا الْأَمِيرَا … قَدْ كَانَ يَرْعَى الْمَعْزَ وَالْحَمِيرَا فَمِنْهُمَا اكْتَسَبَ هَذَا اللُّطْفَا … حَتَّى ثَنَى مِنْهُ الدَّلَالُ الْعِطْفَا الْمُدِيرُ: الْجَهْلُ قَدْ يُبْدِي مِنَ السَّفِيهِ … كُلَّ الَّذِي مِنَ الْعُيُوبِ فِيهِ فَقُلْ لَنَا يَا حَارِسَ الْمَرَابِدِ … أَأَنْتَ لِلْعَبِيدِ أَمْ لِلْعَابِدِ! الْجَلَّالِي: زَنَنْتَنِي (28) ... الْجَنَّانُ: ... فَاطْلُبْ لَهُ الْحُدُوْدَا … وَاسْتَصْرِخِ الْقَاضِيَ وَالشُّهُوَدَا وَزُجَّهَا قَضِيَّةً فِي الْمَحْكَمَهْ … جَارِيَةً عَلَى النُّصُوصِ الْمُحْكَمَهْ وَحَرِّرِ التُّهْمَةَ فِي مَقَالِ … وَاذْهَبْ بِهَا لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْعَالِي وَخُذْهُ بِالْعَزْمِ عَلَى التَّسْجِيلِ … وَبِصُدُورِ الْحُكْمِ بِالتّعْجِيلِ فَإِنْ أَخَذْتَ فَالْجَزَاءُ الْجَلْدُ … يُشَانُ مِنْهُ عَظْمُهُ وَالْجِلْدُ

_ 26) الوَسْمُ: العلامة. 27) نشأ في قجّال في هذه العهود الأخيرة رجلان أحدهما اشتهر بالرئاسة والفروسية والشجاعة والكرم، وهو الذوادي بن الكسكس. والآخر بالفقه والخير وهو الشيخ بن الصديق بن حمادوش، ولم أدركهما وإنما أدركت أولادهما يعني ابن العابد. 28) الزَّنُّ هو الرمْي بالريبة، وهو أوسع دلالة من كلمة القذف في معناها الشرعي.

وَإِنْ عَفَوْتَ فَاطْلُبِ (الدُّومَاجَا) (29) … وضَمِّنَ الْخُبْزَةَ (وَالْفُرْمَاجَا) (30) هُنَا يَتَشَاغَلُ الْمُدِيرُ بِقِرَاءَةِ أَوْرَاقٍ مُسْتَعْجَلَةٍ فِيَتَهَامَسَانِ: الْجَنَّانُ: وَهَاكَ مِنِّي كَلْمَةً فِي سِرِّكْ … أَقْضِي بِهَا مَا فَاتَنِي مِنْ بِرِّكْ إِنَّ الْخَبِيثَ يَكْنِزُ الدَّرَاهِمْ … وَإِنْ بَدَا مِثْلَ الْخَرُوفِ الرَّاهِمْ الْجَلَّالِي: مِنْ أَيْنَ يَأْتِي الْمَالُ لِلْقَجَّالِي … وَحَالُهُ فِي الْهَمِّ مِثْلُ حَالِي؟ الْجَنَّانُ: لَقَدْ قَضَى زَمَانَهُ حَزَّابَا … مِثْلِيَ مُذْ كُنَّا مَعًا عُزَّابًا ثُمَّ عُزِلْتُ وَاسْتَمَرَّ يَمْرِي … جِرَايَةً تُجْرَى لِكُلِّ شَهْرِ وَهْوَ بَخِيلٌ لَا يَكَادُ يُنْفِقُ … كَالدُّودِ يَقْتَاتُ الثَّرَى وَيُشْفِقُ (31) الْجَلَّالِي: ذَكَّرْتَنِي بِهَذِهِ الْوَظِيفَهْ … فَإِنَّهَا فِي وَضْعِهَا سَخِيفَهْ وَلَوْ حَبَوْنِي قَرْطَةً وَالزَّابَا (32) … مَا كُنْتُ فِي أَحْزَابِهِمْ حَزَّابَا (33) الْجَنَّانُ: لَوْ ذُقْتَ مَا ذُقْنَا مِنَ الْحَلَاوَهْ … لَزِدْتَ عَمَّا رَتَّبُوا عِلَاوَهْ وَلَقَرَأْتَ خَمْسَةً بِفَلْسِ … وَالسِّرُّ فِي قَبْضِ الرِّقَاقِ الْمُلْسِ (34) إِنَّ الْوَظِيفَ قَهْوَةٌ بِالسُّكَّرِ … أَوْ خَمْرَةٌ إِنْ لَمْ تُمَوِّتْ تُسْكِرِ الْجَلَّالِي: لَكِنَّهَا مَجْلَبَةٌ لِلذُّلِّ … وَلِلْمَهَانَةِ الَّتِي تُدَلِّي وَلِخُضُوعِ الرَّأْسِ للْأَذْنَابِ … وَلاِتِّضَاعِ الْأَسْتِ لِلْأَطْنَابِ وَأَنَّهَا مَخْرَسَةٌ لِلْأَلْسُنِ … عَنْ كَلْمَةِ الْحَقِّ وَقَوْلِ الْأَحْسَنِ الْجَنَّانُ: إِذَا قَبَضْتَ الرَّاتِبَ الشَهْرِيَّا … نَبَذْتَ مَا ذَكَرْتَهُ ظِهْرِيَّا وَعُدْ لِمَا سِيقَ لَهُ الْحَدِيثِ … مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْتَبِهَ الْخَبِيثُ الْجَلَّالِي: لَأَفْعَلَنَّ فَاحْفَظِ الشَّهَادَهْ … حَتَّى يُقِضَّ حِفْظُهَا مِهَادَهُ وَادِّهَا فِي الْوَقْتِ كَالْعِبَادِهْ ... الْجَنَّانُ: ... بِذَاكَ أَوْصَى رَبُّنَا عِبَادَهْ الْجَلَّالِي: وَقَدْ عَرَفْنَا خَصْمَنَا اللَّدُودَا … فَأَوْلِهِ الْإِعْرَاضَ وَالصُّدُودَا وَجَازِهِ قَطِيعَةً وَهَجْرَا … فَإِنَّ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَجْرَا

_ 29) الدُّوماجا: كلمة فرنسية معناها الخسارة. 30) الفُرْماجا: كلمة فرنسية معناها الجُبْن ... 31) كالدود الخ مثل عامي معرب. ويُشفق مستعملة في معنى عامي غير فصيح. 32) قرطة: اسم قسنطينة القديم. والزاب: منطقة في صحراء الجزائر. 33) حزَّابا: قارئ ورد الحزب القرآني في المسجد بأجرة. 34) الرقاف الملس: أوراق النقد.

مَا زَالَ مِنْ دَلَالِهِ عَلَيْنَا … يُجْهِدُ فِي جَرِّ الْأَذَى إِلَيْنَا حَتَّى رَمَاهُ اللهُ مِنِّي بِخَصِمْ … لَا يَنْثَنِي عَنْ خَصْمِهِ أَوْ يَنْقَصِمْ الْجَنَّانُ: دَاكُورُ (35) ... الْجَلَّالِي: ... يَا أَخِي وَمَا مَعْنَى دَاكُورْ؟ فَإِنَّنِي لِلَفْظِهَا غَيْرُ ذَكُورْ الْجَنَّانُ: إِنْ لَمْ أُعِنْ أَخِي أَكُنْ غَيْرَ شَكُورْ … لِفَضْلِهِ وَكُنْتُ لِلْعُرْفِ نَكُورْ وَكُنْتُ أَهْلًا لِلْجَفَاءِ وَالْمَلَامْ … وَالِاحْتِقَارِ الزُّمَلَاءِ ... الْجَلَّالِي: ... وَالسَّلَامْ وَعِشْتَ يَا جَنَّانُ وَانْتَعَشْنَا … وَإنْ عَلَا السِّنُّ فَلَا ارْتَعَشْنَا يَفْرَغُ الْمُدِيرُ فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِمَا: الْمُدِيرُ: وَيْحَكُمَا أَتَجْهَلَانِ النَّحْوَا؟ … وَتَسْأَلَانِ بِالثُّبُوتِ الْمَحْوَا وَتَفْهَمَانِ الْأَمْرَ بِالْمَقْلُوبِ … وَالْجَهْلُ حَظُّ الْخَاسِرِ الْمَغْلُوبِ فَأَيْنَ مِنْكُمْ صَنْعَةُ الْبَيَانِ … وَسِرُّهَا الْمُودَعُ فِي الْأَذْهَانِ؟ وَأَيْنَ مَا صَرَفْتُمَا مِنْ زَمَنِ … فِي جَدَلٍ مِثْلَ الْمَخَاضِ الْمُزْمِنِ؟ وَأَيْنَ مَا تَسْتَفْرِغَانِ فيهِ … جُهْدَكُمَا مِنْ غَرَضٍ نَبِيهِ؟ وَأَيْنَ مَا ضَيَّعْتُمَا مِنْ عُمْرِ … فِي ضَرْبِ زَيْدٍ لِأَخِيهِ عَمْرِو؟ وَلَوْ دَرَسْتُ عُشْرَ مَا دَرَسْتُمَا … لَمْ أَجْرُشِ الشَّرْيَ الَّذِي جَرَشْتُمَا أَخْطَأْتُمَا مَوَاقِعَ الْإِصابَهْ … وَوَضْعَهَا فِي النُّطْقِ وَالْكِتَابَهْ وَأَنْتَ يَا ابْنَ الْعَابِدِ اخْتِصَاصِي … تَشِيمُ بَرْقَ الْفَهْمِ مِنْ خَصَاصِ وَأَنْتَ مِنْ حَمَلَةِ الْأَقْلَامِ … وَأَنْتَ لَا تُحْسِنُ رَسْمَ اللَّامِ (36) الْجَنَّانُ: أُحْجِيَّةٌ جَاءَ بِهَا الرَّئِيسُ … لَا يَسْتَطِيعُ حَلَّهَا إِبْلِيسُ الْمُدِيرُ: قَدْ قُلْتُ ذَاكَ الْقَوْلَ في أَدِيبِنَا … وَمُسْتَحِقِّ الْفَضْلِ فِي تَأْدِيبِنَا جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْشَاءِ … تَحْبيرَ طَرَّازٍ لَهَا وَشَاءَ وَلَمْ أُرِدْ بِالْجُمْلَةِ الْإِخْبَارَا … وَإنَّمَا أَرَدْتُ الِاسْتِخْبَارَا فَهْوَ كَلَامُ السَّائِلِ الْمُسْتَفْهِمِ … عَنْ غَرَضٍ فِي ذِهْنِهِ مُسْتَبْهِمِ

_ 35) داكور: كلمة فرنسية معناها موافق. 36) اللّام: الشخص. واللّام: الحَرْفُ. وكل منهما تأتي معه كلمة الرسم. ورسمُ الشخص: هو تصويرُه. ولذلك جاء الإلْغاز متمكنًا، فالمدير يريد أن ابن العابد، وإن كان كاتبًا، لكنه لا يُحسن التصوير اليدوي للأشخاص، لأنه لكل فن رجاله. فجاء بهذه التورية البديعية التي تفطن لها الْجَنَّانُ.

وَحُجَّتِي فِيهِ كَلَامُ الْعَرَبِ … وَنَحْوُهُمْ وَالضَّرْبُ غَيْرُ الضَّرَبِ (37) الْجَلَّالِي: يَا عَجَبَا تَقْذِفُنِي بِالرَّيْبِ … وَتَنْتَحِينِي بِعَظِيمِ الْعَيْبِ ثُمَّ تَجِي بِالْعُذْرِ وَالتَّأْوِيلِ … فِي مَنْطِقٍ مَا فِيهِ مِنْ تَعْوِيلِ وَفِي كَلَامِكَ مِنَ التَّغْرِيرِ … لِلْقَذْفِ مَا جَلَّ عَنِ التَّبْرِيرِ وَالْحُرُمَاتُ بَيْنَنَا قِصَاصُ … وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَهُ اخْتِصَاصُ الْمُدِيرُ: أُطلُبْ وَطَالِبْ وَاجْتَهِدْ وَخَاصِمِ … فَعَاصِمِي مِنْ شَرِّكَ ابْنُ عَاصِمِ أَمَا قَرَأْتَ قَوْلَهُ فِي الْبَابِ … عَنْ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ الْأَنْجَابِ (وَيُدْفَعُ الْحَدُّ بِالِاحْتِمَالِ … فِي قَالَةِ الْقَذْفِ وَبِالْإِجْمَالِ) (وَبِالْكِنَايَةِ وَبِالْإِبْهَامِ … وَمِثْلُهُ الْإِنْشَا بِالِاسْتِفْهَامِ) (وَشِدَّةُ الْخَفَاءِ فِي الدِّلَالَهْ … كَيَا غُرَابُ أوْ كَيَا ثُعَالَهْ) (وَكُلُّ ذَا لِمَا رَوَى الْجُدُودُ … بِالشُّبُهَاتِ تُدْرَأُ الْحُدُودُ) الْجَنَّانُ: يَا سَادَتِي يَا إِخْوَتِي يَا زُمَلَا … أَمَا تَخَافُونَ افْتِضَاحًا فِي الْمَلَا؟ هَذِهِ الْمُلَاحَاةُ إِذَا مَا شَاعَتْ … بَيْنَ الْوَرَى وَاشْتَهَرَتْ وَذَاعَتْ فَإِنَّهَا حَيَاتُنَا تَدَاعَتْ … أَرْكَانُهَا وَخَسِرَتْ وَضَاعَتْ أَمَّا إِذَا انْتَهَتْ إِلَى التَّدَاعِي … تَرْفُلُ فِي ثَوْبٍ مِنَ الْإِقْذاعِ وَأُعْلِنَتْ بِمَا بِهَا مِنْ فُحْشِ … فِي مَنْطِقِ الْإِنْسِ وَفِعْلِ الْوَحْشِ فَالْقَبْرُ خَيْرٌ وَأَخَفُّ وَقْعَا … مِنَ الْحَيَاةِ وَافْتِرَاشِ الدَّقْعَا إِنِّي أَرَى شَرًّا يُطِيرُ شَرَرَهْ … وَسَوْفَ نَجْنِي غِبَّهُ وَضَرَرَهْ وَأَوَّلُ النَّتَائِجِ الْمُحَقَّقَهْ … تَضْيِيعُنَا لِلْخُبْزَةِ الْمُرَقَّقَهْ وَنَحْنُ قَوْمٌ عَيْشُنَا بِالذِّكْرِ … وَلَا كَعَيْشِ الْفُقَرَا (بِالذِّكْرِ) وَعَيْشُنَا رِبْحٌ وَرَأْسُ الْمَالِ … فَضِيلَةُ الصَّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ فَإِنْ عَدَتْنَا السِّيرَةُ الْحَمِيدَهْ … فَكَيْفَ نَغْدُو قُدْوَةً رَشِيدَهْ وَأَنْتُمُ مُسْتَوْدَعُ الْفَضَائِلِ … وَحَامِلُو تَرِكَةِ الْأَوَائِلِ وَأَنْتُمُ النُّورُ لِهَذِي الْأُمَّهْ … فَمَنْ يُنِيرُ إنْ عَرَتْكُمْ ظُلْمَهْ؟ أَنْتُمْ سِمَاتُ الْحَقِّ فِي أَغْفَالِهَا … وَأُمَنَاءُ اللهِ فِي أَطْفَالِهَا وَالْجِيلُ عَنْ مِرْآتِكُمْ يَنْعَكِسُ … فَسَابِقٌ لِلْفَضْلِ أَوْ مُرْتَكِسُ أَخْلَاقُكُمْ فِي النَّاشِئِينَ تَنْطَبعْ … فَحَاذِرُوا مِنْ أَنْ يُرَى فِيهَا طَبِعْ

_ 37) في الأبيات الثلاثة احتجاجٌ من المدير مُفْحِمٌ. والضرْب بالسكون معروف، والضرَب بفتح الراء: العسل، وشتّان ما بينهما وهذا تمثيل.

وَإنَّمَا صِغَارُهَا أَمَانَهْ … نَبْغِي لَهَا الصِّدْقَ وَنَحْنُ مَانَهْ وَفِيهِمُ الْحَصَاةُ وَالْجُمَانَهْ … وَرُشْدُهُمْ في عُنْقِنَا ضَمَانَهْ وَإنَّمَا بَقَاءُ هَذِي الْأُمَّهْ … مَا بَقِيَتْ بِفَضْلِكُمْ مُؤْتَمَّهْ وَإِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ بِالْخُلُقِ … يَنْشَقُّ فِي ظَلْمَائِهَا كَالْفَلَقِ فَرَاقِبُوا الرَّحْمَنَ وَالْعِيَالَا … وَنِعْمَةً نَخْشَى لَهَا الزِّيَالَا وَرَاغِمُوا إِبْلِيسَ بِالتَّسَامُحِ … وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ والتَّصَافُحِ وَكُلُّ شَرٍّ جَرَّهُ الْعِتَابُ … بَيْنَكُمُ فَسِتْرُهُ الْمَتَابُ وَرَاجِعُوا نُفُوسَكُمْ حَتَّى تَفِي … لِنُقْطَةِ الْحَقِّ وَبِالْعَهْدِ تَفِي الْمُدِيرُ: فَلْنَسْتَعنْ بِرَبِّنَا الْمَنَّانِ … وَلْنَتَّبِعْ نَصِيحَةَ الْجَنَّانِ فَإِنَّهَا نَصِيحَةٌ مُفيدَهْ … تَجْتَثُّ تِلْكَ النفْرَةَ الْمُبِيدَهْ الْجَلَّالِي: وَإنَّها كَالتِّبْرِ فِي التُّرَابِ … وَإنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي الخَرَابِ وَإنَّها دِلَالَةُ الْغُرَابِ … وَإنَّهَا رَقْرَقَةُ السَّرَابِ الْمُدِيرُ: بَلْ إِنَّهَا كَبَارِدِ الشَّرَابِ … لِلْكَبِدِ الْحَرَّى مِنَ الْحِرَابِ أَوْ هِيَ سَيْفٌ سُلَّ مِنْ قِرَابِ … لَمْ يَنْثَلِمْ مِنْ كَثْرَةِ الضِّرَابِ أَوِ الْغَوَانِي الخُرَّدِ الْعِرَابِ … جُلِيْنَ لْلْعُرْسِ عَلَى الزَّرَابِي الْجَلَّالِي: لَسْتُ أُرِيدُ الحَطَّ مِنْ قَدْرِ الزَّمِيلْ … وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ مَحْبُوبٌ جَمِيلْ بَلْ تِلْكَ مِنْهُ عَادَةٌ وَمِنِّي … أُغْضِبُهُ عَمْدًا وُيُغْضِي عَنِّي وَوَعْظُهُ كَانَ لَهُ الْوَقْعُ الْحَسَنْ … قَدْ قَادَ نَفْسِي لِلرَّشَادِ بِرَسَنْ الْمُدِيرُ: أَنَا سَحَبْتُ كَلْمَتِي وَأَنْتَا؟ ... الْجَلَّالِي: ... أَنَا سَمَحْتُ وَالرَّئِيسُ أَنْتَا لَكِنَّنِي لَا أَتْرُكُ الْمُعَارَضَهْ … وَلَا أُجِيزُ فِي الثَّنَا المُقَارَضَهْ الرَّئِيسُ: بُورِكْتُمَا فَانْصَرِفَا وَسَجِّلَا … رِئَاسَتِي وَأَسْرِعَا وَعَجِّلَا وَالْحَمْدُ للهِ خِتَامُ الْجَلْسَهْ … فَقَدْ مَضَتْ مَعَ طُولِهَا كَالْخُلْسَهْ أَرْفَعْهَا الْيَوْمَ لِأَجْلِ الصُّلْحِ … وَفي غَدٍ أَنْصِبُهَا بِالْفَتْحِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَالتَّارِيخِ … كَأنَّنَا فِي عَالَمِ الْمَرِّيخِ

الجلسة الثانية

الجلسة الثانية الْمَشْهَدُ الثَّانِي: الثَّلَاثَةُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ: الرَّئِيسُ: الْحَمْدُ للهِ افْتِتَاحُ الْعَمَلِ … وَالشُّكْرُ للهِ بُلُوغُ الْأَمَلِ الْجَلَّالِي: لَا تَتْرُكِ الْمَأْثُورَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفْ … فَكُلُّ شَرِّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ وَابْدَأْ بِبِسْمِ اللهِ فِي الْإِقْبَالِ … أَلَيْسَ فِي اجْتِمَاعِنَا ذُو بالٍ؟ الْجَنَّانُ: بَلْ فِيهِ ذُو بَالٍ وَذُو مَبَالِ … وَحَبَّذَا لَوْ كُنْتَ ذَا سِبَالِ يَاضَيْعَةَ الْأَوْقَاتِ تَمْضِي فِي الْجَدَلْ … وَالْوَقْتُ إِنْ ضَاعَ فَمَا عَنْهُ بَدَلْ اِبْدَأْ بِذِكْرِ اللهِ مُطْلَقًا وَلَا … تَسْمَعْ كَلَامَ الشَّيْخِ فِيمَا أَوَّلَا الرَّئِيسُ: وَبَعْدَ ذَا نَشْرَعُ فِي الْمَقْصُودِ … مِنْ عَمَلٍ مُرَتَّبٍ مَرْصُودِ وَأَوَّلُ الْمَرْسُومِ فِي ذَا الْجَدْوَلِ … تَوْضِيحُ شَيْءٍ نَافِعٍ لَكُمْ وَلِي فَلْتَعْلَمُوا وَلَسْتُ ذَا افْتِتَانِ … أَنَّ الرَّئِيسَ صَوْتُهُ صَوْتَانِ الْجَلَّالِي: نَعَمْ نَعَمْ وَمَوْتُهُ مَوْتَانِ … وَقُوتُهُ بَيْنَ الْوَرَى قُوتَانِ نَعَمْ لَوْ أَنَّ حَلْقَهُ حَلْقَانِ … وَخَلْقَهُ فِيمَا نَرَى خَلْقَانِ الْجَنَّانُ: تَثَبَّتُوا فَلَسْتُمُ تَلَامِذَهْ … وَحَكِّمُوا الْمَنْطِقَ يَا أَسَاتِذَهْ يَلْتَفِتُ إِلَى الرَّئِيسِ يَا سَيِّدِي أَنْتَ الرَّئِيسُ حَقَّا … وَإنَّمَا أُعْطِيتَ هَذَا الْحَقَّا لِيَحْصُلَ التَّرْجِيحُ فِي حَالِ اللَّدَدْ … مَعَ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِي الْعَدَدْ أَمَّا هُنَا فَإِنَّنَا وِتْرٌ وَلَا … دَاعِيَ لِلتَّرْجِيحِ عِنْدَ الْعَدَدْ فَإِنْ عَرَضْتَ صُورَةً فَقُلْتُ (وِي) (38) … وَقُلْتُمَا مِثْلِي فَرَأْيٌ مُسْتَوِي وَإنْ أَبَاهَا صَاحِبِي فَقَالَ (نُو) (39) … فَبَيْنَنَا فِيهَا خِلَافٌ مُعْلَنُ فَصَوْتُكَ الْوَاحِدُ قَدْ يُؤًيِّدُ … رَأْيًا مِنَ الرَّأْيَيْنِ أَوْ يُفَنِّدُ وَرَأْيُكَ الثَّانِي اطْوِهِ فِي الْحَوْصَلَهْ … وَاجْعَلْ لِعَقْلِكَ بِمَنْ صَحَوْا صِلَهْ إِلَّا إِذَا كَانَ لَكُمْ رَأْيَانِ … فِي الْمَطْلَبِ الْوَاحِدِ يُرْعَيَانِ وَكُنْتَ تَنْفِي الْأَمْرَ ثُمَّ تُثْبِتُهْ … أَوْ تَقْلَعُ الْعُسْلُوجَ ثُمَ تُنْبِتُهْ فَهَذِهِ سُخْرِيَّةٌ وَهَزْلُ … وَالرّفْضُ حَقٌّ بَعْدَهَا وَالْعَزْلُ الرَّئِيسُ: دَعْنَا مِنَ الْهَزْلِ وَمِنْ عَزْلٍ وَمِنْ … سَفَاسِفٍ لَسْتُ بِهَا فِيكُمْ قَمِنْ

_ 38) وي: كلمة فرنسية معناها نَعَم. 39) نو: كلمة فرنسية معناها لا.

وَإنَّنِي أَحْبُوكَ بِاسْمِ الْمَجْلِسِ … شُكْرًا كَمَا انْشَقَّ الضِّيا فِي الْغَلَسِ وَقَدْ أَفَدْتَنَا بِهَذا الدَّرْسِ … وَقَدْ غَرَسْتَ الْعِلْمَ أَيَّ غَرْسِ وَقَدْ شَرَحْتَ، (بَارَكَ اللهُ عَلَيْكْ) … حَقَائِقًا لَمْ نُلْفِهَا إِلَّا لَدَيْكْ الْجَلَّالِي: أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ حَرْفَا … فِي شُكْرِهِ، وَالْمُرْسلَاتِ عُرْفَا فَمَا سَمِعْتُ غَيْرَ تَطْوِيلِ الْجُمَلْ … فِي مِثْلِ مَاقَالُوهُ فِي حَرْثِ الْجَمَلْ وَأَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ السَّفَاسِفْ … حَتَّى يَؤُودَ حَمْلُهَا الشَّرَاسِفْ؟ وَأَيُّ عِلْمٍ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ … وَكُلُّ الْأَغْمَارِ لَهَا حُفَّاظُ؟ وَأَيُّ فَضْلٍ لِلَّذِي يَعْرِفُ مَا … يَفْغَرُ كُلُّ نَاطِقٍ بِهِ الْفَمَا؟ صَغَائِرٌ يَعْرِفُهَا النُّوَّابُ … قُلِّيُّهُمْ وَالتَّيْسُ وَالْغُرَابُ (40) مِنَ اْنِتَخَابَاتٍ وَأَغْلَبِيَّهْ … وَكُلُّهُمْ فِي الشَّكْلِ لَوْلَبِيَّهْ مَصَائِدٌ لِلْأَنْفُسِ الْأًبِيَّهْ … وَخُدَعٌ لِلْأُمَمَ الْغَبِيَّهْ وَآفةٌ لِلْعَقْلِ وَالضَّمِيرِ … أَلْحَقَتِ الْإِنْسَانَ بِالْحَمِيرِ وَقَدْ أَضَلَّتْ أُمَمًا فَزَلَّتْ … وَمِنْ عُلَا سَمَائِهَا تَدَلَّتْ يَخْتَالُ كُلُّ مَنْ لَهُ افْتِتَانُ … بِحُبِّهَا وَهْوَ بِهَا يَخْتَانُ خِبَاؤُهَا لَيْسَ لَهُ تِمْتَانُ … وَعَيْثُهَا لَا غَيْثُهَا هَتَّانُ وَرُوحُهَا التَّضْلِيلُ وَالْبُهْتَانُ … وَقَدْ مَحَاهَا شَيْخُنَا (بِيتَانُ) (41) لَوْ لَمْ يَجِئْ بَعْدَ خَرَابِ الْبَصْرَهْ … وَفَقْدِ كُلِّ أَمَلٍ فِي النُّصْرَهْ وَمَحْوُهَا أَرَاحَنَا مِنْ قَوْمِ … مِنَّا غَلَوْ فِي اللُّؤْمْ لَا فِي السَّوْمِ قَدْ مَلَكَتْهُمْ فِتْنَةُ الْكَرَاسِي … فَأَصْبَحَ الْجَارِي بِهِمْ كَالرَّاسِي وَمَحْوُهَا أَثْبَتَ أَنَّ الشَّرَّا … فِيهَا وَفِي أَصْحَابِهَا اسْتَقَرَّا الْجَنَّانُ: ذَهَبْتَ مِنِّي مَذْهَبًا بَعِيدَا … وَصَارَ وَعْدِي كُلُّهُ وَعِيدَا أَنَا شَرَحْتُ الْحَقَّ بِالْإِيضَاحِ … وَلَمْ أُبَالِ مَا يَقُولُ اللَّاحِي وَأَنْتَ فِي بَابِ الحُقُوقِ مُلْحِدُ … تَسْتَيْقِنُ الْفَضْلَ وَلَكِنْ تَجْحَدُ لَكِنْ ... الْجَلَّالِي: ... أَنَا لَمْ أَسْتَفِدْ نَتِيجَهْا … صَادِقَةً كَالْغَرْسِ في مَتِّيجَهْ (42)

_ 40) القلي: نائب تقلّب في عدة مناصب بسطيف. والتيس نائب أيضا ويدعى بومعزة. والغراب نائب آخر يسمّى معمر بن غراب. 41) بيتان: هو الماريشال بيتان رئيس فرنسا في أثناء الحرب العالمية الثانية. 42) متيجة: سهلٌ قريب من مدينة الجزائر.

فَهَلْ أُفَدِّي مُنْبِطًا لَمْ أَجْنِ … مِنْ مَائِهِ غَيْرَ صَرَى وَأَجْنِ؟ (43) وَهَلْ أُزَكِّي بَانِيًا لَمْ يَبْنِ … إِلَّا بِرَمْلٍ هَائِرٍ وَتِبْنِ؟ (44) وَهَلْ أُهَنِّي زَارِعًا بِمَا زَرَعْ … مِنْ حَنْظَلٍ إِنِّي إِذًا نِكْسٌ وَرَعْ؟ (45) الرَّئِيسُ: لَكِنْ ... الْجَلَّالِي: ... أُهَنِّيكَ عَلَى التَّبْكِيتِ … لِرَأْسِنَا وَبَارِعِ التَّنْكِيتِ وَرَأْسُنَا الرَّئِيسُ لَيْسَ يَفْقَهُ … شَيْئًا عَدَا فِي الِارْتفَاعِ أُفْقَهُ (46) الرَّئِيسُ: لَكِنْ ... الْجَلَّالِي: ... وَأَنْتَ يَا أَخِي مَعْذُورُ … لَوْ لَمْ يَكُنْ يَشْمَلُنِي الْحُضُورُ الرَّئِيسُ: دَعْ ذَا وَلَكِنْ ... الْجَلَّالِي: ... أَنْتَ دَعْ وَلَكِنِ … فَإِنَّهَا مَأْوَى اللِّسَانِ الْأَلْكَنِ وَإنَهَا مِنْ أَضْيَقِ الْمَسَاكِنِ … وَإنَهَا مِنْ أَخْبَثِ الْمَرَاكِنِ الرَّئِيسُ: لَكِنْ بَدَا لِي أَنْ نَزِيدَ عُضْوَا ... الْجَلَّالِي: ... أَثْقَلُ. قَبْلَ ذِكْرِهِ. مِنْ رَضْوَى الرَّئِيسُ: لَا بَلْ أَرَقُّ مِنْ نَسِيمِ السَّحَرِ … هَبَّ بِأَنْفَاسِ الْعَبِيرِ الشَّحَرِي (47) الْجَنَّانُ: مَسْأَلَةُ الصَّوْتَيْنِ عَادَتْ جَذَعَهْ … أَوْ لَا فَمَا مَعْنَاهُ فِيمَا ابْتَدَعَهْ (48) لِأَنَّنَا إِذَا غَدَوْنَا أَرْبَعَهْ … أَجَالَ. إِنْ جَدَّ الخِلَافُ أَصْبَعَهْ الْجَلَّالِي: كَأَنَّهُ يَحْسِبُنَا أَمْوَاتَا … فَإِنْ سَكَتْنَا عَدَّهَا أَصْوَاتَا الْجَنَّانُ: أُذَكِّرُ الرَّئِيسَ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمْ … فَفِيهِ لِلنَّفْسِ الحَرِيصَةِ شَكِيمْ وَفِيهِ سِرٌّ لَيْسَ كَالْأَسْرَارِ … إذَا انْجَلَى لِأَنْفُسِ الْأَبْرَارِ فَكُلَّمَا تَنَاوَلَ الْأَعْدَادَا … بِالذِّكْرِ كَيْ يُذَكِّرَ الْعِبَادَا تَنَاوَلَ الوِتْرَ وَخَلَّى الشَّفْعَا … هِدَايَةً لِخَلْقِهِ وَنَفْعَا

_ 43) استعمال الجنْي على الماء تمثيل، وحقيقته في الثمار والأزهار والكمأة. والصَّرى والأجْن وصفان للماء معناهما المتغير الكدر. 44) هائر وهار واحد. الأول هو الأصل والثاني مقلوب عنه ومثله عائق وعاق. 45) النِكس والوَرَع معناهما الجبان. وورع بفتح الراء من أبنية المصادر. والعرب كثيرًا ما يصفون بالمصدر كما قالوا: ثوب خلَق والقياس ورع وخلِق، وأئمة اللغة يسمّونه وصفا بالمصدر. 46) عدا أفقه: جاوز حدّه. 47) نسبة إلى مكان معروف بهذا الاسم. 48) تفطن من الْجَنَّانُ لحيلة ابن حافظ.

وَآيَةُ النَّجْوَى لِقَصْدِي مَاهِدَهْ … وَآيَةُ الْكَهْفِ عَلَيْهِ شَاهِدَهْ (49) الرَّئِيسُ: وَلَمْ نُخَالِفْ- أَبَدًا- طَرِيقَهْ … وَلَمْ ونُنَابِذْ- أَبَدًا- فَرِيقَهْ (50) فَنَحْنُ بِالْعُضْوِ الْجَدِيدِ أَرْبَعَهْ … وَنَحْنُ فِي الْأَصْوَاتِ خَمْسَةٌ مَعَهْ أَنَا وَنَحْنُ أَنْتُمَا وَالْغَائِبْ ... الْجَلَّالِي: ... وَهَذِهِ نِهَايَةُ الرَّغَائِبْ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَزِدْ عُضْوَيْنِ … وَإنْ يَكُونَا فِي الشَّقَا نِضْوَيْنِ الرَّئِيسُ: إِذَنْ نَصِيرُ سِتَّةً بِصَوْتِي … فَلَا تُضِعْ حَقِّي بِهَذَا الصَّوْتِ الْجَلَّالِي: لَوْ كَانَ هَذَا الصَّوْتُ صَوْتَ الْمَوْصِلِي … قَدْ زَلْزَلَ الْأَرْضَ بِضَرْبِ زَلْزَلِ (51) أَوْ أَنَّهُ فِي السَّابِقينَ الْأَوَّلِ … صَوْتُ طُرَيْحٍ فِي الثَّقِيلِ الْأَوَّلِ أَوْ حَكَمِ الْوَادِي أَوِ ابْنِ عَائِشَهْ … يَلْعَبُ بِالْأَلْبَابِ فَهْيَ طَائِشَهْ أَوْ أَنَّهُ صَوْتُ الغَرِيضِ يَطْرَحُهْ … عَلَى الْجَوَارِي وَالْعَقِيقُ مَسْرَحُهْ أَوْ أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ قَدْ كَانَ امْتَزَجْ … بِنَبَرَاتِ مَعْبَدٍ حِينَ هَزَجْ لَمَا صَرَفْتَ فِيهِ كُلَّ الْجَهْدِ … وَلَزَهِدْتَ فِيهِ بَعْضَ الزُّهْدِ لَكِنَّا صَوْتٌ بِالِاسْتِعَارَهْ … جَاءَتْ بِهِ سَخَافَةُ الْحَضَارَهْ وَلَفْظًا لَيْسَ يُفِيدُ مَا وُضِعْ … لَهُ وَلَكِنْ قَدْرُنَا بِهِ وُضِعْ قَدْ تَرْجَمَتْهُ فِئَةُ التَّقْلِيدِ … وَجَهْلُ شَعْبٍ خَامِلٍ بَلِيدِ

_ 49) هذه النكتة من أسرار القرآن التي لا يفسّرها إلا الزمان بفعل حوادثَ مِنْ عقولِ البشر وتأثيره فيها، والقرآن كتاب الدهر. 50) ننابذ: نخالف. 51) ما أبرعَ هذه اللفتة من الْجَلَّالِي وما أبدع هذه القطعة. إنه نقل كلمة الصوت من معناها الاصطلاحي الغث الذي كان الكلام دائرًا عليه في الجلسة إلى معناها الفنّي الساحر وبنى على ذلك التنكيت العميق. فهو يقول للرئيس: لو أن هذا الصوت الذي تسعى جهدك لتحصيله كان صوتًا من أصوات أئمة الغناء من أقطاب هذا الفن لما حرصت هذا الحرص على تحصيله، واسحاق الموصلي وطريح الثقفي وحكم الوادي وابن عائشة والغريض ومعبد. هؤلاء من مشاهير بناة هذا الفن العربي الخالد، وأخبارهم وحدها تاريخ عامر. وزلزل ضارب نابغة ملهم وقد أصبحت هذه الأسماء مضارب أمثال في الأدب العربي الخالد. ولا أروَحَ لنفسي في كل ما قرأتهُ من قول البحتري في لاميته التي وصف فيها الفَرَسَ: هَزِجُ الصَّهِيلِ كَأَنَّ فِي نَغَمَاتِهِ … نَبَرَاتِ مَعْبَدَ فِي الثَّقِيلِ الْأًوَّلِ

الرَّئِيسُ: أَعْطُوا الرِّئَاسَةَ حَقَّهَا … أَعْطُوا الرِّئَاسَةَ حَقَّهَا (52) إِنَّ الْعُقُوقَ مَزَلَّةٌ … تَعِسَ امْرُؤٌ قَدْ عَقَّهَا الْحُرُّ يُعْلِي شَأْنَهَا … وَالْغِرُّ يَبْغِي مَحْقَهَا إِنَّ الرُّؤُوسَ رَئِيسَةٌ … لَمْ تَعْدُ فِينَا أُفْقَهَا اللهُ أَحْسَنَ صَوْغَهَا … وَأَجَلَّهَا وَأَدَقَّهَا أَوَ مَا تَرَاهَا أَشْرَفَتْ … لَا شَيْءَ يَعْلُو فَوْقَهَا مَا الْقَوْلُ فِيمَنْ حَطَّهَا … مَا الْقَوْلُ فِيمَنْ دَقَّهَا؟ أَوْ هَدَّهَا أَوْ قَطَّهَا … أَوْ شَجَّهَا أَوْ شَقَّهَا حَقٌّ عَلَى الرُّؤَسَاءِ أَنْ … يُعْطُوا الجَمَاعَةَ شِقَّهَا هُمْ مَعْشَرٌ لَا يَمْلِكُو … نَ مِنَ الْجَمَاعَةِ رِقَّهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يُحْسِنُوا … تَصْرِيفَهَا أَوْ سَوْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَحْمِلُوا … مَا قَدْ تَجَاوَزَ طَوْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَجْنُبُوا … مَا لَا يُلَائِمُ ذَوْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَرْهَبُوا … رَبًّا تَوَلَّى خَلْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَفْلِقُوا … رَأْسًا يحَاوِلُ فَلْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَسْحَقُوا … خَلْقًا يُسَبِّبُ سَحْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَقْتُلُوا … بُرْغُوثَهَا أَوْ بَقَّهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَحْفَظُوا … أَبَدًا عَلَيْهَا رِزْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَجْرَعُوا … مَحْضَ الْحَيَاةِ وَمَذْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَتْبَعُوا … يُسْرَ الْأُمُورِ وَرِفْقَهَا وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَجْمَعُوا … بِعَصَا الْكِيَاسَةِ فَرْقَهَا وَعَلَى الْجَمَاعَةِ أَنْ تَفِي … لَهُمُ وَتُعْطِي صَفْقَهَا تَعْنُو لَهمْ وَتَمُدُّ فِي … الطَّاعَاتِ دَأْبًا عُنْقَهَا إِنْ كنْتَ كَبْشَ كَتِيبَةٍ … فَاغْشَ الْكَتِيبَةَ وَالْقَهَا فَالْخَيْلُ فِي الْهَبَوَاتِ تَعْـ … ـرِفُ هُجْنَهَا أَوْ عُتْقَهَا إِنَّ البُرُوقَ كَوَاذِبٌ … وَالغَيْثُ يُظْهِرُ صِدْقَهَا

_ 52) هذه القطعة على لسان الرَّئِيسُ هي أعمق ما في الرواية من معان قد بناها على بيان ما للرؤساء وما عليهم، وهي محتاجة إلى قليل من التنقيح.

وَالسُّحْبُ لَا تُحْيِي الثَّرَى … مَا لَمْ تُتَابِعْ وَدْقَهَا (53) إِنَّ الفَخَارَ مَعَارِجٌ … مَنْ يَخْشَهَا لَا يَرْقَهَا وَالنَّخْلَةُ الْقِرْوَاحُ لَا … تَجْنِي التَّنَابِلُ عِذْقَهَا (54) إِنَّ الفَضِيلَةَ خَمْرَةٌ … فَأْتِ الْمَحَامِدَ تُسْقَهَا هِيَ خَمْرَةُ الْأَرْواحِ لَا … أَعْنِي المُدَامَ وَزِقَّهَا إِنَّ الْعَوَالِمَ أَفْصَحَتْ … وَوَعَى الْغَيَالِمُ نُطْقَهَا الْمَجْدُ حِصَّةُ مَنْ سَعَى … بِالْجِدِّ يَنْفُضُ طُرْقَهَا خَاضَ الصَّوَاعِقَ لَمْ يَهَبْ … فِي جَوِّ جَرْبَةَ صَعْقَهَا وَمِنَ الذَّوَابِلِ سُمْرَهَا … وَمِنَ الأَسِنَّةِ زُرْقَهَا يَلْقَى الْخُطُوبَ عَوَابِسًا … بَشَّ الْأَسِرَّةِ طَلْقَهَا أَسْرَارُ رَبِّكَ بَعْضُهَا … عَقْلٌ تَوَلَّى خَرْقَهَا الْعِلْمُ يَسَّرَ فَتْحَهَا … وَالْجَهْلُ عَسَّرَ غَلْقَهَا إِنْ شِئْتَ تَفْقَهْ سِرَّهَا … فَاقْرَا الْحَوَادِثَ وَافْقَهَا لَا تَسْتَجِيبُ لِقَاعِدٍ … فَالْقَ الْمَكَارِمَ تَلْقَهَا وَالْأَرْضُ لَا تُعْطِي الْغِنَى … إِنْ لَمْ تُجَوِّدْ عَزْقَهَا إِنَّ الْحَيَاةَ مَوَارِدٌ … لِلْحَقِّ صَابَتْ غَدْقَهَا فَالذِّمْرُ يَشْرَبُ صَفْوَهَا … وَالْغُمْرُ يَضْرِبُ رَنْقَهَا إِنَّ اللَّيَالِيَ لُجَّةٌ … وَالْكُلُّ يَحْذَرُ غَرْقَهَا تُزْجِى إِلَى كُرَمَائِهَا … دُهْمَ الخُطُوبِ وَبُلْقَهَا ذُو اللُّبِّ يَلْبَسُ لِلَّيَا … لِي كَيْسَهَا أَوْ حُمْقَهَا خَيْرُ الرِّجَالِ السَّابِقِيـ … ـن فَتًى يُجَارِي شَبْقَهَا نَسَقَ الْأُمُورَ قَلَائِدًا … غُرًا فَأَحْسَنَ نَسْقَهَا وَسَقَ الْعَظَائِمَ مَحْمَلًا … خِفًّا فَأَجْمَلَ وَسْقَهَا مَا هَابَ فِي غَمَرَاتِهَا … رَعْدَ الْخُطُوبِ وَبَرْقَهَا شَرُّ الْخَلَائِقِ أُمَّةٌ … عَلِمَ الْمُهَيْمِنُ فِسْقَهَا فَأَذَلَّهَا وَأَقَلَّهَا … عَدًّا وَقَتَّرَ رِزْقَهَا

_ 53) الودق: المطر. 54) النخلة القرواح: الملساء الطويلة. قال سويد بن الصامت الأنصاري: أَدِينُ وَمَا دَيْنِي عَلَيْكُم بِمَغْرَمٍ … وَلَكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلَادِ القَرَاوِحِ

ضَاعَتْ وَإنْ كَثُرَ الْحَصَا … أُمَمٌ أَضَاعَتْ خُلْقَهَا أَوَ مَا تَرَى أَنْ قَدْ عَلَا … غَرْبُ الْمَمَالِكِ شَرْقَهَا إِنَّ الْأَكَارِمَ عُصْبَةٌ … نَمَتِ الْمَكَارِمُ عِرْقَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قُسُّهَا … أَوْفَى فَعَفَّى شَقَّهَا ثُمَّ انْبَرَى الْإِسْلَامُ يَرْ … تُقُ بِالْفَضِيلَةِ فَتْقَهَا النُّورُ منْبَعِثُ السَّنَا … يَهْدِي الْعَوَالِمَ (رَشْدَهَا) وَالْعِلْمُ يَقْتَادُ الْحِجَى … لِلْحَقِّ يُذْكِي سَوْقَهَا حَذِقَتْ فُنُونَ الْعِلْم وَالتَّـ … ـارِيخُ سَجَّلَ حِذْقَهَا خَفَقَتْ بُنُودُهُم عَلَى … كُلِّ الْمَمَالِكِ خَفْقَهَا سَلْ طَارِقًا وَسَلِ الْمَدَا … ئِنَ إِذْ تَوَلَّى طَرْقَهَا وَإلَى الْفُتُوحَ جَلَائِلًا … غُرًّا وَمَهَّدَ طُرْقَهَا سَلْ بِالْمَشَارِقِ عَنْهُمُ … بَغْدَانَهَا وَدِمَشْقَهَا مَهْدُ الْمَعَارِفِ مِنْهُمَا … نَشَقَ الْأَعَاجِمُ نَشْقَهَا عَبِقَتْ بِرَيَّاهَا الْمَشَا … رِقُ وَالْمَغَارِبُ عَبْقَهَا حَتَّى انْبَرَى التَّفْرِيقُ يَفْـ … ـتِقُ بِالرَّذِيلَةِ رَتْقَهَا رَشَقَتْهُم نَبْلُ الْعِدَا … وَالدَّهْرُ سَدَّدَ رَشْقَهَا مَشَقَ السُّيُوفَ لِحَرْبِهِمْ … جَهْرًا وَوَاصَلَ مَشْقَهَا يَا سَاخِرًا بِي كُلَّمَا … سَمِعَ الْحَقِيقَةَ قَهْقَهَا ألْخَيْر مَا بيَّنْتُهُ … وَالشَّرُّ أَنْ لَا تَفْقَهَا الْجَنَّانُ: أَمَا تَرَى أَنَّ الرَّئِيسَ قَدْ عَجَزْ … فَأَخْرَجَ الْمِيزَانَ عَنْ بَحْرِ الرَّجَزْ الْجَلَّالِي: مَهْ وَأَبِيكَ إِنَّه لَشَاعِرْ … وَإِنَّهُ يَسْتَوْقِفُ الْمَشَاعِرْ فَمَا عَرَفتُهُ وَلَا غَيْرِي عَرَفْ … بِأَنَّهُ يَمْلِكُ هَذِهِ الطُّرَفْ فَلْنَتَنَازَلْ عَنْ مِكَاسِ السِّعْرِ … فِي الْعُضْوِ إِكْرَامًا لِهَذَا الشِّعْرِ الْجَنَّانُ: وَمَنْ يَكُونُ الرَّجُلُ الْمَزِيدُ … حَتَّى نَرَى نَنْقُصُ أَوْ نَزِيدُ؟ الرَّئِيسُ: هُوَ أَبُو الْأَعْمَالِ وَالْكَمَالِ … صَفِيُّنَا الْفَذُّ أَبُو الشِّمَالِ الْجَنَّانُ: يَا حَبَّذَا وَمَرْحَبًا وَأَهْلَا … وَتَكْرِمَاتٍ وَمَقَامًا سَهْلَا الْجَلَّالِي: نِعْمَ الْفَتَى هُوَ وَلَسْتُ أَدْفَعُهْ … عَنْ رُتْبَةِ الْفَضْلِ وَلَكِنْ أَرْفَعُهْ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْمَهِينَهْ … فَهْيَ بِكُلِّ ذِلَّةٍ رَهِينَهْ وَرُبَّمَا كَانَتْ لَهُ أَعْمَالُ … يَطْرُقُهَا التَّعْطِيلُ وَالْإِهْمَالُ

أَوْ كَانَ لَا يَشْرَكُنَا فِي الْمَعْنَى … وَالْغَرَضِ الَّذِي لَهُ اجْتَمَعْنَا وَإنَّنِي أَعْرِفُهُ أَرِيبَا … قَدْ مُلِئَتْ حَيَاتُهُ تَجْرِيبَا تُعْطِي لِكُلِّ حَالَةٍ مِقْدَارَهَا … وَرَيْثَهَا بِالقِسْطِ أَوْ بِدَارَهَا يَقُومُ بِالْحُقُوقِ فِي أَوْقَاتِهَا … لَا يَنْسَأُ الآجَالَ عَنْ مِيقَاتِهَا أُجِلُّهُ عَنْ أَنْ يَكونَ مِثْلَنَا … وَيَسْتَطِيبَ خَمْطَنَا وَأَثْلَنَا يُدْعَى إِلَى مُسْتَتِرٍ مَجْهُولِ … وَيَسْتَعِيضُ الْقَفْرَ بِالْمَأْهُولِ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّنَا لِلسَّاعَهْ … لَمْ نَتَبَيَّنْ هَذِهِ الْبِضَاعَهْ وَلَمْ تَزَلْ بِضَاعَةً مَلْفُوفَهْ … وَبِالْغُمُوضِ وَالْخَفَا مَحْفُوفَهْ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا ذَا الْبُطْئَا … فَإِنَّ قَتْلَ الْوَقْتِ كَانَ خِطْئَا الْجَنَّانُ: تَعِيبُنِي وَالْبُطْءُ مِنْكَ جَاءَا … فَهَلْ تَرَى لَكَ مِنْهُ وِجَاءَا الْجَلَّالِي: رَمَيْتَنِي بِدَائِكَ الْعَيَاءِ … وَجِئْتَ بِالْبَهْتِ بِلَا حَيَاءِ يَا عَجَبًا يَثْنِي الْحِجَى مُفَكِّرَا … إِبْلِيسُ أَمْسَى وَاعِظًا مُذَكِّرَا إِنِّي أَجَبْتُ الشَّيْخَ عَنْ مُلَاحَظَهْ … وَهْوَ حَلِيفُ الْحَقِّ فِيمَا لَاحَظَهْ إِنَّ الْأَخَ الْجَدِيدَ لَا يَشْرَكُنَا … لَكِنَّهُ فِي النَّصْرِ لَا يَتْرُكُنَا وَإِنَّهُ يَنْفَعُنَا بِحَزْمِهِ … وَرَأْيِهِ وَحِرْصِهِ وَعَزْمِهِ وَإنَّنَا نُرِيدُهُ لِلْحَرَكَهْ … وَالْعَمَلِ الْمُثْمِرِ لَا لِلْبَرَكَهْ وَفِيهِ بَعْدَ الرَّأْيِ وَالْإِشَارَهْ … عَوْنٌ عَلَى نُفُوسِنَا الْأَمَّارَهْ (الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: يَدْخُلُ تِلْمِيذٌ صَغِيرٌ بِيَدِهِ طُبْسِي (55) فَطَائِرٌ بَارِدَةٌ). الرَّئِيسُ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ الْخَيْرُ يَا تِلْميذُ؟ ... الْجَنَّانُ: ... هَلَّا بِجَدْيٍ لَحْمُهُ حَنِيذُ التِّلْمِيذُ: جَاءَ بِهَا أَسْوَد ُكَالْوَصِيفِ … مِنْ بَاعَةِ الْخُبْزِ عَلَى الرَّصِيفِ وَقَالَ قَدْ بَارَتْ وَطَالَ مُكْثُهَا … وَلَمْ تَكُنْ كَالصُّوفِ يُجْدِي نَكْثُهَا فَاذْهَبْ بِهَا صَدَقَةً لِلطَّلَبَهْ … فَالْفَقْرُ فِيهِمْ عَلَمٌ بِالْغَلَبَهْ قُلْتُ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: ذُو الْأَنْفِ الْأَشَمْ … وَطَالِبٌ فِي عُلْبَةِ الْقَرْنِ يَشَمْ وَثَالِثٌ رَأَيْتُهُ فِي الْمَدْرَسَهْ … يَجُولُ فِي أَرْجَائِهَا كَالْحَرَسَهْ الرَّئِيسُ: جَنَى عَلَيْكُمْ وَصْفُكُمْ يَا سَادَهْ ...

_ 55) طُبْسي: صحن.

الْجَلَّالِي: ... إِنَّ الْمَرِيضَ يَأْلَفُ الْوِسَادَهْ الْجَنَّانُ: جَنَتْ عَلَيْكُمْ عُصْبَةٌ بِالْبَادِيَهْ … مَخَايِلُ الذُّلِّ عَلَيْهَا بَادِيَهْ قَدْ أَرْشَدُوا النَّاسَ إِلَى احْتِقَارِهِمْ … بِذُلِّهِمْ لِلنَّاسِ وَافْتِقَارِهِمْ الْجَلَّالِي: جَنَى عَلَيْنَا أَنَّنَا بَيْنَ سَوَادْ … لَمْ يَفْرِقُوا بَيْنَ التَّوَالِي والْهَوَادْ الرَّئِيسُ: لِنَعْتَصِمْ بِالحَقِّ وَلْنُصَابِرْ … حَتَّى تَضُمَّ نَشْرَنَا الْمَقَابِرْ (يَضَعُونَ الطُّبْسِي عَلَى الْمَكْتَبِ وَيَلْتَفُّونَ عَلَيْهِ). الرَّئِيسُ: كُلُوا عَلَى اسْم اللهِ وَاسْتَرِيحُوا … وَاسْتَمْتِعُوا إِنَّ الْحَيَاةَ رِيحُ الْجَلَّالِي: الرَّقْصُ رَقْصُ (طَنْقُو) (56) … وَالزَّيْتُ زَيْتُ (صَنْقُو) (57) قَدْ ذُقْتُهُ فَآذَى … مُذْ كُنْتُ فِي (مَرَنْقُو) (58) الرَّئِيسُ: مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَكَ لَنْ يُصِيبَكْ … قُلْ لِي فَهَلْ تَهَبُ لِي نَصِيبَكْ؟ الْجَلَّالِي: أَهَبُهُ لِصَاحِبِي الْجَنَّانِ … فَطَالَمَا بِحَظِّهِ وَاسَانِي الْجَنَّانُ: أَحُطُّ فِيهَا بِالْبَنَانِ الْخَمْسِ … إِنَّ لَهَا فَرْقَعَةً كَالْهَمْسِ يَا حُسْنَهَا دَائِرَةً كَالشَّمْسِ … لَوْ لَمْ تَكنْ بَارِدَةً فِي اللَّمْسِ الْجَلَّالِي: تَشَابَهَ الْمَأْكُولُ وَالْمَقُولُ … لَدَيْكَ وَالْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ الرَّئِيسُ: لَعَلَّنَا يَا قَوْمُ لَوْ فَصُحْنَا … لَمْ نَقُلِ الطُّبْسِي وَقُلْنَا الصَّحْنَا الْجَلَّالِي: الصَّحْنُ قِدْرٌ جُدْرُهُ قَصِيرُ … شِعْرُ ابْنِ كُلْثومٍ لَه نَصِيرُ وَالرِّفْدُ وَالْعُسُّ مَعًا وَالْجُنْبُلُ … وَالْقَعْبُ أَنْوَاعٌ رَوَاهَا قُنْبُلُ وَقَدَحُ الشُّرْبِ بِفَتْحَتَيْنِ … وَالْجَمْعُ أَقْدَاحٌ بِغَيْرِ مَيْنِ وَالْقِدْحُ فِي الْأَزْلَام بِالْكَسْرِ عُرِفْ … وَعَنْ قِدَاحٍ جَمْعُهُ لَا يَنْحَرِفْ وَالْقَدْحُ فِي الذَّمِّ بِفَتْحٍ فَسُكُونْ … وَمِثْلُهُ لِلزَّنْدِ إِنْ أَوْرَى يَكُونْ وَفِي الْجِبَالِ قَرْيَةٌ تُدْعَى الطَّبَسْ … لَعَلَّ هَذَا الْإِسْمَ مِنْهَا مُقْتَبَسْ (يَدْخُلُ تِلْمِيذٌ آَخَرٌ فِي يَدِهِ قُرْعَةُ شَمَّةَ (59) مَلْفُوفَةٌ فِي قِرْطَاسٍ) التِّلْمِيذُ: هَدِيَّةٌ مِنْ رَجُلٍ بَرَّانِي … مثْلُ حِمَارِ جَارِنَا الْحَرَّانِي

_ 36) طنقو: اسم رقصة. والقاف تُنطق كالجيم المصرية. 37) صنقو: نوع من الزيت. والقاف تُنطق كالجيم المصرية. 38) مرنقو: اسم مدينة، تسمّى الآن حَجُّوط. 39) قرعة شمة: قنينة يوضع فيها مسحوق التبغ الذي يُسمّى (شَمَّة) لأنه يُشَمُّ.

كَلَّفَنِي مِنْ بَعْدِ مَا مَنَّانِي … بِحَمْلِهَا لِشَيْخِنَا الْجَنَّانِي الْجَلَّالِي: قَدْ كَذَبَ الطِّفْلَ وَلَوْ قَدْ صَدَقَهْ … لَكَانَتِ الشَّمَّةُ أَيْضًا صَدَقَهْ الْجَنَّانُ: أَحْسَنْتَ يَا مُهْدِيَ هَذِي الْقَرْعَهْ … وَوَرَّثَ الْأَصْلُ السَّمَاحَ فَرْعَهْ لَمْ أَدْرِ مَنْ أَنْتَ وَلَكِنْ لِلْكَرَمْ … مَزِيَّةٌ تُرْعَى كَمَا تُرْعَى الْحُرَمْ (يَفْتَحُهَا وَيَذُوقُهَا بِأَنْفِهِ) بُورِكَتِ الْأَيْدِي اللَّوَاتِي حَكَّتْ … دُخَانَهَا وَفَرَّكَتْ وَفَكَّتْ مَا ضَرَّهَا وَهْيَ بِهَذِي النَّشْوَهْ … لَوْ أَوْدَعَتْهَا الْغَانِيَاتُ القَشْوَهْ وَبُورِكَ التُّرْبُ الَّذِي أَخْرَجَهَا … وَفِي خَفَا أَطْوَارِهِ أَدْرَجَهَا وَبُورِكَ الظَّرْفُ الَّذِي حَوَاهَا … وَبُورِكَ الْمَاءُ الَّذِي قَوَّاهَا وَبُورِكَ الْقِرْطَاسُ حِينَ لَفَّهَا ... الْجَلَّالِي: ... وَبُورِكَ الْخَيْشُومُ حِينَ نَفَّهَا (60) وَبُورِكَ الْفَمُ الَّذِي قَدْ سَفَّهَا … وَلَمَّهَا بِالْأَكْلِ حَتَّى اسْتَفَّهَا الْجَنَّانُ: (صَمَّطْتَهَا) (61) عَنِّي بِذِكْرِ الأَكْلِ … إِذْ لَيْسَ شَكْلُ الْآكِلِينَ شَكْلِي الْجَلَّالِي: أَعْذِرْ أَخًا تُطْرِبُهُ هَذِي النُّكَتْ … وَلَوْ جَدَعْتَ أَنْفَهُ لَمَا سَكَتْ لَمَّا رَأَيْتُ قَرْعَةً قَدْ لُفَّتْ … وَبِيَدَيْكَ الرَّطْبَتَيْنِ حُفَّتْ كَأَنَّ فِكْرِي جَرَّهُ بِمِقْوَدِ … قَوْلٌ قَدِيمٌ فِي نَصِيبِ الْأَسْوَدِ (كَأَنَّهُ لَمَّا بَدَا لِلنَّاسِ … ...... لُفَّ فِي قِرْطَاسِ) الْجَنَّانُ: قُبْحًا لِأَشْيَاءٍ بِهَا تَرْمِينَا … وَلِنِبَالٍ رِيشُهَا يُصْمِينَا الرَّئِيسُ: الْجَمْع لَا يُثْمِرُ إلَّا خَيْرَا ... الْجَلَّالِي: ... وَالطَّرْحُ لَا يُثْمِرُ إِلَّا ضَيْرَا الرَّئِيسُ: لَسْتُ أُرِيدُ الْجَمْعَ فِي فَنِّ الْحِسَابْ … وَلَيْسَ لِي إِلَى جُمُوعِهِ انْتِسَابْ وَإنَّمَا أَرَدْتُ الِاجْتِمَاعَا … لِلْخَيْرِ وَالرُّشْدِ وَالِاسْتِمَاعَا فَمِنْ ثِمَارِ الْجَمْعِ فِيمَا تَشْهَدُونْ … جَاءَتْ هَدَايَا الْخَيْرِ مِمَّنْ تَعْهَدُونْ الْجَلَّالِي: غَلِطْتَ إِذْ سَمَّيْتَ بِالْهَدِيَّهْ … فَطَائِرًا فِي صُنْعِهَا رَدِيَّهْ وَشَمَّةً مُنْتِنَةَ الْأَنْفَاسِ … جَالِبَةً لِلْقَيْءَ وَالْعُطَاسِ وَصَاحِبُ الْأُولَى دَعَاهَا صَدَقَهْ … بِنِيّةٍ مِنْ قَصْدِهِ مُحَقَّقَهْ

_ 60) نَفَّها: كلمة دارجة معناها استنشق. 61) صمَّطتها: كلمة عامية معناها "لقد أَثْقَلْتَ".

تَبًّا لَهُ فَإِنَّه قَدْ جَعَلَا … للهِ مَا يَكْرَهُهُ وَافْتَعَلَا تَقْدِيمَهَا مِنْهُ خَرَابُ ذِمَّهْ … وَأَخْذُكُمْ لَهَا سُقُوطُ هِمَّهْ وَالثَّانِي خَصَّ أَقْرَعًا بِقَرْعَهْ … فَمَا تَرَى لَوْ خَصَّهُ بِصَرْعِهْ؟ وَلَا مِرَاءَ أَنَّ بَيْنَ الْمُهْدِي … وَ (شَيْخِنَا) تَوَاثُقًا بِعَهْدِ وَصِلَةً أَنْفِيَّةً قَوِيَّهْ … قَدْ عَقَدَتْهَا الشَّمَّةُ الْغَوِيَّهْ إِنَّ الْأُنُوفَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ … وَثَائِقٌ بِالْحِلْفِ وَالْوَلَاءِ تَرَاهُمُ إِنْ جَمَعَتْهُمْ حَضْرَهْ … تَفَاهَمُوا بِغَمْزَةٍ وَنَظْرَهْ وَسَافَرَتْ بَيْنَهُمُ تِلْكَ الْعُلَبْ … وَبَذَلَتْ أَعْلَاقَهَا قَبْلَ الطَّلَبْ وَكُلُّ شَمَّامٍ رَأَى شَمَّامَا … هَشَّ لَهُ مَهْتَبِلًا هَمَّامَا كَالْأَصْفِيَاءِ حَفِظُوا الذِّمَامَا … وَتَرَكُوا الْإِغْبَابَ وَالْإِلْمَامَا وَكُلَّمَا تَكَتَّمَ الشَّمَّامُ … فَعَرْفُهَا عَنْ حَالِهِ نَمَّامُ وَمَا رَأَى النَّاسُ كِرَامًا غَيْرَهُمْ … فِي الْمَحْلِ مَارُوا الْمُعْوِزِينَ مَيْرَهُمْ وَعِنْدَهُمْ مصْطَلَحَاتُ الصَّرْفِ … ظَاهِرَةً فِي فِعْلِهِمْ وَالظَّرْفِ النَّقْلُ وَالتَّحْرِيكُ وَالتَّسْكِينُ … وَالْفَتْحُ وَالتَّشْدِيدُ وَالتَّمْكِينُ وَالضَّمُّ وَالصِّحَّةُ وَالْإِعْلَالُ … وَالْحَذْفُ وَالتَّعْوِيضُ وَالْإِبْدَالُ وَالْقَلْبُ وَالتَّرْخِيمُ وَالْإِدْغَامُ … وَالْفَكُّ وَالتَّخْفيفُ وَالْإِشْمَامُ وَفِيهِم الْأُصُولُ وَالزَّوَائِدُ … وَعِنْدَهُمْ فِي شَمِّهَا عَوَائِدُ أَمَّا الدُّخَانُ وَلَه أَسْمَاءُ … كُثْرٌ فَلَمْ تَأْتِ بِهَا السَّمَاءُ وَهَلْ سَمِعْتَ مَا يَقولُ الرَّاوِي … فِي وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمُهُ الطَّهْرَاوِي الرَّئِيسُ: عَجِبْتُ مِنْ خُرْطُومِكَ الْأُشَمِّ … كَيْفَ حَرَمْتَهُ لَذِيذَ الشَمِّ وَلَوْ غَدَا حَامِلُهُ مِنْ هَاشِمِ … كَانَ أَمِيرَ أُمَّةِ الْخَيَاشِمِ وَلَوْ غَدَا حَامِلُهُ شَمَّامَا … كَانَ لَهمْ بِأَنْفِهِ إِمَامَا لَوْ كُنْتَ فِي زُمْرَتِهِمْ دَخَلْتَا … كَرُمْتَ فِي النَّاسِ وَمَا بَخِلْتَا وَإنَّ لِي فِيكَ اعْتِقَادًا جَازِمَا… أَقُولُهُ مُسْتَبْصِرًا وَجَازِمَا الْجَلَّالِي: طُولُ الْعَرَانِينِ دَلِيلُ الشَّرَفِ … لَا تَنْتَحِلْ عِرْفَانَ مَا لَمْ تَعْرِفِ أَجْدَادُنَا الْعُرْبُ بِهِ تَفَاخَرُوا … وَقَالَ فيهِ أَوَّلٌ وَآخِرُ وَقَدْ يَتِيهُ الرَّجُلُ الْأُنَافِي … بِالْأَنْفِ لَا بِالْأَصْلِ مِنْ مَنَافِ ولَيْسَ فِي الشَّمَّةِ مَا يَزِيدُ … إِلَّا ادِّعَاءً فِعْلُهُ مَزِيدُ ثمَّ لَهَا بَعْدُ ذُنَانٌ قَذِرُ … كَأَنَّهُ مِنَ الرَّجِيعِ يَقْطُرُ

أَصْحَابُهَا فِي الْحَيْضِ طُولَ الدَّهْرِ … وَالْحَيْضُ يَأْتِي مَرَّةً فِي الشَّهْرِ وَقَدْ حَوَتْ مِنَ الْعُيُوبِ الْكُبَرِ … مَا يَقْتَضِينِي أَنْ أَرَى مِنْهَا بَرِي تَنْسَابُ بَيْنَ أُنُفٍ تَشُمُّ … وَأَلْسُنٍ مِنْ تَحْتِهَا تَذمُّ وَلَيْسَ فِي الْعَيْبِ كَهَذِي الْخَلَّهْ … أَنْ يَشْهَدَ الْجَارُ بِسُوءِ الدَّخْلَهْ إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْأَنْفِ وَاللِّسَانِ … إِلَّا زُهَا ذُبَابَةِ السِّنَانِ الرَّئِيسُ: هَلْ لَكَ يَا جَنَّانُ أَنْ تُقَارِعْ … زَمِيلَكَ الشَّيْخَ الْأَدِيبَ الْبَارِعْ فَقَدْ دَهَاكَ بِقَوَافٍ مُحْكَمَهْ … كَأَنَّهَا وَثَائِقٌ فِي الْمَحْكَمَهْ وَقَالَ فِي ذَاتِ السُّعَاطِ الْخَمْرِي … مَا لَمْ يَقُلْهُ مَالِكٌ فِي الْخَمْرِ أَذَلَّهَا وَهْيَ الْعَزِيزَةُ عَلَيْكْ … وَذَمَّهَا وَهْيَ الْحَبِيبَةُ لَدَيْكْ وَنَالَهَا بِالْعَيْبِ وَالتَّحْقِيرِ … وَهْيَ تُجَلُّ عَنْ سِوَى التَّوْقِيرِ أَلَا تَغَارُ عَنْ حَبِيبِ الشَّمِّ … فَتَنْتَحِي مَنْ ذَمَّهُ بِالذَّمِّ وَمَنْ أَحَبَّ هِرَّةً حَمَاهَا … وَذَادَ عَنْهَا الطَّارِقِي حِمَاهَا فَكَيْفَ بِالْمَعْشُوقَةِ الْمِمْرَاحِ … جَالِبَةِ الْبَسْطِ وَالِانْشِرَاحِ؟ طَارِدَةِ الْغَمِّ وَالِاكْتِئَابِ … نَاقِلَةِ الرَّوْحِ لِشَهْرِ آبِ فَصُنْ حِمَاهَا بِالدِّفَاعَ فَقَلِيلْ … فِي صَوْنِ مَنْ تُحِبُّهُ بَذْلُ الْجَلِيلْ وَعَارِضِ الْقَوْلَ بِقَوْلٍ يُفْحِمُهْ … تُسْدِيهِ مِنْ مَدِيحِهَا وَتُلْحِمُهْ وَشَنِّفِ الْآذَانَ مِنَّا بِالذُّرَرْ … وباللّآلِئِ الثَّمِينَةِ الْغُرَرْ وَالشَّيْخُ فِي هُجُومِهِ الْمُجْتَاحِ … كَأَنَّه يَدْعُوكَ لِلْكِفَاحِ وَقَدْ وَقَفْتَ مَوْقِفًا يُؤَرِّخُ … فِيهِ عَلَيْكَ أَوْ لَكَ الْمُؤَرِّخُ وَفِيهِ كَشْفٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرْ … مِنْ نَسَبٍ فِي الْعُرْبِ وَالْعُجْمِ بُتِرْ فَإِنْ بَلَغْتَ مِنْ كِفَاحِهِ الْأَرَبْ … فَأَخْضَرُ الْجِلْدَةِ مِنْ بَيْتِ الْعَرَبْ وَإنْ تَخِمْ وَقَسْوَرُ الْغَابِ هَجَمْ … فَأَصْفَرُ الْجِلْدَةِ مِنْ بَيْتِ الْعَجَمْ وَمَنْ يَكُنْ فِي غَرْبِهِ وَضُوخُ … حَقَّ عَلَيْهِ الرَّضْخُ لَا الرُّضُوخُ وَهَذِهِ هِيَ الْمَيَادِينُ الَّتِي … قَدْ رَاضَهَا أَسْلَافُنَا فَذَلَّتِ فَمِنْ قَدِيمٍ عُرِفَ السِّجَالُ … وَكَانَ كَالْحَرْبِ لَهُ رِجَالُ وَكَانَ فِي الشِّعْرِ لَهُ مَجَالُ … رَوِيَّةٌ يَغْمُرُهَا ارْتِجَالُ مَشَاهِدٌ لِلْغَابِرِينَ الْأُوَّلِ … لِغَيْرِهِمْ فِي الدَّهْرِ لَمْ تُنَوَّلِ مَفَاخِرٌ عَلَوْا بِهَا عَلَى الْأُمَمْ … وَأَحْرَزُوا الْفَخْرَ الصَّمِيمَ مِنْ أَمَمْ مَوَاقِفٌ بَيَّضَتِ الْوُجُوهَا … وَانْصَرَمَتْ وَمِنْكُمَا نَرْجُوهَا

فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ فِي الْآدَابِ … فِي عَصْرِنَا رَهِينَةُ الإِجْدَابِ فَأَشْقِيَاهُ مِنْ حَيَا الْقَرَائِحِ … صَوْبَ الْغَوَادِي الدُّلَّجِ الرَّوَائِحِ وَأَحْيِيَاهُ فَحَيَاةُ الْأَدَبِ … عِنْدَ النُّهَى إِحْيَاءُ مَجْدِ الْعَرَبِ وَجَدِّدَا أَرْسُمَهُ الْبَوَالِي … كَمَا ازْدَهَتْ فِي الأَعْصُرِ الْخَوَالِي هَيْهَاتَ مِمَّنْ سَامَهَا انْتِسَافَا … مَنْ زَادَ فِي أَصْلِ الْبِنَاءَ سَافَا الْجَنَّانُ: يَا قَوْلَةً قَدْ قَالَهَا أَبُو لَهَبْ … تَبًّا لَهُ فِي الْغَابِرِينَ وَذَهَبْ كَاذِبَةً خَاطِئَةَ الْمَسَاقِ … صَادِقَةً فِيكَ عَلَى اتِّسَاقِ كَأَنَّهَا وَدِيعَةٌ مُدَّخَرَهْ … لَكَ وَقَدْ قَبَضْتَهَا بِأَخَرَهْ دَعَوْتَنَا لِغَرَضٍ مُهِمِّ … كَمَا زَعَمْتَ أَوْ لِهَذَا الرِّمِّ فَمَا قَضَيْنَا وَطَرًا مُذْ أَمْسَا … وَقَدْ قَضَى فِي اللَّهْوِ سَاعًا خَمْسَا وَقَدْ أَضَعْنَا جَلْسَةً خَطِيرَهْ ... الْجَلَّالِي: ... وَقَدْ أَكَلْتَ بَعْدَهَا فَطِيرَهْ الْجَنَّانُ: وَقَدْ خَسِرْنَا حِصَّةً مُهِمَّهْ ... الْجَلَّالِي: ... بَلْ قَدْ رَبِحْتَ قَرْعَةً مِنْ شَمَهْ أَمَّا أَنَا فَلَمْ أُحَصِّلْ فَائِدَهْ … وَلَمْ تَعُدْ مِنْكُمْ عَلَيَّ عَائِدَهْ فَلَا لِذِي الصَّحْنِ عَلَيَّ أَجْرُ … وَلَا لِذِي الشَّمَّةِ مِنِّي شُكْرُ الْجَنَّانُ: لَا تَقْطَعِ الْكَلَامَ عَنِّي … حَتَّى أَحُتَّ هَذَا الْهَمَّ عَنِّي حَتَّا وَأَفْثَأَ الْغَمَّ الَّذِي فِي صَدْرِي … فَقَدْ غَلَى كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ مِنْكَ وَمِنْ رُؤَيْسِكَ الْخَرْنَانِ … فَأَنْتُمَا قَوْسٌ بِلَا إِرْنَانِ (62) أَضَعْتُمَا الْوَقْتَ النَّفِيسَ فِي حَقِيرْ … مِنْ غَرَضٍ لَمْ نَسْتَفِدْ مِنْهُ نَقِيرْ أَطَلْتُمَا الْقَوْلَ بِدُونِ طَائِلْ … أَوْلَا فَمَا هَذَا الْعُبَابُ السَّائِلْ؟ قُبِّحْتُمَا مِنْ مَاضِغَيْ كَلَامِ … (وَمُسْتَحِقِّي الْعَذْلِ وَالْمَلَامِ) أَسْرَفْتُمَا فِي اللَّغْوِ وَالْمِرَاءِ … وَفِي الْكَلَامِ الْفَارغِ الْهُرَاءِ وَجِئْتُمَا بِمَا يَضِيقُ الصَّدْرُ … بِهِ وَلَا يَقْوَى عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَحَالَةٌ تُبْدَا بِهَذَا النَّشْرِ … مَوْصُولَةُ الْحَبْلِ بِيَوْم الْحَشْرِ وَأَنْتَ غِرًّا أَبْلَهٌ مُغَفَّلُ … بَابُ الذَّكَا دُونَكَ بَابٌ مُقْفَلُ قَدْ جَرَّكَ الرَّئِيسُ فَانْجَرَرْتَا … وَبِدَوَاعِي مَكْرِهِ اغْتَرَرْتَا

_ 62) الخَرنان: كلمة عامية وهو الذى يكرر الكلام الفارغ، وأرنان القوس صفة مدح لها وهو تصويتها عند صدور السهم عنها، ويوصف السهم بالأرنان أيضًا.

وَقَدْ بَدَا أَنَّ لَا شَيْطَانَا … يَمُدُّ فِي الْكَيْدِ لَنَا الْأَشْطَانَا يَلْهُو بِنَا فإِنْ رَأَى إِغْضَاءَا … مِنِّي وَمِنْكَ أَرَّثَ الْبَغْضَاءَا وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ الشَّبَكَهْ … لِي فِي اقْتِرَاحٍ صَاغَهُ وَسَبَكَهْ لَكِنْ قَطَعْتُ الْحَبْلَ فِي يَدَيْهِ … إِذْ كُنْتُ عَنْ عِلْمٍ بمَا لَدَيْهِ وَعَدِّ عَنْ رَئِيسِنَا وَمَكْرِهِ … وَمَا أَتَى فِي صَحْوِهِ وَشَكْرِهِ (63) وَقُلْ هَدَاكَ اللهُ لِلصَّوَابِ … أَمَا لِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ جَوَابِ؟ وَهَلْ لِهَذَا الْمُبْتَدَا مِنْ خَبَرِ؟ … وَإنْ تَعُدْ فَإِنَّنِي مِنْكَ بَرِي الْجَلَّالِي: مِنِّي؟ ... الْجَنَّانُ: ... نَعَمْ مِنَ ابْنِ أُخْتِ خَالَتِكْ … فَمَا رَأَيْتُ حَالَةً كَحَالَتِكْ تَفْتَنُّ فِي الْهُزْءِ بِنَا وَتَعْبَثُ … وَقَدْ تَطيِبُ تَارَةً فَتَخْبُثُ وَتَارَةً تَلْبَسُ فَرْوَةَ فَقِيهْ … وَتَارَة تَجْتَابُ بُرْدَةَ سَفِيهْ وَتَارَةً تَبْتَزُّ جِلْدَ لُغَوِي … فِي لَغْوِهِ إِنَّكَ فِينَا لَغَوِي كَأَنَّمَا أَوْقَاتُنَا أَهْمَالُ … فِي الْبِيدِ أَوْ لَيْسَتْ لَنَا أَعْمَالُ نَلْهُ وَحَقُّ الْوَقْتِ جِدٌّ وَنِضَالْ … وَاللَّهْوُ فِي أَمْثَالِنَا دَاءٌ عُضَالْ أَمَّا الرَّئِيسُ فَهْوَ قَدْ دَعَانَا … أَمْسِ فَلَبَّيْنَا الدُّعَا سُرْعَانَا دَعَا دُعَاءً مُجْمَلًا فَأَشْعَرَا … نُفُوسَنَا أَنَّ هُنَا خَطْبًا عَرَا كَأَنَّ خَيْلًا طَرَقَتْ حِمَانَا … وَأَنَّ جَيْشًا بِالْبَلَا رَمَانَا أوْ أَنَّهُ بَيَّتَنَا عَدُوُّ … وَامْتَنَعَ الرَّوَاحُ وَالْغُدُوُّ هَا أَنَّنَا جِئْنَا فَأَيْنَ الْخَطْبُ … وَهَذِهِ الرَّحَى فَأيْنَ الْقُطْبُ؟ وَقَدْ مَضَى يَوْمَانِ فِي بَحْثٍ عَقِيمْ … وَجَدَلٍ فِي الرَّأْيِ غَيْرِ مُسْتَقِيمْ لَمْ يَضْبِطِ الْجَلْسَةَ أَيَّ ضَبْطِ … وَلَمْ يُحَقِّقْ شَرْطَهَا بِالرَّبْطِ وَكُلَّمَا انْدَفَعْتَ فِي السُّخْفِ انْدَفَعْ … وَمَا انْتَفَى مِنْ عَبَثٍ وَلَا انْتَفَعْ (يُوَجِّهُ الْخِطَابَ إِلَى الرَّئِيسِ) فَقُلْ لَنَا وَالْعَهْدُ عَهْدُ اللهِ … أَمَاكِرٌ أَنْتَ بِنَا أَمْ لَاهِي؟ كَأَنَّمَا دَعَوْتَنَا لِنَشْهَدَا … لَكَ بِرُتْبَةِ الْعُلَى وَنَعْهَدَا كَأَنَّ كُلَّ الْخَطْبِ فِي خُلُوِّكَا … مِنْ لَقَبٍ يَزِيدُ فِي عُلُوِّكَا

_ 63) السُكر أنواع منها سُكر الجاه وسُكر المنزلة والمكانة وحاشا الرَّئِيسُ من سُكر الخمر.

أَنْتَ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الْأَلْفيَّهْ … ذَاتِ الْحُلَى وَالنُّكَتِ الْوَصْفِيَّهْ (64) فِي رَجُلٍ ذِي دَخْلَةٍ سَقِيمَهْ … لَيْسَ لَهُ بَيْنَ الرِّجَالِ قِيمَهْ (لَا يَزْدَهِيهِ مِنْ حُلَى التَّقْدِيرِ … لَفْظٌ سِوَى الرَّئِيسِ وَالْمُدِيرِ) الرَّئِيسُ: الْخَطْبُ خَطْبٌ فَادِحُ … وَالْعَيْبُ عَيْبٌ فَاضِحُ وَعَارُنَا فِي النَّاسِ لَا … تَحْمِلَا النَّوَاضِحُ (65) وَالذَنْبُ فِي التَّطْوِيلِ لَيْسَ مِنِّي … بَلْ ذَنْبُ هَذَا الشَّيْخِ شَيْخُ الْفَنِّ فَكُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْ مُرَادِي … دَفَعَنِي عَنْهُ بِالِاسْتِطْرَادِ وَوَلَّدَ الْقَوْلَ بِلَا مُنَاسَبَهْ … وَاعْتَرَضَ الرَّأْيَ بِلَا مُحَاسَبَهْ وَكُلَّمَا صَمَّمْت أَنْ أُعَارِضَهْ … عَاجَلَنِي بِالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَهْ كَأَنَّ بُعْدَ الْقَصْدِ مِنْ آرَابِهْ … فَهْوَ يَرَى الْخَيْبَةَ فِي اقْتِرَابِهْ وَإنَّمَا أَطَلْتُ فِي الصَّوْتَيْنِ … وَالْعُضْوِ لِلْإِصْلَاحِ فِي هَاتَيْنِ لِأَّنني أَحْسَسْتُ بِالْمُخَالَفَهْ … فَالْعُضْو لِي فِي النَّفْعِ كَالْمُخَالَفَهْ حَتَّى إِذَا أَجْمَعْتُمَا خِلَافِي … رَجَعْتُ مِنْهُ لِلْمُعِينِ الْكَافِي رِعَايَةً لِلْخَيْرِ وَاحْتِيَاطَا … لِلنَّفْعِ لَا ظُلْمًا وَلَا اشْتِيَاطَا وَمَنْ دَرَى خَلَّ امْرِئيٍ مِنْ خَمْرِهِ … دِرَايَتِي يَحْتَطْ لِكُلِّ أَمْرِهِ وَإِنَّنِي أَعْلَمُ حَقَّ الْعِلْمِ … أَنَّكُمَا تَجْتَرِحَانِ ظُلْمِي فَكُلَّمَا عَرَضْتُ مَا فِيهِ صَلَاحْ … وَإنْ يَكُنْ كَالصُّبْحِ فِي الْمَشْرِقِ لَاحْ وَإِنَّنِي أَعْرِفُ مِنْ تَجْرِيبِي … رَأْيَكُمَا فِي الْقَصْدِ بِالتَّقْرِيبِ فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِظْهَارِي … بِصَوْتٍ أَوْ بِرَجُلٍ قَهَّارِ وَالْأَمْرُ إِنْ رُمَّ عَلَى اعْتِرَاضِ … لَمْ يَفْتَرِقْ ذَوُوهُ عَنْ تَرَاضِ وَاللهِ لَوْلَا شَرَفُ الْمَوْضُوعِ … وَنَفْعِهِ لِلْفَرْدِ والْمَجْمُوعِ وأَنَّ عَارًا لَجَّ فِي انْدِلَاعِهْ … فَوَجَبَ الْعَوْنُ عَلَى اقْتِلَاعِهْ لَكُنْتُ فِيمَا اعْتَدْتُمَاهُ مِنِّي … فِي حَافِظٍ كَالدِّرْعِ وَالْمِجَنِّ شَقِيتُ فِيكُمْ وَاسْمِيَ السَّعِيدُ … فَلَيْتَنِي أَوْ لَيْتَكمْ بَعِيدُ وَلَيْتَ لِي بِكُمْ مِنْ الْعُرْبَانِ … إِثْنَيْنِ أَسْوَدَيْنِ كَالْغِرْبَانِ

_ 64) الألفية: أرجوزة للمؤلف بديعة نظمها تفسيرًا لمشكلة موظف هو عبد لوظيفته وعبد للشيطان. هي من أبدع ما قال (لعنه الله) يصف فيها أولياءه، وقد وصف المشكلة وشرحها بلسانها مترجمة عن نفسها. وفيها فصول طوال في شخصين اثنين منهم، أحدهما المشكلة وهي وإن كانت في شخص فهي صادقة فيهم جميعًا. 65) النواضج ج ناضح وهو جمل السانية أو الركوب وقد يستعمل وصفًا عامًا له.

وَلَيْتَ حَظِّي كَانَ فِي أَنِيسِ … فَرْدٍ وَلَوْ كَالطَّاهِرِ الْوَنِيسِ الْجَنَّانُ: ظَلَمْتَ إِذْ ضَمَمْتَنِي لِهَذَا … وَهْوَ الَّذِي جَرَّ الْبَلَا وَهَاذَى وَجُرْتَ إِذْ حَشَرْتَنِي فِي زُمْرَتِهْ … وَخَمْرَتِي فِي الشُّرْبِ غَيْرُ خَمْرَتِهْ فَهْوَ زَمِيلِي وَالدُّرُوسُ تَشْهَدُ … لَكِنَّنِي بِالزُّورِ لَسْتُ أشْهَدُ وَلَا أُدَارِيهِ وَلَا أَعْبُدُهْ … يَوْمًا وَلَوْ أَنَّ الْوَرَى أَعْبُدُهْ وَإنَّنِي إِذَا غَدَوْتُ فِي كَبَدْ … فَلَا أُبَالِي عَابِدًا وِإنْ عَبَدْ الْجَلَّالِي: عَجِبْتُ مِنْكُمْ وَالْأَصَحُّ مِنْكُمَا … وَيْلِي عَلَيْكُمْ ثُمَّ وَيْلِي مِنْكُمَا لَمْ أَدْرِ مِمَّا سُقْتُمَا إِلَيَّا … أَلِى يَكُونُ الْمَيْلُ أَمْ عَلَيَّا؟ فَتَارَةً أَسْمَعُ مَدْحًا صَادِعَا … وَتَارَةً أَسْمَعُ قَدْحًا رَادِعَا وَتَارَةً تَتَّفِقَانِ لِغَرَضْ … وَتَارَةً تَخْتَلِفانِ لِمَرَضْ تَلَوِّيٌ يَمْقُتُهُ الْحُرُّ الْأَبِي … وَلَا يُغَرِّرُ سِوَى التَّيْسِ الْغَبِي يَا قَوْمُ ذُو الْوَجْهَيْنِ لَوْ يُزْجِيهَا … شَمْسَ نَهَارٍ لَمْ يَكُنْ وَجِيهَا يَا لَيْتَكمْ حِينَ عَرَفْتُمُونِي … عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَا صَرَفْتُمُونِي فَإِنَّنِي صِرْتُ عَدِيمَ الْفَائِدَهْ … فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ لَحْسِ الْمَائِدَهْ أَصْبَحْتُ كَالْحِمَارِ لَا يُذَكَّى … فَيَدْفَعَ الْجُوعَ وَلَا يُزَكَّى (66) وَانْعَكَسَتْ وَظَائِفُ الْأَعْضَاءِ … عِنْدِي فَإِسْخَاطِيَ مِنْ إِرْضَائِي أَشُمُّ مِنْ عَيْنِي وَأَنْفِي يَسْمَعُ … أَسْعَى عَلَى بَطْنِي وَرِجْلِي تَدْمَعُ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَكُنْتُ أَفْتَدِي … بِالْمَالِ مِنْ هَذَا الرَّئِيسِ الْمُعْتَدِي فَمَا عَرَفْتُ الْخَيْرَ مُذْ عَرَفْتُهْ … وَلَوْ بَدَا لِي كَلِمًا حَرَفْتُهْ وَلِي قَرُونَةٌ إذَا مَا هَجَسَتْ … هَوَاجِسُ الْإِلْهَام فِيهَا انْبَجَسَتْ (67) فَيْضًا مِنَ الْحَدْسِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ … وَذُو الشُّكُوكِ دَائِمًا مُعَذَّبُ (68) وَحَدَّثَتْنِي الْيَوْمَ أَنَّ الْأَمْرَا … رَمَادُ إِيهَامِ يُغَطِّي الْجَمْرَا وَأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ فِيهِ سِرُّ … سَيَنْجَلِي لِلْعَيْنِ وَهْوَ شَرُّ وَأَنَّ هَذَا السَّيِّدَ الرَّئِيسَا … لَا بُدَّ أَنْ يَرَى رَأْيًا نَفِيسَا

_ 66) الحمار لا تجب فيه الزكاة ولا تعمل فيه الذكاة وفي كل من الزكاة والذكاة فائدة. فمن حُرِمَهُما فلا فائدة فيه ولكن فات الأستاذ أن الحمارَ وإن كان لا يذكى ففيه فائدة الركوب. 67) القَرونة: النفس. 68) الشطر الأخير مثل ضربه الأستاذ وليس راجعًا إليه هو لأنه على يقين.

صورة الاستدعاء من الرئيس إلى السيد أحمد بوشمال

يَا عَالِمَ الْغَيْبِ اكْفِنَا الْعَوَاقِبَا … وَوَاقِعًا تَحْتَ الدُّجَى وَوَاقِبَا (69) الْجَنَّانُ: يَا أَيُّهَا الرَّئِيسُ فُضَّ الْجَلْسَهْ … وَحُطَّ مِنْ فُلْكِ الْمَسِيرِ قَلْسَهْ قَدْ نَالَ مِنَّا الْجُوعُ وَاللُّغُوبُ … وَقَدْ تَجَافَى الْغَرَضُ الْمَرْغُوبُ الرَّئِيسُ: لَا أرْفَعُ الْجَلْسَةَ أَوْ تَتَّفِقُوا … عَلَى انْتِخَابِ مَنْ بِهِ أَرْتَفِقُ الاِثْنَانِ مَعًا: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ … وَلَا يُزَكَّى وَقَصٌ مِنَ النَّعَمْ (70) نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ قَدِ اتَّفَقْنَا … ثُمَّ بِدُونِ إِذْنِكَ افْتَرَقْنَا (إِنْتَهَتِ الْجَلْسَةُ الثَّانِيَّةُ) صُورَةُ الاِسْتِدْعَاءِ مِنَ الرَّئِيسِ إِلَى السَّيِّدِ أَحْمَدَ بُوشْمَال إِلَى الأَخِ الْبَرِّ الصَّفِيِّ الْأَمْجَدِ … آلْعُمْدَةِ الْحُرِّ الْأَبِيِّ الْأَسْعَدِ أَبِي الشِّمَالَيْنِ إِذَا مَا كُنِّيَا … وَطَاهِرٍ بِضِدِّ هَذَا عُنِيَا أَمَّا اسْمُهُ فَخَيْرُ الْأَسْمَاءِ اسْمُهُ … وَكُلُّ نَفْعٍ لِلْعِبَادِ وَسْمُهُ حِرْفَتُهُ إِدَارَةُ الْجَرَائِدْ … كَانَ وَمَا زَالَ لَهَا كَالرَّائِدْ إِنْ بَرَزَتْ كَانَ بِهَا مُخْتَالَا … أَوْ عُطِّلَتْ كَانَ لَهَا مُحْتَالَا مَقَرُّهُ حَيْثُ يَكُونُ الْجُرْنَانْ … مُقَرَّرًا وَلَوْ بِغَابِ الْفَرْنَانْ وَاطْلُبْهُ فِي إِدَارَةِ الشِّهَابِ … تَجِدْهُ كَالْجَمْرَةِ ذَا الْتِهَابِ وَاطْلُبْهُ بَيْنَ أَدَوَاتِ الْمَطْبَعَهْ … تَجِدْهُ ثَمَّ رَابِعًا لِأَرْبَعَهْ وَكُلَّمَا تَأَسَّسَتْ جَمْعِيَّهْ … تَسْعَى إِلَى الْمَقَاصِدِ النَّفْعِيَّهْ فَاطْلُبْهُ فِي دِيوَانِهَا تَجِدْهُ … مُهَيَّئًا مَنْ يَسْتَفِدْ يُفِدْهُ وَإِنْ تُرِدْ لِقَاءَهُ يَوْمَ الْأَحَدْ … فَفِي مَكَانٍ لَيْسَ يَدْرِيهِ أَحَدْ لَكِنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ … أَيَّامِ فَقْدِ الزَّيْتِ وَالطَّعَامِ مُعْتَكِفٌ فِي سَيِّدِي الْمَبْرُوكِ … مِثْلَ اعْتِكَافِ السَّاحِرِ الْمَرُّوكِ (71) يَبْحَثُ فِي الْخَرَائِبِ الْقَرِيبَهْ … وَيَدْرُسُ الْعَقَاقِرَ الْغَرِيبَهْ وَيَقْتَنِي دَجَاجَةً وَعَنْزَا … لِيُحْضِر الْجِنَّ وَيُبْدِي الْكَنْزَا بَعْدَ السَّلَامِ يَا أَخِي وَالرَّحْمَهْ … وَاللَّحْمِ لَمَّا أَنْ غَلَا وَالشَّحْمَهْ

_ 69) البيت دعاء من الأستاذ لم يتقبله الله. 70) البيت كله هزء بالرَّئِيسُ والشطر الأخير لابن عاشر. 71) المَرُّوك: المغربي.

وَالشَّمْعِ وَالْقَهْوَةِ وَالصَّابُونِ … وَغَيْرِهَا مِنْ سِلْعَةِ (الْجَابُونِ) (72) مَطْلَبُ كُلِّ مُفْلِسٍ مَغْبُونِ … قَدْ زَادَهُ هَمًّا ضَيَاعُ (الْبُونِ) (73) فَإِنَّنَا فِي حَالَةٍ لَا تُرْضَى … بَيْنَ الْأَصِحَّاءَ وَبَيْنَ الْمَرْضَى وَلَا يَخُصُّنَا سِوَى اجْتِمَاعِ … بِكَ وَلَوْ في أَنْجَسِ الْبقَاعِ وَنَظْرَةٍ فِي وَجْهِكَ الْعَزِيزِ … تَدْفَعُ هَمَّ الْبُونِ وَالْكَرِيزِ وَإنْ ذَكَرْتَنِي وَلَوْ بِالْفِكْرِ … ذَكَرَكَ اللهُ بِخَيْرِ الذِّكْرِ وَإنْ سَأَلْتَ عَنْ صَدِيقِكَ الْقَدِيمْ … فَإِنَّنِي لِلْبُؤْسِ وَالْهَمِّ نَدِيمْ وَزَادَنِي هَمًّا عَلَى هُمُومِي … أَنْ يَدْخُلَ الْخُصُوصُ فِي الْعُمُومِ وَجُلُّ مَا أَلْقَى وَمَا أُكَابِدْ … مِنْ صُحْبَةِ الْجَنَّانِ وَابْنِ الْعَابِدْ هُمَا صَدِيقَايَ بِرَغْمِ أَنْفِي … وَلَمْ يَكُنْ صِنْفُهُمَا مِنْ صِنْفِي وَالرَّهْطُ مَهْمَا اشْتَرَكُوا فِي عَمَلِ … أَوْ جَمَعَتْهُمْ وَحْدَةٌ فِي أَمَلِ فَمِنْ أُصُولِ الْأَدَبِ التَّعَاوُنُ … بَيْنَهُمُ وَالسِّتْرُ وَالتَّصَاوُنُ لَكِنَّ صَاحِبَيَّ مِنْ لُؤْمِهِمَا … لَمْ يَفْقَهَا هَذَا وَمِنْ شُؤْمِهِمَا وَقَدْ بَدَا شُؤْمُهُمَا عَلَيْهِمَا … وَجَرَّنِي لِشِقْوَتِي إِلَيْهِمَا وَكَانَ قَدْ لَزِمَنَا مِنَ الْحُقُوقْ … حَقٌّ فَأَشْرَفْنَا بِهِ عَلَى الْعُقُوقْ حَتَّى أَضَعْنَا فَرْضَهُ وَنَفْلَهْ … فِي غَمْرَةٍ مِنْ غَمَرَاتِ الْغَفْلَهْ وَقَدْ تَلَطَّفْتُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ … حَتَّى جَمَعْتُ الصَّاحِبَيْنِ حَوْلِي لِنَغْسِلَ العَارَ بِمَا يَرْحَضُهُ … وَنَصِلَ الشَّرَّ بِمَا يَدْحَضُهُ وَلِي عَلَيْهِمَا مِنَ الْإِدَارَهْ … مَا يُشْبِهُ السُّلْطَةَ وَالْإِمَارَهْ ثُمَّ هُمَا عِنْدَ ذَوِي الْأَفْهَامِ … مِنْ أُمَّةٍ تُقَادُ بِالْأَوْهَامِ كَلِمَةُ الْخِزْيِ عَلَيْهَا حَقَّتْ … تَخْضَعُ لِلْأَشْبَاحِ مَهْمَا دَقَّتْ وَالْفَرْدُ يَقْفُو فِي الْمَخَازِي الْجَمْهَرَهْ … وَالسَّيْفُ إِنْ جَرَّبْتَ فَاخْبُرْ جَوْهَرَهْ لَكِنْ بَدَا لِي مِنْهُمَا تَصَلُّبُ … يَعْسُرُ عَنْ ضَوْضَائِهِ التَّغَلُّبُ وَأَظْهَرَا فِي جَلْسَةِ افْتِتَاحِ … فَوْضَى طَغَتْ كَالْعَارِضِ الْمِمْتَاحِ فَاحْتَلْتُ حَتَّى أَجْمَعَا رِئَاسَتِي … بِحِيلَةٍ تُنْبِئُ عَنْ كِيَاسَتِي وَقَدْ عَقَدْنَا جَلْسَتَيْنِ مَرَّتَا … كَالْقُرْحَتَيْنِ شَانَتَا وَعَرَّتَا

_ 72) الجابون: بلد إفريقي. 73) الْبُون: كلمة فرنسية معناها قسيمة التموين.

فَكُنْتُ كَالْغَائِصِ وَسْطَ بَحْرِ … مُرْتَطِمًا فِي غَمْرِهِ لِلنَّحْرِ يَنْتَابُنِي الشَّيْخَانِ بِالنَّوَائِبِ … فِي كَلِمٍ كَالْأَسْهُمِ الصَّوَائِبِ وَبَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ بِالْمُعَايَنَهْ … مَا بَيْنَنَا فِي الْفِكْرِ مِنْ مُبَايَنَهْ أَلْحَحْتُ حَتَّى قَرَّرَا إِلْحَاقَكْ … بِجَمْعِنَا وَسَلَّمَا استِحْقَاقَكْ لِأَسْتَعِينَ بِكَ فِي الْمُرَادِ … عَنْ مَارِدَيْنِ أَمْحَلَا مَرَادِي فَكُنْ ظَهِيرِي يَا ظَهِيرَ الضُّعَفَا … فُكُلُّ مَنْ خَذَلْتَهُ رَبْعٌ عَفَا وَإِنَّنِي أَدْعُوكَ لِلْحُضُورِ … عَنْ عَجَلٍ فِي مَكْتَبِي الْمَشْهُورِ لِجَلْسَةٍ نَعْقِدُهَا غَدَاةَ غَدْ … وَإنْ تَكُنْ أَحْسَسْتَ جُوعًا فَتَغَدْ فَرُبَّمَا طَالَتْ إِلَى الزَّوَالِ … وَأَنْتَ تَدْرِي أَنَّنِي (زَوَالِي) (74) فَالْخُبْزُ بِالرُّؤُوسِ لَا بِالْأَرْجُلِ … كَمَا تَرَى فِي (بُونِهِ) الْمُسَجَّلِ أَوْ فَاصْحَبِ (الْبُونَ) فَخَيْرُ مَا صُحِبْ … هُوَ إِذَا الْمَرْءُ مِنَ الدَّارِ سُحِبْ وَالْبُونُ أَوْ وَرَقَةُ التَّمْوِينِ … ترْمِي حُقُوقَ الضَّيْفِ بِالتَّهْوِينِ وَهُوَ عَلَى الْجُمُودِ وَالتَّصْرِيفِ … أَلْزَمُ مِنْ وَرَقَةِ التَّعْرِيفِ وَإنَّنِي بِالرَّغْم مِنْ إِمْلَاقِي … أُحْضِرُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ ذَوَاقِ هَذَا وَإِنَّ الْغَرَضَ الْمَنْوِيَّا … مَا زَالَ سِرًّا عَنْكُمُ مَطْوِيًّا فَلْتَحْتَفِظْ أَنْتَ بِمَا أَبْثَثْتُكْ … فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَهُ حَثَثْتُكْ لَا تُفْشِ لِلشَّيْخَيْنِ مِنْهُ لَفْظَا … وَلَا تُذِعْ وَاللهُ خَيْرٌ حِفْظَا وَدُمْتَ لِابْنِ حَافِظٍ مُعِينَا … وَللْأَدِيبَيْنِ مَعًا مُهِينَا وَدُمْتَ لِلْحَقِّ الصُّرَاحِ عَاضِدَا … وَدُمْتَ لِلْكُفْرِ الْبَوَاحِ نَاقِدَا إِلَى غَدٍ وَمَا غَدٌ بَعِيدُ … وَإنْ أَجَبْتَ فَأَنَا السَّعِيدُ (إِنْتَهَتْ بِطَاقَةُ الاِسْتِدْعَاءِ وَتَأْتِي بَعْدَهَا الْجَلْسَةُ الثَّالِثَةُ وَبِهَا الْخِتَامُ).

_ 74) زوالي: معناها فقير.

الجلسة الثالثة

الجلسة الثالثة (الْمَشْهَدُ: الثَّلَاثَةُ فِي مَكْتَبِ الرَّئِيسِ وَمَعَهُمْ بوَشْمَال وَصِحْنُ فَطَائِرٍ وَإِبْرَيقُ أَتَايْ). إِفْتِتَاحُ الْجَلْسَةِ: الرَّئِيسُ: أَبْدَأُ بِأكْلِ مُصَلِّيًّا عَلَى … كَأْسٍ مِنَ التَّايِ اللَّذيذِ قَدْ حَلَا وَأَفْتَحُ الْجَلْسَةَ بِالْفَطَائِرِ … مِنْ وَاقِعٍ فِي صَحْنِهِ وَطَائِرِ جِئْتُ بِهَا تَشْوِي اللِّسَانَ وَاللَّهَا … كَفّارَةً عَمَّا مَضَى ضِدًّا لَهَا فَأَشْبِعُوا بُطُونَكُمْ فَالْبِطْنَهْ … كَمَا أَتَى عَنْهَا تُثِيرُ الْفِطْنَهْ وَأَكْثِرُوا الأَكْلَ فَإِنَّ الْمَعِدَهْ … لَيْسَتْ إِذَا مَا فَرَغَتْ بِالْمُسْعِدَهْ وَالْعِلْمُ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّ الْعَقْلَا … فِي عَصْرِنا أَضْحَى يُضَاهِي الْبَقْلَا فَتَارَةً يَثْبُتُ فِي الرُّؤُوسِ … وَتَارَةً يَنْبُتُ فِي الضُّرُّوسِ ثمَّ يَمُدُّ عِرْقَهُ فِي الْبَطْنِ … وَيَغْتَذِي وَلَا أَزِيدُ قَطْنِي لِذَا تَرَوْنَ الْمَرْءَ يَعْرُوهُ الْغَضَبْ … حَتَّى تَرَوْا مَاءَ الرِّضَى مِنْهُ نَضَبْ حَتَّى إِذَا مَا أُطْعِمَ الطَّعَامَا … حَامَ الرِّضَى بِوَجْهِهِ وَعَامَا وَهَلْ رَأَيْتُمْ وَالْعُيُونُ ثَكْلَى … أَنَّ الْغِضَابَ يَهْجُرُونَ الْأَكْلَا؟ وَإنْ أَرَدْتمْ أَنْ تُداوُوا الْغَضْبَى … فَأَطْعِمُوهُمْ عِنَبًا وَقَضْبَا وَهَذِهِ فَوَائِدٌ عِلْمِيَّهْ … أَشْهَى إِلَيْكمْ مِنْ وِصَالِ مَيَّهْ فَأَعْلِنُوا الْأَفْرَاحَ بِالْعُضْوِ الْجَدِيدْ … ذِي الْمَنْطِقِ الْخَلَّابِ وَالرَّأْيِ السَّدِيدْ الْجَنَّانُ: مَا لَكَ عَنْ ذِكْرِ الْإلَهِ تَغْفُلُ؟ ... الْجَلَّالِي: ... النَّاسُ تَرْقَى وَالرَّئِيسُ يَسْفُلُ الرَّئِيسُ: لَا تَجْهَلَا فَالْيَوْمُ يَوْمُ مَلْحَمَهْ … وَيُذْكَرُ اسْمُ اللهِ عِنْدَ الْمَرْحَمَهْ وَسَائِلُوا أَئِمَةَ الْقِرَاءَهْ … هَلْ ذُكِرَ اسْم اللهِ فِي بَرَاءَهْ؟ لِأَنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ … لِكَسْرِهِ الشِّرْكَ وَمَحْقِ الْحَيْفِ وَيوْمُنَا يَوْمُ نِزَالٍ وَصِرَاعْ … يَوْمُ الْتِحَامٍ وَجَلَادٍ وَقِرَاعْ يَوْمُ (حِرَابٍ لَيْسَ يَوْمَ حَفْلَهْ) … وَلَا يُنَادِي فِي النِّزَالِ طِفْلَهْ يَوْمٌ كَيَوْمِ رَحْرَحَانَ الْأًوَّلِ … (وَلَيْسَ عَنْ غِمَارِهِ مِنْ مَعْدِلِ) يَوْمُ وَغَى غَاسِقُهُ قَدْ وَقَبَا … كَيَوْمِ ذِي قَارٍ وَيوْمِ الْعَقَبَا الْجَنَّانُ: قَدْ قَفَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ شَعْرِي … وَجَفَّ مِنْ ذِكْرِ الصِّرَاعِ بَعْرِي

فَمَعَ مَنْ هَذَا الصِّرَاعُ يَا تُرَى؟ … أَمْ ذَاكَ إِفْكٌ وَحَدِيثٌ مُفْتَرَى؟ وَلِمَ ذَا كُنْتَ رَئِيسًا فِينَا … إِنْ لَمْ تَكُنْ لِمِثْلِهَا تَكْفِينَا؟ وَكَيْفَ لَمْ تَحْتَطْ لِهَذَا الْأَمْرِ … مِنْ قَبْلِ أَنْ يُحْرِقَنَا بِالْجَمْرِ؟ وَكَيْفَ لَمْ تُعْقِدْ لَهُ مُعَاهَدَهْ … بِالسِّلْمِ لَا فِي السِّرِّ بَلْ مُشَاهَدَهْ وَكَيْفَ لَمْ تَبْعَثْ لَهُمْ سَفِيرَا … يَرُدُّ عَنَّا الْجَيْشَ وَالنَّفِيرَا وَكَيْفَ لَمْ تَرْضَ بِفَرْضِ الْجِزْيَهْ … تَدْفَعُهَا عَنْ ذِلَّةٍ وَخِزْيَهْ وَكَيْفَ تَرْمِي فِئَةً قَلِيلَهْ … لَيْسَ لَهَا غَوْثٌ وَلَا قَبِيلَهْ فِي هُوَّةٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارُ … وَلَيْسَ يُجْدِي عِنْدَهَا الْفِرَارُ يَا أَيهَا الرَّئِيسُ (دَبَّرْ رَاسَكْ) … أَوْ فَادْعُ لِلْحَرْبِ الضَّرُوسِ نَاسَكْ أَمَّا أَنَا وَصَاحِبِي وَصَاحِبُكْ … فَلَيْسَ فِينَا أَحَدٌ يُصَاحِبُكْ وَهَا هُنَا يَخْذُلُكَ الصَّوْتَانِ … وَالْحَقُّ لَا يُدْفَعُ بِالْبُهْتَانِ الْجَلَّالِي: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي الْخُنْفُسَا … أَفْلِقُ الْهَامَ وَأُرْدِي الْأَنْفُسَا إِنِّي إِذَا مَا حَمِيَ الْوَطِيسُ … لَا أَنْثَنِي أَوْ يَنْثَنِي الْفَطِيسُ أَحْمِي الْحِمَى وَأَمْنعُ الْعَشِيرَهْ … وَالْحُرُّ يَعْصِي فِي الْوَغَى مُشِيرَهْ وَكَيْفَ قَدْ مَنَعْتَنَا الدَّبَابِسَا … وَالْحَجَرَ الصَّلْدَ الثَّقِيلَ الْيَابِسَا وَأَنْتَ إِذْ جَرَّدْتَنَا مِنَ السِّلَاحْ … عَدُوُّنَا الْأَكْبَرُ مِنْ غَيْرِ تَلَاحْ وَلَوْ سَمَحْتَ بِهِمَا لَكَانَتْ … نُفُوسُنَا اشْتَدَّتْ وَمَا اسْتَكَانَتْ وَعِنْدَنَا مِنَ الْعِصِيِّ عَدَدُ … إِنْ لَمْ تُفِدْ فَفِي الْجِبَالِ مَدَدُ وَعِنْدَنَا حِجَارَةٌ بِالْوَادِي … وَعِنْدَنَا الْأَنْصَارُ فِي الْبَوَادِي وَعِنْدَنا الشَّيْخُ أَبُو الشِّمَالِ … لَيْثُ الْوَغَى كَمُصْطَفَى كَمَالِ هَلْ تَذْكُرُونَ إِذْ عَلَا بِدَبْزَهْ … شَخْصًا فَخَلَّى وَجْهَهُ كَالْخُبْزَهْ وَهَكَذَا الْأبْطَالُ فَلْيَكُونُوا … لَيْسَ لَهُمْ إِلَى الْعِدَا رُكُونُ مَنْ لَمْ يَمُتْ فِي الْعَزَمَاتِ هُونَا … وَعَاشَ فِي أَسْرِ الشَّقَا مَرْهُونَا هَيَّا بِنَا هَيَّا بنَا هَيَّا بِنَا … لِلْحَرْبِ لَا نَامَتْ عُيُونُ الْجُبَنَا لَا تَذْكُرِ الْجَنَّانَ فَالْجَنَّانُ … كَلِمَةٌ تَصْحِيفُهَا جَبَانُ أَمَا تَرَى اللَّفْظَيْنِ فِي رَسْمِ الْحُرُوفْ … تَشَابَهَا وَسَلْ بِذَا أَبَا الْحُرُوفْ الرَّئِيسُ: مَلَأْتُمَا الدُّنْيَا عَلَيَّ هَوْلَا … مِنْ قَبْلِ أَنْ تُرَاجِعَانِي الْقَوْلَا فَهَوِّنَا الْخَطْبَ يَهُنْ عَلَيْكُمَا … فَالْحَرْبُ غَادٍ مِنْكُمَا عَلَيْكُمَا

الْجَلَّالِي: مَا هَذِهِ الْأَلْغَازُ يَا جَنَّانُ؟ ... الْجَنَّانُ: ... إِنَّ الرَّئِيسَ دَائِمًا (خَرْنَانُ) (75) كَرَاهِبِ الدَّيْرِ يُوَالِي الْغَمْغَمَهْ … فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهَا فَالْجَمْجَمَهْ بُوشْمَال: مَا هَذِهِ الْفَوْضَى وَهَذِي الْحَرَكَهْ …كَأَنَّنَا قَبْلَ اللِّقَا فِي مَعْرَكَهْ أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ سِرَّ الْجَمْعِ … حَتَّى أُصِيخَ لِلْكَلَامِ لَسَمْعِي وَأَعْرِفَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامْ … أَوْ لَا فَإِنِّي ذَاهِبٌ بِلَا سَلَامْ (يَنْهَضُ قَائِمًا) الْجَمِيعُ: بِتُرْبَةِ الشَيْخِ الرِّضَى قَمُّوشِ … وَبِيعَةِ الْحِبْرِ الْجَلِيلِ مُوشِي وَرَحْمَةِ الْمُنَغَّمِ الْعَمُّوشِي … وَقَائِلٍ لِلشَّيْخْ (مَا لِمُوشِي؟) إِلَّا جَلَسْتَ وَاسْتَرَحْتَ مَعْنَا … حَتَّى يَبِينَ لِلْكَلَامِ مَعْنَى الْجَلَّالِي: وَلَوْ دَعَوْتُمْ حَاتِمًا أَوْ مَعْنَا … وَهْوَ مِنَ الْجُودِ كَمَا سَمِعْنَا لَمْ يَحْبُكُمْ فِي الدَّهْرِ إِلَّا لَعْنَا … فَفِي سَبِيلِ الدَّجْلِ مَا أَطَعْنَا وَفِي سَبِيلِ الرِّيحِ مَا أَذَعْنَا … وَفِي سَبِيلِ اللَّهْوِ مَا أَضَعْنا بُوشْمَال: مَنْ ضَيَّعَ الْوَقْتَ اسْتَحَقَّ الْمَقْتا … (وَبَاءَ بِالْوِزْرِ وَسَاءَ سَمْتَا) الْجَنَّانُ: قَدْ ذُقْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا قَدْ ذُقْتَا … لَكِنْ وَسِعْتَ رَحْمَةً وَصَمْتَا وَمِنْ قَدِيمٍ بِالذَّكَاءَ فُقْتَا … وَلَيْتَنِي أَفَقْتُ إِذْ أَفَقْتَا لَا تَحْتَمِلْ إِلَّا الَّذِي أَطَقْتَا … فَإِنَّ لِلصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَقْتَا لَوْ كُنْتَ مُذْ يَوْمَيْنِ قَدْ أَشْرَقْتَا … لَقُدْتَنَا إِلَى الْهُدَى وَسُقْتَا الْجَلَّالِي: مَا ضَرَّ يَا أَحْمَدُ لَوْ أَعْتَقْتَا … إِخْوَانَ صِدْقٍ بِهِمُ الْتَحَقْتَا مُقَدِّرِينَ كُلَّ مَا وَسَقْتَا … مِنْ حِكَمٍ غُرٍّ وَمَا نَسَقْتَا وَلَوْ فَعَلْتَ كُنْتَ قَدْ أَنْطَقْتَا … أَلْسُنَهُمْ بِشُكْرِهَا أَغْدَقْتَا وَمَا ثَوَابٌ مُنْفِسٌ أَنْفَقْتَا … فِي طِفْلَةٍ يَتِيمَةٍ أَصْدَقْتَا أَوْ حُرَّةٍ أَسِيرَةٍ أَطْلَقْتَا … أَوْ وَالِدٍ عَنْ رُوحِهِ صَدَّقْتَا أَوْ بَائِسٍ عَنْ حَالِهِ رَقَقْتَا … أَوْ دَمَ هَدْيٍ فِي مِنًى أَرْقَتَا أَوْ قَوْلَ حَقٍّ فِي الْمَلَا نَفَّقْتَا … أَوْ بَاطِلٍ بَيْنَهُمُ مَحَقْتَا أَجَلَّ مِنْ عِتْقٍ لَنَا حَقَّقْتَا … وَفَتْقِ مَا مِنْ أَمْرِنَا رَتَقْتَا أَصَبْتَ فِي الْبَابِ الَّذِي طَرَقْتَا … وَجِئْتَ بِالْبُرْهَانِ إِذْ نَطَقْتَا

_ 73) خرنان: الذي يُكثر الكلام ويصرّ عليه.

يَا زُمْرَةً إِنْ بَاعَدُوكَ اشْتَقْتَا … لَوْ كُنْتَ عَبْدًا لَهُمْ أَبَقْتَا بُوشْمَال: لَكِنَّنِي لَمْ أَفْهَمِ الْمَقْصُودَا … كَأَنَّ فِيهِ طِلْسَمًا مَرْصُودَا وَلِي مَآرِبٌ مَعَ الزَّوَاوِي … مَعْطُوفَةٌ بِالْفَاءَ لَا بِالْوَاوِي وَكُلُّ مَآرَبٍ لَهُ ثَوَانِ … مَحْدُودَةٌ يُضِيعُهُ التَّوَانِي فَيَا رَئِيسَ الْقَوْمِ هَاتِ الْمَسْأَلهْ … حَتَّى يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ مَوْئِلَهْ الرَّئِيسُ: عُدْنَا وَقَدْ هَدَأَتِ الشَّقَاشِقْ … مِنْ نَابِلٍ بِقَوْلِهِ وَرَاشِقْ وَصَاحِبٌ دَعَوْتُهُ لِي نَاصِرَا … عَلَى الْعِدَا أَضْحَى لَهُمْ مُنَاصِرَا لَكِنَّنِي أَكْظِمُ غَيْظِي وَأَفِي … إِلَى الرِّضَى لِمَقْصَدٍ مُشَرِّفِ وَهَلْ تَعُونَ مَا يَقُولُ النَّاصِحْ … وَالنُّصْحُ يَقْتَضِي الْكَلَامَ الْقَاسِحْ (76)؟ انَّ الصِّرَاعَ الْيَوْمَ يَا إِخْوَانِي … مَعَ طِبَاعِ الْعَجْزِ وَالتَّوَانِي إِنَّ الصِّرَاعَ الْيَوْمَ مَعْ طَوَايَا … قَدْ أَقْفَرَتْ كَأَنَّهَا زَوَايَا إِنَّ الصِّرَاعَ مَعَ عَدُوٍّ دَاخِلِي … أَدْخَلَنَا فِي أَضْيَقِ الْمَدَاخِلِ نُصَارِعُ الْكُفْرَانَ وَالْجُحُودَا … وَاللُّؤْمَ وَالْخُمُولَ وَالْجُمُودَا نُصَارِعُ الشُّحَّ الذَّمِيمَ المُرْدِي … فَقَدْ لَبِسْنَاهُ كَمِثْلِ الْبُرْدِ نُصَارِعُ التَّفْرِيطَ وَالْإِضَاعَهْ … لِوَاجِبٍ يَسْتَوْجِبُ الْإِطَاعَهْ نُعَالِجُ الْجَفَافَ فِي الْعَوَاطِفْ … (لِتَأْلَفَ الْبَذْلَ بِذِي الْمَوَاقِفْ) نُقَاتِلُ التَّقْصِيرَ وَالْعُقُوقَا … فِي حَقِّ مَنْ وَفَّى لَنَا الْحُقُوقَا نُقَاتِلُ الْجَفَاءَ فِي نُفُوسِنَا … (وَمَانِعِ الْخَيْرِ عَلَى غُروسِنَا) نُفُوسُنَا يَا قَوْمُ لَا سِوَاهَا … هِيَ الَّتِي أَعْيَا الأُسَاةَ دَاهَا وَطَالَمَا النَّفْسُ دَعَتْنَا لِلْهَوَى … فَضَلَّ مَنْ لَهَا اسْتَجَابَ وَغَوَى وَهِيَ الَّتِي (نَرْجُو لَهَا الْحَيَاتَا … وَهَا هُنَا لِنَغْرِسِ النَّوَاتَا) وَتَرَكَتْنَا فِي الْوَرَى أُضْحُوكَهْ … بفِعْلَةٍ مِنْ خُبْثِهَا مَحْبُوكَهْ فَهَلْ أَتَاكُمْ وَالْحَدِيثُ يُذْكَرُ … أَنَّا فَعَلْنَا فِعْلَةً لَا تُشْكَرُ؟ جِئْنَا بِهَا شَوْهَاءَ لَا تُبَارَى … شَنْعَاءَ تُزْجِي الْعَارَ وَالْعُوَّارَا إِنْ ضَاعَ فِي الْحَجِّ الدُّخُولُ مِنْ كَدَا … فَقَدْ أَضَعْنَا وَاجِبًا مُوكَّدَا الْجَلَّالِي: قَتَلْتَنَا يَا شَيْخُ بِالتَّطْوِيلِ … وَبِالْإِشَادَةِ وَبِالتَّهْوِيلِ

_ 76) القاسح: القاسي ... الشديد.

فَاشْرَحْ لَنَا الْمَقْصُودَ مِنْ أَلْغَازِكْ … وَاعْجَلْ فَقَدْ أَسْعَطْتَنَا بِغَازِكْ وَخَلِّنَا نَكْوِ الْحَشَا بـ (قَارُو) (77) … وَنَسْتَمِعْ لِقَارِئِي (الْفِقَارُو) (78) إِنَّ الدُّخَانَ رُقْيَةٌ مُهِمَّهْ … لِلْهَمِّ وَالنَّفْثُ بِهَا تَتِمَّهْ وَالْهَمُّ لِلشَّيْطَانِ لَيْسَ يُقْطَعُ … إِلَّا بِنَارٍ وَدُخَانٍ يَسْطَعُ وَالْعَاسِلُونَ يَطْرُدُونَ النَّحْلَا … بِهِ فَيَجْنُونَ الرَّحِيقَ الْأَحْلَى وَنَنْتَشِي بِقَهْوَةٍ مُرَوَّبَةْ … كَأَنَّهَا زِنْجِيَّةٌ مُذَوَّبَهْ تَخَالُهَا إِذَا طَفَا عَنْهَا الْحَبَبْ … صَرْحًا مِنَ الْعَنْبَرِ تَعْلُوهُ الْقُبَبْ أَمَّا الْأَخُ الْجَنَّانُ فَهُوَ كَالْقَرِمْ … لِنِفَّةٍ تَشْفِي الدِّمَاغَ الْمُضْطَرِمْ وَكُلَّمَا هَمَّ بِهَا كَالْمُبْلِسِ … يَصُدُّهُ عَنْهَا وَقَارُ الْمَجْلِسِ الرَّئِيسُ: أَتَذْكُرُونَ شَيْخَنَا الْمَنْفِيَّا؟ … (سَكْتَةٌ طَوِيلَةٌ وَوُجُومٌ) الْجَنَّانُ: ... نَعَمْ وَقَدْ كَانَ بِنَا حَفِيَّا وَكَانَ بَرًّا كَامِلًا صَفِيَّا … وَكَانَ حُرًّا عَامِلًا وَفِيَّا كَانَ إِذَا مَا زَارَنَا فِي مَرَّهْ … أَحْلَى لَنَا هَذِي الْحَيَاةَ الْمُرَّهْ وَنَالَنَا مِنْ عَطْفِهِ وَحَدَبِهْ … مَا نَالَنَا مِنْ عِلْمِهِ وَأَدَبِهْ كُنَّا نَلُوذُ مِنْ حِمَاهُ بِكَنَفْ … فَيُبْدِلُ النَّحْسَ بِسَعْدٍ مُؤْتَنَفْ وَكَانَ ... وَكَانَ ... وَكَانَ ... وَكَانَ ... عَهْدِي بِهِ يَخُصُّ هَذِهِ الْفِئَهْ … بِالأَلْفِ مِنْ حِبَائِهِ لَا بِالْمائَهْ الْجَلَّالِي: هَيَّجْتَ يَا رَئِيسَنَا الْأَشْجَانَا … وَقَدْ نَثَرْتَ الدُّرَّ وَالْمَرْجَانَا لَا زِلْتَ تَبْغِي خَيْرَنَا مَجَّانَا … وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا بُوشْمَال: ذَكَرَهُ اللهُ بِخَيْرِ الذِّكْرِ … فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَفَضْلِ الشُّكْرِ وَرَدَّهُ ... وَرَدَّهُ ... وَرَدَّهُ ... الْجَنَّانُ: لَا تَخْشَ مِنْ نَفْيٍ وَمِنْ تَغْرِيبِ … فَلَسْتَ بِالْجَانِي وَلَا الْمُرِيبِ

_ 77) قارو: معناها سيجارة، والقاف تنطق كالجيم المصرية. 78) الفِقارو: هي الجريدة الفرنسية المعروفة Le Figaro.

المشهد الأخير

ذُقْنَاكَ لِلتَّمْحِيصِ وَالتَّجْرِيبِ … فَكُنْتَ عَيْنَ الْحَاذِقِ الْأَرِيبِ وَكُنْتَ فِي التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ … أَشْطَرَ مِنْ جَمَاعَةِ التَّهْرِيبِ الْجَلَّالِي: رَمَيْتَنِي بِدَائِكَ الْغَرِيبِ … فَجِئْتَ بِالتَّوبِيخِ وَالتَّثْرِيبِ وَلَسْتُ عِنْدَ مَا ظَنَنْتَهُ بِيَهْ … وَلَسْتَ مِثْلِي فِي سَدَادِ التَّرْبِيَهْ الرَّئِيسُ: فَهَلْ ذَكَرْنَا فَضْلَهُ عَلَيْنَا … وَهَلْ شَكَرْنَا بِرَّهُ إِلَيْنَا؟ وَهَلْ وَصَلْنَا رَحِمَ الْأُبُوَّهْ … وَهَلْ سَلَكْنَا مَسْلَكَ الْفُتُوَّهْ؟ وَهَلْ نَهَجْنَا مَنْهَجَ الْوَفَاءَ؟ … (فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبِ الْأَبْنَاءَ) وَهَلْ عَرَتْنَا الدَّهْرَ أَرْيَحِيَّهْ؟ … تُبْلِغُهُ عَنَّا وَلَوْ تَحِيَّهْ وَهَلْ كَتَبْنَا مَرَّةً إِلَيْهِ؟ … رِسَالَةً تَنْفِي الْأَسَى عَلَيْهِ كَلَّا وَلَمْ نَسْتَعْمِلِ الْأَقْدَامَا … فِي شَأْنِهِ يَوْمًا وَلَا الْأَقْلَامَا فَلَا بِمَكْتُوبٍ أزَلْنَا كُرْبَتَهْ … وَلَا بِوُصْلَةٍ مَسَحْنَا غُرْبَتَهْ وَلَا كَشَأْنِ الصَّاحِبِ الْأَبَرَّ … جِئْنَا بِمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ بُوشْمَال: أَهْمِسُ فِي أُذْنِ الرَّئِيسِ هَمْسَهْ ... الرَّئِيسُ: ... نَقْسِمُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ خَمْسَهْ الْجَنَّانُ: حَافِظْ عَلَى التَّفْخِيمِ فِي حَرْفِ الرَّا…وَحَاذِرِ الثِّيرَانَ أَنْ تَفِرَّا الْجَلَّالِي: الشَّيْخُ قَدْ تَرَادَفَتْ زَلَّاتُهْ ... الرَّئِيسُ: ... وَهَكَذَا قَدْ حَنْظَلَتْ نَخْلَاتُهْ بُوشْمَال: لَا تُحْضِرُوهُ فِي مَقَامَ الْجِدِّ … فَلَسْتُ مِنْكُمْ فِي مَقَامَ الْجَدِّ وَالجَدُّ جَدُّ أُسْرَةٍ مَشْهُورَهْ … كَانَتْ لَهَا مَآثِرٌ مَأْثُورَهْ وَالْجَدُّ مَالٌ لَيْسَ لِي مِنْهُ نَقِيرْ … وَالجَدُّ حَظٌ وَأَنَا مِنْهُ فَقِيرْ وَجُدَّةٌ بِالضَّمِّ فَرْضَةُ الْحِجَازْ … وَإنْ حَجَجْتَ فَلْيَكُنْ مِنْهَا الْمَجَازْ الرَّئِيسُ: وَهَكَذَا يَصْرِفُنَا الْأُسْتَاذُ عَنْ … مَقْصُودِنَا (وَهْوَ الْعَلَامَةُ الْمِفَنْ) الْجَلَّالِي: أَوْسَعْتَنَا يَا شَيْخُ سُخْفًا وَعَبَثْ … لَأَنْفِيَنَّكَ كَمَا يُنْفَى الْخَبَثْ الْجَنَّانُ: النَّفْيُ خَيرٌ أُحْمَلَنْ عَلَيْهِ … مِنْ غَرَضٍ تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ لَكُمُ مِنْ مَنْفَعَهْ … وَقَدْ يُعِيدُهَا عَلَيْكُمْ جَذَعَهْ (الْمَشْهَدُ الْأَخِيرُ: الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ جَالِسُونَ وَابْنُ الْعَابِدِ وَاقِفٌ يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ). كَلَامُكُمْ يَا حَضْرَةَ الْمُدِيرِ … لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ التَّقْدِيرِ لَوْ كَانَ لِلْكَلَامِ لَوْنٌ يُبْصَرُ … لَكانَ فِي لَوْنِ السَّوَادِ يُحْصَرُ

أَوْ كَانَ لِلْأَقْوَالِ رِيحٌ يُنْتَشَى … لَكَانَ فِي رِيحِ الْحَشَا بَعْدَ الْعَشَا كَأَنَّمَا خَاضَتْ بِهِ الرِّيَاحُ … أَحْشَاءَ قَوْمٍ مِلْؤُهَا رِيَاحُ قَدْ آكَلوُا دَشِيشَةً بِالْحَرْمَلِ … وَشَرِبُوا مُخَلَّلًا بِالْخَرْدَلِ فِي دَارِ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخٍ الطُّرُقِ … يُخَادِعُ اللهَ بِبَيْعِ الْمَرَقِ لَمَسْتَنِي فِي نُقْطَةِ الْإِحْسَاسِ … وَسُمْتَنِي فِي صَخْرَةِ الْأَسَاسِ وَرُمْتَ أَن أَدْفَعَ حَقَّ (التَّنْبَرِ) (79) … فِي غَرَضٍ مِنْ عَرْضِهِ أَنَا بَرِي قَدْ رُمْتَ يَا هَذَا مَرَامًا صَعْبَا … مُلِئْتُ مِنْهُ دَهْشَةً وَرُعْبَا إِذْ رُمْتَنِي أَنْ أَدْفَعَ (الصَّوَارِدَا) (80) … وَتَجْتَنِي الشُّكْرَ الْجَزِيلَ بَارِدَا وَلَيْسَ لِي مِنْهَا سِوَى فَرَنْكِ … أَعْدَدْتُهُ لِحَادِثٍ ذِي ضَنْكِ فَاسْمَعْ أَحَادِيثَ الْفَرَنْكِ مِنِّي … وَارْوِ غَرَائِبَ الْغَرَامِ عَنِّي لَمْ تُلْفَ فِي مَصَارعِ الْعُشَّاقِ … وَلَا حَوَتْهَا زِينَةُ الْأَسْوَاقِ لَكِنَّهُ فِي الصَّوْتِ غَيْرُ رَنَّانْ … وَإنْ نَقَدْتَهُ بِرَأْسِ (الزَّنَّانْ) قَدْ طَبَعَتْهُ غُرْفَةُ التِّجَارَهْ … وَجَعَلَتْ ضَمَانَهُ الْحِجَارَهْ وَنَقَشَتْ شِعَارَهُ فِي وَجْهِهِ … فَجَاءَ نُورًا يَزْدَهِي فِي أَوْجِهِ وَكَتَبَتْ فِي وَسْطِهِ رَقْمًا فَدَلْ … عَنْ أَنَّهُ الْوَاحِدُ مَا مِنْهُ بَدَلْ وَسَجَّلَتْ مَوْلِدَهُ وَعَصْرَهُ … وَقَدْرَهُ وَجِنْسَهُ وَمِصْرَهُ يَا حُسْنَهُ مُدَوَّرًا مُنَوَّرَا … لَا مُدْمَجَ الْخَلْقِ وَلَا مُكَوَّرَا مَا مِثْلُهُ (مَرْكٌ) (81) وَلَا (دِينَارُ) … وَلَا أَخُو الْخَيْلِ وَلَا (الدُّولَارُ) لَمْ يَحْوِهِ فِي تُرْبَةٍ رِكَازُ … وَلَا احْتَفَى بِنَبْشِهِ عُكَّازُ أَعَزُّ عِنْدِي مِنْ وَحِيدِ أُمِّهِ …كُلُّ الْمُنَى فِي ضَمِّهِ وَشَمِّهِ إِذْ سَاقَهُ الْحَظُّ إِلَيَّ وَحْدِي … (بَعْدَ اشْتِيَاقٍ وَشَدِيدِ وَجْدِي) وَفَّرتُهُ مِنْ مَطْعَمِي وَمَلْبَسِي … وَغَدْوَتِي وَرَوْحَتِي وَمَحْبَسِي وَفُزْتُ في هَذا الزَّمَانِ الْخَانِقِ … بِجَمْعِهِ الدَّانِقَ بَعْدَ الذَانِقِ لَفَفْتُهُ كَالْحِرْزِ في كَتَّانَهْ … في غَايَةِ الْجَوْدَةِ وَالْمَتَانَهْ وَخِطْتُهُ عَنْهَا بِخَيْطِ قُطْنِ … (لِصَوْنِهِ مِنْ غُفُلٍ وَفَطْنِ)

_ 79) التَّنْبَر: كلمة فرنسية معناها طاج البريد. 80) الصَّوارِدا: الدَّرا هِم. 81) مَرْك: العملة الألمانية (المارك).

وَزِدْتُ عَنْهَا قِطْعَةً مِنْ صُوفِ … أَخَذْتُهَا عَنْ تَاجِرٍ مِنْ سُوفِ (82) عَرَفْتُهُ بِالصِّدْقِ وَالْكَمَالِ … فِي فُنْدُقٍ مِنْ رَحْبَةِ الْجِمَالِ (83) وَزِدْتُ عَنْهَا قِطْعَةً مِنْ أَدَمِ … كَأَنَّهَا مَقْدُودَةٌ مِنْ قَدَمِي ثُمَّ لَفَفْتُ الْكُلَّ فِي قَصْدِيرِ … مُلَيَّنٍ كَجِلْدَةِ الْبَنْدِيرِ لَم تَسْتَطِعْ مَطَالِبِي إِخْرَاجَهْ … مِنْ حِرْزِهِ يَوْمًا وَلَا إِحْرَاجَهْ هَذا وَكَمْ بِتُّ حَلِيفَ الْجُوعِ … وَطَارَ مِنْ تَأْثِيرِهِ هُجُوعِي وَرَاوَدَتْهُ الْقَهْوَةُ اسْتِسْلَامَا … عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ اسْتِعْصَامَا هَذَا وَكَمْ أَجْنَبْتُ بِاحْتِلَامِ … وَلَزِمَتْنِي أُجْرَةُ الْحَمَّامِ فَلَمْ تُطِعْ نَفْسِي بِهِ وَلَا سَخَتْ … وَلَا لِعَهْدِ الاِحْتِفاظِ نَسَخَتْ وَحَتَّمَتْ عَلَيَّ (أَنْ أُكَرْدِي) (84) … وَأَنْ أُقَاسِيَ أَلِيمَ الْبَرْدِ فَإِنْ تَجَرَّدْتُ مِنْ الثِّيَابِ … (أَوْ كُنْتُ فِي زِيَارَةِ الْأَحْبابِ) خِفْتُ عَلَيْهِ مِنْ يَدٍ تَمْتَدُّ … بِالسُّوءِ حَيْثُ لَا يَدُ تَصُدُّ أَفْدِيهِ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ الَّتِي … مَا فَتَرَتْ فِي حُبِّهِ أَوْ مَلَّتِ وَالْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ وَالْعَشِيرِ … وَنَاصِحٍ بِعَدْلِهِ مُشِيرِ وَمَا حَوَتْ زَاوِيَةُ الْمُخْتَارِ … مِنْ حُرْمَةٍ مَهْتُوكَةِ الْأَسْتَارِ وَمَا احْتَوَتْ زَاوِيَةُ الْحَمْلَاوِي … عَلَيْهِ مِنْ ... وَمِنْ ...... وَالرَّكْبِ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ خَالِدْ … مِنْ طَارِفٍ فِي حُبِّهِ وَتَالِدْ قَدْ أَقْبَلُوا فِي السَّبْعِ وَالْعِشْرِينَا … شَكَكْتُ مِنْ رَمْضَانَ أَوْ تَشْرِينَا وَمَا حَوَتْ صَنَادِقُ النُّذُورِ … مِنْ دِرْهَمٍ مُحَرَّمٍ مَحْذُورِ وَسَادِنٍ يَأْتِيَكَ بِالْخَوَارِقْ … حَتَّى دَعَاهُ الْمُصْلِحُونَ سَارِقْ وَشَادِنٍ هُنَاكَ فِي الصَّحْرَاءَ … قَدْ نَبَذَ الْحِشْمَةَ بِالْعَرَاءِ أَبَعْدَ ذَا تَطْمَعُ فِي الْمُحَالِ … وَتَغْتَدِي لِلنُّصْحِ ذَا انْتِحَالِ؟ أُعِيذُهُ بِكَوْكَبٍ يَجْلُو الْغَسَقْ … وَقَمَرٍ فِي نَهَرٍ قَدِ اتَّسَقْ وَاللَّيْلِ فِي إِظْلَامِهِ وَمَا وَسَقْ … وَالنَّخْلِ فِي أَكْمَامِهِ إِذَا اتَّسَقْ مِنْ شَرِّ كُلِّ سَارِقٍ إِذَا سَرَقْ … وَطَارِقٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ طَرَقْ وَظَالِمٍ يَبْذُلُهُ فِي (التَّنْبَرِ) … وَإنْ تَكُنْ أَصْبَاغُهُ مِنْ عَنْبَرِ

_ 82) سُوف: مدينة جزائرية. 83) رَحْبَة الجِمَال: سوق شعبي بمدينة قسنطينة. 84) أُكردي: كلمة أجنبية معناها أقترضُ.

هذه "العزيمة"

هذه "العزيمة" تقديم الحسن القادري ــــــــــــــــــــــــــــــ أنشئت هذه "العزيمة" على طريقة مشاهير "اليقَّاشِين" المعروفين من طلبة علم الجدول والأوفاق، وأصحاب التمائم والعزائم، للتحكم في أمر الجانّ، وإخراج العفريت من جسد الإنسان، والتغلّب عليه لتصريفه في كل شان، بأسماء القهر والزجر للإذعان، وتذليله بكل ما يُرعب ويُخيف، من كل أمر سخيف، وكل شرّير خبيث، في العالَم القديم والحديث. وهذه "العزيمة" حَوَت من ذلك طائفة من أسماء الإنسان والحيوان، والأماكن والبلدان، والأشياء الملعونة، والمعاني المعفونة، في الجزائر وغير الجزائر، والأشخاص من عرب وعجَم، ممّنْ يُقدح فيه أو يُذمّ، وبذلك جاءت "العزيمة" تحفة أدبية، ومُلْحة طريفة من إنشاء الأديب المبدع حامل لواء البلاغة والبيان، الحافظ العلّامة أستاذنا الكريم فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حفظه الله، أملاها علي يوم زرته بمنفاه في بلدة "افلو" بالجنوب الوهراني سنة 1941، وقد بعث بها يَوْمَذاك إلى أخيه العلّامة فقيد الجزائر الشهيد العظيم فضيلة الشيخ العربي التبسّي رحمه الله رحمة واسعة، وكان شيخنا- رعاه الله- راسله بها إلى "تبسّه" جوابًا فكاهيًا وتسلية ممتعة عن تذمّره وحيرته من عدم وصول مكاتيبه التي كانت كثيرًا ما تضيع بالبريد، فلم تصل إلى الشيخ بأَفْلُو، ولما أشعره بذلك كتب إليه متسائلًا في حيرة: "مَن هو هذا الذي يتسلّط على رسائلي فيُتلِفها ولا يتركها تصل؟ " إلى آخر الحكاية التي أُنشئت من أجلها هذه "العزيمة". وإلى إخواني الأعزاء الذين يروق لهم هذا الضرب من الأدب الرفيع المنتزع من صميم حياة المجتمع الجزائري في ذلك العصر المظلم من عهد الاستعمار البائد إلى غير رجعة- أقدّمها لهم بنصّها الكامل، نزولاً عند رغبة منشئها شيخنا الكريم- شفاه الله وأطال بقاءه- وقد كنتُ كتبتُ منها عدّة نسخ بأفلو سنة 1941 ولم تبق بيدي إلّا نسختي الخاصّة، فأعود إلى انتساخها مرّة أخرى بوهران بخطّى الفاني بتاريخ 13 يونيو 1963. الحسن بغدادي القادري

أيها العفريتُ النفريتْ، الذي هو أنتَنُ من الحلْتيتْ، وأثقل من الكبريتْ، وأهدى إلى رسائلي من الدليل الخِرّيتْ، وأمضى في تمزيقها من السيف الإِصْليتْ، مالَك؟ عُرِّيتَ وهُرِّيتْ، وقطِّعتَ وفُرِّيتْ، إن كنتَ إِنسًا فعُصِرتَ وخُرِّيتْ، أو جنًّا فأُحرِقْتَ وذُرِّيتْ، وأُذِبْتَ كالزئبق وأجرِيتْ. ويْلكْ! أغريتَ بالشرّ أم أُغرِيتْ؟ وضرِيتَ على المكْر أم ضُرِّيتْ؟ وتطوَّعتَ لهذا العمل أم كُرِيتْ؟ والتَزمتَهُ مياومَةً أو على حول كَرِّيتْ؟ أقسمت عليك بصَرْخَدَ وتكْريتْ، وأمبابة وشَبْرَخيتْ، وعانه وهيتْ، وبكل امرأة قالت لرجل هيتْ، فأبى وقال إني نُهِيتْ، فإن كنتَ لا تعرف هذا فأقسمُ عليك بالمسلولَة والكباريتْ، وآفلو وتعَظْميتْ (1)، وانْ كنت لا تحسن إلّا "تَرُومِيتْ" (2)، فأعزّم عليك برومْيو وجوليتْ، وعُطيل وهَمْليتْ، وماري أنْطوَنيتْ، وفيكتوريا وإليزابيت، وسكّان التوابيتْ، وقُطّان الحوانيت، وانْ كنتْ لا تعرف الّا تَيْهودِيتْ (3)، فأقسم عليك بِدَلَادِيتْ، ومانْدِيليتْ، والبيض المصَاليتْ، والابطال المفاليتْ، الذين خرّبوا البَيْتْ، وكسّروا الجرّة وأراقوا الزَّيتْ، أنْ تَكُفَّ وتَعِفّ، وتُسرع في إيصال رسائلي وتَخِفّ، ولا تدَرِّرْ ولا تَلُفّ، ولا تُرَوِّنْها (4) ولا تَسُفّ. وأُقسِمُ عليك بالصور والطور، والقانون المسطور، والقايد (5) والمسطراطور (6)، الذي شبع فانتفخ فأصبَح إِمبراطورْ، وبالناطور الحامل للساطور، وبالجمل المقطور، في عربات الحنطور، والشيخ أي طرطور، الذي هو على المكر مفطورْ. وأسألك بالبور والتور، والشيطان المستور، وشيخ الدستور، في مَكثر وتستور، وبأمشير وهاتور، وكل دكتورْ، يسمّى باستور، وكل دكتاتور، سيفه باتِر ورأيه مبتور، وكل من في رعيتك من فكتورْ، وكل من على يدك من رزق موسّع أو مقتورْ. يا عفريت! إنْ كنتَ من الجنّ، فأسألك بمن مضى من عالم الحِنّ، وبمريديك غُواة الفنّ، وهُواة الدنّ، وأبطال القذف والزنّ، والرنِّ والطن، وكل مُغِنّ، بمحاسن الظبي الأَغنّ، وكل متلئِبٍ مُكتَئِنّ، تحت السحاب المزجَحِنّ، وكل مِفَنّ، يتقى بالراح لا بالمِجَنّ، وكل من في سبيل الدرهم يَسْتَنّ، وفي جلبه يفتَنّ، فِي الخلوة يكتنّ، وبالصوف يَجْتَنّ وَلَا يَدينُ بالآخرة الّا بالظنّ، وبأصحابك الذين طرقوا الكنّ، وقرعوا السّنّ، وقعقعوا الشنّ، واستخبثوا الطيب واستطابوا الصِّنّ، وبأتباعك الذين سفُّوا السكر واشتفُّوا البُنّ،

_ 1) تَعَظْميت: منطقة بالصحراء الجزائرية. 2) تَرُوميت: أي اللغة الرَّومية، أي إحدى اللغات الأوربية. و"تَرُوميت" باللهجة البربرية. 3) تَيْهُوديت: باللهجة البربرية ومعناها اللغة اليهودية. وتطلق عادة على الخُبْثِ والمَكر. 4) تُرَوِّنْها: كلمة دارجة معناها تخلطها. 5) القايَد: شخص مسؤول عن القرى. يقابله شيخ البلدية في المدينة. 6) المِسْطْرَاطُور: من الكلمة الفرنسية administrateur أي المتصرّف.

ولعقوا العسل وتركوا المنّ، وأذلّوا في سبيل ذلك كل حرٍّ وقِنّ، وقيل لهم وإنْ، فقالوا وإنْ، ولم يقنعهم برهان اللّمّ ولا برهان الإنّ. وإنْ كنتَ من الإنس- وما الانس هكذا تفعل- فأسألك باسم الجنس، وعلم الجنس، ولام الجنسْ، والفصل والجنسْ، ولا التبرئة النافية للجنسْ، وأسألك بعربات الكنس، والأب "لامَنْسْ"، وما في كلامه من دنْسْ، وبكل أمون عنْسْ، لها في سلالة شدقَمَ قنْسْ، أنْ تهجر هذه الفعالْ، وتهتم بتصريف الأفعالْ، وتنظيف الكعالْ وتجفيف النعالْ، وتلطيف السعالْ، والتأدب بأدب جُعال، وكل من اسمه فُعالْ، حتى نقول: إنّك قاثم بوظيفتك عالْ وفوق العالْ. يا عفريت! أسألك بذِمَّتك الخربَه، ورِمَّتك الجربَه، فإني أتصوّركَ أبشع على الأحوال، إذْ دَلّت على ذاتك الفعال، وبكل من اتّبعكَ من الغاوين، الكلاب العاوين، وما منهم الّا ذو ضمير معروض في الرحبَه، للبيع بحبَّه. وإنْ لم تُصغِ لكلامي، فإني أُسَلِّط عليك "مامي" (7)، وسامي، وجيرولامي، والشيخ الحمّامي، والشيخ أبي الشامات الشامي، ثم أغزوك بالجيش النظامي، من المذهب الكلامي، وحواشي الجاربردي ومُلَّا جامي. وأسألك شرقي ساباطْ، وغربي الأغواطْ، وجنوي الرباطْ، وشمالي الفسطاطْ، مواطن الخنا والزنَى واللواطْ، وبكل مناسك الفُسَّاقْ، من نهج الملاحف بتونس إلى عشش الترجمان ببولاقْ. وأسألك بشيخ مَزْغَنَّهْ (8)، وأحلاف بُوكَرْدَنَّهْ (9)، وكل مَنْ فيها مِن كَنَّهْ، مِعَنَّةٍ مِفَنَّهْ، سِمْعَنَّةٍ نِظْرَنَّهْ، إِلَّا تَرَهْ تَظُنَّهْ، وبحمداوَه ودرقاوه، وعيساوه وعليواه وحملاوَه (10)، وكل من أخذ الإِتَاوَه، وأكل الشوك كالبقلاوَه، وازدرد الزجاج كالحلاوَه، وبمطوِّشات قدّور، وماهتك من خذور، إلى أن عميَ كالجادور (11). وبأضغان الصدور، ومحاق البدور، وأوضار القُدور، التي عليها أمر المعاش يدور. وأسألك بغلام الحيّ، وعبد الحيّ (12)، وعير الحيّ، الثالوث الذي صبر على الكيّ، فانتهى به الحال إلى الشيّ.

_ 7) "مامي": هو شخص يسمّى "مامي اسماعيل ". 8) مَزْغَنَّة: الاسم القديم للجزائر. 9) بوكرْدَنَّة: هو عبد الرحمن بوكردنَّه صيدلي بالجزائر العاصمة. 10) حمداوة، درقاوة، عيساوة، عليواه وحملاوه: أسماء طرق صوفية. 11) الجادور: الحصان. 12) عبد الحي: لعله عبد الحي الكتاني.

يا عفريت! إن كنتَ متألِّهًا فأسألك بالمذاهب الساسانِيَّه، والنحل الخراسانِيَّهْ، والفرقة الكِسانِيَّهْ، والخمور البيسانِيَّهْ، التي اغتالت الإنسانِيَّهْ، وبما في "يتيمة الدهر" من القصائد الواسانِيَّهْ، وبكل دجّال، وبكل محتال، من مسيلمة الكذّابْ، إلى البها والبابْ، ومن صالح ابن طريفْ، إلى أحمد القادياني، ومن المقَنَّع الخراساني إلى أحمد التيجاني. وإن كنتَ فقيهًا فأسألكَ بكل من شرع الحيلهْ، وفرَّق بها بين الحليل والحليلَه، وترخص في الدماء والفروجْ، وأباح للنساء التبرج والخروجْ، وبكل من عطل الحدودْ، وأرخَى العنان للشهودْ، وتساهل في الأموالْ، وقلّد يحى بن أكتم في بعض الأحوال، وبكل قاضٍ بالنهار يرتشي، وباللّيل ينتشي، وبكل عدل يسرق في الصباح ويفسق بالعشِيّ. وإن كنتَ شاعرًا عزّمنا عليكَ بشعر والبة بن الحُبابْ، وأبي نواس المرتابْ، والخليع وأولائك الأصحابْ، وابن سُكَّرةَ وابن حجّاج، وابن العفيف والحلّاجْ، وبالأعمى المخزومي ولسانه المرهوبْ، وبالأعمى الخنقي (13) وما قاله في ابن الموهوبْ (14). وإنْ كنتَ صحافيًّا قرأنا عليك مجلّة الصباحْ، وجريدة النجاحْ (15)، وأضحكناك بجريدة جحجوح وصاحبها الجحجاحْ، وأتحفناك بصحيفة الروح وما يُدبّرها من أرواحْ، وتلَونا عليك السعادة والودادْ، والبلاغ والرشادْ (15)، وشددنا عليك الوثاقْ، بجريدة الوفاقْ (15)، المنفِّقَة للنفاقْ، الملفِّقَة للكذب والاختلاقْ، وبصاحبها الملّاقْ، المخلوق بلا خلاقْ، وعزمنا عليك بمجلّة البدائع، وفحشها الذائعْ، وذكّرناك بجريدة المعيارْ (15)، وكُتّابها الأعيارْ، وبجريدة الجحيمْ (15)، وربّك غفور رحيم. يا عفريت! إنْ كنتَ عربيًا فصيحًا قلنا لك: لا يعتدي على حُرمة البَريدْ، إلّا كلّ شيطان مَريدْ، وإنْ كنتَ جزائريًا قلنا لك: تعطيل البراواتْ (16)، ما يفعلوه الَّا الخراواتْ، وإن كنتَ تونسيًا قلنا لك: ما هوش اصوابْ، تعطَّل لنا كل جوابْ، وإنْ كنتَ مغربيًا قلنا لك: ما يتجوسَسْ شاي (17) على البْرا غير المرا (18)، وإنْ كنتَ فرنسيًا

_ 13) الأعمى الخَنْقي: هو الشيخ عاشور المنسوب إلى مدينة "خنقة سيدي ناجي". 14) ابن الموهوب: هو الشيخ المولود بن الموهوب الذي كان مفتي مدينة قسنطينة. 15) النجاح، البلاغ، الرشاد، الوفاق، المعيار والجحيم: أسماء صحف جزائرية وكلها كانت ضد جمعية العلماء ما عدا جريدة الجحيم. 16) البْرَاوات: جمع "بْرِيَّة" كلمة دارجة معناها الرسالة أو الجواب. 17) ما يَتْجَوْسَسْ شاي: باللهجة المغربية ومعناها لا يَتَجَسَّس. 18) البْرا- المْرا: الرسالة- المرأة.

حاشية

قلنا لك: يامِيطْرْ (19)، تعطيل الِلّيطرْ (20)، ليس ممّا يُشرِّفُ الطيطرْ (21). يا عفريت! لا أسألك بالرجل المذّاء، ولا بخالد الحذّاء، ولا بمن جرى مجراهما، واستمسك بعُراهما، ذلك نُسب إلى طبع كان يغلب عليهْ، وهذا إلى رجل كان يجلس إليهْ، ذلك حقّق عدالة الحكمْ، وهذا أدّى أمانة العِلم، ولست منهما ولا كرامَهْ، الخ ... وهي طويلة فارجعْ اليها إنْ شئتَ في كتاب "بَرْد العزائم في سَرْد العزائم"، أو في كتاب "إتقان النقشة، في علم اليقشَه"، تَجِدها بنصّها الكامل. حاشية: قرأتُ في بعض كتب الفنّ أن من شروط هذه العزيمة: أن تُقْرأ في جوف اللّيل، عند ارتخاء عُرَى الذيْلْ، عند اقتران الثريا بسهَيْلْ، فمن الاحتياطْ، أنْ لا تُغفِل هذه الأشراط.

_ 19) مِيْطر: كلمة فرنسية معناها أستاذ، وتطلق على المحامي. 20) اللِّيطر: كلمة فرنسية معناها الرسالة. 21) الطِّيطر: كلمة فرنسية معناها العنوان، ويعني المكانة والقيمة المعنوية.

مرشد المعلمين

مرشد المعلّمين* تقديم: محمد الغسيري ــــــــــــــــــــــــــــــ وضع أستاذنا الجليل محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء منذ سنوات، برنامجًا حافلًا للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمّنه أصولًا عظيمة من علم التربية. وقد سألناه منذ عامين أن يجرّد لنا منه فصولًا عملية تتعلّق بالسنوات الست الابتدائية، ففعل- حفظه الله- وسلّمه لنا لنطبعه وننتفع به، وطالعناه فلم نجده كالبرامج المعتادة، وإنما هو "معلّم مكتوب". فهو يأخذ بيد المعلّم ويسير به خطوة خطوة إلى الغاية، لا يضلّ عنها ولا يجور، وكأنما هو "ملقّن" من وراء المعلم يملي عليه الكلام ويرشده إلى كيفية العمل. لذلك آثر جماعة من قدماء المعلّمين تسميته "مرشد المعلّمين". عاقنا عن طبعه عدم استعداد مطابعنا لطبع مثله، فعزمنا على أن نطبعه أمثلة خطية "كليشيات" وها نحن أولاء نتعجل بنشر المقدّمة التي صدرها به أستاذنا الجليل ليقرأها إخواننا المعلّمون ويستفيدوا ما فيها من إرشادات.

_ * وضع الشيخ الإمام هذا المرشد بقرية "آفلو" في رجب 1361هـ (يوليو 1942م)، ونشر في "البصائر"، العدد 67، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 14 فيفرى 1949م.

- 1 -

- 1 - مقدمات: ــــــــــــــــــــــــــــــ تقسم مواد التعليم العربي الابتدائي في مدارس جمعية العلماء، المفضلة في هذا البرنامج، على ست سنوات متوالية، هي المراحل الأولى في عمر التلميذ الناشئ، ويحصل حين يتجاوزها بنجاح على شهادة تسمّى "شهادة التعليم العربي الابتدائي"، صحيح التأدية للقراءة، طيّع اليد والقلم بالكتابة، محصلًا لمبادئ الدين الإسلامي علمًا وعملًا، ولمبادئ التاريخ الإسلامي الذي هو جزء من الدين، وأول تلك المبادئ، السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين وذوي الآثار الخالدة في الإسلام من الصحابة والتابعين. ويحفظ في هذه المراحل أجزاء من القرآن حفظًا متقنًا مع فهم المفردات الغريبة وخلاصة المعنى، ومبادئ التجويد دراية، بكيفية تؤهّله للتوسع في هذه المواد وبلوغ الدرجات العليا فيها إن لم ينقطع عن التعليم. فإن انقطع عن التعليم استطاع، بمعونة حظه من العربية أن يبلغ ما شاء بالدراسة والمطالعة، لأنه يقرأ قراءة صحيحة، ويفهم فهمًا صحيحًا، وخرج- على الحالين- برأس مال عظيم من دينه وفضائل دينه، وقوميته ولغته وتاريخه. ونتيجة هذا أن يكون عضوًا حقيقيًا من أمّته، صالحًا للحياة لها وبها ومعها، نافعًا محبًّا محبوبًا، حريصًا على ذلك، عاملًا له، داعيًا إليه. وهذه هي الغاية من التربية الصالحة، والتعليم النافع. ... يجتاز التلميذ الناشئ هذه المراحل الست- إن لم يعقه عائق- حينما يجتاز العقد الأول من عمره بقليل، فيكون غذاؤه العقلي مسايرًا لغذائه الجسمي، ويكون تكوينه الروحي جاريًا مع تكوينه البدني في عنان واحد، ويكون نموّ مداركه العقلية بالعلم والمعرفة مقارنًا لنمو إحساساته النفسية بالطبع والفطرة، فيتلقى العقد الثاني من عمره- وهو عهد الإحساس بجمال الحياة- مزوّدًا بإحساس آخر، وهو الإحساس بجمال العلم وشرف الفضيلة والدين. ويتلقى هذا العهد الذي هو أيضًا، عهد النزوات وتنبه الغرائز الفطرية، مسلّحًا بما يدفع غوائلها، ويشذب زوائدها، ويهذب حواشيها. مراحل التعليم الابتدائي هي- بالأصول- مراحل التكوين الأول للناشئة وعلى أساسها يُبْنَى مستقبلهم في الحياة، فإن كان هذا التكوين صالحًا كانوا صالحين لأمّتهم ولأنفسهم. وإن كان ناقصًا مختلًّا زائفًا بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت آثاره في الأمّة، وكانت الأميّة أصلح لها منه وأسلم عاقبة.

إن تبعة ذلك كله تلقى على المعلمين الكرام. فلينظروا أي موقف أوقفتهم الأقدار فيه، وليشدّوا الحيازيم لأداء الأمانة على وجهها، وليجعلوا من أخلاقهم وعزائمهم مرآة للناشئة وقدوة صالحة لها، لينطبع هذا الجيل الذي هو باكورة النهضة على أخلاق متينة، وعزائم قوية ودين صحيح، وليعلموا أنهم إنما يبنون للأمة من كل جيل سافًا حتى يعلو البناء ويشمخ. وإن البناء لا يعلو قويًّا صحيحًا متماسك الأجزاء متعاصيًا على الهزات والزلازل إلا إذا كان الأساس قوّيًا متينًا، متمكنًا ركينًا، وإن هذا الجيل الذي بين أيديهم هو حجرة الأساس في بناء هذه الأمّة من جديد. فليثبتوا الأساس، ليثبتوا الأساس. ... ليعلم أبناؤنا معلّمو هذا الجيل، أننا- ولا منة عليهم- مهّدنا لهم كثيرًا من العقاب، وذلّلنا لهم كثيرًا من الصعاب، وحللنا كثيرًا من العقد الاجتماعية التي عقدها البعد عن هداية الدين، والجهل بحقائقه، ووطأنا لهم أكناف النفوس المستعصية عن العلم، المستعصمة بالجهل، فأقبلت على العلم بعد أن كانت عنه معرضة، وجادت في سبيله بالمال بعد أن كانت به شحيحة، واستمرأت القراءة فآمنت بها وأنِسَتْ، واستوبلت الأميّة فكفرت بها واستوحشت منها، وعرفت القرآن بعد أن هجرته وتنكرت له، وأصبحت تهتز لسماع لغة القرآن اهتزاز النشوة والطرب، وفتحنا أذهانها على حقائق الإسلام فأدركتها وجدّت في طلبها بعد أن كانت تتلهّى عنها بقشور تسمّيها الإسلام، ووصلنا ماضيها المشرق بحاضرها المظلم لينعكس عليه إشراقه بعد أن قطعت الصلة بينها وبينه بجهلها ورعونتها، ووجّهناها إلى سعادة الحياة وشرف الحياة وجدّ الحياة بعد أن كانت قانعة منها لهزلها وسفاسفها وتوافهها. وكل ذلك مما يعين المعلّمين لهذا الجيل، ويخفف عنهم المشقّة. فليعلموا أننا تعبنا في هذه المرحلة لينعموا ولو بقليل من الراحة، وأن على مقدار تعبهم في تربية هذا الجيل وتعليمه وإعداده للحياة ومطالبها تكون الراحة لمن بعدهم من المعلّمين والعاملين لخير هذه الأمّة في جميع الميادين. إن زمانكم بطل فقاتلوه بالبطولة لا بالبطالة. وإن البطل هو الذي يتعب ليستريح غيره. ... إن هذا البرنامج الذي أضعه بين أيدي أبنائي المعلّمين، والبرنامج الذي وضعته للتعليم التجهيزي، والذي وضعته لتعليم البنت المسلمة، كلها مرشدة لهم إلى أحسن الطرائق في التعليم، ومعينة لهم على تنسيق المسائل في هذا الوقت الذي تعسّرت فيه الكتب وكادت

تتعذر، وكلها تمهيدات تخفّف عنهم المشقّة، فليجتهدوا في تنفيذها وليحقّقوا غاياتها ومراميها، وليجعلوها دستورًا يقفون عند نصوصه، ويجمعون ما تفرّق من أساليبهم الخاصة في التعليم عليه بخصوصه، وليتبيّنوا أن الغاية من توحيد البرنامج هي توحيد التعليم والتربية، حتى ينشأ هذا الجيل مطبوعًا بطابع واحد في لسانه وبيانه وقلمه، وفي تفكيره ومشربه، وفي آرائه في الحياة ونظرته إليها وأحكامه عليها. إن الذبذبة التي شهدنا آثارها السيئة في هذا الجيل الذي نحن في آخره، معظم السبب فيها آت من قارئيه ومتعلميه- على قلّتهم- فهم على تفاهة معلوماتهم وقلة محصولهم من المعرفة، لا يرجعون إلى أصل واحد في التعليم ولا إلى منهج واحد في التربية. وإذا اختلفت الأصول والمناهج في أمّة واحدة كانت كلها فاسدة، لأن الصالح كالحق لا يتعدد ولا يختلف. وخير المناهج لأمّة كأمّتنا في ظرف كظروفنا ما خرج سالكه بفكر صحيح وإن لم يخرج بعلم كثير ... وإن رجائي أن يكون هذا "المرشد"- إن وقفتم على تنفيذه- سببًا في توحيد أفكار هذا الجيل وفي تصحيح اتجاهه إلى العلم والحياة. ... أعيذكم بالله يا أبنائي المعلّمين أن تجعلوا كل اعتمادكم في تربية الصغار للرجولة على البرامج والكتب. فإن النظم الآلية لا تبني عالمًا ولا تكون أمّة ولا تجدّد حياة، وإنما هي ضوابط وأعلام ترشد إلى الغاية، وتعين على الوصول إليها من طريق قاصد وعلى نهج سويّ. أما العمدة الحقيقية في الوصول إلى الغاية من التربية فهي ما يفيض من نفوسكم على نفوس تلاميذكم الناشئين من أخلاق طاهرة قويمة يحتذونكم فيها ويقتبسونها منكم، وما تبثّونه في أرواحهم من قوة وعزم، وفي أفكارهم من إصابة وتسديد، وفي نزعاتهم من إصلاح وتقويم. وفي ألسنتهم من إفصاح وإبانة. وكل هذا مما لا تغني فيه البرامج غناء. ولو كانت البرامج تكفي في التربية لكان كل عالم مربّيًا، ولكن الواقع خلاف هذا. أي أبنائي المعلّمين: هناك أمم تقدّمتكم في العلم والمعرفة والنظام، فخذوا من مباديها العبرة، وخذوا من مصايرها العظة، وإن عبرة العبر لكم فيها أن العلم وإن تشعبّت عندها أغصانه، وتفرّعت أفنانه، وأسلس لها عَصِيُّهُ حتى فتحت به مغلقات الكون، لم يغن عنها فتيلًا مما تغني الأخلاق والفضائل. إن العلم لم ينه مفسدًا عن الإفساد، ولم يزع مجرمًا عن الإجرام، ولم يمت في نفوس الأقوياء غرائز العدوان والبغي على الضعفاء، بل ما زاد المتجرّدين من الفضيلة إلا ضراوة بالشر، وتفنُنًا في الإثم. فاجعلوا الفضيلة رأس مال نفوس تلامذتكم واجعلوا العلم ربحًا.

- 2 -

- 2 - * أي أبنائي المعلّمين: إنكم في زمن، كراسي المعلّمين فيه أجدى على الأمم من عروش الملوك، وأعود عليها بالخير والمنفعة. وكراسي المعلّمين فيه أمنع جانبًا وأعزّ قبيلًا من عروش الملوك: فكم عصفت العواصف الفكرية بالعروش، ولكنها لم تعصف يومًا بكرسي المعلم. إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمّة، فسوسوهم بالرفق والإحسان، وتدرجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلة أكمل. إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمّة بين أيديكم، سلّمتهم إليكم أطفالًا، لتردّوهم إليها رجالًا، وقدّمتهم إليكم هياكل لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا لتعمروها بالمعاني، وأوعية لتملأوها بالفضيلة والمعرفة. إنكم رعاة، وإنكم مسؤولون عن رعيتكم. وإنكم بناة، وإن الباني مسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف. إن من الطباع اللازمة للأطفال أنهم يحبّون من يتحبب لهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر. فواجب المربّي الحاذق المخلص، إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، هو أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسألهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويبسط لهم الآمال، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم

_ * "البصائر"، العدد 68، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 21 فيفري 1949م.

على محبته، فإذا أحبّوه أطاعوه وامتثلوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل من توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكّن من حملهم على الاستقامة وطبعهم على الخير والفضيلة. فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة- طريقة الترغيب- حبّب إليهم المدرسة والقراءة والعلم. وإن الصغير لا يفلح في التربية ولا ينجح في القراءة إلا إذا أحبّ معلّمه كحبّه لأبويه أو أعظم، وأحبّ المدرسة كحبّه لبيت أبويه أو أشدّ. وكثيرًا ما رأينا الصغار الذين يربيهم معلّموهم على هذه الطريقة الحكيمة يباهي أحدهم تربه بقسمه وبمعلّمه، ويباهي زميله في مدرسة أخرى بمدرسته، كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت. وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم. حدّثني الأمير عبد القادر بن الأمير علي الجزائري- رحمهما الله- بدمشق، قال: كانت لنا بنت في الخامسة من عمرها، فقدّمناها إلى مدرسة من نوع رياض الأطفال بمدينة "بروسه" من الأناضول (وكانوا مقيمين بها في الحرب العالمية الأولى). قال: فكانت دايتها لا تذهب بها إلا في حالة من الحرد والصراخ تخشى معها على حياتها، وكانت الداية تذهب إلى المدرسة بها وتجيء مرّات في اليوم، قال: وما هي إلا أيام حتى جذبتها المعلمة بلطف مدخلها إلى نفسها، فأصبحت تفعل حين تريدها الداية على الرواح أكثر مما كانت تفعل حين تريدها على الغدو من البكاء والإعوال، وزاد بها الحال حتى اضطرّت المعلمة إلى اصطحابها معها إلى بيتها فلا تأتينا بها إلا نائمة، فإذا أفاقت أنكرت أمها وفراشها وذعرت حتى لنضطر أحيانًا إلى إرجاعها إلى المعلمة ليلًا. قال: وكان من أثر تلك المعاملة أن حذقت البنت كل ما لقنته في الروضة، وانبنى مستقبلها على ماض متين. ليحذر المعلّمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العتيقة التي كانت شائعة بين معلّمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت هذا الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة. إن القسوة والإرهاب والعنف تحمل الأطفال على الكذب والنفاق، وتغرس فيهم الجبن والخوف، وتُبغض إليهم القراءة والعلم. وكل ذلك معدود في جنايات المعلّمين الجاهلين بأصول التربية. وليدرس المعلم ميول الأطفال بالاختلاط بهم، وليكن بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم عطفه، ويوزّع بشاشته ويزرع بينهم نصائحه، ويردّ الناد منهم عن المحجة برفق. إن درس الميول يمكّن المعلم من إصلاح الفاسد منها، ومن غرس أضدادها من الفضائل في نفوسهم. وإن المعلم لا يستطيع أن يربّي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا ... ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان هو صالحًا، لأنهم يأخذون منه بالقدوة أكثر مما يأخذون منه بالتلقين.

أيها المعلّمون الكرام: إن البيت عند الأمم الحية هي أخت المدرسة. كلتاهما مكمّلة للأخرى، فالتلميذ بينهما يتقلّب بين عاملين من عوامل التثقيف والتهذيب. أما البيت عند أمّتكم فهي ضرة المدرسة، ما تبنيه هذه تهدمه تلك، وما تزرعه هذه تقلعه تلك. لأن قعائد البيوت جاهلات. وقعائد البيوت هنّ قواعدها، وويل لبيوتنا من هذه القواعد ما دمن جاهلات. ووارحمتا لكم من هذه الحالة وهذا الموقف، ولا أب يؤيّد ويناصر، ولا أم تعين وتؤازر. ولا بؤس للإسلام والعربية بهذه الديار. ولا عجبًا لا ينقضي من بعض الأمهات عندنا، فقد أصابهن- مع جهلهن- من الاستعمار مسّ، فنرى الواحدة منهن تُعنى بولدها في ميقات المكتب الفرنسي، فتحافظ على الوقت بالدقيقة، وترجل شعره، وتغسل أطرافه، وتنظف ثيابه، أما في ميقات المدرسة العربية فترسله أشعث مغبرًا مختل الهندسة، متأخرًا عن الوقت لأنها سخرته في أغراضها، أو متقدّمًا عنه لتستريح من شيطنته. وإذا كانت بيوتنا على ما نرى من فساد في الأخلاق، وجهل بالتربية الصالحة، وإهمال وفوضى، وكانت ناشئتنا في هذا الطور- طور التكوين- تتقلب بين بيوت هذا حالها، وبين مكاتب فرنسية لائكية- إن قدّر لهم الوصول إليها- وهي ذات برنامج استعماري يوجّههم إلى غايات استعمارية، ولبعدهم عن دينهم ولغتهم وقوميتهم، إذا كان الأمر كذلك فانظروا - يا رعاكم الله- أي عبء ألقته المقادير على كواهلكم، وأي واجب تؤدّونه لدينكم ولغتكم وأمّتكم، وأي عهد في أعناقكم يجب أن توفوا به لها. ههنا توقظ الليالي هاجعها، وههنا تجافي الجنوب مضاجعها، وههنا تسمو نفوس، وتسف نفوس، وههنا تنسى المادة الخسيسة حتى كأنها ليست من هذا الوجود ... أي أبنائي المعفمين: إن الأطفال مفطورون على غرائز ناقصة يزيدها الإهمال وفقدان التربية الصالحة نقصًا وشناعة، وتعالجها التربية الحكيمة كما تعالج الأمراض. فإذا لم تعالج في الصغر اندملت نفوسهم عليها كما يندمل الجرح على فساد، وجفّت كما يجفّ العود على عوج، فضعوا أيديكم على تلك النقائص وتعمدوها بالإصلاح والتقويم، أو بالتشذيب والتعديل. فمن النقائص اللازمة للصغار: الخوف والغضب والحسد وسرعة التأثر والانفعال وسرعة التصديق بكل شيء وإفشاء كل ما تسمعه آذانهم وتراه أعينهم. أما الخوف فمنشؤه أوهام تحوكها الأم الجاهلة لصغيرها منذ الرضاعة تستعين بها على إسكات الطفل أو تسكين حدّته، وهي لا تدري ماذا تجني عليه من تلك الأوهام، ولا أي مرض عضال ابتلته به صغيرًا ليتجرّع غصصه كبيرًا. فاجتثوا هذا الغرس الخبيث

من نفوسهم بتقوية الإرادة فيهم وبتنمية الحقائق في أذهانهم. وداووا كل نقيصة من تلك النقائص بتقوية ضدها في نفوسهم، وببيان أضرارها بالتصوير العملي على قدر ما تحتمله عقولهم. وأنجع الأدوية ترويضهم على الصبر والصدق والتسامح والشجاعة. ربّوهم على الفضائل- وأكرّر القول وأعيده- وقدّموها على العلم. إن الأخلاق العالية هي الأصل، وإن العلم لا يغني عنها، ولا يأتي بها، وكم رأينا من عالم يعظ الناس وينهاهم عن المنكر ثم يخالفهم إلى ما نهاهم عنه. وكم رأينا من طبيب يبيّن مضار الخمر للناس وهو يعاقرها. ربّوهم على الرجولة وبعد الهمّة، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الإنصاف والإيثار، وعلى البساطة واليسر، وعلى العفة والأمانة، وعلى المروءة والوفاء، وعلى الاستقلال والاعتداد بالنفس، وعلى العزة والكرامة، وعلى التحابب والتسامح، وعلى حب الدين والعلم والوطن والوالدين والمعلم. أفهموهم من الصغر معنى الأسرة وروابطها وواجباتها، وتدرّجوا بهم من معنى الأسرة إلى معنى الأمّة، وأشربوا قلوبهم أنهم فروع من دوحة واحدة ذات خصائص طبيعية ليحافظوا عليها. كونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال والأحوال والأقوال. لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال. وإن الكذب في الأحوال أضرّ على صاحبه وعلى الأمّة به من الكذب في الأقوال. فالأقوال الكاذبة قد يحترز منها، وأما الأحوال الكاذبة فلا يمكن منها الاحتراز. وقد يقول لكم قائل: إنه رجل صالح، فتحتقرونه لأنه مُزَكٍّ لنفسه، ولكون الاحتقار، مانعًا من الاغترار. ولكنه يأتيكم من طريق أخرى فيلبس لبوس الصالحين ويتظاهر بأحوالهم من الصمت والسمت فتغترون به، وهو هو بعينه. وكم أهلك هذه الأمّة المتظاهرون بالصلاح، والمتظاهرون بالزعامة، والمتظاهرون بالإمامة. أي أبنائي المعلّمين: إنكم جنود الإصلاح، فأصلحوا نفوسكم وداووها من داء الأنانية والغرور وتلاقوا على الحرفة الجامعة بالأخوّة والتعاون، والتساند والتضامن. إنكم من جيل فتح آذانه على نغمة متردّدة كثر لوكها حتى أصبحت دعوى كل مدّع، وشعوذة كل مشعوذ، وهي خدمة الأمّة، وخدمة الوطن. وإن أشرف خدمة يقدّمها العاملون المخلصون لأمّتهم ولوطنهم هي التعليم والتربية الصالحة، فهما سلّم الحياة وإكسير السعادة.

إن أستاذ العاملين الأكبر هو الاستعمار نفسه. يدلّهم بفضائحه البادية، وأعماله الباغية العادية، على طريقة العمل. فإن أردتم أن تعرفوا الطريقة المثلى لخدمة أمّتكم، وتتبيّنوا الطريق القاصد، فانظروا إلى الاستعمار، واعرفوا الطرق التي سلكها لقتل أمّتكم فاسلكوا ضدّها لإحيائها. وادرسوا الوسائل التي تذرع بها لاستعباد أمّتكم فاستخرجوا منها وسائل تحريرها. أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمّة، وإن الوطن لا يعلّق رجاءه على الأميّين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسّك بصداها وكرّرها كما تكرّر الببغاء. كان الله لكم، وجعلكم عند حسن ظننا بكم، وأجرى على أيديكم الفتح والنجح. آفلو، رجب عام 1361هـ.

رئيس جمعية العلماء يتكلم

رئيس جمعية العلماء يتكلم (1943 - 1947)

لقاء ووفاء

لقاء ووفاء * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الاخوان: هذا أول اجتماع نعقده بعد أربع سنوات ونصف، مرّتْ كليالي الهجر على المحبّ العميد، بين اعنات الليالي بخطوبها السود، وقسوة الأيام بأحداثها الصم، وتجنّي الخصوم بكيدهم الجبّار ومكرهم الكبّار، وبين الفتن المتلاحمة التي تطير فيها الألباب، وتتناكر في ظلماتها الأحباب، ويتنكب فيها الرأي واللسان جادّة الصواب، والمواقف التي زلّت فيها أقدام وضلّت أحلام، ونكص على العقب أقوام وأقوام. فنحمدُ الله على أن ثبَّتَ هذه الفئة القليلة بالقول الثابت، وأخذ بأيديها إلى ساحة اليقين وساحل النجاة، فلم تزغ لها في الحق عقيدة، ولم تَهِنْ لها في قوله وفعله عزيمة، ولم تَلِنْ لها في مصارعة الباطل والمبطلين شكيمة، ولم يَثْنِها عن مبدئها الحق ما لقيتْ من أذى وظلم وهضيمة، ولا فتن لها في مداحض الشبهات رأي ولا طانت روية، ولا لاذتْ في معترك القوة والحق بالمداورة ولا بالتقية، ولا خضعتْ لطواقعيت الجور مهما طغت وبغتْ، وبلغتْ من العتوّ والجبروت ما بلغتْ، بل ما زادها ذلك إلّا إيمانًا بربّها، واعتدادًا بنفسها، واعتمادًا على حقّها، واعتزازًا بإسلامها، وثباتًا على مبدئها، وثقةً بخالقها، ووفاءً بعهدها، وقيامًا بواجبها، وبرًّا برجالها، ووفاءً لإمامها. أيها الاخوان: إن الإسلام لَمفتقر في هذا الطور الأخير من حياته إلى ذلك الطراز العالي من البطولة التي عهدها في أبنائه الأولين، وإلى ذلك النوع السامي من التضحية في سبيله واستحلاء الأذى في الدعوة إليه، ومواصلة الكفاح للكائدين له، وهي الخلال التي قام بها بناؤه حينما قام

_ * نص الخطاب الذي ألقاه الشيخ في أول اجتماع للمجلس الإداري لجمعية العلماء بعد إطلاق سراحه من منفى آفلو، وذلك سنة 1943، ووجدنا مسودته في أوراق الشيخ.

بها أبناؤه، فكانت فئتكم القليلة في العدد، الكثيرة بما تستمدّه من عون الله وحده من المدد، هي طلائع الجهاد، والعوامل الممهّدة للمهاد، في ميدان التضحية والاستشهاد. أيها الاخوان: إن بُعْدَ المسلمين عن روح القرآن وهدي القرآن غَرَسَ فيهم خصالًا من الخَوَر والفسولة أدّتْ بهم إلى ما ترون وانتهتْ بهم إلى ما منه تشكون، وإن هذه الخصال التي تمكنتْ من النفوس لا تزول جراثيمها المميتة إلّا بصاخّة من الأحداث وقارعة من المصائب، تخرجها من حبس الخمول إخراجًا، وتزعجها إلى ميدان العمل إزعاجًا، فمرحبًا بالتطريد والتشريد، والإرهاق الشديد، والحبس ولو على الدوام والتأبيد، والنفي ولو إلى القرار البعيد، إذا كان كل ذلك يذيب زيف الأخلاق الخادعة، ويجتثّ غشّ النفوس الخامدة، ويشدّ وهن العزائم الراكدة، ويرحض عنا أوضار الضعف والخَوَر والانحلال، ويجمع القلوب بعد ذلك على الإيمان بالحق، والوفاء للحق، والتناصر بين أصحاب الحق. أيها الإخوان: إن الرؤوس التي رفعها الإسلام تأبى أن تخضع إلّا للإسلام، وإن الألسنة التي استقامت أسلاتها على قولة الحق تأبى أن يَلْوِيَها لَاوٍ لغير الحق، وإن القلوب التي انطوتْ سويداؤها على معنى التوحيد تأبى أن تحمل معنى من معاني التفريق، ويشهد الله أنكم كل أولائك، على إقبال الأيام وإدبارها، واحلائها وإمرارها، فما عَنت وجوهكم لغير الله، ولا خضعتْ أعناقكم لظالم، ولا لويتْ ألسنتكم بكلمة باطل، ولا نزعتم إلى تفرق، ولا تهوّرتم في تأويل، ولا دنتم بتعطيل. يشهد الله والتأريخ والواقع أن الحق ألّف بين هذه الفئة القليلة حتى أصبحوا وكأنهم ليسوا أعضاء جمعية بل أعضاء جسد واحد، يألم جميعها لمصيبة الواحد منها، شهد لكم التاريخ وشهد لكم الواقع بذلك في الأحداث الملمة بكم على ما بينها من تفاوت في الجسامة والوقع: يومَ مات الإمام الرَّئِيسُ، ويومَ أن أُبعد بعضكم، ويوم أن سجن بعضكم، شهد الله أنكم حققتم معنى الوفاء الإسلامي في أيام الهزاهز والفتن، كما حقّقتم معاني الإسلام بأكملها في أيام الأمن. وها قد عاد المُبْعَد، وأطلق السجين، وكل ذي غيبة يؤوب، وغائب الموت لا يؤوب، فأين قمر هذه الحقبة ومبعث ما كان يلوح عليها من هيبة وجلالة، أين فارس هذا الميدان المعلم، وبطله المشيح، أين ذلك الفكر الجوّال؟ وأين ذلك العزم الصوّال؟ وأين ذلك اللسان القوّال؟ أين إمام الصفوف، وقائد الزحوف، ومنتضى الآراء قاطعة كالسيوف، ماضية كالحتوف؟ أين- لا أين- ذلك الإمام الذي كانت تصعد الأبصار وتصوب فلا تقع إلّا عليه، وتمتدّ أيدي الالتماس فلا تشير الأصابع إلّا إليه؟ أين ذلك المفرد العلَم الذي شأى من قبله وأتعب من بعده؟

فقدناه- أيها الإخوان- بل فقدته الأمة الجزائرية، بل فقده الإسلام، أحوج ما كان الجميع إلى علمه وآرائه، وإلى عزمه وإقدامه، وإلى شجاعة قلبه ولسانه، وإلى ثباته ووَثَباتِه. إن فقد إمامنا جرح لا يندمل، وإن ذكره وذكراه كلما جال على اللسان أو جاش به الخاطر جراحات تتنزى ألمًا وإن لم تثغب دمًا، وإن نَكْءَ الجرح بالجرح أوجع، نعم، نعم، وإن أنكى من هذه الجراحات أن يموت الإمام في مثل هذه الزعازع الهوج التي أجرت الألسنة فعاقتها عن البَوْح، وكبتت الخواطر المعتلجة بالثناء العاطر فسدّتها عن الفَوْح. ولولا الرجاء في يوم تتجلّى عنه الغيوب، فتفيض فيه العبرات المحبوسة والزفرات المكبوتة، وتجيش فيه الألسنة بما فيه الوفاء للراحل والكفاء للتاريخ، وتقوم الأمة بما عليها من حق التمجيد المشروع، لولا ذلك الرجاء لَذهبتْ منا النفوس حسرات. فيا يومُ عمْ صباحًا، وأشرق على الخابطين لمّاع الجبين وضّاحًا، ويا يوم، من لي بك من يوم! كن بعض أيام عمري أكن نائحة المأتم وغراب الندبة على من لم تشرق أمثالك على أمثاله منذ أزمان. أيها الإخوان: إن من حق إمامنا علينا أن نترحّم عليه وأن نستغفر له قيامًا بحق السنّة، وأن نمضي متآزرين في تنفيذ أعماله وتحقيق آماله، وأنتم أعلم الناس بأعماله وآماله، فقد شاركتموه في حمل الأمانة وتأديتها في حال حياته، فعليكم أن تضطلعوا بتتميمها بعد وفاته. أيها الإخوان: لو كنتُ غير مَن أنا وكنتم غير مَنْ أنتم، لفاض لساني في هذه الجلسة بشكر أيادٍ سلفت منكم لأخيكم العاجز، ولكنكم في جلالة أقداركم أغنياء عن الإطراء، كما أنني في بساطتي غني عن المجاملة، وإنما أجدني مضطرًا إلى الإشادة بالثناء عليكم في موقفكم يوم مات الأستاذ الرَّئِيسُ وأرجف المرجفون بالجمعية، فوقفتم موقفًا صارمًا أرغم الأعداء وسرّ الأوداء، وأبنتم للمفترين أن من يتهمونهم بالقصور رشداء.

واجب المثقفين نحو الأمة

واجب المثقّفين نحو الأمة* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الاخوان: رغب إليَّ جماعة من إخواني الأساتذة الذين يعز علي رد رغبتهم أن أحدثكم في هذه الليلة المباركة في هذا النادي العامر، وما عهد نجد عندنا بذميم، ولكنهم حددوا لي موضوع الحديث في جملة صاغها أخي الأستاذ العامل عبد السلام مزيان بلفظه وهي (كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة) وزعم الأخ الأستاذ سامحه الله أنه لا يضطلع بتفصيل هذا الموضوع وإعطائه حقه غيري، ولولا حسن ظني بالأخ الأستاذ ومتانة ثقتي بأخوّته لقلت إن اختيار هذا الموضوع توريط لي زينه بذلك الزعم المغري. ولكن يشفع عندي للأستاذ مواقفه التي أذكرها فأشكرها في التقريب بين ألوان الثقافات الرائجة بهذا الوطن وفي التأليف بين أفراد المثقفين المتنافرين بطبيعة الحال لا بل أغنم فأعد الأستاذ من أمثلة القاسم المشترك عند علماء الرياضة اذ هو من الأفذاذ الذين تذوّقوا ثقافتين تصطرعان بهذه الديار وعملوا للتوفيق بينهما للخير العام. وإذا خرجنا من الدعابة للأستاذ إلى الجد معه فإن هذا الموضوع أثار اهتمام الأمة بطرفيها في هذه السنة وكثر خوض الخائضين فيه وهب في الرأي العام تيار شديد من المعاني المتصلة بهذا الموضوع عبرت عليها الأفعال قبل الأقوال وغمرت المجالس والمجتمعات سحب المناظرة والجدال والجواب والسؤال، وكثر التحكك بين الطرفين المقصودين فيه وهما الأمة والمثقفون من أبنائها. وأنا أزعم أني من المشتغلين بمراقبة هذه الحركات في الأمة والمعتنين بتسجيلها لأنها متعلقة بأعمالي الفكرية والتعليمية والإرشادية، ولأنني متصل بالطرفين اتصالًا وثيقًا وعالم بما

_ * من محاضرة ألقاها الإمام في أحد نوادي تلمسان في 1943، ووجدت مسودتها بين أوراقه.

لكل منهما على الآخر من واجبات، وعامل بجهدي في تقريب ما بينهما من مسافة وإزالة ما بينهما من تنافر. فحكمي على هذا الشعور الجديد في هذه الأمة أنه وليد التطورات والحوادث المفاجئة التي تعمل في تكوين العالم كله تكوينًا جديدًا، وأن أول ما تفعله الحوادث طبع الأفكار والعقليات طبعًا جديدًا. وان الأمم إذا اضطرم شعورها بالحاجة إلى الشيء اتجهت أنظارها إلى قادتها وتحركت ألسنتها بالتساؤل عن رجالها، فإذا كانت سعيدة مهيأة للخير لبّاها رجالها من أول دعوة ووجدت قادتها في مقدمة الصفوف، وإذا كانت شقية مقدّرًا لها الذل والخذلان وجدتهم لاهين لاعبين أو متنابذين مضطربين منعزلين في أخريات القوافل منتشرين على هوامش ركب الحياة قانعين بالمدار الضيق الذي يدورون فيه مثقلين بالقيود المرهقة التي قيدتهم المعيشة بسلاسلها وأغلالها. فتفوت الفرص ويفوز السابقون المبكرون وتقسم مغانم الحياة وتبدل الأرض غير الأرض، والأمة ورجالها متباعدون مع قرب الدار، متقاطعون مع حرمة الجوار، يتصاممون والألم شامل ويتعامون والبلاء محيط، ويتمارون والنذير عريان ويمارون في الشمس وهي طالعة ثم يصبحون وقد فات العمل وخاب الأمل وحقت الكلمة، وهذه حالتنا وحالة أمتنا معنا والأمر لله. أيها الاخوان: إن هذا الموضوع الذي أرغمت على التحدث فيه موضوع شائك لا يجري اللسان فيه إلا على أطراف مجددة وجثث ممددة وعوائق مما يقف بين الحلق واللسان، وعواثر مما يفصل بين الإنسان والإنسان وإن الانصاف فينا لقليل. إن الحديث في هذا الموضوع يؤدي إلى تحريك أوتار طال العهد بسكونها، وإلى نفض غبار اطمأنت النفوس إلى ركوده، وإلى نقد خصال من الضعف والفسولة والخور عششت في نفوسنا حتى ألِفْناها وركنّا إليها وأصبح الفطام عنها صعبًا، وألبسناها خلاف لبوسها من الأوصاف والنتائج حتى أصبح الدخول في خلافها دخولًا فيما لا يعني والتلبس بها إلقاء بالنفس إلى التهلكة. ونحلناها ما لا تستحق من الأسماء حتى أصبح المتصف بها يسمى بيننا حكيمًا وعاقلًا وخيرًا ومسالمًا ومدارًيا ومتجنبًا للشبهات من الخمول والانكماش. ولقد كانت هذه الخصال موجودة في طائفة من سلفنا وكانت محمودة في عرفهم ولغة عصرهم لأنها كانت من الكماليات في حياة الأمة لأن كلمة الأمة إذ ذاك مجموعة وجانبها عزيز ومقوماتها ثابتة ومكانتها محترمة ومقامها بين الأمم مرفوع وميادينها عامرة بالرجال وخزائنها زاخرة بالأموال. فماذا عسى يضيرها بعد ذلك إذا جاءت منها طائفة مسالمة وطائفة

متجنبة للشبهات وطائفة متصوفة وطائفة متقشفة وطائفة متمزهدة وطائفة متعبدة وطائفة تسكن الخلوات وطائفة تعمر حلق الذكر. كان المأمون في عصره قائمًا بعز الخلافة وفي عزها عزّ الإسلام وكانت يده تفيض بالعطاء للناقلين والمترجمين لثمرات العقل البشري فماذا يضير الإسلام في زمنه أن يكون في الأمة طائفة آثرت الخمول والانزواء والتستر والانكماش؟ وماذا يضر السفينة إذا كان ربانها ماهرًا ساهرًا أن ينام جميع الركاب؟ وكان أحمد بن حنبل وطبقته في عصرهم يحملون الشريعة ويقومون بتحقيقها وفلسفتها ونشرها، وكان البُخاري وطبقته يقومون بالرحلة لجمعها وتحريرها وتصفيتها. وكان طاهر بن الحسين وأمثاله من القواد يقومون بحماية الثغور وتنظيم القوّة، وكان الحسن بن سهل وأمثاله يقومون بتدبير المصالح العامة وجباية الأموال، وكان أبو يوسف وأحمد بن أبي دؤاد يقومون بتنفيذ القضاء وإقامة الحدود. وكان ثمامة بن أشرس وأضرابه يقومون ببيت الحكمة في الأمة وتكوين الفضائل. وكان الأصمعي ويونس وأبو عبيدة وأضرابهم يقومون بتدوين اللغة وحفظها، وكان الخليل وسيبويه وابن جني وأمثالهم يقومون بتفريعها وتخطيط مقاييسها، وكان الجاحظ وأضرابه يقومون بجلاء البيان العربي وترويضه للمعارف العقلية والنقلية، وكان النظّام وواصل وبشر بن المعتمر وأضرابهم يقومون بتوسيع المدارك العقلية وتلقيحها بلقاح المنصف وتربيتها على أفانين الجدل والحجاج والاستدلال. وكان الآلاف من غيرهم يقومون بشعب الحياة الأخر ويعمرون ميادينها المتشعبة؛ فهل يضر الأمة أن تختار طائفة منها ما تستحقه من خمول وانكماش وغيرهما مما هي أمراض المثقفين اليوم من هذه الأمة؟ على أن الواقع الذي يجهله الناس وأنا أعرّفكم به لأنني أعرفكم به، هو أن تلك الطوائف التي شذت واعتزلت الحياة العامة في أيام عز الإسلام ليست إلا طوائف لا تستحق الحياة وأنها لم تجد في ميدان الحياة متسعًا لأن تلك الميادين كانت عامرة بالأصلح، فتلك الطوائف لم تعتزل الحياة عن طوع واختيار بل عن قهر واضطرار هي طوائف اعتزلتها الحياة وليست هي التي اعتزلت الحياة، هي طوائف منفية من الحياة لا منتفية منها. يوجد رجل من مشائخ الطرق الدجالين في عصرنا هذا ولكنه حاذق في معاريض الكلام جاءه مريد من مريديه فقال له: إني طلقت الدنيا لأنقطع إليك وإلى خدمتك، فقال له الشيخ: وماذا طلقت من الدنيا هل لك غنم؟ قال لا، قال هل لك تجارة هجرتها لأجلي؟ قال لا، قال: هل لك فلاحة تركتها لأجلي؟ قال لا، قال هل لك زوجة وأولاد؟ قال لا، قال إذن فالدنيا هي التي طلقتك وأنت المطلق لا هي. وكذلك حال تلك الطوائف التي ورثنا من آثارها السيئة هذا الخمول وهذا الانكماش وهذا الجهل بحقيقة الحياة، وبئس الميراث وبئس الوارثون.

طاف الإمام أبو إسحاق الأسفرائيني في بدء انحطاط الإسلام جبل لبنان وكان عامرًا بالعباد المنقطعين عن الدنيا، فقال يخاطبهم: يا أكلة الحشيش تهربون ها هنا وتتركون أمة محمد تعبث بدينها المبتدعة، وان اقتصاره على ذكر الدين يدل على أن دنيا الأمة كانت محفوظة، ولو بعث في مثل زماننا لَأضَافَ الدنيا إلى الدّين فقد ضاع كلاهما بخمول المثقفين. أيها الاخوان: هذه مقدمة كالمفتاح للكلام في المقصود وهي متصلة به معدودة من تمهيداته مشيرة إلى كثير من أصوله مرشدة إلى ما فيه الأسوة من المحدثين بالقدماء، وإذا طالت فعذري إليكم أن المرتجل لا يستطيع ضبط لسانه كما يستطيع الكاتب ضبط قلمه فلنحول هذا اللسان عن مجراه، ولنحاول حمله على الجري في المقصود ومن حقكم على هذا اللسان أن يَنْطِق بالحق ولو على نفسه: واذا كان الحق يغضب أقوامًا فحسبه أن يرضي الحقيقة، وما وقفت بينكم موقف القائل ووقفتم في موقف المستمعين إلّا وقد أخذ الحق علينا عهدًا أن يكون الخطاب من الضمير للضمير وان لا نؤثر العواطف على العقول وان لا نتقارض الثناء المكذوب، وان لا نخون الفضيلة في اسمها، إننا مرضى ومن بلاء المريض رفق الطبيب به، ان رفق الطبيب خيانة لفنه وقدح في أمانته وزيادة في البلاء على مريضه، وما خير رفق ساعة يتجرع المريض بسببه آلام السنين. أعيد الموضوع على أذهانكم وهو كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة؟ كلمة المثقف آتية من تثقيف الرمح وهو تقويم قناته بغمزها وتشذيب زوائدها الناتئة وإزالة الاعوجاج من كعوبها، ويقولون للغلام المتدرب على اللعب بالسلاح وعلى الرمي بالحراب والتلاعب بالرماح، غلام مثاقف وهو وصف قريب الصلة بكلمة التثقيف، ولم تكن العرب تستعمل كلمة مثقف بالمعنى الذي نعرفه الآن. وإنما كانوا يقولون في مثله رجل لقن وزكن ويقولون في معنى الثقافة عندنا اللقانة والزكانة، ولما جاءت نهضتنا الحاضرة اختارت للدلالة على هذا المعنى كلمة الثقافة وجعلتها ترجمة لكلمة افرنجية. فالمثقف هو الرجل المُهَذّب المستنير الفكر المجوهر العقل المستقل الفكر في الحكم على الأشياء، الجاري في تفكيره على قواعد المنطق لا على أسس التخريف، المطلع على ما يمكن من شؤون العالم وتاريخه، الملم بجانب من معارف عصره. وقد تتسع الثقافة بوفرة الحظ من الأخلاق وكثرة المعلومات وقد تضيق بقلتهما وقد تنقسم باعتبارات جنسية أو لغوية أو دينية. فيقال: الثقافة العربية أو الفرنسية ويقال الثقافة الإسلامية أو المسيحية مثلًا، وإني محدثكم عنها على حسب ما أتذوقه من روح الكلمة في مدلولها العربي وعلى ما أعلم من تطبيقها في العرف الشرقي الراقي في نهضته الفكرية الحالية، فإن رأيتم في

منزلة المثقفين في الأمم الحية

كلامي بعض المخالفة لمعناها الافرنجي فعذري أني لا أعلم مدى ما يراد منها في ذلك الاصطلاح، وإنما أنبهكم إلى أن معنى الكلمة في الذوق العربي يرمي إلى أن أساس الثقافة هو حسن التربية وصحة الإدراك والتقدير للأشياء، وسلامة التفكير والاستنتاج العقلي واستقامة السلوك في معاملة الناس، ويرمي كذلك إلى اعتبار الاخلاق الفاضلة قبل كثرة المعلومات، ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي يختلف فيها النظران الشرقي والأوروباوي. منزلة المثقفين في الأمم الحية: والمثقفون في الأمم الحية هم خيارها وسادتها وقادتها وحرّاس عزها ومجدها. تقوم الأمة نحوهم بواجب الاعتبار والتقدير، ويقومون هم لها بواجب القيادة والتدبير، وما زالت عامة الأمم، من أول التاريخ تابعة لعلمائها وأهل الرأي والبصيرة فيها، تحتاج إليهم في أيام الأمن وفي أيام الخوف. تحتاج إليهم في أيام الأمن لينهجوا لها سبيل السعادة في الحياة، ويغذونها من علمهم وآراثهم بما يحملها على الاستقامة والاعتدال، وتحتاج إليهم في أيام الخوف ليحلوا لها المشكلات المعقدة ويخرجوها من المضائق محفوظة الشرف والمصلحة. والمثقفون هم حفظة التوازن في الأمم وهم القومة على الحدود أن تهدم وعلى الحرمات أن تنتهك وعلى الأخلاق أن تزيغ، وهم الميزان لمعرفة كل إنسان حدّ نفسه، يراهم العامي المقصر فوقه فيتقاصر عن التسامي لما فوق منزلته، ويراهم الطاغي المتجبر عيونًا حارسة فيتراجع عن العبث والاستبداد. إذا كانوا متبوعين فمن حق غيرهم أن يكون تابعًا، أو كانوا في المرتبة الأولى فمن حق غيرهم أن يكون في الثانية، ولا أضر على الأمم من الفوضى في الأخلاق والفوضى في مراتب الناس، ولكن هل عندنا مثقفون بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؟ وما دام حديثنا في دائرة محدودة وهي الأمة الجزائرية بصفتها الحاضرة، وتفصيلنا للقول إنما هو على مقدارها فلنقل مخلصين: هل فينا مثقفون بالمعنى الصحيح الكامل لهذه الكلمة؟ ولنكن صرحاء إلى أبعد حدّ. الحق أنه يوجد في الأمة الجزائرية اليوم مثقفون على نسبة حالها وعلى حسب حظها من الاقبال على العلم وعلى مقدار الوسائل التي تهيأت لها في ذلك- ولكن المثقفين منا قليل جدًا لا في الكمّ والعدد ولا في الكيف والحالة، ولا نطمع في زيادة عدد المثقفين إلّا إذا زاد شعور الأمة بضرورة التثقيف، وتهيأت أسبابه أكثر مما هي متهيئة الآن- ولا نطمع في زيادة الكيفية إلّا إذا توحدت طرائق التثقيف وجرت على ما يوافق روح الأمة في دينها وعقائدها الصحيحة وتاريخها ولغتها وجميع مقوماتها، واتحدت الأهواء المتعاكسة واتفقت المشارب المختلفة في الأمة وصحت نظرتها للحياة وصح اختيارها لطرقها المناسبة لوجودها. ولكن آفة الآفات وعلة العلل في ثقافتنا على ما هي عليه من النقص في العدد وفي الحالة أن عندنا ثقافتين مختلفتين تتجاذبان الأمة من أمام ومن خلف، إحداهما ثقافة إسلامية أساسها

كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة

دين الأمة وقوامها اللسان العربي تقوم بها طائفة، والثانية ثقافة أوروباوية أساسها اطّراح الأديان وقوامها اللسان الفرنسي تقوم بها أخرى، وبين الثقافتين تفاوت يكاد يصيرنا أمتين لا أمة واحدة، ولو اشترك الفريقان في اللسان المعبر لهان الأمر ولحصلت بعض الثمار المطلوبة من الثقافة، ولكن في كلا الفريقين عيوبًا وأكبر عيوب المثقفين بالثقافة الإسلامية جهل مطبق بأحوال العصر ولوازمه، وأكبر عيوب المثقفين بالثقافة الأوروبية جهل فاضح بحقائق الإسلام وأخلاقه وآدابه وبتاريخ الأمة وهو مصباحها المضيء، وبلسانها وهو ترجمانها الصادق. ونشأ عن اختلاف الثقافتين ما لا يحصى من المضار والمفاسد التي صيّرت الثقافة فينا عديمة الفائدة، ومن أكبر مفاسدها الاختلاف في وجهات النظر فتختلف الآراء في المصلحة الواحدة على رأيين متناقضين وفي المفسدة الواحدة كذلك، وهنالك تنقلب الحقيقة ويصير المثقفون بلاء على الأمة ويصيرون داءها بعد أن كانوا دواءها. وأعداءها بعد أن كانوا أولياءها، ولا مخرج لنا من هذا إلا بالجمع بين الثقافتين في معين واحد. وقد كانت الحالة قبل أعوام أدهى وأمر مما هي الآن، إذ كان أمر الدين في الأمة موكولًا إلى طائفة من الفقهاء الجامدين لا يفهمون من حقائق الدين ولا من أسراره شيئًا ولا يعلمون من لغته إلا قشورًا، فكانوا يسيئون الظن بالمثقفين ثقافة أوروبية ويحكمون عليهم بالخروج من الدين ويشوهون سمعتهم عند الأمة. يتولد من ذلك في نفوس جمهور الأمة نفور مستحكم منهم وسوء ظن بأعمالهم، وذهب خيرهم في شرهم وحقهم في باطلهم، فلا يرضون على أعمالهم ولو كانت صالحة لقيام التهمة، ولا يثقون بأقوالهم ولو كانت سديدة لعروض الشبهة. ولكن منذ قامت الحركة الإصلاحية على أيدي رجال مثقفين ثقافة إسلامية حقيقية عالية عارفين بمقتضيات الحياة في كل عصر قادرين على تطبيق الدين مع الاجتماع مع الحضارة عارفين بأقدار الرجال وقيم معارفهم مطلعين على أسباب التقدم والانحطاط مشاركين في معارف العصر، وناهيكم بإمام النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس رحمه الله فمنذ ذلك الحين خفت تلك النزعة البغيضة بخذلان الداعين إليها وتولد في الأمة شعور جديد بقيمة المثقفين بالثقافة الأوروبية وبأنهم من أبناء الأمة وأن الواجب الانتفاع من آرائهم والاستفادة من مواهبهم. كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة أيها الإخوان أما إذا صارحناكم بما نعتقده الحق في قيمة ثقافتنا ومثقفينا وفي مقدار انتشار الثقافة بيننا وفي آفات الثقافة والمثقفين منا ونقائصها ونقائصهم وعيوبها وعيويهم فإننا نصارحكم برأينا في كيفية أداء المثقفين لواجبهم.

إن أول واجب على المثقفين إصلاح أنفسهم قبل كل شيء، كل واحد في حدّ ذاته، إذ لا يصلح غيره من لم يصلح نفسه، ثم إكمال نقائصهم العلمية واستكمال مؤهلاتهم التثقيفية حتى يصلحوا لتثقيف غيرهم، إذ ما كل مثقف يكون أهلًا لأن يثقف، واذا كان المثقفون قبل اليوم في حالة إهمال فحالتهم إذا هيأوا أنفسهم لتأدية الواجب تستلزم اهتمامًا آخر واستعدادًا جديدًا، وثاني واجب هو إصلاح مجتمعهم كل طائفة مع كل طائفة بالتعارف أولًا وبالتقارب في الأفكار ثانيًا، ومن طبيعة الاجتماع أنه يحذف الفضول واللغو، وبالتفاهم في إدراك الحياة وتصحيح وجوه النظر إليها ثالثًا، وبالاتفاق على تصحيح المقياس الذي تقامى به درجة الثقافة رابعًا. وهذه النقطة الأخيرة من ألزم اللوازم فإن التباعد بين المثقفين وخصوصًا بين أهل الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، أدّى إلى فتح الباب وكثرة المتطفلين، فأنا من جهتي لا أرضى بحال أن أحشر في زمرة المثقفين كل من يكتب بالعربية الصحيحة مقالة في جريدة ولا كل من يستطيع أن يخطب في مجتمع، وهو مع ذلك عَارٍ من الأخلاق أو لا يحسن الضروريات من المعارف العصرية، وما أكثر هذا الصنف فينا، وهم يعدون في نظر الناس وفي نظر أنفسهم من المثقفين، وأنا أشهد الله أن هذا ظلم للثقافة ما بعده ظلم، كما أنه يوجد في قراء الفرنسية عدد كثير من حملة الشهادات يزعمون لأنفسهم أو يزعم لهم الناس أو يزعم لهم العرف الخاطئ أنهم من المثقفين، وهذا كذلك ظلم للثقافة لا أرضاه. وان أمثال هؤلاء من الطرفين ما دخلوا في عمل إلا أفسدوه لنقص معلوماتهم أو فساد أخلاقهم وقصر أنظارهم وجهلهم بالتطبيق، ولا نستريح من هؤلاء إلّا إذا جاء وقت العمل فإن القافلة إذا سارت وشدت الرّحال تخلف العاطل وظهر الحق من الباطل. ولعل بعض السامعين يتشوف إلى معرفة السِّرّ في هذا التفاوت بين طبقات المثقفين منا، وأنا أشرح لكم بعض السبب وهو أن قراء العربية لم يخرجهم معهد واحد ولا معاهد متحدة التعليم موحدة البرامج مرتبة الدرجات منظمة الشهادات على التحصيل، وانما هم متخرجون من معاهد مختلفة لا تجمع بينها جامعة إلّا كونها عربية ومعظمها غير منظم ولا مرتب ومعظمهم تلقى تعليمه كيف ما اتفق ولم يكمل دراسته ولا أتم تحصيله، أما تربيتهم فجاءت ملونة بألوان تلك المعاهد. ثم ألقى بهم الدهر إلى أمة متعطشة في أول عهدها باليقظة فهي لا تفرق بين صفو وكدر فكانت استفادتها منهم قليلة وربما ضروا أكثر مما نفعوا. كذلك نعلم أن للثقافة الفرنسية في وطننا ثلاثة معاهد متباعدة الغايات متفاوتة الدرجات: الأولى الكليات الجامعة وما يوصل إليها، الثانية دار المعلمين، الثالثة المدارس الثلاث (1)،

_ 1) هي المدارس التي أنشأتها فرنسا في الجزائر سنة 1857 في تلمسان وقسنطينة والجزائر العاصمة لتخريج القضاة والمترجمين والأئمة.

ومن المؤسف حَقًّا أن أبناءنا في التعليم الجامعي انكبوا على الجانب المادي أكثر من الروحي والأخلاقي، فتخرج في جيلين بضع عشرات تناهز المائة من الأطباء والصيادلة ومثلها من المحامين، ودون العشرة من المهندسين، وإلى جانب ذلك كله دون العشرة في الآداب، ولم نر إلى جنب هذا العدد واحدًا تخصص في الفلسفة أو في علم النفس أو في الأخلاق أو في فلسفة الاجتماع والتشريع، وتعليل هذا الاتجاه معقول من روح الأمة وحالتها المادية وليس من المناسب شرحه في هذه المحاضرة، وإنما نقول إن للتقليد أثرًا كبيرًا في هذا الاتجاه شأن الأمم التي تكون في درجتنا من الانحطاط. وإني أذكر لكم على سبيل العبرة حكاية اتفقت لي: مرض والدي رحمه الله مرض الموت في دمشق وتسامع أصدقاؤه فزاره في بضعة أيام نحو عشرين طبيبًا فسهرت ليلة عند صديقي الدكتور عزت أفندي شموط وهو شاب أديب مع براعته في فنه فأكبرت دمشق إذ كان فيها فوق المائتين من الأطباء من أبنائها ومن اللاجئين إليها أيام الحرب فقال صديقي الدكتور شموط: إن كثرة الأطباء في بلدة تدل على كثرة الأمراض والأوساخ فيها، وأنا أختار بلدة فيها عشرة مرشدين دينيين وعشرة أدباء وعشرة أطباء على بلدة فيها ثلاثمئة طبيب، لأن الأدباء يرققون عواطفها فتميل إلى الروحيات فتقل الأمراض، والمرشدون يعلمونها القصد في الأكل واللذات ويحضونها على النظافة، فهؤلاء أطباء ولكنهم يداوون المرض قبل وقوعه فإذا أفلت واحد، دَاوَاهُ الأطباء المعروفون، فأكبرت كلامه إذ كنت لا أنكره بذوقي. ومن المؤسف أيضًا أن دار المعلمين تهيئُ خريجيها لأعمال خصوصية محدودة مقيدة يدور المعلم فيها طول عمره فلا يجد الوقت لتوسيع ثقافته بالمطالعة والكتابة والتطبيق، وكذلك القول في خريجي المدارس الثلاث وهذه القيود تشمل الثقافة وتحصرها في المدار الضيق. واذا تمت الإصلاحات الأربعة جاء الخامس والأخير وهو الامتزاج بالأمة والاختلاط بطبقاتها والتحبب إليها ومشاركتها في شؤونها الاجتماعية والدخول في مجتمعاتها ومعابدها ومشاركتها في عبادتها وفي الصالح من عوائدها، فبذلك تحصل الثقة منها وتنقاد لكل ما نريده منها، وبذلك يسهل على المثقف أداء واجبه على أكمل وجه، وثقة الأمة بالمثقفين هي رأس المال في هذا الباب. أما الواجب في حدّ ذاته فهو في الجملة إيصال النفع والخير إلى الأمة ورفع الأمية والجهل عنها، وحثها على العمل وتنفيرها من البطالة والكسل، وتصحيح فهمها للحياة وتنظيف أفكارها وعقولها من التخريف، وتنظيم التعاون بين أفرادها وتمتين الصلة والثقة بين العامة والخاصة منها، وتعليمهم معاني الخير والرحمة والإحسان لجميع الخلق.

هذه أمهات المعاني التي تجهلها الأمة أو تغلط في فهمها وواجب المثقفين- بعد أن يستوثقوا منها بالمخالطة- أن يرفعوا عنها الجهل بها أو الغلط فيها. وكيف يكون ذلك؟ يكون بتنزل المثقف في مخاطبة العامي واستدراجه في كل اجتماع إلى بيان ما يجهله أو يغلط فيه، ويتخير لذلك المناسبات وأوقات الفراغ، وقد شاهدنا المثقفين إذا اجتمعوا بعوام الأمة وسمعوا سخافاتهم يقابلونهم بالضحك أو بالاحتقار، وهذه نقطة من نقط تضييع الواجب حيث يجب أداؤه. فما ضرهم- سامحهم الله- لو عملوا بما ذكرناه؟ إذا لقاموا بالواجب وأوصلوا للعامي خيرًا ما بعده خير وأحسنوا إليه إحسانا يستحقه.

الدروس العلمية بتبسة

الدروس العلمية بتبسة* بسم الله الرحمن الرّحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله. الدروس العلمية بالجامع الأخضر وسيدي قموش وسيدي بومعزة بقسنطينة والآن بتبسة. قسنطينة في 20 شوال 1362هـ / 19 أكتوير 1943م. ــــــــــــــــــــــــــــــ بيان من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الأمة الجزائرية الكريمة. إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بمكتب الرئاسة بقسنطينة يوم 17 أكتوبر الحاضر، قد قرّر استمرار التعليم المسجدي الديني لتلامذة الجامع الأخضر بتبسة كالعادة الجارية في السنتين الماضيتين لدواع ضرورية قاهرة. وأسند- كالمعتاد- القيام بذلك التعليم إلى كفاءة الأستاذ النفّاع الشيخ العربي التبسي الكاتب العام لجمعية العلماء مع التنويه بذكره، والإفصاح عن شكره على ما قام به في السنتين الماضيتين من المواظبة على تلك الدروس النافعة لأبناء الأمة في دينهم ولغتهم، وما بذله من جهد وأظهره من حزم وعزم في استمرارها على أكمل وجه. فالمجلس الإداري يعلن لشباب الأمة المتعطش إلى تلك الدروس الحية في علوم الدين ووسائله، المتشوّف إلى أوان افتتاحها وموسم أفراحها أن الشروع فيها سيكون- إن شاء الله- يوم 15 نوفمبر الآتي ضمن برنامج محكم مضبوط يقوم بتنفيذه الأستاذ العربي التبسي وجماعة من الاساتذة تحت إشرافه. كما يعلن المجلس للأمة أنه كان حريصًا أشدّ الحرص على إرجاع تلك الدروس إلى قسنطينة- مهدها الأول ومركزها الأصلي- رفقًا بالطلبة وجمعًا لهم بين الغرض القريب.

_ * من كتاب "نفح الأزهار عما في مدينة قسنطينة من الأخبار" للأستاذ سليمان الصيد، [ص:200].

والسفر القاصد. ولكن المجلس نزل على حكم الضرورة فأخّر تنجيز هذه الرغبة إلى السنة الدراسية المقبلة، وهو يُعِدّ لذلك عدّته من الآن. ويعلن للأمة أيضًا أن "صندوق الطلبة" بنظامه الخاص باق بقسنطينة بيد أمينه الحاج كرماني حموش بعنوانه المعروف، وتحت نظر لجنته الخاصة التي تديره، وأنه ما زال قائمًا بواجباته التي أنشئ لتحقيقها من كِراء المأوى للتلامذة وتوزيع الإعانات عليهم وصرف جرايات للأساتذة المعاونين للأستاذ التبسي. أما هو فلم يزل مُصرًا على التبرّع بأعماله خالصة لله وللعلم. وإن لجنة الصندوق تجري على عاداتها في نشر حسابات السنة الماضية دخلًا وخرجًا على الأمة، وترفع رجاءها طالبة من المحسنين أن يكونوا في هذه السنة أندى يدًا وأسخى كفًّا منهم في السنوات الماضية، لأن دائرة الإنفاق قد اتّسعت ووجوهه قد تعددت، وحق التدارك لما فات في السنة الماضية قد وجب، وتوفير مبالغ الإعانة للطلبة قد تعين، وترقية المشروع من جميع جوانبه قد لزمت. والمجلس الإداري يضم رجاءه إلى رجاء اللجنة ويهيب بالكرام الخيّرين- العارفين لقيمة هذا المشروع العلمي الجليل- أن لا تَهِنَ لهم همّة ولا تكز لهم يد في إمداده بالمال، وإنه إنما وسّع دائرته في هذه السنة اتكالًا على هِمَمهم التي كانت عونًا له في كل مشروع علمي، وتنشيطًا له دائمًا على المضي إلى الأمام في ترقية التعليم الديني العربي، وإن الله لمع المحسنين. رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين محمد البشير الإبراهيمي

تقرير إلى لجنة الإصلاحات الإسلامية بالجزائر

تقرير إلى لجنة الإصلاحات الإسلامية بالجزائر* جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تتشرّف بحمل لواء الإصلاح الديني بالدعوة إلى نشره وتحقيقه، ذات برنامج عملي في تعليم الإسلام على حقيقته من أصليه- الكتاب والسنّة-، وفي نشر الفضائل الإسلامية والأخلاق القرآنية، وما يقتضيه ذلك من محاربة البدع والخرافات والجمود والرذائل والمحرّمات، وفي تعليم اللغة العربية الفصحى على أنها لغة الدين ومفتاحه، لا تفهم حقائقه وحكمه إلّا بها، وما يقتضيه ذلك من إحياء الآداب العربية الراقية، وهي دائبة في تنفيذ برنامجها بقدر ما يثسع له الإمكان ومغالبة العراقيل. ومع أن دائرة أعمال الجمعية قاصرة على الدين والعربية، فإنّ لها في السياسة الإسلامية الجزائرية رأيًا مقررًا لم تضع له برنامجًا، ولم تصبغه بصبغة حزبية، وإنما هو ثمرة الصفات الثلاث التي تصف الجمعية بها نفسها وهي العلم والإسلام والجزائر، وطالما صرّح رجال الجمعية بهذا الرأي في خطبهم، ونشروه بأقلامهم، وذكروه في المناسبات لرجال الإدارة المسؤولين، حتى صارت الجمل المعبّرة عن ذلك الرأي كألفاظ القانون لا تحتمل غير معناها، وهذه الجمل هي: إن الأمّة الجزائرية أمة مسلمة عربية تربطها بالمسلمين رابطة الإسلام العامة، وتربطها بالعرب رابطة العروبة العامة، وتصلها بفرنسا صلة المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة، فيجب عليها بحكم دينها أن تَحْيَى مع كل من يساكنها حياة الإحسان والخير والرحمة، فتحسن وتطالب غيرها بالإحسان، وتبذل الخير والرحمة وتطالب غيرها بالخير والرحمة، فإذا قامت بواجب حيوي مشترك كان من الإنصاف لها أن تتمتع بالحقوق الحيوية المترتبة على ذلك الواجب، وأن تساوي غيرها في

_ * استُدْعيَ الإمام من طرف لجنة الإصلاحات الإسلامية الجزائرية- التابعة للحكومة الفرنسية- للاستماع إلى رأيه، فتقدم بهذا التقرير يوم 6 محرم 1363 الموافق لِ 3 جانفي 1944.

الحياة كما ساوته في الواجب، مع الاحتفاظ التام بمقوّماتها الطبيعية التي منها الإسلام والعروبة وعدم التنازل عن الشخصية التي هي بها أمة، وهذا هو ما تقتضيه قواعد الإنسانية وقوانين العدل والإنصاف. وأنا بصفتي جزائريًا من حقّه الطبيعي أن يفكّر في الحالة التي عليها وطنه وأبناء وَطَنِه، ومن حقّه أن يبدي رأيه بكل صراحة في ما يجب أن يناله من الإصلاحات، وبصفتي عالمًا مسلمًا من واجبه أن يدافع عن الإسلام وأحكامه ولغة دينه، وأن يغضب لحظهما المغبون مع الإدارة الجزائرية الاستعمارية، وبصفتي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من واجبه أن يعبّر عن رأيها في المشكلات الإسلامية الجزائرية الخطيرة، ويشارك برأيه في ما يجب من الإصلاح السياسي والتعليمي إذْ هما أخوان للإصلاح الديني،- فبهذه الصفات الثلاث أقدم شكري للجنة المحترمة، لجنة الإصلاحات الجزائرية التي هيّأت لي الفرصة لإعلان رأيي بكل حرية في الإصلاحات التي تقتضي الظروف الإسراع بتنجيزها بكل إخلاص في مصلحة فرنسا وفي مصلحة الأمة الجزائرية الإسلامية معًا. أصارح اللجنة المحترمة بأن كل ما فهمته إلى حدّ الآن من التصريحات الرسمية في هذه المسألة هو شيء مجمل لا يمكن معه تكوين رأي مفضل كامل يتناول من الإصلاحات أصولها وفروعها، إذْ مسألة الإصلاحات الإسلامية الجرائرية ليست من الأمور الهيّنة التي تحلّ بالعبارات المجملة والآراء المقتضبة. وأصول هذه الإصلاحات الثلاث- وهي الإصلاح السياسي والإصلاح التعليمي والإصلاح الاقتصادي- لكل واحد منها فروع تحتاج إلى شرح وتفصيل، ومتى توفّر في الساعين فيها والقائمين على تنفيذها الإخلاص والإنصاف وبعد النظر سهل عليهم الوصول إلى نتيجة عاجلة وثمرة مرضية، وإذا رأت اللجنة المحترمة إجمالًا في رأيي فسببه الإجمال في الرسميات. أنا أعتقد أن هناك أنواعًا من الإصلاحات تجب المبادرة بتنفيذها بصورة حازمة حاسمة، لأنها زيادة عن كونها معقولة في نفسها، لا يكثر حولها الجدل والاعتراض: وهى القضاء الإسلامي، والمساجد وأوقافها وموظفوها، والتعليم العربي الحرّ، وها هو رأيي مجملًا في الثلاثة: أولًا- ـ[إصلاح القضاء الإسلامي]ـ: نرى أن مما تجب المبادرة به من الإصلاحات الخاصة إصلاح القضاء الإسلامي لأنه على غاية من الاختلال، لا من الجهة العملية ولا من الجهة العلمية، وان الأحوال الشخصية الإسلامية التي أعلن تصريح الجنرال "ديغول" المحافظة عليها وجعلها أساسًا للإصلاحات هي في الحقيقة والواقع لا وجود لها، أو هي بفعل القرارات أصبحت أمرًا وهميًا ولم يبق منها إلّا الخيال، لأنّ مظهرها العملي منحصر في النكاح والطلاق والميراث، وهي في الظاهر موكولة إلى قضاة مسلمين، ولكن أحكامهم

قابلة للنقض حتى من قاضي الصلح، وهي في الظاهر أيضًا مستندة إلى الفقه الإسلامي، ولكنها في الواقع خاضعة لقرارات الوكيل العام تتصرف فيها وتوجّهها كما شاءت. وهذا الخلل الفاحش في القضاء العملي ينضم إليه خلل أسوأ منه أثرًا في القضاء العلمي، وهو أن تعليم فقه المعاملات الإسلامية التي يتكوّن منها علم القضاء ناقص جدًا بل هو في حكم المعدوم، لأن برنامجه وأسلوب تعليمه لا يفيان بغرض ولا يوصلان المتعلّم إلى الكفاءة اللازمة، فكيف يجعل قضاء مثل هذا في الأحوال الشخصية أساسًا للإصلاحات وهو في نفسه فاسد يحتاج للإصلاح، وإصلاح هذا الخلل يكون بتوسيع برامج التعليم القضائي، وتكميلها بإتقان دراسة الأصول ومآخذ الأحكام وحكمة التشريع الإسلامي، والتوسّع في الغرض التطبيقي، وعدم الاقتصار على كتاب أو كتابين في الفقه، وإسناد وظائف التعليم القضائي إلى فقهاء أكفاء، يختارون الكتب ويقرّرون البرامج، ويقومون بتنفيذها ويتدرّجون بالتلميذ إلى الكفاءة لا إلى الشهادة وحدها، ويجعلون للأخلاق والتربية حظًا من عنايتهم واجتهادهم. فإذا أُجري الإصلاح على هذه الصورة من الآن رجونا أن يخرج لنا هذا التعليم قضاة أكفاء صالحين يتمّون إصلاح القضاء علميًا وعمليًا، كما أرى لزوم النظر من الآن في تشكيل مجلس قضائي إسلامي أعلى يتولّى- أو يستشار على الأقل- في تعيين القضاة وتعقب أحكامهم، وبهذا لا بغيره يتحقق الإصلاح العملي للقضاء الإسلامي، ويخرج من الدائرة الضيّقة- دائرة الحجر والاختلال- إلى الدائرة الواسعة وهي دائرة التمكّن والاستقلال، أما إذا بقي الأمر على ما هو عليه فإن قانون الأحوال الشخصية اسم بلا مسمّى، وقشور بلا لباب، وهيهات أن يُبنى الإصلاح على أصل فاسد. ثانيًا- ـ[مسألة التعليم العربي الحرّ]ـ: الموجود من التعليم العربي في المدارس الحكومية لا قيمة له، والموجود منه في المدارس الحرة مضغوط عليه إلى درجة الإزهاق، مطوق بالقرارات الإدارية الجائرة، وقد احتجّت الأمة العربية الجزائرية على هذه القرارات وأثبتت بالقول والفعل أنها متمسكة بلغتها التي هي ترجمان دينها وآدابها وماضيها، وأنه لا يصدّها عن هذا الحق الطبيعي إرهاق ولا تزهيد، فممّا يرضيها الآن أن تكون مسألة التعليم العربي في طليعة الإصلاحات، وأن تعطى الحرية المطلقة في تعليم أبنائها لغة دينهم وآدابهم، خصوصًا وهي في هذه الحالة لا تكلف الحكومة شيئًا من المال ولا غيره من التكاليف، بل هي مستعدّة في هذا السبيل بمالها ومعلّميها، وإنما تطلب لتحقيق هذا الإصلاح شيئًا واحدًا وهو إلغاء تلك القرارات القديمة وتلك التشديدات والعراقيل واستبدالها بحرية ثابتة صريحة مكفولة مع المراقبة القانونية. ثالثًا- ـ[المساجد وموظفوها وأوقافها]ـ: النظام الذي تدير به الحكومة الجزائرية مساجد المسلمين، وتعيّن بمقتضاه الموظفين الدينيين، لا يوجد نظام مثله في شذوذه وبُعده عن

الإصلاح السياسي

أصول العدالة والحق، والأمة الإسلامية الجزائرية لا تجهل المعنى الذي يحمل الإدارة الجزائرية على التمسّك بإدارة المساجد واحتكار تعيين الموظفين الدينيين، مع مخالفتها الصريحة لقانون فصل الدين عن الحكومة، ولا يخفى عليها أن ذلك أسلوب من أساليب الإدارة الاستعمارية التي تسمّي معاكسة الإسلام محافظة على الإسلام. والمساجد ملك للإسلام والمسلمين لا للحكومة، والمسلم الذي يصلّي في المسجد هو أعرف الناس بآداب المساجد، والمسلم الذي يُصِّلي وراء إمام هو الذي يعرف مَن يصلح للإمامة، فما معنى تدخّل الحكومة الفرنسية في دين قوم مسلمين؟ وما معنى فرض الحكومة على المسلم أن يصلّي وراء رجل تعيّنه هي؟ وما معنى أن تخترع حكومة لائكية كهنوتًا في دين ديموقراطي لا كهنوت فيه؟ فمن حق الأمة الإسلامية أن تُسلّم لها مساجدها، وُيوكّل إليها تعيين مَن تختاره من الأئمة والمؤذنين، وتنفيذ ذلك من أيسر الأمور، وذلك أن تتأسّس في كل قرية لها مسجد جمعية دينية تشرف على مسجدها، وتختار له من يعمره من إمام ومؤذّن وغيرهما، وأن تنتخب كل عمالة أو كل دائرة عدة أعضاء من جمعياتها الدينية يتكوّن من مجموعهم مجلس ديني أعلى يجتمع في العاصمة في أوقات معيّنة للنظر في مصالح المساجد العامة وموظّفيها، وهذا المجلس هو الذي يتفاهم مع الحكومة في مسألة ريع الأوقاف. الإصلاح السياسي: لعلّه ليس من غرض اللجنة المحترمة أن تسألني عن المسائل السابقة، فأكون قد تبرّعت ببيان رأيي مجملًا فيها، أما الإصلاح السياسي فهو المقصود بالسؤال بلا شك، لأن التصريحات الرسمية دائرة عليه، فأصارح اللجنة المحترمة للمرّة الثانية بما أعتقده الحق، وهو أن التصريح الرسمي بإدخال عشرات الآلاف من المسلمين الجزائريين في الجنسية الفرنسية، من غير استفتاء الأمة ولا مشورتها، قد أثار في أذهان الجمهور الأعظم من الأمة ذكرى شروع "فيوليت" الذي ثارت حوله عواصف من المناقشات بين الأمة وبين الدوائر الاستعمارية سنة 1936، ثم حكم عليه الزمن بالاندثار والموت لعدم صلاحيته، ونسيته الأمة حتى رأت صورته واضحة في ما يراد أن تبنى عليه الإصلاحات الجديدة. ونقول بكل صراحة إن هذا المشروع ليس مما يرضي الأمة الإسلامية الجزائرية التي لا تريد أن تكافأ اليوم بمشروع لم يف برغائبها سنة 1936، ولا تريد أن يحيا بعد أن حكم الدهر عليه بالموت، ولا تريد أن تُذكَّر به بعد أن نسيته غير آسفة عليه. فمن الإنصاف لهذه الأمة المسلمة- بعدما سبق منها من إلحاح في المطالبة بحقها وبعدما قدمته من تضحيات من الأنفس ومن الأموال- أن تُعطى حقّها في الحرية والحياة كاملًا غير منقوص، كما أدّت واجبها كاملًا غير منقوص، وأن تُساوي غيرها في الحياة كما ساوته في الموت، وأن لا تُرغم على الدخول في الجنسية الفرنسية لا أفرادًا ولا جماعات.

والأمة الإسلامية الجزائرية تعتقد أن إدخال طائفة منها في الجنسية الفرنسية هو خطوة إلى إدماجها في جنس غير جنسها، وهي لا ترضى بجنسها بدلًا ولا بدينها بديلًا، وتعتقد أن هذا الاندماج محو لشخصيتها العربية وذاتيتها الإسلامية، وأنه مخالف لسنّة الله الذي خلق الناس أجناسًا لكل جنس خصائص ومميزات، ومخالف لسنن الاجتماع البشري ومخالف للتاريخ وللاعتبارات الجغرافية المبنية عليه، ومخالف لمصلحة فرنسا نفسها التي جربت هذا الاندماج مع غيرنا فلم يأتها بالفائدة المطلوية. إننا نرى أن المصلحة المشتركة بين جميع المتساكنين بالقطر الجزائري والنظر السديد في بناء مستقبله على أساس تؤمن معه غائلة استعمار جنس لجنس وامتياز عنصر علي عنصر واستعباد طائفة لطائفة، كل ذلك يقتضي بناء هيكل الإصلاح الجديد على الاسس الآتية: أولًا: إنشاء جنسية جزائرية تشمل جميع الطوائف التي تعيش بهذا الوطن بغير تمييز بين أصولهم وأديانهم، يتساوون بموجبها في الحقوق والواجبات. ثانًا: تستبدل جميع التشكيلات الاستعمارية بحكومة تسمّى "الحكومة الجزائرية" تكون مسؤولة أمام مجلس تشريعي جزائري (برلمان). ثالثًا: الوظائف الإدارية تُعطى لجميع الجزائريين على أساس الكفاءة الشخصية. رابعًا: تعتبر اللغة العربية لغةً رسمية في المعارف والإدارات بجانب اللغة الفرنسية. خامسًا: يحفظ لأهل كل دين حقّهم في إقامة شعائر دينهم، وتصوفهم المطلق في معابدهم وأوقافهم بواسطة تشكيلات حرّة يرتضونها لأنفسهم. سادسًا: الأحوال الشخصية للمسلمين خاصة، تجري على التفصيل السابق في إصلاح القضاء الإسلامي. هذه آرائي التي أعتبرها بحق آراء الجمهور الأعظم من الأمة الإسلامية الجزائرية، أقدّمها للجنة المحترمة بكل إخلاص واحترام، وأنا أرجو لها توفيقًا ونجاحًا في أعمالها، وأن يتم على يديها ما فيه خير الجزائر وفرنسا معًا، وأتمنى أن توضع العلاقات الجزائرية الفرنسية على أساس متين من الثقة والتعاون الصادق. الجزائر في 3 جانفي 1944. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

التقرير الذي قدمه مجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الحكومة الجزائرية

التقرير* الذي قدّمه مجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الحكومة الجزائرية (1) (بعد اجتماعه المنعقد في 5 أوت سنة 1944 في المسائل الدينية الثلاث: المساجد، التعليم، القضاء) ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بحكم أمانة الدين وعهد الله، وشهادة الواقع تعتبر نفسها مسؤولة عند الله وأمام الأمّة الجزائرية عن الإسلام ومعابده وتعليمه ولغته وجميع شعائره الحقيقية وأحكامه القضائية. وتعلم أن الحكم القاطع في الإسلام في مسألة المساجد هو أن التصرف فيها لجماعة المسلمين دون سواهم، وأن أئمة المساجد ومن جرى مجراهم يجب أن يكون أمرهم راجعًا إلى جماعة المسلمين دون سواهم في الاختيار والتولية والعزل والمراقبة وتقرير الجرايات، وما شرع الوقف الخيري في الإسلام إلا ليقوم بواجبات دينية واجتماعية أهمها هذه، فينفق منها على المساجد وعلى القائمين بها من غير احتياج إلى الخزينة العامة (بيت المال)، وعلى هذا الأساس تعتبر جمعية العلماء كل تدخل حكومي في هذه الأمور الدينية ظلمًا وتعديًا وهدمًا لمبدإ احترام الأديان وحرية الضمائر كيفما كان نوع الحكومة: لا دينيًا أو متدينًا بغير الإسلام. وكما يعتبر الإسلام تدخل غير المسلم في شؤون الدين الإسلامي ظلمًا وتعديًا كذلك يعتبر تدخل المسلمين في شؤون الدين الموسوي أو العيسوي تعديًا وظلمًا، وعلى هذا المبدإ جرت الحكومات الإسلامية في التاريخ، فكانت تكل شؤون الأديان الأخرى إلى أربابها وإلى علمائها، وكانت مجالس الأحبار ومجالس الأساقفة هي التي تتحكم بكل حرية في المعابد وأوقافها وفي القضاة وأحكامهم، ولا يتدخل القضاء الإسلامي الأعلى في شيء من شؤونهم الدينية.

_ * تقرير نشرته الجمعية، طبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية، أوت 1944، 26 صفحة حجم صغير. 1) الحكومة الجزائرية: الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.

هذه هي الحقيقة في النظر الإسلامي الذي لا يتغير بتغير النظريات الزمنية، وعلى هذا فالأمة الجزائرية المسلمة بواسطة علمائها هي صاحبة الحق المُطلَقِ دينًا وعقلًا وعرفًا معقولًا في إقامة دينها وادارة معاهده واختيار من يصلح لوظائفه من خطابة وامامة وقضاء وتعليم بما تقتضيه قواعد الدين، وتصح به عبادته وأحكامه، وبما أنها هي التي تصلي في المساجد فحقها الطبيعي المحعقول أن تختار من تقدمه للصلاة، كما أن من حقها الطبيي أيضًا أن تختار قضاتها الذين تضع في أيديهم ركنًا من أركانها الاجتماعية الخطيرة وهو النكاح، وركنًا من أركانها المالية الخطيرة وهو الميراث، وأن يكون لها من الإشراف على تعليمهم، ومن النظر في توليتهم وعزلهم، ما يمكنها من رقابتهم، وبضمن لها الانتفاع بهم وتحقق مصلحتها فيهم، وقيامهم بالعدل والإنصاف فيما يوكل إليهم على ما تقتضيه قواعد الدين. وجمعية العلماء والأمة الإسلامية الجزائرية من ص ورائها يرون جميعًا بأعينهم ان الدينين المتجاورين مع الإسلام في قطر واحد يتمتع أهلوهما ومعابدهما بالحرية التامة والاستقلال الكامل دون المسلمين ودينهم ومعابدهم، فتكون هذه الحقيقة المحسوسة، اعتقادًا جازمًا في قلب كل مسلم بأن هذا ظلم من أقبح الظلم، وتعد على الإسلام من أقبح أنواع التعدي، واحتقار للمسلمين من أقبح أنواع الاحتقار، وإذا كان هناك ما هو أقبح منه فهو غضب الإدارة الجزائرية على كل من يشرحه بلسانه أو يطالب بالعدلما فيه، وهنا تقدم جميعة العلماء التي يفرض عليها الدين أن تقول كلمة الحق بعد اعتقاده، فتعبر بلسان الأمة جمعاء بهذه الحقائق التي أشرنا إليها وخلاصتها أنه: "ليس من العدل ولا من الحق أن تتدخل الإدارة الجزائرية في شؤون الدين الإسلامي وانما الحق في ذلك للمسلمين وحدهم، لأن الإسلام يفرض عليهم القيام بذلك ". ثم تبسط الجمعية للحكومة الجزائرية النقط الآتية مبينة رأيها فيها بكل حرية وكل إخلاص، معلنة أن أول نقطة يجب أن يفمها الطرفان على حقيقتها- إذ على فهمها يتوقف حل الاشكال- هي أن الدين هو ما يفهمها علماء الدين، لا ما يفهمه عامة المسلمين الجاهلة ولا ما تفهمه الإدارة بواسطة أعوانها الجاهلين أو الخادمين لأغراضهم الخاصة. واذا كان المرجوع إليه في شؤون الدينين الموسوي والعيسوي هو احبار الأول وأساقفة الثاني وهم أحرار في معايشهم، فلماذا يذاد علماء الإسلام الأحرار في معايشهم عن هذا الحق؟ ولماذا يرجع فيه إلى غير أهله أو إلى بعض أهله المرتبطين مع الحكومة برباط المصلحة الشخصية؟ - وإذا قلنا علماء الإسلام فإنما نعني كل عالم فقيه بحقائق الكتاب والسنة. إذ هما منبع الإسلام- عالم بتاريخ الإسلام العملي عامل فيما يصلح المسلمين من

المساجد وأوقافها

هديه وآدابه، وإن جمعية العلماء لا تحتكر هذا الحق لنفسها، وإنما تزن الأمور بالواء المشهود، وهو أنها هي الهيأة الدينية الوحيدة التي قامت بشرائط الإسلام، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعاهدت الله على الدفاع عن عقائد الإسلام بالبرهان، وعن حقائق الإسلام بالعلم، وعن شعائر الإسلام بالعمل، ووقفت المواقف الثابتة في ذلك كله. لياذا كانت الجمعية قد لقيت في تاريخها خلافًا مع بعض الأشخاص أو الهيآت الإسلامية فما ذلك بخلاف في الدين، وما ذلك بخلاف بين دينين، وإنما هو خلاف بين العلم والجهل، وإنما هو خلاف داخلي لو لم يلق تشجيعًا من خصوم الجمعية لرجع المخالفون مسلمين لأن الرجوع إلى الحق فريضة إسلامية، ولأن الحق في الإسلام واحد لا يتعدد. مقاصد الجمعية ترجع إلى ثلاث نقط هي: 1 - المساجد وموظفوها وأوقافها 2 - التعليم العربي ومدارسه ومعلموه 3 - القضاء الإسلامي وتعليمه ورجاله. المساجد وأوقافها: تمهيد: كانت الحكومة الفرنسية لأول عهدها باحتلال الجزائر وضعت يدها على مساجد المسلمين وأوقافهم، ووضعت سلطتها على أئِمة المساجد وموظفيها باسم نظام جائر زينته للناس بعهود كتابية ووعود شفاهية صدرت من بعض رجالها العسكريين والمدنيين، مضمونها أنها تحترم الإسلام ومعابده وشعائره وقد حكم التاريخ على تلك العهود والوعود، وبَيَّنَ قيمتها للناس أجمعين. فهذا هو الدور الأول ثم جاءت الجمهورية الثالثة فكانت قواعدها الكلمات الثلاث: الحرية، الأخوة، المساواة وكان من أصولها فصل الدين عن الحكم ليكون ذلك محققًا للكلمات الثلاث، وكان من مقتضى ذلك الفصل أن يكون عامًا لجميع الأديان، وفي جميع الأقطار التي تخضع للسلطة الفرنسية، وإن يكون قاضيًا على النظام الخاص بالإسلام في الجزائر، ولكن شيئًا من ذلك لم يقع، وبقي الإسلام ومعابده في الجزائر لا تحظى باحترام كما شرطته العهود والوعود، ولا تحظى بانفصال عن الحكومة كما قررته أصول الجمهورية.

وهذا هو الدور الثاني ثم جاء قانون 27 سبتمبر 1907 فكانت فصوله صريحة في فصل الدين عن الحكومة وفي إعطاء الناس حرياتهم كاملة في كل ما يتعلق بدياناتهم، وفهم الناس جميعًا أن ذلك القانون إنما يعني المسلمين دون غيرهم أو قبل غيرهم، لأنهم هم الذين كانوا محرومين من تلك الحرية، ولكن الواقع، بعد ذلك، أن ذلك القانون لم ينفذ منه ولا حرف فيما يتعلّق بالدين الإسلامي، وبقيت الإدارة الجزائرية تتصرّف في المساجد وأوقافها وموظفيها، وتقبض بيد من حديد على الوظائف الدينية، وتصرفها حسب شهواتها وأهوائها السياسية، وتضع حبائل الترغيب والترهيب في طريق الطالبين لتلك الوظائف، وتزن أقدارهم لا بالإجازات العلمية ولا باختيار الأمة المسلمة لهم، ولا بحسن السيرة بين أوساطها بل (بالدوسي) (2) الإداري الذي لا يعرف الدين، والذي يزكي ويجرح بقواعد غير قواعد الإسلام وأصول الفضائل، ويشترط في الإمام ما لا يشترطه الإسلام. أدّت هذه السياسة التي يراد منها هدم الإسلام في دياره بالمطاولة إلى سخط عام ملأ جوانح المسلمين وأثار غضب العلماء الأحرار، فرفعوا أصواتهم بطلب بعض الحق في لين ورفق فاتهموا وعوقبوا بالمنع من تعليم دين الله في بيوت الله. وجرت بعد حرب 14 - 1918 حوادث في تاريخ الوظائف الدينية ظهر فيها عامل جديد وهو: إرصاد بعض الوظائف لبعض الجنود المحاربين إرضاء لهم لا لخصوصية سوى أنهم جنود، وجرت الإجراءات على أشكال لا يرضاها الإسلام ولا يرضاها المسلمون، ولا يرضاها أحرار الفكر من الأوروبيين ولا يرضاها المتدينون منهم، وإنما ترضي رغائب استعمارية ونزعات إدارية انتفاعية، معروفة في تاريخ الاستعمار الجزائري لم يخل منها دور من أدواره، ومبنى أمرها على ملك الأبدان بالقوّة والتسلط، لا على ملك القلوب بالعدل والتسامح، وهي سياسة ظهر خطأها وفشلها منذ قرون، وكفرت بها كل الحكومات وجميع الأمم إلا الحكومة الجزائرية في الجزائر فإنها بقيت مؤمنة بها عاملة بمقتضاها آخذة بأسبابها. قلنا إن قانون 27 سبتمبر سنة 1907 لم يطبق منه حرف بل وقع من الإدارة ما يناقضه من تشكليها لبعض هيآت دينية لا يد للأمة في اختيار أفرادها، وقد أسندت رئاستها في بعض الأوقات إلى مسيحيين، وان هذا لمن أقبح ما وقع في هذه المسألة منذ نشأت إلى الآن. ولو طبق قانون 27 سبتمبر 1907 تطبيقًا صحيحًا بنصوصه الصريحة على الدين الإسلامي في الجزائر لما حدثت المشاكل المقلقة التي أثارت الخواطر وَهَيَّجَت الأفكار في هذه السنين الأخيرة.

_ 2) الدّوسي: كلمة فرنسية معناها المِلَف.

وهذا هو الدور الثالث ثم جاء تصريح الجنرال كاترو الوالي العام على الجزائر المنشور في الجرائد يوم 4 أوت سنة 944 1 فكان صريحًا في إرجاع القضية إلى قانون 27 سبتمبر سنة 1907 تحقيقا لأصل فصل الدين عن الحكومة، والأمة بعد صدور القرار متشوفة إلى تطبيق قانون 1907 تطبيقًا كاملًا وقد ساءها وهي في حرارة الانتظار أن تعين الحكومة مفتي الجزائر تعيينًا على النمط القديم، وفي ذلك مخالفة بيِّنة لما فهمته من قرار الجنرال كاترو. ونحن الآن باسم الدين وباسم الأمة نتمسك بعبارة (فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية). ونريد تطبيقها على الكيفية الآثية: أولًا: فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية فصلًا حقيقيًا بحيث لا تتدخل في شيء من شؤونه لا ظاهرًا ولا باطنا، لا في أصوله ولا في فروعه. ثانيًا: تسليم ذلك كله إلى أيدي الأمة الإسلامية صاحبة الحق المطلق فيه، وتقرير سلطتهم على أمور دينهم تقريرًا فعليًا خالصًا لا التواء فيه، وإنما يتحقق ذلك ويصير نافذًا بما يأتي: أ- تشكيل مجلس إسلامي أعلى مؤقت بعاصمة الجزائر يتركب من: 1 - بعض العلماء الأحرار المعترف بعلمهم وأعمالهم للدين الإسلامي. 2 - وبعض أعيان المسلمين المتدينين البعيدين عن المناصب الحكومية. 3 - وبعض الموظفين المتدينين بشرط أن يكونوا أقل من النصف، ويتسلم هذا المجلس جميع السلطة التي كانت للحكومة في الشؤون الدينية. ب- من أهم أعمال المجلس أن يتولى تشكيل جمعيات دينية بالطرق الممكنة انتخابًا أو تعيينًا، وله أن يكتفي بما يراه صالحًا من الجمعيات الدينية الحرة السابقة. ج- فإذا تمت تلك التشكيلات ينعقد مؤتمر ديني من المجلس الأعلى ورؤساء الجمعيات الدينية وبعض أعضائها البارزين، وفي هذا المؤتمر يوضع النظام العام للمستقبل طبق قانون الفصل. د- كل ما يقرره هذا المؤتمر يعتبر قانونًا نافذًا يجب الخضوع له ولا ينقضه إلا مؤتمر سنوي آخر. ج - بعد انعقاد المؤتمر الأول ينحل المجلس الأعلى المؤقت وتنتخب الجمعيات الدينية مجلسًا على النظام السابق وإلى المدة التي يقررها المؤتمر.

التعليم العربي الحر ومدارسه ومعلموه

ويملك المجلس الإسلامي الأعلى المنتخب، السلطة التنفيذية لمقررات المؤتمر الدينية السنوية، أما السلطة التشريعية فيملكها المؤتمر، وليس للمجلس الأعلى إلّا تقديم الارشادات ووضع التقارير والدفاع أمام المؤتمر. التعليم العربي الحر ومدارسه ومعلموه كانت الإدارة الجزائرية إلى ما قبل حرب 1914 تتظاهر بشيء من التساهل مع التعليم العربي الحر لأنه كان- إذ ذاك- قاصرًا لا يفتح ذهنًا ولا يغذي عقلًا ولا يربي ملكة لغوية، فلما هب شعور الأمة وقوي باحتياجها إلى فهم لغتها لتفهم دينها، وتطور التعليم الحر في العقدين الأخيرين كسائر الكائنات الحية، وأصبح على شيء من النظام والحياة وخصوصًا بعد ظهور جمعية العلماء، قلقت الإدارة الجزائرية لذلك، ولما لم تجد الإدارة الجزائرية بيدها من القوانين العامة ما تتخذه سلاحًا التجأت إلى القرارات الإدارية. فأنشثت عدة منها ترمي إلى غرض واحد، وهو قتل اللغة العربية بالتضييق على تعليمها ومطاردة رجالها وإلجام صحافتها. ومن أسوإ ما في تلك القرارات شرًا وأشده إيلامًا وجرحًا لعواطف المسلمين عامة وللعرب خاصة ما جاء في بعض بنود تلك القرارات من اعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في بلاد عربية وهي الجزائر، وجاء دور تنفيذها على يد صغار الإداريين فبالغوا وأسرفوا في التنكيل والمحاكمة، وسيق معلمو العربية إلى مجالس القضاء كما يساق المجرمون، وفرضت عليهم العقوبات المالية والبدنية من سجن وتغريب ولا زالت بقاياهم في المنفى إلى الآن. احتجت جمعية العلماء على تلك المعاملات الاحتجاجات المتوالية فلم تسمع لها شكوى ولم يرجع إليها جواب، وطلبت المفاهمة الشفاهية فاجيبت بالمماطلة والتسويف، وعطلت الجرائد وأغلقت النوادي وكل ذلك بعضه من بعض. ومن الغريب أن جمعية العلماء صرحت للحكومة مرارًا بأنها تقبل بكل سرور مراقبة مدارسها من طرف مفتشي المعارف الرسميين، ولكن لم تر في هذه السنين الطويلة مفتشًا واحدًا زار مدرسة من مدارسها، وما كانت ترى إلّا عون البوليس يزورها لتبليغ الأمر بالإغلاق أو العون الشرعي يزورها لتبليغ الاستدعاء للمحاكمة. مطالب جمعية العلماء: في قضية التعليم العربي أولًا: إلغاء جميع القرارات السابقة المتعلقة بالتعليم إلغاء صريحًا سواء كانت إدارية أو وزارية.

القضاء الإسلامي وتعليمه ورجاله

ثانيًا: نسخ جميع تلك القرارات بقانون صريح يقرر حرية التعليم العربي وعدم تقييده بشيء، ويلاحظ في وضع ذلك القانون المسائل الآتية: أ- جمعية العلماء أو الجمعيات العلمية الأخرى يكون لها الحق بمقتضى ذلك القانون أن تنشىء ما تشاء من المدارس فيما تشاء من البلدان. ب- ليس على تلك الجمعيات إلّا إعلام الإدارة باسم المدرسة ومحلها وبأسماء المعلمين فيها، ثم تشرع في العمل بلا توقف على إجراءات أخرى. ج- يتضمن القانون ضمانات كافية مقنعة في عدم الالتجاء إلى تعطيل المدارس العربية للأسباب السياسية أو غيرها من الاعتبارات، لأن تعطيل المدارس العربية في نتيجته يعد عقوبة للأولاد المتعلمين لم يقترفوا أسبابها، وهذا ظلم لهم. د- كما لا تتدخل الإدارة في اختيار المعلمين ولا تتدخل في وضع البرامج التعليمية ولا في اختيار الكتب المدرسية. هـ- على جمعية العلماء أو الجمعيات العلمية الأخرى أن تخضع للمراقبة الصحية العامة في دائرة قوانينها ولمراقبة التفتيش الرسمي. القضاء الإسلامي وتعليمه ورجاله: القضاء بين المسلمين في أحوالهم الشخصية والمالية والجنائية يتجزء لا يتجزأ من دينهم، لأن الحكم بينهم فيها حكم من الله، ولأن أصول تلك الأحكام منصوصة في الكتاب والسنة، وكل ما فيهما فهو دين، ولأنهم ما خضعوا لتلك الأحكام إلّا بصفة كونهم مسلمين. والدولة الفرنسية نفسها تعترف بهذه الحقيقة اعترافًا صريحًا، فقد كانت إلى العهد القريب تعارض مطالبة الجزائريين بحقوقهم السياسية لتمسكهم بالقانون الإسلامي في الأحوال الشخصية. والحقيقة أن الحكومة الجزائرية منذ الاحتلال بترت القضاء الإسلامي فانتزعت منه أحكام الجنايات والأحكام المالية، ولم تبق له إلّا أحكام النكاح والطلاق والمواريث، ويا ليتها أبقتها له حقيقة، ولكنه مع المطاولة احتكرت تعليمه واحتكرت وظائفه لمن يتخرّجون على يدها وبتعاليمها، وجعلت نقض أحكامهم وتعقبها بيد القضاة الفرنسيين، وأصبح القضاء الإسلامي حتى في هذا القدر الضئيل خاضعًا للقضاء الفرنسي، وأصبح القضاة بحكم الضرورة لا يرجعون في أحكامهم إلى النصوص الفقهية، وإنما يرجعون إلى اللوائح التي

ها هي أصول للإصلاح نقدمها بكل إخلاص

يضعها وكلاء الحق العام الفرنسيون، وفي هذا من الاجحاف وظلم القضاء الإسلامي ما لا يرضى به المسلمون. ولا ننسى أنها وقعت محاولات واستفتاءات في بعض الأحيان يراد منها إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج وإرجاع شمولاته إلى القضاء الفرنسي. إن المسلمين يشكون هذه الحال، ويشكون نتائجها السيئة من الاضطراب والفوضى في المحاكمات، والضعف والجهل في القضاة، ويعلمون أن ذلك كله ناشئ عن سوء التعليم القضائي وعن إهمال التربية الإسلامية الفاضلة التي هي الشرط الأساسي في القضاة، وعن استبداد القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وعن عدم شعور القضاة بمراقبة الأمة لهم مراقبة دينية، وجمعية العلماء والأمة الإسلامية معها تطالب الحكومة الجزائرية بوضع حد لهذه الحالة الشاذة المضطربة. وجمعية العلماء وإن كانت ترى أن القضاء الإسلامي في الإسلام جزء من الدين ترى في هذه النقطة لزوم التدريج في إصلاح القضاء، والدين لا هوادة فيه. وها هي أصول للإصلاح نقدمها بكل إخلاص: التعليم القضائي:: يجب توسيع برامج التعليم القضائي في مادة العربية والفقه والأصول ودراسة التفسير والحديث ومآخذ الأحكام منها وتاريخ القضاء في الإسلام وفلسفة التشريع وعلم النفس. كذلك يجب فتح الباب لقبول علماء مدرسين لتلك العلوم من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره لا تعتبر فيهم إلّا الكفاءة لما يراد منهم. الوظائف القضائية: كذلك يجب إدخال عناصر من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره من المعاهد الأخرى في الخطط القضائية. السلطة العليا: كذلك يجب تكوين مجلس قضائي أعلى من القضاة المسلمين يتولى اختيار القضاة وتسميتهم ومراقبتهم والنظر في سلوكهم وتحديد عقوباتهم، وتكون سلطة هذا المجلس مستقلة عن القضاء الفرنسي. محاكم للاستئناف: كذلك يجب تكوين محاكم استئناف إسلامية تستأنف إليها الأاحكام الأولية وتكون سلطتها إسلامية محضة، وهذه النقطة من أهم نقط الإصلاح من حيث الاعتبار لأن حكم القاضي المسلم لا ينقضه إلّا قاض مسلم. وفي الختام نلفت نظر الحكومة إلى مسألتين أخريين عاملتهما إلى الآن بالتشديد، وكان ينبغي لها أن تتساهل فيهما لصلتهما القوية بخدمة الدين وهما تجول العلماء للوعظ والارشاد، والنوادي العربية.

التجول

التجول: أول واجب على علماء الدين نشر الهداية الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكبر وسيلة إلى ذلك دروس الوعظ والإرشاد، وجمعية العلماء ما سنت سنة التجول في البلدان للوعظ والإرشاد إلّا قيامًا بهذا الواجب، ولكن الإدارة ضايقتهم في هذا الواجب فمنعتهم من التجول لاعتبارات وهمية هم يتبرؤون منها، وآخر ما وقع من هذا النوع منع رئيس جمعية العلماء من التجول ولا زال هذا المنع جارًيا إلى الآن. إن تجول العلماء للوعظ والإرشاد من وسائل نشر الدين وتعليمه، ومن القواعد المسلمة أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. النوادي: جمعية العلماء ترى أن النوادي التي أسستها أو تؤسسها هي في حكم مدارس التعليم ومكملة لوظائفها. لأن طبقات الأمة ثلاث: صغار تضمهم المدارس الابتدائية، وكبار تجمعهم المساجد، وشبان تتخطفهم الأزقة وأماكن الخمر والفجور، فإذا أرادت الجمعية أن تقوم بواجبها الديني معهم لم تجدهم في المساجد ولا في المدارس، فمن واجب الجمعية أن تنشط النوادي لتقوم بمهمتها التهذيبية فيها، وعلى الحكومة أن لا تضايقها فيما يقوم بحياتها فتمنعها من المشروبات المباحة كما وقع في قرار مارس سنة 1938. نرجو بكل تأكيد أن يلغى هذا القرار وبقية القرارات الجائرة فتتمتع المدارس والمساجد والنوادي بالحرية التامة. عن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الرَّئِيسُ: محمد البشير الابراهيمي

في السجن العسكري بالعاصمة ثم قسنطينة

في السجن العسكري بالعاصمة ثم قسنطينة (1945 - 1946) *

_ * بعد حوادث 8 ماي 1945، قُبض على الإمام، وسُجنِ فشُلَّ نشاطه، ولم يطلق سراحه إر في شهر مارس 1946.

رسالة إلى الأستاذ إبراهيم الكتاني

رسالة إلى الأستاذ إبراهيم الكتاني* هذه - أطال الله بقاء أخي- قطعة من فصل طويل من ملحمة أطول، نُظمتْ في أوقات الفراغ في شهري ناجر من الصيف الماضي، وقد اشتملت على أفانين من الجدّ والهزل، والشخْت والجزل، ووصف الرخاء والأزْل، والولاية والعزل، والنكْث والغزْل، وتراجم لرجال سَواسِيَة في الحس كأسنان الحمار، قد أبصروا بعَماهم، وعرفوا بسيماهم، فإذا رأيت أحدَهم رأيتهم جميعًا، وإذا سمعت اللغو كنت لكلامهم سميعًا، وبذلك أراحوا الناقد والواصف، إذْ يجمعهم قولك: أُشَابَة ومَنَاصِفْ. وان الطائفة من الناس لتشترك في خلال حتى لا يكون خطأً أن تشير إليها بهذا مكان هؤلاء، وكثيرًا ما أفكر في قومي ويذهب بي التفكير إلى أقصاه، فأجدهم كما قال ذو الرُّمَّة في وصف قبيلة تعرف بامرئ القيس: فَأَمْثَلُ أَخْلاَقِ امْرِئ الْقَيْسِ أَنَّهَا … صِلاَبٌ عَلَى طُولِ الْهَوَانِ جُلُودُهَا فهذا من ذلك، وإذا طردنا القياس فما زال الناس كالناس، ولقد تسامى الخيال إلى وصف رجل من طائفة ممتازة وترجمته بأسلوب هزلي ليتسع القول وتتزاحب آفاقه، لأن الحقيقة في هؤلاء أضيق من أفحوص القطاة، فاتسع القول حتى ناهز ألف بيت، ثم عرضتُ جميع أفراد الطائفة على تلك الصفات فوجدتهم نسخًا من كتاب. ولئن تمتْ هذه الملحمة لتكوننّ أكبر ملحمة عرفت في تاريخ العربية، فقد قرأنا في تاريخ أدب هذه اللغة أن لَأبَان بن عبد الحميد أرجوزة في الحكم والأمثال بلغتْ آلاف الأبيات، وقرأنا منها قطعًا صالحة، وأكثر ما نظم أدباء العربية الملاحم أو شبه الملاحم في

_ * أرسلت هذه الرسالة من تلمسان في بداية سنة 1945، وبعض أبيات الأرجوزة نُشرت في "البصائر" (أنظر الجزء الثالث (عيون البصائر، [ص:484]).

بحر الرجز، وانّي لَأستعذبه رغمًا عن عدّ المعرّي إياه من سفساف القريض، قصَّرتم أيها النفر فقصَّر بكم. وأنا لا أستعذب من الرجز إلّا ما سلس وسهلت أجزاؤه كرجز ابن الخطيب في "نظم الحلل" ورجز شوقي في "دول الإسلام"، ولم أسمع ولا قرأت رجزًا أعذب ولا أسلس من رجز الشناقطة. حاولت أن أنظم تاريخ الإسلام- وأنا في المنفى- وهيأتْ لي خواطري ملحمة تبلغ عشرات الألوف من الأبيات، وقد رضت القوافي في عدّة وقائع شهيرة كبدر واليرموك والقادسية في أول الإسلام والارك والعقاب بالأندلس، ونظمتُ في دخول الإسلام إلى افريقية وبناء القيروان وموت عقبة ووصف مرابطة الثغور وفي طارق وموسى وطريف عدة فصول أبلغها وصف في جبل طارق لمحت فيه إلى الأحداث التاريخية التي كان سببًا فيها، ولكن القريحة جمدت من عيد الفطر فلم أصنع بيتًا واحدًا. إذا قرأتم هذا الفصل وأعجبكم فإني أوافيكم مع كل رسالة بفصل، وستجدون في فصول الشيطان ما يضحككم في هذا الزمن العابس. ... يَا دِينُ إنَّ الدَّيْنَ ليس ينْسَى … بَلْ يُقْتَضَى مُعَجَّلًا أَوْ يُنْسَا يَا دينُ إنَّ الصّبغَ لَنْ يَحُولَا … وإن عندك لهم ذُهولَا وعندك التِّراث والطوائِلْ … مما قَرى الأوائِلُ الأوائلْ وهذه أَخلافهم تداعتْ … بصورة قد أفظعتْ وراعتْ تألَّبوا عنك لأخذ الثار … وأجلبوا في القسطل المُثار ونَصبوا لكيدك الأشراكَا … من ألف عام لم تَزلْ دِراكا يا كَيْدةً كادوا لهذا الدينِ … مجتاحةً لولا صلاحُ الدينِ ووقعةٌ بالسهل من حِطِّينِ … دماؤهم في تُربها كالطينِ تكوّنوا من بعد ما استكانوا … واخشوشنوا من بعدِ ما استلانوا واتصلوا من بعد ما فصَلْتا … ونبتوا من بعد ما استأصَلْتا لم يُنْسِهِم طولُ المدى السيوفَا … لَامعةً والخيلَ والزُّحوفَا ونظروا في أصلك اعتبارا … ليفقهوا الحِكمَ والأَسرارا واقتبسوا منك الأصول والسُّنَنْ … ففرعوا بها الهضابَ والفُنَنْ

وأخذوا في الكون بالأسبابِ … وإنْ غدوا في الدين في تَبَابِ كأنّهم في الرأي والإعدادِ … من عُصْبة الزبير والمقدادِ ومنه: قد تحركتَ فقالوا: حيُّ … كما استجاش للنذير الحيُّ فحذروا أنْ تستعيدَ الكره … وأن تعيد للعوالي الجره وأن هذي الثَّورةَ الروحيَّه … تُعيدُ تلك الفَوْرَةَ النوحيَّه وذكروا آثارك الخوالدَا … ومَجْدَك الفذَّ الصريحَ التالدَا وذكروا أنَّهُم في القِدَمِ … لم يدركوا شأوك في التقدمِ وذكروا ما فيك من إصلاح … للجمع والفرد ومِنْ فَلاِحِ وذكروا كيف طويتَ المغربَيْن … في فجّك الأغرّ بعد المشرقيْن وكيف خرَّجتَ رُعاةَ الأمَمِ … من أمَّة كانت رُعاة غَنَمِ ومنه: ثم استعانوا من بنيك بثُبَاتْ … ليس لهم في موقف الحق ثَبَاتْ استجلبوهم بِالدَّها والَكَيْدِ … واستدرَجوهم للزُّبَى كالصيدِ استضعفوهم واستخفوا شَانَهُمْ … وألبسوهم- ضلَّةً- ما شَانَهُمْ وسحَروا أعينَهم واسترهبُوا … ورغَّبوا بعاجل ورهَّبوا

رسالة إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة

رسالة إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة* بمناسبة ذكرى الإمام ابن باديس ــــــــــــــــــــــــــــــ أحيي بتحيات الله المباركة الطيبة أبنائي المهاجرين في سبيله، لا أخص بتحيتي من ينتسبون إلى وطن، أو تجمعهم جمعية، بل أعم من يظلهم دين ويربطهم لسان، ويجمعهم جامع، أولئك كلهم أبنائي؛ يستوون في حيي لهم، وعطفي عليهم، وآمالي فيهم، آحادهم وجموعهم. وأحيي بأحسن منها إخواني العلماء من حضر منهم في هذا المشهد وَمَن غاب عنه- أولئك الذين طبعتهم يد الرحمن على أن يكونوا أَلْسِنَةَ العروبة وحرسة الإسلام بهذا الشمال الإفريقي- تحية تحرك النفحات سواكنها وتثير المناسبات كوامنها، في هذه المناسبة التي حقيقتها ومغزاها إعلان الفضل من أهله، ووصل لرحم علمية لو أتى عليها النسيان لأضحت مجفوة، وبر بإمام لو لم تعمر الأفئدة ذكراه والألسنة ذكره لأصبح حقه مكفورًا. أيها العلماء الخِيَرة، أيها الأبناء البررة: حيّكم الله وبيّاكم، وأبقاكم عوامل رفع لهذا الوطن وأحياكم، وأطال أعماركم للعربية تعلون صروحها وتنقشون في الأنفس لا في الأوراق شروحها، ولهذه الأمة تضمدون جروحها وتداوون قروحها، وللملة الحنفية تحمون حماها وترمون من رماها. إن الإسلام والعروبة- يا إخواني ويا أبنائى- إذا ذكرا ذابت القيود، وتلاشت الحدود، واجتمعت الأقطار على رحبها في بيت. وأن أخوة الإسلام والعروبة لا تقوم على الأقوال وإن طالت وكثرت، وإنما تقوم على الأعمال والحقائق. ولو أوتينا رشدنا لأقمنا كلمتي المسلم

_ * بعث الإمام الإبراهيمي هذه الكلمة إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة (تونس)، مشاركة لهم في إحياء الذكرى السابعة لوفاة الإمام ابن باديس (أفريل 1947م) ونشرت في جريدة "العبقرية"، ع3، تلمسان- الجزائر، 1366هـ.

العربي مقام هذا النسب المعروف إلى البلدان والقبائل، فما هذا النسب إلا ثُغَر ومداخل لشيطان الوطنيات الضيقة التي ليست من ديننا ولا من ميراث سلفنا، فتواصوا جميعًا بتحقيق هذه النسبة الإسلامية العربية وتثبيت أصولها في نفوس أبناء هذه الأمة. أيها الإخوان، أيها الأبناء: لا نكون مُبالِغين إذا قلنا إن لفقيدنا العزيز عبد الحميد بن باديس مِنَّة على كل من يحمل بين جنبيه روحًا جديدة أو فكرة سديدة من أبناء الجزائر أينما كانوا، لا فرق في ذلك بين طلاب العلم وبين غيرهم من طلاب الحياة في جميع فروعها، وإن من دلائل الوفاء وشكر الصنيع في نفوس أولئك الطلاب أن ينهجوا نهجه في التفكير وطرائق الإصلاح، ويتعاونوا على إكمال ما بدأ بوضعه من أسس العلم والحياة ويشاركوا في هذه الذكريات التي تقام كل سنة لعرض أعماله واستخراج العبر من تلك الحياة التي ليست حياة فرد وإنما هي حياة أجيال؛ إذ كامل الوفاء لفقيدنا العزيز هو الذي عمل عمله في نفوس أبنائنا، وحَدَا بهذه الطائفة المهاجرة في سبيل العلم بجامعة الزيتونة المعمورة إلى إحياء هذه الذكرى في هذه السنة بتونس. وإن في كون الذكرى بتونس، وفي مشاركة الأفذاذ النوابغ من رجال العلم والأدب للطائف دقيقة ومغازي سامية وإلهامات رقيقة؛ هي من آثار الروحية والوجدان والضمير، لا من آثار المجاملة والتدريس، فإذا جاوزنا الصلة العلمية الروحية العربية جاءت الصلة الزيتونية الوثيقة، وإنها لصلة مرعية الأنساب مبرورة العهود محكمة الوثائق. أيها الإخوان: أشكركم شكرًا تثقل موازينه، يطرزه الحب ويزيّنه برّكم بأخيكم وأخي، الذي نَفِي بعهده الثقيل، وأرجو أن تتضافر الأيدي وتتوافر الهمم وتتعاون الألسنة والأقلام على خدمة هذا الدين وتاريخه ولسانه بهذا الوطن الذي هو قطعة من ملك الإسلام ورُكن من حصن العروبة الأشم. أحي- على بعد الدار- تونس العزيزة علي، الحبيبة إليَّ، فكم لي بها من علاقات يبلى الزمن وهي جديدة، وأعلاق تنحط القمم وهي- أبدًا- عالية، وذخائر من صداقة وأصدقاء هي مع أعمالي كل رأس مالي. وواشوقاه إلى تونس، وواشوقاه إليكم أيها الإخوان الخِيَرة والأبناء البررة.

كتاب مفتوح لسعادة وزير الداخلية

كتاب مفتوح لسعادة وزير الداخلية للجهورية الفرنسية* ــــــــــــــــــــــــــــــ يا سعادة الوزير: إن الأصداء المتجاوبة عن زيارتكم للقطر الجزائري أفهمت الأمة الجزائرية المسلمة أنها زيارة تمهدون بها لإصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي يفتقر إليه هذا الوطن. فالتفتت هذه الأمة إلى الماضي واستعرضت الزيارات الوزارية المتعاقبة وآثارها فهبطت درجة التفاؤل فيها إلى حد بعيد، ولكن ما جاء في بعض خطبكم (إن الظروف غير الظروف) أمسك فيها رمق الأمل. كان من تمنيات الأمة أن يقال عن زيارتكم إنها استجابت للصرخات المنبعثة من أعماقها. وإنها تمهيد لتحقيق مطالبها. وسترون بأعينكم وتدركون بعقلكم- إن لم تحل الحوائل بينك وبين الحقيقة- ما يقنع ضميركم الحي وعاطفتكم الإنسانية وفكركم الديموقراطي أن القضية الجزائرية لا تداوى بإصلاحات مهما كانت سريعة وإنما تداوى بحقوق تعطى ورغائب تحقق. فارم بعينيك- يا سعادة الوزير- إلى ما وراء الصفوف الأمامية التي تقابلك في هذه الزيارة تر الحقيقة. وأرهف سمعك إلى الأصوات المنبعثة من تلك الجهة تسمع الحقيقة، وإن الطبيب لا يبني العلاج على أقوال الأصحاء وشهادتهم للمريض، وإنما يرتب العلاج على كلام المريض لأنه ينير له سبيل الحكمة. وعلى أناته وصرخاته لأنها تثير فيه عاطفة الرحمة. وإذا اجتمعت الحكمة والرحمة في نفس الطبيب ضمنا سداد الدواء وعاجل الشفاء. وإننا نتمنى لكم في زيارتكم هذه توفيقًا يرفع ذكركم. ويقرن بحل القضية الجزائرية اسمكم.

_ * جريدة "النهضة" التونسية، 30 أفريل 1947، وجريدة "الإصلاح"، عدد 48، 8 ماي 1947م.

بقيت جهة أخرى تمسّ إحساس المسلمين وتحزّ في نفوسهم وهي الدين الإسلامي من أوقافه المهضومة إلى معابده المظلومة إلى تعاليمه المعدومة إلى قضائه المشوّه، وقد أغفلتم هذه الجهة في تصريحاتكم فقال قوم إن الدينيات لا تدخل في السياسات. وقال المسلمون إذا كان الأمر كذلك فما بال الحكومة الجزائرية احتكرت لنفسها كل ما يتعلق بديننا منذ قرن وزيادة فاستولت على أوقافنا ومساجدنا وأمسكت في يدها مقاليد رجال الدين منا. وضايقت التعليم الديني بالقرارات، ومسخت القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية وهي من صميم الدين. إن الأمة الجزائرية المسلمة تعتقد أن حقها الديني لا ينبغي أن يكون محل جدال ومطل لأنه لا يتعارض مع مصلحة دين آخر. وترى أن من حقها- كأمة ذات مقومات حيوية- أن تطالب بفصل الدين الإسلامي عن الحكومة فصلًا رسميًا عاجلًا وأن تسلم لها أوقافها الدينية ومساجدها تتصرف فيها تصرّفًا حقيقيًا مباشرًا وأن ترفع القيود الإدارية عن تعليمها الديني العربي وأن تتمتعّ في أحوالها الشخصية الدينية بقضاء نافذ صريح مبني على تعليم إسلامي واسع صحيح. يا جناب الوزير: إذا سمعتم صيحات طلاب الحقوق السياسية والاقتصادية فاسمعوا هذه الصيحة المنبعثة من طلاب الحقوق الدينية. وان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعبّر في هذا عن رأي كل مسلم جزائري. وهي تحمل- مع هذا- لسعادتكم كل تقدير واحترام. رئيس جمعية العلماء محمد البشير الإبراهيمي

رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني

رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني* حضرة الأديب الفاضل الأستاذ أحمد توفيق المدني أسعده الله، سلام عليكم وتحيات مباركات. أما بعد ... فقد بلغني بواسطة الشيخ إبراهيم بيوض نسخة بخطّكم من القانون الأساسي للمجلس الإسلامي الأعلى وما يتّصل به وما يتفرّع عنه، لأطّلع عليها وأرى رأيي فيها. غير أنّي لا أستطيع أن أبدي أيَّ رَأْيٍ في الموضوع الأصلي قبل أن أطّلع على نصّ رسالة الوالي العام للشيخ الطيب العقبي المتضمنة لهذه المسألة بصفته عضوًا في لجنة الإصلاحات العليا، وقبل أن تطلعوني على حقيقة لا بدّ من الاطلاع عليها وهي هل هذا القانون المسطّر بخطّكم من قبل المطالب التي تُعرض على الحكومة، ولها بعد ذلك حق القبول أو الرفض لكلّه أو لبعضه، أو حق التعديل لبعض ألفاظه ومواده، أو هو قانون أساسي نهائي لقضية فرغ منها وسلّمتها الحكومة تسليمًا نهائيًا لا رجوع لها فيه ولا تدخّل في تشكيلها وتكييفها وتسييرها في المستقبل. وإذا كان هذا الأخير هو الحقيقة فما هي الضمانات التي أخذتموها على الحكومة لتحقيق هذا البرنامج حتّى تطمئن الأمّة إلى هذا الحلّ. قد دعيتُ أنا والشيخ العربي التبسي برسالتين بإمضاء الشيخ الطيب العقبي للحضور في اجتماع كأنّه تمهيدي للمسألة، وإنّ إجابتنا تتوقّف على اطّلاعنا على رسالة الوالي العام للشيخ العقبي وعلى إجابتكم لنا عن السؤال المذكور. ودمتم لأخيكم محمد البشير الإبراهيمي

_ * جريدة "الإصلاح"، العدد 60، 6 سبتمبر 1947م.

رئيس جمعية العلماء ومدير «البصائر» ومؤسس «معهد ابن باديس» يتكلم

رئيس جمعية العلماء ومدير «البصائر» ومؤسس «معهد ابن باديس» يتكلم (1947 - 1952)

بلاغ من جمعية العلماء

بلاغ من جمعية العلماء * يتردد في بعض المجالس الخصوصية منذ عام كلام إذا جرّد من إطار الدعاية وحذفت حواشيه بقيت منه جملتان، وقد حفظهما الناس وتناقلتهما الألسن وافتتن بهما بعض المغفلين وهما: "إن الاستقلال الديني قد حصل، وإن حرية المساجد قد تمّت" ويأتي من وراء هاتين الجملتين كلام إذا جرّد من ألفاظ التعريض واللمز، ومقدّمات التظلّم والأنانية بقيت منه جملة واحدة وهي: إن جمعية العلماء- بتصلبها وعنادها وامتناعها من المشاركة بالتبعية للعاملين- كانت سببًا في تعطيل حلّ القضية الدينية. هذه جمل تقال وتحكى وتكتب بألفاظ لا تتغيّر حتى أصبحت كمواد القانون تفسدها زيادة حرف ونقصان حرف. ونحن نقول في الجملتين الأوليين ما قيل في الرؤيا: إنها تسرّ ولا تغرّ، ولو كان ذلك حقًا لكنّا أول المستبشرين وأول المبشّرين لأنه تحقيق لآمال جمعية العلماء ونتيجة لمساعيها المتكررة. ونقول في الجملة الثالثة إنها مناقضة لما قبلها، لأنه إذا حصل الاستقلال الديني وتمّت حرية المساجد فلا معنى لذكر جمعية العلماء ولا معنى لمشاركتها في أمر فرغ منه إذ من العبث سعي العقلاء في تحصيل الحاصل. والحقيقة التي يجب أن تعرفها الأمة هي أن قضية المساجد وما يتبعها بل جميع مطالب جمعية العلماء لم تزل على الحالة القديمة التي يعرفها الناس لم يتم فيها شيء. وأن الحكومة لم تزل في موقفها الذي يعرفه الناس لم تتزحزح عنه ولا شبرًا.

_ "البصائر"، العدد 1، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 25 جويليه 1947م. (بدون إمضاء).

وأن جمعية العلماء لم تزل متمسّكة بمطالبها التي يعرفها الناس لم تتساهل ولم تتنزّل. وأن كل ما ذاع في الموضوع من كلام وكل ما أحاط به من إشاعات، وكل ما فتح فيه مع غير جمعية العلماء من مفاوضات فهو من المناورات الحكومية التي يراد بها تطويل المدة وبث التفرّق وإقصاء جمعية العلماء وإلهاء الأمة بالقشور عن الحقائق. والفروق بين جمعية العلماء وبين غيرها تظهر في أمور منها: إن جمعية العلماء تعتبر هذه القضية قضية أمة لا تحلّ إلا بعلمها ورضاها، والحكومة ومن لفّ لفها لا يرونها بهذه العين ولا يزنونها بهذا الميزان. وأن جمعية العلماء بما شرحت من هذه القضية وبما درست مدة خمسة عشر عامًا ترى أنها لا تحتاج إلى إعادة نظر وفتح مفاوضات جديدة وإنما تحتاج إلى التنجيز على الصورة التي شرحتها الجمعية وفصلتها. وإن جمعية العلماء ترى أن أوقاف المساجد هي بيت القصيد في القضية فلا يجوز التساهل فيها ولا الاغترار فيها بالوعود ولا الاكتفاء بالحلول السطحية، ولا خير لأمة فقيرة عريانة في استلام مساجد فقيرة عريانة، والحكومة- فيما اختبرنا وعلمنا- لا تريد أن ترد شيئًا من الأوقاف، أو تريد الإرضاء بصورة كلها إجحاف، وقد سمعنا منها نغمة جديدة وهي أن تسليم أوقاف المسلمين يفتح عليها باب مطالبة المسيحيين بأوقافهم، ونحن نرى أن القضيتين لا تجتمعان في سبب ولا غاية لأن الأوقاف المسيحية أخذت عقب ثورة من الأمة المسيحية على الدين ورجال الدين وعلى الحكم ورجال الحكم وانتهت بقلب نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، وبفصل الدين عن الحكومة بصورة حاسمة، وثورة الأمة المسيحية على نظامها تعني رضاها بكل ما ينتج عن الثورة. أما في الجزائر فإن الحالة مخالفة لذلك تمام المخالفة فالدين غير الدين والأسباب غير الأسباب، والدولة الفرنسية تعهّدت للمسلمين في هذا الوطن بالمحافظة على كل ما ينتسب إلى الدين وأنزلت نفسها منزلتهم في التصرّف فوضعت يدها على أوقافهم ومساجدهم ووظائفهم الدينية، وأوهمتهم بهذه الظواهر أن كل شيء على أصله، وفي ظل تلك العهود والمظاهر احتوت على كل شيء فقلبت أعيان الأوقاف وبقيت تنفق على المساجد سترًا لذلك التصرّف الجائر، وأن إنفاق الحكومة على المساجد طول هذه المدة هو الفارق الأكبر بين أوقاف الجزائر وأوقاف فرنسا، وهو نفسه حجّتنا الكبرى في المطالبة بأوقافنا على الصورة التي لا حق للفصل فيها إلا للمجلس الإسلامي المنتخب من الجمعيات الدينية. إن جمعية العلماء لا تفهم من معنى الاستقلال الديني وحرية المساجد إلا المعنى الصريح الذي تطالب به وهو إعلان الحكومة فصل الدين الإسلامي عن الدولة وأن تترك

المسلمين وشأنهم في تأسيس جمعيات دينية حرة بعيدة عن المؤثرات الحكومية السرية والعلنية، فإذا تمّ ذلك انتخبت تلك الجمعيات مجلسًا إسلاميًا يستمدّ سلطته من الأمة لا من الحكومة وهو الذي يتولى إدارة الأوقاف وإدارة المساجد بسلطة غير مقيّدة بشيء. أما ما دام عامل العمالة هو الذي يولي رجال الدين ويعزل استنادًا على "الدوسي البوليسي" لا على الكفاءة الدينية، وما دامت الجرايات تقبض من الخزينة العامة وما دام العالم الديني لا يستطيع أن يلقي درسًا في كلام الله إلا بعد الترخيص من رئيس جمعية دينية حكومية غير منتخبة من الأمة، مع العلم اليقين بأن ذلك الرَّئِيسُ لا يرخص إلا بعد أن يسترخص ولا يأذن إلا بعد أن يستأذن وأنه (واسطة خير) فقط- ما دام الأمر كذلك وهو الواقع الذي لا ريب فيه- فنحن نعترف بأننا لم نرزق عقولًا نفهم بها معنى هذا الاستقلال. إن جمعية العلماء تعلن لمروّجي هذا الاستقلال الديني، وللمغترين به أنه لا حقيقة له وأنها لا تشاركهم في الانخداع للمناورات والتشكيلات، فقد عرفنا حق المعرفة ان الحكومة الجزائرية كلما أرادت دفن شيء أكثرت من تشكيل اللجان، وانتقلت به من ميدان إلى ميدان. إن جمعية العلماء سبقت إلى المطالبة بالحقوق الدينية وفاوضت فيها ودرست وحقّقت لأن ذلك كله من وظيفتها الطبيعية، ومن واجب كل مسلم صحيح النية في خدمة الإسلام أن يضمّ صوته إلى صوتها ويجعل مطالبها المقدّمة في أوت سنة 1944 هي الأصل والقاعدة، ولا يعين الحكومة على التشتيت وتفريق الكلمة وتكثير الهيئات والشيع، ولا يسايرها في تجاهلها لجمعية العلماء، فليس في هذا كله خير للقضية الدينية. ألا فليعلم كل مسلم جزائري أن جمعية العلماء لا تريد أن تحتكر لنفسها هذه القضية بوسائلها ونتائجها، وأنها تطالب باسم الأمة للأمة، وأنها ترى أن هذه القضية ليست من التفاهة بحيث تحل على يد فرد أو أفراد كما تقول الحكومة وتريد، وأنها لا تضلل الأمة فتسمّي لها الأشياء بغير أسمائها. ألا فلتعلم الأمة حق العلم أن كل شيء في القضية على حاله القديم فلا "الاستقلال الديني حصل ولا حرية المساجد تمّت". ألا فلتعلم الحكومة أن الأمة لا ترضيها هذه المناورات ولا تلهيها هذه الدعايات ولا يرضيها إلا فصل الدين الإسلامي عن الحكومة فصلًا صريحًا مطلقًا من كل قيد وأن تترك لها الحرية التامّة في انتخاب جمعياتها الدينية ومجلسها الإسلامي. المجلس الإداري لجمعية العلماء.

نصيحة دينية

نصيحة دينية تقدّمها جمعية العلماء للأمة الجزائرية الإسلامية* ــــــــــــــــــــــــــــــ أيتها الأمة ... إن التفرّق شرّ كله، وشرّ أنواع التفرّق ما كان في الدين، وأشنع أنواع التفرّق في الدين ما كان منشؤه الهوى والغرض، ونتيجته التعادي والتباغض وأثره في نفوس الأجانب السخرية من الدين والتنقّص له واتخاذ أعمال أهله حجة عليه، وما أعظم جناية المسلم الذي يقيم من أعماله الفاسدة حجة على دينه الصحيح، وما أشنع جريمة المسلم الذي يعرض- بسوء عمله- دينه الطاهر النقي للزراية والاحتقار. أيها المسلمون الجزائريون ... في كل عام تفتنون في دينكم مرّتين، فتختلفون في الصوم اختلافًا شنيعًا وتتفرّقون في الإفطار تفرّقًا أشنع، وكلّما جاء شهر رمضان الذي تصفد فيه الشياطين، انطلقت من بينكم شياطين تدعوكم إلى التفرّق في شعيرة لم تشرع إلا للجمع، وتزيّن لكم الاختلاف في الدين باسم الفقه في الدين. ولو كان تفرّقكم في الصوم والإفطار مبنيًا على اعتبار صحيح وعلى أسباب ضرورية- كعدم العلم بالرؤية مثلًا- لهان الأمر وكان لكم بعض العذر ولكنه في الأغلب مبني على جمود، وعناد مقصود، وتمحلات فقهية لا ترجع إلى مستند صحيح من نص، ولا إلى برهان صريح من علم، ثم انتهى بكم العناد واللجاج إلى شر ما تقع عليه العين من تفرّق واختلاف، وهو أن البيت الواحد يضمّ صائمين ومفطرين فضلًا عن القرية الواحدة، والصائم يرمي المفطر بالموبقات والمفطر يرمي الصائم بالشناعات وبين هذين ضاعت الحرمة الحقيقية والحكمة الحقيقية، وبين البطون الخماص والبطان تتلاشى المعاني العالية التي طواها

_ * "البصائر"، العدد 1، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 23 جويلية 1947م. بيان نشر مستقلًا ووزع على الشعب قبل رمضان من نفس العام 1366هـ.

الإسلام فيما شرع من صوم وشرع من إفطار وبضعف إحساس الرحمة والإحسان وتنطفئ بشاشة العيد وبهجته وإشراقه، ويجف ما يفيض به على المسلمين من خير وأنس وتسامح وحب، فانظروا- رحمكم الله- إلى ما يبقي ذلك الخلاف في نفوسكم من حزازات وعداوات وتقطيع لما أمر الله به أن يوصل من أخوة الإسلام. إن التفرّق في الصوم يذهب بجلال الصوم وحكمته. وإن التفرّق في العيد يذهب بجمال العيد وبهجته. وإن الله تعالى ما شرع هذه الشعائر عبثًا وإنما شرعها لحكم جليلة أعلاها جمع الأمة على الدين، لتجتمع في شؤونها الدنيوية، وتوحيدها في عبادة الله، لتتربى على الاتحاد في مصالحها العامة المشتركة. يا للعجب أيكون الشهر الذي جعله الله مقوّيًا للإرادات، ومشددًا للعزائم ومطهرًا للأرواح ومهبًّا لنفحات الخير والرحمة والمحبة سببًا للفتور والضعف ومدبًّا للبغضاء والعداوة؟ أتجعلون من هذا الشهر الذي جعله الله جامعًا للقلوب على الأخوة وللأرواح على الطهر وللمشاعر على الإحسان وسيلة إلى التفريق والتشتيت؟ أيها المسلمون ... هذا شهر رمضان على الأبواب فأحيوا في نفوسكم جميع معانيه الدينية والاجتماعية وابدأوا لتحقيق ذلك بالاتحاد في صومه والاتحاد في الخروج منه وأظهروا في هذين اليومين بالمظهر المشرف لدينكم ولجماعتكم، واجتمعوا على السرور بمقدمه وعلى الابتهاج بوداعه، واعلموا أن للاتحاد هيبة، وأن في الاجتماع قوة وسطوة فاستجلوا هذه المعاني في مظاهر دينكم، واستغلّوا ثمراتها في ظواهر دنياكم. لا عذر لكم في الاختلاف في هذا الزمن الذي قارب بين أجزاء الأرض وقرب بين أفراد البشر وسهل نقل الأخبار وصحّح مقاييس العلم وضبط موازين الأشياء وأحكم الاتصال بين الناس وأعان على فهم حقائق الدين. لا تجعلوا الحدود الإقليمية التي وضعها المخلوق، حدودًا فارقة في الشعائر التي وضعها الخالق، ولا ترتابوا في أخبار التليفون إذا عرف الصوت وتعدد الناقل، ولا ترتابوا في أخبار الإذاعة فإنها أمنع من أن يتطرق إليها الخلل في هذا الباب وأنها لا تذيع إلا ما تقدّمه لها الهيئات الشرعية. لا تلتفتوا إلى شبهة تباعد الأقطار فكثيرًا ما يكون يوم عيد الأضحى بمنى هو يوم عيد الأضحى عندنا بشهادة الحجّاج منكم، وبينكم وبين منى آلاف الأميال، صوموا

وافطروا على الأخيار التليفونية من الثقات المعروفين إلى الثقات المعروفين من جميع أجزاء الشمال الإفريقي. صوموا وافطروا على أخبار إذاعة تونس، فما تونس إلا جارة قسنطينة، وعلى أخبار إذاعة الرباط فما الرباط إلا جار وهران، وعلى أخبار إذاعة الجزائر فما الجزائر إلا قلب هذا الشمال الإسلامي العربي. لا تتراخوا في أداء الشهادة برؤية الهلال وتعميمها بجميع الوسائل وأقواها وأسرعها التليفون. لا تسمعوا كلام الجاهلين الذين يسوّلون لكم الخلاف في الدين باسم الدين ويطعنون في رؤية تونس أو فاس أو قسنطينة ويضيقون عليكم ما وسع الله، لا تقلدوا بعض الفقهاء الجامدين الذين يريدون أن يحتكروا التصرّف في الصوم والإفطار ويفرّقوا كلمة الأمة بِجُمودِهِم وجهلهم، واعلموا أن الله تعالى لم يكل هذا الأمر إليهم في كتاب ولا سنة ولا ورثوه عن سلف وإنما الشأن كله لجماعة المسلمين ولكن جماعة المسلمين أضاعوا هذا الحق من أيديهم فتسلّط عليه قوم لم يجعل الله لهم الحكم فيه فجعلوا لأنفسهم التحكّم عليه. إن جمعية العلماء ستقوم بواجبها كالعادة فتتلقّى الأخبار وتعمّمها بما تملك من وسائل التعميم، وتتعاون مع جميع الهيئات في القيام بهذا الواجب. رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين محمد البشير الإبراهيمي

المسلمون في جزيرة صقلية

المسلمون في جزيرة صقلية* تقرأ هذا العنوان فتقول: هذه جملة مفيدة ... فقد كان المسلمون في صقلية حقًا، فتحوها بسيوفهم ونشروا فيها كلمة التوحيد ونقلوا إليها قبسًا من حضارة الإسلام وتعاليمه، وشادوا فيها المساجد والمدارس، ومكّنوا فيها للغة العرب وآدابهم إذ كان ركاب الفتح من القيروان وكان قائد الحملة علمًا من أعلام التشريع والقضاء هو أسد ابن الفرات، ولبثوا فيها قرونًا اصطبغت في خلالها الجزيرة بالصبغة الإسلامية العربية حتى أخرجت من سلائل الفاتحين والداخلين أئمة في الفقه والدين ونوابغ في الطب والحكمة وقادة في الفكر والتدبير وفحولًا في الأدب والشعر وزوّدت المكتبة العربية بذخائر لم يبق من الكثير إلا أسماؤها. تلك هي صقلية المضطجعة في عباب البحر الأبيض يفصلها عن (البر الكبير) نهر من المالح في مقدار غلوة رام، ويفصلها عن تونس مضيق في مقدار عشرات الأميال، فهي بذلك قريبة الموقع من أفريقيا وهي بانفصالها عن أوروبا كأنها تريد الفرار منها إلى تونس والاتصال بها فيقعدها العجز وكأن الفاتحين أدركوا ذلك فأتوها إذ لم تأتهم ووصلوها حين لم تصل إليهم. وتلك الجملة المفيدة التي تقرأها في العنوان هي التي ألهم الأستاذ أحمد توفيق المدني تسمية كتابه المفيد، وهو كتاب جلّا فيه مؤلفه صحيفة من صحائف الفتح الإسلامي لأطراف أوروبا وجزائرها، وسد به نقصًا طالما شعر به الباحثون في تاريخ الإسلام كلما انتهى بهم البحث إلى تلك الحقبة من الزمن في تلك القطعة من الأرض، فأعوزتهم الوثائق والمستندات، لأن الموجود منها في تواريخنا العامة- مع صحته وصدقه- مشتت غير منظم ومضاف غير مستقل.

_ * "البصائر"، العدد 2، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 1 أوت 1947م. (بدون امضاء).

والحق كأن البلدان كالأناسي منها المحظوظ ومنها المحروم، وأن الأندلس من بين أجزاء أوروبا الإسلامية أوفرها حظا من عناية المؤرخين، وأن صقلية وقبرس وكريت وما أشبهها أقلها حظًا من ذلك، وإذا كان الحظ والحرمان يخضعان للتعليل فإن علل ذلك واضحة. وعسى أن يكون كتاب الأستاذ المدني حافزًا لهمم الباحثين حتى يصلوا ما انقطع من هذه المباحث المتعلقة بامتداد الفتح الإسلامي إلى جزائر البحر الأبيض وضفافه الشمالية، فإن هذه المباحث أصبحت- لبعدنا عن زمانها- كالخرائب الدفينة تحتاج إلى رفع الأتربة والأجحار قبل استجلاء الحقائق والأسرار. وبعد فقد تلطف الأستاذ المدني فأهدى نسخة من هذا الكتاب اللطيف إلى مكتبة جمعية العلماء فوجب التعجل بهذا القدر من التنويه مراعين في ذلك حق المؤلف وخدمته للتاريخ آملين أن يتسع الوقت لنقد الكتاب وتحليله فنوفي بذلك حق الكتاب.

السيد محمد خطاب الفرقاني

السيد محمد خطّاب الفرقاني* هذا الرجل من أبناء الجزائر الذين رفعوا رأس الجزائر، ومن أبناء هذا الشمال الذين أوسعوه برًا وتكرمة وجعلوا من مالهم ومواهبهم وسائل لغرس الأخوة بين أبنائه، ولم يعيشوا لأنفسهم بل عاشوا لإخوانهم وأوطانهم وما أقل هذا الصنف من الرجال فينا ويا للأسف! ولد السيد محمد خطاب في جبال (الميلية) الشماء، ونشأ بين صخورها الصماء، وفتح عينيه على آثار من الشمم والهِمم والعزة والكرم، وعلى عصامية في الحياة امتاز بها أبناء الجبال، فكان لذلك كله في حياته وتكوينه أثر غير قليل، وفتح عينيه- كذلك- على آثار الاستعمار في أرض أجداده وفي نفوس قومه، فكان لذلك في عقله وفكره أثر غير قليل، ثم هاجر إلى المغرب سنة أربع وعشرين ميلادية بعد هجرة أخيه الأديب الكاتب الأستاذ رابح الفرقاني المترجم الحر بفاس، واتخذ الأخوان من المغرب وطنًا لهما وكونا بكرم أخلاقهما ولطف شمائلهما مكانة ممتازة بين أهله. والسيد محمد خطاب عصامي النفس عربي النزعة لا يسير في الحياة إلّا على وحي الفطرة وهداية الاستعداد ومسايرة القومية، لذلك اختار الفلاحة حرفة فنجح فيها وبارك الله في أعماله، فتأثل منها ثروة عريضة رأى من شكر الله عليها أن يفىء بجزء منها على المشاريع العلمية النافعة لوطنه الكبير، وللسيد محمد خطاب في مبراته العلمية ومكارمه رأي هو فيه نسيج وحده، فهو يرى تمام المكرمة وكمالها أن تكون على يد جمعية العلماء، وله في جمعية العلماء اعتقاد مصمم وله بها صلة وثيقة الأسباب تمتد أوائلها إلى أوائل الحركة التعليمية بقسنطينة، وله ولأخيه الأديب علائق متينة مرعية بإمام النهضة المرحوم عبد الحميد

_ "البصائر"، العدد 4، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 29 أوت 1947م. (بدون امضاء).

ابن باديس، وكان لهما في حياته اشتراك مالي سنوي مقرر في كل مشاريع جمعية العلماء من جرائدها إلى صندوق الطلبة إلى مدرسة التربية والتعليم. وفي السنة الماضية قرر السيد محمد خطاب مبرتين ماليتين يدفعهما مسانهة على يد جمعية العلماء: أولاهما تصرف في ترقية التعليم بمدارس الجمعية وقدرها نصف مليون فرنك، وقد أدخلت الجمعية هذا المبلغ في العام الماضي في شراء المركز بإذن من صاحب المبرة، والثانية تصرفها الجمعية باجتهادها في مصلحة الطلبة الجزائريين بجامع الزيتونة وقدرها ماثة ألف فرنك، وقد اكترت بها جمعية العلماء في العام الماضي مركزًا لجمعية الطلبة. وللسيد محمد خطاب مبرة ثالثة خاصة بمسقط رأسه (الميلية) وهي مدرسة خطاب إحدى المدارس التي تديرها جمعية العلماء، بناها بماله منذ سنوات ورأى الآن أنها لا تكفي أبناء القرية، ففوض إلى جمعية العلماء أن تتولى توسيعها أو تجديدها من ماله الخاص بالغة ما بلغت النفقات. زار السيد محمد خطاب الجزائر في أوائل رمضان الماضي لتفقد إخوانه وأصدقائه ومشاريعه المالية الكثيرة لأنه في السنوات الأخيرة جاوز أفق الفلاحة إلى الصناعة والتجارة، فشارك في عدة شركات وطنية بماله وبإرشاده ورأيه، وزار مركز جمعية العلماء وإدارة "البصائر" وذاكرَ رئيس الجمعية في عدة مشاريع علمية وفي حال الطلبة الجزائريين الذين يطلبون العلم بالقرويين وما يجب لهم من عناية ورعاية، ووصل على يده جماعة من فقراء أهل العلم بإعانات وصدقات مستورة، وتبرع على جريدة "البصائر" بمبلغ خمسين ألف فرنك. إننا كما نعدّ أخانا السيد محمد خطاب عصاميًّا مجددًا في أعماله آخذًا بالنظام الدقيق في مشاريعه، محافظًا في إيمانه ووطنيته، نعده أيضًا حجة قائمة على أمثاله من أبناء الوطن الذين تأثلوا الثروات فيه أو في خارجه، فلم ينفعوا وطنهم بشيء يرفع الذكر ويجلب الفخر ويعظم الأجر، ولو أنهم كانوا مثل هذا الرجل أو قريبًا منه لم يبق في الوطن ولد بلا تعليم ولا فقير بلا قوت، ولا مريض بلا دواء، فإذا قلنا لهذا الرجل: كثر الله من أمثالك، فلسنا ندعو له وإنما ندعو للوطن. إن جريدة "البصائر" لا تمدح أحدًا إلّا حيث يكون المدح دعاية إلى حسن التأسي والاقتداء ولا تثني إلا على عمل يتصل بمبدئها الديني التعليمي أو يؤيده، ولا تطري إلّا المناقب المذكرة بأمجاد الأوائل، المحيية لمكارمهم وآثارهم في سبيل العلم والخير العام، وأخونا السيد محمد خطاب يجمع ذلك كله.

كوارث الاستعمار

كوارث الاستعمار* فات "البصائر" بسبب عطلة المطبعة أسبوعين في آخر رمضان- أن تشارك الأمة التونسية العزيزة في إعلان الحزن على ما أصابها في العهد الأخير من كوارث الاستعمار التي تجلت في الحادثتين الداميتين، حادثة (جبل الجلود) وحادثة (صفاقس). أما التألم والامتعاض من قتل الأبرياء المسالمين، وأما الحزن والأسى لإخواننا الذين ماتوا مظلومين، ولأطفالهم وزوجاتهم الذين بقوا بلا مال ولا عائل فإن حظنا منها لا يقل عن حظ إخواننا التونسيين، ومحال أن يتألم عضو من جسد ولا تتألم له سائر الأعضاء، وقد ألّفت هذه المصائب المتوالية، وهذه المظالم المتحدة المصدر، بين قلوبنا تأليفًا جديدًا محكم النسج، وأرهفت إحساسنا وصيرتنا كتلة من لحم مرضوض، في لجة من الدموع المرفضة، فلا يمتاز في مصائبنا معز من معزى. عذرنا إلى إخواننا أننا لم نخسر في باب التعزية إلّا سطورًا سوداء في أوراق بيضاء تقرأ وتهجر، وعوضنا الغالي عنها إحساسات مضطرمة في نفوس متألمة.

_ * "البصائر"، العدد 3، السنة الأولى من السلسلة الثاتية، 3 سبتمبر 1947م. (بدون امضاء).

إحياء التعليم المسجدي بمدينة قسنطينة

إحياء التعليم المسجدي بمدينة قسنطينة* (إعداد المركز، برنامج أربع سنوات، تعيين المشائخ والمدرّسين، الارتباط بجامع الزيتونة) ــــــــــــــــــــــــــــــ أجمعت جمعية العلماء أمرها وصمّمت على إحياء تلك السنة التي سنها إمام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-. وهي التعليم المسجدي. ونعني بالتعليم المسجدي ذلك التعليم الذي تلتزم فيه كتب معيّنة في العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وأصول وأخلاق. والعلوم اللسانية من قواعد ولغة وأدب. والعلوم الخادمة للدين من تاريخ وحساب وغيرهما، ويقوم به مشائخ مقتدرون في تلك العلوم محسنون لتعليمها، ونسمّيه مسجديًا لأنه كان من فجر الإسلام إلى الآن وما زال يلقى في المساجد. وما زالت تقوم به من غير انقطاع ثلاثة من أقدم مساجدنا وأعظمها، الأزهر والزيتونة والقرويين، على تفاوت بينها في التوسع والنظام والكتب والأسلوب. وهذا التعليم ضروري للأمّة الإسلامية في حياتها الدينية لأنها مفتقرة دائمًا إلى من يفتيها في النوازل اليومية ويبيّن لها أحكام الحلال والحرام. وما بقي الإسلام محفوظًا إلا بهذا النوع من التعليم الذي من أصوله تفسير القرآن والحديث النبوي. وإذا كنا نشهد ضعف هذا التعليم وركوده وعقمه في هذه الأزمنة المتأخرة فما هي إلا من عوارض جاءته من سوء الاختيار للكتب، أو فساد الأسلوب في التأدية أو من قصور الملكة في المدرس أو من ذلك جميعًا، ثم تأصل بمرور الزمن. والضعف دائمًا يجرّ بعضه إلى بعضه. وقد شعرت معاهدنا المذكورة منذ سنوات بهذه النقائص فاجتهدت في إصلاحها وتكميلها. وعملت على سدّ الخلل وتوسيع الدائرة ومجاراة الزمن وسنراها عما قريب واصلة إلى الغاية إن شاء الله، فتخرج لنا فرسان منابر يهدون هذه الجماهير المتثائبة، وأعلام أدب

_ * "البصائر"، العدد 7، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 19 سبتمبر 1947م.

يحرّكون هذه المشاعر المخدّرة، وعلماء استنباط يحلّون هذه المشكلات الحيوية التي عاقت الأمم الإسلامية عن مجاراة السابقين في الحياة. أما الجزائر فقد بدأت في نهضتها القائمة بهذا النوع من التعليم وقام إمامها الشيخ عبد الحميد بن باديس في ذلك المقام المحمود فسلخ من عمره خمسًا وعشرين سنة على التعليم الحي المثمر المنظم. وتخرّج من دروسه جيل كامل هو عماد النهضة اليوم بما أعده للحياة وهيّأه للقيادة. وان الكثيرين من تلامذته هم اليوم، المجلون في ميدان التعليم المكتبي الذي تقوم به جمعية العلماء، وقد كان- رحمه الله- يرمي بتعليمه مع تحصيل العلم إلى ثمرات العلم ويرمي إلى أشياء كان يقصدها قصدًا ويلحّ فيها إلحاحًا، منها تقوية الإرادة والعزيمة في تلاميذه، فكان يفيض عليهم من روحه القوية فيضًا مِن القوة يعدهم بها للعمل في أمّة مفتقرة إلى العاملين. ولما مات الأستاذ- رحمه الله- اضطلعت جمعية العلماء بذلك التعليم وأسندته إلى الكفء المجمع على كفاءته في هذا الباب وهو الشيخ العربي التبسي ونقلت مركزه من قسنطينة إلى تبسة نقلًا مؤقتًا نزولًا على حكم الضرورة، فقام الأستاذ التبسي وأعوانه خير قيام بما أسند إليهم، ثم جاءت الحوادث المحزنة فطوي البساط بما فيه. كان من آثار ذلك التعليم المثمر الذي دام سنوات في تبسة ومن آثار ما تقوم به جمعية العلماء من مرغبات في العلم وأعمال جليلة في التعليم المكتبي أن لجّت الرغبة بشباب الأمّة في الاندفاع إلى العلم والرحلة في طلبه حيث ما كان. فرحلت المئات منهم إلى جامع الزيتونة والعشرات إلى القرويين وأبعد القليل منهم النجعة فرحل إلى القاهرة. وقد أنساهم الحرص ما يجب للرحلة من احتياطات فوقع الكثير منهم في المحذور. وجمعية العلماء- وهي التى أنشأت هذه الرغبة المتأججة في نفوس الشباب- لا تلومهم ولا تثبطهم على هذا الاندفاع، وإنما ترى أن الرحلة وقطع آلاف الأميال في سبيل التعليم الابتدائي ليست من العقل ولا من السداد. وما دامت معاهدنا الثلاثة كليات فالواجب أن لا يرحل إليها إلا من استكمل التعليم الابتدائي في وطنه وقطع مراحله في مكاتبه أو مدارسه أو زواياه واستعد للتعليم الثانوي، فهناك تحسن به الرحلة وتكون لها فائدة، وهذا واجب تشترك فيه الأمّة والجمعية والطلبة. أما جمعية العلماء فلا تدّعي أنها تقوم بواجبها كاملًا في هذه السنة وحسبها أنها فكّرت وقدّرت وأنها تبتدئ في هذه السنة بتحقيق بعض الواجب. أما الواجب الكامل فلا تستطيع تأديته إلا يوم يتيسّر لها فتح معهد في تلمسان وآخر في الجزائر وثالث في قسنطينة. وقد وُضعت الخطط والبرامج لذلك كله. والعقبة الكأداء في سبيلها هي المال والأماكن.

أما بعض الواجب الذي عقدت العزم على تنفيذه في هذه السنة، فهو البدء بقسنطينة أولًا، وقد اشترت دارًا كبيرة من دور آل الشيخ بن الفقون لتتخذها مركزًا لإدارة التعليم وتتخذ من بعض حجراتها مساكن للطلبة المعوزين. وأسندت الإشراف على التعليم والدروس العالية للأستاذ النفاع الشيخ العربي التبسي وعيّنت للتدريس مشائخ أكفاء ممتازين بماضيهم وعملهم وتحصيلهم. وهم المشائخ: السعيد الزموشي، أحمد حماني، عبد القادر الياجوري، نعيم النعيمي، عبد المجيد حيرش، العباس بن الشيخ الحسين، أحمد حسين، وستنقلهم إلى قسنطينة تباعًا متى تمّ إعداد الدار وإحضار الوسائل وقد التزمت الجمعية أن يكون هذا التعليم متناسقًا مع القسم الابتدائي بجامع الزيتونة في سنواته والكثير من كتبه وفي أسلوبه وفي امتحانه حتى كأن معهد قسنطينة فرع من فروع جامع الزيتونة. وستتصل الجمعية بمشيخة الجامع الأعظم وتعمل معها على التناسق بين التعليمين وعلى اعتبار الشهادة التي تخوّل للجزائريين الالتحاق بالتعليم الثانوي بجامع الزيتونة، وبهذا إن شاء الله نصل إلى الغاية المطلوبة وهي أن لا يرحل إلى تونس ولا إلى غيرها إلّا من استكمل معلوماته الابتدائية في الجزائر، وفي ذلك شرف للجزائر لقيامها بالواجب ونفع لأبنائها بتقصير المسافة ورفع التكاليف. أما بعد، فإن التعليم بفرع قسنطينة لا يتمّ إلا بعد إعداد المحل وإصلاحه، ونحن جادّون في ذلك ومجتهدون ولعلّ الشروع يكون في أواخر أكتوير الآتي وما هو ببعيد، وليرتقب أبناؤنا الطلبة الذين يريدون الالتحاق بهذا المعهد شروط الالتحاق مفصلة في العدد الآتي.

معهد قسنطينة

معهد قسنطينة* (إدارته، برنامجه، شروط الالتحاق به) ــــــــــــــــــــــــــــــ يسمّى المعهد معهد عبد الحميد بن باديس. تتألف الإدارة العامة للمعهد من ثلاث هيئات متضامنة، وكل واحدة منها مسؤولة فيما يخصها من الأعمال للمجلس الإداري لجمعية العلماء. الأولى الهيئة العلمية، والثانية الهيئة المالية، والثالثة هيئة المراقبة والضبط، ويرأس المدير العام جميع الهيئات، وللمجلس الإداري الإشراف الأعلى على الجميع وإليه المرجع في الكليات، وهو الذي يفصل الخلاف بين الهيئات أو بين أفراد الهيئة الواحدة. فالهيئة العلمية تتألّف من المشائخ المدرّسين، ووظيفتها وضع البرنامج وتنفيذه واختيار الكتب وامتحان التلامذة، وتوزيعهم على السنوات حسب الأهلية والاستحقاق. والهيئة المالية تقوم بجمع المال وضبطه وصرفه في مصالح المعهد التي تقرّرها الهيئات الثلاث مجتمعة، وأول ما تبدأ به لتحقيق غرضها إعادة فتح صندوق الطلبة باسم (صندوق التعليم) وتفتح له حسابًا جاريًا في البريد تسهيلًا على المتبرّعين المحسنين. وهيئة المراقبة والضبط تقوم بتسجيل أسماء التلامذة ومراقبتهم خارج المعهد مراقبة دقيقة، وملاحظة سلوكهم من استقامة واعوجاج، وتطبيق لائحة المعهد الداخلية عليهم، ولوكل إليها النظر في النظافة والصحة والعلاج والفصل بين التلامذة فيما يشجر بينهم من خلاف. كل هيئة من الهيئتين الأخيرتين تتألف من رئيس وثلاثة أعضاء.

_ * "البصائر"، العدد 8، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 26 سبتمبر 1947م.

شروط قبول التلامذة

مدة الدراسة بالمعهد أربع سنوات تبتدئ بالسنة الأولى وينتقل التلميذ إلى الثانية ثم الثالثة بامتحان: وتنتهي السنوات الأربع بشهادة تساوي في القوة مثلها في جامع الزيتونة، وتخوّل تلك الشهادة لحاملها الدخول في القسم الثانوي من الجامع المذكور. الدروس اليومية ستة: ثلاثة في الصباح وثلاثة في المساء، وكل درس يستغرق ساعة إلا عشر دقائق. برنامج الدراسة وكتبها هو برنامج السنوات الابتدائية في جامع الزيتونة، فإن خولف في بعض الجزئيات فإلى كمال وسداد إن شاء الله. وسيحرص المعهد على تكميل البرنامج بدروس في مبادئ الرياضيات والطبيعيات والجغرافيا والتاريخ وحفظ الصحة وأصول الأشياء، يقوم بها طائفة ممتازة من الأساتذة والأطباء والصيادلة والمحامين ويؤدّي فيها التلامذة الامتحانات السنوية. يقوم بفحص التلامذة وأماكن الدراسة والسكنى جماعة من الأطباء يومًا من كل أسبوع، وتخصّص لفحص التلامذة حجرة خاصة مجهّزة بالضروريات اللازمة. شروط قبول التلامذة أولًا: أن لا ينقص عمر التلميذ عن ست عشرة سنة. ثايًا: أن لا يكون مصابًا بمرض مُعْدٍ بشهادة طبيب المعهد. ثالثًا: أن يقدّمه أبوه أو وليّه- ما دام قاصرًا- بتعريف كتابي يتضمن علمه ورضاه ويتعهد فيه بلوازم التلميذ وضرورياته. رابعًا: أن يكون حافظًا لجزء معتبر من القرآن كالربع ولا يقبل من يحفظ أقل منه. وحافظ القرآن كله يقدّم في القبول وفي جميع الامتيازات. خامسًا: القدرة على نفقات الأكل والسكنى بحسب حال التلميذ، والمعهد لا يلتزم بشيء من ذلك نظرًا لضيق موارده المالية. ولا يعين في هذه السنة إلا عددًا محدودًا من المعوزين إعانات متفاوتة. وله الحق في تقديرها، واختيار مستحقيها وهو يؤثر في القبول والإعانات تلامذة مدارس الجمعية الذين أنهوا برنامج السنة الخامسة، وفازوا في امتحاناتها بتفوّق. سادسًا: كسوتان للشتاء على حسب حال الطالب، وفراش وغطاء.

تنبيهات وتوضيحات

تنبيهات وتوضيحات: 1 - طلبات الالتحاق تقدم من الآن إلى لجنة المراقبة بعنوانها المؤقّت وهو بالفرنسية: رقم 17، شارع عبد الحميد بن باديس، ويكتب على ظهر الغلاف بالعربية: لجنة المراقبة لمعهد عبد الحميد بن باديس: وكذلك المخابرات والاسترشادات كلها تكون بهذا العنوان. 2 - على الطالب أن يوضح عنوانه غاية التوضيح ليضمن رجوع الجواب إليه. 3 - للمعهد لائحة داخلية مفصّلة لواجبات المدرّسين والتلامذة، مبيّنة لحدودهم، محدّدة للصلات بينهم. 4 - ينشر المعهد في كل شهرين- على الأكثر- نشرة صغيرة داخلية، تشرح أعمال المعهد وسير التعليم فيه. وتسجّل حركته بإنصاف وتسمّي كتبه ودروسه وتلاميذه، وتعلن مداخيله ونفقاته حتى تكون الأمّة على بصيرة من ذلك كله، وستحلى النشرة بقطع قصيرة من إنشاء التلامذة أنفسهم في مواضيع يرشدهم إليها معلموهم تدريبًا لهم على التفكير والكتابة. 5 - هذه السنة مرحلة أولى، والمرحلة الأولى دائمًا شاقة، ويخفّف من مشقّتها تنظيم العمل وتوسيع الأمل. وهي سنة ابتداء- والابتداء لا يخلو من نقص وخلل- والعذر قائم. والعمل على التكميل متواصل. 6 - هذا واجب جمعية العلماء، أدّته بحسب ما وسعه جهدها وستؤدّيه كاملًا بتعديد الفروع وتكثير الطلاب وترقية التعليم. وهذه بعض أعمالها في خدمة العلم والدين والعربية. وبقي واجب الأمّة وهو بذل المال لصندوق التعليم، وقد عوّدتنا أن تجود بإخلاص وتبذل عن بصيرة، وعوّدناها أن نأخذ بحساب ونعطي بحساب. وما نحن وهي إلا شركاء في واجب محتّم للدين وهو دين الجميع- وحق مؤكّد للعلم والعربية وهما فخر الجميع- علينا العمل والتعليم، والإرشاد والتنظيم، وعليها الإمداد بالمال وبذلك يؤدّي كل واحد منا قسطه من هذا الواجب. ويلتقي الجميع إن شاء الله في ما عند الله من أجر، وفيما عند الناس من محمدة وذكر. وفيما يسجّله التاريخ من مجد وفخر. 7 - إذا تمّ هذا التعاون على ما نريد ونرجو فسيقدّم المعهد لجامع الزيتونة في أول كل سنة عددًا ممتازًا من أبناء الجزائر، تفخر بهم الزيتونة قبل الجزائر. 8 - المدرّسون أكفاء بارعون، والإدارة رشيدة، والدروس حيّة مفيدة، والمراقبة على الأخلاق- وهي رأس المال- شديدة، والخطوات- إن شاء الله- موفّقة سديدة، والعزائم على تعليم أبناء الأمة مشدودة، والنيّات ببلوغ الآمال معقودة. والله المستعان.

جريدة (العلم) الخفاق أو (العلم) الشامخ

جريدة (العَلَم) الخفاق أو (العلم) الشامخ* لكلم (العَلَم) في لغة العرب معان أشهرها في الاستعمال القديم الجبل، وأشهرها في الاستعمال الحديث: الراية، وزميلتنا العلم جديدة، وصاحبها الفاضل مجدد. فلا شك أنه يعني باسمها المعنى الثاني الذي أصبح رمزًا للمجد وشارة للاستقلال وشيئًا من كرائم الشعوب التي يقول فيها شوقي: هَذِي كَرَائِمُ أَشْيَاءِ الشُّعُوبِ فَإِنْ … مَاتَتْ فَكُلُّ وُجُودٍ يُشْبِهُ العَدَمَا بل قد كان لها بعض ذلك في قديم العرب من يوم سمّاها الشاعر (خرق الملوك) إلى يوم عقدت أول راية في الإسلام. إن الأسماء إذا ذُكرت استحضر الذهن مسمياتها وخصائصها الذاتية والعرضية ولوازمها القريبة والبعيدة، وانتزع- في مثل إيماضة البرق- من بين تلك الخصائص أقواها وأسماها وأبرزها وأبقاها. وصحيفة (العلم) تحمل من معنى اللفظ أجمل الخصائص وأقرب اللوازم. فهي شامخة كالجبل تبعث الروعة والقوّة والإعجاب، خافقة كالراية ترمز إلى الوحدة وتوحي بالمجد وتشعر بالحرية. لم تلق صحيفة من صحف المملكة المغربية ما لقيته جريدة (العلم) من عنت الرقابة حتى ليوشك أن يغلب الأبيض فيها على الأسود. ولكن قارئها يستجلي في بياضها من معاني الاعتبار أبلغ مما يفهم في سوادها من معاني المقالات والأخبار. سلخت الزميلة سنة من حياتها فأصدرت عددًا خاصًا عامرًا بالمفيد، مسجّلًا للمرحلة الأولى من السفر البعيد، ولليوم الأول من العمر المديد، ونحن نعلن إعجابنا بثبات الزميلة

_ * "البصائر"، العدد 8، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 26 سبتمبر 1947م. (بدون إمضاء).

وتقديرنا للجهود التي يبذلها صاحبها القباج، ونتمنى له ولها كل ما نتمناه لرجالنا العاملين من صبر على المقاومة، ولصحافتنا الصادقة من استمرار على الكفاح. لا نطري الزميلة ذلك الإطراء المقلّد، بل نقول فيها ما هي أهله، وما أحق صحافتنا العربية بهذا الشمال، وهي متوافية على قصد واحد من خدمة الأمّة أن تتوافى على منهج واحد في التحسين والتهجين، وعلى أسلوب متقارب من البيان والتبيين، وأن تقتصد في التحلية والتلقيب، فإن كثرة الحلى والألقاب تدلية بغرور وتلهية بفراغ. وما أحوجنا إلى تضامن صحفي بهذا الشمال يدفع الضيم، ويمكن الأخوّة ثم يصفّي اللغة ويقوّي الأساليب، ثم يوسّع المادة ويرقّي المواضيع، ثم يكتسح اللغو ويعَرّي التقليد. وإنّا للحديث عن ذلك التضامن لعائدون.

عزاء للأستاذ التبسي

عزاء للأستاذ التبسي* ترفع "البصائر" إلى الأستاذ الشيخ العربي التبسي، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أحرّ التعازي على مصيبته بفقد أخيه الشاب البشير فرحات، وتتمنّى أن تكون هذه المصيبة خاتمة المحن التي شغلت بال الأستاذ مدة تقرب من السنة، وعاقته عن القيام بأعمال جليلة، كان يقدّمها لجمعيته وأمّته. وقد عزاه بالحضور إلى تبسة في اليوم الثالث لموت الفقيد وفد عظيم يمثّل الجمعيات والهيئات، فعن جمعية العلماء رئيسها، وعن معهد عبد الحميد بن باديس وفد من مدرّسيه ورجاله، وعن جمعية التربية والتعليم رئيسها وبعض أعضائها، وعن هيئة التعليم العامة بعض كبار المعلمين، وعن قسنطينة بعض أعيانها، وتوالت وفود التعزية من جميع نواحي العمالة القسنطينية. ويقول الملازمون للأستاذ التبسي من تلامذته والحاضرون لجميع الاقتبالات والأحاديث من خلصائه المقرّبين: إن أحاديث الأستاذ مع الوفود كانت أحاديث المؤمن القوي، الواثق بالله، الراضي بقضاء الله وكانت أحاديث معز لا معزى. وإن أحاديثه في الدين والاجتماع كانت كدأبه إذا تكلّم في الدين، تجلية حقائق، في نصوع بيان، وإن حديثه في السياسة إذا انجرَّ الحديث إليها كان كله حملات على الاستعمار ومكائده، وإنه لا يرجى منه خير، وإن حديثه عن السياسيين والنوّاب، كان حديث المحايد الحرّ الذي لا يتحيّز لفريق دون فريق، ولا يرضى لنفسه ولمقامه أن يكون بوق دعاية لمبدإ دون مبدإ، لأن مبدأه أسمى منها جميعًا، وكان حديث العالم الذي يزن الرجال بأعمالهم، وحيث لا أعمال فلا رجال، ويزن الأحزاب بوضوح مباديها، وحيث لا وضوح في المبادئ فلا أحزاب.

_ * "البصائر"، العدد 10، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 13 أكتوبر 1947م. (بدون إمضاء).

هذه خلاصة الأحاديث، وهؤلاء رواتها- وهي بعد وقبل- أحاديث مجالس تتناوبها الألسنة، ويقطعها الانتقال، وتقتضيها المبادهات، ويبتدئها متكلم فيكملها سامع، ووحدة المتكلم شرط في الكلام، وليست تصريحات يتهيّأ لها الفكر، ويوزن لها الكلام، ويشترط فيها التسلسل. وبعد، فإن أضلّ الناس كيدًا من يمدح الأستاذ التبسي فلا يزيد في مدحه على أنه إِمَّعة في الرأي، وأضلّ منه سعيًا من يكون له في المشهد حامدًا، وفي الغيب كائدًا ...

ذكرى الأمير شكيب أرسلان* الأستاذ محمد علي الطاهر، أخ نعتزّ بأخوّته ومجاهد نعترف بجهاده وصدق بلائه، لا في سبيل فلسطين المظلومة فقط- التي عرف بها وعرفت به ووقف قلمه ولسانه ومواهبه على نصرها في محنتها من يوم طرقها البلاء إلى الآن- بل في قضية العروبة أينما وجد أبناؤها، وجريدته الشورى كانت آية الجهاد، وميدان فوارس الطراد، وقد كان من عجيب صنع الله في تجلية إخلاص المخلصين، أن ينال الجريدة المجاهدة في فلسطين، ما نال فلسطين من الظلم والحيف، وإن كان ظلم القريب أنكى على الحر من ظلم الغريب. وصلتنا من ذلك الأخ المجاهد رسالة تطفح سرورًا بالبصائر وعودتها إلى الظهور. وبما سنى الله لرجال جمعية العلماء من السلامة من الأيدي الظالمة وللجمعية من السير والتقدم في الظروف المظلمة. وتفيض أسى لما يعانيه مغربنا العربي من ويلات الاستعمار وكل ما في الرسالة يدلّ على أن قلب الأخ الأستاذ معلّق بهذا الشمال. وما زال الشمال مستقرّ القلوب. وأرسل لنا الأستاذ الطاهر مع الرسالة نسختين من كتابه (ذكرى الأمير شكيب أرسلان) هدية، خصّص إحدى النسختين بنا والأخرى أمانة أبلغناها إلى مأمنها، والكتاب جزء حافل جمع فيه الأستاذ دموع الباكين على صديقه وأستاذه في الجهاد الأمير شكيب أرسلان، وحسرات المتفجعين على مصاب العروبة والإسلام لفقده. وما أكثر الباكين على الأمير شكيب وما أكثر المتحسرين. وإننا نعتقد أن ما جمعه الأستاذ الطاهر من المراثي والتحليلات هو ما وصلت إليه يده مما نُشر في الصحف، وان ما لم يصل إليه من ذلك شيء كثير. قرأنا الكتاب فلم نعجب لوفاء الرجل لصديقه ورفيقه أكثر مما عجبنا لصبره على جمع هذه الأشتات. في وقت تقطعت فيه الصلات وتباعدت الأقطار. وهمته في إخراجه في هذه

_ * "البصائر"، العدد 13، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 15 نوفمبر 1947م. (بدون إمضاء).

الظروف العابسة الشحيحة، لم نعجب لوفاء الرجل لصديقه لأن العلاقة بينهما في الحياة كانت وثيقة العرى لم يتخلّلها فتور. وكانت مساندة في الجهاد تسمو عن الأغراض والأهواء. وعلاقة هذا شأنها في الحياة لا يزيدها الموت إلا متانة واستمساكًا، خصوصًا إذا كان لها من صفاء الجوهر النفسي ظهير، وإن حظ الأستاذ الطاهر من ذلك الصفاء لكبير. نشكر للأستاذ هديته ونرجو أن تسامحه الأيام في كتابة تاريخ الأمير بقلمه، وتحقّق وعده لأبناء العروبة بقضاء دَيْن في أعناقهم لأميرهم، ومثله من يضطلع بذلك.

ديكتاتور (مايو)

ديكتاتور (مايو) * هو متصرف حوز "مايو" (1) الممتزج له مع مدرسة "تيغيلت" من قرى بني منصور صولات من الباطل وأنواع من الظلم والتعدي والخروج عن القانون بلغ فيه إلى نفي المعلّم بالمدرسة من حوز مايو. كأن حوز مايو مملكة لهذا الديكتاتور يحكم فيها بأمره، وكل من يدخلها فهو أجنبي عنها ولو كان من عمالة قسنطينة كالشيخ محمد الطاهر التاملوكي. قد رفعنا أمر هذا الديكتاتور باسم جمعية العلماء مرة ثانية إلى رؤسائه عسى أن يوقفوه عند حدّه. أما نحن فسنشرح معاملاته الطاغية لمدرسة بني منصور مدة عامين، وظلمه لجمعيتها ومعلمها وجزهم إلى المحاكمات بتهم باطلة. وسنفضح عداوته للتعليم العربي ولحركة الإصلاح الديني وتدخّله فيما لا يعنيه من ذلك. ونقيم منه الدليل على أن من أمثاله من الموظفين من هو بلاء على الأمّة والقانون قبل أن يكون بلاء على الأمّة. أما ذلك المرابط، الطالع الهابط، فنحن له مرابطون، فليرتقب إنا مرتقبون ...

_ * "البصائر"، العدد 22، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 9 فيفري 1948م. (بدون إمضاء). 1) "مايُو" اسم فرنسي لبلدة كانت تُسَمَّى "مشدالة"، وإليها ينسب العلَّامة أبو الفضل المشدالي. وقد أعيد إليها اسها بعد استعادة الاستقلال.

مبارك الميلي

مبارك الميلي* حياة كلها جدّ وعمل، وحي كله فكر وعلم، وعمر كله درس وتحصيل، وشباب كله تلقّ واستفادة، وكهولة كلها إنتاج وإفادة، ونفس كلها ضمير وواجب، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كله رأي وبصيرة، وبصيرة كلها نور وإشراق، ومجموعة خلال سديدة، وأعمال مفيدة. قلّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيّأت لصاحبها مكانه من قيادة الجيل، ومهّدت له مقعده من زعامة النهضة. ذلكم مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين ففقدت بفقده مؤرّخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافل الإصلاحية ففقدت منه عالمًا بالسلفية الحقة عاملًا بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنّة واسع الاطلاع على النصوص والفهوم، دقيق الفهم لها والتمييز بينها والتطبيق لكلياتها. وفقدته دواوين الكتابة ففقدت كاتبًا فحل الأسلوب جزل العبارة لبقًا بتوزيع الألفاظ على المعاني، طبقة ممتازة في دقة التصوير والإحاطة بالأطراف وضبط الموضوع والملك لعنانه. وفقدته مجالس النظر والرأي ففقدت مدرهًا لا يبارى في سوق الحجة وحضور البديهة وسداد الرمية والصلابة في الحق والوقوف عند حدوده. وفقدته جمعية العلماء ففقدت ركنًا باذخًا من أركانها لا كلًا ولا وكلًا، بل نهاضًا بالعبء مضطلعًا بما حمل من واجب، لا تؤتى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سده ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه. وفقدت بفقده علمًا كانت تَسْتَضِيءُ برأيه في المشكلات فلا يرى الرأي في معضلة إلا جاء مثل فلق الصبح. تشوب هذه الذكريات التي نقيمها لرجالنا في هذا العهد شائبة نقص، إلّا تحسب علينا في باب فساد الذوق تعد من سوء الصنيع، وهي أن المتكلمين فيها والكاتبين يقيمون منها

_ * "البصائر"، العدد 26، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 8 مارس 1948م.

مناحة مأتم، فيتفجعون للمصيبة، ويبكون على الفقيد ولو غبرت عليه السنون، ويثيرون أشجان السامعين بتهويل المصيبة فيه، وتجد الشعريات سبيلًا إلى ألسنتهم وأقلامهم ومنفذًا إلى نفوسهم وعواطفهم فتفسد على الحكمة أمرها. وكل فجيعة لم يمسحها السلو، تحكم فيها الغلو، لأن السلو يفرغ المجال للاتعاظ والتأمل، والغلو يفتح الباب للانتحال والتعمل. ولا أكذّب الواقع فأنا أجد في نفسي هذا الميل كلما قمت متكلمًا في حفل من هذه الذكريات، وأجدني في حالة من التأثّر أتمثل فيها الفجيعة حاضرة فأقول في البكاء والاستبكاء أكثر مما أقول في التأسي والاعتبار. وإني أتخيّل أن منشأ ذلك في نفسي حالة واقعية وهي الفراغ الذي يتركه في الصفوف كل راحل من رجالنا وأن كل من خلا موضعه في الميدان منهم عزّ عنه العوض. ولو كنا من قوم القائل: (إذا مات منا سيد قام سيد) لكانت حالتنا النفسية غير ما هي. والجانب المفيد في هذه الذكريات أن تكون درسًا لخصائص الرجال، وتجلية لمناشئ ذلك فيهم، ووضعًا للأيدي على الذخائر الخلقية المودعة في نفوسهم الكبيرة وإعلانًا للميزات العالية التي كانوا بها رجالًا، وإذاعة لما يجهله الناس أو يغلطون فيه من موازين الرجولة أو يبخسونه من قيمها، كل ذلك بتصوير يبيّن موقع التأسي ويسوق إليه ويحمل عليه. وجوانب العظمة في حياة أخينا مبارك كثيرة، ومآخذ العظات والأسى من تلك الحياة أكثر. ولعل الكاتبين لسيرته والدارسين لحياته اليوم أو غدًا يستوفون البحث في نواحي تلك العظمة ويستخرجون تلك العظات يدلون بها قوافل شبابنا المغذة في صحراء الحياة على خضرائها، وينصبون منها أعلامًا هادية للضُّلَّال، ومنارات مرشدة للآتي من الأجيال. وأنا سائق لناشئتنا العلمية من حياة هذا الرجل عظة واحدة وقائل فيها ما تحتمله كلمة قصيرة في صحيفة صغيرة: تلك العظة هي طريقته في تحصيل العلم ووسيلته إلى تلك الدرجة التي وصل إليها في اتقان التحصيل وسعة الاطلاع وانفساح الذرع وإحسان الاستثمار. فالرجل تلقّى التعليم البدائي في "ميلة" والمتوسط في قسنطينة والنهائي في الزيتونة. وليس في هذه المراحل ما يفوق به القرين أقرانه. فكثير من المحصلين بيننا سلكوا هذا السبيل: البداية في الوطن، والنهاية في الزيتونة، وقليل من يبعد النجعة إلى الأزهر، هذا هو الشأن. إن أبعدنا فمنذ خراب أمصار العلم كتلمسان وبجاية، وإن قربنا فمن رحلة أسرة الشيخ المختار الشوثري العياضي إلى هجرة قريبنا الشيخ سعد قطوش السطيفي في العقد الثالث من هذا القرن الهجري.

شارك مبارك أقرانه وشاركه السابقون له في الطلب واللاحقون في كل شيء، شاركهم في البداية والنهاية وفيما بينهما، وشاركهم في الأساتذة والكتب والمدّة والشروط. ولم ينفرد دونهم بذكاء مفرط خارق للمعتاد المألوف، وإن كان حظه من الذكاء موفورًا، ولا بقريحة شفافه تنكشف لها المحجبات ويعد فيها واحد الآحاد، وإن كان نصيبه من استنارة القريحة نصيبًا مذكورًا. ولا بحافظة واعية تصطاد كل ما تسمع، كما يؤثر عن حفاظ اللغة والحديث والشعر والأنساب، وإن كانت حافظته فوق المستوى العادي. فما الذي بلغ به ما بلغ من الشفوف على أقرانه في كثير مما لا يسمّى العالم عالمًا إلا به؟ إن الذي بلغ به تلك المكانة من العلم أربعة أشياء ما اجتمعت في طالب علم إلا رفعته بالعلم إلى تلك المنزلة: استعداد قوي، وهمّة بعيدة، ونفس كبيرة، وانقطاع عن الشواغل الفكرية والجسمية يصل إلى حدّ التبتل. وهذه الأخيرة- لعمري- هي بيت القصيد. يشهد كل من عرف مباركًا وذاكره أو ناظره أو سأله في شيء مما يتذاكر فيه الناس أو يتناظرون أو يسأل فيه جاهله عالمه، أو جاذبه الحديث في أحوال الأمم ووقائع التاريخ وعوارض الاجتماع أنه يخاطب منه عالمًا أي عالم، وأنه يناظر منه فحل عراك وجدل حكاك، وأنه يساجل منه بحرًا لا تخاض لجّته وحبرًا لا تدحض حجّته، وأنه يرجع منه إلى عقل متين ورأي رصين ودليل لا يضلّ ومنطق لا يختل، وقريحة خصبة وذهن صيود وطبع مشبوب وألمعية كشافة. هكذا عرفنا مباركًا وبهذا شهدنا، وهكذا عرفه من يوثق بمعرفتهم ويرتاح إلى إنصافهم ويطمأن إلى شهادتهم، لا نختلف في هذا وإنما نختلف في مردّ ذلك إلى أسبابه وأبوابه. فيقول الخليون الفارغون: "إنها مواهب وحظوظ". ويقول المسدّدون المقاربون: "إنه استعداد أعانه الدرس وقوته القراءة" ويقول المعللون الباحثون -ونحن منهم-: "إن كل ما شاهدناه في أخينا مبارك وشهدنا به هو نتيجة لأسباب مترتبة في نفسها وفي نفسه وهي استعداده للعلم وإيمانه به واعتقاده لشرفه ومنزلته واجتهاده في تلقّيه وانقطاعه لتحصيله وإخلاصه في طلبه وحبس الدقائق والأنفاس عليه وحده حتى ما يضاره بشاغل ولا يزاحمه بعائق ثم صرف الهمة كلها إلى الاستزادة منه بالمطالعة والقراءة". هذه هي الأسباب التي كوّنت لنا من مبارك الميلي عالمًا مستكمل الأدوات يملأ معناه لفظه. وهي أسباب- كما نرى- كسبية يستطيع كل طالب للعلم أن يقلّل منها فيقل أو يكثر منها فيعظم ويجل. وإنما يتفاوتون بالطبيعة في شيئين: الاستعداد وبُعد الهمّة، وإن الثاني منهما أصل لجميع ما ذكرنا. وكأين من طالب قوي الاستعداد ميسّر الأسباب ولكنه بارد الهمّة ضعيف الإرادة فلا يعود عليه استعداده بغناء.

ليس في هذه الأجيال التي أظلّها زمننا إلا عصابة معدودة اتفق لها ما اتفق لأخينا مبارك من أسباب النبوغ في العلم والتمكن من التحصيل، وإن لم يتفق لجميعهم ما اتفق له من الشهرة وذيوع الإسم لأن للشهرة أسبابًا أخرى منها العمل والإفادة والإنتاج والتضحية والصدوف عن قيود الوظائف والانغماس في المجتمع لخدمته ونفعه. ونحن نعرف هذه العصابة العصامية ونعرف مبلغها من العلم وحظها من العمل. ومنهم المقصر فيه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق. وبها نقيم الحجّة على شبابنا الذي نعدّه للميراث والاستخلاف، والذي فتنته الفتن وألهته الملهيات عن التحصيل للعلم. وبهم نضرب الأمثال ليذكر الغافل وينشط الخامل. وإن في سير الكاملين لذكرى للمقصّرين والخاملين.

نداء إلى الشعب

نداء إلى الشعب* إذا أصيبت الأمّة بكارثة من كوارث الزمان ووجد فيها من يتألم لتلك الكارثة ويهتز لها فذلك دليل قوي على حيوية الأمّة ورشدها ومقياس صحيح لتقدّمها ونهوضها. وهي بذلك تقيم، لأصدقائها وخصومها، البراهين القاطعة على أنها خليقة بحرّيتها، جديرة بأن تتبوّأ مكانتها بين الأمم الحزة. أما إذا كانت الأمّة غافلة عن واجبها نحو المجموع لا يفكّر أفرادها إلا فيما حولهم ولا تنظر جماعاتها إلا إلى محيطها الخاص، فهي أمّة غبية ليست خليقة بالاحترام ولا جديرة بما تصبو إليه من حرية. نقول هذا بمناسبة الكارثة العظمى التي حلّت بساحة "الشريعة" ونواحيها من أحواز "تبسّة". ففي ليلة 28 من شهر فيفري، دهمت سكان تلك الجهة سيول جارفة وحملت عليهم الأودية الهائلة من كل صوب، فلم تترك شيئًا من الأبنية والعباد والفلاحة والحيوانات والأقوات إلا أتت عليه وتركت أراضيهم وعمارتهم قاعًا صفصفًا. وقد قُدّرت الخسائر المالية بعشرات الملايين، أما الضحايا من الأنفس البشرية فإنها تزيد على المائة. وما زالت عمليات الاكتشاف مستمرة، وأما الأفراد الذين بقوا بلا مأوى ولا قوت فعددهم يزيد على الألف. فواجب الأمّة أن تهتز لهذا الحادث وتتكثل حوله وتعيره جانبًا كبيرًا من الأهمية فتسرع بتشكيل لجان، وفتح اكتتابات في أهم مدن القطر وقراه لإسعاف من نكبوا بهذه الكارثة الجسيمة وتخفيف الوطأة عنهم، وذلك من أول مظاهر وجود الأمّة.

_ * "البصائر"، العدد 28، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 22 مارس 1948م. (بدون إمضاء).

وفي طليعة من نوجّه إليهم هذه الصرخة، شُعَب جمعية العلماء في جميع أنحاء القطر لأنهم الممثلون لجمعية العلماء وهي الهيئة الوحيدة التي تعبّر عن شعور الأمّة تعبيرًا صحيحًا وتحسّ بآلامها وتعمل على تحقيق رغائبها قبل كل هيئة. وهي التي ما وُجدت إلا لتضمّد جراح الأمّة وتداوي كلومها وتقودها إلى المستوى الذي يشرّفها ويليق بكرامتها. وقد شاهدنا أمثال هذه الكوارث إذا نزلت بالأمم الراقية كيف تتكتّل الشعوب والحكومات حولها. شاهدنا الزلازل التي حلّت بتركيا وإيطاليا وشاهدنا حوادث الطوفان الذي دهم فرنسا في وقت من الأوقات كيف تكتّلت حكوماتهم وشعوبهم حولها وقاموا وقعدوا من أجلها وملأوا الدنيا صراخًا وعويلًا وشاهدناهم لا يكتفون بجهود حكوماتهم وشعوبهم بل يستعطفون الحكومات والشعوب النائية. أما نحن الجزائريين فأصواتنا مكبوتة وحرّيتنا مصفدة فلا نعوّل إلا على أنفسنا ولا نستنجد في مثل هذه الكوارث إلا بأمّتنا، فهي- وحدها- عليها الاتكال ومنها المعونة. وواجبنا في مثل هذه المواقف أن نضرب المثل الأعلى للإحساس المشترك والشعور الإنساني والقيام بما يقتضيه منا الواجب الديني والوطني، وبذلك نضرب الرقم القياسي للأجيال الآتية بأننا أناس نشعر بالمسؤولية ونتحمل أعباءها مهما عظمت. وبهذا نحمل الخصوم والأصدقاء على احترامنا والإعجاب بنا. أيتها الأمّة الكريمة، إن إسعاف هؤلاء المنكوبين أمر أكيد يقتضيه منا الدين وحقوق المواطن على مواطنه فلا يليق بأمّة تحترم نفسها وتحرص على أن يحترمها غيرها أن تغض الطرف عن قيامها بالواجب في مثل هذه المآسي التي يلين لها الجماد. وما دمت، أيتها الأمّة مؤمنة بالقرآن الكريم فتذكّري قول الله تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} و {مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}. وما دمت تؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فتذكري قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وقوله: «مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وقوله: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ».

أيتها الأمّة الكريمة إنك إذا قمت بواجبك في أمثال هذه المآسي تكونين قد أرضيت الله ورسوله وحملت خصومك على احترامك وبرهنت على أنك جديرة بما تطمحين إليه من عزّة وسيادة. وفي الختام، أرجوك أن تسنّي هذه السنّة الحسنة، فإن «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». هذا وقد افتتحت جمعية العلماء هذا الاكتتاب بإعانة قدرها 10000 فرنك.

بلاغ إلى الأمة العربية الجزائرية

بلاغ إلى الأمّة العربية الجزائرية* (من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين) ــــــــــــــــــــــــــــــ إن الدستور الذي وضعته الحكومة الفرنسية للجزائر ووافق عليه برلمانها في أكتوبر 1947 هو دستور ناقص من جميع جهاته لم يحقق رغبة واحدة من الرغائب الوطنية للجزائر. وآفته أنه فرض عليها فرضًا، ولم يُؤخذ رأيها فيه. والدستور النافع هو الذي يكون للأمة رأي في وضعه، واختيار لمنهاجه، ويد في تشريعه ويكون ناشئًا عن رغائبها ليكون محقّقًا لرغائبها. ولتلك الآفة لم يرضه حزب من أحزاب الأمّة ولا نائب من نوّابها على اختلاف مشاربهم الحزبية وعلى تفاوت حظوظهم في الوطنية، بل قابله جميعهم بالاستنكار. والمجلس الجزائري الذي ينفّذ ذلك الدستور هو مجلس ناقص أيضًا من جهات كثيرة، بعضها في أصل وضعه كعدم اعتبار النسبة العددية في السكان، وبعضها في وسائل تشكيله كاستبداد الحكومة بتخطيط الدوائر الانتخابية، وتدخّلها في توجيه الانتخاب إلى جهاتها وضغطها على حرية المنتخبين كما عهدناه منها فيما هو أقل من هذا الانتخاب قيمة وأحط منه اعتبارًا. ومع تلك النقائص كلها فإن مصلحة الأمّة الحقيقية توجب عليها أن تجاري الظروف وأن تستغل ما في هذا الدستور من خير ولو كان كقطرة من بحر. وجمعية العلماء التي هي جمعية الأمّة كلها تفرض عليها حقيقتها ووضعيتها أن تكون فوق الطوائف والأحزاب لتكون حكمًا بينهم إذا اختلفوا على مصلحة، وهي لا تستمد حكمها إلا من منطق الواقع والحكمة والمصلحة العامة والنظر البعيد. وعليه، فهي تتقدّم إلى الأمّة العربية الجزائرية بأحزابها وهيئاتها وأفرادها بالحقائق الآتية:

_ * "البصائر"، العدد 29، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 29 مارس 1948م.

أولًا: إن اختلاف الأحزاب، وما جرّه الخلاف من سباب، وما جرّه السباب من أحقاد، وما جرّته الأحقاد من تضييع للمصلحة، كل ذلك استنكرته الجمعية بالاعتقاد، وأنكرته بالقول الصريح، وسعت في إزالته بالعمل الجدّي، لأنها تعلم أن عواقبه وخيمة، وأن أدنى عواقبه تمزيق الشمل وإضعاف القوّة: وأنه- أولًا وأخيرًا- ليس من مصلحة الوطن والأمّة، وإنما هو من مصلحة خصوم الوطن وأعداء الأمّة. وقد قامت الجمعية في أوقات ومناسبات شتّى بمساع جدّية صريحة للتقريب بين الأحزاب وإقرار روح الأخوّة والتسامح في النفوس لتصل من ذلك إلى اتحاد متين يوجّه الجهود والكفاءات إلى خدمة المصالح الحقيقية للوطن. وآخر جهودها ما قامت به في هذه الأسابيع الأخيرة المتصلة بكتابة هذه السطور ... وهي- وإن لم تصل إلى غايتها من جمع الكلمة- لم تيأس من ذلك ولم تفشل وما زالت تفترص الفرص لتجديد السعي في جمع الكلمة على الحق وتوحيد الأحزاب على المصلحة العامة للوطن. وهي تعتقد أن الاتحاد الذي تنشده الأمّة وتعلّق آمالها على جمعية العلماء في تحقيقه إذا لم يتم اليوم فسيتمّ غدًا. والجمعية تعلن أنه ليس من مصلحة الأمّة ولا من مصلحة الأحزاب ولا من مقتضيات الذوق أن تشرح مساعيها للاتحاد في هذه الظروف. ثانيًا: يجب على الهيئات الداعية للانتخابات باسم الحزبية أن تجرّد دعايتها من السب والقدح وجرح العواطف وإثارة الأحقاد، وأن تبني تلك الدعاية على أشرف ما تُبنى عليه الدعايات في الأمم الحيّة وهو المبادئ والبرامج ووسائل تحقيقها. وعلى القادة والمترشحين أن لا يقولوا ولا يعملوا إلا ما يبقي على الأخوّة ويعين في المستقبل على جمع الكلمة، وعلى عقلاء الأمّة أن يلزموا أولئك الدعاة عند حدود الاعتدال، ويفهموهم أن في مكافحة الاستعمار ما يستنفد أقوال القائلين وأعمال العاملين. وليعلموا جميعًا أن هذه النقطة من أسس تربية الأمّة تربية رشيدة. ثالثًا: يجب على الأحزاب التي تجعل رائدها مصلحة الوطن العليا أن تجري في الدورة الثانية على قاعدة متبادلة وهي أن تسلم الأقلية منهم للأكثرية وأن تعاونها على الفوز لكي يسدوا الطريق في وجه الحكوميين والانتفاعيين الذين لا يمثّلون إلا أنفسهم. رابعًا: يجب على الناخبين أن يقدّروا هذه الانتخابات حق قدرها، وأن لا يستخفوا بها، ولا يقاطعوها، وأن لا يتخلف أحد عن الانتخاب، وأن لا يتأثّر بتهديد الإدارة وتخويفها وليعلم أن إعطاء ورقته شهادة للوطن أو عليه. فليعرف أين يضع ورقته ولمن يعطي شهادته. وأن المقاطعة وإعطاء الورقة لغير الرجال العاملين هو تضييع لحقوق الوطن يعود عليه بأشأم العواقب.

خامسًا: يجب على الأمّة أن تميز بين أصحاب المبادئ وأصحاب الأغراض والمنافع الشخصية، وأن تفرّق بين من يقدّمه حزب أو جماعة من الأمّة وبين من يقدّم نفسه. والواجب عليها بعد أن تميّز هؤلاء من هؤلاء أن تعطي أصواتها لأصحاب المبادئ، وتنبذ الفريق المستغل المستعمر المفتون بكراسي النيابة لا ليخدم الأمّة بل ليخدم نفسه. وقد جرّبت الأمّة هذا النوع من النواب، ولا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين. وأن أخزى الرجال رجل يتوصل إلى النيابة عن الأمّة بوسائل سخيفة وأوراق مسروقة وحريات مغصوبة. سادسًا: يجب على الأمّة أن تحذر كل الحذر من المرشّحين المستقلّين، فإن هذا الوصف خداع يلوذ به كل حكومي وينتحله كل انتفاعي ولا يصدق منه إلا القليل وإذا وجد من هذا القليل مترشح فأهل دائرته أعلم به: فليستوثقوا منه ومن صلاحيته وخدمته للمصلحة الوطنية .. أيتها الأمّة! إننا نعرف الإدارة الجزائرية الاستعمارية. ونعرف أنها لم تغيّر شيئًا من عاداتها القديمة. ونعلم أنها تجهد جهدها لتقيم من هذا الانتخاب دليلًا على أن نوّاب الجزائر لا يطلبون لها إلا الخبز والثياب، وأن هذا هو كل ما تطلبه الأمّة الجزائرية وكل ما تستحقه. فَكَذِّبي هذا الدليل بدليل يدحضه بحسن اختيارك للرجال ذوي المبادئ المطالبين بحقوقك السياسية المثبتين لاستحقاقك الحرية الكاملة التي ترفعك إلى المكانة العالية بين الأمم الحية. عن المجلس الإداري الرَّئِيسُ: محمد البشير الإبراهيمي

الأستاذ محمد بن العربي العلوي

الأستاذ محمد بن العربي العلوي* تاريخ الرجال علم برع فيه مؤرخو الإسلام، وتفننوا في تقسيمه وتفريعه. ولا نظن أن أمّة من أمم العلم والحضارة كتبت جزءًا يسيرًا مما كتب علماء الإسلام في تاريخ رجاله وطبقاتهم. وقد خمدت تلك الشعلة من عهد السخاوي والسيوطي وأضرابهما في الشرق ومن عهد أقرب منه وهو عهد ابن القاضي في المغرب. ومرّت هذه القرون ورجالها أغفالًا لم توسم بتعريف. ولعل هذه النهضة تحيي- فيما أحيت من الرسوم الدائرة- هذا النوع الجليل من تاريخ الرجال. والأستاذ الأكبر الشيخ محمد العربي العلوي، إمام سلفي وعالم مستقل واجتماعي جامع. وهو- في نظرنا- أحق برتبة الإمامة من كثير ممن خلع عليهم المؤرخون هذا اللقب. ونحن في أخص الصفات التي تربطنا به وهي السلفية والإصلاح نجاوز درجة الإعجاب به إلى الفخر والتعاظم. وهذه مقالة للأستاذ علال تكشف عن بعض نواحي عظمة هذا الإمام. ولعل الأقدار تقيض من يكتب له ترجمة حافلة تكشف عن مواقع الأسوة بذلك الرجل خصوصًا في سلفيته وجراءته في تلك السلفية، وهي نقطة التلاقي الحقيقية بينه وبين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ولو أن هذه النهضة وصلت في أطوارها إلى كتابة معلمة لرجالها لكان من تمامها أن لا يكتب ترجمة ابن العربي إلا علال. وهذه مقالته نقلًا عن جريدة "الإخوان المسلمون".

_ * مقدّمة مقال نُشر بالجريدة للأستاذ علال الفاسي عنوانه "علم من أعلام النهضة الإسلامية"، "البصائر"، العدد 30، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 5 أفريل 1948م. (بدون إمضاء).

ذكرى عبد الحميد بن باديس الثامنة

ذكرى عبد الحميد بن باديس الثامنة وموقع معهد منها* ــــــــــــــــــــــــــــــ أظلتنا الذكرى الثامنة لموت فقيد العروبة والإسلام ومحييهما بهذا القطر عبد الحميد بن باديس، ونحن في بحر لجي من الفتن المحيطة بالعروبة والإسلام، نغالب تيارها، ونروّض بالعزيمة زخارها، ونقاوم بالإيمان والثبات إعصارها. وكأنها توافت على ميعاد لتمتحن وفاءنا للفقيد وتلهينا بأباطيلها عن القيام بحقه، وتحملنا بقسوتها على النسيان لفضله، فما وجدت إلا ما يشجيها بالغم، ويزجيها على الرغم. وقد كانت إقامة هذه الذكرى في السنين الماضية لا تعدو إثارة الشجون الراكدة وتعديد فضائل الفقيد وتهويل المصيبة فيه. فإن زادت فبتجلية مواقع الأسوة للشباب المتعلم من سيرته، ومع اتساع آفاق تلك السيرة وانفساح مجال القول فيها فقد أصبح الحديث عنها من المكرّر المعاد. أما ذكرى هذه السنة فإنها تمتاز بشيئين جديدين يحلو الحديث عنهما ولا يتطرق إلى سامعيه الملل، ويأتي المتحدث فيهما بالحكمة السائرة في هذا الباب وهي ذكر العظماء بأعمالهم، وحثّ الأمّة على تحقيق آمالهم. هذان الشيئان هما: عودة "البصائر" إلى الظهور وتأسيس معهد ابن باديس بقسنطينة. مات الفقيد في السادس عشر من أبريل سنة 1940 وفي نفسه حسرة من تعطيل "البصائر". وكان معتزًّا بها أيما اعتزاز. وكان في السنة الأخيرة لتعطيلها هو الروح المقوّم لها، فكان يغذيها بنفحات من روحه ونفثات من قلمه. وكان يعلّق آماله في ترقيتها على رفيقه كاتب هذه السطور، وكان الكاتب

_ * "البصائر"، العدد 32، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 19 أفريل 1948م.

لا يتسع وقته لذلك، لأن الهبّة التعليمية كانت في عنفوانها، ورغبة الأمّة في درس القرآن والحديث كانت متأججة مضطرمة، فكان الكاتب يرى أن من الإجرام تبريد تلك الفورة بالتقصير وإنفاق الوقت في غير التعليم. وكان- رحمه الله- يشتد عليّ في اللوم ويصمي بالتقصير في حق "البصائر"، فإذا زارني بتلمسان ورأى الدروس تنتظم الساعات وسمع درس التفسير بالليل ودرس الموطأ في الصباح الباكر ورأى إقبال الجماهير وتأثّرهم، ابتهج ابتهاج الظافر، ونسي "البصائر" والحديث عنها. واسترحت من لومه وعتابه. وأذكر أنه صادف في ليلة من تلك الليالي الزاهرة بحياته درسًا في دار الحديث من تلمسان في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، فقال لي- رحمه الله- بعد تمام الدرس ما معناه: (إن هذا الدرس وحده كاف لإحياء أمة مستعدة. ولقد زادني هذا الدرس إيمانًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: "لا تنقضي عجائبه". وإن ما سمعته منك في معنى اتخاذ البيوت قبلة هو ما حوم عليه علماء الاجتماع في مبدإ تكوين الوحدة الاجتماعية للأمم. وأين هداية التجارب من هداية كلام الله؟ ولوددت لو أن المسلمين كلهم يسمعون مثل هذه الدروس). فقلت ممازحًا له: و"البصائر" ... فقال لي: ما عليك بعد هذا الجهد أن لا تكتب في البصائر. ولو أن التلاميذ أوتوا حظًا من النشاط والتوفيق لما ضاعت هذه الدروس ولنشرت كما هي ففزنا بالحسنيين. فقلت له: عزائي عن هذا أن دروسك لم تكتب وقد شارفت ختم القرآن وأين هذا الوشل من ذلك البحر؟ وما قلت له هذا مجاملًا ولا متواضعًا. وما كان مبنى الأمر بيننا- ما عشنا- على الرياء والمجاملة: رحمه الله رحمه الله. فعودة "البصائر" إلى الظهور بهذه الديباجة وبهذا الأسلوب أمل من آمال الفقيد قد تحقّق، ودين له على جمعية العلماء وفت به في وقته. وما أرهق الدائن ولا مطل الغريم، ولو عاش- رحمه الله- لقرّ بهذا العمل عينا. فليكن هذا العمل هو زين هذه الذكرى وجمالها وشارتها الممتازة ووشيها الفني. ثم هات الحديث عن المعهد. إنه- والله- الغرة اللائحة في هذه الذكرى. فقد كان من آمال المرحوم أن تكوّن جمعية العلماء في الجزائر كلية- بالمعنى الحقيقي للفظ الكلية- وكان يرى أن هذه الكلية هي العلة الغائية لوجود جمعية العلماء وهي الثمرة للتعليم الذي تجهد فيه وتلاقي في سبيله العنت والنصب، وكنا معشر إخوانه نشاركه في الأمنية والعمل. والغاية من الكلية، وهي أن تخرّج للأمّة علماء اختصاصيين في فهم الدين على حقيقته، وفي فقه أسرار الشريعة مأخوذة من كتاب الله والصحيح من سنّة نبيّه، وفي طرائق الدعوة والإرشاد التي بُني عليها الإسلام، وفي الخطابة التي هي سلاح تلك الدعوة، وفي الأخلاق والآداب الإسلامية التي هي لباب الدين، وفي فقه أسرار اللسان العربي وآدابه، مع المشاركة في علوم الحياة التي هي سلاح العصر، بحيث يخرج المتخرّج منها كامل الأدوات.

وكان- رحمه الله- كثير التحدّث عن هذه الكلية، تصوّر له خواطره منها أكمل مثال، فتجيش تلك الخواطر حديثًا ممتعًا لذيذًا ننازعه إياه ونجاذبه حبله فنذكي خياله في التصوّر وبراعته في التصوير ونحدو آماله إلى التحقق، وكان كلما اجتمعت ثلة من إخوانه تشاركه في الأمنية والرأي يجري حديث الكلية ويقول لإخوانه: أنا أستكفيكم في كل أمر يتعلّق بالكلية إلا الاستعمار فأنا أكفيكموه فخلوا بيني وبينه. يقول ذلك إيمانًا بربّه، واعتدادًا بنفسه، واعتزازًا بدينه. وكان منقطع النظير في هذه الثلاثة. وقد اقترح على كاتب هذه السطور أن يضع برنامجًا جامعًا لدروس الكلية وكتبها ودرجاتها ومناهج التربية فيها وطرائق التعليم العالي، فقلت له: إن هذا شيء يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وقبله التمهيد ثم التشييد، فقال لي: إن البرنامج يذكي النشاط ويغري الهمم بالعمل. ففعلت. وجاء البرنامج حافلًا بالتدقيقات الفنية في التربية والاعتبارات العملية في التعليم، والكتب القيّمة للدراسة، ومعه تخطيط للكلية ومرافقها. فلما قرأه قال لي: كأني أرى بعيني ما خطّه قلمك حقيقة واقعة. وما ذلك على الأمّة الجزائرية الماجدة بعزيز. وما ذلك على رجالها المخلصين بكثير. مات الأستاذ الرَّئِيسُ والأمنية تختلج في نفسه وتعتلج مع خواطره. ولقد مات وعواصف الفتن تعصف، ومدافع الحرب تقصف، وأعضاء الجمعية مشتتون بسبب تلك الهزاهز التي تُذهل الخليل عن خليله. فلما تنفّس الخناق قليلًا رأت جمعية العلماء التى كان يعمل الفقيد لها وباسمها وهي الوارثة لمعنوياته والمؤتمنة على مبدإ الإصلاح المشترك، أن تتمّ أعماله وتُحقّق آماله، وأن تبرز الكلية من الخيال إلى الحقيقة، فوجدت أن ذلك- كما هو الواقع- يستلزم اجتياز مراحل متتابعة: توسيع التعليم العربي الابتدائي بتكثير مدارسه وتصحيح مناهجه وإعداد رجاله، وقد بلغت الجمعية من هذا في السَّنوات الأخيرة- رغمًا عن العراقيل- ما تُغبط عليه، وما لو اطلع عليه المرحوم من وراء حجاب الغيب لسرّه ولعدّه من الخوارق. ثم خطت إلى المرحلة الثانية خطوة بتأسيسها لمعهد قسنطينة في أواخر السنة الماضية. ولسنا نعدّ المعهد مدرسة ثانوية فضلًا عن كونه كلية لأننا نسمّي الأشياء بأسمائها ولا نزور فيها. ولأننا نعلم أن تفخيم مثل هذه الأشياء مزلقة إلى الكذب فيها والتزوير على الحقيقة بها، ومدعاة إلى غشّ الأمّة في أبنائها. وما وجد التفخيم إلا كان سببًا في الترخيم. والترخيم حذف ونقص. وإنما المعهد مدرسة دينية ابتدائية أرقى من مدارس البنين تهيّئ للتعليم الثانوي الذي يهيّئ للتعليم العالي. وما ربطناه بجامع الزيتونة إلا تمهيدًا لذلك، وإلّا تدريبًا لطلّابه من أوّل مرحلة على المناهج التي تفضي بهم إلى آخر مرحلة، حتى ينتقلوا من الأشبه إلى الأشبه، فلا تشتبه عليهم المسالك ولا يضلّ بهم الدليل، والنية معقودة- إذا يسّر الله الأسباب- على إحداث معهد في الجزائر وآخر في تلمسان تسهيلًا على الطلاب واستيعابًا لعددهم المتزايد.

وسنربط الجميع- على التدريج والاقتضاء والاستعداد- بالزيتونة والقرويين، بل ستكون هذه المعاهد إحدى وسائل التقريب بين الكليتين. فإننا نعتقد أن الزمن سائر بكليتينا إلى الإصلاح الذي يتطلبه الزمن والبلوغ من الإصلاح إلى أعلى ذروة، وسائر بهما حتمًا أو اختيارًا إلى توحيد المناهج والكتب. وسيكون آخر ما ينتهي إليه الإصلاح بطبيعته إلغاء التعليمين الابتدائي والثانوي من الكليتين وقصرهما على التعليم العالي للعلوم الإسلامية العربية - بالمعنى الواسع لهذه العلوم- وما تتطلّبه من علوم الحياة وإيكال ذينك التعليمين إلى مدارس في الآفاق موحّدة البرامج، موحّدة الإدارة والإشراف. فأَما كلية وتدرس الاجرومية فلا، ثم لا، ثم لا. إن كل واحد من اللفظين يتبرّأ من صاحبه وأخشى أن يتبرآ معًا منا لسوء ما تصرفنا فيهما. إن هذا النوع من المجازفة بالأسماء مما تساهلنا فيه فسهل علينا فصار لنا عادة فَعَمَّمنَاهُ فأصبح لنا سبة. ولو شئنا لضربنا الأمثال. وإن هذا التساهل هو الذي جرّأ المفترين على تسمية المدارس الابتدائية كليات وما أخذوا ذلك إلا من أن جامع الزيتونة يدرس الأجرومية وهو كلية. فكل مدرسة تدرّس الأجرومية فهي كلية، ويا ويلنا إذا تفطّن هؤلاء لكلمة (جامعة) التي تجري على بعض الألسنة والأقلام وصفًا للزيتونة والقرويين. إذًا، لأصبحت كتاتيب ألف با كليات، ومدارس الأجرومية وابن عاشر جامعات. وسيعينهم على ذلك أن لفظ الجامعة أخفّ وأجرى على اللسان وأسير لقربها من الجامع حتى كأنها مونَّثُهُ، وأرجو أن لا يكون في النهي عن المنكر دلالة عليه. إننا نبني أساس نهضة فلنضع الأساس على صخرة وإلا انهار البناء، ولا والله لا نجاري الأمم في ميدان الحياة حتى تكون كلياتنا ككلياتهم في أسمائها ومسمّياتها. فإن لم يكن هذا فنحن هازلون في جدّ الزمان، ومغترّون في الخوف بعهد الأمان، وسائرون إلى الوراء بهدي الشيطان. ومن تطلّع إلى ثوب المجد فليحكه بأنامله ومن تشوّف إلى رفع الذكر فليجلبه بعوامله. أو لا فالشاعر (1) صارخ في واد. وسيبويه نافخ في رماد. ... إن معهد ابنَ بادِيس تفسير لرؤيا ابن باديس. فعلى الأمّة التي تحبه وتحيي ذكراه في مثل هذا الأسبوع من كل سنة أن تعلم أن البكاء والأقوال لا يزيدان في تاريخه ولا في تاريخ الأمّة بابًا ولا فصلًا ولا صحيفة. وإن الذي يزيد ويفيد هو أن تلتفّ حول معهده بقلوبها

_ 1) هو القائل: "ما حك جلدك ... الخ".

وعقولها وأموالها حتى يكبر ويترعرع، وتبسق أفنانه وتتفرّع، وحتى تكثر أمثاله في القطر. فما نزعم أنه غاية، وإنما هو بداية. إن الواجبات علينا تلقاء هذا المعهد موزّعة بطبيعتها. فعلى الأمّة بذل المال من المرتخص والغال. وعلى الطلبة أمران: إقبال على العلم يصحبه إيمان بضرورته وتحمّل لمتاعبه. وانقطاع إليه يصحبه اعتقاد جازم بشرفه وأنه نور الحياة وأساس الوطنية ورائد الحرية. فمن لم يكن من الطلبة على هذه الصفات فليلزم داره، وليقطع في الأماني ليله وفي الغرور نهاره. وعلى جمعية العلماء الرأي والتنظيم، والتربية والتعليم، وما من رجالها إلا من هو بحظه زعيم. إن الأمّة حين تزرع على يد جمعية العلماء ستحصد العلم وستجني الثمرات الطيّبة وتستغل الريع المبارك. لا يتخلّف شيء عن ميعاده ولا نتيجة عن مقدّماتها. وإنها حين تضع أموالها في هذا المعهد تؤدّي واجبًا عليها لنفسها وتقضي حقًا مؤكد القضاء لدينها ولوطنها. وإنها حين تضع المال في أيدي القائمين على المشروع، تضعه في الأيدي التي لا تخون ولا تختر، بل تربّه وتربّيه للأمّة. وقد رأت الأمّة مصادر المال منشورة معلنة. وسترى مصارفه كذلك موضحة مبنية، كدأب الجمعية في كل مشروع تمسّ فيه يدها مال الأمّة. وإننا نتحدّى جميع القائمين بالمشاريع العامّة أن يفعلوا كفعلنا. ونحن نبتهج بكل عامل للعلم ساع في تعليم الأمّة معتقد أن العلم وحده هو سلاح الحياة وسبيل النجاة. ولكننا أعداء للاتجار بالعلم والتزوير على الأمّة باسمه. خصوم للعيسوية الراقصة المرقصة بجميع مظاهرها. ... هذه هي الكلمة التي نقدّم بها هذه الذكرى وهي بيت القصيد فيها. ولم ننح فيها منحى البكاء والتحسّر وتعداد المناقب، وإنما نحونا المنحى العملي الذي وجدت أسبابه، وفتحت أبوابه.

ذوق صحفي بارد

ذوق صحفي بارد* تعاني فلسطين "المجاهدة" محنة لا تحلّ إلا بعزائم وعقائد وإيمان تظاهرها أموال ورجال، على كثرة مصائبها وتفاوت تلك المصائب في الشدة والنكاية والإيلام، فإن أشد تلك المصائب وأوجعها إيلامًا تحذلق بعض الأقلام في تسميتها بـ "الشهيدة" كأنما تنعاها قبل الموت ونعيق بعض الغربان البشرية بأخبار الهزائم وتسويد بعض الصحف لأطرافها حدادًا عليها. ما هذه التفاهة في الذوق أيها الصحفيون! أماتت فلسطين حتى تصفوها بـ "الشهيدة" وتجلّلوا صحفكم بالسواد حدادًا عليها. إن لم يكن فعال فليكن حسن فال ... إن فلسطين حية ولكنها تجاهد ومأزومة ولكنها تكابد ولفألكم الخيبة ... أتدرون أن ذوقكم هذا لا يحلو إلا لخصوم فلسطين؟

_ * "البصائر"، العدد 35 السنة الأولى من السلسلة الثانية ماي. (بدون إمضاء).

"البصائر" وأزمتها المالية - 1 - * تعاني جريدة "البصائر" أزمة مالية خانقة، بعض أسبابها الرَّئِيسُية غلاء الورق والطبع، غلاءً فجائيًا لم نقرأ له حسابًا في ظرف واسع. وبعض أسبابها الثانوية تضييع البريد لكثير من الطرود، فلا تصل إلى الباعة ولا تبقى عندنا، وتخسر "البصائر" نفقاتها. ومنها تهاون بعض الباعة في إرجاع المخلفات على الفور لتصرف إلى جهات أخرى، ومنها كثرة ما يرسل منها هدايا. و"البصائر" جريدة البيان الحرّ، فلا تجعل الإسفاف منجاة من الكساد، وصحيفة الحق المر، فلا يكون المال مسكتًا لها عن حرب الفساد، ثم هي لا تطلب الرواج من طريق أخبار الولادة والزواج. إن الجرائد لا تقوم بدخل البيع والاشتراك وإنما تقوم بالإعلانات والإعانات. أما الإعلانات فلا يتفق مع مشرب "البصائر" منها إلا القليل، وأجره ضئيل. وأما الإعانات فليس في أغنيائنا من تهزّه الأريحية فيجود على "البصائر" بمئات الآلاف فيشحذ بماله سلاحًا من أسلحة الحق، ويُطلق به لسانًا من ألسنة الصدق، فالتجأنا إلى صميم الأمّة من أنصار البيان العربي والدين الحنيف، واخوان الدفاع عن الخير والفضيلة. وها نحن أولاء نعلن للأمّة فتح باب الاكتتاب، راجين منها أن تمدّ اليد وتحسن العون، وأن تعلم حق العلم أن "البصائر" تتعفّف ولا تتكفّف. ولولا الضرورة لما قالت كلمة في هذا الباب. قد طبعنا أوراق الاكتتاب ووزّعناها على الشعَب والأشخاص الذين نعتمدهم ونخصّهم بالثقة والإخلاص فليعمروها بأسماء المكتتبين ومقدار ما تبرّعوا به وليرسلوا ما تجمع بواسطة الشيك باسم المدير كما هو مرقوم في أوراق الاكتتاب ويرجعوا الأوراق إلى إدارة "البصائر" ممضاة بإمضاء القابض. وللمبالغة في الاحتياط ختمنا كل ورقة في أعلاها بختم المدير باللون الأحمر، فكل ورقة ليس عليها ذلك الختم فهي مزوّرة.

_ * "البصائر"، العدد 36، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 17 ماي 1948م. (بدون إمضاء).

- 2 - * جريدة "البصائر" هي لسان حال جمعية العلماء ولسان العروبة والإسلام بهاته الديار، وخادمة العلم والتعليم وسائر الحركات الفكرية والأدبية في ميدان الثقافة الشرقية، وحاملة راية الجهاد المستمر في ميدان الكفاح الوطني، وبهذه الاعتبارات فهي جريدة كل مسلم جزائري يحمل بين جنبيه الغيرة على وطنه ولغته ودينه. ولكن رغم ذلك- ويا للأسف- فإن هاته الجريدة توشك أن تتعطل عن القيام بواجبها مكرهة، إذ هي لا تعتمد في مواردها المادية إلّا على اشتراكات المشتركين ودخل الباعة، وليس لها اعتمادات أو إعانات أو إعلانات تقوّي ميزانيتها، وإذا كان المشتركون يتهاونون في دفع ما بذمتهم أو لا يدفعونه حتى نرسل إليهم مَن يأخذه منهم، والباعة يتقاعسون عن تصفية حساباتهم بانتظام وفي كل شهر، فإن نظام سير هذين الموردين الوحيدين للجريدة يختلّ، وإذا اختلّ فهي لا شك سائرة إلى الهاوية، لا قدّر الله، وذلك ليس في مصلحة الدين ولغة الدين ولا في مصلحة قضايا الوطن الهامة. لهذا تعطلت "البصائر" عن الصدور هاته المدة الأخيرة، وانها لتعتذر لحضرات المشتركين الذين سدَّدُوا ما بذمتهم، وترجو من غيرهم أن يدفعوا ما عليهم، ومن الباعة أن يصفّوا حساباتهم ويرسلوا ما لديهم من مال "البصائر" في أقرب وقت لكي تعود "البصائر" إلى الصدور بانتظام. غير أننا فتحنا اكتتابًا عامًا لإعانة الجريدة للاختصار من مدّة احتجابها ووجّهنا قوائم الاكتتاب للمشائخ مديري المدارس وبعض رؤساء الشّعَب بجميع جهات القطر، وإننا لنرجوهم أن يعجّلوا بإرسال ما جمعوه بواسطة "شيك" البصائر، ونحثّ أنصار "البصائر" وأحبابها على مساعدة جريدتهم وإغاثتها من هاته الحالة السيئة التي تجتازها، ونقدّم لهؤلاء وهؤلاء تشكراتنا الخالصة. وعلى من يرغب في المشاركة في هذا العمل أن يطلب من المركز قوائم الاكتتاب.

_ * "البصائر"، العدد 134، السنة الثالثة، 11 ديسمبر 1950م. (بدون إمضاء).

هدية ذات مغزى جليل

هدية ذات مغزى جليل* أهدى الأخ العربي الحرّ محمد جعفر مال الله ملاحظ الأوراق بمديرية المساحة العامة ببغداد، إلى إدارة "البصائر" رسمًا فنيًا بديعًا لاسم "البصائر" وملحقاته من خط الفنان مهدي صالح أحد خطاطي "دار الخط العربي" ببغداد، وقد حلينا بهذا الرسم اللطيف، صدر العدد 37 وصدر هذا العدد تنويهًا بهذه الهدية الفنية واعترافًا بلطف موقعها منا، وإنها "عربون أخوّة صادقة بين بغداد وبين الشمال الإفريقي أحد مواطن العروبة التي يريد الاستعمار أن يفصل بعضها من بعضها" كما يقول الأخ محمد جعفر مال الله في رسالته اللطيفة التي أرسلها إلينا مع الهدية. ليهنأ الأخ محمد جعفر، فهذا الشمال الإفريقي كله قلوب تهفو إلى الشرق العربي والشرق الإسلامي، وكله نفوس تتطلع إلى ما يأتي منه من أنوار، وكله عقول تعرف ما أنبت ذلك الشرق من علوم وفنون وحضارات، وتعترف لبغداد بما أفاءت على العروبة والإسلام من خير وفضل، وتنتظر اليوم الذي تنمحي فيه الحواجز المزيّفة فتتصل الأجزاء كما اتصلت القلوب. إن كل عربي بهذا الشمال يقرأ "البصائر" ليذكر- كلما وقعت عينه على اسمها ماثلًا في الصدر- أن ذلك الرسم قطعة من بغداد وطرفة من طرفه، ترمز إلى الأخوّة الصادقة والتعاون الوثيق على خدمة العروبة في جميع مواطنها. و"البصائر" تحمل التحيات الزكيات والشكر الخالص من أسرتها وقرّائها وأنصارها إلى الأخ محمد جعفر مال الله وإلى الأخ مهدي صالح وإلى رجال إدارة المساحة ودار الخط العربي وإلى جميع الهيئات العاملة للعروبة والإسلام ببغداد، وإلى الأخ الواصل لرحم العروبة

_ * "البصائر"، العدد 38، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 7 جوان 1948م. (بدون إمضاء).

الدكتور تقي الدين الهلالي الجزائري الذي بشّر بـ "البصائر" في العراق ودلّ عليها دلالة النسيم اللطيف على الزهر العبق. تحمل "البصائر" هذه التحيات على بعد الدار كفاء لتحية الأخ مال الله في رسالته، فقد عمّمها لكل مستحق من أبناء العروبة في هذا الوطن، وحيّا الله دجلة وجانبيها مواطن الفن والشعر ومواطى العزّ والفخر. ولا زالت الرصافة، منبت حصافة، ولا زال الكرخ، زندًا يوري بالمرخ. وليهنأ "البصائر" هذا التقدير الذي تفيض به رسائل أنصار البيان العربي في الشرق. أما تلك العين التي رسمها الفنان فوق اسم "البصائر" فيقيننا أنه لم يصوّرها وهمًا وإنما فوقها سهمًا. والعين البصيرة لا تدرك إلا بنفاذ البصيرة.

نداء وتحذير

نداء وتحذير إلى الشعب الجزئري المسلم العربي * ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الشعب العربي المسلم: في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها فلسطين العربية وفي هذا الصراع العنيف الذي حمل عليه إخوانك العرب حملًا وأُلجئوا إليه إلجاء لا خيار فيه، وفي هذه الحرب المستعرة التي يوشك أن تضيق بها الرقعة فيتطاير شررها إلى جوانب العالم فتحرقه أو تغرقه، وفي هذه الأزمة التي عقدها الطمع فعجز عن حلّها العالم الذي لم يعرف القناعة، وأنشأها الباطل فلم يستطع التغلب عليها الرؤساء الذين لم يعرفوا الحق، وفي هذه المعركة التي قسمت كلًا من العالمين الملحد والمتديّن إلى معسكرين: بعض أسلحتهما الحديد والنار، وبعضها الرأي والمكيدة، وبعض أسبابهم إليها الحق الذي لا شبهة فيه، وأكثرها الباطل الذي لا مرية فيه. في هذه الظلمات المتراكمة نتوجّه إليك مخلصين بنصيحة تضمن استمرار السير، وحفظ الاتجاه، وسلامة العاقبة. نحن نعتقد أن ميدان القتال بين العرب وبين اليهود هو فلسطين. أما الجزائر وغيرها من بقية أقطار العروبة فهي ميادين شعور وعطف وأخوّة وتضامن، يشعر فيها العربي بمحنة أخيه في فلسطين فيعطف عليه وبحمله العطف على مواساته بما استطاع مما يخفف محنته أو يعينه على ظالمه. ويعتقد أن فلسطين وطن عربي كل الحق فيه للعرب، فيردّ دعوى المدّعين ودعاية الداعين بالحجة والمنطق، ويسمع كلمة الباطل في قومه فينقضها بكلمة الحق، ويرى مواطنه اليهودي يزوّد إخوانه في فلسطين أو يجهّز مقاتلتهم فيفعل مثل ما فعل، وكما أننا لا نلوم يهود العالم على إظهار عواطفهم نحو إخوانهم في فلسطين. لا نقبل اللوم من شخص أو من حكومة على إظهار عواطفنا نحو إخواننا عرب فلسطين، ولا نقبل التحجير علينا فيما

_ * "البصائر"، العدد 40، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م. (بدون إمضاء).

نستطيع إعانتهم به، ولا نرضى أن يكون حرامًا علينا ما هو حلال لليهود. ومن أنصفنا أنصفناه وزدنا. ونحن نعتقد أيضًا أن العربي بطبيعته رزين ساكن، وأن المسلم بطبيعة دينه مسالم متسامح، وأن الطبيعتين بعيدتان عن الشر لا تقبلانه ولا تقبلان عليه إلا مكروهتين أو مغرورتين، ونعلم مع ذلك أن الاستعمار بطبيعته كائد ماكر، وأن له في الكيد والمكر طرائق تعجز الشياطين أن تأتي بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. وأن للحكومات الاستعمارية جواسيس وأعوانًا ربّتهم على افتراص الفرص لتلك المكائد وعلى اختيار الظروف لها وخلق الأسباب. فكلما عنّ لهم سبب تافه، أو جرت حادثة بسيطة مما يجري كل يوم، أو تحرّك شعور في الأمّة ولو لمعنى ديني محترم أو طبيعي محتوم، شرحوه للحكومة وأولوه، وجسموه وهوّلوه، وصرفوه عن معناه الطبيعي إلى مجرى آخر يوافق هوى الحكومة لتبني عليه مكائدها، وتتخذ منه ذريعة للانتقام. إننا لا نشكّ بما في أذهاننا من الشواهد، وبما عوّدتنا الحكومة من العوائد أن قضية فلسطين من القضايا التي يتخذ منها خصوم العرب والمسلمين وسيلة كيد لهم في كل أرض فيها للاستعمار سلطان وعلى الخصوص في شمال إفريقيا. إن أعظم ذنوبكم في نظر الاستعمار هو أنكم رفعتم أصواتكم بطلب حقوقكم الوطنية من دينية ودنيوية: فهو لا يفكر في إنصافكم ولا في الرفق بكم، وإنما يفكر فيما يسكت هذا الصوت من ترغيب أو ترهيب. وهو قادر أن يجعل من مثل قضية فلسطين وسيلة إلى ذلك الإسكات. فإياكم أن يستفزكم هو وأعوانه حتى يحرجكم فيخرجكم عن وقاركم. وإياكم أن يجعل لكم من قضية فلسطين مشغلة عن قضيتكم الوطنية. إن الجزائر وطنكم الصغير، وإن إفريقيا الشمالية وطنكم الكبير، وإن فلسطين قطعة من جزيرة العرب التي هي وطنكم الأكبر، وإن الرجل الصحيح الوطنية هو الذي لا تلهيه الأحداث عن القيام بواجبات وطنيه الأصغر والأكبر. قد ترون في هذه الظروف ما يستفز أعصابكم وتسمعون ما يجرح شعوركم وتقرأون ما يؤلم ضمائركم، فلا تقابلوا ذلك بالغضب ولا تجعلوه مثارًا للشر، بل قابلوا كل ذلك بالسكون والهدوء وضبط الأعصاب، واعملوا من الصالحات لكم ومن النافعات لفلسطين ما يطفئ الغضب ويدفع الشر، فإن ذلك يزيل غضب الشيطان، ويزيد حرارة الإيمان. إن الدعاية الصهيونية والاستعمارية تنسب لجنسكم العربي كل نقيصة من الفوضى والطيش وحب الفتك والسفك وخلق الوحشية والجفاء فكذّبوا أقوالهم بأفعالكم.

ندعوكم- ناصحين مخلصين- إلى السكون والهدوء وضبط الأعصاب، فقد كانت حادثة 5 أوت سنة 1934 وليدة تحريض من أجنبي لم يرد بكم خيرًا، وكانت واقعة وجدة بالأمس نتيجة استفزاز من أجنبي لم يرد بكم خيرًا، فقابلوا التحريض بالرفض، وقابلوا الاستفزاز بالصبر. وان العقل نعم السلاح، وان العاقبة للصابرين. محمد البشير الإبراهيمي فرحات عباس إبراهيم بيوض الطيب العقبي

إمتحانات المعهد والمدارس

إمتحانات المعهد والمدارس * بدأت الامتحانات السنوية لتلامذة معهد عبد الحميد بن باديس يوم السبت الثاني عشر من شهر جوان الحالي، وستخفّ بها موازين وتثقل موازين. والشواهد السابقة تدلّ على أن النجاح سيكون عظيمًا، وأن التجربة ستكون موفّقة، وسننشر أسماء الناجحين كلها. إن لمدير المعهد الأستاذ الجليل الشيخ العربي التبسي عينًا فاحصة وذهنًا واعيًا هيّآ له تراتيب جديدة في الكتب والدراسة، وشرائط مفيدة في القبول والانتساب وسيبني على تجربة هذه السنة وعلى نتائج الامتحانات قواعد تنهض بالمعهد في السنة الثانية من عمره نهضة عظيمة، وسننشر هذه التراتيب في العشر الأول من شهر سبتمبر الآتي. وتبتدئ الامتحانات في المدارس الابتدائية يوم 20 من شهر جوان الحالي كما أعلمنا به في العدد الماضي. وسيكون يوم الأحد الخامس من شهر جويلية الآتي هو يوم الاحتفال بتوزج الجوائز على الناجحين، فعلى أهل الفضل والإحسان وأنصار العلم أن يتبرّعوا بكتب وأدوات كتابة ومحافظ لتكون جوائز لأولئك الناجحين من أبناء الأمّة. أما الاحتفال العام لختم دروس التعليم فسيكون يوم 29 جويلية في جميع المدارس. والمشاهدات والتقارير متظافرة على أن المشائخ المعلمين أدّوا الأمانة على أكمل وجه مع كثرة المثبطات وتنوّعها من الاغتراب إلى أزمة السكنى إلى عجز الأجور عن القيام بالضروريات، وهي- لعمري- مثبطات لا تغالب إلا بالصبر والإخلاص، وان حظ أبنائنا

_ * "البصائر"، العدد 40، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م. (بدون إمضاء).

المعلّمين منهما غير قليل، وإن تقديرنا لأعمالهم لتقدير جزيل. وإن كان التقدير، لا يغني المعلم ولا يغني المدير، وقد كانت مشكلة المرتبات في هذه السنة ناشئة في القليل عن الأزمة المالية، وفي الكثير عن أزمة أخرى نفسية ممقوتة، هي أزمة الخلافات الحزبية على الانتخابات التي هبّت ريحها من أول السنة الدراسية على كثير من الجمعيات المحلية، ثم عصفت في أواسط السنة وأواخرها فلفّت في أذيالها بعض المعلمين، ولم يدر هؤلاء ولا هؤلاء ماذا يجني ذلك المظهر المتنافر على التعليم من خراب واضطراب، وسنشرح تلك الأضرار بالبراهين في مقالات رمضان إن شاء الله حين تقرّ شقاشق التعليم وتخبو حمية الحزبية ويكون الجميع على استعداد لتذوّق الحق. إن أبعد الناس عن الفلاح والنجاح من يبني الأمور الشريفة، على الاعتبارات السخيفة. وحرام أن نبني تعليم السنة الآتية على تلك النقائص من التنافر القلبي والتشاكس الحزبي، بل نبنيه على تعاون وثيق بين المشائخ والجمعيات.

الهيئة العليا لإعانة فلسطين

الهيئة العليا لإعانة فلسطين * إعانة فلسطين فريضة مؤكّدة على كل عربي وعلى كل مسلم، فمن قام به أدّى ما عليه من حق لعروبته ولإسلامه، ومن لم يؤدّه فهو دين في ذمّته لا يبرأ منه إلا بأدائه. ومن سبق فله فضيلة السبق ومن تأخر شفعت له المعاذير القائمة حتى تزول، فإذا زالت تعلق الطلب ووجب البدار. وقد قامت الأمم العربية والإسلامية بهذا الواجب: كل أمّة على قدر استعدادها وعلى حسب الظروف المحيطة بها لا على حسب الشعور والوجدان، فالشعور قدر مشترك بين الجميع لا يفضل فيه عربي عربيًا ولا يفوق فيه مسلم مسلمًا لأن مرجعه إلى العروبة، والعروبة رحم موصولة. وإلى الدين، والدين عهد إلهي لا ينقض. وقد يكون الشعور عند الأمم العربية أو الإسلامية البعيدة الدار، أو التي تحول بينها وبين فلسطين الحوائل أقوى منه عند الأمم القريبة الجوار، المتصلة الأسباب، الميسّرة المآرب، لقاعدة يعرفها علماء النفس وهي أن الحرمان يذكي الشعور. والأمّة الجزائرية العربية المسلمة من هذا القبيل فهي بعيدة الدار أسيرة في قبضة الاستعمار. يعد عليها الآهة تتأوهها والكلمة تقولها والبث تستريح إليه فضلًا عما فوق ذلك. ولكن الاستعمار لم يستطع أن يصل بكيده وقهره إلى مقرّ الإيمان بعروبة فلسطين ومستودع الشعور نحو عرب فلسطين. وهذان هما كل ما تملك الأمّة الجزائرية من ذخيرة معنوية. وإذا تأخرت الأمّة الجزائرية عن إعانة فلسطين بالممكن الميسور فعذرها أنها كانت منهمكة في المطالبة بحقها في الحياة، وكانت من أجل ذلك في صراع مستمر مع الاستعمار وكانت- بتدبير الاستعمار- موزّعة القوى بين أحزاب متناحرة صارفة أكثر همّها إلى الفوز في الإنتخابات والحظوة بكراسي النيابات. صمّاء عن الدعوة إلى التآخي والاتحاد. إلى أن لعب الاستعمار

_ * "البصائر"، العدد 41، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م. (بدون إمضاء).

بجميعهم وضربهم تلك الضربة في انتخابات المجلس الجزائري الأخيرة. تلك الضربة التي لا يحمل وزرها ومسؤوليتها إلا من هيّأ للحكومة أن تقدم على تلك الفضيحة. كانت هذه الجريدة كتبت فصولًا متتابعة مؤثرة في قضية فلسطين فشرحت فيها كثيرًا من الخفايا وكشفت عن كثير من الخبايا وقامت عن الجزائر بالحق الأدبي لفلسطين كاملًا. وحق لهذه الصحيفة أن تفخر بأنها شاركت أخواتها العربيات في الشرق بجهد لا يقلّ عن جهودهن، وبجهاد قلمي لا يقصر عن جهادهن. وكانت هذه الجريدة تكرّر دعوة الأحزاب إلى الاتحاد في الشؤون الداخلية ومنها الانتخابات ليتخذوا من ذلك ذريعة إلى القيام بعمل جليل مشترك في إعانة فلسطين يشرّف الجزائر العربية ويرفع رأسها ولكن خابت الدعوة. وكان مدير هذه الجريدة وإخوانه العلماء بذلوا من الجهد العملي في سبيل الاتحاد ما تفرضه عليهم عروبتهم ودينهم ووطنيتهم. ولكن خابت أعمالهم، وإن لم تخب آمالهم. ومرّت قضية فلسطين في أطوار سريعة غبنت فيها العروبة والإسلام أفحش غبن، وظُلِمَا أقبح ظلم وصرح الاستعمار بشواهد الأقوال والأحوال أنه أخو الاستعمار وناصره ومقيم قواعده، ووصلت فلسطين إلى الدرجة التي يجب فيها العون على كل عربي وعلى كل مسلم وان بعدت الدار وتكالب الاستعمار. فجدّدنا الدعوة إلى الاتحاد منذ أسابيع وكنا البادئين بالدعوة لا كما تزوره بعض البلاغات الحزبية. واتخذنا من قضية فلسطين وسيلة جديدة للاتحاد عسى أن يجتمع عليها ما تشتّت من القلوب النافرة. وكان للأخ الشيخ الطيب العقبي مساع محمودة في هذا السبيل. وكانت الأمّة التي أضناها الخلاف وكادت بسببه- تكفر بالأحزاب ورجالها- مستبشرة بهذه المساعي راجية أن تكون الحوادث لقّنت رجال الأحزاب درسًا قاسيًا يردّهم إلى الصواب فيما دعوناهم إليه هذه المرّة. ولكن رجال "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" لم يكونوا ديمقراطيين. فبعد أن قبلوا الدعوة وحضر ممثّلهم لا يحمل قيدًا ولا يشترط شرطًا. أفهمنا في اليوم الثاني باسم حزبه أنهم لا يرضون إلا بأن يكون كل شيء تحت رئاستهم. وأنه إذا لم يكن ذلك فلا يكون شيء. وقد تشكّلت الهيئة العليا من أربعة على الصورة الآتية: ولعل التاريخ الذي غبناه مرارًا ينتقم منا هذه المرّة فيلجئنا إلى نشر كل شيء بشواهده وشهوده وأيامه ولياليه. وهذا تركيب الهيئة العليا: محمد البشير الإبراهيمي: رئيس عباس فرحات: كاتب عام الطيب العقبي: أمين مال إبراهيم بيوض: نائبه ***

ثم تألّفت لجنة تنفيذية بالعاصمة من رجال العلم والثقافة ورجال الأعمال والاقتصاد وشباب العمل. وبدأت الهيئة العليا بإرسال برقية تأييد لسعادة عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية وبرقيات احتجاج واستنكار للحكومات المسؤولة، وقد جاءنا منها نصوص البرقيات مع بلاغ. ونحن ننشر الجميع- كما يراه القارئ- في هذا العدد.

البصائر" ومعهد ابن باديس

"البصائر" ومعهد ابن باديس * للبصائر أن تفخر- في غير من- بما قدّمته لمعهد عبد الحميد بن باديس من خدمة له وتنويه بشأنه. وتعدّ ذلك من أعمالها الصالحات لأنها تعتقد أن هذا المعهد هو المرحلة الثانية من مراحل النهضة العلمية التي بنى دعائمها رجال جمعية العلماء في عقد ونصف عقد من السنين. وللبصائر أن تبتهج بهذا النجاح الباهر الذي تجلّت عنه اختبارات الانتقال في سنة المعهد الأولى، وبهذه النتائج المدهشة التي حصل عليها تلاميذ المعهد في الكمية والكيفية، وبهذه الكفاءة الممتازة من مدير المعهد وأساتذته. حضرت بنفسي معظم أيام الاختبار التي دامت عشرة أيام، وعجبت للنظام والضبط قبل أن أعجب للنتائج، وأشهد أن لجان الامتحان كانت متشدّدة لا متساهلة ومع ذلك فقد أبى العمل الجليل إلا أن يعرب عن نفسه، وأبى العرق الأصيل إلا أن يبين عن عتقه. والحمد لله الذي وفّق وأعان، والفضل لأخينا الشيخ العربي التبسي مدير المعهد ولأبنائنا الأساتذة المدرّسين بالمعهد، فقد كشف الاختبار، عن صدق الاختيار وحقّقوا رجاءنا فيهم. وان التوفيق في اختيار الكفاءات هو أول مراتب النجاح. والبصائر حين تقدّم للمعهد هذه المعونة الأدبية الثمينة، تتمنى لو أن حالتها المالية تسمح لها بتعزيز هذه المعونة بأخرى مادية هو أحوج ما يكون إليها، وإذًا لجادت عليه بكل فواضلها غير بخيلة ولا منانة، ولضربت المثل الشرود للأمّة في البذل للمشاريع النافعة، ولأقامت الدليل المحسوس على أن هذه العصابة القليلة من العلماء تري للأمّة مالها وتربّيه،

_ * "البصائر"، العدد 41، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.

وتبديه ولا تخفيه، ثم تحيله كيمياء التدبير علمًا وبناءً ومشاريع ورجالًا وحقائق وأعمالًا تنفع الناس وتمكث في الأرض. وقد رأت "البصائر"- بمناسبة انتهاء دروس المعهد- أن تشارك في إمداده بالمال، وتساهم في تحقيق برنامجه الواسع للسنة المقبلة، فأجمعت الرأي على أن تتبرعّ عليه بعدد في القريب، فتعدّه إعدادًا خاصًا وتحلي صدره بصورة عبد الحميد بن باديس الذي يتشرّف المعهد بالانتساب إليه وبصور المدير والأساتذة ورجال لجنة المالية والمراقبة وبكلمات للأساتذة، وتنشر أسماء التلامذة الناجحين في الاختبار تنشيطًا لهم ولأوليائهم. ولكن هل يجمل بـ "البصائر" أن تنفرد بهذه المكرمة البكر دون قرّائها؟ وهل يجمل بقرّاء "البصائر" أن يشتروا هذا العدد الذي هو سجلّ شرف بالقيمة الاعتيادية التي لا تشرّفهم ولا تغني عن المعهد غناء؟ لا والله ... لا يجمل بـ "البصائر" أن تنفرد، ولا يجمل بقرّائها أن يتمسكوا بحقهم المشروع. ومَن الفيصل في القضية؟ الفيصل هو "البصائر". فقد حكمت بأن تكون قيمة هذا العدد الخاص بالمعهد "خمسين فرنكا": وهي تتقدّم بالرجاء الخالص إلى الأمّة أن لا يثقل عليها هذا المبلغ في هذا السبيل، وإلى الباعة أن يتنازلوا عن حقهم المعلوم، وإلى المشتركين أن يتسامحوا ويدخلوا مع الجمهور في سوق الشراء فيشتروا ذلك العدد الخاص من الباعة كسائر القرّاء لتظهر الأمّة كلها بمظهر واحد في السماحة والبذل. وسيبدأ مدير الجريدة وأسرتها وعمّالها فيشترون الأعداد الأولى حين تخرجها المطبعة، ثم يتولّون البيع بأنفسهم. وعلى أبنائنا الأساتذة والمعلّمين وجميع الإخوان المصلحين أن يقتني كل واحد منهم عددًا وأن يتولّى بنفسه بيع ما يستطيع من النسخ وأن يتباروا في هذا المضمار، فإنه مضمار شرف وميدان استباق إلى الخيرات. ويد بالمال للعلم تجود … مزنة بالغيث تهمي وتجود رب صرح شيد للعلم غدا … وهو للأمّة كون ووجود

معهد عبد الحميد بن باديس: ما له وما عليه

معهد عبد الحميد بن باديس: ما له وما عليه * أخذت القلم لأكتب كلمة عن المعهد في هذا العدد الخاص به من "البصائر" فاستعرضت ماضيه منذ كان فكرة إلى أن أصبح حقيقة مبصرة، فرجع الصدى قريبًا لقرب العهد كما ترجع ومضة "الرادار" حين تصطدم بجسم في فراغ الأثير. ثم استعرضت مستقبله فمثّلته الخواطر آمالًا كلها حلاوة وطيب، وغايات كلها نسيم بليل وزهر رطيب، وانفتحت آفاقه عن مثل رونق الضحى وإشراق الأصيل. فتفتحت نفسي للكتابة وهممت- على كلال الذهن والجوارح- أن أكتبها في نفس، وقلت لتكونن كلمة ذات أثر، تملأ السمع والبصر. ولأثأرن بها لنفسي من العوائق التي رمت طبعي بالجفاف وقريحتي بالركود. ولكن نفسي وقفت موقف الرقيب، بين المحب والحبيب، وأبت إلا أن أكتب عليها ... قلت لها إن هذا ليس لي ولا لك بعادة. وأنا امرؤ- كما تعلمين- ركب في طباعي نوع من الخمول والزهد في كل ما يتعلق بك. وأشهد كما تشهدين- أنه ليس من الخمول المصطنع ولا من الزهد المكتسب وإنما هو نوع لا ثواب فيه ولا محمدة، كالطول في الطويل، والسواد في الأسود، والبلادة في الجمل. فلجت في التعرض، فقاطعتها بكتابة كلمات صادقة عن الشيخين اللذين يقوم المعهد على اسميهما: ابن عاشور وابن باديس ولكنها لم تقنع وشوّشت كل ما في ذهني من صور جميلة وأخيلة بارعة لمستقبل المعهد، وطال اللجاج حتى خشيت أن أفوّت على العدد الخاص ميقاته. ومن عادتي في هذه الكلمات التي أفتتح بها أعداد "البصائر" أن أكتبها- في الغالب- في النصف الأخير من آخر

_ * "البصائر"، العدد 44، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.

ليلة في الأسبوع، ولا أكتبها إلا بعد مضايقة من المطبعة لحمزة (1)، ومضايقة من حمزة لي: وحمزة- فيما يتراءى لي- أجرأ أسرة البصائر علَيّ، وقد أكتب الكلمة وأنا مسافر فأحسّ في باطن نفسي راحة من مضايقة حمزة لي. وأن مضايقات حمزة لأعود بالخير على "البصائر" من ضيقي وتبرمي، ولعلّي كشفت عن بعض السبب في التفاوت الذي يلمسه القرّاء في تلك الكلمات في الأسلوب والموضوع والطول والقصر. سلكت مع نفسي في المدافعة والمساومة فجًا آخر فقلت: سأرضيك- نسيئة لا نقدًا- بالكتابة على صحيفة سخيفة، تدعو إلى دين بني حنيفة. أو على صحافي حافي شره ليس بالخافي. فقالت: لست مسيئة، حتى أرضى النسيئة. ولا يكتب عن صحافي أو صحيفة في عدد خاص، إلا رجل (باص). ونفسي- كما يعلم بعض القرّاء- جزائرية سطيفية، فكلمة باص بتشديد الصاد من لغتها. ومعناه: لا عقل له. فقلت: أو قد بلغت بي إلى هذا الحدّ يا أمة الله؟ فقالت: ولا بدّ من الكتابة عليّ في هذا العدد. فقد كتبتَ على بعض النفوس فقال الناس أحسنت التصوير، وقالوا أبدعت. وأنا أعلم من هنياتك أنك ستكتب على نفوس أخرى. وأعلم من خفاياك أنك ستسلك بها شعابًا من التصوير لم تسلكها إلا في ملاحم أفلو (2) التي سيقرؤها الناس بعد موتك- وأنا نفسك التي بين جنبيك، وأنا أقرب الأشياء إليك، وأنا وأنا ... ومضت تتجنّى وتتعنّت. فقلت فضحتني فضحك الله. وإنك لمملوءة الوطاب، من سوء أدب الخطاب. ولست في هذه المرّة أمة الله وإنما أنت أمة الشيطان، وسأكل الكتابة عليك إلى فلان ... قالت: بائع مدح وقدح. يعرف القيم الفلسية، لا القيم النفسية. وأحر به أن لا يشرف إذا مدح، ولا ينكى إذا قدح. وهنا فلسفة أنت عن معرفتها غني، قلت: فإلى فلان ... قالت: يتسرع، ويتبرع، ولا يتورع. فإذا مسّته الحاجة يتضرّع، وإذا مسّته الكلمة يتجرّع من الغمّ ما يتجرّع. وأخلق بكتابته أن تكون صبغة من نفسه. قلت: فإلى فلان ... قالت ذاك طائش السهام، راكد الإلهام. ثائر الأوهام، فأية منزلة تبلغنيها كتابته؟ وعرضت عليها نسقًا من الكتاب الراضين عليها والساخطين فأبت إلا أن تكون الكتابة مني عني. وقعت من نفسي- لأول مرّة منذ اصطحبنا- على باقعة، فجنحت للسلم. ولولا حرمة الشهر وعهد المعهد لأخرجت للقرّاء من هذه المحاورات بين رجل ونفسه ما يضحكهم في الزمن العابس، ويسيرهم إلى السرور والركب حابس. وقد اتفقنا بعد طول الجهد على أن أكتب عليها وعلى المعهد من الجهة التي يتصلان فيها. وهي أثرها في تكوينه- فإذا قرأ القرّاء لي هذه الكلمة المهلهلة ورأوا فيها حديثًا عن

_ 1) هو الشيخ حمزة بوكوشة عميد "البصائر". 2) "أفلو" قرية بالجنوب الوهراني، نفت السلطة الاستعمارية إليها كاتب المقال في أوائل الحرب فنظم في أيام الفراغ ملحمة رجزية في شجون من الحياة.

معهد عبد الحميد بن باديس

نفسي فليعلموا أنني مغلوب على أمري من عجوز. ولم يغلبك مثل مغلب. وليصدقوا الله كما صدقتهم، فما منهم إلا من غلبته عجوز بأحد معانيها، ولا أستثني أم الخبائث فقديمًا سمّتها العرب عجوزًا. وهل أنبئ القرّاء بسرّ وهو أنني أضمرت الخديعة لنفسي، وقلت أعطيها قليلًا وأكدي، فانتقمت مني كما انتقمت بعوضة توت من كاشف قبره، وفاضح سرّه. فنثرت كل ما كان في خاطري منظومًا من الصور الفنية عن المعهد ومستقبله وما ننوي له من أعمال وما نعلق عليه من آمال. وجاءت المقالة عادية النمط، عليها ميسم الصدق، وليس عليها جلاله، وفيها مخيلة الحق، وليس فيها جماله. ... معهد عبد الحميد بن باديس: والمعهد تجمعه ثلاث كلمات: مكان، وإدارة، وتعليم. أما المكان فهو دار منسوبة إلى أسرة عريقة في المجد، وهي أسرة ابن الشيخ الفقون التي يعرفها التاريخ بأعلامها في العلم والأدب. شاركت الأمة الجزائرية كلها في بذل الأموال التي اشترت بها الدار، وأنفقت على إصلاحها وإعدادها، وشارك كاتب هذه السطور بكل ما يملك وما يملك إلا اللسان القوال، والعزم الصوال، والجثمان الجوال. ولولا هذه الثلاثة لما اشتري المعهد ولا عمر في هذه السنة ولتأخر وجوده في التاريخ سنة أو سنتين أو سنوات. وان في تأخير هذا المشروع إطالة لمرض الجهل وتأخيرًا لشفاء هذه الأمّة، وأن في التعجيل به تعجيلًا لشفائها ونقصًا من المرض ومدّته. فقد كان جميع إخواني ومن ورائهم أنصار العلم متفقين على ضرورة إنشاء المعهد، وأنه الخطوة الثانية بعد التعليم الابتدائي الذي وصلنا فيه إلى نتيجة صالحة وغاية متمكنة. ولكنهم كانوا متفقين على أن الزمن غير صالح للشروع في العمل نظرًا لحالة الأمة المالية وتوالي الأزمات عليها. وجزى الله إخوان الصدق أصدق الجزاء فما أن رأوا تصميمي وعزيمتي على شراء المكان حتى انشرحت صدورهم للذي انشرح له صدري. واستسهلنا الصعوبات فسهلت، وهززنا الأمة للتعاون على الخير والعلم فاهتزت. وقطعنا في الأسابيع مراحل ما كانت تقطع في الشهور والسنوات. وكان الشراء والإصلاح جاريين في جهة، والتنظيم والاستعداد للتعليم

جاربين في ناحية، والمقاومات الخفية والعلنية ممن لا يخافون الله جارية في ناحية ثالثة إلى أن غلب الحق على الباطل والعزيمة على التخذيل. وفتح المعهد أبوابه بعد شهرين من بداية العمل، والحمد لله الذي وفق وأعان، والشكر للأمّة التي شبّت على الحق، وعرفت العاملين للحق فأيّدت ونصرت. ... وأما الإدارة فقد كانت- في رأيي- وما زالت أصعب من المال. لأن الصورة الكاملة التي يتصوّرها ذهني للإدارة الرشيدة الحازمة اللائقة بهذا المعهد العظيم، نادرة عندنا. ونحن قوم نقرأ لكل شيء حسابه. ولا نقدّم لجلائل الأعمال إلا الأكفاء من الرجال. وقد كنت مذخرًا لإدارة المعهد كفؤها الممتاز وجذيلها المحكك الأخ الأستاذ العربي التبسي الذي كانت تمنعه موانع قاهرة من تولّي الإدارة ومن الانتقال من بلده إلى قسنطينة، وكنت أقدّر تلك الموانع، وأزنها بميزانها الصحيح، وأراها بمثل العين التي يراها بها. فكيف العمل؟ العمل هو جعل تلك العوامل كلها عاملًا واحدًا وتفتيته حتى يصير ذرات، أرضينا سكان تبسة الكرام الذين كانوا يعدون انتقال الأستاذ التبسي عنهم كبيرة يرتكبها من يتسبّب فيها، وأقنعناهم بأن الشيخ العربي رجل أمّة كاملة لا بلدة واحدة. ورجل الأعمال العظيمة لا الأعمال الصغيرة. فاقتنعوا. وأمنا لهم مشاريعهم العلمية والدينية، بإيجاد من يخلف الأستاذ فيها فرضوا مخلصين. وقد كنت قبل ذلك كله تلطفت في الحيلة على أخي الشيخ العربي لما أعتقده من إخلاصه الكامل في خدمة أمّته، ومن تقديره لجهود أخيه هذا. وذلك أنه لما هوّل عليّ قضية المال الذي يتطلبه المعهد في شرائه وتعميره، هوّنت عليه القضية وهوّلت عليه شأن الإدارة إذا لم يقبلها هو، فلم يجد بدًّا من تهوينها عليّ إخلاصًا منه ومقاسمة للعبء مع أخيه. وإن أنس فلا أنس قوله لإخوانه المشائخ المدرّسين يوم اجتمعنا لنقرّر منهاج السير في التعليم. أيها الإخوان: "إن التعليم بوطنكم هذا، وفي أمّتكم هذه ميدان تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم. فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى، ولنسكن في المعهد كأبنائنا الطلبة، ولنعش عيشهم: عيش الاغتراب عن الأهل. فانسوا الأهل والعشيرة ولا تزوروهم إلا لمامًا. أنا أضيقكم ذرعًا بالعيال للبعد وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فافعلوا. وها أنذا بادئ فاتبعوا". فكانت كلماته هذه مؤثّرة في المشائخ، ماسحة لكل ما كان يساورهم من قلق ... ومضت السنة الدراسية على أتمّ ما يكون من النظام الإداري، وعلى أكمل ما يكون من الإلفة والانسجام بين المشائخ بعضهم مع بعض، وبينهم وبين

مديرهم، حتى كأنهم أبناء أسرة واحدة، دبّوا في حضن واحدة، وشبّوا في كنف واحد، وربّوا تحت رعاية واحدة، توزّع الحنان بالسوية، وتبني الحياة على الحب. وأن مرجع هذا كله إلى الأخلاق الرضية التي يجب أن يكون مظهرها الأول العلماء. حي الله الأخلاق. وأحيا الله الأخلاق. وأنا أصدق القراء، فقد نجح المعهد في جميع نواحيه، ووالله ما اغتبطت بجميع ذلك ما اغتبطت بهذا الانسجام بين مشائخه، وهذه الرحمة المظللة لهم، وهذه المياسرة المتبادلة بينهم. وما كان اغتباطي موفورًا إلا لما قاسيته وأقاسيه من المعضلات النفسية والمشكلات الأخلاقية والتعاكس والتشاكس بين بعض أبنائي المعلمين، وما هي إلا بقايا من آثار التربية المضطربة لم يهذّبها العلم وسيهذّبها التأسي. إن هذا الانسجام البديع بين مشائخ المعهد سيكون درسًا عمليًا نافعًا لتلاميذهم يأخذونه بالتأسي لا بالتلقين. وسيكون أثبت أساس لتربيتهم الأخلاقية وأعزّ ميراث يرثونه عن مشائخهم، وان الانسجام بين التلامذة سبب خطير من أسباب النجاح. فليعلم أبناؤنا التلامذة هذا وليفقهوه. والأستاذ التبسي- كما شهد الاختبار وصدقت التجربة- مدير بارع، ومربّ كامل خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، وخرجه القرآن والسيرة النبوية في التديّن الصحيح والأخلاق المتينة، وأعانه ذكاؤه وألمعيته على فهم النفوس، وأعانته عفّته ونزاهته على التزام الصدق والتصلب في الحق وإن أغضب جميع الناس، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمّة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره. فجاءتنا هذه العوامل مجتمعة منه برجل يملأ جوامع الدين ومجامع العلم ومحافل الأدب ومجالس الجمعيات ونوادي السياسة ومكاتب الإدارات ومعاهد التربية. والأستاذ التبسي في إدارته يتساهل في حقوق نفسه الأدبية إلى درجة التنازل والتضييع، ولا يتساهل في فتيل من النظام أو الوقت أو الأخلاق أو الحدود المرسومة، ولقد كان- زيادة على الدروس التي يلقيها بنفسه- يطوف على الأقسام كلها بالتناوب متفقدًا، فيسمع المشائخ يلقون أو يسألون، والتلامذة يجيبون، ولقد كان بين المشائخ في أول السنة تفاوت، وبين التلامذة تباين عظيم، وكنت أنا ألمح هذا في الشهرين الأولين كلما اختلفت إلى المعهد، فما مضى شهران حتى رأيت بعيني أن ذلك التفاوت صار انسجامًا، وأن ذلك التباين انقلب اتحادًا ظهرت آثاره في آداب التلامذة وأخلاقهم وشمل هيئات الدخول والخروج والنوم والأكل وسائر التصرفات، وما جاء ذلك إلا من ضبط المدير وحزمه

وجاذبيته. وأشهد ... لقد حدّثني المشائخ في الأشهر الأخيرة فرادى ومجتمعين بأنهم انجذبوا إلى العلم انجذابًا جديدًا، وحببت سيرة الأستاذ التبسي التعليم إليهم على ما فيه من مكاره ومتاعب وأنهم أصبحوا لا يجدون بعد جهد سبع ساعات متواصلة يوميًا، نصبًا ولا لغوبًا. وليس الأستاذ التبسي جديدًا في سياسة التعليم والارتياض على الإدارة. فقد باشر التعليم المدرسي سنين عددًا بمدرسة "سيق" وباشر الإدارة والتعليمين المسجدي والمدرسي سنين بمدرسة تبسة ومسجدها اللذين أنشأهما بجهده ونفوذه. ثم اضطلع بالتعليم المسجدي وإدارته لتلامذة الجامع الأخضر، بعد موت الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس وانتقال التلامذة إلى تبسة في أيام الهزاهز والفتن. وأن من تلامذته في ذلك العهد رجالًا هم زينة مدارسنا اليوم، ومنهم من هاجر إلى الشرق ليكمل علمه فأوفى وبرز. ... وأما التعليم فهو الغرض والغاية من المعهد وأن معهدنا ليعنى من أول يوم بالتربية التي تهملها المعاهد كبيرها وصغيرها أو تتساهل فيها مع أنها هي الأصل والأهم المقدّم. كما يعنى باهتمام بغرس العقائد الصحيحة في أذهان التلاميذ وبتعويدهم على العبادات البدنية حتى ينشأوا مؤمنين عاملين للصالحات. وما قام الإسلام إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ونقول آسفين: إن معاهدنا الإسلامية في الشرق والغرب فرطت في جنب هذا الأصل العظيم وأهملت الأصلح واقتصرت على الصالح. ولعل موجة الإصلاح الآخذة في الامتداد تأتي على النقاثص وتأتي بالكمالات. وقد صدق الاختيار في المشائخ الذين وسدنا إليهم أمر التعليم في هذه السنة، فما منهم إلا من جلا وجلى وأحرز الغاية وحقّق الظن. وقد بنينا اختيارهم على أساس التجربة والمعرفة اليقينية بدرجة التحصيل، لا على اعتبار الشهادات الجامعية، وان كنا نقدّرها حق قدرها ولا نستخف بها. فالشيخان أحمد حماني وأحمد حسين يحملان شهادة "العالمية" من الزيتونة والشيخان عبد المجيد حيرش والمولود النجار يحملان شهادة التحصيل من الزيتونة أيضًا. والشيخ العباس بن الشيخ متخرج من القروبين. ولأكثرهم دربة بالتعليم ومران عليه وعلى أساليبه حيث قضوا فيه سنوات في ظل الحركة الإصلاحية وفي ميدان النهضة التعليمية، أما الشيخ نعيم النعيمي فهو عصامي في العلم، وحجة على أن الذكاء والاستعداد يأتيان مع قليل من التعليم بالعجائب. والرجل مجموعة مواهب لو نظّمت في الصغر ووجّهت لجاءت شهادة قاطعة على أن لا مبالغة في كل ما يروى عن أفذاذ المتقدمين. فهو يحفظ الأحاديث

الفرع وأصله

بأسانيدها (لا على طريقة عبد الحي) ويحفظ عدة ألفيات في السير وعلوم الأثر والنحو وغيرها، ويحفظ كثيرًا من متون العلم ويجيد فهمها وتفهيمها، ويحفظ جزءًا غير قليل من اللغة مع التفقه في التراكيب، ويحفظ أكثر مما يلزم الأديب حفظه من أشعار العرب قديمها وحديثها ومن رسائل البلغاء قريبًا من ذلك ويقرض قطعًا من الشعر كقطع الروض نقاء لغة، وصفاء ديباجة، وحلاوة صنعة. وقد أسلس له الرجز قياده فهو يأتي منه بالمطولات لزومية منسجمة سائغة في روية تشبه الارتجال. وهو ثاني اثنين من رجاز العرب في عصرنا هذا، ولو شئت لذكرت الأول كما يقول الصاحب ابن عباد. وإنما آثرت نعيمًا بهذه الكلمات لأنه ليست له "شهادة" فجئته بهذه الشهادة. والنية معقودة على إلحاق الثلاثة الذين خلفتهم الأعذار الغالبة بالمعهد في سنته الثانية. وهم المشائخ المدرّسون: محمد السعيد الزموشي، وعبد القادر الياجوري، ومحمد الجيلاني المجاجي الأصنامي، وكلهم متخرجون من جامع الزيتونة، وثالثهم يمتاز بالتلقي عن الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس ومعدود في الطبقة الأولى من تلامذته، وقد باشر التعليم في حياة الأستاذ وتحت إشرافه. وكل من الثلاثة مبرز في صناعة التدريس. ... الفرع وأصله: والمعهد وإن كان فرعًا عن جامع الزيتونة لا يخرج عن برامج أصله في الجملة. ولكنه قد يزيد عليها لفائدة محقّقة أو راجحة. وهو ينوي التوسع في مبادئ علوم الحياة وينوي توجيه النوابغ فيها إلى استكمال معلوماتهم في جهة أخرى غير الزيتونة على نفقته وتحت إشرافه ورقابته ليأخذوا من العلوم التطبيقية بنصيب فينتفعوا وتنتفع الأمّة بهم. وسيخرج المعهد عن نظام جامع الزيتونة في نقطة تحديد السن فيأخذ بالتحديد جريًا على السنة المأثورة عند جميع الأمم، ولعل جامع الزيتونة سينتهي بالتدريج إلى الأخذ بالتحديد. ... ومطالب المعهد: كان العبء المالي في السنة الماضية ثقيلًا جدًّا، لأن ثمن الشراء والإصلاح- وهو يناهز سبعة ملايين من الفرنكات- زاحم النفقات الشهرية من أكرية وأجور وإعانات، والتقى معها في شهر واحد، فأدّى ذلك إلى أن المعهد ما زال مدينًا ببعض قيمته. أما السنة الآتية

النجاح يقوي الأمل

فسيكون العبء أثقل لأن عدد المدرّسين سيزيد، وعدد التلامذة سيتضاعف وسنجد أنفسنا مضطرين إلى زيادة أقسام في السنة الأولى، وزيادة قسمين على الأقل في السنة الثانية، وزيادة قسم في السنة الثالثة. وإحداث سنة رابعة، ويترتّب على ذلك كله مضاعفة الأجور والإعانات وأجور السكنى. وان إدارة المعهد، ومعها اللجنة المالية، ومعهما جميع المصلحين وأنصار العلم باذلون جهودهم في إحضار السكنى للمشائخ وللتلاميذ. لأن المشائخ- ومنهم المدير- لا يستطيعون أن يعيشوا بعداء عن أهليهم سنة أخرى. وقد آذنوني بذلك من السنة الماضية واشترطوا فقبلت اعتمادًا على الله وعلى الأمّة. والشرط أملك، فلتعلم الأمّة هذا ولتعلم معه أننا قمنا بالواجب وبنينا لأبنائها صرحًا شامخًا، ومعهدًا للعلم باذخًا، وأبرأنا ذممنا من كل ما نستطيع الوفاء به. وأننا واثقنا الأمّة على التعليم فوفينا، وعاهدناها على السير بها إلى الأمام فبررنا. فإن وقع تقصير بعد الآن عن الغاية أو تراجع إلى الوراء فتبعته ملقاة على الأمّة وحدها. وإذا كانت هذه الأمّة تريد الحياة حقًا فقد شرعنا لها سننها، وفتحنا بابها وخططنا خطتها وبنينا أساسها، وقد قمنا في هذا الباب بواجبنا كاملًا، فليقم كل فرد من أفراد الأمّة بواجبه، حتى تحفظ هذه المشاريع وتقوى وتتكامل. ... النجاح يقوّي الأمل: نجح المعهد في السنة الأولى من عمره نجاحًا فوق المأمول. وأحسّ بذلك المشائخ والتلامذة، وأنصار العلم المتتبعون لسيره، والخصوم المتربصون به الدوائر وكل زائر له، وجاءت الامتحانات مصدقة لذلك. ولقد قرأت في أيام الامتحان ثلاث قطع من إنشاء تلاميذ السنة الثالثة، فوالله ما كدت أصدّق أنها من إنشائهم، لولا الأدلّة القاطعة على ذلك. ولولا أني توصلت بلطف الاستدراج إلى اليقين. إن هذا النجاح قوّى الرجاء في تحقيق الغاية من المعهد، وبسط الأمل، وهوّن العسير من الوسائل بما بثّه في نفوسنا ونفوس الأمّة من اطمئنان، وبما أكّد بيننا وبينها من ثقة، وأننا سنعمل على توسيع الميدان في هذه السنة بما ذكرناه من زيادة المشائخ والتلامذة والأقسام، وإحداث السنة الرابعة التي يحصل التلميذ فيها على الشهادة الأهلية ويخطو منها إلى جامع الزيتونة. وإدارة المعهد منهمكة في إعداد التراتيب الجديدة، على ضوء التجارب القديمة،

همسة في أذن الأمة

وستعلن ذلك مع الشروط في أوائل سبتمبر الآتي. وسنستدعي من يمكن استدعاؤه من أبناء الجزائر المغتربين في طلب العلم، الناهلين من ينابيعه الصافية العذبة المحصلين على أعلى درجاته علمًا وشهادة، لينفخوا في المعهد من أرواحهم القوية. ويبثوا فيه نشاطًا أقوى من نشاطنا، ونظامًا أكمل من نظامنا. هذا وإن الشرط الأساسي لنجاح المعهد وسيره من كامل إلى أكمل هو استقلاله في إدارته ونظامه وماله، وقد حقّقنا له هذا الشرط من أول يوم، فلا يتدخل في إدارته غير مديره ومستشاريه من المشائخ، وسيتكوّن منهم في المستقبل القريب مجلس إدارة بمعناه الصحيح. وكوّنا لجانه العاملة في النظام والمالية من رجال الإصلاح بقسنطينة. فالمعهد يجمعه قولك: فرع باسق بقسنطينة لأصل ثابت بتونس. ... همسة في أذن الأمّة: بوركت أيتها الأمّة، وبورك فيك الكرم وعلوّ الهمّة. إن معهدًا واحدًا لا يكفي لأمّة شارف عددها عشرة ملايين، فماذا أنت صانعة؟ أنت أمّة ولود للذرية. فالواجب أن تكوني ولودًا لأسباب الحياة لهذه الذرية. وفي مقدمة أسباب الحياة المدارس والمصانع. فإن كنت تلدين الأحياء ولا تلدين الحياة فبئس الأمّة أنت. إننا ننظر النظر البعيد في صالحك وما فتحنا معهد قسنطينة حتى عقدنا العزم على فتح معهد في مدينة الجزائر وآخر في مدينة تلمسان. يأوي كل واحد منها ألف تلميذ، لنغسل عنك لطخة عار سجّلته عن نفسك بهجرة أبنائك إلى الشرق والغرب في طلب مبادئ الفقه والعربية. أيتها الأمّة: قلنا لك ان العلم هو عمارة الوطن وأساس الوطنية ومنشئ الوطنيين. وأرشدناك إلى أن العلم بالتعلم. وحثثناك على تكثير مدارسه. وما غششناك في نصيحة، ولا دليناك بغرور. ولا استهويناك بخيال. في حين تألب عليك الغاشون والغارون والمستهوون. لك علينا البناء والتشييد، ولنا عليك العون والتأييد، وهذه مائة مدرسة وبضع عشرات من المدارس الابتدائية شدتها بإرشادنا، وبذلت فيها الملايين لم يلامس أيدينا منها درهم

كلمة الختام

واحد، بل أنت الدافعة، وأنت القابضة، وأنتِ الصارفة، وأنت المتصرفة، كل ذلك بواسطة الجمعيات الممثّلة لك. فلا تكذبي الحق المبين، وكذبي دعاوي المدّعين. وعاقدي العاملين لك على أمرين متلازمين: الأعمال الإيجابية، والعمليات الحسابية. لا على قاعدة: دع الحساب، ليوم الحساب. أيتها الأمّة: إن المشاريع التي بنيتها فأعليت بناءها ما زالت تعتمد على الإحسان المشتّت من الاكتتاب والاشتراك. وان هذه الحالة إن نفعت في هذه المرحلة، لا تنفع في جميع المراحل، فهل فكرت فيما يحفظ بقاء هذه المشاريع وحياتها؟ إن بقاء المشاريع وحياتها لا يكون بالسؤال ومدّ الأيدي في كل يوم. وإنما يكون بمداخيل قارة من أوقاف، أو مؤسّسات للدخل، أو زكوات شرعية. فعودي إلى ما كان عليه سلفك من وقف الرباع والعقارات على مدارس العلم. وحصني الأوقاف ما استطعت حتى لا تعبث بها الأغراض، ولا تتلاعب بها الأيدي. كلمة الختام: لعلّي أرضيت نفسي بذكرها مرات وإن ضحّيت في مرضاتها بالأسلوب والنسق، ولعلّي - بما ذكرته من إنفاق سنة كاملة من عمري في سبيل المعهد- قمت بالعذر عما وقع مني من تقصير وإخلال بالواجب في الأعمال العلمية العامة، ومع الأشخاص والجمعيات التي ترجع في أمورها إليّ وخصوصًا مع أبنائي المعلمين. فأشهد أني قصرت فيما تعوّدوه مني من إجابة مطالبهم وإزاحة عللهم. وعذري هو ما ذكرت. فليعلموا أنني- في الحقيقة- ما شغلت عنهم إلا بهم. وسينتهي هذا التقصير بانتهاء موجباته.

لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية

لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية * ما هذه اللجنة التي فرضت نفسها على المسلمين، أو فرضتها الحكومة على دين المسلمين؟ وعلى أي سند تستند؟ أعلى الدين؟ والدين لم يجعل للقضاة ولا لِلِّجَانِ سلطانًا على شعائره. أم على التاريخ؟ والتاريخ لم يعرف في جميع عصوره جماعة بهذا الإسم. أم على التقليد الموروث المتلقى من الأمّة بالقبول عن طوع واختيار؟ والتقاليد لا تعتبر إلا إذا عركتها الأزمنة وأصبحت جزءًا من حياة الأمّة، جارية منها مجرى الضروريات التي لا غنى عنها. يقول الشيخ قاضي الجزائر في بلاغه الذي نشره بالجرائد الفرنسية قبيل رمضان ما معناه: إنه رئيس للجنة الأهلة والأعياد الإسلامية الكبيرة، وإن هذه اللجنة أصيلة، وإنها لا صلة لها بالحكومة، ولا مدخل للحكومة فيها، هذا معنى كلامه. ونحن وجميع الناس لا نعرف إلا أنها حكومية لحمًا ودمًا ووضعًا. وأنها حديثة عهد بالولادة والتسمية. سبقتها لجنة أخرى مبتدعة كانت تسمّى لجنة الأهلة. لم يطل عمرها كبقية الأوضاع المزوّرة على الدين والتاريخ. ولا نعرف عمن ورثها الشيخ القاضي لولا الحكومة؟ ولا ندري من قلّده إياها لولا الحكومة؟ ولا من أي طريق توصّل إليها لولا القضاء؟ ولا من أي طريق توصل إلى القضاء لولا الحكومة؟ فالحكومة هي الأولى والأخيرة في الموضوع ولا معنى لإنكار ذلك. ولم يتوصل بها الشيخ بانتخاب من الأمّة، ولا بمؤهّلات علمية أو دينية. وإذا كان من بعض تراتيب الحكومات الإسلامية في القديم نصب قاض خاص بالأهلة، منقطع طول العام لتتبع مطالعها ومغاربها فإن ذلك سند انقطع، وسنة ماتت. على أن مفهوم "قاض" للأهلة غير مفهوم رئيس للأهلة والأعياد الإسلامية الكبيرة. فإن إدخال الأعياد هنا يشعر بأنها لجنة احتفالات بالأعياد تقيمها وتنظمها.

_ * "البصائر"، العدد 45، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.

ويقول الشيخ القاضي فيما ردّ به على زميله المفتي الحنفي ونشره بجريدة "الوزبر": إن لجنة الأهلة والمواسم الإسلامية في جميع أقطار الإسلام من خطط القاضي المالكي. ونحن نعرف أقطار الإسلام، ولكننا لا نعرف هذه الخطة. ونعرف تاريخ القضاء ولا نعرف أن هذه الخطة من خصائصه ولو كان مالكيًا. ثم ما معنى خطط القاضي؟ لقد كانت للقاضي خطط يوم كانت في يده الحدود والمظالم والتعزيرات والحسبة والأموال. أما قضاة (ما تحت الاستعمار الفرنسي) فهم كمسائل (ما وراء الطبيعة) وإنما ينظرون في الأنكحة والمواربث وأموال المحاجير نظرًا مقيّدًا بالقانون الفرنسي، وبسلطة القاضي الفرنسي. ويقول أيضًا: إن لجنته لا تقلّ قيمتها عن الهيئات الموجودة في الأقطار الإسلامية الأخرى. ونحن لا نسلم هذا إلا إذا سلّمنا أن هيأة قاضي الجزائر مساوية للهيئات الإسلامية في العلم والدين والمحافظة على الشعائر والذب عنها ولا نستطيع التسليم بذلك إلا إذا رزقنا جرأة كجرأة الشيخ القاضي. ويقول أيضًا: إن أعضاء هيأته كلهم متضامنون متحدون متفقون على ما فيه الخير والصلاح ودرء الخلاف والشقاق بين إخوانهم المسلمين الخ ... وبعض هذا صحيح، وهو التضامن، فقد تضامنوا في ليلة الشك على النوم من الساعة التاسعة ونصف- العاشرة، وتركوا الأمّة تنتظر. ... إن سلطة القاضي في الإسلام مقصورة على أحكام المعاملات الدنيوية ولا صلة لها بالعبادات، البتة، ومن أحكام المعاملات سماع الشهادة وتعديلها أو تجريحها، لأنها أساس في إيصال الحقوق إلى أهلها. أما الشهادة على الرؤية، رؤية الهلال، فهي من باب الخبر، لا من باب الشهادة. إذ لا حق للمخلوق هنا: وكل من سمع الخبر تعلّق به الحكم، وهو وجوب الصوم. والفرق بين الشهادة والخبر معروف عند الفقهاء. ولكن قضاتنا صيروا الخبر - رغم أنفه- شهادة، ودخلوا من بابها إلى رمضان الذي هو عبادة محضة لا يدخل فيها حكم الحاكم، فابتدأ تدخّلهم في مسألة الصوم بتلقّي الشهادات وتسجيلها ثم توسعوا في المسألة لهذا العهد حتى توهموا- بسكوت العامة- أنها من مناطق نفوذهم. ثم ترقت المواصلات الإخباربة بالتلفون والراديو، فأصبحت المسألة مصدر شهرة، فنافسهم فيها المفتون، ونازعوهم حبل النفوذ والظهور ثم ازدادت عناية الأمّة بدينها، فازداد الفريقان بها تعلّقًا. يتخذ منها المفتي مشغلة لوظيفته العاطلة، وتعميرًا لوقته الفارغ. ويتخذ منها القاضي أداة ظهور وزلفى للأمّة، وعلالة بالنفوذ الديني، ومظهرًا من مظاهر العناية بالدين يتجدد في

كل عام. ومن فاتته السلطة النافذة في صميم وظيفته، التمسها بالتصنع والانتحال، وانتجعها في المراعي البعيدة. ثم جاءت الحكومة في الأخير لتستغل ما زرعت بذوره، وغرست جذوره. وكان صوم هذا العام هو مصنع التجربة ... هذه هي وظيفة القاضي مقيّدة محدودة. أما المفتي فإنه لم يذكر في الكتاب. ولا مفتي في الإسلام بهذه الصورة. وإنما الفتوى في الدين واجب مشاع بين علماء الدين، وإذا كان خلفاء بني أمية يقيمون في مواسم الحج الأكبر مناديًا ينادي لا يفتي في الناس إلا عطاء، أو لا يفتي في الناس إلا طاوس، وإذا كانوا يقولون لا يُفتى ومالك بالمدينة، فما ذلك إلا أنه عطاء وطاوس ومالك ... ونحن نسمّي حادثة هذا العام مهزلة حكمًا بالظاهر، وقياسًا على ما كان يقع في الأعوام الماضية من التلاعب وتقوية أسباب الخلاف بين جماعات هذه الأمّة المسكينة. أما في هذا العام فهي مهزلة ومكيدة معًا. فقد دلّت القرائن على أنها مكيدة مدبّرة محبوكة الأطراف، اشتركت فيها عدة هيئات وأشخاص أولها الهيئة الحكومية، وآخرها هيئة الأهلة والأعياد، وبينهما ما شاء الهوى من وسائط وأدوات. منها راديو الجزائر الذي بادر إلى النوم، كأنما كان هو واللجنة فيه على ميعاد، ولا نبرئ راديو تونس في هذا العام، فقد رأيناه يتثاءب ويتمطّى ويتناوب ويضيق به الصبر فتسكت نامته، وآذان سامعيه معلّقة به. كأنما سرت إليه نفحة من وحي الجزائر. وهكذا تقوم الشواهد كل يوم على أنه لا ثقة بهذه المصالح والهيئات التي لا تتحرك ولا تسكن إلا بالوحي والإيعاز، ومنها مرصد (بوزريعة) الذي يعتمد عليه الشيخ القاضي ويقول عنه لسان حاله: إنه حيث لا هلال في المرصد، فلا هلال في السماء. ونحن لا نثق ببوزريعة ولا بمكبراته، ومتى كان بوزريعة مصدر شريعة؟ ومتى كان مصدر وحي بالصوم والإفطار؟ إن الرصد علم. لم يبلغ بنا الجمود أن ننكره. ولكن الاستعمار يفسد العلم بإفساد العلماء. ويوم يجمع علماء الإسلام على الرجوع في الصوم إلى الحساب والترحيل يكون لهم في علماء الفلك منهم مندوحة عن مراصد الاستعمار التي يشيّدها، ويقيّدها. وعن علمائها الذين لا يسميهم حتى يسممهم. أصل هذه المهزلة أو المكيدة، وعفتها التي سهّلت على مرتكبيها ارتكابها مهزلة أخرى صنعها الاستعمار صنعًا ليذرّ بها الرماد في العيون، فقد شرع في العام الماضي قانونًا يقضي باعتبار الأعياد الإسلامية أعيادًا رسمية تعطل فيها المصالح والأعمال. ومن ذلك اليوم زيد في اسم (لجنة الأهلة) سطر وهو (والأعياد الإسلامية الكبيرة).

وإلى الآن لم ندر ما مرادهم بالكبيرة؟ لم تبلغ بنا البلاهة إلى حدّ أن تخفى علينا المقاصد الحقيقية من هذه الترهات. فقد فطنا من أول لحظة للقصد من هذا التشريع التافه. وسبق الشيخ أبو القاسم البيضاوي فكتب مقالة في العدد الثامن عشر من "البصائر" كشف فيها الغطاء عن هذه اللعبة، ونبّه الأمّة إلى ما ينطوي عليه هذا القانون من كيد. وأن الغاية منه التوصل إلى العبث بأعيادنا والتحكم في شعائرنا بواسطة لجنة كلجنة الأهلة والأعياد. كانت المكيدة مفضوحة بنفسها وبأيدي رجالها الذين غفلوا عن موطن النقد فافتضحوا ودلونا على أن الأمر كله وحي وإيعازات. ذلك أن ليلة الأربعاء هي ليلة الشك. فكان الواجب على لجنة الأهلة أن تنسى الأعياد، وأن تأخذ للأمر حيطته بأربعة أمور: الأول: أن تبقى مجتمعة في مكتبها إلى ما بعد منتصف الليل لتتلقّى الأخبار لاسيّما وبلاغ الشيخ القاضي يتضمن هذا. الثاني: أن تتقدم إلى إدارة البريد بإبقاء المكاتب البريدية في القرى الصغيرة مفتوحة إلى ذلك الوقت. الثالث: أن تتقدم إلى إدارة الراديو بمثل ذلك. الرابع: أن تكون على اتفاق مع جميع قضاة القطر بأن يتصلوا بها إلى ذلك الوقت. ولو شاءت اللجنة لفعلت ذلك من دون مانع ولا عائق، أولًا لأن للقضاة جمعية ورئيسها هو رئيس اللجنة. وثانيًا لأن هذه الأشياء الأربعة حكومية، فهي أخوات من الرضاع وقد سمعنا أن جمعية القضاة اجتمعت مرات، ولم نسمع أنهم ذكروا هذه المسألة الخطيرة بكلمة. غير أن لجنة الأهلة والدعاية لم تفعل شيئا من ذلك، بل فعلت نقيض ذلك. فما جاءت الساعة التاسعة ونصف- العاشرة حتى كانت مكاتب القاضيين والمفتيين بالجزائر كلها مغلقة، وأهلها نائمون. وسرى النوم منهم إلى الراديو فغطّ، كأن الليلة ليست ليلة شك. وكأن الأمّة ليست في انتظارهم وانتظاره وكأن الشيخ القاضي لم يكتب في ذلك بلاغا. ولو أنه انتظر إلى نصف الليل، لَقام عن نفسه بالعذر سواء صدّق خبر قسنطينة أو كذّبه. وقد طلب مركز جمعية العلماء مكاتب القاضيين والمفتيين مرارًا إلى ما بعد نصف الليل، فلم يجبه أحد، وجاءتنا الأخبار من الآفاق بأن عشرات من الناس طلبوا مكتب اللجنة

عشرات المرات فلم يجبهم أحد. وأن محكمة قسنطينة خاطبته بعد العاشرة لتبلغه الخبر الذي تلقّته بالرؤية فوجدته نائمًا. وبلغتنا الأخبار الصادقة بأن كثيرًا من المحاكم لم تفتح ليلة الأربعاء ولا دقيقة، وأن قاضي سطيف استيقظ في الساعة الثامنة من صباح الأربعاء فبلغه أن الرؤية ثبتت عند قاضي قسنطينة، فأمر مناديًا ينادي في الناس بالإمساك فقابله مفتي البلد به بمناد آخر ينادي بالفطر. وكانت فتنة، وكان تشويش، وكانت سخرية بالغة من الأجانب. وما كان القاضي ولا المفتي يريد بما صنع وجه الله ولا نصر الحق، وإنما هو تنازع على نفوذ موهوم ورياسة زائفة. ومما يزيد في الحسرة والألم أن جريدة "ديبيش قسنطينة" نشرت صباح الأربعاء خبرين متناقضين في إطار واحد، أحدهما بالحرف الدقيق ومعناه أن قاضي قسنطينة أثبت الصوم، والآخر بالحرف الغليظ ومعناه أن قاضي الجزائر يقول: لا رؤية، ولا هلال، ولا صوم. وجريدة "الديبيش" من ألسنة الاستعمار الحادة، ومن معامل الكيد للإسلام والمسلمين، ومصانع الاستخفاف بهما، والاحتقار لهما. ولها في كل حرف تنشره عنهما حكمة وغرض. ففي نشر الخبرين معًا في إطار واحد بنوعين من الحروف أحدهما يلفت النظر، معان لا تخفى علينا ومغاز لا نستغرب منها، ودلالة على دعايتها لأحد الخبرين، وترجيحًا له. وإننا لا نلومها على شيء خلقت له، فقامت به أحسن قيام. وإنما نلوم هذه الهيئة القضائية المتشاكسة على إدخالها الأغراض الشخصية في مسائل الدين، وعلى هذا التلاعب الذي مهّدت به السبيل للسخرية من الإسلام والمسلمين. ... أصبحنا لا نثق بهذه الهيئات المسيرة، ولا بهذه الآلات المسخرة. فهل للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينظروا لدينهم، ويجمعوا على أمر يشرف الإسلام وينقذه من هذه الفوضى المخزية. وسندلي برأينا في ذلك ونشارك في وضع خطة الإنقاذ. وقد كنا نشرنا على الأمة منشورًا في العام الماضي، وأعدنا نشره في هذا العام مكنا فيه للثقة بمراكز الإذاعة في تونس والجزائر والرباط، وبالأخبار التي تأتيها من الهيئات الشرعية، حملًا لها ولهم على محمل الأمان والائتمان. ولم نراع في ذلك كونهم قضاة ولا مفتيين. وإنما راعينا كونهم عمالًا مؤتمنين. أما الآن ... وبعد اطلاعنا على هذه الخائنة منهم فقد بدا لنا فيهم بداء. وما على الأمة بعد هذا إلا أن تعتمد على نفسها، وأن تتبادل الأخبار التلفونية من شاهدين إلى شاهدين، وأن تجتهد في تعميم الأخبار بالوسائل الممكنة.

سنة من عمر "البصائر"

سنة من عمر "البصائر" * بتاريخ هذا العدد تسلخ "البصائر" السنة الأولى من سلسلتها الثانية حامدة لله تعالى على ما وفق وأعان ويسر، شاكرة للكتاب والقراء ما بذلوا من عون وتنشيط. فخورة بهذه الأسرة المخلصة المتعاونة، وبهذا الجيش اللجب من العلماء والكتاب والشعراء، وهذا المدد المتلاحق من القراء والأنصار. معتزة بهم، معتقدة أن الله سبحانه لم يقيض لجريدة مثل ما قيض للبصائر من أعوان وأنصار. وأنه ما قيض لها ذلك حتى وفقها للإخلاص، ويسرها لليسرى، وجملها بالصدق، وهيأها لحمل أمانة الحق. سلخت "البصائر" هذه السنة من عمرها مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، نقية العرض، طاهرة اللسان. لم تتنازل من حقوق الأمة في دينها ودنياها على شعرة، ولم تعش على خبيث المطاعم، ولم تبع لقرائها ما حرم الله من كذب وسب، ولم تعودهم عوائد السوء من التضليل وقلب الحقائق، ولم تتنزل لمسافهة السفهاء الذين تحركهم المطامع الدنية والأيدي الخفية. إلى مناوشتها والتحرش بها ليشغلوها بالباطل عن الحق، وبغير المفيد عن المفيد، وليفتحوا معها واجهة من الخصام الداخلي ليس من مصلحة الأمة ولا من مصلحتهم لو كانوا يعقلون. ولكن "البصائر" تفطنت لكيدهم وما يضمرون، فأعرضت عنهم فلجوا، فاحتقرتهم. ثم وزنتهم فوجدت الغش والتزوير والتضليل والتدجيل وإنكار الحقائق الملموسة، ووزنت جمعية العلماء التي يحاربونها فوجدت العلم، والأعمال المفيدة، والمدارس المشيدة، فتركت البصائر الكلمة لهذه الأعمال، لتدمغ بنفسها تلك الأقوال. ولو شاءت البصائر لأوقفت كل سفيه عند حده، ولسقته من الرد حميمًا وغساقًا. ولئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون بجمعية العلماء ليكونن للبصائر معهم موقف جديد، في عامها الجديد.

_ * "البصائر"، العدد 45، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 2 أوت 1948م.

ومن الغريب في أمر هؤلاء أنهم يعمدون إلى سيئاتهم التي صارت طبيعية فيهم فيحاولون - عمدًا- إلصاقها بجمعية العلماء. وهذا نوع من التضليل وتغطية الإجرام لا يطول أمده ولا يلبث أن يفتضح صاحبه. وهم يجهدون في أن يقلبوا حسنات جمعية العلماء سيئات، وأنهم لا يستطيعون ذلك، وكيف يستطيعون؟ ومن حسناتها القرآن تهتدي به وتهدي، ومن حسناتها الإسلام تنوه به وتنشر محاسنه، ومن حسناتها هذا البيان العربي الذي أحيته في الألسنة والأقلام، ومن حسناتها هذه المدارس العديدة المتوجة بهذا المعهد الباذخ، ومن حسناتها عشرات الألوف من أطفال الأمة فتحت أعينهم على النور ونهجت لهم نهج الحياة. والبصائر سجل للحركة العلمية والأدبية بهذا القطر، وثبت حافل بأعمال جمعية العلماء، وكنز من البيان العربي تشد عليه أيدي الضنانة وأعدادها تكون في كل سنة مجلدًا نفيسًا تزان به الخزائن، فعلى قرائها أن يحتفظوا بها، وقد أبقت إدارة البصائر مجاميع ستجلدها وتبيعها لمن فاته جمعها أو قراءتها، وكان النظام يقتضي أن تكون المجموعة مؤلفة من خمسين عددًا، ولكن عطلة الأعياد وعوائق أخرى اعترضتنا في أثناء السنة حتمت علينا أن تكون مجموعة هذه السنة مؤلفة من خمسة وأربعين عددًا هذا آخرها. وأما ما بذلته أسرة البصائر من جهد ظهرت آثاره في الأسلوب وجمال الطبع، ودقة التصحيح- فهو شيء تحتسبه الأسرة في خدمة العربية ولا تمنه، وإنها لترجو فوق ذلك مظهرًا. أما المواضيع التي تخصها البصائر في عامها الثاني بالعناية- زيادة على العموميات- وتحمل فيها الحملات الصادقة: ففي مقدمتها فصل الدين عن الحكومة وما يتفرع عن الفصل، كالمساجد والأوقاف، وحرية الصوم والحج وحرية التعليم العربي، ومنها دراسة مناهج التعليم في المدارس الحرة والمعاهد، ومحاربة الجراثيم التي داخلت الجهاز التعليمي، وستبتدئ من العدد الآتي بنشر سلسلة بعنوان (جناية الحزبية على التعليم) تفضح فيها هؤلاء الذين يوحون إلى التلاميذ ما يزهدهم في العلم، ويعوق سيرهم فيه، ويقلل تحصيلهم له، حتى يرمينا الزمان- بسببهم- بجيل أشل، يزيد في بلاء الأمة، ويحقق الأمنية الكبرى من أماني الاستعمار التي عجز عن تحقيقها بنفسه فاستعان عليها بهؤلاء، ويصدق التهمة العظمى التي يرمينا بها الاستعمار، وهي أننا شعب بليد لا استعداد فينا للعلم، وأنها- والله- لجريمة يرتكبها هؤلاء الدساسون للتلامذة، والمندسون في صفوفهم، وإن أول واجب على الأمة أن تتفطن لهذه الجريمة ولهؤلاء المجرمين، وأن تتصورها بعواقبها، وأن لا تستخف بها فتضيع عليها رغائبها وأموالها وجيلًا كاملًا من أبنائها.

سنة "البصائر" الجديدة

سنة "البصائر" الجديدة * تستقبل "البصائر" بهذا العدد عامًا جديدًا من عمرها المديد بالأعمال لا بالأقوال، العامر بالحقائق لا بالخيالات، وبالجد لا بالهزل، وبالبناء لا بالهدم، سائلة من الله تعالى- في اخبات المؤمن، وخشوع القانت- توفيقًا ينير السبيل، وإعانة تسهل العسير، وتأييدًا يشد الأزر، ومددًا روحانيًّا يقوى العزائم ويغذي اليقين، ويثبت الأقدام. تستقبل "البصائر" هذه المرحلة الجديدة من مراحل جهادها، وهي على أشد ما كانت عليه من الإيمان واليقين والاستبصار والحزم والثبات والصبر، وهي الخلال التي اتسمت بها من يوم نشأت، ولم تزدها ممارسة الأيام والحوادث إلّا شدة فيها، واستمساكًا بها، فكانت عدتها في الشدائد، وسلاحها في مواطن البأس واليأس، حين تهفو الأحلام وتطيش الآراء، وتزيغ البصائر، ولا تظن نفس بنفس خيرًا. ... قطعت البصائر عامها الأول من عهدها الجديد في مقارعة الاستعمار، في الميدان الديني والعلمي كثيرًا، وفي الميدان السياسي قليلًا. كشفت نياته وألاعيبه في قضايا فصل الدين الإسلامي عن الحكومة، وحرية التعليم العربي والحج، وفضحت مكايده في وضع الدستور الجزائري ومهازل الانتخاب، ولم تعف أعوانه في الميدانين، المتسترين منهم والمجاهرين، ثم شاركت بجهد المقل في قضية فلسطين بتلك المقالات التي أمدها اللسان العربي بقبس من بيانه، وأمدها البلاغ الإسلامي بقوّة من برهانه، وأمدها التاريخ الصادق بفواصل من فرقانه، ثم طافت في فترات العام المتقطعة بموانع الاهتمام من شؤون الجزائر، فوضعت في

_ * "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948م.

كل جرح دواء، ورفعت لكل غادر لواء، وأعطت في كل حدث رأيًا، ولكل مشكلة علاجًا، ونصبت في كل ميدان جنديًّا، كل ذلك بقدر ما وسعه جهدها، وانفسح لعمله ذرعها، ثم لم تغفل يومًا عن وظيفتها الأصلية وهي خدمة التعليم العربي ومدارسه ورجاله. ... والبصائر حين تضع تلك الشارة الثمينة على صدرها، بل ذلك التاج اللامع على رأسها، وهو كلمتا: العروبة والإسلام- لا تضعها رمزًا بلا حقيقة، ولا عنوانًا بلا كتاب، ولا حلية على عجوز، بل هي حقيقة صادقة، ومزنة وادقة، وأعمال مبرورة للعروبة والإسلام. لا تزيد فيها ولا مبالغة. فالبصائر هي مجلى البيان العربي بهذا القطر، وهي حارسة الهدي المحمدي بهذا القطر، وهي المؤتمنة على الفضائل الشرقية بهذا الوطن في وقت أجلب فيه الاستعمار بخيله ورجله على هذه الثلاثة، ينتقّصها ليزهد فيها، وينقصها ليبيدها. تمالئه على ذلك نزعتان خبيثتان، كلاهما من غرس يده: نزعة الالحاد التي هي شر ما نسلت الحضارة الغربية، ومن آثارها قطع الصلة بيننا وبين الشرق وروحانيته، ونزعة أخرى تلبس باسم الشرق العربي، وتأكل الخبز باسمه، زخرف القول غرورًا، ولكنها لا تعمل ما يرضيه، ولا تبني ما يعليه، وإنما ترفع العقيرة باسمه فتفضحها رطانة الأنباط، وتربط نفسها معه بمثل خيط العنكبوت فينحل الرباط، وتمتحن بخصائصه فإذا هي ... كما قيل في حجام ساباط. والبصائر ترى أن الشرق العربي شركة مساهمة، للمغرب العربي حق المساهمة فيه برأس مال، ليس منه الأقوال ولا الخيال، وأن جمعية العلماء التي تمثلها جريدة البصائر هي الهيأة الوحيدة التي قدمت حصتها كاملة للشركة العربية من رأس المال، بما أصلته للعروبة من أصول، وبما فصلته لها من فصول، وبما أقامته لها من معالم. نقول هذا ولا نبخس الهيآت العاملة أشياءها، وإنما نقول: ان رأس المال الذي نعتبر به شركاء في هذه الشركة العظمى- لا يتحقق بالبرقيات، ولا باحتفالات يوم العروبة. إذ غاية ما يدل عليه ذلك إثبات أننا عرب، وهذا تحصيل حاصل، وليس فيه في حدّ ذاته حاصل، وإن تأسيس مدرسة عربية، لأفصح في الدلالة على الاتصال من ألف برقية. إن هذه التهاويل والقشور هي من أسوأ ما جلبه إلينا الاستعمار من ضلال الحضارة الغربية. يلهينا بها عن الواجبات، ويحجب علينا بها الحقائق، وقبلها رمانا بالسم القاتل من فكرة الوطنيات الضيقة، ليضيع علينا الوطنية العامة. فلما ضاعت من أيدينا وأفكارنا- ابتلعنا لقمة، ولو حافظنا على الوطنية الكبرى العامة لما مزق أوصالنا هذا التمزيق الشنيع. فهل نعتبر؟ وهل نذكر؟

إن أعظم فائدة نجنيها من الجامعة العربية هي استبدال الوطنيات المحدودة بالوطنية الجامعة الواسعة، ولا تضع الجامعة العربية رجلها في طريق الفلاح إلّا يوم توحد التعليم ووسائل الثقافة والقضاء والنقد والجيش والتمثيل السياسي، ولو وفقت إلى ذلك من قديم لوجد "وسيط" الأمم الظالمة صفًا واحدًا، وإمامًا واحدًا، ولسانًا واحدًا، ولما رأيناه يطير كالديك من غصن إلى غصن ويؤذن على كل غصن بأذان ... ويا ويح فلسطين، إذا كان يدافع عنها شركاء متشاكسون. و"البصائر"- بعد هذا كله- ستعالج في عامها الجديد مشكلة التعليم العربي في أقطار العروبة وستمد يدها وبصرها إلى ما وراء الحدود، وستدلي برأيها- بكل إخلاص- في التعليم الجامعي بجامعاتنا الدينية العزيزة وستتوسع في القول بضرورة توحيد المناهج، والعناية بالتربية الخلقية في جامعاتنا ومدارسنا الابتدائية ولها في هذا الاستعداد القوي الذي استحكم في نفوس رجال العلم والعمل- أكبر أمل في النجاح. ... و"البصائر" ستشتد في مقاومة هذه "الاستعمارات" المقاومة للتعليم، وسيجدونها غصةً وشجًا وسمًا ناقعًا وغيظًا، وسيجدونها عن العلم نضاحة، ولأعدائه فضاحة، وسيجدونها- ما داموا على ذلك- حيث يجد العدو عدوه، لا حيث يجد الصديق صديقه. ... و"البصائر" جريدة العروبة والإسلام، فلتبق جريدة العروبة والإسلام.

جناية الحزبية على التعليم والعلم

جناية الحزبية على التعليم والعلم * مائة وثلاثون مدرسة عربية ابتدائية مجهزة بكل الأسباب المادية العصرية اللازمة للمدارس، وبجهاز آخر من المعنويات أعظم منها شأنًا وأجل خطرًا، وبجند من المعلمين الأكفاء قوامه مائتان وخمسون معلمًا، من بينهم عشرات من النوابغ في التعليم والإدارة، ومشحونة بزهاء ثلاثين ألف تلميذ من أبناء الأمة بنين وبنات، يتلقون مبادىء الدين الصحيح عقيدة وأعمالًا، ومبادىء العربية الفصيحة نطقًا وكتابة وإنشاء، ويتربون على الوطنية الحقيقية وعلى الهداية الإسلامية والآداب العربية، ويتكون منهم جيل مسلح بالعلم، ثابت العقيدة في دينه ووطنه، قوي العزيمة في العمل لهما ... ويزيد في قيمة هذه الحصون العلمية أن الأمة تملك أعيان نحو الخمسين منها، وتملك الانتفاع بالباقي على وجه الكراء. وسبعة وثلاثون مدرسة أخرى شرعت الأمة في تشييدها في هذه السنة، وفيها ما يحتوي على ستة عشر قسمًا، وفيها ما تقدر نفقاته بخمسة عشر مليونًا من الفرنكات. ومعهد تجهيزي عظيم، يخطو إلى الرقي والكمال في كل يوم في نظامه وبرامجه وأساتذته وتلامذته. يُؤوي من تخرجه تلك المدارس، ليزود الأمة منهم بالوعاظ والمرشدين وخطباء المنابر، ويزود الطامحين منهم إلى المزيد من العلم بالمؤهلات إلى ما يطمحون إليه. وجمعيات بلغت المآت، مقسمة على العلم والإحسان والأدب والرياضة، تبث في الأمة النظام، والإدارة، وآداب الاجتماع، وديمقراطية الانتخاب، وتعلمها كيف تناقش، وكيف تصوغ الرأي، وكيف تدافع عنه، وكيف تنقضه بالحجة، وكيف تزن الأفكار، وكيف تحاسب العاملين، وتدربها على التدرج من الإدارات الصغرى إلى الإدارات الكبرى. لأن

_ * "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948م.

الأمة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تحسن بالطبع- إدارة مجلس فضلًا عن حكومة، ولا كالجمعيات مدارس تدريب، ونماذج تجريب. ونواد بلغت العشرات، غايتها إصلاح ما أفسدت المقاهي والملاهي من أخلاق الشباب، وكلها ميادين للعمل، ومنابر للخطابة، ومستغلات للعلم والتعليم. وآلاف من الشباب العربي المسلم كان كالمجهول في نسبه، وكالجاهل لحسبه، ففتحت المحاضرات الحية أذهانه على تاريخ أسلافه وفتقت ألسنته على آدابهم، فتقاسم على أن يقفو الأثر، ويجدد ما اندثر، وأقبل على العلم حتى إذا ضاقت به الجزائر فارقها كالنحلة، ترحل إلى المكان السحيق، لترجع إلى خليتها بالرحيق. وإصلاح ديني تمكن من النفوس وتغلغل إلى الأفئدة، فطهرها من الشوائب التي شابت الدين، ومن النقائص التي شانت الدنيا، وصحح العقائد فصحت القواعد، وصحح العزائم، فأقدمت على العظائم، وإذا صحت العقائد وصلحت النيات، ظهرت الآثار في العزائم والإرادات. وفضائل شرقية كانت مشرفة على التلاشي فأحيتها مدارسة القرآن وممارسة التاريخ، وإفشاء الآداب العربية، ونشر المآثر العربية. وأمة كاملة كانت نهبًا مقسمًا بين استعمارين متعاونين على إبادتها: مادي متسلط على الأبدان، وروحاني متسلط على العقول، فصححت حركة الإصلاح الديني عقولها، فصح تفكيرها، واتزن تقديرها، واستقام اتجاهها للحياة، وان تحرير العقول من الأوهام، سبيل ممهد إلى تحرير الأبدان من الاستعباد. ... هذا هو رأس المال الضخم الذي أثلته جمعية العلماء للأمة الجزائرية في بضع سنين، وغذت به البقايا المدخرة من ميراث الأسلاف. وهذه هي الأعمال التي عملتها جمعية العلماء للعروبة والإسلام، فحفظت لهما وطنًا أشرف على الضياع، وأمة أحاطت بها عوامل المسخ، فأصبحت أمة عربية مسلمة شرقية نضاهي بها أخواتها في العروبة والإسلام، بل نباهيهن بها، وما شيدت جمعية العلماء هذا البناء الشامخ من الماديات والمعنويات ورفعت سمكه إلّا بعد أن أزالت أنقاضًا من الباطل والضلال تنوء بالعصب أولى القوّة والأيد، وبعد أن نازلت جيوشًا من المبطلين المضلين تَكِعُّ عن لقائها الأبطال، وبعد أن لقيت من حماة الاستعمارين ما تلقاه فئة الحق من فئات الباطل: كانوا أكثر وأوفر، وكنا أثبت وأصبر، وكانت العاقبة للصابرين.

وهذا ما وضعته جمعية العلماء من أسس ثابتة للوطنية الحقة، فأروني ماذا صنعت هذه الجماعات التي تسمي نفسها أحزابًا سياسية وحركات وطنية؟ وماذا عمل هؤلاء اللائكون لكلمة الوطن، من عمل صالح للوطن؟ وماذا قدم هؤلاء الماضغون لكلمتي العروبة والإسلام، من خدمة نافعة للعروبة والإسلام؟ وماذا عرف هؤلاء المزورون على الشرق العربي من الشرق العربي؟ لا نعرف نحن، ولا تعرف الأمة، ولا يعرف المنجم، لهؤلاء أثرًا صالحًا في تربية الأمة، ولا عملًا إيجابيًا مثمرًا في فائدة الأمة، بل لم نعرف جميعًا عنهم إلّا الضد. ففي باب التربية لم نر منهم إلّا التدريب على السب والكذب والاختلاق وقلب الحقائق والتمرين على التزوير والدعايات المضللة، والتعويد على الشقاق، والتبعيد عن الاتحاد، وفي باب الأعمال لم نر منهم إلّا عملًا واحدًا، هو الذي سميناه "جناية الحزبية على التعليم والعلم". هؤلاء القوم قطعوا الأعوام الطوال، في الأقوال والجدال، وجمع الأموال، وتعليل الأمة بالخيال، ومجموع هذا هو ما يسمونه سياسة ووطنية. فلما فحصنا هذا وقارنا مقدماته بنتائجه لم نجده إلّا تمهيدًا للانتخابات ووسائل للفوز بكراسي النيابات، وما يتبعها من خصائص وامتيازات. هذه هي الحقيقة وإن ألبستها الدعايات الجوفاء في الداخل والخارج ألف ثوب زور، وسنشرحها بالأدلة ونكشف الغطاء عن هذا الزيف، فلا أبطل من الباطل إلّا السكوت عليه. وقد كانت مواسم الانتخاب تأتي بعد السنوات فيكون في الفترات بينها مجال لدعوى المدعي وتضليل المضلل، ولكنها كثرت وتعددت وصحبها من مغريات الأجور ما أذهل المحتاط، عن أخذ الاحتياط، فافتضحت المقاصد، وظهرت العيوب. كثرت مواسم الانتخاب حتى أصبحت كأعياد اليهود، لا يفصل بعضها من بعضها إلّا الأيام والأسابيع، وكان ذلك كله مقصودًا من الاستعمار. لما يعلمه في أمتنا من ضعف، وفي أحزابنا من تخاذل وأطماع، وفي مؤسساتنا ومشاريعنا العلمية من اعتماد على الوحدات المتماسكة من الأمة، فأصبح يرميهم في كل فصل بانتخاب يوهن به صرح التعليم، ويفرق به الجمعيات المتراصة حوله، والتعليم هو عدو الاستعمار الألد لو كان هؤلاء القوم يعقلون. كان هؤلاء القوم عونًا للاستعمار على ما أراد من كيد التعليم واضعافه، فقد وقع في السنة الماضية انتخابان وأمعنت الحزبية في التضريب بين جماعات الأمة، وبالغت في التضليل والأماني، وبالغت في السب وتقطيع الأوصال، وبالغت في تمزيق الشمل المجموع حول التعليم: فما انتهى الانتخاب الأخير إلّا والجمعيات القائمة بالمدارس منشقة متعادية، والهمم التي كانت مجمعة على التعليم باردة فاترة والأيدي التي كانت مبسوطة للتعليم

مقبوضة شحيحة، وطاف طائف النعرات الحزبية ببعض المعلمين فنسوا واجبهم وأضاعوا الانسجام مع زملائهم- والانسجام شرط أساسي لنجاح التعليم- وفتحوا الباب للعامة في التحزب والتعصب، وكانت النتيجة- لولا أن تداركناها بالحكمة- بلاء مصبوبًا على مدارسنا وهي في خطواتها الأولى، ولو أن مدارسنا اشتدت أصولها، وامتدت فروعها، وكانت تأوي في الجانب المالي إلى ركن شديد، وترجع في الجانب العملي إلى رأي رشيد لكان وبال هذه النعرات الحزبية الشيطانية راجعًا إلى أصحابه وحدهم، ولو كان محركو هذه النعرات الحزبية يريدون بالوطن خيرًا- كما يزعمون- لجانبوا بدعايتهم هذا الجهاز التعليمي بمدارسه ومعلميه وجمعياته وموارده المالية، ولكنهم متعمدون لذلك متمالئون مع الاستعمار عليه، ومن ذا الذي يستطيع إقامة الدليل على براءتهم من هذه الجريمة، وأقوالهم شاهدة بذلك؟ هذه إحدى جنايات الحزبية على التعليم زيادة على جنايتها على الأخوة والمصلحة الوطنية العامة. إن التعليم عند الأمم التي عرفت الحياة معدود في المقومات التي هي رأس مال الوطن، ورأس المال يسمو عن الحزبيات، ولكن التعليم عند هؤلاء الدجالين منا معدود في الدرجة الأخيرة من الاعتبار، فيجب في نظرهم السخيف أن يخضع للانتخاب، وسمخر هو ورجاله للأحزاب، وقد تختلف الأحزاب عند تلك الأمم في فكرة سياسية، وترتفع حرارة الخلاف إلى درجة الغليان ولكن ... محال أن يصل الخلاف أو تمتد أسبابه إلى قدس التعليم ومدارسه ورجاله ونظمه وبرامجه ووسائله. محال ذلك لأن التعليم- عندهم- فودتى الأحزاب وفودتى الحزبية وأشرف منهما ولأنه رأس مال الأمة، وذخيرة الوطن، وهما مقدسان عند الأحزاب التي تحترم أممها وأوطانها .... اشتد الخلاف واحتد بين الأحزاب الفرنسية من الشيوعية المتعصبة إلى الكاثوليكية المتعصبة. فهل سمعتم أن الخلاف بينها تناول- يومًا- المدارس والكليات والدين والتعليم؟

مجلة أفريقيا الشمالية

مجلة أفريقيا الشمالية* لم يزل مكان المجلات العربية في وطننا فارغا، ولم يزل تطلع القراء إليها شديدًا، منذ احتجبت مجلة "الشهاب" وضعف الرجاء في عودتها إلى الظهور، حتى صدرت مجلة "افريقيا الشمالية" فسدت بعض الفراغ، وأنعشت بعض الأمل، وأرتنا مثالًا من تغلب الهمة على الصعوبة، وانتصار العزيمة على القنوط. وصاحب "افريقيا الشمالية" ولدنا الشيخ اسماعيل العربي من تلاميذ الإمام عبد الحميد ابن باديس، ومن ذلك الشباب الذي جهزته جمعية العلماء قبل الحرب لنشر "الإصلاح" والعربية فيما وراء البحار، وأحد أفراد بعثتها إلى القاهرة، وقد لبث فيها نحوًا من ثمان سنوات ما بين الجامعة الأزهرية، والجامعة الأميريكية إلى أن عاد إلى الوطن منذ سنة، فسمت همته إلى هذا النوع من خدمة الثقافة بوطنه، وهي خدمة جليلة لولا ما يعترضها من الصعوبات، وأصعبها وأشقها الطباعة، فمن النقائص الفاضحة في نهضة العربية بالجزائر فقد المطابع العربية. والشيخ اسماعيل العربي كفء لهذا العمل إذا وجد المساعدة والتنشيط وذللت أمامه عقبة الطباعة، وهو كاتب ممتاز في العلميات النفسية والأخلاقية. صدر من المجلة الجزءان الأول والثاني في هيأة لطيفة، وروح أدبية خفيفة، وبداية تدل على أنها سائرة إلى غايات شريفة.

_ * "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948 (بدون إمضاء).

و"البصائر" تتمنى لمجلة "افريقيا الشمالية" انتصازا يُقوّي المعنويات، وانتشارًا يقوم بالماديات، وتحسّنًا يضمن الاقبال واطراد السير، ولا تبخل عنها بالمستطاع من العون والتأييد، وأيسره حثّ الأمة على الاشتراك فيها. وتتمنّى لصاحبها نفحات تغذى الأمل، وتدفع إلى العمل، وتطرد طائف الملل، والله في عون الصحافي ما دام الصحافي في عون أخيه، وصبر جميل، أيها الزميل، فكلانا مبتلى ...

أدعاية أم سعاية؟ أم هما معا؟

أدعاية أم سعاية؟ أم هما معًا؟ * قالوا: ان جريدة "المغرب العربي" كتبت في الوجه الفرنسي من أحد أعدادها الأخيرة، ما معناه: أن الإبراهيمي يتجوّل في عمالة قسنطينة ليجمع زكاة الحبوب لفلسطين، إلى آخر العبارة، فلم نستغرب من هذه الرواية إلا شيئًا واحدًا، وهو أن يوجد في أخبار "المغرب العربى" كلام ثلثاه صدق ... فقد قالت: إن الإبراهيمي يتجوّل: وهذا حق، وقالت: انه يجمع زكاة الحبوب، وهذا صدق، وقالت: إن تلك الحبوب لفلسطين، وهذا كذب مقصود متعمد، بل ما سيق الكلام الذي قبله إلّا لأجله، وما اقترفت جريدة "المغرب العربي" جريمة الصدق في الجملتين الأوليين إلّا لأنهما وسيلة ومعبر إلى هذه الكذبة التي يسميها الناس كلهم كذبة، وتعتقدها تلك الجريدة من الحسنات الكبرى لأنها تجمع بين الدعاية والسعاية. كنا نهينا بعض الطلبة عن منكر يعوق عن طلب العلم، ولا يتلاقى مع العلم في سبيل، وهو هجر الدروس لأجل القيام بالدعايات الانتخابية، فسمت الجريدة المذكورة هذا النهي سعاية منا بالطلبة. فما قول العقلاء اليوم فيما كتبته عن جمع الزكاة لفلسطين؟ خصوصًا حين كتبت ذلك في وجهها الفرنسي ليفهمه من وجه إليه مباشرة بلا واسطة .... أما الصدق في القضية فهو أن الإبراهيمي تقدم إلى الفلاحين بالعمالة القسنطينية بأن يدفعوا نصف زكاة الحبوب للفقراء والمساكين، ويدفعوا النصف الآخر للمشاريع العلمية التي ببلادهم، ففهموا وامتثلوا، وضل سعي الكائدين. وما قالت جريدة "المغرب العربي" ذلك الكلام إلّا بعد أن طاف "باعة المغرب العربي" الجهات التي زارها الإبراهيمي لينهوا الناس- بإلحاح- عن هذا المعروف الذي أمر به،

_ * "البصائر"، العدد 47، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 30 أوت 1948م، (بدون إمضاء).

ولكن الناس كانوا أعقل من أن تؤثر عليهم هذه الدعايات، وأعلم بمن يضلهم ومن يهديهم، وأعرف بمن يستزلهم عن أموالهم ليضعها في جيبه، وبمن يأمرهم بالعدل والإحسان ليضعوا أموالهم بأيديهم في يد الله فتكون حسنات في الآخرة ونفعًا في الدنيا، ولعل هذا هو الذي تنقمه منا تلك الجريدة وباعتها، وتنتقم لأجله من المدارس بإفسادها لأنها تنقص عليهم "المدخول"، ومن شك في هذا فليتصفح جريدة "المغرب العربي" بوجهيها ولينظر هل دافعت عن حرية التعليم العربي؟ وهل انتقدت القوانين الجائرة الخانقة للتعليم العربي؟ وهل انتصرت للمدارس العربية التي يغلقها الاستعمار كل يوم؟ إن هذا الصنيع من أصحاب "المغرب العربي" وباعته في حديثهم عن زكاة الحبوب وفلسطين- يلزمهم بواحد من اثنين ولا ثالث لهما. إما أنهم يعتقدون حقا أن الحبوب تجمع لفلسطين، وعليه فهم أعداء لفلسطين يصدون الناس عن إعانتها، وإما أنهم يعلمون أنها تجمع للعلم، وعليه فهم أعداء للعلم يصدون الناس عن إعانته وإمداده، وأحد الأمرين لازم لهم لا يستطيعون عنه انفكاكًا. لم نتعود ذكر هذه الجريدة، فمعذرة إليها هذه المرة.

برقية تعزية في وفاة المنصف باي

برقية تعزية في وفاة المنصف باي * نصّ البرقية التي أرسلها الرَّئِيسُ الجليل إلى الأمير محمد الرؤوف نجل الفقيد، والأمير الهاشمي، والأمير حسين، والأمير محمد إخوة الفقيد، في تعزيتهم عن الفجيعة التي حلّت بهم وبالأمة التونسية جمعاء: قسنطينة يوم السبت 4 سبتمير 1948. إن وفاة صاحب الجلالة سيدي محمد المنصف كارثة عامة يشارككم في الحزن عليها المسلمون عمومًا وسكّان شمال أفريقيا خصوصًا. ويزيد آثارها الدامية تمكنًا في النفوس ما أحاط بها من ظروف الغربة والظلم. إنني باسمي وباسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن ورائها الأمة الجزائرية أعرب لكم عن الأسف العميق لهذه المصيبة، وأتقدم إليكم وإلى الأمة التونسية بالتعزية الخالصة. محمد البشير الإبراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 49، السنة الثانية، 13 سبتمبر 1948، وفي نفس العدد مقال "دمعة على المنصف" (انظر الجزء الثالث من آثار الشيخ).

كارثة الأغواط

كارثة الأغواط * لم تصلنا تفاصيلها، ولكن ما وصلنا من أخبارها المروّعة في هذين اليومين كاف في تصوّر الفجيعة، وفظاعة المصيبة، فإلى رحمة الله تلك الأرواح التي ذهبت ضحيّة التفريط وعدم الاحتياط. وإن بقاء الثكنات العسكرية ومستودعات جهنّم وسط المدن الآهلة- لَمِن سيّئات الاستعمار التي لا تغفر، وخصوصًا في هذا العصر. إن جمعية العلماء تتقدّم بالتعازي الحارة إلى العائلات المنكوبة سائلة من الله أن يعظّم أجور الأحياء في الأموات.

_ * "البصائر"، العدد 51، السنة الثانية، 27 سبتمبر 1948 (بدون إمضاء).

إلى المشائخ المعلمين

إلى المشائخ المعلمين * قرر المجلس الإداري لجمعية العلماء عدة قرارات مفيدة في شأن التعليم، وصمّم على تنفيذها وعلى تلافي النقائص المحققة بقدر الإمكان. ومن أهم ما قرّره تنجيز البرنامج الموحّد، وتنجيز اللائحة الداخلية التي تحدّد الحقوق والواجبات والعلائق بين المعلّمين أنفسهم وبينهم وبين الجمعيات المحلّية. ومن أهم ما قرّره ترتيب درجات المعلمين (كادر) حتى لا تغبن الكفاءات ولا تهضم الأقدمية. إلى عدّة إصلاحات خطيرة تعود على التعليم، بالخير العميم. إن المجلس استعرض نتائج الامتحانات للسنة الماضية فوجد في بعضها نقصًا ملموسًا، وضعفًا محسوسًا ودقّق البحث في أسباب ذلك فوجدها ترجع إلى العناصر الآتية: أوّلًا: روح التذمر المستولية على كثير من المعلّمين بسبب فقد السكنى واضطراب المعيشة، وهم على حق في هذا، وسنسعى في إزالته، والذنب فيه للجمعيات المحلّية. ثانيًا: غلاء أسعار الضروريات، وعدم قيام الأجور بها، وهو مِثْلُ الأول في اهتمامنا به وتقديرنا له. ثالثًا: افتتان بعض المعلّمين بالنزعات الحزبية. رابعًا: عدم انضباط البرامج. هذه بعض النقائص وأغربها أن يكون الكمال سببًا في النقص، فإن من بعض أسباب الضغف كثرة المدارس وشدّة إقبال الأمة، فأدّى ذلك إلى التساهل في بعض الاعتبارات اللّازمة، وظهر أن الرغبة زادت على الموجود من الرجال العاملين في التعليم.

_ * "البصائر"، العدد 31، السنة الثانية، 27 سبتمبر 1948 (بدون إمضاء).

بيان من المجلس الإداري لجمعية العلماء

بيان من المجلس الإداري لجمعية العلماء * قرار رقم 16، جلسة يوم الإثنين 9 ذي القعدة عام 1367هـ الموافق للثالث عشر من سبتمبر 1948م. جمعية العلماء- في حقيقتها- دفاع منظم قوي عن الإسلام والعروبة بهذا القطر. هيأه الله عناية بدينه ولغة كتابه، وهيأ له نوعًا من العلماء ممتازًا بقوّة العلم وقوّة الروح. ليقوم بما قام به المصلحون المصطفون من علماء الإسلام في جميع العصور كلما طاف بالدين طائف بدعة من الداخل، أو عارض شبهة من الخارج. فيقمعون البدعة لئلا تندثر السنن، ويردون الشبهة لئلا تلتبس الحقائق، وكلما تجافت الألسنة عن صراط العربية، وجفت النفوس والقرائح من الأدب العربي، فيقومون زيغ الألسنة لئلا تضيع الفصاحة، ويعالجون القرائح لئلا تفسد الأذواق، وما زال الإسلام مبتلى بالبدع والشبهات، وما زالت العربية مرزوءة في فصاحتها بهذه الضرائر من اللهجات النابية، والرطانات الغريبة، ولولا دفاع الله عنهما بمثل جمعية العلماء لانزوى القرآن في المصاحف وانضوت روائع العربيية إلى المتاحف. كما هو واقع بهما من يوم ظهر في الميدان أفجر عدوّ لهما على وجه الدهر، وهو الاستعمار المسيحي. وعمل جمعية العلماء- في جملته- إرث مذخور، ونصيب مفروض، لا يستحقه إلا العلماء أولوا الأيدي والأبصار، الذين أخذوا الكتاب بقوّة، ودرسوا ما فيه بتدبر، ولا يضطلع بحمله قليل العلم، ولا كليل الفهم، ولا ضعيف المنة، ولا منزور الحظ من البيان والإلهام.

_ * "البصائر"، العدد 31، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 27 سبتمبر 1948م.

وأعمال جمعية العلماء للإسلام والعربية هي البناء المتين للقومية، والتفسير الصحيح للوطنية، والشرح العملي لمعنى الأمة، والمعنى الجامع لهذه الكلمات الجليلة التي أصبحت عند أمم الأعمال مفخرة الفاخر، وعند أمم الأقوال- مثلنا- سخرية الساخر. ... وكما امتحن الله الإسلام بخصومه الكائدين له، المتربصين به، ليجلو حقه بباطلهم، ويظهر حقيقته بمزاعمهم، وبقوي حجته بشبهاتهم، ويثبت قواعده بما يحاولون من هدمه، حتى كأنه- بسببهم- موجود مرتين، أو كأنه موجود وجودًا مضاعفًا، وهذه إحدى سنن الله في الحق والباطل، ما وقف الباطل أمام الحق إلا كان حجة له لا عليه، بل كان حججًا مطوية في حجة، ففي تهافت الباطل حجة، وفي تَخَاذُل أصحابه حجة، وفي خذلان الله لهم في العاقبة حجة الحجج. وكما امتحن الله اللغة العربية بهذه الرطانات الناشزة ليقيم من عيها دليلًا على فصاحتها، ومن هجنتها برهانًا على صراحتها، كما يشهد قبح الشوهاء لجمال الحسناء، إذا تواقفتا في مشهد. كذلك ابتلى جمعية العلماء بجماعات يعارضون أعمالها، ويسفهون آراءها، ويطمسون حسناتها، ويَتَنَقَّصُون جلاثل آثارها ويعارضون بأقوالهم أفعالها، فلا تكون عواقبهم إلّا كعواقب من يترصد للإسلام الأذى، ويبيت للعربية المحو والإبادة، وما جعل الله الأولين إلا سلفًا ومثلا للآخرين. ... كان من المعقول أن يقف الكتابي أو الوثني في طريق الإسلام ليقطع مجراه أو ليصد تياره، ذيادًا عن دينه أن يهضم، وعن حوضه أن يهدم. وكان من الطبيعي أن يقف الأعجمي اللغة موقف المكابر في فضل العربية وجمالها وسحر بيانها، حَمِيَّة للغته أن تنتقص، ولآدابها أن تبخس، وما زالت المحاماة عن اللغات كالمحاماة عن الأعراض- غريزة بشرية. حتى لو سألت السوداني المتوحش عن لغته لقال: إنها أفضل اللغات، وإنها أفصح اللغات. ولكن غير المعقول وغير الطبيعي أن تقوم جماعة تحسب في عداد المسلمين وتعد من أبناء العرب، فتجاهر بالتنكر للإسلام والعربية، وتقيم العراقيل في سبيل انتشارهما، وتحارب الداعين إليهما والمدافعين عنهما، وتكون- من حيث تدري أو من حيث لا تدري- عونًا لأعدائهما عليهما.

إن الاستعمار ليطير فرحًا بالكلمة يقولها المسلم في تهوين الإسلام، وباللفظة يلفظها العربي في توهين الأمة العربية. لأنه يعلم منشأ ذلك في نفس القائل، ولعلم أثره في نفس السامع، وهو التدرج إلى التحلل من الدين، والهجران للعربية. فكيف به إذا سمع التزهيد فيهما يخطب به في المحافل؟ وكيف به إذا علم أن هذه الفكرة أصبحت مذهبًا يدعو إليه الدعاة، ويجتهد في نشره المجتهدون؟ إنها لجريمة. إنها لجريمة ... هذا كله بعينه ومينه هو ما يقوم به دعاة هذه الحركة التي سمت نفسها "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" مع جمعية العلماء، وتعليمها للإسلام والعربية، ومدارسها التي تعلم فيها الإسلام والعربية، ورجالها الذين تعتمد عليهم في ذلك التعليم، فقد وقفت هذه الطائفة موقف العداوة المكشوفة الصريحة لجمعية العلماء، لا لشيء تنقمه منها إلا أنها جمعية العلماء التي عرفها الناس وعرفوا أعمالها الجليلة في نشر الإسلام والعربية، ومواقفها المشرفة في الدفاع عن الإسلام والعربية. فإن لم يكن هذا هو الذي ينقمونه من الجمعية فما هو؟ أَثَأْرٌ لهم عندها؟ ولا ثأر. أم مزاحمة لهم منها؟ ولا مزاحمة. أم خلاف في الرأي؟ وهل يبلغ الخلاف في رأي دنيوي إلى حرب الدين واللغة؟ أم حقد طبيعي لا يغالب؟ وهل يبلغ الحقد بصاحبه إلى حدّ أن يخرب بيته بيده؟ ألا إن لهم في ذلك مأربًا يخفونه ولا يبدونه، وهو أن تكون الجمعية مسخرة في أيديهم، وقنطرة يعبرون بها إلى أغراضهم، وهذا ما لا يكون، وسحقًا لما يأفكون. هذه الطائفة تبث دعاتها في المدن والقرى، وتفرض عليهم سب جمعية العلماء ورجالها، وتحقير أعمالها، وحض الأمة على البقاء في الجهل والأمية، وعلى نفض يدها من التعليم ومدارسه، وعلى هدم المدارس هدمًا معنويًّا بقبض الأيدي عن إعانتها، وبتقبيح التعليم من حيث هو، وتبث دعاة آخرين إلى الطلبة المهاجرين إلى الزيتونة والقرويين يزهدونهم في العلم، ويلهونهم عنه، ويصدونهم عن سبيله، ويشغلونهم عنه بأمور مهما غلا فيها الغالون فإنها لا تبلغ في القيمة ما يبلغه العلم، ومهما كانت نافعة فإنها لا تنفع إلّا بالعلم ومع العلم، وتبث دعاة آخرين يدعون إلى مقاطعة "البصائر" لسان الصدق، ومجلى البيان، ومفخرة الصحافة العربية بهذا القطر، ومثال الجرأة والصراحة في الحق، وتبلغ بهم الوقاحة إلى أن يسبوا بائعيها ومشتريها. كل هذا مما يقوم به دعاة هذه الطائفة ويقولونه بصراحة لا تعمية فيها، وكل هذا مما شهدت به عليهم مآت الألوف من طبقات الأمة، وكل هذا معدود عند كبيرهم وصغيرهم من أصول الوطنية، وكل هذا يقع في داخل القطر الجزائري، أما في الخارج فهم يتسترون بثوب شفاف من الدعايات- ويشاركون الحركات العاملة بما يشارك به المفلس، أو بما يشارك به "طير الليل" طيور النهار. ***

هذه الجهود التي ينفقها هؤلاء في حرب العلماء والتعلم والتعليم والبصائر هو عند كل عاقل حرب للإسلام وللعروبة- لا إسم له إلّا هذا، ولا معنى له إلّا هذا، ولا يحتمل معنى آخر غير هذا. وجمعية العلماء سكتت طويلًا عن هذا الباطل لعله يبطل من نفسه، وعن هؤلاء المبطلين لعلهم يرعوون، فما زادهم سكوتها إلّا جرأة، حتى أوشك السكوت أن يكون إقرارًا للباطل، وقد قررت الآن، أن لا تسكت بعد الآن وستدمغ الباطل بالحق، والكذب بالصدق، وستدافع عن نفسها كما دافعت عن الإسلام والعروبة، وهي تشهد الله والأمة على أنها لم تبدأ بالهجوم وإنما هي مدافعة عن نفسها، بعدما أصبح سكوتها سكوتًا عن الحق وهي لم تتعود أن تسكت عن الحق. عن المجلس الإداري لجمعية العلماء محمد البشير الإبراهيمي

مقدمة كتاب "مجالس التذكير"

مقدمة كتاب "مجالس التذكير" * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القرآن كتاب الإنسانية العليا استشرفت إليه قبل أربعة عشر قرنًا حين ضامها أبناؤها فعقوها فارتكسوا في الحيوانية السفلى فأخلدوا إلى الأرض فأكثروا فيها الفساد، فأنزله الله من السماء ليصلح به الأرض وليدل أهلها المستخلفين عليها من بني آدم على الطريق الواصلة بالله، ويجدد ما رثّ من علائقهم به. وما أشد شبه الإنسانية اليوم بالإنسانية قبيل نزول القرآن في جفاف العواطف وضراوة الغرائز وتحكم الأهواء والتباس السبل وتحكيم القوّة وتغول الوثنية المالية. وما أحوج الإنسانية اليوم إلى القرآن وهي في هذا الظلام الحالك من الضلال وقد عجز العقل عن هدايتها وحده كما عجز قديمًا عن هدايتها لولا تأييد الله له بالأمداد السماوية من الوحي الذي يقوي ضعفه إذا أدركه الوهن ويصلح خطاه إذا اختل ميزانه. وكما أتى القرآن لأول نزوله بالعجائب والمعجزات في إصلاح البشر فإنه حقيق بأن يأتي بتلك المعجزات في كل زمان إذا وجد ذلك الطراز العالي من العقول التي فهمته، وذلك النمط السامي من الهمم التي نشرته وعممته، فإن القرآن لا يأتي بمعجزاته ولا يؤتي آثاره في إصلاح النفوس إلّا إذا تولته بالفهم عقول كعقول السلف وتولته بالتطبيق العملي نفوس سامية وهمم بعيدة كنفوسهم وهممهم. أما انتشاره بين المسلمين بهذه الصورة الجافة من الحفظ المجرد، وبهذا النمط السخيف من الفهم السطحي، وبهذا الأسلوب التقليدي من التفسير اللفظي- فإنه لا يفيدهم شيئًا ولا يفيد بهم شيئًا. بل يزيدهم بعدًا عن هدايته ويزيد أعداءهم

_ * مقدمة الشيخ لكتاب مجالس التذكير للإمام عبد الحميد بن باديس وهو الذي جمعت فيه أهم الأبواب التي كانت تصدر تحت هذا العنوان في مجلة الشهاب، طبع الكتاب بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة بمناسبة الذكرى الثامنة لوفاة الإمام ابن باديس 16 أفريل 1948.

استخفافًا بهم وإمعانًا في التكالب عليهم والتحكم في رقابهم وأوطانهم، ولو فهمنا القرآن كما فهمه السلف، وعملنا به كما عملوا به، وحكمناه في نفوسنا كما حكموه وجعلنا أهواءنا ومشاربنا تابعة له وموزونة بميزانه- لو فعلنا ذلك لكنا به أعزة في أنفسنا وأئمة لغيرنا. تفسير القرآن تفهيم لمعانيه وأحكامه وحكمه وآدابه ومواعظه والتفهيم تابع للفهم، فمن أحسن فهمه أحسن تفهيمه، ومن لم يحسن فهمه لم يحسن تفهيمه وإن كتب فيه المجلدات وأملى فيه ألوف المجالس، وفهم القرآن يتوقف- بعد القريحة الصافية والذهن النير- على التعمق في أسرار البيان العربي، والتفقه لروح السنة المحمدية المبينة لمقاصد القرآن، الشارحة لأغراضه بالقول والعمل، والاطلاع الواسع على فهوم علماء القرون الثلاثة الفاضلة، ثم على التأمل في سنن الله في الكائنات ودراسة ما تنتجه العلوم الاختبارية من كشف لتلك السنن وعجائبها، وقد فهمه السلف حق الفهم ففسروه حق التفسير مستعينين على ذلك بما ذكرنا من القرائح والأذهان، وأسرار البيان، ومستعينين بإرشاده على فقه سنن الأكوان، ولو لم ينحسر تيار الفهوم الإسلامية للقرآن بما وقف في سبيله من توزع المذاهب والعصبيات المذهبية لانتهى بها الأمر إلى كشف أسرار الطبيعة ومكنونات الكون، ولسبق العقل الإسلامي إلى اكتشاف هذه العجائب العلمية التي هي مفاخر هذا العصر. كان علماء السلف يشرحون الجانب العملي من القرآن على أنه هداية عامة لجميع البشر يطالب كل مؤمن بفهمها والعمل بها، وكانوا يتحاشون الجانب الغيبي منه لأنه مما لا يصل إليه عقل المكلف فلا يطالب بعلمه ولا يحاسب على التقصير فيه، وكانوا ينظرون إلى الجانب الكوني منه نظرات مسددة لو صحبها بحث مسدد ممن أتى بعدهم. وللمفسرين من عهد التدوين إلى الآن طرائق في فهم القرآن وأساليب في كتابة تفسيره. أما الأساليب فقلما تختلف إلّا ببعد العصور حين تختلف الأساليب الأدبية، فتنحط أو تعلو فيسري التطور منها إلى الأساليب العلمية. أما الطرائق فإنها تختلف باختلاف الاختصاص في المفسرين والعلوم التي غلبت عليهم وعرفوا بها. فالمحدثون يلتزمون التفسير بالمأثور، فإن اختلفت الرواية فمنهم من يروي المتناقضين ويدعك في حيرة، ومنهم من يدخل نظره وفكره في التعديل والترجيح كما يفعل أبو جعفر الطبري. ومقلدة المذاهب يفسرون القرآن بقواعد مذاهبهم ويحكمونها فيه، فإذا خالف نصّه قاعدة من قواعدهم ردوه بالتأويل إليها. وهذا شر ما أصيب به هذا العلم بل هو نوع من التعطيل، وباب من التحريف والتبديل، لأنه في حقيقة أمره وضع لكلام الله في الدرجة الثانية من كلام المخلوق، وفي منزلة الفرع من أصله يرد إليه إذا خالفه، وأعظم بها زلة، وإن هذه

الزلة هي الغالبة من صنيع المفتتنين بالمذاهب والمتعصبين لها يتباعدون عن القرآن ما شاء لهم الهوى. فإذا تناولوه فبهذه النظرة الخاطئة. والمتكلمون في معاني القرآن معظمهم من اللغويين والنحاة، فهم يتكلمون غالبًا على الألفاظ المفردة وأوجه الإعراب، فهم أقرب الكاتبين في الغريب أمثال الأصفهاني وأبي ذر الهروي، وإنما أطلقوا على كتبهم هذا الاسم (معاني القرآن) لأن بساطة الأسماء كانت هي الغالبة في زمنهم. والإخباريون مفتونون بالقصص فلا يقعون إلا على الآيات المتعلقة به، ويا ليتهم يحققون الحكمة من القصص، فيجلون العبر منها ويستخرجون الدقائق من سنن الله في الأمم وجميع الكائنات، ولكنهم يسترسلون مع الرواية وتستهويهم غرابة الأخبار فينتهي بهم ذلك إلى الإسرائيليات الخاطئة الكاذبة وقد أدخلوا بصنيعهم هذا على المسلمين ضررًا عظيمًا، وعلى التاريخ فسادًا كبيرًا. وأصحاب المذاهب العقلية إذا تعاطوا التفسير لا يتوسعون إلا في الاستدلالات العقلية على إثبات الصفات أو نفيها وعلى الغيبيات والنبوات وما يتعلق بها. والنحاة والباحثون في أسرار التراكيب لا يفيضون إلّا في توجيه الأعاريب أو في نكت البلاغة كما يفعل الزمخشري وأبو حيان. هكذا فعل القدماء والمحدثون بالقرآن، حكموا فيه نحلهم ومذاهبهم وصناعتهم الغالبة عليهم، فأضاعوا هديه وبلاغه وأبعدوا الأمة عنه، وصرفوها عن حكمه وأسراره، ولو ذهبنا مذهب التحديد في معاني الألفاظ الاصطلاحية لوجدنا المفسّر من هؤلاء قليلًا. أما المفسرون الذين يصدق عليهم هذا الوصف فهم الذين يشرحون فقه القرآن ويستثيرون أسراره وحكمه معتمدين على القرآن نفسه وعلى السنة وعلى البيان العربي كما أشرنا إلى ذلك قبلًا. ومن هؤلاء من اقتصر على الأحكام فقط كابن العربي والجصّاص وعبد المنعم بن الفرس، وهؤلاء الثلاثة هم الذين انتهت إلينا كتبهم، ومنهم من عمم ولكن توسعه ظاهر في الأحكام: أحكام العبادات والمعاملات كالقرطبي وابن عطية وأضرابهما. وكان خمود وكان ركود، وضرب التقليد بجرانه فقضى على ذكاء الأذكياء وفهم الفهماء إلى أن أذن الله للعقل الإسلامي أن ينفلت من عقال التقليد ويستقل في الفهم، وللنهضة العلمية الإسلامية أن يتبلج فجرها، ويعم نورها فكانت إرهاصات التجديد لهذه العلم ظاهرة في ثلاثة من أذكى علمائنا وأوسعهم اطلاعًا: الشوكاني والألوسي وصديق حسن خان، على تفاوت بينهم في قوة النزعة الاستقلالية، وفي القدرة على التخلص من الصبغة

المذهبية التقليدية، ثم كانت المعجزة بعد ذلك الإرهاص بظهور إمام المفسرين بلا منازع محمد عبده أبلغ من تكلم في التفسير بيانًا لهديه وفهمًا لأسراره وتوفيقًا بين آيات الله في القرآن، وبين آياته في الأكوان. فبوجود هذا الإمام وجد علم التفسير وتم ولم ينقصه إلّا أنه لم يكتبه بقلمه كما بينه بلسانه، ولو فعل لأبقى للمسلمين تفسيرًا لا للقرآن بل لمعجزات القرآن، ولكنه مات دون ذلك، فخلفه ترجمان أفكاره ومستودع أسراره محمد رشيد رضا فكتب في التفسير ما كتب ودون آراء الإمام فيه، وشرع للعلماء منهاجه ومات قبل أن يتمه، فانتهت إمامة التفسير بعده في العالم الإسلامي كله إلى أخينا وصديقنا ومنشىء النهضة الإصلاحية العلمية بالجزائر بل بالشمال الافريقي عبد الحميد بن باديس. كان للأخ الصديق عبد الحميد بن باديس رحمه الله ذوق خاص في فهم القرآن كأنه حاسة زائدة خص بها. يرفده- بعد الذكاء المشرق، والقريحة الوقادة، والبصيرة النافذة- بيان ناصع، واطلاع واسع، وذرع فسيح في العلوم النفسية والكونية وباع مديد في علم الاجتماع ورأي سديد في عوارضه وأمراضه. يمدّ ذلك كله شجاعة في الرأي وشجاعة في القول لم يرزقهما إلّا الأفذاذ المعدودون في البشر. وله في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم والإصلاح والتربية والتعليم، وهو أنه لا فلاح للمسلمين إلّا بالرجوع إلى هديه والاستقامة على طريقته، وهو رأي الهداة المصلحين من قبله، وكان يرى- حين تصدى لتفسير القرآن- أن في تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم وإضاعة لعمر الضلال، لذلك آثر البدء بتفسيره درسًا تسمعه الجماهير فتتعجل من الاهتداء به ما يتعجله المريض المنهك من الدواء، وما يتعجله المسافر العجلان من الزاد وكان- رحمه الله- يستطيع أن يجمع بين الحسنيين لولا أنه كان مشغولًا مع ذلك بتعليم جيل وتربية أمة ومكافحة أمية ومعالجة أمراض اجتماعية ومصارعة استعمار يؤيدها. فاقتصر على تفسير القرآن درسًا ينهل منه الصادي، ويتزود منه الرائح والغادي، وعكف عليه إلى أن ختمه في خمس وعشرين سنة، ولم يختم التفسير درسًا ودراية بهذا الوطن غيره منذ ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني في المائة الثامنة. كان ذلك الأخ الصديق رحمه الله يعلل النفس باتساع الوقت وانفساح الأجل حتى يكتب تفسيرًا على طريقته في الدرس، وكان كلما جرتنا شجون الحديث إلى التفسير يتمنى علي أن نتعاون على كتابة التفسير ويغرينى بأن الكتابة عليّ أسهل منها عليه، ولا أنسى مجلسًا كنا فيه على ربوة من جبل تلمسان في زيارة من زياراته لي وكنا في حالة حزن لموت الشيخ رشيد رضا قبل أسبوع من ذلك اليوم فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له: ليس لإكماله إلّا أنت، فقال لي: ليس لإكماله إلا أنت، فقلت له: حتى يكون لي علم رشيد وسعة رشيد ومكتبة رشيد ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد فقال لي

واثقًا مؤكدًا: إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيرًا يغطي على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت. ولما احتفلت الأمة الجزائرية ذلك الاحتفال الحافل بختمه لتفسير القرآن عام 1357 هجرية وكتبت بقلمي تفسير المعوذتين مقتبسًا من درس الختم وأخرجته في ذلك الأسلوب الذي قرأه الناس في مجلة الشهاب أعجب به أيما إعجاب، وتجدد أمله في أن نتعاون على كتابة تفسير كامل، ولكن العوارض باعدت بين الأمل والعمل سنتين ثم جاء الموت فباعد بيني وبينه، ثم ألحت الحوادث والأعمال بعده فلم تبق للقلم فرصة للتحرير ولا للسان مجالًا في التفسير، وإنا لله. لم يكتب الأخ الصديق أماليه في التفسير ولم يكتب تلامذته الكثيرون شيئًا منها، وضاع على الأمة كنز علم لا يُقَوَّمُ بمال، ولا يعوض بحال، ومات فمات علم التفسير وماتت طريقة ابن باديس في التفسير، ولكن الله تعالى أبى إلّا أن يذيع فضله وعلمه، فألهمه كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس وكان ينشرها فواتح لأعداد مجلة الشهاب ويسميها (مجالس التذكير) وهي نموذج صادق من فهمه للقرآن وتفسيره له. كما أنها نموذج من أسلوبه الخطابي وأسلوبه الكتابي. هذه المجالس العامرة هي التي تصدى الأخ الوفي السيد أحمد بوشمال عضد الإمام المفسر وصفيه وكاتبه والمؤتمن على أسراره، لتجريدها من مجلّة الشهاب ونشرها كتابًا مستقلًا، قيامًا بحق الوفاء للإمام الفقيد وإحياء لذكراه بأشرف أثر من آثاره، وها هو ذا بين أيدي القراء يستروحون منه نفحات منعشة من روح ذلك الرجل العظيم، ويقرأونه فلا يريدهم عرفانًا بقدره فحسبهم ما بنى وشاد، وعلم وأفاد، وما ربى للأمة من رجال كالجبال، وما بث فيها من فضائل وآداب، وما أبقى لها من تراث علمي خالد، لا يرثه الأخ عن الأخ، ولا الولد عن الوالد. وشكرًا للأخ الوفي أحمد بوشمال على هذا العمل الذي هو عنوان الوفاء.

مجالس التذكير

مجالس التذكير * هذ هو العنوان الذي كان يضعه الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحمد بن باديس- رحمه الله- لما يكتبه بقلمه البليغ في تفسير بعض الآيات القرآنية الجامعة ويجعله فواتح لأعداد مجلة "الشهاب" وهي لمع لامعة في التفسير، يتمنى قارئها عند كل جملة منها لو أن الأستاذ أتمّ تفسير القرآن كله كتابة، كما أتمّه درسًا على تلك الطريقة وبذلك التحليل، إذ يرى أسلوبًا مشرق الجوانب بنور العلم لا يفوقه في الروعة إلا حسن فهم كاتبه للقرآن. قرأ الناس تلك الفواتح في "الشهاب" واستفاد منها المستعدون ما يسّر عليهم فهم القرآن في جملته إذ جعلوا من ذلك القليل مرشدًا للكثير، فكأنهم لازموا الأستاذ خمسًا وعشرين سنة. واستفاد منه المتأدبون مثالًا عاليًا من ذلك الأسلوب الذي يجمع الأدب والعلم، فيستهوي العالم والأديب. وقد كان الأستاذ- في قلة من علمائنا- ممن انطبعت ملكاتهم على ذلك الأسلوب الذي يعلم العلم والأدب. ومن تلك القلّة: الراغب ومسكويه وابن العربي وعياض والزمخشري وابن خلدون والشاطبي. ولكن "الشهاب" مجلة، والمجلّة عندنا بنت عم الجريدة، تلفظ، ولا تحفظ، وتُتلى ثم تُلقى. وتضيع الأجزاء، ثم يضيع الكل. وقد نشأ بعد موت الأستاذ جيل نفور من تلك النظريات الجوفاء، وتلك الأساليب الرثة، وتلك الكتب التي تحملها، شديد الظمأ إلى التحقيق العلمي الذي يفضي به إلى الاستقلال في العلم. وفتنة هذا الزمان الاستقلال في كل شيء. وهذا الجيل لم يدرك دروس الأستاذ الحافلة، ولكنه أدرك مخايلها في مثل هذه الفصول من كتاباته، وأدرك آثارها في نفوس تلامذته، وأدرك أوصافها جائلة في أفواه الناس، فازداد شوقًا إليها، ولهفة عليها. فغير كثير على قادة هذا الجيل أن يهيّئوا له ما يروي ظمأه

_ * "البصائر"، العدد 51، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 27 سبتمبر 1948م.

ويرضي هواه من الكتب الممتازة بالتحقيق العلمي، وأن لا يتركوه فريسة لتلك الكتب المعتلّة التي نرجو أن يكون جيلنا آخر ضحاياها. ومن الشعور بهذه الحالة التي ألممنا بها إلمامًا، سمت همّة صديقنا الوفي الأديب أحمد بوشمال كاتب الأستاذ المفسّر وأمين سرّه، فجرّد من مجلة "الشهاب" قطعة صالحة من مجالس التذكير، وطبعها في مطبعة "الشهاب" طبعًا أنيق الحرف بديع الورق، فجاء تحفة فنية صغيرة الحجم، ولكنها عالية القدر وفي نيّته أن يصدر البقية في جزء آخر. وقد طلب من كاتب هذه السطور أن يقدّمه إلى القرّاء بكلمة فكتبها في جلسة سمر كثر ضجيجها، وتمتّع من الجد إلى الهزل حجيجها، فجاءت كما يهوى العاتب، لم تف بحق المكتوب ولا بحق الكاتب. وعسى أن لا تكون كلمتي هذه دعاية سيّئة للكتاب، فهو غني عن المقدّمة بما فيه من علم وعرفان. ونصيحتي الخالصة إلى كل من قرأه متفرّقًا أن يقرأه مجتمعًا وإلى كل من لم يقرأه أن يقرأه، وإلى كل ناشئ من هذا الجيل أن يجعله لدراسة التفسير مفتاحًا.

جريدة "العلم" الخفاق

جريدة "العلم" الخفاق * لهذه الجريدة الجريئة مكانة في نفوسنا لأن لها مكانة في نفسها ... ومن كرم على نفسه كرم على الناس. ولا تساويها في حلول هذا المحل من جرائدنا الشمالية إلا جريدة "الإرادة". وما جاءهما ذلك إلا من مزيج من الخلال، أهمها الاحتفاظ بالكرامة، والتحفظ في "المهنة". أصدرت هذه الزميلة الكريمة عددًا ممتازًا لأول سنتها الثالثة، فجاء ممتازًا حسًّا ومعنًى، جديرًا بالتهنئة على أنه آخر الوثبات الثلاث الخطيرة، ومن للزميلة العزيزة بالسلامة من قَلَم المراقب، وقلم الغاسق الواقب؟ أيتها الزميلة: إن "البصائر" الضنينة بالتقريظ، لا تنتهي بها الضنانة إلى التفريط ...

_ * "البصائر"، العدد 31، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 27 سبتمبر 1948م. (بدون إمضاء).

كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين

كيف تشكّلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين * - 1 - أن إغفال الحقائق يعدّ جناية عليها وعلى التاريخ فقط، ولا يهيّئ للمبطلين أن يعلنوا باطلهم، لرضينا أن تعصب بنا هذه الجناية ولم نكتب في هذه المسألة حرفًا ولكان بحسبنا أن نقتسم الخطتين بيننا، فنعمل ويقول غيرنا إلى أن ينجلي الصباح. ولكننا جرّبنا فكشفت لنا التجربة عن حقيقة واقعة، وهي أننا كلما أمسكنا عن تجلية الحقائق فرارًا من المهاترات وتجنّبًا للغو، وإيثارًا للنافع المفيد، لم يمسك القوّالون عن إعلان باطلهم، واتخذوا من سكوتنا حجة على أنهم محقون. لذلك وعدنا بأن نكتب عن حقيقة ما تضمّنه عنوان هذه الكلمة، ولذلك نفي اليوم بالوعد. وما سكتنا هذه المدّة إلا لمصلحة كانت محققة، ثم أصبحت راجحة، ثم أمست مفسدة. وداع آخر حتّم علينا الكتابة، وهو إلحاح القرّاء علينا في طلب بيان الحقيقة. ... كتبنا في "البصائر" تلك الكلمات المتتالية عن فلسطين، وبينّا فيها لإخواننا في الشرق العربي أن في بني عمّهم أقلامًا. وقد أحدثت تلك المقالات أثرها في الشّرق، وعرفوا لها قيمتها، وتناقلتها الجرائد والمجلات، وناهيك بمجلة "الرسالة"، فقد نقلت منها مقالة عن الانكليز، وكتب إلينا طائفة من أدباء الشرق ومفكّريه يثنون ويعجبون، كتب إلينا كاتب من النجف، وآخر من الموصل، وثالث من طرابلس الشام، ورابع من جبل عامل، وخمسة من فلسطين، وجماعة من مصر، وكاتبان من ليبيا، رسائل كلها إعجاب، وثناء مستطاب. وقال الأستاذ فائز الصائغ أستاذ الفلسفة بالجامعة الأمريكية ببيروت حين قرأ مقالة "يا فلسطين" في

_ * "البصائر"، العدد 52، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 11 أكتوبر 1948م.

العدد الخامس من "البصائر"، ما معناه: إنه لم يكتب مثلها من يوم جرت الأقلام في قضية فلسطين. وقد ختمت تلك المقالات ببيان حق فلسطين على العرب، ونحن منهم، فبيّنت أن أول واجب علينا هو بذل المال. ووقفت عند هذا الحد، وربأت بنفسي أن أحتكر الدعوة والعمل، وانتظرت وقع المقال في نفوس الأمّة. ولو شئت لفتحت اكتتابًا لفلسطين باسم "البصائر"، أو باسم جمعية العلماء، وفيهما- بحمد الله- الكفاية والكفاءة. ولهما- من فضل الله- الكلمة المسموعة في الأمّة والثقة المتينة، والسمعة العاطرة النقية. ولكنني تركت الميدان لغيري، لعلمي أن في الوطن رجالًا لهم سابقة الفضل في قضية فلسطين، وهيئات تحمل من هذا الإسم وسام الشرف، وقد عملت في ظروف أخرى جهد المستطاع من الخير لفلسطين، وإن لم يظهر لها في الطور الأخير أثر. وقد رمزت لهذا بتقديم مكتبتي الصغيرة لأية هيئة تتقدّم للقيام بهذا الواجب. وحكمة أخرى في عدم انفرادي بالعمل، وهي أنني كنت أترقب الفرصة المناسبة لأقوم بدعوة جديدة إلى توحيد الأحزاب والصفوف بعدما ضاعت جهودي القديمة، وأرجو أن يكون لي من قضية فلسطين عون على ما أريد، لأنها قضية دينية قومية سياسية، ففيها من كل غرض جانب وفيها لكل هوى جاذب. ثم خرجت في أثناء ذلك في جولة استطلاعية للمدارس، فبلغني- وأنا بمطارح غيبتي- أن لجنة نادي الترقي القديمة عازمة على العمل، وأنها زارت مركز جمعية العلماء سائلة عني طالبة مني المشاركة في العمل، وأنها عرضت هذا الطلب على الحزبين الجزائريين. ولما رجعت من تلك الجولة زارني- في داري- الأستاذ الشيخ الطيب العقبي وهو الروح المدبّرة لتلك اللجنة، وأخبرني بأن اللجنة تتنازل- مسرورة- عن اسمها ومطبوعاتها وأعمالها. وأنها تودّ الانضمام إلى هيئة قوية مؤلّفة من رؤساء الهيئات والأحزاب، وصارحني بأنه يشاطرني الرجاء في أن تكون قضية فلسطين مباركة كأرضها فتكون سببًا في جمع ما تشتّت من أحزابنا، وأجمعنا الرأي على أن ندعو الحزبين اللذين كنت تعبت في التأليف بينهما فلم أفلح. وقوي أملي في هذه المرّة أن قضية فلسطين ليس فيها كراسي ولا نيابة، وغاب عني أن فيها شيئًا اسمه ... الرئاسة، وقلت عسى أن يصدق الفال، فنجتمع على هذا العمل الجليل، ونظهر بالمظهر الذي يشرّف الإسلام والعروبة والجزائر. والتزم الأستاذ العقبي بدعوة رئيسي الحزبين، وفعل. فأما رئيس حزب البيان فأجاب الدعوة واستجاب إلى الداعي، وقبل هو وأصحابه العمل مع كل أحد، لأن قضية فلسطين في نظرهم فوق الاعتبارات الحزبية. وأما حركة الانتصار للحريات الديمقراطية فقد قال قائلهم عندما دعوا لأول مرّة: إن فلسطين هنا في الجزائر ولا شأن لنا بفلسطين أخرى، لأن أبناء الأمّة في السجون، وعائلاتهم تعاني ألم الحاجة والجوع، ثم بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون من عقد الاجتماعات التمهيدية، بمركز جمعية العلماء وبنادي الترقّي، ومن ضغط التيار الإجماعي من

الأمّة، وهالهم أن نكون نحن البادئين بالدعوة لأمر يجب- في مذهبهم- استغلاله للدعاية والمال. فأرسلوا رائدهم السيد أحمد مزغنه معلنًا لقبول الانضمام والمشاركة، وحضر الجلسة الثانية بنادي الترقّي وسمع المقرّرات البدائية، واقترح اقتراحًا فهمنا مغزاه من أول حرف، لهذه المناسبة، وهو أن يزور كاتب هذه السطور والعقبي وعباس فرحات رئيسهم الأعلى السيد الحاج مصالي، لأنه ممنوع من الهبوط إلى الجزائر، وما كانت الحيلة لتخفى علينا، ونحن أعلم الناس بمسالك القوم وأساليبهم في الدعاية لأنفسهم، ولكننا رجحنا شرف القضية على كل اعتبار، وقبلنا الاقتراح "على طول الخط" فزرناه من الغد في جماعة: الكاتب والعقبي وبيوض وفرحات وصاطور والدكتور ابن خليل، ووجدنا عنده السيدين: مزغنه وبودا. وتمّ الاتفاق على الهيئة واسمها وأعضائها الخمسة وأعمالها وعلى البرقيات. وكان سرور وكان ارتياح، وسرت الأخبار إلى الأمّة فطارت فرحًا. ولم يجر في تلك الجلسة ذكر للنقطة الحساسة، وهي احتكار القوم للرياسة، وإنما نبّه كاتب السطور إلى أن هؤلاء الأعضاء الخمسة، كالأسماء الخمسة، متساوية في الإعراب، وليس فيها أَمٌّ للباب. فقال القوم: إنها مائدة مستديرة، فقلنا إنها دائرة مستديرة، وليس لها زاوية. وكان المصوّر حاضرًا معدًّا (بالتوصية) فأخذ لنا مجتمعين عدة مناظر على تراتيب منوّعة اقترحت اقتراحًا (بالتوصية) أيضًا، وما كانت الحيلة لتخفى علينا هذه المرّة أيضًا، وهي دائرة على الدعاية والمال دائمًا، ولكن اعتبار فلسطين طغى على كل اعتبار في نفوسنا. وقلت لهم: أرسلوا لنا نسخة من كل منظر، لتذاع وتُنشر، ونحن ندفع قيمتها. وألحّ الشيخ العقبي في طلب هذا فوجموا ثم قالوا: نعم. كلمة تكاد حروفها تتزايل من الارتخاء والتخاذل. وانصرفنا والبِشر باد على الوجوه، ولكن النفوس فريقان: فريق باطنه كظاهره، وفريق يرى- كما دلّت العواقب- أن الحصول على الصور هو غنيمة الموقعة، وهي كل ما في الباب، وما عداها- حتى فلسطين- سراب في يباب، ويا لله لفلسطين ... حتى دماؤها وأشلاؤها تتخذ ذريعة للدعاية والمال، وحتى اسمها وقضيتها تتخذ أدوات للانتفاع والاستغلال، ولكن هذا ما وقع. وتتبع الرواية يرحمك الله.

- 2 -

- 2 - * كنت خلاصة ما تمّ في ذلك الاجتماع الذي قصصنا أخباره، أن الهيئة تتركّب من خمسة: العقبي، وبيوض، وعباس فرحات، ومصالي الحاج، وكاتب هذه السطور. وإنها هيئة إخوان لا رئيس فيها ولا مرؤوس، وإنما يرأس كل جلسة من يجتمعون في مكتبه، وأن اسمها (الهيئة العليا لإعانة فلسطين)، وأن تبدأ أعمالها بإرسال برقيات باسمها إلى جهات مخصوصة منها برقية تأييد وإعلان لوصل رحم العروبة، ترسل إلى أمين الجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، ومنها برقية تنديد واستنكار ترسل إلى منظمة الأمم المتحدة، وأن تشكل على الأثر لجنة تنفيذية من أعيان الأمّة لا تراعى فيهم حزبية ولا غيرها من الاعتبارات الضيّقة، تتولّى جمع الهبات المالية باسم الهيئة. وكان مصالي الحاج في أثناء الاجتماع حريصًا على ذكر إخواننا مسلمي شمال إفريقيا بفرنسا، يدمج الكلام عنهم إدماجًا بلا مناسبة، واستطرادًا بلا نكتة، كأن له فيهم أربًا خاصًا، أو كأن له عندهم حسابًا خاصًا. ولم أتبيّن مراده من ذلك إلا بعد حين. وافترقنا على الساعة الواحدة بعد زوال ذلك اليوم على أن نرسل البرقيات في مسائه، واقترح مصالي أن يتولّى صوغ البرقيات صاطور المحامي (وهو بياني) (1)، واقترح أحد الحاضرين أن يحضر معه مزغنة (وهو انتصاري) (2)، واجتمع الاثنان على الساعة الرابعة بمكتبي في مركز جمعية العلماء، ووضع صاطور صيغة البرقيات، ووافق عليها مزغنة، ولما فرغا من ذلك دخلت مكتبي فوجدت صاطور يكتب البلاغ الذي ينشر في الجرائد عن الهيئة، وتلا الصيغة على زميله فارتضاها، ودفعت نسخ البرقيات إلى كاتب المركز فترجمها فارتضيتها.

_ * "البصائر"، العدد 53، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 18 أكتوبر 1948م. 1) بياني: نسبة إلى حزب أحباب البيان الذي كان يرأسه فرحات عبّاس. 2) انتصاري: نسبة إلى حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذي كان يرأسه ميصالي الحاج.

ولم يبق إلا أن تعرض على زملائي ليوقّعوا عليها، وهنا جاءت المشكلة التي دونها مشكلة فلسطين نفسها ... كنت أتوقع- تمرّسًا لا تفرّسًا- أن يختلف الرجلان في ترتيب الأسماء الخمسة وأن يتعضب كل منهما لحزبه ولصاحبه وكل منهما يمثّل هيئة سياسية. وكان من المعقول أن تمحو قضية فلسطين كل أثر حزبي في النفوس، وأن تنسي هؤلاء المتحزبين أنفسهم وأحزابهم، وأن يحسبوا حسابًا للأمّة التي بلغ بها الحماس إلى أقصى حدوده وأن يقدّروا الدعوة التي جمعتهم على اسم الإسلام والعروبة وفلسطين، وأن يحترموا الداعين من العلماء لأنهم البادئون بالدعوة، والمتقدّمون بالفكرة، ولأنهم (فوق الأحزاب)، ولأن وجودهم يرفع الخلاف. ولكن مزغنة خالف المعقول والمنقول وقال: إن اسم رئيسه يجب أن يتقدّم على جميع الأسماء ... ، قال له صاطور في هدوء: ولماذا؟ قال: لأنه محبوب ومعروف في الشرق ... ولأن حزبه حاز الكثرة في الانتخابات ... قال له صاطور: لسنا في مقام تكاثر وتفاخر. ولسنا في مقام انتخاب، ولو شئت لقلت في كثرتكم وشهرتكم ما ينقضها عليك. ولكنني أنا وحزبي راضون- بكل افتخار- بأن يتقدم اسم جمعية العلماء على الجميع وراضون بعد ذلك بأن يكون اسمنا في الأخير. وسألاني رأيي وقد أيقنت أن قد ظهرت السرائر، وتحرّك داء الضرائر، فقلت: اصنعوا كما صنع إخوانكم في تونس بالأمس. وكان من المصادفات وجود عدد من جريدة "النهضة" بين يدي فيه تفصيل ما وقع بتونس، فقرأت عليهما البلاغ والبرقيات وفيه ذكر الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي في صدر البلاغ. فلم يقتنع مزغنة. ولم يجد من الجواب إلا أن تونس غير الجزائر. فقال له صاطور: ولكن قضية فلسطين هي قضية فلسطين ... ولكن جمعية العلماء هي الداعية ... وأين كنتم وأين كنا منذ ثمانية أشهر وعشرة أشهر؟ وأصرّ مزغنة على رأيه، فأصرّ صاطور على رأيه، فأصررت على تقديم اسم الشيخ العقبي رفعًا للخلاف. ووالله لقد تمنيت أن لو كان حضر مجلسنا واحد أو جماعة من المغرورين بهؤلاء القوم والمتأثرين بدعاياتهم الجوفاء في تونس والمغرب، إذن لعرف من حقيقة أمرهم في مجلس واحد ما عرفناه في سنين. ولعلم من هذا المجلس أن الجزائر المسكينة تستدفع البلاء الأسود بالبلاء الأزرق، ولصدق أن عند بعض رجالها أفكارًا لا كالأفكار. ولتحقق أنه ليس من المحال وجود منزلة بين الإقرار والإنكار ... وفي ختام الجلسة قال مزغنة: إن هذه مشكلة لا يضطلع بحلّها، ومعضلة لا يستقلّ بحملها، ولا بدّ من مشورة (الصغار) بهذا اللفظ، وهو يعني به الشبان. وأنذرنا بأنهم لا يقبلون. وافترقنا على أن يعرض مزغنة مشكلته على صغاره فيحكموا حكمهم فيها ويرجع إلينا بالقول الفصل غداة غد، وانتظرناه صباح الغد فلم يرجع، وصادفناه أنا والعقبي في الطريق

العام فقلنا له: إن المسألة لا تحتمل التطويل، فأفهمنا أنها في نظرهم من أخطر المسائل ... ولا بدّ لهم من أخذ (موقف) فيها. وأجّل الوعد إلى المساء، ولكنه لم يرجع ولم يف بالوعد. أما أنا فلم يزدني ذلك كله علمًا بالقوم وبأساليبهم في اللعب والدوران، فقد بلوتهم في جميع المواقف، ونفضت جعابهم جعبة جعبة، وتقريت شعابهم شعبة شعبة، ودرستهم تقريبًا وتبعيدًا، وخالطتهم تصويبًا وتصعيدًا. إلى أن كان اتصالي بهم في مفاوضات الاتحاد بين الحزبين ستة أشهر كاملة. وأنا قديم العهد بدراسة الملل والنحل والفرق، فغير بعيد عنّي أن أدرس الأحزاب والجمعيات، وأما الشيخ العقبي فقد بدا له منهم ما لم يخطر له ببال، وبدا له أن هذا التلاعب واقع منهم لا من رئيسهم، فعرض عليّ أن نلقى ذلك الرَّئِيسُ وحده مرّة ثانية إبلاغًا في النصيحة، واستبراءً للذمّة، وتبليغًا للأمانة الدينية، فأفهمته "أن العصا من العصية" وشرحت له ما يجهل من الحقائق، ولكنه آثر الاحتياط وإقامة الحجّة، فلقينا الرَّئِيسُ، يثلثنا الشيخ بيوض، ويربعنا الأستاذ توفيق المدني، وقصصنا عليه قصّة أصحابه وسفرائه، من يوم فارقناه إلى يوم لقيناه، وكنا نتوقع أن يقول: إنه لا علم له بشيء من ذلك كما هي عادته معنا ومع الأستاذ العربي التبسي أيام كان يسعى للاتحاد بين الحزبين. ولكنه خرق العادة وقال: إنه موافق على كُلِّ ما قرّره أصحابه، وإنه لا يستطيع أن ينقض منه حرفًا، ولا أن يخرج عنه شبرًا، وتظاهر بالأسف لكون المسألة تتعلّق باسمه. وزاد في وصف حزبه أنه حزب طاهر، وفي وصف نفسه أنه محبوب. وعادت به الذاكرة إلى الاجتماع الأول فعدّ من نقائصه بل من تواطئنا على الغلط فيه أننا لم نعيّن للهيئة رئيسًا، وأفاض في الحديث عن الرياسة ولزومها للهيئات ولو قلّ أفرادها، وكانت ألفاظه كلها ترشح بترشيح نفسه للرياسة. ثم تكلّم العقبي فشرح له مقصدنا الحقيقي من هذه المساعي، وبيّن له أن العلماء قد ضربوا المثل في الحرص على جمع الكلمة وانتهاز أسبابها، وأن جمعية العلماء هي صاحبة الفضل على الوطن بما طهرت من عقائد، وما علّمت من أجيال، وما أقامت للإسلام والعروبة من معالم: وفصل له أعمال أصحابه فأوسعها تنديدًا وتقبيحًا ... وصرح له أن كل دعايات حزبه قائمة على التبجح بالتضحية، ولكنهم لم يضحّوا باسم ... فأين هذا من دعوى التضحية؟ وتكلّم الأستاذ المدني فذكر أن ما وقع بالجزائر هو عين ما وقع بتونس، مع فارق ... وهو هذه النتيجة. مع أن الحزبية في القطرين تلبس لبوسًا واحدًا. وتكلّم الشيخ بيوض في قضية فلسطين وما تتطلّبه منا من تضامن الهيئات، ونسيان الشخصيات والحزازات، ولمح لما يجب على الرجال، من احترام الرجال، وصرح بالتحذير من عواقب هذا التشدّد في الصغائر، وهذا الشذوذ الذي جاء من جهة واحدة.

وطلبنا في النهاية نسخًا من الصور التي أخذت لنا مجتمعين في الاجتماع الأول على أن ندفع ثمنها لتبقى عندنا تذكرة بعمل لم يتمّ ... فأكّد لنا السيد الرَّئِيسُ أنهم لم يخرجوا منها ولا نسخة ... والناس كلهم يستبعدون هذا من جماعة يعدّون من أبرع محترفي بيع الصور. وخرجنا مزوّدين بما شاء الله من معلومات جديدة في علم النفس. ... والفصل الأخير من هذه الرواية هو أن مزغنة الذي لم يف بالوعد ولم يرجع إلينا بنفي ولا إثبات، وفى بشيء آخر، وهو أنه- في ذلك اليوم- أذاع بيانًا عن هيئة حزبية خارجة عن الاتحاد، ليس فيها إلا اسمه وعنوانه، وبهذا حقّق مبدأً أساسيًا من مبادئ حزبه، وهو أنه لا يعمل مع أحد ولا يتّحد مع أحد، لأنه وُجد للخلاف، وعاش على الخلاف. ولا يعيش - بطبيعته- إلا على الخلاف. وبهذا كشف الغطاء عن حقيقة علمناها منذ سنتين، وجهلها الغافلون المغرورون، وهي أن رئيسهم رئيس (شرفي) ليس له من الأمر شيء، وأن بينه وبين مزغنة، إدغامًا بلا غنة ... كما يدغم اللام في اللام، فلا يظهر إلا المتحرك ... وأن ذلك الرَّئِيسُ الشرفي أسير في قبضتين: قبضة الحكومة، وقبضة العصابة المزغنية، وأن هذه العصابة تستغلّ اسمه، وتستذلّ رسمه. فمن كان في قلبه شيء من الشفقة على الرجل، وفي يده شيء من القدرة على إنقاذه، فلينقذه من أسر أصحابه. ثم أخذ يوهم أنه هو البادئ مع سكوته ثمانية أشهر. وأخذ هو وجماعته وورقتهم ذات الوجهين، يتقوّلون علينا الأقاويل ... ... والفصل الأول والأخير في الرواية أن (الهيئة العليا لإعانة فلسطين) تمّ تكوينها في ذلك اليوم، وقامت على أربع دعائم قوية متينة تتمتعّ بالثقة التامة في الماليات. وفي ذلك اليوم تكوّنت اللجنة التنفيذية من أهل العلم والفضل والجاه من الأمّة، واحتفظنا للهيئة باسمها الأصلي، وأطلقنا عليها وصف (هيئة الاتحاد)، وجعلنا شعارها الحكمة والصمت، ثم شرعنا في العمل في خواتم رمضان المبارك، فاجتمع لدينا من هبات المحسنين عدة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين، واستلمنا الشهادة القاطعة على وصولها، ورفعنا رأس الجزائر، ومحونا عنها بعض التقصير. وما زلنا جاذين في عملنا الصامت لا ضوضاء ولا جلبة.

أما القوم فقد عملوا في ثلبنا وتنقصنا أضعاف ما عملوا لفلسطين، ولو كنا نعلم أنهم يعملون لفلسطين- حقيقة- للقوا منا كل إعانة وتشجيع ... على أنهم لم يستغنوا عن الالتجاء إلى اسمي- حتى في هذه المرّة- فقد قامت الشواهد، وقام الشهود على أنهم جمعوا المال لفلسطين هنا وفي فرنسا باسم كاتب هذه السطور. وليست هذه بأول مرّة ارتكبوا فيها هذه الخطيئة. هذا بيان مجمل للحقيقة بلا تعليق. ولولا اقتضاء التاريخ والحقيقة، ولولا الاستجابة لطلابهما، لما خططنا في هذه الرواية حرفًا. أما التعليق ... فنسأل أهل النحو، أي اللفظين أصلح؟ ... الإلغاء ... أو التعليق ...

قادة الجيل الجديد في ميادين العلم

قادة الجيل الجديد في ميادين العلم * هذه قائمة المعلّمين الذين جهّزتهم جمعية العلماء للتعليم في مدارسها فجهّزت منهم كتائب لحرب الأميّة. وجنّدتهم، فجنّدت منهم أبطالًا لا ينثنون ولا ينهزمون، ورشّحتهم، فرشّحت منهم سدادًا للثغور وصدادًا للطارقين، وذادة عن حمى العلم. ونصبتهم، فنصبت منهم أعلام هداية للجيل الجديد، وأقطاب تربية وتثقيف له. وإذا كانت جمعية العلماء قد أطلقت على مدارسها اسمًا واحدًا وهو "التربية والتعليم" فهؤلاء هم المربّون وهؤلاء هم المعلّمون، وهؤلاء هم جنود العلم، وكفى بهذه الصفات شرفًا وفخرًا. نعم هؤلاء هم جنود العلم. وإن من خصائص الجندية: المشقة والنصب، وذلك هو مناط الشرف فيها. (ولولا المشقة ساد الناس كلهم)، فليعلم أبناؤنا المعلّمون هذه الحقيقة ليُدركوا شرف ما كُلّفوا به، ومشقة ما حملوه، ليوطّنوا أنفسهم على تحمّل لأوائه. وليعتبروا أنهم مسؤولون عن جيل كامل، فلا يكتب التاريخ عنهم أنهم قصّروا في واجب، أو خانوا أمانة، أو ختروا عهدًا. أما الجوانب المادية فإن جمعية العلماء مهتمة بشأنها كل الاهتمام، مشفقة على أبنائها المعلّمين كل الشفقة. وستتعاون مع الجمعيات المحلية على إزاحة العلل، وسدّ الخلل، وتحسين الحالة. وقد قامت الجمعية بعدة أعمال من صميم الإصلاح في هذه السنة، منها إعلان اللائحة الداخلية التي تحدّد العلاقات والوظائف والحقوق والواجبات بين الهيئات المتعاونة على التعليم، ومنها وضع الدرجات للمعلمين حتى لا يغبن متقدّم، ولا يحابى متأخر، ومنها وضع البرنامج المتحد، ومنها الزيادة في الأجور. وسيعلن هذا عن قريب في منشور خاص يوجّه كل عمل منها بالجهة المختصة به.

_ * "البصائر"، العدد 36، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 15 نوفمبر 1948م.

لم تبق إلا مشكلة المشاكل، وهي إيجاد المساكن للمعلمين، وسنعالجها بما تسعه الطاقة. على أن جمعية العلماء قرّرت أنها لا تقبل في المستقبل احتضان مدرسة، ولا تأذن ببنائها، ولا تنشط القائمين بها إلا إذا كانت سكنى المعلمين والمديرين هي الشرط الأول في الاحتضان، والعمل الأول في البناء. وحسبنا ما لقينا من عنت، وما لقي أبناؤنا المعلمون من تشتيت شمل، فعلى الأمّة أن تهتم بهذه الناحية، وأن تجعلها في محل العناية، وإلا فسيأتي يوم تتعطل فيه كثير من المدارس بهذا السبب، ويومئذ تتحمل الأمّة تبعة ذلك، وتتجرع مرارة ذلك.

قرار من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين

قرار من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين * قرر المجلس الإداري لجمعية العلماء في جلسته المنعقدة في مدينة قسنطينة في 13 من شهر سبتمبر 1948 - تكوين لجنة خاصة بالتعليم اسمها "لجنة التعليم العليا" تتولّى كل ما يتعلّق بالتعليم من برامج، ولوائح، ومراقبة وتفتيش، وتلقي شكايات، وتعيين معلّمين تحت إشراف رئيس الجمعية، ومع مراجعته في مهمات المسائل. وقد شكل المجلس الإداري هذه اللجنة من عضوين إداريين هما الاستاذان: العبّاس بن الشيخ الحسين وعبد القادر الياجورى، و11 من قدماء المعلّمين وهم الأساتذة: إسماعيل العربي، محمد الغسيرى، أبو بكر الأغواطي، محمد الصالح رمضان، أحمد حمَّاني، علي مرحوم، أحمد رضا حوحو، الصادق حماني، أحمد بن ذياب، ولم يحضر الجيلالي الأصنامي ومحمد بابا أحمد لأعذار، ثم جعلت لها مكتبًا دائمًا يكون مقرّه مركز جمعية العلماء بالجزائر ويتألف هذا المكتب من المشائخ: 1 - إسماعيل العربي رئيس 2 - محمد الغسيري وأبو بكر الأغواطي عضوان وهذا المكتب الدائم هو الذي يتولّى أعضاؤه التفتيش بأنفسهم طبقًا لبرنامج خاص يضعونه لذلك. واللجنة الكاملة تجتمع في السنة مرّتين بالمركز، مرّة قبيل الشروع في الدروس، ومرّة بعد الانتهاء من الامتحانات، في أيام يعيّنها ويحدّدها رئيس المكتب.

_ * "البصائر"، العدد 57، السنة الثانية، 22 نوفمبر 1948.

فعلى المديرين والمعلّمين ورؤساء الجمعيات المحلية للمدارس أن يكتبوا من الآن في كل ما يتعلّق بشؤون التعليم إلى رئيس مكتب اللجنة الدائمة بعنوان مركز جمعية العلماء. عن المجلس رئيس الجمعية محمد البشير الابراهيمي

"زواوة" الكبرى تستمسك بعروة الإسلام الوثقى وتطلب الرجوع إلى الأصل

"زواوة" الكبرى تستمسك بعروة الإسلام الوثقى وتطلب الرجوع إلى الأصل * جاءتنا العريضة التي ننشر نصّها وإمضاءات أصحابها كاملة، من رجال زواوة الكبرى يطلبون فيها بتأكيد من الحكومة الجزائرية إلغاء القوانين الخاصة بزواوة في الأحوال الشخصية، تلك القوانين التي تستند على العوائد والأعراف لا على أحكام الشريعة الإسلامية المطهرة. ويطلبون الرجوع إلى الأصل، وهو أحكام الشرع الإسلامي في النكاح والطلاق وما يتفرّع عنهما، وفي الميراث والوصية والحجر. والحكم بالعوائد مطلب عزيز من مطالب الاستعمار الفرنسي، زرع بذوره في أرض زواوة وتعهّدها بالسقي والعلاج، وقوّاها بتقوية مراكز التبشير وإطلاق يد المبشرين، وظنّ أنها استغلظت واستوت على سوقها، واطمأنت إليها النفوس. فجاءت هذه العريضة مجتثة لما غُرس من أصله، وأقامت الدليل للمغرورين بالظواهر على أن زواوة معقل من معاقل الإسلام والعروبة، كانت وما زالت على ذلك. جاءت قضية الظهير البربري بالمغرب الأقصى في وقت استيقظ فيه الشعور الإسلامي فأقام العالم الإسلامي وأقعده، ولم يدر إلا القليل من الناس أن لذلك الظهير أصلًا، وهو (قوانين زواوة الغريبة). إن الغاية التي يرمي إليها الاستعمار من تمكين العوائد وجعلها أساسًا للأحكام، هو إبعاد طوائف من المسلمين عن الإسلام بالتدريج حتى تضعف فيهم النعرة الدينية وعاطفة التآخي الإسلامي، وتصير الأمّة الواحدة أمّتين أو أممًا.

_ * "البصائر"، العدد 59، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 6 ديسمبر 1948م.

أما الموقّعون على العريضة فهم خلاصة الوطن الزواوي، وهم أصحاب الرأي والتوجيه فيه، ولا نشكّ أن الأمّة الزواوية الأصيلة من ورائهم في هذا المطلب. وأكرم بأصحاب الزوايا حين ينتصرون للدين هذا الانتصار. صوتنا مع أصواتكم- أيها الإخوان- ورأينا مع آرائكم. ولنا كلمة أخرى في الموضوع.

حيا الله تونس

حيّا الله تونس * جمعية العلماء، وشُعَبها، ومدارسها، ومعلموها، والجمعيات المتفرّعة منها، و"البصائر" - وأسرتها. كل هذا الجهاز العلمي الثقافي العتيد يتقدّم بالشكر الخالص، والثناء الجمّ والتحيات الطيبات، إلى تونس العزيزة، مصوّرة في ذلك الطراز الرفيع من الزيتونة والهالة المحيطة بها، المنوّرة لأرجائها، من شيخها الجليل، إلى مدرّسيها الفحول، إلى تلك الجموع السالمة من التلامذة، ومن الصحف ورجالها، ومن الأحزاب ومسيريها، كفاء ما قاموا به وأظهروه من ضروب الحفاوة والترحيب بالأستاذ الشيخ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومدير معهد عبد الحميد بن باديس، وصاحب الآثار الجليلة في العلم والإصلاح، والآراء السديدة في السياسة والاجتماع، والمواقف الجرئية في تمكين الإسلام والعروبة بالقطر الجزائري. وجمعية العلماء وفروعها المختلفة تعد تلك الحفاوة من تونس احتفاءً بالجمعية وتكريمًا لها ومغالاة بقيمتها وعرفانًا لقدرها واعترافًا بأعمالها. وهي تكافئها على تلك الحفاوة العملية بتقدير منبعه القلب، وثناء مصدره اللسان، وتنويه مطلعه جريدة "البصائر". وهذا جهد المقل. وتونس قبلة الجزائر العلمية، ومأرزها الذي تأرز إليه في النوائب، ومنارتها التي تُشرف منها على الشرق وأنواره، فلا عجب إذا حرصت جمعية العلماء على تمتين الحبال الواصلة بين الجزائر وبينها، وعلى توضيح ما يخفى من أحوال الجار على جاره، وإزالة ما يلبس به سيّئ القصد وسيّئ الفهم على صحيح العقد حسن القصد، ولا عجب إذا اختارت لهذه السفارة أقدر رجل على الاضطلاع بها وهو الأستاذ التبسّي، ولا عجب إذا عرفت تونس

_ * "البصائر"، العدد 60، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 20 سبتمبر 1948م.

العلمية لهذا السفير الكفء قيمته ومكانته فاحتفت به هذا الاحتفاء الذي هو ترجمة مؤدّية لما تكنّه تونس للنهضة العلمية والفكرية بالجزائر من تقدير وتأييد. والأستاذ التبسي عالم عريق النسبة في الإصلاح، بعيد الغور في التفكير، سديد النظر في الحكم على الأشياء، عزوف الهمّة عن المظاهر والسفاسف، انتهى به العلم والتجربة وأحداث الزمان إلى أن تونس والجزائر والمغرب شيء واحد، وأنها لا تفلح في الحياة ولا تنتصر في الجهاد لها إلا إذا أصبحت هذه الثلاثة شيئًا واحدًا، ثم انتهى به العمل لهذه المقاصد العالية إلى معرفة حظ العالم من العمل، وحظه من تبعة التقصير فيه، لذلك كله أصبح علمًا فردًا في قيادة الأمّة في جميع ميادين حياتها، ولذلك سَمَتْ همّته إلى تعرّف أحوال إخوانه العلماء، فكان هذا المعنى أحد بواعثه على هذه الرحلة. ولقد عاش في تونس والقاهرة طالبًا محصّلًا ثم أقام في وطنه الجزائر عاملًا مربّيًا عشرين سنة، زار بعدها تونس وفيها البقية من مشائخه والكثير من أقرانه، فشاهد التبدل العجيب، وشهد بالتطور المفيد. وكنا نتوسم من وراء رحلته الرجوع إلينا بفوائد تغذّي حركتنا، وتحفزنا إلى التقدّم فيها. وتهوّن علينا بعض ما نلقى في سبيلها، فكان لنا من هذه الرحلة فوق ما نرجو.

تنبيه أكيد إلى رؤساء الجمعيات المحلية

تنبيه أكيد إلى رؤساء الجمعيات المحلية * يجب عليكم- أيها السادة- أن تحرصوا كل الحرص على تعمير صناديق جمعياتكم بكل وسيلة: بالاكتتاب، وبالاشتراك الشهري، وبالزيادة في أجور التعليم على أولياء التلاميذ. وقد قرّر المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين رفع الأجور في هذه السنة من الجهتين. قرّر رفع ما يدفعه آباء التلاميذ إلى مائتي فرنك شهريًا، وزاد في أجور المعلّمين على حسب غلاء الأسعار، وارتفاع قيم الضروريات. فعليكم أن تجتهدوا في تحضير المال اللّازم لمواجهة هذه الزيادة التي لا بدّ منها، وسيصلكم منشور عام في شأنها، مفضل على حسب درجات المعلّمين. لا ينتهي هذا الشهر حتى يكون المنشور في أيديكم، فنفّذوه بارك الله فيكم. أما الآن فيجب أن تدفعوا لهم على حسب الترتيب القديم، فإذا جاءكم المنشور، فادفعوا لهم ما نقص عن الشهرين الفارطين: أكتوبر ونوفمبر، لأن الزيادة تعتبر من أوّل السنة الدراسية وهي فاتح أكتوبر. عن المجلس الإداري الرَّئِيسُ محمد البشير الابراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 60، السنة الثانية، 20 ديسمبر 1948.

تحذير

تحذير - 1 - * بَلَغَتْنَا أخبار ورسائل من معتمدي جمعية العلماء في كثير من القرى أنَّ هناك جماعة طوافين بأيديهم وصولات مزوّرة باسم جمعية العلماء، وبعضها باسم جمعية التربية والتعليم، وليس فيها اسم بلدة معيَّنة، ويقبضون بَدَلَها مبالغ على أنها اشتراكات في إحدى الجمعيتين، وليس في الوصولات إمضاء، كما رأينا فيما وصلَنا منها، وإنما فيها هذه الكلمة: "أمين المال بقسنطينة". ونحن لا نشكّ في أن هذه مكيدة مقصودة، يقصد منها مدبّروها أمرين جوهرين: أحدهما اختلاس المال ولو كانت الوسيلة خسيسة، والثاني تشويه سمعة جمعية العلماء ذات الصفحة الناصعة والذمة النزيهة في الماليات والتي عوّدت الأمة على المحاسبة الدقيقة فيها. وجمعية العلماء تبرأ إلى الله وإلى الأمة من هذه الطائفة السارقة المارقة المحترفة لهذه الحرفة السخيفة، التي تريد أن تعيش على حساب الغير، وتدسّ سمّ الخيانة في منابع الثقة والأمانة. وتُعلن للأمة أن نظام الجمعية المالي أعلى من أن تتطرّق إليه الظنون بأعمال هؤلاء اللصوص، وأنها لا تأخذ ولا تُعطي إلّا بالوصولات المضبوطة الممضاة من المسؤولين، وتسجّل كل ذلك على نظام "مسك الدفاتر" في أرقى أصنافه، وأنها لتحذّر الأمة من أن تدفع مالها لهؤلاء المزوّرين. وتُعلن براءتها أيضًا من جماعة ما زال يبلغنا عنهم أنهم يبيعون صورة الأستاذ عبد الحميد ابن باديس باسم جمعية العلماء، وقد حذّرناهم مرارًا.

_ * "البصائر"، العدد 61، السنة الثانية، 27 ديسمبر 1948.

وها هي ذي كيفيات تحصيل أموال الجمعية زيادة في الإيضاح: 1) الاشتراكات في جمعية العلماء يستخلصها رؤساء الشُّعب، ورجال الوفود السنوية. 2) مالية "المعهد" يرسلها المتبرّعون برقم (الشيك) الخاصّ أو المعتمدون الذين يحملون اعتمادات ووصولات بإمضاء القابض والمدير، وختم الإدارة، وهي وصولات لا تحتمل التزوير. 3) مالية "البصائر" يرسلها المشتركون برقم (الشيك)، أو يقبضها رجال الوفود، أو المعتمَدون الذين يحملون اعتمادات من إدارة الجريدة، وقد عزمنا على إرسال متجوّلين معتمدين، وبدأنا بعمالة قسنطينة فأوفدنا إليها السيد عبد الرحمن بن الحاج صالح ومعه اعتماد رسمي، فليعتمده المشتركون، وليدفعوا له على التقدير الجديد وهو ألف فرنك.

- 2 -

- 2 - * جاءتنا رسائل من مصلحي "البليدة" تخبر بأن نشرة مطبوعة باسم (جمعية الفتاة الجزائرية) تباع في البليدة باسم جمعية العلماء ويقول بائعوها (ومنهم عجائز في الحمامات) إنّ رئيس جمعية العلماء هو الذي كلّفهم ببيع هذه النشرة. ورئيس جمعية العلماء يتبرّأ من هذه النشرة ومن مروّجيها بالكذب، بل يتبرّأ من هذه الجمعية التي تسمّى بجمعية الفتاة الجزائرية لأنها محفوفة بالريب من كل جانب، ولأنّ الوقت لم يحن بعد لزج الفتاة المسلمة الجزائرية في هذه المآزق، وما دام رجالنا لم يبلغوا المستوى الأخلاقي الديني الذي يضمن للفتاة السلامة من الأخطار والمعاطب، فإن هذه الحركات التي يقوم بها بعض الرجال وبعض النساء باسم الفتاة الجزائرية تعدّ كلها إفسادًا لتربيتها واستعجالًا بها إلى الغرق.

_ * "البصائر"، العدد 75، السنة الثانية، 11 أفريل 1949 (بدون إمضاء).

"صوت المسجد"

"صوت المسجد" * صوت أذن الله أن يخفض، لأنه مؤلف من غير مقاطع الحق، خارج من غير مخارج الصدق. ناشز عن مجاريه الأصلية، مندفع من غير حنجرته الطبيعية. وكما أن صاحب هذا الصوت مترجم من المالكية إلى الحنفية، ومنقول من العامية إلى الخاصية، ومن الشارع إلى الوظيفة. فإن كلمة صوت ههنا مترجمة عن كلمة "لافوا" ( La Voix) (1) الشائعة في اسماء الجرائد، مثل "لافوا ديزامبل " ( La Voix des Humbles) (2) و "لافوا انديجان " ( La Voix Indigènes) (3). ولا نشكّ في أن مآل هذا الصوت هو مآل تلك الأصوات التي لم ترتفع إلا لتنخفض، ولم تتعال إلا لتتسفل. ولأمر ما، يتهافت أقوام على هذه الكلمات التقليدية، فلا يضيفون كلمة "صوت " إلا لما هو في سياق الموت. والمجلة التي تحمل هذا الاسم هي الأقنوم الثالث من الهيكل الذي نزل الوحي على الشيخ المفتي بوضع قواعده، على أن يكون هو نفسه الأقنوم الرابع ... وكل من الثلاثة مكمل لبقية الأجزاء، فاعل فيه، منفعل به. أو كلها زروع زرعتها يد واحدة، بمحراث واحد، على ثور واحد، لتحصد تلك اليد ما زرعت في يوم ما، ويفوز الثور بالعلف و"دعوة الخير". وصوت المسجد- في حقيقته وقدسيته- هو صوت الحق صريحًا غير مجمجم، واضحًا غير مبهم، مبينًا غير ملتبس. يبتدئ من "الله أكبر" تقال صادعة، وتُسمع رادعة. تلفظها الألسن الداعية، فتعيها الآذان الواعية. وينتهي بما يتعالى فيه من تفسير لكلام الله

_ * "البصائر"، العدد 63، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 31 جانفي 1949م. 1) La Voix: كلمة فرنسية معناها صوت أو نداء. 2) La Voix des Humbles: صوت المستضعفين، وهو اسم جريدة. 3) La Voix Indigènes: صوت الأهالي، وهو اسم جريدة.

تنفطر له قلوب الجبابرة، وتقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم بالغيب، ومن بيان لسنّة رسوله يجتثّ الشرور من النفوس، ويقمع الأهواء في الأفئدة، ويزدجر به دعاة البدعة، ومن نصائح للمسلمين لا يرهب فيها ذو سلطان لسلطانه ولا يدهن فيها غني لأجل غناه، ومن تقريع للظالمين، واستعداء على المبطلين، وتقرير لمصالح المسلمين. وهل الأصوات التي تتخافت اليوم في مساجدنا كفيلة بذلك محقّقة لحكمة المساجد في الإسلام؟ وهل يرتفع للمساجد صوت وهي في قبضة الاستعمار؟ وهل يؤدّي المسجد اليوم جزءًا مما كان يؤدّيه في أيام السلف الأبرار؟ وهل يحقق وظيفته وهو محروم من أصوات العلماء الأحرار؟ أسئلة نوجّهها للمبتدع لهذه التسمية، فلا يجيب عليها بالتعمية. أم يقول: إن صوت المسجد هو صوت "النائحة المأجورة" ... صوته الذي يتشاجى به، ويتباكى فيه، في خطبه الجمعية التي تُرْدَى (تذاع بالراديو) وما يسبقها من أصوات تصف تنقلاته خطوة خطوة إلى أن يركب على أعواد المنبر؟ فقد حكى الحاكون من ذلك العجب العجاب. وبعد، فإن التفسير الصحيح لصوت المسجد هو هذه الأصوات المنبعثة من قلوب الأمّة، المطالبة بحرية المساجد وأوقافها، وسيتردّد صداها، حتى تبلغ مداها، وإن شذَّ عنها صوت العاصمي. ومن يضلل الله فما له من هاد. وكيف يهدي الله قومًا يقول أحدهم: (إنه لا يبالي بأحد، ما دام يصلّي الركعة بمائة فرنك؟) ولا شك أن ركعة المفتي أغلى، وإن لم يكن وزنها عند الله أثقل. أفمن هؤلاء (المسعرين) الذين يزنون دين الله بالفرنكات، يُرجى أن يرتفع للمسجد صوت؟ ونحمد الله أن عددهم قليل في الأئمة، ذليل عند الأمّة. أما والله لو نطق المسجد لقال لهؤلاء: إليكم عني: فلست منكم ولستم مني. أما مقالات المجلة فإني لم أقرأها، ولا شأن لي بها، وإنما أحكم عليها بمثل حكم صاحب المجلة عليها، وهو أنه لا عبرة بها، لأن غرضه الأساسي هو شيء اسمه مجلة، اسمها صوت المسجد، يتخذه سلّمًا لدرجات من الجاه يتطلعّ إلى بلوغها، وأسآر من المال يتحرق على ولوغها. وإذا حصلت المقاصد، فعلى الوسائل العفاء. وقد سمعت البارحة شيطان رؤبة ينشد أرجوزة في تقريظ المجلة وصاحبها وخانتني الحافظة فلم أحفظ منها- مع الأسف- إلا قوله: ألم تروا ما قاله في الأعرج (4) … فكل ذاك خارج من مخرجي فحسب قرّاء المجلة لذة أن ما فيها خارج من مخرج الشيطان. فليذوقوا أو فليتركوا ...

_ 4) الأعرج: هو الإمام الإبراهيمي نفسه.

شكوى العاصمي

شكوى العاصمي * إِلَاهِي يا مستجيبَ الدعا … ولا جالب اليسر للمعسر تفضل على عبدك العاصمي … وعرضه للعارض الممطر بِمالٍ لو كان أجر الخنا … وريح المطفف والمخسر فما العسر إلّا ربيب الحلال … وما اليسر إلّا من الميسر فإنك يا خالقي عالمٌ … بأني على مذهب الأشعري أرى الرزق ما ينفع المقترين … وإن سرقوا المال في المشعر ... ولي حاجة من بنات الفؤاد … سقتها الأماني ولم تثمر ركبتُ إلى نيلها عزمتي … ولي عزمة كاللظى المسعر وجمجمتُ عنها ولم أبدها … وما السرّ إلا سلاح السري تقحمتُ فيها الصعاب التي … يضيق بها الواغل المجتري رقيتُ لأسبابها سلّمًا … وجثت برذل ومستنكر وحالفتُ فيها الدّنايا التي … إذا ذُكر الخير لم تذكر وأُرغمتُ يومًا لحمل القفاف … فما كنت عنها بمستكبر وما زلتُ في نيلها دائبًا … إذا أقصر الناسُ لم أقصر لزمتُ الصيام وواصلته … وصليت وحدي وفي معشري رضيت الإمامة في جامع … أراه من الضيق كالمحجر لأبلغ منه إلى جامع … من الرحب كالجامع الأكبر وعدت إلى الحظ أبغي رضاه … ومن يركب الحظ لم يعثر

_ * مسودة وُجدت في أوراق الإمام.

بذلت لتحصيلها كل شيء … سوى المال- إني منه عري وما أنا (في الجمع) كالمصطفى (1) … وما أنا (في الطرح) كالأزهري (2) ألَا هلْ يراني الرفاق الكرام … أقوم وأقعى على المنبر وأحمل تلك العصا صولجانًا … وحَمْلُ العصا شيمة المنبري أصولُ على متنه داعيًا … وأزأر في القوم كالقسور وأهجم عنهم بوعظي ولا … أميز به جانيًا من بري لئلا يقالَ امرؤ جاهل … بوضع الحوادث والأعصر وتُخرج حنجرتي نغمةً … كمجرى الخفيف على البنصر أباهي الأئمة في زيّهم … بشدّ النطاق على المئزر وأنضو لثامًا على لحيتي … من الصبغ: زورًا على منكر فإن المشيب بريد الوقار … لمن كان يعتدّ بالمظهر وأسمو عليهم بفرط الذكا … وطيب الأرومة والعنصر وأعبر دونهم بالدها … حدودًا من الْجَاهِ لم تعبر وعندي أساليب من ذا الدها … إذا نزر الحظ لم تنزر وأسبر من مدهشات الأمور … شؤونًا على الدهر لم تسبر واْخبر عنهم بأسرارهم … وما حَالف السعد كالمخبر هنالك أغدو رئيسًا لهم … بغير انتخاب ولا محضر ويصبح أمري على جمعهم … كأمر العَريف على العسكر فيا منيةً نبتتْ في الحشا … بربّك طولي ولا تقصري فإن الزمان ينيل المنى … على رغم شانئنا الأبتر تكفل إِلَاهي بتحقيقها … فإنك إن تعطها أشكر ... وقُلْ لابن باديس كن آمنًا … بعشّك في الجامع الأخضرِ قنعتَ بما حُزْتَه من علوم … وطيب الأحاديث كالعنبر وأضنيتَ نفسكَ في أمّة … وعن وطن كالفلا مُقْفِر ولم تدرِ أنَّ الهَنَا والوظيف … مع الجهل أحلى من السكر وأن الخضوع لمُسْتَعْمِرٍ … به الدار إنْ تنهدم تعمر ذوو الحقّ في الدين حكّامنا … فما لك عن حقّهم تجتري

_ 1) هو الشيخ مصطفى القاسمي. 2) هو الشيخ المولود الحافظي الأزهري.

أطعتَ البشير (3) وأعوانه … فخلّوك أعرى من الخنصر ذوو الحق في الدين حكامنا … فما لك عن حقهم تجتري ولم أنس لي ليلة بالقصير … وطالع سعدي في المشتري أكلت بها حزَّة من جزور …، نمت على جانبي الأيسر إذا هاتف في غضون الدُّجى … كسِرٍّ بطَيِّ الحشا مضمر يقطل: أيا عاص (4) كن أسودا … وكن أصفرًا شيب بالأحمر فأوَّلت ترخيمه في النَّدا … بصوتي رخيمًا على المعشر وأوَّلتها رفعة في المقام … أسود بها الحاسد المفتري وأوَّلتها خطَّة أرتقي … بها من كبير إلى أكبر تراقص حولي طيوف المنى … فهن لي بصبح بها مسفر؟ أمَالِكَ رِقِّي تلطَّف بها … فعبدك- إن لم ينلها- خري وهذي المجالس ما شأنها … تعضُّ بواع ومستظهر ألم ترَ من حيلتي أَنَّني … بهذي المجالس لم أحضُر مخافة أن يغضب المستشار … فيمحو وعدي من الدّفتر ويمناي ما نشطت مرّة … لتنميق سطر ولا أسطر يسيل لعابي إذا نشروا … أسامي تلمع كالجوهر ولقِّب ذا بأمير البيان … وهذاك بالكاتب العبقري وما كنت دون امرئ منهما … ولكن أدور على محور وأخشى الرّقيب وتضريبه … على اسمي بالمرقم الأحمر فما عاش من لم يكن مدهنا … ومن لم يصانع ولم يحذر وأهوى الشِّهاب وتزعجني … شهاب بإحراقه ينبري وإنّ العدا نحلوني الغداة … سطورًا ببالي لم تخطر فوافت مع الصّبح مهتاجة … جلاوذة كالدُّبى ينبري فهذا يصبّ وهذا يشب … وهذا يشاوس عن أخزر وهذا يساقي وهذا يلاقي … بوجه على الملتقى أمعر فما زلت معتذرًا حالفًا … لمن لم يقدر ولم يعذر حلفت لئن رأيت عنوانه … سجّرت به النّار في المجمر جزاء لما ساق لي من أذى … وما جرّ من تهمة للبري

_ 3) هو الإمام الإبراهمي نفسه. 4) ترخيم لاسم "العاصمي".

الشيخ أبو القاسم بن حلوش

الشيخ أبو القاسم بن حلوش * بلغني في أثناء الأسبوع الماضي- وأنا على فراش المرض- خبر بموت العالم العامل المصلح الشيخ أبي القاسم بن حلوش، العضو الإداري السابق بجمعية العلماء ووالد ولدنا الروحي الأديب الكاتب الشيخ مصطفى بن حلوش، بداره من ربض "تاجديت" بمستغانم. أسفت لموت الشيخ أبي القاسم أعظم مما آسف لفقد قريب، لأن هذه الطائفة الإصلاحية التي كان الشيخ أبو القاسم أحد أفرادها إنما تتقارب على المشارب، لا على المناسب، وتتصاحب بالأرواح لا بالأبدان. والشيخ أبو القاسم- رحمه الله- مصلح بطبعه وتربيته، خلق في منبع من منابع البدع، وفتح عينيه عليها. فأنكرتها فطرته السليمة، وتربيته القويمة من أول أمره، ونشأ على نفور منها وازدراء لأهلها. ولقي منهم تجريحًا وأذًى، ولقوا منه تسفيهًا وإنكارًا، وكان كل ذلك مزيدًا في رفعة شأنه. طلب العلم على فئة من الفقهاء المدارين المجارين للعامة في أهوائها، فأخذ ما صلح من علمهم، وهجر ما قبح من أعمالهم، ووحّد الله وعبده بما شرع على الوجه الذي شرع، وابتنى لنفسه مسجدًا من ماله بسوق "تاجديت" يصلّي فيه بأتباعه في السيرة، ويُلقي عليهم دروسًا في الوعظ والإرشاد، وفيه بدأ بنشر الإصلاح العملي فنبذ البدع اللاصقة بالعبادات. ولم يزل متطلعًا إلى العلم الصحيح يطلع بدره، متشوّفًا إلى الحق الصريح بتبلج فجره، إلى أن ظهرت بواكير الحركة الإصلاحية العلمية في دروس الأستاذ الرَّئِيسُ الشيخ عبد الحميد ابن باديس، فجهّز ولده الشيخ مصطفى حلوش لتلك الدروس ليستدرك بأحد أولاده ما فاته

_ * "البصائر"، العدد 63، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 31 جانفي 1949م.

في نفسه، وأقرّ الله عينه ببلوغ مرامه. فكان من ذلك الولد للإصلاح ما يكون من جندي من جنوده المخلصين. فشارك بقلمه ولسانه في جميع الميادين. عاش الشيخ أبو القاسم بعد ذلك على سمت الصالحين، يتنعم بما يرى من انتصار الحق وأتباعه، واندحار الباطل وأشياعه، إلى أن وافته منيّته راضيًا مرضيًا. فرحمه الله وأثابه جزاء إيمانه واستقامته. وأنا عن نفسي وعن جمعية العلماء ومؤسساتها أتقدّم بالتعزية إلى ولدنا الشيخٍ مصطفى حلوش وإخوانه وأهل بيته، وإلى جميع أفراد الأسرة بمستغانم وسبدو مشاركًا لهم في الحزن، حاثًّا لهم على الصبر، راجيًا لفقيدهم الرحمة.

إلى الأمة

إلى الأمّة * بدأت المناورات الحكومية في قضية المساجد. فبدأتها من الذنب. وفي تلمسان لعبة، وفي الجزائر لعبة، وفي غيرهما لعب وألاعيب. نحذر الحكومة من الاعتماد على جمعياتها الدينية التي صنعتها بيدها. فإن الأمّة لا ترضى ولا تعترف إلا بجمعيات منتخبة انتخابًا حرًّا من المسلمين أهل الدين، لا تدخل فيه الحكومة بأمر ولا برأي ولا بإشارة، فلتعلن الحكومة رسميًّا قضية الفصل. وتعلن معه حيادها في تكوين الجمعيات، ولتحدّد لتكوين الجمعيات أمدًا تنتهي إليه هي والأمّة. رأي جمعية العلماء في هذه القضية معروف، يتفق عليه الإبراهيمي والتبسي والعقبي وكل العلماء، ولا يخالف فيه إلا جاهل، ولا قيمة لرأي الجاهل، أو عالم مأجور؟ والعالم المأجور، كالسفيه المحجور، هذا يفسخ دَيْنَه، وذاك ينسخ دينه. في العدد الآتي نبدأ الحديث في هذه القضية، فنشرح ونجرح. ولعلنا نمسّ أبطالها البارزين في الميدان ... فمعذرة إليهم من الآن ...

_ * "البصائر"، العدد 74، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 4 أفريل 1949م. (بدون إمضاء).

رمضان: وحدة الصوم والإفطار

رمضان: وحدة الصوم والإفطار * وضعنا الديني في هذا الوطن وضع شاذ غريب، كوضعنا السياسي أو أشدّ شذوذًا وغرابة، بل ما كان وضعنا الديني غريبًا إلا لأن وضعنا السياسي غريب، ولو كنا نملك الحقوق السياسية كبني آدم لاستتبع ذلك الحقوق الدينية، لأننا أمّة مسلمة ما زال لنا من قرآننا عاصم من الإلحاد، ومن ميراثنا الجنسي معاذ من الزيغ، ومن فطرتنا الشرقية واق من هذا التحلل الذي أصيبت به الأمم. ولكننا أضعنا الحق السياسي فأصبحنا كالكمي سلب سلاحه فأصبح ماله فيئًا للغانمين، وعرضه نهبًا للمغيرين، ومهجته جزر السباع ... أضعنا الحق السياسي من زمن بعيد، ووسمنا بسمة العبيد، وطال الأمد حتى استكانت النفوس، فامتدت اليد التي ملكت الرقبة إلى القلوب تفسدها، وإلى الألسنة تسكتها، فلما استقام لها كل ذلك ضربت علينا الحجر في الدين وأقامت على كل شعيرة من شعائرنا وصيًا، صورته منّا، وحقيقته لغيرنا، فعلى الصلاة وصيّ، وعلى الحج وصيّ، وعلى الصوم والأهلة والأعياد وصيّ ... لو أن هذه المجاميع التي تسمّى الأمم أوتيت رشدها لجعلت السلطان الأعلى في الحياة للدين، ولجعلته هو المهيمن على السياسة، ولو فعلت ذلك لجرت أمورها على الخير والسداد، لأن الدين- وإن اختلفت أوضاعه- يأمر بالخير ويدعو إلى الإحسان ويرشح بالرحمة، ويقيّد الغرائز الحيوانية، ويضع الموازين القسط لكل شيء، أما السياسة فإنها- وان اختلفت ألوانها- تأمر بالفحشاء وتدعو إلى الفساد في الأرض، وتفيض بالأنانية، وتبني أمورها على التسلط والافتراس. والدين والسياسة هما دعامتا الحياة، وقطباها اللذان عليهما المدار، فإذا تساندا على الحق وتسايرا إلى السعادة، وكان الدين هو المرجع عند اشتباه

_ * "البصائر"، العدد 84، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 20 جوان 1949م.

السبل، جاء الخير وتحققت المصلحة، كما كان ذلك في الطور الأول للإسلام، والصدر الأول من المسلمين، وإذا عتت السياسة عن أمر الدين طغت العواطف على العقول، وكانت الفتنة والفساد الكبير، وهذا هو الواقع في هذا العصر. وعصرنا هذا عصر سياسي، لا يدور فلكه إلا على السياسة. وأركان الحياة فيه مدبرة بهذا الطبع الخامس الذي يسمّى السياسة. ونحن قد نستسيغ تأثر الاقتصاد بالسياسة، لأنه منها كالخادم والمخدوم، ولأن بينهما روابط يوثقها لؤم المطامع، وقد نستسيغ- كذلك- تأثر العلم بالسياسة، وجعلها إياه إحدى الوسائل للكيد والاحتيال، لأن العلم لا دين له، بآية أن الناس عرفوا علم الدين، ولم يعرفوا دين العلم. وهذا العلم قد وسع الكون حتى ضاق، وانتقل من نبش الأرض إلى السبع الطباق، فكيف يكون له حد يقف عنده؟ أم كيف يكون له دين وقد داخله من الغرور، مازين له الشرور؟ وقد غرّ العقول التي كانت آلته فدانت له بنوع من الألوهية غريب؟ يستسيغ العقل هذا مجبرًا كمختار، ولكنه يرى أن السماجة السمجة هي تدخل السياسة في الدين، وأن تجعل من روحانياته السماوية مهابط لماديتها الأرضية، وأن تتخذ منه آلة لأغراضها الخسيسة، وأن تسخر رجاله لخدمة ركابها، وهذا بعينه ومينه ما هو واقع في الجزائر. ... كان الخلاف في الصوم والإفطار أمرًا دائرًا بين المسلمين في هذا الوطن يسبّبه جهل العامة، أو تعصب الفقهاء، أو تباعد الأمكنة، وقد تزيّنه سماحة الدين ويسر تكاليفه أحيانًا، وكنا- على ذلك- ننكره ونعدّه شرًّا على الأمّة، وسبيلًا إلى التفرق في الدين، ونعمل للتوحيد فيهما ما نستطيع، بالعلم الذي يرع الجهل والتسامح التي يميت التعصب، والتعميم الذي يزيل التباعد. وكدنا ننجح في توحيد الأمّة على يوم واحد للصوم والإفطار، حتى يزدان جمال العبادة بجمال الاتحاد فيها، والتقرّب إلى الله بتقارب القلوب فيه. ولكن الحكومة الجزائرية التي تريد دائمًا أن تجعل من الدين الإسلامي دعامة لسياستها، وسلاحًا في أيدي ساستها. كبر عليها أن يبقى هذا الركن الإسلامي مفلتًا من يدها وخارجًا عن تصرّفها، بعد أن هيمنت على الصلاة والحج، فكوّنت- لسنوات خلت- لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية من موظفيها الذين يدينون بطاعتها قبل طاعة الله، ويخضعون لأمرها وإن خالف أمر الدين، ثم وضعت في أيديهم لعبة يفتنون بها الصائمين والمفطرين، وهي اعتبار الأعياد الإسلامية رسمية تعطل فيها المصالح، ويستريح الموظفون والعمال، لتضلّهما عن الهدى، وتستزلهما عن الحق،

ليرجحا- إذا اختلف الناس- عيد الحكومة على العيد الديني، ثم يعتقدا- مع طول الزمن- أن رأي الحكومة في الدين هو الرأي، وأن أمرها هو المتبع، وأن حكمها في الخلاف الديني هو فصل الخطاب ... فهمنا مرمى هذه الحيلة لأول ما دبّ دبيبها، بل تبيّنا مغزى هذه المكيدة لأول ما ذرّ قرنها، ونشرنا على الأمّة في العامين الماضيين بيانين أعلنا فيهما كلمة الحق وإن كانت موجعة، وجهرنا بحكم الله وإن كان ثقيلًا على الحكومة ولجنتها، وها نحن أولاء نعززهما في هذا العام بهذا البيان الثالث، لم نغيّر فيه رأينا لأن الدين لا يتغير، ولأن خصمنا في القضية هو الحكومة، ومواقفها من ديننا لم تتغير. ... إن حكومة الجزائر ليست مسلمة حتى يكون حكمها في شؤون الدين مقبولًا فضلًا عن أن يكون مطاعًا، وإن جميع تصرفاتها في ما يتعلق بالدين باطلة، وإن قضاتها الذين نصبتهم موظفون قانونيون لا دينيون، بدليل أن أحكامهم تستند في أكثرها على القانون لا على الدين، ولو كان للأمّة رأي في توليتهم لما كان لهم سلطة على دينها، لأن أحكامهم لا تتناول العبادات، فكيف بهم والأمّة لا يد لها في ولايتهم، ولا رقابة على تصرفاتهم؟ هذه حقيقة أكبر شهودها الغضب منها. ويزيدها توكيدًا عدم عناية هذه الطائفة بهذه المسألة، فلا يستجمعون الشواهد والأدلة، على ثبوت الأهلة، وقد رأينا من تهاونهم- حاشا القليل منهم- ما يقضي بالعجب، ومن أشنعه أنهم ينامون ليلة ترقب الهلال على الساعة العاشرة أو قبلها، ومنه اعتماد بعضهم على عاملة التلفون لتجيب الناس على لسانه بالنفي أو بالإثبات ... ... الأمر- إذن- لجماعة المسلمين، وليست جماعات المسلمين في هذا الوطن بأقل عناية واهتمامًا بالأهلة والصوم من غيرهم، وإنما ينقصهم أمر واحد: عدم العناية بالتبليغ، ولهم في هذا عذران: الأول أن وسيلة التبليغ العامة- وهي التلفون- ليست متيسرة للجميع، ومن تيسّرت له يلقى من العنت والاحتقار ما يزهده فيها، والثاني ميل عام في الجمهور إلى عدم الثقة بالقضاة في هذا الشأن. ونكرّر القول بأن الأمر لجماعة المسلمين، وليست جماعة المسلمين محصورة في جمعية العلماء. وإن أقرب قطر إسلامي إلينا، تولّي قضاته حكومة إسلامية، ويعتني جمهوره

بتبليغ الشهادات إلى قضاته، هو تونس والمغرب. وإن حكومة الجزائر إذا ضيّقت علينا المسالك في التلفون، لا تستطيع أن تضيّق علينا الأثير. وعليه، فالواجب أن نعتمد على أنفسنا، وأن نعتني برؤية الهلال عناية كاملة، وأن نعتني بالتبليغ بعضنا إلى البعض بواسطة التلفون ما أمكن، وأن نبذل الجهد في تعميم الخبر إلى الأماكن القريبة رجالًا وركبانًا، وأن نعتمد على رؤية تونس والمغرب بواسطة الراديو. فأخباره موثوق بها. أما لجنة الجزائر فإن مبنى أمرها على استقلال الجزائر ... ولكن فيما يفرّق كلمة المسلمين. فإن عملت برؤية القطرين فهو رجوع منها إلى الصواب وان خالفت فخالفوها.

معهد عبد الحميد بن باديس

معهد عبد الحميد بن باديس * من الأعمال ما يبيّض أوجه العاملين، في الدنيا بالذكر الحسن وفي الأخرى بالجزاء الحسن الأوفى. وهذا المعهد من الأعمال التي تبيّض وجه الأمّة الجزائرية، وتعلي ذكرها في التاريخ وتغلي قيمتها بين الأمم، وتذكّر بها إذا ذكرت الأمم بأعمالها وتباهت بالجلائل من تلك الأعمال. لا يزكو لأمّة عمل، ولا يثقل وزنه، ولا يجيز لها التاريخ أن تفاخر به، إلا إذا كان من كسب يدها، وكان مما عملته لنفسها بنفسها، اجتهادًا لا تقليد فيه، واستقلالًا لا تحكم فيه، وملكًا لا استعارة فيه. والمعهد الباديسي- قبل كل شيء وبعد كل شي- من عمل الأمّة لنفسها، شادته بمالها على قلة في المال، وعمرته برجالها على فقر من الرجال، وحبسته على أبنائها ليعصمهم من منكرات المعاهد، أو لينقذهم من تنكر المعاهد، وسيرته في ليل من الأحداث داج، وفي جو من الأعاصير أدكن، وفي بحر من السياسة ورجالها هائج، وفي مجتمع متشابه فجاج الفكر، متقارب القلوب على الشر والنكر، وفي غواش من الفتن متلاحمة، وجماعات من البشر غير متضامنة ولا متراحمة. ولم تعتمد في تكوينه إلا على الله ثم على نفسها، ثم على العرق الأصيل من جنسها، والقوّة الكامنة من دينها. فجاء عملًا خالصًا منها لها لم تشبه بشائبة اعتماد على حكومة تصرّفه على أهوائها، ولم تشنه باعتماد على شخص يستغله في مطامعه. وكان- لذلك كله- عملًا طيّبًا مباركًا، يعليه بُعد الهمّة ويحوطه بعد النظر، وتسيّره قوة الإيمان، وتزيّنه لمحة الاستقلال، وتسمه النية الصالحة بسماتها، وتظهر في آثاره البركة والنماء، ويعرف الخير واليمن في أواخره كما عرفا في أوائله.

_ * "البصائر"، العدد 85، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 4 جويلية 1949م.

وهذا المعهد- باعتبار آخر- هو إحدى الكفارات التي تقدّمها الأمّة الجزائرية عما اجترحته من مآثم الجهل والأميّة، وسيئات الغفلة والتفريط وأسباب التأخر والجمود، وجنايات الابتداع في الدين والاتباع في الدنيا. لتمحو بالجد في الحياة آثار الهزل فيها، وتمحو بالعلم آثار الجهل، وبالقراءة آثار الأميّة، ثم تمسح بهما ما تراكم على دينها من محدثات، وما غطى على تاريخها من نسيان، ثم تخط بهما ما يتطلبه غدها من رسوم للعمل وأعلام للهداية، ووسائل للتنفيذ والتطبيق. ثم تجلّي لنفسها مناهج الحياة على هدى العلم، وبوحي القلم، كما سار سلفها الصالح الماجد على هدى العلم، وبوحي القلم إلى حياة العز والشرف والسيادة. هذه هي المعاني الكامنة في هذا المعهد، كما كانت كامنة في نفس من نسب إليه وتحلّى باسمه، وكما هي كامنة في النفوس الصالحة الطاهرة من هذه الأمّة، وستظهر بالتدريج إذا اطرد نموه، وتفرّعت أفنانه، وتعهدته الأيدي بالبذل، والعقول بالتدبير، والقرائح بالتغذية، وصالحو المؤمنين بالمحافظة والحماية، ويومئذ تكون الأمّة قد استكرمت الغرس فاستطابت الجني، واستمجدت الزناد فحمدت الورى. نقول: إن المعهد من عمل الأمّة، وهو قول حق وإنصاف للأمّة، ويقول العقلاء العارفون المنصفون: إنه هو الغرّة اللائحة في أعمال جمعية العلماء، وإنه هو تاج المدارس التي شيّدتها لحفظ دين الأمّة ولغتها، وهذا أيضًا قول حق وإنصاف لجمعية العلماء. وما جمعية العلماء إلا الأمّة المسلمة العربية الصالحة المصلحة، ذائدة عن كيانها، مدافعة عن قرآنها، مناضلة عن لسانها بلسانها، وما هذه الأمّة المسلمة العربية إلا جمعية العلماء متأثرة بخطواتها، منقادة لإرشادها، واثقة بأمانتها، مؤيّدة لمبادئها، سائرة في الدين والدنيا على هداها، ومن شذّ من الفريقين شذّ في النار. ولولا جمعية العلماء لما تحرّرت العقول والأفكار، فاستشرفت إلى تحرير الأجسام، ولولا الأمّة، وإيمانها بالجمعية، وثقتها برجالها وإمدادها لها بالمعونة الصادقة لما استطاعت الجمعية أن تقوم بهذه الأعمال الجليلة، ولما استطاعت هذه الحركة المباركة أن تنمو وتترعرع، وتتأصل وتتفرّع. وقديمًا قام الدين على هاد إلى الحق، ومهتد بالحق، وقامت الدنيا على قائد بالصدق، ومنقاد إلى الصدق. جمعية العلماء والأمّة الصالحة جزءان يتألف منهما كل، ونصفان يتكوّن منهما كون كامل. ***

سلخ هذا المعهد الجليل السنة الثانية الدراسية من عمره العلمي المبارك، وخطا في ميدان العلم والتثقيف الخطوة الثانية من خطاه المسدّدة، محفوفًا بالرعاية الشاملة من جمعية العلماء، وبالعناية الكاملة من صالحي الأمّة، وبالحماية العليا من الله الواحد الأحد. سلخ هذا المعهد سنته الدراسية الثانية، ومعناها في لغة النظام العلمي تسعة أشهر تتخلّلها فترات، وتتحيّفها عطل واستراحات، فتنقص تسعة الأشهر أسابيع، فيكون عمره العلمي سنة وربع السنة مما يعرف الناس في عد أعمارهم، ولكنه يأتي بما يشبه معجزة عيسى نطقا في المهد، بحفظ العهد. أُجريت الامتحانات- من مبتدإ شهر يونيو- لتلاميذه الذين بلغوا في هذه السنة ستمائة عدا، وانتهت بعد أسبوعين فأسفرت عن نتائج تُقرّ أعين العاملين لخير العروبة والإسلام في هذا القطر، وتُبهج خواطرهم وتشرح صدورهم. جرت هذه الامتحانات في حالة حكيمة من حزم الإدارة وضبطها، وأمانة الشيوخ واحتياطهم، واستعداد التلامذة واعتمادهم على أنفسهم، لا تسمح بالإجحاف ولا بالمحاباة، فكانت النتائج فوق ما يقدر المشدد والمتسامح، وكانت فوق النسب المقدّرة من المشائخ والتلاميذ، وكانت بشيرًا بطور من الذكاء والنبوغ والبراعة تجني منه الجزائر الخير الكثير لدينها ولغتها، وكانت- في الأخير- برهانًا صادقا على أن شيوخ المعهد كانوا يعلمون ... وأن تلامذة المعهد كانوا يقرأون ويتعلمون ... بمعنى أن شيوخ المعهد كانوا يؤدّون واجبهم بإخلاص وأمانة ونصح وحسن توجيه، لم تثبطهم شدائد العيش ومكاره الحياة، ولم تثن هممهم الصعوبات المعترضة في سبيل التربية والتعليم. وأن التلامذة كانوا منقطعين إلى التعليم بجد واجتهاد وإخلاص، لم تلههم عنه ملهيات المجالس، ولم تغوهم شياطين الأزقة، ولم تضارر العلم في نفوسهم وساوس الأفكار. ولقد كان لشياطين الأزقة بهؤلاء التلامذة الصغار لمم وإلمام، ومساورة واقتحام، فكانوا يقعدون لهم بكل صراط، يضلونهم عن العلم، ويصدّونهم عن سبيله، ويزيّنون لهم مفارقة المعهد، ويلقّنونهم سب العلم وشتم العلماء مما ظهر أثره على ألسنة بعض الأغرار من صغار الطلبة فظهر أثره في خيبتهم في الامتحان، فكان عظة بالغة لهم ولغيرهم، ولقد رأيت بعيني بعض هؤلاء الأشرار في لبسة عجب يندسون بين الطلبة ويلازمونهم إلى باب المعهد يزيّنون الباطل ويقبحون الحق ويوسوسون في صدور التلامذة ما لا يوسوس قرينهم الشيطان الرجيم، ولكن الله أحبط أعمالهم، وخيّب آمالهم. ***

واحتفل المعهد في الخامس عشر من يونيو بختم الدروس والامتحانات وأعلن هذه النتائج في جمع عظيم من مشائخه وهيئاته المتعاونة، وكثير من مديري المدارس ورؤساء شُعَب جمعية العلماء بعمالة قسنطينة حضروا بمناسبة مؤتمرهم الذي انعقد في اليوم التالي ليوم الاحتفال. وخطب مدير المعهد الأستاذ العربي التبسي، وخطب كاتب هذه السطور، فكانت الخطبتان دائرتين على حثّ الأمّة على الاستعداد للسنة الآتية بالبذل والتشجيع، لأن معظم تلامذة السنة الأولى انتقلوا إلى الثانية، وسيضطر المعهد إلى قبول مثل عددهم لتعميرها، وسيضطره ذلك طبعًا إلى إحضار ثلاث وسائل جديدة للتلامذة الجدد: مساكن لسكناهم، وأقسام لدروسهم، ومشائخ لتعليمهم، وأن هذه الضرورة ستتجدّد في كل سنة، إلى أن يتساوى عدد الخارجين من السنة الرابعة بالداخلين في السنة الأولى، فعلى الأمّة أن تتنبّه لهذا، وأن تتبيّن شأنه وخطره، وأن تعدّ له عدّته. وأن يكون لها من الاهتمام به ما يكافئ اهتمام إدارة المعهد وجهود جمعية العلماء. هذا ولا يفوتنا أن نسجّل ملاحظة غريبة في نسبة نجاح تلامذة المعهد في امتحانات هذه السنة، فقد كانت للنجاح مجار مطردة على حسب الجهات، وكان مظهر النجاح الأعلى في تلامذة جبال زواوة ثم في تلامذة جبال أوراس، ثم في تلامذة العمالة الوهرانية على العموم، ثم في بعض مدن عمالة قسنطينة، ولذلك كله علل سنشرحها. أما التفصيلات، وأسماء الناجحين، وتجلية العبر، فسنجمعها في عدد خاص من "البصائر" نصدره في النصف الأخير من شهر شوال، فلينتظره القرّاء.

دروس الوعظ والإرشاد في رمضان

دروس الوعظ والإرشاد في رمضان * يجب لليالي شهر رمضان المبارك أن تكون حية عند المسلمين لا بما هم عليه من السهرات الوقحة، واللهو الماجن، والشهوات القاتلة، فإن هذا النوع من الإحياء هو - في حقيقته- إماتة لحكمة الصوم وقتل لسرّه وخيره، ومحو لروحانياته وآثاره النافعة. وقد جاء الأمر بإحياء ليالي رمضان، وهو لا يختص بالتهجد، وإنما يشمل النافع بالمنطوق، والأنفع بمفهوم الأولوية، ومن الأنفع الذي لا يتمارى فيه للمسلمين في هذا العصر إحياء ليالي هذا الشهر بمجالس التذكير العامة ودروس الوعظ والإرشاد، بشرط أن تكون المجالس جدية موقظة، والدروس حية محيية، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت مدارسة لكتاب الله ولسنة نبيّه في المواضيع المتصلة بحياة الأمّة الدينية والدنيوية، وتعميرًا لنفوس المسلمين بالخير الذي يفيض منهما، وتقريبًا لما تباعد بينهم وبينهما. هذا هو الإحياء الحقيقي الذي هو أكثر نفعًا وأجزل عائدة، وأقرب من مراد الشارع وحكمته، فإذا وفق المسلم إلى إحياء بقية الليل أو جزء منه بالتهجد والتلاوة، فقد جمع له الخير من طرفيه، وجاء بالحسنيين في قرن. جرت جمعية العلماء- منذ أعوام- على سُنَّة حميدة جعلتها من صميم أعمالها، وهي إحياء ليالي هذا الشهر بدروس الوعظ والتذكير في الحديث والتفسير، في مجامع المسلمين ومدارسهم ونواديهم بل وفي ديارهم، ولو كانت المساجد حرّة كما يريد الإسلام لانتهت هذه السنة إلى غايتها، وأتت بكل ما هو محقق لها من النتائج، ولظهرت آثار ذلك جليّة في أقوال المسلمين بالصدق، وفي أعمالهم بالتوفيق، وفي حركاتهم بالنجاح، وفي آرائهم بالتسديد، ولكنها- مع ذلك- لم تخل من آثار صالحة في نفوس الجمهور الذي يحضرها ولغشاها.

_ * "البصائر"، العدد 86، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 11 جويلية 1949م.

وفي هذا العام وزعت الجمعية كثيرًا من مدرّسيها على مراكز متعددة في القطر للقيام بهذه السنة المباركة، وألزمت المعلمين المقيمين في مراكز التعليم أن يقوموا بهذا الواجب في هذا الشهر، فتمّ العمل على أتمّ وجه وأكمل نظام. ثم وزّعت عليهم المنشور الآتي تذكيرًا لهم وتوكيدًا عليهم، وهذا هو نصّه: الأخ المحترم الشيخ ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإن أشرف عمل تتقرّبون به إلى الله وتخدمون به دينكم وأمّتكم في هذا الشهر المبارك هو إحياء لياليه بدروس الوعظ والإرشاد وتذكير إخوانكم المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وإن جمعية العلماء تعلم أنكم قائمون بهذا الواجب في بلدانكم ولكنها تذكركم وتوصيكم بأن لا تفرطوا فيه ليلة واحدة من ليالي هذا الشهر وأن تخصّوا بالعناية المواضيع الراجعة إلى إصلاح الأخلاق، فمن فساد الأخلاق أتيت أمّتكم ومن ثغور الأخلاق دخل شياطين الإنس والجن إلى نفوسها فأفسدوها. حثوا إخوانكم على إقامة الفرائض الدينية والاجتماعية التي أضاعوها كالزكاة والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر والمرحمة والتعاون على البر والتقوى والتآلف والتحابب مستندين في ذلك كله على كتاب الله وحديث نبيّه مستدلين بنصوصهما على النهج السلفي لجمعيتكم. والصلاة الصلاة فإنها عماد الدين، والعلم العلم فإنه عماد الدين والدنيا فعليهما حضّوا وإليهما فادعوا، والله يوفقكم ويرعاكم وينفع بكم والسلام عليكم ورحمة الله. رئيس جمعية العلماء محمد البشير الإبراهيمي

إلى الكتاب

إلى الكتّاب * للبصائر طرفان: أعلى وهو معرض العربية الراقية في الألفاظ والمعاني والأساليب، وهو السوق الذي تجلب إليه كرائم اللغة من مأنوس صيّره الاستعمال فصيحًا، وغريب يصيّره الاستعمال مأنوسًا، وهو مجلى الفصاحة والبلاغة في نمطهما العالي، وهو أيضًا النموذج الذي لو احتذاه الناشئون من أبنائنا الكتّاب لفحلت أساليبهم واستحكمت ملكاتهم مع إتقان القواعد ووفرة المحفوظ. ولهذا الطرف رجاله المعدودون، وهو نمط إعجاب أدباء الشرق بهذه الجريدة. وطرف أدنى، وهو ما ينحط عن تلك المنزلة، ولا يصل إلى درجة الإسفاف، وبين الطرفين أوساط ورتب تعلو وتنزل، وهي مضطرب واسع يتقلب فيه كتّابنا، من سابق إلى الغاية مستشرف لبلوغها ومقصر عن ذلك. ولكن بعض الكتّاب- هداهم الله رشدهم- بالغوا قبل أن يبلغوا، فهم يوافوننا بمقالات دون الطرف الأدنى، فنضطر إلى إهمالها اضطرارًا فيلوذون بحق (التشجيع) ... فليعلموا- علّمهم الله- أن التشجيع لا يكون على حساب اللغة وتراكيبها، ولا على حساب "البصائر" ومنزلتها، وليفهموا أن الاعتماد على التشجيع، معطّش ومجيع. ونصيحتنا إلى هؤلاء وإلى ناشئتنا الكاتبة أن ينظروا لأنفسهم وأن يعتمدوا عليها، وأن يُدمنوا القراءة لآثار فحول الكتّاب من قدماء ومحدثين، وأن يحملوا أقلامهم على احتذائها بالتدريج، وأن يتكثروا بحفظ اللغة الأدبية، ويتبصروا في مواقع استعمالها في التراكيب، وأن يكونوا عصاميين في الأدب والكتابة، فإن المعاهد التي تقلبوا فيها للتحصيل لا تخرّج أديبًا ولا كاتبًا، ما دام حظ البيان فيها منزورًا، وعلم اللغة والإنشاء فيها مهجورًا، والأدب العربي فيها لا يدرس قصدًا، وإنما تعرض نتفه عرضًا.

_ * "البصائر"، العدد 86، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 11 جويلية 1949م. (بدون إمضاء).

ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء

ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء * تقديم: محمد الغسيري ــــــــــــــــــــــــــــــ ذكرني ما كتبه واقتبسه الأستاذ أبو بكر الأغواطي من درس الأستاذ الرَّئِيسُ الشيخ محمد البشير الإبراهيمى، الذي ألقاه بمدينة الأغواط يوم زارها في الأيام الأخيرة، أنه واجب علي وقد كتب لي أن أحضر بعض دروسه الرمضانية بالجزائر، ومنها الدرس النفيس الذي ألقاه بالمركز يوم 17 رمضان بمناسبة ذكرى بدر لسنة 1368، أن اقتبس بعضه لأقدمه إلى قرّاء "البصائر" ليتصوّروا جلال هذه الدروس، وما قدرت أن أنقل إليهم من معانيه إلا يسيرًا، فليعذروني إذا أنا لم أقدّم لهم غذاء لذيذًا كما يشتهون ويشتهي الفن، فحسبي لديهم أن قدّمت الغذاء، وحسبي لدى نفسي أن أرضيتها فيما طالما تحرّقت عليه أسفًا وحنت إليه شوقًا، ألا وهو ضياع تلك الدروس القيّمة والمحاضرات العامرة التي يلقيها الرَّئِيسُ في جولاته بربوع القطر الجزائري، تلك التي لا تتقطع طول السنة، وما أشبهها إلا بنهر عذب جارٍ يستقي منه القريب، ولا يحرم منه البعيد، أجل طالما تذامرنا وتقاسمنا- نحن معشر تلامذة الأستاذ ورفقائه- على أن كل من قسم له حضور تلك الدروس ليكتبن كل ما أسعدته ذاكرته بحفظه، وقلمه بتسطيره، ولكنّا نخلف مرة، ولا يسعدنا الحظ لمرافقة الأستاذ في أسفاره مرات، على أن حاضري الدرس من الكتّاب يؤخذون بالسماع، ويندهشون فلا يكتبون شيئًا، وكانت النتيجة ضياع كنوز من العلم والحياة لا تقوم بمال. أجل لم ينقطع الأستاذ الرَّئِيسُ عن الجولان لخدمة الأمة والجمعيات والمدارس والمعهد إلا بضعة أشهر في السنة الفارطة لمرض أقعده، ولعدم وجود سيارة تقلّه، فتعطل كثير من الأعمال، واشتاقت المحافل إلى سماع صيحاته ونصائحه وبيانه الساحر، وحلّ المشكلات، واستمرّت الحالة كذلك زمنا قصر فيه أعماله وزياراته كلها على المعهد وحده، ولما تهيأت له الوسائل جاب البلاد في أمد وجيز تناول فيه بالزيارة ما يلي:

_ * "البصائر"، العدد 87، السنة الثانية من السلسة الثانية، 18 جويلية 1949م.

قسنطينة، سمندو، عزابة، مزغيش، عين قشرة، الميلية، الشقفة، أولاد علال، جيجل، القرارم، شاطودان، العلمة (سانت آرنو)، سطيف، حضنة أولاد دراج، برج بوعريريج، وهناك جاء العمل الحازم، ورجع عزم الأستاذ إلى الصول، ونشط لسانه إلى القول، واستهلّ سلسلة أحاديثه ودروسه بخطبة في الاحتفال بختم دروس معهد عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة، وبحديث في مؤتمر شُعَب جمعية العلماء بعمالة قسنطينة كما تكلّم في غالب البلدان السالفة الذكر، ثم سافر إلى الجزائر، وما مكث عند أهله- حسبما أخبرنا- إلا ثلاث ساعات سافر بعدها إلى المدية، وألقى فيها درسًا بالجامع الجديد، ومنها إلى الأغواط (وقد نقل بعض أحاديثه فيها الأخ أبو بكر ونشره في "البصائر" في حينه) ثم عاد إلى المدية فتقبل فيها دارًا عظيمة وهبها لجمعية العلماء محسنان كبيران لتكون مدرسة للتعليم، وبعد صلاة الجمعة في الجامع الجديد ألقى محاضرة أعلن فيها تبرع المحسنين بالدار وأعلن حكمه عليها أن تكون مدرسة خاصة بالبنات مؤلفة من ثمانية أقسام، وألزم رجال المدية باسم العلم أن ينهضوا لبناء مدرسة للبنين، وأنحى عليهم باللائمة في التقصير والتأخّر في مضمار التأسيس حتى على القرى الصغيرة مع أنهم من السابقين في النهضات على اختلات أنواعها، ثم قصد الأصنام بدعوة من جماعة مدرستها "مدرسة ابن خلدون" ليتكلم في احتفال أعدّته المدرسة، ولم يرجع إلى الجزائر إلا في أول رمضان. إن نسينا شيئًا من عيوبنا فلا ننسى أن أكبرها هو إضاعة مثل هذه الدروس والمحاضرات، وإن فيها- والله- لكنوزًا من العلم والحكمة غالية، وإن أسينا فأول ما نأسى عليه أن لا يرافق الأستاذ العظيم في كل جولاته اثنان أو ثلاثة من الكتاب ليدوّنوا كل ما تنفرج عنه شفتاه، وكل ما يلفظه لسانه العذب الحكيم من الدرر، أما أنا فحسبي- أخيرًا- أن أقدّم إلى القرّاء ما يلي: ... الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: فإن الأمم تعرف في هذه الحياة بأيامها، والأيام أفراح وأتراح، الفرد فيها كالجماعة، وإن أعمار الأمم منها ما كان كله كالصفحات البيضاء نقاء وإشراقًا، ومنها ما كان مظلمًا حالك السواد، وإذا درسنا بدايات الأمم ونهاياتها- وهي ضارية في القدم والطول- وجدناها كبدايات ونهايات الأفراد سواء بسواء، وإذا أمعنّا النظر في أيام الجميع السارة لم نلفها إلا قليلة جدًا، وكذلكم كانت أيام المسلمين الزاهية السعيدة تكاد تعد على الأصابع، وما كان يوم بدر إلا من هذه الأيام القليلة، وما كانت واقعة بدر إلا من هذه

الوقائع المشرفة في تاريخ الإسلام والمسلمين الطويل، فلقد حيّرت المؤرّخين وملأت الأسفار بأسماء أبطالها القليلين، وذكر مآثرهم، وتعداد مناقبهم، وذكر عددهم الحربية المتواضعة، والإشادة بالمكان- كل ميزته أنه به قليل ماء، ما كان يوم بدر إلا يومًا من أيام الله في الإسلام- إذن، وهل يحسن التذكير إلا بأيام الله؟ ولقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ذكر موسى بني إسرائيل بأيام الله، وذكرهم بآلائه عليهم، ولما لم ينفعهم التذكير، وخالفوا أوامر الله وكثيرًا ما قتلوا أنبياءهم بغير حق، حقّت عليهم كلمة الله، وحاق بهم العذاب وهم لا يشعرون، فكان التيه الذي ظلّوا فيه معذبين أربعين سنة، كانت كافية لأن تنهض جيلًا من الشباب عزيزًا، شديد المراس، يأبى الضيم، ولا يرضى المهانة، وكافية لأن تذهب جيلًا من العجزة وشيوخ الهمم الأذلاء الذين درجوا في ساحات الذل، وشبوا وشابوا تحت كلاكل الاستعباد والسخرة المقيتة، وتلك حكمة الله في تذكير الأمم بأيام الله، لتتعظ، وترجع إلى الله، وتتدرّع بالعبر والمثلات، وحسن الاقتداء. نعم، إن أيام النكبات عند العقلاء أعظم من أيام الرخاء والهناء، وأيام البلاء في حياة المسلمين أزهى أيامهم، وأجدى عليهم نفعًا، وأبقى ذكرًا، وأخلد أثرًا، والمؤرّخون الحقيقيون هم الذين يعنون بذكر جانب الاعتبار من الأحداث التاريخية الكبرى- لا أولئك الذين يسردون الوقائع سردًا- ليدرس الناس أسباب سقوط الدول، وأسباب عزّتها، وتكون مؤلفاتهم خير معوان للأجيال المقبلة لتتنكّب طرق الشر والشقاء، وتسلك مسالك الرشد والهدى، ولا أخال حديثنا الليلة يتناول غير ذلك الجانب الأهم من الوقائع. إن يوم بدر، ويوم أحد ليعدّان- باعتبار آثارهما- مِن غُرّ أيامنا التاريخية، فلقد كان الأول نصرًا، وكان الثاني كسرًا، أفكان يوم أحد شرًا على المسلمين، وهم يعلمون ما سبب الهزيمة؟ إن القيم المعنوية في الرجال، من زكاء النفس، وعلوّ الهمّة، وإطاعة أوامر الله، هو الجانب المعتبر في حياة الرجال، وذلك ما أتاح النصر للمسلمين يوم بدر وهم قلة، وإن الطمع في الأسلاب الحقيرة، ومخالفة أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هما السبب في هزيمة المسلمين يوم أحد، وهم كثرة، وأن القوة المعنوية التي تسلّح بها رجال بدر هي التي رجّحت كفّتهم، ولئن استشهد منهم قليل فقد انتصر الباقي على عدو قوي البأس، محارب بطل، يفوقهم عددًا وعدة، وشتّان بين من يسترخص الموت من أجل الحياة، وبين من يحاولها لإرضاء الشهوات، شهوات الغلب، ومحبة السمعة الزائفة، ومحاولة تحدي سنن الله وإرادته الرامية للأخذ بيد المستضعف في الأرض، وهو ما هزم المشركين يوم بدر وتركهم عظة وذكرى إلى يوم الدين، وكذلكم كانت واقعة أحد درسًا قاسيًا للمسلمين عرفوا به مصدر الداء، داء الغرور، ذلك المرض الذي ما أصيب به فرد أو جماعة إلا أهلكه، فلا يغترن أحد بنفسه،

ولا يغرنه زهوه وخيلاؤه فإن الدائرة في الأخير لا تدور إلا على رأسه، وإن من أعظم أدواء الغرور أن يلبس الإنسان غير لبوسه فيجني نتيجته هزيمة منكرة، ومرارة مستديمة، وتتعطّل به قوة الفرد، وقوى الجماعة، وأي خير بعد ذهاب القوة؟ ... وهل دارت الدائرة في غزوة أحد إلا على رأس المسلمين؟ ثم إذا طوينا صفحات من التاريخ، وجئنا نعدّد أيام المسلمين الزاهرة كيوم اليرموك، ويوم القادسية، وأجنادين، وذكرنا رجالها، وفي مقدمتهم خالد بن الوليد، وعياض بن غنم وما أدراك من هما، وتصوّرنا العقبات التي لاقاها أولئك الأبطال في صلابة النفوس، ووعورة المسالك، وحداثة عهدهم بالنهوض، سواء مع الفرس أو الروم، عرفنا جلال عظمة تلك الأيام، وعصامية أولئك الأبطال المغاوير، وإذا ذكرنا أيام المسلمين الزاهرة التي مهّدت للمسلمين فتح مصر، وشمال أفريقيا، والأندلس وذكرنا في تاريخ الأندلس مثلًا واقعة "الأرك" و "الزلاقة" ويوميهما، وذكرنا عبد الرحمن بن معاوية الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وتصوّرنا حضارة العرب بالأندلس- كما في الشرق- تمثّلنا الإسلام في أروع مباهجه، وأعلى مكارمه، وأسمى روحياته. أضِف إلى تلك الأيام يومًا أغرّ محجلًا ماجدًا في تاريخ المسملين ألا وهو يوم حطين بفلسطين، في عهد صلاح الدين، وما صلاح الدين إلا رجل كردي عادي لا يملك من ألقاب الشرف والحسب شيئًا، كان يدعى يوسف بن أيوب وكفى، ولكنّه كان صلاح الدين وحامي حمى المسلمين بحق، فهو قد رفع رأس المسلمين عاليًا، وحطّم الصليبيين تحطيمًا، وردّ غاراتهم ردًا قرّر مصير حياة المسلمين بعد ذلك في جميع جهات العالم، وأنقذ مكّة والمدينة حيث مأرز الإسلام وفخار المسلمين. أجل حارب الصليبيين الذين رابطوا قرب المعرّة نحو مائة عام يستعدّون لتسديد الضربة القاضية فهزمهم هزيمة شنعاء لم يعرف التاريخ نظيرها في تلك الأيام، وهم قوم غلاظ شداد يحملون في نفوسهم حقدًا على الإسلام والمسلمين طالما غذاه القساوسة والرهبان في أوروبا بمختلف أنواع التغذية المسمومة، الراجعة إلى خبث الطوية، وفساد التربية، وسوء التوجيه، أولئك هم الصليبيون الذين حاربهم صلاح الدين، وتلك بعض صفاتهم، وأولئك هم الذين ما تزال بعض سماتهم ماثلة للعيان في بعض الأمم حتى في أيامنا هذه. بلى، إن الأرك والعقاب بالأندلس، وحطين بفلسطين، واليرموك بالشام، والقادسية بالعراق، وبدر بالحجاز هي أسماء أماكن وقعت فيها غزوات، ولكنها لا تدلّ في فهمي إلا على درس خالد في الوطنية العليا، إذ خلود الأماكن خلود للأوطان، وإن في حياة خالد وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي وما أتوا من خوارق العادة لأعظم درس في سير

الرجال، وخلود الأبطال، وإن من حافظ على الأوطان ولم يبخس الرجال حقّهم كتب الله له الخلود، ومن ضيّع الأوطان، وبخس عظماءه حقّهم ذهب في الذاهبين، وهل يمكن أن يحفظ القلب في غير الجسد؟ وهل ينسى المسلمون تلك الأماكن وأولئك الرجال؟ نعم كانت بدر موقعة حاسمة في تاريخ المسلمين كما كانت الوقائع الآنفة الذكر في غالبها نصرًا مبينًا، وما كان الدين الإسلامي ليبيح الحرب، وما كان ليحبّبها إلى النفوس، بل يبشع بها وبمثيرها ولكنه يحبّ السلام، ويدعو إلى السلام، إلا إذا اضطرّ إليها اضطرارًا ليدفع الشرّ بالشرّ، وهناك يخوضها المسلمون في غير هوادة حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، رجعوا إلى البناء والتعمير، ونشر العلم والعدالة والإخاء بين الناس، وراحوا يصافون حتى المحاريين المعتدين، وما أكثر هؤلاء وما أصدق قول الشاعر الأول في هذا المعنى: تَعْدُو الذِّئَابُ عَلَى مَنْ لَا كِلَابَ لَهُ … وَتَتَّقِي صَوْلَةَ الْمُسْتَأْسِدِ الْحَامِي وما أصدق قول حكيم العصر شوقي في نفس المعنى: ألم ترَ أنهم صلفوا وتاهوا … وسدّوا الباب عنا موصدينا ولو كنا هناك نجر سيفًا … وجدنا عندهم عطفًا ولينا هذه حقيقة الإسلام، وهذا هو التاريخ الإسلامي فليقتد المسلمون، وليؤوبوا إلى الله، وليذكروا بأيامهم وليقبلوا على العلم. وفقنا الله وإياكم لما يُحِبُّه ويرضاه.

إلى القراء

إلى القرّاء * لم يبق لسنة "البصائر" الثانية إلّا قليل من الزمن، ولم يبق من حصّتها من الأعداد إلّا العدد الآتي وهو عدد 95 إذْ به تكمل أعداد السنة خمسة وأربعين، وكان النظام يقتضي أن يصدر هذا العدد الختامي قبل نهاية السنة، ولكن المطبعة فاجأتنا بأنها تبدأ عطلتها السنوية في السادس من الشهر الجاري، وتستغرق أسبوعين. وعليه فإنّ عدد 95 لا يصدر إلاّ بعد نهاية العطلة، وبه تكمل السنة الثانية، وسيكون خاصًا بالمعهد الباديسي، مفتتحًا بكلمة طويلة شارحة بقلم مدير "البصائر" ورئيس جمعية العلماء، وبكلمة للأستاذ التبسي مدير المعهد، فكلمات لشيوخ المعهد مع صورهم الشمسية. وسيكون هذا العدد حَافلًا بالمعلومات والآراء، مؤرخًا للسنتين الماضيتين، راسمًا لخطط المستقبل، مفصلًا لمالية المعهد دخلًا وخرجًا من يوم تأسيسه إلى الآن، مسجّلًا لأسماء الناجحين من تلامذة السنة، مصوّرًا لما بذلته جمعية العلماء في تكوينه وتسييره المالي من جهود، ولما بذله مديره من حزم ونشاط، ولما بذله شيوخه في التربية وحسن التوجيه من شجاعة وصبر، ولما قامت بها الأمة أو قصّرت فيه من واجبات، كل ذلك بالميزان الذي لا يبخس ولا يخسر، والعقل الذي لا يظلم ولا يغلو ولا يحابي. أما صحائفه فستكون اثنتي عشرة، وأما قيمته فستكون ثمانين فرنكًا للنسخة تسدّد منها نفقاته، وما فضل فهو إعانة للمعهد، فعلى الباعة أن يخبروا بالمقادير التي يستطيعون ترويجها بالضبط، وأن يلتزموا كتابة ببيع جميع ما يطلبونه، وأن لا يدخلوا ثمن هذا العدد في المحاسبة، بل يرسلونه وحده في (شيك) "البصائر" مكتوبًا على ظهره: "حساب العدد

_ * "البصائر"، العدد 89، السنة الثانية، 8 أوت 1949م (بدون إمضاء).

الخاص"، وليعذرنا حضرات الباعة الكرام بما أردنا التشديد عليهم، ولكنها الضرورة حتّمت علينا هذا. ومن لم يلتزم هذه الشروط فإننا لا نرسل إليه هذا العدد الخاص، لأنّنا لا نطبع منه إلاّ على مقدار الطلب بسبب كثرة التكاليف. وعلى الباعة الأفاضل أن يوافونا بذلك قبل الخامس والعشرين من شهر أوت الجاري، ولهم أن يخصموا أجرة البيع كالعادة. ونرجو بكل تأكيد من المشتركين الكرام في داخل القطر أن يشاركوا عموم القرّاء فيشتروا هذا العدد من الباعة، تنشيطًا لإدارة "البصائر"، وإعانةً للمعهد. ... أما السنة الثالثة فسنستهلّها بعدد خاصّ، ولكن في الحجم العادي، نجعله مثالًا لنظام الجريدة الجديد، ثم نصدر العدد الثاني من السنة الجديدة خاصًا بمدارس الجمعية، مزينًا برسوم جميلة لبعضها، وسنوفي فيه أبناءنا المعلّمين جنود التربية والتعليم وجمعياتنا المحلية ما يستحقّونه من التمجيد والتنويه والتشجيع، وسيكون مثل عدد المعهد في الحجم والقيمة. وهذان العددان سنفرغ فيهما مجهودًا عظيمًا من الوقت والمال، نرجو أن يقابله القرّاء بمجهود يكافئه من التشجيع والإقبال، وعليهم السلام. ... انهالتْ علينا عشرات البرقيات ومئات الرسائل من الإخوان المقدّرين للأعمال، في التهنئة بهذا العيد، ونحن نردّ عليهم التهنئة بأبلغ منها، معتذرين لحضراتهم بأنّ إجابة كل فرد خارجة عن نطاق الإمكان، معلنين لهم أنّ التهنئة عادة وأدب، ولكن أعيادنا مسختها أحداث الدهر، وشوّهتها طبائع السوء منا، حتى أصبحت لا تستحق التهنئة، فإذا رأوا منا زهدًا في الكتابة عنها، فهذا سببه، ولهم على كل حال فضل البادئ بمقتضيات الأدب.

الرقم السجين

الرقم السجين * إلى مدير البريد العام بعمالة قسنطينة: لا نشك في أن مصلحة البريد وتوابعه في هذا القطر تابعة للحكومة، خاضعة لتصرفاتها، ولا نشك في أن الحكومة تسيطر على المشتركين في هذه المصلحة وعلى عملائها بنوعين من المراقبة: أحدهما عام، في الأحداث العامة كالحروب والثاني خاص لقوم مخصوصين، ولا نجهل أن للحكومة طريقة خاصة في مراقبة بعض الأرقام، وهي استراق السمع بواسطة منضدة الاستماع: ( Table d'Ecoute) ولكننا نحدّثك اليوم على معاملة شاذة لا تدخل في واحد من النوعين. في "بوسطة" (1) تبسة رقم سجين لم ينتفع به صاحبه ولم تنتفع منه المصلحة التي أنت مديرها، فهل تستطيع أن تطلق سراحه؟ هذا الرقم هو رقم 59 - 1، أو رقم مدرسة تهذيب البنين، أو رقم الشيخ العربي التبسي، صاحبه نائب رئيس جمعية العلماء، ومدير معهد ابن باديس، وله- كغيره- مصالح وارتباطات توجب عليه أن يتصل بهم، ويتصلوا به، ولكنهم كلّما طلبوه لم يسمعوا في الجواب من عاملة التليفون إلا إحدى كلمتين: انه لم يجب، أو انه معطّل مختلّ وهو تحت (التصليح)، وقد يتكرّر الطلب من طالب واحد صباحًا ومساءً في أيام متوالية، فلا يكون الجواب في التسعين من المائة إلا بما ذكرنا. وقد يتناقض جواب عاملة التليفون في الوقت الواحد فتقول مرة: إنه لم يجب، وتقول مرة: إنه مخثلّ، ونتحفق بالبحث والسؤال أن صاحب التليفون ملازم لمكتبه، وأن جهاز التليفون سليم معافى.

_ * "البصائر"، العدد 90، السنة الثانية من السلسة الثانية، 5 سبتمبر 1949م. 1) بوسطة: كلمة فرنسية ( La poste) وهي البريد.

ونحن نشهد بما علمناه من المآت وبما شاهدناه بأنفسنا منذ سنوات، بل من يوم سجل هذا الرقم بإدارة البريد، وهو أننا نطلبه في الشهر عشر مرات أو أكثر، وفي أوقات نستيقن فيها وجود صاحب الرقم باتفاق معه فيكون الجواب في جميعها: انه لم يجب، ولا تنخرم القاعدة إلا قليلًا. وقد طلبناه في رمضان من عدة جهات فقيل لنا انه لم يجب، وطلبناه ليلة عيد الفطر الماضي فقالت لنا العاملة في لهجة مريبة ما لفظه بالحرف: il ne répond pas (2) وكرّرنا السؤال، فسمعنا نفس الجواب. وكنا في هذه المدة الطويلة ارتكبنا عدة طرائق من الحيل، وعدة أنواع من الامتحانات، فأثبتت أن هذه المعاملة مقصودة، ولكننا لم نفقه لها سرًّا ولا حكمة. إن صاحب الرقم يدفع الرسوم القانونية كالناس ولكنه لا ينتفع به كالناس، فما معنى هذا؟ إن كان هذا الرقم مخيفًا فاربطوه (بمنضدة الاستماع) بالحبال الوثيقة، لا بالأسلاك الدقيقة، ولا تتركوه على هذه الحالة: أبكم أصمّ، أو مريضًا مستشفيًا. إن هذا أنفع للمصلحة في جلب المال، وأصلح للحكومة في الاطلاع على (الأحوال)، أما هذه المعاملة فإنها شاذة وقحة سمجة لا طعم لها ولا لون ولا معنى. لا نعتقد أن لعاملات التليفون المتعاقبات ثأرا مخصوصًا عند الأستاذ التبسي، ترثه اللاحقة عن السابقة، ولا نعتقد أن هذه المعاملة وحي من إدارة عليا، لأن مصلحتها في العكس، وإنما نظن أن الأمر لا يعدو إدارات تبسة المستبدة، وأن منشأها كيد لصاحب الرقم، وحقد عليه، وانتقام منه، فجروا بسوء صنيعهم لمصلحة البريد التهمة والخسارة معًا. إلى مدير البريد العام بقسنطينة نرفع هذه القضية ليبحث عنها، ويزيل هذا الخلل من نفوس عمّاله، لا من جهاز التلفون. ولا يطالبنا بالحجج القطعية، فإننا نسمع الجواب كلامًا، يذهب مع الريح، لا كتابة تبقى على الورق. وكل ظالم يحتال لظلمه ألف حيلة. ولولا الظلم ما تظلمنا، ولولا أنه واقع على رقم خاص لعممنا.

_ 2) il ne répond pas : إنه لا يُجيب.

مؤتمر الثقافة الإسلامية

مؤتمر الثقافة الإسلامية - 1 - * للجمعية - الخلدونية بتونس- منذ كانت- يد بيضاء على الثقافة الإسلامية، وأثر بليغ في إحياء التراث الإسلامي بقدر ما يسع جهدها، وقد سارت في عهدها الأخير منذ رأسها الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور بخطى واسعة إلى التقدّم، وقدمت لنهضتنا العربية الإسلامية بهذا الشمال مآثر جليلة، وكستها صبغة ثابتة من التجدّد ورسمت لها خطة صادقة في التوجيه والاتساع، فوصل رئيسها الفاضل بمحاضراته شرق الإسلام بغربه، وجسّم العروبة بجناحيها، وأحيا من الوفاء للشرق رسومًا طمسها الإهمال حينًا والأنانية أحيانًا، ولم يقف عند الحدود الضيّقة التي ائتم فيها كثير من قومنا بالاستعمار، فشكرنا له ذلك، وعددناه وصولًا لأرحام طال بينها التجافي حتى أوشكت تتنافر. وفي هذه السنة رأت الجمعية الخلدونية أن نخطو خطوة جديدة، وتسنّ سنة حميدة، في الجانب الذي نوصم فيه بالنقصان، ونوسم بالتقصير، فدعت إلى عقد مؤتمر ثقافي إسلامي تحت إشرافها، وعيّنت لافتتاحه اليوم العاشر من شهر سبتمبر الآتي، وأحسنت كل الإحسان في إسناد رئاسته إلى فضيلة العالم الأستاذ محمد المختار بن محمود. وقد دلتنا نشرات الهيأة التحضيرية للمؤتمر التي وصلتنا على أن الاستعدادات قائمة على نظام بديع، وأن المؤتمر سيكون محققًا للغاية التي عقد لأجلها، وسيرفع رأس هذا الشمال الأفريقي الذي أمعن في الهزل، فبدا عليه الهزال. وجمعية العلماء، وجريدة "البصائر" ترحّبان بالمؤتمر، وترجوان له نجاحًا يقطع ألسنة الخصوم، ويشرح صدور قوم مؤمنين، ويكون غيظًا للحاسدين، وقمعًا للمفسدين.

_ * "البصائر"، العدد 90، السنة الثانية من السلسة الثانية، 5 سبتمبر 1949م.

وترجوان للجمعية الخلدونية توفيقًا دائمًا إلى مثل هذا العمل الجليل، وأن يكون لها من هذا المؤتمر الأول دليل هادٍ إلى الكمال فيما يتبعه، وتجربة نافعة في تعرّف الوجوه واستقراء السبل. وسترسل جمعية العلماء وفدًا يمثّلها في المؤتمر، لا ليسدّ ثلمة في المؤتمر، ولكن ليكون رمزًا للتعاون العلمي، والتناصر الأخوي، فقد عاقت جمعية العلماء أعمالها الداخلية لمدارسها وجمعياتها عن الاستعداد الكامل للمؤتمر، وتعارض حقّان فقدمت ألزمهما وما لا تعذر فيه بحال، على ما للعذر فيه مجال، ونقلت أعضاء الوفد من العمل المجهد إلى المؤتمر على غير استعداد، كما ينقل الجندي من الحقل إلى الميدان، فلا يطمعن إخواننا المؤتمرون في أكثر من ذلك من جمعية دائبة على العمل المتواصل، وليس لرجالها فراغ، ولا عطلة صيفية، ولا راحة.

- 2 -

- 2 - * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان أحيي على بعد الدار إخواني المؤتمرين رجال العلم، وأهل الفضل والنبل، وقد جمعتْهم غاية واحدة، وحدا بهم حادٍ واحد، هو خدمة الثقافة الإسلامية والكشف عن مكنوناتها المخبوءة. لا يضير هذه التحية أن تكون صدى بعيد الرجع ... فإن البُعد أبلغ في البلوغ، فنور الشمس لا يَتَلأْلَأ إلّا في البُعد السحيق. أيها المؤتمرون الكرام أحييكم تحية المسلم البرّ بدينه ولغته، لِلْمُسلم البرّ بدينه ولغته، وأكبر فيكم هذه الهمم التي دفعتكم لهذا النوع المثمر من خدمة الإسلام وإحياء مآثر رجاله، وأرجو أن يكون مؤتمركم مقدمة لأمثاله وفاتحة لما هو أكبر منه وأعمّ فائدة، وأغبطكم على ما حظيتم به من اجتماع كان أمنية المتمني وخيال المتخيل فأصبح حقيقة وأصبح واقعًا. أيها الإخوان: تمنيتُ- منذ دعا داعي المؤتمر فأسمع- أن أكون من حاضريه ومن المشاركين لكم بجهد المستطيع في بنائه وتعميره، ولكن أعمالي للثقافة الإسلامية، في وطن متطلع للثقافة الإسلامية، عاقتني عن حضور مؤتمر الثقافة الإسلامية، وعسى أن تكون أعمالي شفيعة لي عند إخواني فلا يرمونني بتقصير.

_ * مسودة رسالة بعث بها الإمام إلى مؤتمر الثقافة الإسلامية، وُجِدتْ بين أوراقه.

أيها الإخوان: ما زلت أتمنى على الله أمنية شغلت عقلي وفكري منذ مِزْت الخير من الشر، وهي أن يسترجع علماء الإسلام ما أضاعوه من قيادة المسلمين، وما زالت الأقدار تدافعني عن هذه الأمنية وتؤيسني منها حتى دلتني المخايل الصادقة من مؤتمركم هذا وتباشير أخرى سبقته على أن هذه الأمنية قريبة المنال إذا صحّت العزائم. إن علماء الدين أئمة، فإذا لم يخدموا الأمم الإسلامية في جميع الميادين النافعة، ولم يقودوها بقوة في المقاصد الصالحة، ولم يصرفوها في نواحي الخير والمصلحة، ولم يوجّهوها إلى شرف الحياتين وسعادة الدارين، وإذا لم تتوجه الأمة إلى حيث وجّهوها، ولم تستقبل الوجهة التي استقبلوها، فلا معنى لهذه الإمامة. أن قيادة علماء الدين للأمة هي وظيفتهم الأصيلة، وهي وظيفة يفرضها الدين ويرتضيها العقل، وتوجبها مصلحة المسلمين، وقد فرط علماءنا في القيام بهذه الوظيفة منذ أزمنة متطاولة، فخرجت القيادة من أيديهم إلى أيدٍ لا تحسن القيادة، أو تحسنها في سبيل غير سبيل الدين ومدار غير مداره، فانتهت الأمة بقيادة هؤلاء إلى ما ترون وتشهدون، وليس ما ترون وتشهدون بالذي يرضاه الله ودينه، أو ترتضيه الحياة الشريفة. جرّبت الأمم الإسلامية- بعد الصدر الفاضل- أنواعًا من القيادة، فما أوقعتها إلاّ في المهالك والبلايا، وما كانت عواقبها إلّا عقوبات، وقد أفلست جميع التجارب، واستشرف المسلمون إلى هداةٍ وحُدَاةٍ من علماء الدين يستردون ما أضاعوه من سلطان، حتى يردّوا هذا السواد المنتشر المتخبّط في داجية من الضلال في الدين والدنيا، إلى الحظيرة الجامعة والقلعة المنيعة، وإن الاسترداد لهذا الحق الضائع لَأقرب منالًا إذا اجتمعتم مثل اجتماعكم اليوم، وفكرتم في المسألة حق التفكير، وإن في زمنكم وأحداثه وفي أمتكم وتجاربها لَأَعوانًا لكم على تقريب الغاية وصدق الآية. إنّ في العالم الديني الموفق شمائل من الدين ونفحات من روح الله وآثارًا من قوته، وفي الإسلام القوّة والرحمة، والعدل والحكمة، والصدق والنصيحة، والعفة والأمانة، والإيثار والتضحية، وهذه- لعمركم- هي جوامع المؤهلات للقيادة حتى في هذا الزمن الطافر، وفي هذا العالم الكافر، وقد أصبحت الأمم التي جافت الدين وصدت عنه تلتمس شعاعه تهتدي به في ظلمات الحياة، وأسبابه لتعتصم به من هذه السيول الجارفة من الآراء والأحداث، فكيف بأمة لم تنقطع بينها وبين دينها الأسباب. اجعلوا من بعض أعمالكم في هذا المؤتمر استعادة سلطان الدين على النفوس وفي قيادة الأمة بزمام الدين، فإن في تقوية النفوذ الديني تقوية لسلطانكم على الأمة.

أيها الإخوان: إن للثقافة الإسلامية ماضيًا مشرقًا وحاضرًا مظلمًا، فهل لكم يا أنصار الثقافة أن لا تقصروا جهودكم وأبحاثكم على ماضيها، وهل لكم أن تعطوا مستقبلها الحظ الأوفر من عنايتكم، فتخطوا لمستقبل الثقافة الإسلامية معالم جديدة يهتدي بها الجيل الجديد. إن هذا الجيل الجديد من أبنائنا واقف في مفترق طرق لا يدري أيها يسلك وقد فتح عينيه على زخارف تستهوي من الثقافة الغربية، وقد أصبحت هذه الثقافة أقرب إلى عقله وذوقه لما مهّد أهلها ودعاتها من المسالك إلى النفوس، ولما تنطوي عليه من المغريات والمعاني الحيوانية، ولما فيها من موجبات التحلل والانطلاق، ولما تزخر به من الشهوات وحظوظ الجسد، ولما يشهد لأهلها من شهود العلم، وهو يفتح عينيه كل يوم منها على جديد. أما الثقافة الإسلامية التي هي أحق به وهو أحقّ بها فقد أصابها من الجمود والركود ما جعلها بعيدة من عقله، غريبة عن ذوقه، نافرة من إحساسه، وما ذلك كله إلّا من سوء ما صنع الأب، وما صنعت الأم، وما أثّر الكتاب، وما طبع المعلّم، وما اقترف المجتمع، حتى أصبح الناشئ يحتقر أبويه، ويستحي من جنسه، ويسخر من دينه، وما بينه وبين أن يتنكّر لهؤلاء جميعًا إلّا أن يطلع على شيء من آداب الغرب، أَوْ يُلِمَّ بشيء من لغات الغرب ومجتمعات الغرب. إن المظهر البارز للثقافة الإسلامية هو كتبنا وعلومنا ومناهج الدراسة عندنا وأساليب البحث وطرائق التربية، ومن الكذب على الله وعلى الحق أن نزعم أن الكتب التي ندرسها، والمناهج التي نسلكها تحقق المعنى العالي للثقافة الإسلامية. وإن الثقافة، إذا تحقق معناها العرفي الواسع مسايرًا لمأخذها اللغوي الضيّق، تلابس النفوس، وتتغلغل إلى المكامن، وتدبّ إلى السرائر، فتجتث من الفرد أسباب النقص ومن الجماعة آثار الركود، وتفيض على الجميع روح الحياة، يصبحون بها صالحين للحياة. وإن أكبر امتحان تمتحن به الثقافة الإسلامية في أدوارها الأخيرة أن نقتطع في تاريخ الإسلام صحائفه الأخيرة، وهي خمسة قرون ونصف قرن وننظر ماذا تحدر إلينا من أهلها من الآثار والأعمال، وقد نجد عشرات الألوف من المؤلفات، أقلّها السمين، وأكثرها الغثّ، فتكون النتيجة أننا أضعنا خمسة قرون ونصف قرن في الأقوال من غير أن نعمل شيئًا. هذه الآثار القولية ظاهرة في الشروح والحواشي والتعاليق المملوءة بالجدل اللّفظي العقيم، فأين الآثار العلمية في هذا الانحطاط المريع في الأخلاق، وهذا الزيغ الملحد في العقائد، وهذا الوهن في العزائم، وهذا الاستسلام الذي أفضى بنا إلى الاستعباد.

أيها الإخوان: أعيذكم بالله وبشرف الثقافة وبروح الجدّ من عصركم أن تهتمّوا بالماضي دون الحاضر أو بالحاضر دون المستقبل. صِلوا مستقبل الثقافة الإسلامية بماضيها البعيد، واقطعوا من هذه السلسلة الطويلة عدّة حلقات هي هذه القرون الخمسة، فلا تمروا بها إلاّ للعظة والاعتبار، إذْ ليس فيها ما يُشرِّف ولا ما يحسّن سمعة المسلمين. ستفترقون غدًا وسيقول الناس عنكم ما يقولون، فاحذروا أن يقولوا عنكم بعد الآن ما كانوا يقولون: إنهم قوّالون، وإنهم مازالوا حيث كانوا وكان أسلافهم الأقربون، يقولون كثيرًا ولا يعملون شيئًا، وإن عالَم العمل لم يعرف لعلماء الدين منهم فضيلة إلّا التلقيب "بصاحب الفضيلة". ان من ورائكم ومن بين أيديكم وعن أيمانكم وعن شمائلكم عالَمًا عرف المؤتمرات، وعرف كيف يستفيد منها، وعرف كيف يجعلها أداة للأعمال ووسيلة إلى المفيد، وانهم يرقبونكم بالنظر الفاحص والفكر الناقد، فاعرفوا كيف تدفعون هذا الازدراء. لا تفترقوا حتى تقرروا إعادة هذا المؤتمر وتجعلوه سنّة سنوية، وأن يكون الحديث عليه ملء النوادي وشغل الألْسنة، واجعلوه كالشمس لا تغرب اليوم إلّا تشرق غدًا، ولا تغيب إلّا تترك الشوق والانتظار. وهاتوا الحديث عن منابع الثقافة الإسلامية في عصركم الحاضر: الأزهر والقرويين والزيتونة ومعاهد الشام والعراق والهند. إنها محتاجة إلى الإصلاح، وإنها مفتقرة إلى التوحيد، وإنها في حاجة إلى التوجيه الصالح.

في حفل ختام السنة الدراسية بمعهد عبد الحميد بن باديس

في حفل ختام السنة الدراسية بمعهد عبد الحميد بن باديس تقديم عبد الرحمن شيبان ــــــــــــــــــــــــــــــ بعد أسبوعين كاملين قضاهما أساتذة المعهد الباديسي في امتحان دقيق للتلامذة، ختم ذلكم النشاط العلمي العظيم باحتفال استعرضت فيه نتائج الأعمال الدراسية التي قام بها المعهد خلال السنة الثانية من عمره الزاهر الميمون. ففي يوم الثلاثاء 18 شعبان 1368 و 14 جوان 1949 ازدان فناء المعهد بأعيان قسنطينة على اختلاف طبقاتهم: ورؤساء شُعَب جمعية العلماء، وعدد من معلّمي مدارسها من مختلف نواحي العمالة القسنطينية، وهيأة مدرسة التربية والتعليم، وجمهرة من طلبة المعهد، وأساتذتهم، يتصدّر الجميع الشيخان الجليلان: فضيلة الأستاذ العربي التبسي مدير المعهد، وسماحة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء. افتتح الاحتفال على الساعة العاشرة صباحًا بتلاوة آيات بينات من القرآن الكريم ... وإثر ذلك قام جناب المدير الجليل الشيخ التبسي فرحّب بالحاضرين شاكرا لهم تلبيتهم للدعوة ثم قال: بهذا الاحتفال يكون المعهد قد اجتاز سنتين من عمره، وهي مدّة قصيرة في زمانها، لكنها عامرة ضخمة بنتائجها، فلقد بلغ عدد التلامذة الملتحقين بالمعهد نحو سبعمائة تلميذ ... ثم تعرض الخطيب إلى الأساتذة الذين جلبتهم الإدارة لتدريس العلوم الرياضية والقواعد الصحية ... ثم انتقل الخطيب إلى ذكر ما يجب على الأمة أن تقوم به نحو المعهد الذي هو مؤسستها الدينية والقومية الكبرى ... ثم دعا الخطيب الأمة إلى محاسبة جميع العاملين في الحقل الوطني العام، فقال: يجب على الأمة أن تضرب على يد كلّ من تسوّل له نفسه الأثيمة بأن يعبث بحركاتها العلمية أو السياسية أو الاقتصادية، فكفانا ما قاسينا من كيد الدخالين، وما تجرّعنا من غصص العابثين ... وختم مدير المعهد خطابه العامر بقوله: انتهى ما أردت أن أقول لكم، وأما ما تأخذونه بين أيديكم فكلام الشيخ، وهو يشير- بكل تواضع وإخلاص- إلى الإمام الثاني للنهضة الإصلاحية، الأستاذ الرَّئِيسُ محمد البشير الابراهيمي، وهنا سرتْ في نفوس الحاضرين "هزّة" انبعثت من روح الأستاذ الرَّئِيسُ إعلانًا منه (بالإلقاء) واستعدادًا من الحاضرين (للتلقّي)، وما هي إلّا لحظة حتى وجدنا أنفسنا سابحة في روض فلسفي أدبي، تحفّ به النضرة والخصوبة من كلّ جانب!

_ * "البصائر"، العدد 90، 5 سبتمبر 1949م.

ثم ماذا؟ لا أكاتمك يا قارئي العزيز، فقد حاولتُ أن ألخص لك ما يمكن لي تلخيصه من كلام الأستاذ الرَّئِيسُ، لكن تحليق روحي وراء المعاني الفلسفية الأدبية السامية التي "يرسلها" الخطيب في كلام فني رائع كبّل يدي وأنساني "مهمتي" كمدوّن لما يجري في الاحتفال، على أني لا أضنّ عليك ببعض ما علق بذهني من تلك الشدور والزهور. قال حضرة الرَّئِيسُ وهو يتحدّث عن فصل الصيف: ما أغرب فصل الصيف، وما أعظم شأنه بين الفصول! يفاخره الربيع بأنه الفصل الذي تبعث فيه القوّة، وتندفع فيه الحياة، وأنه الفصل الذي تهواه النفوس ويتغنّى به الشعراء، فلا يأتي بشيء! ويفاخره الشتاء بأنه الفصل الذي "تكمن" فيه الحياة، وتستتر فيه القوّة، فلا يأتي بشيء! ويفاخره الخريف بأنه فصل الخزن والادخار، فلا يأتي بشيء! ذلك لأنّ أمر الصيف أبعد من كل ذلك مدى، وأعمق صدى، فهو الفصل الذي يتحاسب فيه العامل والبطال، فيفور العامل بجني الثمرة، جزاء كدّه وجدّه، وينقلب البطال بالحسرة والندامة، جزاء تقاعسه وتكاسله. وأعجب من ذلك أنّ الصيف فصل "حساب" عام لما يجري في العالمين المادي والأدبي على السواء، ففي الصيف يحصد الفلّاح ما بذر في الحقول، وفيه يحصد المعلّم ما بذر في العقول، فكل من الفلاّح والمعلّم زارع، هذا يزرع العلم وذاك يبذر الزرع، وكلاهما يترقّب هذا الفصل، وهنا محلّ السرّ والاستغراب! ثم أخذ الأستاذ الرَّئِيسُ في شرح المعنى السامي للامتحان فقال: ما الامتحان إلّا استعراض للمواهب، ووزن للجهود، فبواسطته نعرف مكانة التلميذ من الذكاء ومقداره من التحصيل ... إن الأمم تتخذ من الامتحان معنيين رمزيين هما: التوديع والاستقبال، فالامتحان توديع لحياة قديمة هي حياة السنة الدراسية التي مضت، واستقبال لحياة جديدة هي حياة السنة الدراسية التي تأتي. والحياة كلّها ما هي إلا سلسلة من المراحل، كلما قطعتَ مرحلة جاءت أمامك مرحلة أخرى، والعاقل مَن ينظر دومًا إلى المستقبل، ولا يلتفت إلى الماضي إلّا على وجه الاتّعاظ والاعتبار. ثم كأني بالأستاذ الرَّئِيسُ يريد أن يشرح السرّ في النتائج الباهرة التي أسفر عنها نشاط المعهد فقال: إنّي أشهد الله صادقًا أن النتيجة كانت سارّة جدًّا. لماذا؟ لألها مبنية على الحق والصدق أوّلًا، ولأنها ثانيًا وليدة أمور ثلاثة هي: حزم الإدارة، ونشاط الأساتذة، واجتهاد الطلبة. إن مجموع هذا وذاك هو الذي فاجأنا بهذه النتيجة الباهرة! وحاشا المعهد أن يقدّم للأمة نتيجة مزيفة، زيادة أو نقضا، فإنّ ذلك لا يفعله إلّا الغاشّ الماكر. ثم تعرّض الرَّئِيسُ إلى فضل المعهد على تكييف الطلبة تكييفًا موحّدًا في الغاية والاتجاه، منسجمًا في المظهر والسلوك، وإنْ كانوا من قبل لفي اختلاف مبين في الأخلاق

والميول والأهواء، ومضى في هذا السبيل يقول: وإذا ما وجد بالمعهد شذوذ في بعض الأفكار فإن ذلك مما يرفع من شأنه لأنّ الشذوذ للقواعد العلمية ما هو إلّا دليل على صحّتها. ثم توجّه الرَّئِيسُ بكلمة توجيهية حكيمة إلى رجال التعليم عمومًا فقال: إن أعمالكم أعمال فكرية أدبية، فلا تتركوا للسلطان المادّي مجالًا للتسرّب إلى محيطكم، حتى لا يعبث بإيمانكم، ويحبط جهادكم، بل الواجب أن تكون علاقاتكم بعضكم ببعض، وعلاقاتكم بمهمّتكم الشريفة، علاقات روحية، أسمى ما تكون الروحيات، ظاهرًا وباطنًا، فبذلك تستطيعون أن تؤدّوا رسالتكم العظمى التي هي: بناء الحق وهدم الباطل! ... ثم ختم الرَّئِيسُ الجليل خطابه، مؤكّدًا ما كان لاحظه فضيلة المدير، من احتياجنا الماسّ إلى العلوم العصرية، فقال: إن لكل عصر سلاحه، فلنتقدم لعصرنا بسلاح عصرنا، فإن العلوم التي عندنا لا تكفي، ولا يقول خلاف ذلك إلّا جهول أو جحود، فإنّ سلفنا الصالح لم يقتصر على العلوم الدينية وحدها، إلّا مع التحقق بأنّ لكل ميدان من ميادين حياتهم، رجاله القائمين بشؤونه، فنحن إذا أردنا الحياة فلا مناص لنا من الجدّ في طلب العلوم التي بها تكون الحياة.

محمد خطاب الفرقاني

محمد خطاب الفرقاني * كتبنا عن هذا المحسن الفذ كلمة في العدد 86 وفصلنا القول في مبراته للعلم، شكرًا لها بالإظهار وتقديرًا، وحملًا لغيره على الاقتداء به والتأسّي، لا مدحًا لشخصه، فهو عندنا في منزلة فوق ذلك، ولا استدرارًا للمزيد من برّه، فالرجل جار في البر على طبع أصيل، وأضيع شيء قولك للأسد أشجع، وللنجم اطلع، وإنما نحن قوّامون على العلم، مؤتمنون على حركاته القائمة، فمن البرّ به، البر بمن يحسن إليه، ويعيننا عليه. وإن هذا العدد الخاص بالمعهد الباديسي لأدنى إلى هذا المحسن الكبير، وأليق بتخليد اسمه، ورفع ذكره، فلم يزل- حفظه الله- يشيد بالمعهد من يوم تأسيسه، ويعدّه- كما هو في الواقع- غرة أعمال جمعية العلماء، ويتعهّده بالدعاية الحسنة، والرعاية النافعة، ويخصّه بالقسط الوافر من مبرّته السنوية، وله- بعد ذلك كله- رأي صحيح في حياته واستمرار سيره يوافق رأينا، وأمل واسع في وسائل ترقيته يطابق أملنا، وستحقّق الأيام ذلك الأمل، فإن وعود المحسنين أمثاله كالقبض باليد. ولهذا المحسمن البر صلة روحية متينة بإمام النهضة المبرور الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد ابن باديس، كانت تحمله على زيارته إلى قسنطينة على بعد الدار، مع صلات من البر للمشاريع كصندوق الطلبة إذ ذاك. وله كذلك صلة ود واعجاب بمدير المعهد الأستاذ الشيخ العربي التبسي، انضاف إليها حب للمعهد وإعجاب به. فتجشّم زيارة الأستاذ المدير في المعهد في أواخر شهر جوان الماضي، وطاف بأقسام المعهد ورأى بعينه بعض مواقع إحسانه، وتفاوض مع الأستاذ المدير في شؤون المعهد وحاضره ومستقبله، واجتمع المحسن بماله والمحسن بعلمه على القربى في الخلال، والاستعداد للكمال، والامتداد في الآمال. وخرج الزائر الكريم مزهوًا فخورًا بأن

_ * "البصائر"، العدد 90، السنة الثانية من السلسة الثانية، 3 سبتمبر 1949م. (بدون إمضاء).

يكون لوطنه ولقومه من حصون العلم مثل هذا الحصن، وأن تكون له يد في وضع أحجاره وتعمير حجراته، محدثًا عن مشاهدة وعيان، مؤمنًا بأنه أصاب موقع الصنيعة. ومما فاتنا ذكره في المقال السابق عن هذا المحسن نكتة تتباهى بها الأمم التي بلغت في الإحسان إلى العلم شأوًا مغربًا، وهي أنها لا تقف به عند الحدود الإقليمية الضيّقة، بل تتسع فيه اتساع العلم وتجعله كالمطر، لا يبالي أين وقع، ما دام ينفع حيثما وقع. وأخونا خطاب من ذلك الطراز الذي لم يقف بإحسانه عند حد، فله على الطلبة الجزائريين المهاجرين إلى القرويين آثار من الإحسان على يد الجمعية الجزائرية المكوّنة من إخواننا الذين شرفوا وطنهم الجامع أينما حلّوا، وله على إخوانهم الزيتونيين مثل ذلك، وله على المؤسسات العلمية في الجزائر ما بينّا بعضه للقرّاء في المقال السابق. إن هذا الصنيع- لعمر الحق- من هذا المحسن لخطوة في التقريب بين الإخوان، والتقارب بين الأوطان، وهي الأمنية التي عمل الصالحون منّا لتحقيقها، فمنهم من قضى نحبه متحسّرًا على فوتها، ومنهم من ينتظر تحققها. ألا إن الثناء على محمد خطاب ثناء على جميع المحسنين إلى المعهد، لأنه رمزهم الأعلى، فلكل محسن حظه من هذا الثناء وإن لم يذكر اسمه، لأن الإحسان كالحرفة، ومن مدح حرفتك فقد مدحك، وإن لم يعرفك، فلا يظنن إخواننا في الحق وأعواننا على الخير، أننا نسيناهم أو بخسناهم حقّهم. وسلام على أخينا خطاب في المحسنين، وسلام على إخوان لنا في المغرب وتونس يعملون لنشر العلم متعاونين. ويسعون لتوحيد وسائله وآثاره جاهدين.

"البصائر" في سنتها الثالثة

"البصائر" في سنتها الثالثة * بهذا العدد دخلت "البصائر" في سنتها الثالثة من طورها الجديد، أو من سلسلتها الثانية مستعينة بالله متوكلة عليه، مستعيذة بالمعوذات من كلامه، تستدفع بها كيد الكائد، وحسد الحاسد، وطغيان المتحكّم، وتستجلب بها من روح الله نفحات تنعش الفكر، وتسدّد القلم، وتمسح عن النفس الكلال والسأم. تستأنف "البصائر" بهذا العدد مرحلة من مراحل جهادها في سبيل العروبة والإسلام، ولكنها مرحلة متّصلة الأسباب بما قبلها، ملتحمة الحاضر بالماضي، فميادين العمل في جميع المراحل واحدة، والعقيدة التي تعمل لها "البصائر" واحدة، والخصم واحد، وان ظهر في كل ثنية بشبح، وتلوّن في كل مطلع بلون، وحلّ في كل قضية بعون. قطعت "البصائر" حولين من شبابها نامية مترعرعة- على كثرة ما لقيت من عوائق النمو- في جهاد للظلم مستمر، وجلاد مع المبطلين مستحرّ، بعدما قطعت أحوال صباها في التمرّس على الإقدام، والارتياض على الاقتحام، والتعوّد على الصراع والقراع، وهي في حالي صباها وشبابها ثابتة الخطى، واضحة المنهج، لم تزلّ لها قدم بعد ثبوتها، ولم تزغ لها في الحق بصيرة ولا بصر، ويسّرها الله لما خلقت له، فما نبا لها في معضلة رأي، ولا كبا بها في معترك فكر، ولا هفا لها في فتنة حلم. واجهت "البصائر" في هاتين السنتين أحداثًا مثيرة، في ميادين كثيرة، فجال فيها هذا القلم جولات موفّقة، ان اخطأه في بعضها النجاح الذي يعرفه الناس، فلم يخطئه الإخلاص الذي يعلمه الله، والصدق الذي يحبّه الله، والنصح الذي يأمر به، وان العامل المخلص ليبوء بنجاحين، أحدهما مضمون، وهو إرضاء الله، وارضاء الضمير الذي هو وازع الله في نفس المؤمن.

_ * "البصائر"، العدد 91، السنة الثانية من السلسة الثانية، 26 سبتمبر 1949م.

عالجت "البصائر" في مستهلّ سنتها الأولى قضية الأحزاب وهي الفتنة التي مزّقت الشمل، وصدعت الوحدة، وأفسدت ما صلح من ضمائر الأمة، ونفخ فيها الاستعمار من روحه، فحاربت الحق بالباطل والحقيقة بالخيال، ووقفت عرضة للتعليم العربي الديني الذي هو الزاد الروحي لهذه الأمة، فبيّنت "البصائر" النهج القاصد، ونصحت المخطئ، وفضحت المريب، واشتدّت لحكمة، ولانت بحكمة، فلما أدّت حق الله، وأمانة النصح، وكلت الأمر إلى الزمن، وتركت سنن الله تجري في أعنتها وما زالت هذه السنن تري المبصرين صدق "البصائر". وجاءت قضية فلسطين تتابع أدوارها الأخيرة المزعجة، ولفلسطين على كل مسلم حق، وفي عنق كل عربي عهد، فقامت "البصائر" ببعض الواجب على مسلمي الجزائر، وكتبت تلك المقالات التي قلّما كتبت صحيفة مثلها، ونعت على العرب وملوكهم تواكلهم وتخاذلهم واغترارهم، وأنذرتهم سوء المصير، فلما وقعت النكبة التي سجّلت على المسلمين خزي الأبد، ووسمت العرب سمة الذل التي لا تُمْحَى، جفّ الريق والمداد، وأغضينا الجفون على القذى، وفي النفس من الحزن لواعج، وفيها زفرات مكبوتة، لا تكون- إذا انفجرت- من باب: أوسعتهم سبًا وراحوا بالإبل. وإنما تكون صرصرًا عاتية على أمراء العرب وكبرائهم الذين لم يأكلوا تراث العروبة ولكن أضاعوه، ولم يحفظوا مجد الإسلام بل باعوه، وتكون حربًا على هذه الأخلاق الدخيلة على الدم العربي التي هيّأته للذل والعبودية والهوان. وما زالت هذه الزفرات تعتلج وتتصاعد، حتى انبرى كاهن الحي لنقد ملوك العرب وأخلاق العرب بأسلوله الذي رجع بالعربية إلى عهود الجاهلية. فقضى بعض الحق وشفى شيئًا مما في النفس، وقد أخبرنا الكاهن بأن للكهانة فترات قسرية، وأنه سيجول- حين يعاوده نجيه- في أقطار العرب، ويتناول قادتهم وعلماءهم بما هم أهله. إن تلك العاقبة الشنعاء لقضية فلسطين يعود وزرها على ملوك العرب وحكوماتهم وأحزابهم، وأنهم لا يعذرون فيها ولا يستعتبون، وأن كارثة المشرّدين هي العورة التي لا توارى في الجسم العربي، وهي الفضيحة السوداء في تاريخهم، وأن ويلات اللاجئين كلها مكتوبة في صحائف أولئك القادة والأمراء ... وسيتقاضى من كتبت له الحياة من أولئك اللاجئين ثأرهم من قادة العرب وأمراء العرب. وويل للطاعمين الناعمين من الجياع الظماء ... أما السنة الثانية التي سلختها "البصائر" بالأمس فقد كانت قضيتها الشاغلة هي: التعليم العربي، وفصل الدين عن الحكومة. وقد حملت "البصائر" في الأولى الحملات الصادقة، بتلك المقالات الفاضحة وأبلت في الثانية بما فيه البلاغ. وما زال هذا القلم بليلًا بمدته، ينتظر انقطاع القواطع ليعود إلى الميدان. وإذا كانت القضيتان واقفتين حيث وقف القلم، فما

ذلك بمانعنا من أداء الواجب، ولا مثبطنا عن مواصلة الكفاح. وان لتصامم الحكومة عن كلامنا، وتعاميها عن حقّنا لحدًا تنتهي إليه، وإننا لا نملّ حتى تمل. ... أصابت هذا القلم فترات في أثناء السنة الماضية سببها كثرة الأعمال المرهقة والرحلات المتواصلة في سبيل المعهد والمدارس، وليس من أسبابها المرض الذي أقعد صاحبه شهرين وزيادة، فلقد كان ذلك المرض أجدى على "البصائر" من العافية والسلامة، ففي أيامه وعلى فراشه كتبت عشر مقالات في معاملة الحكومة للتعليم العربي، حتى سمّاه الأستاذ التبسي "المرض المنتج" وقال لبعض من ثقلت عليه وطأة تلك المقالات من صنائع الحكومة ما معناه: إني لا أرضى للإبراهيمي أن يشاك بشوكة ولكن هذه المقالات حبّبت إلي طول مرضه مع سلامة العاقبة. تألّم القرّاء لتلك الفترات، فوافتنا رسائلهم تشكو وتعتب، وامتعض لذلك المعجبون باستهلالات "البصائر" من إخواننا الشرقيين، وساورتهم الظنون التي يجسّمها بعد الديار، وانقطاع الأخبار، فكتبوا يسألون يستفسرون. وحرن الكاهن (لا بارك الله فيه) فكأنما كنّا في الفتور على ميعاد، وخلا في "البصائر" ثغر من ديدبانه، وجلا من فرسانها فارس عن ميدانه، ولولا عزمة من "أبي محمد" تنهل ديمة (1)، وتبرق ولافا (2)، ولولا إكباب منه لا يعرف الإغباب، في الأفق الذي خصّص له قلمه، ولولا عزيمة أخرى في العهد الأخير من "أبي عزيز"، لخف وزن "البصائر"، وجف رونقها. وهذا القلم الذي لا يزدهيه إعجاب المعجبين، لا يقصر- إن شاء الله- عن مدى في خدمة العروبة والإسلام، ما احتضنته الأنامل، وما أرضعته الدُّوِيّ، وأنه ليشكر أولئك القرّاء المتألمين من احتباس جريه، ويقول لهم: إنه لا يسكن إلا ليتحرّك لسان صاحبه في خدمة العلم، وتتحرّك قدماه في ميدان العمل. ... وجر بعدي عن "البصائر" وقوع هفوات فيها ما كانت لتقع لو كنت قريبًا منها، كما جر ذلك البعد شيوع الأخطاء المطبعية وتصحيح الجريدة نصف الجمال فيها. وأنا أتأسف لذلك وإن كان وقوعه عن غير قصد من القائمين عليها.

_ 1) مطر ديمة: لا يقلع. 2) برق ولاف: متتابع.

وسبب ذلك البعد تقصيرًا في حقوق الزميلات المبادلة من التقريظ والإشهار، وفي حقوق بعض الإخوان الذين تلطفوا بإهداء مؤلفاتهم، وإن حقًا علي أن أذكر بالخير مجلات العرفان، والجامعة العربية، والْمُعَلِّم العربي، والتمدّن الإسلامي، والشرق، والعالم العربي، ولواء الإسلام، والمعلم الجديد، والعصبة الأندلسية، والشعاع، والمجلة الإسلامية (بالإنكليزية). أذكر هؤلاء بالخير، لأنهن بادرن فبادلن، وان لم يصلنا من الواحدة في السنة إلا بعض الأعداد، لاختلال في البريد أو اختلاس من عامل مريد. كما أذكر بالعتب مجلات بادلناها فلم تتنزّل للمبادلة، وجاملناها فأبت الإجمال في المعاملة، ومنها مجلة الرسالة المصرية مع إجلالنا لها ولصاحبها، ومجلة المستمع العربي. ولست أنسى يدًا لإخوان الصدق وأنصار البيان علي، لست أنسى ذلك الأخ النجفي الذي بالغ فوصف "البصائر" بأنها أرقى جريدة في العالم العربي من المحيط إلى الخليج ولا ذلك الأخ البصري النابت في معدن اللسان، الذي أطرى "البصائر" بما أخجل من ذكره، ولا ذلك الأخ المسلم اللاهوري الذي أثنى وأشاد، ولا ذلك العربي البرازيلي الذي قرّظ "البصائر" في جريدة إسبانية اللغة أبلغ تقريظ وصوّر ديباجتها، ولست أنسى الأستاذ محمد علي الطاهر الذي أنصف فيما وصف. لست أنسى هؤلاء ولا غيرهم من أهل الفضل الذين لم تحضرني حتى نسبهم في هذه اللحظة. أما عالم الشام الأخ الوفي الشيخ محمد بهجة البيطار فإنني أنشر رسالته في هذا العدد وإن طال عليها الأمد لما فيها من تغنٍ بأعمال جمعية العلماء، ولو كنّا من عشّاق الإطراء لنشرنا من رسائل المعجبين ما يغيظ الحاسدين. ... هذه لمحة دالّة على منزلة "البصائر" عند صاغة الكلام، وهدى الله أبناءنا الكتّاب، وأُدَباءَنَا الغضاب، الذين نحرّكهم إلى الكتابة والقول، فكأنما نحرّك منهم صخرة صفاء. فإذا بضوا بقطرة تجنّوا، فإذا خلوا إلى أنفسهم تمنّوا، ولو عافاهم الله من داء الغرور لعلموا أن الكتابة في "البصائر" سلّم إلى المجد، وذريعة إلى الخلود. ولفهموا أن الأديب الحقّ فيه من السماء مسحة الصحو، وعليه من السماء صبغة الصفو، وأن طبع الأديب من طبع الماء: سائل، جار، متفجّر، فإذا قيل للماء: سل، وللغصن: مل، فقد غبنت الحقائق. على أن أبناءنا هؤلاء- عفا الله عنهم- ليسوا من ليل الحياة في سحره، ولا من رييع الأدب في زهره، فما ضرّ لو ركبوا الأناة إلى الكمال.

رفع إيهام

رفع إيهام * في المقال الرابع من مقالات "فصل الدين عن الحكومة" والمنشور بالعدد 88 كلمة حَمَلَها بعض الناس على غير المقصود منها عندنا، وأوَّلوها تأويلًا لم يخطر لنا على بال، ولم يهجس لنا به خاطر. تلك الكلمة هي قولنا في تعداد الجهات التي تسخّرها الحكومة لإبقاء ما كان على ما كان في القضية الدينية: "وأشياع من الزملاء والمنتدين"، ففسَّروها بجهة نَعُدُّها في المهتدين لا في المعتدين. والواقع الذي يعلمه منا عالم الغيب والشهادة أن الذي خطر ببالنا حين جرى القلم بتلك الكلمة هو ناد "ممتزج "، وُضع من أول يوم على ظاهر من الجمع، وباطن من التفريق، وعلى مقاصد مبيتة من الشر والكيد للإسلام والمسلمين، فهو مكمن للاستهواء يحمل اسم النادي، كما حمل مسجد الضرار اسم المسجد، وكانت بَلَغَتْنا عنه هنات من الآراء في قضيتنا الدينية، وبلغتنا عن بعض رجاله إعدادات لها، واستعانات ببعض زملائه عليها، وبَلغنا عن بعض ذوي الدخائل السيئة أن له تهافتًا عليه، وتمرّغًا بأعتابه، يبتغي به الوسيلة إلى بلوغ غرضه، وبَلغنا في الأخير أنه أصبح كعالم المثال عند بعض الحكماء المتألهين، يتنزل إليه الرفيع، ويرتفع إليه الوضيع، وما كان كذلك إلّا لأنه وُضع لذلك، فقرَّب ذلك كله من أذهاننا المعنى الذي قصدناه به، ولم ينقص من قيمته عندنا حالته الحاضرة، وانه متردّد بين الحياة والموت، فذلك شأن هذه المشاريع الموضوعة لمعنى: تؤسَّس للضرر والضرار، وتدخر لوقت الحاجة.

_ * "البصائر"، العدد 91، السنة الثالثة، 26 سبتمر 1949 (بدون إمضاء)، والنادي المقصود هو "النادي الفرنسي- الإسلامي".

هذا هو الذي قصدنا، فإن كان في الكلمة خفاء في الدلالة، فليس فيها بعد من السياق، وإنْ كان فيها موهم من الاشتراك اللفظي، فليس لتأويلها شاهد من الواقع. نرجو من المؤوّلين أن يعلموا أننا ممن يفرق بين الحق والباطل، وأنه لا خصم لنا في القضية الدينية إلّا الحكومة ومَن اتخذته من المضلّين عَضُدا، أمّا العاملون لتحرير الدين، والساعون في إرجاع الحقّ إلى أهله فهم إخواننا وأنصارنا.

المعهد والمدارس

المعهد والمدارس * المعهد الباديسي المعمور هو الحجة الناهضة الناطقة بفضل جمعية العلماء، وهو الميثاق المعقود بينها وبين الأمة. فمن قصر في نصيبه من العمل له فعليه التبعة، وعلى هذا تواثق الطرفان تواثقًا ضمنيًّا، أيده واقع الحال وشاهده، حتى أصبح الناطق منا والساكت سواء في لزوم العهد، وعمارة الذمة. يدخل المعهد في سنته الثالثة من عمره الطويل- إن شاء الله- في الوقت الذي عيناه لافتتاحه في العدد الماضي، وهو يوم 15 أكتوبر وسيواجه هذه السنة الجديدة وتكاليفها الثقيلة، بعزم ثابت، وإيمان متين، مستعينا بالله، واثقًا بالأمة الجزائرية المسلمة، مسورًا بالسور الكلي من عقولها وضمائرها، جادًا في تبليغ الأمانة، وأداء الواجب، محفوفًا بالزمرة المختارة التي صدق فيها الاختيار، وأيده الإلهام من مديره المستكمل لأدوات الإدارة، إلى مشائخه، إلى اللجان العاملة في جميع فروع العمل. ... يقوم المعهد على قواعد متناسقة، لو اختلت منها واحدة ظهر الخلل في جميعها، الأولى: الإدارة التي وكلت إلى الأستاذ العربي التبسي، فلم توكل إلى وكل. والثانية: التدريس الذي أسند إلى جماعة قارب بينها العلم ثم قارب بينها العمل، ثم قارب بينها حزم الإدارة وجاذبيتها، حتى أصبحت كالجسم الواحد، تأتمر أعضاؤه لقلب، وتتحرك أجهزته بروح، وتسعى جوارحه بإرادة. والثالثة: فئة من أعضاء اللجان تعمل احتسابًا لوجه الله ولنشر العلم وخير الوطن.

_ * "البصائر"، العدد 92، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 17 أكتوبر 1949م.

والرابعة: تلامذة من أبناء العشائر الجزائرية، أخرجت المدارس الابتدائية جزءًا منها، وأخرجت البوادي والجبال أجزاء أخرى، ولكن حب العلم قارب بين أجسامهم وأرواحهم، وجمع تلك الأبعاض المتباعدة فكون منها هيكلًا، صقله حسن الإدارة فسوى منه جسمًا جميل التقاطيع ملتحم الأجزاء. والخامسة: كرام محسنون طبعهم الإسلام على الوطنية الصحيحة، وعلى وضع الإحسان في محله، وعلى بذل المال في أحسن وسيلة لنفع الوطن، وهي العلم، وفي هؤلاء السابق المبرز، واللاحق المتأخر، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}. ... والمعهد في سنته الثالثة أحوج ما يكون إلى العون والتأييد، وإلى مضاعفة الجهود، لتكون كل خطوة أوسع وأثبت من سابقتها، وقد كثرت أعماله فكثرت حاجاته، وحيث أنه يعتمد في كل شيء على الأمة فقد تأكدت حقوقه على الأمة، وفي كلمة مديره الأستاذ التبسي التي نشرت في العدد الماضي الخاص بالمعهد، بلاغ لقوم يعقلون. أما الأسئلة المتوالدة التي تجول في بعض النفوس، وتجري على بعض الألسنة في النظام الذي يرجع إليه المعهد في تعيين مشائخه وموظفيه، والأساس الذي ينبنى عليه ذلك في حاضره ومستقبله- فإننا نجيب أصحابها بأن ماضي المعهد وحاضره بنيا على ما اقتضته الظروف المستعجلة، إذ كان تكوين المعهد من أساسه أعجوبة من أعاجيب الفجاءة وكان أمره دائرًا بين اثنين: كاتب هذه السطور بحكم منصبه في جمعية العلماء ومنزلته في الأمة، والأستاذ التبسي بحكم مقامه العلمي، ومكانته في الشعب، وقيمته العملية عنذ إخوانه العلماء، ومع ضيق دائرة التكوين، فإن كل شيء وضع في محله بلا محاباة ولا اجحاف، وقد صرحنا في أوائل السنة الماضية بأن المعهد مستقل في إدارته، ويجب أن يكون كذلك حتى يبعد عن مهاب الأهواء، وحتى تتمكن إدارته من وضع الأسس الصالحة للمستقبل بالتدريج، وما زلنا نعد من توفيق الله للمعهد ومن آيات عنايته به إسناد إدارته إلى الأستاذ التبسي، فليطمئن المتسائلون والمشفقون على المعهد فإن المشرفين عليه غير غافلين عن هذه النقطة، وان الإدارة ساعية في وضع كل شيء على الأساس الصحيح حتى يعمر المعهد بالكفاءات، ولا يضيع حق ذي حق فيه، وإن الجهاز الحالي من المشائخ المدرسين وغيرهم من الموظفين- كلهم من أعضاء جمعية العلماء الإداريين أو العاملين، وكثير منهم من بواكير الحركة وأولي الأيدي في تسييرها، وكلهم خاضعون لأوامر الجمعية، منفذون لبرامجها، ومعاذ الحق أن تذود الجمعية ذا حق عن حقه، أو تحابي أحدًا دون أحد، أو تبني المعهد- وهو أشرف أعمالها- على أساس من الاحتكار لا يأتي بخير.

والمدارس

إن إقرار النظم ليس بالهين، وإننا- إن شاء الله- لا نضيع لحظة في غير طائل، وإن من أوكد أعمالنا إقرار نظام المعهد على قواعد ثابتة، أرسخ مما يقدر المقدرون، فليتأن المستعجلون، وليصبر المتطلعون وليقصر المتشائمون، فإننا للخير عاملون، وفي الإصلاح مجتهدون، وعلى الله متوكلون. والمدارس أتمت لجنة التعليم العليا أعمالها في أسابيع متواصلة الأيام بالليالي فوزعت المعلمين على المدارس على صورة تجمع بين مصلحة المعلم والمدرسة والجمعية المحلية، مستندة في ذلك على تجارب السنة الماضية، وعلى الملفات الخاصة بكل مدرسة، وعلى الملاحظات المتجمعة من المفتش ورؤساء الشعَب ورؤساء الجمعيات المشرفة على المدارس، وقد اجتهدت اللجنة ما وسعها الاجتهاد، وقاربت بين النظريات المتباعدة. ثم عاودت النظر في البرامج واللوائح وأكملت النقائص الموجودة في القديم، وأنشأت نظمًا جديدة تقتضيها الحالة، ولا تستغني عنها الحركة، وعرضت علي أعمالها بعد الانتهاء جزئية جزئية في ثلاث جلسات طويلة، فلاحظت على ما يستحق الملاحظة، ووافقت على جميع الأعمال، وقدمت شكري خالصًا طيبًا للجنة على أعمالها الجليلة. وإني أعد اللجنة قد وفقت في النتائج التي وصلت إليها، وأنها اجتهدت في النصح، وبالغت في الاحتياط، وجعلت همها الأول خير المدرسة وفائدة التعليم، ولكني- مع ذلك- أجزم بأنه يوجد في المعلمين من لا يرضى بالمكان الذي عين فيه، وفي الجمعيات من لا ترتاح إلى المعلم الذي عين لها، وأنا أقول للجميع قولة الناصح المجرب: إنه ليس في الإمكان، ابدع مما كان، وإن كل شيء كان عن بصيرة، وبعد تقليب للآراء والأنظار، فلا يتهمن مُتَّهِم بسوء القصد أو بسوء الاختيار، وإن الخير كله في التعاون الخالص بين الهيآت العاملة، وليعلم أبناؤنا المعلمون وأعضاء الجمعيات المحلية أن حركتنا قائمة على جهودنا الخاصة وتضحياتنا الخاصة، ونحن شركاء في هذا الواجب وليس واحد منا غريبًا عن الدار، أو أجيرًا عند الجار، وإنما هي واجبات نشترك في أدائها، فمن قصر فعليه وزر تقصيره. وأنا- فقد كنت أرثي وما زلت لحال أبنائي المعلمين المغتربين في قضيتي السكني والأجرة، وما زلت أجاهد في سبيلهم، وأحمل الجمعيات المحلية تبعة التقصير، وسأقوم بنفسي هذه السنة في هذا السبيل وأزيح العلل ما استطعت، ورجائي الأكيد من أبنائي جميعًا أن يعينوني- على أنفسهم- كل بما يملك. وستنشر "البصائر" في هذا العدد ما يمكن نشره، وتؤخر بقية أعمال اللجنة إلى العدد الخاص بالمدارس، وقد تأخر لاعتبارات ضرورية.

نفحات من الشعر الجزائري الحديث

نفحات من الشعر الجزائري الحديث* مقدمة كتبها الشيخ لقصيدة "تحية الحجاج" للشاعر محمد العيد ــــــــــــــــــــــــــــــ تلم بشاعر الشمال الأفريقي محمد العيد آل خليفة في هذا العهد الأخير نوبة نفسية غريبة عن شعراء المادة، وما هو منهم ولا هم منه، وكان من آثار هذه النوبة في نفسه ايثاره للعزلة عن الناس، وهجره لقول الشعر، وكان من ثمراتها المرة للأمة حرمانها من صوت ذلك الطائر الغرد، وهي تخشى أن تحتد هذه النوبة وتشتد، فتنعكس إلى نزعة صوفية جارفة تقضي على تلك الشاعرية الجياشة بكل شاردة من الحكم الفياضة بكل بديع من القول. حرام أن تحرم الجزائر من نفثات شاعرها الفذ، وحرام أن يبقى شعر ذلك الشاعر الفحل غير مدون ولا مطبوع، ولكن من المسؤول عن ذلك؟ المسؤول الأول هو الشاعر نفسه، فقد أردناه على جمع شعره، وكفيناه مئونة التصحيح والتعليق والانفاق، فأبى وتصعب، وتفنن العذر منه وتشعب، وما ذلك في نظرنا الا أثر من آثار تلك الحالة النفسية التي أشرنا إليها. وهذه قصيدة جديدة مملوءة بالحكم، ترسلها قريحة الشاعر العبقري، في الوقت الذي يرجع فيه الحجاج من الحجاز، يهنيء فيها المستحقين بقبول التوبة وسلامة الأوبة، ويتخلص إلى أفانين من الحكمة والوصف. وليس كل الحجاج يستحقون هذه التهنئة، ففيهم من حج زورا، وعمل منزورًا، ورجع موزورًا، وأهدى بدنة فكأنما قرب زرزورا، ولكن التجليات التي غمرت الشاعر ففاضت قريحته بهذه القصيدة، هي التجليات الزمنية، فهذا الوقت هو زمن رجوع الحجاج إلى مواطنهم، بلا فرق بين المشرق منهم وبين المغرب، ولا فرق بين البر والفاجر، فهنأ

_ * "البصائر"، العدد 94، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 7 نوفمبر 1949 (بدون إمضاء).

الحجاج ولم يهنيء العير، ونوى أصحاب الجنة ولم ينو أصحاب السعير، والدعوات المرسلة تطير إلى أهليها، والصفات المطلقة تتوزع على مستحقيها، ولا جناح على الداعي ولا على الواصف. وأن عسى أن تنجلي هذه النوبة فيعود محمد العيد إلى عهد: ………………………… استوح شعرك من حنايا الأضلع وإلى عهد: ………………………… حي حفلا كزخرف الروض عني فمتى تعود، تلك العهود**.

_ ** نشرت القصيدة في نفس العدد عقب المقدمة، وهي منشورة في "ديوان محمد العيد" (الشركة الوطنية للنشر والتوزج، الجزائر، 1967) [ص:194].

برقية احتجاج

برقية احتجاج * ننشر هنا برقية الاحتجاج التي بعثت بها جمعية العلماء إلى المراجع العليا للسلطات الفرنسية على ما عومل به أحد أعضائها المحترمين بمدينة "تبسّة"، وهو الشيخ عيسى سلطاني، وهذا نصّ البرقية: رئيس الجمهورية الفرنسية رئيس الوزارة ونوير الداخلية ونوير العدلية جاك ديكلو، نائب رئيس المجلس الوطني شارل الويس رئيس الجماعة الاشتراكية والي الجزائر العام عامل قسنطينة ترفع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين احتجاجها على المعاملة الجائرة التي عومل بها أحد أعضائها من ذوي المكانة الرفيعة في التعليم الديني الإسلامي بإفريقيا الشمالية، إذْ سامه سوء العذاب "كوميسار" الدرك بمدينة تبسّة وأهين لديه إهانة شنيعة. وحيث ان جمعية العلماء تحيط حضرتكم علمًا بهذه الأعمال الوحشية التي تعد من طرف "الكوميسار" حملة مدبّرة ضدّ سمعة الإسلام وتعليمه، فهي تلفت نظركم إلى أن هذا الجور لا يتلاءم في شيء مع احترام الشخصية الإنسانية التى تعهد به الدستور الفرنسي، والتصريح العالمي لحقوق الإنسان. رئيس جميعة العلماء محمد البشير الإبراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 94، السنة الثالثة، 7 نوفمبر 1949.

الفضيل الورتلاني

الفضيل الورتلاني - 1 - * الأستاذ الفضيل الورتلاني ممّن أنبتتْهم هذه النهضة الجزائرية المباركة نباتًا حسنًا، فعمل بإخلاص في ميادين الجهاد في الجزائر ثم نَبَتْ به الديار، فنزل مصر، وجال في ربوع الشرق كلها جولات، رفعت صوت الجزائر عاليا في تلك الربوع، وكوّنتْ منه زعيمًا جزائريًا بحق، وشخصية بارزة لها مقامها المعلوم بين رجالات الشرق كلهم، ولقد حزّ في نفوس شرذمة من المغرضين في الجزائر ما أحرزه الورتلاني من النجاح في الأوساط السياسية بالشرق، فراحوا يتقوّلون عليه الأقاويل ويتهمونه في إخلاصه وجهاده للنيل منه ومن جمعية العلماء المسلمين التي يحاولون ثلبها في مفخرة من مفاخرها، والتنقيص من مقامها في شخص أحد أبنائها البررة. وقد فضح الله هذه الطائفة المغرضة وأضلّ سعيها بهذا المقال القيّم البليغ الذي بعث به إلينا مدير اللجنة التنفيذية للحزب الحرّ الدستوري التونسي، الأستاذ محي الدين القليبي، الزعيم التونسي المعروف.

_ * "البصائر"، العدد 97، السنة الثالثة، 5 ديسمبر 1949.

- 2 -

- 2 - * الفضيل الورتلاني نشأ نشأة الصبا والحداثة في أحضان الفطرة الطاهرة وفي أحضان الجبال الشماء، فاكتسب من الأولى قوّة الروح، وصفاء العقيدة والصلابة في الدين، ومن الثانية قوّة الجسم، ووثاقة التركيب، وسلامة الحواس، ثم نشأ نشأة الشباب في أحضان جمعية العلماء، ففتح عينيه على الميادين العامرة بأبطالها، وفتح أذنيه على الأصوات المجلجلة بالعلم والإصلاح، من دروس عامرة بحقائق التنزيل والحكم النبوية، ومحاضرات بليغة في التاريخ الإسلامي والأدب العربي، تفيض بالبيان الساحر وتتدفق بالبلاغة الرائعة، فنشأ مؤمنا متين العقيدة، حرًا عميق الفكر، صريحًا لاذع الصراحة، جريء اللسان على كلمة الحق، شجاع الرأي إذا جمجمت الآراء وتخافتت، غيورًا على وطنه غيرته على دينه، إذن فهو معدود من بواكير هذه النهضة المباركة في الجزائر، رافقها في جميع مراحلها وشارك- على فتوته- الشيوخ المحنكين في بنائها. لازم إمام النهضة عبد الحميد بن باديس سنوات، فتأثر بمنازعه في الخطابة ومواقفه في حرب الضلال، وسقيت ملكته بغيث ذلك البيان الهامي فأصبح فارس منابر، وحضر اجتماعات جمعية العلماء العامة والخاصة، فاكتسب منها الصراحة في الرأي، والجراءة في النقد، والاحترام للمبادىء لا للأشخاص ثم لابس السياسيين، وغشى مجتمعاتهم فرأى من زيغ العقيدة وزيف الوطنية وانحلال الأخلاق- نقيض ما رأى من رجال جمعية العلماء، فثار عليهم ودهوا منه بباقعة، وكان الأستاذ الرَّئِيسُ يقدر له- وهو في الحداثة- عواقب الرجال، ويتخيل فيه مخايل الأبطال، ويقول له كلما رأى منه مخيلة صدق: (لمثل هذا كنت أحسيك الحسا).

_ * "البصائر"، العدد 115، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 6 مارس 1950م.

ثم جاوز البحر سنة 36 ميلادية، بموافقة من الأستاذ الرَّئِيسُ ومني ليرد على الضالين من أبناء قومه هداية الإسلام، وليرد على الناشئين هناك من أبنائهم ما أضاعه الوسط من دين ولغة، وليزرع في قلوب الآباء والأبناء معًا حب الدين والجنس واللغة والوطن، وليعيد إلى الجزائر- بذلك كله- قلوبًا تنكرت لها، وأفئدة هوت إلى غيرها، وغراسًا أظمأه الاستعمار في مغارسه فالتمس الريّ والنماء في غيرها. فتتبعهم الفضيل في مطارح اغترابهم وجمع شملهم على الدين، وقلوبهم على التعارف والأخوة، وجمع أبناءهم على تعلم العربية، وأسس في باريز وضواحيها بضعة عشر ناديًا، عمرها هو ورفاقه الذين أمدته بهم جمعية العلماء بدروس التذكير للآباء والتعليم للأبناء والمحاضرات الجامعة في الأخلاق والحياة، ونجح الفضيل في أعماله كلها نجاحًا عاد على المسلمين في فرنسا بالخير والبركة وعاد على جمعية العلماء بالسمعة العطرة والدعاية الطيبة، وكان في تلك المدة كلها متصل الأسباب بجمعية العلماء مراسلة واستمدادًا وإشارة واستشارة، وقد رجع في أثنائها إلى الجزائر، كلما انعقد اجتماع أو حزب أمر، وما زلت أذكر حضوره في اجتماع الجمعية صيف سنة 37 وحضوره على إثر ذلك افتتاح مدرسة "دار الحديث" بمدينة تلمسان، وخطبته، في ذلك الحشد الذي ضم عشرين ألفًا بعد سماعه لقصيدة الشاعر محمد العيد، وحملته الجارفة على التجنس والمتجنسين. وفي سنة 38 فيما أذكر هاجر إلى مصر مستزيدًا من العلم والتجارب، مستجمعًا قوّته للعمل في ميدان أوسع وجو أصفى: وكانت له المواقف المشهودة والرحلات الموفقة إلى الأقطار العربية، وكان في تلك المدة كلها متصلًا بنا على قدر ما تسمح به ظروف الحرب، إلى أن وقعت حادثة اليمن، وشاءت الأقدار أن يكون ضيفًا عليها، وأن تكون في أول اتصالاته بها، وشاءت ألْسِنَة الشر وطبائع السوء أن تحشره في زمرة المتهمين بتدبيرها، وشاءت فئات من مرضى الحسد وصرعى الغل والحقد أن يتخذوا من تلك التهمة المتهافتة الشواهد ذريعة للنيل من سمعته والقدح في كرامته وشرفه، ثلة من المشارقة، وقليل من المغاربة، وكنا سمعنا أخبار الحادثة في حينها وخبر الاتهام، فلم نستطع- مع جزمنا بكذبه- دفعه بالقول ولا بالفعل، وسمعنا بعد ذلك ما لاكه أولئك الحسدة ورددوه، فلم نشأ أن نوسع فريتهم نقضًا ودحضًا لعلمنا اليقين بأسباب الحادثة، وعلل الاتهام، وبالمحرك لهؤلاء الناعقين، ولمعرفتنا بالفضيل وظواهره وخوافيه، وادّخرنا رأينا وقوّتنا ودفاعنا إلى الفرص المناسبة. ولكن الوفاء توأم الصدق، والحق يفجأ أنصاره بالعجائب، فقد أراد الله أن يلجم المتخرصين وأن يجر ألسنتهم بوفيين من اخوان الصدق وأخدان الحق، وأن تكون "البصائر" هي مجلى هذه الحقيقة، فرماهم بالأمس بكلمة الأستاذ محيي الدين القليبي التي كشف فيها

عن بعض الحقيقة كشف الخبير المطلع، ورماهم اليوم بهذه المقالة التي نقدمها بهذه الكلمات، وهي من رجل عبقري لا يفري أحد فريه في هذا الموضوع، وهو الأستاذ رشيد أمين سنو، صاحب جريدة "بريد اليوم" البيروتية، وقد كان موظفًا مؤتمنًا في حكومة اليمن، ووقعت الحادثة وهو بها، فشاهد من حقائقها وآثارها، وعلم من أسبابها وملابساتها وأسرارها ما لم يشهده ولم يعلمه واحد ممن كتب عن الحادثة رجمًا بالغيب، أو رواية عن ضنين، أو صُدُورًا عن هوى. و"البصائر" تقدم تعريفًا موجزًا بهذا الرجل قبل كلمته ليعلم قراؤها في المغارب من هو هذا الرجل، فيزدادوا ثقة بآرائه، وتأكدًا من صدق روايته، وإيمانًا بمكانته وكفاءته، زيادة عما يجب علينا من عرفان أقدار رجالنا، ومن تعميم التعارف بين أبناء الضاد أينما كانوا. الأستاذ الكاتب العالم رشيد أمين سنو من عائلة سنو الشهيرة في لبنان، هو اليوم المدير العام للشركة العربية للنشر والتوزيع، كاتب وأديب وشاعر يحمل شهادة الليسانس في الآداب، وتقلب في وظائف كبيرة عديدة، كان أستاذًا للفلسفة في الكلية العلمانية في "طرطوس"، ثم مديرًا لكلية المقاصد الإسلامية في "صيدا" ثم مفتشًا عامًا في أيام الحرب للتموين في سوريا ولبنان، ثم رئيسًا لتحرير جريدة "بريد اليوم" اليومية، ثم تولى بناء على طلب حكومة اليمن وظيفة المدير العام للإذاعة والنشر في اليمن حيث قضى سنة كاملة، ثم أوفدته الحكومة اليمنية في مهمة خاصة في بعض الأقطار العربية في صيف سنة 1947، وبعد إنجاز مهمته عاد للمرة الثانية إلى اليمن، وظل هنالك حتى وقعت الثورة ولم يتركها إلا بعد الثورة بنحو شهرين، وكانت صلته بالأستاذ الفضيل الورتلاني طول هذه المدة وثيقة مستمرة (1).

_ ا) نشرت كلمة الأستاذ رشيد سنو بنفس العدد من "البصائر" عقب كلمة الشيخ.

الأستاذ علي الحمامي

الأستاذ علي الحمامي - 1 - * كانت "البصائر" في الأسبوع الماضي تتأهب للصدور حين بلغها نبأ الفاجعة، فأسرع الأستاذ أبو محمد، وكتب كلمة حزينة صور فيها وقع المصاب الجلل في القلوب، وأثر الخطب الداهم في النفوس، وأودعها شعور هذا الشمال بالكارثة الفادحة التي كان من شهدائها الأبرار ثلاثة من أبطال المغرب العربي، وهم الأساتذة: علي الحمامي والدكتور ثامر، ومحمد بن عبود سقطوا ثلاثتهم بجنب ثلة من رجال الباكستان وممثلي الأقطار الإسلامية في ذلك المؤتمر الاقتصادي الكبير الذي جلا صورًا صادقة لعظمة الباكستان وجوانب نهضتها الاقتصادية الواسعة، ورسم للعالم الإسلامي ما إن تمسك به نجا من خطر الغزو الاقتصادي الأجنبي، فلم يخش بخسًا ولا رهقًا. واليوم نعود وكلنا أسف وحسرة فننشر هنا كلمة ثانية للأستاذ محي الدين القليبي بعث بها إلينا كتحليل واف لحياة أحد الشهداء الثلاثة، وهو الأستاذ علي الحمامي الجزائري. وإن الحادثة على فداحتها وعظم هولها لعنوان في نظرنا على الفجر الجديد، لأنها إن حزت في نفوسنا وهزت هذا العالم الإسلامي هزة عنيفة في مثل هذا الظرف العصيب فقد دلت على أننا قد ابتدأنا نموت لنحيا، وودعنا عهدًا مظلمًا، لم نكن فيه أحياء ولا أمواتًا لنستقبل عهدًا جديدًا تسير الأمجاد في ركابه وتشرق عبقرية الشرق في جوانبه. وإني لأذكر بهذا الصدد كلمة لأستاذنا الأكبر عبد الحميد بن باديس باني النهضة الجزائرية قالها بمحضر جماعة من الشباب، وهو يعلق على قول من قال في المجلس:

_ * مقدمة كتبها الشيخ لمقال عن الأستاذ الحمامي بقلم الزعيم التونسي محي الدين القليبي، "البصائر"، العدد 100، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 26 ديسير 1949، (بدون إمضاء).

"إن الغرب يخاطر كثيرًا بحياة أبنانه" وتلك هي: "ما الحياة إلّا في المخاطرة، ولن يحيا هذا الشرق حتى يركب الأهوال، ويخاطر كالغرب، وإذا ما جاء هذا اليوم فأيقنوا أن الغرب سيقف أمام الشرق وقفة إجلال وإكبار، ويومئذ يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه". وشاء الله أن تكون كارثة الطيران هذه خاتمة المؤتمر المحزنة لتزيد في توحيد آلام هذا الشرق وآماله، وتمكن له في جمع أوصاله وضم أجزائه وأطرافه. إذ لا شيء يبني الأمم وسوق الشعوب إلى غاياتها السامية في الحياة كالآلام المشتركة والنهضات المحفوفة بالأخطار. وبعد فإن "البصائر" لَتحي للمرة الثانية أرواح هؤلاء الشهداء، وتتقدم بتعازيها الخالصة أولًا وأخيرًا إلى أمة الباكستان الشقيقة والعالم الإسلامي الذي أثبت وحدته في هذا المؤتمر، وحقق فكرة الجامعة الإسلامية رغم المفترين الذين يقولون باستحالتها حسدًا من عند أنفسهم. ورحم الله شهداءنا جميعًا، وهدى شبابنا إلى الاستنارة بتضحياتهم والسير على ضوء بطولتهم وجهادهم حتى يتمّوا ما بدأوا ويشيدوا ما رفعوا من قواعد الجامعة الإسلامية.

- 2 -

- 2 - * في تشييع جثمان الفقيد علي الحمّامي ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الاخوان ... أيها الشبّان: إن هذا التابوت الموضوع بين أيديكم لا يحمل جثمان شخص، وإنما يحمل قطعة من الوطن الجزائري فُصِلتْ عنه ثم رُدَّتْ إليه ... قطعة من الوطن الجزائري فَصَلَها عنه ظلم البشر، ثم رَدَّها إليه عدل الله. إن الجواهر لَتُذكر بمعادنها، فإذا ذُكر اللؤلؤ ذكرت عُمَان، وإذا ذُكر الياقوت ذكرت سيلان، وإذا ذكرت الأمم ذخائرها من الرجال، وكرائمها من العقول والأذهان، أبت الأوطان إلّا أن تأخذ حظها من تشريف النسبة فقيل فلان الفلاني ... وفلان الفلاني ... أيها الاخوان! إن الفرار من الظلم والتغرب في سبيل الحريّة طبيعة قديمة في النفوس الكريمة، وما هو فرار ولا هي غربة، وإنما هو الحق يفرّ مغلوبًا ليكر غالبًا، ويصدر مطلوبًا لِيَردَ طالبًا، سنة الله في الحرية- وهي الحق كله- ظهرت في إبراهيم حين هاجر من بابل إلى كنعان ليغرس بذور النبوة في فلسطين والحجاز، وظهرت في موسى فَفَرَّ من مصر إلى مدين ليعود إلى فرعون بآيات ربّه، وظهرت في محمد - صلى الله عليه وسلم - فهاجر من مكة إلى يثرب ليرجع إلى مكّة مجتمع القوّة مشدود الأسر. أيها الشبّان! إن في تاريخكم لَصحائف وضّاءة بحياة المغامرين في طلب الحريّة أو في طلب الملك والمجد والسيادة، فالْتمسوها في الجاهلية من امرئ القيس وعروة الرحال، وخذوها في الإسلام من حياة صقر قريش وإدريس بن عبد الله وأبي عبد الله الشيعي، واطلبوا معاني البطولة والتضحية والإيثار من سير أبطالكم تجدوا في كل مفخرة إمامًا.

_ * "البصائر"، العدد 102، السنة الثالثة، 9 جانفي 1950، ضمن مقال الأستاذ باعزيز بن عمر.

الزميل المنستيري

الزميل المنستيري * للزميل الكريم الأخ محمد المنصف المنستيري صاحب جريدة "الإرادة" مكانة ممتازة في نفوسنا، لعل من موجباتها تعارفًا روحانيًّا أظهرت المواقف آثاره، وتقاربًا فكريًّا غرست الأقلام أشجاره، ثم زكت ثماره، وفنًا كتابيًّا وخزه البيان وأشاع اخضراره، لذلك كله كانت مصيبته بفقد ولده مصيبة مشتركة بيننا، حملنا معه حزنها وألمها والامتعاض لها، كما يمتعض الصديق للمكروه يصيب صديقه، والأخ للسوء يمس أخاه. ونحن نتقدم إلى الأخ الكريم- على هذا البساط- بالتعزية القلبية، داعين لأخوته بالصبر، معتقدين أن في إيمانه ومتانة عقيدته وازعا عن الجزع الذي يذهب بالأجر، وأن في تمرسه بالزمان وأهله ما يخفف وقع إحدى مصائب الدهر. وعزاء للأخ الكريم ولنا جميعًا عن المصيبة الخاصة، بهذه المصائب العامة التي نخوض لججها، وبهذه القضايا الوطنية التي نسوق بالحق حججها.

_ * "البصائر"، العدد 106، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 6 فيفرى 1950م.

أقطاب الفرقة القومية المصرية

أقطاب الفرقة القومية المصرية * في مركز جمعية العلماء (ملخص بقلم باعزيز بن عمر) ــــــــــــــــــــــــــــــ زار بعض أقطاب الفرقة يوم الأربعاء14 فيفري 1950، مركز جمعية العلماء بالعاصمة يتقدمهم الأستاذان الكبيران مدير الفرقة يوسف بك وهبي، ومديرها الفني زكي طليمات والأستاذ أحمد علام، والأستاذ فاخر فاخر، فرحب بهم الأستاذ الرَّئِيسُ محمد البشير الإبراهيمي ترحيب الروض بالطل، في مجمع حافل بالأدباء والشعراء من معلمي المدارس وأنصار جمعية العلماء، وحي في أشخاصهم الكريمة مصر العالمة الناهضة تحية أودعها من شريف المعاني وجميل الأدب وعميق الحب لمصر ما نقلنا إلى مغانيها الجميلة، وجعلنا نتنقل في ربوعها نتنسم فيها أخبار الجدود ممن لا يزال ذكرهم يعطر المجالس. ولقد تصرف الأستاذ الرَّئِيسُ في معنى التحية وجاء بالمرقص والمطرب وجال بنا في سماء البلاغة جولة بعيدة، وذكر أن العرب تفننوا في أنواع التحيات حتى كادوا يجعلونها كلها مادية إلى أن جاء الإسلام فلطف التحية، وخلصها من أدران المادة والعظمة الطاغيتين على العالم يومئذ، لأن الإسلام دين روحي يضع الموازين القسط، ولا يعطي للأجسام إلّا المجال الضيق، وأشار إلى تصرف المعري وابن الرومي في معنى التحية وساق شواهد رائعة على ذلك، إلى أن قال: أما تحيتنا اليوم للضيوف الكرام الذين لا أسميهم ضيوفًا إلا مجازًا، فهي تحية العلم للفن، وتحية الروح للروح، تقدمها إليكم هذه النخبة من رجال جمعية العلماء التي تعمل على إكساء هذا الوطن روحًا وبدنًا، وإنهم جميعهم ليحيون اليوم مصر فيكم، وهنا وجه كلمة عتاب إلى مصر قائلًا: إن لنا على مصر حقوقًا، ولها علينا حق واحد. لها علينا الزعامة في الأدب والفن، والإمامة في العلم والمعرفة، ولنا عليها حق الأخ الصغير، أخذ باليد إلى الرشد، وتربية تفضي إلى السعادة، ورعاية شاملة للخير والمصلحة، ولنا عليها حق الجار ذي القربى حفاظ وحماية وإحسان.

_ * "البصائر"، العدد 108، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 20 فيفري 1950م.

فهل قمنا نحن بما علينا من حق؟ وهل قامت مصر بما عليها من حقوق؟ أما نحن فقد قمنا بما يقوم به الطفل البريء الساذج: محبة واحترام وتقليد وائتمام، واتكلنا بعد ذلك على الله وعلى أنفسنا. وأما مصر فنقول آسفين أنها لم تعرفنا كما يجب أن تعرفنا ولم ترع لنا ماضينا وتاريخنا المتصل بها، إلى غير هذا- من روائع الأستاذ التي وردت في خطابه البليغ الذي لا يقوى هذا القلم على أن يمتع القراء بكل شوارده وآياته البينات، فاكتفى بهذا الذي وعته الذاكرة من ألفاظه ومعانيه. وتقدم بعد الأستاذ الرَّئِيسُ الضيف الكريم الأستاذ زكي طليمات مدير الفرقة الفني فرد التحية، وكانت تعبيرًا صادقًا عن أثر ما شاهده في الجزائر وتصويرًا لنهضة مصر وأخذها بأسباب الحياة في جميع الميادين، وقد أفرغ إحساسه هذا في قوله: "أحس بأني في محراب مقدس يشع فيه نور الإسلام وناره، لأن للإسلام نورًا ونارًا، فنوره للمبصرين المهتدين، وناره للجاحدين والمناوئين، كما أني سعيد إذ أجد نفسي بجوار هذا الأستاذ العظيم، وإني لأعتبره حقًا رئيس الجزائر ومحيي نهضتها العلمية، وإني أتمنى لو تتاح لي الفرص فأترك أعمالي كلها وأُلَازِمُه ملازمة التلميذ لأستفيد من علومه وآدابه وأوصيكم أن تكونوا جميعًا أعوانه المخلصين وأنصاره الأمناء". وقفى عليه زميله الأستاذ وهبي مدير الفرقة فقال: "إني أحدثكم بصفتي فنانًا قبل كل شيء، وأشارككم في المهنة، فأنتم تعلمون في المدارس، ونحن نعلم في المسارح، وما أعظم مهنة التعليم فهل أنتم تشرفوننا بانتسابنا إليكم في هذا التعليم؟ إلى أن قال: سنعود إلى مصر، وسنكون هناك أبواقًا لكم ولنهضتكم". وختم قائلًا: "فلو استطاع النيل أن يشق طريقه في الصحارى إليكم لفعل، ولو أمكن للأهرام أن تنتقل لانتقلت وانحنت ومن ورائها أبو الهول، أمامكم، ولكنه بعث بهذا العبد لينحني أمامكم". ثم قام الشيخ أحمد سحنون فحياهم بقصيدة بلغت من الرقة منتهاها، وشارك الشيخ بيوض بكلمة عن تطلع الصحراء إلى كل جديد في مصر، وحرصها على الاهتداء بأنوار نهضتها القوية، كما شارك الشيخ طاهر البكاري بكلمة قدم بها تأليفه المدرسي الذي قدمه كهدية للضيوف الكرام. وتناول المحتفلون بعد هذا الغذاء الفكري كؤوس الشاي والحلوى في جو من الأخوة الشاملة وأحاديث الأدب العالي والفن الرفيع.

كتاب "نقرأ ونكتب"

كتاب "نقرأ ونكتب" * نحن في حاجة شديدة إلى الكتب المدرسية الابتدائية لمدارسنا العربية الحرّة، وفي عجز ظاهر عن استيراد المقادير اللازمة لها من مصر، لأسباب كثيرة. ويسرّنا من أبنائنا المعلّمين في هذه المدارس أن يشاركونا في تخفيف هذا العبء، وفي سدّ جانب من هذا النقص، وأن يقوموا باستغلال تجاربهم الخاصة في التعليم وجهودهم المفيدة فيه، فيُخرجوها كتبًا مدرسية، بعد أن كانت تلقينًا. أمنية كنا نتمناها على أبنائنا المعلمين، وفيهم الكفء الذي تمّت تجاربه، وشارفت النضج مواهبه، وقد قام ولدانا الشيخ الطاهر بكارى- مدير المدرسة الصادقية بسلام باي من العاصمة- ورفيقه الشيخ المولود طياب بتحقيق جزء من هذه الأمنية، إذْ وضعا كتابًا صغيرًا لتعليم "ألف باء"، وزيناه بصور لطيفة، وعنوناه بجملتين "نقرأ ونكتب" ليوقظا باسم الكتاب في نفس التلميذ الصغير معنى القراءة والكتابة من أول يوم. والكتاب محاولة أولى، نرجو أن تكون مشجعة للمؤلفين ولاخوانهم المعلّمين بمدارس جمعية العلماء على متابعة التأليف المدرسي، ومراعاة الإتقان فيه، وبنائه على التجارب من جهتهم، والاستعدادات من جهة تلامذتهم، فنكون قد استفدنا فائدتين: التحقيق لتوحيد التعليم كما نرجوه ونعمل له، والاستغناء عن كثير ممّا نحتاج إليه اليوم فلا نجده. وفي الكتاب تسامح في بعض الألفاظ والتراكيب، وخروج في بعض الأناشيد عن الموازين المألوفة، نرجو أن يتداركهما المؤلفان في الطبعة الثانية، وعذرهما أنها محاولة أولى كما قلنا. فعلى مديري المدارس أن يعتمدوا هذا الكتاب للأقسام الأولية.

_ * "البصائر"، العدد 109، السنة الثالثة، 27 فيفري 1950.

بيان حقيقة ورفع إيهام ...

بيان حقيقة ورفع إيهام ... * قالت جريدة "الزهرة" التونسية في عدد يوم الثلاثاء 18 جمادى الأولى 1369، (رقم 13003) ما لفظه: "وصل إلى العاصمة عمان الشيخ الطيب العقبي من جمعية العلماء الجزائريين إلخ ... ". وفي هذا الكلام شيء مخالف للحقيقة يجب تبيينه، لأنه يوهم القرّاء أن الشيخ الطيب العقبي ما دام من جمعية العلماء فهو موفد منها، ومتكلّم باسمها، وعامل في هذه القضية بمبدئها. والحقيقة أن الشيخ الطيب العقبي ليس من جمعية العلماء ولا عاملًا باسمها، لأنه استعفى من عضويتها سنة 1938 ميلادية، ومن ذلك الحين إلى الآن وهو يعمل باسمه الخاص، وعلى عهدته الخاصة. وهل تجهل جريدة "الزهرة" هذه الحقيقة؟ نحن نعتقد أنها لا تجهلها، ونعتقد أنه لو كان العقبي من جمعية العلماء حقًا لَمَا ذكرت اسمه، لأنها لم تتعوّد ذكر الجمعية ورجالها إلا فيما يشبه هذا المقام ... أما كونه عضوًا في هيأة الدفاع عن فلسطين كما ذكرت "الزهرة"، فالحقيقة أنه كان عضوًا في لجنة إعانة فلسطين التي تكوّنت بدافع الغيرة الإسلامية، والوطنية الجامعة، غير مختصة بجمعية العلماء، بل كان أمين مالها، وقد قام بواجبه فيها، ولكن تلك اللجنة أتمّتْ أعمالها بشرف وأمانة، وأبلغتْ ما جمعتْه من مال إلى مأمنه، وانتهت وظيفتها الأساسية بسبب ما تمّ من تغييرات في وضعية فلسطين.

_ * كتب الشيخ هذا المقال في شهر مارس 1950، قصد نشره ثم عدل عن ذلك وعوضه بمقال أطول عنوانه (لجنة فرانس- إسلام) الذي نشر في حلقتين في شهر أفريل 1950 - انظر: آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الجزء الثالث، ص 328 - 332، والمستشرق المقصود هو لويس ماسينيون.

وأما هيأة "فرنسا- الإسلام- التي ذكرت "الزهرة" أن العقبي مبعوث من طرفها فإننا لا نعرفها، ولا نؤمن بها، فإن كانت موجودة فهي لِشَرّ الإسلام لا لخيره، وللإضرار به لا لنفعه، وإننا نعتقد أن فرنسا أكبر عدوّ للإسلام، وهل يأتي من العدوّ خير؟ إن هذه الهيأة- التي لم نتبيّن إلى الآن حقيقتها- "تدجيلة" جديدة لم يَخْلُ زَمنٌ من أشباهها، ابتكرها بعض المستشرقين الذين يجعلون الاستشراق ذريعة لاستِهْوَاء المفتونين من الشرقيين، ويُغَطّون لهم به ضراوة الحَجّاج، بطراوة "الحَلّاج"، ويبكون لهم على لَيْلَاهم، وهم الذين قتلوها. أين كان هذا المستشرق يوم شاركت دولته في جريمة فلسطين، وإخراج الإسلام منها، بموافقتها على التقسيم، وبمساعداتها المفضوحة لليهود من يوم وُلدت القضية إلى الآن؟ إنه كان ساكتًا سكوت المغتبط بتلك الأدوار الأثيمة، لأن الإحساس المتنبّه فيه إذ ذاك هو إحساسه الفرنسي، فلما تمّت الأدوار، وبلغت نهايتها، وعلم أن اليهود سَيأخذون المسالك على دينه ودولته معًا- تَنَبَّه إحساسه المسيحي الحانق على اليهود، وجاء يُعَزِّي المسلمين البسطاء تعزية الشامت، ويُنَبِّه دولته إلى أن هناك منفذًا تدخل منه أصبعها في فلسطين، وهو وَقْفُ أي مدين "الجزائري"، وأن هناك ميدانًا تسترجع فيه عطف المسلمين الأغرار، وهو قضية المشرّدين، وأن ذلك لا يتمّ إلّا بتدوبل القدس. فكأن هذا المستشرق لم يَكْفِهِ استغلال دولته للأحياء منّا فابْتَكَرَ لها طريقةً لاستغلال الأموات، وإنَّ هذه لَإحْدى فوائد الاستشراق لهم ... ولنا، وعلى كل حال فهو قَدْ رَمَى الشبكة، وأصاب ما قُدِرَ له من الرزق ومن ضلّ فإنما يضل على نفسه. ليت شعري! ماذا يجدي علينا تدويل القدس بعد أن ضاعت فلسطين كلها؟ وماذا تغني عن المشرّدين هذه الصدقات الممنونة بعد أن فقدوا أرضهم وديارهم؟

المولد النبوي الكريم

المولد النبوي الكريم - 1 - * أوقفنا مقالات "تاريخ المولد النبوي في المغرب العربي" عن قصد لأنها طالت، ولأن ما كُتب منها يدخل فى رسالة مستقلة، ولأن المهم منها إنما هو الجانب التاريخي، أما الحكم الشرعي فيها فنحن لا نقر ذلك الاستحسان الذي يبالغ فيه بعض من نقل الكاتب كلامهم من علماء تلك العصور، فهم يجعلون من حبّ المولود العظيم عذرًا في ارتكاب بِدَع المولد، ومسوغًا لأعمال الملوك الذين لا غاية لهم من تلك الموالد إلّا الدعاية لأنفسهم، وقرن أسمائهم باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مديح الشعراء، واستجلاب العامة بذلك كله. ولو أنهم جعلوا تلك الاحتفالات ذرائع لإصلاح حال الأمة، وحملها على الرجوع إلى السُّنَن النبوية، والاهتداء بالهدي المحمدي، لَكان لفعلهم محمل سديد، وأثر حميد، لأن الأمور بمقاصدها. أما الحبّ الصحيح لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يدع صاحبه عن البِدَع، ويحمله على الاقتداء الصحيح، كما كان السلف يحبّونه، فيُحيون سننه، ويذودون عن شريعته ودينه، مِن غير أن يقيموا له الموالد ويُنفقوا فيها الأموال الطائلة التي تفتقر المصالح العامة إلى القليل منها فلا تجده. ونحن نحتفل بالمولد على طريقة غير تلك الطريقة، وبأسلوب غير ذلك الأسلوب، فنجلي فيه السيرة النبوية، والأخلاق المحمدية، ونكشف عما فيها من السر، وما لها من الأثر في إصلاحنا إذا اتبعناها، وفي هلاكنا إذا أعرضنا عنها، ففي احتفالاتنا تجديد للصلة بنبيّنا في الجهات التي هو بها نبيّنا ونحن فيها أمته.

_ * "البصائر"، العدد 114، السنة الثالثة، 3 أفريل 1950: تقديم لمقال الأستاذ عبد الوهاب بن منصور بعنوان "عنوان المرقصات والمطربات لابن سعيد المغربي".

لا نقلّل بهذا من قيمة عمل ولدنا الأستاذ الكاتب وبحثه وسعة اطلاعه، بل نحرضه على تكميل بحثه وجمعه وطبعه، وإنما حركناه إلى أبحاث أخرى هو أهلها، ولا يضطلع بها غير قلمه، وهي إحياء الآثار المنسية لسلفنا، وإحياء علمائنا الذين عمروا الغرب ولكن جهلهم الشرق، وغير ذلك مما تقوم عليه نهضة الجزائر العلمية. وسيقرأ القراء اليوم تعريفه بكتاب من آثار سلفنا فيقرأون الممتع اللذيذ، وأول الغيث قطر.

- 2 -

- 2 - * إحياء ذكرى المولد النبوي إحياء لمعاني النبوة، وتذكير بكل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدى، وما كان عليه من كمالات نفسية، فعلى المتكلمين في هذه الذكرى أنْ يذكروا المسلمين بما كان عليه نبيهم من خلق عظيم، وبما كان لدينهم من استعلاء بتلك الأخلاق. لهذه الناحية الحية نجيز إقامَ هذه الاحتفالات، ونعدها مواسم تربية، ودروس هداية، والقائلون ببدعيتها إنما تمثلوها في الناحية الميتة من قصص المولد الشائعة.

مدرسة أولاد سيدي إبراهيم

مدرسة أولاد سيدي إبراهيم * العزيمة أخت العقيدة، وهما كجناحي الطائر للرجال وللأعمال، والعقيدة بلا عزيمة باطلة، والعزيمة بلا عقيدة عاطلة، وما نهض الرجال العظام بالعظائم إلّا بعد أن صفت عقائدهم من شوائب الشك والتردد، وصحت عزائمهم على العمل النافع. هناك في الحدود الفاصلة بين مقاطعتي الجزائر وقسنطينة وعلى ضفتي طريق الحديد الواصلة بينهما، وعلى مقربة من مضيق (أبواب الحديد) ذات الذكريات الأليمة في احتلال الجزائر، هناك أرض جدباء إلا من شجيرات التين والزيتون، وجبال جرداء إلّا من قزع من الصنوبر كقزع السحاب هنا وهناك، وفي تلك الأرض المتطامنة الظمأى إلى الماء والعلم تقع قرية (أولاد سيدي إبراهيم) مكتنفة من الغرب بجبال وانوغة ومن الجنوب بجبال المنصورة، ومن الشرق بآكام مزيتة ذات المحل والنحل، ومن الشمال وبعض الشرق ببني منصور وبني عباس، تنفحها شماريخ (جرجرة) العاتية بالنسيم الرطب في القيظ، وتلفحها بقر الثلج في الشتاء. ومن تلك القرية نفر شاب قبل عقدين من السنين إلى قسنطينة يتلقى العلم على عبد الحميد بن باديس، ويقتبس من دينه وخلقه وأدبه ويتخرج على يديه في مناهج خدمة الأمة، ذلك الفتى هو الشيخ سعيد البابي، وتلك هي نيته فيما هاجر إليه، فبماذا رجع إلى قومه؟ رجع- كما رجع إخوانه من تلامذة الإمام- داعيًّا قومه إلى هدي الكتاب والسنة والأخذ بأسباب الحياة العزيزة، فعرفه من عرف وأنكره من أنكر، ولكن العقيدة الصحيحة إذا ظاهرتها العزيمة الصحيحة أتتا بما يشبه الخوارق، فقد رأينا في الأيام الأخيرة أثرًا من آثار العقيدة والعزيمة أكبرناه، وهو أن تلك الفئة القليلة التي تأثرت بمبادىء جمعية العلماء من

_ * "البصائر"، العدد 113، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 15 أفريل 1930م.

أولاد سيدي إبراهيم- انتشرت في ظاهر القرية في مجاميع من البيوت تغرس في كل شبر صالح من الأرض شجرة تين أو شجرة زيتون، وتقوم على تربية النحل واستنتاج المعز، وتبتعد عن لغو القرية وملهياتها وسفاسفها، فتنصرف جهودها إلى الجد والعمل الناقع، وهذا - لعمر الحياة- هو السبيل القويم في الحياة. وفي هذه السنة تعلو هممهم درجات، فيخطون الخطوة الموفقة إلى تشييد مدرسة عظيمة بعد تشييد المسجد، في بقعة وسط بين تلك المجاميع من البيوت، ولم يكتفوا بالمدرسة الأم، حتى فتحوا لها فرعًا في جيزة الوادي وسط مجموعة أخرى من البيوت ليخففوا العناء على الأولاد الذين تبعد منازلهم عن المدرسة الكبيرة وهم عازمون على بناء فروع لكل مجموعة متقاربة، فلو رأيتهم في وقت العمل يبنون متعاونين ويجمعون الحجر إلى الحجر والفلس إلى الفلس والرأي إلى الرأي، ويقسمون الاختصاصات على أصحابها لرأيت مثالًا عجبًا من التعاون كأنهم أخذوه عن النحل الذي حذقوا القيام على تربيته وتدبيره، وغير عجيب أن يأخذ الإنسان المكتسب عن الحيوان غرائزه الخلقية. إنني معجب بهذه الفئة الصالحة، داع لها بالتوفيق والتسديد، راج لجماعاتنا العاملة للعلم أن يكون حظها في التعاون عليه كحظ جماعة سيدي ابراهيم.

برقية تأييد لمطالب التلامذة الزيتونيين

برقية تأييد لمطالب التلامذة الزيتونيين * أرسل رئيس جمعية العلماء البرقية التالية تأييدًا للطلبة الزيتونيين في مطالبهم التي أضربوا من أجلها، وتنويها بأحقية تلك المطالب، واستنكارًا للمواقف الرخوة التي تقفها الحكومة من الطلبة، وقد وجه البرقية إلى لجنة صوت الطالب الزيتوني وإلى شيخ الجامع الأعظم وإلى الجريدتين اليوميتين بتونس: "النهضة" و "الزهرة" ونص البرقية: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بجميع شُعَبها ومؤسساتها العلمية واتباعها- تؤيد بكل قواها مطالب التلامذة الزيتونيين، وتعطف عطفًا لا حد له على قضيتهم وترجو أن يكون اضرابهم المشروع موصلًا إلى الغاية التي يرجونها ونرجوها لهم، وتستنكر تصامم الحكومة - إلى هذا الحد- عن إجابة رغائبهم. وجمعية العلماء تعتقد أن العصر عصر الأجد الأنفع من النظم والعلوم، لا عصر الجمود على العادات الموروثة، وأن تباطؤ الحكومة في تنفيذ مثل هذه الرغائب معناه ربط الشعوب بقديم من تلك العادات أثبت الزمان عدم صلاحيته، ووقوفه في طريق التطوّر، وقد كانت هي من النابذين له والعاقبة للحق وللصابرين عليه. قلوبنا وأفكارنا والسنتنا وأقلامنا مع أبنائنا الزيتونيين. محمد البشير الإبراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 188، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 1 ماي 1930م.

الوعظ في رمضان

الوعظ في رمضان * الوعظ الديني من وظائف جمعية العلماء، وبه بدأت حركتها العظيمة، ومن طريقه توصلت إلى شواعر الأمة فحركتها إلى الإصلاح والاهتداء بالكتاب والسنة، وإلى العلم والتعليم. ولجمعية العلماء سنة حميدة جرت عليها منذ نشأت، وهي تخصيص شهر رمضان المبارك بعناية زائدة في الوعظ والإرشاد لأنه شهر عبادة، ولأن نفس المسلم فيه تتفتّح للخير، وعقله يستعد لتلقي كلمة الحق، ولأن الشيطان لا يصفد فيه حتى يزرع بذور الشر في نفوس المسلمين، فيهيؤها إلى بدع رمضان المعروفة وإلى تلك الأخلاق التي تلازم ضعفاء الإيمان والإرادة في أيام الصوم، وإلى الاستخفاف بحرماته. تدعو جمعية العلماء رجالها في كل عام إلى القيام المنظم بدروس الوعظ والتذكير في أمسيات شهر رمضان وفي لياليه فيقومون بذلك الواجب على أكمل وجه، وقد رأت في هذا العام أن تتوسع في هذا الباب، وتعممه ما استطاعت بالإكثار من مراكز الوعظ، وأن تتقدم إلى وعاظها بالتوكيد على أن يطرقوا مواضيع الأخلاق الإسلامية والتربية الإسلامية معتمدين على آيات الكتاب التي يفهمونها فهمًا صحيحًا وعلى الأحاديث الصحيحة وعلى السيرة النبوية الثابتة، وأن يخصوا بالعناية مواضيع التربية الاجتماعية، وأن يشددوا النكير على البدع التي تفشو في رمضان. وها هي ذي قائمة المشائخ الوعاظ الذين عينتهم جمعية العلماء، وبيان مراكزهم، وعلى أبنائنا رجال الجمعية أن لا يعتبروا هذا تخصيصًا، فعلى كل مستقر في قرية قادر على التذكير ممن لم نذكر أسماءهم- أن يعمر هذا الشهر العظيم بالدروس الدينية.

_ * "البصائر"، العدد 122، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 3 جوان 1950م.

فتح جامع "الحنايا" ومدرستها

فتح جامع "الحنايا" ومدرستها * تقديم أحمد بن ذياب ــــــــــــــــــــــــــــــ هل الفلسفة في خدمة الأدب أو الأدب في خدمة الفلسفة؟ أما الأدب ففن ثابت الأركان، باسق الأغصان، قوي الدعائم، محفوظ الأصول، ثري الرج والغلة، نهدف إليه لأنه في ذاته غاية سامية، ونريده لأنه تراث روحي خصيب، وتخفق إليه قلوبنا لأنه كنه الحياة، ولغة التعبير الصادق عن جمالها الباهر، وجلالها القاهر، لهذا نربأ به أن يكون وسيلة وهو الغاية، وخادمًا وهو المخدوم، ونطمح أن نراه رفيقًا للفلسفة، يساعدها وتساعده، ويفتح لها أبوابًا ما كانت لتهتدي إلى فتحها لولا مقاليده، وتعرج هي به إلى سموات لا تواتيه أجنحته على الصعود إليها لولا منطقها وحكمتها. فنحن نرى أن كل فلسفة- أيًّا كان نوعها- عاطل إذا لم يحلها الأدب، وإن كل أدب - مهما علا- رخيص إذا لم تغل الفلسفة قيمته. ومن هنا كان الإبراهيمي مفخرة الجيل، وآية الدنيا، ومنة القدر على العربية وأدبها وفلسفتها، وأحد العباقرة الذين يفرضون خلودهم على الأيام فهو العالم الديني الممتليء الجوانب من روح الشريعة وفقه أسرار الدين، وهو الفيلسوف الاجتماعي الذي لا يشق له غبار، وهو المربي الخبير بمواطن الرشد ومزالق الغي، أما التاريخ وقصصه وعبره، وأما الأدب وعصوره وشعره ومنثوره، وأما اللغة وغريبها ومأنوسها وتاريخ أطوارها، فهو في هذه كلها كما قيل: "حدث عن البحر ولا حرج"، وتمم الله عليه نعمته فآتاه حافظة موعية وذاكرة واعية، وأكمل له أدوات العالم الأديب الفيلسوف. أنت كلما استمعت إليه يخطب، أو أصغيت إليه وهو يحاضر، أو قرأت له ما يكتب، أو جلست إليه في حلقات الدروس هالك منه الأسلوب الرائع والبرهان الساطع، ولم تعد

_ * "البصائر"، العدد 124، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 19 جوان 1930م.

تدري من أية النواحي يتملكك العجب؟ أمن فصاحة لسانه؟ أم من بلاغة كلامه؟ أم من توليد المواضيع وسبكها؟ أم من أزهار المعاني تتفتق عنها أكمام الألفاظ المنتقاة؟ أم من طواعية اللغة للسانه وطواعية لسانه للغة؟ ورأيت كيف يستخدم الأدب الفلسفة، وكيف تستعين الفلسفة بالأدب، فيجريان كفرسي رهان من شباة قلم الإبراهيمي الجبار، أو من لسانه القئول الصئول، ورأيت كيف تكون روعتهما مسخرين لخدمة الحق، مؤيدين للحقيقة، ناصرين لجنود الخير، وقلت معي: سبحان الذي يؤتي الحكمة وفصل الخطاب من يشاء ويحرمهما من يشاء. أقدم هذه الكلمة بين يدي محاولة أرجو أن أوفق فيها إلى تقديم شبه صورة للخطاب الجامع الذي ألقاه الأستاذ الرَّئِيسُ الإبراهيمي غداة افتتاح مسجد قرية "الحنايا" ومدرستها، وإني- حين آمل متابعة الأستاذ في اختصار أو اختزال ما يلقي- لواجد عنتًا كبيرًا، فقد شكا الشاكون قبلي ممن حاول مثل ما حاولت أنهم يؤخذون بروعة المسموع عن مواصلة الكتابة لأن معانيه كلها أبكار، ومواعظه كلها حكم نفيسة، وحكمه كلها غوال، وأطرافه- إن كان لكلامه أطراف- كلها طرائف نادرة. وقد اعتمدت في هذه المحاولة على ما سجله الشيخان عبد الوهاب بن منصور وعبد الرحمن غريب مضافًا إلى ما سجله قلمي الضعيف الواني، فإن قاربت الإصابة فالفضل لهما، وإن قصرت فالوزر علي وحدي ... قال الأستاذ العظيم- بعد الجمل التي اعتاد أن يفتتح بها خطبه ودروسه في الثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله-: أيها الإخوان، أيها الأبناء: إنني كلما استعرضت حال هذه الأمة في فكري، أو عرضت نفسها على عيني قصدًا في المحافل، أو عفوًا في المجامع والأسواق- تلوح لخاطري آية من كتاب الله تنطق بسننه المطردة في الأمم والقرون، وقد لاح لي عندما اعترضتني اليوم هذه الجموع الحاشدة، بل هذه الوفود الراشدة، في أقصى القرية- آية هي من دلائل قدرة الله على البعث الأخير، ومن الحجج الدامغة على منكريه ولكنها- مع ذلك- قريبة الخطور في أذهان المتفائلين مثلي بالبعث الأول في هذه الحياة الدنيا. تلك الآية هي قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. لاحت لي آية البعث من القرآن عندما لاحت لي آية الانبعاث منكم، فأجلت بصيرتي في الأولى، عندما أجلت بصري في الثانية، فما زادت الثانية الأولى إلّا تمكينًا وتثبيتًا، ولم

يصرف ذهني عن التدبر فيهما، والاعتبار بهما، والإيمان بحقيقتهما- هذه المناظر الخالبة للعقول، الفاتنة للأعين، ولا هذه الأصوات المتصاعدة بالتكبير والتهليل، ولا تلك المتعالية من حناجر النساء بالزغردة والتأهيل. أيها الإخوان، أيها الأبناء: إن موت الأمم، وحياة الأمم، لفظان مطروقان مستعملان في نصابهما من الوضع اللغوي، كموت الأرض بالقحط، وحياتها بالغيث، لا ينبو بهما ذوق ولا منطق ولا فهم، وإن معناهما لأوسع وأجل من معنى حياة الفرد، وموت الفرد، هذه حياة محدودة، وموت لا رجعة بعده إلّا في اليوم الآخر، وتلك حياة ممدودة الأسباب ينتابها الضعف فتعالج، ويلم بها المرض فتداوى، ويطرقها الوهن فتقوى، ويدركها الانحلال فتشد، ويعرض لها الانتقاض فترمم، وتظلم آفاقها بالجهل فتنار بالعلم. طالما قال القائلون عن أمتنا: إنها ماتت وطالما فرح الشامتون بموتها، وطالما نعاها نعاة الاستعمار على مسمع منا، وأعلنوا البشائر بموتها في عيدهم المئوي فعدوه تشييعًا لجنازة الإسلام الذي هو مساك حياة هذه الأمة في هذا الوطن، فقالوا: ماتت لا رحمها الله، وصدقهم ضعفاء الإيمان منا فقالوا: ماتت رحمها الله، وقلنا نحن: إنها مريضة مشفية، ولكن يرجى لها الشفاء إن حضر الطبيب وأحسن استعمال الدواء، فحقق الله قولنا، وخيب أقوال المبطلين وكذب فألهم، فحضر الطبيب في حين الحاجة إليه، وأذّن بالإصلاح في آذان المريض فانتفض انتفاضة تطايرت بها الأثقال، وانفصمت الأغلال، وكان من آثارها هذا اليوم الذي لا يصوره الخيال والوهم، وإنما يصوره العيان والواقع. فإذا بقي في الدنيا ممسوس، يكابر في المحسوس، ولا يصدق بوجود هذه الأمة، ولا يؤمن بحياتها، فقولوا له: تطلع من هذه الثنايا على قرية الحنايا، وقارن يومها بأمسها، يراجعك اليقين، ويعاودك الإيمان. قلنا في هذه الأمة- وما زلنا نقول: إن عوارض الموت وأسبابه كلها موجودة فيها من الجهل والفقر والتخاذل وفساد الأخلاق واختلاف الرأي وفقد القيادة الرشيدة، وقلنا- مع ذلك- وما زلنا نقول: إنها مرجوة الحياة ما دام مناط الرجاء فيها سالمًا صحيحًا، ومناط الرجاء هو نقطة من الإيمان ما زالت لائطة بالقلوب، وصلة بالقرآن ما زالت مرعية في الألسنة، وإن هذا الرجاء معلق بخيط دقيق لا نقول انه كخيط العنكبوت، ولكننا نقول: انه أقوى من السلاسل الحديدية، إذا أمده الاستعداد والتدبير الرشيد. هذه النقطة هي مبعث القوّة ولو بعد حين، وهي مكمن السيادة والعزة ولو في الأخير، والسبق يعرف آخر المضمار.

من أطوار هده الأمة في التاريخ أن اختلف ملوكها وقادتها وساستها، وذاقت من خلافهم الشر والبلاء، واختلف علماؤها في الدين فكان خلافهم وبالًا على الأمة، وتشتيتًا لشملها، وصدعًا لجدار وحدتها، وقطعًا لما أمر الله به أن يوصل من أرحامها، ثم فر العلماء من الميدان وتركوه للأمراء المستبدين، ثم ألقى الأمراء المقاليد في أيدي السفهاء من الأنصار والذرية والأتباع، وكل أولئك قد فعل في هذه الأمة ما لم يفعله "نيرون"، وكل تلك الأعمال قد أثرت في أخلاق الأمة التأثير العميق وسكت العلماء أذلة وهم صاغرون، يرون الحق مهضومًا فلا ينطقون، والمنكر فاشيًا فلا يغيرون ولا ينكرون، وهيهات بعد أن تنازلوا عن حقهم طائعين. يقع ذلك كله في كل طور من الأطوار التاريخية حتى يبتلى المؤمنون، ويظنوا بالله الظنون، وإذا بذلك العرق يتحرك، وإذا بتلك الانتفاضة تعرو، وإذا بالأمة قائمة من كبوتها، تذود قادة السوء عن القيادة، وعلماء السوء عن الامامة، وتنزل دخيل الشر بدار الغربة. جربنا فصحت التجربة، وبلونا فصدق الابتلاء، وامتحنا فدل الامتحان على أن عرق الإيمان في قلوب هذه الأمة كعرق الذهب في المنجم كلاهما لا يبلى وان تطاولت القرون، ثم جلونا هذا العرق في عمل ثلاثين سنة خلت فإذا خصائصه الطبيعية لم تتغير. هذه الأمة كبا بها الزمن وأدارها على غرائب من تصاريفه حتى أصبحت عونًا له على نفسها، وترصد لها العدو كل غائلة، ففتنها عن دنياها حتى سلمت له فيها، ثم فتنها عن دينها حتى كادت تتلقاه عنه مشوها ممسوخًا، وأحاطت بها خطيئاتها من كل جانب فجنت على نفسها بما كسبت أيديها من سوء الأقوال، وفساد الأعمال، ولكن ذلك العرق المخبوء في تلك المضغة يتحرك فيأتي بالعجائب. هذا تطور شهدناه في تاريخ الأمة الجزائرية الحديث، كما شاهدناه في تاريخ أسلافها وجيرانها، وما هذا المنظر المعجب المطرب بآخر منظر في رواية التاريخ. أيها الإخوان، أيها الأبناء: إن يومكم هذا قد تعاظم حتى كاد ينسي الأيام الغر التي سبقته في تاريخ نهضتكم العلمية، فلا تنسوها، ولكن تناسوها، لا تنسوها فلولاها لما كان هذا اليوم بهذه العظمة، وتناسوها لئلا تغركم فتقعد بكم عن تكرار أمثال هذا اليوم بأكمل منه وأعظم روعة منه. عدوا هذا اليوم فاتحة لأيام علمية أزهر وأعطر، وأفخم وأضخم، عدوه كالبسملة من لوح القارىء، عدوه مقدمة لكتاب متعدد الأسفار، انفخوا فيه من الأعمال، لا من الآمال، اجعلوه نموذجًا لأيام المستقبل، وطالعًا من طوالع سعودها، وأعيذكم أن يقصر بكم النظر فتجعلوه ختامًا لأيامكم القريبة، من يوم "الغزوات" إلى يوم "ندرومة" إلى يوم "وهران" إلى

يوم "بسكرة" إلى يوم "جيجل" بالأمس القريب- لا تجعلوه ختامًا وإن كان مسكًا فإن المسك تذهب به الرياح، وليومكم ما بعده، له يوم "سطيف" ويوم افتتاح مدرسة "بسكرة" ويوم افتتاح مدرسة البنات بـ "جيجل" وأيام أخر، كلها غرر. هذا اليوم من الأيام التي تلتقي فيها قلوب الأمة الواحدة على غرض واحد شريف، وأيديها على عمل واحد مفيد، وإن كل من حضر هذا الحفل العظيم، وكان في قلبه مثقال ذرة من حب المصلحة العامة، أو كان في قلبه شيء من الاعتزاز بالمجد القومي، وكل من شاهد مشهدنا هذا وكان في قلبه فتيل من إيمان- فإنه لا يخرج من هذا المشهد إلا كيوم ولدته أمه طاهر القلب طاهر الضمير طاهر اليد واللسان، نقي الفؤاد من هذ الأمراض التي زادتنا ضعفًا على ضعف وساقتنا إلى الأسر فالموت. إن فخر هذا اليوم ليس لهذه القرية وحدها وإنما هو فخر الوطن الجزائري، وليس لمصلحي الحنايا الذين صبروا حتى أراهم الله عاقبة الصابرين، وإنما هو للأمة الجزائرية كلها يعم حتى المثبطين والمعاكسين والهادمين، إننا قوم نبني للأمة ولأبناء الأمة، وإنا لنعلم أن فيها من يحاربنا ويفتري علينا العظائم ويسعى جهده ليهدمنا وما بنينا، وحسبنا ردًا عليهم أننا نعمل وهم يقولون، وأن في هذه القرية نفسها مرضى جمود وصرعى خرافة، وأذناب استعمار وأنهم يودون لو هدموا ما شيدنا، ونحن نقول لهم: عفا الله عنكم- أيها الإخوان- وهداكم، لو تعقلتم قليلًا لعلمتم أن التاريخ حين يكتب هذا اليوم لا يسجل فخره خالصًا لنا، وإنما ينسبه إلى قرية "الحنايا" وأنتم منها، وأن الوفود إذا رجعت إلى أوطانها وشادت بهذا العمل الجليل نسبته إلى سكان "الحنايا" وأنتم منهم، وإنما للعاملين حظهم من الثناء والحمد، فكونوا مع العاملين تقاسموهم تلك الحظوظ من حسن الذكر، وذخيرة الأجر. أيها الإخوان، أيها الأبناء: لا تظنوا أن الحياة المعنوية التي نسعى لها اليوم بأقوى أسبابها وهو العلم هبة تنزل من السماء، وإنما هي شيء كسبي يناله الجاهدون، ويحرمه الراقدون، فاعرفوا هذه الحياة وافهموها، واجعلوا وسيلتها الأولى العمل الصالح، وارجعوا فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه، وخذوها بالمحاذاة والتلقين والاتعاظ بأحوالكم الماضية وأحوال الأمم قبلكم، فإذا عرفتم هذا النوع من الحياة طلبتموه واذا طلبتموه وجدتموه، وإذا وجدتموه سعدتم به وأسعدتم. إن الحياة بلا سعادة قدر مشترك بيننا وبين النمل على ضعفه، والحمار على ذله وخسفه والجمل على إذلاله وتسخيره، فإذا كنتم اليوم تسمون أحياء، فمن هذا النوع. لا تفرحوا بحياتكم هذه، فإنكم أشقياء بها، وإن العاقل لا يرضى بهذا النوع من الحياة التي لا سعادة فيها ولا شرف، وإن سكوتنا عليها واطمئناننا إليها يعدّ قدحًا في تعقلنا، ولوكنا عقلاء حقًا

لما بكينا على ميت فارق هذه الحياة، ولا فرحنا بمولود يستقبل هذه الحياة ... لوكنا عقلاء حقا لعكسنا هذه القضية وتبادلنا التهاني على الموت، لأن الميت خفف ثقلأ على نفسه وأهله وعشيرته وأمته، ولأن الحي امشراح من عضو أشل كان يئوده كما تئود اليد الشلاء صاحبها، فمن الخير له قطعها بعد أن أصبحت لاكاسبة ولاكاتبة، ولوكنا عقلاء حقًا لما تهللنا للمولود منا يستهل على ما نحن فيه من حياة باثسة، ولو أن الجنين في بطن أمه طرقه البريد بخبر من أخبار هذه الحياة التي نحياها وكان له اختيار لآثر البقاء هناك حتى يموت اختناقًا. أيها الإخوان، أيها الأبناء: إن يومكم هذا عنوان على الحياة ورمز إليها، وان هذه المؤسسة المباركة بمسجدها ومدرستها مزرعة للحياة فتعاهدوها بالعناية، وإن هذه المدارس التي تشيد في كل يوم حصون للعربية والإسلام، وهما أساس الحياة السعيدة، وإن إخوانكم مصلحي الحنايا قد أروكم مصداق انبثاق القوّة عن الضعف، وتصديقًا لعاقبة الثبات على الحق، وأروكم مثالًا مصغرًا لبداية الحياة، فإن أردتم أن تحيوا فاطلبوا سعادة الحياة، أوْ لَا، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها وأروح، إن حياتنا الحالية أثقال متوالية، فلا ترضوا بزيادة الثقل وخففوا ما استطعتم، والعلم العلم فنعم آلة التخفيف هو. ليت شعري ماذا نورث أبناءنا من هذه الحياة بقسميها المادي والمعنوي؟ أنورثهم الأرض؟ وليس بأيدينا شيء منها، أم نورثهم المال؟ ونحن أفقر من عليها؟ أم نورثهم الدين وحقائقه وآدابه؟ وقد نبذناه ظهريًّا، واتخذناه سخريًّا، وغطيناه بالبدع والأوهام، أم نورثهم الحب والتآخي؟ وبعضنا لبعض عدو، يتجسس عليه ولبيعه بالثمن البخس، ولحسده على ما لا يتحاسد عليه العقلاء ولا المجانين. هذه هي الحقيقة، ومن أخبركم بغير هذا فقد غشكم وكذبكم. أنتم تزعمون أنكم تحققون حكمة الله من الزواج، ولكنكم لم تفقهوا الحكمة وما دمتم لا تفهمون الحال، فلن تفقهوا المآل، وما دمنا في غمرة ساهين، وعن الحقيقة لاهين، فكذب ما تخبر به الألسن في قول الناس: (انهم بخير). وما دمنا نعتقد أن حياتنا حياة، وأن ديننا هو دين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وما دمنا لا نتصور أحوالنا كما هي في حقيقتها- فإننا بعداء عن النجاح. أما إذا رجعنا إلى العقل الصحيح نستشيره، وإلى الدين الصحيح نسترشده ونسير على هديه، وإلى الناصحين منا نأتم بهم- فليوشكن أن يغير الله ما بنا بعد أن غيرنا ما بأنفسنا، وأخذنا بالأسباب نتذرع بها للمسببات، ونبذنا التواكل الذي ينافي الدين والدنيا كمن طمع في الحصاد وهو لم يزرع، أو في الأولاد وهو لم يتزوج.

هذه هي حالتنا التي يجب أن نتواصى بتفهمها لنقوى على علاجها لأن ما نحن فيه ليس موتًا، وإنما هو مرض عضال. هذه هي القرية التي أحياها الله بالعلم، بعد أن استيأس الناس من حياتها، وستبقى حية قوية لأن حياتها مستمدة من الروح لا من المادة وحياة الروح والعلم لا يدركها الفناء، وكأن الله تعالى ضرب المثل بهذه القرية الضعيفة للمعتبرين، وأقامها حجة على المتخلفين. أيها الإخوان، أيها الأبناء: وهذه الوفود الكريمة قد أقبلت من أطراف العمالة زمرًا تعاون على الخير وتشد أزر العاملين، وتبتهج بعيد الدين والعلم، وتصدق قول نبينا: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمِثْلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». فقد اشتكى إخوانهم عوزًا في المال ونقصًا في القدرة على الإكمال، فتداعوا إلى العون، وسنرى منهم ما يشرح الصدور ويقر الأعين. وإذا كان فيكم من سعى من بعيد فقد قطعتُ إليكم جميعًا ألف ميل في ليلة واحدة، من بجاية مدينة العلم والتاريخ، إلى تلمسان مدينة العلم والتاريخ إلى بنتها ومحجورتها "الحنايا"، وإذا تقاربت القلوب واتحدت المقاصد طويت الابعاد وهان السفر وعناؤه. حدانا حاد واحد، هو أغنية العلم، وساقنا سائق واحد هو داعي العلم، ولقد ساقني وساق "سائقي" إليكم شعور صادق يجمعنا جميعًا وهو الفرح والاستبشار بهذه المقدمة التي ستكون لها نتائج، والإعانة والتأييد لفئة صالحة تجمعنا بها وشائج وأي وشائج، وإنني أتوسم الوجوه فأرى فيها المثنى والمثلث، وأعني بالمثنى من حضر العام الماضي في فتح مدرسة "ندرومة" وحضر هذه السنة في هذا المشهد، وبالمثلث من حضر العام قبل الماضي فتح مدرسة الغزوات، وحضر في العام الماضي فتح مدرسة "ندرومة" وهذا العام في هذا المشهد، أطال الله أعماركم لحضور المشهد الرابع في وهران والخامس وما بعده في غيرهن. وما هذه سنوات، وإنما هي مراحل نقطعها إلى إسعاد الأمة وإعزازها، ونستدع ما فيها من نصب ولغوب بالفيض الرباني الذي يغمر الأرواح الطاهرة، والنفحات الإلهية التي تهب على قلوب المؤمنين فتنتعش. وسيشهدنا الله مشاهد أخرى أهم وأعظم، وسنقطع مراحل أوسع وأمجد، وإني في كل هذه التنقلات المتعبة أتسمع كأن هاتفًا من وراء الغيب يقول: إلى أين؟ ... إلى أين؟ .... فأجيبه؟ إلى الحياة العزيزة ... إلى تمكين سلطان القرآن .... إلى إحياء البيان العربي .... إلى الجنة ....

والله أرحم من أن يتركنا سدى، وأرأف من أن يكلنا إلى سيآتنا، حقق الله رجائي ورجاءكم، ويرحم الله عبدًا قال آمين. فانطلقت عند الجملة الأخيرة ألوف الأصوات تدوي من المسجد ورحابه ومن الشوارع المكتظة والدكاكين، تجيب في صوت واحد: آمين آمين. هذه هي الصورة التي استطعت أن أنقلها إليك أيها القارىء العزيز وقد حاولنا المحافظة على ألفاظ الأستاذ كمن يحافظ على الدرر الغوالي فأفلت منها الكثير فحافظنا على المعنى جهدنا، أما ما ضاع لفظه ومعناه فعذرنا فيه واضح، لكم تمنينا لقراء "البصائر" لو كانوا كلهم معنا حتى يتمتعوا بلذة الاستماع للسان العربي المبين، وينعموا بنشوة أخرى من حسن الالقاء وتأثيره، ولأخذوا حظهم من تلك الروعة التي كانت تغمر الاجتماع.

المعهد الباديسي

المعهد الباديسي * الأعمال الكبيرة إذا توزعتها الأيدي، وتقاسمتها الهمم- هان حملها وخف ثقلها، وإن بلغت في العظم ما بلغت، والمعهد الباديسى من هذه الأعمال الكبيرة، ويزيد في عظمه أنه في وطن صفر من المال، وأقفر من الرجال، وتعطلت فيه الهمم والذمم، وعقمت أرضه فخلا بطنها من الذخائر، وظهرها من الأخاير، وبعد عهده بالعظائم والمآثر، وخلت صفحاته الأخيرة من الأعاظم والأكابر، ويزيد في عظمته وجلاله أنه وليد نهضة لا تستند إلى حكومة ولا تأوي إلى ركن مالي شديد، فنشأ حرًا طليقًا من القيود العائقة، والمنن المكدرة، يستند على أفضال من الله لا مطففة ولا مغبونة، وعلى هبات من الأمة لا مكدرة ولا ممنونة، وعلى همم من رجال جمعية العلماء لا مقصرة ولا وانية، ومن ورائه ومن أمامه مثبطات من الظلم، تعوق، وكأنها تشوق، وتعد المنايا، وكأنها تعد الأماني. يقوم هذا العمل الجليل، أو الحمل الثقيل على دعائم من الرأي، وقوامه الإدارة، ومن العلم، وملاكه التعليم، ومن المال، ومساكه الأمة، وتتوقف حياته على بقاء هذه الدعائم متساوقة في الغرض، متساوية في الآداء، متماسكة في الحمل، فإذا اختل منها عامل في العمل، أو قصرت أداة في الأداء- اختل التوازن وسرى التعطيل إلى بقية الأجزاء. ... قام المعهد في سنتيه الأوليين على الأخ الأستاذ الشيخ العربي التبسي فيما يرجع إلى الإدارة والتسيير، وهما الوصفان المقومان لروح المعهد، وما سواهما الجسد، فطوى مراحل كثيرة من التقدم في مرحلتين، والأستاذ التبسي كما يعرفه الناس- مثل شرود في صحة

_ * "البصائر"، العدد 131، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 18 سبتمبر 1950م.

العلم، وثبات العمل وفي الإخلاص والجد والصرامة ومتانة الخلق وقرطسة الغرض، وفي الانقطاع لخدمة هذه الأمة التي قل خادموها، وكثر هادموها، فلما ألح عليه المرض وتواترت العلل، وأضناه الجهد، تنزى الاشفاق عليه والإشفاق على المعهد في صدور إخوانه، وتَجارَيا إلى غاية، فكان الإشفاق عليه أغلب، والنظر في تخفيف العناء عنه أصوب، فقام مقامه الأخ الأستاذ محمد خير الدين في إدارة المعهد وتسييره هذه السنة الثالثة نائبًا عنه، عاملًا باسمه، راجعًا إليه في الكليات، واستخدم الأستاذ خير الدين في الإدارة عقله وأناته وعمقه، فتكشف عن نشاط موفور، وفر عن كفاءة مدخرة، وتشظى عن مواهب كالجواهر صفاء ولألأة، وجلى في ميدان العمل وبرز، وما زال هذا الطراز الأول من رجال جمعية العلماء كالمذكيات في الحلبة، جريها غلاب، وما يزالون كالسيوف المأثورة تروع مغمدة ومصلتة. وكأن الأخ التبسي عاهد الله أن يلقاه مقبلًا غير مدبر في ميدان الجهاد العلمي، فهو - مع اضطراب صحته، ومع اضطلاع الأخ خير الدين بما حمل من شؤون المعهد- يتعهد المعهد بنفسه، ويشارك برأيه في كل شأن يجد وفي كل حادث يلم، وما زالت تومض على المعهد طوال السنة إشراقات من آرائه الصائبة، وتتوالى عليه إمدادات من توجيهاته السديدة، عجل الله له الشفاء، وأسبغ عليه أردية الصحة والعافية، وأقر به عين العلم والإصلاح، وشد به أزر إخوانه الذين لا يستغنون لحظة عن رأيه وعلمه. **** أما كاتب هذه السطور فهو مشارك لإخوانه كلهم في ما تخصصوا له من شؤون المعهد، يسعى بذمتهم وهو أدناهم، ويحمل مع كل واحد منهم جزءًا من كله، بالرأي في الإدارة، وبالإرشاد في التعليم وبالدأب المتواصل في دلالة الأمة على هذا المشروع العظيم حتى تصوب إليه قلوبها، وتصب في سبيله جيوبها، وكان كلما تجهم في المعهد جو عاجله بالبشر والإيناس، وكلما ضاقت برجاله حيلة عالجها ببسط الأمل، ومن صحب الدنيا بغير هذه الخلال ضاق به رحبها، وكان مع هذه الأعمال الخالصة للمعهد لا يضيع حقًا من حقوق الجمعية ومدارسها وصحيفتها ومشاريعها المتشعبة، يمده في ذلك كله عون من الله واطمئنان من الضمير بأداء الواجب إلى أن طافت به في أخريات هذه السنة مضنيات من الأمراض، ومنهكات من الأتعاب فأقعدته عن تلك الواجبات الثقيلة، واثقلها تدبير الأموال اللازمة للمعهد، وحالت بينه وبين أحب شيء إليه وإلى القراء وهو الكتابة في "البصائر" حتى كادت تتداعى دعامة من دعائم المعهد، وهي الدعامة المالية، لولا لطف الله. ***

يعد الاخوان كلهم، والأمة من ورائهم- تفضلًا منهم ومنها- هذا العاجز هو العامل الأقوى في قيام المشاريع العلمية من الناحية المالية وأنا- مع اعتزازي بهذه الذخيرة الثمينة من ثقة الأمة بي، وأمل الإخوان في- أصارحهم جميعًا بأن البناء الذي يقوم على شخص واحد متداع إلى السقوط، وأن الرجاء المعلق على جهة واحدة أيل إلى القنوط، وأنه قد آن للأمة أن تعلم أن هذا البناء الضخم من المدارس والمعاهد التي شادتها بدعوة من جمعية العلماء لا يتم تمامه، ولا ينتهي إلى غايته من الكمال، ولا يؤتي ثمراته بهذه الطرائق الهزيلة ذات الحدود المحدودة في جمع المال، وتلك الوسائل التي يوشك أن يملّها الناس فتتعطل المشاريع في لحظة كما يموت الميت بالسكتة القلبية. إننا لا نثق ببقاء هذا البناء متين الأساس، ثابت الأركان، إلّا ببناءآخر من المشاريع ذات الريع القار يحفظ حياته، وأن يصحب هذا الجد من الأمة في الإنشاء، جد آخر في الاستمرار، وأن يصحب هذا النظر القصير في المبادىء نظر بعيد في الخواتم، "والأمور بخواتمها". ونبدأ دائمًا في التمثيل بالمعهد، لأنه هو مرجع المدارس وهو المكمل لها، تقدم إليه الأمة أبناءها أطفالًا، وثتقاضاهم منه رجالًا، فهذا المعهد محتاج إلى أبنية كثيرة ليكمل ويؤتي ثماره: إلى دُورٍ لسكنى الطلبة، وإلى أقسام واسعة للدروس، وإلى فروع في العواصم لتقريب العلم إلى الطلاب، وإلى معهد خاص بالبنات المسلمات اللاتي شببن عن طوق التعليم الابتدائي وأصبحن يطلبن المزيد الحافًا، وأصبحنا نلاقي من الحافهن رهقًا، وترافق هذه المراحل للمعهد مراحل أخرى للمدارس، فقد أصبحت تتطلب معاهد واسعة للتعليم الثانوي تصل الخطوة الأولى الطبيعية بخطوة ثانية ضرورية، وأصبحت تتطلب معاهد لتخريج المعلمين، ما دامت معاهدنا العليا من الأزهر إلى القرويين تخرج لنا المعلم لا المربي، وما دامت مقصرة في إمدادنا بالكفاية والكفاءة ... وهذا البناء الضخم- إن تم- يفتقر إلى بناء أضخم منه، يتألف من مشاريع مالية دارة ذات ريع منظم مضمون، تلتقي في الغاية مع الوقف عند أسلافنا، وتزيد عليه بنظام العصر وألوانه، وتحفظ على المشاريع العلمية استمرار الحياة وقوتها وكمالها. سيقول القانعون باليسير من جبناء العزائم وقصار النظر، المكتفون بالمخايل، وهي سراب، عن المعصرات، وهي شراب، ان هذا هول هائل، وقول لا تسعه إلّا لهاة القائل، ومرام صعب، تضيق به قدرة هذا الشعب، وأنا أقول لهؤلاء القانعين: إنني أخاطب أمة آمنت بالبقاء بعد أن توالت عليها نذر الفناء، وتلقت النداء من دينها وتاريخها فاستجابت للنداء، وأمة هذا شأنها وهذه حالتها- لا يعجزها أن تحقق وجودها واستحقاقها للحياة بهذه

الأعمال، ولا يكثر عليها في شراء الحياة أن تبذل هذه الأموال، ان أمة كانت- وما زالت- تنفق ألوف الملايين فيما يفنيها ويبليها، لا تكتب لها التوبة والتكفير إلّا إذا أنفقت أمثالها فيما يبنيها ويعليها. فإذا اختلطت في آذانها أصوات الباطل بصوت الحق- فمن ملكاتها الإسلامية أن تميز الأذان من المكاء والتصدية بأنه حيعلة إلى الصلاة، وتثويب بالجنة، ودعوة إلى الله .... لجنة المعهد من رجال جمعية العلماء تحمل نفوسًا كبيرة، وان أتعبت في مرادها الأجسام، وقد كانت- وما زالت- حسنة الظن بالله، قوية الثقة بالأمة، عودت الأمة أن تدعوها إلى الخير، وعودتها الأمة أن تستجيب، وما زال حسن ظنها بالله يتجسم حتى أصبح كرأي العين، وما زالت ثقتها بالأمة تعظم حتى أمست كقبض اليد، وقد وضعت يدها على قطعة أرض بظاهر قسنطينة، ذرعها المربع 20 ألف ميتر، وان الرجاء ليحدوها إلى أن تشيد عليها "معهد عبد الحميد بن باديس" بصورته الكاملة التي تمثلها لها الخواطر ... ... والأحلام .... عند ذوي الأحلام ... نيران على أعلام ... فما هو رأي الأمة في تأويل هذا الحلم؟ ...

مدارس جمعية العلماء

مدارس جمعية العلماء * تمت السنة الدراسية لمدارس الجمعية منذ شهرين وأجريت الامتحانات السنوية في حينها لعشرات الألوف من تلاميذها من بنين وبنات، وكانت النتائج في المجموع فوق الرضى من فضل الله وعناية المجتهدين من أبنائنا المعلمين الناصحين. وأقيمت احتفالات توزيع الجوائز على الناجحين في أمهات المدارس فكانت كلها بهجة وسرورًا، وقد دعيت إلى الحضور في أكثرها فلم يسعدني الحظ إلّا بحضور احتفالين منها أحدهما في مدرسة شرشال ليلة الخامس والعشرين من رمضان والثاني في مدرسة سطيف ليلة الخامس عشر من شوال فرأيت في كليهما ما سر وأعجب. عاقتني العوائق والأشغال المتراكمة ودروس رمضان وآثار الأتعاب والأمراض في أعصابي عن كتابة كلمة في "البصائر" كالمعتاد أنهي بها أعمال السنة وأهنىء بها جنود العلم العاملين من معلمين وتلامذة، وأدلهم بها على مواطن الضعف، ومواقع التقصير إبلاغًا في النصيحة، وتنبيهًا إلى التدارك، ولكن الأشغال ألحت في التعويق، والأمراض تمادت في الاستشراء، فقطعت البحر طلبًا للاستشفاء لا للراحة والاستجمام، ولو قصدت إلى ذلك لكان لي في جبال الجزائر مهرب ورجعت بعد أربعين يومًا بما كتب الله من نتيجة، فقد ذهبت استطب من مرض السكر فرجعت أشكو ألمًا في الحلق أجمع الأطباء على أن أصله قديم وأنه اتصل بأوتار الصوت وأن عاقبته السكات وأن دواءه السكوت، فليسكت صاحبه مدة ستة أشهر على الأقل، وهل أسكت؟ لا أدري، غير أن الأطباء ليسوا مني على ثقة. رجعت بعد أن راهق زمن فتح المدارس واجتمعت لجنة التعليم العليا تعمل أعمالها للسنة الجديدة وأنا كليل الذهن كليل القلم، فما علي إلا أن أهنىء أبنائى المعلمين على

_ * "البصائر"، العدد 131، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 18 سبتمبر 1950م.

جهودهم الموفقة في السنة الماضية، وأذكرهم بأن الأمانة المشتركة بيني وبينهم وحق الأمة في عنقي وأعناقهم- لا يقتضيان أن نتسامح وأن نتجامل وأن نتعامل بالعواطف، وما علي في هذه الكلمة العجلى إلا أن أثني الثناء الطيب على أعضاء لجنة التعليم العليا، كفاء لما قاموا به هذا الأسبوع من أعمال جليلة، تفيض على المدارس ونظمها جدة وحيوية وتقدمًا. أما الكلمة الناصحة الواعظة للمعلمين فلينتظروها في العدد الآتي إن شاء الله (1).

_ 1) نشرت الكلمة بعنوان (كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين) أنظرها في الجزء الثالث من آثار الإمام.

الأستاذ إبراهيم الكتاني

الأستاذ إبراهيم الكتّاني * للأستاذ البحّاثة العالم السلفي الشيخ محمد إبراهيم الكتاني، أحد علماء المغرب الأفذاذ المستقلين- مكانة ممتازة في نفوس رجال جمعية العلماء، وصلة روحية قوية بهم من أيام المرحوم الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس. والأستاذ الكتّاني من المعجبين بحركة جمعية العلماء الإصلاحية، والمتتبعين لأطوارها، ومن العاملين على ربط الحركات السلفية بعضها ببعض تاريخا وعملًا. زار هذا الأستاذ الكريم في الأيام الأخيرة إدارة "البصائر" بمركز جمعية العلماء، ودفعه الوفاء إلى زيارة المعهد الباديسي وقبر صاحبه بقسنطينة. و"البصائر" ورجال جمعية العلماء على اختلاف ميادينهم، يرحّبون بالضيف العزيز من قلوب تحمل له الحبّ والاحترام، ويرجون له إقامة طيبة وأوبة حميدة.

_ * "البصائر"، العدد 133، السنة الثالثة، 23 أكتوبر 1950م. (بدون إمضاء).

رسل الصحافة المصرية في الجزائر

رسل الصحافة المصرية في الجزائر * تقديم باعزيز بن عمر ــــــــــــــــــــــــــــــ وأخيرًا تحققت الأمنية، وخفق القلب بحبّ مصر إذْ تمّ ما أذاعته الصحف ومحطات الإذاعة منذ أشهر من عزم الحكومة المصرية على السماح لثلّة من أعلام الصحافة المصرية بعقد رحلة صحافية إلى ربوع هذا الشمال الافريقي. حلّ الوفد الصحافي المصري بالجزائر بعد أن مرّ بربوع الخضراء سريعًا، فاقتبله بمطار الجزائر وفد من ممثلي الصحف الوطنية وهيآتها ... وكان الوفد يتألف من الأساتذة: حسين أبو الفتح نقيب الصحفيين المصريين ورئيس الوفد، وعزيز بك مِرْزا رئيس تحرير "الأهرام"، وحبيب جاماتي عن دار الهلال، وعبد الحميد يونس عن دار الإذاعة المصرية وهو من أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية، وجورج زيزوس من شركة الإعلانات الشرقية، وجلال الدين الحمامصي عن "أخبار اليوم"، والدكتور علي الرجال عن "الأساس" لسان حال الحزب السعدي، والسيدة سميرة عبد القادر حمزة عن "البلاغ"، وأنطون نجيب عن "المقطم"، وزكريا لطفي عن "الزمان". في مركز جمعية العلماء انتظم عقد هذا الجمع الحاشد على الساعة العاشرة من هذه الليلة الزاهرة، فوقف الرَّئِيسُ الجليل محمد البشير الإبراهيمي فحيى مصر العالمة الناهضة، وحيى وفد صحفها الراقية باسم الجزائر كلها تحية أودعها من شريف المعاني وبليغ الكلم ما ذكرنا بعهود العربية المشرقة أيام الجاحظ وابن المقفع، وابن زيدون، وابن خلدون، ورحب بوادي النيل كله في شخص وفده الأمين ترحيبًا نبه الأذهان إلى ما لا يزال قائمًا بين مصر والجزائر من روابط اللغة والدين والجنس، رغم ما حاوله ويحاوله المستعمرون من الضرب

_ * "البصائر"، العدد 134، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 11 ديسمبر 1950م.

بالطمس عليها، وأذكى ببيانه العذب الرائق عواطف الحاضرين، فأبصروا خلال عباراته البليغة ماضي الإسلام والعروبة الزاهر في هذه الديار. فاستمع إلى ما علق بالذهن من شوارد ألفاظة ومعانيه وهو يرتجل خطابه البليغ: "أيها الاخوان الأعزة! إننا نرحب بضيوفنا الكرام، وكلمة الضيف فيها ما فيها من الغربة والتكلف. فإذا ما خاطبت الاخوان بها جريًا على الوضع المألوف فمن المحال أن أخاطبكم بعد الآن بكلمة الضيف. ذلك أن العربي عربي أينما حل، فالعربي المصري في الجزائر عربي، والعربي الجزائري في مصر عربي. أيها الاخوان! كل هؤلاء متشوق إلى رؤيتكم، وقد أبطأتم عنا بنحو ساعة فوجفت القلوب أن يكون الاستعمار قد حال بيننا وبينكم، إذ ليس من المحال في حقه أن يحول بين المرء وقلبه، وبين الابن وأبيه، والأخ وأخيه. أيها الإخوان! إن للشرق ولمصر وبالأخص لفضلًا عظيمًا على الشمال الأفريقي. وإننا ما زلنا نحفظ شيئًا كثيرًا عن تاريخ مصر وأدبها وحوادثها، وفيمن ترون من هؤلاء من يلوكون ألسنتهم بالعربية، ويتبذخون بالتحدث بها عن مصر وأحوال نهضتها، ولا أكون مغاليًا إذا قلت: إن كل هؤلاء يحفظون قصائد لشعراء مصر والشرق كشوقي وحافظ وغيرهما، ويعرفون ما وقع بين طه حسين والرافعي والعقاد، وفيهم من ينظم الشعر على طريقة البارودي. وإن التاريخ ليروي أن علماء جزائريين أخذوا العلم الصحيح عن مصر، فالعلّامة المشدالي الذي ما زالت قريته موجودة إلى اليوم في قرى "زواوة" من هؤلاء أخذ العلم من مصر على النظام المعروف يومئذ، ثم رجع إلى وطنه وبث العلم صحيحًا فيه كما أخذه. أيها الاخوان! إن الاستعمار أراد أن يجوع عقولنا بنزع العلم من صدورنا، فلم يفلح، سلوه فهو أخبث وأخبر بكل هذا، إذ حاول هذا التجويع العقلي والفكري، فقلنا له كلا، إنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلًا. فمهما جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور فإننا ما زلنا نحتفظ بعربيتنا.

أيها الإخوان الأعزة أساتذة مصر! كل هؤلاء يمئلون الشعب الجزائري بجميع طبقاته: فيهم المعلّم المجاهد، والسياسي المحنك، والتاجر المقتصد، وفيهم، وفيهم ... وكلهم يستقبلونكم في دار جمعية العلماء، ولو تَرَامَتْ إليهم أخبار رحلتكم في فسحة من الزمن لرأيتم غير ما ترون: رأيتم جموعًا حاشدة ملتفة حولكم هاتفة باسمكم مقرونًا بالإكبار، وباسم مصر مقرونًا بالتبجيل والاحترام. نحيّيكم باسم جمعية العلماء، وإنما نحييكم باسم الأمة الجزائرية المسلمة العربية، فما منزلة جمعية العلماء من هذه الأمة إلّا منزلة القلب من الجسد، شَاءَتْ أو أبتْ، فهي ناشرة محاسن الإسلام فيها، وهي مجلية حقائقه وآدابه فيها، وهي حافظة لسانه المبين فيه. نحيّيكم ونحيّي في أشخاصكم مصر ونوابغها في الأدب والتشريع، وصحافتها الراقية، وأقلامها المشرعة حفاظًا عن الشرق والإسلام والعروبة، وكلياتها التي هي موارد للظماء ومناهل للعلم والعرفان، وشعبها العربي الكريم. فاحتفظوا بنا، واكتبوا عنّا، واصغوا إلينا. أيها الإخوان: قد أطلنا عليكم الحديث، ذلك أن المريض الذي يئنّ قد يأرز إلى تسلية نفسه بهذا، فإن الطبيب مهما كان بارعًا في وصف ألم المريض فلن يصفه إلّا وصفًا علميًا بيد أن المريض مع ذلك أدرى بوصف مرضه وألمه. هذا بعض ما نثره الرَّئِيسُ الجليل من الآيات البينات على مسامع من خفوا إلى مركز جمعية العلماء من ممثلي الأحزاب والهيآت ليحيوا ضيوف الجزائر الكرام. ولولا ما طغى على الذاكرة من الشعور بالجمال والجلال اللذين غشيا هذا المشهد التاريخي العظيم، لاستطاعت أن تثبت للقارىء أكثر من هذا من جولاته ولفتاته التاريخية التي نقلنا على جناحها بعيدًا، فشاهدنا منازل وربوعًا لا تزال تتعطر المجالس بذكرها، وتهفو إليها الأفئدة والأسماع كلما ذكر مجدها الغابر وعصرها الزاهر.

"البصائر" في سنتها الرابعة

"البصائر" في سنتها الرابعة * بهذا العدد تدخل "البصائر" في سنتها الرابعة من سلسلتها الجديدة على النهج الذي نهجناه لها، وهو اعتبار سنتها خمسة وأربعين عددًا، من غير مراعاة للمدة التي تصدر فيها هذه الأعداد، تقديمًا لمصلحة المشترك قبل مصلحة الجريدة، وإيثارًا للمعنويات على الماديات، وإراغة للمعاني الفاضلة التي منها أن تكون العلاقة بين الجريدة وبين قرّائها علاقة المربّي بتلميذه، لا علاقة التاجر بعميله، ونقضا لتلك العادة المألوفة التي تجري عليها معظم الجرائد، فتعامل المشترك على السنة الزمنية المحدودة باثني عشر شهرًا، وتأتي أسباب التعطيل فتتخوّن من الأعداد بقدرها ويكون الغبن على المشترك، ونحن راضون بهذا المسلك وإن أوقعنا في الضيق والحرج، كما وقع في هذه السنة. قطعت "البصائر" ثلاثة أحوال من عمرها الجديد المديد إن شاء الله معتمدة على الله، معتدّة بنفسها، معتزّة بقرّائها، ناطقة بالحق، قوّامة عليه، حربًا على الباطل والمبطلين، لم تلن لها في مواقفتهم قناة، ولم تهن في منازلتهم عزيمة، ترتفع في أسلوبها حتى تشارف الأفق الأعلى للبيان العربي، وتخفض الجناح- في غير إسفاف- حتى تذلّل قطوفها للجانين من جميع الطبقات، تطرق العقول ببراهينها فتخشع، وتغزو الأفئدة ببيانها فتطرب، حتى كثر المعجبون بها من الخاصة، وكثر المتشيّعون لها من العامة، وإن لديها من شهادات من يعتدّ بشهادتهم من صيارفة الكلام وجهابذة الرأي ما تتباهي به وتفاخر. ...

_ * "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.

لم تصب "البصائر" في جميع عهودها بأزمة مالية كالتي وقعت فيها في هذه السنة، ولم تعان من الضيق المادي ما عانت في هذه السنة، فكان ذلك بعض الأسباب في تأخّر سنتها إلى هذا اليوم، فقد امتدّت سنتها الاعتبارية إلى سنة زمنية ونصف سنة. والسبب في هذه الضيقة الخانقة أنه ليس لـ"البصائر" مال احتياطي ترجع إليه في الأزمات، ولا مورد آخر كأجور الإعلان أو الإعانات الفردية، كما هو الشأن في الجرائد التي تعيش على الإعلان، أو تعتمد على صناديق المنظمات أو الإمدادات السخية من الأنصار، فكل أولئك ليس لـ"البصائر" منها شيء، وإنما تعتمد "البصائر" على شيء واحد، وهو قيمة الاشتراك وثمن البيع، فإذا قصر هذا المورد ففي جهود مديرها الخاصة ما يضمن انتظام صدورها واستمراره، ولكن هذه الجهود لا تقوم قاعدة عامة لتسيير مشروع عظيم كجريدة "البصائر". وقد تعففت عن المطاعم المشتبهة، والموارد الكدرة، ولو أغضت قليلًا وترخصت لكانت أغنى جريدة في هذا الشمال، فقد عرضت عليها مئات الآلاف ثمنًا للإعلان عن شيء تسعه الإباحة، ويضيق به المبدأ، فآثرت المحافظة على المبدإ، وعُرض عليها مليونان في السنة ثمنًا للإعلان عن سلعة تتجاذبها جوانب منها المريب، فأعرضت عنها ترفعًا، وعرض عليها نصف مليون ثمنًا لفتيا، فرأت أن هذا المال هو جزء من آلاف الأجزاء مما يؤخذ من الأمّة الإسلامية الجزائرية بهذه الفتوى، فأعرضت عنها، وأن صغار النفوس من الفقهاء ليبيعون مثل هذه الفتوى ببضعة آلاف من الفرنكات. كانت "البصائر" في سنتيها الماضيتين تخرج كفافا لا عليها ولا لها، أو تخرج بقليل من الدين يسدّد من دخل السنة الجديدة، فلما ضربت الأزمة العامة بأرواقها ظهر أثرها على "البصائر" من نصف السنة الماضية متجلّي الأسباب في النقص الملموس في البيع، وفي ارتفاع أجور الطبع وسعر الورق، وفي النفقات غير الاعتيادية كالاشتراك في صندوق المنحة العائلية، وفي متخلفات الباعة، وفي كثرة ما توزّعه الإدارة مجانًا في المبادلات والهدايا للشرقين العربي والإسلامي وللأميركتين الوسطى والجنوبية، وقد بلغ هذا الفصل الأخير أربعمائة نسخة من كل عدد، وهو شيء لازم لجريدة كـ"البصائر"، قيمتها المعنوية في الدعاية إلى العروبة والإسلام، ووظيفتها السامية هي تبليغ الدعوة الإصلاحية لا التجارة والربح المادي، وفي جنب هذه المعاني لا يستكثر أن تنفق ستون ألف فرنك في الشهر على المتخلفات والهدايا. تنفق إدراة "البصائر" على العدد الواحد أكثر من مائة ألف فرنك، فالمبلغ الاعتيادي من النفقات هو خمسة ملايين في السنة على التقريب تُزاد عليها النفقات غير الاعتيادية فيرتفع

المبلغ إلى ستة ملايين تقريبًا في السنة، والحاصل من الاشتراك والبيع لا يفي بهذا المبلغ، ولو كان في صندوق جمعية العلماء فضل من المال لأنفقت منه على "البصائر" وسدّدت عجزها لأنها لسان حالها، ولكن صندوق الجمعية المتكوّن من ذلك المبلغ الطفيف من الاشتراك لا يكاد يقوم بواجبات إدارتها وموظفيها. هذه حقائق نواجه بها قرّاء الجريدة وأنصارها والمعجبين بها، حتى يكونوا على يقين مما نعاني، وحتى نقيم لهم العذر في فتحنا للاكتتاب العام لـ"البصائر" وحتى تكون هذه الحقائق حافزة لهممهم إلى الاكتتاب، وإذا كانوا يعتقدون- كما هو الوائع - أن "البصائر" سدّت فراغًا لا يسدّه غيرها، وأنها أصبحت رمزًا للعروبة بهذا الوطن، وأنها أعلت من قدر الجزائر وأغلت من قيمتها، وأنها مفخرتها الوحيدة فليعتقدوا- مع ذلك- أن لها على كل جزائري حقًا، بل على كل ناطق بالضاد في الشمال الإفريقي. ونحن نعتقد- وأصحاب القلوب الحية معنا في هذا الاعتقاد- أن من جوانب النقص المعيب في الأمّة الجزائرية ونهضتها أن لا تكون لـ"البصائر" مطبعة خاصة، وأن لا تكون يومية، وأن لا تساندها مجلة علمية تخدم مبدأ جمعية العلماء وحركتها الإصلاحية الجليلة. وبينما نحن نشكو هذه الضائقة ونحاول أن نجد لها حلًّا، أو أن نضع لها حدّا، تفاجئنا المطبعة بكتاب رسمي، تنذرنا فيه- مع الأسف- أن الظروف اضطرّتها إلى أن تزيد في أجرة الطبع ثلاثة وعشرين في المائة ابتداءً من الشهر القابل جانفي 1951. فقلنا: (اشتدى أزمة) فوالله أنها لعزمة منا أن نشتد معك، وأن لا نمكّنك من لسان العروبة فتخرسيه، ومن هيكل الجزائر فتضرسيه، فهل لأبناء العروبة عزمة على المضي مثل عزمتنا؟ ذلك ما سيسجله التاريخ في كتاب، ويشهد له أو عليه الاكتتاب. ... ونحن ... فإننا لم نأس على شيء مما سبّب الفتور لـ"البصائر" ورماها بالعجز والتقصير، ما أسينا على حقوق قد ضاعت، ويعزّ على "البصائر" أن تضيع، وعلى مواقف مرّت مع الزمن، ولم تكن لـ"البصائر" فيها صولة يخرّ لها الباطل صريعًا، أو جولة تذر المبطلين أشلاء، أو كلمة تتنزل بالنصر على إخوان عزّ ناصرهم، وتتهلّل بالبشر مع إخوان لا يجود عليهم الزمان العبوس إلا بيوم ضاحك في السنة، وتفيض بالدمع- وهو أيسر الجزاء وأكبر العزاء- لإخوان عقدت أفراح الطغاة على مناحاتهم، ونزل الظلم القاهر على العتو العاهر بساحاتهم.

من تلك الحقوق التي ضاعت فرصتها، وأجرضت غصتها، حق عيد العرش المحمدي الذي تخفق أكمدتنا فرحًا به قبل أن تخفق أكمدة إخواننا المغاربة، ومنها حق إخواننا الليبيين الذين طلعت عليهم شمس يوم بالفرحة الكبرى فلم نشاركهم فيها، ولم نتقدم إليهم بجهد المقل من نصيحة خالصة هي أثمن ما يهدي الجار إلى جاره، أو دعوة صالحة هي أقل ما يَرْفِد به المؤمن أخاه، ومنها حق إخواننا شهداء "النفيضة" ومأساتهم الدامية، التي لقينا من برحها ما لقيه إخواننا التونسيون، ومنها حق إخواننا الصحافيين المصريين الذين أريدوا على ما يراد عليه الحُرّ الأبي، فاستنكفوا الحمل على الهضيمة، ومنها المؤلفات والمجلات التي تهدى لـ"البصائر" من أنصارها والمعجبين بها من الشرق والغرب، وكلهم آمل أن تقول "البصائر" فيه كلمة، وأن تعرف كتابه وتقدّمه للقرّاء، تقريظًا أو نقدًا، وقد كثرت هذه الهدايا في هذه السنة كثرة دلّت على ما لـ"البصائر" في نفوس أولئك الإخوان من مكانة وقيمة. هذا ما تأسى عليه "البصائر"، لا على (ورق) ينقطع ثم يعود، وكف تبخل ثم تجود ... وان عسى أن تقضي من هذه الحقوق ما لم يفت بفوات زمنه. ... لم تكن هذه العوائق في حسابنا، يوم كتبنا ما كتبنا في افتتاحية السنة الماضية ووعدنا فيه بما وعدنا، فاسترسلنا مع الأماني حتى تجسمت وكأنها حقائق، وقد أدّبنا الزمان بعوائقه وبوائقه، فأصبحنا لا نعد وعدًا لا نثق بإنجازه، وهدنا إلى الزمن نستعتبه في ما تجري به تصاريفه، ومن ثم فإننا لا نعد القرّاء في هذ السنة شيئًا من التحسين أو التلوين إلا بقدر ما تسمح العوائق، ومن فضلة ما تسأر الأحداث، ولخير من حلاوة وعد تعقبها مرارة الاخلاف- مرارة صبر تتلوها لذة المفاجأة. ويعتب علي بعض الإخوان بالكلام الكثير والرسائل الوفيرة هجري للكتابة في "البصائر" ويعدون ذلك هو السبب أو هو أقوى الأسباب لهذا الفتور الذي اعترى "البصائر" في سيرها، ويقول كاتب: إن "البصائر" فقدت روعتها وسحرها. ويقول غيره ما يشبه هذا الكلام، ويقول غيرهما غيره، ويتهمني آخرون بأنني أشوق ثم أعوق، ويغريني بعضهم بأنواع من المغريات استفزازًا واستثارة، ويتداهى بعضهم لتحريكي فيقول لي: إن قلمك ليس بذاك، وإن قومك لا يقرأون للقلم، ولكن للاسم، إذ ما زالوا على نوع من عبادة الأسماء، إلى غير ذلك مما تواجهني به الألسنة والأقلام، وعفا الله عن إخواني وصنع لهم، لكأنهم يقولون في لسان باقل: انه سيف أغفلته الصياقل، وأنا- مع اعتزازي بحسن ظن الإخوان- قائل لهم: إني لا

أرى لهذا القلم منزلة ترفع "البصائر" كالتي تضعونه فيها، ولوددت- والله- لو أقررت أعينكم بما تبتغون منه، وما كان هجري للكتابة في هذه الأشهر دلالًا يداوى بالصد، ولا ملالًا يعالج بالمغريات، ولكنني رجل ممتحن بالعمل لهذه الحركة المباركة في جميع جهاتها، وقد تشعّبت حتى كاد آخرها يعطل أولها، فإذا هجرت الكتابة في "البصائر" فلأن عملًا ما استأثر بالوقت كله، ولأن عملًا آخر ينتظر، وقد ابتلتنا حالة الأمّة وقلّة الرجال بنوع غريب من النهم في العمل مغافصة في الدقائق، وإشفاقًا من العوائق، كل هذا مع طوارق من المرض، بعض أسبابها السن، وبعضها الإجهاد، وبعضها الإهمال، ويا ويح أمّة تلقى العدد العديد بواحد ...

رحلتنا إلى باريس

رحلتنا إلى باريس * رحلنا إلى باريز، أنا والأخ الأستاذ الشيخ العربي التبسي، في أواخر شهر أكتوير الأخير، وأقمنا بها خمسين يومًا، ثم رجعت وأقام الأستاذ التبسي لإتمام بقايا من الأعمال ومن العلاج. نحن نعلم أن الأمّة متشوفة إلى الاطلاع على أسباب هذه الرحلة ونتائجها الإيجابية أو السلبية، وقد ألمّت الجرائد الفرنسية هنا وفي باريز ببعض أسبابها وتكلم بعضها في صلب القضية، وفيها المنصف المصيب وفيها المتعسف المخطئ، أما نحن فلم نشأ أن نكتب عن الرحلة، لا قبلها ولا في أثنائها، ولنا في ذلك رأي، ليس منه التكتم، فما في الحقيقة كتمان، وما تعوّدنا أن نتكتم أو أن نعمل في الخفاء، ولكننا كنا نرى أن الكلام عن الشيء في مبادئه هو من باب الأخبار، فربأنا بالوقت أن يشغل بالأخبار، فتركناها لأهلها يخوضون فيها، وتربصنا بالكلام إلى نهاية الرحلة. ذهبنا إلى باريز لخدمة قضيتين، باريز هي مركزهما، وهي ميدان الأعمال لهما، الأولى قضيتنا المعروفة ذات الشعبتين، وهي فصل الحكومة الجزائرية عن الدين الإسلامي، وحرية التعليم العربي، وهي القضية التي قضينا عقدين من السنين في الحديث عنها، والخطابة فيها، والمطالبة بها وما زلنا- إلى أن يبلغ الحق فيها أمده- نتحدث عنها، ونخطب فيها، ونطالب بها، وما زالت حكومة الجزائر متصامة عن صوت الأمّة فيها، نخاطبها بالكلام الفصيح، والحق الصريح، فكأنما نخاطب صخرة صمّاء، ونجلو الحقائق الواضحة عليها، فكأنما نعرضها على مقلة عمياء، فلما عيينا بالأمر ذهبنا إلى باريز لعلمنا أن الأمر منها بدأ وإليها يعود، وأن نقل القضية من هناك إلى هنا إنما هو حيلة وتداه، كنقل قطع الشطرنج من بيت

_ * "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.

في الرقعة إلى بيت، لا تنقل القطعة من بيت إلا على نية نقل آخر، والرقعة واحدة ... ذهبنا إلى باريز ولقينا بقضيتنا المسؤولين من رجال التنفيذ، ورجال التشريع، ورجال الصحافة، وشرحنا القضية على أكمل وجه، وأنرنا جوانبها بنور البرهان ورأينا وقلنا وسمعنا وقارنّا بين الأصل والفرع، وسنفصل ذلك كلّه في كلمة في الأعداد الآتية، وفي أحاديث نجمع الناس عليها في العواصم الثلاث، في وقت نعلن عنه قريبًا. ... القضية الثانية قضية إخواننا الجزائريين النازحين إلى فرنسا في سبيل العمل للقوت حينما ضاقت بهم بلادهم، وتنكرت لهم، وشخت عليهم بما تنبت وما تنبط، فخرجوا كرهًا في صورة طوع، وجبرًا في هيئة اختيار، وان عددهم في فرنسا لكثير، يبلغ مئات الآلاف، وان لهم علينا لحقّا أكيدًا في أن نتعهّدهم بالموعظة، كما تعهّدنا إخوانهم هنا، وأن نتسبب إلى تأسيس مدارس هناك لتعليمهم وتعليم أبنائهم، حتى تبقى نسبتهم إلى الإسلام محفوظة، وعلاقتهم بالإسلام متينة، ولجمعية العلماء في هذا الميدان سابقة فضل بحركة التعليم التي كوّنتها في فرنسا قبل الحرب ومدّت لها في انتشار حتى كادت كل موطن منها فيه مسلم جزائري، وقد آتت تلك الحركة ثمارها، ولكن الحرب الأخيرة قضت عليها وذهبت بما لها من مؤسسات، فكان من مقاصدنا في هذه الرحلة أن نعيد تلك الحركة المباركة أقوى مما كانت، فخالطنا إخواننا هناك وحادثناهم، فابتهجوا بهذه البوادر الطيبة وحييت فيهم الآمال، واجتمعنا بهم في مجاميع محدودة، ثم عقدنا اجتماعًا في "ليل" من مدن الشمال، ثم عقدنا اجتماعًا حافلًا في باريز، تحت رعاية شعبة جمعية العلماء بها، ورأينا من الإقبال والاستعداد ما شجّعنا على المضي في العمل، وقوّى أملنا في النجاح. سنفيض القول في هذا الموضوع، وفي الخطوات الأولى التي خطوناها في المشروع، في الأحاديث العامة التي سنجمع لها الأمّة، وفي الأعداد الآتية من "البصائر" إن شاء الله.

بيان من رئاسة جمعية العلماء

بيان من رئاسة جمعية العلماء - 1 - * إن علاقة الجمعيات المحلية القائمة بتسيير المدارس بجمعية العلماء، ليست علاقة أدبية فقط، بل هي علاقة عملية، تترتّب عليها مسؤوليات ثقيلة. وعليه، فإننا نخبر إخواننا رؤساء وأعضاء تلك الجمعيات، أن كل رسالة يكتبها إلينا أحدهم باسمه الخاص في المسائل المتعلقة بالمدارس ومعلّميها، مما يتوقف على رأينا، فإننا لا نعتبرها، ونعدّها لغوًا. فعليهم، إذا حدث شيء يقتضي الإخبار بشيء، أو الطلب لشيء، أن يجتمعوا ويقرّروا رأيًا غالبًا أو مجمعًا عليه، ويسجّلوه في دفتر الجمعية، ثم يرسلوا إلينا بنسخة من ذلك القرار، عليها الرقم المسجّل في الدفتر، وختم الجمعية، وإمضاء رئيس الجلسة وكاتبها، وتكون الرسالة في ورقة مطبوعة باسم الجمعية، فإذا اختلّ شيء من هذه الشروط فإننا لا نعتبر شيئًا منها ولا نتقيّد به ولا يكون علينا حجّة. دعانا إلى هذا البيان حوادث وقعت في هذه السنة في بعض الجهات، فكانت تأتينا في شأنها رسائل فردية من بعض أعضاء الجمعية المحلية، ممن نعرفهم بأسمائهم وأشخاصهم، فنهتم ونرسل المندوبين للتحقيق وننفق النفقات، فإذا تلك الرسالة لا تعبّر إلا عن رأي صاحبها، وقد تأتينا رسالة أخرى من عضو آخر نعرفه، تثبت ما نفت الأولى، وتنفي ما أثبتت، فنقع في فوضى تفسد الأعمال أو تعطلها، أو تؤذي إلى أحكام خاطئة. وقع هذا وتعدّد، وأدّى إلى مفاسد، ونحمد الله على أنه قليل، وعلى اْنه نبّهنا إلى التشدّد في النظام المعين على العمل، ووجب التنبيه للإخوان المتعاونين على الخير، فليلتزموا العمل بما بيناه. رئيس جمعية العلماء: محمد البشير الإبراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.

- 2 -

- 2 - * تشعّبت أعمال جمعية العلماء وتكاثرت، وأصبحت تستدعي تنقلات متوالية قد تستغرق العام كله، وهذه الأعمال والتنقلات منصبة بحكم الضرورة والطبيعة على رئيس الجمعية، وقد أكلت أوقاته كلها، وأوشكت أن تخرج عن طوقه فتقع الفوضى والاختلال، فرأى المجلس الإداري للجمعية أن يشدّ عضده بعون ينتدبه لبعض ما كان يقوم به من الأعمال، فيخفف عنه بعض العناء، فوقع الاختيار على الشيخ العباس بن الشيخ الحسين المدرّس بالمعهد الباديسي، لكفاءته واقتداره ونشاطه، فأُعفي من التدريس بالمعهد، وأُلحق بمكتب الرَّئِيسُ، ليستعين به على تصريف الأمور، وليكون نائبه في كل ما يوجّهه إليه من شؤون المدارس والجمعيات والشعَب والمعلّمين والجمهور. بينا هذا ليعلمه جميع أعضاء الشعب والجمعيات والمعلمون، وليعتبروه نائبًا عن الرَّئِيسُ في كل ما يباشرونه من شؤونهم، وليكونوا معه يدًا واحدة على الخير والحق. رئيس جمعية العلماء: محمد البشير الإبراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.

من ثمرات الأخوة الإسلامية

من ثمرات الأخوة الإسلامية شخصية باكستانية تزور الجزائر * ــــــــــــــــــــــــــــــ ما زال الإسلام- وإن ضعفت آثاره في نفوس أهله وضعفت عقولهم عن فهم حقائقه- يشعّ بالروحانيات التي تقهر المادة وتغلبها على سلطانها، حتى في أيام صولتها وحولها، وما زال يجمع قلوب أبنائه على نوع غريب من الأخوة تُنسيهم إياه الأحداث، ثم يتنبّه في نفوسهم بأيسر منبّه. أمعنت عوامل الشر في تشتيت المسلمين والتبعيد بين قلوبهم باختلاف المذاهب والمنازع في الدين والدنيا، وبين أبدانهم بالسدود المانعة، والحدود الفاصلة، وبين ألسنتهم بكثرة اللغات والرطانات، ولكن قوة الروحانية في الإسلام تغلّبت على تلك العوامل كلها وأبقت في نفوس المسلمين سمة ثابتة لا تنمحي، ولكنها تختفي حتى تظنّ بها الظنون، ثم تستعلن فتخيب الظنون. ولو أن أمة ذات دين ظهر بها وظهرت به، ثم أصابها بعض ما أصاب المسلمين من انحلال وتفكك وبلايا ومحن لَنسيتْ دينها أو لَكفرتْ به ولم يبق من آثاره فيها ولا من آثارها فيه شيء، ولكنّه الإسلام، ولكنه سلطان الإسلام على النفوس. زار الجزائر في الأسبوع الماضي ضيف باكستاني مسلم يجمع بين ثقافة إسلامية عالية، مظهرها فهم عميق لحقائق الإسلام، واطلاع واسع على دقائق تاريخه، وتطبيق حكيم لنظريات الإسلام على تطورات الزمن، وبين ثقافة إنكليزية واسعة، مظهرها تمكن من لغة الانكليز وآدابها، وتأثر بسعة صدور الانكليز وصراحتهم واعتدادهم بأنفسهم ... ، يجمع بين الثقافتين من غير أن تضار إحداهما الأخرى لتمكنه فيهما معًا، ممّا يدل على أن مضارة ثقافة لثقافة إنما تكون من القوية في نفس المثقّف للضعيفة فيها.

_ * "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة، 8 جانفي 1951 (بدون إمضاء).

هذا الضيف الكريم هو إنعام الله خان، الكاتب العام للمؤتمر الإسلامي الذي سينعقد في شهر فيفري القادم في كراتشي عاصمة الباكستان تحت إشراف الشعب الباكستاني. والأستاذ إنعام الله خان يمثل ديموقراطية الإسلام الصحيحة، فهو يتمنى الخير لجميع الناس بشرط أن يكون حظ المسلمين من ذلك الخير موفورًا، ومكانتهم بين الناس محترمة، وهو مزهو باستقلال بلاده كما هو مزهو باستقلال أندونيسيا وليبيا، وهو لا يدين بالوطنيات الضيّقة المحدودة وسفّه أصحابها، وهو يرى أن القوتين المتناحرتين في العالَم، المتعاونتين - بقصد أو بغير قصد- على إزعاجه وترويعه، سائرتان بالبشرية إلى الإبادة والاستئصال، وأنه لا ينجي العالم من شرّهما إلاّ واسطة قوية ذات خصائص روحية فعالة، هذه الواسطة هي الإسلام في مثله العليا لا غيره، يحقّق مطالب الروح والجسم معًا، ويؤلّف بين ما نراه متنافرًا منها، ويقمع الغرائز الحيوانية فيردّها إلى الاعتدال، والاعتدال هو الحلقة المفقودة في تينك القوتين. ويقول: لو أن عقلاء الأمم، المشفقين على العالم الإنساني، المتشائمين من حالته الحاضرة، أدركوا هذه الخصائص في الإسلام، لَأتوا إليه مذعنين، ولَحكموه فيما شجر بين الفريقين، ولو فعلوا لَوجدوه الحكم الذي ترضى حكومته، لأنه يحقّق لكل فريق رغبته، بطريقة لم تخطر على بال مصلح. والأستاذ إنعام الله خان يقوم برحلة طويلة في الأقطار الإسلامية داعيًا إلى المؤتمر الإسلامي، فبعد أن أقام في "لايك ساكسس" من أمريكا، داعيًا لمصلحة دولته في قضية كشمير، مرّ بلندن ثم بباريس، وهنالك زار وفد جمعية العلماء، واجتمع بكثير من رجالات المغارب الثلاثة، ومن هناك بدأ برنامجه في زيارة الأقطار الإسلامية، فزار المغرب الأقصى ومكث فيه ثلاثة أيام، ولقي من إخواننا هناك حفاوة شرحت صدره وأنطقته بالشكر، ثم زار الجزائر- على ما سنصف- ومنها إلى تونس فليبيا، فالقاهرة، فأنقرة، فدمشق، فبيروت، فبغداد، فكراتشي. ... كان هذا الضيف المحترم على وعد مع رئيس جمعية العلماء باللقاء في الجزائر، عيّنا فيه اليوم والساعة منذ اجتماعهما في باريس، فلما كان مساء يوم الخميس 21 ديسمبر الماضي ذهب الرَّئِيسُ لاستقباله في مطار الجزائر (ميزون بلانش) (1) وكان في اسقباله أيضًا جماعة من رجال الحركتين الوطنيتين، فحيوه جميعًا وهنأوه بسلامة القدوم، وتجلت الأخوة الإسلامية، فكأنه لم يكن ضيفًا حلّ ببلد غربة، وانما هو جزائري غاب ثم آب، ثم سار به موكب

_ 1) "ميزون بلانش": كلمة فرنسية معناها "الدار البيضاء"، ويسمّى الآن مطار "هواري بومدين".

الاستقبال إلى نزل (ألّيتي) ليستريح قليلًا ويغيّر بذلة السفر، ثم ذهب إلى دار الرَّئِيسُ فتناول فيها طعام العشاء وسمر إلى نصف الليل، وفي صباح الجمعة 22 زار ضريح المرحوم علي الحمّامي الذي عرفه وشهد نقل جثته من كراتشي، وتناول الافطار في ذلك اليوم في ضيافة حزب البيان، وعلى الساعة السادسة من مساء الجمعة أقامت له جمعية العلماء بمركزها حفلة شاي حضرتها طائفة من معلّمي مدارس جمعية العلماء وطائفة من رؤساء شُعَب الجمعية، وطائفة من رجال الاصلاح، وطائفة من رجال الحزبين البارزين (2)، وخطب الرَّئِيسُ فرحّب بالضيف وأفاض في تحليل أخوة الإسلام وآثارها واستخدامها في الخير العام والرحمة الشاملة، وترجمت خلاصتها للضيف بالإنكليزية، فردّ عنها بخطبة كلها تأييد ونصح للحاضرين بالرجوع إلى هداية للإسلام، وكان كلامه يترجم للحاضرين جملة جملة، فيؤثر فيهم أبلغ التأثير، وبعد الحفلة تناول العشاء في ضيافة حزب الشعب. وفي صباح السبت ألقى محاضرة باللغة الإنكليزية في قاعة سينما "دنيازاد" وكانت الدعوة باسم الأستاذ مراد كيوان صاحب مجلة "الإسلام الفتى"، وبعد أن قدّمه الأستاذ أحمد توفيق المدني بكلمة عربية والأستاذ كيوان بكلمة فرنسية قام الضيف المحاضر فألقى محاضرته جملة جملة، وكان نظام الترجمة بديعًا حقًا، فقد وقف الأستاذ كيوان عن يمين المحاضر والأستاذ المدني عن يساره، فيلقي المحاضر الجملة بالإنكيزية، فيترجمها كيوان بالفرنسية، فيترجمها توفيق إلى العربية الفصحى، فيسمع السامع ثلاث لغات في نسق واحد كأنها من لسان واحد. أما المحاضرة فكلها في تمجيد الإسلام وأخذ المثل العليا من سير رجاله، وخصّ المحاضر ثلاثة من الصحابة هم مجالي القدوة للمسلمين في خلال انفردوا بها: بلالا في الصبر والثبات، وأبا بكر في السبق إلى الحقّ مع منافاته لما شبَّ عليه وشاب، وعلي في الايثار وبيع النفس والفداء حين بات على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة وهو يعلم أنه الموت. وما أحلى ذكره لغار حراء ووصفه بأنه منارة النور. ثم استخرج من عبر التاريخ الإسلامي والتاريخ الإنساني ما بلغ به الغاية من التأثير، ثم وصف شيئًا من حالة المسلمين اليوم وصف العالِم الواسع الاطلاع، وجش مواطن الألم فأدهش، ودلّ على مطالع الأمل فأنْعَش، وكان في كل ذلك بارعًا. وبعد انتهائه وهدوء عاصفة التصفيق قام رئيس جمعية العلماء فانتزع من المحاضر ومحاضرته أمثلة ضربها للسامعين مؤكدًا على تطبيقها ومقارنتها، ومنها آثار سبق التربية الإسلامية إلى النفوس، وسبق دراسة التاريخ الإسلامي الصحيح إلى الأذهان، ونعى على

_ 2) الحزبين البارزين: هما حزب البيان، وحزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية.

مثقّفينا جهلهم بتاريخ الإسلام وقعودهم عن دراسته، ونسب زهدهم فيه إلى تنفير المدارس الابتدائية منه لأنها لا تذكر لهم من تاريخ نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - إلّا ما ينفّر النفوس البدائية منه مثل أنه كان يتيمًا، وأنه كان يرعى الغنم، وأنه كان فقيرًا، وأنه تزوج امرأة كبيرة غنية وهو شاب، وهذه الجمل إذا لم تُفسَر بمعانيها العليا فسّرتْ نفسها بمعانيها السفلى في نفوس الصغار، وهنا تنفير متعمّد. ثم خرج من ذلك إلى لزوم الأخذ بالتربية الدينية والتعاليم الدينية، والتاريخ الديني من أول مرحلة في العمر، وأن هذه التربية هي التي كوّنتْ ضيفنا وحمته وصيّرته بحيث يدخل البحر ولا يغرق. وقام بعده السيد أحمد بودة، فرحّب بالضيف باسم حزب الشعب ونوّه بالمقاومة الجزائرية، وقام بعده المحامي أحمد بومنجل فحيّا الضيف باسم حزب البيان، وختم رئيس جمعية العلماء الاحتفال بكلمة وجّهها إلى المسؤولين في لزوم التضامن والاتحاد، وإلى الحاضرين في لزوم التعاون على تحقيق هذا الاتحاد، فابتهج الحاضرون وصفقوا تصفيقًا أبلغ من التعبير عن تشوف الأمة للاتحاد وشعورها بضرر الخلاف وشرّه. وفي صباح الأحد زار الضيف- ومعه جماعة من رجال حزب الشعب- مركز جمعية العلماء للمرة الثانية، وفي المساء شيّعه إلى المطار في طريقه إلى تونس الرَّئِيسُ في جماعة من رجال المركز ورجال حزب الشعب وسافر مشيّعًا بالحفاوة، كما قدم مستقبلًا بالترحيب. هذا وقد استقبل الضيفُ في محله من النزل ممثلين لهيآت الشبان والجمعيات الفنية والرياضية، وتلقاهم سائلًا منقّبًا دارسًا. رافقته السلامة.

افتتاح مدرسة بسكرة

افتتاح مدرسة بسكرة * تلخيص الحفناوي هالي ــــــــــــــــــــــــــــــ باسم الله، ثم باسم العلم، والعروبة والإسلام، وباسم الجزائر العربية المسلمة، أفتح مدرسة التربية والتعليم الإسلامية ... إنكم ستسمعون مني كلمات من باب الحمد والشكر، ولكنها من باب الحث والازعاج، وسأصل بها مبدأ هذا العمل بنهايته، فقد بدأناه مجتمعين، وختمناه مجتمعين، ولكن كل أعمالنا فيه تعدّ شيئًا يترقب تمامه، فإذا كنتُ قاسيًا في كلامي فذلك لأن عملي معكم نسخة من عمل الطبيب: يجرح ولكنه يبرئ. وما دمنا في موقف استنهاض الهمم وشدّ العزائم، وما دمت عارفًا بأسرار لغتي وتاريخ أجدادي، فإنني أوثر أن يكون افتتاح هذا الحفل التاريخي بالشعر، كما كان أجدادنا يقيمون المنابر لشعرائهم بين السماطين، في مقامات المفاخرة والمنافرة، وفي مقامات الصلح وحمل المغارم، وفي مقامات الاستنجاد والاستنصار، فيشحذون العزائم، ويهيئون النفوس لاقتحام العظائم، لأن الشعر عندهم هو الرقية التي تسل الأضغان، وهو الوصلة التي تصل بين شعور المتكلم وشعور السامع. وقد كان الشاعر يطفئ نائرة أو يسعرها ببيت من الشعر، وقد كانت الجيوش تنتصر أو تنهزم ببيت واحد من الشعر، وكم من بطل همّ بأن يكع في المجال الضنك، فيردّه إلى الحفاظ والنخوة بيت من الشعر يذكره ... رووا أن معاوية بن أبي سفيان هم بالهزيمة يوم صفين، فما ردّته عن ذلك إلّا أبيات ابن الإِطْنابة التي يقول فيها: وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ: … مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي

_ * "البصائر"، العدد 140، و141، 5 فيفري 1951.

ورووا أن ابن هانئ الاندلسي، شاعر الزاب (وطنكم هذا) وشاعر الدولة الفاطمية، أنشد ممدوحه قصيدة من الشعر والممدوح راكب، وفوارسه حافة به، فلما بلغ إلى قوله يخاطب الجيش الراكب: مَنْ مِنْكُمُ المَلِكُ المُطَاعُ كَأَنَّهُ … تَحْتَ السَّوَابِغِ تُبَّعٌ فِي حِمْيَرِ ترجل الجيش كله، ولم يبق راكبًا إلّا الملك الممدوح، وهو جواب ليس له في الأجوبة المكتوبة ولا المنطوقة نظير. بذلك كان الشعراء في العرب يتولون قيادة النفوس، كما كان العلماء في الإسلام يتولون قيادة العقول، وبتلك القيادة استطاع الشعر أن ينشر فيهم مكارم الأخلاق ومحامد الشيم، وبذلك غدا أجدادكم العرب مضرب المثل بين الأمم في سخاء اليد وشرف النفس وكرم الطبع وقوة العزيمة. فأنا أريد أن أرجع بكم إلى ذلك الماضي الجليل، ولئن قال لنا أقوام: إنكم تعيشون في الماضى القديم، لَنقولن: إننا نعيش بالاستمداد من الماضي، والعمل للحاضر، والاستعداد للمستقبل، ولعلكم في هذا المجلس سترتفعون بالذكريات إلى الماضي الخالد، حين تستمعون من الشعر ما يمثل لكم زهيرًا والنابغة في الأوّلين، وأبا العتاهية والمتنبي في المحدثين حين تسمعون الوصية ممزوجة بالحكمة مدغمة في النصيحة معجونة بالفخر، من شاعر بسكرة، بل شاعر الجزائر بل شاعر العروبة والإسلام- ولا أحابي- محمد العيد آل خليفة. إنَّ حجب الغيب شفافة عند الشعراء، فأذكر أنني منذ سنوات كنت هنا ببسكرة أخط الخطوط الأولى من التدبير لمدرستكم التي نفتحها اليوم، وكانت المعاكسات واقفة لنا في كل مسلك، ثم عرجتُ على مدينة "باتنة" على وعد لإقامة حفلتها المدرسية، فوقف شاعرنا محمد العيد في ذلك الحفل يلقي قصيدته العينية المشهورة، يذكر فيها أعمالي ويسألني- في لهفة- عن بلده "بسكرة" وعن حظها في هذه المنقبة وهي بناء المدارس، فيقول: فهل نخلت أرض النخيل شؤونها … وهل شرعت (مشروعها) المتوقعا وها هو يتلقّى الجواب اليوم وبعد سنوات، فقد نخلت "بسكرة" شؤونها، وأصبح مشروعها واقعًا لا متوقعًا. إني أجاهركم بأنكم جهلتم قدر شاعركم، وواطأكم على هذا الجهل الجزائريون جميعًا، ولو كان محمد العيد في أمة غير الأمة الجزائرية لكان له شأن يستأثر بهوى الأنفس، وذكر يسير مسير الشمس.

(ثم التفت الأستاذ الرَّئِيسُ إلى الأستاذ الشاعر وقدّمه إلى المذياع فألقى قصيدته العامرة بالحكم ومطلعها: أراكَ- بلا جَدْوَى- تضج من الظُّلْمِ … إلى العِلْم- إنْ رُمْتَ النَّجاةَ- إلى العِلْمِ وقوطع في أثنائها عدة مرات بالتصفيق والاستعادة. وبعد انتهائه من الإلقاء عاد الأستاذ الرَّئِيسُ إلى الكلام فقال ما معناه بالكثير من ألفاظه:) الخطباء في الدنيا أنواع، وقد تعوّدتم أن تسمعوني خطيبًا فتتأثرون بما أقول أو لا تتأثرون، كاستماعكم إلى كل خطيب، وإني أقدّم لكم اليوم خطيبًا لا كالخطباء، أحيلكم على خطيب هو أفصح مني لسانًا وأوسع بيانًا وأقوى حجّةً وأبلغ تأثيرًا، أحيلكم على خطيب صامت تستمعون إليه بأعينكم لا بآذانكم، وتفهمون عنه بقلولكم لا بعواطفكم، وقد تنطق الأشياءُ وهي صوامت … وما كلّ نطق المشبرين كلامُ هذا الخطيب المفصح المبين هو هذا البناء الشامخ الباذخ الذي يحدثكم عن نفسه فيُعْرِب، ويحدثكم عن أنفسكم فيُطرِب، ويحدثكم عن الخصوم فيدمغ باطلهم ويدحض حججهم، ولئن اعتدنا كثرة الكلام وقلّة الأعمال، فمن واجبنا اليوم أن نسكت ونمتّع النفوس بلذّة العمل وثمرات العمل، وأن نعطي للعين حظّها من المتاع وللسان حظه من الراحة. إن جمعية العلماء لا تخاطبكم إلّا بهذه الألسن، فهي تبني، ثم تقول للناس: هاؤم انظروا أَعْمَالِيَهْ ... ، على هذه القاعدة سارت منذ نشأت، وبهذه القاعدة نجحت واطرد سيرها، ففي كل يوم رأي يقرّر وعزيمة تفرى ومدرسة تُشيّد، وعلى هذه التربية الصالحة قام رجالها وأنصارها يعملون ثم يقولون، فيكون لقولهم سناد من العمل يقطع الخصم، ويُسكت الألسنة الكاذبة ويضرب للأمة الأمثال، وعلى هذه القاعدة جرى الأمر هنا: فقد قام رجال الجمعية بالبناء كالمعتاد، وقدّموا أملاكهم ضمانًا للسداد، وقدّمتهم للعظائم فتقدموا بلا نكول ولا تردّد، فلمّا تم العمل دَعَوْتُكم للمساعدة والعون، دعوتكم والشاهد في يدي، والبيّنة حاضرة، والعمل نقد لا وعد، وما هذه بأوّل مدرسة تبنيها جمعية العلماء، بل سبقتها عشرات المدارس في العمالات الثلاث (وهنا عدّد الأستاذ الرَّئِيسُ المدارس الضخمة التي شيّدتها الأمة بإرشاد جمعية العلماء وتحت إشرافها، ثم قال: فهذه المدارس هي حصون الإسلام الحصينة، ومعاقل العربية المنيعة بهذا الوطن، ولولا فضل الله علينا ورحمته وحفظه لكتابه ولغة كتابه لما زكا منا عمل، ولا تحقّق لنا أمل، ولما تمّتْ هذه الأعمال العتيدة، ونحن بهذه الحالة من الضعف والهوان، وقفة الأنصار والأعوان.

إننا أسّسنا هذه المدارس بفضل الله ثم بمال الأمة، علينا الرأي والتدبير، والتخطيط والإشراف، ثم التنظيم والتعمير، وعلى الأمة ما وراء ذلك، وقد أنشأنا هذه المشاريع ثم سيّرناها ثم سايرناها وبلونا شروطها ومقتضياتها، فوجدنا أن شرط الوجوب فيها هو الإيمان بحياة الإسلام والعربية والوطنية الصادقة، وأن شروط الصحّة والكمال فيها منحصرة في المال، الذي هو قوام الأعمال. فالمال هو الشرط الأساسي لقيامها، والمال هو الشرط اللازم لحفظها واستمرار وجودها، وإنّي لَأرسلها فيكم كلمة منذرة لا مبشّرة، وهي أن مشاريعكم التي تَمَّت والتي تنتظر، كلها معرَّضة للانهيار والخراب- إنْ لم يكن ذلك اليوم فغدًا- ما لم تُصحِّحوها بما يضمن بقاءها من مستغلات مالية وأوقاف، كما حفظ أسلافكم هذه المآثر التي أبقوها لكم بالمستغلات الموقوفة، ولكنهم احتاطوا لزمنهم المؤمن بما وسعه إمكانهم، فاحتاطوا أنتم لزمنكم الفاجر بما يسعه إمكانكم، ولَأنتم في زَمَن سافر عن فضائله ورذائله، فأنتم أقدر على الاحتياط منهم. وكما يحتاج ما تغرسونه بأيديكم إلى التعَهُّد بالسقي والإصلاح، يحتاج ما تبنونه بأيديكم إلى التعَهُّدِ بالحفظ والرعاية، ومرجع ذلك كله إلى المال، وان الثمار التي تأكلونها من غروسكم اليوم قد دفعتم أثمانها مقدمة منذ سنوات، فكأنكم أقرضتم الأرض، فردّت القرض، ولا تزالون معها كل يوم في قرض. كذلك المدارس، كذلك المدارس! بهذا المال النزر الذي يتجمّع من الغني والفقير والتاجر والفلّاح والعامل، ومن هذا التعاون الأخوي الإسلامي، بنيْنا هذه المدارس التي تخلد على الدهر، وبمثل هذه المقادير الموزعة التي لا تضرّ أحدًا وتنفع كل أحد، سنقيم بازاء هذه المدارس مستغلات تحفظ دوامها وتصونها من الضياع ... مدّوا أيديكم لهذا المشروع واسخوا فيه، ولا تضِنُّوا عليه بالغزيز فإنه أعزّ، ولا بالنفيس إنه أنفس، ولا تنفقوا فيه من الفضول بل من الصميم، وإنني حين أدعوكم اليوم إلى البذل فيه لا أدعوكم لتخليص ما تمّ منه، فهذا أقلّ من هممكم، وهذا جناح قد تمّ ونبتَتْ خوافيه وطالت قوادمه وأصبح يدعو لنفسه بنفسه، وإنما أدعوكم لتكميل الجناح الناقص لطائرنا الميمون، وقد نبهكم إلى ذك شاعرنا محمد العيد بقوله: وطير بديع لو يضم جناحه … إليه لحاز الحسن أجمع بالضم (1) وإني لآخذ عليه سكوته عن رأس هذا الطائر، ورأسه هو بيوت تشاد لإسكان المدير والمعلّمين، فإذا أتممتم الجناح الثاني، وبنيتم الطوابق العلوية وبنيتم بيوت السكنى،

_ 1) بشير الشاعر إلى أن الذي تم بناؤه إنما هو جناح واحد، ويقابله جناح آخر لم يتم، وقد أبدع في التمثيل بالطير، وفي ذكر الجناحين مع لفظ الضم احسان في التصرف، وتصوير شعرى جميل.

أصبحت مدرستكم ذات عشرين قسمًا وقاعة للمحاضرات، وأصبحتم بها جديرين بالفخر والشكر والثناء العاطر وتسجيل التاريخ. ما أبرك هذه المدارس على الجزائر! وما أسعد الجزائر بها! فقد حركتها إليها يدٌ واحدة ودعاها إليها صوت واحد، فاجتمعتْ وتقاربتْ وتعارفتْ بعد التناكر وإنّي لَأَرى في هذا المحشر وجُوهًا من مدن التلول وقراها، ووجوهًا من قرى الصحراء كلها جمعها داعي العلم ليوم العلم، ولو شهدتم احتفال مدرسة الفلاح بوهران واحتفالات "الغزوات" و"ندرومة" و"الحنايا" و"بني مصاف" بمدارسها، لرأيتم ما هو أعجب من اجتماع الأمة الوهرانية في صعيد واحد استجابةً لصوت العلم. إن هذا اليوم في هذه البلدة خط فاصل بين الماضي المظلم والآتي المشرق، وفيه تخْطون الخطوة الأولى للمستقبل السعيد، وفيه تَخُطُّون الكلمة الأولى من تاريخكم الجديد، وإن هذا اليوم لا يقنع منكم باليسير، بل بما يمحو زلة التقصير. إن كنائن "الجيوب" ككنائن الغيوب، هذه يجليها عالم الغيب لمواقيتها، وتلك تجليها الهمم البعيدة الغور وهذا اليوم بعض مواقيتها، وان "الاستطاعة" كلمة لا نقبل تفسيرها من المستطيع، بل تُفَسِّرُها آثار نعمة الله، وقد قال شاعركم منذ الساعة كلمة قطع عليكم بها كل المعاذير، وهي قوله: ولا تجعلوا الآفات للشحّ حجّة. والآفات التي تتعلّلون بها هي نقص الثمر، وافساد المطر، وكساد السوق وقلّة الموسوق، وهي أعذار، بيض الوجوه عليها أعين سود، كما قال الشاعر الأوّل. في نفض الجيوب العامرة، رحض للعيوب الغامرة، فاعرفوا على ما أنتم مقدمون، وتوكَّلوا على الله متعاونين على البرّ والتقوى والله معكم.

فرية غريبة

فرية غريبة * في غمرة الأخبار المتعلقة بالمكيدة المدبّرة التي سمّوها حادثة الجلاوي مع جلالة سلطان - المغرب، وجدت بعض الجهات السياسية منفذًا لفتنة تفتن بها الناس وتلهيهم بحكايتها والتحدث بها عن الانتصار لصاحب الحق في تلك المكيدة، ولتغطي بها الفضيحة التي هي صائرة إليها. وهذه الفتنة هي (الخلافة الإسلامية). فذكرتها بعض الصحف الفرنسية هنا بكلام مضطرب، ما تعوّدنا أن نلتفت إلى مثله، لو كان صحيح السند، مستقيم المتن، فكيف به وهو مضطرب الأجزاء، مجهول النسبة، ثم نقلته بعض الجرائد العربية المغربية وعلقت عليه. وقد عنانا من أمر هذه الفرية شيء واحد، وهو ذكر جمعية العلماء مقرونة برأي يقل عن الكذب، ويجلّ عنه الصدق. ونحن نخشى- إن زدنا على هذه الكلمات- أن نكون قد أبلغنا صاحب تلك الفرية بعض قصده في الفتنة والإلهاء، وإنما نقول: إن جمعية العلماء لا تدخل في هذه الأمور، لاعتقادها أن المسلمين لا يستفيدون منها- بعد الحالة التي وصلوا إليها- إلا كما يستفيدون من وقف الشيخ أبي مدين بعد أن ضاعت فلسطين وضاعت أوقاف الإسلام كلها ...

_ * "البصائر"، العدد 143، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 19 فيفري 1951م.

حركة الإسلام في أوروبا

حركة الإسلام في أوروبا * الإسلام روح تجري، ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين العقول وبين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى. لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل إفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوروبا مع الفتوحات العثمانية، كما دخل غربها في القديم مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية. وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان، من غير استئذان. وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكّنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراهًا على الدين. وإنما مكّنت للإسلام طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفطر والأذواق والعقول. ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوّة والعزّة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرّقوه شيعًا ومذاهب، فضعف تأثّرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نرى ونسمع. لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغيّر ما به فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهمها الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي وإصابة الصواب ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة، تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.

_ * "البصائر"، العدد 147، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 19 مارس 1951م.

ولو كان المسلم مسلمًا حقّا لعرف نفسه، ولو عرف نفسه لعرف أخاه، ولو عرف أخاه لكان قوّيًا به في المعنى، كثيرًا به في المادة. ويوم نصل إلى هذه الدرجة نكون قد أعدنا تاريخ الإسلام من جديد. ونكون قد أضفنا إلى هذا العنصر المادي العصري الفوار عنصرًا روحانيًا فوارًا يلطف من حدّته ويخفف من شدته، فيتكوّن منهما مزاج صالح يصلح عليه الكون كله، لا المسلمون وحدهم. إنك لترى للمسلمين وجودًا في كل قطر، وتسمع عنهم نبأ في كل ناحية، ولكنهم متفرقون في زمن أصبح فيه التكتل شرطًا للحياة، ومتباعدون في وقت أصبح فيه التقارب أساسًا للقوّة، ومتناكرون في عصر أصبح فيه التعارف أقوى وسائل التعاون. ومنصرفون عن الجامعة الإسلامية الواسعة إلى جوامع أخرى ضيقة الآفاق من جنسية وإقليمية في هذا الزمن الذي يتداعى فيه أتباع الأديان القديمة، ومعتنقو النحل الحديثة، إلى التجمع حول المبادئ الروحية أو الفكرية. ... وهناك في الأقاصي من شمالي أوروبا طوائف من إخواننا المسلمين المتحدرين من السلائل التركية والصقلبية التي امتزجت في شبه جريرة البلقان، ثم مدّت مدّها إلى النمسا وهنغاريا، ثم نزحت منها مجاميع إلى الشمال، فكان من بقاياها هذه المجموعة المتوطنة في (فنلندا). ولا نشكّ أن إخواننا هؤلاء قد اصطبغوا بصبغة ذلك الوطن في حياتهم الدنيوية وطرق معايشهم، ولا نشكّ أنهم أخذوا فيها بنظام العصر وقوّته وجدّه، ولكنهم في حياتهم الدينية، مستضعفون محتاجون إلى إمداد من إخوانهم المسلمين في جميع الأقطار، تقوّي ضعفهم المادي وتكمل نقصهم العلمي، وتشعرهم بالعزة والكرامة وترفع رؤوسهم بين مواطنيهم. ويظهر للقارئ من كلمة الأستاذ محمد فهمي عوض المنشورة في العدد الماضي ومن الصور التي ننشرها اليوم، ومن الرسالة المفصلة التي كتبها إلينا الشيخ حبيب الرحمان شاكر إمام المسلمين في فنلندا، يظهر من ذلك كله ما هم في حاجة إليه، فليس لهم مسجد جامع يؤدّون فيه الشعائر الدينية، وإنما يصلّون الجمعة في قاعة سينما يكترونها لساعات، وليس عندهم من الكتب الدينية العربية شيء إلا المصاحف، وإنما يتمتعون بشيئين مهما تكن قيمتهما غالية فإنهما لا تغنيان عن المفقود. وهما: العقيدة المتينة، والحرية التامة. وجمعية العلماء تبتهج بهذه الصلة الجديدة بإخواننا مسلمي فنلندا، وتصل بهذه الكلمة وشائج القربى الدينية، وتحرّك بها سواكن همم المسلمين في الشرق والغرب ليلتفتوا إلى هذه الناحية من جسمهم فيداووا علّتها، ويسدّوا خلتها، ويربحوا بها ما يزيد في عددهم، وإن هذا لأقل ما يوجبه الإسلام على المسلم.

حركة جمعية العلماء بباريس

حركة جمعية العلماء بباريس * الأستاذ الجليل الشيخ العربي التبسي، عالم القطر ومفتيه، وداعي الرشد ومؤتيه، كما يقول ابن الخطيب في ابن رشد، وهو يمتاز بشعور حاد ملتهب، واهتمام عام بشؤون المسلمين وحالتهم الحاضرة. تحدّثه عن غيرها، وتبعد به عنها ما شئت، فإذا هو منجذب إليها بأدنى مناسبة، ومسترسل في الحديث عنها إلى غير حدّ، وسائق جليسه إلى الخوض فيها، وهو وصاف ماهر لأدواء المسلمين وأدويتها، يفيض كالسيل إذا أفاض فيها. كانت إقامة الأستاذ التبسي في باريس أواخر السنة الفارطة خيرًا وبركة على الجالية الجزائرية فيها، فقد كان وهو في الجزائر- وما زال- يحمل همّا مضاعفًا من سوء حالتها الدينية والاجتماعية، فلما سافر إلى باريس، ورأى بعينه واطلع على حقيقة الحال، وتصوّر مآل تلك الجالية العظيمة التي تزوجت هناك ونسلت، هاله أن تكون عواقب الآباء والأبناء نسيان الإسلام والعربية العامية فضلًا عن العلمية، والانسلاخ منهما بالتدريج، إن لم تتداركهم جمعية العلماء بالإنقاذ، لأنها هي المسؤولة وحدها عن إنقاذهم، وفي باريس وحدها ما يقرب من مائة وخمسين ألف عامل جزائري. وقد ولد المتزوجون منهم نحوًا من خمسة عشر ألف ولد، وهذا العدد يكون جيشًا كاملًا إن خسرته الجزائر لأسباب قاهرة، فحرام أن يخسره الإسلام والعروبة. فكّرت جمعية العلماء في أداء هذا الواجب لإخواننا المهاجرين إلى فرنسا، مرّات، بل لم تبرح مفكرة فيه منذ نشأت، وقد باشرته بالفعل في بعض الأوقات بما وسعه إمكانها، وقام الأستاذ الورتيلاني في هذا السبيل المقام المحمود لسنوات قبل الحرب الأخيرة وأمدّته الجمعية بطائفة من المعلمين والمحاضرين، وكان عدد الجالية إذ ذاك أقل، وكان الخطر

_ * "البصائر"، العدد 148، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 26 مارس 1951م. (بدون إمضاء).

المتوغ أخف، أما الآن فقد تضاعف العدد، وتفاقم الخطر، ولا دافع له إلا جهد جبار منظم تقوده جمعية العلماء، ويعاون عليه كلّ مسلم صحيح الإسلام، صادق الوطنية، صحيح الإدراك والتصور للحالة وعواقبها، فهناك أولاد بلغوا الحلم، وهم لا يعرفون شيئًا عن الإسلام، ولا كلمة عن العربية، وهناك بنات بلغن حد التزوج، وهن ينتظرن ما يُهيِّئُه القدر لهن من حظ، وقد شهدنا بالاختبار أن كثيرًا من الأمهات صالحات في الحياة، معينات على تدبيرها، وهن لا يمانعن في تربية أولادهن تربية دينية، إذا وجد من يقوم بها، وهل يقوم بها الآباء؟ وهم أنفسهم في حاجة إلى هذا النوع من التربية. إن هذا الواجب مؤكد على جمعية العلماء من حيث الإرشاد والتوجيه والتعليم، وعلى الجالية الجزائرية بما فيها من هيئات نقابية وحزبية من حيث العون المادي، كما هو واقع في الجزائر، على أن يبقى مال فرنسا في فرنسا، تسير به الحركة على أيدي هيئات تتكوّن من الجالية لهذا الغرض. وقد قام الأستاذ التبسي بأول واجب في القضية، وهو لفت الأذهان إلى هذا، وتحضير النظم اللازمة، وتكوين الهيئات العاملة، وبلغ من ذلك كله الغاية، ولم يبق إلا العمل الإيجابي، وهو ما بدأنا فيه منذ الآن. ... والأستاذ عبد الرحمان اليعلاوي رجل كله عقل، يظهر أثر العقل في أقواله المتزنة، ويظهر في أعماله المنظمة، ويظهر في كتابته الأدبية والسياسية، ويظهر في أحواله المنزلية الخاصة، ويظهر في علائقه بالناس، فهو يواصل بعقل، ويقاطع بعقل، ويحبّ هونًا، ويبغض هونًا، يجادلك في العلم أو في السياسة أو في الاجتماع، فيكون عقله أكبر أعوانه عليك، وأمضى أدواته في الإقناع أو الإلزام، وفي الدفاع وفي الهجوم. جزائري النسب، لم تزل بقايا أسرته في قرية من ضواحي قنزات قاعدة بني يعلى، ومن هنا جاءت نسبته التي عرف بها، تونسي المولد في بلد سوق الأربعاء، وبها أقاربه الأدنون، زيتوني النشأة الروحية والعلمية، درس في الزيتونة إلى أعلى درجاتها إذ ذاك، وهي درجة (التطويع) وصاحب نهضة الشباب في عنفوانها، وكان أحد العاملين المعدودين لتغذيتها، وشارك في الحركة الدستورية لأول عهدها، فضاقت الحكومة ذرعًا بنشاطه فيها فأبعدته إلى القطر الجزائري بدعوى أنه جزائري الأصل، فأقام بمدينة عنابة نحوًا من ثمانية أعوام، يعلّم ويُلقي دروس الوعظ والإرشاد، وكانت الإرهاصات بظهور جمعية العلماء تتتابع، فكانت دروسه أحدها لاشتمالها على المبادئ الإصلاحية، ثم أظلّه تكوينها وهو في "عنابة"، فهلّل

لها ونافح عن مبادئها بلسانه وقلمه، ولم يلبث أن جاوز البحر إلى فرنسا في حدود سنة 1932، واستقرّ بباريس يزاول عملًا كتابيًا شريفًا، وهو عصامي في اللغة الفرنساوية اعتمد في تعلمها على مواهبه وذكائه حتى أتقنها تكلمًا وكتابة، وهو يترجم عنها وإليها كأحسن ما يترجم الذين حذقوها في مدارسها من الصغر. يمتاز الأستاذ اليعلاوي بوفور الحظ من خلال وفضائل نزرت حظوظ أقرانه منها، رأسها الصدق، والوفاء، والإخلاص، وبذل النصيحة والاعتراف بالفضل لأهله، والمسارعة إلى العون، ومن وفائه لإخوانه الذين شاركهم في الطلب والتحصيل بالزيتونة من جزائريين وتونسيين، أنه محتفظ بودّهم، محافظ على عهدهم، فلا يذكرهم إلا بأحسن ما يعلمه عنهم، ويتعهدهم بالسؤال من كل وارد، والتحية مع كل صادر، ومن إخلاصه تفانيه في نشر مبادئ جمعية العلماء، وإنفاق الفضل من أوقاته في التبشير بها والدعوة إليها. يشغل الأستاذ اليعلاوي من وظائف جمعية العلماء رئاسة شعبتها بباريس منذ سنين وهو معتمدها الوحيد ومرجعها في كل ما لها من علائق وشؤون وراء البحر، والجمعية تثق الثقة التامة برأيه وأمانته، كما تثق بعلمه وعقيدته، وتركن إلى عقله وأناته، كما تركن إلى صدقه وإخلاصه، وتفخر بأن يكون مثله في استكمال التجارب وسعة الاطلاع على رأس حركتها في فرنسا. والأستاذ اليعلاوي- مع ذلك كله- دائب الحركة، جمّ النشاط، دقيق النظام، منسّق المواعيد، لا تلمّ الفوضى بساحته، ولا تضيّع حزمه بساطة المظهر وهدوء الطبع. وهو لذلك، يتمتع بالاحترام من كل من عرفه، وبسمعة عاطرة هي حلية المسامع والأفواه. وقد شارك الأستاذ التبسي في كل خطوة خطاها في تمهيد السبيل لتنظيم حركة التعليم والإرشاد بباريس وضواحيها، ونظم الاجتماعات وعلا صوته فيها، بارك الله فيه وأعانه، وسدّد خطاه. ... والشيخ سعيد البابي واسطة الطبقات الوسطى من تلامذة الأستاذ الرَّئِيسُ المرحوم عبد الحميد بن باديس، الذين ربّاهم على هدي القرآن، وأعدّهم لخدمة هذه الأمّة، وراضهم على الصبر وتحمّل المكاره في سبيلها، وسلّحهم بالفضائل الإسلامية لتأخذ الأمّة عنهم بالقدوة في أعمالهم ما يحملها على التصديق بأقوالهم، طريقة في التربية المثلى كان- رحمه الله- يأخذ بها تلامذته، حتى إذا عاقهم الزمن عن أن يصدروا عنه بعلم غزير، صدروا عنه بفكر نيّر وإرادة قوية وعزيمة شديدة، ومنهج سديد للعمل.

والشيخ السعيد مثال نادر في التضحية ونكران الذات، يتصف بكل ما يتصف به الجندي المخلص المطيع في جيش جمعية العلماء فلا يحفظ عنه أنه كلّف بأمر من شؤونها فكانت له فيه كبوة أو تردّد، بل كان يمضي فيه مضي السهم، لا يلوي على مصلحة خاصة، بل بلونا منه أنه يكلف بعمل ما من أعمال الجمعية، وهو في حالة تشفع فيها المعاذير من مرض قريب أو موته فلا يتلكّأ ولا يعتذر. باشر التعليم مع العاملين في ميدانه فظفر باحترام الأبناء وثقة الآباء، وتكشف عن صبر وحزم وقناعة ودؤب على العمل، قلّ أن تراها مجموعة في غيره؟ وهو الآن مدير لمدرسة التربية والتعليم ببلدة (باتنه)، لا تراه إلا عاملًا في المدرسة، أو عاملًا لجمعية المدرسة، يقوم بما تعجز عنه الجماعة من الأعباء الثقيلة. عمل قبيل الحرب الأخيرة في حركة جمعية العلماء بباريس معلّمًا في أحد نواديها. فلما عزمت الجمعية في هذه الأيام على تجديد تلك الحركة، اختارته ليكون عونًا تشدّ به عضد الأستاذ اليعلاوي في هذا الطور الأول، طور التمهيد والتحضير فيتفقد الفروع التابعة للشعبة المركزية داعية وواعظًا، حتى إذا تمّ التمهيد عزّزته الجمعية بثان وثالث وبكل ما تتطلبه الحركة، فهو طليعة يتبعها أمداد، ورائد تعقبه رواد.

الدكتور عبد الكريم جرمانوس

الدكتور عبد الكريم جرمانوس * الدكتور عبد الكريم جرمانوس، مسلم مجري الأرومة، شرقي النزعة، نشأ جبار الذهن، سليم الفطرة، نيّر الفكر، فحدت به نزعته الشرقية إلى ثعلّم أمهات لغات الشرق الإسلامي: التركية والفارسية والعربية، وتعاونت هذه اللغات المتشابكة الأدب والفلسفة، المترابطة التاريخ والمواطن على تكوينه تكوينا شرقيًا جديدًا، ووجّهته بطبيعتها إلى دراسة الإسلام في أصوله الأولى، وانضاف إليها عامل آخر هو فطرته السليمة وفكره النير، فهدته إلى الإسلام، فأسلم إسلامًا صحيحًا مكينًا مبنيًا على الاقتناع الموصل إلى اليقين، والدراسة العميقة المفضية إلى الحق، لا ذلك الإسلام المبني على التقليد المريب، أو على الحيل السياسية المخادعة. فالدكتور عبد الكريم جرمانوس مستشرق من ذلك الطراز الذي ينفذ إلى لباب اللغات والمبادئ فيتأثّر بها تأثرًا وجدانيًا صادقًا، لا من هذا الطراز الذي عرفنا بعض أفراده ذوي الملكات القاصرة في اللغات الشرقية، والأنظار السطحية فيها، فغاية هؤلاء، الاتجار بالاستشراق وجعله ذريعة لخدمة ركاب السياسيين وسلّمًا للوصول إلى الوظائف. ما كنا نجهل هذا الأخ المسلم، والمستشرق الصادق، قبل اليوم، فقد عرفناه من مقالاته التي حرّرها بالعربية الفصحى، وقرأنا عن مؤلفاته في كثير من المجلات العربية، وقدرنا من ذلك كله قيمته ووزنه. وقد اتصل بنا في هذه الأيام، اتصال المسلم بأخيه المسلم، بهذه الرسالة القيّمة التي ننشرها عقب هذا الكلام، فعرفنا فيها بنفسه وبالبواعث الأولى التي حبّبت إليه الإسلام،

_ * "البصائر"، العدد 148، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 26 مارس 1951م.

وببعض نظراته فيه، وبشيء عن نشأة الإسلام في المجر، وشكا شكوى المسلم الغيور على دينه من عوائق انتشار الإسلام في وطنه (هنغاريا). ونحن نغتبط بهذه الرسالة، ونعدّها عامل اتصال بين الأجزاء المتباعدة من أهل هذا الدين، ونفحة من نفحات الإسلام العاطرة في أوروبا، ونوجّه إلى أخينا عبد الكريم- على بعد الدار- ثناءً خالصًا على هذه التحفة اللطيفة وتحيات تحمل من الربيع روحه وريحانه، ومن الشباب اقتباله وريعانه (1).

_ 1) نص الرسالة منشور بنفس العدد من "البصائر".

نغمة شاذة

نغمة شاذة * كتب الأستاذ "أبو محمد" مقالاته المطولة في المحنة التي نستحي أن نسميها محنة. المغرب الأقصى وملكه وشعبه، لأنها محنتنا جميعًا، ولأنها امتحان لرجولتنا جميعًا، وغمز لكرامتنا وإبائنا جميعًا، فمهما كتبنا فيها وأطلنا، ومهما شرحنا من أسبابها وغاياتها وفصلنا، ومهما انتصرنا فيها لإخواننا المظلومين ودافعنا عنهم- نعد أنفسنا مقصرين عن غاية الانتصار والدفاع، وان منطقنا الصحيح في هذه القضية أن كل مسلم لم يتحرك له لسان ولا قلم فيها- متهم في إسلامه، وأن كل عربي لم يمتعض لها- ضنين في نسبه، وأن كل وطني لم ينتصر لإخوانه الوطنيين المقصودين بالشر فيها- كاذب في دعواه، وبسبب التأثر بهذه القاعدة مس أبو محمد- في ما مس- حزب الشورى والاستقلال، وواخذه بمواقف نظر إليها بغير العين التي ينظر بها الحزب، ولأبي محمد رأيه وفكره وقلمه ومقامه في السياسة، ولكن كثيرًا من إخواننا رجال الحزب تألموا لذلك فتظلموا، وكتبوا إلينا يستعدوننا على أبي محمد، ويستنكرون شدته على الحزب ويعدونه قد كتب من غير تثبت. وكتب إلينا جماعة أخرى من رجال الحزب ينكرون على الأستاذ الوزاني تصريحاته في الندوة الصحافية خاصة، وكل هذه الرسائل- وان اختلفت في أسلوب الاحتجاج- مهذبة مؤدبة اللهجة، مجمعة على إجلال "البصائر"، والتنويه بشرف مواقفها وقوتها في الدفاع، ومن بين تلك الرسائل رسالة من زعيم الحزب الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني، خاطب فيها أبا محمد مخاطبة السياسي الأديب للسياسي الأديب، وظهر فيها مظهر الكيس المرتاض على آداب السلوك. و"البصائر" ترحب بهذه الرسائل، ولا يضيق صدرها بهذا الاحتجاج، ما دام دفاعًا خالصًا من إخوان لنا نحبهم جميعًا ولا نفرق بين أحد منهم، ولكنها لا ترضى أبدًا- عن

_ * "البصائر"، العدد 149، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 أفريل 1951. (بدون إمضاء).

رسالة واحدة ناشزة عن أخواتها، نابية كل النبو عن الأدب، كتبها أحد المحتجين، وأطال فعثر، وهو رجل من فاس، يدعى: التهامي ... واتهم فيها أبا محمد في صراحة، بأنه يبيع قلمه ... واتهمت "البصائر" بأنها اشتريت وما كفاه ذلك الافك حثى صرح بالمشتري. كبرت كلمة ينطق بها هذا المغفل، ويجري بها قلمه. "البصائر" التي جاهدت في ميدانين، فصارعت دجاجلة الدين حتى صرعتهم، وقارعت فراعنة السياسة، وقاومت وحدها قوى الشر مجتمعة- تبيع شرف الجهاد بثمن، وتدافع عن المجاهدين بأجرة. إن "البصائر" في دفاعها هذا إنما تدافع عن نفسها وعن دينها وعن قومها، وهل يتهم المدافع عن نفسه وعن دينه وقومه، بمثل هذه التهمة الآفكة؟ ولو كانت "البصائر" تتنزل للمطاعم الخبيثة، لباعت الجانب السلبي فقط- وهو السكوت- بالثمن الغالي، وصاحبنا التهامي المغفل ... يعرف الأيدي التي تملك ذلك الثمن، فهل سكتت؟ قولوا لهذا المغفل: ان "البصائر" وقفت موقف الدفاع عن إخوان أنت منهم ولكنك أبيت أن تكون منهم، فاخرج وحدك صاغرًا، وإنها لا تريد منك ولا منهم جزاء ولا شكورًا، لأنها قامت بواجب شكره وأجره عند الله، وبيعه ليس مما أحل الله ... دافعت عن ملك مظلوم، وشعب مغبون، وحزب مقصود بالشر والبلاء، ووطن مهدد بالضياع والابتلاع، وفي هذا كله دفاع عنك لو كنت تعقل، ولو كان الحزب الذي "تدعي" الانتماء إليه مقصودًا بالانتقام، مصرحًا باسمه في هذا الميدان- لوجدتنا سراعًا إلى نصرته، خفافًا إلى نجدته، ولرأيت "البصائر" تقذف بالحمم لا بالكلم، في الدفاع عنه. لا عفا الله عنك يا تهامي ... لكأن فيك- والله- شعبة من سميك (1) - ... ولو كنت عاشر عشرة ممن يحمل هذا الإسم، وينطق بهذا الإثم- لاطردت القاعدة، وتواتر القياس، وهجر هذا الإسم، كما هجر "عبد العزى" في الإسلام، وانتقل الناس بأبنائهم من تهامة إلى نجران ... إننا لا نعلم منزلتك في النباهة، ودرجتك في الحزب، فإن كنت تستحق هذا العتاب فهو تأديب لك، وإن كنت لا تستحقه لخمول قدرك، وخسوف بدرك، فأرجعه إلينا مشكورًا، واردده علينا معذورًا.

_ 1) شعبة من سميّك: المقصود بسميه هو التهامي الجلاوي الذي وضعته فرنسا على عرش المغرب عندما نفت الملك محمد الخامس.

صحف الشرق العربي

صحف الشرق العربي * تصل إلى "البصائر" باسم المبادلة الصحفية أعداد متفرّقة من مجلات الشرق العربي وجرائده، فيصل إليها العدد الرابع مثلًا، ولا يصل ما قبله وما بعده، ثم السابع وهكذا، ويكون هذا الخلل سببًا في حرماننا من الاطلاع على أخبار الشرق متسلسلة، وتفوتنا فوائد علمية عظيمة نحن في أشدّ الحاجة إليها، وتفوتنا تفاصيل الأحداث التي تهمّنا والأحاديث التي تتعلّق بنا، ويفوتنا الاطلاع على سير الحركة العلمية والكتب القديمة والجديدة التي تُنشر، وتفوتنا أخبار وفيات العظماء من العلماء والأدباء، وبذلك كله أصبح اتصالنا بالشرق متقطعًا قليل الفائدة. والسبب في هذا الخلل يرجع- في الأغلب الأعم- إلى إدارة البريد في الجزائر، ويرجع- في القليل النادر- إلى زملائنا أصحاب الجرائد الذين يقتصرون على كتابة العنوان بالعربية، ولا يكتبونه بالحروف الافرنجية غفلة منهم عن الواقع أو جهلًا به، وقد نبّهناهم إلى ذلك في "البصائر"، والواقع هو أن إدارة البريد في الجزائر مصابة بمس استعماري كأخواتها وبنات عمها من الإدارات الحكومية، فلا تعترف بالعربية، ولا تقيم لها وزنًا، ولا تشترط في موزّعيها أن تكون لهم معرفة بالحروف العربية، وكان الواجب أن تفعل ذلك، أو تضع- على الأقل- في إدارة التوزيع مترجمًا يترجم العناوين، لأن ما يرد عليها بالعربية ليس بالشيء القليل، وما إدارة البريد إلا مؤسسة تجارية، وما المتواصلون بواسطتها إلا زبائنها وعملاؤها يأخذون منها ويعطون، وينفعونها وينتفعون، ومن أصول التجارة، الأمانة والثقة والحرص على إرضاء العميل.

_ * "البصائر"، العدد 149، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 أفريل 1951. (بدون إمضاء).

فإلى إدارة البريد الجزائري نوجّه هذه الكلمة المنصفة، راجين أن تسدّ هذا الخلل بإقامة مترجم رسمي للعربية في إدارتها، حرصًا على أداء الأمانات إلى أهلها، وأن لا تجاري السياسة في إهمال العربية والاستخفاف بها، وأن تتذكر المصالح التي تفوّتها علينا بهذا الضياع، والأموال التي تضيع على أصحاب الجرائد والمجلات الذين يبادلوننا. وننبّه إدارة البريد إلى أنه كثيرًا ما تأتينا أشياء ليست لنا، فندفعها إلى أصحابها أو نردّها إلى البريد، ونعلم من ذلك أن كثيرًا مما هو لنا يُدفع إلى غيرنا، والسبب في ذلك هو أن عنوانها مكتوب بالعربية وإذا كانت الأمانة تحتّم علينا أن نردّ ما ليس لنا، فمن يضمن لنا أن غيرنا يفعل مثل فعلنا؟

الكتب المهداة إلى "البصائر"

الكتب المهداة إلى "البصائر" * أُهديت إلينا في السنوات الماضية عدة كتب من مؤلفيها، أو من ناشريها، بعضها باسمنا، وبعضها باسم "البصائر"؛ وإهداء كتاب إلى صاحب جريدة معناه في عُرف الناس طلب كلمة عن الكتاب، كأنها إعلان عنه، وهذه الكلمة يريدها صاحب الكتاب- دائمًا- كلمة خير تُلفت قرّاء الصحيفة إليه وإلى كتابه، ويريدها صاحب الصحيفة كلمة حقّ وإنصاف، إمّا للكتاب وإما عليه، ويريدها القراء تصويرًا حقيقيًا لا غشّ فيه، ويقف صاحب الجريدة بين اثنين، أحقهما بالارضاء القارئ؟ هذا إذا كان صاحب الجريدة أهلًا لأن يقول في الكتب هذا مفيد، وهذا غير مفيد؛ فإن لم يكن من أهل ذلك فحسبه الشكر على الهدية، وتكون معاملة بين اثنين: أهدى أحدهما كتابًا، فتقاضى الشكر ثوابًا، وأخذ الثاني هدية، فكافأ عنها بالثناء، ولا حظَّ للقارئ في شي من هذا. و"البصائر" لم تقصر عن الرتبة الأولى، ولكنها لم ترزق من الأحوال المساعدة، والأقلام الناقدة، ما يحقّق رغبتها في أن تكون عارضة لهذه البضائع بقيمتها العلمية من غير غش ولا تدليس، ومرشدة لمواقع الإحسان والإجادة فيها بلا بخس للكتاب ولا تغرير لقارئه. على أن شبابنا في حاجة إلى قراءة القديم النافع، والجديد العامر، وفي حاجة إلى الإرشاد الخالص إليهما؟ ومن حقهم علينا أن نرشدهم إلى تنظيم القراءة، وأن نبيّن لهم ما يُقرأ وما لا يُقرأ لأن أوقاتهم محدودة، ولأن ... دراهمهم معدودة ... وصاحب "البصائر" مستغرق الأوقات في الأعمال العامة، وأبناؤه الكتّاب المتأهلون لهذا متفرقون في مراكز التعليم المتباعدة، فلم يبق إلا أن نسكت كما سكتنا، وهو ما لا تسعه

_ * "البصائر"، العدد 149، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 أفريل 1951، (بدون إمضاء).

المروءة، ونحن في خجل من ماضيه، فكيف نقرّه أو نقيم عليه، أو نتنزّل إلى الرتبة الدنيا، فنكتفي بالشكر وهو أيسر الجزاء. وقد كنا وضعنا الكتب المهداة على حدة، انتظارًا لفرصة قراءتها، فالكتابة عليها، فلم تتح الشواغل لنا فرصة، وسننشر في المستقبل على التوالي بعض تلك الهدايا، ومعذرة إلى أصحابها الأفاضل عما وراء ذلك.

اتحاد الأحزاب بالمغرب الأقصى

اتحاد الأحزاب بالمغرب الأقصى * (بيان موجه من أحزاب المغرب إلى الرأي العام المغربي خاصة والرأي العام العربي عامة) ــــــــــــــــــــــــــــــ يسر أحزاب الاستقلال، الشورى والاستقلال، الإصلاح، الوحدة المغربية أن تعلن للشعب المغربي الكريم خاصة وللأمم العربية عامة أنها رأت، وقد بدأت قضية المغرب تأخذ مكانتها من الاهتمام الدولي وسيرها إلى الأمم المتحدة، ضرورة توحيد الصفوف وجمع الكلمة، فاجتمع لهذه الغاية السادة: علال الفاسي، وعبد الخالق الطريس، والمكي الناصري، وأحمد بن سودة نائبًا عن محمد حسن الوزاني لعدم تمكنه من الحضور عند الشيخ المحترم محمود بك أبي الفتح (عضو مجلس الشيوخ المصري) ووقعوا ميثاقًا وطنيًا قوميًا، بحضور بعثة نقابة الصحافة المصرية ومندوب الجامعة العربية، وقد بني هذا الميثاق على ما يأتي: أولًا: أن تعمل الأحزاب جميعًا لاستقلال المغرب استقلالًا تامًا فلا يقبل أي حزب مبدأ الانخراط في الوحدة الفرنسية، إنما تقوم العلاقات بين المغرب المستقل وبين فرنسا على أساس معاهدة جديدة. ثانيًا: إنه ليس لواحد منهم غاية يسعى إليها قبل الاستقلال. ثالثًا: لا مفاوضة قبل إعلان الاستقلال. رابعًا: لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر. خامسًا: كل عمل يؤيد توجيهات الإقامة العامة ضد جلالة الملك محمد الخامس يعتبر خرقًا لمبادئ الميثاق.

_ * "البصائر"، العدد 151، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 16 أفريل 1951 م، (بدون إمضاء).

سادسًا: تعاون مراكش مع الجامعة العربية وفي دائرتها قبل الاستقلال وبعده واجب قومي. سابعًا: يلتزم الموقعون ألا يقبلوا تركيب جبهة مع الحزب الشيوعي المغربي. ثامنًا: تؤسس الأحزاب الموقعة لجنة اتصال وتشاور مع الاحتفاظ لكل حزب بحريته ضمن نظام هذا الميثاق. والأحزاب الموقعة على هذا الميثاق تنتهز هذه الفرصة السعيدة لتعبر لسعادة الشيخ محمود أبي الفتح بك عن شكرها وامتنانها للمجهودات التي بذلها في تقريب وجهات النظر والمساعدة والوصول لهذه الغاية المنشودة. كما تشكر حضرات أعضاء بعثة نقابة الصحافة المصرية: الأساتذة محمد عبد القادر حمزة، ومحمد زكي عبد القادر، وحبيب جاماتي، وزكريا لطفي جمعة، وحضرة مندوب الجامعة العربية الأستاذ صالح أبي رقيق. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. طنجة في التاسع من أبريل سنة 1951. "البصائر": هذه هي الأمنية التي كنا نتمناها على الله، ونعمل لها بأقوالها وأعمالنا. لعلمنا أن الاتحاد هو السلاح الوحيد الذي نستطيع أن نفل به سلاح الاستعمار. في أمتنا حظ مقسوم للاستعمار، من المرتزقة والأئمة والعلماء والموظفين ومشائخ الطرق، فإذا اختلفت العناصر الصالحة، كان ذلك مزيدًا في حظه. فهذا الاتحاد العتيد الذي هيأ الله أسبابه فكانت كلها عجبًا- يُعَدُّ تفسيرًا لحظ الاستعمار وتوفيرًا لحقوق الوطن، فقد كان الاستعمار يعتمد على الأشخاص من الطوائف المذكورة وعلى المعاني التي يقررها الخلاف في الأمة، فخسر المعاني وأصبح لا يعتمد إلّا على الأشخاص، وهي أوهى العمادين. وإذا كان هذا الاتحاد نعمة من الله لا يكافئها شكر، فلبعض مخلوقاته فيها يد لا تقابل بالنكر، ومن مخلوقاته الجنرال جوان، فقد كان لظلمه وعتوه وغطرسته الأثر الواضح في جمع الشمل المتشتت، وتعاطف الاخوة المتقاطعين. أما إخواننا العرب الذين هبوا للتحقيق والبحث، فأصبحوا عاملين للاحياء والبعث، وجرت على أيديهم المعجزة ... مقرونة بالتحدي للاستعمار- فقد قاموا بواجب تفرضه الاخوة والإنسانية، وأرادوا أمرًا فأراد الله ما هو خير وأنفع. طالما وجهت جمعية العلماء الدعوة إلى الاتحاد، عامة لأحزاب الشمال الافريقي وخاصة لحزبي الجزائر القوميين، وما زالت دائبة على ذلك، تعده من الفروض التي لا تبرأ

ذمتها إلا بتحقيقها: وعن قريب- بعون الله- تزف "البصائر" البشرى الثانية، فالثالثة، كما زفت أولاهن اليوم. نزف التهاني العاطرة بأزهار الربيع إلى إخواننا الذين أضناهم الخلاف، باستقرار القلوب الواجفة في حناياها، وإلى الشيخ المحترم الأستاذ محمود أبي الفتح، بهذا الفتح القريب الذي هيأه الله له، وإلى مندوب الجامعة العربية، بما جمع الله من القلوب على يديه، وإلى زملائنا رجال الصحافة المصرية، بهذا الرزق الدسم الذي سناه الله لأقلامهم حين ينقلبون إلى أهليهم، فينيرون القضية، وينصرون الحق، وينشرون الحقيقة، ويفخرون بما تم على أيديهم وأقلامهم من خير عميم لإخوانهم، وإلى الأستاذ سعيد رمضان، بما أضاف إلى "إخوانه" من إخوان، وفي الأخير- نهنئ إخواننا: علال والوزاني والطريس والناصري، بهذه الفرصة التي نقلتهم من مقام الرجولة إلى مقام البطولة. نسوق إليهم هذه التهنئة الخالصة مقرونة بالإجلال، باسم "البصائر"، واسم جمعية العلماء، واسم الأحزاب الوطنية في الجزائر، واسم الأمة الجزائرية المقاسمة للمغرب في أفراحه وأحزانه، متمنين على الله- تمنيًا مقرونًا بالعمل- أن يقدر للجزائر وتونس ما قدر للمغرب من اتحاد وأنصار، وأن يتم نعمته بتوفيق أحزاب هذا الشمال إلى اتحاد عام، يساير حكمة الله في خلقه وطنًا واحدًا، وأن يهدي علماء الدين، فيكونوا أعوانًا على الحق، لا إخوانًا للشياطين، وقادة للأحرار لا عبيدًا للعبيد؟ وأن يكونوا- كما كان سلفهم- أعلام هداية في الدين والدنيا.

تنصل من تهمة

تنصّل من تهمة * "نحن الذين يوقعون أسفله عقب تاريخه (مقدّم الزاوية التجانية بالرباط محمد بن العياشي، والمدرّس بها وببعض مساجد الرباط عبد الواحد بن عبد الله، وإمامها المكي الاعتابي) باسمنا واسم التجانين بالرباط نكذب ما نسبته صحيفة فرنسية إلى التجانين بالرباط من أنهم تبرّأوا من حزب الاستقلال، ونصرّح بأن الدين الإسلامي يحرّم على المسلم أن يتبرّأ من المسلم ونؤكد بهذه المناسبة تعلّقنا بالعرش العلوي المجيد وصاحبه جلالة السلطان سيدنا محمد الخامس- نصره الله-. وننبّه أيضا على أن عريضة علماء الرباط المؤرّخة بعاشر ربيع الثاني الفارط المرفوعة إلى الجلالة الشريفة أول من وقّعها عبد الواحد بن عبد الله المذكور وبعده المقدّم والإمام المذكوران وغيرهما من علماء الرباط تجانين وغير تجانين، وأن الذي رفع هذه العريضة إلى الجلالة الشريفة هو المقدّم محمد بن العياشي المذكور مع بعض علماء الرباط ". وحرّر في خامس وعشرين جمادى الثانية عام 0731هـ. محمد بن العياشي- عبد الواحد بن عبد الله- المكي الاعتابي. ــــــــــــــــــــــــــــــ "البصائر"، نشرنا هذا التبرّؤ بألفاظه، وأسماء أصحابه، لاعتقادنا أن أصحابه صادقون في دعواهم، وأن كل مسلم صحيح الإسلام في المغرب الأقصى، بل في الشمال الإفريقي المتلاصق الأجزاء، المتقارب الميول والأفكار. يستحيل أن ينطوي على خلاف لجلالة السلطان، أو مشاقة للرجال الأحرار العاملين على تحرير الوطن، وأن غاية ضعفاء الإيمان والإرادات منّا أن يقعدوا، وقلوبهم مملوءة ببغض الاستعمار وجوارحهم كلها مع الأحرار، يعاونونهم ولو بما لا كلفة فيه، وهو الدعاء، وقد يكون هذا الدعاء- لفرط الضعف- سريًا، وقد يكون غير مقبول عند الله لأن دعاء الجبناء في ضلال.

_ * "البصائر"، العدد 151، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 16 أفريل 1951م. (بدون إمضاء).

أما هذه الشراذم المجاهرة بولاء الاستعمار، والتنكر للوطن وبنيه، فهي فئة انتهى بها فساد الفطرة إلى دركة لا تزيد على العجماوات إلا بأن فيها خزي الدنيا وعذاب الآخرة. ثم نقول لهؤلاء الإخوان المتبرّئين: ما هذه النسبة التي خصصتم أنفسكم بها حتى أصبحت مناطًا لأحكام خاصة بكم، ومنها هذا الاتهام؟ ... وان العقلاء ليحكمون بأن هذه الجريدة لم تظلمكم، لأنكم بهذه النسبة الخاصة أوقفتم أنفسكم هذا الموقف ولأن الاستعمار عهد منكم هذا أو من أسلافكم، أو من أمثالكم من أصحاب هذه النسب الشاذة في الإسلام، ولو لم تنفردوا بهذه النسبة وبقيتم في غمار المسلمين لما علقت بكم هذه التهمة. إنهم ما علقوا بكم هذه التهمة لأنكم مسلمون، بل لأنكم تيجانيون، وشرّ الخصائص خصوصية جرت إلى صاحبها التهم، ووصمته بما يشذّ به عن قومه، أو بما يصيّره خصمًا لهم. وانهم لم يرموكم هذه المرّة بهذه التهمة إلا ليشغلوكم بالسلب عن الإيجاب وبالدفاع عن أنفسكم عن الدفاع عن دينكم ومليككم وعن المظلومين من أبناء وطنكم. وليس هذا النوع من توزيع القوى في النفس الواحدة، وتشتيتها في الأمّة الواحدة، إلا من خصائص الاستعمار، ومما امتاز بالحذق فيه والبراعة في استعماله. إنهم رأوا تفرّقنا في النسب، وغلوّنا فيها، فوسّعوا الشقّ، فهلّا رجعنا إلى النسبة المحمدية الجامعة، وسددنا في وجوههم هذه المنافذ. إن العاقل لا ينتحل نسبة أو وصفًا إلا إذا اعتقد أنه يكتسب بذلك شرفا لم يكن له، وأنتم- قبل أن تكونوا تيجانيين- كنتم مسلمين، أفلم يكفكم شرف الإسلام حتى التمستم ما يكمّله من هذه النسب المفرّقة؟ أم أن الإسلام- في نظركم- قاصر عن أنْ يصل بأهله إلى درجات الشرف الرفيعة، فجئتم تلتمسون الشرف والرفعة في غيره؟ فاحذروا ... فإن من النتائج اللازمة لصنيعكم هذا نتيجة قبيحة جدًا في حكم الشرع وفي حكم العقل وهي أن أصحاب هذه النسب يعتقدون أنهم أرفع قدرًا من العاطلين منها، ومن العاطلين منها أبو بكر وعمر وجميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... لا نريد أن نحرجكم بجدل ديني فرغنا منه، ودهمنا ودهمكم من عوادي الدهر ما شغلنا عنه، ولكننا نقول لكم قول الناقد البصير، المشفق من المصير: انه لولا هذه النسب المفرّقة لشمل المسلمين، لما وجد الاستعمار منفذًا يلج منه إلى أوطاننا، ولما وجد من المطايا الذلل أمثال عبد الحي ... فإن هذا الرجل لم يعتزّ بالإسلام ولم يعتزّ بالعلم، وابتغى العزّة من غيرهما فذلّ وأذلّ قومه، وما امتطاه الاستعمار لأنه مُحَدِّث، وإنما امتطاه من حيث أنه شيخ

طريقة، وإذا كان من الأساطير أن يركب الجن القنافذ، فمن الحقائق أن يفتح الاستعمار ببعض الرجال، كوى ومنافذ. أما والله، لولا هذه النسب التي فرّقت كلمة المسلمين وباعدت بين قلويهم، لما جعل الاستعمار من الأمّة الواحدة أممًا يضرب بعضها ببعضها، ويسلّط بعضها على بعضها، ويرهب بعضها ببعضها، ولولا هذه المعاني الدخيلة في الإسلام لما ثبتت للاستعمار في أرضنا قدم. ومن العجب أنكم منسوبون إلى العلم، ثم أنتم توثرون على هذه النسبة الشريفة ضرة تضيمها، وتضرب عليها الذل والمهانة. احذفوا هذه الزوائد، وكونوا من أمّتكم الواحدة تندفع عنكم هذه التهمة وتصبحوا في غنية عن هذا التنصل.

بيانات للأمة من المكتب الإداري لجمعية العلماء في قضية الصوم والإفطار

بيانات للأمّة من المكتب الإداري لجمعية العلماء في قضية الصوم والإفطار * 1 - ثبت هلال شعبان ثبوتًا شرعيًا، ليلة الاثنين (مساء الأحد) في مصر وفي تونس، وأخبرت هيئاتهما العلمية بذلك وعمّمته بجميع وسائل التعميم كالجرائد وغيرها، وجرت الحكومات والصحف في التاريخ اليومي على اعتبار يوم الاثنين أول يوم من شعبان، كما ثبت ذلك بالرؤية هنا في عدة جهات من القطر الجزائري ولم يبلغنا ذلك إلا مؤخرًا، ولكن الخبر لم يعمّم، لزهد العامة في التبليغ إلى القضاة، لأنها لم تر منهم العناية بمثل هذه القضية. 2 - الأقطار الإسلامية كلها دار واحدة، فحيثما ثبتت الرؤية وعلمت على وجهها الشرعي الصحيح، قامت بها الحجة على الجميع، وتعلّق بهم الحكم صومًا وإفطارًا، ولا عبرة بما هو شائع من اختلاف المطالع، فإن القواعد الفلكية اليقينية تنقضه. 3 - وظيفة القضاة في هذا الباب لا تتجاوز سماع الشهادات بالرؤية وتعديلها وتسجيلها (بشرط أن لا يكون القاضي نفسه مسلوب العدالة)، أما الحكم بالصوم أو الإفطار فهو من الله ورسوله، إذا تحقّق موجبه، فكل من سمع خبر الرؤية من عدلين تعلّق به الحكم. 4 - المذاييع كافية في الأخبار إذا كان للمسلمين فيها يد، لأنها لا تستطيع الاختلاق في هذا الباب، فإن اختلفت فالمثبت منها مقدّم على النافي، لأن عدم رؤية الهلال في جهة لا يقتضي عدم رؤيته في جهة أخرى، ولكن يحسن أن يذفع الخبر اثنان، حتى يكون تبليغ الشهادة كأدائها بواسطة اثنين، وما يقال في المذيعين يقال في المستمعين لهما إذا أريد نقل الخبر، وما يقال في خبر الإذاعة يقال في خبر التلفون. 5 - رؤية الهلال صباحًا قبل طلوع الشمس يمنع من رؤيته مساء بعد غروبها، بل هو محال في القواعد الفلكية القطعية، إذ لا بدّ في كل شهر قمري من ليلة محاق لا يقابل القمر

_ * "البصائر"، العدد 157، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 28 ماي 1951م. (بدون إمضاء).

الشمس فيها بجانب من جوانبه فيقتبس الجزء المقدّر له من نورها، وهو نصف سبع، بل يطلع مغمورًا بنورها، ويغرب مغمورًا بنورها، فلا يراه أحد في الصباح ولا في المساء، وهو معنى المحاق، فإذا طلع قبلها، فلا بدّ من غروبه قبلها، كما هي سنته في جميع أيام الشهر، وإذا جوزنا رؤيته صباحًا ومساءً في اليوم الأخير من الشهر، لزمنا تجويز ذلك في جميع أيام الشهر، وهذا محال في عالم الواقع، ومما يمنع ذلك وينقضه أن الهلال الذي يرى صباحًا هو هلال الشهر الماضي، والهلال الذي يُرى في المساء هو هلال الشهر الآتي، ولا يجتمع هلالا شهرين في يوم واحد، ولا يوزّع يوم واحد بين شهرين، إلا إذا كان هناك هلالان، أو كان في النظام الشمسي اختلال، وإن هذا كله لمحال في سنّة من قدر القمر منازل، وجعل الشمس والقمر بحسبان، وحاش سنن الله في الدين والكون أن تتناقض هذا التناقض، وكلام الفقهاء في هذه القضية كلام فقهي، ومن محاسن الفقهاء أنهم يرجعون في كل شيء إلى أهله، كما رجعوا إلى الأطباء في أشياء، والحكم في هذه القضية علماء الفلك، وقواعد الفلك كقواعد الحساب والهندسة، كلها قطعية، والرجوع إلى القطعيات اليقينية من مقاصد الدين الإسلامي. 6 - اختلاف المسلمين في الصوم والإفطار بعد عموم الخبر بالرؤية قبيح جدًا، ولو مع التأول، لأنه يذهب بجمال الشعيرة، ويطمس أعلام الحكمة فيها، ويغطي على روعة الاتحاد، ويباعد بين القلوب، ويغرس فيها بذور النفرة، ويعين شياطين الفتنة من الإنس والجن على تقطيع الروابط بين المسلمين، ويجلب استخفاف الأجانب بالمسلمين وبدينهم، ولأنه- مع ذلك كله- نوع شنيع من التفرّق في الدين، الذي أمر الله نبيّه بالبراءة من فاعليه والمتسبّبين فيه. 7 - من أقبح القبائح اعتبار التقسيمات السياسية أو الجغرافية بين الأقطار الإسلامية في قضية دينية كهذه، فيصبح للمغرب صوم وعيد، وللجزائر صوم وعيد، وهكذا، وأي دليل يأخذه الاستعمار على أننا أمم شتّى لا أمّة واحدة أكبر من هذا؟ إنها أكبر حجّة علينا، نقدّمها بأنفسنا. 8 - الإنصاف أن نعمل برؤية الأقطار الإسلامية، وتعمل هي برؤيتنا، ولكن ليس من الإنصاف أن يعطينا إخواننا شهادات مبنية على أصول إسلامية واعتبارات شرعية، ومؤهلات دينية، ويأخذوا منا شهادات على يد لجنة كوّنتها حكومة استعمارية لغايات ليس منها الدين، وما أحقّنا بقول القائل: وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ مَنْ يَبِيعُنِي … بِهَا كَبِداً لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرُوحِ؟ أَبَاهَا عَلَيَّ النَّاسُ لَا يَشْتَرُونَهَا … وَمَنْ يَشْتَرِي ذَا عِلَّةٍ بِصَحِيحِ؟

9 - الحج عرفة، ويوم عرفة وأيام منى التي يتشوق إليها حجّاجنا إنما تتحقّق برؤية الحجاز، وكثيرًا ما يكون يوم العيد عندهم هو يوم العيد عندنا، وكثيرًا ما يكون يوم الصوم هو يوم النحر، وقد أصبحت أخبار الحجاز تصلنا في لحظة بواسطة الإذاعة، فما هو هذا العقل السخيف الذي يتردّد في العمل برؤية الحجاز، أو في عمل الحجاز برؤيتنا لو كانت تنتهي إليهم بواسطة (سالمة)؟ 10 - جمعية العلماء تعمل لإرجاع المسلمين إلى الحق في دينهم، وجمعهم على الحق فيه، فهي تدعو إلى ترك الخلاف في الصوم والإفطار لما بيّنته من شروره، وهي- حين تدعو إلى ذلك- إنما تدعو إلى الرجوع إلى الحق في الدين، وإذا كانت تنكر على لجنة الأهلة أمرها، فإن ذلك الإنكار موجّه إلى تشكيلها، وإلى اليد التي تسيّرها، وإلى الغاية التي تراد منها، لا إلى أشخاصها، ولو أننا سألنا رئيس اللجنة اليوم، وأجابنا بالصدق، لأخبرنا من الآن بيوم الصوم ويوم الفطر، كأن الحديث عن شهر جوان، لا عن شهر رمضان، وقد أخبر م. نايجلان في وقت مضى عن يوم عيد إسلامي قبل دخول شهره، ومن يستطيع أن يخبر بأسماء النواب، قبل يوم الانتخاب، لا يبعد عليه أن يخبر بيوم عيد يتوقف على الهلال، قبل ظهور هلاله. 11 - تدخل الحكومة في شؤوننا الدينية باطل، وكل ما بُني على الباطل فهو باطل، والمعدوم شرعًا كالمعدوم حسًّا. 12 - حيث أن المرجع الديني التنفيذي مفقود في الجزائر، فالمرجع هو جماعة المسلمين، وهي تتمثّل في جمعية العلماء وشُعَبِها وأنصارها، وبناءً على هذا فجمعية العلماء ترى من الواجب عليها، ومن طبيعة عملها الخيري، أن تكون واسطة بين أطراف القطر في تحمل الشهادة بالرؤية، وفي أدائها، وفي تعميم الأخبار بها بكل الوسائل التي تدخل في إمكانها. 13 - مركز جمعية العلماء في الجزائر يبقى مفتوحًا إلى الساعة الواحدة بعد نصف الليل، لتلقّي الأخبار، والإجابة عنها، وتوزيعها، فعلى الأمّة كلها، وعلى شعب جمعية العلماء ومعلّميها وجمعياتها المحلية بالخصوص، أن يرقبوا هلال رمضان مساء الاثنين رابع شهر جوان الآتي، ومن رأى الهلال فليبلغّ الخبر حالًا بأية وسيلة إلى المركز القريب إليه من المراكز الآتي ذكرها، وعليه أن يبلّغه إلى ما يجاوره ويحيط به من المنازل والقرى. 14 - تجربة سنوات دلّتنا على أن الطلبات التلفونية- مستخبرة أو مخبرة- تتزاحم على إدارة بريد العاصمة فيتعطل المتأخر منها، لذلك رأت الجمعية أن تنظّم الاتصال في هذه السنة تنظيمًا يمنع التعطيل، وذلك بأن لا يتصل المخبرون والسائلون بمركز الجمعية في

العاصمة رأسًا، بل يتصل كل واحد منهم بالمركز القريب منه من المراكز المذكورة في آخر هذه الكلمة، وذلك المركز يتصل بمركز العمالة، وهو يتصل بمركز العاصمة. ... فعلى الإخوان والمشائخ المعلّمين أن يقوموا في هذه القضية المقام المحمود، وأن يبذلوا جهدهم في تبليغ خبر الرؤية إن ثبتت ثبوتًا شرعيًا، وأن يسعوا في الحصول على الغاية الشريفة، وهي توحيد الأمّة على الصوم والإفطار، ونسأل الله أن يمدّ العاملين المخلصين بعونه.

أكبر زلة تقترفها لجنة الأهلة

أكبر زلّة تقترفها لجنة الأهلة * لم تتحرّك هذه اللجنة إلا بعد أن صدر العدد 157 من "البصائر" وفيه كلمة عن رؤية هلال رمضان، وما قرّرته جمعية العلماء في قضية الصوم، وقضية الصوم هذه هي (العمل) الذي تحتكره اللجنة، وتعدّه من حقوقها، أو من خصائصها على الأقل، بحكم القانون الجمهوري الفرنساوي، لا بحكم الإسلام، ولا بحكم جماعة المسلمين. ولكن رئيس هذه اللجنة التي تدّعي استحقاق هذا الحق، لم يتحرّك لإثبات حقه إلا حين بقي بيننا وبين رمضان ثلاثة أيام، ولولا أننا (افتتنا على حقه) وأزعجناه بما كتبنا لاسترسل في سكونه وسكوته إلى الساعة التاسعة من ليلة الشك، كما تسمّيها اللجنة لا كما يعرفها الفقه، وفيها يجمع الرَّئِيسُ لجنته الاجتماع التقليدي الذي ينتهي بانتهاء الساعة العاشرة من تلك الليلة، والنتيجة دائمًا هي هي: توفد اللجنة الشيخين المفتيين (1) إلى راديو الجزائر الموضوع تحت تصرفها، ليذيعا على مستمعيه جملتين تقليديتين، إحداهما: لم يثبت رمضان، والأخرى: لا تسمعوا للمشوّشين، والمشوّشون- بالطبع- هم هذه "الأمّة" التي تسمّى جمعية العلماء. هذا هو التقليد المتّبع في هذه اللجنة، وإن خالفته هذه السنة ببقائها حصة زائدة في الانتظار تمويهًا وتضليلًا، ولعلّ هذه المخالفة من آثار إزعاجنا لها، فمعذرة- أيتها اللجنة- فإن الأعمال بالنياّت، وما نوينا قط الإساءة ولا الإزعاج، وما نتمنى لك إلا النوم الهادئ والأحلام اللذيذة. ...

_ * "البصائر"، العدد 160، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 18 جوان 1951م. 1) الشيخين المفتيين: أي المفتي المالكي والمفتي الحنفي.

كانت حركة رئيس اللجنة في هذه المرّة بمعنى آخر من معاني الحركة في اللغة وهو الاضطراب وعدم الاستقرار على رأي، فقد أعلن في ثلاثة أيام إعلانات متناقضة في قضية واحدة: أعلن في الجرائد الفرنسية أن شعبان ثبت بالاثنين، بعد أن لم يبق من شعبان إلا ثلاثة أيام، فأين كان حضرة الرَّئِيسُ؟ أم أين كان شهر شعبان؟ أم انقطعت الصلة بين الموجود والزمان؟ أم أن حضرة الرَّئِيسُ ليس بـ"موجود"؟ وأذاع أنه سيتصل بالمغرب وتونس، وأنه سيعمل برؤية الأقطار الإسلامية، ثم أعلن في الجرائد أنه لا يعتمد إلا على رؤية القطر الجزائري على أيدي قضاته ... وأنه سيصعد إلى "بوزريعة" ليستقبل هلال رمضان بنفسه. وذهب الفضوليون مذاهب شتى في اقدام رئيس اللجنة على ذكر الأقطار الإسلامية فقال قوم: إنها شجاعة، وقال قوم: إنها رجوع إلى الحق، وقال العقلاء والعارفون: إنها نزوة عابرة، وفلتة عارضة، اعترت صاحبها في فترة الوحي، فلما هبط الوحي نسخها بما يناقضها، والوحي الحقيقي الذي لا يلقى فيه الشيطان، هو ما جاء في البلاغ الأخير، وفحواه: (إن رمضان الجزائري، لا يثبت إلا برؤية جزائرية يعدلها قضاة جزائريون)، وإنها لنزعة "استقلالية" تشكر عليها اللجنة ورئيسها، لو بقي في الجزائر من يشكر الإحسان، ولو رزق الله الوطن بمن يفهم هذه المنازع الدقيقة لأنزل أصحابها منزلة الأئمة لدعاة الاستقلال، لأن مغزى هذه النزعة بدء الاستقلال من السماء ... ونسخ كلمة "فصاعدًا" المبتذلة بكلمة "فهابطًا" ... ولكن أين من يفهم؟ يُستنتج من هذا الاضطراب المتدلّي أنه لو حبس رمضان ركائبه يومين آخرين واتسع الوقت لبلاغ آخر لكان نصّه قريبًا من هذه الصورة: (تعلن لجنة الأهلة أنها لا تعتمد إلا على الرؤية التي تثبت في العاصمة وأحوازها المحدودة بالحراش شرقًا، وبوزريعة والأبيار غربًا، والمرسى شمالًا، والجنوب معروف، مع ملاحظة أن من رآه من البحر لا يُعدّ في حكم المرسى، وأن ابن عكنون لا يدخل في الأحواز). يشهد لصدق هذه الصورة تتبّع أحوال هذه اللجنة وأعمالها، فكلها تدلّ على أنها لا صلة لها بالقطر ولا بقضاته، وأن همها كله منحصر في العاصمة، كأنها تريد أن تجعل منها دائرة نفوذ خاصة، أو ميدان تجربة لقوّتها، لذلك نراها تعتني بها كثيرًا، ولا تكتفي بإعلان رأيها في الصوم والإفطار في الراديو، بل يتفقد بعض أعضائها المقاهي والمجتمعات ليروا بأعينهم ثمرة نفوذهم، وقد شاهد الناس منهم يوم الثلاثاء (أول رمضان) ما يقضي بالعجب، وشاهدوا في ذلك اليوم إمامًا من أنصار اللجنة متنكرًا في هيئة "باش آغا"، وطالما التبس على الناس بذلك، وقد ظلّ جالسًا في مقهى بحي "العقيبة" ساعات وهو يحتسي القهوة أمام المفطرين والصائمين، وكأنه يحرس شعبان أن تنتهك حرماته ... وإننا لا نعجب من هذا ما

دامت اللجنة من أدوات العاصمة، وما دامت تكميلًا لأجهزة لازمة للعاصمة، وتعميرًا لركن خال من "دار العجائب" (2) فيها. إن السماجة التي لا يستسيغها ذوق هي اعتبار القطر الجزائري وحدة دينية بحدوده الجغرافية، وأسمج من هذا وأسخف، اعتباره وحدة (هلالية)، فإن أطرافه الشرقية هي أقرب إلى تونس منها إلى الجزائر، وكذلك يقال في الأطراف الغربية بالنسبة إلى فاس، ولا أسمج من هذين إلا اعتبار لجنة الأهلة للعاصمة وحدة (صومية) أو (إفطارية). ... وثبت رمضان بالثلاثاء في مصر وتونس وبلغتنا أخبار الرؤية بالطرق الشرعية فعممناها بما نستطيع، وأصبحت عمالة قسنطينة على صوم، إلا شراذم من المكابرين لايصومون لله وإنما يتبعون أهواءهم ويعاكسون أهل الحق، وصام على أخبارنا معظم العمالة الوهرانية، ولم تتخلّف إلا طائفة من الجامدين، أو ممن لم يبلغهم الخبر، ثم ثبتت رؤية الهلال في معسكر وفي سيق، وعمّ الخبر بها في صباح الثلاثاء فأمسك كل من كان مفطرًا، وأعلنها مفتي وهران رسميًا فأمسك أصحاب الصوم الحكومي، وأصبح معظم العمالة الجزائرية صائمًا إلا من لم يبلغه الخبر، أو لم يفارقه الجمود، وبقيت العاصمة ... وهي ميدان العراك ونقطة الاشتراك، في نظر اللجنة، وفي العاصمة خصائص، وفيها تيارات، وفيها الشطر الأول من هذا البيت: تسقط الطير حيث ينتثر الحب، وفيها مناخ القوافل التي ترد مثقلة، وتصدر مخفة، وفيها ملتقى أسباب الرغبة والرهبة، ومع ذلك فقد كان مركز الجمعية ومراكز الإصلاح خلايا نحل، أو قرى نمل. وما انصرف الناس حتى ثبت الصوم فبلغوا وعمّموا ما استطاعوا، وأصبح غالب سكان العاصمة صائمًا، ولم يفطر إلا المتساهلون المسترسلون في شهواتهم، يتخذون من بلاغ اللجنة في الراديو رخصة لأهوائهم، وحسب هذه اللجنة زللًا أن تكون قدوة لأصحاب الأهواء، وإننا لنعرف أن في هذا الجراد المنتشر في العاصمة، الذي نقله الاستعمار من الرقاع الخصيبة، إلى الرباع الجديبة، طوائف تكون دائمًا آخر من يصوم، وأول من يفطر، فلا تغترن اللجنة بأنهم أكلوا على ندائها، وشربوا على غنائها، ولا تغترن بأصحاب المقاهي وأصحاب المطابخ، فأولئك يعلمون من أمر هذه اللجنة ما يجهله كثير من الناس يعلمون أن البوليس السرّي والعلني من ورائها ومن أمامها، وأن كل من يخالف رأي اللجنة فقد خالف أمر الحكومة، وإنْ وافق أمر الله، وأن من وراء تلك المخالفة نزع الرخصة وانتحال الأسباب للتغريم، فهم مكرهون، في صورة مختارين.

_ 2) دار العجائب: الاسم الذي يطلقه بعض الجزائريين على المتحف.

وأفعال العقلاء تصان عن العبث ... فما الحكمة في تكدير راحة رئيس اللجنة ساعة أو ساعتين من العام؟ وما الحكمة في اجتماع اللجنة ساعة أو ساعتين من السنة؟ ولا ندري ماذا تنتظر في تلك الساعات؟ فإن كانت تنتظر أخبار العالم الإسلامي فهي قد أعلنت أنها مقطوعة الصلة به، ولا تعمل برؤيته، وإن كانت تنتظر الأخبار من داخل القطر، فهذا تعب ضائع، إِنَّ تسعين من المائة من قضاة القطر يكونون نائمين ملء عيونهم في تلك الساعة، أو منهمكين في أعمال ليلية حرّة، ولا يهمهم من أمر رمضان شيء، ولأجل هذه المعاني فيهم انقطعت صلة الجمهور بهم إلا في الخصومات الضرورية، وكوّنت العوائد السيئة بين الفريقين نفرة، فأصبح الناس يرون الهلال ولا يشهدون بالرؤية أمام القاضي، وقد يراه جار المحكمة أو من تجمعهم بالقاضي بلدة، ولكن لا يبلغون ولا يشهدون. ويرجع بعض السبب إلى أنهم لم يروا منهم العناية بالشؤون الدينية، ومنهم من لا يفتح المحكمة ليلًا لأن ذلك مخالف للقانون، ومنهم من لا يشارك المسلمين في مساجدهم وشعائرهم، ومنهم من يقارف- على أعين الناس- أمورًا منكرة في الدين قادحة في المنصب، منافية للشرف. ... أسباب بعضها من بعضها، تراكمت فأثمرت هذه الحالة التي نأسف لها، ونحمل القضاة تبعتها، وإن كنا نعتقد أن البريء منهم أخذ بذنب المجرم، ولكن المسلم الفطري له منطق مخصوص، ولا لوم عليه إذا اعتقد أن القاضي الذي لا يشارك المسلمين في صلاتهم، لا يشاركهم في صومهم، وهو- لذلك- لا يكون أهلًا لتعديل الشهادة وهو مجروح. ... وهل أتى لجنة الأهلة أن هلال رمضان رُئِي في (معسكر) وفي (سيق) وأن مفتي وهران عمل بتلك الرؤية؟ ونسأل اللجنة- في إحراج وإزعاج- لو بلغك خبر الرؤية نهارًا مثل يوم الثلاثاء بدء رمضاننا هذا، فهل تثبتينه، وتعممين الخبر به، وتسعين إلى الراديو لإذاعته، ليمسك الناس، كما هو واجب شرعًا؟ أم تسكتين وتصرّين على الإثم؟ أجابت اللجنة أو لم تجب فإننا على يقين من أن الأخبار تبلغها فتسكت حياء من الشريك أو "المعلم"، لأن الرأي الذي أعطته متفق عليه مبتوت فيه من قبل أن يخلق الهلال، ولا تستطيع أن تخرق الإجماع وحدها، وآية الليل عند هذه اللجنة تمحو آيه النهار ... ***

وبورك هلال هذا الشهر في الأهلة، لكأنه كان جبارًا عنيدًا، لم يعترف به الجاحدون فأراهم نفسه في الليلة الثانية ومعه شهادة الميلاد. فما قول لجنة الأهلة فيه؟ ألم يخجلها بجماله ونوره وترعرعه؟ أما العجائز فقد رأينه وأكبرنه وحكمن أنه ابن ثلاث، وهن أعرف بالمواليد ... ولَعَنَّ من كان سببًا في إفطارهن، وأما اللجنة فستقول: إن الكبر والارتفاع لا عبرة بهما ... ومن أين لها أن تعلم أن ما زاد على نصف السبع فهو من ليلة ماضية؟ ... ... والزلّة التي لا تغفر لهذه اللجنة، هي أنها تسبّبت لطائفة من المسلمين في انتهاك حرمة رمضان بالإفطار في يوم من أيامه الثابتة التي لا ينازعه فيها شعبان، بعذر أقبح من الذنب، وهو أن الرؤية خارجية، ثم ثبتت الرؤية الداخلية فلم تخبر الناس بها ليمسكوا، ورضيت لهم أن يتمادوا على الإفطار، وباءت بآثامهم جميعًا. إن هذا لأعظم غشّ للمسلمين في ركن من أركان الدين، فليتنبه المسلمون وليحذروا هؤلاء الغشاشين المتسترين بالألقاب، وليعلموا أنهم مسخَّرون لهذا الغش، مأجورون بأموال المسلمين، على هدم الإسلام، والتفرقة بين المسلمين.

ونعود إلى لجنة الأهلة

ونعود إلى لجنة الأهلة * حملنا على هذه اللجنة حملة صادقة، وحملناها ما حملت من أوزار المفطرين على شهادتها الباطلة، ولم نكن في شيء من ذلك متحاملين ولا مبالغين، فكل ما قلناه فيها من يوم نشأت ونقوله فيها ما دامت، فهو حق، وقد نقصر أحيانًا فيما يجب لها من إنكار لوجودها واستنكار لأعمالها، وتسفيه لآرائها، وتحذير للأمّة من دخائلها ومظاهرها. عددنا تكوين الحكومة لهذه اللجنة تدخلًا جديدًا في ديننا، ونعد قبول أعضاء هذه اللجنة لهذه الوظيفة المبتدعة تحديًا لإرادة الأمّة، وتثبيتًا للتدخل الحكومي في وقت تحاول فيه الأمّة قطع دابر هذا التدخل، وان تدخل الحكومة في ديننا لا يكون إلا إفسادًا له، حكم الدين بهذا، وأيّده العقل وأيّدتهما الوقائع المفضوحة التي لا يعمى عنها إلا عُمي "البصائر". فكل ما نظهره من الإنكار الشديد، والاستنكار الشنيع فهو مصروف إلى هذا المعنى، وهو معدود عند الله في أعمالنا الصالحة، وحسناتنا المتقبلة إن شاء الله، وهو معدود عند المؤمنين الصادقين في دفاعنا عن الدين، ووقوفنا للغاشين فيه بالمرصاد. وما زالت الحوادث في كل سنة تؤيّد رأينا في هذه اللجنة، وأنها أُنشئت لغشّ المسلمين في دينهم وإفساد صومهم وإفطارهم، وإبعادهم عن الأسباب التي تجمعهم بإخوانهم في الأقطار الأخرى. وغفلة الأمّة عن هؤلاء الغشاشين هي التي أطمعتهم فيها، وأوهمتهم أن الأمر لهم من دون المؤمنين، فتجاوزوا حدود الإخبار إلى الحكم، فأصبحت اللجنة (تحكم) بالصوم أو

_ * "البصائر"، العدد 161، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 25 جوان 1951م.

بالإفطار، كأنهما قضيتا نكاح وطلاق، وهي في ذلك مفترية على الله ودينه، جاهلة بحكم شريعته، ولو أن هذه اللجنة كانت تعتني كما يعتني غيرها في الأقطار الإسلامية، فتتبع ثلاثة أهلة أو أربعة قبل رمضان، وتعلن في الجرائد العربية، ثم تقيم إلى الفجر تنتظر الأخبار، وتوصي القضاة والمفتين بأن ينتظروا إلى الفجر، ويسجّلوا الشهادات ويوافوها بها ولو في نهار الغد فإذا تأدّت إليها الشهادات في اليوم التالي عملت بها، ونقضت خبر الليل بخبر النهار. لو أنها فعلت ذلك لاستطاعت أن تغطي بعض عيبها الأكبر وهو أنها حكومية، وأن تستر شيئًا قبيحًا بشيء حسن، ولكن هذه اللجنة واقفة تحت المثل (سكت ألفًا ونطق خلفًا)، فهي تنام طول العام، وتمرّ عليها شهور العبادة فلا تعيرها التفاتًا، حتى إذا بقيت لرمضان أيام معدودة أثارت التشويش ببلاغاتها الفرنسية كأن لغة رمضان فرنسية، وبهذا الراديو الذي أصبح- بسببها- يذيع الفتنة والغشّ للمسلمين ويشيعهما، ثم لا تلتفت لما يأتي من الشهادات المثبتة بعد الساعة الحادية عشرة ليلًا، كأن هذه القضية الدينية المهمة مؤقتة بساعة إن لم تثبت فيها الشهادة عند هذه اللجنة سقط الصوم عن المسلمين. ... في كل عام تقع من هذه اللجنة زلّة فاضحة، تكفي وحدها دليلًا على غشّها للمسلمين، ولبسها الحق بالباطل، ولكن زلة هذا العام أنست ما تقدّمها، وجاءت صلعاء سافرة في زلّات اللجنة ... أعلنت اللجنة تنكرها للعالم الإسلامي، وتسفيهها لآرائه، وقدحها في شهاداته ثم أعلنت مع نصف الليل في الإذاعة بلسان مُفْتيَيْها، الحكم القاطع بعدم الصوم، بغير استثناء ولا احتياط لما عسى أن يظهر من شهادات الرؤية، ولا نصيحة للمسلمين بأن من ثبتت عنده الرؤية وجب عليه تبييت الصوم، أو الإمساك نهارًا ولو بقيت للمغرب دقائق، بل (حكمت) بالصوم وسدّت المنافذ، وعطّلت أحكام الشرع، كأنَّ صوم المسلمين متاع لهذه اللجنة تتصرف فيه كما تشاء ولم يزد الفتيان أو (البَرَّاحان) (1) كلمة على الحكم بالإفطار، سوى ما كرّره المفتي (ذو المذهبين)، مع شدة في اللهجة وضغط في النبرات، من التحذير من المشوّشين ... فهل من المشوّشين في نظره مسلمو مصر وتونس؟ وهل من المشوّشين تلك الجماعة المستفيضة التي رأت الهلال في "تيغنيف" قرب معسكر؟ وهل من المشوّشين من رأوه في "سيق" وفي "حمام بوحجر" وفي "جبال زواوة"؟ ... وهل من المشوّشين مفتي معسكر الذي عدل شهادة الرؤية وعمل بها وأعلن الصوم؟ وهل من المشوّشين مفتي وهران؟

_ 1) البرَّاحان: مثنَّى برَّاح، وهو الشخص الذي يذيع الأخبار في السوق وفي التجمّعات.

جاء في تقرير المكتب العَمَالِي (2) لجمعية العلماء بوهران. أن المفتي بلغه خبر الرؤية من معسكر بعد نصف الليل، فأخبر به رئيس لجنة الأهلة، فأصرّ الرَّئِيسُ على الضلال وغشّ المسلمين، وقال: (انه حكم على يوم الثلاثاء بأنه ليس من رمضان حكمًا نهائيًا، وانه ألحقه بشعبان)، وانه لا يرجع في هذا الحكم الذي حكم به، وأن مفتي وهران بعد أن بلغ، أعلن الصوم بالبراح، ثم أعلنه في الصباح بالمدفع، فأصبحت وهران كلها صائمة، إلا فقيهًا معروفًا بمذهب خاص في الخلاف والفتنة ... فالرؤية- إذن- ثبتت في عدة نواح من القطر الجزائري ثبوتًا مستفيضًا، والشهادة بذلك بلغت إلى اللجنة ليلًا ونهارًا فلم تعمل بها، ولم يزدها ذلك إلا إصرارًا على العناد والضلال. واللجنة- إذن- متعمدة لغشّ المسلمين في دينهم، لا شك عندنا في ذلك ولا مراء بعد الذي ذكرنا، وهل يبقى بعد هذا عذرٌ للذين أفطروا على أخبار هذه اللجنة، بعد أن تبيّن غشّها وافتُضح أمرها؟ ... لا عذر مع هذا، ولا عذر بعد هذا، ولا يعد المعتمد عليها- بعد الآن- متأولًا، بل يعد متعمدًا. واللجنة- إذن- غير صادقة في دعواها العمل بالرؤية الداخلية، فمعسكر وسيق، وحمام بوحجر كلها من الجزائر ... وعليه، فقد نهضت حجتنا عليها، أنها لأمر ما، لا تبالي برؤية القطر ولا غيرها، ولا تبالي أصام الناس أم أفطروا؟ وأن همها كله منصرف إلى العاصمة وحدها، لتجعل منها وحدة ... في أمر ما ... ... يقول المثل: (خرقاء وجدت صوفًا) ونقول نحن: (لجنة وجدت مذياعًا) ... لجنة ركبت من الغشّ وللغشّ، وجدت مذياعًا تذيع فيه غشها، وتستهوي به الغافلين والمستهترين، ولو كان هذا المذياع حرًّا أو على شيء من الحرية لما رضي بإذاعة الغشّ، بل لو كان يحترم شعور المسلمين لما سمح بنشر الغشّ لدينهم، وهو يعلم أنه غش، ولكن الراديو واللجنة سلالة رحم واحدة، أو صنعة يد واحدة، فلا عجب إذا كان كل واحد منهما مكملًا لصاحبه. من لقي أعضاء هذه اللجنة مجتمعين في أنديتهم، أو هائمين في أوديتهم، فليلق عليهم هذه الأسئلة، ولا ينتظر الجواب: هل رُئِيَ الهلال في عدة جهات من القطر؟

_ 2) المكتب العَمَالي: نسبة إلى العَمَالَة، وهي المحافظة أو الولاية.

هل بلغكم الخبر ليلًا؟ فإن لم يبلغكم ليلًا فهل بلغكم نهارًا؟ فإن بلغكم ليلًا فلماذا لم تخبروا مقلّديكم ليبيتوا؟ وإن بلغكم نهارًا فلماذا لم تخبروهم ليمسكوا؟ فإن لم تفعلوا فأنتم غشاشون للمسلمين. وإن قلتم إن الخبر لم يبلغنا ليلًا ولا نهارًا، غير صادقين. أيتها الأمّة: قد دلّتك هذه اللجنة على نفسها، وفضحها الله في هذه السنة بسوء أعمالها. قالت: إنها لا تعمل بشهادة الأقطار الإسلامية، ثم تبيّن أنها لا تعمل بشهادة القطر الجزائري، ولا معنى لهذا إلا أنها متعمدة لإفساد صوم المسلمين وإفطارهم ... لا معنى لعملها إلا هذا. لا تصدّقوها بعد الآن. لا تثقوا بها. لا تثقوا بهذا البوق الذي يذيع غشّها. لا عذر لكم بعد الآن ...

هلال رمضان: معلومات وتنبيهات

هلال رمضان: معلومات وتنبيهات * 1 - جاءنا في التقرير الأخير من المكتب العمالي لجمعية العلماء بوهران ما خلاصته: زيادة على رؤية هلال رمضان ليلة الثلاثاء رؤية مستفيضة بقرية "تيغنيف" وقرية "سيق" وقرية "حمام بو حجر" فقد ثبتت رؤيته تلك الليلة في القرى الآتية: "تيزي" و"عيون افكان" و"مسرقين"و"بطيوه". فهذه سبع بلدان رُئِي فيها هلال رمضان ليلة الثلاثاء، أما رؤية "تيزي" فقد بلغت إلى محكمة معسكر، وسجلها عدل المحكمة بحضرة مفتي البلدة وجماعة، وبلغها العدل إلى مفتي وهران، وأبلغت إلى رئيس اللجنة فلم يقبلها ... ويشاع أن هذا الرَّئِيسُ علل عدم القبول بأن "الواجب" أن تكون الشهادة أمام القاضي لا العدل، وهذا شرط جديد شرعه رئيس اللجنة، ولو جاءته وثيقة الرؤية من قاض لما عدم عذرًا آخر، ولو شهد الإنس والجن لوجدت هذه اللجنة في كل شهادة قادحًا، حتى لا يبقى إلّا الأمر المدبر بليل .... وأما رؤية "بطيوه" فقد كانت مسلسلة بالرسميين، من إمام "بطيوه" الرسمي إلى مفتي وهران إلى رئيس اللجنة، ولكن هذا كله لم يشفع لها عند اللجنة أو عند رئيسها. وأما القريتان الأخريان فإنهما لم تخبرا جمعية العلماء لبعد مكان الرؤية عن مركز التيليفون، ولم تخبرا المحاكم للعلة التي ذكرناها في الكلمات السابقة، ولكن القرى كلها عممت الخبر لكل من يمكن الاتصال به. 2 - أصبح ثبوت رمضان بالثلاثاء أمرًا لا يكابر فيه حتى الذين يريدون أن يكون للجزائر هلال خاص.

_ * " البصائر"، العدد 162، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 جويلية 1951م.

3 - نرجو أن يكون الشهر كاملًا، فيكون العيد بالخميس، فتفطر الأمة كلها في يوم واحد، ونتقي شر الخلاف والعناد. 4 - الرجوع إلى الحق فريضة وفضيلة، فعلى مقلدي اللجنة في أول رمضان أن لا يقلدوها في الإفطار، إن ثبتت الرؤية ليلة الثلاثين من رمضان، وأصرت اللجنة على عنادها وعبثها، وستلبس على مقلديها بأنهم إذا خلعوا ربقة تقليدها فإن (رمضانهم) يكون ثمانية وعشرين يومًا، ولكن اللجنة هي التي سببت لهم الإفطار في اليوم الأول من رمضان، أفيرضون أن تتسبب لهم في صوم يوم العيد؟ فيبدَأُوا صومهم بمأثم ويختموه بمأثم، وشر أهون من شرين. 5 - سنكون في رؤية شوال، كما كنا في رؤية رمضان- صلة حق، وواسطة خير في تبليغ خبر الرؤية إن ثبتت ليلة الثلاثين من رمضان، وهي ليلة الأربعاء، في داخل القطر أو في خارجه، ونحن مع المثبت إن صح خبره وتحققت رؤيته مع التشدد والاحتياط وعدم التساهل، فلا نعمل بالرؤية الضعيفة في أدائها أو تحملها، ولا برؤية نشم منها رائحة التساهل في تعديلها أو تبليغها، فإذا ادعيت الرؤية في قطر من الأقطار الإسلامية، ولم تثبت في سائرها ممن يساويه أو يفوقه في العناية والاهتمام ووجود المرجع الديني- فإننا مع الأكثر، فإذا كانت المحاكم الشرعية في مصر تبقى مفتوحة إلى الفجر لانتظار الشهادات، وفي تونس تبقى مفتوحة إلى نصف الليل مثلًا، فذلك تفوق في العناية والاهتمام يصير تقليد صاحبه أرجح وأقرب إلى الصواب، ومركز الجمعية مفتوح ليلة الثلاثين إلى نصف الليل، والمراكز الفرعية كلها متصلة به لهذا الغرض. 6 - نرجو أن تتشدد تونس في تعديل الرؤية وتحتاط ولا تتساهل، فهي أقرب الأقطار الإسلامية- ذات القضاء الإسلامي المستند على إمارة شرعية- إلينا، فإن قبولها لشهادة الرؤية في عيد الفطر من العام الماضي يعد تساهلًا منها، بعدما رأت الألوف المؤلفة الهلال صباح ذلك اليوم قبل طلوع الشمس بثلاثة أرباع الساعة، وإذا كنا نقلد تونس لمكانة المجلس الشرعي الذي هو مرجع ديني نحن محرومون من مثله- فإنما نقلدها في المعقول المقبول، وإنما نقلدها لمعنى جليل يذهب التساهل بجلاله، فأما أن ننقض بهذا التقليد سنة من سنن الله في كونه برؤية أربع أعين قد تكون إحداهن عوراء، وقد تكون اثنتان منهن عمشاوين- فلا، لا ... لا سيما مع فساد الزمان، وإذا رُئِي الهلال صباحًا ومساءً في يوم واحد، فأحد الرأيين مخطئ لا محالة، ولا يسعنا أن نخطئ رؤية الألوف لرؤية اثنين، والاحتياط في هذه الأمور ألزم وأحزم.

7 - كل عيد يصرف على هوى هذه اللجنة فهو عيد حكومي، لمسته يد الحكومة فجردته من المعاني الدينية والقومية والاجتماعية، وتعطيل المصالح فيه لا يعدو الحاقه بعيد (الكرنفال) وما أشبهه، وإن لم يكن فيه فرحه وطلاقته، ويد هذه الحكومة، يد مسمومة، ما لامست شيئا من ديننا إلّا أهدته السم، ونزعت منه الروح، وأبقت له الإسم .... 8 - يضاعف جمال العيد وجلاله اتحاد المسلمين عليه، وكم لاتحاد المسلمين في أعيادهم من معان، وكم له من مزايا، أجلها أنه يغذي قوّة المسلمين الروحية، ويمد قوتهم المادية بأمداد التحابب والتعاطف، فالتعاون والتناصر، وقد حضرنا الأعياد في الأقطار الإسلامية التي لها مرجع ديني، تلقي إليه الأمة بالمقاليد ففهمنا تلك المعاني واستجلينا تلك المزايا، ولمسنا آثارها في اتحادهم على الأعياد، أما في الجزائر فكثيرًا ما تكون في القرية الواحدة ثلاث فرق، بثلاثة أعياد، في ثلاثة أيام متعاقبة، فكيف نطمع أن تكون للأعياد روعة؟ أم كيف نطمع أن تكون لها في نفوسنا تلك الآثار التي هي الحكمة العليا في الأعياد؟ ولا سبب لهذا البلاء إلّا فقد المرجع الديني الذي يجمع الأمة على الحق. 9 - لعل قراء البصائر من إخواننا في الشرق والغرب ينكرون ولوعنا بهذه القضية ويعدونها أهون من هذا الترديد لها، وتكرار القول فيها، وينزل بمكانة البصائر في نفوسهم هذا الأنين المتصاعد من هذا القلم المتألم .... ويا ويح الشجي من الخلي، ويمينًا لو اطلعوا على الحقيقة، أو لو ابتلوا ببعض ما ابتلينا به- لقام لنا عندهم عذر، أو لكان لنا منهم شفيع.

شكر واعتذار

شكر واعتذار - 1 - * قبل بضعة أسابيع أجرى علي القدر حادثة اصطدام بين سيارتين في الطريق بين مغنية وتلمسان، من نوع ما يتكرر وقوعه كل يوم فيذهب بالأرواح، أو يحدث العاهات الملازمة، ولكن حادثتي صاحبها لطف الله، فسببت آلامًا، وعطلت القلم أيامًا، وكانت عاقبتها سلامة وسلامًا. غير أن إخوان الصدق في داخل القطر وخارجه تصوروا الحادثة كما يتصورها السامع، تصورًا يصحبه التهويل، فانهالت علي رسائلهم وبرقياتهم سائلة داعية متألمة. وأنا أتقدم إلى هؤلاء الاخوان الصادقين بالثناء العاطر على هذه العواطف الأخوية السامية، وبالابتهال إلى الله أن يحفظ عليهم هذا الكنز الثمين من الفضائل التي حلاهم بها، في وقت تضاءلت فيه الفضيلة، ونزرت حظوظ الرجال منها. وأتقدم بالاعتذار إلى الذين آلمهم احتجاب هذا القلم عنهم عدة أسابيع، مبشرًا لهم بأنه سيعود إلى الميدان، أمضى مما كان.

_ * "البصائر"، العدد 168، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 3 سبتمبر 1951.

- 2 -

- 2 - * فُجعت في ولد أختى، بل ولدي تربية وتنشئة، فخفّ إخوان الصدق لمشاركتي في التوجع، وتعزيتي على المصيبة، وتواترت رسائلهم وبرقياتهم تحمل من معاني الأخوّة أطيبها وأعلاها. وأنا أشكر لجميع الإخوان هذه العاطفة الأخوية الشريفة، سواء منهم من حضر الدفن ومن عزّى بالمراسلة، وأخصّ بالثناء شعَب جمعية العلماء بالعاصمة وأحوازها، فقد خفّف حضورهم وقع الفجيعة. فأنا أسأل الله أن يكافئ جميع الإخوان عني بالإحسان وأُرسل إليهم هذه الكلمة محيية شاكرة مجيبة.

_ * "البصائر"، العدد 175، السنة الرابعة، 26 نوفمبر 1951م.

الإجتماع العام لجمعية العلماء

الإجتماع العام لجمعية العلماء * أولًا: ينعقد الاجتماع يوم الأحد 30 سبتمبر الجاري، على الساعة الثامنة والنصف صباحًا. ثانيًا: بناء على تعذر التحصيل على قاعة كبيرة، فقد اضطررنا إلى عقد الاجتماع بقاعة سينما "دنيازاد". ثالثًا: بما أن قاعة سينما دنيازاد لا تسع إلا عددًا محدودًا لا يجاوز ستمائة مقعد، فقد تحتم أن يكون عدد الحاضرين محدودًا، فالواجب على شُعَب الجمعية ان تسلك طريقة التمثيل، فترسل كل شعبة أفراد معينين يمثلونها ويمثلون الناحية التي تشملها أعمال تلك الشعبة، وتختارهم من أهل الرأي والسابقة والأثر في خدمة الجمعية والحمل الصحيح لفكرتها الإصلاحية ومبادئها، وتمكن لكل واحد منهم ورقة من أوراق الاستدعاء التي تصلهم من المركز بعد تعميرها باسمه، وتزودهم برسالة ممضاة من رئيس الشعبة ومتضمنة لعدد الممثلين وأسمائهم. رابعًا: على هؤلاء الممثلين أن يمروا بمركز الجمعية في الجزائر يوم السبت 29 سبتمبر الجاري ليسلموا أوراق الاستدعاء ويستلموا أوراق الدخول ليستظهروا بها عند مدخل القاعة لرجال التنظيم. خامسًا: كل من ليس بيده شهادة التمثيل من شعبته الخاصة لا يؤذن له في الدخول، لأن هذا هو النظام العام المعمول به في جميع الجمعيات والأحزاب. سادسًا: وجهت رسائل خاصة للأعضاء العاملين، فيجب على كل من بلغته الرسالة أن يحضروا بمركز الجمعية في اليوم الذي عين لهم ولا يتأخروا.

_ * "البصائر"، العدد 170، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 17 سبتمبر 1951.

نظام الاجتماع

نظام الاجتماع أعمال صباح يوم الأحد 30 سبتمبر بقاعة سينما "دنيازاد" ــــــــــــــــــــــــــــــ أولًا: يفتتح الاجتماع بتلاوة آيات من كلام الله. ثانيًا: كلمة ترحيب بالحاضرين يلقيها نائب رئيس الجمعية. ثالثًا: التقرير الأدبي يلقيه رئيس الجمعية. رابعًا: التقرير المالي يلقيه أمين مال الجمعية. خامسًا: تنقيح مواد من القانون الأساسي لمناقشته والتصديق عليه. سادسًا: وصايا ونصائح يقوم بها الرَّئِيسُ ونائبه، وبها تنتهي أعمال المجلس القديم. أعمال مساء يوم الأحد المذكور بمركز جمعية العلماء من الساعة الخامسة إلى السابعة: أحاديث متنوعة في الضواحي الاجتماعية التي تهم الجمعية، وتنفع الحاضرين بوجه عام، وتنير الطريق أمام المجلس الجديد بصفة خاصة، وهذا العمل غير رسمي ولكنه مفيد. أعمال اليوم الثاني وهو غرة أكتوبر سنة 1951 في مركز جمعية العلماء على الساعة السابعة صباحًا يجتمع الأعضاء العاملون في المركز ليشكلوا لجنة منهم لترشيح المجلس الجديد، ومكتبًا للاشراف على الانتخاب، وبعد ذلك مباشرة تجري عملية الانتخاب، بحيث يتم هذا كله على الساعة الثالثة عشرة، وبهذا تنتهي الأعمال الرسمية. وعلى الساعة الثالثة بعد الزوال يشترك الأعضاء العاملون والمؤيدون في اجتماع بالمركز يعرض المجلس الجديد فيه نفسه عليهم، ويتعاهد الجميع على ما فيه خير العروبة والاعلام، ويختم الاجتماع بتوديع المشائخ المعلمين لينصرفوا إلى مدارسهم التي تنتظر الفتح يوم خامس أكتوبر. عن المكتب الإداري محمد البشير الإبراهيمي

التقرير الأدبي

التقرير الأدبي * الحمد لله الموفق المعين، إياه نعبد وإياه نستعين، منجز الوعد بالنصر لعباده المؤمنين، منزل السكينة على الصابرين المخلصين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، القوي المكين، نبي الحرية، وعدو العبودية، ومطهر العقول من أدران الوثنية، وسائق ركب الإنسانية، إلى السعادة الأبدية، وعلى آله وأصحابه أحلاف السيوف، وقادة الزحوف، وأئمة الصفوف، وعلى التابعين لآثارهم في نصر الدين، إلى يوم الدين. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. اللهم هب لنا توفيقًا ينير الطريق، وهداية تقي العثرات، وعناية تأخذ باليد إلى الحق، ويقينًا يزيل اللبس في مواطن الشبهات، وتأييدًا يثبت الأقدام في مواقع الزلل، وثباتًا يعصم من الفرار في ميادين الصراع بين الخير والشر، وصبرًا يزع عن النكوص على الأعقاب، وشجاعة تفل الحديد، وتنسخ آية هذا العصر الجديد، وبيانًا يفحم الخصم في مواقف الجدل، وعفة تقهر الغرائز الجامحة، والشهوات العارمة، والمطامع المتعرضة بكل سبيل، وأفض علينا لطفًا يصحب خفايا الأقدار عند حلول المصائب، وأصحبنا ولاية منك تخرجنا من الظلمات إلى النور، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

_ * "البصائر"، العدد 172، 173، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 15 أكتوبر 1951م.

اللهم جنبنا زلة الرأي، وزلزلة العقيدة، ودغل الضمير ورين البصيرة، وخيبة الرجاء، وطيش السهام، وجنبنا الخوف من غيرك، والجحود لخيرك والبخل عليك برزقك، والرهبة من عدوك، والضلال في معرفتك، والهجر لكتابك،- والشك في وعدك، والاستخفاف بوعيدك، والدخل في الانتساب إليك واجنبنا وقومنا أن نعبد هذه الأصنام التي أضلت كثيرًا من الناس. اللهم ارزق أمة محمد التفاتًا صادقًا إليك، والتفافًا محكمًا حول كتابك، واتباعًا كاملًا لنبيك، وعرفانًا شاملًا بأنفسهم فقد جهلوها، وتعارفًا نافعًا بين أجزائهم فإنهم أنكروها، وبصيرة نافذة في حقائق الحياة فقد اشتبهت عليهم سبلها الواضحة، وهب لهم من لدنك نفحة تصحح الأخوة السقيمة وتصل الرَّحِمَ المجفوة، وتمكن للثقة بينهم، واتحادًا يجمع الشمل الممزق ويعيد المجد الضائع، ويرهب عدوك وعدوهم، ورجوعًا إلى هديك يقربهم من رضاك، ويسبب لهم رحمتك ويزحزحهم عن عذاب الخزي، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت. اللهم واحفظ هذه العصابة الذائدة عن حماك، المعظمة لحرماتك، الواقفة بالمرصاد لكل معتد عليها، الناصرة لدينك، والمدافعة- ولا مِنَّة- عن بيوتك، القائدة لرعيل الحق في سبيلك، فإنها كثيرة بك، معتزة بعزتك، قوية بتوفيقك، وإنها إن هلكت لم تعبد في هذه الأرض. ... أيها الإخوان الكرام، أيها الأبناء الأعزة! مرحبًا بالوفود غير خزايا ولا ندامى، وسلام لكم من أصحاب اليمين، وسلام عليكم بما صبرتم وأنفقتم من وقت ومال، وأضعتم من منافع وأعمال، وتحيات الله المباركات الطيبات تغشاكم في الحل والترحال، وتلقاكم في الغدوات والروحات، ما دمتم وفي سبيل الله مغداكم ومراحكم، وفي مرضاته قيدكم وسراحكم، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمندم، وبؤتم- إن شاء الله- بحسن المنقلب، وسلامة الغياب والاياب، وحيتكم ملائكة الله المسبحون الصافون، وعباده المحتشدون الحافون، بما نصرتم من حقه، وكثرتم من حزبه، ونضر هذه الوجوه التي تستبشر في مراضيه، وتبسر في مساخطه، وثبت هذه الأقدام التي اغبرت في سبيل العلم، وتأييد العاملين له، والناشرين للوائه بعد الطي. فيكم يا وفود التكرمة، وبقايا سلائل المقداد وعكرمة، مخايل صادقة من أجدادكم العرب الذين كانوا إذا دعاهم الداعي لمنقبة تشاد، أو لمأثرة تبنى، خفوا إليه سراعًا، وإذا

استصرخهم المستنصر لضيم تأباه من ابن الحرة، نفسه الحرة، أقبلوا إليه شدًا، وأوسعوه نصرًا وعونًا، وقد جربناكم في الحالين فصدقت المخيلة. ... أيها الإخوان، أيها الأبناء! هذه نهاية خمس سنوات قضيناها- بمعونتكم- في العمل المثمر، وقطعناها- بتأييد الله ثم بتأييدكم- في الخير العام لهذه الأمة التي تنكر لها الزمان بما كسبت أيديها، وأشاح عنها وجهه، وأتاح لها الجار الذي لا يبيت جاره إلّا على وجل، والعدو الذي يسمي لها الشر باسم الخير فيغرها، ثم يبيعه لها ملفوفًا في غشاء الخير فيغشها، ثم يمن عليها بذلك فيحتقرها، ثم يفرض عليها أن تشكره على ذلك فيذلها. هذه خمس سنوات وصلنا لياليها بأيامها في القيام بالعهد الذي عاهدنا الأمة عليه في صيف سنة 1946 من النهوض بالجمعية والانتقال بها من طور الركود إلى طور الحركة، ومن حال الضعف إلى حال القوّة، حتى انتهيت إلى ما نعتقد أنه تمام طور، وكمال نصاب، فجئنا بكم اليوم لنعرض عليكم أعمال هذه السنوات الخمس التي هي طور كامل من أطوار جمعيتكم تم وكمل، ووجب الانتقال منه إلى طور جديد، ببرنامج جديد، وعزائم جديدة وأعوان جدد، وتفكير جديد، وتقدير جديد وهمم جديدة. إن الأعمال العظيمة لا تقيد بالأيام، ولا تقدر بالسنوات ولا تشوش بالحساب الآلي، ولا تعطل بالأوضاع العرفية، وإنما هي أطوار يتم تمامها في زمن طويل أو قصير، وقد كانت جمعيتكم أطوارًا لا توزن بالأيام والليالي، وإنما توزن بتمام الأعمال وكمالها، واستجماع أجزاء هياكلها، وقد كان تمام طورها الأول في ست سنوات، هي سنوات الصراع بين الحق والباطل، هي السنوات التي قطعناها في إصلاح العقول التي أفسدها الضلال في الدين، وفي تصفية النفوس التي كدرتها الخرافات، واعدادها لفهم حقائق الدين والدنيا، وغرس القابليات الصحيحة فيها للخير، ودك الحصون التي كانت مانعة لنا من الاتصال بالجيل الناشىء حتى نستطيع تعليمه الحق، وتربيته على الحق، والحيلولة بينه وبين الفساد المتفشي في الآباء والأمهات، فقد كان الآباء الذين مردوا على الضلال لا يرتضون لأبنائهم إلّا أن يرثوا عنهم ذلك الضلال، فجاهدنا في تلك السنوات الست في تنقية الأشواك من طريقنا إلى الصغار، لنتمكن من تربية عقولهم على العقائد الصحيحة في الدين والدنيا، ونفوسهم على الفضائل الكاملة في الجسم والروح، وألسنتهم على البيان العربي، وأفكارهم على التأمل والإدراك علمًا وعملًا، وكنا جارين في ذلك كله على سنة الحارث الهمام ... لا يزرع البذر

إلّا بعد تنقية الأرض وتمهيدها وإثارتها، فلما تم لنا من ذلك شيء في بعض الجهات ووجدت القابلية- انتقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي التعليم، بعزيمة المؤمن المنتصر المقدر لمواقع الخطى، المستفيد من الصواب والخطأ، ولم يبق لنا من أعمال الطور الأول إلّا مواقف حراسة ودفاع لئلا يعاود الباطل كرته، على نحو من دفاع الجندي الظافر في أطراف الميدان. كان الطور الأول طور هدم ورفع أنقاض، وكان الطور الثاني طور بناء وتشييد ... بناء للعقول والأرواح والنفوس بمواد العلم والحكمة والفضيلة وتشييد للحياة الفاضلة الحافلة بالسعادة والنضرة، المبنية على المثل العليا من الرجولة والبطولة والنبوغ، ولا تذكروا مع هذا تشييد المباني، فهي في المحل الأول وهو في المحل الثاني، وأين بناء الجدران، من بناء مقومات الإنسان؟ إن في بناء العقول والأرواح والنفوس والأذهان لمحاكاة لصنع الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وإن في فتق لسانه على البيان المنمق، وتشقيقه على الكلام المشقق، لتحقيقًا لحكمة الذي خلق الإنسان علمه البيان، وأين يقع ذلك من هذا؟ استغرق هذا الطور سبع سنوات تخللتها نكسة الحرب وتعطيل التعليم في سنوات منها، وكان الربح الذي أفاءته علينا سنوات التعطيل أربى من الخسارة، فقد تنبهت مشاعر الأمة في حقبة التعطيل، وكمل استعدادها، فما كادت الحوائل تزول حتى تأججت الرغبات المكبوتة، وانفجر الاستعداد الكامن، وأقبلت الأمة تبني المدارس وتعلي، سائرة على هدي جمعية العلماء، وجارينا ذلك التيار على ما في مجاراته من أخطار، وفتحت عشرات المدارس فيما بين سنة 1943 وسنة 1945، وجاءت حوادث 8 ماي فأعادت النكسة وشلت الهمم والعزائم، ورمت الأمة بالداء العياء الذي ما زالت تعاني عقابيله، وهو الخوف والرهبة. وجاء الطور الثالث يعدو سابقًا في صيف 1946 متسمًا بالحزم والتصميم والنظام والترامي إلى الكمال، والرمي إلى هدف واحد، والإيمان الجازم بالغاية وجمع القوى المتفرقة في سبيل الوصول إليها، وإن هذا الطور كيوم من أيام الله في جمعيتكم، لا يقدر بالساعات، وإنما هو هيكل من الأعمال متعدد الأجزاء لا يتم بتمام جزء منها، وإنما يتم بتمام جميعها، وقد استعددنا للقيام بإتمام هذا الهيكل، وصاحبنا من توفيق الله ما شهدنا آثاره، فلم ننقطع يومًا عن الأعمال المتممة لهذا الهيكل في السنوات الخمس، وإنما انقطعنا عن شيء عرفي، قرره الاصطلاح والقانون، وسمياه (الاجتماع العام) فلم يُفَوِّتْ علينا هذا الانقطاع إلّا اجتماعًا محدودًا في مكان محدود في ساعات محدودة، تلقى فيه كلمات معدودة، وأبخس بهذا كله فائتًا في جنب ما تم وحصل في هذه السنوات الخمس من الأعمال الإيجابية الباهرة التي لولا عون الله وتيسيره، وسر الإخلاص لما تم بعضها في

عشرات السنين، ولو قارنا بين ما أجدى علينا هذا الانقطاع وما رزأنا لوجدنا الجدوى أرجح من الإضاعة، فلم تمر في تاريخ جمعية العلماء سنوات أبرك على الأمة وأعود عليها بالخير من هذه السنوات، فكأنهن البقرات السمان أو السنبلات الخضر في رؤيا يوسف غير أنهن خمس .... على أن انقطاع الاجتماع العام لم يكن مخالفًا للقانون العرفي كما يتوهمه بعض الناس. بل كان مستندًا على أسناد قانونية متينة، فإن كثيرًا من أهل الرأي من الأعضاء العاملين والمؤيدين كانوا مجمعين في أول كل سنة من هذه السنوات على عدم لزوم الاجتماع العام محتجين بأن المجلس الإداري قائم بمشاريع عظيمة واسعة النطاق، تملك عليه وقته وتفكيره وجهده، ويستدعي إتمامها سنين من الوقت وملايين من المال، ومجهودًا متواصلًا من الأعمال، ويقتضي جمعًا بين أول الرأي وآخره، وبدء العمل وتمامه، فليس من سداد الرأي ولا من صواب التدبير تشويه الهيكل بتشويش العمل- وهو في انتظام أمره واطراد سيره- باجتماعات آلية يعطل اعدادها وقتًا غير قصير، ويستنفد مالًا غير يسير، بل من لباب الحكمة أن لا تختلف الأيدي المسيرة كيلا يختلف الرأي، وأن يبقى المجلس الإداري قائمًا على تلك المشاريع، حتى يقدم للأمة عملًا كاملًا، فما أضر الجمعيات والحكومات، وما عطل بناء الأعمال العظيمة فيها حسية ومعنوية إلّا هذه السنة السيئة، وهي أن يبدأ الأعمال ويضع لها البرامج والتخطيطات غير من يوكل إليه إتمامها، وما شل عبقريات الرجال إلّا عروض هذا الخيال، وهو أنهم يبدأون العمل على تدبير وتقدير، ثم يخلفهم عليه من لا يرى فيه رأيهم، ولا يفكر تفكيرهم ولا يوافق ذوقه ذوقهم، ولا يكون له من الهمّة في إنجازه ما لهم من الهمّة فيه، والأعمال همم وذمم وقيم. أيها الإخوان: تنقسم الأعمال التي باشرها المجلس الإداري لجمعيتكم في السنوات الخمس الماضية إلى قسمين: مشروعات ومواقف، وأهم المشروعات- المدارس و"البصائر" والمعهد الباديسي، وتضاف إليها حركة باريس ومكتب مصر، وأهم المواقف موقف الدفاع عن حرية الدين، والدفاع عن حرية التعليم العربي، ويتبع ذلك موقفه من قضايا العروبة والإسلام، وها نحن أولاء نتحدث إليكم عن هذا الأهم من المشاريع، مجملين في بعضها حيث لا فائدة في التفصيل، مفصلين في بعضها حيث يحسن اطلاعكم عليه. فإذا انتهينا من ذلك تقدمنا بإرشادات إلى المجلس الجديد فيما يجب عليه لاتصال العمل في هذه المشاريع وتقويتها والمحافظة عليها، وزودناه بخلاصة التجارب التي حصلنا عليها من المراس للحوادث، والمراس على المكاره والمصاعب، وان هذا لخير زاد يقدمه سلف لخلف، وأنفع ميراث يرثه خلف عن سلف.

المدارس

المدارس يتكلم بعض الأدباء والمتألهة عن عدد الثلاثة، ويتخيلون له من بين الأعداد سرًا يحومون عليه ولا يكشفون عنه، ويطرقون بابه ولا يلجون، ويعدون اعتباره في العادات والأديان، والإكثار من ذكره والتحديد به ظاهرة قديمة في العادات متفشية في الأديان واردة على ألسنة الرسل المعصومين، فالثلاثيات أو الثواليث هي أكثر شيوعًا من كل ما اشتق من الأعداد أو تصرف منها، ففي الإسلام التثليث في الطهارة، والثلاث في العصمة، والثلاثة والثلاثون في الذكر، وفي العادات تكرير اللفظ ثلاثًا للتأكيد، وفي كثير من أطوار الأدب العربي ثواليث من الشعراء تنتهي إليهم الشهرة في جيلهم وتقف، وفي الأخلاق ثواليث تتقارب في الأثر اشتراكًا، أو تتباعد تضادًا، وتتماثل حتى في الوزن وأشكال الحروف كالجهل والجبن والجفاء أو كالجدب والجرد والجفاف، والحقيقة أنه لا سر في هذا وإنما فيه غرابة، لأن الثلاثة هي أول عدد يجمع درجتي العدد، وهما الشفع والوتر، ولكنهم مع هذه الحيرة في الثلاثيات لا يستغربون الثنائيات، والكون كله مملوء بها وقائم عليها، والتقسيم كله راجع إليها، فهي محل السر وإن لم تكن محل الغرابة لكثرتها، كالليل والنهار والظلمة والنور، والخير والشر والحق والباطل، وفي الكون سماء وأرض وفي الاحياء ذكر وأنثى، وفي جوارحهم كثرة مزدوجة كالعينين واليدين، وفيما يختلفون فيه العفة والطمع، وفيما يقتتلون عليه الجوع والشبع، وفيما يتدافعون عليه الحرية والعبودية، وفي أخراهم النار والجنة، وفي دنياهم المدرسة والسجن ... هذه فلسفة فارغة، ولكن في بعض جوانبها مجالي للعبر، وجوالب للتفكير، فالدنيا أخت الآخرة أو ضرتها وفي كليهما متقابلات يؤدي بعضها إلى بعضها، أو يدل بعضها على بعضها، فالمدرسة هي جنة الدنيا والسجن هو نارها ... والأمة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون، والأمة التي لا تصنع الحياة يصنع لها الموت، والأمة التي لا تعمل لنفسها ما ينفعها ويسعدها، يعمل لها غيرها ما يضرها ويشقيها، والأمة التي لا تحك جسمها بظفرها فترفق وتلتذ، تحكها الأظفار الجاسية فتدمى وتتألم، والأمة التي لا تغضب للعز الذاهب ترضى بالذل الجليب، والأمة التي تتخذ الخلاف مركبًا يغرقها في اللجة، والأمة التي لا تكرم شبابها بالعلم والتثقيف مضيعة لرأس مالها، والأمة التي لا تجعل الأخلاق ملاكها، أمة تتعجل هلاكها، والأمة التي تلد لغيرها- أمة تلد العبيد، لا أمة تلد الأحرار الصناديد، والأمة التي تعتمد في حياتها على غيرها طفيلية على موائد الحياة حقيقة بالقهر والنهر وقصم الظهر، والحياة بلا علم متاع مستعار، والوطن بلا علم عورة مكشوفة، ونهب مقسم، سنة من سنن الله كسنته في تكوير الليل على النهار.

لطالما قرعنا أسماع أمتنا بهذه الحقائق في المجتمعات الحاشدة بالكبار والصغار والنساء والرجال، في دروس الوعظ الديني، وفي محاضرات الإرشاد الاجتماعي، وعلى منابر الجمع والأعياد، وضربنا لها الأمثال بالأمم حاضرة وغابرة، وأفهمناها أنه إذا كانت الدار مقبرة فالحياة فيها موت، وإذا كان الشارع ملهى فهو طريق إلى السجن، وأن المدرسة هي طريق الحياة وطريق النجاة وطريق السعادة، وان الوطن أمانة الإسلام في أعناقنا، ووديعة العرب في ذممنا، فمن بعض حقه علينا أن نحفظ دينه من الضياع، وأن نحفظ لسانه من الانحراف، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلّا بالمدرسة التي تبنيها الأمة بمالها، وتحوطها برعايتها، وتجعلها حصونًا تقي أبناءها الانحلال الديني والانهيار الخلقي وتحفظهم من ترف الغنى وذل الفقر، وتربيهم على الرجولة والقوة، وتوحيد النزعات، وتصحيح الفطرة، وتقويم الألسنة وتمتين الإرادات والعزائم، وتغرس الفضيلة في نفوسهم، وتصلح فيهم ما أفسده المنزل والشارع، وتروضهم على حب الوطن وبنائه طبقًا عن طبق. وكأنما تلاقت كلماتنا الواعظة وآذان الأمة الواعية، في غمرة من غمرات التأثر والانفعال، والامتعاض للحال، والتشاؤم من المآل، فكان أثر ذلك تلك الهبَّة التي وضعت حجر الأساس لهذه النهضة، وأنتجت عدة مدارس في نواحي القطر المتفرقة، ثم تضاعفت الهبة من آثار الحرب المتناقضة في النفوس، فاشتد الإقبال على إنشاء المدارس، وسرت العدوى فولدت التنافس المحمود بين الجماعات والقرى، حتى أن المؤرخ ليعد- صادقًا- سنة 1943 وما بعدها موسم حمى فائرة، أعراضها تأسيس المدارس، وهذيانها الحديث عن المدارس، وكان تشجيع جمعية العلماء لهذه الحركة المباركة- على ما فيها من أخطار الاندفاع- مبنيًّا على حكمة، وهي أن تثبيط الهمم المتوثبة تبريد للحمية الفائرة، وفي التبريد من الأضرار ما ان أيسره- في مثل أمتنا- معاودة الهجوع وهي قريبة عهد به، مع كثرة الأيدي المهدئة، وتجاوب النغمات المهدهدة، لإعادة النائم إلى نومه. ثم تضاعفت الهبة لأوائل هذا الطور وهو سنة 1946 وكانت في هذه المرة مستكملة البواعث، وضاعف رجال الجمعية جهودهم في التنشيط، وكان من آثار هذا المزيج من النشاط والتنشيط أن تم في هذه السنوات الخمس عدد من المدارس هي مفخرة الفاخر، وملجمة الساخر، ولئن كان من مفاخر الطور الأول للجمعية مدرسة دار الحديث بتلمسان ومدرسة تهذيب البنين بتبسة، وكان من مفاخر الطور الثاني مدرسة الحياة بجيجل، ومدرسة شاطودان، فمن مفاخر هذا الطور الأخير مدرسة ندرومة، ومدرسة سيق، ومدرسة وهران ومدرسة أبي العباس، ومدرسة تيهرت، ومدرسة الأصنام، ومدرسة الأغواط، ومدرسة بوفريك، ومدرسة سانت أوجين، ومدرسة حي بيلكور في الجزائر، ومدرسة قنزات، ومدرسة سطيف، ومدرسة العلمة، ومدرسة بسكرة، ومدرسة سكيكدة، ومدرسة عنابة، ومدرسة

خطاب بالميلية، فهذه أمهات المدارس التي شيدتها الأمة وأعلتها على مقدار من همتها وأنفقت فيها عشرات الملايين، وتداعت فيها إلى البذل على بصيرة وإيمان ويقين، ومن وراء هذا الطراز المشرف والنموذج الكامل من المدارس، نموذج هو دونه في الضخامة، تمثله مدارس مغنية والحنايا والغزوات والطهير، وعقارات اشتريت بقصد الإصلاح والتجديد، ومساحات من الأرض حيزت بقصد البناء ولئن تمت ليكونن بعضها أضخم وأعظم مما تم تشييده، كمدرسة خنشلة، ومدرسة الشريعة، ومدرسة البنات بجيجل، وغيرها. ومما يسترعي الانتباه أن هذه المدارس شيدت كلها على طراز متقارب الهندسة والمظهر، وهو شيء مقصود أشرنا به ونفذناه، وأبعدنا النجعة في تطلب سره، وهو أن تفهم الأجيال الآتية أن هذا الجيل الذي بنى وشيد، كان جيلًا منسجم الذوق، موحد اللمحات الذهنية، متقارب النظرات الفنية، وانتقل من ذلك إلى أنه جيل ينظر إلى الحياة نظرة واحدة، ولا يصمنا باختلاف الذوق، واختلال الذهن، وانطماس النظرة، وما زال اتحاد الذوق في أمة دليلًا على وحدة تفكيرها، وسداد نظرتها، وما زلنا نرى الطراز الأندلسي موحد التقسيم والتخطيط، فنشهد لأصحابه بوحدة الذوق وانسجام اللمحة، والتواطؤ على فنون الحياة، ونستدل بذلك على أشياء أخرى من شؤونهم في غير المعمار، ونحن بهذا التقارب البادي في طراز مدارسنا والذي سيتم تمامه في المستقبل نكون قد سجلنا لجيلنا الحاضر منقبة، وفرضنا على الأجيال الآتية نوعًا من الإكبار لنا، والتقدير لأعمالنا فائدته لنا حسن الذكر وطيب الأحاديث من بعدنا، وتزيين صحائفنا السوداء بلمحة من جمال، وفائدته لأجيالنا الآتية متاع من الفخر الصادق بنا، وخطة من التأسي الصالح بأعمالنا وآثارنا، وحفز لهم إلى تكميلها والمحافظة عليها، ولو أننا تركنا لهم صورًا شوهاء مختلفة المظاهر والأشكال لأضللناهم، ولنبت عيونهم وأذواقهم عن آثارنا، فكان ذلك مدرجة لنسيانهم لنا، وعقوقهم إيانا، وإذًا لأضعنا عليهم سبب فخر، وفوتنا على أنفسنا مناط ذكر، فلتكن هذه النكتة عظة لبناة المدارس من أبناء هذا الجيل، فإليهم سقنا الحديث، وإياهم عنينا بالتذكرة. ... بلغ عدد المدارس الابتدائية، مائة وخمسًا وعشرين مدرسة، (بإسقاط المعطل منها إداريًّا)، وتشتمل هذه المدارس على أكثر من ثلاثمائة فصل. وبلغ عدد التلاميذ النهاريين: الملازمين ................... 16286 الذكور منهم ................ 10590 والإناث .................... 5696

وبلغ عدد التلامذة الليليين الذين تشغلهم المكاتب الفرنسية: بالنهار .......... 20000 (وهذا الإحصاء خاص بمن شارك في امتحانات هذه السنة). فمجموع التلامذة الذين تضمهم مدارسنا قريب من سبعة وثلاثين ألف تلميذ وقد يجاوزون الأربعين ألفًا في بعض الأوقات. ولكن الانقطاع في أثناء السنة كثير، لأن أسبابه كثيرة في أمتنا، فإذا أسقطنا هذا العدد القليل من ذلك الرقم الهائل المحروم من التعليم بجميع أنواعه، وهو مليونان من شباب الأمة وأطفالها- وجدنا أنفسنا لم نزل في مبتدإ المرحلة، وسمعنا الواجب ينادينا ويحثّنا على مضاعفة الجهد لإنقاذ هذا الجيل البائس من الأمية والجهل، فإذا لم نفعل أضعنا جيلًا كاملًا، وحققنا أمنية الاستعمار فيه. وبلغ عدد المعلمين .......... 275 معلمًا يتقاضون أجورًا لا تكاد تكفي لضرورياتهم، تبلغ سبعة وثلاثين مليونًا في السنة تقريبًا. وبلغت قضايا المحاكمات للمعلمين (بتهمة التعليم) سبعًا وعشرين قضية، حكم في جميعها بالتغريم، وفي ثلاث منها بالتغريم والحبس ... وفي واحدة منها بالسجن والتغريم المضاعف واستؤنفت عدة قضايا منها إلى المحاكم العليا في باريس فأيدت أحكام الجزائر في جميعها، ولم تنقض منها حكمًا، مما يدل على أن "العلة في الرأس"، وأن بين أيدينا سجلًا جامعًا لهذه المحاكمات سوف ننشره في العالمين تشنيعًا على الاستعمار، وكشفًا لسيئاته. ومن آيات الله في هذه المدارس أنها حية في حكمه، تعلم وتؤدي واجبها، ولكنها ميتة في حكم الاستعمار، لأنها مخالفة لقوانينه الجائرة، وأغراضه الخبيثة، مناهضة لوجوده، ففي حياتها وموتها خلاف بين الله وبين الاستعمار، وفي استمرارها وتعطيلها غلاب بين أحكم الحاكمين، وأظلم الظالمين، ومغالب الله مغلوب. أيها الاخوان: إن الاستعمار ينظر إلى مدارسكم بعين الغضب، فهل أنتم ناظرون إليها بعين الرضا (1)، ومقدمون إليها ما ينشأ عن الرضا من تأييد والتفاف واستماتة في الدفاع عنها؟ إنه جاد في قتل لغتكم، فهل أنتم جادون في إحيائها؟ (2) وإنه ينظر إليكم بالعين النافذة إلى السرائر، وقد جسَّ مواقع الضعف منكم فوجدها في التفرق والتخاذل والبخل، فاتخذ منها دلائل على موت مشاريعكم، فهو يغفل ويتصامم لتموت بأيديكم لا بيده، فيكون له

_ 1 و2) أجاب الحاضرون هنا بإجماع: نعم!

بذلك بلوغ غرض وإقامة دليل، وانه ليحاكم مدرسة بعينها ويترك ما بين أيديها وما خلفها من المدارس، ليذكرنا دائمًا أنه هو هو وأنه بالمرصاد وأنه إذا شاء فعل، ومن مكره الكُبَّار أنه يفحش في المحاكمة ويغلظ فيحاكم المعلمين على الصورة التي يحاكم بها المجرمين في مجلس واحد، وينادي مناديه على متهم بسرقة وعلى متهم بتعليم القرآن، أو بفتح مدرسة بلا رخصة، وكثيرًا ما يكون يوم المحاكمة هو يوم الجمعة فاسمعوا وعوا ... أيها الإخوان: هذه المدارس التي تعتمد ماديًّا على الأمة وحدها، وأدبيًّا على جمعية العلماء وحدها مفتقرة إلى مدد متلاحق من المال والنظام، وان الأول لألزم من الثاني ومقدم عليه، فإن النظام لا تطمئن قواعده إلّا بالمال، وان قلة المال هي السبب الوحيد فيما يبدو على مدارسنا من اضطراب وخلل، وخذوا مثلًا جزئية واحدة وهي لجنة التعليم والتفتيش، فإن عددًا ضخمًا من المدارس والمعلمين والتلامذة مثل هذا يحتاج إلى إدارة خاصة بمديرها وكتابها ومفتشيها ولوائحها وملفاتها تكون مرجعًا للجمعيات المحلية فيما يخصها، وللمديرين والمعلمين فيما يخصهم، وفيصلًا في الخلاف الذي ينجم، والإشكال الذي يطرأ، ومسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة من أمر المدارس، وعن التفتيش والمراقبة للامتحانات، وقد تنبه المجلس الإداري لهذا كله، وتبين فائدته ولزومه، من أول هذا الطور، فكون لجنة التعليم من قدماء المديرين، وبعض أعضاء المجلس الإداري، وأسند إليها كل ما يتعلق بالتعليم، وزودها بالأدوات اللازمة، فقامت بأعمال نافعة ووضعت اللوائح والنظم، ونظمت التفتيش، وبدأت التجربة بواحد، وقطعت سنتين في تجربة كانت مشجعة في الجملة، ثم استأنفت العمل، ونقَّحَتْ كل ما لم يظهر صلاحه من اللوائح، وقد مضت عليها أربع سنوات ولم يقع فيها تجديد، ولم يظهر على أعمالها تقدم، بسبب فقد الأموال اللازمة، وحسبكم أنها كلفت الجمعية قريبًا من مليون فرنك في سنتها الأولى، وقد قدمت للمجلس الإداري بعد اجتماعها الأخير، وبعد إنجازها لأعمالها، تقريرًا وافيًا عن حالة التعليم مستقاة معانيه من تقارير المفتشين والمديرين، واقترحت مقترحات مفيدة ضرورية، وقدرت لتنفيذها. على أكمل وجه مليونين ونصف مليون من الفرنكات، وانه لمبلغ نزر بالنسبة إلى ما يترتب على تلك المقترحات من الفوائد، ولكن أين هذا المبلغ من المال؟ أصارحكم بأن من الموارد المالية التي خصصناها للجنة- اشتراكات سنوية فرضناها على المدارس بنسب متفاوتة بحسب ضعفها وقوّتها، وأشرنا عليها أن تحتسبها من نفقاتها العامة، ولكن كثيرًا من المدارس لم يدفع ذلك المبلغ التافه سنتين، تعللا بالأزمة، مع تكرر الطلب وان هذا لأحد الأسباب في كثير من التقصير والخلل الذي نعترف به منصفين، ولكننا لا نرضى أن نتحمل مسؤوليته وحدنا بل المسؤولية ملقاة على الجمعيات المحلية ومن ورائها الأمة.

المعهد الباديسي

أيها الإخوان: كلمة صريحة مريحة، إن كنتم جادين في هذه النهضة، مؤمنين بنتائجها وغاياتها، فكونوا مؤمنين بأنه لا يتم لها تمام بالأقوال وتخطيط البرامج على الورق، وإنما يتوقف كل شيء فيها على المال، وان المطلع على بواطن الحالة عندنا ليأخذه العجب من سير هذه الحركة العتيدة بهذه المبالغ الطفيفة من المال، أما غير المطلع فقد يظن الظنون، وقد تطايرت منذ سنوات أخبار عن جمعيتكم عرفنا مصدرها ومغزاها، وبلغت إلى مصر والعالم الشرقي، وتقول هذه الأخبار ان جمعية العلماء تملك خمسمائة مليون من الفرنكات، وانحط بها بعضهم إلى ثمانين مليونًا، وكأن ناقلي هذه الأخبار ومصدقيها يعتقدون أن جمعية العلماء شركة تتجر في المواد الرائجة، وما علموا أنّه لو اجتمع لجمعية العلماء هذا المبلغ من المال لأنفقته في سنة واحدة على تشييد المدارس لهذا الجيش المتشرد من أبناء الأمة، لأن ادخار المال، لا يكون إلّا بعد استكمال الأعمال، ونحن لم نصل بعد هذا الجهد المضني في عشرين سنة إلّا إلى تحقيق جزء من رغائب الأمة، وإخراج نحو مائة ألف من سجن الأمية، ولكننا نقوم بواجبنا، على قدر حالنا، ونذر المتخرصين ينطقون عن الهوى، ويخوضون في ضحضاح الأوهام. المعهد الباديسي من غرر أعمال المجلس الإداري في هذه السنوات الخمس إنشاء المعهد الباديسي بقسنطينة، بحيث إذا عدت أعمال جمعيتكم كان درة تاجها، ونكتة انتاجها، وذبالة سراجها والمرقاة العليا في معراجها، والبرهان القاطع على بلوغ الجمعية رشدها، والأمة أشدها. قضينا عن الأمة بإنشاء هذا المعهد حاجتين في النفس: إحياء اسم أخينا واضع الأس في بناء النهضة التعليمية في الجزائر الإمام الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس بنسبة المعهد إليه، وتسجيل الاعتراف بفضله علينا وعلى الأمة، وان الاعتراف بفضل الرجال، من دلائل الكمال، ومن أوثق ما يربط الأجيال بالأجيال. والثانية إقامة قنطرة يمر منها أبناء الأمة الذين قطعوا مرحلة التعليم الابتدائي- إلى التعليم الثانوي، وهو النتيجة الطبيعية لنهضة التعليم الابتدائي إذا طرد سيرها، ولم تقف العوائق في طريقها.

وان بين هذا المعهد وبين من أطلقنا عليه اسمه- لصلة من الأمل، تجسمت فكانت كالعمل، حتى كأنه- رحمه الله- أنشأه بيده، فقد نبتت في ذهن الإمام المرحوم فكرة شغلت عليه فكره، فكان يكثر من ذكرها، ويجعلها منتهى آماله في الحياة، ويقربها منه الرجاء، فكأنها منه في قبضة المتناول، تلك الفكرة هي إنشاء كلية إسلامية عربية في الجزائر تدرس فيها أسرار البيان العربي، وحقائق القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي، والفضائل الإسلامية مفصلة على الغاية التي ترمي إليها حركة الإصلاح الديني والاجتماعي التي استفحل أمرها في الجزائر، لتخرج للإسلام- الرجل المصلح السلفي الكامل وتنبت للعروبة من جديد ألسنة تخب في الدعاية وتضع، وتطير في آفاقها وتقع، وكنا نشركه في هذه الفكرة فنتجاذب أطراف الحديث عنها إذ اجتمعنا، ويغمرنا الرجاء بتحقيقها، وكان- رحمه الله- أوسعنا استرسالًا مع الخيال في تشييد الكلية، حتى أنه ليطوي مراحل التمهيد الطبيعية ووسائل الإعداد الضرورية، كأنها طويت بالفعل، وإنا لنتحدث ذات غداة عن التعليم الابتدائي، والشوط الذي قطعناه فيه، ولم يكن لنا إذ ذاك إلّا بضع عشرة مدرسة فقفز بنا إلى الكلية، ولزوم المبادرة بالدعوة والترويج لها في أوساط الأمة، فعارضناه بأن تحقيق هذا الأمل يتوقف على مرحلتين تسبقانه طبعًا ووضعًا، وهما تعليم ابتدائي متقن واسع، فإذا تم وانتشر وكثر الحاملون لشهادته تطلب بطبيعته تعليمًا ثانويًّا، فإذا توجهت الأمة إليه، وجدت وآمنت بضرورته لحياتها اندفعت إلى تأسيس مدارسه، لأن العلم إذا انتشرت تباشيره في الأمة، وخالطت بشاشته أرواحها، أصبح كالسيل المتدافع، يقذف تيارًا بتيار، وحينئذٍ يجب التفكير في الكلية والتعليم العالي، وستكون الأمة إذ ذاك مندفعة إلى هذه المرحلة بما سبقها منساقة إليها بطبيعة الحال، ولم يكن- رحمه الله- ممن ينكر هذا بذوقه وشعوره، وإنما كان لقوّة أمله، وفيضان إحساسه، وصدق ثقته بنفسه وبربه وبأمته- يسمو إلى النهايات، ثقة منه بتكامل البدايات. بقي ذلك الأمل عالقًا بأذهاننا، مستوليًا على شعورنا، حتى لحق الأستاذ الرَّئِيسُ بربه وخلفناه- معشر إخوانه- على حمل هذه الأمانة العظيمة، فوضعنا نصب أعيننا ذلك الأمل، وأخذنا في إعداد وسيلته الطبيعية الأولى وتقويتها، وهي تكثير المدارس الابتدائية، وترقية برامجها، بما يحتمله الوسع، وأعاننا على ذلك إقبال الأمة على العلم، وشعورها بضرورته، تأثرًا بالدعاية التي اضطلعت بها الجمعية، حتى بلغت المدارس وتلامذتها إلى الحد الذي سمعتم، فكان هذا مما عجل التفكير في إنشاء المعهد لنسد به بعض الحاجة ولنجعله نواة للتعليم الثانوي الذي ما زلنا لا نملك أسبابه الكاملة، ولنرضى به رغبات طائفة من أبنائنا الذين أتموا الدراسة الابتدائية، حتى لا تنتكس النهضة وتتراجع ولنمتحن به صدق الأمة وجدّها في النهضة، وقدرتنا على اقتحام المرحلة الثانية في التعليم، وقد أسفر الامتحان من

البصائر

جهة الأمة عن تشجيع مؤثر، له خطره وستسمعون مصداقه من أخينا الأستاذ أمين المال، في فصل المعهد ومؤسساته ونفقاته، ولو اتسع المجال، ولم تتوال الأزمات على الأمة في السنوات الأخيرة، لتقدمنا إليكم اليوم بثلاثة معاهد للذكور، وبمعهد على الأقل للإناث، وإنني لا أخرج من العهدة إلّا بمصارحتكم بأن الأمة لا تستبرىء لدينها، وأمانة الله عندها إلّا بخطوة ثابتة سديدة إلى تعليم ثانوي منظّم، فإن غاية التعليم الابتدائي رفع الأمية وتكثير القارئين، وإثارة الشوق إلى العلم، فإذا لم تفتح في وجوه تلامذة هذا النوع أبواب التعليم الثانوي- انكسرت رغباتهم، وفتر شوقهم، وأدى ذلك إلى موت الأمل في نفوسهم، ثم إلى نوع خطير من الزهد في العلم، والرجوع إلى الأمية المريحة، ولا عذر للأمة في هذا بفقر ولا قلة، فإنها باجتماعها كثيرة غنية غير فقيرة، وان الحجة قائمة عليها بما تنفقه في اللهو وتبدده في الكماليات المباحة، والشهوات المحرمة. إن أمة تنفق مآت الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها في السنة على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها- لأمة كاذبة على الله سفيهة في تصرفاتها، ومن عدل الله فيها أن لا يغير ما بها، حتى تنوب وتثوب، وقد ضربنا لها الأمثال، وسقنا العبر، وحذرناها من التمادي في الغي، وبشرناها بابتسام الحياة لها إن هي رجعت إلى الله، ولبت داعيه، وأقمنا لها الدليل من هذه البواكير الطيبة لحركتنا التعليمية وإننا نبرأ إلى الله من أمانة مغشوشة ونصيحة مدخولة وبلاغ خاطىء. والمعهد الآن يستقبل سنته الخامسة يحنو على سبعمائة تلميذ من أبناء الأمة واثني عشر مدرسًا من علمائها، ويسير بخطوات وئيدة، ولكنها سديدة، معتمدًا في حياته على الأمة متوكلًا على فضل الله. "البصائر" كان من أعمال المجلس الإداري لجمعيتكم في أوائل هذه الحقبة- إنجازًا للوعد الذي قطعه على نفسه في اجتماع سنة 1946 - إصدار "البصائر" في طورها الجديد، ولقي في إصدارها ما لا يدركه إلّا المباشرون لمثل هذه الأعمال، وأصعبها وأثقلها محملًا- المطبعة- ولكنه صمم وعزم، فخرجت من أول يوم مولودًا كاملًا، واحتلت من أول يوم مكان الصدارة من بين الجرائد العربية في الشمال الافريقي، ودخلت الشرق العربي فرحبت

بها المحافل العلمية والأدبية التي اتصلت بها، وانهالت على إدارتها رسائل الإعجاب والتقدير من أئمة الكلام وحملة الأقلام، واعتبروها نموذجًا فنيًّا راقيًا، ثم دخلت الشرق الإسلامي فتفتحت لها القلوب المؤمنة، وتهللت لها وجوه المسلمين وعدوها لسانًا من ألسنة الإسلام، نطق حين أجرت المطامع الألسنة، وسيف من سيوف الإسلام انتضى حين أغمدت الرغبة والرهبة سيوفه، ودخلت النوادي العربية في الأميركتين فكانت سفيرًا موفق السفارة بين الجزائر وبين أبناء العروبة في تلك البلاد التي حيزت إليها الدنيا بحذافيرها، وزويت لها الأرض من أطرافها، وأَعْدَتْ كل داخل إليها بجنون المادة فكانت "البصائر" هناك قبسًا من روحانية الشرق ودعوة محبوبة إليه، تتداول الأيدي العدد الواحد منها حتى يبلى، ولو أن الناس هناك كانوا يقرأون العربية لأحدثت انقلابًا يكون مآله الرجوع إلى أحكام الروح. ثم دخلت أوروبا وتغلغلت إلى أقاصيها الشمالية، فكأنما طلعت منها على الجاليات الإسلامية هناك شمس ثانية، وكأنما امتد منها حبل واصل بين المسلمين هنا إلى إخوانهم النازحين الغرباء هناك، وقد بلغت من المكانة عندهم أن جملها أصبحت نماذج تنتزع منها الدروس الدينية والخطب الجمعية. وقفت "البصائر" في القضايا الجزائرية وفي قضايا العروبة والإسلام مواقف شريفة لم تقفها صحيفة عربية ولا أعجمية، وقاومت الاستعمار بالتشنيع عليه وهتك أستاره وكشف سرائره، ولم يثنها عن ذلك وقوع المكروه فضلًا عن توقعه، وكانت شجًا في حلقه وغصة في لهاته، وغيظًا في صدره، وخصمًا لا تلين قناته. ووقفت في قضية فصل الدين عن الحكومة مواقف صادقة فضحت فيها نيات الاستعمار المبيتة، وكشفت عن مقاصده الخبيثة، وواجهته بحقائق لم يستطع لها إنكارًا ولا ردًا، وسكت سكتة السارق الذي فضحه نور الفجر، وإذا لم تحصل الأمة بعد تلك الحملات الصادقة على طائل، فذلك راجع إلى عناد الاستعمار المعروف، ,وإلى علة أخرى في الأمة ما زلنا نطب لها، ولم نصل إلى نهاية العلاج بعد، وهي أن إيمانها بحقها ما يزال ضعيفًا، ولو أنها عوفيت من هذه العلة، وتم برؤها منها- لأجرت ألسنتنا وأقلامنا بعزمة مصممة، تفصل القضية في يوم أو بعض يوم، ولتركت الاستعمار يقول ما قاله إمامه الأول فرعون: آمنت أنه لا إله إلّا الذي خلق الأمة الجزائرية. ووقفت في قضية حرية التعليم العربي مواقف مشهودة، سيحفظها التاريخ وتحمدها العربية فيما تحمد، من مواقف النصرة لها، والدفاع عنها، وسيحمدها المنصفون من العرب وأنصار العروبة يوم تجتمع أطراف الأخبار، وتتجلى الحقائق، وبعلم أولئك الأنصار أن

عصابة قليلة العدد في الجزائر قامت بمكرمة عرفت عند العرب فأحيت الموءودة ... أحيت البيان العربي في ألسنة أدارها الاستعمار على رطانات غريبة ومكن لها فيها، ليسقط الضاد من مخارجها، وأنها أرجعت طائفة من أبناء العروبة إلى حظيرة العروبة. ووقفت من قضية فلسطين موقف المجاهد المستبسل الكرار وأتت في القضية بما لم تأته صحيفة عربية، وجلت من وجوه الرأي الصريح ما لم يجله مفكر عربي، وسددت سهام النقد إلى المتخاذلين من قادة العرب، فكشفت دخائلهم وقبحت سيرهم وأعمالهم وانخداعهم لدسائس أوروبا وأحيت معهم سنن السلف الناصحين من نصيحة صادعة، وكلمة حق قارعة، وقالت لهم ما يغضبهم ولكنه يرضي الله. ووقفت مع المغرب الأقصى في محنته الأخيرة موقف الأخ الصادق الأخوة يظاهر ويناصر وكأنه يحامي عن داره، لا عن دار جاره، وحملت على الاستعمار وعلى أنصاره الحاطبين في حبله حملات شعواء أقلقت باله وأَقَضَّتْ مضجعه، فلم ينعم له صباح، حتى منع رواجها بالمغرب، وأوصد دونها أبوابه. ووقفت من الشاب المسلم الجزائري موقف الأب المرشد الناصح المشفق تدعوه إلى تعاليم دينه، وبيان لغته، ومعرفة تاريخه، والمحافظة على ميراثه الجنسي وخصائصه وأخلاقه، وأن يفهم الحياة ويواجهها بحقائقها، وأن يجمع شمله على الشبيبة وحب الوطن ونفعه، وأن يزاحم الأجنبي في علمه وعمله بالمنكب القوي، وأن لا يكون فارغًا في هذا الزمان الملآن، ولا عابثًا في هذا العصر الجاد، وأن يكاثر شباب العالم علمًا بعلم وعملًا بعمل، وأن يتجه إلى سمت، ويعمل له في صمت، وأن يعمل بدستور شوقي للشباب: هَلْ علمتم أمة في جهلها … ظهرت في المجد حسناء الرداء باطن الأمة من ظاهرها … إنما السائل من لون الاناء فخذوا العلم على أعلامه … واطلبوا الحكمة عند الحكماء واحكموا الدنيا بسلطان فما … خلقت نضرتها للضعفاء وَاقْرَأوا تاريخم واحتفظوا … بفصيح جاءكم من فصحاء وأما والله لو أن شبابنا كانوا على حظ من فهم لغتهم، وكانوا يقرأون "البصائر" لما تفرق لهم شمل، ولا ضل بهم سبيل، ولتلاقوا على حب دينهم وهوى وطنهم. ووقفت من الشرق موقف المتعصب لأمجاده، الناشر لروحانيته وحكمه وفضائله، المردد لأصدائه وأصواته، الفاخر بأبطاله في الحرب، وعباقرته في العلم، ودهاته في السياسة، المثبت لإمامته للغرب وسيادته عليه.

قضية فصل الدين عن الحكومة

ووقفت من الحضارة الغربية موقف المحترس الحذر، تدعو إلى ما فيها من علم وقوّة، وتنهى عما فيها من قشور وتوافه ورذائل. كل هذه المواقف- ومثلها معها- وقفتها "البصائر" حتى استولت على أمد السبق في الشهرة، وانتزعت الاحترام لها والإعجاب بها، واستردت للجزائر ما كانت مغبونة فيه من حسن السمعة، وهي لا ترجو من وراء ذلك عوضًا ولا تسجل منة، وإنما هي في كل ذلك مؤدية لواجب، قائمة بحق. إن مواقف "البصائر" هي مواقف جمعية العلماء لأنها لسان حالها، وترجمان أفكارها، وكل ما فيها من حسنات فهي من حسنات جمعية العلماء. قضية فصل الدين عن الحكومة هذه القضية هي أعضل ما تعانيه جمعية العلماء من القضايا، وأشدها مراسًا، وأكثرها تشعبًا وتعقيدًا، لأنها تقع من الاستعمار في المواقع الحساسة، فهي- في حقيقتها- صراع بين الحق والمصلحة، وأعقد ما تكون القضايا إذا جالت في هذا المجال، وتنازعها هذان العاملان: الحق ببرهانه، والهوى بطغيانه، وقضيتنا هذه من هذا القبيل، يصطرع فيها جهد جبار من جهتنا، وجهد جبار من جهة الحكومة، ويقوي جهدنا فيها أن من ورائه حقًا طبيعيا، وأمة كاملة تطالب به، وروحًا عالمية نزاعة إلى الحق من حيث انه حق، ومستقبلًا يسعى للتجرد من لبوس الماضي، ويقوي جهد الحكومة أن من ورائه مالًا وسلطة، وقصدًا جوهريًّا للاستعمار، وغاية له في إفساد معنويات الشعب الجزائري قد بلغها أو كاد. ونحن نرى- حين نطالب ونشتد- أن الأمة الجزائرية المسلمة كلها من ورائنا متوافية على قصد واحد، وهو تحرير دينها، لا تختلف علينا في هذا إلّا طائفة قليلة العدد، أَذَلَّ الطمع أعناقها، وأوهمها أن في يد الحكومة أرزاقها، وبلغ بها فساد الفطرة أن أصبحت آلات لهدم هذا الدين، وعونًا عليه للمعتدين، وهذه الطائفة لا تخلو منها أمة ولا عصر، وكأن وجودها شيء من أمر الله يغر به المبطلين ويثبت به أهل الحق. أما الاستعمار فهو يرى أن وجود هذه الطائفة- التي أوجدها بيده- هو بعض الشواهد على باطله، وأنها كافية لتصيير ذلك الباطل حقًا.

ومن المؤسف أن الاستعمار يفهم من معاني فصل الدين عن الحكومة أكثر مما نفهم، ويدرك من آثار القضية وخطرها أعظم مما يدرك جمهور المسلمين أصحاب الحق فيها- ولولا فهمه العميق للقضية، وإدراكه لخطرها لما تشدد هذا التشدد كله في الفصل بعد أن أفحمته الحجج، ولما داور هذه المداورة، بعد أن ضيقنا عليه الخناق، فنقل القضية من مجلسه الوطني ذي النفوذ، إلى مجلسه الجزائري الذي لا نفوذ له. وعسى أن يأخذ الغافلون منا عن خطر هذه القضية- درسًا من تصلب الاستعمار فيها، فيعلموا أنه يدافع عن مصلحة قيمتها عدة مليارات ذهبية من أوقافنا، وعن جيش من الموظفين الدينيين يستخدمه في أغراض استعمارية، وعن سلطة واسعة لا حدّ لها في الميدان الديني. إن بقاء الإسلام ومعابده ورجاله وشعائره وأوقافه في يد حكومة الجزائر- هو أعظم جريمة في هذا العصر، ولكنها جريمة يبوء بإثمها وسبتها في التاريخ فريقان: فرنسا بارتكابها، والأمة الجزائرية بالغفلة عنها والتساهل فيها، وإذا كانت فرنسا لا تستحي من الإصرار على مأثم، ومن تشويه سمعتها بهذه اللطخة، فإننا نستحي من الله أن يرانا مقصرين في حق دينه، نائمين عن العمل لتحريره، وقد قامت "البصائر" في مدى أربع سنوات بما يجب أن يقوم به المؤمن الصادق إذا مس دينه بسوء، فكتبت عشرات المقالات، وشهرت بالحكومة ونددت، وأقامت الحجج، وأبطلت المكائد، وان في تلك المقالات لتسجيلًا لمواقف جمعية العلماء في هذه القضية، وان فيها لبلاغًا لقوم يعقلون. وما زلنا نطالب، وما زلنا نغالب، لا يهدأ لنا بال، ولا تكل لنا إرادة، ولا تفل لنا عزيمة، حتى يتحرر الإسلام في الجزائر، ويرجع الحق إلى أهله والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. ومن أعمال جمعية العلماء البارزة لهذه القضية في هذه الحقبة مباغتة المجلس الجزائري بتلك المذكرة التي قرأتموها، وقد أطارت صواب الحكومة ومجلسها، فحاصوا وماجوا، ثم لاذوا بالصمت والتظاهر بعدم المبالاة، ثم أتبعناها بتدبيرآخر محصناه حتى ترجح لنا الإقدام عليه، وهو السفر إلى فرنسا، والاتصال بجهات الاختصاص في القضية، فسافرنا وبسطنا القضية للرأي العام الفرنسي، وقابلنا رئيس الوزارة ووزير الداخلية ووزير العدل، واللجان السياسية للأحزاب، واللجنة البرلمانية، وشرحنا لهم الحقائق فما وجدنا إلا الكلام المعسول والوعود الواهية، وما استفدنا إلّا أن "العصية من العصا"، وان "زييدا هو ابن زيد": ورجعنا أقوى مما كنا، ثقة بالله وبأنفسنا، واستفدنا شيئًا آخر أعمق أثرًا، وهو نشر القضية في العالم بواسطة الجرائد وشركات الأخبار. وقد تكفلت "البصائر" بخدمة هذه القضية كما ذكرناه في الحديث السابق عليها، فلا فائدة في التطويل به عليكم.

العمل في فرنسا

العمل في فرنسا في فرنسا جالية عظيمة من المسلمين الجزائريين، تبلغ مآت الآلاف، متفرقة على مدن الصناعة، عاملة على كسب القوت، بعد أن أجلاهم الاستعمار عن وطنهم بأساليبه المعروفة، فخرجوا منه مكرهين كمختارين، وقد قضت عليهم الضرورة أن يعيشوا في وطن ليس فيه إسلام ولا عربية وأن تطول إقامتهم فيه أو تدوم، وقضت على بعضهم أن ينقل إليه زوجته المسلمة أو يتزوج فيه من أجنبية وينسل، وقد بلغ عدد أطفالهم في باريس وضواحيها نحوًا من عشرين ألف طفل. هذه أمة كاملة لو اجتمعت لعمرت مدينة، أو كونت مملكة كمملكة شرق الأردن، حملها طلب القوت على النزوح من وطنها الأصلي إلى وطن آخر، وعلى العيش بين أمة قوية في العدد، قوية بالعلم والعمل، فمن الطبيعي أن تتحلل وتذوب فيها، ومن الطبيعي أن تنسى دينها ولغتها، وجميع مقوماتها، ومن الطبيعي أن يصير هذا العدد على مر السنين زيادة في تلك الأمة القابلة للامتزاج، بقدر ما يكون نقصانًا من الأمة الجزائرية، فمن المسؤول عن هذه الكارثة التي تنقص منا وتزيد في غيرنا؟ كانت جمعية العلماء فكرت في هذه القضية الخطيرة وتدبرت عواقبها، قبل أن يبلغ العدد إلى هذا الحد، فرأت من الواجب عليها، ومن الأشبه بها، ومن جنس عملها، أن تلتفت إلى هذه الطائفة وتهتم بها، وأن تتخذ الوسائل لإنقاذها من الكفر والذوبان والانسلاخ عن العروبة والإسلام، وبدأت عملها التجريبي سنة 1936 على يد الأستاذ الفضيل الورتلاني، ذكره الله بخير الذكر، وأمدته بطائفة من المعلمين، يوجد منهم بينكم الآن أربعة أو خمسة، وكانت الأماكن متيسرة إذ ذاك، فاستطاع الشيخ الفضيل أن يفتح في مدة قصيرة أحد عشر ناديًا مقسمة على أحياء باريس، واستطاع بلباقته أن يجمع الناس فيها على دروس الدين وتعليم الصبيان، واستطاب المسلمون الجزائريون ذلك فأمدوه بالعون والتأييد، ونجحت الحركة أيما نجاح، ومدت مدها إلى عدة مدن في الجنوب، واطرد النجاح فيها، قريبًا من ثلاث سنوات، وخرج الورتلاني من فرنسا، وجاءت الحرب فقضت على تلك الحركة، فلم يبق لها أثر، إلّا بعضًا من رجال ذلك العهد يتحسرون عليه ويتعللون با ذكريات. ولما انتهت الحرب فكرت الجمعية في إحياء الحركة، فأوفدت أحد رجالها الشيخ سعيد صالحي ليدرس الأحوال، ويمهد للأعمال، فوجد عقدة العقد هي قضية الأماكن، ومنذ سنتين كلفت الجمعية رئيس شعبتها في باريس، ومعتمدها في أوروبا الشيخ عبد الرحمن

العمل في مصر

اليعلاوي بأن يقدم لها تقريرًا عن القضية، ففعل، وبين أن أكبر الموانع من استئناف الحركة هو عدم وجود الأماكن، وفي أواخر السنة الماضية سافر أخوكم هذا مع الأستاذ التبسي إلى باريس، لغرضين: أحدهما خدمة قضية الفصل التي سمعتموها، والثاني الاتصال بإخواننا الجزائريين مباشرة والتفاهم معهم على إخراج هذه القضية من دور الكلام إلى دور التنجيز، فاجتمعنا بالكثير منهم، وخطبنا في عشرات الاجتماعات في باريس وفي الضواحي، وعقدنا اجتماعات عامة لذلك، وكانت أفراح إخواننا بهذه الحركة لا توصف، ولكن المانع القديم لما يزل قائمًا، والمساعي في إيجاد الأماكن مبذولة إلى الآن بصورة جدية، والتفكير متجه إلى شراء مركز ممتاز لجمعية العلماء بباريس، فإن تم اليوم فستبدأ الحركة غدًا، لأن كل عمل يتوقف على هذا المركز. هذه مراحل الحركة قطعتها لكم بالإيجاز، لتفكروا في إخوانكم، وتهتموا بشأنهم كتفكيرنا واهتمامنا، وإن هذه المسألة لكبيرة وإن مسؤوليتها عند الله وعند الناس لثقيلة، وإنها ليست مسألة الأمة وحدها بل هي مسألة الإسلام. وهناك طائفة أخرى من أبناء الجزائر، هم تلامذة الكليات في فرنسا، وإن التفكير في حالهم لحقيق بنا وبكم، وقد بدأنا بالتجربة والله المستعان. العمل في مصر مصر هي قلب العالم الإسلامي، والبرزخ الذي تهوي إليه الأفئدة ويلتقي فيه الأخ بأخيه حرًا طليقًا. وهي كذلك منبع من منابع الثقافة، ومهجر لأبنائنا الطالبين للعلم، وفيها عدد وافر من أبناء الجزائر طلبوا العلم وحصلوا على درجات عالية فيه، وقد استدرجناهم ليرجعوا إلى وطنهم، وينضموا إلى صفوف العاملين فيه، ويعاونونا على خدمته في هذا الميدان العلمي الثقافي، فلم يرضوا أن يفارقوا بلد الحرية إلى بلد العبودية، فما عذرناهم، ولا شكرناهم، لأن من يحب وطنه يجب عليه أن يستهين في خدمته بكل شيء. وبما أن مصر هي ملتقى المسلمين كلهم، فقد كونا في أخريات السنة الماضية مكتبًا رسميًّا متألفًا من ثلاثة من أبناء الجزائر المقيمين في القاهرة وقد عملوا في هذه الأشهر أعمالًا جليلة باسم الجمعية، ورفعوا ذكرها، وكانوا صلة بينها وبين العالم الإسلامي كله.

ذخر من النصائح للمجلس الجديد

وان أشرف ما قام به المكتب- السعي في قبول بعثات من أبناء الجزائر باسم جمعية العلماء في المعاهد العلمية الكبرى، على نفقة الحكومة المصرية، وبعض الحكومات الشرقية، وقد سافر جماعة من أبنائنا لهذا الغرض، مزودين بشهادات منا، وستتكامل البعثة المكونة من عشرين تلميذا فتوزع على الأزهر والجامعة المصرية والمعاهد الأخرى، وإن هذا المكتب لم يزل في المرحلة الأولى، وهي مرحلة التكوين، وسيأتي من الأعمال الجليلة ما يقر أعينكم. ذخر من النصائح للمجلس الجديد: أيها الإخوة الكرام، أيها الأبناء البررة، هذه أمهات الأعمال التي قام بها المجلس الإداري لجمعيتكم، فأدى الأماتة، وبلغ بالسفينة إلى ساحل النجاة في بحر من الأحداث متلاطم الأمواج، وسبل من السياسة كثيرة الالتواء والاعوجاج، وهو اليوم يلقي الحمل فخورًا بأعماله التي إن لم يصب في بعضها النجاح فقد حفظ فيها الشرف، وإن لم يكتب له فيها النصر فلم تكتب عليه الهزيمة، وان في التجاريب لعلمًا ليس في الكتب، وان في مراس الحوادث لقتلًا لها، وكشفا لدخائلها واطلاعًا على حقائقها، وحقيق عليَّ أن لا أختم كلامي حتى أتقدم بنصائح وإرشادات للمجلس الجديد، ولمن يأتي بعده، وأن عسى أن يجد فيها النور والهداية، ويستفيد منها ما يستفيده الأواخر من تجاريب الأوائل. أوصيه بتقوى الله فهي ملاك كل شيء، وأوصيه بالاعتماد عليه فهو ناصر المستضعفين، وأوصيه بالصبر فهو السلاح الذي يفل الأسلحة، وليقرنه بالحق فقد قرن الله بينهما- أوصيه بالصبر على جفاء الإخوان، وتجهم الزمان، وتنكر الأقوياء، ووقع الأحداث، وعلى تلكؤ الأمة في الاستجابة، وتصاممها عن صوت الحق، وليعذرها قبل أن تعتذر إليه، فإنها حديثة عهد بالإفاقة من نوم طويل ثقيل. وأوصيه باستقبال الحوادث بالصدر الرحب والعزيمة الثابتة المصممة، والحزم النافذ الحاسم، فإن التردد مزلة قدم. وأوصيه بالروية والرأي والاناة في الحكم على الأشياء، فإن الارتجال مجلبة ندم. وأوصيه بالمحافظة على هذه الجمعية فإنها أمانة الله والأمة عندنا فيجب أن تسلمها يد قوية وذمة مؤتمنة إلى يد أقوى وذمة أكثر ائتمانًا.

وأوصيه بإتقان القديم وتصحيحه، قبل التفكير في الجديد، فإن تشعب الأعمال مضيعة لجميعها، وان إصلاح الموجود خير وأجدى من السعي للمفقود. وأوصيه بالانسجام فإن لا يكن طبيعيًّا اكتسبه، وان لا يكن موجودًا اجتلبه. وأوصيه بالتضامن في السراء والضراء، والتعاضد في الآراء والأعمال، فإن التخاذل أول مراتب الخيبة. وأوصيه بالصدق في الحال وأن يكون ظاهره كباطنه فإن الأمة تنظر إليه نظرة الإجلال، فليكن أهلًا لهذا الإجلال. وأوصيه بأبنائنا المعلمين خيرًا فهم جند الجمعية وحراسها، وهم قوة الجمعية وسلاحها، وهم القائمون بأشرف أعمالها، وهو التعليم، فليأخذهم بالنظام فهو أضبط لأحوالهم وأعون لهم على أعمالهم، وليكمل نقص ناقصهم بالإرشاد، وليكن وسيطًا حكيمًا بينهم وبين الجمعيات المشاركة لهم في العمل، فهما جناحا الجمعية اللذان تحلق بهما إلى الكمال. وأوصيه بالشباب فإنهم ذخر الغد، وأمل الأبد، ورأس مال هذه الأمة، فليلابسهم، وليغرس فيهم حب دينهم ولغتهم ووطنهم وتاريخهم، وليقو فيهم ملكة الاعتزاز بها، وليبسط في آمالهم الوطنية، وليرضهم على الفضائل الشرقية، وليجمع قلوبهم على الإسلام وكتابه، وألسنتهم على لغته وآدابه، وليتألف شاردهم بالرفق والأناة، فإن للشباب نزوات، وليقو رجاءهم في الحياة، "فإن اليأس يخترم الشبابا": ولْيُرَبِّهم على التقليل من الأقوال، والتكثير من الأعمال، وليوجههم إلى حياة الشرف، حياة العلم مقرونًا بالعمل، فهذه سمة العصر وشبابه، وليربط حاضرهم بماضيهم، فقد أوشكت الصلة بينهما أن تنقطع عندهم، وأوشك الاستعمار والحضارة الغربية أن يتركاهم بلا ماض، فالقارىء منهم يعرف عن نابوليون أكثر مما يعرف عن عمر، والأمي منهم يجهلهما معًا، ولا ذنب لهم في ذلك، وإنما الذنب ذنب الزمن الغادر والعصر الفاجر، وليحملهم على التحابب فإن الحب رباط القلوب وإن الحب يثمر الاتحاد. وأوصيه بالأمة الجزائرية المسلمة، فليكن لها تكن له. أيها الإخوان أيها الأبناء: أودعكم بمثل ما استقبلتكم به من التحيات المباركات الطيبات، تحية الأبوة للبنوة، وتحية القرابة والأخوة، وتحية الشيخوخة للفتوة، وتحية الضعف للقوة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

معهد عبد الحميد بن باديس

معهد عبد الحميد بن باديس شراء دار عظيمة لسكنى تلامذته فتح اكتتاب باثْنَيْ عشر مليونًا لقيمتها وإصلاحها* ــــــــــــــــــــــــــــــ المعهد الباديسي هو مفخرة الأمة الجزائرية، وهو غرة أعمال جمعية العلماء وأعظمها خطرًا، وأعلاها قدرًا وأكثرها نفعًا، فهو يؤوي سبعمائة تلميذ من أبناء الأمة، ويهيئهم لأن يصبحوا قادة لحركاتها، ومسيرين لنهضاتها في جميع الميادين الحيوية، ومنه تخرج البعثات العلمية والصناعية، ومن صفوفه يتخرج الوعاظ المرشدون والخطباء والكتاب والمعلمون. هذا المعهد يعتمد في نفقاته الباهظة على الأمة وحدها، ولولاها لما سار خطوة واحدة في سبيله، ولما أدّى شيئًا من الواجبات التي تحملها، وقد قامت الأمة- إلى هذه الساعة- بالواجب المالي، على ما يسعه حالها وإمكانها. وما زالت إدارة المعهد تعاني مشكلة كبرى، تعترضها في كل سنة، وهي مشكلة الأماكن: أماكن الدراسة، وأماكن السكنى، فبناية المعهد في حدّ ذاتها لا تتسع للدراسة فضلًا عن السكنى، ومع أن للمعهد ملحقين لتخفيف الضغط فإن أقسامه لا تكفي إلّا لسبعمائة تلميذ مع الضيق والرهق، وهذا هو أحد الأسباب في أن إدارة المعهد لا تقبل إلّا هذا العدد، وترفض في كل سنة مآت الطلبات، ولو لم تكن الأمة محرومة من مساجدها لكان لتلامذة المعهد فيها متسع للدراسة، لأن ذلك بعض ما تؤديه المساجد من الواجبات، ولأن ذلك بعض مقاصد محبسيها ومؤسسيها، ولكن هذه الحكومة الاستعمارية الظالمة المحاربة للإسلام مصرة على استخدام مساجدنا لإيواء الجواسيس الذين يخدمون الحكومة (كما شهد بذلك الأستاذ بيرك مدير الشؤون الأهلية سابقًا في مقال له منشور في مجلة "البحر المتوسط") لا لتخريج العلماء الذين ينفعون الأمة.

_ * "البصائر"، العدد 175، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 26 نوفمبر 1951م.

أما مساكن الطلبة فإن إدارة المعهد تلقى في كل سنة أنواعًا من التعب في إحضار المساكن الكافية لهذا العدد من التلامذة، ويتفرق مآت منهم على الفنادق والحمامات على حسابهم الخاص فيلجئهم غلاء الأسعار إلى مساكن رطبة ضيقة تقضي على صحتهم، ومع أن إدارة المعهد أنفقت في هذه السنوات ملايين في كراء أماكن السكنى، ولكنها أماكن غير صالحة من الوجهة الصحية، حتى أصبح التلامذة مهددين بالأمراض الصدرية وغيرها. ويعز على إدارة المعهد أن تجهد هذا الجهد كله في تنوير عقول أبناء الأمة بالعلم ثم تعرض أبدانهم للأمراض المستعصية بسبب السكنى في أماكن رطبة محرومة من الشمس والهواء، ويصحب ذلك عيب آخر، وهو عدم تمكن الإدارة من مراقبتهم وضبطهم مع تفرقهم. لذلك كله رأت في مستهل هذه السنة الدراسية أن تخطو خطوة حاسمة في الموضوع، فأقدمت على شراء دار واسعة ذات ثلاث طبقات، تتسع لإسكان خمسمائة تلميذ، واقعة في مكان يجمع بين الجمال والصحة، ويأخذ حظه من الشمس والهواء من ثلاث جهات. إن محلا يجمع هذا العدد من الطلبة ويسهل على الإدارة مراقبة أخلاقهم وتنظيم أوقاتهم، وضبط أعمالهم- لقليل الوجود، حقيق بأن تبذل فيه الأموال والجهود. وجمعية العلماء المسؤولة عن أبناء الأمة، الناظرة إلى مستقبلهم بعين بصيرة- ترى أن هذه النهضة العلمية التي تشرف عليها وتسيرها، يجب أن تساير عصرها ولا تتخلف عن قوافله المجدة، وأن من شروطها الضرورية إعداد ما يستطاع من أبناء هذا الجيل إعدادًا صحيحًا في عقولهم وفي أبدانهم، ومحو الفوارق الاجتماعية بينهم حتى يشعروا أنهم أبناء أمة واحدة يجب عليهم أن يعملوا لها كما عملت لهم، ولا يكون ذلك إلّا بتسويتهم في المعيشة والسكنى، كما هم متساوون في الدراسة والتلقي، فإذا لم تستطع إدارة المعهد جمع تلامذته في مطعم واحد، على غذاء واحد، فلا أقل من جمعهم في مسكن واحد، وإذا حققت إدارة المعهد هذا، فهي عاملة على تحقيق ذاك بعون الله وفضل الأمة. لذلك ... فجمعية العلماء- بعد موافقتها لإدارة المعهد على هذا المشروع وتأييدها فيه، وشكرها عليه- تعلن من ساعة صدور هذه الكلمة فتح اكتتاب عام شامل بهذا المبلغ، يشترك فيه كل مسلم جزائري وكل مسلمة جزائرية، فلا يشذ عنه إلّا المدخول في عقيدته الدينية، لأن الإسلام للجميع، أو المدخول في عقيدته الوطنية، لأن هؤلاء التلامذة هم عماد الوطن في حياته المستقبلة. ولتعلم الأمة أن هذا المال الذي تدفعه- قرض حسن لهذا الجيل، أنه سيرده لها أضعافًا مضاعفة.

العمل عظيم، ولكن الأمة أعظم منه، فعلى الموسح أن يبذل على قدر سعته، ولا يبخل على الله والوطن، ولا يتعلل بالأزمة، وأن يشكر نعمة الله عليه بالفعل لا بالقول، وعلى المقتر أن يعلي همته، ويعلن إيمانه، فإن درهمه عند الله يوازن الجبال. نخاطب من الأمة ضمائرها، ومواقع الإيمان منها، ومكامن النخوة والغيرة فيها، ونعمم الخطاب إلى جميع الطبقات من تجار وفلاحين وأصحاب مهن حرة وصناع، وعمال، ونذكرهم بأن لله عليهم حقًا، وأن للوطن عليهم حقًا، وأن للعروبة والإسلام عليهم حقوقًا، وأن لهذا الجيل الناشىء المتطلع إلى حياة العلم والعز والسعادة- عليهم حقوقًا، فليعدوه لذلك كما تعد الذخائر للمستقبل، وليحدّوه بذلك كما تحد السيوف للنزال، ولا تهولنهم هذه الحقوق التي عددناها فهي- في غايتها- حق واحد. ليذكروا أن له على بعضهم نعمًا متجددة من الرزق في كل يوم، وله على بعضهم نعم مما تنبت الأرض أو مما تنتج النعم في كل عام، وأنه يربيها بفضله، ويسلبها بعدله ... فليحصنوها بالبذل في مراضيه، وليصونوها "بتضييعها" في سبله، وان أكبر السبل المؤدية إلى رضاه نشر العلم بين عباده. إن من الدين، نشر علم الدين وتثبيته، وإن من صميم الوطنية تعليم أبناء الوطن، وإن من أصول القومية، إحياء اللغة العربية، وإن المعهد الباديسي كفيل بهذه الثلاثة، وإنه- مع ذلك- لنموذج من صنعة، وخطوة من ميدان، وعنوان من كتاب، ومرحلة من شقة، فاقطعوها بشجاعة وثبات، يسهل عليكم ما بعدها من الوثبات .... ها هوذا قائد الحركة، ومرسل هذه الصيحة، يضرب لكم المثل مع ضعفه وإقلاله، فيقتطع من مرتبه الذي يقوت منه عياله خمسة آلاف من كل شهر لمدة سنة، ثم يجمعها فتصير ستين ألف فرنك، فيحتم عليه الواجب أن يقدمها دفعة واحدة، فيستقرضها من المخلوق، ويقرضها الخالق، ويضعها باسمه في (شيك) المعهد.

بلاغ

بلاغ * قرر المجلس الإدراي لجمعية العلماء في اجتماع أكتوبر الماضي- باقتراح من الرَّئِيسُ- إحداث منصب مدير للمركز، يعاون الرَّئِيسُ في مهمات الأعمال التي كثرت فشغلته عن أهمّها، واختار المجلس- بالإجماع- لهذا المنصب الشيخ عبد اللطيف سلطاني القنطري، ناظر معهد عبد الحميد بن باديس سابقًا، وأمين مال جمعية العلماء الآن. وقد باشر الشيخ المذكور منصبه في المركز، وأسندتْ إليه جميع الأعمال التي كان المركز يتوقف فيها على الرَّئِيسُ من مقابلة الزوّار وأصحاب المصالح، وإنجاز ما يمكن إنجازه من مصالحهم، والإشراف على موظفي المركز ومراقبة أعمالهم، وتنفيذ مقرّرات المكتب الدائم، والاطلاع على البريد وتوزيعه على ذوي الاختصاص من الموظفين، والإجابة عن الرسائل في حينها، وقبض مالية الجمعية و"البصائر"، وإمضاء "الشيكات" اللازمة لإخراج المال على الشروط المقرّرة في القانون الأساسي واللوائح، إلى غير ذلك من الأعمال اليومية، بحيث لا يُرجع إلى الرَّئِيسُ الّا في الأمور والقضايا المهمة. إن إحداث هذا المنصب شيء دعتْ إليه ضرورة كثرة الأعمال، واختيار هذا الرجل له شيء اقتضتْهُ الحكمة، فالمدير الآن هو المسؤول عن مركز الجمعية، فعلى موظّفي المركز أن يرجعوا إليه، وعلى أصحاب المصالح المرتبطة بالجمعية أن يعتمدوه، وعلى الجميع أن يعاونوه على إقرار النظام وسرعة الإنجاز للقضايا، والله يتولّى الجميع بعونه وتوفيقه.

_ * "البصائر"، العدد 176، السنة الرابعة، 15 ديسمبر 1951.

التهنئة باستقلال ليبيا

التهنئة باستقلال ليبيا * 1 - نصّ البرقية التي أرسلها رئيس جمعية العلماء إلى الملك إدريس السنوسي: الجزائر في 24 ديسمبر 1951 جلالة الملك إدريس السنوسي ملك ليبيا- بنغازي جمعية العلماء المسلمين المترجمة عن إحساسات الأمة الجزائرية تُعلن مشاركتها للشعب اللّيبي في ابتهاجه بتحقيق استقلاله، وترفع إلى جلالتكم تهانيها الأخوية راجية تتويج هذا الاستقلال بالوحدة الشاملة والتقدّم المطرد تحت رعايتكم الحكيمة. الرَّئِيسُ: محمد البشير الإبراهيمي 2 - نصّ البرقية التي بعث بها رئيس جمعية العلماء إلى سعادة بشير بك سعداوي، رئيس المؤتمر الوطني بطرابلس: الجزائر في 24 ديسمبر 1951 جمعية العلماء المسلمين المعَبِّرة عن عواطف الشعب الجزائري تشارككم في الفرح بإعلان الاستقلال، وتتقدم إلى شعب ليبيا بالتهنئة الأخوية، وتتمنّى أن تتضافر الجهود لتحقيق وحدة ليبيا. الرَّئِيسُ: محمد البشير الإبراهيمي

_ * "البصائر"، العدد 178 - 179، السنة الرابعة، 7 جانفي 1952م.

الأستاذ محي الدين القليبي

الأستاذ محي الدين القليبي * زارنا في هذا الأسبوع الأديب الكاتب المفكر الرحّالة الأستاذ محي الدين القليبي، زيارة تمكين للأخوة الصادقة، وإحياءً لعهد الصحبة القديم، ونزل ضيفًا على جمعية العلماء، فوجد هذا العدد الخاص بمصر في دور الإعداد، فرغبنا إليه أن يشارك فيه بكلمة، فكتب الكلمة المتينة التي ننشرها بعد هذه التوطئة، في نقطة من موضوع الحالة الحاضرة في مصر. والأستاذ القليبي كاتب اختصاصي في مثل هذه الموضوعات، مرتاض القلم على الجري فيها طلق العنان، ومفكّر ألْمعي فيما يختلف فيه الرأي منها، فيأتي رأيه فيها كفلق الصبح، لكثرة ما درسها وبحث فيها نظريًا، ولما باشرها وساهم فيها عمليًا. و"البصائر" تغتنم هذه الفرصة الغالية، فتتقدّم إلى الاستاذ القليبي، بترحيب الثابت على العهد، وتحية المقيم على الودّ، وشكر العارف بالمنّة، راجية له إقامة حميدة، وأوبة سعيدة، وصحّة تعين على أداء الأمانة وخدمة الوطن.

_ * "البصائر"، عدد 178 و179، السنة الرابعة، 7 جانفي 1952: تقديم مقال للأستاذ القلييي بعنوان "كتائب التحرير في مصر ومَن أحقّ بتسييرها؟ "

دار الطلبة بقسنطينة

دار الطلبة بقسنطينة - 1 - * الخليون الفارغون يعتقدون أننا ما زلنا نتنقل بهذه الأمة من شديد إلى أشد. أما نحن فنعتقد أننا ما زلنا ننتقل بها من واجب أكيد إلى ما هو أوكد وأوجب. واجب الساعة وفريضة الوقت هي دار الطلبة بقسنطينة، وإن من جمال الواجب إن لم يكن من كماله أن يكون أداؤه في وقته، فتبادر الأمة التي حركناها بالأقوال، وأيدنا أقوالنا بالأعمال، إلى المساهمة بأقصى ما يسعه الإمكان في هذا المشروع الجليل حتى تقطع هذه المرحلة التي هي أوسع المراحل إلى الغاية، فإذا قطعتها فستكون المرحلة الثانية إنشاء معهد الجزائر، ثم تأتي المرحلة الثالثة. أيتها الأمة، إن خير ما يكون الإيجاف، في السنوات العجاف. فلا تتعللي بالسنين، فإنها تدول، ولا تعتذري بالأزمات فإنها تزول، وابني لنفسك ما يعود عليك نفعه ويبقى لك أجره وشكره.

_ * "البصائر"، العدد 178 - 179، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 7 جانفي 1952م.

- 2 -

- 2 - * فيها لكل تلميذ جزائري حق، فلها على كل مسلم جزائري حق ــــــــــــــــــــــــــــــ شباب الأمة هم عمادها، وهم مادة حياتها، وهم سر بقائها. وخيرة شباب الأمة هم المتعلمون المثقفون، البانون لحياتهم وحياة أمتهم على العلم. وصفوة الشباب المتعلم المثقف هم المتشبعون بالثقافة الإسلامية العربية، والمقدمون لها، لأنهم هم الحافظون لمقوماتها، والمحافظون على مواريثها، وهم المثبتون لوجودها، وهم المصححون لتاريخها، وهم الواصلون لمستقبلها بماضيها. في تكوين هذا النوع من الشباب تسعى جمعية العلماء، وفي سبيله تجاهد وتجالد، وفي سبيله تلقى الأذى من القريب الضال، ومن الغريب العادي، ولأجل إحياء الإسلام في نفسه، وإحياء العربية في لسانه، أنشأت المدارس الأولية لتحقيق نقطة الابتداء، وأنشأت المعهد الباديسي لتحقيق نقطة التوسط، وإنها لعاملة- بعون الله- على البلوغ إلى نقطة النهاية، من هذه الغاية. لا يحسن الشباب إلى أمته كلها إلّا إذا تبنته كلّه، حتى لا يقول كبير: حسبي ولدي، ولا يقول صغير: حسبي والدي. ولا ينفع الشباب أمته إلّا إذا جمع بين صحة العقل، وبين صحة الجسم. أما صحة العقل فإن علينا بنيانها، وفي ذممنا ضمانها؛ وأما صحة الجسم فمن المسكن الصالح مبتداها، وإلى الغذاء النافع منتهاها، وكلا هذين دَين على الأمة واجب الأداء. وإن "دار الطلبة" التي اشرتها إدارة المعهد الباديسي بقسنطينة لكفيلة بتحقيق تلك البداية، فشارك أيها الجزائري المسلم ببذل مالك في شرائها، تشارك في تصحيح أبدان،

_ * "البصائر"، العدد 180، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1952م.

ستعطيك غدها، وتمد إلى نصرتك يدها، وتكون سندك غدًا إذا كنت اليوم سندها، وأقرض الوطن في أبنائه قرضًا حسنًا يردده لك أضعافًا مضاعفة. المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار. أما المال الذي تحي به العلم وتميت به الجهل فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله في منازل الأبرار.

- 3 -

- 3 - * يا طالب لا تأس بعد اليوم "يا طالب" … فالعلم غال شأنه، غالب أنت بعين الرعي في أمة … قد جلب الخير لها جالب تبوأ "الدار"، وعذ بالحمى … لا ضر بعد اليوم "يا طالب"

_ * "البصائر"، العدد 180، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1952م.

بلاغات

بلاغات * - 1 - قرر المكتب الدائم للمجلس الإداري لجمعية العلماء استبدال رؤساء المكاتب العمالية القديمة بمسؤولين، لأن الحالة تطورت، والأعمال كثرت وتنوعت، فلا تنضبط إلّا بالنظام وتحديد المسؤولية، وقد وضع المكتب لهؤلاء المسؤولين لائحة داخلية مُفصلة لأعمالهم، محددة لمسؤولياتهم، ضابطة لفروع تلك الأعمال، ووجه لكل مسؤول نسخة منها، ليعرف حدود أعماله، ويقوم بتنفيذها على بينة. والمسؤولون لهذه السنة هم: الشيخ العباس بن الشيخ الحسين- عن عمالة قسنطينة، الشيخ علي الشرفي- عن عمالة الجزائر، الشيخ السعيد الزموشي- عن عمالة وهران، وهذه الوظيفة مرتبطة رأسًا بمدير المركز، فعلى المشائخ المسؤولين أن يكونوا على اتصال دائم به، لتتصل فروع الأعمال بأصولها، وعليهم أن يقوموا بواجباتهم بكل حزم، وأن يكونوا محققين للثقة التي وضعتها جمعيتهم فيهم. وفقهم الله وأعانهم، وسدد في خدمة العلم خطاهم.

_ * "البصائر"، العدد 180 السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1952م.

- 2 -

- 2 - فتحت "البصائر" باب التهاني والتعازي لتشارك أنصارها المخلصين في أفراحهم وأتراحهم، ولكن بعض الدجالين دخلوا في هذه الصفحة من باب التدليس ليشوهوا خطتها، وليرفعوا أسماءهم المخفوضة بذكرها في صفحة القراء، كما وقع في خبر من مروانة بتهنئة نكرة لم يعرف إلا بالمناوأة الكاذبة لجمعية العلماء. وعليه فإننا نعلن- مرة ثانية- أن "البصائر" لا تنشر حرفًا بتهنئة ولا تعزية إلّا لمن تعرفه معرفة اليقين، فليقصر الدجالون وليقصر المتقربون المتبرعون بالتهنئة أو التعزية على لسان "البصائر". فليست "البصائر" كشكول تهان وتعاز، ولا سجل "أحوال شخصية" كما يتوهمون. - 3 - تصلنا مقالات بدون إمضاء، أو بإمضاء مستعار من غير ذكر الإمضاء الحقيقي، أو بإمضاء مقتضب من غير توضيح. إلى هؤلاء الكتاب نعلن أننا لا ننشر هذا النوع من المقالات وان توفرت فيها الشروط كلها، وإن الواجب على من يكتب أن يمضي إمضاء صريحًا واضحًا، وله أن يرمز أو يستعير اسمًا آخر بشرط أن يكتب اسمه الصحيح وإمضاءه الحقيقي في ورقة خاصة تحفظ في الإدارة. - 4 - تجمعت في الإدارة مقالات كثيرة وقصائد، وتأخر نشر ما يستحق النشر منها بسبب الاضطراب الذي حصل في صدور الجريدة في الأشهر الأخيرة، وقد استعرضتها لجنة "البصائر" وستنشر الصالح منها وما لم يفت وقته تباعًا في الأعداد القادمة. - 5 - "البصائر" ليست كتابًا ولا ديوانًا للشعر، ولا جريدة يومية، وانما هي جريدة أسبوعية وقد تعترضها العوائق المادية فتصدر مرتين في الشهر أو دون ذلك. فعلى الكتاب أن يقصروا المقالات فإن ذلك أسهل لنشرها وأنشط لقرائها، وعلى الشعراء أن يوافونا بالمقاطيع الجميلة فإن أطالوا فليلموا بمواضيع ذات عناولن محركة للشواعر، ومن لم يحرك المشاعر، فليس بشاعر.

- 6 -

- 6 - نحن أعلم الناس بمعنى "التشجيع" وبآثاره في نفوس ناشئتنا، ولكن من الأشياء ما لا يشجع، لأنه لا يشجع، وقد قدر الله أن لا تكون "البصائر" ميدانًا للتدريب، ووددنا- والله- لو اتسعت مقدرتنا لإنشاء جريدة "الناشئين" وتخصيصها لتدريبهم على الإنشاء. الاحتجاج علينا "بالتشجيع" احتجاج في غير محله. لأن النمط الذي يقرأ "البصائر" في الغرب والشرق عرفها على صورة فلا نرضى لها أن تنحط عن تلك الصورة. - 7 - كان المسؤول عن "البصائر" مديرها وحده، وحاله في عدم الاستقرار معروف، أما الآن فقد قضت الضرورة بأن تشكل لها لجنة، لا ينشر شيء إلا باتفاق أعضائها، فتوزعت المسؤولية بهذا، وقد عزمت اللجنة أن تنفذ لائحتها بكل دقة، ابتداء من أول السنة الخامسة، (أي من العدد الآتي). - 8 - وفي الإدارة مقالات وقصائد، ما أكثرها وما أطولها، في حفلات المولد. وكم وددنا أن ننشر جميعها، لأنها من أعمال مدارسنا، ومن صوغ أبنائنا، ولكن ماذا تصنع جريدة أسبوعية - وقد تعطل عن أسبوعيتها- في هذه المقالات كلها. إننا لا نملك إلّا الاعتذار لأصحابها بضيق الوقت وفوات المناسبة، وإن الحديث في غير وقته لممجوج.

خاتمة السنة الرابعة لـ"البصائر"

خاتمة السنة الرابعة لـ"البصائر" * بهذا العدد تنتهي السنة الرابعة لـ"البصائر"، وبه يتم المجلد الرابع المؤلف من خمسة وأربعين عددًا، وفاء بالميثاق الذي ارتبطت به، وواثقت مشتركيها عليه، وهو المعاملة على الأعداد، لا على الأيام. وسنة "البصائر" غريبة في عالم الجرائد الأسبوعية، لأن هذه المعاملة مع المشتركين، غريبة ولكنها- مع غرابتها- عدل، التزمناه مختارين، وإن أدى إلى تشويش وعدم انضباط في السنة التاريخية. فمن عادة الجرائد أنها تعد سنواتها بالأيام، لا بالأعداد، وتبدأها من اليوم الذي أنشئت فيه الجريدة، فإذا قدر لها من العوائق ما يقصر أعداد السنة كلها على عشرة، فتلك هي السنة، وفي هذا غبن للمشتركين طالما أطلق ألسنتهم بالشكوى، وطالما نقلهم تكرره من الشكوى إلى عدم الثقة بالجرائد وأصحابها، وعدم الثقة هنا معناه الإعراض عن الاشتراك فيها، فتعيش الجريدة مريضة معتلة ضيقة المدار، أو تموت في سنتها الأولى، وقد ازداد سوء الظن تمكنًا في نفوس القراء بهذا الصنف من الجرائد، الذي يعيش على الاشتراك، حتى أذى إلى الزهد فيها وعدم التفرقة بين الكامل وبين الناقص، وإن هذا لبعض السبب في ما نشاهده من تداعي الجرائد الأسبوعية للسقوط، وفي ما تعانيه الوفية الصادقة منها من أزمات مالية. وقد شرحنا في فواتح السنوات الماضية من "البصائر" ما رمينا إليه من اعتبار السنة خمسة وأربعين عددًا، وإن صدرت في سنة ونصف أو أكثر من ذلك، كما وقع في هذه السنة التي هي أطول سني "البصائر"، لما جرى فيها من تأخر الجريدة في الأشهر الأخيرة أسبوعين

_ * "البصائر"، العدد 180، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1932م.

وثلاثة، وقد تألم القراء لذلك التأخر، وسألوا عن أسبابه فلم نجبهم، لأن الجواب معلوم ضرورة، وهو ارتفاع ثمن الطبع والورق، وزيادة الأداءات القانونية وأجور الموظفين، و"البصائر" لا تعتمد على مورد مالي غير قيمة الاشتراك وثمن البيع، وهما لا يفيان بهذه النفقات الثقيلة، وإنه لا يعرف حقيقة ما نعاني في هذا الباب إلّا من عانى مثله، ومن عذيرنا ممن لا يفهم؟ وممن إذا فهم لا يعذر؟ ومن لنا بمن يفهم أن "البصائر" جريدة الجهاد في سبيل الإسلام والعربية، فمن واجب كل مسلم عربي أن يجاهد في سبيلها؟ وأنها جريدة "الإعلان " عن وجود الجزائر، فمن واجب كل جزائري أن يدعو إليها، وكأن الجزائر لم تلد ممن يفهم هذا إلّا رجلًا واحدًا، وكم دعونا أن يكثر الله من أمثاله في هذه الأمة، فكان دعاؤنا في ضلال. ولكن ... هل استفادت "البصائر" من هذه المعاملة "التجارية" التي أنصفت فيها مشتركيها ولم تنصف نفسها؟ لا ... إنها لم تستفد إلّا القيل والقال، وكثرة السؤال، وتوزع قرائها بين التمني لها والتجني عليها، فالذين يقرأونها إعجابًا ببيانها أو انتصارًا لمبدئها يتمنون، والذين يقرأونها تعميرًا لفراغ الوقت يتجنون، وكلا هذين لا يجلب لها نفعًا، ولا يملك لأزماتها دفعًا، ولا يفكر واحد منهما في أكثر من أن الاشتراك عقد بينه وبين الجريدة يوجب له التمتع الشخصي بقراءتها. يضاف إلى هذا كله هذه العادة السيئة التي ركبت مشتركي الجرائد، وهي أنهم لا يدفعون قيمة الاشتراك من تلقاء أنفسهم فيخففوا عن الجريدة نفقات كانت في راحة منها، بل يكلفونها إرسال المتجولين، ويتردد المتجولون مرارًا فتتضاعف النفقات، وتتأخر الجريدة أسبوعًا فيسمع المتجولون عبارات في الانتقاد "مؤدبة" ودروسًا في التجنّي "مهذبة" ويقولون لنا: ان الدراهم بدون "بصائر" لا تدخل. فنقول لهم: وان "البصائر" بدون "دراهم " لا تخرج، وننتظر حتى يقيض الله لنا خارقًا يفك جهتي هذا الدور ... إنما تقوم بالجرائد تبرعات سخية من أصحاب المبادئ، أو إعلانات غنية من أصحاب المتاجر والمصانع، وليس لـ"البصائر" شيء من هذا، وقد افتتحنا في أثناء العام الماضي اكتتابًا، ورجونا أن يسدد دين الجريدة، ويربو بما يسيرها عدة أشهر، حتى تدخر دخلها الاعتيادي للأزمات، ولكن الاكتتاب لم يزد على سداد الدين إلّا بما سيّر الجريدة في أشهر الاكتتاب، وعادت إلى دخلها العادي فلم يكفها، فعادت إلى الدين، إلى أن جاء الاجتماع العام، فرأينا- نزولًا على حكم الظروف- أن نصدرها في الأسبوعين مرة حتى تعتدل ميزانيتها فلم تعتدل، ونحن الآن بين أحد أمرين: إما أن نزيد في قيمة الاشتراك، أو ننزل بالسنة إلى أربعين عددًا، وسنطالع القراء في العدد الآتي بما تتفق عليه "لجنة البصائر".

ولعل الله خار "البصائر" في هذا التقدير، لتقتحم العقبات وتصارع الأزمات وحدها، فتسن للمسترشدين بها والسارين على نورها سنن الصبر والمجاهدة والتضحية، لأنها جريدة الجهاد، وهل يقوم الجهاد إلّا على هذه الصورة؟ و"البصائر"- مع هذا كله- تحمد الله على أن أصيبت في نظامها ومادياتها، ولم تصب في عقيدتها ومبدإها ومعنوياتها، فقد قطعت هذه السنة كما قطعت السنوات قبلها، أقوى ما تكون حرارة إيمان، وصلابة عقيدة وثبات صبغة، وشدة وطأة على الظلم والظالمين، وخفة خطى إلى غوث المنكوبين ونصر المظلومين، وان موقفها من قضية المغرب وقضية مصر لأصدق الشاهدين.

فاتحة السنة الخامسة لـ"البصائر"

فاتحة السنة الخامسة لـ"البصائر" * ... وبهذا العدد تفتتح "البصائر" سنتها الخامسة مبتدئة باسم الله القوي المعين، مستعينة به، متوكلة عليه، صابرة على وعثاء السفر وبعد الشقة، ماضية في سبيل الدعوة إلى الحق، متحملة لما يصيبها في سبيله، واثقة بنصر الله الذي ينصر من ينصره، مغتبطة برضى قرائها عنها، وإعجابهم بها، وتألمهم لهذه الصدمات التي تعترض نشاطها أحيانًا فتخمده، راجية- بعد ذلك كله- أن تكون سنتها الخامسة أبرك عليها من السنوات الخالية، وأعمر بالنشاط والعمل، وأبعد عن العوائق والمثبطات. تفتتح "البصائر" سنتها الخامسة بعهد وثيق تقطعه لقرائها أن لا يجدوها إلّا حيث يرضى الله وان سخط جميع الخلق: يجدونها في مواقف الدفاع عن الإسلام، والنضال عن العروبة، والذود عن الجزائر، ويجدونها في ميادين الانتصار للمسلمين والعرب وللشرق. ... كان من أماني "البصائر" أن تكون لها مطبعة خاصة، وليس بكثير في جنبها أن تكون لها مطبعة، ولا بكثير على الأمة أن تنشئ لـ"البصائر" مطبعة. إنها لو فعلت لخدمت نفسها قبل أن تخدم "البصائر"، ولكن هذه الأمنية ما زالت تعترضها صعاب من شح الأيدي، وكزازة الأنفس، وقصور الهمم عن السمو، وجهل السواد المادي بوجوه المنفعة المادية، وكسلهم عن مجاراة الأحياء في أساليب الحياة. وكان من أمانيها أن تخلع القديم من الأشكال والمواضيع، وأن تفتح أبوابًا فتحها ضروري لتطور الحركة العلمية، ولتغير الأوضاع العامة في الجزائر وغيرها، وأن تطوف على

_ * "البصائر"، العدد 181، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 21 جانفي 1932م.

صنوف القراء بصنوف الرغائب فيجد كل صنف منهم فيها ما يرضي نزعته، ويروي غلته، ولكن يحول بينها وبين هذه الغاية فقد الأعوان، وتزاحم الشواغل. وكان من أمانيها أن ينصرها أهل العلم- في هذا الشمال كله- كما نصرتهم، ويرفعوا شأنها كما رفعت رؤوسهم، ولكنهم- سامحهم الله- اكتفوا بالثناء، والثناء ينعش ولا يغذي، وبالإعجاب، والإعجاب شهادة بالجمال لا زيادة فيه. وكان من أمانيها أن تكون صحيفة الشمال الافريقي كله، تغشى نواديه وبواديه، تجلو الحقائق بالصدق، وتكشف عن النقائص بالأمانة والإخلاص، ولكن الاستعمار أبى عليها ذلك وضيق مجالها، فحجر عليها الدخول إلى المغرب الأقصى، والمغرب من بين أجزاء الشمال هو أكملها في الخير نصابًا، وأوفاها من الكمال نصيبًا. ... إن السنوات مراحل سفر إلى غاية، تقطعها الكائنات الحية الدائبة، وفيها السهول، وفيها الحزون، وفيها الشعاف، وفيها الشعاب، وفيها من مشابه البر الفجاج، وفيها من خصائص البحر الأمواج؛ والحازم من يقدر ذلك، ولا يثنيه عن غايته شيء من ذلك. وكذلك كانت "البصائر" وكذلك تكون إن شاء الله.

خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية في الأمم المتحدة

خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية في الأمم المتحدة * في مساء الثلاثاء29 جانفي 1952 أقامت شعبة جمعية العلماء بباريس مأدبة عشاء بنزل "العالَمين" (دو موند) في شارع الأوبرا على شرف الوفود العربية والإسلامية في منظمة الأمم المتحدة، وقد ألقيت في هذا الحفل ثلاث خطب: الأولى للأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية، والثانية للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رئيس علماء الجزائر، والثالثة للأستاذ فارس الخوري رئيس الوفد السوري. وقد ألقى الأستاذ الإبراهيمي خطبته ارتجالًا ولخّصها الأستاذ أحمد بن سودة تلخيصًا وافيًا بحيث لم يند عنه إلا القليل من ألفاظها ومعانيها: ــــــــــــــــــــــــــــــ حضرات أصحاب المعالي الوزراء، حضرات أصحاب السعادة والعزة، حضرات الزملاء حملة الأقلام، حضرات الإخوان: هذه ليلة ارتفعت فيها الكلف، وغاب عنها العواذل، وغفل عنها الرقباء- إن شاء الله- فاسمحوا لي أن أخرج عن الوضع المتعارف في رسوم الخطاب، فأنا بصفتي رجلًا مسلمًا دينيًا أمثل الإسلام في بساطته وسماحته واعتباراته الروحية، يحلو لي أن أخاطبكم بما جاء به الإسلام في آدابه الراقية، ومثله العليا، وهو وصف الأخوة. إن النبوّة هي أكمل الخصائص الإنسانية، وأشرف المواهب الإلهية، ولكن الله حين يرفع ذكر الأنبياء يضعهم في الدرجة الأولى من معارج الرقي، وهي درجة العبودية لله، فمحمد عبد الله قبل أن يكون رسوله، وفي القرآن: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ}، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.

_ * "البصائر"، العدد 183، السنة الخامسة من السلسلة الخامسة، 18 فيفري 1952م.

فأنا حين أخاطب إخواني الكرام الذين أتاح لي الحظ السعيد أن أقف أمامهم في هذه اللحظة، لا يحلو لي إلا أن أخاطبهم بهذا الوصف الجليل، وهو وصف الأخوة الذي منذ فقدناه لم نجد أنفسنا، وكأننا حبات انقطع سلكها فانتثرت فأصبحت كل حبة منها في كف لاقط، فمعذرة إلى إخواني الذين أعتزّ بأخوتهم ان خرجت عن النمط المألوف في رسوم الخطاب، وخاطبتهم بيا أيها الإخوان (تصفيق متواصل). أيها الإخوان المتلاقون على هوى واحد هو هوى الوطن الجامع، المتعبّدون بعقيدة واحدة هي عقيدة تحرير هذا الوطن الجامع، الطالعون كالكواكب من أفق واحد هو هذا الشرق الذي اطلعت سماؤه الشمس والقمر، وأطلعت أرضه الأنبياء والحكماء. أحييكم باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وباسم شعبتها المركزية بباريس، تحية العروبة التي هي أكرم ما أنجبت البشرية من سلائل، وتحية الإسلام الذي هو أصفى ما تشظت عنه صدفة الوحي من لآلئ، وتحية الشرق الذي أعتقد مخلصًا أنكم أزكى نباته، وأنكم الصفوة المختارة من بُناته. وأحييكم باسم الجزائر العربية المسلمة المجاهدة الصابرة، التي هي غصن فينان من دوحة الإسلام، وفرع ريّان من شجرة العروبة، وزهرة فوّاحة من رياض الشرق (تصفيق حاد)، تغرّبت هذه الزهرة كما تغربت قبلها نخلة عبد الرحمان الداخل، فلم تشنْها غربة، وما زالت متّصلة بالشرق العربي، تستمدّ منه القوّة والفتوّة، وما زالت متّصلة بالشرق الإسلامي، تستصبح بأنواره، وتتغنّى بأمجاده، وتعيش على ذكرياته، وهي على صلة بالشرق متينة، كانت وما زالت متمسّكة بحبله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (تصفيق)، وما زالت قائمة على غرس عقبة والمهاجر وحسّان بن شريك، بالتعهّد والحفظ، وما زالت ناطقة بلسان هلال بن عامر بن صعصعة منذ طغت موجة أبنائه عليها ... تلك الموجة التي يسميها المؤرّخ المجحف إغارة على الأوطان، وتخريبًا للعمران، ويسمّيها المؤرّخ المنصف إنارة للأذهان وتعريبًا للسان، فحيثما حل هلال من سهولها حلّت العروبة، وأينما سار، سار في ركابه البيان العربي الذي من بقاياه ما تسمعون. هذه هي الجزائر التي أحييكم باسمها، والتي ترون أبناءها أمامكم بين شيخة وشباب، يلتقيان في غاية واحدة، وإن نزغ بينهما الشيطان، فكما ينزغ بين الأخوين، ولكنهما في النهاية إلى التجمّع والاتحاد، وهؤلاء أبناء الجزائر الذين أحييكم باسمهم يا إخواننا، وأستحي أن أقول: يا ضيوفنا، فإننا جميعًا في دار غربة، وكم وددنا لو اجتمعت هذه الوفود في دارنا (الجزائر) فترون ما يشرح صدوركم، ويبهج خواطركم من ارتباط الجزائر بالشرق والعروبة والإسلام.

أيها الإخوان ... أيها الزملاء حملة الأقلام! أحقيقة ما ترى عيناي أم خيال؟ إخوة طوّحت بهم الأقدار، وفرّقتهم صروف الدهر في الأقطار، حتى ما يلتقي رائح منهم بمبتكر، ثم يجتمعون في هذه الليلة وفي هذه البلدة على غرة وعلى غير ميعاد، كما تجتمع أشتات الزهر في إبّانها وفي مكانها، تختلف منها الألوان والأشكال، ويجمعها الشذى والطيب والجمال. أحق أن باريس- وهي منبع شقائنا، وهي الصفحة العابسة في وجوهنا- تنزل لحظة عن عادتها فتتيح لنا أن نجتمع بين حناياها هذا الاجتماع الرائع؟ فلولا حقوق للأوطان في أعناقنا، ولولا عهود يجب أن نرعاها لديارنا، لكنّا نغفر لباريس جميع ما جرّته علينا من جرائر، ونمحو لها بهذه الحسنة جميع السيّئات، ولكن تأبى علينا ذلك دماء في تونس تسيل (تصفيق وتأثّر)، وشعب في المغارب الثلاثة يعذب، وشباب تفتح له السجون والمعتقلات، وتغلق في وجهه المدارس والمعابد، ودين في الجزائر ممتهن الكرامة، فهيهات أن نصفح عن باريس أو نصافحها بعد أن جنينا المر من ثمراتها، وهيهات أن يسمّيها دار العلم، من لم ير منها إلا الظلم، وهيهات أن يدعوها عاصمة النور من لم تغشَهُ منها إلا الظلمات، وهيهات أن يلقّبها دار المساواة من لم تعامله إلا بالإجحاف. أيها الإخوان! ها هو الشرق رمى باريس بأفلاذ كبده، يدافعون عن حماه بالحق، ويجادلون عن حقّه بالمنطق، وما منهم إلا السيف مضاء، والسيل اندفاعًا، وإن وراءهم لشبابًا سينطق يوم يسكتون، وسيتكلم بما يخرس الاستعمار ويسوءه، وان بعد اللسان لخطيبًا صامتًا هو السنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال وإن أجدادنا دوّخوا العالم، ولكن بالعدل، وسادوه، ولكن بالإحسان، وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدّخرة سيجليها الله إلى حين. رمى الشرق باريس بهذه الأفلاذ، فخاطبوا الأمم وخطبوا في منظمة الأمم، هذه المنظمة التي سمّيت بغير اسمها، وحليت بغير صفتها، وما هي إلا مجمع يقود أقوياؤه ضعفاءه، ويسوق أغنياؤه فقراءه، وما هي إلا سوق تُشترى فيه "الأصوات" بأغلى مما كانت تشترى به أصوات "الغريض" و "معبد"، غير أن الأصوات القديمة كانت فنًا يمتزج بالنفوس، وموسيقى تتسرّب إلى الخواطر، أما هذه الأصوات فإنها تنصر الظلم، وتؤيد الاستعلاء والطغيان، وشتّان ما بين الصوتين، وتباع فيه الذمم والهمم والأمم بيع البضائع في السوق السوداء، وما هي إلا مجلس نصبوه للشورى فكان للشر وعقدوه للعدل والتناصف، فكان فيه كل شيء إلا العدل والتناصف.

رمى الشرق باريس بأفلاذ كبده فعز على المغرب العربي أن يبقى بعيدًا مع قرب الدار، فرمى باريس بأفلاذ من كبده ليلقى الأخ أخاه فيتناجيان بالبر والتقوى، ويتطارحان الألم والشكوى. ويهش وجه لوجه، ويخفق قلب لقلب، وتصافح يد يدًا، وترد تحية عن تحية، ثم يقوى ساعد بساعد ويشتدّ عضد بعضد، ويمتزج ضعف بضعف فينبثقان عن قوّة، وضعيفان يغلبان قويًا (تصفيق). أيها الإخوان! لم يؤثر الفاتحون المتعاقبون على الشمال الأفريقي، ولا أثّرت الأديان الراحلة إليه، جزءًا مما أثر الإسلام، وأثرت العروبة، ذلك لأن الفاتحين لهذا الوطن قبل الإسلام إنما جاءوه بدين القوة وشريعة الاستغلال، أما الإسلام فقد جاء بالعدل والإحسان، وجاء وافيًا بمطالب الروح، ومطالب الجسم، وجاء لإقرار الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض، لذلك كان سريع المدخل إلى النفوس، لطيف التخلّل في الأفكار، قوي التأثير على العقول، ولذلك طال في هذا الشمال أمدُه، وسيبقى ما دامت الفوارق قائمة بين الإنسان والحيوان. وإن هذا الشمال الأفريقي كل لا يتجزأ (تصفيق) تربط بين أجزائه دماء الأجداد، ولسان العرب، ودين الإسلام، وسواحل البحر في الشمال، وحبال الرمال في الصحارى، وسلاسل الأطلس الأشم في الوسط، واتحاد الماء والهواء والغذاء، وإنها لخصائص تجمع الأوطان المتباينة، فكيف لا تجمع الوطن الواحد؟ إن تفرّق هذه الأجزاء لم يأت من طبيعتها وإنما جاء من طبائعنا الدخيلة، ومن تأثراتنا الغريبة بالدخلاء، وإنني متفائل بأن هذه الليلة ستكون فاتحة لعهد جديد واتحاد عتيد، ونور من الرحمة والإخاء ينتظم المغارب في سلك. إنني متفائل بما يتفاءل به السارون المدلجون من انبلاج الفجر، فعسى أن يتحقق هذا التفاؤل فتكون هذه الليلة أول خيط في نسيج الوحدة الأفريقية التي هي آخر أمل للمتفائلين مثلي، وإن العنوان الدال على ما وراءه هو اجتماع جميع حركات الشمال الأفريقي في هذا المحفل الزاهر، وان البشير بتحقّق هذا الأمل هو امتزاجنا بإخواننا الشرقيين حول هذه الموائد ومن بركاتهم أن تجتمع حركاتنا كلها في صعيد واحد، وكلها لسان يعبِّر، وقلب يفكّر، وآذان تسمع، وإنّا لنرجو أن تكون قلوينا غدًا غير قلوبنا بالأمس، وأن نفيء إلى الحق الذي أمر الله بالفيأة إليه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (تصفيق متواصل). ... أيها الإخوان! يقول المستعمرون عنا: إننا خياليون، وإننا- حين نعتزّ بأسلافنا- نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتّكل على الموتى، يقولون هذا عنا في معرض الاستهزاء بنا، أو في

معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مذكرًا. ما يرمون إليه، أنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا، لم نجد ماضيًا نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضرهم، وهو كل ما يرمون إليه. وسلوهم ... هل نسوا ماضيهم؟ إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزّون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر والأدب والفلسفة والحرب والفن، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلًا عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد وهذه متاحفهم تردّد الشهادة. إن القوم يحتقرون حاضرنا الذي أوصلونا إليه، ويعتقدون أننا صبيان، فيتذكّرون ماضيهم ليبنوا عليه حاضرهم ومستقبلهم، وينكرون علينا ذلك، فمن حقّنا، بل من واجبنا أن نعرف ماضينا والرجال الذين عمروه في ميادين الحياة، فنعرف من هو أبو بكر ومن هو عمر؟، ونعرف ما صنع عقبة وحسّان وطارق وموسى وطريف في الغرب، وما صنع المثنى وسعد وخالد وقتيبة في الشرق. ألا أنهم يذكِّرون أبناءهم بماضيهم، ويلقّنونهم سِيَر أجدادهم وأعمالهم، وإنهم يذكرون أبناءنا المتأثرين بعلومهم وصناعاتهم بذلك، ويأتونهم بما يملأ عقولهم ونفوسهم حتى لا يبقى فيها متّسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإن الواحد من هذا الصنف من أبنائنا ليعرف الكثير عن نابوليون، ولا يعرف شيئًا عن عمر، ويحفظ تاريخ "جان دارك" عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن عائشة وخديجة، وإن هذه لهي الخسارة التي لا تعوّض، وإني أتخيّل أن لهم في تحريف الكثير من أسماء أعلامنا مأربًا يوم كانوا يأخذون العلم عنّا، كأنهم ألهموا من يومئذ أن الزمان سيدول وأن دورة الفلك علينا بالسعد ستنتهي، وأننا سنعود إلى الأخذ عنهم، فحرّفوا أسماءنا لتشتبه على أبنائنا، فلا يعرفون أن "افيرويس" هو ابن رشد، وأن "افيسن" هو ابن سينا، وان "جيبرال طار" هو جبل طارق، وهكذا يتكلم أبناؤنا اليوم بهذه الأسماء، وهكذا ينطقون بها، ولا يهتدون إلى أصحابها حتى يقيّض الله لهم من يكشف الحقيقة، ثم يبقى أثر الشك في نفوسهم، لما يصحب تثقيفهم الأجنبي من تحقير لجنسهم وحكم على تاريخهم بالعقم الفكري ... وإنها لمصيبة يجب علينا أن نتنبّه إلى خطرها، ونبادرها بالعلاج، وان دواءها الوحيد هو تثقيف أبنائنا تثقيفًا عربيًا شرقيًا موحّدًا، وأقول موحّدًا لأنني أعتقد أن الخلافات السياسية التي مُني بها الشرق، يرجع معظمها إلى اختلاف الثقافات، فالمثقّف ثقافة انكليزية يحترم انكلترا، والمثقّف ثقافة فرنسية يحترم فرنسا، وهكذا وزّعنا الاحترام على الغير، فلم يبق من احترامنا لأنفسنا شيء، وكأننا استبدلنا بجنسيتنا الواحدة جنسيات متعددة، كلها غريبة عنّا، وكلّها مجمعة على اهتضامنا وهضمنا، ولولا نزعات موروثة عن الأجداد الذين قهروا الرومان في أفريقيا، ودفعوا الصليبيين عن الشرق، لم يبق لنا من ذلك التراث الغالي شيء، بفعل التجهيل الذي هو غاية الاستعمار فينا، وبفعل هذه التعاليم الغريبة عنّا.

أيها الإخوان! ليس من سداد الرأي أن يضيع الضعيف وقته في لوم الأقوياء، وليس من المجدي أن يدخل معه في جدل. إن من تمام معنى اللوم أن يتسبّب في توبة، أو يجر إلى إنابة، ونحن نعلم أن القوم لا يتوبون ولا يذكرون، فالواجب أن نلوم أنفسنا على التقصير، ونقرعها عن الانقياد لآراء هؤلاء القوم ولإرشادهم ... أما لومنا إياهم فهو لوم الخروف للذئب، وأما طمعنا في توبتهم فهو طمع الخروف في توبة الذئب، فإن أردتم أن تروا المثل الخارق من توبة الذئب فقلّموا أظافره، واهتموا أنيابه، كذلك إن أردتم توبة القوي فاحتقروا قوّته، واحذروا أن تكونوا زيادة فيها، فإنه يتصاغر ثم ينخذل، ثم يساويكم فإذا هو أقل منكم وأضعف. إن هذه هي الأمثال التي يعقلها الطغاة، وإن هذه هي التوبة التي يجب أن يُحملوا عليها حملًا، ويلجأوا إليها إلجاءً. كذلك يجب أن لا نقضي أعمالنا في التلاوم، وأن لا نكون كمن قال فيهم القرآن: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} فإذا تلاومنا فليكن ذلك زجرًا عن الشر، وردعًا عن الخلاف، ثم رجوعًا سريعًا إلى الحق، ولقد نهى شوقي إخواننا المصريين حينما كانوا يتلاومون فيشغلهم التلاوم عن قضيتهم والاستعداد، وبرأهم في موقف تجب فيه المؤاخذة الوطنية، ليردّهم إلى سبيل الرشاد، فقال: لا يلم بعضكم على الخطب بعضًا … أيها القوم، كلكم أبرياء فلندع اللوم والعتاب جانبًا، ولنفعل ما يفعله الصاحي حين يستيقظ من النوم من حزم وتشمير وجد، فبذلك يلحق القوافل المبكّرة، لا بالتباطؤ والإخلاد ولعن الشيطان ومعاودة النوم. إن شبابنا هم أحق الناس باستجلاء هذه العبر، وهم أحق بوصل مبتدئهم بالخبر، وهم أحق بأخذ مواعظ الحياة عن المتنبي، وبتلقّي دروسهم الفطرية البدوية عنه، وأن لا يكونوا شبابًا- بالمعنى الذي يملأ هذه الكلمة- حتى يؤدّوا امتحانًا في الحياة على منهج المتنبي وطريقته، إذ يقول: وأهوى من الفتيان كل سميدع … نجيب كصدر السهمري المقوَّمِ خطت تحته العيس الفلاة وخالطت … به الخيل كُبَّات الخميس العرمرم فإن فعلوا ذلك فأنا كفيل لهم أن يدخلوا هذا البحر المتلاطم من حضارة عصرهم ولا يغرقوا، وأن يعبّوا من هذه التعاليم المتباينة في حياة عصرهم ثم لا يشرقوا ... (تصفيق).

أيها الإخوان! إن القوم درسونا وفهمونا، وتيقّنوا أننا لن نضيع ولن نفنى ما دمنا متمسّكين بالعرى القوية من الإسلام والعربية والشرق، فرمونا بالوهن في مقوّماتنا حتى تضعضعت وبدأوا بالدين فسخّروا علماءه بوسائل شتى حتى أضعفوا سلطانهم وأزالوا هيبتهم من نفوس المسلمين، ووجدوا ثغرًا قديمة من ضلالاتنا فيه فوسّعوها وأدخلوا فيه ما ليس منه، وشجّعوا البدع المحدثة في الدين بتشجيع أهلها، وأعانهم على ذلك كله الانحطاط العام الذي ابتليت به العلوم الإسلامية من المائة الثامنة إلى الآن، فكاثروها بعلومهم المادية حتى غمروها وزهدوا أهلها فيها وأصبحت عقيمة جامدة ثم عمدوا إلى الكبراء فأغووهم بالأموال والألقاب والرتب، وأغروا بينهم العداوة والبغضاء، وشغلوهم بالتوافه عن العظائم، وببعضهم عن الأجنبي، وبأنفسهم عن الشعوب، فما استفاقوا وما استفقنا إلا وأوطاننا مقسّمة، وقسمتنا هي القليلة، وممالكنا كثيرة، ولكن معانيها للأجنبي، وألفاظها لنا، ثم عمدوا إلى الشباب فرموه بهذه التهاويل من الحضارة الغربية وبهذه التعاليم التي تأتي بنيانه الفكري والعقلي من القواعد، وتحرف المسلم عن قبلته، وتحول الشرقي إلى الغرب، وإن من خصائص هذه الحضارة أن فيها كل معاني السحر وأساليب الجذب، وحسبكم منها أنها تفرّق بين المرء وأخيه والمرء وولده، فأصبح أبناؤنا يهرعون إلى معاهد العلم الغربية عن طوع مِنَّا يشبه الكره، أو عن كره يشبه الطوع، فيرجعون إلينا ومعهم العلم وأشياء أخرى ليس منها الإسلام ولا الشرقية، ومعهم أسماؤهم، وليس معهم عقولهم ولا أفكارهم، وإن هذه لهي المصيبة الكبرى التي لا نبعد إذا سمّيناها مسخًا، وليتها كانت مسخًا للأفراد، ولكنها مسخ للأمم ونسخ لمقوّماتها. ... أيها الإخوان! إن النقطة التي ابتدأ منها بلاؤنا وشقاؤنا هي أنهم أرادونا على الانقسام، وزيّنوه لنا كما يزيّن الشيطان للإنسان سوء عمله، فأطعناهم وانقسمنا، فوسعوا شقة الانقسام بيننا بأموالهم وأعمالهم وآرائهم وعلومهم، ولم يتركوا أداة من أدوات التقسيم إلا حشدوها في هذا السبيل، ولم يغفلوا الأستاذ والكتاب والراهب والمرأة والتاجر والسمسار حتى بلغوا الغاية في تقسيمنا شيعًا ودولًا وممالك، كما توزّع قطعة الأرض الكبيرة الصالحة إلى قطع صغيرة لا تصلح واحدة منها ولا تكفي، ثم عمدوا إلى خيرات الأرض فاحتكروها لأنفسهم، واستخرجوها بعقولهم المدبّرة، وأيدينا المسخّرة، فكان لهم منها حظ العقل، ولنا منها حظ اليد، ولو أننا تعاسرنا عليهم من أول يوم في تقسيمنا، ولذنا بكعبة الوحدة

نطوف بها ونلتزم أركانها، لما نالوا منّا نيلًا، ولما وصلنا إلى هذه الحالة، أما وقد بلغوا من تقسيمنا ما يريدون، وأصبحنا في درجة من الضعف المادي والضعف العقلي نعتقد فيها أن الله خلقنا خلقة الأرنب، وخلقهم خلقة الأسد، وجفّ القلم، ولا تبديل لخلق الله. فأول واجب علينا، بل أول نقطة يجب أن نبتدئ منها السير، هي أن نكفر بهذا الانقسام، ونكفر عليه بضدّه، وهو الوحدة الشاملة لجميع الأجزاء، وكيف يكون ذلك وقد بُنيت على ذلك التقسيم أوضاع جديدة وممالك وملوك وحدود، وان تغيير الممالك لصعب، وإن فطام الملوك عن لذة الملك لأصعب منه؟ فلنلتمس مفتاح قضيتنا من بين هذا الركام من الأدوات البالية، ولنعتصم بالأمر الميسور، وهو أن نوحّد التعليم ومناهجه، والتجارة وأوضاعها، ولنطمس هذه الحدود الفاصلة بين أجزاء الوطن الواحد، وليرتفق بعضنا ببعضنا، فيما يزيد فيه بعضنا على بعضنا، ولنكن يدًا واحدة على الأجنبي، ولنعتبر المعتدي على جزء منا معتديًا على جميع الأجزاء، وعدو العراق هو عدو مراكش، ولنذكر من خصال الأمم ما فعلته ايطاليا في ضم أجزائها، وما فعلته ألمانيا، وما فعلته فرنسا التي لم تنم لها عين ولم ينعم لها عيش في قضية الألزاس واللورين، ولو أن معتديًا اعتدى على جزء من انكلترا (وهي كجزيرة العرب) لتداعى الإنكليز من أطراف الأرض لاسترجاعه، فلمَ لا نكون كذلك؟ إنهم إن علموا ذلك منّا، وعلموا جدنا فيه تابوا عن سيرتهم فينا وأقلعوا، أما من لان للأكل فليس من حقّه أن يلوم الأكلة. ... والذي روحي بيده ... ما يسرّني أن للعرب ثماني دول، ولا أن للمسلمين عشرين دولة، ما داموا على هذه الحالة، وإنما يسرّني ويثلج صدري أن يكون المسلمون كلهم شعبًا واحدًا بحكومة واحدة، وعلى عقيدة في الحياة واحدة، وعلى اتجاه إلى السعادة واحد، فإذا وجد هذا الشعب لم يبق لهؤلاء الأقوياء إلا أن يقولوا: إن في الشرق قومًا جبّارين، وإنه لم يبق لنا بينهم موضع. إن القوم استضعفونا ففرّقونا فأكلونا لقمة لقمة، فأوجدوا هذا الشعب الموحّد تَحيوا وتُحيوا العالم به، أوجدوه تُسعَدوا وتُسعِدوا العالم به ... إن العالم اليوم مريض، وانه يتلمّس الشفاء، فأروه أن في الإسلام شفاءه، وانه في خصام منهك، وانه يلتمس الحكم، فأحيوا الإسلام الصحيح يكن حكمًا في مشكلة هذا العصر ... مشكلة الغنى والفقر ... تكتّلوا ففي استطاعتكم أن تتكتلوا ... تكتّلوا يمدّكم العصر بروحه ... انه عصر التكتّل، وان الأقولاء لم

تغنِ عنهم قوّتهم شيئًا فأصبحوا يلتمسون أنواعًا من التكتّل مع القريب ومع الغريب، فهذه انكلترا تتكتّل، وهذه أمريكا، وهذه روسيا ... فكيف لا يتكتّل الضعفاء. إننا ضعفاء، ومن القوة أن نعترف بأننا ضعفاء، لأن من كتم داءه قتله، فمن الواجب علينا أن لا نتعاظم بالكذب، ما دمنا لا ننال إلا الفتات من مائدة الحياة. ... أيها الإخوان! إذا حدّثتكم عن الإسلام، أو أجريته على لساني، فلست أعني هذه المظاهر الموجودة بين المسلمين، وإنما أعني تلك الحقائق التي سعد بها أصحاب محمد وأسعدوا بها العالم، تلك الحقائق التي سارت الإنسانية على هداها قرونًا فما ضلّت عن سبيل الحق ولا زاغت، إنما أعني تلك الآداب التي صحّحت العقل والفكر، وصحّحت الاتجاه والقصد، ووحّدت القلوب والشواعر. فإن أردتم أن تستبدلوا السعادة بالشقاء فعودوا إلى ذلك الطراز العالي المتّصل بالسماء، إن السعادة منبثقة من النفوس، وان الشقاء لكذلك، وإن إرادة الإنسان هي زمامه إلى الجنة أو إلى النار. إن أول من يجب عليه أن يؤذن بهذا الصوت جهيرًا مدويًا هم علماء الإسلام، فكل عالم مسلم لا يدعو إلى اتحاد المسملين، وإلى إحياء حقائق الإسلام العالية، وإلى إسعاد الشرق بها فهو خائن لدينه، ولأمانة الله عنده. وإن العالم المسلم الذي يسكت عن كلمة الحق في حينها والذي لا يعمل لإقامة الحق، ولا يرضى أن يموت في سبيل الحق، جبان، والجبن والإيمان لا يلتقيان في قلب مؤمن. إن عهد الله في أعناق علماء الدين لعهد ثقيل، وان أمانة الإسلام في نفوس علمائه لعظيمة، وإنهم لمسؤولون عليها يوم تنشر الصحائف في هذه الدار، وفي تلك الدار. ... أيها الإخوان! إن الكلام لطويل، وإن الوقت لقصير، فليكن آخر ما نتواصى به: الحق والصبر والاتحاد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الجزء الثالث

ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. الجزء الثالث عيون البصائر الناشر: دار الغرب الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــــــ

1997 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى

آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي

ـ[صورة]ـ باريس 1951

مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر" ــــــــــــــــــــــــــــــ هذه صور من الإبداع الأدبي، وسمو البيان العربي- وقد نحتت كلماتها من لآلئ النثر الفني، ورسمت عباراتها بروائع الذوق الشعري- نقدمها لقراء العربية، ودارسي خطابها، عساهم يكتشفون من خلالها نسجًا فريدًا في منهج الخطاب العربي المعاصر، هو ما أصبح يعرف عند فلاسفة اللغة الغربيين- اليوم- "بسلطة النص". إنها مدرسة، ذات "أسلوبية" قل مثيلها في منهجية خطابنا العربي المرسل. فهي تضرب بجذورها في أعماق التراث العربي القديم، في الوقت الذي تبسط فيه أغصانها المتعددة على فروع المعرفة الحديثة. وهي نسج فريد من الأدب. يجمع بين حكمة قُسِّ ابْنِ سَاعِدَةَ الأيَادي وفصاحة سَحْبَانَ، وَعَقْلانيَّة أبي عُثمان الجاحظ، وإشارات أبي حَيَّان التوحيدي، إلى جانب رشاقة أسلوب عبد الحميد الكاتب، وأناقة عبارة أحمد حَسَن الزيات، ورمزية مصطفى صادق الرَّافعي، غير أنها تزيد على ذلك كله، بخصوصيات أخرى هي أنها جزائرية العزيمة في التصدي للاستعمار، ومغاربية الالتزام في الدفاع عن الحرية، وعروبية الانتماء في التأصيل الحضاري، وإسلامية المنهج في علم التصحيح العقدي. تلك هي مدرسة "عيون البصائر"- وقد كحل الله بنور الحق بصيرة كاتبها - فراعت بالحكمة العقلية في معناها، وطرزت بالعبارة البلاغية في مبناها، فجاءت معلمة معرفية جامعة مانعة. سيجد- فيها - فقهاء الألسنية، وفلاسفة التاريخ السياسي، وعلماء الاجتماع، والعارفون بالفقه وأصوله، الحق المنشود وقد فصَّلته، والمنهج المقدود، وقد برهنته، فيستنطقون بذلك الحوادث التاريخية التي وضعت لها مُقدماتها ويستجوبون أبطال التاريخ، بالموضوعية التي حددت خصائصها ومميزاتها.

الرمز القرآني

على أن ما يجب التنبيه إليه منذ البداية هو أن لقراءة هذا الكتاب ودراسته، قواعد وشروطًا، لابد من توفرها لمن أراد القيام بهذه الرسالة العلمية. فمضمون الكتاب يحتوي على رموز قرآنية، وإيحاءات معرفية، وألغاز سياسية، واستعارات مجازية، ولا بُدَّ لمن رام الإقدام على هذه المهمة من التحلي باستعداد فكري خاص، والتسلح بأدوات معرفية معينة، تُمكِّن من تخطِّي الصعاب، وكشف أسرار الحجاب. ولعل من أهم الأدوات المعرفية المطلوبة في فنَّ قراءة "عيون البصائر" التزود بما يمكن من فهم الرموز التالية: 1 - الرمز القرآني: إن في مقدمة الرموز التي يحيل إليها الإمام محمد البشير الإبراهيمي في خطابه، الآية القرآنية، التي يدمجها ببراعة وسط عباراته، ويوظفها توظيفًا رائعًا في الدفاع عن قضاياه، فلا يدرك كنهها وبعدها، إلا العارفون بالقرآن المتضلّعون في فن إعجازه البياني. ولا يكاد يخلو مقال من هذه الرمزية القرآنية التي غَدت سمة من سمات الخطاب الإبراهيمي والتي أضفت عليه سُمُوًّا، تجلَّى على الخصوص في حسن تصريفه للأفعال والمصادر، في اقتباس عجيب من الآيات، ولجوء حكيم إلى مرجعية القرآن- وهل "البصائر في حقيقتها [إلا] فكرة استولت على العقول، فكانت عقيدة مشدودة العقد ببرهان القرآن". "وإن الصحف في لسان العُرْف، كالصحائف في لسان الدِّين، منها: "صحائف الأبرار" و "صحائف الفجار" لذلك كان من حظ الأولى الابتلاء بالتعطيل والتعويق". إن الصحف والصحائف إحالات إلى رموز قرآنية لا يدرك أبعادها إلامن ذاق حلاوة العربية بحلاوة القرآن. وجاءت القضية الوطنية الجزائرية، فوجد الخطاب الإبراهيمي في القرآن خير ينبوع، يغرس فيه ريشته ليصوغ عباراته القذائفية، ويرسلها على الاستعمار وأذْنابه. يأخُذُ الإبراهيمي أحد الأمثلة في مقارنة الاستعمار الإنجليزي بالاستعمار الفرنسي في علاقة كل منهما بالشعوب الرازحة تحت نيرهما ... فيقول: "قرأنا سير الإنجليز في الهند فوجدناهم بالغوا في إعطاء الحرية للأديان ... [حتى] سووا في تلك الحرية بين "قراء البقرة" بالحق [وهم المسلمون] وبين "عبَّاد البقرة" بالباطل [وهم الهندوس] " [ص:104]. وعندما يشير الإبراهيمي إلى من يسمون برجال الدين الحكوميين آنذاك، يتجه إلى قطبهم وهو الشيخ محمد العاصمي "المفتي الحنفي" الذي عينته الحكومة الفرنسية، فيأخذ من القرآن وصف الأصنام، ومقارعة الأنبياء لها، ويقف على الخُصوص عند قصة إبراهيم عليه السلام مع

كبير أصنام قومه ليستخلص النتيجة من انتصار النُّبوة- وهي حق- على الصنم- وهو باطل-. فيرسم لنا الصورة التالية: "ما أشأم العاصمي على نفسه! فقد سكتنا عنه فأبى، بعد أن جارانا فكبَا، وما تحدثنا عَنه في الماضي إلا باعتباره أداة لا شخصًا، وما سكتنا عنه بعد ذلك إلا لأننا أوسعنا تلك الأدوات تحطيمًا وتهشيمًا و"رغنا عليها ضربًا باليمين" ويضيف: "هاج هذا المخلوق الشر بتماديه في الشر .. لأن هذه الطريقة هي التي تُظهره وتقربه زُلفى إلى آلهته .. إنه لهم مولى شؤم، وعشير سوء، لبئس المولى، ولبئس العشير" [ص:150]. ثم يعمد إلى الاستعمار فيقارن بينه وبين المستضعفين المبتلين بحكمه ليقول "ألا إن في الاستعمار لفحة من جهنم، وإن في المستضعفين سِمات من أهلها أظهرها أنهم لا يموتون ولا يحيون" [ص:220]. وفي موضع آخر نقرأ له: "يا هؤلاء! إن الاستعمار شيطان، وإن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًّا " [ص:288]. وعند توعيته الأحزاب الجزائرية بواجب الوحدة، ومغبة الافتراق يمهد لذلك بالقرآن أيضًا فَيُعرِّضُ بالفرقة قائلاً: "ما ذكر القرآن الأحزاب بلفظ الجمع إلا في مقام الخلاف والهزيمة {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [الآية 37 السورة مريم]، {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [الآية 11، سورة ص] وإن حزب الله في الأمة الجزائرية هو جمعية العلماء [ص:66]. ثم يتجه مباشرة إلى قادة الأحزاب فيخاطبهم- مُستخدمًا نفس الرمزية القرآنية- "يا قادة الأحزاب! إن في صفوفكم دساسين مدخولين من الرجال لهم أغراض في المنافع والكراسي، ولهم مقاصد في الإفساد، وإنَّكم لتعرفونهم بسيماهم وتعرفونهم في لحن القول فأخرجوهم من الصفوف" [ص:302]. وفي ردّ الإبراهيمي على الزعم الاستعماري الفرنسي بأن "الجزائر فرنسية" ينبري لهذا الزعم بالبراهين القرآنية الرائعة، ومنها قوله: "ولو أن الاستعمار شرعها زجلًا بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار، لكان في آذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثّة مرذولة، ممزوجة مملوءة، ولهدينا بالفطرة إلى الطيب من القول، وهي أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية، كلمات قالها أولنا، ويقولها آخرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا" [ص:349]. أما عن فلسطين السليبة، فإن الإبراهيمي جعل منها قضية كل جزائري وكل عربي، وكل مسلم ... فخصها بسلسلة من المقالات حاول فيها استنهاض الهمّة العربية، والعزة الإسلامية، فاستعان على ذلك بنفس الإعجاز القرآني، خصوصًا "وأن فلسطين وديعة محمد

الإبداع البياني

عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة. إنا إذًا لخاسرون" [ص:445]. وضاعت فلسطين منا حين "قسمت بالتصويت وهو أضعف صدى، وعلى الأوراق وهي أنزر جدًا، وبالأغلبية السائرة على غير هُدى تحديًا للعرب الذين كانوا في ذلك المجلس أضعف ناصرًا، وأقل عددًا " [ص:453]. ما أبرع الإبراهيمي، وما أروع أسلوبه الرمزي القرآني هذا في التأثير على قارئه ... وأنّى لهذا القارئ أن يدرك كنه هذه الرموز وأبعادها، إن لم يكن مدركًا للقرآن، معتادًا على إعجازه البياني، وبرهانه الرَّبَّاني! ... تلك إذن هي الأداة المعرفية الضَّرورية الأولى لمن يروم قراءة "عيون البصائر". 2 - الإبداع البياني: إن في البنيوية اللغوية، للخطاب الإبراهيمي، لَسرًا عميقًا، هو الذي يجليه السحر البياني، الذي يأخذ من النحو العربي شروحَهُ، ومن المجاز البلاغي وضوحه ومن الفقه الديني طروحَه، ليبعَثَ الكل في سمو إشارة، ودقة عبارة. وهل يستطيع القارئ العادي أن يدرك هندسة هذه العبارات، وفلسفة تلك الإشارات، إن لم يكن معدًا إعدادًا ثقافيًا دقيقًا عميقًا؛ ذلك هو العائق المعرفي الذي يصطدم به فاقد التكوين الثقافي، في قراءته للنص الإبراهيمي في "عيون البصائر"، فمن أول استهلال تطالعنا به "عيون البصائر"، إلى آخر التسابيح الشعرية ممثلة في "سجع الكهان"، ومرورًا "بالقضية ذات الذَّنب الطويل"، و"عادت لعترها لميس"، و"الشك في الإيجاب نصف السلب"، "وإبليس ينهى عن المُنكر"، و"كلمات مظلومة" ... إلخ. كلها مقالات يجب أن تقرأ بعقل مفتوح، وقريحة وقادة، مزودة بزاد ثقافي خاص. وإن من متطلبات هذه الاستعدادات، ضرورة استحضار قاموس موسوعي متعدد الاختصاصات للتغلب على عقَبة الفهم. وإنَّنا لنتساءل- بكل موضوعية: لمن كان يكتب الإبراهيمي هذه المقالات، إذا علمنا المستوى الثقافي السائد آنذاك، في الجزائر على الخصوص، وحظ الجزائر من العربية في ذلك الحين!!؛؛ وإنه لممَّا يبعث فينا النخوة، والعزة، أن ردود فعل هذه المقالات، فاقت كل تصور في داخل الجزائر وخارجها، مما يدلل على تفوق النوع الثقافي على الكمي، وهو ما يمثله علماء

الجزائر ومعلموها وطلابها في عهد جمعية العلماء، وبذلك تتحقق أولى البراهين على عمق الأصالة العربية والعروبية في الجزائر. واقرأ معي براعة الاستهلال، التي استهلّت «البصائر» بها عودتها في سلسلتها الثانية بعد تعطيلها بسبب الحرب العالمية من سنة 1939 إلى 1947م. يستهلّ افتتاحيته بهذا الدعاء المؤثر في بيان ندر مثيله: "اللهم يا ناصر المستضعفين انصرنا ... واجعل لنا في كل غاشية من الفتنة، ردءًا من السكينة، وفي كل داهمة من البلاء درعًا من الصبر، وعلى كل داجية من الشك علمًا من اليقين، وفي كل نازلة من الفزع واقية من الثبات، وفي كل ناجمة من الضلال نُورًا من الهداية، ومع كل طائف من الهوى رادعًا من العقل، وفي كل عارض من الشبهة لائحًا من البرهان ... ومع كل فرعون من الطغاة المستبدين موسى من الحماة المقاومين" [ص:41]. إن من هذا البيان لسحرًا، ففيه العقيدة، والحكمة، والبلاغة، والمنطق، والتاريخ، والتصوف، وكل ذلك في عبارات قلَّت فدلَّت. وفي نفس السياق التاريخي يمضي الكاتب في زرع حكمه، فيلقي على قارئه هذه الحكمة البالغة "كذلك حملة الألسنة والأقلام [من العلماء والمثقفين في الأمة] .. فلتأتهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا من شيئين: القلم واللسان. إن بيع القلم واللسان، أقبح من بيع الجندي لسلاحه" [ص:43]. إن هذا لهو ميثاق الشرف يَضعهُ الإبراهيمي لكل عالم ولكل مثقف في تعامله مع قضايا وطنه، ذلك أن أخطر شيء على المثقف، هو بيع الذمة، إذ تكون في ذلك نهايته، وإن عُدَّ من الأحياء. وفي التذكير بعراقة الإنسان الجزائري، في أعماق الحضارة العربية يسوق كاتب "عيون البصائر" هذا التصوير البلاغي الفني لجهود جمعية العلماء في تثبيت أصالة الجزائر، فيقول: "وجاءت جمعية العلماء على عبوس من الدهر، وتنكر من الأقوياء فنفخت من روح العروبة في تلك الأنساب فإذا هي صريحة، وسكبت من سر البيان العربي في تلك الألسنة فإذا هي فصيحة، وأجالت الأقلام في كشف تلك الكنوز فإذا هي ناصعة بيضاء لم يزدها تقادم الزمان إلا جدة ... جمعية العلماء هي التي حققت للجزائري نسبه العربي الصريح بريئًا من شوائب الإقراف والهجنة [ص:57]. إن في كل لفظة من هذه العبارات، يكمن إيحاء يحيل إلى قضية معينة ... فإضافة إلى سحر البيان، وبراعة التصوير، وهندسة اللفظة، تضاف خُصوبة المرجعية التاريخية والعقدية، والفكرية ...

واستمع إليه وهو يحاجج الاستعمار بقوله: "ياحضرة الاستعمار! إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حاكمتنا إلى القوة غلبتنا، ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق، لا للقوة" [ص:63]. إنها مقدمة بيانية سليمة، لنتيجة دينية قويمة. هكذا نرى إذن، أن من خصوصيات "الإبداع البياني" في الخطاب الإبراهيمي، هذا الربط المحكم البديع بين المبنى والمعنى، أو بين الموسيقى التصويرية والدلالة التعبيرية، وكل ذلك في سجع مقل، وإيجاز غير مخل ... "إن هذه الأمة أنجبت الجندي الذي يحرس الحق لا الجندي الذي يخرس الحق". وما هذا الراهب الذي جاءتنا به فرنسا إلا أنه "ليبارك على القاتل، ويدني الصيد من الخاتل، ويعاون المُعمِّر على امتلاك الأرض، والحاكم على انتهاك العرض" [ص:98]. وقوله: "أتطلبون الفص من اللص، وتقيسون في مَوْرِد النص" [ص:358]. "والمرأة الجزائرية تنتحب، والحكومة الجزائرية تريد لَها أن تنتخب" [ص:131]. "وإن بعض القضاة أعوان للقضاء على القضاء" [ص:132]. أمثلة كثيرة وُشِّيت بها مقالات "عيون البصائر"، تشد الدارس إليها فلا تدع عقله يسهو، أو عينه تغفو، لأن متابعة التسلسل البياني تحول دون ذلك ... فمن لا يعرف الاستعارة لا يدرك العبارة في أدب الإمام الإبراهيمي، ومن لم يحظ بقواعد العربية، لا يستطيع فقه الصورة التمثيلية ... والإحاطة بالبلاغة والنحو وسيلة ضرورية من وسائل معرفة التاريخ السياسي للجزائر، وبدون ذلك، يبقى الفهم مبتورًا، وتعال معي إلى هذا التصوير البياني السياسي، الفني، في عبارة لجنة "فرانس- إسلام " التي دعا إلى تكوينها المستشرق الفرنسي، لوي ماسينيون، كمحاولة، لتجسيد الدمج السياسي للجزائر المسلمة في الكيان الفرنسي، تحت اسم ثقافي و"حضاري" هو تجسيد الصداقة بين فرنسا المستعمِرة والجزائر المسلمة المستعمَرة. يتصدى الإبراهيمي لهذه الأحبولة الاستعمارية فيجمع لها كل الأدوات المعرفية البيانية، ليحكم بتهافتها مثبتًا ذلك بالبراهين العقلية، والقواعد النحوية، والمنطقية الصورية ... مطبقًا على ذلك كله منهجه التحليلي البلاغي الرهيب. فيقول عن "فرانس- إسلام": "كلمتان أكرهتا على الجوار في اللفظ والكتابة، فجاءت كل واحدة منهما ناشزة على صاحبتها، نابية عن موضعها منها، لأنهما وقعتا في تركيب لا تعرفه العربية ولا يقبله الذوق العربي" [ص:350].

العمق العرفاني

لقد اهتدى الإبراهيمي بفطرية الوطنية الأصيلة، وذوقه العربي السليم إلى أن التراكيب العربية النحوية ترفض إسناد فرنسا للإسلام في تركيبتها المقترحة، فلا تركيب الإسناد ولا التركيب الإضافي، ولا التركيب الوصفي ولا التركيب المزجي هنا بقادر على تأدية دوره الوظيفي. يقول الإبراهيمي: "في العربية تركيب الإسناد، والإسلام لا يرضى أن يسند إلى فرنسا الاستعمارية، ولا أن تسند هي إليه، وفي العربية التركيب الإضافي والإسلام لا يسمح أن يُضاف إلى فرنسا ولا أن تضاف هي إليه، وفي العربية التركيب المزجي، والإسلام وفرنسا كالزيت والماء لا يمتزجان إلا في لحظة التحريك العنيف، ثم يعود كل منهما إلى سنته من المباينة والمنافرة" [ص:350]. مقدمات نحوية سليمة، لنتائج منطقية سليمة، وتصوير بياني بارع يفضي في النهاية إلى هذه الحقيقة العقلية القائمة على البرهنَة العقلية، والتدليل التاريخي: "وفي الشرائع الاستعمارية الفرنسية بالجزائر مذهب كانوا يسمون جانبه التأثيري "الإدماج " وجانبه التأثري "الاندماج" ومعناه قريب من معنى التركيب المزجي، ولكن هذا المذهب التحق بالمذاهب البائدة التي ولدها العتو عن أمر الله والعُلو في أرض الله، فتلك آراؤه سخرية الساخر وأولئك رجاله لعنة الأول والآخر" [ص:350]. تصوير رائع وَرَبْطٌ محكم بين المقولات الفكرية كفرنسا والإسلام، والإدماج والاندماج، وبين المقدمات العقلية المستوحاة من القواعد النحوية، كالتركيب المزجي، والزيت والماء، والمعاني التاريخية، كالعتو، والعُلو، والمذاهب البائدة، والتناسخ ... إلخ. وتلك هي عبقرية النص، في الخطاب الإبراهيمي من خلال الإبداع البياني. 3 - العمق العرفاني: وفي "عيون البصائر"، صور إِبداعية أُخرى، هي التي يجليها ما اصطلحنا على تسميته "بالعمق العرفاني". وهذا اللون المعرفي عند الإبراهيمي، يمثل مزيجًا من أصول الفقه، وفقه اللغة، والتصوف، والفلسفة، مقرونًا بالفكر السياسي الجزائري، في محاولة للإفحام بالإلهام. فانظر إلى توظيفه للعبارات الفقهية الدينية في القضية المصيرية التي يمثل الاستعمار رأس مقدمتها: "ولو أن الاستعمار كان فقيهًا في سنن الله في الأمم والطبائع لأنصف الأمم من نفسه، فاستراح وأراح، ولعلم أن عين المظلوم كعين الاستعمار كلتاهما يقظة" [ص:47] استدلال رائع في الربط بين فقه الاستعمار، وسنن الله في الأمم، وبين عين الاستعمار [الظالم] وعين المظلوم [المستعمَر] ووجه الشبه بينهما هي اليقظة مع البون الشاسع بين اليقظتين.

ولا أدلّ على ظلم الاستعمار الفرنسي بالذات من جمعه بين المتناقضات في تسلطه على الجزائر "حكومة لائكية في الظاهر مسيحية في الواقع، جمهورية على الورق، فردية في الحقيقة، تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم" [ص:60]. وما ذلك كله إلا من وضع يدها على أوقاف المسلمين، وتعيين موظفين عملاء لها، تدير بهم شؤون المسلمين. لذلك لا نستغرب قسوة الخطاب الإبراهيمي وحدته في مخاطبة ووصف من كان عقبة في طريق تحرير أوقاف المسلمين، وخلاصهم من ربقة الاستعمار، ويركز الخطاب على "المفتي الحنفي" بالجزائر فيأتي الخطاب في شكل صاعقة. "ما زلنا نتتبع أخبار هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه عامل نصب وخفض معًا، وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون "حلقة مفقودة" لقضية ما، في يوم ما" [ص:86] "وفي الإدارة الجزائرية العليا مطبخة- ليست كالمطابخ- تطبخ فيها الآراء والأفكار في كل ما دقّ وجلّ من شؤون المسلمين ... وفي هذا المعمل صنع العاصمي [المفتي الحنفي] وامتحن فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحيات للاستعمال، وأصبح موظفًا في إحدى هذه الوظائف وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية بالجزائر إلا جامع يحمل هذه النسبة ... وإن وجود وظيفة مفتي حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومَنْ جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛! " [ص:88]. وينتهي الخطاب الإبراهيمي بعد هذه المقدمات العرفانية الفقهية في التعريض بقضية الاستعمار للدين الإسلامي في الجزائر، إلى هذه النتيجة الخطيرة: "إن نسبة الحنفي تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي [المفتي الحنفى] أشبه النسبتين به ... وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقَّة" [ص:88]. إنها لبراعة في التخريج هذه التي يربط فيها بين قوم مسيلمة الكذاب في عصر إسلام النبوة وبين المفتي الحكومي العاصمي، في عصر إسلام الصحوة والفتوة .. وإن في ذلك لدلالة على سعة الثقافة العرفانية التي يتسم بها مؤلف "عيون البصائر" فيوظف مقولاتها في تاريخ الصراع الفكري والعقدي بين الظالمين والمظلومين. إن هذه الثقافة الموسوعية العرفانية لدى الإمام الإبراهيمي، هي التي نجدها في امتداد القضية السالفة وهي قضية فصل الدين عن الحكومة أو فصل الحكومة عن الدين. فمن العنوان ذاته يتخذ الخطاب الإبراهيمي مدخلًا للعرض والتحليل، فيأتي بتجليات عرفانية لا نعثر على مثلها في غير هذا الخطاب، يقول بهذا الخصوص:

"ولكننا نغير العنوان في هذه المرة أكان العنوان السابق: فصل الدين عن الحكومة، ونقول: فصل الحكومة عن الدين، قلبًا في الوضع لا في الموضوع، تفاؤلًا للحالة بعدم الاستبقاء كما يتفاءل بقلب الرداء في الاستسقاء، وإن بين التركيبين الإضافيين لفرقًا دقيقًا في لغتنا العربية، تخيله الفقهاء في بحث ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة، وحققه البيانيون في بحث: سلب العموم وعموم السلب .. فدين الإسلام في منزلته من النفوس، وفي منزلته من المعابد وفي مظهره من الأشخاص والمعاني، ثابت أصيل، لم يرد على شيء حتى يفصل عنه، وإنما وردت عليه هذه الحكومة ورود الغاصب الذي يحتل بالقوة لا بالحق" [ص:118]. أليس في هذه الاستعارة التمثيلية ما يُؤكد صحة ما ذهبنا إليه من قبل، وهو أن فاقد الثقافة الفقهية لا حَظَّ له في غوص أعماق الدلالة التي يرمي إليها الخطاب الإبراهيمي، فقلب الرداء في الاستسقاء، وورود الماء على النجاسة، وسلب العموم وعموم السلب، كلها مصطلحات ومفاهيم عرفانية لا يدركها إلا من كان له رصيد من الفقه، والبيان، والحياة الروحية الإسلامية. ولو شئنا لأثبتنا من الأمثلة في هذا الباب ما لا يسمح به تقديم محدود الكلمات والصفحات، ولكننا لا نستطيع مهما حاولنا، مقاومة إيراد نموذج آخر للعمق العرفاني، في "عيون البصائر"، في محاولة منا لمساعدة القارئ والباحث على توجيه عقله- منهجيًا - نحو بعض الرموز المعرفية في هذا الخطاب، لنشجعه على الغوص أكثر في طريق الحفر والتنقيب عن الجواهر وما أكثرها .. والمثال نأخذه من نفس الموضوع الطويل الحلقات، وهو موضوع فصل الحكومة عن الدين .. ونركز فيه على إحداث أوسمة ونياشين "تمنحها الحكومة الفرنسية للأئمة والمفتين". يعالج الشيخ الإبراهيمي هذه القضية بأسلوبه العرفاني البليغ فيقدمها في هذه الصورة الفنية. "نجحت [الحكومة الفرنسية في الجزائر] بهذا الجند العاطل المرتزق الذي جندته واصطادته بشبكة المطامع، من الأئمة، والمفتين، والخطباء، والمؤذنين، والقَوَمَة، والحزابين، وأتباع "شريعة يوسف" أجمعين .. كوَّرتهم وصوَّرتهم، ونقَّحتهم، وحوَّرَتْهُم، وعلى المنوال الحكومي دوَّرتهم، حتى أصبحوا جزءً أصيلاً من الأدوات الحكومية". "ومن المضحكات أو المبكيات في هذا الباب .. باب إدماج شيء في شيء غريب عنه، واعتبارهما شيئًا واحدًا .. إنعام الحكومة بنياشينها على أصحاب الوظائف الدينية" [ص:122].

الفكر العقلاني

"وإن لهذه النياشين لأسماء ونسبًا إلى أعمال، فهل فيها أسماء دينية أو نسب إلى أعمال دينية؛؛ " [ص:122]. ويخترع الإبراهيمي بخياله الأدبي الفسيح، وثقافته العرفانية الواسعة، عناوين استحقاق للأوسمة الدينية مستوحاة من حقيقة الفقه، والثقافة الإسلامية، فيجيب على سؤاله المطروح بقوله: "لا تتم المهزلة على وجهها الأكمل إلا إذا وضعت لنياشين رجال الدين أسماء دينية وعناوين فقهية، لمعان يتفاضلون فيها؛؛ كنيشان (إطالة الغرة والتحجيل)، ونيشان (كثرة الخطى إلى المساجد)، ونيشان (التهجير إلى الجمعة)، ونيشان (الطمأنينة والاعتدال)، ونيشان (وإن تشاح متساوون) وتختم القائمة بشيء خاص بأمثال العاصمي كنيشان (وقبل خبر الواحد)، ونيشان (واشترك طارد مع ذي حبالة) [ص:123]. إن كل مصطلح من هذه المصطلحات يحيل إلى قضية فقهية أصولية في الثقافة الإسلامية، وأنى لغير المتضلعين في هذه الثقافة من فهم مرامي الخطاب هنا، وتقبيح حاملي النيشان، بغير استحقاق من "رجال الدين". لذلك كان ضروريًا، الاستعانة على دراسة الخطاب الإبراهيمي، بإحداث القابلية والاستعداد، ولن يتأتى ذلك إلا بالأخذ بنصيب من فنون الثقافة الإسلامية، وملء الوطاب بمفاتيح الدخول إليها، مما سبق ومما سيأتي ذكره. 4 - الفكر العقلاني: قد نظلم الخطاب الإبراهيمي، لو أننا قصرناه على الجانب المعرفي الفقهي، الصوفي، البياني، البلاغي، وفصلنا عنه الجانب الفلسفي، العقلي، العلمي ... ذلك أن هذا الخطاب يأبى إلا أن يأخذ حظه من هذه الجوانب المعاصرة كلها، وفي براعة لا تقل عما ألفناه عنده في مجال الذوق الأدبي، والبيان البلاغي، والتبحر الفقهي، والذكاء السياسي ... فقد جاء الخطاب حسب دراستنا له، معاصرًا لاهتمامات العقل آنذاك، فاتسم بالحكمة الفلسفية من حيث المعنى، وبالنزعة العقلية من حيث البرهنة، فكان خطابًا متوازنًا ذا تعادلية، تجمع بين الفلسفة والدين، دونما غلو أو إفراط. ونعتقد أن ذلك كان ضروريًا من حيث المنهج، إذ أنه مطلب أمْلَتْه الظروف السياسية والفكرية، والثقافية المحيطة، فكان لابد- إذا أريد للخطاب أن يحقق هدفه- من ركوب المنهج الفلسفي والعقلي لإكساب القضية الكبرى، قوة الحجة، ومنطقية الدليل.

وما أبلغ الإبراهيمي وقد رأينا قوته في توظيف الرمزية الدينية في وصفه للاستعمار، وما أبلغه اليوم وهو يوظف الأساليب العلمية والعقلية في إعطاء حكمه على الاستعمار- فإذا كان الاستعمار في الرمز الديني- شيطانًا - كما رأينا- فإنه بلغة العلم "سلّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح" [ص:47]. وعملية "التلقيح بمادة الاستعمار وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص" [ص:97] وإذا الطب الاستعماري لم يقض على المرض، وإنما قضى على الصحة. بعد هذا، نلتقي بالمعادلات العقلية في منهج الخطاب الإبراهيمي، ففي قضية فصل الحكومة عن الدين دائمًا، وهي المقدمة الصغرى، لتحقيق النتيجة الكبرى، فصل الجزائر عن الحكومة الفرنسية- في هذه القضية يتناول الخطاب أسلوب التسويف والمماطلة الذي تسلكه الحكومة الفرنسية مع الجزائريين ليطول الأمد فتنسى العقول، وتقسو القلوب، وتتشعب المسالك على المطالبين بحقوقهم ... لذلك يعمد الخطاب إلى هذه المعادلة العقلية: "أما الأمد فقد طال مئة وعشرين سنة، فتناسى أولنا ولم ينسَ أخيرنا ... وأما تشعب السبل فقد أعددنا له- من أول يوم- دليلاً لا يضل وهو الحق. وجانبًا لا يزل وهو الصبر، وسيفًا لا يكل وهو الحجة، ونصيرًا لا يذل، وهو العقل، وميزانًا لا يختل، وهو الرأي، فلا تتشعب علينا السبل إلا رميناها بهذه الأدوات مجموعة فتنزوي وتتجمع كقضبان الحديد في محطة القطار، مآلها بحكم الهندسة إلى خطين متوازيين" [ص:142]. بهذا البرهان المنطقي، أبطل الإبراهيمي المعادلة الفاسدة التي أقام عليها الاستعمار مقدماته، وهي "البطلان بالتقادم" كما يقول رجال القانون: وأقام عليها حجة علمية هندسية وهي مآل الكثرة إلى خطين متوازيين، ثم إلى محطة واحدة هي محطة الوصول، إنه برهان عقلي يقوم على الدليل العلمي. وهناك نموذج آخر للمعادلة العقلية، يوردها في علاقة الحكومة الفرنسية بأتباعها من علماء الدين وهي أن هذه الحكومة تبقي على السحنة، وتفرغ الإنسان من الشحنة: "وواعجبًا لما تصنع هذه الحكومة ببعض الرِّجال مِنّا، تعمد إلى الواحد منهم، فتبقيه على سحنته، ولكنها تفرغه من شحنته" [ص:149]. ويقول في مكان آخر: "وما زالت [الحكومة] بهم [رجال الدين] تروضهم على المهانة وتسوسهم بالرغبة والرهبة، حتى نسوا الله ونسوا أنفسهم ... وأصبحوا في العهد الأخير كالأسلاك الكهربائية المفرغة من الشحنة، ليس فيها سلب ولا إيجاب". [ص:162 - 163]. وفي معادلة منطقية أخرى يوظف صاحب "عيون البصائر" صورة عقلية رهيبة لمأساة 8 مايو 1945، فيقول: "اثنان قد خلقا لمشأمة، الاستعمار والحرب، ولحكمة ما، كانا سليلي

أبوة لا يتم أولهما إلا بثانيهما ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأولهما. وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد فجثث القتلى من هذه الأمة ضحيته" [ص:333]. إن ما يتميز به الخطاب الإبراهيمي، إذن، هو: استعانته بكل المناهج، كالتاريخية التحليلية، والفلسفية النقدية، والرياضية البرهانية، وهي تترجم كلها مدى أهمية الموسوعية المعرفية التي تطبع ثقافة الإمام البشير، وخصوصًا مدى تفتحه على ثقافة عصره، وهو الذي ورث تكوينًا على يد علماء "تقليديين". والأهم في كل ذلك أنه بهذا الأسلوب يرفع أية قضية من قضايا مجتمعه وشعبه- مهما صغرت- إلى درجة التحليل المعرفي ليجعل منها قضية عقلية كبرى. وكما يقول هو عن إحدى هذه القضايا، وهي تضييق الحكومة الفرنسية على المدارس القرآنية، ومطاردة معلميها، وإخضاعهم للمساءلة، والنفي، والمحاكمة: "قضية بسيطة، أساسها ظلم، وحائطها بغي، وسقفها عدوان، وأصلها الأصيل ((فتح مكتب قرآني بدون رخصة حكومية)) تتدحرج من محكمة إلى محكمة، ومن حاكم إلى حاكم حولا كاملاً": [ص:226]. "وما أغرب شأن الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي: فئة تدرس في جامعة، وملايين ترسف في (جامعة) - وهي القيد الذي يجمع اليدين والرجلين- ويا بعد ما بين الطرفين" [ص:231]. وما أبرعه من عقل، يضفي على كل قضية طابع الاستنباط العقلي، ليلفت الانتباه، فيقابل بين فكرة صحيحة وأخرى فاسدة، وبين خاطرة أصيلة، وأخرى وافدة، ليبني النتيجة على المقدمات وتلك- والله- مهمة الفيلسوف القدير، والمحامي الخبير. إن هذا المنهج المقارن الذي نلتقي به في أدب الإمام الإبراهيمي، ليعد نسجًا فريدًا في الخطاب العربي المعاصر، حيث يستخدم فن "التوليد اللغوي" و "التصوير المعنوي" في رسمه لحدود القضايا، فيضفي بذلك على تلك القضية طابع الأهمية المفقود، وعامل الخطورة المقصود، ويجعل القارئ أو السامع الموجه إليه الخطاب، مأسور العقل، مشدود البصيرة. لنستمع إليه في هذه الصورة الرائعة في مقابلة الدين السماوي، بالسماء لننتهي معه إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي مسؤولية علماء الدين. في طريقة عرض الدين وجناية جهلهم عليه: "والدين السماوي، علو وصفاء، وظهور بلا خفاء، وحقائق ثابتة، ونسب غير متفاوتة، وحركات منظمة، وأحكام مقوّمة، فإن خفيت السماء فمن الغيم، وهو من الأرض، وإذا خفيت حقائق الدين فمن الجهل أو من الضيم، وهو من سوء العرض" [ص:183]. وعندما يتوجه الكاتب بالخطاب إلى طلاب العلم من أبناء الجزائر في تونس، والمغرب، يرسم لهم صورة عقلية دامغة الحجة في إيجاد التفرقة بين المعرفة المطلوبة،

السياق التاريخاني

والسياسة المنكوبة ليربط الشباب في النهاية بالوطنية في أظهر صورها، وأنبلِ مبادئها "إن الوطنية لَعَقيلَةُ كرام، لا يساق في مهرها بهرج الكلام، وكريمة بيت، لا تنال بِلوْ ولا بِلَيْت، وإن العلم كبير أناس لا يصاحب إلا بضبط الأنفاس" [ص:315]. "العلم ... العلم ... أيها الشباب، لا يلهيكم عنه سمسار أحزاب، ينفخ في ميزاب، ولا داعية انتخاب في المجامع صخاب، ولا يلفتنكم عنه معلل بسراب، ولا حاو بجراب، ولا عاو في خراب يأتَمُّ بغراب، ولا يَفْتِنَنَّكُمْ منزو في خنقة ولا ملتو في زنقة، ولا جالس في ساباط، على بساط يحاكي فيكم سنة الله في الأسباط، فكل واحد من هؤلاء مشعوذ خلاب، وساحر كذاب" [ص:316]. أرأيتم هذه الإيحاءات، والإحالات على تعددها، كيف أنها تشير، منفردة ومجتمعة، إلى آفات المجتمع الجزائري آنذاك، وهي آفات فيها الحزبي المخادع باسم السياسة، وفيها الطرقي المضلل باسم الدين، وفيها المشعوذ، والحاوي، وكلها ظواهر مقيتة في حياة المجتمع الجزائري، ولقد وفق الخطاب الإبراهيمي في توظيف هذه الآفات، بمخاطبة العقل الطلابي وتحذيره باسم العلم من مخاطرها. إن الفكر العقلاني لطافح، بمنهجه، وأدلته، وبراهينه في خطاب "عيون البصائر"، وسيؤسر القارئ بصوره الخلابة الجذابة، بما أوتي هذا الخطاب من حكمة وفصل خطاب. وحسبنا أن ننبه القارئ والدارس إلى هذه الجوانب المضيئة في الخطاب، حتى يملأ منها النفس والوطاب. 5 - السياق التّارِيخاني: تبارك الذي خلق محمد البشير الإبراهيمي، فجعله كاتب الجزائر الأصيل، وابن العروبة السليل، وحامي حمى الإسلام المثيل. أمده بالإلهام فكان عقله ناطقًا بسمو الفكر، ولسانه ذاكرًا لله بالشكر، وضميره طافحًا بحب الأمة، إلى حد السكر. لقد وضع لنا "عيون البصائر"، فجاءت جامعة للبيان، والعرفان، ومدونة لسيرة الأعداء والخلان يجد فيها القارئ الموسوعة الثقافية، والأدبية، والتاريخية، والسياسية للجزائر بثوابتها في غير تعصب، وبطموحاتها واستعداداتها للتوثب. إن الشباب الجزائري، ومن ورائه الشباب العربي والإسلامي، الدارس، سيجد في "عيون البصائر" أبرز حوادث العصر، بتموجاتها، وصراعاتها، وتحدياتها، وردود أفعالها ... وهي كافية لمن اقتصر عليها، بشرط فك رموزها الكثيرة. وتجاوز ألغازها وإيحاءاتها العسيرة وهو ما يمثل السياق التاريخي أو التاريخاني للجزائر والعالم الإسلامي، في عصر الإبراهيمي.

ولا أحب أن أنتهي من هذا التقديم دون إشراك القارئ معي، في تذوق حلاوة بعض النماذج الفريدة التي تعكس روح تاريخ العصر، بدءًا بالمحلية، وانتهاءً بالعالمية. ولعل من ألغاز "عيون البصائر"، "سجع الكهان" و"كلمات مظلومة" وغيرها، وأكتفي بتقديم نماذج من هذه الألغاز ليدرك القارئ أية حلاوة متضمنة في هذه الألغاز. يقول الإبراهيمي عن عنوانه كلمات مظلومة: كالعدل، والاستعمار، والإصلاحات، والديمقراطية ... وغيرها "إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها، كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم، يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ" [ص:506]. وعن "الاستعمار" يقول: بأن أصل هذه الكلمة في لغتنا طيب ففي القرآن {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} "ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث ظلم لها "والذي صير هذه الكلمة بغيضة إلى النفوس ثقيلة على الأسماع ... هو معناها الخارجي- كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشر، والقسوة، والانتهاك، والقتل والحيوانية ... إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تفسرها آثاره، وتتجلى عنها وقائعه" [ص:506]. أما عن "الديمقراطية": "هذا الرأي اليوناني النظري الجميل" فقد أصابها الظلم هي الأخرى "لم تظلم هذه الكلمة ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة، فقد أصبحت أداة خداع في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجندها الاستعمار في كتائبه وجاء السلم فكانت سرابًا بقيعة، ولقد كثر أدعياؤها ومدعوها والداعون إليها، والمدعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعي فيها لابس ثوبي زور ... لك الله أيتها الديمقراطية ... " [ص:508]. وعن الإرهاب يقول الشيخ: "ودع عنك حديث الإرهاب فما هو إلا سراب" [ص:436]. هذه إذن هي الكلمات المظلومة في قاموس "عيون البصائر" ولقد جاءت الممارسة العربية والغربية المعاصرة، لتدلل على صحة ما ذهب إليه الإمام البشير، وصدقت تنبؤاته فكان كأنما يرى بنور الله ... فإذا انتقلنا إلى "سجع الكهان" فإننا نجد لونًا آخر من الخطاب السياسي الأدبي، لم تعهده مجامعنا، إنه خطاب يجمع بين الرشاقة اللفظية، والخفة المعنوية، بين الذكاء السياسي، والتوظيف التاريخي، في صور تمثيلية ما عرف مثلها في خطابنا المعاصر، فهذه

الفصول "فيها الزمزمة المفصحة والتعمية المبصرة، وفيها التقريع والتبكيت، وفيها السخرية والتنكيت ... وفيها العسل للأبرار وما أقلهم، وفيها اللسع للفجار وما أكثرهم ... فلعلها تهز من أبناء العروبة جامدًا أو تؤز منهم خامدًا، فتجني شيئًا من ثمرة النية، وتغير أواخر هذه الأسماء المبنية" [ص:518]. هل نحن مع طلاسم كاهن؛ لا، بَلْ إنها رموز للواقع التاريخي المشين في عالمنا العربي والإسلامي آنذاك، آثر الكاتب هذا الأسلوب الرمزي الإشاري، للدلالة عليه ويمضي "كاهن الحي" وهو الإسم المستعار الذي أمضيت به الفصول، فيعمد إلى الوقائع التاريخية من خلال آثارها، ويسوق هذه الصور عنها: "أيتها البُحيرة [المقصود بحيرة طبرية] مالك في حيرة؛ لقد شهدت لبدر بن عمار بالفتوة، فهل تشهدين لأبي الطيب بالنبوة؛ وحدثي الولي (ياولية) أيهما كان عليك بلية، ذاك الذي وردك زائرًا، أم هذا الذي وردك خائرًا؛ إنهما لا يستويان! ذاك أسد غاب رزقه في الناب، وهذا حلف وِجار، رزقه على الجار ... ذاك ورد الفرات زئيره، وهذا جاوز الفرات تزويره" [ص:520]. "أيها الخاذل للغزى [جمع غاز] ما أنت لها شم، إنما أنت لعبد العزى، أغضبت سراة الحي، وأزعجت الميت منهم والحي، من لؤي إلى أبي نمي ... فويحك، أما تخاف أن تهلك، يوم يقال: يا محمد إنه ليس من أهلك" [ص:521]. وفي نفس السياق التاريخي يسوق كاهن الحي صورة أخرى يبدؤها هكذا: "أيها العربي: الحق سافر، والعدو كافر، والقوي ظافر، فعلام تنافر، خصمك إلى خنافر [كان كاهنًا في حمير ثم أسلم على يد معاذ بن جبل] ويلك إن المنافرة لا تكون إلا في المشكوك، وإن الحق تحميه السيوف لا الصكوك ... مجلس الأمن مخيف، والراضي بحكمه ووضعه ذو عقل سخيف، إنهم ليسوا من شكلك، وإنهم متفقون على أكلك" [ص:523]. "أيها الأعارب ... هل فيكم بقايا من حرب أو من محارب، دبت بينكم العقارب، وأنتم أقارب، فتكدرت المشارب وتقوضت المضارب، وغاب المسدد في الرأي والمقارب" [ص:524]. "أقسم بالذئب الأطلس، والثعبان الأملس، إن المتجر بالأحرار لمفلس، وإن العاقل بين الأشرار لمبلس، وإن العربي لزنيم إذا بقي في المجلس" [ص:532]. ويسوق الإبراهيمي في قضايا العروبة، قضية ليبيا وموافقة مجلس الأمم المتحدة على استقلالها عن الإيطاليين، فيعجب المؤلف كيف وافقت روسيا على استقلال ليبيا، ويعلل ذلك بقوله: "ولولا العملاق [أي أمريكا] الذي يضع رجله على طهران، ويده على الظهران وعينه على وهران، لما صادقت روسيا على ذلك القرار" [ص:406].

بهذه الرموز، والألغاز، والإيحاءات، والإحالات دشن كاتب "عيون البصائر" هذا الفن الرمزي الجديد في الأدب العربي، في محاولة منه لاستنهاض الهمم وتبرئة الذمم، وسيجد الدارسون فيها دلالات على التاريخ وأبطاله، وإحالات على التاريخ العربي وأفعاله على أن هذا كله إنما كان موصولًا بالصراع الحضاري، والسياسي الدائر في الجزائر، ومنطقتها، بين الأحرار، والاستعمار الفرنسي. لذلك كان حظ المثبطين، والمتقاعسين، والعملاء المندسين، حظ الأسد من كتابات الإمام الإبراهيمي ولا تكاد هذه المقالات تغفل فئة، أو تغطي على شخص، وإنما هي تجمع الجميع ضمن خندق واحد هو الخندق الاستعماري المضاد، لتضربهم في نفس الحجر الاستعماري الذي رضوا لأنفسهم أن يكونوا فيه ... ولقد وجدنا في الخندق المعادي أسماء، وعناوين، وسمات لأشخاص، وأحزاب، وتنظيمات، تباعدت مواطنها، واختلفت مشاربها، من الزوايا الحادة، إلى الأحزاب المنفرجة، ومن التنظيمات الدالة "إلى الشخصيات الضالة" ولكنها التقت جميعًا على محاربة الجزائر الحضارية الأصيلة كما جسدتها جمعية العلماء. ففي مقال له عن مؤتمر الزوايا، بعد مؤتمر الأئمة، بقيادة الشيخ عبد الحي الكتاني المغربي، يختار المؤلف عنوانًا ذا إيحاءات عديدة هو: أفي كل حي ... عبد الحي؛ فيقول عن طائفة أهل الزوايا: "وعرفنا عن هذه الطائفة أنها كانت في تاريخ الاستعمار طلائع لجنوده، وأعمدة لبنوده، وشباكًا لصيده، وحبائل لكيده" [ص:392]. ثم ينحو إلى زعيمها عبد الحي الكتاني فيقول عنه "وعرفنا في قائدها الجديد، وحامل رايتها عبد الحي الكتاني أنه كان كالدرهم الزائف لا يدخل في معاملة إلا كان الغش والتدليس واضطراب السوق" [ص:393]. ولعل خير ما نختم به هذه المقدمة، النموذج الرائع للشباب الجزائري كما تمثله رائد الفكر الإسلامي مؤلف "عيون البصائر" فلقد رسم للشباب الجزائري مبادئ مضيئة، طالبهم أن يتخذوها قواعد لحياتهم فقال: "أتمثله مصاولاً لخصومه بالحجاج والإقناع، لا باللجاج والإقذاع، مرهبًا لأعدائه بالأعمال لا بالأقوال ... أتمثله بانيًا للوطنية على خمس كما بني الدين على خمس، السباب آفة الشباب، واليأس مفسد للبأس، والآمال لا تدرك بغير الأعمال، والخيال أوله لذة وآخره خبال، والأوطان لا تخدم باتباع خطوات الشيطان ... يا شباب الجزائر هكذا كونوا ... أو لا تكونوا" [ص:517]. هذه إذن، سبحات فكرية، في خطاب "عيون البصائر" كما تراءى لنا، ولعل القارئ سيلحظ أننا لم نشر بالنقد للكتاب، لأننا وقعنا أسارى الجوانب الإيحائية الطافحة في

الكتاب، وهي حقيقة! وللموضوعية، فإني حاولت أن أسلط بعض مناهج النقد على الكتاب، فما أفلحت، ولعل ذلك مَرَدُّهُ- في نظري- إلى قصور في القلم، وحسب هذا القلم شرفًا، أن يطول بالحق والوفاء قصره، وأن يتخذ لنفسه الشعار الذي رفعه محمد البشير الإبراهيمي عندما كتب ذات مرة "بأن هذا القلم قد براه الله لينضح العسل المصفى للمقسطين، وينطف الصاب والحنظل للقاسطين، ويرسل الحمم مدرارًا على المستعمرين". وكفى به شعارًا، يتخذه المثقفون، والكتاب، والمفكرون، مبدأ خالدًا لهم. وإذن فإن ما يمكن استخلاصه في تقديمنا لكتاب "عيون البصائر" أن نستعير من الرافعي مقولته الرائعة في تقديم كتابه "وحي القلم": "إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد، فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب" ونحن نضيف، إذا لم تكن "عيون البصائر" هي الجزائر في عمقها الحضاري، فلا ننتظر إلا جزائر الواق الواق. د. عبد الرزاق قسوم

السياق التاريخي (1947 - 1952)

السياق التاريخي (1947 - 1952) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تعدو أطماع فرنسا في الجزائر إلى ما قبل سنة 1830 بوقت طويل، فقد بعث الملك الفرنسي شارل التاسع رسالة في 11 مايو 1572 إلى سفيره في استانبول فرانسوا دو نواي ( F. de Noailles) يأمره فيها أن يطلب من السلطان العثماني سليم الثاني أن يتخلَّى - مقابل مبلغ مالي سنوي- عن الجزائر ليعيِّنَ عليها أخاه دوق أنجو ( le duc d'Anjou) - ( الملك هنري الثالث فيما بعد) (1). وإذا كانت هذه المحاولة قد فشلت، فإن فرنسا لم تيأس من تحقيق أمنيتها في الاستيلاء على الجزائر، فتعددت- منذ ذلك الوقت- خططها، وتنوّعت مشروعاتها، التي تتحدث جميعها عن استعادة هذه البلاد- الجزائر- للمسيحية (2). وحقّق الفرنسيون أملهم باحتلال مدينة الجزائر سنة 1830، وبدأوا تنفيذ خطة مَحْوِ خصائص الجزائر الحضارية، من دين ولغة ومعالم تاريخية، ليسهل- زعموا- استعادة الجزائر للمسيحية، ولم يتوقفوا عن تنفيذ تلك الخطة- ساعة من نها ر- طيلة وجودهم بالجزائر. ولذلك اعتبر الإمام الإبراهيمي احتلال فرنسا للجزائر "حلقةً من الصليبية الأولى" (3)، وأنه "قَرْنٌ من

_ 1) يزعم الفرنسيون أن طلَبَ مَلِكِهِمْ شارل التاسع كان بناءً على رغبة من الجزائريين!! وهو زَعْمٌ لا برها ن لهم عليه، ولا يصمد أمام أدنى نقد. انظر ذلك الزعم فى: Revue africaine, 5e année N° 25, janvier 1861, pp.1 - 13 2) أحمد عزت عبد الكريم: دراسات في تاريخ العرب الحديث، بيروت، دار النهضة العربية، 1970، [ص:305]. 3) انظر مقال "قضية فصل الدين .. لمحات تاريخية" في هذا الجزء من الآثار.

الصليبية نَجَم، لا جيش من الفرنسيين هَجَم" (4)، وأن هذه الصليبية لم تخف حِدَّتها، ولم يتغيّر لونها، ولم تضعف فَوْرَتُها بتعاقب السنين وتطور الأفكار؛ بل بقيت هي هي "تَجَمْهَرت فرنسا أو تَدَكْتَرت، أو اختلفت عليها الألوان بَياضًا وحمرة" (5). كانت مواقعت علماء الجزائر من الوجود الفرنسي ببلادهم (1830 - 1962)، ومن خطة الفرنسيين لتنصيرها وفَرْنَستها مختلفة، ويمكن تقسيمهم إلى أربعة أقسام. 1 - فريق منهم لم يستطيعوا صبرًا على محنة بلادهم، فغادروها إلى البلدان العربية والإسلامية، مثل المغرب، وتونس، ومصر، والحجاز، والشام، وتركيا. وهؤلاء إن لم ينفعوا بلادهم؛ فقد خدموا إخوانهم المسلمين في البلدان التي استقرّوابها، وأسهموا بنصيب طيب في نهضة تلك البلدان. 2 - وفريق انعزلوا عن الناس، وابتعدوا عن المجتمع، وراحوا يتفرجون على محنة وطنهم، ويتَحَسَّرون على مأساة شعبهم، ويتأوَّلون في سلوكهم السلبي ذاك آية كريمة، هي قوله تعالى: { .. لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ .. }. فمَثَل هؤلاء العلماء كَمَثَل العضو المشلول من الجسد؛ يراه الناس ولا يحسُّون أثره. 3 - وفريق غلبت عليهم شِقْوَتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بَيِّنَة، فانْسَلَخوا من آيات الله التي آتاهم، واشتروا بها ثمنًا قليلًا، وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وتَحَيَّزوا إلى الفرنسيين الذين اتّخذوهم سُخْرِيًّا ضد شعبهم، ووطنهم، ودينهم. 4 - وفريق فقهوا دين الله عزّ وجل، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يخونوا أماناتهم، فوقفوا إلى جانب شعبهم في مأساته، وحفظوا له خصائصه من الذَّوَبان، وثَبَّتُوا له مقوّماته الحضارية التي استردّ بها سيادته، واسترجع بفضلها استقلاله. ومن هذا الفريق الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رضي الله عنه وأرضاه- الذي ما إن استكمل تحصيله العلمي حتى عاد إلى وطنه، ليضع علمه وجهوده في خدمة شعبه، وليقود جهاده الحضاري وصراعه الفكري ضد الفرنسيين. كان في مُكْنَةِ الإمام الإبراهيمي أن يعيش دنياه منَعَّمًا، وأن ينال منها نصيبًا موفورًا؛ لما آتاه الله من بسطة في العلم، واستبحار في المعرفة؛ كان في مستطاعه أن يبقى مكرَّمًا في مكة بالقرب من البيت المعمور؛ أو أن يَتَدَيَّر طيبَة الطيبة بجوار خير الخلق كلهم؛ أو أن يستقرّ معزَّزًا بدمشق؛ أو أن يستوطن القاهرة ويحوز في أزهرها مكانًا عليًا، أو أن يقيم

_ 4) نفس المرجع. 5) نفس المرجع.

بتونس أو المغرب قريبًا من مسقط الرأس، وما كان- لو فعل- مَلُومًا ولا مَذْمومًا؛ ولكنه رفض ذلك كله، وفَضَّل الأَوْبَةَ إلى الجزائر، ليُحْيِيَ مواتها، ويبعثها من مَرْقَدِها، وُيزيل ظُلمَتَها، ويضيء ليلها، رغم معرفته بما كان ينتظره من معاناة، وما سيلاقيه من أذى مادي ومعنوي على يد الفرنسيين، الذين لا يترددون في البطش بمن يقف في طريق مخططهم الإدماجي التنصيري، وخاصة إذا كان هذا الواقف من نوع الإبراهيمي ووزنه وقيمته. إن معظم هذه المقالات تعرض جوانب من مواقف الإمام الإبراهيمي في وجه ذلك المخطط، وتبيّن مدى شراسة الفرنسيين في تطبيقه، كما تعكس مدى استماتة الإمام في مقاومته، حتى إنه لَيُخَيَّل إلى القارئ أن الإمام مُقاتِلٌ يقاتل لا كاتب يُجادِل. ومما يدل على تلك الاستماتة، وإدراك الإمام أن القضية قضية حياة أو موت، أن المرض أقعده، وألزمه الفراش أكثر من شهرين، وتشدَّدَ الطبيب في تعليماته له بلزوم الإخلاد إلى الراحة (6)؛ ولكنه تحدّى المرض، وألقى بتعليمات الطبيب وراء ظهره، وكتب "عشر مقالات في معاملة الحكومة (الفرنسية) للتعليم العربي، حتى سمّاه الأستاذ التبسي "المرض المنتِج"، وقال لبعض من ثقُلَت عليه وطأة تلك المقالات من صنائع الحكومة ما معناه: إنني لا أَرْضَى للإبراهيمي أن يُشاك بشوكة، ولكن هذه المقالات حَبَّبَت إليَّ طول مرضه مع سلامة العاقبة" (7). إن هذا الجزء يضم صفوة المقالات التي كتبها الإمام افتتاحيات لجريدة البصائر أو مقالات رئيسية فيها فيما بين سنتَي 1947 - 1952. وهي مقالات اختارها الإمام نفسه، وأشرف على طبعها أول مرة سنة 1962، وقد حذفنا منها بعض المقالات (8) وأدرجناها في الجزء الرابع من هذه الطبعة، وهو الجزء الذي يحتوي على ما عثرنا عليه من مقالاته التي كتبها بين سنتَي 1952 و 1954، بعد سفره إلى المشرق العربي، كما حذفنا منه مقالة "مناجاة مبتورة .. " وألحقناها بالجزء الثاني، لأنه كتبها في أثناء اعتقاله بآفلو. وننبّه إلى وجود قصيدة للشيخ أحمد سحنون ضمن هذا الجزء، ولكن الإمام الإبراهيمي اعتبرها من "عيون البصائر"، وضمّها إلى مقالاته، وفي ذلك إشارة إلى عدة معانٍ منها: * تقدير الإمام للشيخ أحمد سحنون، واعتراف بدوره في خدمة «البصائر». * تَوَسُّم الإمام الثبات في الشيخ أحمد سحنون، وهو ما أكَّدَتْه الأيام والحوادث. * اعتبار الإمام أن القصيدة بنتُ فكره وإن لم تكن بنت قلمه.

_ 6) انظر نهاية مقال "التعليم العربي والحكومة- 3" في هذا الجزء من الآثار. 7) انظر مقال "البصائر في سنتها الثالثة" في الجزء الثاني من هذه الآثار. 8) هذه المقالات هي: تحية غائب كالآيب- حكمة الصوم في الإسلام- من هو المودودي؛

* موضوع القصيدة، الذي هو الإشادة بالمركز العام لجمعية العلماء في الجزائر العاصمة، الذي أصبح محورَ النشاط الديني، والثقافي، والسياسي. لقد تناولت هذه المقالات العَيْناء عدة قضايا كانت وما تزال موضع اهتمام، ومجال صدام إلى يوم الناس هذا، ولم يتغيّر منها إلا الأسلوب والوسائل. تناول قضية فصل الدين عن الحكومة، وبرهن في مقالاته أنه لا حق لفرنسا في الإشراف على الدين الإسلامي، لأنها ليست دولة إسلامية، ولأن دستورها يُحرِّم عليها الإشراف حتى على دينها. فأي منطق يخوِّلُ لها الإشراف على الدين الإسلامي؛ ويصل الإمام إلى لُبِّ القضية؛ وهو أن إشراف فرنسا على الدين الإسلامي إنما هو بقصد محوه، ويستوي في هذا القصد جميع الفرنسيين، فـ"إلى الآن لم يرزقنا الله حاسّة ندرك بها الفرق بين فرنسي وفرنسي .. بل الذي أدركناه وشهدت به التجارب القطعية أنهم نُسَخٌ من كتاب؛ فالعالم، والنائب، والجندي، والحاكم، والموظف البسيط، والفلاح كلهم في ذلك سواء، وكلهم جَارٍ على جِبِلَّةٍ كأنها من الخَلْقيات التي لا تتغير، ومَن زَعَم فيهم غير هذا فهو مخدوع أو مخادع" (9). وننبّه هنا إلى أن بعض دعاة اللائكية في بلادنا يخدعون الشعب وُيوهِمُونه بأنهم إنما يدعون إلى مادعا إليه الإمام الإبراهيمي من فصل الدين عن الدولة. وكذبوا، وصدق الإمام الإبراهيمي. وهم في كذبهم كأسلافهم الذين تقوَّلُوا على الله، فقالوا إنه يقول: "لا تقربوا الصلاة .. "، ويقول: "فويل للمصلين .. ". إن الإمام الإبراهيمي دعا إلى فصل الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية، لأنها دولة نصرانية في الجوهر، لائكية في المظهر، وفي كلتا الحالتين لاحق لها في الإشراف على الدين الإسلامي. أما اللائكيون عندنا فهَدَفُهُم هو القضاء على الإسلام في الجزائر، ودعوتهم هذه مرحلة من مراحل تحقيق ذلك الهدف. وفي تناوله لهذه القضية المحورية، راغ الإمامُ الإبراهيمي على مخططيها ومنفّذيها ضَرْبًا باليمين، وسَقاهُم حميمًا وغسَّاقًا، جزاء وفاقًا. وعلى رأس مخططيها المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون "، مهندس السياسة الفرنسية في الشؤون الإسلامية، ولا شك أن الإمام يعلم- منذ كان في الشام- مَدى تورُّط "ماسينيون" في المشروع الاستعماري، حيث عمل فترة في القنصلية الفرنسية ببيروت، وكان مكلَّفًا بمهمة قَذِرة؛ وهي شراء ذِمَم مَن لا ذمّة لهم، واستنزال هِمَم من لا همّة لهم، حتى سُمِّي "الصندوقْجِي"، كما كُلِّف سنة 1919 - من طرف وزارة الخارجية

_ 9) انظر مقال "هل دولة فرنسا لائكية؛ " في هذا الجزء من الآثار.

الفرنسية- "بوضع نظام أساسي سوري بالاتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين- ملك العراق لاحقًا - وقد استمرّ عمله ستة أشهر" (10). ومن المعروف أن الإمام الإبراهيمي كان على علاقة طيبة مع الأمير فيصل، الذي دعاه إلى العودة إلى الحجاز للإشراف على شؤون المعارف، فاعتذر الإمام. وقد كان ماسينيون يحقد على الإمام الإبراهيمي، لأنه كان يتصدّى لمخططاته ويكشفها، وقد وصل هذا الحقد إلى درجة لم يستطع ماسينيون معها كتمانه، فقال للدكتور جميل صليبا: "إن هذا الرجل- الإبراهيمي- من ألدّ أعدائي" (11). ومن منفذي السياسة الفرنسية في الميدان الديني الطرقيون المنحرفون ورجال الدين الرسميون، وفي مقدمتهم "محمد العاصمي"، الذي أنْعَمتْ عليه فرنسا بمنصب مفتي الحنفية في الجزائر، وبما أن المذهب الحنفي لم يَبْقَ له وجود في الجزائر، فقد رأى الإمام الإبراهيمي أن هذه النسبة- المفتي الحنفي- ليست لأبي حنيفة، وإنما هي لبني حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب. وتناولت هذه المقالات قضية التعليم العربي ومعاملة الدولة الفرنسية له ولأصحابه، وكشف الإمام في هذه المقالات نية الفرنسيين، وهي أنهم يريدون تجريد الجزائريين من "وطنهم الفكري"، كما سلبوهم "وطنهم الجغرافي"، وكما يريدون سَلْبَهم وتجريدهم من "وطنهم الروحي". من أجل ذلك جعل الإمام التعليمَ العربيَّ شُغلَه الشاغل، وهمَّه الدائم، وكان يعتبره قضية حياة، لا بقاء للشعب الجزائري إلّا به. وفي هذا الإطار تناول الإمام قضية اللهجة البربرية التي لم تطرح في الجزائر منذ أشرقت أرضها بنور الإسلام، رغم أن كل الدول الإسلامية التي نشأت في الجزائر بربرية. وكشف الإمام الهدف الفرنسي من وراء الدعوة إلى البربرية، وتخصيص إذاعة لها، وهو أنه "سلاح مبتكر لحرب العربية ومكيدة مدبرة للتقليل من أهميتها، وحجة مصطنعة لإسكات المطالبين بحقّها في وطنها" (12)، "ومن عادة الاستعمار أن يحيي المعاني الميتة ليقتل بها المعاني الحية"، كما يقول الإمام الإبراهيمي.

_ 10) عن أعمال ماسينيون في الشام، انظر: حسني سبح، خواطر وسوانح وعِبر، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 3، مجلد 59، يوليو 1984، وج 4، مجلد 59، أكتوبر 1984، وانظر مقال: "لجنة فرانس- إسلام" في هذا الجزء من الآثار. 11) مجلة الثقافة، ع 87، الجزائر، مايو- يونيو 1983، [ص:37]. 12) انظر مقال "موجة جديدة" ومقال "اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرة .. " في هذا الجزء من الآثار.

وكما نال أعوان فرنسا وآلاتها المسخرة لضرب الدين الإسلامي قسطهم من تشنيع الإمام الإبراهيمي؛ نال أعوانها في حرب اللغة العربية نصيبهم من هجومه، خاصة وأن كثيرًا من هؤلاء الأعوان من أدعياء الوطنية ومحتكريها. وتناول الإمام في بعض هذه المقالات بعض المشاكل الاجتماعية بالجزائر كمسألة الزواج، والطلاق، وقضية اتحاد الأحزاب الجزائرية. لقد حثَّ الإمامُ الشباب على الزواج ورغَّبَهم فيه، وحذَّر من مزاحمة المرأة الفرنسية للمرأة الجزائرية في هذا الأمر "فحذار أن يكون شبابنا فرائس هذا الاستعمار الضعيف القوي" (13)، لأن الزواج عنده أشرف خدمة للوطن "إنكم لا تخدمون وطنكم بأشرف من أن تتزوّجوا، فيصبح لكم عرض تدافعون عنه، وزوجات تحامون عنهم، وأولاد يوسعون الآمال، إن الزوجة والأولاد حبال تربط الوطني بوطنه وتزيد في إيمانه ... ولمَن تُخدم الأوطان، إذا لم يكن ذلك لحماية من على ظهرها من أولاد وحُرُم، ومَن في بطنها من رفات ورِمَم" (14). وتحدث عن الطلاق لا كما يتحدث عنه الفقهاء التقليديون. ودعا الإمام إلى التشدّد في إيقاع الطلاق لما ينجز عنه من مآسٍ، ويعقِّبُ على مبدإ "العصمة بيد الزوج" بأن "الإسلام لا يعطي هذه الحقوق أو هذه الامتيازات إلا المسلمَ الصحيح الإسلام القوي الإيمان ... أما إعطاء هذه الامتيازات إلى الجاهلين المتحللين من قيود الإسلام فهو لا يقل شناعة وسوء أثر عن إعطاء السلاح للمجانين ... إن العصمة امتياز لرجالكم، ما لم تطغوا فيه وتظلموا، فإذا طغيتهم فيه وجُرتم عن القصد، كما هي حالتكم اليوم، انتزعه منكم القضاء الإسلامي لو كان" (15). أما مسألة اتحاد الأحزاب (16) الجزائرية لمواجهة الاستعمار الفرنسي فقد أبدأ الإمام فيها وأعاد، وقال فيها وأجاد، وسعى في سبيلها سعيًا كثيرًا، لأن ذلك الاتحاد هو المعقل الوحيد

_ 13) انظر مقال "الشبّان والزواج" في هذا الجزء من الآثار. 14) المرجع نفسه. 15) انظر مقال "الطلاق" في هذا الجزء من الآثار. 16) لا يعني الإمام في الحقيقة إلا حزبين هما حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية، أما الحزب الشيوعي الجزائري فلم يكن له تأثير على الشعب الجزائري، وذلك بسبب إلحاده، ولكثرة الأوروبيين فيه، ولتنكره للقضية الوطنية، حيث لم يكن يؤمن بالانفصال عن فرنسا، وكل ما كان يعمل له هو أن تتخلص الجزائر من الاستعمار الفرنسي الأزرق لترتمي في أحضان أخيه الاستعمار الفرنسي الأحمر. بل لقد دعا الشيوعيون الجزائريون- في فترة من تاريخهم- إلى إلحاق الجزائر بالاتحاد السوفياتي. وحول هذه النقطة انظر ما جاء في جريدة "النضال الاجتماعى" ( La lutte sociale) - الناطقة باسمهم- في عددها الصادر يوم 12 يناير 1923 في المقال المعنون « Que sera l'Algérie en 1950» ( ماذا ستكون الجزائر سنة 1950).

للقضية الجزائرية، والوسيلة الوحيدة لنجاحها، ومن أجل ذلك توجّه إلى الشعب الجزائري ودعاه إلى حمل الأحزاب على الاتحاد. وينبغي الإشارة هنا إلى ما يردّده بعض المغرضين من أن الإمام الإبراهيمي كان يوالي حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري؛ الذي كان في مواقفه بعضُ اللين تجاه فرنسا، ويناوئ حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية الداعي إلى الانفصال عن فرنسا. والحقيقة هي أنه ما كان الإبراهيمي "بيانيًا " ولا "انتصاريًا "، ولكنه كان يعتبر نفسه والجمعية التي يرأسها "فوق الأحزاب"، ليكونا حَكَمًا بينها، إن تنازعت في شيء أو اختلفت في شأن. كان الإمام الإبراهيمي يعلم أن مواقف أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من ثوابت الشعب الجزائري يشوبها بعض الضعف، وأن مواقفهم السياسية يطبعها بعض اللين، وكل ذلك بسبب الثقافة الفرنسية التي تلقّوها (17)، وكان يعلم- أيضا- أن فيهم كفاءات علمية، وطاقات فكرية كان الشعب الجزائري في أمسّ الحاجة إليها، فكان الإمام بين أمرين: إمّا أن يهمل تلك الكفاءات، ويفرط في تلك الطاقات فلا تستفيد الجزائر منها، وإمّا أن يعمل على كسبها، ويجتهد في أن يعيدها إلى شعبها، ويُنقذها من ضلالها، فتصير أكثر إيمانًا بثوابت شعبها، وأَصْلَب في مواقفها السياسية، وهذا ما فعله الإمام. إنّ مَثَلَه في ذلك كَمَثَل الطبيب الذي يغشى المواطن الموبوءة لعلاج الناس وإنقاذهم من الوباء الفاتك. وقد أثبتت الأيام حِكمة تصرّف الإمام، وسدادَ رأيه، إذ اعترف كثير من أعضاء ذلك الحزب بأخطائهم، وتراجعوا عن مواقفهم السياسية، وانضموا إلى الثورة التحريرية. وتحدّث الإمام عن سياسة القمع والإرهاب الفرنسية في الجزائر، فكشف دسائسها، وصوَّر فضائعها، وفضح وسائلها، فتناول ذلك الدستور في وصفه بـ"الأعرج" الذي فُرِض على الشعب الجزائري، وسَخِر من ذلك "البرلمان" الأخرس، ومن أعضائه، إذ رفض أن يسمّيهم نوّابًا، "مادامت الانتخابات بِالعِصِيِّ"، وندَّد بتلك الحملات الوحشية التي كانت تُرْعِبُ الآمنين، وتبطش بالمستضعفين. وفي هذا الإطار تندرج تلك المقالات المُعَنْوَنة بـ"ويح المستضعفين- حَدِّثونا عن العدل فإننا نسيناه 1، 2، 3 - ويحهم ... أهي حملة حربية"، وهي مقالات لا يعلم كثير من الناس أنها كُتِبَت إثْر "الاعتقال للمئات من شباب

_ 17) الحقيقة هي أن بعض أعضاء "حزب الشعب الجزائري"، الذي صار يسمى "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" كانوا هم أيضًا - وما يزالون- مُسْتَلَبين، ولم تكن نظرتهم إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، والاستقلال الحضاري، أفضل من نظرة أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري.

الأمة"، بعد اكتشاف مصالح الأمن الفرنسية- في مارس 1950 - المنظمة الخاصة ( l'organisation spéciale)، وهي منظمة سرية، أُنشئت سنة 1947، لتدريب الشبّان الجزائريين على الأعمال العسكرية، استعدادًا لإعلان الجها د من أجل تحرير البلاد. وقد أنهى الإمام هذه المقالات بتأكيد ما دعا إليه سنة 1936 من "أن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا " (18)، فقال مخاطبًا الشعب الجزائري: "إن القوم - الفرنسيين- لا يدينون إلا بالقوة، فاطلبها بأسبابها، وأْتِها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخُذْهُما بقوة تَعِشْ حميدًا وتَمُتْ شهيدًا " (19). إن الإمام الإبراهيمي ليس رجُلَ قطر مهما اتّسعت أرجاؤه، وليس رجُلَ إقليم مهما امتدّت أطرافه، ولكنه رجُل أمّة برَّحت به مِحَنُها، وصهرت جوانحه آلامها، وأمَضَّه هوانُها على الناس، فحمل أثقالها مع أثقال وطنه، فأجال فكره في قضاياها، وأسال قلمه في مشكلاتها، وعمل على أن يعيدها - كما شاء ربّها - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. وكان لها في كل ما كتب وقال وعمل من الناصحين. وكانت قضية القضايا عنده هي فلسطين، التي صَوَّرها فأحسن صُوَرها، وجادل عنها فأتقن الجدال، إذ دَبَّج عنها مقالات لم يُبْلِها تعاقبُ الأيام، وعَنَت لها أئمة الكلام، وأعْجَزَت حَمَلَة الأقلام، وخضعَتْ لها كَمَلَةُ الأحلام، فقد جاء فيها بما لم يأت الأوائل من بيان رائع، وبرهان ساطع، ودليل قاطع، حتى قال عنها الأستاذ فايز الصائغ- أستاذ الفلسفة بالجامعة الأمريكية ببيروت، إنه "لم يُكتَب مِثلُها من يوم جَرَت الأقلام في قضية فلسطين" (20). لقد كانت تلك المقالات آية في صدق لهجتها، وعُمْق معاناة كاتبها، فلم تترك خائنًا إلا كَشَفَته، ولا جَبانًا إلّا عيَّرَتْهُ، ولا بَخيلًا إلا وبَّخَته، ولا مقصِّرًا إلا عنَّفَتْه، ولا متقاعسًا إلا وَخَزَتْه، ولا خاذلًا إلا فضَحَتْه. لقد دفع الإمامَ إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية أمران أساسيان هما: 1 - إنها قضية دينية، ففلسطين هي أرض النبوّات التي لا إيمان لمن لا يؤمن بها، وهي موطن كثير من الرسُل الذين أُمِر المسلمون أن يؤمنوابهم جميعًا، وأن لايفرِّقوا بين أحد منهم، وهي تضم ثالِث أقداس المسلمين، وهي قبلتُهم الأولى، والمستهدَفُ فيها - بَدْءًا وختامًا - هو الإسلام.

_ 18) انظر مقال "الإصلاح الديني لا يتم إلا بالإصلاح الاجتماعي" في الجزء الأول من هذه الآثار. 19) انظر مقال "ويحهم أهي حملة حربية"، [ص:379]. 20) انظر مقال "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين- 1" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

- إنها تشبه القضية الجزائرية، فاليهود يريدون استئصال الفلسطينيين من فلسطين، كما يريد الفرنسيون استئصال الجزائريين من الجزائر. من أجل ذلك، لم يكتفِ الإمامُ الإبراهيمي في قضية فلسطين بالقول، ولكنه سارع إلى الفعل، فشكَّل هيئة عليا لإعانة فلسطين (21)، وتبرَّع لها بأنفس ما يملك العالِمُ، وهو مكتبته (22)، وخَرَج من مالٍ اقترضه، ليُؤْثِرَ به- رغم خصاصته- مَن جاءه يستعينه على السفر إلى فلسطين للجها د (23). ويضم هذا الجزء مقالات تناولت شخصيات مدحًا أو قدحًا. والإمام الإبراهيمي عندما يمدح شخصًا لا يمدحه لذاته مهما علت منزلته، أو غلت قيمته، ومهما عظم جاهه أو كَثُر ماله، أو غزُر عِلْمُه، ولكنه يمدح ما يجسده ذلك الشخص من وفاء لمبادئ الإسلام، وجهادٍ في سبيلها، وولاءً للأوطان وسعي في تحريرها، وهو عندما يذم شخصًا لا يذمّه لذاته، ولكنه يذم فعاله، ويُقَبِّح خِلالَه من انعدام مروءة، وسفالة همة، وخيانة الإسلام، وولاء لأعدائه، وتنكّر للأوطان وسعي في إذلالها. لقد أشاد بالإمام ابن باديس، وكيف لا يستحق الإكبار والتمجيد من "أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَرُ، ودينًا لابَسَتْه المحدثات والبدَعُ، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطّى عليه النسيان، ومجْدًا أشاعه ورثةُ السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب" (24)؛ وأشاد بالإمام محمد الطاهر بن عاشور، لأنه عَمِل لإصلاح "الزيتونة" التي أطفأ نُورها التقليدُ الأعمى، والكسلُ العقلي، والشلل الذهني، وسعى إلى إعادتها شجرة مباركة، يُضيءُ زيتُها، وتؤتي أكلها. ورَثَى "المنصف باي"، لأنه نَهَج لأمته نهْجَ الكرامة، وشرع لها سنن التضحية، وعلَّمَها "كيف تموت الأسود جوعًا وظمأ، ولا تطعمُ الأذى ولا تَرِد القذى". وأثْنَى على محمد خطاب، ذلك الرجل العصامي الذي أنفق من مال الله الذي آتاه، فبنى صروحًا للعلم، وشاد قلاعًا للدين، ولم يُلْهِه التكاثر في الأموال عن حقوق الأوطان. وانتصر للسلطان محمد الخامس في محنته، وفي الدفاع عن حقوق وطنه، لأنه أبَى أن يعطي الدنية في دينه، ورفض أن يكون عَبْدًا في صورة مَلِك ...

_ 21) انظر مقال "الهيئة العليا لإعانة فلسطين" في الجزء الثاني من هذه الآثار. 22) انظر مقال "أما عرب الشمال الافريقي" في هذا الجزء من الآثار. 23) شهد بذلك الأستاذ حمزة بوكوشة- رحمه الله- في مقاله "لحظات مع الشيخ البشير الإبراهيمي"، جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر، 21 مايو 1970. 24) انظر مقال "الرجال أعمال" في هذا الجزء من الآثار.

أما الذين أساءوا بما علموا، فقد كان لهم الإمامُ بالمرصاد، ومنهم عبد الحي الكتّاني، الذي "هو مكيدة مدبَّرة، وفتنة محضَرَة .. " اتّخذه الاستعمار الفرنسي سُخْرِيًّا، يفرِّقُ به الصف، ويشتت به الرأي، ويوهن به العزم، ويُضِلُّ به عن سواء السبيل، ويسوق على يده الويل. ... يقول الإمام الإبراهيمي: لا نرتضي إمَامَنا في الصَّفِّ ... ما لم يكن أَمَامَنا في الصَّفِّ وإن هذه المقالات تؤكد أن الإمامَ كان في مقدمة صفوف أمّته وشعبه، يقود أنصار الحق، ويضرب الأمثال للناس في الصدع بالحق، والثبات عليه، وعدم التفريط فيه مهما تكن الابتلاءات، وتتوالَ الامتحانات. إن من أهمّ أسباب نجاح الإمام الإبراهيمي في أداء الأمانات الثقيلة التي حَمَلَها، ولم يَؤُدْه حِفْظُها، أنه لم يكن يسعى لدنيا يصيبها، أو لزعامة زائفة ينالها، ولكنه كان يجاهد في سبيل رفعة الإسلام، وفي سبيل استعادة سيادة الجزائر، وفي سبيل عزة المسلمين. إن هناك "زعماء" ادّعوا الجهاد في سبيل تلك المبادئ، ولكن الأيام سرعان ما كشفتهم، وتبيّن أنهم يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وظهر للناس أنهم ما كانوا يعملون إلا لتحقيق أغراض شخصية، ونيل مآرب آنية، بل إن منهم من قضى بقية حياته في حماية أعداء شعبه، ولذلك لفظهم الناس، وأهملهم التاريخ، فلم يُرفع لهم ذكر، ولم يكتب في فضلهم سطر، ولم يُخلَّد لهم اسم. تمتاز هذه المقالات بالأسلوب الجميل، والمعنى الجليل، والهدف النبيل، والرأي الأصيل، وعمق التحليل، ودقة التعليل، فاستحقّت أن تُسَمَّى "عُيُونًا"، واستحقّ مُنْشِئُها أن يقال فيه: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل وأن يقال أيضًا: هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل سمَّى الإمام الإبراهيمي هذه المقالات "عيون البصائر"، وإن لكلمة "العين" في لغة يعرب لَمَعانٍ كثيرة، منها: العين، نبع الماء، والماء هو مصدر الحياة، فكأن "عيون البصائر"

"ماءً فكريًا"، تحيا به العقول، كما تحيا بالماء الحقول، وقد كانت عيون البصائر "ماءًا حيويًا" ضد "الأفكار الميتة" التي يشيعها الطرقيون والضُّلّال، وضد "الأفكار القاتلة" التي يبثّها أرباب "المَخابِر الفكرية" الفرنسية، وأتباعهم من "المسلمين". والعين، هي آلة الإبصار التي تمنع المرء من الوقوع في المطبات، والاصطدام بالأشياء، وقد كانت هذه المقالات "عيونًا " أبصر بها الجزائريون طريقهم، ورأوا بها عدوَّهم، وأبصروا بها حقائق دينهم ودنياهم. والعين هو النفيس من كل شيء، وقد كانت هذه المقالات وستبقى من أنفس ما دَبَّجَتْه الأقلام، وأبدعته الأحلام، من معاني فحْلَة في عبارات جزلة. وقديمًا قيل: وقلَّما أبصرتْ عيناك ذا لَقَب ... إلا ومعناه- إن فكَّرْتَ- في لقبه وإن صاحب هذه الآثار هو "محمد البشير طالب الإبراهيمي". فـ"محمد"، اسم مفعول من "التحميد"، والإمام يستحق ذلك لعظيم فِعالِه، وجَليل خِلاله. و"البشير"، فقد كان الإمام بشيرًا لوطنه وقومه، زرع فيهم الأمل، ودعاهم إلى العمل، وأخرجهم من اليأس، وجعل لحياتهم هدفًا نبيلًا يسعون إلى تحقيقه، ويكدحون في سبيله. و"طالب"، وقد كان الإمام طالبَ حق لوطنه، وطالب كرامة لقومه، وطالب عز وسؤدد لأمته. و"الإبراهيمي"، وقد قَبَض الإمام قَبْضَةً من جهاد أبيه إبراهيم (25) - عليه السلام- ضد الشِّرْك والضلال، فعاش داعيًا إلى التوحيد، دالًّا على الله بآيات كتابه المسطور، وعجائب كتابه المنظور. رحم الله الإمام الإبراهيمي، وجزاه عن جهاده الجزاء الأوفى، وجعلنا أهلًا لحمل تراثه. محمد الهادي الحسني البليدة (الجزائر)، 16 أفريل 1997.

_ 25) اقتباسًا من قوله تعالى: { .. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} سورة الحج، الآية 78.

مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر"

مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ــــــــــــــــــــــــــــــ - 1 - حين طلبت إليّ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الإذن بإعادة طبع كتاب "عيون البصائر" لوالدي المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بعد أن نفدت طبعته الأولى واشتدّ الطلب عليه، متمنية عليّ أن أقدم لهذه الطبعة الثانية، وجدتني أمام هذا الموقف المزدوج: الموافقة على تجديد الطبع من نحو، والتردد في التقديم من نحو آخر. وأملت أن أعهد بذلك إلى أحد الخُلّص من إخوانه الذين رافقوه على هذه الطريق الطويلة، أمد الله في أعمارهم، وشاركوه أعباءها والتقوا معه في كثير من أحداثها وكانوا معه إخوة جهاد ورفقة كفاح .. تهيبًا مني للحرج الذي سأشعر به حين أكتب عن والدي. وقد وجدت في شخص الأستاذ محمد العيد أمير شعراء الجزائر- كما كان يحلو للشيخ أن يطلق عليه- الإنسان الذي تمنيت أن ينهض بهذا العبء. فقد كانت بينهما هذه الألفة الجامعة وهذه المودة المتمكنة وهذا التواصل المتصل .. وكان الأستاذ محمد العيد من أوائل الذين نذروا أنفسهم للإصلاح تعليمًا للناشئة، وتوعية للجماهير، وتسخيرًا لفنه الرفيع في سبيل الأهداف الوطنية الغالية. ونهض شعره بهذه المهمات النبيلة فكان نورًا للشعب يضيء جوانب الطريق وكان نارًا متأججة يحترق بها المستعمر. - 2 - ولكن الأستاذ الشيخ العيد غلب عليه طبعه الشعري وكأنما أثارت هذه المناسبة ذكرياته الطويلة فإذا هو يؤثر الشّعر على النثر، لأن "الموضوع متسع الأطراف متشعب الجوانب يستدعي بسطة في القول ومزيدًا من التحري والتدقيق في حياة فقيدنا الجليل وصديقي الوفي والدكم الكريم رحمه الله وأنعم عليه بمغفرته ورضاه. وعلمت يقينًا أنني أعجز عنه وأقف دون إتمامه. ولم أجد بدًّا

- 3 -

من العدول عن النثر إلى الشعر الذي هجرني هجرًا غير جميل فاستعطفته واستنجدته وإذا به يبضّ للخاطر الكليل بهذا القدر الضئيل. وهو على ضآلته ما كنت أظن أنني أظفر بمثله وقد بعثته إليكم، لتروا فيه رأيكم، فإن كان عندكم صالحًا كما أردتم فذلكم ما تقر به عيني وينشرح به صدري، وإن كان دونه أو بخلافه فحسبي أني بذلت فيه قصارى الجهد وحاولت أن أبلغ فيه غاية القصد" (1). - 3 - أمام هذا، كان عليّ أن أتناول الحديث ولكن وجدتني أتهيب ذلك مرة أخرى من نحو آخر وأتساءل في ما بيني وبين نفسي هل في وسع الإنسان أن يكتب عن أقرب الناس إليه وأمتّهم رحمًا به وأشدهم تواصلًا معه؛ هل في وسع الإنسان أن يكتب عن والده؛ وما عساه أن يقول عنه وعن آثاره؛ ألا يجد أنه في موقف حرج يصعب أن يتفاداه؛ كانت حراجة الموقف لا تنبع من سعة الموضوع، ولكنها تكمن في أننا نخشى أن تغلب علينا ذاتيتنا وأن تستبد بنا محبّتنا وأن يحول التقدير الأبوي بيننا وبين موضوعية الحديث، أو على النقيض أن يكون الإسراف في التحرر من الذاتية ونشدان الموضوعية سبيلًا إلى تغييب بعض الحقائق أو السكوت عنها أو الاجتزاء بطرف منها دون طرف، إيثارًا للتواضع وبعدًا عن الإشادة في مواجهة هذا الموقف الذي يشبه الإبرة الممغنطة في اتجاه أحد قطبيها إلى الشمال واتجاه الآخر إلى الجنوب وعودتها إليهما كلما زحزحت عنهما. أوشكت أن أنتهي إلى أن أترك هذه الطبعة الجديدة من غير مقدمة نثرية، ووجدت في القصيدة الشعرية وفي الرسائل التي يعدها بعض طلبة الدراسات العليا ما يجلو شخصية الشيخ وسيرته في حياته وأسلوبه. - 4 - إنه عسير عليّ أن أعطي هذه المجموعة مكانها من سير البيان العربي .. ذلك أن الذين كانوا يقرأونها في المشرق والمغرب كانوا يواجهون أسلوبًا هو أشد ما تكون الأساليب رصانة وأقوى ما تكون جزالة وأقدر ما تكون على التفنن في المعالجة .. كان له من المشارقة صفاء البيان ومن المغاربة منطقية العرض وكان من أسلوب القرآن الكريم- تنوعًا وأصالة- استمداده واستلها مه. إن هذه المقالات لا تصور الشيخ في أبعاده كلها. ويحتاج الدارس الأدبي إلى أن يصطنع قدرًا كبيرًا من التخيل حتى يستطيع أن يستكمل تقديرها حق قدرها .. فقد كتبت في ظروف صعبة شديدة الصعوبة كان فيها للاستعمار عيون مبثوثة وسيوف مصلتة وقدرة على الشر تخطيطًا وتنفيذًا .. ولكن هذا لم يحجب نصاعة الأسلوب ولا وضوح القضايا ولا براعة العرض.

_ 1) من رسالة خاصة قدم بها للقصيدة.

- 5 -

- 5 - إن بعض قيمة هذه المقالات أنها أرادت تأكيد معنى أساسي كان أبرز المعاني الجوهرية في حركة الإصلاح وفي حركة الثورة .. ذلك هو الرجوع إلى الأصالة: الدفاع عن دين الجزائر ولغتها وشخصيتها، وتثبيت ذلك في نفوس الأجيال الجزائرية التي كانت في المعركة أو التي كانت في الظل .. التي كانت تخوض المعركة ضد الاستعمار والتي كانت تتأهب لخوضها. - 6 - ثم هي استمدت من الإسلام، روحه وعقيدته ونظامه، صفتها الكلية .. ولذلك فإنها لم تقتصر على الجزائر وإنما تجاوزتها إلى أكثر أقطار العالم الإسلامي التي كانت تكتوي بنار الاستعمار وتنزل بها نوازله .. فقد كتب عن تونس والمغرب، وكتب عن فلسطين سلسلة المقالات التي يقرأها الإنسان العربي الآن فيحس كأنما هي ابنة اليوم بهذا الذي صاحبها من صفاء وبعد نظر وعمق معاناة .. إنها تبدو بنت الأحداث في الستينات كما كانت بنت الأحداث في الأربعينات. لأن صاحبها تجاوز الجزئيات العارضة فيها إلى المشكلة الكبرى، واستبان له، في وضوح البصيرة، الأبعاد التي كانت تخفى آنذاك على الكثيرين. ومثل ذلك ما كتب عن اليمن تحت حكم الأئمة، وما كتب في مواجهة الاستعمار أو في التهكم على عملائه أو في كشف عوراته وفضح نياته. - 7 - إننا في العادة نتطلع إلى هذه الطائفة من رجالنا وعلمائنا الذين قادوا حركة الإصلاح وقدحوا شرارات الثورة الأولى وضمنوا لشعلة الثورة زيتها ووقودها من إيمان الشعب ومن اندفاعه ومن مشاركته الكاملة، على أنهم أبرز ما في التاريخ الجزائري الحديث .. ومن المؤكد أن شيئًا من ذلك لم يكن ليتوافر لهم لولا معنى الصمود الذي كان يملأ حياتهم .. إنهم لم يبدأوا المعركة ليتخلوا عنها وإنما بدأوها ليتابعوها بهذا العزم والتصميم واعتبار الاستشهاد غاية النصر .. ولذلك شُرّد منهم من شُرّد وقتل من قتل وأوذي من أوذي بدون أن يرهب عدوًا أو يلين لغاصب أو يخضع لتهديد أو وعيد .. وقد كان الشيخ رحمه الله أحد هؤلاء الذين شردوا وأوذوا وهددوا فما لانت له قناة .. وظل يجوب الجزائر طولًا وعرضًا، مثيرًا ومحركًا للجماهير ومصلحًا ومقربًا بين القادة، وداعيًا إلى التآخي الذي يهدر الجزئيات والذاتيات في سبيل الهدف الكبير .. وكان العلم هو المشعل الذي حرص على أن يتقد في كل مدينة، وإصلاح النفس هو الذي يجب أن يخالط كل جزائري، ونظافة المجتمع من الخرافات والبدع والضلالات التي

- 8 -

كان يغذيها الاستعمار أو يشجعها، هي التي يجب أن تسود كل بيئة جزائرية. - 8 - ما أكثر ما ترددت في سياقة هذا الحديث، وما أكثر ما قاد التردد إلى إغفال جوانب منه لم يحن بعد أوان الحديث عنها. لقد قصدت إلى أن يكون حديثًا مجردًا من غير ذكر للأحداث ولا تسجيل للمواقف .. وأحسبني لا أخالف ذلك إذا أنا أشرت إشارة خاطفة إلى الجانب الذاتي الإنساني من حياة الشيخ رحمه الله .. فقد كان أحلى ما عنده وأيسره أن يجاوز ذاته في سبيل رغبات إخوانه وكان يؤثر أصدقاءه وتلامذته بما يختارون، لا وفاء لهم فحسب بل ولاء كذلك للفكرة التي كانت تجمعه بهم .. ما أغضى عن يد امتدت إليه، ولا أشاح بوجه عن طالب عرف ولا ضن بجاه أو جهد على مستجير، ولا برأي على مستشير ولا بعون لصاحب حاجة .. كان إذا أعوزه الأمر استدان ليفك ضائقة إخوانه، وكان يتابع حاجات الناس ومشاكلهم حتى تقضى أو تحل من غير غفلة ولا نسيان. - 9 - لقد آثرت أن أتجاوز عن كثير من النقاط حرصًا على موضوعية هذه الكلمة أو مغالاة في هذا الحرص. إن ذلك يجرد الكلمة من جوها العاطفي الذي كان يجب أن يخالطها وأن يغلّفها، ويحجب كثيرًا من الجوانب التي كان عليها جلاؤها من حياة الشيخ ويسكت عن جوانب أخرى، ويوجز غيرها .. إن هذه الكلمة ليست إلا وقفة قصيرة ومجردة .. لم أنظر فيها بعين الابن، ولا بعين الرفيق في بعض مراحل العمر، ولا بالعين التي ينظر بها الطالب والمريد إلى الأستاذ والرائد .. وإنما نظرت بعين هذا الجيل إلى واحد ممن كانوا في مقام القيادة منه: القيادة الروحية والقيادة الفكرية على السواء. - 10 - وبعد، فمن الخير أن أفسح لقصيدة الشاعر الكبير الأستاذ محمد العيد حفظه الله. وأتوجه إلى الله العلي القدير أن يوفقنا ويسدد خطانا على الطريق المستقيم، إنه سميع مجيب. الجزائر في 21 ماي 1970 أحمد طالب الإبراهيمي وزير التربية الوطنية

مشاعل حكمة

مشاعل حكمة قصيدة الشاعر الكبير الأستاذ الشيخ محمد العيد آل خليفة التي كتبها كمقدمة للطبعة الثانية من "عيون البصائر". ــــــــــــــــــــــــــــــ كتاب لمن أملاه بالعلم يشهد ... يطالعنا بالعود والعود أحمد يتوجه باسم الإله وحمده ... نصير لمن يدعو إليه مؤيد "عيون " بها تجلو «البصائر» نورها ... علينا كما يجلو الكواكب مرصد تجلى بها نور الهداية فاجتلى ... بها هدف الإصلاح من هو أرمد وأطلعها فكر "البشير" بأفقه ... فما هي إلا أنجم تتوقد ولا أدَّعي أني أقدم سفره ... فذلك شأو عن بياني يبعد أراه اكتفى عن كل حلى بذاته ... فأغناه عن حلى جمال مجرد وكنت بشعري "للبشير" مواكبا ... على سمعه في موكب العلم أنشد وقد يسمع البيت البليغ فينتشي ... وقد يسمع البيت المسفَّ فينقد وما هو إلا كاتب ثاقب الحجى ... ورائد فكر مصلح ومجدد جرى حبره في الصحف كالبحر زاخرا ... بغيرته للحق يرغي ويزبد روائعه أرض الجزائر مهدها ... ولكن لها في أرض عبقر مولد لقد رئس الأعلام مجدًا وسؤددا ... وهل كان كالعرفان مجد وسؤدد وكان منارًا للعقول ومعلما ... يشير إلى تحريرها ويمهد ينادي إلى حرية الفكر لاهجًا ... بها، منكرًا ما يدعي المتقيد له قلم إن رام دفع الأذى به ... فرمح رديني وسيف مهند وإن رام إذكاء العقول فمشعل ... وإن رام إرواء القلوب فمورد وإن رام وصفًا فهو أجمل ريشة ... لأبرع رسام على الفن تُسعد

وإن رام جدًا فهو صور مجلجل ... رهيب يقيم الهازلين ويقعد وإن رام مزحًا فهو للقلب بلسم ... من الهم شاف للشقاء مبدد وإن رام إرهاف الشعور بفنه ... فعود به يشدى ولحن يردد لقد كان للفصحى أباها وأمها ... ومرجعها إن ندّ أو شذ مغرد وكان صديقًا لابن باديس مخلصًا ... وصاحب شوراه الذي لايفنَّد وقام جديرًا بالرئاسة بعده ... قديرًا عليها فضله ليس يجحد فيا لهما من فرقدين بأفقنا ... أنارا وغارا فرقد ثم فرقد سلام على الأعلام ما طاب ذكرهم ... وآثارهم في العلم والعلم يخلد لقد زرعوا زرعًا فأخرج شطأه ... كأخصب محصول لمن هب يحصد وأبقوه للأجيال ذخرًا مباركًا ... وزادًا من الذكرى لمن يتزود وأقبل جيل بعدهم غرس ثورة ... عصامية يرجو النمو ويَنشُد ويبني على أرض الجزائر أمة ... مثالية في وعيها ويشيّد شباب تبارى دارسًا ومدرسا ... بميدان مجد أيهم فيه أمجد يشد على الفصحى يدًا ويمدها ... يدا باللغات النافعات ويسند فيا فتية الجيل الجديد إلى العلى ... إلى العلم فامضوا كلكم وتجندوا أرى غدنا المرجو تُلقى فروضه ... عليكم وآمال الجزائر تعقد وهذا كتاب فيه تبصرة لكم ... وتوعية مُثلى وقول مسدد نصوص معانيها ينابيع فُجّرت ... لكم ومبانيها كؤوس تُنضَّد خذوها وصايامن حكيم مُجرّب ... تمنى عليكم أن تسودوا وترشدوا وأملى عليكم مُنفِسات من المنى ... كعهد فمن منكم بها يتعهد؛ تمنى عليكم أن تكونوا وعاتها ... وأكفاءها أو لا تكونوا وتوجدوا وغاب وأبقاها مشاعل حكمة ... فقودوا بها الركبان تهدوا وتهتدوا بسكرة، 2 ربيع الأول 1390هـ الموافق 7 ماي 1970م. محمد العيد آل خليفة

إستهلال

إستهلال * اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ نَبْتَدِي، وبِهَدْيِكِ نَهْتَدِي، وَبِكَ يَا مُعِينُ، نَسْتَرْشِدُ وَنَسْتَعِينُ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تُكَحِّلَ بِنُورِ الْحَقِّ بَصَائِرَنَا، وَأَنْ تَجْعَلَ إِلَى رِضَاكَ مَصَائِرَنَا، نَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ سَدَّدْتَ فِي خِدْمَةِ دِينِكَ خُطُوَاتِنَا، وَثَبَّتَّ عَلَى صِرَاطِ الْحَقِّ أَقْدَامَنَا. وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّكَ الَّذِي دَعَا إِلَيْكَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَتَوَلَّاكَ فَكُنْتَ وَلِيَّهُ وَنَصِيرَهُ، وَعَلَى آلِهِ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَّتِهِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرِيعَتِهِ. اللَّهُمَّ يَا نَاصِرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ انْصُرْنَا، وَخُذْ بِنَوَاصِينَا إِلَى الْحَقِّ، وَاجْعَل لَّنَا فِي كُلِّ غَاشِيَةٍ مِنَ الْفِتْنَةِ رِدْءًا مَنَ السَّكِينَةِ، وَفِي كُلِّ دَاهِمَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ دِرْعًا مِنَ الصَّبْرِ، وَفِي كُلِّ دَاجِيَّةٍ مِنَ الشَّكِّ عِلْمًا مِنَ الْيَقِينِ، وَفِي كُلِّ نَازِلَةٍ مِنَ الْفَزَعِ وَاقِيَّةً مِنَ الثَّبَاتِ، وَفِي كُلِّ نَاجِمَةٍ مِنَ الضَّلَالِ نُورًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَمَعَ كُلِّ طَائِفٍ مِنَ الْهَوَى رَادِعًا مِنَ الْعَقْلِ. وَفِي كُلِّ عَارِضٍ مِنَ الشُّبْهَةِ لَائِحًا مِنَ الْبُرْهَانِ، وَفِي كُلِّ مُلِمَّةٍ مِنَ الْعَجْزِ بَاعِثًا مِنَ النَّشَاطِ، وَفِي كُلِّ مَجْهَلَةٍ مِنَ الْبَاطِلِ مَعَالِمَ مِنَ الْحَقِّ الْيَقِينِ، وَمَعَ كُلِّ فِرْعَوْنَ مِنَ الطُّغَاةِ الْمُسْتَبِدِّينَ مُوسَى مِنَ الْحُمَاةِ الْمُقَاوِمِينَ. *ــــــــــــــــــــــــــ*ــــــــــــــــــــــــــ* وهذه جريدة «البصائر» تعود إلى الظهور بعد احتجاب طال أمدُه، وكما تعود الشمسُ إلى الإشراق بعد التغيب، وتعود الشجرة إلى الإيراق بعد التسلب، فلا يكون اعتكارُ الظلام، وإن جلل الأفقَ بسواده، إلا معنًى من معاني التشويق إلى الشمس، ولا يكون صر الشتاء،

_ * نشرت في العدد 1 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية سنة 1947.

وإن أعرَى الأشجار باشتداده، إلا خزنًا لقوة الحياة في الأشجار، والشمس موجودة، وإن غابت عن نصف الكون، والشجرة حية، وإن أفقدها الصرّ جمالَ اللون، كذلك صحيفة «البصائر»، احتجبتْ صورتها عن العيان، وإن كانت حيةً في النفوس، ممثلة في الأفكار، وإن في احتجابها لصُنعًا إلهيًّا، يدركه أيقاظ الشواعر، وأحياء الضمائر، وهو إذكاءُ الشوق إليها، فقد كان الشوق إليها يتجدد في أخريات كل أسبوع، فتطفئه قعقعة البريد، واتصالُ المراد بالمريد، فأصبح الشوق إليها- بعد احتجابها- يتجدد في كل يوم. ولقد اشتدّ شوقُ العالم الإصلاحي إلى جريدته، واتصل حنينه، وطال انتظاره، وأصبح - لتعلقه بها- يوجه العتابَ القاسي إلى المسؤولين عنها. لأنه كان يرى فيها مددًا من النصرة وفيضًا من القوة، وكانت أعدادُها تحمل إليه حقائقَ الدين الإسلامي، ونفحات البيان العربي، وكان يرى من مقالاتها صواعق مرسلةً على المبتدعة والظالمين، ويجدُ في قراءتها سلوةَ الظاعن وأنسَ المقيم. إن «البصائر» في حقيقتها فكرةٌ استولت على العقول، فكانت عقيدةً مشدودةَ العقد ببرهان القرآن، ثم فاضت على أسلات الألسنة فكانت كلامًا مشرقَ الجوانب بنور الحكمة، ثم جاشت على أسنة الأقلام، فكانت كتابةً في صحيفة، والذي تعطل من «البصائر» إنما هو المظهر الأخير من مظاهرها، وما كان للظلم وإن مَدّ مده، وجهد جهدَه، ولا للحوادث وإن بلغت الغايةَ من الشدة أن تنال من العقائد نيلًا، وإنما تصيب الألسنة بالسكات إلى حين، وتبتلي الأقلامَ بالتحطيم إلى أوان، وإن الصحف في لسان العرف كالصحائف في لسان الدين، منها صحائف الأبرار، وصحائف الفجار، لذلك كان من حظ الأولى الابتلاءُ بالتعطيل والتعويق. ... جريدة «البصائر» هي أحد الألسنة الأربعة الصامتة لجمعية العلماء، تلك الألسنة التي كانت تفيض بالحكمة الإلهية المستمدة من كلام الله وكلام رسوله، والتي كانت ترمي بالشرَر على المبطلين والمعطلين، وكانت كلما أغمد الظلمُ لسانًا منها سل الحق لسانًا لا ينثلم ولا ينبو، وتلك هي: السنة، والشريعة، والصراط، والبصائر: أسماءٌ ألهم القرآنُ استعمالها، وفصَّلت القرائح الملتهبة، والأقلام المسددة إجمالها، وصدق واقعُ العيان فالها، وما زالت جمعية العلماء تتلمح العواملَ الإلهيةَ في كل ما تأتي وما تذر، وتستند على الإلهامات الربانية حتى في أسماء صُحفها، ولا مكذبةَ فما أخطأها التوفيق ولا مرة. وإذا كُتبَ للصُحف الثلاث الأولى أن تستشهدَ في المعترَك، وهي في ميعة الصبا، مقبلةً غيرَ مدبرة، لم تخِس بأمانة، ولم تُزَنّ بخيانة، فقد قدر "للبصائر" أن تعمر وأن تحتك بالزمن

وأحداثه سنين، فكمُلت الخبرة واستحكمت التجربة، وكان تعطيلها لأوائل هذه الحرب مثلًا شرودًا في الحفاظ والإباء، ومنقبةً بكرًا في الكبرياء والعزة، ذلك أنه لما تجهَّمت الأيام، وتنكرت الأحداثُ، واستبهمت المسالك، ولوّح لها أن تجريَ على ما يراد منها، لا على ما تريد، قالت ما قالته الزباءُ قبلها "بيدي لا بيد عمرو"، وخار الله للقائمين عليها في ذلك التعطيل، كما خار لهم من قبل في تقرير السكوت (1)، ولعمري ان التعطيل لخيرٌ من نشر الأباطيل. إذ "تقرير السكوت" من غرر أعمال جمعية العلماء، ومن آرائها التي تشظَّتْ عنها صدَفةُ الحكمة، ومن شواردها التي لا تضاد إلا ببعد النظر، فقد وقاها ذلك التقرير مزالقَ لا يتلاقى فيها رضا الله برضا المخلوق، ولقد كانت الجمعية تعلمُ أن القوةَ التي تستطيع الإسكاتَ لا تستطيع الإنطاق، ولأنْ يسكتَ العاقل مختارًا، في وقت يحسن السكوت فيه، خير من أن ينطق مختارًا في وقت لا يحسن الكلام فيه، وكل نَطْقة تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتةً عن الحق، ما من ذلك بدّ. ألا إن فرسانَ الكلام والأقلام، كفرسان النزال والعراك في كثير من الخصائص، وكما أنّ الكمي المعلم يضيق بالفاقة ذَرعه، فتهون عليه بيضته ودرعه، وهيهات أن يهون عليه سيفه ورمحه، لأن وظيفة البيضة والدرع أن يحفظا على الكميّ في ساعة الروعْ مهجته، وهي أهونُ مفقود في تلك الساعة. أما وظيفة السيف والرمح فهي الإنكاءُ في العدو، والإنكاء في العدو هو الغاية التي تنتهي إليها شجاعة الشجاع. كذلك حملةُ الألسنة والأقلام يجبُ أن يكونوا، ليحققوا التشبيه الذي تواطأت عليه آداب الأمم، فلتأتهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا من شيئين: القلم واللسان ... إن بيع القلم واللسان أقبحُ من بيع الجنديّ لسلاحه. إن جمعية العلماء حين قررت السكوتَ حافظت على هذين ولم تتسامح في تسخيرهما لأحد، وتركت أحداثَ الدهر تعملُ عملها، على أنها ما سكتتْ عن درس ديني أو علمي، ولا عن نصيحة رشيدة، ولا عن موعظة حسنة، وإنما قررت السكوتَ عن كل ما يقال لها فيه: قولي.

_ 1) لما أعلنت الحرب العالمية الأخيرة اجتمع أعضاء المجلس الإداري لجمعية العلماء ليقرروا ما يلزم لمستقبل الجمعية احتياطًا لأنهم خشوا أن تمنعهم التدبيرات العسكرية من الاجتماع واللقاء في أثناء الحرب فيكون كل عضو محبوسًا في بلدته وربما كلف كل عضو بتصريح أو بإبداء رأي لا يتفق مع مبادئ الجمعية، فاتفقوا على تقرير السكوت سدًّا للباب بمعنى أن كل من سئل وحده أو كلف بشيء مما يرجع إلى الجمعية سكت ولم يجب بشيء.

ولقد جاذبني أطرافَ هذه القضية في الأشهر الأولى من بداية الحرب كبير من رجال الحكم، كان يضم يديه على سلطة واسعة، مدنية وعسكرية، وألحّ عليّ، في صراحة- أن أخرج من الصمت إلى الكلام باسمي أو باسم الجمعية- (وهو يعني سكوتًا خاصًّا وكلامًا خاصًّا) فقلت له من كلام طويل: إننا كنا في السلم نتكلم فيُقلقُكم كلامُنا، وإننا سكتنا في الحرب فأقلقكم سكوتنا، ففي أيّ موضع نكون بين هذين؛ وتنبه ضميره الإنساني عند سماع هذا الكلام فلمحتُ عليه آثارَ الاقتناع، ولكن ضميره العسكري أبى عليه إلا أن يجرِيَ بالمسألة إلى آخر الشوط. وإن الإنصاف ليتقاضاني- وقد مرت على المحاورة سبعُ سنين- أن أذكر له لطفَ الحديث وأدبَ الخطاب وتمجيد الصراحة، ولا أحاسبه على الضمير العسكري، لأنني أعلم أن الاستعمار يشرك بين الأقوياء والضعفاء في إفساد الضمائر. ... هذا فصل قصير تحكيه «البصائر» من تاريخ حياتها الأولى ومن حسن الختام لتلك الحياة، فخورةً مزهوةً بأنها بذَّتْ أخواتها الشهيدات بما جلتْ من محاسن الإسلام والعربية، وبما جاهدتْ في سبيلهما، وبما مهدتْ للإصلاح الديني من عقبات، وبما لقيت في صراع الاستعماريْن الروحي والبدني من مكاره، وبما حوته حقيبتها من ذخائر العبر والتجاربب، وبما قدمتْ من صالحات لحياتها الثانية. ... كنا نعلم مبلغ تشوّف الأمة إلى جريدتها، وكنا معها نعلل النفسَ بالآمال، فلما أحيينا سنةَ الاجتماعات العامة السنوية في السنة الماضية أعلنا للأمة وعدًا بإصدار «البصائر» أولًا، و"الشهاب" ثانيًا، وضربنا لذلك موعدًا محدودًا قدرناه بإعداد العدد اللازمة. فتهللت أسرّةُ السامعين، وطفح البشرُ على وجوههم، وتنوقلت الأحاديث بتلك البشرى في القطر كله، فانتعشت الآمال، وجليت الأقلام التي علاها الصدأ من طول ما أغمدت، وما كنا حين وعدنا بهازلين ولا معللين، وإنما كانت دواعي الرجاء عندنا غالبة، وقوة التصميم والحزم فينا متوفرة، وما تجلت لنا الحقائق من أول مرحلة، وهي الحصول على الرخصة، إلا بعدَ أن شرعنا في إعداد العدة لإنجاز الوعد، فكذبتنا الظنون، واعترضتنا المعاكسات القانونية، ولما ألغي اشتراط الرخصة أبقت بعدها ما يقوم مقامها في التعسير والإرهاق، وهو الورق الذي لا يعطى إلا (برخصة) فحاولنا الحصولَ عليه ولكن بغير جدوى،

ثم جاءت ثالثة الأثافي، وهي المطبعة، وفي هذه المحاولات التي حاولناها بحرص ونشاط انقضت سنة كاملة، ومن العبث أن نطيلَ القولَ فيها، وأن نعيدَ الحديثَ عنها والتشكي منها. ... ها إن نومة «البصائر» - على طولها- أصبحتْ كإغفاءة المهموم في قصرها وفائدتها بفضل الصبر والأناة، وها هي ذي عادت إلى الحياة، ووخزتها الخضرة من جوانبها، فسلوها كيف تركت جمعية العلماء وكيف وجدتها؛ وسلوها حين فتحت عينيها عن الوجود الثانى، ماذا عرفتْ وماذا أنكرتْ من الناس والأحوال؛ أما عن الناس وأحوالهم فقد عرفتْ هذا الشعورَ الفياضَ من الأحياء المستضعفين بحقهم في الحياة، وهذا الإصرارَ الدائبَ على المطالبة به، وهذا المنطقَ الحكيمَ الذي يترجم تلك المطالبة، وهذا البغضَ المتأججَ للاستعمار وحماته، والاستعباد ودعاته، وهذا الإجماعَ المنعقدَ بين الضعفاء على الأخذ بتلابيب الأقوياء، حتى يؤدوا الحق إلى طلابه، كأن الضعف رحمٌ شابكة بينهم، فهم يتباروْن في وصلها والبر بها، إلى كيت وكيت مما أيقظته المصائب بعد همود، وأذكتْ نارَه الحوادث بعد خمود، وكان ليد الله فيه الأثر الذي لا ينكر. وأنكرتْ هذا الجفاف الذي انتهى بعواطف الأقوياء إلى درجة التحجر، وهذا التنمر الحيواني الذي يظهره الاستعمار ليخيف به الفرائسَ حتى تسكنَ إلى حين، وهذه الديمقراطية الزائفة التي اتخذها أدعياؤها حبالة صيد، ووسيلة كيد. ولاكوها بألسنة مقطوعة الصلة بالقلوب، وأصبحت في أفواههم كالعلك يمضَغ ولا يزدرد، وهذا النفاقَ السياسي الذي غطى على فضيلة الصراحة، فلم يصفُ معه ضمير، ولم يصدق معه لسان، ولم تثبت عليه ثقة، وهذه الأساليب الإدارية العوجاء التي فضحها الحق فما زادت في مقاومته على أن فضحتْ نفسها، وأنكرتْ- آخرَ ما أنكرت- هذا الجو القاتم الذي منع الراحةَ والهدوءَ، وسلب السكونَ والاطمئنان، وبعث القلقَ والاضطراب إلى هنات وهنات، أسخفها معاملة الإدارة الجزائرية لجريدة «البصائر». فقد مرت سنةٌ و «البصائر» تطالب بحقها في الحياة، وحظها من الورق، ولم تحصُل بعدَ هذا الزمن الطويل على طائل. هذا بعض ما عرفت «البصائر» وأنكرتْ من الناس وأحوالهم؛ فأما جمعية العلماء وكيف كانت وكيف هي الآن، وما هي مواقفها في مبادئها وما يمس مبادئها، فهي الميادين التي حَييتْ جريدة «البصائر» لاقتحامها، فانتظروا فستُجلّي لكم الحقائق كما هي، وستفضح المخبآت التي كثر فيها لغط اللاغطين، وستكشف الدعاوى الزائفةَ التي تجري بها ألسنة المضللين.

من الحقائق العريانة

من الحقائق العريانة * في هذا الوطن الجزائري شعبٌ عربيٌّ مسلم، ذو ميراث روحاني عريق، وهو الإسلام وآدابه وأخلاقه، وذو ميراث مادي شاده أسلافه لحفظ ذلك التراث، وهو المساجد بهياكلها وأوقافها، وذو نظام قضائيّ مصلحي، لحفظ تكوينه العائلي والاجتماعي؛ وذو منظومة من الفضائل العربية الشرقية منتقلة بالإرث الطبيعي من الأصول السامية، إلى الفروع النامية، لحفظ خصائصه الجنسية من التحلل والإدغام، وذو لسان وسع وحي الله، وخلد حكمة الفطرة، وجرى بالشعر والفن، وحوى سرّ البيان، وجلا مكنونات الفكر، ثم خدم العلم، وسجل التاريخ، وشاد الحضارة، ووضح معالم التشريع، وحدا بركب الإنسانية حينًا فأطرَب. حافظ هذا الشعب على هذا التراث قرونًا تزيد على العشرة، وغالبته حوادثُ الدهر عليه فلم تغلبه، وما كان هذا الشعب بدْعًا في الاحتفاظ بهذه المقوّمات الطبيعية؛ بل كل شعوب الدنيا قائمة على أمثال هذه المقوّمات، لا يستنزلها عنها إلا من يريد أن يهضمها (1) قبل الأكل، ليهضمها (2) بعد الأكل؛ كما يفعل وعاظ الاستعمار، ومشعوذو السياسة، لتخدير الأمم المستضعفة، فيقبحون لها العنصرية، وهم من حماتها، ويزهدونها في الجنسية، وهم من دعاتها. جاء الاستعمارُ الفرنسي إلى هذا الوطن، كما تجيء الأمراضُ الوافدة، تحمل الموتَ وأسباب الموت، فوجد هذه المقوّمات راسخةَ الأصول، نامية الفروع، على نسبة من

_ * نشرت في العدد 1 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية سنة 1947. 1) من الهضيمة التي هي الكلم. 2) من هضم الأكل المعروف.

زمنها، فتعهد في الظاهر باحترامها، والمحافظة عليها، وقطع قادته وأئمته العهودَ على أنفسهم وعلى دولتهم ليكونُنَّ الحامين للموجود المشهود من عقائد ومعابد وعوائد، ولكنهم عملوا في الباطن على محوها بالتدريج، وتمّ لهم- على طول الزمن بالقوة وبطرائق من التضليل والتغفيل- جزءٌ مما أرادوا؛ والاستعمارُ سلٌّ يحارب أسبابَ المناعة في الجسم الصحيح؛ وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسْخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمانَ بالإلحاد، والفضائلَ بحماية الرذائل، والتعليمَ بإفشاء الأمية، والبيانَ العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبير ولا تفكير. ومهما يكنْ نجاحُ الاستعمار في هذا الباب فما هو بالنجاح الذي يشرّفُ فرنسا، أو يمجد تاريخها، بعد أن أبقى جروحًا دامية في نفوس المسلمين، وبعد أن كان من نتائجه هذا الجو المتغير الذي يتمنى له كل عاقل الصفاءَ والإشراق، وهذه الحالةَ المحزنة التي يود كل منصف أن تزولَ، وأن يخلفها طور سرور واطمئنان. ... لبثت عواملُ الاستعمار تهدم من هيكل الإسلام ولا تبني، وترمي المقوّمات الإسلامية والخصائصَ العربية في كل يوم بفاقرة من المسخ، إلى أن تكونت جمعيةُ العلماء المسلمين الجزائريين منذ خمسةَ عشرَ عامًا، تكونًا طبيعيها كأنه نتيجة لازمة لتلك الحالة، وقامت تعمل لإصلاح الإسلام بين المسلمين، وللمطالبة بحقوقه المغصوبة، وبحرية لغته المسْلوبة، وسمع الاستعمارُ لأول مرة في حياته بهذه الديار، نغمةً جديدةً لم تألفها أذُناه، تدعو إلى الحق، في قوّة، وتطالب بالإنصاف في منطق؛ وأحسّ دبيبَ الحياة والشعور في الجسم الإسلامي؛ فلم ينظر إلى ذلك كله على أنه حق طبيعي معقول، ضاع بين حيلة المحتال، وغفلة الغافل، في وقت؛ فمن المعقول أن يرجعَ إلى نصابه بين إنصاف المنصف، وحزم الحازم، في وقت آخر؛ ولكنه نظر إلى ذلك على أنه شذوذ في قاعدة، وخرق لإجماع، وتطاوُلٌ من عبد على مالك؛ ورتب على مقدّمات الدعوة الإصلاحية نتائجَ لا ترتبط بها؛ فقاومها ونصب المكايد للعلماء العاملين، وبثّ المصائد للمغرورين والمذبذبين، وكان ما كان، ولكنّ ذلك كله لم يزد حركةَ الإصلاح إلا تغلغلاً في الأمة، ولم يزد الأمةَ إلا قوةَ شعور بحقها المهضوم؛ فتعالت الأصوات من كل ناحية وتداعى طلابُ الإصلاح في كل ميدان؛ ولو أن الاستعمارَ كان فقيهًا في سنن الله في الأمم والطبائع لأنصفَ الأمم من نفسه فاستراح وأراح، ولعلم أن عين المظلوم، كعين الاستعمار، كلتاهما يقظة. ***

التعليم العربي

كانت جمعية العلماء تقوم في كل مناسبة- كتبديل الجهاز الإداريّ هنا أو الجهاز الحكوميّ الأعلى في باريز، وفي اجتماعاتها العامة، وفي مقابلاتها لرجال الحكومة- باحتجاجات عن المعاملات الشاذة التي يعامل بها الإسلام في داره، وتعامل بها العربية في موطنها، وكانت تقوم بتظلمات وبيانات، ولكنها كانت تقابل دائمًا بالسكوت والإهمال، إلى أن كان شهر أغسطس من سنة 1944، وكانت الحكومة الفرنسية (3) إذ ذاك ممثلةً هنا بالجزائر فقدمت الجمعية مطالبها بصورة أوضحَ وأصرحَ من جميع ما تقدّمها في كراسة مفصّلة (4)، تشتمل على مطالب الأمة في التعليم العربيّ، وفي المساجد وأوقافها، وفي القضاء الإسلامي وإصلاحه، وقد لقيتْ تلك المطالب ما لقيه ما قبلها من سكوت وإهمال. ... واليوم وقد عادت جريدة الجمعية إلى الظهور، وجب أن نحمل العددَ الأولَ على وجه التذكير خلاصةً من مواقف جمعية العلماء ومن مطالبها التي هي مطالب الأمة العربية الجزائرية، في أعزّ عزيز عليها، وهو دينها ولغتها. وإنّ ما نقدمه هنا هو صورة من الحقيقة والواقع، وتصويرٌ لما تعانيه هذه الأمة من افتئات عليها، واستخفاف بمقدراتها، وإذا وُجد في ما نكتبه تنديد مرّ، فإن سوء المعاملة والتصامّ عن سماع صوت الحق هو الذي أملاه علينا. التعليم العربي ... اللغة العربية هي لغة الإسلام الرسمية، ومن ثمّ فهي لغة المسلمين الدينيةُ الرسمية، ولهذه اللغة على الأمة الجزائرية حقان أكيدان، كل منهما يقتضي وجوبَ تعلمها، فكيف إذا اجتمعا، حق من حيث انها لُغةُ دين الأمة، بحكم أنّ الأمة مسلمة، وحق من حيث إنها لغة جنسها، بحكم أن الأمة عربية الجنس؛ ففي المحافظة عليها محافظةٌ على جنسية ودين معًا، ومن هنا نشأ ما نراه من حرص متأصّل في هذه الأمة على تعلم العربية، وما نشهده من مطالبة إجماعية بحرّية تعليمها، وما نشاهده من قلق واضطراب في أوساط الأمة لموقف الحكومة المخجل من اللغة العربية، وما نراه من سخط عميق على القرارات والقوانين التي تعرقل تعليمها، وذلك كله لأنها مفتاحُ الدين، أو جزءٌ من الدين.

_ 3) الحكومة الفرنسية في الجزائر: هي حكومة فرنسا الحرة برئاسة الجنرال دوغول. 4) نُشرت في الجزء الثاني من آثار الإمام، [ص:138 - 146].

وجمعية العلماء التي تعد أشرفَ أعمالها تعليمَ العربية، قد أقامت خمسة عشر عامًا تطالب في غير ملل بحرية التعليم العربي الذي هو أساسُ التعليم الديني، وما زالت تصارع العوارض الحائلةَ، وهي عوارض القرارات الإدارية، والقوانين الموضوعة لخنق العربية وقتلها؛ وما زالت الجمعية تنكر تلك القرارات وتقول عنها في صراحة: إنها قراراتٌ جائرة أنتجتها ظروف خالية من الرحمة ومن الكياسة، وأملتها أفكار خالية من الحكمة والسداد، وبواعثُ من الغرض والهوى؛ يؤيد ذلك كله وحيٌ من شيطان الاستعمار المريد، فجاءت في مجموعها لا تستند على منطق ولا نظر سديد، وإنما تستند على القوة أولاً، وعلى الحيلة ثانيًا، وعلى العنصرية البغيضة ثالثًا. إن جمعية العلماء، باسم الأمة الجزائرية المسلمة عمومًا، تطالب الحكومة الجزائرية (3) الاستعمارية- في إلحاح- بإلغاء جميع القرارات القديمة المتعلقة بالتعليم العربيّ، واستبدال قانون موحد عادل بها، لا يكون من طرف واحد، كالقرارات القديمة، بل يكون للأمة رأيٌ فيه، ولجمعية العلماء اشتراك في وضعه، ويكون واضحَ الدلالة، بيِّنَ المقاصد، صريحَ المعاني، لا إبهام فيه ولا غموض. وجمعية العلماء ترى أن التعليمَ العربي الذي تسعى لحريته وترقيته هو جزء من التعليم العام الذي هو وسيلة التثقيف، والتثقيف هو أشرف مقاصد الحكومات الرشيدة، وإن الحكومات الرشيدة لتلتمس المعونةَ على تثقيف شعوبها من كل من يستطيعه من جمعيات وأفراد، وتبذُل لهم من التنشيط والتيسير ما يحقق ذلك، فما بالُ الحكومة الجزائرية الاستعمارية تعاكسُ وتضَع العراقيلَ في طريق التثقيف مع أنها عاجزة- باعترافها- عن تعميمه ونشره؛ أليست تلك المعاكسات كلها لأن التعليم عربى إسلامي؛ أليست النتيجة المنطقية أن تلك المعاكسات كلها حرب على الإسلام والعربية؛ بلى ... وإن ذلك لهو الحق الذي لا تغطيه مجاملات الخطب، ولا تزويق الألفاظ ولا أكاذيب رجال الحكومة، إن جمعية العلماء تشكوُ مر الشكوى من تلك القرارات بأجمعها، وتستنكر بنوع خاصّ ذلك القرار المتضمن لإيجاب الرخصة على المعلم، لأن هذا القرارَ إن سهل تنفيذُه في عمل شخصيّ، كمعلم، في مكتب، فإنه لا يسهُلُ العملُ به على جمعية عظيمة، تدير عشرات المدارس وتُشرف على مئات المعلمين، لأنها قد تنقل معلمًا في كل يوم، وقد ينفصل عنها معلمٌ في كل يوم وقد يموت. ففي تكليفها العملَ بهذا القرار تكليف بما لا يُطاق ولا يتم معه عمل.

_ 5) الحكومة الجزائرية: هي الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.

والصحافة العربية

وقد يتأتى للحكومة أن تقول: إن عملية الرخصة بسيطة، وما هي إلا طلب وإيجاب، وقد امتحنا هذا القولَ فوجدْنا الحكومة تيسّر على من رضيتْ عنه، وتعسّرُ على المغضوب عليهم، وتدخل بهم في بحر من الإجراءات لا ساحلَ له، حتى ييأسَ الآمل، ويفتر العامل. إن الحكومة التي لا يعجزُها أن توجد للحق ضرائرَ من الباطل، ولا يعجزُها أن تثيرَ الغبارَ في وجوه العاملين للخير، ولا يعجزُها أن تمنعَ المسلمَ من الحج- لانتسابه إلى جمعية العلماء أو لمشرَبه السياسي- لا يعجزُها أن تجعلَ من طلب الرخصة وسيلةً للمنع. وجمعية العلماء تستنكر كذلك هذا التجاهلَ الممقوت من الإدارات الحكومية، للعلاقات الوثيقة بين المدارس والجمعية، وللإشراف الفعلي من الجمعية على المدارس، بل للتأسيس العملي من الجمعية لكثير من المدارس، تطبيقًا للفصل السادس من قانونها، فالحكومة تتجاهل كل هذا ولا تريد أن تفهمه ولا أن تعترف به؛ يدل على ذلك ما وقع من التعطيل لمدرستي "بني منصور" و "سيدي عيسى" من عمالة (6) الجزائر، ولمدرستيْ "قايس" و "عزّابة" من عمالة قسنطينة، وكل ذلك وقع في هذه الأيام، أيام الجمهورية الرابعة، والتفاصيل عند الإدارة، وما المظلوم فيها بأعلم من الظالم. والحقيقة التي يجب أن تفهمها الحكومة، هي أن المدارسَ التي تشرف عليها جمعية العلماء وحدةٌ لا تتجزأ، والجمعية هي المسؤولة عن جميعها من حيث التعليم؛ فمن حسن الذوق، إن لم يكن من حسن النظام، أن تعتبرَها الحكومة على حقيقتها، فإذا حدث ما يوجب تدخلها، خاطبتْ في ذلك الجمعيةَ، لا المعلمَ ولا الجمعيةَ المحلية. وخلاصة رأي جمعية العلماء في التعليم العربي، أنه أصبح ضرورةً من ضرورات الأمة، وأن القرارات المتعلقةَ به كلها ترمي إلى التضييق عليه وقتله، وأن تنفيذها موكول إلى عمال يتولونه بالغرض والهوَى، وقد كثرتْ هذه القرارات وملحقاتها وشروحها. حتى أنسى آخرها أولها؛ وأن الحكومة قد تشككت عن تنفيذها لمكيدة، ولكنها تبقى كالأسلحة المدسوسة لوقت الحاجة، وأن الأمة فهمت هذا فأصبحتْ لا تثق بوعد، ولا تطمئن إلى سكوت، حتى تلغى هذه القرارات، وتتلاقى الأمة والحكومة على قرار واحد معقول، لا ينفرد بوضعه عقل واحد بل عقول. ... والصحافة العربية لا تزال آثار ذلك القرار "الشّوطاني" (7) باديةً في معاملة الصحافة العربية واعتبار لغتها أجنبيةً

_ 6) عَمالَة: مُحافَظة- وِلاية. 7) شوطان أحد رؤساء الوزارات الفرنسية وأحد أقطاب الاستعمار وهو الذي أصدر قانونًا بمرسوم يصرح باعتبار العربية لغة أجنبية في الجزائر.

والنوادي

في وطنها، ولا تزال الأمةُ العربيةُ الجزائرية تنكره وتتحداه، فهل آن الأوان لإلغائه والتنفيس على الصحافة وإعطائها حقوقها الطبيعية، وهل آن للإنصاف أنْ يلامسَ هذه الأفكارَ الرجعيةَ؛ والنوادي ... إن جمعية العلماء ترى أن النواديَ الإسلاميةَ التي تؤسسها، أو تشرف عليها، هي وسط جامع، بين المدرسة وبين الجامع، لأن هناك طائفة عظيمة من شباب الأمة لا تجدُ الجمعية وسيلةَ لتبليغه دعوة الدين والعلم إلا في تلك النوادي، وإن وضعية النوادي تعتمد على دخل ماليّ خاصّ من المشروبات المباحة التي تباع فيها، فكان من حلقات تلك السلسلة الموضوعة لتطويق التعليم العربي من جميع نواحيه، ذلك القرار الغريبُ الذي يمنعُ بيعَ المشروبات المباحة في النوادي، ونتيجته هي إفقار النوادي من روّادها، لعدم ما يجذبهم إليها، وما يحببهم فيها، وجمعية العلماء تعد ذلك القرارَ في غايته ملحقًا بالقرارات الموضوعة للتضييق على التعليم العربي. ... والمساجد وأوقافها ابتلاع أوقاف المسلمين، والاستيلاءُ على مساجدهم، وإحالةُ بعضها كنائس ومتاحف ومستودعات، كل ذلك من أصول الاستعمار، وكل ذلك وقع في القطر الجزائري، واحتكارُ التصرف في المساجد والسيطرةُ على موظفيها أسلوبٌ من أساليب الإدارة الجزائرية، حافظتْ عليه في جميع عهودها لمعانٍ معلومة، ومقاصدَ مفهومة، وكلّ ما كتب في عهد الاحتلال من عهود، وكل ما بذل بعد ذلك من وعود، فهو شيء يكذّبه الواقع. وفصل الدين عن الحكومة مبدأ جمهوري فرنسي، ولكنه من أكذب المبادئ بالنسبة إلى دين الإسلام في الجزائر، فما زالت الإدارة الجزائرية في جميع عهودها متمسكة بما أوْرثها الاستعمار من مساجدنا أكثرَ وأشدّ من تمسك المتديّن بدينه، لا تبالي بحقوق طبيعية، ولا بمبادئ جمهورية، ولا بمفارقات دينية، ولا بعواطفَ إنسانية، ولا سبب لهذا الإمعان في التسلط والاحتكار إلا استضعاف المسلمين واحتقارهم، وإلا فما بالُ هذه الحكومة لم تتسلطْ على معابد اليهود، ولا نقول عن معابد المسيحيين، لأننا لسنا ممن يعتقد (لائكية) الحكومة الجزائرية الاستعمارية. جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باسم الأمة الجزائرية تريد بكل توكيد فصلَ الدين الإسلامي عن الحكومة، تحقيقًا للمبدإ الجمهوري وتسوية بين الأديان الثلاثة المتجاورة في الوطن الذي لو تساوَى أهله في حرية الأديان، وفي حرية الحياة، لكان أسعدَ الأوطان بأهله، ولكان أهله أسعد الناس به.

تريد الأمة فصلَ الدين عن الحكومة فصلًا حقيقيها واقعيًّا لا مواربة فيه ولا تعمية ولا تضليل، وأن تنفضَ الحكومة يدَها من الدين الإسلامي، وتبرئ ذمتها من أوقافه، فتسوّي مع ممثلي الأمة الذين تختارهم هي، لا الحكومة، مسألةَ الأوقاف، بالعدل والإنصاف، وتُسلم لهم المساجد تسليمًا مطلقًا، ليتصرفوا فيها تصرفًا مطلقًا، بحيث لا تتدخل لهم بعد الآن في تعيين إمام ولا غيره، ولا في ما يستحقونه من جراية ولا في تكوين جمعية دينية. وأن تتركَ الحكومة هذه المناورات التي طالما رأيناها سابقًا، وما زلنا نراها، من التفاهم مع شخص في مسألة خطيرة كهذه، أو اختيار هيئة من دون استشارة الأمة ولا رضاها، وإن أقرب هذه المناورات الحركةُ القائمة في هذه الأيام لتأسيس جمعيات دينية من الموظفين الرسميين، والأشخاص الحكوميين، الذين لا تثق بهم الأمة، ولا تطمئن إليهم في دينها ولا في دنياها. إن الأمة الإسلامية ترى أن المساجدَ والأوقافَ هما مسألة واحدة لا يمكن الفصل بينهما، كالشخص وظله، وإن الأمة لا ترضَى أن تستلم مساجدَها فقيرةً عريانة، ولا ترضَى أن يتولى المفاوضةَ عنها شخص أو هيئة تختارها الحكومة، ولا جمعيات دينية تكوّنها الحكومة؛ وتعد ذلك كله من باب نزع الشيء من اليد اليمنى، ووضعه في اليسرى، وإن الأمة أصبحتْ يقظةً حذرة من هذه المناورات، متفطنة لمراميها، لا تؤخذ في دينها بالخدَع. لا ترضى الأمة إلا بأن تختار هي الجمعيات الدينيةَ، بعيدةً عن المؤثرات الحكومية؛ وأن تنتخبَ تلك الجمعياتُ مجلسًا إسلاميًّا يتولى تسويةَ الأوقاف ويُولي وَيعزل، ويتصرف بعيدًا من المؤثرات الحكومية أيضًا، ولا يستمد قوّته إلا من المؤتمر السنوي للجمعيات الدينية. إن الأمة أصبحتْ لا تثق بشيء مما تمسه يد الحكومة من كل ما له علاقة بالدين، ولا سببَ لسوء الظن بالحكومة، وارتفاع الثقة بها إلا الحكومة نفسها، بسياستها الدينية المضطربة وتدخلها في ما لا يعنيها من شؤون الدين، وإصرارها على العناد في الحق، وتحدّيها لشعور الأمة؛ باختيارها من الحلول أبعدَها عن رضا الأمة، وفي الأخير بفرضها على الأمة طائفةً لا تبالي بمصلحة الأمة، كأن الأمة بعلمائها وعقلائها ودهمائها كلها سفيهة، ولا رشيد إلا هذه الفئة من المرتزقة الانتفاعيين. في السنة الماضية قرأت الأمة منشورَ الوالي العام المؤرخ بيوم 22 مارس سنة 1946 وفي أوله ما ترجمته بالحرف: "إن فصل الدين عن الدولة حسب القانون الذي نفذ على الجزائر سنتي 1905 و 1907 لم يمكن إلى يومنا هذا تطبيقه بدقة، وأهم سبب لهذا هو أن المسلمين أنفسهم تباطأوا في أمر الجمعيات الدينية التي نص على وجوبها القانون، فهم لم يؤسسوا في الكثير من الجهات جمعيات دينية، ولم يعملوا عملًا منظمًا في الجمعيات التي وقع تأسيسها، إلخ".

قرأت الأمة هذا فعجبتْ كيف يتهَم المسلمون بأنهم السببُ في تأخر فصل الدين عن الحكومة مع أن ذلك القانونَ الذي ذكره المنشور قيّد في حينه بقيد من حديد، وهو قرار تفويض التصرف في المساجد إلى الوالي العام لمدة معينة، ثم ما زالت تتجدد. وعجب المسلمون كيف يتهمون بالتراخي في تأسيس الجمعيات الدينية، وهم يرَوْن أن ما أسس منها بقيَ بلا عمل، حتى قتله الملل، لأن السيد "البريفي" (8) يولي ويعزل، ويتصرف بإرادته، بدون توقف على الجمعيات الدينية، فماذا تصنع هذه الجمعيات؛ إنها إذا أرادتْ أن تعملَ عملًا لا يرضي حاكمًا بسيطًا، خلق لها ضرّةً من جمعية أخرى، فإذا طالبتْ إحداهما بشيء قيلَ لها إنكما اثنتان فاتفقا، ومحالٌ أن تتفقا. ثم قرأت الأمة في آخر المنشور أمرَ السلطات الحكومية بأن تدفع الناس إلى تأسيس الجمعيات الدينية، وأن يوقظوا الجمعيات النائمة، إلخ. لماذا لم يوجهْ هذا الأمر إلى الأمة مباشرة، وتضمنُ لها الحريةُ التامةُ والأمان من تدخل الحكومة. ثم قرأت الأمة صورةَ عقد رسمي وُزّع على جميع الإدارات ليُمضيه حاكم البلدة المسيحي ورئيس جمعيتها الدينية المسلم، وفيه العجب العجاب، من بواعث القلق والاضطراب. ومنذ سنتين تقريبًا تأسست إدارة الإصلاحات، ولكنها إلى الآن لم تصلح شيئًا في دين ولا دنيا، وما زادت إلا أنها أقامت الدليلَ على أنها بنتُ إدارة الشؤون الأهلية، ورثتْ عن أمها كل خصائصها، ولم تخالفها إلا في الاسم. وفي هذه السنة رأت الأمة أن أعوان الحكومة من أوربيين آمرين، وأهليين مؤتمرين، منهمكون جميعهم في تكوين جمعيات دينية في كثير من البلدان، فما معنى هذا؛ معناه واضح مكشوف عند الأمة وغايته معروفة. لو جرى هذا وما أشبهه في مسألة من مسائل الدنيا، لفهمت الأمة أنه أسلوب من أساليب الحكومة الاستعمارية، تعذر فيه لأنها حكومة، ولكنه يجري في مسألة دينية، لا رأيَ فيها إلا لصاحب الحق وهو الأمة. إن هذه الحيل أصبحت مكشوفة، وإنها شواهد على سوء النية، وإن الأمة أصبحت على بيّنة من هذه المهازل، فلا تنام عن حق ولا تسكت عنه، وإن الأمة الإسلامية الجزائرية لا ترضى ببقاء الحالة على ما هي عليه، ولا ترضى بشيء من هذه الحلول التي تدبر في الظلام، ولا يرضيها إلا فصل صريح، تعلنه الحكومة في وضوح، وتترك المجالَ الحر للأمة لتنظم جمعياتها وتؤلف مجلسها الديني بحرية، ثم تتقدم للمحاسبة والاستلام.

_ 8) البريفي: كلمة فرنسية معناها المحافظ- الوالي.

جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها

جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها * - 1 - لجمعية العلماء أعمال ومواقف؛ لها أعمال في الميدان الديني، لا يتطرق إليها التبديل والتغيير؛ لأن المرجع فيها إلى نصوص الدين من كتاب الله، وصحيح السنة وإجماع السلف. ولها أعمال في ميدان التعليم العربي، لا يعتريها الفتور والتخاذل، ولا النكوص والتراجع؛ لأن الدافع إليها طبيعي وحيوي، والجمعية في هذين الميدانين إمام لا يقلد، وقائدٌ لا يستوحي، وحارسٌ لا يؤامر ولا يستشير. ولها في الحياة السياسية والاجتماعية للأمة الجزائرية آراء محصتها التجربة، وأيدها المنطق؛ ومواقف لم تراع فيها إلا المصلحة المحققة أو الراجحة، ولم تبال في مواقفها بمن طار ولا بمن وقع؛ فالطائر قد تصدمه نواميس الخفة والثقل، فينقلب مضعضعًا أو مكسورًا، والواقع قد تزعجه الحوادث فيتحرك مختارًا أو مقهورًا. ولجمعية العلماء أضداد في أعمالها، يقصرون جهودَهم على التنقيص منها، والزّراية بها؛ وخصومٌ في مواقفها، يلوون ألسنتهم بانتقادها واتهامها، ويُشيعون عليها قالة السوء والعيب؛ وأعداءٌ يقفون لها بالمرصاد في كلا الميدانين، فلا تعمل عملًا إلا تقوّلوا، ولا تقفُ موقفًا إلا تغوّلوا، وقد تجمع الغايةُ بين هؤلاء جميعًا، فيتكون منهم مزيج غريب، يجمعه قولك "أعداء العروبة والإسلام ". نسميهم بهذا على رغم أنوفهم، لأن أعمالهم وأقوالهم شاهدة عليهم بذلك.

_ * نشرت في العدد 2 من جريدة «البصائر»، 1 أوت سنة 1947.

من أعداء الجمعية الاستعمار وأنصاره وصنائعه، يعادونها لأنها وقفت بينهم وبين الأمة سدًّا، وفضحت سرائرهم في ما يبيتون للإسلام والعربية من كيد. ومن خصومها رجال الأحزاب السياسية من قومنا من أفراد وأحزاب، يضادونها كلما جروا مع الأهواء فلم توافقهم، وكلما أرادوا احتكار الزعامة في الأمة فلم تسمح لهم، وكلما طلبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر- كالانتخابات- فلم تستجب لهم، وكلما هاموا بالشعريات والخيالات، فردتهم إلى الحقائق، وكلما أرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم. الواقع أن جمعية العلماء لم تزل في نزاع وصراع مع هؤلاء جميعًا، وأن محل هذا النزاع وهدف هذا الصراع هو الأمة الجزائرية، فالجمعية تريدُها أمةً عربيةً مسلمةً كما هو قسمها في القدر، وحظها في التاريخ، وحقها في الإرث، وحقيقتها في الواقع والمصطلح- تريدها كذلك، وتعمل لتحقيق ذلك؛ والاستعمار يريدها هيكلًا لا تترابط أجزاؤه، ولا تتماسك أعضاؤه، يوجه وجهه إلى الغرب، ويمكن في أفكاره لأهواء الغرب، وفي لسانه لرطانات الغرب؛ بل يريد الاستعمار أن يقتلع جذور هذه الأمة من تربة، ويغرسها في تربة، فتأتي مضعوفة هزيلة، لا من هذه ولا من هذه. ورجال السياسة من قومنا يريدونها متبوَّأ لزعامتهم المزعومة، وسيادتهم الموهومة، فيعللونها بالأباطيل، ويروضونها على التصفيق والتهليل، ويسوسونها بطرقية سياسية، لا تختلف عن تلك الطرقية الدينية- التي حاربناها حتى قتلناها- في كثير ولا قليل. ... هذه هي الحقيقة طال عليها الكتمان حتى شابتها شوائب من الباطل، وأحاطت بها شبهات من الظنون الخاطئة، ولو كان هذا التشويه للحقائق مقصورًا علينا، ودائرًا في المدار الضيق من مجتمعاتنا، لهان الأمر؛ ولكن رياح الإعلان حملته إلى ما وراء الحدود، وأوصلته إلى إخوان لنا يسوءنا أن يفهمونا على غير حقيقتنا، وأوترتها في آذان يسوءنا أن تسمع عنا غير الحق، ويسوءنا بعد ذلك كله أن يبنى تاريخ نهضة الجزائر بغير أحجاره. إن جمعية العلماء لا يخرجها عن وقارها لغو اللاغين، فتجاريهم في الدعوى والإعلان، ولكنها تفخر بأعمالها ومواقفها ولا تقول إلا حقًّا. وإن «البصائر» بعد هذا السكوت الطويل يسرها أن تسجل للجمعية غرر أعمالها للإسلام والعروبة والجزائر، ومواقفها المشرفة لها ولهذه الثلاثة.

عملها في توجيه الأمة

عملها في توجيه الأمة: لا تستطيع هيئة من الهيئات العاملة لخير الجزائر أن تتعلق بغبار جمعية العلماء في هذا المضمار، أو تدعي أن لها يدًا مثل يدها في توجيه الأمة الجزائرية للصالحات، وتربيتها التربية العقلية والروحية المثمرة، ورياضتها على الفضيلة الشرقية الإسلامية، وتصحيح نظرتها للحياة، ووزنها للرجال، وتقديرها للأعمال. كل ذلك من اختصاصات جمعية العلماء، وكل ما تم منه فهو من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأوّل يد بيضاء لها في هذا الباب تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا، وتحرير النفوس من تأليه الأهواء والرجال، وإن تحرير العقول لأساسٌ لتحرير الأبدان، وأصْلٌ له، ومحال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا. إن هذا النوع من التحرير لا يقوم به، ولا يقوَى عليه، إلا العلماء الربانيون المصلحون، فهو أثر طبيعي للإصلاح الديني الذي اضطلعت بحمله جمعية العلماء، عرف ذلك من عرَفه لها إنصافًا، وأنكره من أنكره عنادًا وحسدًا. فما زادها اعتراف المعترف إلا نشاطًا، وما زادها جحودُ الجاحد إلا حزمًا وثباتًا. بذلك التحرير العقلي الذي أساسه توحيدُ الله، تمكنت الجمعية من توحيد الميول المختلفة، والمشارب المتباينة. والنزعات المتضاربة. وبذلك التحرير أيقظت في الأمة قوة التمييز بين الصالح من الرجال والصحيح من المبادئ، وبين الطالح والزائف منهما. وبذلك التحرير أراحت الأمة من أصنام كانت تتعبدها باسم الدين أو باسم السياسة. وبذلك التحرير زرعت البذرة الأولى لما يسمى الرأي العام في الجزائر، وتكوُّن الرأي العام بمعناه الصحيح هو بلوغ الرشد بالنسبة إلى الجماعات. إن الأمة الجزائرية، كغيرها من الأمم الإسلامية، ما سقطت في هذه الهوّة السحيقة من الانحطاط إلا حين فقدت القيادة الرشيدة في الدين، تلك القيادة التي هي قبس من شعلة الوحي، وشعبة من قوة النبوّة، والتي تنبثق عنها جماعات المسلمين، حينما يضرب الفساد والنخر في أصول مجتمعهم. فإذا وجدت الأمة هذه القيادة التي لا يسفهُ في يدها زمام، ولا تضطرب مقادة، وجدت نفسها، ومن وجد نفسه وجد الحقيقة.

عملها للعروبة

عملها للعروبة: ها هنا معاقد الفخار لجمعية العلماء، وها هنا معارج الصعود إلى التي لا فوقها، وها هنا تنمحي الغضاضة من المدح، فيكون تقريرًا من الحقيقة لنفسها، لا مدحًا من مادح؛ وإذا ملأت جمعية العلماء ماضيها فخرًا، وهزَّت أعطافها تيهًا، فلا حرج في ذلك. دع الطنطنة لعشاق المظاهر والتهاويل، ودع الأصداء الفارغة تجب نفسها، ودع الدعوى للمتشبعين بما ليس فيهم، وهات الحقيقة التي لا تدحض، والحجة التي لا تنقض. إن العروبة جذم بشري من أرسخها عرقًا، وأطيبها عذقًا، عرفه التاريخ باديًا وحاضرًا، وعرف فيه الحكمة والنبوّة، وعرفته الفطرة لأول عهودها فتبنَّتْهُ صغيرًا وحالفته كبيرًا. وإن العربية هي لسان العروبة، الناطق بأمجادها، الناشر لمفاخرها وحكمها؛ فكل مدع للعروبة فشاهده لسانه، وكل معتز بالعروبة فهو ذليل، إلا أن تمده هذه المضغة اللينةُ بالنصر والتأييد، فلينظر أدعياء العروبة، الذين لا يديرون ألسنتهم على بيانها، ولا يديرون أفكارهم على حكمتها، في أي منزلة يضعون أنفسهم. إن الشعب الجزائري فرع باسق من تلك الدوحة الفينانة وزهرة عبقة من تلك الروضة الغناء، عَدَت عليه عوادي الدهر، فنسي مجد العروبة، ولكنه لم ينس أبوتها، وابتلاه الاستعمار- عن قصد- بالبلبلة، فانحرفت فيه الحروف عن مخارجها إلا الضاد؛ ولم يبق من العروبة مع هذا وذاك إلا سماتٌ وشمائل، ولا من العربية إلا آيات ومخائل. وجاءت جمعية العلماء، على عبوس من الدهر، وتنكر من الأقوياء، فنفخت من روح العروبة في تلك الأنساب، فإذا هي صريحة، وسكبت من سر البيان العربي في تلك الألسنة، فإذا هي فصيحة، وأجالت الأقلام في كشف تلك الكنوز فإذا هي ناصعةٌ بيضاء لم يزدها تقادم الزمان إلا جدة. جمعية العلماء هي التي حققت للجزائري نسبه العربي الصريح، بريئًا من شوائب الإقراف والهجنة، وأحيت في نفسه شعور الاعتزاز بنفسه، وفي لسانه شعور الكرامة للغته، وفي ضميره شعور الارتباط بين المقومات الثلاثة: الجنس واللغة والوطن، يمدّها الشرق بسناه، ويغذّيها الإسلام بروحانيته. وجمعية العلماء هي التي أثبتت للاستعمار أن الدماء البربرية التي مازجت الدم العربي أصبحت عربية بحكم الإسلام، وبحكم العمومة والخؤولة الممتدتين في سلسلة من الزمن، ذرعها ثلاثة عشر قرنًا، مزاجٌ فطري، أحكمت القدرة تداخل أجزائه، والتحامٌ نسبي وصل التاريخ أطرافه مرتين ..

كأن الجزيرة العربية أم رؤوم لهذا الشمال، تعدّه فلذةً من كبدها، فهي تعطف عليه وتحن إليه، وتجعل منه مراوح لِقَيْظها، وضفافًا لفيضها، حنت إليه في حقبة غابرة من التاريخ، فرمته بقبائل يمانين، من بنيها الميامين، ينقلون إليه الدماء والخصائص، والمكارم والمفاخر، وحنت إليه بعد الإسلام، فأوفدت إليه الغر البهاليل من أصحاب محمد، يحملون الرحمة والسلام والبيان، ويفتحون الأذهان والعقول والأفكار؛ وما كانت غارة هلال بن عامر في المائة الخامسة للهجرة- على ما فيها من الهنات- إلا تلقيحًا لتلك الدماء التي أثَّرت فيها مؤثرات الهواء والتربة، وطول الثواء والغربة، وعمل فيها تداول الأمم الفاتحة، وتعاقبُ الدِّلاء الماتحة. هذا بعض ما قدمته جمعية العلماء للعروبة من صنائع لهذا الوطن، تفخر به من غير منّ، وتجود به من غير ضنّ، ولولا الحياءُ لقالت أكثر من ذلك، ولَتَحَدَّتْ كل العاملين في الشرق العربي لرفعة العربية وإعلاء شأنها بين اللغات، بأنها عملت لها أكثر مما عملوا، عملوا لها وهم أحرار آمنون، في بلد لسانه وجنسه عربيان وحاكمه ومحكومه عربيَّان، وعملنا لها تحت زمجرة الاستعمار ودمدمة أنصاره، وأنقذناها من بين أنيابه وأظفاره. رفعنا منارها في وطن لم يبقِ الاستعمار من عروبته إلا "اسم الجنس"، يضربه مثلًا للدناءة والخسة وللجهل والانحطاط، ولم يبق من عربيته إلا "اسم الفعل" يجعله رمزًا للبذاءة والسباب والشتم. وفي أمة أشاع الاستعمار في جوانبها جاهليةً بلا مكارم، وأميةً بلا شعر، وفي جيل مخضرم مفتون، أعرضهم في العروبة دعوى هو أكبرُهم عقوقًا للعربية، وأشدّهم بالقومية تبجحًا هو أشدّهم نكايةً فيها، ومقاومةً لتعليمها ونشرها.

موقفها من السياسة والساسة

جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها موقفها من السياسة والساسة * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 2 - للسياسة في جميع بلاد الله وعند جميع خلقه معنىً محدودٌ قارٌّ في حيزه من الإدراك، إلا في هذا البلد وعند حكومته الاستعمارية وساسته المقلدين، فإن معناها غير محدود ولا مستقرّ، يتسع إلى أقصى حدود الاتساع، فيحمل ما قارب وما باعد، وما جانس وما خالف، وما اطّرد وما شذَّ، ويضيق إلى أقصى حدود الضيق، فتلتوي مسالكه، وتنسدّ مجاريه، وتتهافتُ أقيسته، ولا يتبين فيه مورد من مصدر، كل ذلك بالتبع لأهواء الاستعمار المتباينة، وأهويته المتناوحة، والاستعمار كله رجسٌ من عمل الشيطان، فغيرُ غريب أن يكون من خصائصه تغيير الأوضاع والمعاني، ليصحح لنفسه الألوهيّة المزوّرة ولو إلى حين. على أن معنى السياسة عندنا- في تردده بين طرفي السعة والضيق- يتسفّل دائمًا ولا يعلو، ويتبذل أبدًا ولا يسمو، ويوشك هذا اللفظ بسوء تصريف الاستعمار له أن يصبح بلا معنى كالألفاظ المهملة، وكما جازف الاستعمارُ قبل اليوم بكلمة "عدو فرنسا" يرمي بها قي غير هدف، ويسم بها كل مَن هبّ ودبّ، فكان من آثار ذلك أن نبه الناس إلى عداوة فرنسا، وفتح لهم بما يردّد من لفظها، وبما يُبدع من أسبابها، أبوابًا وطرائق، كذلك جازف بكلمة السياسة، يرمي بها حتى المصلين والحجاج، فكان من آثار ذلك أن غمرت الناس هذه الموجة المكتسحة من السياسة، ولا يجني الظالم إلا على نفسه، وإذا أراد الله بأمة خيرًا جعل يقظتها على أيدي أعدائها. أما إن السياسة تكون خيرًا لأقوام، وشرًّا لآخرين، وتكون عقود حلية كما تكون عُقَدَ خنق، فهذا ما قرأناه في قاموس الاستعمار وعلمناه من مذاهبه، وهو- على علاته- مقبول،

_ * نشرت في العدد 3 من جريدة «البصائر»، 8 أوت سنة 1947.

إذا كان للسياسة معناها المعقول، ولكن السخافة كلها في هذا التبذّل الذي أصبحت معه كلمة السياسة كلفظ "البعبع"- هذا يخوف به الصغار، ولا حقيقة له، وتلك يخوَّف بها الكبار، ولا معنى لها؛ وما جاء هذا البلاء إلا من الوضعية الشاذة التي بني عليها نظام الحكم الاستعماري على المسلمين في الجزائر- حكومةٌ "لائكية" في الظاهر، مسيحية في الواقع، جمهوريةٌ على الورق، فردية في الحقيقة؛ تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم؛ وما دامت هذه السيادة سائدة، وما دامت العنصرية موجودة، فإن هذه اللفظة (لفظة السياسة) تبقى ذليلةً مهينة، مجردةً من جلالها وسُموها، نجدها في باب الإجرام والاتهام، أكثر مما نجدها في باب الإكبار والاحترام. إن أعلى معاني السياسة عند الحاكمين هو تدبير الممالك بالقانون والنظام، وحياطة الشعوب بالإنصاف والإحسان، فإذا نزلوا بها صارت إلى معنى التحيل على الضعيف ليؤكل، وقتل مقوّماته ليهضم، والكيد للمستيقظ حتى ينام، والهدهدة للنائم حتى لا يستيقظ. وهذا المعنى الأخير هو الذي جرى عليه الاستعمار، ووضعه في قواميسه، وأقرّه في موضعه من نفوس رجاله ودُعاته؛ بحيث إذا أطلق بينهم لفظ السياسة لا يفهمون منه إلا هذا؛ وتراهم يحرّمون على الشعوب الخاضعة لهم- الخوض في هذا المعنى السافل، لئلا يجرّهم إلى الخوض في المعنى العالي، وتراهم يهيئون لتلك الشعوب من قشور ذلك المعنى وفتاته تعلات يلهونهم بها إذا بلغ بهم التبرم حده، ومن هذه التعلات الانتخابات الناقصة التي فتح الاستعمار للجزائريين كوّةً منها، فلم تدخل عليهم إلا الشر وضياع الأموال وتمزيق الوحدة. هذا معنى السياسة عند الحاكمين، عاليًا ونازلًا، أما عند المحكومين فأعلى معانيها إحياءُ المقومات التي ماتت أو ضعفت أو تراخت، من دين ولغة وجنس وأخلاق وتاريخ وتقاليد، وتصحيحُ قواعدها في النفوس، ثم المطالبةُ بالحقوق الضائعة في منطق وإيمان، ثم الإصرارُ على المطالبة في قوة وشدة، ثم التصلبُ في الإصرار في استماتة وتضحية، مع اختيار الفرص الملائمة لكل حالة؛ درجاتٌ بعضها فوق بعض؛ فإذا نزلوا بها صارت إلى هذا التحاسد على الرياسة، وهذا التهافت على كراسي النيابة، وهذه المناقشات الفارغة في القشور، وهذا الجدل الشاتم السباب، وهذا الافتتان المزري بالأشخاص، وكل ذلك نراه على أقبح صوره في المجتمع الجزائري، في حين أن ذلك كله ليس من مصلحة الأمة الجزائرية، ولا في فائدة قضيتها، بل هو كله في مصلحة الاستعمار. إن هذه السفاسفَ لم تبنَ على مقاصدَ صحيحة، فلم تأت بنتائج صحيحة، ولم تنشأ عن إيمان راسخ، فلم تظهر لها ثمرةٌ ناضجة، ولما بليت السرائر تبين أن سياسيينا كلهم

يتسابقون إلى غاية واحدة، هي كراسي النيابات وما يتبعها من الألقاب والمرتبات، وإذا كل شيء مبدأُه السياسة فنهايته التجارة؛ والأعمال بخواتمها. هذه هي السياسة في الجزائر بين الحاكم والمحكوم؛ يجعلها الأولُ أداة مساومة، وفخ اقتناص للمذبذبين، وسلاح ترهيب وتخويف للمخلصين، ويجعلها الثاني وسيلة جاه، وذريعة تضليل للأمة، وقد بلوناها، وخبرناها، وحاولنا إصلاحها في رجال السياسة منا، إشفاقًا على هذه الأمة الصالحة، فبحت الأصوات، وأَكْدَت الوسائل، فلا يقولن قائل فيها وفينا غير هذا فأهل مكة أدرى بشعابها. أما جمعية العلماء فليست من أولئك ولا من هؤلاء، ولكنها- بطبيعة الحال وبمكانتها من الأمة- متهمة من أولئك وهؤلاء. يقول عنها الاستعمار في معرض التبرم بها والتسخط عليها: إنها جمعية سياسية في ثوب ديني، وإنها تستر القومية بستار الدين، وتخفي الوطنية بخفاء (1) العلم والعربية؛ ويتنطع في بعض نوباته العصبية فيقول عنها: إنها تخدم سياسةً أجنبية، ويجاري الطبيعة أحيانًا فيقول: إنها تعمل للجامعة العربية أو الإسلامية، ويلبس مسوح الرهبان تارةً أخرى فيشوب التهديد بالوعظ، ويقول لنا: إن جلال العلم لا يتفق مع أوساخ السياسة، وتغلب عليه طباع السوء فيقذف بأعضاء الجمعية في السجون، ويُلقي بهم في المعتقلات مع المجرمين. ويقول عنها ساسة الانتخاب منا والمسحورون بكراسي النيابات، أقوالًا تختلف باختلاف أهوائهم فيها، وتباين مبادئهم ومبادئها، فيقول الموتورون في الانتخاب: إنها نصرت فريقًا على فريق، ويحملهم الغلوّ في الحزبية على القول بأنها رجحت مبدأ على مبدإ. ويقول آخرون قطعت الطريق بينهم وبين الأمة: إنها تدخلت في السياسة وما ينبغي لها، لأنها لا تحسن السياسة ولا تنطقُ بلسانها؛ لسان السياسة أعجميٌ، ولسانها عربيّ مبين ... آراء وأقاويلُ لا يراد بها وجه الحق، ولا مصلحة الوطن، وإنما يراد بها إرضاء النزعات الحزبية المبنية على التحاسد في ما لا يتحاسد عليه العقلاء. ثم يلتقي هؤلاء جميعًا مع الاستعمار في نقطة اتصال، تلجئهم إليها الضرورة إلجاء، حتى يصير المختار فيها كالمكره؛ وهي حرب الجمعية، لا لأنها سياسية، ولا لأنها تدخلت في السياسة، بل لأنها أثبتت للعروبة حقها في هذا الوطن، وأثبتت للعربية حظها في ألسنة بنيه، وأثبتت للإسلام سلطانه على مهجهم وأرواحهم.

_ 1) الخفاء بالكسر: الستر الذي يخفي.

وجمعية العلماء تقول لهؤلاء مجتمعين: تجمعتم من كل أَوْبٍ وبَلْدَةٍ … على واحد، لا زلتمُ قِرنَ واحد ثم تقول لكل فريق على انفراد ما يلجم فاه، وإن لم يردعه عن هواه، تقول للاستعمار: إنه لا يصدُقك جلية الجمعية إلا الجمعية، لأن دينها يأبى عليها الكذب والرياء والنفاق، وهي الأقانيم الثلاثة التي يقوم عليها الاستعمار. إن جمعية العلماء أشرف من أن تعمل لغير مبدئها، أو تسخر مواهبها في خدمة الغير كائنًا من كان، ولو كانت فاعلة للانت لترغيبك وترهيبك. (يا حضرة الاستعمار) إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده، وتفهيم حقائقه، وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافه إلى أهلهما. وتطالبك باستقلال قضائه. وتسمي عدوانك على الإسلام ولسانه ومعابده وقضائه، عدوانًا بصريح اللفظ. وتطالبك بحرية التعليم العربي. وتدافع عن الذاتية الجزائرية التي هي عبارة عن العروبة والإسلام مجتمعين في وطن. وتعمل لإحياء اللغة العربية وآدابها وتاريخها، في موطن عربي وبين قوم من العرب. وتعمل لتوحيد كلمة المسلمين في الدين والدنيا. وتعمل لتمكين أخوّة الإسلام العامة بين المسلمين كلهم. وتذكر المسلمين الذين يبلغهم صوتها بحقائق دينهم وسيَر أعلامهم وأمجاد تاريخهم. وتعمل لتقوية رابطة العروبة بين العربي والعربي، لأن ذلك طريق إلى خدمة اللغة والأدب. فإذا كانت هذه الأعمال تعدّ- في فهمك ونظرك- سياسة، فنحن سياسيون في العلانية لا في السر، وبالصراحة لا بالجمجمة. إننا نعد كل هذا دينًا على الحقيقة لا على التوسع والتخيل، ونعدّه من واجبات الإسلام التي لا نخرج من عهدتها إلا بأدائها على وجهها الصحيح الكامل. ولتعلم أننا نفهم الإسلام على حقيقته، وأننا لا نستنزل عن ذلك الفهم برقية راق، ولا بتهديد مهدِّد، ولتعلم سلفًا، ولتسلم منطقيًّا وواقعيًّا أننا حين تختلف الأنظار بينك وبين

الإسلام، فنحن مع الإسلام، لأننا مسلمون، ولتعلم أن تلك الأعمال تقزيدنا مع جلال العلم جلال العمل. لتعلم أنه ما دام الإسلامُ عقيدةً وشعائر، وقرآنًا، وحديثًا، وقبلة واحدة، فالمسلمون كلهم أمة واحدة، وما دامت اللغة العربية لسانًا وبيانًا وترجمانًا فالعرب كلهم أمة واحدة؛ كل ذلك كما أراد القدر المقدور، والطبيعة المطبوعة، والأعراق المتواصلة، والأرحام المتشابكة، فلا "إسلام جزائري" (2) كما تريد، ولا عنصرية بربرية كما تشاء. ولتعلم- آخر ما تعلم- أن زمنًا كنتَ تسلط فيه المسلم على المسلم ليقتله في سبيلك، قد انقضى وأنه لا يعود ... ولكن ما قولك- أيها الاستعمار- في تدخلك في ديننا، وابتلاعك لأوقافنا، واحتكارك للتصرف في وظائف ديننا، وتحكمك في شعائرنا، وتسلطك على قضائنا، وامتهانك للغتنا؛ ما قولك في كل ذلك، أهو من الدين أم من السياسة؟ وكيف تبيح لنفسك التدخل فيما لا يعنيك من شؤون ديننا، ثم تحرم علينا الدخول فيما يعنينا من شؤون دنيانا؟ وهبنا وإياك فريقين، فريق أخضع الدين للسياسة ظالمًا، وفريق أدخل السياسة في الدين متظلمًا، فهل يستويان؟ إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حاكمتنا إلى القوة غلبتنا؛ ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق لا للقوة.

_ 2) الإسلام الجزائري هو غاية كان يعمل لها الاستعمار بجميع الوسائل ليفصل على مر الزمن بين مسلمي الجزائر وبين بقية المسلمين، ولكن الله خيبه.

جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها

جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها * - 3 - ثم نقول لبعض إخواننا وساستنا الذين يناوئون جمعية العلماء، وهي مادّة قوتهم، وعماد أعمالهم، وأصل فروعهم، ومجمع غاياتهم التي يعملون لها إن كانوا صادقين، نقول لهم على اختلاف نزَعاتهم من أفراد وجماعات: إن السياسة لباب وقشور، وإن حظ الكثير منكم- مع الأسف والمعذرة- القشورُ دون اللباب. أما لباب السياسة بمعناها العام عند جميع العقلاء فهو عبارة واحدة: إيجاد الأمة، ولا توجد الأمة إلا بتثبيت مقوّماتها من جنس، ولغة، ودين، وتقاليدَ صحيحة، وعادات صالحة، وفضائلَ جنسية أصيلة، وبتصحيح عقيدتها وإيمانها بالحياة، وبتربيتها على الاعتداد بنفسها، والاعتزاز بقوّتها المعنوية، والمغالاة بقيمتها وبميراثها، وبالإمعان في ذلك كله حتى يكون لها عقيدةً راسخة تناضل عنها، وتستميت في سبيلها، وترَى أنّ وجود تلك المقومات شرط لوجودها، فإذا انعدم الشرط انعدم المشروط، ثم يفيض عليها من مجموع تلك الحالات إلهام لا يغالب ولا يردّ، بأن تلك المقوّمات متى اجتمعت تلاقحت، ومتى تلاقحت ولدَت " وطنًا". فاسمحوا لنا حين نفتخر بأن هذا اللُّبابَ من حظ جمعية العلماء، له عملت، وفي ميدانه سابقت فسبقت، وفي سبيله لقيت الأذى والكيد والاتهام، وفي معناه اصطدم فهمها بفهم الاستعمار، هي تفهمه دينًا، وهو يفهمه سياسة، اسمحوا لنا حين نعتقد أن حظ بعضكم من هذا اللباب صفر في صفر، فإن لوَوْا ألسنتهم بشيء من ذلك كذبتهم أعمالهم، وصدمهم الواقع، وإذا حاولوا شيئًا من ذلك شفّ ثوبُ التصنع عما تحته فافتضحوا. إن جمعية العلماء تبني المقوّمات التي لا تكون الأمة أمةً إلا بها، ولا تكون وحدةً متماسكة الأجزاء إلا بالمحافظة عليها، فواجب على كل سياسي مخلص أن

_ * نشرت في العدد 4 من جريدة «البصائر»، 29 أوت سنة 1947.

يعينها على ذلك، وينشطها، ويعرف لها أعمالها، لا أن يخذلها ويئبطها ويبسط لسانه بالسوء فيها. وان الاستعمار ما عكف على هدم تلك المقوّمات قرنًا كاملًا إلا لأنه كان يعلم أن سيأتي يوم يصيح فيه صائح بكلمة "حقي"، فقدّرَ لذلك اليوم، ولذلك الصائح، أنهما لا يأتيان، حتى لا تكون هذه الأمة في موضعها من الأرض لأنها أضاعته، ولا في موضعها من التاريخ لأنها نسيته؛ ولعمري إذا لم توجد الأمة فما صياحُ الصائحين إلا نفخ في رماد. إن جمعية العلماء تعمل لسياسة التربية لأنها الأصل، وبعض ساستنا- مع الأسف- يعملون لتربية السياسة، ولا يعلمون أنها فرع لا يقوم إلا على أصله؛ وأيُّ عاقل لا يدرك أن الأصول مقدَّمةٌ على الفروع، وإن الاستعمار لأفقه وأقوى زكانة، وأصدقُ حدْسًا، من هؤلاء حين يسمي أعمالَ جمعية العلماء سياسة، وما هي بالسياسة في معناها المعروف ولا قريبة منه، ولكنه يسميها كذلك لأنه يعرف نتائجها وآثارها، وأنها اللُّباب وغيرها القشور؛ ويعرف أنها إيجاد لما أعدَم، وبناء لما هدَم، وزرعٌ لما قلع، وتجديد لما أتلف، وفي كلمة واحدة، هي تحد صارخ لأسلوبه، وما خدعناه في ذلك- والله- ولا ضلّلناه، وإنها لنقطة اصطدام على الحقيقة بين نظر الجمعية وبين نظر الاستعمار؛ فلا الإسلام يسمح لنا أن نعمل غير ما عملناه، ولا الاستعمار يرضى عن ذلك العمل، وقد أجبناه وانتهينا، ومضَينا وما انثنينا. أَيُريد هؤلاء أن يبنوا الفروع على غير أصولها، فيبوءوا بضياع الأصل والفرع معًا؟ أم يريدون أن يجعلوا الفروع سلمًا للأصول، على طريقة أبي دلامة (1)، فيبوءوا باختلال المنطق وفساد القياس؟! إننا نعدّ ضعف النتائج من أعمال الأحزاب في هذا الشرق العربي كله آتيًا من غفلتهم أو تغافلهم عن هذه الأصول، ومن إهمالهم لتربية الجماهير وتصحيح مقوّماتها، حتى تصبحَ أمةً وقوةً ورَأيًا عامًّا وما شاء الحق؛ ومن ترويضهم إياها على لفظ الحق قبل اعتقاد استحقاقه، وعلى لفظ الخصم قبل إحضار الحجة، وعلى لفظ العدو قبل أخذ الحيطة؛ ومن اغترارهم بالظواهر قبل سبْر البواطن، وبالسطحيات قبل وزن الجوهريات، وبالأقوال قبل أن تشهد الأفعال، ففي الوقت الذي كان فيه جمال الدين الأفغاني يضع أساس الوطنية الإسلامية على صخرة الإسلام الصحيح، ويهيب بالمسلمين أن ينفضوا أيديهم من ملوكهم ورؤسائهم وفقهائهم، لأنهم أصل بلائهم وشقائهم، وفي الوقت الذي كان محمد عبده يطيل ذلك البناء ويعليه كان مصطفى كامل- على إخلاصه لدينه ووطنه- يوجه الأمة المصرية إلى مقام

_ 1) حكايته مع بعض الخلفاء مشهورة حين حكمه في الجائزة فاقترح كلب صيد ثم ترقى منه إلى طلب خادم وزوجة تطبخ الصيد ودار تؤوي الجميع، إلخ.

الخلافة العظمى المتداعي، ويخيف الاستعمارَ بشبح لا يخيف، ثم جرَت الأحزابُ المصرية إلى الآن على ذلك المنهج: إهمال شنيع لتربية الأمة وتقوية مقوماتها، وتطاحنٌ أشنع على الرياسة والحكم، وترديدٌ لكلمة الوطنية دون تثبيت لدعائمها، وتغن بمصالح الوطن وهي ضائعة، وترام بالتهم، والجريمةُ عالقة بالجميع، وتقديسٌ للأشخاص، والمبادئ مهدورة، والاستعمار من وراء الجميع يضحك ملءَ شدقيه، وينام ملءَ عينيه. ليت شعري: إذا كان من خصائص الاستعمار أنه يمحق المقوِّمات ويميتها، ثم يكون من خصائص أغلب الأحزاب أنها تهملها ولا تلتفت إليها، فهل يلام العقلاء إذا حكموا بأن هذه الأحزابَ شر على الشرق من الاستعمار، لأن الاستعمار يأتيه من حيث يحذَر، والحذر- دائمًا- يقظ، أما هذه الأحزاب فإنها تأتيه من حيث يأمن، والآمن أبدًا نائم، فإذا انضم إلى هذا الداء المستشري خلاف الأحزاب ومنازعاتها، كانت النتيجة الطبيعية ما نرى وما نسمع، وقد أصبح هذا الشرق في تعدّد أحزابه السياسية كعهده في الخلافة العباسية يوم كان كل خلاف جدليّ في لفظة يسفر عن فرقة أو فرق، وكل مجلس مناظرة بين فريفين ينفضّ عن ثالث ورابع، ونراهم يقولون: إن كثرة الأحزاب في أمة عنوان يقظتها وانتباهها، وضمانُ وصولها إلى حقها، ولكننا لم نرَ من تعدد الأحزاب إلا نقصًا في القوة، ونقضًا للوحدة، وتنفيسًا على الخصم، واشتغالًا من بعضهم ببعضهم؛ وتعالتْ كلمة القرآن، فإنه لا يكاد يذكر الأحزابَ بلفظ الجمع إلا في مقام الخلاف والهزيمة {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ}، ولا يكاد يذكر الحزب بلفظ المفرد إلا في مقام الخير والفلاح {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وإن حزبَ الله في الأمة الجزائرية هو جمعية العلماء، وانها لمفلحة لا محالة. إن من الغفلة والبله أن نقيس أحزابنا بالأحزاب الأوروبية، فإن تلك الأحزابَ ظهرتْ في أمم استكملتْ تربيتها وصححتْ مقوماتها، بدعوة دعاة جمعوا الكلمة، وعلماءَ أحيوا اللغة، ومعلمين راضوا الأجيال على ذلك، وأينَ نحن وأحزابنا من ذلك؟ يا إخواننا- خطاب عطف وتشريف- لسنا والله نبغضكم، فما أنتم إلا جزء منا، ولسنا والله نحتقركم فما أنتم إلا رأس مال هذه الأمة الفقيرة، ولسنا والله نتهمكم بممالأة الاستعمار فأنتم عندنا أجلّ من ذلك، ولكننا نعدّ مقاومةَ المقاومين منكم لجمعية العلماء ناشئةً عن بعدهم عن التربية الإسلامية والثقافة العربية، ونجد في كل عيب من عيوبهم أثرًا بارزًا من آثار الاستعمار في تربيتهم. إن أقبح ما في أساليبكم أنكم تقسرون المبادئ على الخضوع للشخصيات في أمة حديثة عهد بعبادة الأشخاص، فتعرضونهما معًا للضياع، وأن أسوأ أعمالكم احتقاركم للسواد الأعظم من الأمة- وهي أمتكم- فلا تفكرون في إعدادها، ولا في درجة استعدادها، ولا

تلتفتون إلى تصحيح الأسس فيها، ولا تعبأون بدينها ولا بلغتها، ولا تظهرون بالمظاهر التي تقربكم منها، ولا تنيرون أمامها السبلَ ببرامجَ واضحة ومبادئ معقولة، ولا تشركونها في رأي ولا مشورة، ولا تتصلون بها إلا حين ينعق غراب الانتخاب. إن منكم من يحتقر لغةَ الأمة فلا يقيم لها وزنًا، وفيكم من يحتقر دينها فلا يقرأ له حسابًا، وفيكم من يحتقر بناتها فلا يتزوج منهن، وفيكم من يأنف من خؤولتها لأبنائه فيختار لهم أخوالًا غرباء، وإن بعض ذلك لقدْح محسوس في أمتكم الحاضرة، وإن بعضه لسم مدسوس في أعراق أمتكم المقبلة؛ فيا ويحكم هل هذا كله إلا من آثار الاستعمار في نفوسكم، شعرتم أم لم تشعروا؟ يا إخواننا! إنكم أحرجتمونا بأعمالكم وأقوالكم وأحوالكم، فأخرجتمونا من مقام التلطف في النصيحة إلى مقام الإيجاع في التنديد؛ وأردتم أن تثلموا سيفًا من سيوف الحق، فلا تلوموه إذا خشن متنه وآلم جرحه، فتجرّعوا هذه النصائح على مرارتها في لهواتكم، فما نحن- بمكاننا في الدين- أقل من أن ننصح، ولا أنتم- بمكانتكم في أنفسكم- أجل من أن تنتصحوا. يا إخواننا! إن الدعوى والزعم وسفاسف الأقوال وتوافه الأعمال وتصغير الكبائر وتكبير الصغائر، كلّ ذلك مما لا تقوم عليه عقيدةٌ سياسية ولا تربيةٌ وطنية. إننا لو جمعنا كل آرائكم في السياسة، وفرضنا تحقيقها لما أفادت الأمة شيئًا وهي بهذه الحالة من التربية فكيف وأنتم متباينون؛ وكيف وأنتم مع الخلاف يكفر بعضُكم ببعض، ويلعنُ بعضُكم بعضًا؟ إن وراء السياسة شيئًا اسمه الكياسة، وهي خلق ضروري للسياسي، وإن السياسي الذي يحترم نفسه، يحترم غيره مهما خالفه في الرأي، ومهما كان الخلاف جوهريًّا، فإذا لزم النقد، فلا يكون الباعث عليه الحقد، وليكن موجهًا إلى الآراء بالتمحيص، لا إلى الأشخاص بالتنقيص. إننا لا نتصور كيف يخدم السياسي أمته بتقطيع أوصالها، وشتم رجالها، وتسفيه كل رأي إلا رأيه، ولا نتصوّر أن مما تخدم به الأمة هذه الدروس (العالية) في أساليب السبّ التي يلقنها بعض الأحزاب لطائفة من شباب الأمة في (معاهد) المقاهي والأزقة؛ إن تضرية الشبان على الشتم والسباب جريمة لا تغتفر ... إن شباب الأمة هو الدم الجديد في حياتها؛ فمن الواجب أن يصان هذا الدم عن أخلاط الفساد؛ ومن الواجب أن يتمثَّل فيهم الطهر والفضيلة والخير، ومن الواجب أن تربى ألسنتهم على الصدق وقول الحق، لا على البذاء وعورات الكلام.

يا قومنا! إننا نخشى أن تفسدوا على الأمة (بهذه الدروس) جيلًا كاملًا كنا نجهد أنفسنا في تربيته على طهارة الإسلام، وهمم العرب، ومجد العروبة، والإيمان بحقوق الوطن، والعمل على تحقيق استقلاله وحرّيته، ونبنيه طبقًا عن طبق، ونعلي أخلاقه خلقًا عن خلق، نخشى أن تضيّعوا على الأمة هذا الجيل، وتفسدوا مواهبه، وتلهوه بالمناقشات الحزبية عن الحقائق القومية. نخشى ذلك ... ونخشى أكثر منه على هذه الطائفة المقبلة على العلم المنكبّة على تحصيله ... هذه الطلائع التي هي آمال الأمة، ومناطُ رجائها، والتي لا تحقّق رجاءَ الأمة إلا إذا انقطعت إلى العلم وتخصّصت في فروعه، ثم زحفت إلى ميادين العمل مستكملة الأدوات تامة التسلّح، تتولى القيادة بإرشاد العلم، وتحسن الإدارة بنظام العلم، فتثأر لأمّتها من الجهل بالمعرفة، ومن الفقر بالغنى، ومن الضعف بالقوة، ومن العبودية بالتحرير، وتكتسح من ميدان الدين بقايا الدجالين، ومن ميدان السياسة والنيابة بقايا السماسرة والمتّجرين، ومن أفق الرياسة بقايا المشعوذين والأميين. هذه الطائفة الطاهرة، الطائفة بمناسك العلم، قد ألهبتم في أطرافها الحريق بسوء تصرفكم، فبدأت تنصرف من رحاب العلم إلى أفنية المقاهي، ومن إجماع العلم إلى خلاف الحزبية. إن من طلّاب العلم هؤلاء من يدرسُ الدين، وإن الدين لا يجيز لدارسه أن يفتي في أحكامه إلا بعد استحكام الملكة واستجماع الأدلة حذرًا من تحليل محرم، وإن منهم الدارسَ للطبّ، وإن قانون الطب لا يجيزُ لدارسه أن يضعَ مبضعًا في جسم إلا بعد تدريب وإجازة خوفًا من إتلاف شخص ... فهل بلغ من هوان الأمة عليكم أن تضعوا حظها في الحياة في منزلة أحطّ من حظ امرأة في طلاق، وأن تجعلوا حقّها في الدواء أبخسَ من حق مريض على طبيبه؟ .. إنها- والله- لجريمة يقيم بها مرتكبوها الدليلَ على أنهم أعداء للعلم، وقطّاع لطريقه، أم يقولون: "لا علم بدون استقلال" فيعاكسون سنّة الله التي تقول: "لا استقلال بدون علم"، أم يقولون ما قاله كبير منهم: "إن محمدًا لم يأت بالعلم وإنما أتى بالسياسة" و "إن روسيا لم تفلح بالعلم وإنما أفلحت بالسياسة"؟ ... يا قومنا! إن الأمة تنظر إلى الأعمال لا إلى العقائد، وإننا لنتوقّع أن تشعر الأمة بما في سلوككم من اضطراب وتناقض بين المبادئ والأعمال فتتزعزع ثقتها بالأحزاب جميعًا، ويذهب الحق في الباطل، وإننا- والله- لا نرضى لكم هذه العاقبة، ولا نرضى لأمة فقيرة من الرجال أن يسوء ظنّها برجالها.

هذه نصائح مريرة، وحقائق شهيرة، لم نسمّ فيها أحدًا، فمن استفزّه الغضب منها، أو نزا به الألم من وقعها، فهو المريب، يكاد يقول: خذوني. وبعد، فإن جمعية العلماء فوق الأحزاب كلها، ما ظهر منها وما بطن، وإن مبدأها أعلى من المبادئ كلها، ما استسرّ منها وما علن، ولقد اتصلت بجميع الأحزاب فرادَى ومجتمعين في المصالح العامة، فأرتْهم بأقوالها وأعمالها أنها فوق الأحزاب، وقد احتكّت بها جميع الأحزاب، من خاطب لوُدّها إجلالًا، إلى رائم من نفوذها استغلالًا، إلى عامل على الكيد لها احتيالًا، فأرتْهم بمعاملاتها لجميعهم أنها فوق الأحزاب، ودعت الأحزاب إلى الصلح والاتحاد، وجمعتهم للاشتراك في العمل، فكانت في ذلك كله فوق الأحزاب. وما دامتْ تعمل في ميدان لا يختلف فيه الرأيُ، ولا يتشعّب الهوى، فإن منطق الواقع لا يسمح لها بغير ذلك، وإن تاريخها يشهد بأنها تنصر الحق حيثما وجد، وتدور معه حيث دار؛ وأنها تزنُ الرجالَ بأعمالهم الصحيحة، ومبادئهم الثابتة، وتزن الأحزاب ببرامجها الواضحة وآرائها العملية، وأنها تقارب الجميع وتباعدهم على قدْر قربهم من الإسلام والعروبة وبعدهم عنهما. هذه هي الحقيقة لا يماري فيها إلا ذو دخلة سيئة وهوًى مضلّ. أما حين تمتدّ الأيدي الآثمة إلى حمى الدين أو حمى القومية العربية، أو حين يتساهل السياسيون في حقّهما، فإنّ للجمعية في ذلك كلمتها الصريحة التي لا جمجمة فيها، وموقفها المشرّف الذي لا هوادة فيه. حاربتْ سياسةَ الاندماج في جميع مظاهرها، فقاومت التجنيس، ونازلت أنصاره الحُمْس ودعاته المقاويلَ، حتى قهرتهم وأخرستهم، وقطعت الحبلَ في أيديهم، ثم أفتتْ فتواها الجريئة فيه، يوم كانت الجرأة في مثل هذه المسائل بابًا من العذاب، فكان ذلك منها تحديًا للاستعمار، وإبطالًا لكيده، وتعطيلًا لسحره، وأثبتتْ بتلك المواقف للجزائر إسلاميتها. وحاربت العنصرية التي كان الاستعمار يغذّيها ويعدّها من أمضى أسلحته لقطع أوصال الأمة، فقطعت دابرها، والاستعمارُ خزيانُ ينظر، وأثبتت بذلك للجزائر قوميتها العربية. وحاربتْ- آخرَ ما حاربتْ- لائحة 7 مارس بشدّة وقوة، وشنعتْ بها في دروسها وخطبها، وبيّنتْ للأمة الدسائسَ التي تنطوي عليها اللائحة، وأنها وسيلة "شيطانية" إلى الاندماج جيء بها بعد خيبة الوسائل التي تقدمتها.

هذه هي الميادين التي تفردت فيها جمعية العلماء بالبطولة في حرب الاندماج ودعاته والمروِّجين له، وهذه أعمالها فيه قائمة بشواهدها، داحضةً لافتراء المفترين، وأقاويل المتقوّلين، بأنها أيّدت أو تؤّيد سياسة الاندماج، ولو كانت الجمعية تحارب الاندماجَ باسم السياسة وبأسلوب السياسيين لجاز أن يقال: "قد بدا لها بداء"، وما أكثر البدَوات في السياسة، ولكنها حاربته باسم الدين، والدين كلّه يقين لا يتزعزع، وبصائر لا تزيغ.

فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز

جمعية العلماء وجهادها فى: فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز. ــــــــــــــــــــــــــــــ مطالب الجمعية في: تحرير المساجد برفع يد الحكومة عنها. تحرير الأوقاف الإسلامية بإرجاعها إلى المسلمين. تحرير رجال الدين الإسلامي من الحكومة المسيحية. تحرير القضاء الإسلامي برفع جميع القيود عنه. تحرير الحج بعدم تدخل الحكومة في أي شأن من شئونه. تحرير الصوم، بحيث تبتعد الحكومة عن كل شئونه.

قضية فصل الدين

قضية فصل الدين ومن فروع هذه القضية: الحجّ * ــــــــــــــــــــــــــــــ سكتنا - متعمّدين- عن المهازل التي جرَتْ في حجّ هذه السنة، فلم نبادرها بالنقد جزئية، ولم نعالجها بالتجريح واحدة واحدة، مع أنها حقيقة بذلك، ومع علمنا بأن أصلها باطل، فهي باطلة: ولكننا سكتنا حتى ينتهي الشريط وتتمّ الرواية التي ابتدأت فصولها يوم أعلنت الشروط والأسعار والمواقيت إلى يوم سافرت السفينة في بحرين: بحر من الماء وبحر من الفوضى والاختلال. سكتنا- مع مرارة السكوت- لا رضى بما تصنع الحكومة في شعيرة إسلامية محضة، ولا إقرارًا لعبثها بديننا، ولكننا سكتنا انتظارًا لانسدال الستار حتى تقوم الحجة وتنقطع المعاذير، فنضيف قضية الحج إلى قضايا المساجد والأوقاف والتعليم الديني، ونحمل الحملات الصادقة في سبيل تحريرها، فلتعلم هذه الحكومة السائرة على منهج لا يتبدّل في احتكار أمور ديننا أننا سائرون على منهج لا يتبدّل في المطالبة بحقّنا الديني الطبيعي، وفي التظلّم منها والتشنيع عليها، وأننا لها بالمرصاد. كان المتفائلون يظنّون- وبعض الظن إثم- أن الحكومة تنفض يدها من مسألة الحج في هذه السنة. فإن لم تنفض يدها بالمرة صحّحتْ أخطاءها القديمة، وعدّلت آراءها السقيمة، ووسعت الدائرة وخفّفت الشروط، ولم تتمسّك إلا بما هو حق لا ينتقده أحد مثل التلقيح وتحديد العوض النقدي. وكانوا يظنّون أنها اتعظت بأحداث الدهر وتقلباته، واستعادت بعض رشدها الذي فارقها يوم كانت (تحجج) في كل سنة بضعة من صنائعها على طيارة، ترسلهم دعاة ليسبحوا

_ * نشرت في العدد 11 من جريدة «البصائر»، 20 أكتوبر سنة 1947.

بحمدها، ويوافوها بالأخبار والتقارير؛ تظهر لهم الثقة بهم، وهي تسيء الظن بجميعهم لأنهم مسلمون، تفعل ذلك كله لتقيم الدليل- في زعمها- على تسامحها في الدين واعتنائها بالإسلام والمسلمين؛ وما اهتمامها- والله- إلا بنفسها وسيادتها وباستعمارها. تُدعمه ولو بالأوهام، وتثبته ولو بالتلبيس والإيهام؛ وما ذلك النوع من "التحجيجِ" في نظر الإسلام والمسلمين إلا هزءٌ مكشوف، وسخرية مفضوحة، فهمها المسلمون شرقًا وغربًا، وأوسعوها انتقادًا وقدحًا، ووصفوها بأنها حبالة صيد للأغرار، ووسيلة كيد للإسلام. خاب ظنّ الظانين وكذب فأل المتفائلين، ورأينا دار الحكومة الجزائرية كدار ابن لقمان باقية على حالها، ورأينا من غرائب التصرفات في حج هذه السنة أشياء جديدة مبتكرة لم يسبق لها مثيل، وعلمنا أن ذلك الطراز الذي نعرفه من حماة الاستعمار لا يهدأ لهم بال، ولا يطيب لهم منام إلا إذا أدخلوا أصابعهم في شعائرنا الدينية وأجروها كما يريدون لا كما نريد ويريد ديننا، فكأن السيادة على الأبدان والتحكم في الماديات لا تتم لذته عندهم ولا يرضي أهواءهم الطاغية إلا بفرض السيادة على الأرواح والتحكّم في ما بين العباد وبين خالقهم، وكفى بهذا محادة لله، وحربًا للدين من حيث هو دين، ويا ما أسخفَ تلك الجمل التقليدية التي تجري على ألسنة حكّام الاستعمار في خطبهم حينما يريدون التخدير والتضليل، وهي: ان فرنسا تحترم الإسلام. إن حماة الاستعمار يعدون من الأركان القومية في دعايتهم ضد الشيوعية أنها لا تحترم الأديان، وأنها تحاربها، وأنها تنتهك حرماتها ومقدّساتها؛ وليت شعري ماذا أبقوا هم للشيوعية من حرب الأديان وانتهاك حرماتها ومقدّساتها بعد الذي رأينا، والذي شهدنا. ... الحجّ في الإسلام ركن من أركانه التي بُنيَ عليها، يشاركها في الركنية والروح والمعنى العام للتعبّد، ويزيد عليها بمعانٍ اجتماعية حكيمة من السير في الأرض، والاطلاع على الأحوال، والاستزادة من العلم، والاختبار لأحوال الأمم، والاعتبار بها، والامتزاج بالأمم المشتركة في الدين، والتعارف بين الإخوة المتباعدين في المواطن: فهو مؤتمر اجتماعي للمسلمين، تحصن بالفرضية المحتّمة ليضمن له البقاء والاستمرار، واختار الله له من الأماكن تلك الصحراء الطاهرة بلعاب الشمس، المصهورة بحرارتها، المهيأة لرسالة التوحيد بدءًا وختامًا ليذكر المسلمين بالفطرة التي هي من خصائص دينهم. والحجّ في نظر الاستعمار أداة مهيّأة لاستعباد الأمم الإسلامية التي أوقعها القدر في قبضته، يصرفهم بها في مصالحه، ويستخدمهم بسببها في أغراضه، ويسخّرهم بها كما تشاء

أهواؤه لا كما يشاء الإسلام وتقتضيه حكمته، ويجعل من وجوبه عليهم وسيلة لإخضاعهم وإذلالهم واستنزالهم على حُكمه، ويجعل من خشيته من اتصال المسلمين وتعارفهم مبررًا للتضييق عليهم. نتحدَّث عن الاستعمار الفرنسي لأنه بأعيننا، ولأنه أخبث أنواع الاستعمار، إن لم يكن في جميع المعاملات ففي ما يتعلق بالدين الإسلامي على القطع والجزم، فقد رأينا رأي العين ما تتمتّع به الأمم الإسلامية من حرية واسعة مَرنة في دينها تحت الحكومات الاستعمارية ولا نستثني روسيا القيصرية. يتحكّم الاستعمار الفرنسي في الحجّ ويجري عليه ألاعيبه حتى يخرج عن حقيقته الدينية التي هي معاملة بين المسلم وربّه إلى مساومة تجارية سياسية أحد طرفيها الدين والضمير، وإلى معاملة استبدادية بين حاكم مسيحي مستبدّ، بيده الباب ومفتاحه والرخصة والذهب والمركب وطرُق السفر في البر والبحر والجو، وبين مسلم مغلوب على أمره ليس له إلا إيمان في قلبه، وامتثال لأمر ربّه، ورجاء في أن يمحو بالحجّ ما تقدّم من ذنبه، وشوق يتجدّد كلما سمع قول الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وتذكيه أهلة تلك الأشهر، واستطاعة بدنية هي من نعمة الله عليه، واستطاعة مالية اختزلتها الأزمات فعوّرتْ عينها ولم تبقِ منها إلا أسماء ممنوعة من الصرف، وأخيلة لا يستقرّ عليها الطرف. رأى الاستعمار أن شرط الاستطاعة الذي هو شرط ديني وطبيعي لكل شيء في الدنيا لا يكفي في التثقيل على المسلم، فأضاف إليه شروطًا من عنده تثقل الكواهل، وتجرح الضمائر، وتنافي الروح الديني، وتشوب الإخلاص القلبي، وتصير المستطيع غير مستطيع، وغير المستطيع مستطيعًا ... وانظر ما تشترطه الحكومة في الحاج تتبيّن صدق ما قلناه وتعلم أننا غير متجنين عليها ولا مبالغين في نقدها، تقول الحكومة في أول شروطها ما نصه: أولًا: البراءة من التهم والإجرامات المدنية والسياسية. يا للعجب! أيكون الإجرام المدني مانعًا من الحج؟! أيكون الإجرام السياسي مانعًا من الحج؟! وما هو الإجرام المدني؟ إنه السرقة وأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور، إلخ. ولا نقول الزنا وشرب الخمر والقمار، لأن قوانين الاستعمار تبيحها وتعدها من الحلال الطيب، ولا تعاقب عليها ولا تعدها من "الإجرامات المدنية" مع أنها أمهات الرذائل وأصول الخبائث، وكيف يمنع هذا المجرم من الحجّ وتعاكس عقيدته بأن الحج يمحو خطاياه.

إن في الإسلام شيئًا لا يعرفه الاستعمار ولا يفقه له معنى لأنه لم يتصف به ولا مرة، وهذا الشيء هو "التوبة": فالمسلم إذا تاب من كبيرة يعتقد أن من كمال التوبة أن يُكثر من الطاعات ومنها الحج، وعلى هذا فالمذنبون هم أحق الناس بالحج. ثم ما معنى الإجرام السياسي؟ إنه حبّ الوطن، والعمل على نفع أبنائه، وبغض الاستعمار، والعمل لمقاومته: فهذا هو الإجرام السياسي الذي تعتبره الحكومة الجزائرية مانعًا من أداء واجب ديني، ولا ندري لماذا لم تجعله مانعًا من أداء الصلاة والصيام؛ فإن كانت تعتبره في الحج خوفًا من تشهير الحاج السياسي بسياستها والتنديد بها بين المسلمين، فقد أخطأت التقدير، فإنّ مسلمي الشرق لا يحتاجون إلى من يندّد بسياسة فرنسا وظلمها ولا يحتاجون إلى من يكشف لهم عن مساوئ الاستعمار الفرنسي؛ فهم يعلمون من ذلك كله فوق ما نعلم. لأن من ذاقه منهم ذاق السمّ الزّعاف، ومن سمع عنه سمع ما يصمّ الآذان ويسيل العبرات. إننا مع الاستعمار على طرفي نقيض في تفسير كلمة "الجرم"، فنحن نعد الخمر والزنا من أعظم الجرائم، وهو يعدّهما من المباحات ومن موارد الاستغلال الغزيرة، ولا يعدهما قادحين في سيرة ولا منصب، حتى في مناصبنا الدينية الشريفة كالقضاء والإمامة، ونحن نعد السياسة عملًا طبيعيًّا معقولًا ووسيلة من وسائل خدمة الوطني لوطنه ولبني جنسه، وهو يعدّه كذلك بالنسبة إلى الأوروبي السيّد، أما بالنسبة إلى المسلم فهي جرم يمنع صاحبه من الحج، وما زال هذا الخلاف بيننا وبين الاستعمار في معنى لفظة "الجرم" يتطلب حكمًا ولا يجده. وزاد الحمأة امتدادًا ما صحب حجّ هذه السنة من فوضى في الإجراءات واختلاف بين الإدارات، فهذه تعطي وتلك تمنع، وهذه توسّع وتلك تضيّق، وهذه تنقض ما أبرمته تلك، والحاج المسكين بين هذه الإدارات المختلفة التي كأنها إمارات مستقلّة- كالكرة تتقاذفها اللجج، وتتلقفها الصوالجة؛ وكل كاتب في إدارة، وكل مكلف بعمل مما يتعلّق بالحجاج قلّ أو جلّ، فهو حاكم بأمره، يعد ويمني، أو يتوعّد ويتشدّد. والإجراءات تحبو من مكتب إلى مكتب، ومصالح الطالبين متعطلة، وأوقاتهم ضائعة، وآمالهم في الحج معلّقة بين الرجاء واليأس. حتى ظنّوا أن ليست هنا حكومة مسيطرة ولا نظام متّبع، ولا قانون نافذ؛ ونقول مؤكّدين: إن كثيرين منهم لم يستيقنوا، إلى ساعة السفر، أنهم مسافرون أو غير مسافرين- مع أن الرخص والنقد في جيوبهم وآثار التلقيح في جنوبهم- لكثرة ما سمعوا من الوعود المتناقضة مرّة بالإعطاء، ومرة بالحرمان، ولكثرة ما شاهدوا من الخلاف بين الإدارات العليا وبين الإدارات السفلى؛ وقد رأينا في بعض البلدان في الأيام الأخيرة رجالَ البوليس يبلغون أمرًا حكوميًّا صادرًا من دار العامل يقضي بإلغاء الترخيص لمن حجّوا في العام الماضي، ثم رأينا طائفة منهم استعادت رُخصها وسافرت بالفعل، لأنها عملت بقاعدة "العب كما يلعب صاحبك".

والمرأة ... فقد كان لها في حج هذا العام شأن عجيب. قالت الحكومة لا يحج في هذا العام من النساء إلا عدد محدود، مع أن النساء المسلمات ليس فيهن مجرمات مدنيات ولا سياسيات، وأنهن لا يقتلن أزواجهن ولا يضربنهم كما تفعل سيداتهن الأوروبيات، ولا يعرفن ما الجرائد وما السياسة وما الأحزاب. تقول الحكومة: لأنها خصّصت لهن أسرّة محدودة. ولماذا؛ ... وقد أجيلت تلك الأسرّة المحدودة على طالبات الحجّ الكثيرات كما تجال القداح، فكانت من نصيب المحظوظات. وقد كان يوم السفر واليومان السابقان له، أيام حشر في مدينة الجزائر، حشر فيه المحرومون والموعودون، وكل واحد متعلق بشفيع أو شفعاء من النواب وذوي الجاه و "وسطاء الخير" من مسلمين ومسيحيين ويهود، فكان منظرًا مزرًيا بشرف الإسلام، وجلال الحج وبسمعة الحكومة أيضًا. ونقول الحق. إنه لم تظهر أعراض الجنون بالحج على عوام الجزائريين في سنة، مثلما ظهرت في هذه السنة، ولو عقل هؤلاء المتهافتون على الإدارات المتقرّبون إليها بالشفاعات في أمر ديني، وعرفوا قيمة أنفسهم، وقيمة دينهم، لعلموا أن هذه المأساة تكررت وتكررت في كل عام، وأنها لا تعالج بمثل هذه التضرعات والتوسلات ما دام أصلها ثابتًا. وإنما نستأصل جرثومتها بشيء واحد وهو فصل الدين عن الحكومة. فليسعوا إليه متساندين وليعملوا له متّحدين، فإذا حصّلنا الفصل رجعنا إلى الأصل، وإذا نقضنا الأساس لهذه القضية، انتقضت فروعها.

الأديان الثلاثة في الجزائر

الأديان الثلاثة في الجزائر * تتجاور في الجزائر أديان ثلاثة، أصلها من السماء وإن أخلد أتباعها إلى الأرض، وأساسها التوحيد وإن شانها أهلها بالتثليث أو الوثنية، وكتبها وحي إلهي، ولكن وصمها بعضهم بالتحريف والتبديل، وخلطها بعضهم بالأجنبي والدخيل، وعاملها بعضهم بالتأويل والتعطيل. أما الإسلام فهو أوثقها اتصالًا بالأصول السماوية، وأوسعها امتدادًا مع التاريخ، وأبقاها أثرًا في صحائفه، وأعمقها تأثيرًا في نفوس معتنقيه لملاءمة روحه روحهم، ولمناسبة الفطرة فيه وفيهم، ولأن تأثرهم به كان عن اقتناع لا عن إكراه، ولأن الجانب الإنساني الاجتماعي هو أرحب الجوانب فيه، وكان الإسلام- لأول انتشاره- يتتبع مواقع الفطرة الإلهية، وينتجع مساقطها، لذلك نرى الأمم التي دانت به فأخلصت له هي الأمم القريبة العهد بالفطرة وسماحتها، على حين أن الأمم التي عبدتها المادة، وعقدتها الحضارة، وغمرتها شهوات العقل- أو شهوات الجسد- لم تدن بالإسلام إلّا على حرف، ولم تخلص سرائرهم إليه الإخلاص المذعن العميق، وفي أمة البربر وأمة فارس شاهد لا يكذب في ذلك. جاء الإسلام إلى هذا الشمال فوجد من اليهودية عرقًا ناشزًا منتبرًا، ومن النصرانية عرقًا سائسًا نخرًا، فقضى عليهما بسماحه، ولم يقض على أهلهما لسماحته، وأعانه على ذلك بعدهما عن الفطرة، وحرج مدخلهما إلى النفوس، فاليهودية دين لا يدخل إلّا في النفوس الفارغة أو التي أجمت (1) الوثنية، فهي تتطلب ما يسد الفراغ أو يدفع الملل، زيادة عن كونها لم تصحبها دعاية ولا إقناع. والنصرانية دخلت هذا الوطن في ركاب الغزاة الرومانيين

_ * نظرت في العدد 13 من «البصائر»، 10 نوفمبر 1947. 1) عافت وكرهت.

وفي ظل سيوفهم، بعيدًا عن روحانيتها السامية، مصطبغة بالعنجهية الرومانية والعتو الروماني، فكان مقامها واستقرارها تابعين في الطول والتمكن للاستعمار الروماني. وقد كان للتشريع الإسلامي المتعلق بمعاملة أهل الكتاب ورعايتهم والرفق بهم أكبر الأثر في الإبقاء على الكتابيين واحترام ما يدينون به فعاشوا متمتعين بالحقوق، معفين من الواجبات، وكانوا كلما ضامهم أمير جائر لم يسلم من جوره مسلم ولا كتابي، وجدوا في القرآن وفي الوصايا النبوية وفي عهود الخلفاء الراشدين ما يرد عنهم الشرور والغوائل؛ حتى أصبح هذا الشمال ملاذًا عاصمًا لكل من ترجف به راجفة في أوربا من اليهود، وللمسيحية عند اليهودية تِرَاتٌ لا يزيدها القدم إلّا جدة، كما أصبح مقيلًا لكل من تبوأه من المسيحيين، يجدون فيه- تحت ظل الإسلام- العيش الرغيد، والأمان المنيم، والعدل الشائع، والجوار الذي لا يخفر. ولولا تلك النزوات التي كانت تبدو من ملوك المسيحية من وراء البحار، وتلك الغارات التي كانوا يشنونها على سواحل أفريقيا الشمالية طمعًا في الفتح، لما ريع لمسيحي في هذه الديار سرب ولا مسه أذى. فالإسلام، في إبان قوته وعنفوان فورته، تعرف إلى الدينين بالخير والحق والعدل والإحسان، وأبقى على الدماء والعقائد والمعابد، بل حماها وحافظ عليها أكثر من محافظة الدول المسيحية، ولما جاز البحر إلى الأندلس لينشر الهداية والنور ووجدهما هناك يضطهد أقواهما أضعفهما، رفع الضيم عن المضيم وسوّى بينهما في عدله وعاملهما بتلك المعاملة نفسها، ولم يشهد التاريخ أنه أكره يهوديًّا أو مسيحيًّا على الإسلام، على نحو ما فعلت (إيزابيلا) و (فرديناند) ومن خلفهما مع المسلمين يوم دالت دولتهم وزالت صولتهم؛ أو كما فعلت الحكومات الإسبانية بعدهم في وهران وبجاية وتونس، من انتهاك حرمات الإسلام، وكل تلك الفظائع وقعت في بدء الإرهاصات المبشرة بالحضارة الغربية السائدة الآن. إن الإسلام ضَرَب الخراج على الأرض ولكنه لم يخرج أهلها غصبًا، وضرب الجزية على الرقاب، ولكنه حماها من الظلم، وفتح لها باب العلم، وأعفاها من تكاليف الجندية والتسخير، فأين تلك المعاملة السمحة الرحيمة مما تعامل به الحكومات المسيحية والمؤسسات اليهودية الإسلام اليوم؟ وأين تلك الصراحة المتجلية في أحكام الإسلام، والمقاصد السامية في سياسته من هذا النفاق المتستر، والرياء المدسوس، والسموم الماثلة في سياسة الدول المسيحية وقوانينها، وفي برامج الجمعيات اليهودية ونظمها؟ إن الإسلام لا يرى الكتابيَّ إلّا ذميًّا له كل ما للمسلم من حقوق، وليس عليه كل ما على المسلم من واجبات، أو معاهدًا يوفى له بعهده، أو مستأمنًا يبلغ به مأمنه، أو محاربًا ينبذ إليه على سواء، بلا ظلم في الأولى، ولا نقض في الثانية، ولا نكث في الثالثة، ولا غدر في الرابعة. ***

هذه هي معاملة الإسلام للدينين حيثما جمعتهم أرض، يوم كانت له السيادة والسلطان، ولو كنا نكتب دراسة لموضوع أو فصلًا من كتاب لأقمنا الشواهد وضربنا الأمثال، ولكننا نكتب مقالًا لجريدة؛ فحسبنا أن نلمح ونشير، وأن نوازن ونقارن بين معاملتين في وطن محدود، وأن نضع الميزان للجزاء الذي لقيه الإسلام من دينين مُجاورين له في دار. جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل: السيف والصليب، ذاك للتمكن، وهذا للتمكين، فملك الأرض واستعبد الرقاب، وفرض الجزى، وسخر العقول والأبدان؛ ولو وقف عند حدود الدنيويات لقلنا: تلك هي طبيعة الاستعمار الجائع تدفعه الشهوات إلى اللذات، فيجري إلى مداها ويقف، وتدفعه الأنانية إلى الحيوانية فيلتقم ولا ينتقم، ولكنه كان استعمارًا دينيًّا مسيحيًّا عاريًا؛ وقف للإسلام بالمرصاد من أول يوم، وانتهك حرماته من أول يوم؛ فابتز أمواله الموقوفة بالقهر، وتصرف في معابده بالتحويل والهدم، وتحكم في الباقي منها بالاحتكار والاستبداد، وتدخل في شعائره بالتضييق والتشديد، كل ذلك بروح مسيحية رومانية تشع بالحقد وتفور بالانتقام، ولم يكتف بذلك حتى احتضن اليهودية، وحمَى أهلها، وأشركهم في السيادة، ليؤلبها مع المسيحية على حرب الإسلام، ويجندها في الكتائب المغيرة عليه. وقد تبدلت الأوضاع بعد ذلك في فرنسا، وتطورت الأفكار، وترقت المعارف، واستوسقت الحضارة، وضاقت النفوس بالكنيسة، فزوتها عن الحكم ونزعت من يدها المقاليد، ولكن ذلك كله كان مقصورًا على فرنسا، ومحدودًا بحدودها، أما هنا في الجزائر ... وحيث يوجد الإسلام وكتابه ولسانه، فإن المسيحية معدودة من عُدد الاستعمار وأسلحته لحرب الإسلام وقرآنه ولغته، لا يختلف في ذلك رأي، ولا يضيق به صدر، ولا يسمع فيه قول مجرح ولا منتقد، ولا تُقبل فيه دعوى أنه مناف لمبادئ الجمهورية أو الإنسانية أو اللادينية، وما أحمق من يقيس الجزائر بفرنسا! ... أيها الأحمق، إن الثوب مفصل على قدر لابسه، ولست بذاك، أنت من هنا لا من هناك ... ... إن الجزائر اليوم ميدان صراع، لا أقول بين الأديان الثلاثة كل على انفراده، وإنما أقول بين الإسلام وحده من جهة، وبين المسيحية واليهودية مجتمعتين من جهة أخرى. أما المسيحية فهي حاملة اللواء، وقائدة الرعيل، ومن ورائها الاستعمار بخيله ورجله، وجيوشه، ومدافعه، وقوانينه، وأمواله، وجرائده، يحمي حماها، وينافح عنها، والحكومة برجالها، وأدواتها، ووسائلها، تمدها بالعون، وتبذل لها المساعدة والتنشيط، وتمهد لها

سبل العمل، وتوسع لها في مجال الحرية لبثّ دعايتها التبشيرية إلى أقصى حد، ومن ثم فهي تؤسس مراكز التبشير، وتعمرها بالدعاة والأطباء والمعلمين، وتجهزها بكل وسائل الإغراء والإغواء، وتغتنم المجاعات والأوبئة فرصًا لاصطياد الجُوّع واليتامى والمرضى لتفتنهم عن دينهم بلقمة أو ثوب أو جرعة دواء، وما مهد لها تلك الأسباب إلا الاستعمار، فهو الذي أجاع وأعرى، وهو الذي أفقر وأمرض، وهو الذي مكن للجهل والجمود؛ كل ذلك عن عمد وقصد، وكل ذلك ليذل، ويقل، ويهيئ للمبشرين وسائل التنصير، وقد بلغ من تأييد الحكومة الجزائرية للتبشير أنها أوكلت للمبشرين في الكثير من مراكزهم توزيع المؤن المخصصة على المسلمين لتحببهم إلى الناس ولتيسر لهم سبل الاختلاط، حتى يجر حديث حديثًا، وتتسرب الدعاية التبشيرية بينهما، وإن توزيع التموين في زمننا هذا لسلطة تعلو على جميع السلط، وجاذب من أعظم الجواذب. وأما اليهودية فهي تناصر الاستعمار على الإسلام بوسائل أخرى منها "التفقير"، وتظاهر المسيحية على الإسلام في نواح أخرى غير التبشير، لأن من تقاليد اليهودية أنها لا تمتهن بالعرض، ولا تكاثر بالأتباع، لأنها دين طائفة مخصوصة، ولأنها جنسية ودين معًا، فمن صونها أن لا يزاحم بها في أسواق التبشير، كما أن من تقاليد اليهودية أيضًا أنها لا تضيع أية فرصة للمقايضة بالمصالح الجنسية، والمنافع القومية المادية، لا تراعي في ذلك قديمًا مأثورًا، ولا تاريخًا محفوظًا، وإنما تقدر المصلحة بالحاضر وإن كان زائفًا أو مدخولًا، وقد جاءت قضية فلسطين فرصة ملائمة لسلسلة من هذه المقايضات مع أمم وحكومات، تنوسيت فيها الأحقاد الموروثة، وأهدرت الحقوق القائمة، وأنكرت الآداب والمجاملات المرعية، وما حمل النائب اليهودي "مايير" في مجلس النواب الفرنسي حملته المشهورة على المسلمين الجزائريين، وكان فيها فرنسويًا أكثر من الفرنساويين، بل مسيحيًّا أكبر من المسيحيين، إلّا مقايضة شهد الناس آثارها في تسهيل الحكومة الفرنساوية سبيل الهجرة والتهريب إلى فلسطين، وشهدنا نحن هنا سوابقها ولواحقها من كل ما يبذله يهود الجزائر في سبيل فلسطين، من أموال طائلة، وتجهيزات سخية، وتسهيلات ميسرة للمهاجرين إلى فلسطين. ... ما الذي ألب على الإسلام هذه القوات المتظاهرة؟ وما الذي جمع على حربه تلك القلوب المتنافرة؟ إنه- بلا شك- الخشية من قوته الروحية الرهيبة أن تنبعث كرة أخرى فتصنع الأعاجيب، وتغير وجه الدنيا كما غيرته قبل ثلاثة عشر قرنًا، وإن الدين الذي يطوي المناهل بلا سائق ولا حاد، ويقتحم المجاهل بلا دليل ولا هاد، وينتشر بين أقوام عاكفين على أصنامهم، أو مغرورين بأوهامهم، لا يمده ركاز، ولا يسنده عكاز- لحقيق أن يخشى

منه، وأن تمتلئ من رهبته قلوب ذئاب البشرية رُعبًا، ولو أن للدعوة المحمدية عُشر ما للدعوة المسيحية من أسناد وأمداد، وهمم راعية، وألسنة داعية، لغمر المشرقين، وعمر القطبين، ولو أن دينًا لقي من الأذى والمقاومة عُشر ما لقي الإسلام لتلاشى واندثر، ولم تبق له عين ولا أثر، وإن من أكبر الدلائل وأصدق البراهين على حقية الإسلام بقاءه مع هذه الغارات الشعواء من الخارج ومع هذه العوامل المخربة من الداخل، وإن هذه لأنكى وأضر، فلكم أراد به أعداؤه كيدًا تارة بقوّة السيف، وتارة بقوة العلم، فوجدوه في الأولى صلب المكسر، ووجدوه في الثانية ناهض الحجة، وردوا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، ولكنهم عادوا فضللوا أبناءه عنه، ولفتوهم عن مشرقه، وفتنوهم بزخارف الأقوال والأعمال ليصدوهم عن سبيله، وإن أخوف ما يخافه المشفقون على الإسلام جهل المسلمين لحقائقه وانصرافهم عن هدايته، فإن هذا هو الذي يطمع الأعداء فيهم وفيه، وما يطمع الجار الحاسد في الاستيلاء على كرائم جاره الميت إلّا الوارث السفيه. ... إن الإسلام في الجزائر ثابت ثبوت الرواسي، متين القواعد والأواسي، قد جلا الإصلاح حقائقه فكان له منه كفيل مؤتمن، واستنارت بصائر المصلحين بنوره فكان له منهم حارس يقظ، وعاد كتابه (القرآن) إلى منزلته في الإمامة فكان له منه الحمى الذي لا يطرق، والسياج الذي لا يخرق.

طلائع ومقدمات

فصل الدين عن الحكومة * طلائع ومقدمات ــــــــــــــــــــــــــــــ 1 - الواجب على أعضاء المجلس الجزائري المسلمين أن يطلبوا إدخال الدين المسيحي بكنائسه وأمواله ورجاله، تحت سلطة الحكومة دخولًا عمليًّا، بحيث تكون هي التي تتصرف في الأموال، وتولي من يكون جاريًا على هواها، وتعزل من يدعو إلى نزعة سياسية أو إلى حزب أو إلى انتخاب، وأن يطلبوا إدخال الدين اليهودي ببيعه وأحباره وأوقافه تحت سلطتها أيضًا، بحيث لا يجري شيء من التصرفات في ذلك الدين إلّا بأمرها وعلى ما يرضيها، فتسمي الموظفين الدينيين، وتقوم لهم بأجورهم، وتحاسبهم على الأنفاس، وتعزل كل من يستحق العزل، كل ذلك على ما يشهد "الدوسي" (1) المبارك. يجب على النواب أن يطالبوا بهذا ويتشددوا فيه، لأنه هو الديموقراطية، وحكومة الجزائر ديمقراطية، ولأنه إنصاف وعدل، وحكومة الجزائر منصفة عادلة- تبارك الله أحسن الخالقين- ولأنه المظهر الواضح لقوة الحكومة وسلطتها، ولأنه زيادة في تلك القوّة وتلك السلطة. فإذا أبى عليهم ذلك زملاؤهم من النواب الفرنسيين واليهود، وقالوا: إنهم لا يتدخلون في الأديان، أو أبت الحكومة، وقالت: إنها حكومة لائكية، فليقل النواب المسلمون في صراحة وحق: والإسلام؟ ... لماذا يبقى غريبًا شاذًا بعيدًا عن هذه اللائكية؟ إن الأديان في الوطن ثلاثة، فمن الواجب أن تعامل معاملة واحدة، وإن المسلمين ومعابدهم أكثر عددًا، فمن الإنصاف أن يكونوا هم القاعدة في المعاملة، والأصل في وضع الأحكام، وما دام دينهم "مستعمَرًا" فمن العدل أن يكون الدينان مستعمَرين أيضًا، فإذا لطفنا العبارة قلنا: ما دام الإسلام في قبضة الحكومة، فليكن الدينان الآخران في قبضتها أيضًا.

_ * نشرت في العدد 57 من «البصائر»، السنة الثانية، 22 نوفمبر سنة 1948. 1) الدّوسي: كلمة فرنسية معناها الملف.

هذا هو المنطق المعقول الحكيم الصائب المتزن، فليتمسك به النواب المسلمون، وليكونوا رجالًا، فإذا رضيت الحكومة (واستطاعت) ضمّ الدينين إلى حوزتها، ووضعتهما تحت تصرفها، كما ضمت الشركات المالية مثلًا، فإن الأمة الإسلامية من وراء النواب ترضى ببقاء مساجدها وأوقافها بيد الحكومة، ونحن نكسر الأقلام، ونكم الأفواه، ونحبس الألسنة، فلا نتحرك في هذه المسألة بحرف ولا نفس، لأن هذه الحالة الخاصة بنا إن كانت خيرًا فنحن لا نرضى أن نستأثر بها دون جيراننا المسيحيين واليهود، وإن كانت شرًّا فلماذا نختص بها وحدنا، ونحن نريد أن يشاركونا فيها حتى يخف ثقلها، ويهون وقعها، والمصيبة إذا عمت هانت، ومن معاني الديمقراطية الاشتراك في الخير والشر. إن المسألة خطيرة، وإنها مسألة تهم تسعة ملايين من المسلمين، وإن النواب مسؤولون عنها عند الله، محاسبون عليها من الأمة، وإن حجة الأمة فيها أوضح من الشمس، وإننا سنشرحها للنواب حتى يكونوا على بصيرة، وحتى لا يغتروا بالآراء المسخرة من الطوائف المسحرة. ... 2 - لو كانت الحكومة الفرنسية صادقة في فصل الإسلام عن حكومة الجزائر، مجتهدة فيه غير مقلدة للإدارة الجزائرية، ولا متأثرة بأفكارها الاستعمارية الضيقة، لو كانت كذلك لتولت بنفسها ذلك الفصل قبل تقرير دستور الجزائر، ولنفذت الفصل بأصوله وفروعه، حتى يكون الدستور- كدساتير الأمم الديمقراطية- خالصًا للدنيويات التي يشترك فيها جميع الناس، خاليًا من الدينيات التي تخص الطوائف، وبذلك يكون دستورًا لأمة جزائرية منسجمة، حرة في أديانها مقيدة بدستور واحد في دنياها، ولكن الحكومة الفرنسية- في ما بلونا من أمرها- يدركها الغرق في تيار المستعمرين وأعوانهم من الحكام الإداريين كلما اعترضتها مشكلة من مشاكل الجزائر، فلا تسنّ إلّا ما يرضيهم وإن أغضبت الحق والإنسانية، وهدمت الجمهورية والديمقراطية ولا ندري أذلك كله دلال أم هيبة أم هما معًا؟ وفي فصل الدين عن الحكومة وإيكاله إلى أهله شرف عظيم للحكومات الديمقراطية، وأيُّ شرف أعظم لفرنسا- مثلًا- من أن يعلن رئيس جمهوريتها أو رئيس وزرائها- بموافقة برلمانها- أنها فصلت الإسلام بمساجده وأوقافه وقضائه عن حكومة الجزائر وتركته لأهله، يتصرفون فيه بحرية كما يتصرف إخوانهم في المغرب وتونس والهند والصين، فتفوز فرنسا وبرلمانها بالذكر الحسن والثناء الطيب في العالم الإسلامي أولًا، وفي العالم الديمقراطي ثانيًا، لأن التسلط على الأديان بالصورة التي في الجزائر ليس من الإسلام ولا من

الديمقراطية ولا من الإنسانية، فلا عجب أن يطرب لتحرير دين عظيم من ربقة الاستعباد في ناحية من الأرض، كل مسلم على وجه الأرض وكل ديمقراطي وكل إنسان. ولكن الحكومة الفرنسية تتنازل عن هذا الشرف العظيم، وهو إعلان الفصل القطعي تشريعًا وتنفيذًا، للمجلس الجزائري، وهو محجور البرلمان الفرنسي، وللحكومة الجزائرية، وهي فرع الحكومة الفرنسية؛ فهل كان هذا التنازل تواضعًا وزهدًا وإيثارًا للمجلس الجزائري ومحبة؟ لا لا. ... ونحن نعرف السر في هذا التنازل ونعرف أن حكومة فرنسا وحكومة الجزائر كانتا على اتفاق فيه، ونعرف أن من تقاليد الحكومة الجزائرية التمسك الشديد بهذه السلطة المطلقة على مساجد المسلمين وأوقافهم، وما هي سلطة، بل هي ملك مديد، رعاياه هذا العدد العديد من المفتين والأئمة والمؤذنين و"رجال الدين"، وإن لحكومة الجزائر في بقاء هذا الجيش تحت يدها مآرب أخرى تفوتها بانفلاته من يدها، وما زالت هذه الحكومة منذ عشرات السنين تعارض في قضية الفصل وتطاول وتمدّ الآجال، إلى أن أرهقتها المطالبة وحدثت فكرة "دستور الجزائر" فأوحت إلى حكومة فرنسا أن تنص على الفصل، وتكل تنفيذه إلى المجلس الجزائري الذي ولده الدستور، لتصل عن طريقه إلى فائدتين: الأولى بقاء ما كان على ما كان، والثانية إفهام العالم بأن نواب المسلمين هم الذين رضوا بل طلبوا إبقاء ما كان على ما كان، وما فعلت هذا إلّا لاعتمادها على نفسها وعلى وسائلها المعروفة في تكوين المجلس الجزائري وتشكيله على الكيفية التي تضمن لها ما تريد؛ وقد فعلت كل ذلك وكونت لنفسها وسائل الفوز، ولم تبق إلّا غيرة السادات النواب على كرامة دينهم وتقديمها على كل اعتبار؛ فليفهم النواب المسلمون هذا جيدًا، وليحاسبوا ضمائرهم، وليعلموا أن الدين لا مساومة فيه ولا مهاودة، وأن جميل الحكومة مع بعضهم في الأول لا يكون على حساب الدين في الأخير. ... 3 - ووقع الفصل في باريز لفظًا وكتابة ونصًّا في الدستور. فهل يقع الفصل هنا في الجزائر؟ وهل يقع على ما تريده الأمة، أو على ما تبغيه الحكومة؟ والنواب المسلمون مهما يبلغ ببعضهم التأثر فإنهم لا يوافقونها على إبقاء ما كان على ما كان، لأن ذلك مناقض للفصل الذي نص عليه الدستور نصًّا صريحًا ... أما الحكومة الجزائرية فإنها تحلف برأس كل عزيز عليها أنها قادرة على الجمع بين الفصل والوصل في آن واحد، وأنها زعيمة بالجمع بين المتناقضات، ولا عجب من حكومة

كاثوليكية لائكية، أن تضيف لهما نقيضًا ثالثًا، هو (التمسك بالإسلام) ... قال الراوي: وكيف يتم ذلك؛ ... ... 4 - ذلك أن الحكومة الجزائرية معروفة بالحزم في مثل هذه القضية من شؤون المسلمين، ومعروفة بادخار الرجال لأوقات الشدة وبوضع الإحسان عند من يشكره ولا يكفره، ومن بين من ادخرتهم لهذه القضية، وجربتهم فكشفت التجربة عن إخلاص وطاعة، واصطنعتهم فكان الاصطناع في محله- رجل طموح إلى المناصب، يركب لأجلها الصعب والذلول، ويستسهل في سبيلها إخراب البصرة وإحراق روما، وهو الحاج، الحاج فعلًا، الحاج نية، أمير الحج الجزائري في إحدى الحجات، الشيخ محمد العاصمي المفتي الحنفي بالجزائر. ما زلنا نتتبع أعمال هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه عامل نصب وخفض معًا، وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون "حلقة مفقودة" لقضية ما في يوم ما، حتى أوقفنا حسن حظنا أو حظه في هذه الأيام على تقرير مطول في هذه القضية، مرفوع باسمه إلى المجلس الجزائري، مقدم إلى بعض أعضائه دون بعضهم، ومما يلفت منه نظر القاصرين (أمثالنا) - ويبين لهم أن الأمر مدبر من زمان بعيد- أن التقرير مؤرخ بيوم 21 مارس سنة 1948، مع أن المجلس الجزائري لم ينتخب أعضاؤه إلّا يوم 4 أبريل سنة 1948. وقرأنا التقرير من أوله إلى آخره، وأعدنا قراءته استجلاء أو استحلاء، فوالذي خلق العاصمي- وقدر أن يكون مفتيًا في العاصمة- ما وجدنا فيه من العاصمي إلّا اسمه وختمه. أما ما عدا الاسم والختم فهو من وضع إدارة غير إدارة الفتيا ورجال غير (رجال الدين)، وقد فهمنا التقرير ومراميه، والمحور الذي يدور عليه، وسنشرحه شرحًا يفك معضلاته، ويفتح مقفلاته. ومعذرة إلى القراء، فهذه طلائع يتبعها الجيش العرمرم، ومقدمات بعدها الحكم المبرم ...

التقرير الحكومي العاصمي

التقرير الحكومي العاصمي * ملاحطات عامة ــــــــــــــــــــــــــــــ في الإدارة الجزائرية العليا مطبخة- ليست كالمطابخ- تُطبخ فيها الآراء والأفكار في كل ما دق وجل من شؤون المسلمين، والقائمون على هذا المطبخ طهاة يُحسنون الفن، ودهاة يحكمون بأول الظن، وهم منتخبون من طراز خاص، أول الشروط فيهم أن يكونوا قد أفنوا أعمارهم في حكم المسلمين، واجتازوا المراتب الإدارية من أدناها إلى أعلاها، وتمرسوا بمحكوميهم، وفهموا ميولهم واتجاهاتهم، ودرسوا مواطن الضعف والقوّة فيهم، وآخر الشروط فيهم أن يكونوا استعماريين قبل كل شيء، والسيد السند من هؤلاء هو الذي يُثبت أنه حكم المسلمين حكمًا استبداديًّا وعرف كيف يرهقهم، وكيف يُذلهم وكيف يضرب بعضهم ببعض ويمزق شملهم، وكيف يديرهم على أن يكونوا آلات صماء لا أناسًا، وكيف يستلب منهم العقل والإدراك، وكيف يروضهم على أن يقابلوا اللكم بالبكم، والصفع بالشكر ... حتى يكتسب من كل ذلك ملكة فيما يسمونه "السياسة الأهلية"، بحيث لو كانت لها درجات كالدرجات العلمية لمنحوا صاحبها لقب أستاذ في الشيطنة، كما يقال أستاذ في الفلسفة. في هذا المطبخ طبخ التقرير العاصمي ملفوفًا بتوابله، وفيه وُلد محفوفًا بقوابله، فجاء كما رأيناه وفيه طعم الإدارة ولونها وريحُها، ولو نطق لشهد بالمطبخ والطابخ. ... وفي تلك الإدارة نفسها معمل لصنع الرجال على أشكال ومقادير مخصوصة، لا يشترط في المادة الخام إلّا أن تكون ذات قابلية واستعداد، وطوع وانقياد، وفي المعمل جهاز

_ * نشرت في العدد 58 من «البصائر»، 29 نوفمبر عام 1948.

كيموي من خصائصه إحالة الأعيان معاني، والمعاني أعيانًا فيحيل الرجال مكائد، والمكائد رجالًا ... وفي هذا المعمل صُنع العاصمي وامتحن، فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحية للاستعمال، وأصبح- بعد استكمال التجربة والاختبار- موظفًا في إحدى هذه الوظائف (المدّخرة لوقت الحاجة ولمن تدعو إليهم الحاجة) وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية فيها إلّا جامع يحمل هذه النسبة، وكان من دهاء الاستعمار أن استغل هذه النسبة المجردة، ورأى أن الجامع يجمع ولا يفرق، فوضع فيه رجلًا- أيًّا كان- ليفرق به ولا يجمع، وحفظ به هذه الوظيفة لهذه الغاية، ومن دأب الاستعمار فينا أن يُعمر الرجال بالوظائف، لا الوظائف بالرجال، وإذا لم يبق في الجزائر من يتعبد على مذهب أبي حنيفة أو يتعامل عليه، فأيُّ معنى لوجود مفت حنفي أو قاض حنفي، لولا أن للاستعمار مأربًا في إبقاء هذه المعالم الصورية من بقايا العهد التركي، على أن نسبة المساجد إلى المذاهب ليست من الإسلام في شيء، إذ هي منافية لروح الإسلام، ومناقضة لحكمته في المساجد. إن وظيفة المفتي من أساسها تزوير على الإسلام، لأن الفتيا في الحلال والحرام حق على كل عالم بالأحكام مستوف للشرائط المقررة في الدين ... وإن وجود وظيفة مفت حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومن جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛ إن نسبة الحنفي، تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي أشبه النسبتين به، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقة. ... والتقرير محبوك الأطراف حبكًا استعمارًّيا، مسبوك الألفاظ سبكًا إدارًّيا، يبدأ من الحكومة وينتهي إليها، يلوح من خلال ألفاظه ومعانيه حرص الحكومة على أن لا يفلت هذا الصيد من يدها، فهي تستنجد التاريخ وتستشهد بعوائد المسلمين ونظم الأقطار الإسلامية. وهو ينطوي على تلك الروح التي نعرفها في المعاهدات السياسية من دس الحيلة، وإخفاء الغرض، والاستهواء بالمصلحة، والتزوير على التاريخ، والقياس مع الفارق. وهو يدور على أصل واحد، ولكنه أصل فاسد، يفسد كل ما انبنى عليه، وهو أن أولى الناس بالتصرّف في المساجد هم الموظفون الرسميون، ويسميهم التقرير "رجال الدين"، كأن الأمة كلها نساء الدين، وليس من رجاله إلّا العاصمي وآله وصحبه، ويستشهد على ذلك بأن

الحالة كانت على هذا في العهد التركي وهي على هذا في الأقطار الإسلامية، وهذا كله افتراء على الحقيقة وعلى التاريخ سنكشف أمره، ويستنتج التقرير من هذا أن المسألة كانت إدارية، ويجب أن تبقى إدارية، ويبدئ في هذا ويعيد، لأنه هو بيت القصيد ... وهو يقبح الانتخاب (يعني انتخاب الجمعيات الدينية في تكوينها، وانتخابها هي للمجلس الإسلامي الأعلى الذي أجمع عليه كل المطالبين وأهل الرأي)، ويغالط في الأمر بأن انتخاب تسعة ملايين هو الفوضى بعينها، ويقدح في الجمعيات الدينية بأن وظيفتها الترميم والإصلاح والفرش، ويهوّل بأن الانتخاب مدخل من مداخل السياسة إلى المساجد. كما يقدح في الجمعيات والهيئات المطالبة بحقوق الأمة في دينها- بأن وراء كل واحدة منها حزبًا سياسيًّا يؤيدها، إلى غير ذلك مما سننقله عند المناقشة التفصيلية. ... يا هذا أو يا هؤلاء، أعني البارز منكم والمستتر، إن الإسلام دين (ديمقراطي) سمح، وليس فيه نظام ... "أكليريكي" متسلط كبقية الأديان، وإنما هو دين روحي، تقوم بمصالحه المادية الخلافة إن كانت، فإن لم تكن فالحكومة القائمة، فإن لم توجد فجماعة المسلمين، وإن من تسمونهم رجال الدين، تعينهم- في غير الجزائر- الحكومات الإسلامية أو جماعة المسلمين، والحكومات الإسلامية وجماعة المسلمين لا تكيد لدينها بل تنصح وتسدد وتقارب، ولا تختار للوظائف الدينية إلّا أصحاب المؤهلات العلمية، المستكملين للشروط الدينية، لأن وراء الجميع رقيبًا عتيدًا من الدين، وأمام الكل حسابًا شديدًا يوم الدين، وأما "رجال الدين" عندنا فقد اختارتهم حكومة لائكية متسلطة، وما اختارتهم إلّا بعد أن ارتضتهم ووزنتهم بميزانها لا بميزان الإسلام، وراعت فيهم شروطها لا شروط الإسلام، وما رأيناها تحفل في هذه الوظائف بالعلم، ولا بالكفاية الدينية، وإنما تحفل بشيء واحد هو ما يشهد به "الدوسي"، وما عهدنا موظفًا من هؤلاء جاءته الوظيفة وهو في داره من غير أن يسعى لها سعيها، بل ما وصلت الحكومة حبلهم بحبالها إلّا بعد أن اتخذوا لها الأسباب، وطافوا بالأبواب، وما زلنا نقول: إن الحكومة تحتفظ بهذه الوظائف الدينية لأصحاب الخصائص المطلوبة لها، وإنها في حقيقتها مصائد لا وظائف، وإنها لا تدفع لهم الأجور على الصلاة والأذان والفتيا فسواء عندها أصلّى المسلمون أم لم يصلوا، إنما تدفعها لغايات ومقاصد يجمعها قولك: "القيد والصيد" ومحال على الحكومة أن تُطعم ثمرها من يعصي أمرها، وقد قرأنا في محاضر المجلس المالي القديم أسماء عجيبة لأجور هذا النوع من الموظفين.

أليس تسليم الحكومة المساجد إلى هؤلاء الموظفين تسليمًا من الحكومة إلى الحكومة؛ وهل يستطيع واحد من هؤلاء أن يعصي لها أمرًا ولو كان فيه خراب الكعبة. أما ما يغالط به التقرير من أن الانتخاب يجر السياسة إلى المساجد، وما يتهمنا به معشر المطالبين برفع سلطة الحكومة على الدين وتسليمها للأمة، من أن وراءنا أحزابًا سياسية، فهو سلاح من أسلحة الحكومة المفلولة، ما زالت تحارب به كل عامل، وكلمة من كلماتها المعلولة، ما فتئت تسكت بها كل قائل، ونحن نرد عليها هذه التهمة بالحقيقة، وهي أن تسلطها على مساجدنا وأوقافنا- وهي لائكية- هو عين السياسة، وإسنادها الوظائف الدينية إلى من تختاره وترتضيه هو رأس السياسة، ووضع هذا التقرير باسم العاصمي هو ذنب السياسة، ولولا السياسة ما كان للمفتي الحنفي وجود، ولولاها ما تيسرت حجاته المتعددة، ولا قضيت حاجاته المتجددة، وإذا كان غير العاصمي منسوبًا إلى السياسة، أو متهمًا بها، أو لصيقًا فيها، فالعاصمي ابن السياسة لصلبها ولرحمها، ولكنه ولد من غير السبيل المعتاد، على رأي عبد الحي الكتاني. وبعد فقد قرأ القراء تمهيد التقرير في العدد الماضي، وتبينوا من كل جملة منه رمية إلى هدف، وقذفة بالدين إلى جدف (1)، وسننقل لهم ما يتعلق به غرض المناقشة في الأعداد الآتية، وإنما هذه ملاحظات عامة.

_ 1) الجدف هو الحدث، وهو لغة فيه مما تعاقب فيه الثاء والفاء وهو القبر.

كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية

كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية * أيها الرئيس: نحييكم- على كثرة الحوائل بيننا- كما يحيي العربي الكريم ضيفه. ويسوءنا ويسوء الحقيقة أن تزوروا الجزائر فتروا كل شيء إلّا الجزائر. يسوء الحقيقة أن تزوروا الجزائر زيارة تعدّ من أعمالكم وتسجل في تاريخكم، وتشغل نقلة الأخبار ومستمعيها أيامًا، ويسيل فيها نهران من مال ومداد، وأنتم لم تروا الجزائر الحقيقية بما فيها من مآس وبلايا وجهل وفقر وظلم، وشعب كامل يتألم، وطائفة قليلة تتحكم، وإنما رأيتم زُمرًا لم يحدها إليكم أمل واسع ولم يحفزها إلى لقائكم ضمير حر، ولم يعرضها أمامكم سائق من عقيدة، ولا داع من اختيار، وإنما جمعت بوسائل كالتجنيد الإجباري، وسيقت بأسباب من الترغيب والترهيب ليس فيها إيمان ولا وجدان. يسوء الحقيقة والواقع أن تزوروا الجزائر هذه الزيارة التقليدية التي تقابل بالمظاهر المصطنعة، والخطب المصنوعة، وأن تحاطوا بالمواكب الرسمية التي تحجب عنكم الحقائق كما يحجب الضباب نور الشمس، وأن تصافح سمعكم أصوات ليس فيها صوت حر، فلو كنتم أجانب عن الجزائر وعما يجري فيها لخشينا أن تصدروا عن الجزائر وفي ذهنكم منها صورة غير صورتها. كل الذي ترونه وتسمعونه في زيارتكم هذه مجموعًا ومتفرقًا ليس هو الجزائر ولا صوت الجزائر، وإنما هو شيء مألوف في الجزائر لا يثير اهتمامًا من عاقل، ولا حركة من مجنون! أما حقيقة الجزائر فاستجلوها- إن كنتم تريدون الحقيقة- مما وراء المظاهر تجدوها في جملة: وطن تسعة أعشار من فيه رقيق زراعي وخدم صناعي مفروض عليه الحرمان من

_ * نشرت في العدد 81 من جريدة «البصائر»، 30 ماي سنة 1949.

كل حق، وعشره العاشر سادة مفروض لهم التمتع بكل حق، وبين الفريقين فريق انفصل عن الأول ولم يصل إلى الثاني، وهو الذي ترونه. ... تغير الكون وما فيه، ولم تتغير الحكومة الجزائرية في نظرتها إلى الدين الإسلامي والمسلمين، فالدين الإسلامي مملوك للحكومة الجزائرية، تحتكر التصرّف في مساجده ورجاله وأوقافه وقضائه، وقضية فصل الدين عن الحكومة معلقة بين السماء والأرض، لا يهبط بها إنصاف، ولا يصعد بها عدل، وواقفة بين حكومة فرنسا وحكومة الجزائر موقف التنافس، تلك تحكم بالفصل قولًا وهذه تحكم بالوصل عملًا، وهي تماطل في الفصل لأنها لا تريده، وهي تهيئ الوسائل لتعطيل تنفيذه، أو لجعله صورة بلا حقيقة، وجسدًا بلا روح، وهي تملك من وسائل التعطيل مجلسًا يقدم البحث في مرتباته وألقابه على البحث في مصالح الأمة التي لم يكن لها في تكوينه رأي، ولا في انتخابه حرية. والتعليم الديني في هذا الوطن المسلم معطل بتعطيل المساجد، ومئات الآلاف من شباب المسلمين تتشوق إلى تعلم دينها، ولكن مساجدهم الموقوفة لذلك مغلقة في وجوههم، والدين الإسلامي وتعلمه وتعليمه حق طبيعي وضروري لتسعة ملايين من المسلمين، ولكنهم محرومون منه، والتعليم العربي في هذا الوطن العربي جريمة يعاقب مرتكبها بما يعاقب به المجرم من تغريم، وتغريب وسجن؛ ومدارسه تعاني من التضييق والتعطيل ألوانًا متجددة، ورجاله عرضة في كل حين للمحاكمات في المحاكم الجمهورية التي تتسم بوسمكم، والمحاكمات على التعليم جارية على قدم وساق في هذه الأيام، التي تسبق زيارتكم، كأنها إعداد لها، وابتهاج بها؛ ولو كانت قضايا المحاكم، وسجلات البوليس، وأعمال الحكام، مما يعرض عليكم، أو كان عمار السجون ممن يمثلون بين يديكم- لرأيتم من الأولى عشرات القضايا المتعلقة بالتعليم العربي في ضمن الجرائم والمخالفات، ولرأيتم من بين الآخرين كثيرًا من المعلّمين في عداد المجرمين! وإن قانونًا يمنع التعليم كيفما كان لونه، ويعاقب المعلم كيفما كان جنسه لهو قانون عدو للعلم!! فكيف تسيغه فرنسا (العالمة) وكيف تشرعه فرنسا (المعلمة)؟ ... أيها الرئيس: إن الشعب الجزائري قد أصبح- من طول ما جرب ومارس- في حالة يأس من العدالة، وتسفيه للوعود والعهود، وكفر بهذه الديمقراطية التي يسمع بها ولا يراها، وإنه أصبح لا يؤمن إلّا بأركان حياته الأربعة، ذاتيته الجزائرية، وجنسيته ولغته العربيتين، ودينه

الإسلامي، لا يستنزل عنها برقى الخطب والمواعيد، ولا يبغي عنها حولًا، ولا بها بديلًا. وإن الشعب الجزائري لا ينتفع بنتائج شيء لا رأي له في مقدماته، وإن الدستور الجزائري على نقصه واختلاله لم يكن للأمة فيه رأي، فكيف يجني منه ثمرة؟ أو ينتفع منه بنتيجة؟ وإن المجلس الذي انبثق منه ناقص بنقصه، مختل باختلاله، وقد جالت الأيدي في تكوينه، فجاء كالمولود سقطًا، ليس فيه شيء من خصائص الحياة، فكيف ترجى منه الحياة؟ وإن الشعب الجزائري مريض متطلع للشفاء وجاهل متوثب إلى العلم، وبائس متشوق للنعيم، ومنهوك من الظلم، مستشرف إلى العدالة، ومستعبد ينشد الحرية ومهضوم الحق يطلب حقه في الحياة، وديمقراطي الفطرة والدين، يحن إلى الديمقراطية الطبيعية، لا الصناعية؛ ولكنه ليس كما يقال عنه: جائع يطلب الخبز، فإن وجده سكت. أيها الرئيس: إن حكومات الجزائر تعاقبت في ألوان من المذاهب، ولكن الشعب الجزائري لم ينل على يدها خيرًا، ولم يصل إلى قليل ولا كثير من حقه المهضوم، لا في دينه ولا في دنياه، وإنما هي مظاهر تتبدل بلا فائدة، وسطحيات تغير بلا جدوى، وأسماء بلا معان، والحقيقة هي هي!! ... وان هذه الحكومات المتعاقبة تجري- من يوم كانت- على أسلوب من شر أساليب الاستعمار وأقبحها، فهي تتخذ الدين الإسلامي آلة لخدمة السياسة، ولذلك تتمسك هذا التمسك بمساجده وأسبابه، وهي تجعل السياسة آلة لهدم الدين الإسلامي، وهي تحارب اللغة العربية والتعليم العربي لتجعل من ذلك وسيلة إلى محو الجنسية العربية، وهي تسد أبواب العلم في وجوه المتعلمين بوسائل شتى ليبقى الشعب أميًّا جاهلًا، فينسى نفسه وتاريخه، ويقنع بأخس الحظوظ في الحياة، وإن بقاء نحو من مليونين من أبناء الشعب محرومين من التعليم بجميع أنواعه لأصدق دليل على ذلك. إن حكومة توسع السجون، وتضيق المدارس، حكومة سيئة الظن بنفسها قبل أن تكون سيئة الظن بالشعب. أيها الرئيس: ظهرت في عهد هذه الجمهورية الرابعة نغمة جديدة أنكرناها وكفرنا بها لأنها لا تنسجم مع ماضينا، ولا تتناسق مع حالنا ولا مستقبلنا، وانتقدها الرأي العام العالمي العاقل اليقظ المنطقي لأنها ناشزة عن قرارها، مخالفة للواقع المحسوس؛ هذه النغمة هي نغمة "الوحدة الفرنسية". ولا يشك عاقل في أن كلمة الوحدة هذه مقطوعة الصلة من معناها، وكأن

واضعها هازئ بنفسه، أو بالناس، أو بهما معًا، وكأنها سخرية ساخر، لم تسبقها روية، ولم يحكمها منطق، ولم يَحكها تدبر. لا يسيغ منطق ولا عقل كيف تكون الوحدة بين سيد وبين مسود، وكيف تتصور بين حاكم مزهو بعصبية جنسية تظاهرها عصبية دينية، وبين محكوم؟ وكيف تتفق في وطن ساكنوه صنفان، وقوانينه صنفان؟ وكيف تتم في بلد كنيسته حرة، وبيعته حرة، ومسجده مستعبد؟ وكيف تتجاور في عقيدة أو لسان مع كلمة السيادة الفرنسية التي تلوكها الألسنة، وتنضح بها الأقلام خصوصًا في هذه الأيام؟! ... إنكم أقمتم في الجزائر في عهدها الأخير عامين، وأحطتم رؤية وعلمًا بما يجري فيها، وإنها باقية حيث تركتموها، ما تقدمت إلّا في التأخر، وما ترقت إلّا في الانحطاط، فنعيذكم بشرف الحرية، وحرمة الضمير الإنساني، وكرامة العلم- أن تغتروا بما تسمعونه من خطب، وبما ترونه من مظاهر، فكل ذلك مهيأ لتغطية الحقيقة والتضليل عنها، فالتمسوها في جدب العقول لا في خصب الأرض، وفي فوضى الحياة لا في نظام المواكب، وفي بؤس البادية لا في نعيم المدينة- تجدوها ماثلة للعيان، ناطقة بالبرهان، صادقة في البيان.

هل دولة فرنسا لائكية

هل دولة فرنسا لائكية * (تعليق على كلمات في خطبة م. نيجلان في عين صالح) ــــــــــــــــــــــــــــــ لم نتعرّض في يوم من الأيام لأعمال الوالي العام الحالي، ولم نعلّق على خطبه بحرف، لأننا قوم نعمد في مقاومتنا إلى المبادئ لا إلى الأشخاص، ولا نتوجّه في حربنا إلى رجال الاستعمار، بل إلى الاستعمار الذي يتكلمون باسمه، فإذا زال الاستعمار رجع هؤلاء الرجال نَاسًا كالناس، أو ماتوا كمدًا عليه؛ ولأننا نرى أنه والٍ كالولاة في باب السياسة الجزائرية، وفي باب معاملة العربي الجزائري، وفرنسي كالفرنسيين في باب الاستعمار وفهمه والمحافظة عليه. وكلّ والٍ في الجزائر فهو مبعوث برسالة، ومتلق الوحي من فرنسا، فهو مبلغها، فعامل بها، فمنفّذ لها؛ وكل فرنسي معمر في أرض الجزائر، أو ممثل للاستعمار فيها، أو موظف في حكومتها، فهو جبّار في الأرض مفوّض عليها، معتقد أنه ملك بين رعايا، ومالك بين عبيد، فالمعمر كله أنانية واستئثار، والحاكم كله ترفّع واحتقار، والموظف كله سخرية وانتهار، والحالة هي الحالة، تختلف مشارب الولاة ونزعاتهم الحزبية، فإذا جاءوا هنا كانوا شيئًا واحدًا! لذلك قلنا قديمًا: لا يقتضي تحوّل الأحوال … ذهاب والٍ ومجيء وال وإلى الآن لم يرزقنا الله حاسّة ندرك بها الفرق بين فرنسي وفرنسي من الطراز الذي ذكرناه، بل الذي أدركناه، وشهدت به التجارب القطعية أنهم نسخ من كتاب، فالعالم، والنائب، والجندي، والحاكم، والموظف البسيط، والفلّاح، كلهم في ذلك سواء، وكلهم جار فيه على جبلة كأنها من الخلقيات التي لا تتغير، ومن زعم فيهم غير هذا فهو مخدوع أو مخادع. وأخرى زهدتنا في الحديث عن هذه الخطب وهذه الأعماللإوهي أنها شرح للاستعمار، وقد عرفناه، وتغنٍّ بالقوّة، وقد آمَنَّا بأن الله أقوى، وصدى من كلام

_ * نشرت في العدد 103 من جريدة «البصائر»، 16 جابفي سنة 1950.

الاستعماريين القدماء، وقد مللناه. فأمّا عدل ينشر، وصلاح يُؤثر، وأعمال تجمع القلوب على الصفاء، ومواعيد مقرونة بالوفاء وعلاج للعلل، وترقيع للخلل- فإننا لم نرَ من ذلك شيئًا- وأما معجزات من الأعمال، التي يتفاضل بها الرجال، فإننا لم نرَ في ناحية الإيجاب إلا اغتصاب الحكومة لأوراق الانتخاب، واستلابها لإرادة الناخبين بالقوّة المسلّحة، وبناء مجلس لا يتصل بالديمقراطية من قريب ولا من بعيد؛ ولم نرَ في ناحية السلب إلا سكوتها العميق عن القضايا التي أحالها البرلمان الفرنسي على المجلس الجزائري، ومنها قضية "فصل الحكومة عن الدين" ... ... لم نتعرّض لأعمال الوزير الوالي وخطبه المتكررة، حتى سمعنا خطبته الأخيرة (بعين صالح)، وقرأناها في الصحف، فلفتتنا كلمات منها، جلَّى فيها مقاصد الاستعمار بالجزائر، ونبّهنا على السر في تشدّد حكومته في قضيّتنا الدينية، وتصامِّها على سماع كلمة الحق فيها، تلك الكلمات هي ثناؤه- في معرض الامتنان على الجزائر- على الجندي، والمعلّم، والطبيب، والراهب، وقرنه إياهم في قرن. ومعنى هذه الكلمات عندنا أن فرنسا قذفت هذا الوطن بأربعة أنواع من القوى مختلفة التأثير، متّحدة الأثر، متباعدة الميادين، ولكنها تلتقي على هدف واحد، وهو التمكين للاستعمار؛ وأنها حاربته بأربعة أصناف من الأسلحة البشرية، أخفّها فتكًا وأقصرها مدى، الجندي ... جاءت فرنسا إلى الجزائر بالراهب "الاستعماري" لتفسد به على المسلمين دينهم، وتفتنهم به عن عقائدهم، وتشككهم بتثليثه في توحيدهم، وتضار في ألسنتهم كلمة "الهادي" بكلمة "الفادي". ذلك كله بعد ما أمدّته بالعون، وضمنت له الحرية، وكفرت به هناك لتؤمن به هنا. وجاءت بالمعلّم "الاستعماري" ليفسد على أبناء المسلمين عقولهم، ويلقي الاضطراب في أفكارهم، ويسْتَنْزِلَهم عن لغتهم وآدابهم، ويشوّه لهم تاريخهم، ويقلّل سلفهم في أعينهم، ويزهدهم في دينهم ونبيّهم، ويعلّمهم- بعد ذلك- تعليمًا ناقصًا: شر من الجهل. وجاءت بالطبيب "الاستعماري" ليحاري على صحة أبنائها قبل كل شيء، بآية أنه لا يكون إلا حيث يكون الأوربيون، لا في المداشر التي يسكنها الألوف من المسلمين وحدهم، ولا في القبائل المتجاورة التي تعد عشرات الألوف منهم. أما هذا الطبيب الاستعماري بالنسبة الى المسلمين فكأنما جاء ليداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بخلق جراثيم، ويجرّب معلوماته فيهم كما يجرّبها في الأرانب؛ ثم يعيش على أمراضهم التي مكّن

لها الاستعمار بالفقر والجهل، مما جعل الجزائر كلها- إذا استثنينا الحواضر- بستان المشمش في نظر ابن الرومي (1). هذا هو المعنى الذي نفهمه من مجيء هؤلاء، ومن ثناء السيد الوزير الوالي عليهم. ... وبعد، فهل تتّسع الصدور لمناقشة هذه الكلمات الصريحة، بكلمات صريحة؟ جاءت فرنسا إلى الجزائر بالجندي ففتح بالقوة، ومهّد بالقوة، وسجّل لها في تاريخ الإنسانية صحائف لا ندري ما لونها، إلا إذا قرأنا "رسائل سانت أرنو"، وتقرير لجنة البحث البرلمانية سنة 1833، وكتاب "كريستيان" وكلام النائب المنصف "روجي" في مجلسى الأمة الفرنسي شهر جانفي سنة 1834. ثم جاءت بعده بالمعلّم والطبيب والراهب، بعد أن أجرت لهم عملية التلقيح بمادة "الاستعمار"، وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص، فلم يبق المعلم معلمًا علميًّا، ولا الطبيب طبيبًا إنسانيًّا، ولا الراهب أبًا روحيًا، وإنما جاءوا في ركاب الاستعمار ليخدموه ويثبتوا أركانه. ونظر الناس بعد مرور مائة وعشرين سنة على هذه "الرحمات" الثلاث المرسلة إلى الجزائر من سماء فرنسا، فإذا تسعة وتسعون في المائة من أبناء الأمة الجزائرية أميّون، لم يرَوْا مدرسة، ولم يسمعوا بمعلم، فقدوا قديمهم ببركة الاستعمار، ولم يجدوا الجديد! وإذا الطب الاستعماري لم يقضِ على المرض وإنما قضى على الصحة، فأربعمائة ألف من مجموع الأمة مسلولون، والباقون معلولون، وعشرات الآلاف من الأجنّة تسقط لفقد العناية، ومثلها من الصبيان يموت لسوء التغذية، ومثلها من الأحداث يذبل عوده لفقد وسائل التنمية، وإذا الراهب المبشّر ذئب فلاة، يتربّص اليتم لينصِّر الأبناء، والمجاعات ليفتن الآباء، فكأن من وصايا المسيح عنده أن لا يطعم البطن إلا إذا أخذ القلب، وأن لا يكسو الظهر إلا بالتجريد من الدين، ولا ينشر تعاليم المسيح إلا باستغلال أزمات الضعفاء والبائسين! ... حاشا لدين المسيح عليه السلام وكلمته التي ألقاها إلى مريم أن يكون هذا طريقه إلى النفوس، وهذه طريقته في الانتشار. إن المسيح كان عدوًّا للظلم والباطل، وإن الاستعمار أقبح باطل وأشنع ظلم على وجه الأرض، فهل يُعدّ من أتباع المسيح وورثة هديه من ينصر الاستعمار؟

_ 1) يقول ابن الرومي: إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش … فأيقن بحق أنه لطبيب يغل له ما لا يغل لربّه … يغل مريضًا حمل كل قضيب

إن الاستعمار القائم على الجندي والمعلّم والطبيب والراهب هيكل حيواني يمشي على أربع ... وإن الاستعمار قد قضى بواسطة هؤلاء الأربعة على عشرة ملايين من البشر، فرمى مواهبهم بالتعطيل، وعقولهم بالخمود، وأذهانهم بالركود، وأفكارهم بالعقم، وأضاع على الإنسانية بضياعهم عشرة ملايين من المواهب والعقول والأذهان والأفكار وهي رأس مال عظيم كانت تستعين به- لولا الاستعمار- على الخير العام والمنفعة، وتنتفع به في إقامة دعائم المدنية، فما أشأم الاستعمار على الإنسانية! ... إن هذه الأمة كانت قبل الاستعمار ذات مقوّمات من دينها ولسانها، وذات مقومات من ماضيها وحاضرها، وكانت أرقى عقلًا، وأسمى روحًا، وأوفر علمًا، وأعلى فكرًا من أمم البلقان لذلك العهد، بدليل أن هذه الأمة كان لها حظ من حكم نفسها بنفسها لم تصل إليه تلك، ولو سارت سيرها الطبيعي ولم يعترضها الاستعمار بعوائقه وبوائقه لأنجبت المعلم الذي يملي الحكمة، لا المعلم الذي يمالئ الحكومة، ولأنجبت الجندي الذي يحرس الحق، لا الجندي الذي يخرس الحق، ولأنجبت المتأله الذي يؤمن بمحمد وعيسى ويوحّد الناس على هديهما، لا المتألّه الذي يسخر الاستعمار لإحياء فريق بإماتة فريق. ... إننا أمة علم ودين، لم ينقطع سندنا فيهما إلى آبائنا الأولين، وإننا أمة شكران لا أمة نكران، فلو أن المعلّم الذي جاءتنا به فرنسا علّم ناصحًا، وربّى مخلصًا، وثقّف مستقلًا، وبثّ العلم لوجه العلم، ونشر المعرفة تعميمًا للمعرفة، وزرع الأخوة الصادقة في سبيل الإنسانية الكاملة، ولم يقيده الاستعمار ببرامجه، ولا سيّره على مناهجه، لظهرت آثاره الطيبة في الأمة، ولأنطقتنا تلك الآثار بالاعتراف والثناء بالجميل، ولكنّه علّم متحيزًا إلى فئة، وأورد على غير مشربنا، وغرس في نفوس أبنائنا التنكّر لماضيهم، والتسفيه لتاريخهم، والنسيان للغتهم ودينهم. أفهذه هي النعمة التي تمنها فرنسا علينا وتتقاضانا شكرها؟ ... ولو أن الراهب الذي جاءتنا به فرنسا جاء لينشر تعاليم عيسى بين أتباعه، ويبث تسامحه بين أشياعه وغير أشياعه، للقي منّا التبجيل والاحترام، لأننا أعلم الناس بتعاليم المسيح، ولأننا لا نفرّق بين أحد من رسل الله، ولأننا نعتقد أن النبوات كلها حق وهداية وخير، وأن لاحقها ينسخ سابقها بما هو أكمل وأفضل وأجمع لشمل البشر، وأنفى للشرّ والفساد بينهم، ولكن الراهب الذي جاءتنا به فرنسا إنما جاء ليبارك على القاتل، ويدني الصيد من الخاتل، ويعاون المعمر على امتلاك الأرض، والحاكم على انتهاك العرض، وإنما جاء ليغفر للذين

يسفكون دماء الأبرياء ما اقترفوه من ذنوب وآثام. أفهذه هي المنقبة التي تفخر بها فرنسا، وتعدّها من وسائل التمدين، وتتقدّم بها إلى التاريخ؟ ... هناك المظهر، وهنا المخبر ... هناك يقولون إن فرنسا حاملة لواء الحرية وحادية الأمم إليها، وإنها حامية حقوق الإنسان، وإنها زعيمة التحرير في العالم، وإنها أستاذة المثل العليا للإنسانية، وإنها منارة العدل التي يهتدي بها المظلومون، يبدئون القول في ذلك ويعيدونه وينشرونه في العالم، ويكتبونه في كل سطر من صحفهم ومؤلفاتهم ... وهنا يفرضون علينا العبودية، ويمنون بها علينا، ويريدون منّا أن نسمّيها بغير اسمها، وأن نكافئهم عليها حمدًا وشكرًا ... ويزور بلادنا من سمع تلك الدعاية وتأثّر بها فتصوّرنا بها أحرارًا في ملكوت وأبرارًا في نعيم، فلا تقع عينه إلا على عهود بائدة من الأشخاص والأحكام والمعاملات، لا تصلح إلا لمتاحف الأثريات، ولا ترى من هذه الأمة إلا عظامًا معروقة، وجموعًا مفروقة، وأشكالًا من الجحيم مسروقة، ويتردّد بين تكذيب السماع وتصديق العيان، ... ولكن الحقيقة أن ذلك مظهر، وهذا مخبر، ويا بعد ما بينهما. وقبل وبعد، فهل حكومة فرنسا بعد إعدادها للرهبان، واعتمادها على الرهبان، دولة لائكية؟

فصل الدين عن الحكومة - 1 -

فصل الدين عن الحكومة ... * - 1 - ما زالت هذه الحكومة تمزج الصلف بالتصلّب، والتردّد بالتقلّب، وتخلط الممانعة بالمدافعة، وتؤيّد التحيّل بالتخيّل، وتكمل الإصرار على الباطل بالعناد فيه، في قضية حقّنا فيها أوضح من الشمس، وباطلها فيها أعرق من الإدبار من أمس. وما تزال تهيم في أودية من الضلال، وتتصامّ عن الأصوات المتعالية من أصحاب الحق، بطلب الحق، وتتعامى عن الحقائق التي بينّاها لها، وعن النذر التي جلتها عليها الأيام، وتحن إلى تقاليدها الاستعمارية البالية في التسلّط على ضمائر المستضعفين ومعنوياتهم لتفسدها عليهم، فهي تظهر في كل يوم بجديد، في مسألة لا قديم لها فيها ولا جديد ... ونحن لا نستغرب هذا ولا أكثر من هذا من حكومة تدين بالهوى لا بالعقل، وترتجل الأحكام حيث يجب التروّي، وتتروّى حيث يجب الارتجال، وتدور على قطب قلق من المكاتب المتعاكسة، ورؤساء المكاتب المتشاكسين، وعلى تواطؤ في التباطؤ، يُفني الآمال، ويُضني الآملين، ويضلّ الأعمال، ويملّ العاملين، لا على شورى تعصم الرأيَ من الضلال، ولا على استبداد يحرم الرأي من الظهور! ولعمري ... إن هذه الحالة هي شرّ ما تُساس به الأمم وتُدار به الحكومات، ويصاب به الحاكمون حين يصابون بالأزمات النفسية، والقلاقل الفكرية، والزعازع الحزبية، والأمراض العنصرية، وهو أسوأ ما تبتلى به الشعوب التي تدور عليها كواكب النحس، فتوزن بموازبن البخس. كأني بهذه الحكومة اللايكية المسيحية- معًا- الديمقراطية الديكتاتوربة- معًا- ترمي ببصرها إلى ما وراء حدود الجزائر من الأقطار الإسلامية الحرة في ديانتها، المدبرة لشؤونها الدينية بنفسها وبحكوماتها، فترى أن حكومات تلك الأقطار هي القائمة على شؤون الدين،

_ * نشرت في العدد 75 من جريدة «البصائر»، السلسلة الثانية، 11 أفريل سنة 1949.

والمسيّرة لنظمه، فتجعل البابين بابًا واحدًا، وتقول: هذا من باب ذاك ... هن حكومات، وأنا حكومة، وهنّ يتصرفن في الدين، فأنا أتصرف في الدين ... فتقيس مع الفارق، وتقف على "ويل للمصلين" ... ويغيب عليها في هذا البُحران أن تلك الحكومات إسلامية، فهي تمارس شؤون الدين، بحكم الدين، وتجري هي تصرفاتها فيها وتسييرها لها على أحكام الدين، وترجع في ما يشكل عليها إلى رجال الدين، وهم- بالطبع- ليسوا كعلماء دين الحكومة الجزائرية ... علمنا هذا مما علمناه من أعمال الحكومة، وبلوناه من سرائرها، وجلوناه من جرائرها، واستنبطناه من تمسكّها الشديد، وتشدّدها الأعمى، وحيرتها واضطرابها في هذه القضية، ثم مما قرأناه في السطور (وبين السطور) في تقريرها الذي وسمته بالتقرير العاصمي. وإذا ذكرت أن الشيء الواحد يتفق مصدرًا فإذا هو شيء واحد، كما تعقله وتفهمه، وتعرفه وتعلمه، ثم يختلف مظهرًا فإذا هو شيئان أو أشياء، كما تشاء الأهواء، إذا ذكرت ذلك فاذكر أن العاصمي في تقريره المملوء بالمنطق الأعوج، المبني على التاريخ الأعرج، معناه أن الحكومة استعملت المساجد (ورجالها) يوم استلمتها من يد المفتيين الحنفي والمالكي. فمن العدل (ومن المطابقة) (ومن مراعاة النظير) أن ترجعهما إلى المفتيين (يعني الحاليين) أو (يعني مفتيًا واحدًا من الحاليين). واسأل العرّافين: لو لم يكن العاصمي مفتيًا، أو لو عُزل عن الإفتاء، أكان يرى هذا الرأي؟ يقول كل عرّاف: لا. ويقولون أيضا: إن العاصمي لا ينطق عن هواه وإنما ينطق عن وحي ساداته ومواليه. وليس هذا الرأي ابن يومه، ولا ابن التقرير، وإنما هو ابن سنين. فقد زارني العاصمي مبكرًا متنكّرًا منذ سنوات، وكان يومئذٍ يحضر جلسات نادي الترقّي، ويشايع الأستاذ العقبي ظاهرًا على آرائه في القضية، فأفضى إليّ بهذا الرأي على أنه من بدائعه، وقال لي: إن مساعي العقبي ضائعة، وإنها ضرب في حديد بارد، وإن هذا الرأي هو الرأي المقبول المعقول. فقلت له ما معناه: إن المفتيين اللذين سلّما المساجد، سلّما ما لا يملكان. فعملهما ليس بحجّة علينا، وسلّما، وسيف الاستعمار مصلت على رأسيهما، فتسليمهما ليس بحجة علينا، وفعلا تلك الفعلة الشنعاء استسلامًا للجبن، واحتفاظًا بالوظيف والرغيف، وفعل المستسلم ليس بحجة علينا، وقلت له إن استلامكما لها لا يقل شناعة، ولا يختلف مقاصد وأغراضًا عن تسليمهما، وإذا تنازلنا قلنا: إننا لا نأمن أن تستلماها، فيأتي مفتيان آخران فيسلّماها، ما دامت حجتك دائرة على: مفتٍ يسلّم، ومفتٍ يستلم، وكلا عمليهما غير مشروع، وقلت له: إن الرأي في القضية للعلماء الأحرار وإن الحق فيها للأمة المسلمة، وإن المفتي الأول لا حق له في التسليم، وإن المفتي الأخير لا حق له في الاسْتلام، والأول

مبطل في العطاء والأخير مبطل حين يأخذ. وكلاهما موظف مأجور، أقلّ ما يقال فيه إنه متهم؛ ولو كان المفتيان اللذان سلّما المساجد والأوقاف إلى الحكومة مسلمين يخافان الله ويرجوان لقاءه لما أقدما على ذلك، ولآثرا الموت شنقًا على ارتكاب ما ارتكباه وأقلّ ما كان ينتظره الإسلام منهما- إن أكرها على ذلك- أن يسلّما الوظيفة لا المساجد؛ ولكنهما كانا أحرص على الوظيفة منهما على دينهما. وقلت له: أتظن أن عملكما في الاستلام يعد تكفيرًا عن إجرامهما في التسليم؛ أم تظن أن عمل الحكومة في التسليم لكما يُعدّ توبة لها، من الغصب؛ أنتما موظفان لا تملكان لأنفسكما حرية، فكيف تُحرّران المساجد والأوقاف؛ إن الأمر متشابه الأواخر بالأوائل، وبعضه من بعضه، وإن تسليم الحكومة شيئًا لموظّفيها لا يكون معناه البديهي إلا تسليم الحكومة لنفسها؛ ومن القواعد المقرّرة في الفقه: العبد وما ملك لسيّده، ولا يتم تحرير المساجد إلا على أيدي الأحرار. ... وهذه القضية هي أخت التي فرغنا من الحديث عنها بالأمس، كلتاهما مما تشتدّ جمعية العلماء والأمة في المطالبة بتحريره، لأن كلتيهما من صميم الدين، وقد كانت لنا في هذه مواقف مشهودة، كالتي كانت لنا في تلك، بل كنا نقرن بينهما دائمًا كشهادتي الإسلام إحداهما مكمّلة للأخرى، فلا نريد أن تبقى للحكومة يد ولا إصبع في تعليمنا العربي الديني، ولا في شعائرنا الدينية ولا في مساجدنا، ولا نريد إلا أن تكون الأمة حرة في دينها، مطلقة التصرّف في مساجدها وأوقافها وشعائر دينها. وللحكومة في هذه القضية قوانين وقرارات متشابكة متناقضة كالتي في تلك، وفيها الظاهر، وفيها الباطن، وفيها ذو الوجهين، وفيها الصريح في الفصل، وفيها ما يقيّده، ولا نتشاغل بمناقشتها لأن الدستور الجزائري الأبتر قضى عليها جميعًا، وحسم القضية فصرّح بالفصل، ولم يبقَ إلا التنفيذ فوكّله إلى المجلس الجزائري فأبت حكومة الجزائر إلا أن تعكّر الصفو فركبت العظائم في تكوين ذلك المجلس، حتى جاء كما تهوى، ويهوى لها الهوى. وهي بعد ذلك دائبة على إبقاء هذه القضية وأخوات لها كما كانت؛ فأوعزت بالتقرير العاصمي لتوهم به النوّاب، ولكون أحد الأسباب؛ ثم عمدت إلى ألاعيب أخرى في الجمعيات الدينية؛ وليست مهزلة الانتخاب التكميلي للجمعية الدينية بالجزائر بآخرة المهازل، وسنناقش هذه المهازل وأصحابها الحساب. والأمة لا ترضى إلا بالفصل الحقيقي على الوجه الذي يسطره العلماء الأحرار، والمسلمون الأبرار.

فصل الدين عن الحكومة - 2 -

فصل الدين عن الحكومة - 2 - * سلّمنا أن فرنسا دولة مستعمرة من ذلك الطراز الاستعماري اللاتيني الأزرق، وأنها تمتاز بادّعاء أنها ممدّنة العالم ومعلّمته وناشرة لواء الحرية فيه، وأنها السابقة إلى نبذ الأديان، وقطع الصلة بين الله وعباده، وأنها واضعة نظام اللائكية التي معناها وضع سور بين الحكومات وبين الأديان كيفما كان نوعها، ومعناها أيضًا تقوية السلطة المادية، وتوهين السلطة الروحية، وأنها الأستاذة الكبرى لكلّ من سلك هذا السبيل، وتأسّى بهذه الشرعة، وأنها مرجع كل إباحي، وقدوة كل ملحد، وأنها شيخة مصطفى كامل في الأولين ومصطفى كمال في الآخرين، ما هتف الأول في الوطنية إلا بشعارها، وما تغنّى في الحرية إلا على مزمارها؛ وما استدبر الثاني مشرق الشمس إلا ليستقبل مغرب أنوارها، وما نبذ حروف العرب إلا ليستبدل راءَه بغَيْنها (1) وطورانه بنارها. كل هذا مما تدعيه فرنسا وتغري به البله منّا وتغرّ المغفلين. ولكن ما بالها خالفت العالم الاستعماري كله، وخرقت إجماعه، وشذّت عن قاعدته، فهو يسالم الأديان حتى الباطل منها وغير المعقول، ويترك أهلها أحرارًا في شعائرهم ومعابدهم، ويوليها شيئًا من الرعاية والاحترام، ويكتفي بالتسلّط على الجانب الدنيوي من حياتهم؛ أما هي فتضايق الإسلام في الجزائر وتحتكر معابده وشعائره، وتمتهن رجاله، وتبتلع أوقافه، فلا مسجد إلا ما فتحته ولا إمام إلا من نصبته، ولا مفتي إلا من (حنفته) أو (ملّكته)، ولا شيخ طريق إلا من (سلّكته) ولا حاج إلا من حجّجته أو نسّكته، ولا صائم ولا مفطر إلا على يد (لجنتها)، ولا هلال إلا ما شهد برؤيته (قاضيها)! ... ...

_ * نشرت في العدد 83 من جريدة «البصائر»، 13 جوان سنة 1949. 1) بغينِها: كثير من الفرنسيين ينطقون الرّاء غينًا.

قرأنا سِير الإنكليز في الهند فوجدناهم بالغوا في إعطاء الحرية للأديان حتى بلغوا حد السخافة، وسوّوا في تلك الحرية بين (قرّاء البقرة) بالحق، وبين (عباد البقرة) بالباطل، ويسّروا سبيل الحج حتى اتّسع معنى الاستطاعة. وقرأنا عن تلك الدويلات الاستعمارية- وشهدنا- أنها تحترم الأديان الموجودة في مستعمراتها حتى الوثني منها، والمضاد لحضارة الإنسان، والواقف في طريق الرقي العقلي. ولو أنها خصّت الوثني منها بالاحترام والحرية لقلنا: إنها مكيدة تجعل بها حرية الدين وسيلة لاستعباد المتدينين به. ولكنها أرخت عنان الحرية للإسلام الذي هو أعظم خصوم الاستعمار، وأقوى عامل للتخلّص منه. ثم ما بالها خالفت نفسها، وناقضت مبدأها؛ فهي في فرنسا تدين باللائكية وحرية الأديان، ينصّ على ذلك دستورها، ويجري عليه تعليمها، وتتأثّر به أمّتها، وهي في الجزائر "تتمسّك" بالإسلام هذا التمسّك، وتتشدّد في "القيام" به هذا التشدّد، وتتعنّت في الانفصال عنه هذا التعنّت. ... في الدول المستعمرة مَن هي أبرع من فرنسا في فقه الاستعمار، ومَن بلغت فيه رتبة الاجتهاد المطلق، وهي- مع ذلك- تعامل الإسلام بما يليق به من كرامة، وبما يستحقه من حرية، فهل هي في هذا جاهلة لأصول الاستعمار؟ وهل هي في هذا غافلة عما في حريته من خطر؟ لا ... وإنما هي في هذا أوسع نظرًا وأكثر تبصّرًا بالعواقب من فرنسا. وهي ترى أن إعطاء الحرية للإسلام جلب للهناء والسعادة وحسن العشرة ولو إلى حين، وهي تعتقد في قرارة نفسها أن الاستعمار لصوصية، واللصوصية أحوج الأشياء إلى الحذق، وهي قد جرّبتْ فعلّمتها التجارب أن حرية الأديان لا خطر فيها، وإنما هي خير وراحة ورضىً واطمئنان؛ ولو أن فرنسا السيّئة الظن بالإسلام، والموجسة من حريته خيفة، رمتْ ببصرها إلى ما وراء الحدود الجزائرية، ولو أنها كانت ممن ينتفع بالتجارب، لرأت في المغرب وتونس ما ينقض عليها عقيدتها في الإسلام، ولغيّر نظرتها إليه، وحكمها عليه، فالإسلام في القطرين حرّ، وإدارته بيد أهله ولم يأتها الخطر من تلك الحرية، بل إن حرية الدين في القطرين سدّت عليها أبوابًا من الخطر والإقلاق. وإذا قلنا إن الإسلام حرّ في المغرب وتونس فإننا لا نعني من الحرية معناها الواسع الصحيح لأن الاستعمار الفرنسي لا ينسى عوائده. ولا يخالف أصوله وما زال يتخذ من أعماله في الجزائر- على شناعتها- نموذجًا يحتذيه في الأقطار التي ابتليت به: لا ينتفع بالعظات، ولا يتطور مع الأوقات، وفي تدخله في الأوقاف الدينية بتونس

ومراكش، واستهوائه لأكابر رجال الدين، وامتداد نفوذه إلى السلطة القضائية، أكبر دليل على ما قلناه. ... الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، يلتقي القائمون به على سجايا خبيثة، وغرائز شرهة، ونظرات عميقة إلى وسائل الافتراس، وإخضاع الفرائس، وأهمّ تلك الوسائل قتلُ المعنويات وتخدير الإحساسات الروحية؛ ولكن هناك تفاوتًا بين استعمار واستعمار، فاستعمار يباشر وسائله بالحقد ويشربها معاني من الانتقام؛ وآخر يباشرها بنوع من التسامح واللين؛ والاستعمار الفرنسي من النوع الأول، وبين النوعين فرق، وإن كانا بغيضين ممقوتين، لأنهما استغلال للأموال، واستعباد للأجساد، ويزيد أحدهما بأن فيه ترويحًا على الأرواح، ولولا ما بلوناه من شر الاستعمار الفرنسي على ديننا ولغتنا، وما تجرعناه في سبيل إحيائهما من غصص، وما كابدنا في إنقاذهما منه من بلاء، لما ذكرنا الاستعمار بخير، ولما أجريناه على ألسنتنا إلا مقرونًا باللعنة مصحوبًا بالسخط، ولكن في الشر خيارًا لا يقدره قدره إلا المبتلى بالأشد من أنواعه. ساء مثلًا الاستعماران: ما يُقعد منهما الروحانيات المقعد الخشن، وما يُقعدها المقعد الوطيء، وما يتعمدها بالقتل الوَحِيِّ، وما يبتليها بالموت البطيء؛ وسيسوآن- وإن طال أمدهما- مصيرًا، وسيخذلهما القاهر الذي يُمهل ولا يُهمل، ولا يجدان من دونه وليًّا ولا نصيرًا. ... أكثرنا من ذكر الاستعمار في المعارض التي يلتقي بنا أو نلتقي به فيها حتى كدنا نألفه فتأنس له نفوسنا، ويشغلنا ترداد اسمه عن الاستعداد للتخلص منه، كما يشغلنا الإكثار من لعن الشيطان عن الاحتراس من وساوسه، والتحفظ من مكايده؛ فلنرجع إلى أنفسنا وإلى أمّتنا، ولنناقشها الحساب: ماذا أعدت لتحرير الدين؟ وبماذا استعدت؟ لنخرج من الأقوال إلى الأعمال، ومن الافتراق إلى الاجتماع، ومن التفريط إلى الحزم، ومن المهاودة إلى التصميم، ومن المطاولة إلى الإنجاز، ومن التخاذل إلى التناصر، ومن الجمجمة إلى الصراحة، ومن السلب إلى الإيجاب. إن المسألة خطيرة، وإن الأمّة الجزائرية المسلمة في قلق عظيم، وإن أصحاب الأغراض والمنافع من حكومة وحكوميين يعبثون بديننا ونحن ننظر. فلنقف الوقفة الحازمة التي توقف كل عابث عند حدّه.

فصل الدين عن الحكومة - 3 -

فصل الدين عن الحكومة - 3 - * شهر رمضان ظرف زماني للدين، فكلّ حديث فيه عن الدين عبادة، والمساجد ظروف مكانية للعبادة، بينها وبين رمضان صلات وكّدها الله الذي كتب الصوم وجعله له، وشرّف المساجد فجعلها بيوته، وشرع لهما حُرُمات متشابهة، ومنها هجر اللغو، والتزام الصدق، وحبس الأنفاس على طاعة الله؛ فالمسلم في المسجد مواجه لربّه، واقف بين يديه، وفي رمضان مكبوت عن شهواته، مأخوذ بناصيته إلى الحق. فالحديث عن المساجد من الدين، والتنديد بأعمال الظالمين لها والغاصبين لحقوقها من الدين، وانتقاد القائمين فيها من الدين أيضًا! فنحن- من رمضان والمساجد- في دائرة مغناطيسية من الدين، لا نفلت منها إلا لنقع فيها، وداعي الدين هو الذي يحرّك ألسنتنا إلى النطق، وأقلامنا إلى الكتابة، وعقولنا إلى التفكير في هذه المسألة؛ ونحن نعتقد أننا حين نكتب حرفًا، أو ننطق بكلمة، أو نرسل رأيًا في هذه القضية، ننطق بحق ونكتب حقًّا، ونرى حقًّا، ولو كرّرنا ذلك ألف مرة، وأننا حين نسكت- نسكت عن باطل لا يجوز إقراره ولا السكوت عليه- ونعتقد أن الأمة حين تسكت، أو تقصر، أو تتخاذل في هذه القضية، مجمعة على محرم، مأخوذة به عند الله، يوم يطالب كل ذي حق بحقّه ويطالب رب العباد بحق دينه، وويل لمن كان ربّه خصمه يوم القصاص. ونعتقد أيضًا أن هذه الحكومة المسيحية مصرّة على باطل أبطلته الأديان والقوانين والمدنيات والعوائد، وأنها عجزت عن دينها المسيحي أن تحرّره من احتكار روما، وعن دين موسى أن تنتزعه من مجامع الأحبار، فجاءت إلى ديننا تتحكّم فيه، وتلصّ أوقافه وتسخر رجاله الضعفاء لمصالحها، وتجعل من معابده ميادين لاحتفالاتها بالنصر والكسر،

_ * نشرت في العدد 87 من جريدة «البصائر»، 18 جويلية 1949.

ومن أئمته ألسنة تجهر بالدعاء لها، وما دعاء الظالمين إلا في ضلال. نعتقد أن كل ما قرّرته هذه الحكومة المسيحية، وكل ما تقرره في شؤون ديننا باطل منقوض دينًا وعقلًا وقانونًا، حتى تسمية الأئمة والمؤذنين فهي باطلة وطلب هذه الوظائف من هذه الحكومة باطل، والرضى بها باطل، لأن شرط نصب الإمام أن يكون من حكومة مسلمة، أو من جماعة المسلمين، لا يختلف في هذا مسلمان، ولا يخالف فيه إلا "العاصمي" في قياسه لحكومة الجزائر على حكومة ابن سعود، وهو قياس لا يشبهه في الفساد إلا قياس مسيلمة على محمد في شهادة الإخلاص!! وإن هذا القياس لدرجة في العلم لا تبلغ إلا بخذلان من الله، ودرجة في العمل لا تُرتقَى إلا بتوفيق من الحكومة. ... ونحن قد قمنا في هذه القضية مقامات يحمدها الدين، وأبلينا في هذا الميدان بلاء الثابتين الصابرين، ما نكص لنا فيه بطل، ولا وهنت لنا فيه عزيمة، ولا تغيّر لنا فيه رأي، ولا التبس علينا من وجوه الرأي فيه مذهب. ألححْنا في المطالبة بتحرير المساجد والأوقاف، وسقنا على ذلك من الحجج ما لا يدحض، وكشفنا عن المستور من مقاصد الحكومة، وقلنا لها (بالقلم واللسان): إن سكُوت مَنْ قبلنا لا يكون حجة علينا، وإن تخاذل من معنا لا يكون مسوغًا لبقاء هذا الوضع الجائر واستمراره، بل قلنا لها: إنها هي السبب الوحيد لهذا التخاذل، وهي التي صيّرت طوائف منّا مبطلة تخذل الحق وأهل الحق، وإن بقاء الوظائف الدينية في يدها هو أصل هذا البلاء، وإن هذا البلاء لا ينقطع حتى يُنزع حبل الدين من تلك اليد ويوضع في أيدي أهله. وقلنا لها: إن الواجب المعجل المحتّم، والعمل السديد المنظّم، هو إعلان رئيس الحكومة أمرين متلازمين؛ أولهما تنفيذ قانون الفصل الذي تضمنه الدستور الجزائري الأعرج، وثانيهما حياد الحكومة التام في تأسيس الجمعيات الدينية التي تنتخب المجلس الإسلامي الأعلى. وقلنا لها: إن ابتلاعها لأوقافنا الدينية والخيرية ظلم، والظلم لا يدوم، ولصوصية، واللصوصية لا تتأتى إلا في الغفلة أو النوم أو الظلام، فأما في الانتباه واليقظة والنور فافتراس تبرره القوة والعتو، وليسا من صبغة هذا الزمان. وكأني بقائل يقول: ما لكم تُبدئون في هذه القضية وتعيدون؟ مع أن الفصل واقع في الأمر نفسه، واقع في بنود الدستور الجزائري ... فقد قضى ذلك الدستور على جميع القرارات التي كانت تحدّد سلطة الحكومة على المساجد حينًا، وتمدّدها أحيانًا. ونحن نقول

لهذا القائل: لو كنت تعرف ما تقول عذرناك، ولو كنت تعرف ما نقول عذرتنا في الإبداء والإعادة. فقد بُلينا بحكومةٍ جُمع فيها كل ما تفرّق في غيرها ... وقد بلوناها في جميع حالاتها وألوانها، فإذا هي هي، تُغطّي الشمس بالغربال، وتطاول العماليق بالتنبال، وترصد لكل كلمة من الحق كلمات من الباطل تنسخها أو تمسخها، ولكل صوت من الخير أصواتًا من الشر تشوشه أو تلغو فيه، ولكل صلاة إلى الله مُكاء وتصدية من الشيطان، ولكل داع إلى الجنة دعاة إلى أبواب جهنّم، ولكل مطالب بتحرير المساجد مطالبين بإبقائها في العبودية، وقد رصدت قبل ذلك لكل مطلق في قوانينها قيودًا وسلاسل وأغلالًا، فلا يطمع الطامع في فتح باب إلا أوجدت له قفلًا ... وما الدستور الجزائري الأبتر إلا أحبولة من تلك الأحابيل، وما المجلس الجزائري إلا سليل للمسلول، فإذا كان الدستور قد جعل فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية أحد بنوده، فقد أيّد حكومة الجزائر من المجلس الجزائري بأحد جنوده، وحكومة الجزائر لا تريد الفصل، ولن تريده، ولا ترضاه، ولا ترضى على من يرضاه؛ والدستور حكم بالفصل، ولكنه وكل تنفيذه إلى هذا المجلس الذي صنعته الحكومة بيدها، ونفخت فيه من روحها، ومعنى ذلك أن الدستور ترك للحكومة منفذًا تستطيع هي بأساليبها أن تجعل منه بابًا واسعًا، وقد فعلت ... ... ونحن نعلم أن المسألة من أولها إلى آخرها سفسطة وتضليل، ولا ندري كيف يتأتى لهذا المجلس المصنوع، المحدود السلطة، المقصور على الماليات، أن ينفّذ قضية ليس المال إلا جانبًا من جوانبها الكثيرة، ومعظم الجوانب خارجة عن دائرة نفوذه. وهبْ أنه اتسع نظره للأوقاف الإسلامية، فماذا يصنع في الجوانب الأخرى؟ أيبقي ما كان على ما كان؟ وكنا نرجو أن يكون المجلس أكمل من الدستور، ينتخب أعضاؤه انتخابًا حرًّا، وتظهر فيه النيابة عن الأمة بمظهرها الحقيقي، ويكون النوّاب نوّابًا حقيقيين يؤثرون مصلحة الأمة على مصلحة الحكومة، ولو وقع ذلك لكانت جمعية العلماء أول المطمئنين إلى أعمال النوَّاب في مطالبها الدينية، كيفما كانت أعمالهم الأخرى. وقد مرّت على هذا المجلس سنتان، وعرفنا من أعماله وبرامجه اليد التي توجّهه والريح التي تسيّره، والجهة التي يتّجه إليها، وصدق كل ما قلناه فيه، وأن عسى أن يهبط عليه الوحي في لحظة فيتناول مسألة فصل الدين الإسلامي بآراء مسيحية، وأفكار لائكية، وعقول بين ذلك ... ثم ينتخب لدراسة الموضوع مقررين مسيحيين أو لائكيين أو ما شاء الهوى ... ويا ضيعة الإسلام بين الأهواء!

فصل الدين عن الحكومة - 4 -

فصل الدين عن الحكومة - 4 - * ... ونظرنا نظر المستقلّ، الذي يبني أحكامه على الواقع المحسوس، فوجدنا هذا الوليد الناقص الذي يسمّونه الدستور الجزائري لم يشرّع جديدًا، ولم يزرع مفيدًا، ولم يزد على أن نقل هذه القضية من ميدان إلى ميدان، ومن يد إلى يد، نقلها من فرنسا إلى الجزائر، ومن برلمان يسيطر على الأفراد، إلى شبه برلمان يسيطر عليه فرد ... ليدفع الغضاضة عن فرنسا اللائكية، ويلصقها بفرنسا (المسلمة) التي تتمسّك من الإسلام بمعابده ورجاله، وتعرف كيف تسيره وتسيرهم. فكأنه يقول لحكومة الجزائر: لنتُ قليلًا فاشتدي، ورضيت قليلًا فاحتدي، وتركت لك ما إن عملت به لن تضلي من بعدي، ولم أضع لك قانونًا بل شبكة كلها خروق، فاخرجي من أيها شئت ... وكأنه يقول لها "بدأت فتممي" وخصصت فعمّمي، وصدعت الحائط فرمّمي، وتساهلت فصمّمي، وأشرت بالترياق وأنت ... فسمّمي، وجملت الوجه قليلًا فدمّمي، وقالوا إن فرنسا تغضب الإسلام، فأقيمي الدليل على أن المسلمين راضون، وشدّدي اللام من صفتهم فإذا هم "مسلِّمون". ففهمت حكومة الجزائر هذه الإشارة، وتلقتها كأنها بشارة؛ وكيف لا تستبشر؟ والدستور برمّته (لامركزية) من النوع الذي يسيل عليه لعابها، وبنود القضية الدينية منه إطلاق ليدها في التصرف المطلق، لذلك فهي قد فهمت من الدستور أشياء غير ما فهم الناس، ولذلك قامت بالتنفيذ على حسب مفهومها لا على حسب فهم الناس، فبدأت بالمجلس الجزائري فصاغته على ما يوافق هواها، وظفرت منه بمفرد يأتي بجمع، ولها من ورائه مدد من (رجال الدين)، وعدد من المرتزقة المجنّدين، وبدد من الظلمة المعتدين، وأوزاع من العوام غير المهتدين، وأشياع من الزملاء (المنتدين) (1)، فإذا اتحد هؤلاء بهؤلاء اتحادًا كيماويًّا تمّ المطلوب،

_ * نشرت في العدد 88 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية 1949. 1) المنتدون في اصطلاحنا هم كل من دخل "النادي الفرنسي الإسلامي". وهو نادٍ أنشأته حكومة الجزائر وزوّدته بمال ورجال وبرامج للاصطياد والتنويم والتلفيق.

وكان حزب الحق هو المغلوب، ومن هذا ولهذا وضع التقرير العاصمي، وكأنه مقدّمة لكتاب، أو طليعة لكتائب، ومن هذا ولهذا رأى الناس مفتي الجامع الحنفي مترددًا دائمًا على مقر المجلس، متصلًا بأعضائه مداخلًا لهم، متطارحًا عليهم، متملقًا إياهم، لا يفارق أحدهم إلا ليتصل بآخر. كأنه المعني بقول القائل: لا يرسل الساق إلا ممسكًا ساقًا، وكأنه آنس منهم صاغية، فهدّد في بعض ما كتب بأن (سعيه سوف يرى) ... ... ونظرنا نظرة أخرى فإذا هذه القضية قد خرجت من يد الحكومة- بالمعنى الذي نعرفه للحكومة- وأنها لا تملك فيها رأيًا، ولا تهتدي سبيلًا، على ما استباحت في سبيلها من حرمات، وارتكبت من محرّمات، وأن القضية أصبحت كرة تتلاعب بها الأهواء المتعاكسة، والمكاتب المتشاكسة. ففي الولاية العامة مكاتب، لكل مكتب في القضية نظر ووجهة هو موليها، ولكلّ مكتب غاشية من (رجال الدين) تطرق الأبواب خلسة، وتقنع من البخت السعيد بالجلسة، وفي إدارة عامل الجزائر مكاتب أخرى تُزاحم وتُلقي دلوها في الدلاء، ويلوذ بها جماعة من (رجال الدين)، ولكل واحد من عمّال العمالات (2) رأي في القضية ومنهاج عملي يجري عليه، وعلى الدستور الجزائري العفاء، ولكل واحد منهم (محاسيب) من رجال الدين، يفيدون ويستفيدون، وإن اهتبال العمّال بهذه القضية لأمر طبيعي، لأنها سلطة مجدودة، وسلطنة غير محدودة، فهم يخشون أن تفلت منهم، فهم الذين يولون رجال الدين ويعزلون، فكيف عن هذه العروش ينزلون؟ وكيف لا يعذرون إذا جاحشوا عنها إلى آخر رمق؟ وإن هذا هو الذي يفسّر لنا موقف عامل قسنطينة من الوفد الذي فاوضه في قضية الجامع الكبير منذ أشهر. ذلك أن طائفة من أعيان مدينة قسنطينة وفضلائها هالهم ما رأوا من إقبال طلبة الآفاق على معهد عبد الحميد بن باديس، وهالهم أن يضيق المعهد بهم، فيرجعوا خائبين، ورأوا أن في ذلك مسًّا بكرامتهم، وخدشًا لسمعة بلدتهم، فعقدوا اجتماعًا في المعهد، وحضرناه معهم لنبلى في العذر، وقرّروا إيفاد وفد إلى عامل العمالة باسم مدينة قسنطينة ليفاوضه في فتح الجامع الأعظم في وجوه هذه المئات التي ضاق عنها المعهد ولم تجد أماكن لدراسة دينها ولغتها، وتألف الوفد من رئيسي أكبر الأسر القسنطينية، وأعرقها في العلم والشهرة، وأطولها امتدادًا مع التاريخ، وأقربهما لرضى الحكومة، وهما الحاج محمد المصطفى بن

_ 2) عُمّال: جمع عامِل وهو "المحافظ أو الوالي". والعَمالة: المحافظة- الولاية.

باديس، والحاج الخوجة بن الشيخ الفقون، ومن نائبين في البرلمان الفرنسي وهما السيدان الهاشمي بن شنوف وعبد القادر قاضي، ومن محاميين مشهورين هما الأستاذان الحاج إدريس، والحاج مصطفى با أحمد، ومن ثلاثة من رجال الإصلاح الحافِّين من حول المعهد، والتقى الوفد بالعامل على ميعاد، وشرح له القضية، وما من رجاله إلا منطيق مبين، وكان مما قالوا له: إن هذه المسألة لا تهم شخصًا معينًا، ولا هيئة معينة، وإنما تهم الأمة وأبناءها بصفة عامة، ثم تهم- بوجه خاص- مدينة قسنطينة التي يأبى لها شرفها وسمعتها أن ترى أبناء الأمة الجزائرية يؤمونها لطلب العلم، ثم يرجعون كالمطرودين منها، لا لشيء إلا لأنهم لم يجدوا أمكنة للدراسة، ومساجد الأمة خاوية على عروشها، معطلة من أعظم وظائفها وهو التعليم، وتكلم ابن باديس على سنّه ومقامه وبيته فأقنع، وتكلّم النائبان بما لهما من حق النيابة وقوتها فأحسنا، وتكلم المحاميان بما لهما من المكانة في القانون فأفحما، ولكن حضرة العامل كان قيصري النزعة في الخطاب والجواب، فلم يزد على أن رد عليهم بكلمات جوفاء من الطراز المألوف، وبوعود من الطراز المألوف أيضًا ... وبتنصّل من أوائل القضية وأواخرها مألوف أيضًا ... وبإحالة على مرجع أعلى منه، وهذا من المألوف أيضًا، ثم ضرب للوفد موعدًا بإرجاع الخبر، وهذا من المسكنات المألوفة أيضًا ... ولعلّ السادة ما زالوا ينتظرون رجوع الخبر إلى الآن ... ولم يخلُ هذا الاجتماع- على ما بلغنا- من تلك العادة الممقوتة التي تفننت هذه الحكومة فيها، وبرعت في استخدامها، وهي التلويح بشق معارض ... فقد تعوّدت أن ترصد لكل حق معارضًا من الباطل، تقيمه وتنصبه، وتدّخره من يوم الاستغناء ليوم الحاجة، أو ترتجله ارتجالًا، إذا حفزها الأمر، ولهذه الغاية نراها تُكوِّن جمعية دينية، في كل بلدة فيها جمعية دينية حرّة لتضار هذه بتلك، فكلّما طالبت جمعية العلماء بحق، أو وقفت موقفًا يغيظ الحكومة أوحت إلى جمعيتها: أنْ عارضي، وقولي: لا، فيما قالت فيه الجمعية الحرة: نعم، وكم تجرّعنا من هذه العادة من صاب، وكم لقينا فيها من أوصاب. ويلوح لنا أن لعامل قسنطينة على الخصوص هوى غالبًا مبرحًا في الجامع الأعظم، وأنه حريص على إبقائه في يده، ولو حكم المجلس الجزائري، ولو تصافت المكاتب، ورجع إلى الحق (المعتوب) والعاتب؛ وكأن له فيها غرضًا بديعًا، وذوقًا لطيفًا وهو أن يجعل منه مزارًا للزوّار من العظماء، ومتحفًا عامرًا بالتحف الآدمية المتحركة، والدمى البشرية الحية، فكلما زار قسنطينة عظيم من فرنسا ذو حيثية، طيف به على الجامع الكبير والبيعة الكبرى، والكنيسة العظمى، ليرجع الزائر إلى وطنه بصورة رائعة من امتزاج الأديان، وإيمان جديد بقدرة الرجال على المزج والعجن، وبشهادة صادقة للعامل بأنه لا يفرّق (بين أحد من رسله) ... ومن عاش في الجزائر رجبًا، رأى عجائب لا عجبًا.

فصل الدين عن الحكومة (5)

فصل الدين عن الحكومة (5) أو فصل، رمضان والأعياد عن قاضي الجزائر ... * ــــــــــــــــــــــــــــــ ... وما ظنُّ الناس؟ أيظنون أننا نقصد في ما كتبنا ونكتب من هذه الأسماء والألقاب أصحابها المعروفين؛ لا والله، فهم عندنا أقل من أن يجول لنا فيهم خاطر، أو يثور لنا فيهم اهتمام، وإنما نقصد من هذه الأسماء والألقاب- التي تجري على أقلامنا في هذه المواضيع- معاني خبيثة، وفكرًا شيطانية أصبحت هذه الأسماء دوال عليها، وأعلامًا لها، ومرتبطة بها ارتباط اللفظ بمدلوله الوضعي. إن هذه الأسماء والألقاب التي فرضت علينا كلمة الحق تناولها بالنقد والتجريح، ليست أعلام أشخاص، ولا ألقاب أشخاص، وإنما هي أعلام أجناس لمعانٍ استعمارية، كما قالوا في فجار، إنه علم للفجرة، ... فإذا حاربنا اسمًا من هذه الأسماء فإنما نحارب الفكرة التي رضي صاحبه أن يمثّلها، والصوت الذي رضي أن يكون بوقًا له، لا الشخص الذي تحده الحدود، وتنمّيه الجدود، والفِكَر إنما تتمثل في المظاهر ذات القابلية. والناس يحملون من طبائع الأرض ألوانًا شتى، ففيهم القار المكين، وفيهم القابل للانخساف، والمتداعي للانهيار؛ وما ذنبنا إذا رضي أصحاب هذه الأسماء والألقاب أن يكونوا مظاهر للفكرة التي ينكرها الإسلام، ويمقتها المسلمون، وتحاربها منا الألسنة والأقلام؟ وما ذنبنا إذا رضي هؤلاء أن يتمثّلوا أفكارًا خبيثة لا رجالًا، ومبادئ لعينة لا أشخاصًا، وظلالًا من يحموم لا باردة ولا كريمة؟ ... لا ذنب لنا في ذلك وإنما الذنب لمن جعل نفسه عرضة لوطء الأقدام ووخز الأقلام. نحن نريد- جادّين- فصل ديننا بجميع شعائره وعلائقه عن حكومة الجزائر اللائكية المسيحية فصلًا ناجزًا حاسمًا، لا تلكؤ فيه ولا هوادة؛ ونريد بتّ حباله من حبالها في المعنويات والماديات، ونعمل لذلك متساندين في الحق، مستندين على الحق، والحكومة

_ * نشرت في العدد 89 من جريدة «البصائر»، 8 أوت 1949.

تريد بقاء حبالها بحباله مربوطة، ويدها في التصرّف فيه مبسوطة، وتحاور فلا تصدق في محاورة، وتشاور فلا تخلص في مشاورة، فإذا أعشاها الحق بنوره، وأفحمها البرهان بظهوره عمدت إلى شخص من هذه الشخوص فغطّت به مقصدًا من مقاصدها المفضوحة وسترت باسمه الإسلامي وصبغته الإسلامية مكيدة من مكائدها المكشوفة، فبالأمس غطت فضيحة استعباد المساجد باسم المفتي العاصمي، واليوم تستر مكيدة تدخلها في الأعياد الإسلامية باسم القاضي، ولا مفتي، ولا قاضي، وإنما هي الحكومة متسترة بهذه الأسماء التي لا تستر، متقنعة بهذه الأسماء والصفات والثياب، لابسة لها لِبسة الممثل ... كأنها تقصد ما يقصده (القالب الحيران) (1). هذه أهدافنا نسدد إليها سهام التجريح، وهي مبادئ ظهرتْ بمظهر رجال، أو رجال صيّرتهم قابلية الاستعمال مبادئ؛ ولكن ما بالهم كلّما مسّهم النقد بحرارته صاحوا وناحوا، وثاروا وخاروا، وتظلموا وتألموا؟ أنا لا أصدق أن ذلك كله انتصار للكرامة الشخصية، وإنما هو إغراء لنا بموالاة الحملات عليهم، ليزداد شأنهم نباهة عند مسخّريهم، وليتّخذوا بذلك وسيلة وزلفى لأسيادهم، وذريعة لنيل الممتنع من مرادهم، وإن شأنهم في التظلّم منا شأن القائل: أدعو عليه وقلبي … يقول: يا رب لا لا ... ولم ننتقل بالقرّاء من ميدان إلى ميدان، وإنما حدث في القضية ما أوجب تغيير العنوان، ... فقد كان الصوم والإفطار والأهلة والأعياد كلها بعيدة عن تدخّل الحكومة، وكانت كالناحية المستقلّة من الوطن المستعمر، لم يصبها من تسلّط الحكومة ما أصاب المساجد والأوقاف والحج، فالأعياد لا تقام مسايرة لمقصدها، والأهلة لا تُرى بعينها، ولا بمرصدها، ولم يكن ذلك استعفافًا منها، وإنما كان استخفافًا بها، لعدم وجود المال فيها ... فرمضان ليس له أوقاف تنفق عليه، ولا سفينة تحمل إليه، والأعياد، عاطلة الأجياد، آمنة من طروق زياد، وطارق بن زياد ... وكان المسلمون يصومون ويفطرون متفقين أو مختلفين، لا يتبعون في ذلك إلا أحكام الدين أو تأويلات لا تخرج في الأغلب عن الدين، ولا ينقادون إلا لعوائد إن كان بعضها قبيحًا، فليس منه الانقياد للحكومة.

_ 1) من مزاعم العرب أن من حار ولم يتبين له وجه الصواب فدواؤه أن يلبس ثوبه مقلوبًا لتزول عنه الحيرة، يقول شاعرهم: جدت جداد بلاعب وتبدلت … في الحي لبسة قالب حيران

ولما جد جد القضية الدينية بيننا وبين الحكومة انتهى بنا الأمر إلى إمعان في الذياد، وانتهى بها إلى غلو في الكياد، فرأت أن (تُلحق) الصوم والأعياد الدينية بالمساجد والحج، حتى يعمّها الاستعمار، ويشملها الاحتكار، وبنت الجديد في القضية- وهو لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية- على القديم، وهو لجنة الأهلة التي كانت وبانت واستصدرت قانونًا يجعل الأعياد الإسلامية رسمية، تعطل فيها الأعمال والمصالح الحكومية، لتفتن العمّال والموظفين بذلك، فيكون صغوهم إليها، وهواهم معها، ولها في ذلك مآرب أخرى، وعمدت إلى قاضٍ من قضاتها المخلصين في ابتغاء مرضاتها، فنصّبته رئيسًا لتلك اللجنة، وشدّت عضده بعصبة من طرازه، لتحرّك النار بأيديهم، وتعمل ما شاءت بأسمائهم وألقابهم، وبدأت التجربة العملية المفضوحة في العام الماضي. ومن أغرب المتناقضات في شؤون هذه الحكومة أنها تقتل الشيء، ثم تحاول استغلال خصائص الإحياء منه، فهي التي مسخت هذه الألقاب الإسلامية وامتهنتها، وجرّدتها من كل احترام، باحتكارها للتصرّف فيها، ووضعها في غير مواضعها، وإلباسها لغير مستحقّيها، ثم بدت لها بدَوات، فجاءت الآن تريد أن تستغل آثار هذه الألقاب في نفوس المسلمين، وهيهات ... إن المسلمين لا يحترمون هذه الألقاب إلا إذا كانت من وضعهم في اللغة الدينية، وما زالت فيهم بقية من الرشد الديني يُفرقون بها بين ما يريدونه لأنفسهم وبين ما يراد بهم، وبين ما يحوكونه بأيديهم، وبين ما يُحاك لهم ... ... وفي هذا العام ... جاءت ليلة الثلاثين من شعبان، فباتت جمعية العلماء مرابطة بمركزها الذي لا يغلق حتى تغلق مراكز التليفون، تتلقّى الأخبار وتوزّعها، وباتت الأمّة متّصلة بها، اتصال من يهمّه الأمر بمن يعنيه الأمر، وأصبحت الأمّة صائمة في شبه إجماع على الثبوت، وعلى إلهام واحد من الحق، لا يد لهذه اللجنة فيه. أما لجنة الأهلة فباتت نائمة ملء جفونها من غير علة ... لم تمتثل من سنن الله إلا جعل الليل لباسًا ... وإنما أرادت أن تثبت وجودها، وتعلنَ عن نفسها، فأوعزت من أول الليل إلى الإذاعة- كما بلغنا من مستمعيها- أن تدعو بالشفاء لرئيسها المريض، وأن تقول على لسانها: إن الصوم ثبت عندها ثبوتًا شرعيًا ... ولم تُبين وجه الثبوت، أهو بالرؤية، أو بحساب المرصد؟ ... ففهمنا من ذلك الإجراء البسيط أن شهر رمضان خفيف الوزن عند الحكومة لأنه لا عطلة فيه، بقدر ما هو ثقيل على اللجنة، وفهمنا أن هذه اللجنة ترتجل هذه الإعلانات ارتجالًا من غير تثبّت ولا عناية، لتفيد البسطاء أنها حية كإفادة حياة المتكلّم من

وراء جدار، وفهمنا أنّ آخرَ ما يعني هذه اللجنة هو دين الأمة وصومها وإفطارها. وجاء العيد فوقعت الواقعة ... جاءت ليلة الثلاثين من رمضان، فجرَتْ جمعية العلماء على عادتها من السهر والاحتياط، وجرَت الأمة على عادتها من الاتصال بها للإخبار والاستخبار، وجرت اللجنة على عادتها من الارتجال وعدم الانتظار، وما كنا ندري أن الأمر دُبِّر بليل بين الحكومة وبين اللجنة- قبل ذلك بيوم أو بأيام- على (جعل) العيد يوم الأربعاء، وقطع النظر عن الرؤية والرائين، والمسلمين أجمعين، حتى المحاكم الأخرى ووثائقها وشهودها، كأن الحكومة ولجنتها لا يعنيها في أمر العيد وعطلته إلا العاصمة، ولا يعنيها من المسلمين إلّا سكّان العاصمة، ولا يعنيها من إفساد شؤون الدين إلا ما كان في العاصمة؛ فإذا نجحتْ في شيء من ذلك فيها فذلك هو النجاح ... وكأن هذا القاضي على الأهلة والأعياد ظن أنه رقي أسباب السماء بسلّم، فتوهّم أن (تصويم) المسلمين (وتفطيرهم) أصبحا من مشمولات نظره وحكمه، كما يحكم في طلاق امرأة، أو زواج رجل، أو مال محجور، وسكت عنه الناس فيما يوافق الحق، فتمادى فيما يخالفه، وقال: ما دمتُ أحكمُ على الأهلة فلأقل لها كوني فتكون، ولا تكوني فلا تكون، وما دام المرصد طوعَ إشارتي، والإذاعة تؤدّي- بالأمانة- عبارتي، فلآخذ من هنا، وأضعْ ههنا، ولأخرج عن طاعة الخارج، فهنا المُحُّ وهناك (المارج) ... وهكذا أصبح يقدم على العظائم في الدين، وأصبح (يحكم) بالصوم في شوال والفطر في رمضان، ولعلّه لو قيل له: إن حكم القاضي لا يدخل هنا، يجيب بأنه يدخل بصفته رئيسًا للأهلة أو رئيسًا عليها ... وينسى أنه لو لم يكن قاضيًا لم يكن رئيسًا على الأهلة ... وأن القضاء هو الذي رقّاه إلى الرياسة على مخلوقات ليست من جنسه، وليس من جنسها. أعلنت اللجنة قبيل العيد بأيام، بواسطة الإذاعة تقول لمستمعيها: انتظروا هلال شوال ليلة الثلاثاء. ومن رآه، فليخبر اللجنة، ومقتضى هذا البلاغ أن تنتظر اللجنة في مركزها، وتتلقى الأخبار والشهادات طول الليل، لأن القطر متباعد الأطراف، والراءون في الغالب بعيدون عن مراكز الأخبار، ومكاتب البريد. ولكن اللجنة احتاطت في ذلك البلاغ لنومها، فحدّدت الإخبار الرسمي بالساعة العاشرة ليلًا، وهي مدة لا تكفي لإفطار الشهود واتصالهم بمراكز الأخبار أو تأدية الشهادات. وجاءت الليلة الموعودة، فكان القاضي بين عاملين، أهونهما الوفاء بوعده، وأجلّهما ما قالت حذام ... فقذف الإذاعة ببلاع محضر، أعلن فيه الرأي المدبر، وهو أن العيد يوم الأربعاء، لأن مرصد "بوزريعة" قال إن الهلال لا يُرى، ولأن الشيخ بخيت الفقيه قال كذا، ولأن الفلكي التونسي قال كذا، وكل هذا تجديد في عالم البلاغات من اللجنة المجددة،

وكل هذا تغطية لقول حذام، هالا فالقول ما قالت حذام ... والناس كلهم يعلمون أنه إذا ذكرت اللجنة أو رئيسها القاضي فقد ذكرت الحكومة، كما يطلق الخاص، ويراد به العام. ويعلمون أن من لا يُعجزه أن يُرغم نتائج الانتخابات على الظهور عشية السبت، من غير اعتبار لشهادة الصندوق، لا يعجزه أن يعكس القضية فيرغم الهلال على عدم الظهور إلى يوم الأربعاء، من غير التفات إلى شهادة الرؤية. ... وقذفت اللجنة ذلك البلاغ المدبّر إلى الإذاعة، ومن يدرينا؟ فلعلّها أرسلته في النهار، وأوصتْ أن لا يُذاع إلا في الميقات المحدود، تغطية لذنب الفضيحة، وإلا فما الذي منع اللجنة أن تنتظر حتى تسمع وثائق القضاة الرسميين على الأقلّ؟ إن كانت لا تقيم وزنًا لشهادة غيرهم ... بل بلغنا أن اللجنة تلقّت أخبارًا بالرؤية، ولكنها تصامَّت عن سماعها، وأغلقت الباب واستسلمت للنوم والهدوء. أما جمعية العلماء فقد انتظرت إلى الساعة الثالثة صباحًا، وأما الأمّة فقد اتصلت بها مخبرة مستخبرة بقدر ما وسع الإمكان، وسمح التليفون، فكانت النتيجة أن الهلال رُئي بالشهادة العادلة في بلدان متعددة منها: الغزوات، وندرومه، وفرنده، من عمالة وهران، ومنها: برج بوعريريج، وبني ورتيلان، وبريكة، وورقلة، وتمرْنة، وبعض نواحي الميلية، وعنابة، من عمالة قسنطينة، ومنها فحص الجزائر. استوفينا الشهادات من البلدان المذكورة بتلقّي السماع من عدلين إلى عدلين فأكثر، وكانت الأصوات معروفة من الطرفين معرفة قطعية، وتمّ ذلك عندنا نصف الليل، وأدّى إلينا قاضي قسنطينة بنفسه ما ثبت لديه منها؛ فشرعنا في الأداء والتبليغ على الوجه الشرعي السابق، ونشرنا الخبر وعمّمناه في معظم القطر بعد أن عمّمناه في العاصمة وأحوازها بكل واسطة، وأخبرْنا نادي الترقّي بهذه الشهادات كلها بواسطة عدلين، فبلغني أن بعضَ الناس ما زالوا مفتتنين ببلاع الراديو المحفوف بشهادة الفلك والعلم وفتوى الشيخ بخيت، فخشيت أن تأخذ هذه الفتنة الجديدة مأخذها في بعض النفوس فيضيع الحق، ونفقد جلالة الإجماع عليه، وتضيع فرصة من فرص اجتماع الأمة على شعيرة من شعائرها فيفرح المبطلون الذين يعيشون على الافتراق والتفريق، فذهبتُ بنفسي إلى النادي، وأعلنتُ في الملأ كل ما تأدَّى إليّ من الشهادات، فآمن المؤمنون، وأجمعوا على إقامة سنته في وقتها بمراكز الإصلاح من العاصمة، ببلكور، وسلام باي، وحي السانتوجين، والجزائر، وأردنا أن نبلغ صوت الحق لهذه اللجنة الهاجعة، ونوقظ أعضاءها النائمين أو المتناومين، فنقيم عليهم الحجة إبلاغًا في النصيحة، ومبالغة في جمع الكلمة، وقمعًا لفتنة الراديو وفتنة المشوّشين الذين رأيناهم يدخلون في صفوف الأمة المتراصّة، يوسوسون بالباطل، ويغرون بالخلاف، وقلنا: نبلغ القوم

ما ناموا عنه، فإما رجوع إلى الحق ونسخ لإذاعة الراديو بضدها، وإما مكابرة وعناد في الشمس وضحاها فيفتضحون وتتكشّف للأعين تلك اليد التي تسيرهم. وذهبت أنا والأستاذ الشيخ الطيب العقبي وجماعة كثيرة من العقلاء، فبدأنا برئيس اللجنة. وتقدم من العقلاء من طرق الباب، وأفهم القضية من وراء حجاب، فتوارى ولم يرد الجواب، فتقدّم الشيخ العقبي بنفسه وخاطبه بالصوت الذي يعرف ففعل مثل ذلك، ففهم من لم يكن يفهم، وعلم من لم يكن يعلم، حقيقة هذه اللجنة، وأنها أداةُ إفساد للدين وتفريق لأهله، ورجعنا في السحر- بعد أن أفشينا العيد على أهل الحي- فأعلمنا الجماهير المحتشدة بالعيد وحثثناهم على إقامة سنّة الصلاة واستماع خطبتها، فانصرفوا يعلوهم جمال الإجماع وجلاله، مبشّرين بالعيد، محذّرين من هذه اللجنة، داعين لجمعية العلماء، هاتفين باسمها، ذاكرين لفضلها على الدين، شاكرين للعلماء الأحرار لطف مداخلهم في إقامة الحجة على أعوان الباطل وأدوات الحكومة. وما طلعت الشمس حتى كانت الألوف من المصلين رجالًا ونساءً في الأماكن التي عيّنتها جمعية العلماء للصلاة، وعيّنت أئمتها، وأقيمت صلاة العيد وخطبته في أربعة مواضع من العاصمة على صورة لم يسبق لها نظير، روعة وجلالًا وسلفية. صلّى وخطب في بطحاء جامع "بيلكور"، كاتب هذه السطور، وعيّن للإمامة والخطبة بمدرسة الحراش- الشيخ ربيع أبو شامة، وللإمامة والخطبة بجامع "سانتوجين "- الشيخ أحمد سحنون، وللإمامة والخطبة بمدرسة سلام باي- الشيخ سعيد صالحي. ... وأحقَّ الله الحق، وأبطل الباطل، وفرح المؤمنون بنصر الله لدينه، ولاذ اللطيم بأمّه يشكو وينتصر، فأصبحت المساجد محاطة بشراذم من البوليس تحمي بيوت الله من عباد الله، وكانت هذه الفعلة أكبرَ سيئات اللجنة البغيضة، ورجحت العاصمة- التى هي ميدان الصراع- كفة الحق على كفة الباطل، وأوقف السائق الإلهي الأمور عند غايتها. ثم كانت خاتمة الفضائح ما كتبه رئيس اللجنة في ذلك اليوم في جريدة "آخر ساعة" ... وقد تناولته الجرائد الإفرنسية وأفاضت فيه، وقد لفت الناس إليه اعتراف القاضي بأن المرصد قرّر أن هلال شوّال يولد ليلة الثلاثاء ويبقى ثماني عشرة دقيقة ... ولكنه قد لا يُرى لعوامل جوية. وسخّر الله صاحب الجريدة لنصرة الحق، فاستخرج من شهادة المرصد أن الهلال يبقى أكثر من خمسين دقيقة. وقرأ الذين سمعوا بلاغ الإذاعة هذا التناقض فقالوا: سبحان من يطبع على القلوب، ليجعل للحق أنصارًا من خصومه وأعدائه ...

فصل الدين عن الحكومة (6)

فصل الدين عن الحكومة (6) ونعود إلى فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 1 - ... ولكننا نغيّر العنوان في هذه المرة، ونقول: فصل الحكومة عن الدين قلبًا في الوضع لا في الموضوع، وتفاؤلًا للحالة بعدم الاستبقاء، كما يُتفاءل بقلب الرداء في الاستسقاء، وأن بين التركيبين الإضافيين لفرقًا دقيقًا في لغتنا العربية، تخيله الفقهاء في بحث ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة، وحققه البيانيون في بحث: سلب العموم، وعموم السلب، فدين الإسلام- في منزلته من النفوس، وفي منزله من المعابد، وفي مظهره من الأشخاص والمعاني- ثابت أصيل، لم يردْ على شيء حتى يُفصل عنه، وإنما وردت عليه هذه الحكومة ورود الغاصب الذي يحتل بالقوة لا بالحق، أو ورود الواغل الذي لا يحترم نفسه، فكأنه يقول للناس: لا تحترموني، أو ورود الدخيل الذي يندس ويتدسس، وأحد سلاحيه الحيلة منه، وثانيهما الغفلة عنه، فإذا انكشفت الحيلة، وانقشعت الغفلة- أخرج مذمومًا، وَعُتِلَ ملومًا، أو ورود الجار الجنب الذي يجاورك على الكراهة لا على الكرامة، فيجور ولا يجير، تلين معه إدلالًا، فيشتدّ معك إذلالًا، وتتسمح معه في الظواهر، فيتوقح بمدّ اليد إلى السرائر، وترخي له المقادة في علاقته بك، فيجاوزها إلى علاقتك بالله. ... نقول نحن- بلغة الحق والواقع-: إن الجزائر عربية مسلمة، فيشهد لنا التاريخ والدم، والأدب، والرُّفات، والأسماء والسمات، وجولان "الضاد" في اللهوات. ويقول المتكلمون بلسان القوة والجبروت، المجانبون للمنطق والعقل، المتجانفون للإثم والحوب: إن الجزائر فرنسية، فتتهافتُ الحجج، وتعقم الأشكال، وتتبرأ المقدمات من نتائجها. ويقول الأجنبي العاقل هازئًا بهم: ما لهذه الفئة تتناقض؟ وما لها تستجلب السخرية منها بهذا التناقض؟ تزعم أن الجزائر فرنسية، فيسخر منها العقلاء، ثم لا تنفذ فيها أصل الأصول

_ * نشرت في العدد 104 من جريدة «البصائر»، 23 جانفي 1950.

في القوانين الفرنسية، وهو فصل الدين عن الحكومة؟ مع أنه من أساس الدستور الفرنسي، فتهدم دعواها بعملها، ويسخر منها العقلاء والمجانين. أما القانون الدولي فهو- في هذا الباب- شاهد زور لا تقبل شهادته، لأنه- دائمًا- يشهد للقوة على الضعف، وللباطل على الحق. ... وتحلف هذه الحكومة بالله إن أرادت إلا الحسنى بدين الإسلام، وإن قصدت بوضع اليد عليه إلا المحافظة على معابده من الضياع، وعلى شعائره خشية الترك والنسيان، وتستشهد على ذلك بأتباعها وصنائعها، فيشهدون؛ ولو كانت صادقة في هذه الدعوى، بارة في هذا القسم، وكانت المحافظة على الأديان بهذه الطريقة من طبيعتها- لكان الدينُ المسيحيّ أولى برعايتها، وأحق باهتمامها ومحافظتها، لأن رجال الحكم فيها كلهم مسيحيون، فهم أحرص الناس على حفظ دينهم (بهذه الطريقة)، وهي أحرص الناس على مسايرة عواطفهم، والأخذ بخواطرهم. وهذه الحكومة لائكية في الزعم والمظهر، وإن كانت مسيحية في الحقيقة والجوهر، وعلى أي الحالتين كانت فلا يُصدقها أحد في دعوى المحافظة على الإسلام، لأنها إن كانت "لائكية"، فاللائكية لا هم لها بل لا معنى لها إلا محو الأديان، لأنها خطر على سلطتها الزمنية في زعمها، وإن كانت مسيحية فالمسيحية همها محو الإسلام على الخصوص، فأين تقع دعوى المحافظة عليه؟ .. وتعالوا نسلم جدلًا أنها صادقة في دعواها، ومخلصة في نيتها، فبماذا تفسر المحافظة على الإسلام؟ أبابتلاع أوقافه، وأكلها أكلًا لمًّا؟ والأوقاف هي الأساس المادي للدين؛ أم بتحويلها للمساجد الكبيرة كنائس؟ أم بحسن اختيارها لرجال الدين؟ أم بأعمالها (المشكورة) في حرية الحج؟ أم بتدخلاتها المعروفة في الصوم والإفطار والأعياد؟ أم بتنشيطها على الزرد و (أعراس الشيطان)؟ إن مائة وعشرين سنة تشهد بشهورها وأعوامها، ولياليها وأيامها، وساعاتها ودقائقها بأن هذه الحكومة، على اختلاف رجالها ونزعاتها، لم تعمل عملًا إيجابيًّا يسمى- ولو مجازًا- محافظة على الإسلام، بل ما عملت إلا على إضعافه ومحوه. إن أول شرط لتحقيق اسم المحافظة هو التعليم الديني، وهي تُحاربه وتشتد وتنشط في التضييق عليه، وإن آخر شرط لتحقيق تلك المحافظة هو إنشاء مدرسة أو مدارس لتخريج الأئمة والخطباء والوعاظ والمؤذنين، كما يتخرج رهبان المسيحية من مدارس اللاهوت وكلياته، أو كما يتخرج رجال الدين الإسلامي في الأقطار الإسلامية من معاهد العلوم الدينية،

فهل فعلت حكومة الجزائر شيئًا من هذا؟ كلا، إنها تجتلب رجال الدين من أوساط الأمة، وتشترط فيهم شروطها لا شروط الدين، وتجريهم على طريقتها لا على طريقة الإسلام، وتقدم أطوعهم عنانًا، وأسرعهم استجابة على غيره، وتعتبر فيهم ما تعتبره في عون (البوليس)، من القدرة على أداء (السربيس) (1). ولو كانت تُنفق عليهم في التخريج، أو تجلبهم من مكة أو الأزهر، لما كانت لها شبهة صدق في دعوى المحافظة على الإسلام، ولما كان لنا عذر في الرضى والسكوت لأن الدين ليس دينها، ولا هي أهله. فكيف وهي تأخذهم (جاهزين) بلا تعب ولا معاناة، وتمتحنهم في اللياقة الحكومية، لا في الكفاية والاستحقاق الديني. إنما يحافظ على الدين أهله، الذين أشربوا في قلوبهم حبه، واختلطت أرواحهم بروحه، وامتزجت عقولهم بعقائده، وطبعت أخلاقهم على مقاييسه، وارتاضت جوارحهم على عباداته، وتغلغل الإيمان به إلى مستقر اليقين من نفوسهم، وأصبحت شعائره جزءًا من حياتهم وصورة من أدبهم. إن سرّ تسلط الحكومة الجزائرية على الإسلام بدءًا، وتمسكها به استمرارًا ليس من حيث إنه دين يجب أن تحافظ عليه وعلى معابده وشعائره، ولكن ذلك لغاية أخرى غير المحافظة وهي أنها تعد ذلك جزءًا من العمل الاستعماري الذي يتسلط على الأبدان، ثم يعد التسلط على الأديان تكميلًا لا يتم المعنى بدونه، فلما استعبدت أبدان المسلمين مدت يدها إلى دينهم، وأبت عليهم أن يكونوا أحرارًا فيه، ليتم لها التسلط على الجانبين الروحي والمادي، ولم تستطع التسلط على الدين الموسوي لأن أهله ملوك لا مماليك، ولا نذكر الدين المسيحي لأنه دين الحكومة الرسمي، بل دين فرنسا (بنت الكنيسة البكر). وعلى هذه الحقيقة فوضعية رجال الدين الإسلامي عند هذه الحكومة ليست وضعية رجال الدين، وإنما هي وضعية الجزء المكمل للجهاز الحكومي كالجند والبوليس، فالإمام والضابط والمفتي والكوميسير (2)، و (البراح) (3) والمؤذن والبواب والحزاب، كل أولئك سواء في نظر الحكومة وفي اعتبارها، وفي نظر أنفسهم بعد أن راضتهم على ذلك، وكل أولئك موظف عندها، مفروض عليه السمع والطاعة في تأدية أعماله، وكل أولئك تجري عليه التحريات البوليسية قبل تعيينه، ويمتاز الموظف الديني بقابلية التسخير لكل عمل ... وبحرمانه من ثمرات التقاعد ... وبأنه ذنب لكل ذي سلطة حكومية كيفما كان مقامه، لأنه ليس له مرجع ديني معين يرجع إليه، ولا رئيس مخصوص يكون مسؤولًا لديه، فأصبح المسكين مرؤوسًا لجماعة من البوليس، إلى شيخ المدينة، إلى المتصرف، إلى قاضي الصلح، إلى أصغر كاتب في إدارة.

_ 1) السربيس: كلمة فرنسية معناها: الخِدمة. 2) الكوميسير: كلمة فرنسية معناها: محافظ الشرطة. 3) البرّاح: المُنادي في الأسواق.

فصل الدين عن الحكومة (7)

فصل الدين عن الحكومة (7) ونعود إلى فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 2 - ومن المعروف عند أهل الأديان، وأصحاب القوانين، أن رجال الدين إنما يستمدون سلطانهم ويرجعون في تصرفاتهم إلى سلطة دينية تكون هي مرجعهم الوحيد، كما أن رجال الجندية والحكم والأمن يستمدون سلطتهم من مراجع تناسب وظائفهم وتتصل بها، لأن لكل سلطة مرجعًا من جنسها، يكون أصلًا لها، وتكون هي مكملة له، وإن هذا هو الواقع في الديانتين: المسيحية التي مرجعها الفاتيكان، ولو كانت في أرض غير فرنسية، والموسوية التي مرجعها إلى مجالس الأحبار في أية أرض كانت. أما الواقع في الجزائر- بالنسبة للإسلام وحده- فإن رجال الدين والجمعيات الدينية، كلها تشكيلات حكومية بحتة، ولا تستمد سلطتها إلا من الحكومة، ولا تستند في أعمالها إلا على الحكومة، ولا صلة لها بالشعب المسلم الذي هو صاحب الحق الأصلي، وإنها لَحالةٌ من الباطل والمنكر يمقتها العقل، وتبرأ منها العدالة، ويمجها المنطق وينكرها الدستور الفرنسي الأصيل ... ... سلكتْ هذه الحكومة الاستعمارية- منذ كانت- إلى محو الإسلام من الجزائر مسالك شتى، فلما أيقنت أن ذلك لا يتم لها من طريق الشعوذة والترغيب عمدت إلى تشويهه بهذه الأساليب التي ما زالت محتفظة بها، دائبة عليها إلى الآن، وغايتها من هذه الأساليب ثلاثة أمور: تكوين إسلام جزائري مقطوع الصلة بماضي الإسلام الحقيقي، وتكوين مسلمين مقطوعي الأسباب من جميع المسلمين، وتكوين طائفة تقوم لها بذلك ممن تسميهم رجال

_ * نشرت في العدد 103 من جريدة «البصائر»، 30 جانفي 1930.

الدين، تنشئهم على الشروط (الوظيفية)، وتروضهم على الأساليب الحكومية، حتى ينسوا أنفسهم، وعلاقتهم بالدين وصلتهم بالأمة، وتمتهنهم في مهن أخرى غير الدين، حتى يعتقدوا أنهم يُؤدون عملًا للحكومة ورجالها لا لله ودينه، وأنهم يُصلون الركعة لمائة الفرنك لا للواجب الديني، وأنهم يقرأون الحزب (للبايليك) لا للتعبد بالتلاوة. خابت الحكومة في الأولى والثانية خيبة ذريعة، أما في الثالثة فقد نجحت بهذا الجند العاطل المرتزق الذي جندته واصطادته بشبكة المطامع، من الأئمة والمفتين، والخطباء والمؤذنين، والقومة والحزابين (1)، وأتباع "شريعة يوسف" أجمعين ... كوّرتهم وصورتهم، ونقحتهم، و "حوّرتهم" (2)، وعلى المنوال الحكومي دورتهم، حتى أصبحوا جزءًا أصيلًا من الأدوات الحكومية، لا يفرق بينهم وبين سائر الموظفين الحكوميين فارق حتى في التبديل والنقل من بلدة إلى بلدة، فإن حكمة النقل إنما تظهر في الموظف العسكري أو الإداري، أما رجل الدين فأية حكمة في نقله؟ ... لولا اعتباره موظفًا حكوميًّا يُنقل لمعانٍ إدارية، وحكم حكومية ... أما إن كان نقله لنقص أو تقصير في الواجب الديني فإن الدين يعزله ولا ينقله ... هذا أكبر دليل، وأنهض حجة على أن هذه الوظائف فارقت الدين، والتحقت بالحكومة ... ومن المضحكات أو المبكيات في هذا الباب ... باب إدماج شيء في شيء غريب عنه، واعتبارهما شيئًا واحدًا- برغم اختلاف الطبيعتين والمزاجين- إنعام الحكومة بنياشينها (3) على أصحاب الوظائف الدينية ... أية علاقة أو أي نسب بين الوظيفة الدينية وبين النيشان؟ إن الأصل في هذه النياشين أنها تشريفات، أو مكافآت من الحكومات لرجالها العسكريين والإداريين، ومنشطات لهم على العمل الحكومي الذي يتفاضل فيه العاملون، فيحملهم الإنعام بها، أو التشوّف لها على المنافسة والاستباق، وتتجدّد فيهم الرغبة في أداء الواجب والإخلاص فيه، وبلوغ الحد الأقصى منه؛ وما هو حظ المفتي والإمام مثلًا من هذه المعاني؟ وما هو التفاوت بين إمام وإمام، حتى يستحقّ أحدهما هذا الوسام؟ وما هو العمل الذي يؤذيه الإمام إلى الحكومة حتى يظفر منها بهذا الإنعام؟ وما هي "المسابقة" التي تعقدها بين رجال الدين حتى يتبيّن لها المصلّي من المجلّي؟ ... وإن لهذه النياشين لأسماء ونسبًا إلى أعمال، فهل فيها أسماء دينية، أو نسب إلى أعمال دينية؟

_ 1) الحزَّاب: موظّف مُكلَّف بقراءة الورد اليومي (الحزب) من القرآن الكريم في المسجد. 2) حوَّرتْهُم: نحت من اسم قاضٍ يسمّى "ابن حُورَة"، كان مواليًا لفرنسا. 3) نياشينها: جمع نيشان، وهو الوِسام.

لا تتم المهزلة على وجهها الأكمل إلا إذا وُضعتْ لنياشين رجال الدين أسماء دينية وعناوين فقهية، لمعان يتفاضلون فيها؟ كنيشان (إطالة الغرة والتحجيل) ونيشان (كثرة الخطى إلى المساجد)، ونيشان (التهجير للجمعة)، ونيشان (الطمأنينة والاعتدال)، ونيشان (وإن تشاح متساوون)، وتختم القائمة بشيء خاص بأمثال العاصمي كنيشان (وقبل خبر الواحد)، ونيشان (واشترك طارد مع ذي حبالة). ... يا قوم: إن هذه الحكومة تقدّم الارتياد، على الاصطياد؛ وقد ارتادت سلفكم القريب، فوجدتهم أصلب منكم عودًا، وأعلى منكم همة، وأوفر حظًّا من الشجاعة، لأنهم كانوا على بقية من إيمان، وعلى فضلة من شهامة، وعلى شيء من الاعتزاز بالشرف الديني، وعلى نسبة ما من القرب من الله، والاتصال بالأمة، فحماهم ذلك كله من تأثير سحرها واستهوائها. وإن هذه الحكومة تقدم التجريب على التخريب، وقد جربتكم فوجدت منكم جدارًا متداعيًا للسقوط، فما أقامته بل خرّبته، لأنه لم يكن لغلامين يتيمين في المدينة، ولا كان تحته كنز لهما، ولا كانت هي تنظر بعين صاحب موسى ... وإن وسمها لكم بالنياشين، يعرّ ويشين، لأنكم- كما تزعمون- رجالُ دين، لا رجالَ ميادين، وأصحاب نسبة لها شَان، أعلى من النيشان، فإن كانت هذه النياشين مجازاة على الصلاة، فجزاء الصلاة على الله، وإن كانت لنفع في الدنيا، فالدنانير أنفع لكم من الزنانير. إن أمّتكم ما زالت على بقية من عقل تُميز بها الأشياء، وعلى أساس من دين تَزنُ به العمل والثواب، وفهم تُدرك به الخطأ والصواب؛ وإنها لا تفهم هذه المكافآت إلا أنها على أعمال- غير الدين- أنتم لها عاملون، فهل أنتم عاملون بما يراد منكم، ثم بما يراد بكم؟ أم أنتم لا تبصرون؟ لو كنتم تحملون سمة الآثار التاريخية، وكان استبقاءُ هذه الحكومة عليكم في معنى المحافظة على التحف، لكان ذلك أشرف لكم، لأن في هذا النوع من المحافظة احترامًا للتاريخ، وإجلالًا للقديم، ولكن في احتفاظ هذه الحكومة بكم كل معاني الاحتقار لكم ولدينكم ولماضيكم، وفيه كلّ معاني التسفيه لأمّتكم، وفيه- مع ذلك- سدٌّ لباب الحرية الدينية، وأنتم السداد. ***

واضيعتاه! ... وواذلاه! ... أفي الوقت الذي تتشوّق فيه الأمم المحكومة كلها إلى نيل حقوقها السياسية، وحريتها وحقّها في الحكم الذاتي والتصرّف المطلق، وفي الوقت الذي يتفق فيه مجلس الأمم المتحدة على تحرير سبعين مليونًا من جزر الهند الشرقية من الاستعمار الهولندي، وعلى تحرير القطر الليبي، وفي الوقت الذي تسمح فيه إنكلترا (شيخة الاستعمار) بأغلى جوهرة في تاجها، وبأغنى مزرعة من مستعمراتها، وهي الهند وباكستان، وقد كانتا أمس بمنزلة القلب الذي هو سر الحياة واستمرار الوجود لبريطانيا كلها ... في هذه الظروف التي أصبح فيها طعم الاستعمار المادي الحلو اللذيذ مرًّا كريهًا حتى في حلوق غلاة الاستعمار، يبقى الدين الإسلامي بمعابده وأوقافه ورجاله مستعمرًا مستعبدًا في الجزائر وحدها؟

فصل الدين عن الحكومة (8)

فصل الدين عن الحكومة (8) فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 1 - ... وما هي هذه المسيحية المستظلة بلواء الاستعمار في وطننا؟ وأي جامع جمع بينهما؟ آلخير أم الشر؟ وهل تعمل منفصلة عنه، أو مؤتمرة بأمره؟ وماذا صنعت في قضية الإسلام مع الاستعمار في الجزائر؟ وهل أمرتْ بمعروف أو نهتْ عن منكر في هذه القضية كما هو شأن الأديان السماوية الصحيحة النسبة إلى السماء، التي لا تختلف في معنى المعروف والمنكر؟ أسئلة غير متناسقة، نرسلها إرسال من لا يريد عنها جوابًا، لأن أجوبتها تُنتزع من الواقع الذي يشهده كل واحد، فلا يجهله واحد. وإنما نقول تمهيدًا لكلام يجول في الخواطر: إن هذه هي مسيحية أوروبا المادية التي قطعتْ (روما) صلتها بروحانية الشرق، وجفّفتها من مائيته، واتخذها الطغاة سلمًا إلى الملك والتسلط، ثم لعبت بها تصاريف الدهر حتى زاحمت الماديين على مادتهم فتنكّروا لها ثم أنكروها، وضايقت العقل في تفكيره فكفر بها، وتنورها العلم فلم يجد على نارها هدى؛ فلما طغت عليها مذاهب العقل في أوروبا، وضاقت بها مسالك الفكر، ولم تساوقها وسائل الحضارة من علم وسياسة واقتصاد وفن واجتماع، قفزت إلى أوطان غير أوطانها، ووقعت قي منابت غير منابتها، للتبشير بالمسيح ودينه، بين أقوام يعرفون المسيح ويؤمنون به ويعتقدون فيه الحقّ، وتوسلتْ إلى غايتها بالاستعمار الذي يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، فقطعتْ معه البحار، وأوغلت معه في البراري والقفار، تخدم ركابه، وتصل بأسبابها أسبابه، وتستجديه الحماية والرعاية، لتسترجع هنا ما فقدته هناك، ولتربح هنا ما خسرته هناك، ولكنها بعد بذل الجهود، وتوطيد المهود، باءت بالفشل، وعند الراهب "زويمر" وخلفائه الخبر اليقين ...

_ * نُشرت في العدد 106 من جريدة «البصائر»، 6 فيفري سنة 1950.

أما أن للأديان السماوية في أصلها النقي أسبابًا واصلة إلى الله، وأن بينها أرحامًا متشابكة على الحق والخير، ونسبًا مرفوعة إلى الملإ الأعلى تتقاضاها التعاون والتناصر على الحق والخير، فذلك ما نعلمه قبل غيرنا، ونعمل به أكثر من غيرنا، لأن ذلك مما غرسه فينا الإسلام الذي كشف عن معاني الألوهية والنبوة والوحي، وأبان حكمة إنزال الكتب، وبيّن أن النسبة إلى الله هي الرابطة الوثقى بين عباده، إذا ارتبطوا بها سعدوا. وأما أن الإسلام أقام الحجة على الأديان وأهلها بعدله وتسامحه وفضائله، وبذَّها بعقائده المبنية على توحيد الوجهة، وعباداته المثمرة لتزكية النفس، وأحكامه الكافلة للمصلحة، وبمسايرته للفطرة وصلاحيته لجميع الأزمنة والأمكنة، فذلك شيء يشهد به أعداؤه حين تتغلب عقولهم على أهوائهم. ولكن هناك ديونًا من الإحسان والبر للإسلام على المسيحية، سجّلها التاريخ، وأقام عليها من الواقع شهودًا لا ينالها التجريح، فهل كافأته هذه المسيحية وأمها اليهودية إحسانًا بإحسان، وجميلًا بجميل، وعهدًا بعهد، ورعاية برعاية، وحرية بحرية؟ وهل شكرتا له تلك المنن التي طوّقها بها في التاريخ الطويل المتعاقب؟ ... جاورت المسيحية الإسلام في العراق، وهو مستقر قوته، متمثلة في مذاهبها القديمة، مغلوبة على أمرها، ذليلة الجوار للمجوسية، فرعى لها نسبتها إلى عيسى وإنجيله، وأرخى لها في عنان الحرية والظهور، وعاملها معاملة الغالب الكريم، لم يمتهنها بتحفظ، ولم يشن حريتها بتدخل، ولم يشب معاملته لها بتدسس، وأهَّل أهلها للمناصب الجليلة، وأحلّهم المراتب النبيهة، وسوّغهم الهبات غير مكدّرة ولا ممنونة، وقاد إحساسهم بالإحسان، ولم يجرّهم- كما يفعل الاستعمار المسيحي- بالأرسان ... وجاورته في مصر، جارة بيته، وجوهرة فتوحه، فلم ترَ جارًا أوفى ذمامًا، ولا أمنع جوارًا، ولا أرحم قوة، ولا أعف جوارح منه. ووجدت في فسطاط عمرو من ظلال الأمن، وأفياء الحرية ما لم تجده في قصور القياصرة من الرومان والبطالسة من يونان، ثم تغيّر الزمن، ودالت الملوك والممالك، ولكن رحمة الإسلام بالمسيحية لم تتغيّر لأن وصايا نبي الإسلام بأهل ذمته لم تتغير، ولأن من طبيعة الإسلام رعي الذمام. ثم غزا الأندلس ظافر الألوية، فغزا ظلم الملوك، وطغيان الطواغيت، وفساد المجتمع وتفاوت الطبقات، وأنانية الرؤساء، ولم يغزُ المسيحية ... وجاورته قرونًا كثيرة، فحمدت منه الجوار، وتبوّأت في ذمّته قرار الأمن والحرية، ولم تلق إلا الرفق واللين والرحمة، ومن آثار تلك الحرية اشتراك المسلم والمسيحي في اقتطاف ثمرات الحضارة الإسلامية من علم وأدب وفن وصناعة، ومن آثار ذلك الاشتراك كثير مما تنعم به أوروبا اليوم.

وبمثل تلك المعاملة عامل اليهودية في جميع الأقطار التي بسط فيها ظله، ونشر فيها عدله وفضله، عاملها بالحسنى، وحفظ فيها رحم إبراهيم، وأخوة موسى، فكانت الأقطار الإسلامية مأرزًا تأرز إليه اليهودية كلما مسّها ضيم من المسيحية؛ واليهود كلما انفجر عليهم تعضب من المسيحيين، فلا تجد ولا يجدون إلا الظل الظليل، والملجأ والمقيل، كل ذلك لأن الإسلام- مع نسخه للأديان، ومع اعتباره أن البشرية لا يصلحها إلا دين واحد- خصّ السماوية منها بالاعتبار، وخصّ أهلها بأحكام تقرّبهم من المسلم، وسماهم أهل الكتاب، تنويهًا بالعلم وإرشادًا إليه. ... ودالت دولة الإسلام! ... وزالت قوّة المسلمين! ... ووفدتْ على أوطانهم وافدة الاستعمار ... وفتح المسلمون أعينهم على السلاح، وآذانهم على قعقعته، فإذا اليهودية التي حموها بالأمس، والمسيحية التي أحسنوا إليها بالأمس، من عداد الأسلحة المختارة لحرب الإسلام والمسلمين ... والله أكبر. ... لو أن المسيحية كانت تسير برشد وبصيرة، وتجري على شيء من بقايا هدي المسيح، لاتخذت من الإسلام صديقًا لا عدوًّا، وحليفًا لا منابذًا، ولو كانت على شيء من الوفاء وحفظ الجميل لذكرت له مواقفه في الإبقاء عليها، وفي تحريرها من سلطة المستبدين من ملوكها، وقد كان من القوّة بحيث يستطيع محوها من دياره، ولو ذكرت ذلك لأرضته في جميع الأقطار بإعانته على التحرير في الجزائر، ولو فعلت ذلك لخدمت مصلحتها قبل مصلحة الإسلام، ولكن روحانية عيسى جفّت ... ولكن موازين الأحلام خفّت ... ولكن مغريات الاستعمار حفت ... فأصبح دين المسيح خادمًا للاستعمار، وأصبح أصحابه في غفلة يعمهون، لا يدرون أن هذا الاستعمار من عمل الشيطان ومن أعداء المسيح، وأنه يستخدم المسيحية لهدم الأديان، ثم يعود عليها هي فيهدمها، وإن هذا لهو الحق المبين. تقف المسيحية في الجزائر من عمل حكومتها في استعباد الإسلام، وقفة المتفرج في الظاهر، ووقفة المعين للحكومة في الباطن، فهل يهنؤها أن تكون هي حرة طليقة، وأن يكون الإسلام في سلاسل الحكومة وأغلالها؟ إن الطليق الذي لا يمدّ يده لإنقاذ الأسير، وهو قادر على إنقاذه، يوسم بواحدة من اثنتين: إما أنه راض مغتبط، وإما أنه شامت متشفّ، ففي أية منزلة تضع المسيحية نفسها

من هاتين، إن تبرّأت من الثالثة ... فإذا قالت: إن الإسلام خصمها، قلنا لها، إن الخصم الشريف القوي الشجاع لا يرضى لخصمه أن يكون أسيرًا في يد غيره، ولا يرضى له إلا أن يكون حرًّا طليقًا مثله، حتى إذا نازل، نازل كفؤًا، وإذا غلب، غلب كفؤًا؛ أما رضى الخصم الشجاع لخصمه بالأصفاد والأغلال فهو غميزة في الشجاعة، ونقيصة في الكفاءة، وقادح في دعوى الخصومة ... فإذا قالت: إنه أسير في يدي ... قلنا لها: هذا هو المراد، ويهنيك الحلول والاتحاد ... تشكو المسيحية من طغيان الإلحاد وكثرة أسبابه، ولكنها تعمل على تمكين الإلحاد وتقوية أساسه، فهي تنصر الاستعمار، وهو أبو الإلحاد وأمه، وهو فاتح أبوابه، ورابط أسبابه، وهي تحارب الإسلام، وهو الحصن الذي يتحطم الإلحاد على صخوره، ولعمري ليس في التناقض أغرب من هذا. من أراد الحقيقة في كلمة فهي: إن المسيحية هي الاستعمار، وسيأكلها يوم لا يجد ما يأكله! ... يا قوم ... إن الأيام دول؛ وان دين الله لا يثبت بالمزامير، ولا بالمسامير، وإنما يثبت بحقائقه وفضائله، وستفترقون على ضلالة، كما اجتمعتم على ضلالة، وسيأتي يوم تنتصرون فيه بالإسلام ... ثم لا تُنصرون.

فصل الدين عن الحكومة (9)

فصل الدين عن الحكومة (9) فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 2 - ينزغ شيطان الاستعمار الحكومة، فتحرك مسائل كانت نائمة، ارتجالًا بلا باعث من الحكمة، ولا داع من الضرورة، ولا مناسبة من الوقت، ولا اقتضاء من المصلحة، ونسكت نحن على مضض حتى ينفد الصبر، ثم نتحرك للكلام ... يوحي شيطان الاستعمار إلى الحكومة وحيًا متتابعًا لا فترة فيه، فإذا تلقّت الوحي ونزل به الروح الخبيث على قلبها نجمته على فترات، وأوحت في كل فترة إلى أوليائها ما يثير شرًّا، أو يوقظ فتنة، وقد أصبح المجلس الجزائري اليوم متنزل وحيها، فلا تمضي فترة إلا أوحت إليه شيئًا من ذلك النوع الذي يثير الشرور، أو يوقظ الفتن. أي داع من الحكمة، أم أي مقتضٍ من المصلحة لإثارة قضية إعطاء المرأة المسلمة حق الانتخاب؛ كأننا فرغنا من جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وحصّلنا جميع الحقوق والمصالح، ولم تبق إلا هذه القضية، وكأن الرجل المسلم استوفى جميع الحقوق، ومنها حق الانتخاب، وجنتْ يداه جميع الثمرات، ومنها ثمرة الانتخاب، ونال جميع الحريات، ومنها حرية الانتخاب ... وبقيت المرأة المسلمة محرومة من ذلك كله، فوجب على الحكومة العادلة، وعلى المجلس الرحيم، أن ينصفاها، وأن يرفعا عنها هذا الإجحاف، وأن يعجّلا لها بالحق الضائع والثمرة المغصوبة، والحرية المسلوبة. إذن فلتحيَ العدالة ... ولتحيَ المساواة ... إن الرجل المسلم لم يملك إلى اليوم حق الانتخاب، وكل ما حصل عليه في هذا الباب، أن يسجّل اسمه في قوائم الانتخاب، كما يسجَّل في قوائم المواليد، وأن يحمل ورقة اسمها ورقة الانتخاب، كما يحمل ورقة التعريف، فإذا جاء أجل الانتخاب سيق بالكره إلى الجهة التي تريدها الحكومة، فإن أبى فهو عدو للحكومة، فإن غاب ... أكمل به

_ * نُشرت في العدد 108 من جريدة «البصائر»، 20 فيفري سنة 1950.

النصاب، وإن المسلم الجزائري لغائب عن كل شيء ومنسيّ في كل مشهد. ولم نر مشهدًا يعتد فيه بغيبته إلا مشاهد الانتخاب، أفيريدون بإعطاء المرأة المسلمة ورقة الانتخاب أن يشركوها مع الرجل في هذه "النعم"؟ أم هم يحسدونها على السلامة من نهر القائد وتهديده، ومن زمجرة الحاكم ووعيده، ومن عصا البوليس وسياطه، ومن رؤية المزعجات من الدبابات والرشاشات، فهم ينتقمون منها- بدافع الحسد- ويجرّونها إلى هذا العذاب، بإعطائها ورقة الانتخاب، وما لهم لا يعطونها حق (التوظف)؟ إن قالوا: إنّها لا تحسن العمل، قلنا: وهي كذلك لا تحسن الانتخاب، وهل أجدى على الأمّة إعطاء حق الانتخاب للرجال الأميين شيئًا؟ إنه ما جرّ عليهم إلا الوبال، وإن القانون الأخير الذي عمّم هذا (الحق) على سكان الدواوير (1) والصحارى الأميين، ما سُنّ لمصلحة المسلم الأمّي ولا القارئ، وإنما سنّته الحكومة لتغمر القلة القارئة بالكثرة الأميّة، والفئة العالمة بالفئات الجاهلة، فتضمن الفوز لمرشّحيها، وقد كان ذلك، فاستمرأت الطعم، فأرادت أن تفتح الباب للمرأة المتعلمة، ثم للجاهلة، ليكون لها رديف منهن تدّخره لوقت الحاجة. وكل ما قلناه عن الانتخاب فهو القاعدة، فإن شذّ عنها شيء فهو (تعويذة) يُدفع بها النقد، وستار تغطّى به الحقيقة. أما حكم الإسلام فسندمغ به حجج الجاهلين به في مناسبة أخرى. وإنما نقول إن الإسلام في جملته لا يزجّ بالمرأة في هذه المضايق، وفي كل ما يجُرُّ إليها، رفقًا بها وإبقاء على شرفها ورعاية لرقة شعورها، ولطافة جوهرها، لا احتقارًا لمنزلتها، ولا استخفافًا بشأنها، وإنه ليسوّي بينها وبين الرجل في كثير من منازل الكرامة والاعتبار، حتى إنه ليجيز إجارتها للجاني وللفارّ بخربة، بدليل حديث «ويسعى بذمّتهم أدناهم»، وحديث «أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ». وقد جرت الأديان والحضارات الأصيلة على هذا المنهاج الذي نهجه الإسلام في المرأة، إلى أن جاءت هذه الحضارة القائمة فأرخت للمرأة العنان، فزاغت الحرية المفرطة عن الاعتدال، فتعدّت طورها الطبيعي، فأصبحت مشكلة يعسر حلّها، لا إنسانًا يعسر إقناعه. وسيندم الفاتحون لهذا الباب، المنادون بإعطاء المرأة حق الانتخاب، يوم تصبح ظبية الوعساء أسد غاب، وتصبح النوائب مناهضات للنواب. وإذا كانت أوروبا، على عراقتها في الحضارة والعلم- وتدرّج المرأة فيهما مساير للرجل- لم تفكّر بعض أممها في إعطاء هذا الحق للمرأة إلا في السنوات الأخيرة، وفي ظروف استثنائية كما يقولون، فكيف تُقدِم حكومة الجزائر ومجلسها على هذه الطفرة بالمرأة العربية المسلمة ... وهي ما زالت في الدرك الأسفل من الانحطاط. وهلّا فكّروا في تقوية

_ 1) الدواوير: جمع دَوَّار، وحدة إدارية تشمل عدة قرى.

عقلها بالعلم، وفي تقوية جسمها بالغذاء، وفي حفظ صحتها بالعلاج، وفي حفظ نسلها بالرعاية، وفي تخفيف ويلاتها بالاهتمام، أم هم يعتبرون المرأة العربية المسلمة في الجزائر قطعة من المرأة الفرنسية في أوروبا؟ المرأة الجزائرية تنتحب، والحكومة الجزائرية تريد لها أن تنتخب ... والفرق بسيط، ما دام الفارق نقطة ... وقاتل الله هذه الخاء، فما أعسرها في المخرج. وما أسعد من لا ينطق بالخاء ... وصدق المثل: عسى الغويرُ أيؤسا ... وإذا كانت نظرةُ الإسلام إلى القضية هي هذه، فهي من الدين الذي يجب فصل الحكومة عنه. ... والقضاء الإسلامي أيضًا من الدين، فما لهم يجهلون؟ ... فقد أثيرت في هذه الدورة للمجلس الجزائري قضية القضاء الإسلامي، نزل بها الوحي المفاجئ، مستورة بجلباب شفاف، وهو كلمة الإصلاح التي عنونوها بها، وتلهّى المجلس أسبوعًا أو يزيد، ووع النقاش في حواشيها وفي صميمها، واختلف الرأي واشتدّ الجدال، وافترق المجلس فيها معسكرين، يحرّك كل واحد منهما الدالان وقالت النظارة: إن الأمر جد، وإذا بالوحي ينزل مرّة أخرى بالنسخ أو بالفسخ، والنسخ قبل إمكان العمل جائز عند الأصوليين، قائم الشواهد من الواقع، وإذا القضية كأنها تدريب على لعبة لا بحث في قضية جدّية. وقبل هذا الوحي كان إرهاص ... فقد أُثيرت قبل هذه القضية بأسابيع قضية أخرى من سلالتها، أو تشير إليها، أو تدل عليها، أو تنذر بها، أو كأنها مقدّمة لكتاب، أو طليعة لكتيبة، أو ما شئت أن تجيل فيه فكرك! تلك القضية هي: الاكتفاء بشاهدين في عقود الأنكحة الإسلامية، وعدم اشتراط التسجيل عند القاضي ... وقد شغل بها المجلس وزجّى بها الفراغ أيامًا، ثم بردت الحرارة ونامت التقارير، وكانت كلها شقشقة هدرت ثم قرّت! إن للحكومة- بلا ريب- نية مبيّتة في إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج، فهي تمهّد الأسباب لذلك وتهيّئ من زمان بعيد، ولكنها لا تريد أن يجيء ذلك الإلغاء مباشرة، ولا أن تُقدِم عليه في دفعة واحدة، وإنما تعمل له بالحيلة والمطاولة حتى يتم وكأنه أمر طبيعي، لا يثير لغطًا ولا يحدث تشويشًا. نلمح هذه الحقيقة في ظل الأعمال التي تأتيها الحكومة باسم التنظيم للقضاء الإسلامي، وفي ظل الأقوال التي تقولها فيه، ونفهم أن تعقيد الإجراءات القضائية وتكثير اللوائح

والبلاغات فيها، والبطء المملّ في سير النوازل، والتغاضي لبعض القضاة عن الهنات الأخلاقية المخلّة بشرف القضاء، المشوّهة لسمعته، وإبعاد مراكز القضاء عن المتقاضين، وإرادة فتح باب التخيير للمتقاضين بين القاضي المسلم وبين القاضي الأوروبي، كل ذلك وما أشبهه يرمي إلى تنفير المسلم من القضاء الإسلامي وتزهيده في التحاكم إلى القاضي المسلم، واختياره للقضاء الفرنسي، وإن مسألة الأسابيع الماضية التي سمّيناها إرهاصًا لنذير من النذر، لأن الآثار اللازمة لها كثيرة منها تطفيف المنفعة المادية للقضاة والتضييق لدائرة نفوذهم، والتقليل للتردّد عليهم والاتصال بهم، وهذا باب من أبواب التزهيد فيهم، فإذا أضفت إلى هذا الباب فصل السلوك والسيرة كان زهدُ المسلم في القاضي زهدًا محقّقًا، وكان إلغاء هذا القضاء المتمثّل في هذا القاضي أمرًا مرغويًا فيه. إننا نريد لقضائنا حرمة ومكانة، ونريد لرجاله سمعة ومنزلة، ونغار عليهما، وندافع عنهما بحمية وحماسة، ونطالب بإصلاح القضاء ثم باستقلاله، ونرى أنه لا عزّ لأمة إلا بعزة قضائها وقضاتها، ولكن بعض القضاة كانوا بأقوالهم وأعمالهم عونًا علينا، وكانوا مع الاستعمار إلبًا على مطالبنا، وكأنهم ضمنوا لأنفسهم الخلود في هذه الوظائف المهينة، فاطمأنوا لهذه (الخبزة) الذليلة، فذاقوا وبال أمرهم حين سيموا الخسف بالأمس، وحملوا على خطة الهوان، فلم يجدوا وليًّا ولا نصيرًا. حقيقة ... إن بعض القضاة أعوان للقضاء على القضاء ... وبعد ... فنحن لا يهمنا أن يشغل المجلس الجزائري نفسه بالتوافه، ولا أن يعمر أوقاته بالفراغ، ولا أن تنجلي معاركه عن غير فتح ولا غنيمة، فإن كل واحد ميسر لما خلق له، وإن كثيرًا من الأشياء المنسوبة إلينا، المحسوبة علينا، هي من باب كلمة " Stop" في البرقية، تدخل في حساب جيوبنا، لا في حساب مصلحتنا، فندفع ثمنها من غير أن نستفيد منها شيئًا. وإنما يهمّنا أن القضية من صميم الدين، فكان الواجب أن يُرجع فيها إلى أهل الدين وهم المسلمون وحدهم، وكان من اللياقة والحكمة أن يُستشار فيها أهل العلم بالدين، لأنهم أدرى بالخلل وبوجوه إصلاحه، وما شأن النواب غير المسلمين في هذه القضية الإسلامية البحتة؟ مع أن المجلس مبني من أول يوم على التفريق بين جنسين لكل منهما صندوق انتخاب، لأن لكل منهما مصالح تخصه، أم أن أولئك النواب يعتقدون أن القضاء الإسلامي ليس من الدين؟

فصل الدين عن الحكومة (10)

فصل الدين عن الحكومة (10) فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 3 - ولعل رجال هذا المجلس- حين كانوا يخوضون في قضية (إصلاح القضاء الإسلامي) - كانوا يظنون أو يعتقدون أن القضاء في الإسلام ليس من الدين، وإنما هو تشريعات زمنية، يأخذ منها الزمان ويدع، وهم في هذا بين اثنتين: الجهل بقيمة الإسلام، أو التجاهل، والإسلام يراعي المصالح الزمنية ويبني أحكامه على تطوراتها، ويكل إلى علمائه الراسخين في فقه الكتاب والسنّة أن يُراعوا لكل وقت أحواله، وأن يقيموا الموازين على أساس جلب المصلحة ودرء المفسدة، وأن يضعوا بين أيدي قضاة الإسلام من القواعد ما يعصمهم من الخطإ في التنفيذ، ولكن هذا التسامح كله إنما هو في غير ما (يعمر القلب، ويعمر البيت)، في غير ما يعمر القلب من توحيد وعبادة ناشئة عن التوحيد، وفي غير ما يعمر البيت ويكوّن الأسرة، من النكاح وتوابعه ولوازمه من حقوق الزوجية والنفقات وأحكام الطلاق والعدّة والصدقات والحمل والإرضاع، فكل أولئك من صميم الدين، بيّن الكتاب أصولها وحِكَمَها وأحكامها، وشرحت السنة القولية والعملية فروعها ودقائقها، ولم يتركها الله سدى ولا وكلها إلى الآراء والأزمنة، لأن دينه دين الفطرة ... ومن لي بأن يفهم الناس والعلماء منهم معنى هذه الكلمة الجليلة، كلمة الفطرة؟ إنها لا تفهم من القواميس، وإنما تفهم بتفهم أسرار كلام الله، وكلام محمد بن عبد الله. إن أحكام النكاح وتوابعه تعدّ من مفاخر التشريع الإسلامي المستند على الوحي الإلهي، ولا يوجد دين من الأديان السماوية أو الوضعية- ولا أستثني- اعتنى بهذه الأحكام وفضل القول فيها وبنى أصولها على الفطرة وما تحتمل وما لا تحتمل، إلا دين الإسلام، وحكمة ذلك كله أن هذه الأبواب هي التي تُبنى عليها الأسرة التي هي نواة الأمّة، وإن صلاح الأمّة

_ * نُشرت في العدد 159 من جريدة «البصائر»، 27 فيفري سنة 1950.

وفسادها، تابعان لصلاح الأسرة وفسادها، فعناية الإسلام بهذه الأبواب أكبر برهان على عنايته بإصلاح الأمّة وإسعادها. ولو أن العالم النفسي من علماء العصر يدرُس التشريع الإسلامي في منابعه الأولى وبلغته الأصلية، ثم يقابل بينه وبين قواعد علم النفس لآمن بالله وبدينه الحق. إن الطبائع الفردية في البشر تختلف وتتباين، وعوارض الحب والبغض تتغيّر وتزول، فمن الخطإ في التشريع أن تُجعل أساسًا لحكم عام، أو قاعدة اجتماعية، فالخلطة الطائرة القصيرة، المصحوبة بنزوات الشباب، التي يجعلها الأوروبيون شرطًا في الزواج، ويزعمون أنها ضامنة لدوام العشرة وسعادة البيت، قلما تصدُق، لأنها لا تكشف عن الجواهر الأخلاقية الأصلية، مع ما يصحبها من الغش والتصنع، وكثيرًا ما نرى الزوجين منهم بعد نُصول الصبغ الكاذب، وانكشاف الحقائق الطبيعية، يرجعان إلى حالة من المعاكسة والخلاف هي العذاب بعينه، والإسلام لا يبني على هذه الاعتبارات الزائلة، وإنما يبني على اعتبارات عُليا، إن لم تُلائم هوى طاغيًا في الفرد فإنها تلائم مصلحة المجموع. وإن كل ما قلناه ونقوله في هذا الموضوع إنما هو حال الإسلام، لا حال المسلمين. ... نعتقد أن المثقفين من أعضاء المجلس المسلمين كانوا يعتقدون في القضية خلاف ما يعتقده زملاؤهم، كانوا يعتقدون أن هذه المسألة دينية، يجب الرجوعُ فيها إلى أهل العلم بالدين، ولكن صوت الحق في هذا المجلس تعلوه أصوات الباطل والجهل، فلا تدع قائل الحق يقول، ولا تسمعه إذا قال، لأن المجلس كان مأخوذًا بسحر الوحي ورهبته، فلم يُفق من غشيته حتى نزل الوحي الثاني بالمجلس، وقيل له: قف ... فإن القضية ليست من خصائصك، وإنما هي من خصائص وزير العدل الإفرنسي في باريس. ليت شعري ... هل كان هذا مجهولًا يوم وُضعت القضية في جدول الأعمال؟ لا نعني أعضاء المجلس بهذا السؤال، فقد قرأنا في الأمثال أن الحائط قال للوتد لمَ تشقني؛ فقال له: سل من يدقني ... ... وإذا كان أعضاء المجلس الجزائري يعتقدون ويقولون: إن القضاء ليس من الدين، فقد قالها قبلهم حاكم مسؤول منذ سبع سنوات، وكان هدفه في كلامه إثبات عدم "دينية" القضاء

ليمهّد للحكومة بقاء يدها مبسوطة عليه كالمسائل الإدارية، تبدّل وتغيّر و ... وتلغى، فتناول هذه المسألة الدينية بمنطق استعماري، وفكر عنصري، ولم نستطع الردّ عليه إذ ذاك لعدم وجود صحيفة تنشر لنا، فاكتفينا بتوضيح المسألة في تقريرنا الذي قدّمناه للحكومة في رمضان 1363 ونص ما قلناه: "القضاء بين المسلمين في أحوالهم الشخصية والمالية والجنائية جزء لا يتجزأ من دينهم، لأن الحكمَ بينهم فيها حكم من الله، ولأن أصولَ تلك الأحكام منصوصة في الكتاب والسنّة، وكل ما فيها فهو دين، ولأنهم ما خضعوا لتلك الأحكام إلا بصفة كونهم مسلمين. والدولة الفرنسية نفسها تعترف بهذه الحقيقة اعترافًا صريحًا، فقد كانت إلى العهد القريب تعارض مطالبة الجزائريين بحقوقهم السياسية لتمسّكهم بالقانون الأساسي في الأحوال الشخصية. والحقيقة أن الحكومة الجزائرية منذ الاحتلال بَترت القضاء الإسلاميّ فانتزعت منه أحكام الجنايات والأحكام المالية، ولم تُبق له إلا أحكام النكاح والطلاق والمواريث، ولا ليتها أبقتها له حقيقة، ولكنها مع المطاولة احتكرت تعليمه واحتكرت وظائفه لمن يتخرجون على يدها وبتعاليمها، وجعلت نقض أحكامهم وتعقّبها بيد القضاة الفرنسيين، وأصبح القضاء الإسلامي حتى في هذا القدر الضئيل خاضعًا للقضاء الفرنسي وأصبح القضاةُ بحكم الضرورة لا يرجعون في أحكامهم إلى النصوص الفقهية، وإنما يرجعون إلى اللوائح التي يضعها وكلاء الحق العام الفرنسيون، وفي هذا من الإجحاف وظلم القضاء الإسلامي ما لا يرضى به المسلمون. ولا ننسى أنها وقعت محاولات واستفتاءات في بعض الأحيان، يُراد منها إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج، وإرجاع مشمولاته إلى القضاء الفرنسي، إن المسلمين يشكون هذه الحال، ويشكون نتائجها السيّئة من الاضطراب والفوضى في المحاكمات، والضعف والجهل في القضاة، ويعلمون أن ذلك كله ناشئ من سوء التعليم القضائي وعن إهمال التربية الإسلامية الفاضلة التي هي الشرط الأساسي في القضاة، وعن استبداد القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وعن عدم شعور القضاة بمراقبة الأمّة لهم مراقبة دينية. وجمعية العلماء والأمّة الإسلامية معها تطالب الحكومة الجزائرية بوضع حدّ لهذه الحالة الشاذة المضطربة". ثم أجملنا رأينا في نقط الإصلاح اللازمة التي لا بدّ منها لمن يريد الإصلاح وله فيه قصد صالح ونية حسنة، ولو أن الحكومة أعارت مطالبنا الدينية التفاتًا من ذلك الحين، وقد مرّت بعده سبع سنوات، لأحسنت إلينا وإلى نفسها، ولخفّفتْ عنا وعن نفسها كثيرًا من هذه

التعليم القضائي

الأعباء والمتاعب، ولوَجدتْ نفسها اليوم خالية الذرع من هذه المشاكل، ولكن أين الاستعمار من الإحسان؟ إن طالب الإحسان من الاستعمار كطالب النسل من العقيم ... قلنا- إذ ذاك- في بيان نقط الإصلاح ما نصّه: "وها هي ذي أصول الإصلاح نقدّمها بكل إخلاص: التعليم القضائي: يجب توسيع برامج التعليم القضائي في مادة العربية والفقه والأصول ودراسة التفسير والحديث ومآخذ الأحكام منها وتاريخ القضاء في الإسلام وفلسفة التشريع وعلم النفس. كذلك يجب فتح الباب لقبول علماء مدرّسين لتلك العلوم من المتخرّجين من جامع الزيتونة أو غيره، لا تعتبر فيهم إلا الكفاية لما يراد منهم. الوظائف القضائية: كذلك يجب إدخال عناصر من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره من المعاهد الأخرى في الخطط القضائية. السلطة العليا: كذلك يجب تكوين مجلس قضائي أعلى من القضاة المسلمين يتولّى اختيارَ القضاة وتسميتهم ومراقبتهم والنظر في سلوكهم وتحديد عقوباتهم، وتكون سلطة هذا المجلس مستقلة عن القضاء الفرنسي. محاكم الاستئناف: كذلك يجب تكوين محاكم استئناف إسلامية، تستأنف إليها الأحكام الأولية وتكون سلطتها إسلامية محضة، وهذه النقطة من أهم نقط الإصلاح من حيث الاعتبار، لأن حكم القاضي المسلم لا ينقضه إلا قاض مسلم". هذا ما قلناه منذ سبع سنوات خلتْ في إصلاح القضاء الإسلامي، وما زلنا نقوله، وما زلنا نرفع أصواتنا بأن المسلم لا يجوز له دينًا أن يتحاكم إلى حاكم غير مسلم، ولا يجوز له أن يستبيح نكاحًا أو إرثًا من أية جهة كان أو دمًا بأية شبهة كانت، إلا بحكم قاض مسلم.

الدين المظلوم

الدين المظلوم * كان الإسلام عزيز الجانب، منيع الحمى، يوم كان يدافع عن نفسه بروحانيته القوية، وحقائقه الواضحة، وعقائده الصافية، وأحكامه السمحة، وآدابه القويمة، وحكمه المتحكمة في العقول، وكان يُدافع عنه جند من أبنائه، عرضهم على ميزانه فرجحوا، واستعرضهم فنجحوا، وامتحن قلوبهم للتقوى فتكشفوا عن الطيب والطهر، وتلاقت العقائد الصريحة والقواعد الصحيحة على إنارة غسق الأرض بإشراق السماء، فظلّل الإسلام الكون بعدله وسماحته، وكان له في المشارق والمغارب مستقر ومستودع، وعلا بذلك على الأديان فجلّلها بالأمان، وأجارها من النسيان، وجاورها بالإحسان، فلما ضعف سلطانه على نفوس أبنائه ضعف سلطانهم على الأرض فاختلّ فتلاشى، ذلك يومَ أصبح قرآنه أغاني على الألسنة، لا أشفية للصدور، وأحاديثه أحاديث للتلهية والتغرير، لا معادن للأحكام والأخلاق، ويومَ قُفي على عقائده بالخرافات، ونسخت أحكامه بالعادات، وبدّلت آدابه بالتقاليد؛ فلما اطمأن المسلمون إلى هذا المهاد الذليل هانوا على الله وهانوا على أنفسهم فهانوا على الناس، فأصبحوا بهذه المنزلة لا يحمدون عليها ولا يُحسدون، وأصبح دينهم هدفًا لكل رام، ونهزة لكل عاد، وفريسة لكل مفترس. دفع الإسلام أبناءه بتلك الروحانية العنيفة إلى ميادين الحياة، بعد أن عرّفهم بمعاني الحياة: دفع الأبطالَ إلى الفتح، وجعل الرفق رديفه، ودفعَ أولي الهمم إلى الملك، وجعل العدلَ حليفه، ودفعَ العلماء إلى التربية، وجعل الإصلاح غايتها، ودفع الأغنياء إلى بناء المآثر، وجعل عزةَ الأمّة نهايتها، فسدّ كل واحد ثغرة وأبقى فيها الآثار الخوالد: أبقى الأبطالُ تلك الفتوحات التي هي مفاتيح ملك الإسلام، وأبقى الخلفاء تلك السير التي هي

_ * نُشرت في العدد 122 من جريدة «البصائر»، 5 جوان سنة 1950.

جمال الأيام، وأبقى العلماء تلك الأسفار الكريمة التي هي عطر التاريخ وأزهاره، وأبقى الأغنياء هذه المعاقلَ الباذخة التي هي بيوت الله. ... والدين المظلوم في زماننا هو الإسلام في الجزائر: مظلوم من أهله، إذ لم يدافعوا عنه، ولم يأخذوا له بحقه من ظالمه، ومظلوم من هذه الحكومة ذات الألوان التي تحكم الجزائر بما تمليه القوّة، لا بما يُوحيه الحق والعدل، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة، وأشنع غضاضة؛ ولا نتحدث عن الغابرين الذين فرطوا في جنب دينهم حتى أضاعوه من أيديهم فأضاعوا الرشد، ورضوا بالحجر، كمن أضاع بالسفه أرضه، وقنع بأن يبقى فيها أجيرًا؛ لا نتحدث عن هؤلاء الذين أضاعوا التراث، وتركونا نحاول انتزاعه من بين الأنياب والبراثن فهم أمّة خلت: إلى الله إيابها، وعليه حسابها. ولكن نتحدث عن جمعية العلماء وعصرها وأهل عصرها، بعد ما تجلّت الحقائق، وزالت حجب الغفلة، ودنت الحقوق من طالبيها، وخالط حب الحرية العامة شغاف القلوب، وأصبحت أنشودة العصر، ونشيدة السود والحمر. أما جمعية العلماء فلم تنم عن حق من حقوق الإسلام، ولم تفرط في قلامة ظفر منها، بل قامت بواجبات الدفاع عنه في ثلاثة ميادين في وقت واحد: دافعت عنه في الميدان الخارجي بما ردّت من شُبه الطاعنين، وكفكفت من غلواء المبشّرين، وبما أقامت من حصون في وجوه الملحدين، وما منهم إلا من يريد أن يطفئ نوره ويقطع ظهوره. ودافعتْ عنه في الميدان الخاص بالحكومة الجزائرية في قضية (فصل الدين عن الحكومة) فقد تناولتْ هذه القضية بالشرح والتحليل منذ عشرين سنة خلتْ، وتناولها هذا القلمُ بالبيان والتدليل من ثلاث سنوات، ولم تهن لها عزيمة ولا خارت لها قوّة في المطالبة، ولم يخدعها وعد، ولا ردّها وعيد عن تقبيح سلوك الحكومة وموقفها من هذه القضية، ولا رَمتها المطاولة بالملل، الذي يرمي العاملين بالفشل، بل ما زادتها المطاولة إلا مراسًا وإقدامًا، لعلمها بأن العاقبة للمتّقين، وأن الله مع الصابرين العاملين المثابرين، وقد مرّت عليها ثلاث سنوات متوالية وهي من القضية في عمل دائم وقول مستمر، وسيل من الكتابة منهمر، فلا هي سكتتْ، ولا الحكومة نطقتْ، ومن البلية خطاب من لا يجيب. ودافعتْ عنه في الميدان الداخلي، بينها وبين قومها وأبناء ملّتها، حتى علم الجاهل واهتدى الضال، وفاء إلى الرشد الغوي؛ وسيعلم المتمادون على العناد أننا محضنا النصح،

والدين النصيحة، وأننا وفينا، والدين أمانة، وأن الذي أوجب علينا النصح، أوجب عليهم الانتصاح، وقد قمنا بالواجب، فهلّا قاموا به كما قمنا؟ وهلّا فاءوا إلى الحق ورجعوا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم أن نتعاون على نصر ديننا، وإنقاذه من اليد الغاصبة! وسيعلمون جميعًا قيمة أعمالنا ونصائحنا يومَ ترفع الحكومة يدها عن معابدنا وشعائرنا وأوقافنا، وتسدل الستار عن هذه البوارق المعشية، من الوظائف والألقاب والنياشين، فيجد المسلم نفسه معتزًّا بالله، قويًّا بإيمانه، أهلًا لما أهله قومه، عامر الباطن بالشرف يلبس المملوكَ لا المستعار، ويومئذ يستيقنون أن هذه الحكومة كانت تغري بيننا العداوة والبغضاء لمصلحتها لا لمصلحتنا جميعًا، ولا لمصلحة فريق، وأنها تعد وتمني وما تعد إلا غرورًا. ولو أن إخواننا أنصفوا الحق وأنصفونا لكان حظنا منهم الإعانة والتنشيط على هذا الجهد الذي نبذله، وهذا الجهاد الذي نقوم به، فإن لم يكن هذا فعدم الوقوف في صف الحكومة، وهو أضعف الإيمان. ولو ذهبنا نصفي الحساب مع هؤلاء الإخوان لكانت الفذلكة هكذا: لا ذنب لنا عندهم إلا كلمة الحق نقولها صريحة فتشرح وتجرح، مجلجلة فتصك وتصخ، موجّهة إلى المبادئ والمعاني، فيتصايح الأشخاص ويتظلمون؛ وما ذنبنا إذا كانت كلمة الحق هي كلمة الله لا كلمتنا ومن عند الله لا من عندنا؟ وما ذنبنا إذا كان الحكم الذي نحكمه هو حكم محمد بن عبد الله؟ بل ما ذنبنا إذا رضي بعض الأشخاص أن يكون تفسيرًا لتلك المبادئ ودريئة لوقاية الخصم؟! أمن الحق أن يكون التصرف في ديننا بجميع أركانه موكولًا إلى غيرنا فنسكت عنه ثم نرتقي إلى أسفل فنعينه على ذلك؟ أمن البرّ بأمّتكم أن تسجّلوا عليها السفه والعجز حتى في أخصّ مميزاتها؟ أمن الشرف أن ترضوا لدينكم ولأمّتكم بهذه المهانة؟ أمن كرامة الموظف الديني أن يكون تابعًا لحكومة لائكية، ومسخرًا لشركاء متشاكسين؟ إن هذه- والله- هي الدنية، التي أباها عمر يوم الحديبية. وتتم الفذلكة بأن لا ذنب لإخواننا عندنا إلا لشيء واحد، وهو هذا التهافت على مغريات الحكومة المباشرة وغير المباشرة، وهذا الانخداع بمكايدها الظاهرة والمضمرة، وهذا التسليم المطلق لها في أمور الدين. احذروا- يا قوم- أن يكتب لكم التاريخ سيئة تأكل جميع حسناتكم، وهي: أننا نريد تحرير الدين وأنكم تريدون بقاءه في العبودية ... ***

أما بعد، فإننا قدّمنا في الأسبوع الماضي إلى الوالي العام، وإلى رئيس المجلس الجزائري، وإلى جميع أعضائه، مذكرة بطلب تنجيز فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية، وببيان رأينا في كيفية الفصل، لم نحدْ فيها عن آرائنا القديمة، ولم نزد إلا ما جدّ في القضية من حكم البرلمان الفرنسي في المادة السادسة والخمسين من القانون الأساسي للجزائر، وهو التصريح بأن الفصل مضمون، أسوة بالدينين المسيحي والموسوي، وأن النظر في التنفيذ موكول إلى المجلس الجزائري. وقد نشرنا المذكرة في العالم وصحفه ليرى مُبصر ويسمع واع، وسئمت الأمّة القلقة من هذا التباطؤ المقصود من الحكومة، وقرأ المذكّرة من وصلت إليه، فعرضت علينا تأييدها لنا في طلب التنفيذ، فقلنا لها: إنك أبطأت عن الخير، كما أبطأت الحكومة في التنفيذ، فانهالت برقيات الاستنجاز على الوالي العام، وعلى رئيس المجلس، وعلى أعضائه من دوائر انتخابهم، حتى التجأ الرئيس إلى نوع من الكياسة، فأصدر بلاغًا أذاعه الراديو ونشرته الصحف، وحدّد فيه عرض القضية في الفترة الجامعة بين سنتي 1950 - 1951. إننا لا نرى رأي الرئيس في أن القضية متشعبة متعصبة، بل نراها في غاية البساطة والسهولة، وما شعّبها وصعّبها وعقّدها إلا نظرُها بالمنظار الاستعماري، ومن نظرها بغير هذا المنظار، وتبيّن وجه الحق فيها، تسهّلت له ولانت وانحلت من تلقاء نفسها. إن الدِّين- يا حضرة الرئيس- كالدَّيْن، قاعدته: "مطلُ الغني ظُلم"! ... وهناك نقطة كانت تتعلّل بها الحكومة، وتعدّها من معاذيرها، وطالما سمعناها من المسؤولين من رجال الحكومة، وهي أننا مختلفون، وأنها إذا أرْضت طائفة منا أغضبت طائفة، وإرضاؤنا جميعًا من المحال. أما نحن فقد آذناها مرارًا بأننا لا نريد أن نحتكر هذه القضية لأنفسنا، لا في المطالبة، ولا في الرأي، ولا في التصرف، وإنما نطالب بإرجاع حق المسلمين إلى المسلمين، وأما غيرنا فنعتقد أن الحكومة هي التي تحرّكهم للخلاف وتشير عليهم به، لا نقول هذا رجمًا بالغيب وتجنّيًا على الحكومة، بل لنا عليه شواهد حسّية في الجمعيات الدينية وغيرها. ولقطع هذه التعلات والمعاذير، قدّمنا للحكومة اقتراحًا ملحقًا بالمذكّرة يتضمن جريدة بأسماء الأشخاص الذين يتألف منهم المجلس الإسلامي المؤقّت، يمثّلون طبقات الأمّة، ولم نراع فيها إلا الحظ الكافي من الثقافة العامة والشعور بالمسؤولية الدينية، وأنهم غير

مرتبطين بالحكومة بوظيفة دينية أو غير دينية، وفيهم العالم وشيخ الزاوبة والفلاح والتاجر والطبيب والمحامي. هذا كله في المجلس المؤقّت الذي هو ذريعة إلى المجلس الأصيل المنتخب، على ما بيّناه في أصل المذكّرة، فإذا جاء الانتخاب، سدّ علينا وعلى غيرنا الباب، وبقيت الكلمة خالصة للأمّة. وإننا نتحدّى الحكومة بأكثر من هذا، نتحدّاها بأننا إذا رأينا صدقها في الفصل، وإخلاصها في التنفيذ، ونفض يدها من كل ما يتعلّق بالقضية، وأقامت لنا الدليل على أن باطنها في ذلك كظاهرها، فإننا مستعدون لتسليم القضية إلى أي قادر على تسييرها من جماعات المسلمين، وللتنازل الخالص عن حظوظ جمعية العلماء في القضية. فهل في التحدي أبلغ من هذا؟

فصل الدين عن الحكومة (11)

فصل الدين عن الحكومة (11) أهذه هي المرحلة الأخيرة من: فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 1 - أتظن هذه الحكومة أنها تسوِّف ما شاء لها الهوى في هذه القضية، وتسخر منا ومن ديننا ما شاء لها الغدر والطغيان، ليطول علينا الأمد فننسى، أو تتشعب علينا المسالك فنقل، أو تتكاثر علينا الخصوم فيضيع صوت الحق في أصوات الباطل؟ أما الأمد فقد طال مائة وعشرين سنة، فتناسى أولنا ولم ينس أخيرنا، وما زاد طول العهد إلا تذكرًا ويقظة واستمساكًا بالحبل على طوله وامتداده، ومن طبيعة المسلم التي لا تفارقه في جميع أطوراه أنه ينسى المصيبة في دنياه لإيمانه باللطف الرباني معها، واعتقاده للأجر الأخروي فيها، ولا ينسى المصيبة في دينه لاتهامه نفسه بالتقصير في دفعها، واعتقاده لزوم التكفير عن التقصير. وأما تشعب السبل فقد أعددنا له- من أول يوم- دليلًا لا يضل، وهو الحق؛ وجانبًا لا يزل، وهو الصبر، وسيفًا لا يكل، وهو الحجة، ونصيرًا لا يذل، وهو العقل، وميزانًا لا يختل، وهو الرأي؛ فلا تتشعب علينا السبل إلا رميناها بهذه الأدوات مجموعة فتنزوي وتتجمع كقضبان الحديد في محطة القطار، مآلها بحكم الهندسة إلى خطين متوازيين. وأما الخصوم فليكثروا ما شاؤوا، فإن كثرتهم إلى قلة، وإن مرجعهم إلى واحد وهو الحكومة، فكل خصم لنا في هذه القضية فهو إما جزءٌ من هيكل الحكومة، أو ناطق بلسانها، أو عامل بإرادتها، أو مسخر لمصلحتها، وهاتوا المنطق ... فهل يُعقل أن مسلمًا صحيح النسبة إلى الإسلام يرضى ببقاء دينه في قبضة حكومة لا تدين به؟ وهل يُعقل أن يكون هذا المسلم خصمًا لمن يطالب بتحرير دينه؟ ... إن كلمة حرية وحدها أصبحت تهزّ الشعوب

_ * نشرت في العدد 137 من «البصائر»، 15 جانفي عام 1951.

هزًّا، وأصبحت مقادة في أيدي الدعاة- حتى المشعوذين منهم- يقودون بها الجماهير، ولو إلى السعير، فكيف بمن يطالب مخلصًا بتحرير دين عظيم، من بلاء عظيم؟ وهاتوا المنطق ثانيًا، فهما في قضيتنا أمران: فصل صريح وهو ما نطالب به، أو إبقاءٌ للحال على حاله، وهو ما تريده الحكومة، ولا واسطة بين الطرفين، ولا منزلة بين المنزلتين؛ فأي مجال يسع الخصوم؟ وعلى أي بساط تقع الخصومة؟ أما ما تصوره الحكومة- ولا نقول تتصوره- من وجود خصوم لنا في القضية، فلا وجود له إلّا حيث توجد هي، ولا مكان له في التعقل إلّا إذا زيد في مقدمات علم المنطق- مع التصوّر والتصديق- قسم ثالث، وهو (التصوير)؛ فهؤلاء الخصوم صوَّرتهم الحكومة، فأساءت تصويرهم، وقالت لهم: كونوا خصومًا للحق فكانوا، وقولوا إفكًا وزورًا فقالوا. وإن الفارق الأكبر بيننا وبين هؤلاء الخصوم المصورين المزوَّرين أن الحكومة تستطيع إسكاتهم بكلمة بل بإشارة، ولا تستطيع إسكاتنا بملء الجو كلامًا، وهل في الفوارق بين الأشياء ما هو أوضح من هذا؟ وهاتوا المنطق ثالثًا. فهذه الأمة الجزائرية المسلمة لو اجتمعت في صعيد واحد، وقيل: امتازوا اليوم أيها المجرمون؛ فبقيت خالصة من الدغل، نقية من الدخل، ثم عرض عليها الأمران على جليتهما، فماذا كانت تختار؟ وإلى جانب من تنحاز؟ ... لا نحن نشك في النتيجة ولا الحكومة تشك، لولا أنها تماري في الشمس، ولولا أنها تعتمد على حذقها في (التصوير)، واقتدارها عليه، وحوزها لأدواته وأصباغه، وبختها الخارق في العثور على "الهيولَى" القابلة. أما ما تقوله الحكومة، ويقوله هؤلاء الخصوم (المصوّرون)، من أن الخلاف بيننا وبينهم اختلاف في حال؛ يعنون في الكيفية التي يقع عليها الفصل، والأيدي التي تتناول الشيء المفصول، فهو قول يُقصد منه معنى ستر العورة بسربال، فيفهم معنى تغطية الشمس بغربال! ... كتبنا في هذه القضية ما إن مداده لَيُكَوِّنُ عدة غُدران، وما إن صحائفه لتغطي بضعة جدران، ولكن كنا مع هذه الحكومة المتصامَّة- من عتو، ومن استعلاء- كمن يحرق البخور لأصحاب القبور. ونحن نعلم أن الحكومة تترجم كل ما نكتب، وتقرأه فتفلي الحروف وتحدد مواقعها من الكلمات ومواقع الكلمات من الجمل، ومقام الجمل من المواضيع، وتفسر وتحلل على قدر ملكتها في العربية وحظها من بيانها، وتستعرض الاحتمالات القريبة والبعيدة في المعاني، وتحمّل الكلام من المقاصد وحظها ما يطيق وما لا يطيق، وتجاوز أنواع الدلالات المعروفة، من مطابقة وتضمن والتزام، إلى الإشارة والإيماء والاقتضاء- تفعل كل ذلك لا لتمحص

الحق ثم تفيء إليه عند ظهوره، بل لتؤلف قاموسًا من الجمل- التي هي لباب الحق- فتنسقها في ملفات، فتحاسبنا عليها متى عرضت دورة فوق العادة، أو فورة فوق القانون. ونحن لا يهمنا هذا، لعلمنا أنها ما كانت حكومة إلّا لهذا، وإنما يهمنا أن تتمادى على السكوت، والسكوت لا يثبت حقًّا، ولا ينفي باطلًا، وأن تعطل القوانين التي ما كانت حيث هي إلّا لتنفيذها، وأن تصر على الحنث العظيم، وهو التصرّف المطلق في دين ليس منها، وليست منه، مع وجود أهله المستوفين لشروط القيام به، والقدرة عليه، والمعرفة بآدابه، والائتمان على أعماله، ونعني بهذا (الأهل) الأمة الجزائرية المسلمة بمجموعها، لا فردًا بعينه، ولا طائفة بوصفها، ولا جماعة بنسبتها. لم نسمع من هذه الحكومة لأن بيننا وبينها حجابًا من غضبها علينا، وإعراضها عنا، واستخفافها بنا، وإنما سمعنا ممن سمع منها- أنها تحتج حين يفحمها الجدل، وتلحمها الحجة، بأنها لم تجد من تسلم له المساجد، أو تضع القضية بحذافيرها في يديه، لأن المسلمين- زعمت- مختلفون، فإذا ما اتحدوا على رأي، أو تواطأوا على جماعة، دفعت إليهم (دينهم). وقد قلنا لها في صراحة المحق الجريء: إنك أنت أصل الشقاق، ومنبع الخلاف، وكيف يمكن قطع خلاف أنت فاتحة أبوابه، وأنت مسببة أسبابه؟ فما جعل المسلمين مختلفين في قضية دينية محضة إلّا أنت، وما بذر الشقاق بينهم إلّا يداك. كان الدين الإسلامي بطبيعته لا يتأثر بالمصالح الدنيوية، فلم تزالي برجاله حتى أفسدتِ فطرتهم الدينية وصيرت الإمام في المحراب كالجندي في الميدان، والبوليس في الشارع، والقائد في الدوار، يسابق في الخدمة وينافس في الزلفى، ويزاحم على الدرجة ويتطلع إلى النيشان، تلوحين بالمطامع والوظائف لطائفة فتلتفّ حولك، وتمدين لها في جاه زائف ورتب نازلة فتزداد تعلقًا بك، وتنقضين شروط الكفاءة الدينية بالكفاءة الإدارية، فتنقضين بذلك أصلًا من أصول الإسلام، وتتساهلين حيث يجب التشدد في اعتبار الشهادة العلمية، والقيمة الأخلاقية، وتُروّضينهم على أسوإ ما يُربى عليه رجل الدين في الإسلام، وهو التوجه إلى الحكومة والوقوف بأبوابها، ثم أشعرتهم بأن أمرهم كله إليك، وأن رزقهم كله في يديك، وتفاقم الأمر حتى أصبح عادة، فوصلوا أسبابهم بك وقطعوها من الدين، وآمنوا بأن الأمر إليك فكفروا بجماعة المسلمين، فلما انتهى الأمر إلى هذا الحدّ، وآتت أعمالك ثمارها المرة، سلطت بعضًا على بعض، لتشغلي بعضًا ببعض وتستريحي. الحكومة تخلق الخلاف لتتخذ منه عذرًا لإبقاء ما كان على ما كان؛ هذه هي الحقيقة، فإذا كان في بيانها إغضاب الحكومة فإن فيه إرضاء الحق.

فصل الدين عن الحكومة (12)

فصل الدين عن الحكومة (12) أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية: فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 2 - قطعت هذه القضية في تاريخ الاستعمار مراحل عدة، لا نعدّ منها مرحلة التسليم، ولا مرحلة الاستلام، وإنما نعد منها مراحل المقاومة والمطالبة، التي جاءت بعد أن نام الاستعمار ملء جفنيه، اطمئنانًا إلى أن القضية تمت كما يريد ويتمنى، ونامت نومة الأبد، وكيف لا يطمئن من يشرع المنكر، ويسن الباطل، فلا يسمع نأمة اعتراض؟ كيف لا تطمئن حكومة مسيحية تنصب مسيحيًّا على رأس جمعية دينية إسلامية، فلا ترى من المسلمين غضبًا ولا استنكارًا؟ وهل في باب النكاية بالإسلام وأهله أبلغ من هذا؟ وهل هذا إلّا صورة مقنعة مما أصاب الإسلام في إسبانيا؟ وهل هو إلّا مقدمة لمحوه وترحيله من هذا الوطن؟ وهل هو إلّا ميراث لاتيني تتسلمه أمة منهم من أمة؟ لعمر الحق ... إنها لوخزة مؤلمة للمسلمين، ولكنها وخزة مقصودة للتجربة الأخيرة لهذا الجسم، لينظر أيتحرك ويتألم؟ أم يسكت فلا يتكلم؟ ولكن هذه التجربة أسفرت كما ترى وتسمع عن نار كانت كامنة فاشتعلت، وصرخات كانت مكبوتة فانفجرت، ومقاومة زعزعت عرشي "ميشال" و"دورنو" وزلزلت الأرض بمن ظاهروهما بالسكوت والرضى، ولكن الحكومة- وقد أفلت منها رأس الحبل- أبت إلّا أن تمسك بوسطه، فأصبحت تشكل الجمعيات الدينية الإسلامية بالوحي السري، أو بالعمل العلني، وتقيم عليها رجالًا ليسوا مسيحيين ولكنهم أطوع لها، وأسرع في تنفيذ أغراضها من المسيحيين. ولقد فاوضني- منذ سنتين- رجل مسؤول من رجال الحكومة في تجديد الجمعية الدينية الصورية القائمة بالعاصمة، على أساس أن نتقاسم، فنختار رجالًا وتختار الحكومة رجالًا تتألف الجمعية من جميعهم، فأسلست له لأرى ما عنده، وتسهّل معي ليرى ما

_ * نشرت في العدد 138 من «البصائر»، 22 جانفي عام 1951.

عندي، وكان البساط يقتضي ذلك مني ومنه، فلما وصلنا إلى الأعضاء القدماء ومسستهم بالنقد الديني لهم وللحكومة في تعيينهم تظاهر لي باستعداد الحكومة للتنازل في شأنهم، وبقدرته هو- بشخصه- على إقناع بعضهم بالتنازل، إلّا واحدًا سماه فإن الحكومة تتمسك ببقائه، ولا تتنازل في شأنه بحال، واستعرضت في ذهني خصائص هذا الرجل- وأنا أعرفه- فلم أجده في دين ولا دنيا، فسألت محدثي عن السر المودع في ذلك الرجل فلم يُجبني؛ فعلمت أن الرجل الذي لا يصلح منا لدين ولا دنيا، هو الذي يصلح للحكومة، وفهمت يومئذ ميزانًا جديدًا من موازين الحكومة للرجال، ومعنى جديدًا من معاني اصطناعها لهم. ... ومن المراحل التاريخية الأخيرة لهذه القضية حكم البرلمان الفرنسي فيها سنة 1947، واثباتها في الدستور الجزائري مادة من مواده بتلك الصورة التي نراها تطويلًا في محل التقصير ونعدها روية في مقام الارتجال، ونعتبرها نقلًا للقضية من ميدان إلى ميدان بلا موجب، وتقليبًا لها من يد إلى يد بلا فائدة، وسعيًا بها بين باريس وبين الجزائر ذاهبة وآيبة بلا حكمة؛ وليس في القضية ما يستدعي هذا التشعب كله، لو لم يكن الأمر فيها مبيتًا على (تنويمها)، لا على تقويمها، وعلى إفساد الحالة لا على إصلاحها، وعلى الإمعان في الظلم، لا على الكف عنه، وليس في القضية ما يقتضي إركابها البحر أربع مرات، مع القدرة على إرسالها بالطيارة مرة واحدة- لولا الأهواء الغالبة والنزعات الغالية، والشهوات الطامحة، والمطامع المستحكمة. إن الحق في القضية أبين من أن تكثر فيه المشاورات، أو تتعدد فيه المداورات، أو تختلف فيه الآراء؛ وما هو إلّا قطع وانفصال، وفطام وفصال، وسل للثياب من الثياب. وقد كتبنا في هذه الصحيفة على هذه المرحلة، وعلى الدستور الجزائري، وموقع هذه القضية منه، وأوسعناه شرحًا وبيانًا واحتجاجًا عليه في مواطن النقص واحتجاجًا به في الألفاظ الصريحة منه، وكشفًا عن الخبايا فيه، كما كتبنا عن المجلس الجزائري الذي ولده الدستور لينفذه فعطله وأوسعناه نصحًا خالصًا ونقدًا واضحًا، وطالبناه بالتنفيذ السريع مع تحرّي الحق والصواب؛ ووصفناه بما هو أهله لم نقصر ولم نتقلد؛ وما زلنا في موقفنا من الدستور ومن المجلس في قضيتنا الخاصة لم يختلف لنا فيهما رأي، ولم يتبدل لنا موقف، وما زلنا نطالب بالحق، ونندد بالباطل حتى يبلغ الكتاب أجله، وإن الله لمع الصادقين. ***

وكانت آخر المراحل العملية في القضية مذكرة جمعية العلماء التي قدمتها في شهر ماي 1950 وشرحت فيها نظرها في حل القضية؛ قدمتها للمجلس الجزائري والحكومة الجزائرية، ونشرتها للرأي العام، وإلى من يتولون قيادته من نواب وصحافيين. كل ما في تلك المذكرة من صميم الموضوع ليس بجديد، بل هو مما لاكته الألسن، وجرت به الأقلام وعرفه الخصمان والشهود، والحق يتغير لبوسه ولا يتغير سوسه (1)، ولا جديد فيها إلّا اقتراحنا للأسماء التي يتألف منها المجلس الإسلامي المؤقت، وليس بهذا الجديد كبير شأن، كما توهم بعض الناس، لا كما توهمت الحكومة؛ فقد وردت علينا على أثر إعلان المذكرة رسائل كثيرة ينتقد أصحابها حشر بعض الأسماء في المجلس، ويقول لنا كثيرون: إننا قرأنا الأسماء فعرفنا وأنكرنا ... إلخ؛ أما نحن فقد عرفنا الأسماء كلها، وذكرناها عن قصد مخلص، من غير أن نستشير واحدًا من أصحابها، لأننا في مقام اقتراح وشهادة، لا في مقام فرض وإلزام؛ ونشهد أنه لم يرد علينا استنكارٌ أو تبرؤ من واحد ممن ذكرت أسماؤهم؛ وما قصدنا بذكر تلك الأسماء المختلفة المشارب إلّا دحض تلك الشبهة التي تتمسك بها الحكومة، وتشيعها علينا ألسنتها العييّة المأجورة، وهي أننا نريد احتكار القضية لأنفسنا قبل الفصل، واحتكار استغلالها بعد الفصل؛ وقد قطعنا على الحكومة وأتباعها كل سبيل، وسددنا عليها مسالك العذر، وتحديناها التحدي البليغ بأننا إذا علمنا إخلاصها في الفصل، وسلوكها السبيل القويم فيه، فإننا نتنازل- مخلصين طائعين فرحين- لكل جماعة حرة من إخواننا المسلمين، ممن لا ينخدعون لمكايد الحكومة، ولا تلهيهم بالقشور عن اللباب، ولا تصيدهم بالرغبة، ولا تصدهم بالرهبة؛ ولو كنا نريد ذلك لأنفسنا لقلناه فصيحًا صريحًا، ولو قلناه لما كنا مدفوعين عنه إلّا من هذه الحكومة ومريديها المسخرين لها، الناطقين باسمها؛ ولو حملتنا الأمة إياه لاضطلعنا به، حملًا له، واقتدارًا عليه، وسدادًا في توجيهه، وكفاءة لتسييره؛ وهل نحن أعجز في العلم أو في العمل أو في الاضطلاع من هؤلاء المتهافتين؟ وهل يستوي الذين ينادون بتسليم القضية إلى جماعة من المسلمين بواسطة جماعة من المسلمين، والذين يريدون تسليمها إلى الحكومة، بواسطة رجال ... من الحكومة؟ ... وماذا كان من الحكومة بعد نشر المذكرة؟ إنها عكفت على تلك الأسماء توازن وتقارن، وتستعيد الذكريات الماضية، وتراجع الملفات المدخرة، وتتشمم النسمات، وتضع

_ 1) السوس: هو الأصل.

الموازين وتميز من لها ممن عليها، وتضع علامات التعجب والاستفهام، ثم تجمع وتطرح وتقسم، ثم توعز إلى دوائر استعلاماتها في المدن والقرى لتحقق وتستنطق وتبحث كل (مشبوه)، وكانت الإجابات- بالطبع- لا باختلاف الأنظار والعقول، ولكن باختلاف الحظوظ من الرهبة من الحكومة والخوف من غضبها، ثم عمدت في الأيام الأخيرة بواسطة بوليسها إلى نوع غريب من الاستفتاء لا نشك أن له صلة بقضية فصل الدين، هذا النوع من الاستفتاء هو استدعاء بعض رجال جمعيات المدارس، وحصبهم بعدة أسئلة يدسّون في أثنائها: هل أنتم من أتباع جمعية العلماء؟ أو من أتباع فلان ... أو أتباع فلان ... أو أتباع العاصمي؟ ... واعجبًا لما يفعل الزمان! ... آلعاصمي ... أصبح من ذوي الأتباع؟ وإنا لا ندري أي نوع من الأتباع يريدون؟ آلْأَتْبَاع في المذهب الحنفي الذي هو مفتيه؟ أم الأتباع في التدجيل الديني الذي أصبح يأتيه؟ أم في المذهب الحكومي الذي أصبح يتطاول به ويتيه؟ ...

فصل الدين عن الحكومة (13)

فصل الدين عن الحكومة (13) أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية: فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 3 - ... وواعجبًا لما تصنع هذه الحكومة ببعض الرجال منا، تعمد إلى الواحد منهم فتبقيه على سحنته، ولكنها تفرغه من شحنته ... تفرغه من معاني الإسلام، والغيرة عليه، والطيرة له، والدفاع عنه، والاعتزاز به، وتملأه بمعان أخرى منها الإفك والزور، ومنها الأنانية والغرور، ومنها الاستخفاف بالإسلام، والاحتقار للمسلمين، ومنها الانقياد للحكومة، والاعتماد عليها، والاعتزاز بها، والتعالي بقوّتها على عباد الله، والتغني بمدحها حتى في بيوت الله؛ فيصبح ذلك الواحد لا يأبه لنقض الإسلام، ولا يغضب لنسخ الأحكام، ولا يبالي بغضب المسلمين؛ كل ذلك لأن الحكومة شاءت ذلك! وإن أباه الله ورسوله والمؤمنون من عباده، وكل ذلك لأن الواحد من هؤلاء راض نفسه على التنكر للإرادة والعزيمة وما جرى مجراهما من الفضائل الشخصية، وعلى الذوبان في الغير، والاستطاعة بالغير، ثم لا يكون هذا الغير إلّا الحكومة بالطبع، لأنها هي التي زرعت الزرع، فهي التي تجني الثمرة. ... وكل ما ذكرناه من الصور هو تحقيق لا تخيّل، وهو مشخص على أكمله في هذا الشيء الذي يقال له العاصمي، فهو المثال الموضح للقاعدة العامة، وهو الجامع لما تفرق في غيره من جزئياتها، وآية ذلك أنه وصل إلى ما هو فيه بغير الوسائل التي يسلكها الناس لمثل ذلك في المتعارف عندهم، وكأنه يضع قدمه حيث ينتهي طرفه، وما هو إلّا طالب كآلاف الطلبة (1)، من مثل طبقته، فلماذا تقدم وتأخروا؟ ولماذا أصبح رأسًا بعد أن كان بالأمس ذنبًا؟ أهو الحظ؟ لا بل

_ * نشرت في العدد 139 من «البصائر»، 29 جانفي عام 1951. 1) طالب كآلاف الطلّاب: الطالب هو معلّمُ الصبيان القرآن الكريم.

هو شيء آخر غير الحظ، هو شيء تشمه الحكومة الجزائرية بحاسة زائدة فيها، فتميز به السابق من أدواتها من المقصر، ودع عنك المؤهلات العلمية، ودع عنك الموازين الصحيحة، ودع عنك القيم المعقولة، فذلك كله لا قيمة له، ولا عبرة به في هذا الباب، ودع عنك حُرمة الدين، فلو كان للإسلام حرمة في نفس هذه الحكومة لما خاض هذا القلم في هذه المستنقعات، ولو كان له في نفسها اعتبار، لاشترطت في طلاب وظائفه أقل ما تشترطه في طلاب وظائفها. إننا لنعلم السر في هذه النغمة الجديدة، وهي إدماج العاصمي في ذوي الأتباع، فهي تريد إيهام البسطاء بأن له أتباعًا، حتى تقيم منه ومنهم معارضة في سبيل الحق، ومن زين له المنطق أن يجعل الشاذ قاعدة، فكيف لا يهون عليه أن يجعل من الفرد أمة، ومن الخيال حقيقة، ومن المحال ممكنًا؛ ونقول للذين يتوهمون وبوهمون أن للرجل أتباعًا: إن أتباع هذا الرجل من جنس مذهبه، وإن المقدمة الأولى لنتيجتكم هذه قد ممبقتها بأعوام، يوم أمسى ناسخًا في محكمة موجودة. فأصبح رئيسًا لمذهب معدوم، فتباعد طرفي القضية يقدح في هذا الإنتاج؛ فإذا سوغ لكم منطقكم أن تقولوا: هذا مفتي مذهب، وكل مفتي مذهب له أتباع، فلا تأمنوا أن يقول قائل: إنه مفتي مذهب غير موجود، فله أتباع ... غير موجودين ... فإن قلتم: إنكم لا تريدون المذهب الفقهي، وإنما تريدون المذهب (الصناعي)، قلنا: إن هذا المذهب لا يتبع العاصمي فيه إلّا الأخسرون أعمالًا، الأضلون سعيًا. ... ما أشأم العاصمي على نفسه! فقد سكتنا عنه فأبى، بعد أن جارانا فكبا، وما تحدئنا عنه في الماضي إلّا باعتباره أداة لا شخصًا، وما سكتنا عنه بعد ذلك إلّا لأننا أوسعنا تلك الأدوات تحطيمًا وتهشيمًا، ورُغنا عليها ضربًا باليمين، ولكن هذا الرجل (المصنوع) يأبى علينا إلّا أن نعتبره ثميئًا قائمًا بذاته، ولذلك فهو لم يسكت حين سكتنا، وتمادى على السب والشتم ليشغل العاملين بهذا الفراغ، وليؤدي عملًا كعمل الإفتاء، في وظيفة كوظيفة الإفتاء، وليكون في هذا الزمان (ذا الوظيفتين)، كما كان يقال في أيام عز الإسلام: ذو الرياستين وذو الوزارتين. هاج هذا المخلوق الشر بتماديه في الشر، وجنى على نفسه وعلى شركائه الراضين بصنعه، وقديمًا فهمنا أن له أربًا في اللجاج والمراء، لأن هذه الطريقة هي التي تظهره وتقربه زلفى إلى آلهته، ولكن هل لشركائه مثل أربه حتى يعرضهم لما كانوا منه في أوسع عاقبة؛ إنه لهم مولى شؤم، وعشير سوء، لبئس المولى، ولبئس العشير! وها نحن أولاء نعود للحديث عنه مكرهين، ولا نخوض من جديد في شبهاته التى يظنها حججًا، وضحضاحه الذي يراه لججًا، إذ بعض المحظور في ذلك أننا نحقق له بعض مناه،

وهو أن نتعمق معه في جدل يشغلنا عن المفيد بغير المفيد، ويستفرغ جهدنا في المفروع منه، وإننا نقولها مرة أخرى في صراحة وصدق: إننا لا نعني بما نقول ذلك الرجل المدعو محمد العاصمي الذي شب في (قصير الحيران)، واكتهل معلمًا للصبيان، وشاب خادمًا لقاض في ديوان، وماشانا في بعض أطواره، وصاحبنا- على حرف- في بعض أطوراه وكان حذرًا منا في جميع أطواره، لغرابة أدواره، وبعد أغواره، وغموض أسراره، فكل ما في ذلك الرجل لا يعنينا، لأنه رجل مات، وحال فات، وإنما يعنينا هذا الشيء المسمى محمد العاصمي المفتي الحنفي، الذي وسع الشق، بتنكره للحق، والذي نصب نفسه عونًا للمعتدين على الدين، والذي استطال بقوّة الأجانب على ضعف الأقارب، والذي سود وجه الإسلام بمؤازرة الظلام، والذي جعل الإفتاء ذريعة للافتيات، وإساءة الأحياء حجة على إحسان الأموات، والذي أقام نفسه عرضة في طريق مطالبة الأمة بحق من حقوقها، والذي تولى من لم يجعل له الله على الإسلام سلطانًا، والذي قاس حكومة مسيحية على حكومة مسلمة، في تصرّف ديني محض، فأغضب الله، وأفسد العلم، وافترى على التاريخ، والذي يتوقح في الإصرار على إفساد عبادات المسلمين بتولي الإمامة ممن لا يدين بدينهم، والذي يرضى لطائفة جعلهم الله شفعاء لخلقه- أن يكون هو شفيعهم في نيل هذه الوظيفة الشريفة إلى (معمر) مسيحي، والذي يطرب لحكاية المذيع لتنقلاته في المسجد في وقت يحرم فيه الكلام، ثم يجمع بين ذلك وبين رواية أثر: ومن مس الحصا فقد لغا، إلخ، والذي يسعى جاهدًا بأقواله وأعماله في إبقاء الشعائر الدينية الإسلامية لعبة في يد من لا يعظم شعائر الله؛ والذي غير دين الله فجعل الكذب والسباب والوقيعة والقذف ومدح أهل الحكم والجاه- كلها "من صوت المسجد" ومما يجوز أن يخطب به على منابر الجمع. فهذا هو العاصمي الذي لا نزال نذكره بمثل ما يُجزى به إبليس عن فعلته، ونثني عليه بمثل ما أثنى به الأعرابي على بعلته ... ... وبعد فإن الحق في القضية أن كلام العاصمي وأمثاله- ممن يطالبون بإبقائها على ما هي عليه- هو من الباطل الذي لا يجوز لمسلم السكوت عنه، لأن فيه تماديًا على بطلان عبادات المسلمين وعلى تعطيل المعنى الذي شرعت له الشعائر؛ وإن الحق الذي حومنا عليه مرارًا ولم نقع- حتى خشينا أن يصيبنا الله بقارعة من عنده، جزاء على كتمانه- هو أن تولي الإمامة من حاكم مسيحي باطل، وإن طلب الإمامة من ذلك الحاكم قريبة فوق الباطل، وعليه فالصلاة وراء إمام معين من ذلك الحاكم باطلة، ومن ادعى خلاف هذا فهو يكذب بالقرآن، كما هو كاذب على أبي حنيفة النعمان.

فصل الدين عن الحكومة (14)

فصل الدين عن الحكومة (14) أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية: فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 4 - ... وكأني ببعض خواص العامة، وبعض عوام الطلبة، يستغربون هذا الحكم الحاسم ببطلان العبادات التي يأتمون فيها بهذا الصنف من الأئمة، أو يعدونه جرأة جرها التلاحي معهم أو مع كبيرهم، الذي زين لهم مقاومة الحق والاستمرار على الباطل. وكأني بهم يستعظمون الحكم ببطلان عبادات المسلمين التي درجوا عليها أحقابًا وينكرون علينا أن نبطل ما أقره (الأوائل) وسكتوا عليه، وفيهم العلماء، وفيهم الفقهاء، أفكانوا كلهم على ضلال في هذه القضية؟ ونحن نتحقق هذا الاستغراب وهذا الاستعظام منهم لأنه من النزعات العامية المستولية على عقولنا، ومن تناولنا للأشياء الكبيرة بالأنظار القصيرة، وهذا أصل بلائنا في الدين، وشقائنا في الدنيا؛ ومرجع ذلك كله في هؤلاء تعوُّد المنكر حتى يصير معروفًا، والإلف له حتى تسكن إليه النفوس، وهذه هي علتنا فيما فشا بيننا من بدع ومنكرات وضلالات: يسكت عليها الأول فتصير عادة، وتستحكم فتصير سنة، وتتكاثر أنواعها فتغطي على الدين الصحيح، وعلى السنن المأثورة فيه، وعلى المناهج القويمة في شؤون الدنيا. ويا طالما سمعنا هذه النغمات في مواقفنا الإصلاحية، فكلما شددنا الحملة على منكر لنزيله أو نزلزله، تعالت الصيحات بالاستعظام والاحتجاج بسكوت (الأوائل)؛ فنمضي على الحق، لا نلوي على أول ولا أخير، ثم لا تكون العاقبة إلا للحق وأهله. فيا قوم ... اعلموا- علمكم الله- أن سكوت الأوائل على المنكر لا يكون حجة على الله، وأن إقرار الأواخر له لا يكون حجة على دينه، بل لله الحجة البالغة على عباده، ولرسوله البينة القائمة على أمته؛ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وهل مما آتانا الرسول أن نعطي الدنية في ديننا، ونرضى باختيار المسيحيين لأئمتنا، ونصلي خلف من يطلب الإمامة

_ * نشرت في العدد 140 - 141 من «البصائر»، 5 فيفري عام 1951.

منهم، ومن يدفع ثمنها طاعة لهم، ورجوعًا في الدين إليهم، وكيدًا لقومه وإعانة عليهم، وتمكينًا لنفوذهم وسلطانهم على الإسلام؛ أهذا هو الواقع أم أنتم لا تبصرون؟ إن سكوت علماء الأرض كلهم على الباطل في الدين لا يصيره حقًّا، وإن تواطؤهم جميعًا على منكر فيه لا يصيره معروفًا، وإننا لسنا من الكرامة على الله أن ينسخ أحكام دينه لأجلنا، أو ينسخ صواب دينه لأجل خطئنا فيه، وما ثَمَّ إلّا ما ختمت به الرسالة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم بدين، كما قال مالك- رضي الله عنه- وقد بطلت عقائدنا يوم زغنا فيها عما جاء به القرآن، فكيف لا تبطل عباداتنا المسجدية يوم رضينا بتولية أئمتها من حكومة مسيحية، ويوم رضينا بتصرّف تلك الحكومة فيها، ويوم نظرنا إلى الظواهر، وعمينا عن الحقائق، ويوم غلبنا على الماديات فتبرعنا بالروحيات: غلبنا على الأوقاف، ولكننا تبرعنا بما عداها، بسكوتنا وتخاذلنا ومطامعنا؛ ولو أن أوائلكم (وفيهم العلماء وفيهم الفقهاء) تفطنوا للمكيدة لعلموا، يوم أخذت أوقافهم كرهًا، أنها ما أخذت إلّا لتجر معها المساجد، وأن المساجد لا تؤخذ إلّا لتجر معها الأئمة، وأن الأئمة لا يجلبون إلّا ليجروا معهم الأمة، ولو تفطنوا لذلك لأنفقوا على المساجد من أموالهم الخاصة، وتركوها حرّة منعزلة عن التدخل الحكومي حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ولكنهم جعلوا الدين تبعًا للدنيا، فضاع الدين والدنيا؛ وها أنتم أولاء ترون أن (الأوائل) هم الذين أبطلوا عبادتكم بسكوتهم عن كلمة الحق في وقتها، ولو لم يسكتوا لكفونا وإياكم مؤونة السؤال والجواب ... يا قوم ... لئن كان الحكم ببطلان عبادات المسلمين كبيرة عندكم فأكبر منها عند الله وعند عباده المستبصرين في دينهم أن يتولى الإمام الإمامة من حكومة مسيحية، ولو كان ذلك إكراهًا لكان له وجه من التأويل، لكنها قضية لا يتصور فيها الإكراه بحال، وإن أكبر منها عند الله أن يتعمد المسلم طلب الإمامة من حكومة مسيحية، وحسبكم بالطلب وحده قادحًا في الدين، فكيف بالرضى بعد ذلك والاطمئنان، فكيف بالاستهانة بغضب الله في جنب غضب الحاكم المسيحي؟ فكيف لي ما وراء ذلك مما نسمعه ونشهده؟ ... إن إمامة الصلاة استخلاف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن مكانتها من الدين هي مكانة الصلاة نفسها، فإذا هانت في نظركم إلى هذه الدرجة فقد أهنتم الدين، ومن أهان الدين فهو غير حقيق بالانتساب إليه؛ وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - كلما غاب عن المدينة استخلف من ينوب عنه في الصلاة، كما يستخلف- أو قبل أن يستخلف- من ينوب عنه في الحكم بين الناس، وكان إذا جهز سرية أو بعث بعثًا فأهمّ ما يوصي به قوله: وليصل بكم فلان؛ ولم

يشغله مرض الموت عن الاهتمام بإمام الصلاة، فاختار لها أبا بكر، وقال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس؛ ولم يَكِل هذه المسألة العظيمة للصحابة، وفيهم جبال العلم وأفذاذ التقوى والدين، ولم يثنه عن اختيار أبي بكر رأي عائشة وحفصة في اختيار عمر؛ وإن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا يعتبرون إمامة الصلاة درجة فوق الخلافة العظمى، بدليل استدلالهم على استحقاق أبي بكر للخلافة بتقديم رسول الله إياه لإمامة الصلاة، وقال قائلهم: أفلا نرتضي لدنيانا من ارتضاه رسول الله لديننا؟ والحقيقة الجامعة في الإسلام أنه لا يولي الإمام إلّا من كان صالحًا- هو نفسه- للإمامة، مثل الخليفة أو نائبه، وقد كان الخلفاء يتولونها بأنفسهم، ولا يُنيبون عنهم فيها إلّا حيث تبعد الجماعات، فينزلون عن هذا الحق لجماعات المسلمين. ومن أصول الإسلام ومناهج تربيته الحكيمة أن الإمامة لا تطلب، وأن أمير المسلمين، أو جماعة المسلمين هم الذين يختارون لها من يرتضون دينه وأمانته، وقد يُلزمونه بها إلزامًا، كما يلزمون بالقضاء، لأن أهل الخير والصلاح الذين مُلئت قلوبهم من خشية الله كانوا يتهيبونها ويرونها من العهود الثقيلة، وأين هؤلاء من أولئك؟ إن كثيرًا من هؤلاء لا يطلب الإمامة لذاتها، ولا لإقامة الشعيرة، ولا حرصًا على تعمير بيوت الله، وإنما يطلبها ويرتكب الموبقات في طلبها، لأجل المرتب الشهري، ولولا المرتب لما رأيتم أحدًا منهم يدخل المساجد، وافهموا وحدكم السر في تباعدهم عنا، وهروبهم منا، وممالأتهم للحكومة علينا، فكل ذلك من أجل المرتب ... كل هذا ونحن لا نريد لهم قطع المرتب، وإنما نريد لهم تثبيته واستحقاقه بشرف على يد إخوانهم المسلمين، لا على يد حكومة مسيحية؛ ولو كان للإسلام سلطان على النفوس، لما أقدم واحد منهم على هذه العظيمة، ولما تابعه عليها أحد إن هو فعلها. قال الأول: أذل الحرص أعناق الرجال. ونحن نقول: أذل "الخبز" أعناق أشباه الرجال، فلو أن هذه الحكومة- على عُتوّها وإضمارها الشر للإسلام- رأت منا زهدًا في هذه الوظائف، وعزوفًا عنها، ورأت مع ذلك إجماعًا منا على كلمة الحق فيها، وتسليمًا من الخاملين للعاملين منا- لو أنها رأت ذلك منا لكان موقفها من القضية غير موقفها، ولكنها نثرت الحبّ، فتساقطت العصافير، وطرحت الأب، فتهافتت اليعافير، وسقط عليها العاصمي فوجدت (الضالة) في الضال، وفهمت (دلالة الالتزام) من الدال، وتعاقدت الرفقة على الصفقة. ... لو كان من أقسام الإضافة في النحو ما هو بمعنى (على) لخلعنا على العاصمي لقب "حجة الإسلام".

فصل الدين عن الحكومة (15)

فصل الدين عن الحكومة (15) أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية: فصل الحكومة عن الدين * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 5 - ... ولو أن أفراد هذه الطائفة رُزقوا بصائر ينظرون بها الأشياء على حقيقتها، وعقولًا يُدركون بها الأمور باعتبار غاياتها وعواقبها- لعلموا كما علمنا أن هذه الحكومة سائرة على مذهب استعماري دوّنه (أئمتها) الأولون، وهذبه (شراحها) المتأخرون، وإنها بالغة من ذلك المذهب إلى غايته، أو ملاقية حتفها دونه كما يقول العرب؛ وأنها من قساوة القلب وجمود العاطفة بالدرجة التي لا تؤثر فيها الأحاديث البليغة، ولا الأحداث البالغة- ذلك المذهب هو ترحيل الإسلام من المحراب، ليتسنى لها ترحيله من الجامع، ثم الوطن. هذا نص المتن، وجاء (شرّاح) هذا المذهب (المحققون) فأرشدوا إلى وسائل تلك الغاية، وبينوا السبل المؤدية إليها، فأفاضوا وأطنبوا، إلى أن جاء بعض حذاقهم البارعين في بناء فقه السياسة على علم النفس- على غير طريقة فقهائنا الجامدين- فأرجع الوسائل الكثيرة المتشعبة إلى وسيلة واحدة، وهي ترحيله- أولًا وقبل كل شيء- من نفوس هذه الطائفة القائمة بالدين في نظر الناس، لأنها هي المباشرة للمساجد، والقائمة بالشعائر فيها، والمسجد هو مرجع المسلم ومتقلبه، فهو الذي يُغذي الإسلام في نفسه، بما يتردد عليه خمس مرات في اليوم والليلة، وبما يسمعه فيه من قرآن وخطب ودروس، وهو الذي يكوّنه ويوجهه، بما يصبغه به من ألوان ثابتة، وبما ينفض عليه من روحانية قوية، وبما يغشى في جوانبه من فضائل أصيلة، وبما يُشيع في دخائله من أنوار وهاجة، وبما يغرسه فيه من آمال شريفة، وبما يطبعه عليه من أخلاق قويمة، وبما يخطه له من سبل للسعادة، وبما يركبه فيه من استعداد للعزة والسيادة، وعليه فالواجب الاعتناء بهذه الطائفة، وإعدادها (للتفريغ) من هذه المعاني كلها، وجرها بعاملين من الرغبة والرهبة حتى تستشعر أن مرجعها الوحيد في مصالحها الشخصية هو الحكومة، وتتدرج من ذلك إلى الشعور بأن مرجع الدين وشعائره هو

_ * نشرت في العدد 142 من «البصائر»، 12 فيفري عام 1951.

الحكومة أيضًا، فإذا أوغلت في ذلك ودخل الزمان بطوله في القضية- تراخت علائق هذه الطائفة بقدر ما اشتدت بالحكومة، وانحلت روابطها بالإسلام بقدر ما استوثقت مع الحكومة؛ والحاجة زمام، فليكن وكد الحكومة إلصاق الحاجة بهؤلاء الرهط حتى يسهل انقيادهم، وقد قال حكيمهم محمد عبده: أكبر أعوانك الحاجة إليك؛ ويومئذ يُصبحون في الفراغ من المعاني الإسلامية كمدافع المتحف، كل ما فيها من مظاهر الروعة: الإسم والصورة ... هذا كلام الشارح الحاذق، نقلناه إلى هؤلاء باصطلاحات الفقهاء، لنقربه إلى أذهانهم - إن أبقت لهم هذه التربية أذهانًا يدركون بها هذه الحقائق- وليعلموا أنهم على هذا الغرار طُبعوا من حيث لا يشعرون، وأنهم إلى هذه الغاية يُساقون وهم ينظرون، وأن الحكومة وجدت فيهم الآلة القابلة، فعرضتهم سوأة مكشوفة للسابلة. ولو أنهم- عافاهم الله- فهموا أن ما يتقاضونه من الحكومة هو غلة وقف أجدادهم، لما جعلوه علة لعقوق أجدادهم ... ولما باؤوا إليها بالمنة به، ولعلموا أي جليل أعطوا عن العوض، وأي خسيس أخذوا من العرض، فإن هذه الحكومة إنما تشتري بذلك منهم هممهم وذممهم، والخضوع لها، والخوف منها، والتصريف في مطالبها. أما والله لو علموا ذلك كما نعلمه، وفهموا سره كما نفهمه، ثم كانوا- مع ذلك- من الغضب لكرامتهم وكرامة دينهم بالمنزلة التي يرضاها منهم الدين- إذن لاستعفوا من هذه الوظائف بالجملة لا بالتفصيل ... ولو أنهم فعلوا ذلك لانحلت المشكلة في لحظة، ولجردوا هذه الحكومة من سلاح طالما جردته في وجوه العاملين لخير هذا الدين؛ ولتحرر الإسلام من هذا الاستعباد الذي هم أحد أسبابه، بل هم أكبر أسبابه ... ولكنهم لا يفعلون، لموت الكرامة الدينية في نفوسهم، ولاستمرائهم هذا المطعم الخبيث المصدر، الذي لا يأكله إلّا الخاطئون، وما هو- والله- بالحلال ولا بالطيب؛ وقبح الله خبزة أبيع بها ديني، وأعقّ بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على قومي وتاريخي؛ ولكن ... أين من يعقل أو من يعي؟ ... رأينا بأعيننا كيف يتهافت رجال الدين على إدارة الحاكم في مدينة تلمسان، وكيف يتعبدون بزيارته بكرة وأصيلًا، وكيف يتسابقون إلى التحكك بأعتابه، والتردد على أبوابه، فلا هم يرجعون إلى همة تزع، ودين يردع، فيَرْعوُون، ولا الحاكم يرجع إلى حكمة فيجعل لعلاقته بهؤلاء وعلاقتهم به حدًّا يُبقي على شرف منصبهم الديني، ونحن نعرف أي الوظائف أدعى لملازمة أصحابها للحاكم الرئيس أو لكثرة ترددهم عليه؛ ولكننا لا ندري علاقة رجال الدين الإسلامي بالحاكم المسيحي، حتى يتردّدوا عليه كل هذا التردد، أليأخذوا عليه أحكام الصلاة؟ كلا، ولكن ذلك مصداق قول الشارح المتقدم.

ورأينا بأعيننا كيف يتهافتون على مكتب مدير الاستعلامات (رئيس المكتب الثاني) بقسنطينة، وكيف يرجعون إليه حتى في فتح المسجد وإغلاقه، وكيف يرجون رحمته ويخافون عذابه، وكيف يتقربون إليه بما هو من جنس صنعته، وكيف يصرّفهم بالكلمة والإشارة كما يُصرف قائد الفرقة الموسيقية فرقته، ثم نتساءل: ما هي علاقة رجال الدين بإدارة الاستعلامات؟ فإن كان فيها سر ديني إلهي، فلماذا لا يتردد عليها رجال الدينين المسيحيّ واليهودي؟ والجواب عند ذلك الشارح الحاذق المحقق ... كذلك ما زلنا نجهل معنى (السانديكة) (1) التي سموها جمعية رجال الدين، ونتساءل: لماذا لا تكفي رجالها مؤونة التردد على هذه الإدارات، أو تكفهم عنها؟ إلّا أن يكون معنى وجودها محصورًا في مقاومة العاملين لتحرير الدين ورجاله، والواقفين بالمرصاد للحكومة فيها، والمعترضين كالشجى في حلقها، بآية أن هذه (السانديكة) لم تعمل من أعمال (السانديكات) إلّا تقريرها الأول، ومذكرتها الأخيرة وكلاهما محقِّق لذلك المعنى الذي فهمناه من تكوينها، وإن العمال، وبعض طبقات الموظفين الدنيويين لأشرف قصدًا، وأعلى همة، وأنبل غاية من رجال الدين، لأنهم لا يرضون المهانة لبني حرفتهم، فإذا ظلم واحد منهم، انتصروا له بالإضراب والاحتجاج، حتى ينتصفوا له من ظالمه، وسلوا رجال الدين: لو أن واحدًا منهم لحقته مظلمة أو إهانة، أكانوا ينتصرون له ويحتجون، ولو ... بالاستعفاء الإجماعي؟ ... إنهم لا يفعلون ذلك ولو سقطت السماء على الأرض، وحالف بطن الراحة الشعر، لأن زأرة واحدة من مدير الاستعلامات تكفي لانخذال الأعضاء، وانخلاع القلوب، وجفاف الريق في اللهوات، فما أشأم هؤلاء على الإسلام، وما أتعس جد الإسلام بهؤلاء! ... وانا لنعلم أن أنصار «البصائر» يربأون بها أن تنزل من عليائها للعاصمي وشيعته، وإن من شيعته لأبا فلان، وأبا فلان، ويعدون هذا كله غميزة في مقامها الأدبي، وزراية بمكانتها المعنوية، ولكنهم لا يعلمون ما نعلم من أثر هؤلاء مجتمعين ومفترقين في قضية الأمة، ولا يفهمون ما نفهم من أنهم أصبحوا متاريس وقاية لهذه الحكومة، وأنها نصبتهم ليكونوا لها حجة حين أعوزتها الحجج ... ولماذا ذكر الله إبليس، وكرر اسمه في القرآن؟ ... ... من ينصب نفسه دريئة، فلا يرجُ أن تكون عيشته مريئة، ولا يَدَّعِ أن ذمته بريئة! ...

_ 1) السانديكة: كلمة فرنسية معناها النَّقابَة.

فصل الدين عن الحكومة (16)

فصل الدين عن الحكومة (16) ... نظرتنا إليها * ــــــــــــــــــــــــــــــ نعود إلى قضية الفصل، كما يعود التلميذ إلى الفصل ... معتقدًا أنه خلق له، وأن سعادته مرتبطة به، فهو- لتلك العقيدة- لا يسأم من الرّواح والغدوة، وهو- من تلك العقيدة- يستمد القوّة والنشاط، وكذلك نحن، نطوِّف ما نطوّف، ثم نرجعُ إلى هذه القضية، ولا يقعدنا عنها سكوت الساكتين ولا تخذيل المخذّلين، ولا جهل الجاهلين بقيمتها وبالآثار السيئة التي غرستها في الأمة، منذ كانت، وبالآثار الحسنة التي تكون لها يوم تستقر في نصاب الحق، ونحن قوم خلقنا لهذا، وأخذ علينا عهد الله أن نقف فيه المواقف الصادقة، وأن لا نزال به حتى نثبت حقه الأصيل، وننفي باطله الدخيل، وأن لا تغلب ضعفنا فيه قوّة الشيطان، لأننا أقوياء بالحق، أشدّاء بالإيمان، أعزّة بالله، وإننا إذا لم نوفِّ بعهد الله بؤنا بتبعة التقصير، ومهدنا للباطل سبيل التمكن والاستمرار، وما زلنا- منذ هدانا الله لهذا- نتلمح من عناية الله بهذا الدين، وتكفّله بحفظه، نجمًا يسايرنا في ظلمات الظلم، ونتنور منها نورًا يهدينا السبيل، ويكشف لنا عن نيات السوء المبيتة، ويعرفنا بشياطين الشر الراصدة، ويُنير لنا جوانب العمل، حتى كأننا منه دائمًا في نهار ضاح، وما زال لله جندٌ ميسر لنصر دينه، تجهزه العناية الإلهية لحين الحاجة إليه، فكلما بسط العادون أيديهم إليه بالسوء وظنوا أنها الفاقرة- قام بنصره منهم معشر خشن ... ومن آية الله في هذا الجند أنه لا يتراءى إلّا حين تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ولا تظن نفس بنفس خيرًا، ومن آيته أنه هو الذي يستولي على الأمد، ولظفر بالعاقبة. ... عاهدنا الله أن نطهر دينه، من الداخل ومن الخارج، وأن ننصره على أنفسنا حتى يكون له عليها سلطان، قبل أن ننصره على الأجنبي حتى لا يكون له عليه سلطان ... لذاك حملنا

_ * نشرت في العدد 154 من جريدة «البصائر»، 7 ماي سنة 1951.

حملتنا المشهورة على البدع والضلالات حتى قوّضنا أركانها، وأتينا بنيانها من القواعد؛ فتلك بيوتها خاويةً بما أقر أهلها من منكر، وما هجروا من معروف، وقد أصبح من أكبر أعواننا عليها ربائب حجورها، ولسائب (1) جحورها، وأفراخ وُكُورِهَا، ممن هداهم الله وأنار بصائرهم بالحق، وإن سائرهم لسائر في طريق الهداية، ومن لم يهده القرآن، وكلناه إلى الزمان، ونعم المربي هو ... فلما بلغنا الغاية من ذلك التطهير- أو كدنا- انكفأنا إلى هذه الضلالة الناعمة بالأمن، النائمة في ظلّ القوّة، وهي بقاء مساجد الإسلام ورجاله وأوقافه وشعائره في يد غير يد أبنائه، تصرفه على ما تريد، لا على ما يريد الإسلام، وإنها لكبيرة عند الله وعند صالحي عباده أن يعطي المسلم الدنية في دينه، وها نحن أولاء نعمل- في غير كلل- على تطهير الإسلام من هذه الضلالة كما طهرناه من الأولى، وإنا لمتبعو أخراهما بأولاهما؛ وإن لاذت بالفرقد، أو عاذت ببقيع الغرقد، وإننا لا نبالي في عملنا بطول الزمن، وتوالي المحن؛ فما الزمن إلّا من أعواننا، وما المحن- وإن توالت- إلّا مسانّ لعزائمنا، وما أعمارنا في عمر الإسلام إلّا دقيقة من دهر، فلننفقها في ما يعليه ... وهذا المنهج الذي سلكناه وقدرناه من أول خطوة، هو الذي يجلي عذرنا في السكوت عن بعض الباطل إلى حين، مثل سكوتنا عن الصلاة خلف أئمة الحكومة، وتلامذة الفقه المعكوس، فلا يقولن قائل: ما عدا مما بدا، وإنّ لنا في رسول الله لأسوةً حسنة، فقد كان يسكت عن أهون الشرين إلى حين، لخفة ضرره، أو عن أعظم الشرين إلى حين، ليرصد له القوى ويستجمع الوسائل، وكلاهما شر، وكلاهما باطل من يوم جاء الحق، ويا ليت قومنا يعلمون السر في مناجزته للشرك، وإرجائه للخمر، أو في تقديمه للتبني، وتأخيره للاسترقاق. ... وهذه القضية هي الجزء الأهم من أعمال جمعية العلماء لأهميتها في ذاتها، ولأثرها البليغ في نفسية الأمة، شرًّا في طورها القديم الذي نريد تخليصها منه، وخيرًا وبركة في طورها الجديد الذي نريده لها ونريدها له، ولمنزلتها الرفيعة في القضية الوطنية العامة، وتشاركها في هذه المزايا كلها- قضية التعليم العربي؛ والقضيتان متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ونظرتنا إليهما نظرة واحدة ... نرى فيهما شيئًا لا تتم حياة هذه الأمة إلّا به، فالإسلام والعروبة دعامتان تمسكان هذا الوطن أن يزول، وفي فصل الإسلام عن

_ 1) اللسب هو اللدغ، لسبته الحية: لدغته.

الحكومة تثبيتٌ للدعامة الأولى، وفي التعليم العربي تمكين للجنسية العربية؛ ولا يقدر قدر هاتين الدعامتين، ولا يعمل جاهدًا في تثبيته، إلّا من يعلم- كما نعلم- أن الاستعمار جاء إلى هذا الوطن بثلاثة أشياء، ليمحو بها ثلاثة أشياء: جاء باللاتينية ليغمُر بها العروبة، وجاء باللغة الفرنسية ليقضي بها على اللغة العربية، وجاء بالمسيحية لينسخ بها الإسلام، يبدأ بالمجاورة، ثم المضارّة، ثم ترحيل الأقوى للأضعف، وكل أعماله وشرائعه- بعد ذلك- حياطة لهذه المبادئ وتقوية لها، وما عمله في إحياء النزعات البربرية إلّا مثال من المبدإ الأول، وما ضغطه على التعليم العربي إلّا مثال من القاعدة الثانية، وما تشجيعه للضلالات والبدع، وتلكؤه في فصل الإسلام عن الحكومة، ومشروع الإسلام الجزائري إلّا أمثلةٌ من المبدإ الثالث، وما مشروع الاندماج الذي باء بالخيبة والبوار، ولقب "مسلم فرنساوي" الذي يعرفنا به- وغيرهما من مبتكراته- إلّا عناوين على كتاب طويل عريض، مقدمته "مسلم فرنساوي" وخاتمته " فرنسوي مسيحي". لعمري ... إن أنكر وأشنع ما في اللغات، من تزاوج الصفات، هذا التزاوج بين صفتين "مسلم فرنسوي"! إنها مزاوجة لا يرتضيها عقل ولا دين ولا ذوق، فإن الإسلام دين، والتفرنس جنس ليس من الأجناس التي اعتنقت الإسلام دينًا، فالتزاوج بين الصفتين محكوم فيه بالتفريق والتحريم المؤبد "بعد العقد وقبله" كما يقول الفقهاء، ولهذا التزاوج صيغٌ، كلها نكر وشناعة وبُعد عن الواقع، فمنها "مسلم مسيحي" و "عربي فرنساوي" وما قول فقهاء الاستعمار (دام فضلهم) لو قبلنا هذا التزاوج، وقلنا لواحد من فرنسيي الجزائر: "فرنسوي مسلم"؟ إن هذا التزاوج على هذا الوضع صيغة مختارة لترويض النفوس النافرة على غاية مقصودة، وتهيئة تدريجية لقبولها، ولا ليت قومي يعلمون ... أما الكلمة العبقرية التي اختارها الله لنا، فهي "مسلم عربي جزائري" ... ... نظرتنا إلى قضية الموضوع أنها أساس متين من أسس الوطنية، ووزننا لأعمالنا فيها أنها أعمال وطنية أولية، فإن الوطن مسلم عريق في الإسلام، عربي أصيل في العروبة، وعلى كل وطني مخلص في خدمة وطنه أن يبدأ من هنا، وإلّا فهو مغموز في وطنيته: إما مدسوس فيها، أو متاجر بها، أو مخدوع عنها، أما الوطني الصميم فهو المدافع عن دين وطنه ولغة قومه، حتى يثبت أن هناك وطنًا يشرّف الانتساب إليه، وقومية يحسن الاعتزاز بها، وما بذَل الاستعمار هذا الجهد كله في حرب الإسلام والعربية بهذا الوطن، إلّا ليجرده من اسم

"الوطن " ويجرد أهله من صفة "الوطنيين"، لأن الوطن إذا جرد من هذين، لم يعدُ أن يكون "قطعة أرض موات" يحوزها من طلب أو من غلب. وما زالت فرنسا- على جمهوريتها ولائكيتها- تعد المبشرين بالمسيحية من أكبر الوطنيين، وتعد الناشرين للغتها في الأوطان الأخرى في طليعة الخادمين لوطنهم، لعلمها أن الوطن كل، أثمنُ أجزائه اللغة والدين، فكيف بمن يخدم دينه في وطنه، ويزرع لغته في أرضها؟ ويا ليت قومي يعلمون! ... إننا لنعلم أن للحكومة في هذه القضية أبوابًا ومخارج، وتقارير وبرامج، وأنها تدير الرأي في أيها أصلح، وأيها أضمن لبقاء سلطتها على الدين الإسلامي، وإنّ لها في ذلك أعوانًا، ضربت عليهم الأزلام، فكانت لنا منهم الأسماء، ولها منهم كل شيء، وإن قطع الوتين أهونُ عليها من انقطاع سلطتها على هذا الدين، ولو تقاضتها الظروف أن تلبس العمامة- لتنتحل شبه الإمامة، وتحفظ لنفسها شيئًا من هذه السلطة- لما تردّدت في لوثها، وتكويرها، وزيادة عذَبة أطولَ من عذَبة "الهندي". أما نحن فلا نرضى في القضية إلّا بالحق كاملًا، وهو أن يرجع ميراث محمد إلى أمة محمد، فإن كانت رشيدة فهي أحق به، وإن كانت سفيهة لم تخسر رأس المال، وهو تصحيح العبادات والشعائر؛ ومهما تبلغ من السفه فلن تبلغ فيه إلى درجة الاستعمار الذي ابتلع الآف الملايين من قيمة أوقافها، وجاد عليها ببضع "كيلوات" من الزلابية، وبدار سماها بأدل الأسماء على المهانة والسخرية وهي "دار الصدقة (2) ". لتتلوّن الحكومة ما شاء لها التلون، ولتطاول ما وسعتها المطاولة، ولتتصامم عن سماع صوت الحق ما شاءت أن تتصامَّ، فما بد لها من أن تعترف بالحق، وتفيءَ إلى الحقيقة، وما بد لصوت الحق أن يخرق الآذان الصمّ، وإذا كانت- كما عهدناها- تعد صوت الحق طنين ذباب، فلتعلم أن منه ما يكدر الراحة، ويذود النوم عن الجفون.

_ 2) دار من بقايا الأوقاف الإسلامية بمدينة الجزائر أبقاها الاستعمار يجتمع بها طائفة قليلة من الفقراء في بعض الأوقات وتوزع عليهم بعض فرنكات، بعد أن كانت في هذه المدينة عقارات موقوفة على سبل الخير كلها، شملت أصحاب العاهات كلهم وشملت تزويج الفقيرات وتجهيزهن كسوة وحلية وفرشًا.

فصل الدين عن الحكومة (17)

فصل الدين عن الحكومة (17) ... لمحات تاريخية * ــــــــــــــــــــــــــــــ احتلت فرنسا هذا الوطن بالقوّة، وبينها وبينه بحر فاصل، وبينها وبينه دينان متخالفان، وجنسان متضادان، ولسانان متباينان، وبينهما- مع ذلك كله- أخلاق متنافرة، واجتماعيات متغايرة، بل بينهما شرق وغرب بكل ما بين الشرق والغرب من فروق، وإذا تباينت المقومات بين جنسين كل هذا التباين، كان تسلط أحدهما على الآخر غير مضمون الاستمرار، فإن استمر فغير مضمون الاستقرار، لأنه يعتمد دائمًا على القوّة المادية وحدها، والقوّة المادية ليست سلاح كل وقت. سبيل المتسلطين لدوام السلطة أحد أمرين: إما الإحسان الذي يملك النفوس، والعدل الذي يحفظ الحقوق، والتساهل الذي يستهوي الأفئدة، والرحمة التي تأسر العواطف، وإما المحق لمقومات المغلوب الروحية والمادية مغافصة، أو تدريجًا، وتحطيم عناصر المقاومة فيه جهرة أو اغتيالًا، فأيّ السبيلين سلكت فرنسا في الجزائر؟ إنها آثرت الأمر الأخير من أول يوم، ووضعت له الأصول، ورتبت الوسائل، وآثرت من أنواعه التدريج المغطى بالكيد والاحتيال، وبدأت من المقوّمات بالدين، لأنها تعرف أثره في النفوس والإرادات، وتقدر ما فيه من قوّة التحصن من الانحلال، وقوّة المقاومة للمعاني الطارئة، فوضعته نصب عينيها، ومدت يدها إليه بالتنقص، فالتهمت أوقافه المحبوسة على مصالحه، لتجرده من القوة المادية التي هي قوامه، وتلصق برجاله الحاجة إليها فتخضعهم لما تريده منهم، فتصيرهم أدوات تأتمر بأمرها لا بأمر الدين، وتخضع لسلطانها لا لسلطان الدين، وما زالت بهم تروضهم على المهانة، وتسوسهم بالرغبة والرهبة، حتى نسوا الله ونسوا أنفسهم، ونسوا الفوارق بين رجل الدين الذي يدين بطاعة الله، وبين موظف الحكومة

_ * نشرت في العدد 156 من جريدة «البصائر»، 21 ماي سنة 1931.

الذي يدين بطاعة الحكومة، وأصبحوا في العهد الأخير كالأسلاك الكهربائية المفرغة من الشحنة ... ليس فيها سلب ولا إيجاب ... غاب عن فرنسا- وهي تحوك هذا التدبير- ما يغيب عن كل مستكبر جبار، وهو درس القابليات في الأشياء، ولو درست لهداها الدرس إلى الحقيقة، وهي أن الإسلام والعروبة شيئان ليست فيهما قابلية الذوبان والانمحاء، لأن فيهما من أثر يد الله ما يعصمهما من ذلك، وعليهما من أصباغ الشرق الخالدة ما يحفظهما من التآكل والتحاتّ، ولو أن فرنسا امتهنت الإسلام في ثورة التغلب الأولى ثم فاءت إلى الرشد لكان لها شبه العذر لأن الإجراءات العسكرية دين على حدة ليس فيه حلال وحرام، وليس فيه عبادة ولا معبد، وليس فيه حدود ولا حرمات، ولكنها تمادت على امتهانه إلى اليوم في أطوار كلها سلم، وكلها اطمئنان، فأفصح الأخير من أعمالها على الأول من مقاصدها، وإنها لشواهد لا تستطيع فرنسا تكذيبها ولا نقضها، ولا نحتاج نحن إلى توضيحها وتزكيتها. ... احتلت فرنسا هذا الوطن فوجدت فيه دينًا قائمًا بأهله، تقوم به هيأة دينية، تشرف عليها حكومة إسلامية بصفتها مسلمةً لا بصفتها حكومة؛ وللأمير المسلم حق الإشراف على الدينيات باسم الإسلام، فخيل إليها التعصب- وهي مسيحية- أن دينًا ينسخ دينًا، وإن كانت لا تعتقد أن نبؤة تنسخ نبوة، وأنها- بقوّتها وجبروتها- تستطيع أن تغالب الله وتعانده في أحكامه، فتنسخ لاحق الأديان بسابقها، ففعلت فعلتها بهذه النية، وبهذا القصد، ولهذا الغرض، ووجدت في هذا الوطن نوعين من الأملاك العامة: أملاك الحكومة من قصور للأمراء وإدارات لمصالح الدولة وثكنات لجندها، وأملاك الدين من مساجد تقيم الشعائر، وأوقاف تقيم المساجد، وتحقق وجوه البر والإحسان، وقد حبسها المسلمون على المسلمين لا على الدولة، ولكن فرنسا المنحرفة على الجمهورية الأولى، المتطلعة إلى الجمهورية الثانية - اعتبرت كل ما وجدته في الجزائر من النوعين إرثًا عن الدولة التركية، وغنيمة من غنائم الحرب معها، وليت شعري ... حين عمرت الثكنات بجنودها المقاتلين، وعمرت الإدارات بحكامها الإداريين، لِمَ لمْ تعمر المساجد برجال الكنيسة المسيحيين؟ لا ... بل يجب أن ننصفها ... فقد حوّلت بعض المساجد الكبرى كنائس، وعمرتها برجال الكنيسة المسيحيين ... وناهيك بمسجد "كيتشاوة" العظيم الذي صيرته "كاتدرائية" عظمى في العاصمة وكأنها فعلت ذلك لتجعله عنوانًا لما تبيته للإسلام من شر، ونذيرًا للمسلمين بما يترقبهم في دينهم من وبل، ودليلًا ماثلًا على أن احتلال فرنسا للجزائر كان حلقة من الصليبية الأولى، ولا غرابة في ذلك، فإن فرنسا الاستعمارية كانت- وما زالت- تفور باللاتينية

والمسيحية، تصارع بالأولى الجنسيات، وتقارع بالثانية الأديان، وإن معاملتها للإسلام هذه المعاملة- التي ابتدأت من يوم الاحتلال ودامت إلى هذه اللحظة- كانت مدبرة من قبل الاحتلال جريًا على تلك الطبيعة، ولقد جاء قواد الاحتلال وفي أيديهم الأسلحة القاتلة، وعلى ألسنتهم الوعود الكاذبة، وفي حقائبهم القوانين التى يعاملون بها الإسلام، وكل ذلك مدبر من وراء البحر، قبل خوض البحر. ... اقرأ قرار 7 ديسمبر 1830 (أي سنة الاحتلال بعينها) فإذا وصلت إلى المادة الثالثة منه فإنك تجد فيها: "إن القائمين بأملاك الأوقاف ملزومون بأن يقدموا في ظرف ثلاثة أيام من تاريخ القرار تصريحًا يبيّن صفة ووضع وحالة عقارات الأوقاف التي يستغلونها بالكراء أو غيره، ومحصول الكراء أو الغلة وتاريخ الدخل الأخير". وإذا وصلت إلى المادة الرابعة منه فإنك تقرأ فيه: "إنه يجب على القضاة والمفتين والعلماء- وغيرهم من القائمين على إدارة الأوقاف- تسليم العقود والكتب والسجلات والسندات المتعلقة بتدبير شؤون تلك الأملاك وقائمة أسماء المكترين مع بيان مبلغ الأكرية السنوية وزمن الأداء الأخير- يسلمون كل ذلك إلى مدير الأملاك". وإذا وصلت إلى المادة السادسة منه فإنك تجدها هكذا: "إن كل شخص خاضع للتصريح المذكور في المادة الثالثة من هذا القرار، ولا يدلي بما عنده، يحكم عليه بغرامة لا تقل عن المدخول السنوي للعقار الذي لم يسجله". وإذا وصلت إلى السابعة فإنك تجد تقرير مكافأة لكل من يكشف عن عقار غير مسجل، واطوِ بعد ذلك ثلاث عشرة سنة فقط، فإنك تجد قرارًا من وزير الحربية مؤرخًا بيوم 23 مارس سنة 1843 ينص على "أن مصاريف ومداخيل المؤسسات الدينية تضم إلى ميزانية الاستعمار". ألا تؤمن بعد هذا بما شرحته لك من أن احتلال الجزائر إنما هو قرن من الصليبية نجم، لا جيش من الفرنسيين هجم. ... شغلت قضية فصل الدين عن الحكومة، الأمة الفرنسية أحقابًا، ويرجع التفكير فيها إلى الثورة الأولى سنة 1789، ويرجع التأثير فيها إلى الجمهورية الثالثة 1871، إلى أن تم

الفصل العملي النهائي فيها سنة 1905، بالرغم من احتجاج البابا المتواصل، ووصول العلاقات بينه وبين حكومة فرنسا إلى أسوأ الأحوال، وقد قال مقرر مشروع الفصل كلمته السياسية البليغة: "الحكومة الفرنسية ليست ضد الدين، ولكنها لادينية L'Etat français" "n'est pas antireligieux, il est a-religieux وهي كلمة ذات وجوه ومخارج، نفهمها نحن كما شئنا ونفهمها كما شاء قائلها، ويفهمها كل ذي عقل بعقليته الخاصة، وتفهمها المستعمرات من شرح الواقع لها، ويتم الفصل في فرنسا على تلك الصورة الحاسمة بين ضجيج المتطرفين في تأييده والمتطرفين في مناهضته، وفي بقايا الغبار الثائر من قضية الضابط "دريفوس". كل ذلك والدين المفصول دين فرنسا، اقترن تاريخه بتاريخها قرونًا، واتحد مزاجه بمزاجها، وعرفت فيه بأنها "ابنة الكنيسة البكر"، ومقتضى ذلك كله أن يكون الإسلام في الجزائر مفصولًا عن حكومتها مع أو قبل فصل المسيحية عن حكومة فرنسا، لأن الإسلام ليس دين الحكومة، وليس منها، وليست منه بسبيل. ولكن ذلك الفصل بقي مقصورًا على فرنسا وحدها، ولم يقطع البحر إلى الجزائر ... لأن الدين في الجزائر الإسلام ... والثورة وآثارها، والجمهورية ومبادئها، كل أولئك لم ينشئ العقل الفرنسي اللاتيني المسيحي إنشاء جديدًا، ولم ينزع منه ما وقر فيه من آثار الصليبية ضد الإسلام، والعقلية الغالبة في أيام احتلال الجزائر، هي الغالبة في أيام نضج المبادئ الجمهورية وهي المسيطرة عليه في هذه الأيام التي نسخ العلم فيها كل عهد وفسخ الزمن بأحداثه كل عقد، وأصبحت فيه الحرية أنشودة كل لاغ، ونشيدة كل باغ، والتمس ما شئت مجالًا آخر لتطور هذه العقلية، فأما في الإسلام ... وأما في الجزائر ... فلا ... ومكلف هؤلاء القوم ضد طباعهم، متطلب في الماء جذوة نار، كما يقول التهامي الشاعر، لذلك بقيت قضية فصل الإسلام عن حكومة الجزائر منظورة بالعين الاستعمارية، وموزونة بالميزان الصليبي، ومفهومة بالعقل المتحجر، "تجمهرت" فرنسا أو "تدكترت" أو اختلفت عليها الألوان بياضًا وحمرة، فالاستعمار في الجزائر هو هو في نظرتها، والإسلام في الجزائر هو هو في حكمها واعتقادها، ولاستقرار هذه العقيدة في مستقر اليقين من نفس الحكومة الفرنسية، نراها حين تلجئها الأحداث إلى تغيير في الوضعية، أو يكثر عليها الإلحاح في تبديل الحالة، تدور حول نفسها ولا يزايل قدمها موضعه، فتصدر القوانين بالفصل، ولكنها تقيدها بالتحفظات التي تجعل الفصل تأكيدًا للوصل، أو تفتح فيها من المنافذ ما يجعل المنفذ- وهو استعماري طبعًا- في حلّ من كل ما يفعل، كما فعلت في قانون 1907 وفي دستور الجزائر الأخير ... والدارس لهذه القوانين بعقل مجرد، يراها بعيدة من الصراحة والحسم، دائرة على المداورة والمطاولة والاستبقاء.

فصل الدين عن الحكومة (18)

فصل الدين عن الحكومة (18) ... ومن فروعها صوم رمضان * ــــــــــــــــــــــــــــــ ... وما زلنا نحن والحكومة الجزائرية ننظر إلى هذه القضية بعينين، إحداهما حولاء ... ونتناولها بعقلين، أحدهما مؤوف. أما أحد العقلين فيتلقى الوحي من القوّة التي تعمي عن الرشد، ويمتص الغذاء من الحقد المتأصل الذي يضل عن الهدى، وينحط إلى الغرائز الحيوانية يأخذ عنها مثله السفلى، ويبني العلائق بين الناس على العنصرية والتفوق والسيادة، ويرجع بطبقات البشر كلها إلى قسمين، قوي آكل، وضعيف مأكول، ولا ثالث، ويذهب في الألفاظ ومعانيها ولوازمها مذاهب غريبة عن متعارف اللغات، فظلم القادر لا يسمى ظلمًا، لأنه صدر من قادر، وقتل الأرواح لا يسمى قتلًا، ما دامت الأجساد تتحرك، واهتضام الأديان السماوبة لا يسمى كفرًا، لأنّ القوّة إله ثان، نبيُّه هذا العقل، وكتابه ينحصر في آية: لا صلة بين السماء والأرض، وشريعته مبنية على قاعدة: كن قويًّا واصنع ما شئت. ثم يستشهد منطق العقل العام، وسنن الكون وطبائع البشر فتخذله. وأما العقل الآخر فتؤيده حكمة الله العليا في الأديان، وهي أن لكل طائفة دينها الذي ربطتها به الوراثة والاختيار، ولكل دين أهله الذين عقدت بينهم وبينه الفطرة والذوق، يصرفونه بأنفسهم، لأنهم أعرف بعقائده، وأعلم بآدابه، وأبصر بشروطه وأسبابه، وأفقه في وسائله ومقاصده، وأقوم على أحكامه، فهم لذلك أملك به وأجدر بتصريف شؤونه، وتظاهره سنة التطور التى انتهت ببعض الأمم إلى أن تعد من الرشد ابتعاد الحكومات عن سياسة الدين، ولو كان أصيلًا فيها، وكانت أصيلة فيه، وإيكاله إلى رجاله المنقطعين له، واقتصارها على سياسة الدنيا، ويشهد له أن أعظم حكومات هذا العصر، وهما أمريكا وانكلترا، تعدان من أسباب عظمتهما حرية الأديان والمعتقدات، وتفسران ذلك بترك

_ * نشرت في العدد 157 من جريدة «البصائر»، 28 ماي سنة 1951.

الشؤون الدينية لأهلها، وتوزيع اختصاصات الدنيا والدين بحيث لا تختلط إحداهما بالأخرى، وإننا لنجد بذورًا من ذلك في أساس تكوين الدولة الإسلامية، وإن اختلفت الحالتان في الدواعي والمرامي، ونلمح ذلك في تخصيص الإمامة برجال، والقضاء برجال، وإمارة الحج برجال، ونعتقد أنه لو طالت بعمر حياة وتمهد له ما يريد من إعداد الأمة وتربيتها- لخطا خطوات في توزيع الأعمال، وتقييد سلطة العمال، حتى ينتهي ذلك بطبيعة الحال إلى انفراد رجال الحكم بسد الثغور، وهو عمل عسكري، وتأمين السابلة وهو عمل اقتصادي، وإقامة الحدود، وهو عمل قضائي، وترك أمور الدين المحضة إلى علماء الدين المنقطعين له علمًا وعملًا، وليس معنى هذا سقوط التكاليف الدينية عن الطبقات الأخرى، ولا التساهل فيها، كما تفيده كلمة "حرية التدين" في هذا العصر، وإنما كلامنا في تسيير شؤون الدين، وهو موضوع الحديث، كذلك ليس من معناه أن لا تساس الأمة باسم الدين، كما هو مفهوم "حكومة تيوقراطية"، فالإسلام أضمن للعدل والمساواة، وأحفظ لمصالح البشر الخاصة والعامة من أن يتبرم به متبرم، أو يعد الحكم باسمه "تيوقراطيًّا". وهذا صوم رمضان ... عبادة دينية محضة، وهي أبعد العبادات عن الماديات التي تغري بتدخل الطامعين في شؤونه، فهو أشبه بالفقير الذي ليس معه من المال ما يغري اللصوص بالاعتداء عليه، إذ ليس له من الأوقاف ما يقيمه كالصلاة والمساجد، ولا يفتقر في إقامته وأدائه إلى سفينة أو طائرة تنقل إليه، ولا إلى رخصة انتقال تثير غريزة التحكم، ومع ذلك كله فإن الحكومة الجزائرية عزّ عليها أن تفلته، وعز عليها أن لا تشارك فيه إلّا ببضع كيلوات من "الزلابية" ... فألحقته في العهد الأخير، بالحج والمساجد، كما ألحقت "فزّان" بمستعمراتها، وتلك شنشنة الاستعمار- واللاتيني منه على الخصوص- يعتبر الأوطان والأديان والأرواح والأبدان- وما هو لله وما هو للشيطان- شيئًا واحدًا يجب أن يخضع لجبروته ويدخل في سلطانه. حَلَا لهذه الحكومة المسيحية اللائكية معًا، الجمهورية الديكتاتورية معًا، الجامعة بين الأضداد، الضاربة دون حرية الجزائر بالأسداد- أن تحارب الله في دينه الإسلام، فتنتهك حرماته، وتأكل تراثه أكلًا لمًّا، وتتخذ رجاله خَوَلًا لها، تستخدمهم في أغراضها بماله، وتنصب من نفسها مرجعًا لهم دون أهله، ثم تعمد إلى الحج فتبيحه لمن تشاء، وتحرمه على من تشاء، وتضع العواثير في طريقه، وتكوّن جمعية من أتباعها باسم "أحباس الحرمين"، بعد أن لم تبقِ منها أثرًا ولا عينًا، إمعانًا في السخرية بالإسلام وأهله، وتشارك المسلمين في أداء هذا الركن "بجهد المقل" من حاكم مسيحي وخليفة وقائد وكاتب وجاويش وجماعة من الجواسيس، يحصُون على الحجاج أنفاسهم، ويُلقون في أذهانهم أن البحر والسفينة، ومكة وشعابها كلها مستعمرات لهذه الحكومة.

عزّ عليها أن تنقض أركان الإسلام ركنًا ركنًا ويبقى هذا الركن- وهو الصوم- خارجًا عن نفوذها، ورأت نقصًا في سمعتها، وغميزةً في كرامتها أن تفلت شعيرة الصوم من قبضتها، واهتبلت الوقت الذي اشتدت فيه مطالبتنا بالأوقاف والمساجد وحرية الحج، فمدت يدها إلى الصوم، تعبث فيه بالكيد، وتُفسده بالحيلة، وكأنها تريد أن تلهينا بشيء عن شيء، وكأنها تقول لنا: يا طالبي النهاية، ارجعوا إلى البداية ... دبت حركتها إلى صوم رمضان دبيبًا خفيًّا من هذه الثغرة التي أصبحت شرًّا على المسلمين، ووبالًا على دينهم، وهي وظيفة الفتوى والقضاء، فكونت من رجالها فيهما "لجنة الأهلة" فأصبحوا يتحكمون في هلال رمضان المسكين وحده يثبتونه وهم في جحورهم، أو يخفونه وهو في كبد السماء، اتباعًا لوحي مرسوم لا يتعدونه، ثم أمدّت تلك اللجنة بسلاح من القانون وهو اعتبار الأعياد الإسلامية رسمية، تعطل فيها الأعمال الحكومية والمهنية والصناعية، وما شرعت ذلك القانون حبًّا في الإسلام، واحترامًا للمسلمين، وإنما شرعته لتلجئ الموظفين والعمال المسلمين إلى اتباع رأي لجنتها في الصوم والإفطار، إذا اختلفت الآراء، وتهيّئ الجزائر للانقطاع عن الأقطار الإسلامية، وتتوصل بذلك إلى بسط نفوذها على هذا الركن، وتقطع العلاقة بين الجزائر وبين العالم الإسلامي، وتحاول- من جديد- تكوين "إسلام جزائري"، بعد أن أخفقت التجارب القديمة. تدخلٌ مفضوح أضافته الحكومة إلى أعمالها القديمة، وتدخلاتها الأثيمة في شؤون ديننا، لتثبت به سلطتها عليه، وأضفناه نحن إلى قائمة ما نكشف عليه من كيدها، وما نقاومه من ظلمها، فلا هي ترعوي، ولا نحن نسكت، فعلى الأمة أن تتفطن لهذه المكايد الشيطانية، وتزنها بآثارها، وتعتبرها بعواقبها، فإن هذه الحكومة لا تعمل عملًا إ، وله غاية وعاقبة، ثم لا تكون الغاية إلّا هدمًا لركن من أركان ديننا، ولا تكون العاقبة إلّا ريحًا لها وخسارًا لنا، وإن الحزم أن نبت هذه الحبال التي تمدها منا إلينا، وأن نعاملها بالقطيعة وأن نتولى صومنا بشهادتنا وأعيننا، وبالاتباع لإخواننا المسلمين حيثما كانوا، إذا بلغتنا أخبارُهم على وجه شرعي صحيح ... وبكل ما نملك من الوسائل. إن آثار الاستعمار فينا هي التي جعلتنا سريعي التأثر بدواعي الفرقة، وقد نجح في تفريقنا في الدنيويات لأنه يملك أسبابه، فرجع إلى الدينيات يزيدنا فيها تفريقًا على تفريق، فعلى الأمة أن تحذر هذه الفخاخ المنصوبة، وأن ترجع في مسألة الصوم والأعياد إلى أحكام دينها وحِكَمه، وأن ترفع الخلاف بالرجوع إلى الحق.

فصل الدين عن الحكومة (19)

فصل الدين عن الحكومة (19) ... خصمان، فمن الحكم؟ * ــــــــــــــــــــــــــــــ - 1 - قضية شاذة، لا يجد الباحث فيها والمؤرخ لها نظيرًا فيما تباشره حكومات الدنيا من شؤون أممها، مؤمنها وملحدها، ولا يجد للقوانين التي تصرفها نظيرًا في قوانين الدنيا، سماويها ووضعيها، وقد يستسيغ العاقل من أعمال الحكومات أن تراقب كل شيء حذرًا واحتياطًا، ولكنه لا يستسيغ منها أن تتصرف في كل شيء تحكمًا واستبدادًا. تقوم هذه القضية على خصمين: الأمة بحقها في دينها، وحجتها الناهضة في الإرث والاستحقاق، والحكومة بمصلحتها المادية، وشبهتها الواهية في التغلب والاستلحاق؛ وتحامي عن الأمة جمعية العلماء، بما لها من حق في الدين، وبما عليها من عهود في الدفاع عنه، ويحامي عن الحكومة جهازُها الإداري المتركب من الرجال الذين شابت مفارقهم في تنفيذ مآرب الاستعمار، وشبوا على بغض الإسلام، واحتقار المسلم، واستباحة دمه وبدنه وماله وعرضه، وإنكار ذاتيته وإنسانيته، ومن "رجال الدين" المتهافتين على وظائفه، المشترين لها من الحكومة بأغلى ثمن وهو شرفه والغيرة عليه، والذين أعمت الأطماع بصائرهم فتنكروا لدينهم، وأصبحوا أعوانًا عليه، وآلات لهدمه. فالقضية- في حقيقتها- صراع بين الحق وبين المصلحة، فإذا كان صاحب الحق لا يتنازل، ومدعي المصلحة لا يسلم، لم تزدد القضية إلّا تعقدًا؛ وإذا تمادى هذا الإصرار من الطرفين، إصرار المحقّ على حقه، وإصرار المبطل على باطله، فمن الحَكم؟ ... الواقع- برغمنا- أن خصمنا في القضية هو الحَكم، ما دام يملك ما لا نملك من المال الذي يوجه وجوه أصحاب المطامع إليه، والنواب الذين يعولون في الوصول إلى كراسي النيابة عليه، وهذه الطائفة التي تقبل الأرض بين يديه؛ ولكننا- على ذلك كله-

_ * نشرت في العدد 158 من جريدة «البصائر»، 4 جوان سنة 1951.

مصرون على المطالبة بحقنا، لا يثنينا تهديد ولا وعيد، ولا مراوغة ولا مطاولة، إلى أن تفصل القضية على وجه يرضي الإسلام ويرضي الأمة، ونحن نتجاهل كل حل لا يفي بالرغبة كاملةً، ونواصل كفاحنا ما دمنا وما دامت هذه الحكومة مصرّة على باطلها، تنتحل له في كل يوم أسباب البقاء، وتلتمس وجوه الحيل، وتستنجد هذا الفريق منا ليكون عونًا لها علينا. ... كلا الخصمين غضبان على الآخر: الحكومة غضبى علينا إلى حدّ التمزق، ما عندنا في ذلك شك، ونحن غضاب عليها إلى درجة التميز، ما عندها في ذلك ريب، وآية غضبنا هذا الشرر المتطاير في «البصائر»، فما هي دواعي هذا الغضب؟ أما غضب الحكومة علينا فمنشؤه واضح عندنا، فهي تعتقد أننا أول من أطار من عينيها نوم مائة سنة نومًا هادئًا مطمئنًا، وأوّل من نبه الأمة من غفلتها عن هذه القضية، وأول من كشف الغطاء وشنع وقبح وأقام الحجة وضرب المثل وسدّ منافذ التعلّات، وأول من وقف في وجهها من هذا الصنف مطالبًا ملحًّا، لم يردعه تخويف، ولم يثنه تسويف، ولم ينخدع بمغالطة، وجماع هذه الأسباب أنها ترى فينا شبح من يريد خلع الحلة من لابسها، بعد أن طال بها استمتاعه، وخلع الإمرة من صاحبها بعد أن استحكم فيها اضطلاعه، وهي ترى في انفصال الدين عنها زعزعةً للاستعمار، وحرمانًا له من مال وافر، وجاه عريض، وسلطان ممتد، وجيش كان رهن الإشارة، وإذا كانت هذه هي أسباب غضبها علينا ... فلا زالت غضبى! وأما غضبنا نحن عليها فهو غضب لديننا أن تمتهن كرامته، وأن يبقى هو ورجاله آلةً مسخرة لغير أهله، ولم نغضب إلّا لحق غصب، وطالبنا الغاصب بالنصفة فيه فلم يستجب، لم نغضب إلّا لهذه المهانة التي لحقت الإسلام دون الأديان، والأمة المسلمة دون بقية الأمم، وقد عرفنا استعباد الإنسان، وتسخير الحيوان، فأما استعباد الأديان فلم نعرف منه ولم يعرف منه الناس إلّا هذا المثال الفرد في الجزائر، ومع الإسلام خاصة. ... مواقفنا المشهودة في هذه القضية هي مبعث الشر بيننا وبين الحكومة، فنحن لا نسكت حتى تنصف، وهي لا ترضى حتى نسكت، أفتريد أن نبقى في هذا الدور الذي لا انفكاك منه؟ وإن القضية لأهوَن من هذا كله، لو كان لهذه الحكومة قليل من التدبر وحسن القصد، خصوصًا بعد أن أرحناها من أنفسنا، وتحديناها بأن تسلم الحق إلى أهله كاملًا لا نقص فيه

ولا غش ولا مواربة ولا حيلة ولا تغطية بموظفيها وأذنابها، ولا تفرقة بين المساجد وأوقافها؛ ونحن نتخلى عن حقنا كجمعية، ولا نتمسك إلّا بحقنا الطبيعي الذي لا تستطيع هذه الحكومة ولا غيرها أن تجردنا منه، وهو أننا أفراد من الأمة، لنا رأي في كل ما يضرها وما ينفعها، أما مع ما نعلمه ونستيقنه من أن في مطابخ الحكومة آراة تطبخ وتكون، وفي مكاتبها برامج تخطط وتحضر، وأنها- كلها- ليست في مصلحة الأمة ودينها، وإنما هي مصلحة الحكومة بالذات، وفي صالح رهط من أصحاب المطامع والأغراض بالتبع، فإننا نثبت في موقفنا، ونواصل التشهير بالظلم والتشنيع عليه حتى يموت الظلم أو نموت. ... قضية فصل الدين، وقضية حرية التعليم العربي، هما مبدأُنا الذي لا نحيد عنه، وهما ميداننا الذي لا نبرح منازلين الحكومة فيه، ومواقفنا فيهما هي التي أثارت- وما زالت تثير- سخط الحكومة وغضبها علينا؛ وعناد الحكومة فيها هو الذي يُلجئنا إلى التوسل بكل وسيلة في الوصول إلى غايتنا فيهما، حتى خيل إلى هذه الحكومة أننا جمعية سياسية متسترة بثوب الدين، وأشاعت ذلك على ألسنة سماسرتها ودعاتها حتى ملأت به الدنيا، وهي مخطئة في هذا الفهم، أو متعمدة له، لتستبيح به كل ما تعاملنا به من عسف وإرهاق، فلتعلم هذه الحكومة أننا في سبيل مبدئنا احتككنا بالسياسة وشاركنا في مؤتمرها، واتصلنا برجالها، واصطلينا بنارها، وفي سبيل مبدئنا نأخذ بجميع الأسباب إلّا سببًا يحرّمه ديننا، أو يأباه علينا شرفنا؛ ومن ابتلي بمثل هذه الحكومة في عنادها للحق، وتصلبها على الباطل، أدركه الإعياء فملّ، أو اشتبهت عليه السبلُ فضلّ، أو خانه الصبر فزل، أما نحن فوالله ما زلت لنا قدم، ولا زاغ لنا بصر، ولا ضعفت لنا عقيدة، ولا غامت لنا بصيرة، وإننا نأتي ما نأتي وعقولنا في مستقرها ... وطالما صارحنا هذه الحكومة- في غير خلابة- بأنها هي التي خرجت من وضعها فأدخلت الدين في السياسة، فاضطرتنا إلى أن نقابلها بالمثل فندخل السياسة في الدين؛ والبادئ أظلم، على أن تدخلنا في السياسة أدنى إلى الشرف، وأبعدُ عن الاستهجان من تدخلها في الدين. ... لا ندري في أيّ قسم تعد هذه الحكومة مساجدنا التي استبدت بها، وأوقافنا التي احتجنتها؟

إن كانت تعدها غنائم حرب، فهي قد حاربت الحكومة التركية وأخذت أموالها، ولم تحارب الله حتى تأخذ ماله ... وإن كانت تعدها ميراثًا، فقد أفهمناها أن الدين لا يرثه الأجنبي عنه مع وجود الوارث الأصيل، وإن كانت تعدّها مال يتامى فقد كبر اليتامى ورشدوا، وإن كانت تعدها مال مفقود، فقد رجع المفقود، قبل الأجل المحدود، فالأحجى بها أن تقول: هو مالٌ مغصوب، لنسألها: ومن المغصوب منه؟ لتقول: هو الله ... فإذا قالت ذلك ألقت إلينا بالمعاذير ...

فصل الدين عن الحكومة (20)

فصل الدين عن الحكومة (20) ... خصمان، فمن الحكم ... ؟ * (تتمة وخاتمة) ــــــــــــــــــــــــــــــ - 2 - زين للاستعمار سوء عمله فطغى وبغى، وكفر وعتا، وأتى من الشر ما أتى، فلو تصور إنسانًا لأربى على فرعون الذي نازع الله ربوبيته، وحدثته نفسه أن يطلع إلى إله موسى، وعلى عاقر الناقة الذي جرّ العذاب على قومه، ولو تصور حيوانًا لكان وحشا (إن لا يلغ في الدماء ينتهس) ولو تصور ماءً لكان ملحًا زُعاقًا، وحميًا وغساقًا، أو ريحًا لكان إعصارًا يدمر كل شيء بإذن الشيطان، ولكنه حقيقة، والحقائق- كما يقول المناطقة- توجد في ضمن أفرادها، فالاستعمار هو هذه الأخلاق المتفشية في المنتسبين إليه، والآخذين بدينه، وهذه الأفكار التي لا تفكّر إلّا في استعباد الناس، وصوغ القيود لبقاء ذلك الاستعباد، وهذه العقول المحدودة، التي تسخر العلم للصناعة، والصناعة للإبادة والتدمير، وهذه الضمائر الجافة من الرحمة بالمستضعفين، بل الاستعمار هو هذه الأجهزة المتناقضة التي يلعن بعضها بعضًا، من ألسنة تنطف العسل، وتنطق بالحرية والإخاء والسلام، ونفوس من ورائها تضمر خلاف ذلك، وأعمال من ورائهما تشرح "باب التناقض" بـ"باب العكس" وتنتهك حرمات الله وأديانه، وتسوس البشر بشرائع البحر: حوت يلقم حوتًا، وبقوانين الغابة: ضار يفترس وادعًا ... إن الاستعمار لا يؤمن بالله حتى نسأله الإنصاف لدينه الحق، ولكنه يؤمن بالقوّة، فلنحذره عواقب الاغترار، فإن هذه الأمة في مجموعها قوّة ... قوّة بعددها، وبالمعاني التي استيقظت فيها، وبإيمانها بحقها، وبتصميمها على استرجاعه؛ فإذا تعامَى عن هذه القوات كلها فإن تقلبات الدهر ستفتح عينيه منها على ما يكرَه، وإن الله للظالمين لبالمرصاد. ...

_ * نشرت في العدد 159 من جريدة «البصائر»، 11 جوان سنة 1951.

وفي العالم قضايا وخصومات، بين الشعوب والحكومات، وما كانت الشعوب في يوم من الأيام أقل من أن تخاصِم. وما كانت الحكومات أجل من أن تحاكَم، بل إن الشعوب في هذا الزمان هي مصدر السلطان، وهي التي تقيم الحكومات وتسقطها، وهي التي تبني العروش وتقوّضها؛ والقضاء في حال الاستقرار والسلم هو الميزان العادل بين الفرد والفرد، وبين الشعب والحكومة، فإن اختلّ مزاج أحدهما لجأت الحكومة إلى الجيش، ولجأ الشعب إلى الثورة، وانجحر القضاء في غرفة؛ ولكن وضعنا مع هذه الحكومة وضع شاذ غريب، ليس له نظير في العالم كله، فلا نحن منها، ولا نحن أجانبُ عنها ... لا نحن منها فنحاكمها إلى قضاء مشترك بيننا وبينها، لنا شطر الرأي في وضعه، ولنا شطر العمل في تنفيذ أحكامه، فإذا تحاكمنا إليه حكم بيننا بالسوية، وكانت يدنا فيه أكبر ضمان لحقنا؛ ولا نحن أجانب عنها فنحاكمها إذا ظلمتنا وهضمت حقنا إلى محكمة دولية مثل محكمة العدل، أو جمعية الأمم. حقيقة إن وضعنا شاذ غريب إلى أقصى حدود الشذوذ والغرابة، وإن علاقتنا بهذه الحكومة لا يوجد لها نظير فيما بين الشعوب والحكومات، لا في عصور الظلام، ولا في عصور النور؛ فقد ألجأتنا بظلمها واعتدائها على مقدساتنا إلى حالة من الغضب لا اعتدال فيها، وألجأناها بمطالبتنا وإصرارنا إلى نوع من العناد لا عقل معه؛ وما قول العقلاء المنصفين في شعب يعد زهاءَ عشرة ملايين من أشرف العناصر البشرية، ويتحلى بخلال إنسانية قلّ أن توجد في أرقى الأمم، ويلتفت إلى تاريخ كله إشراق ونور، وإلى ماض كله مآثر ومحامد، ويرتبط في عقائده وآدابه بمئات الملايين من البشر يشاركون في سياسة العالم ومعارفه وعمرانه بأفكار وعقول وأيد لا تقصر عن شأو، ولا تقصِّر في إحسان، ويعتز بجيران من جنسه إن لا يكن كمالًا فيهم، لم يكن نقصًا منهم ... ثم لا يكون له- مع ذلك كله- شرك في الحكومة التي تحكمه، ولا رأي في القوانين التي تسيره، ولا ممثل في المجالس التي تدير وطنه ... وما قول أولئك العقلاء المنصفين في حكومة ... في حكومة ... جمهورية فيما تدعي، ديمقراطية فيما تزعم، تحكم هذا الشعب الذي وصفناه بقوانين لا رأي له فيها، ولا يد له في تنفيذها، وتغالط العالم فيه بنواب منه، لا حرية له في انتخابهم، وليس له منهم ولا لهم منه إلّا الاسم والزّي ... لكأن وضعيتنا صورة من أطوار بائدة، لحكومات وشعوب خالية، احتفظ بها الدهر لشقوتنا، لتكون حجته للعصور الآتية على زيغ هذه الحضارة وزيف شرائعها وكذب دعاويها، وأنها طلاءٌ ظاهري ليستر القبح والشين والعرّ، وما هو بساترها ... ... ومجموع القضية الجزائرية بجميع أطرافها الدينية والسياسية والاقتصادية، كلها من هذا القبيل في الشذوذ والغرابة، لأن جميع القوانين التي تسيرها شرعت من طرف واحد،

وينفذها طرف واحد، لأ صلة بينه وبين الشعب في مزاج ولا تاريخ ولا دين إلّا قوّته وطغيانه، وإن هذا لهو أصل شقاء الجزائر وبلائها، وإنه لأضر ما تشكوه الجزائر، وأفظع ما تعانيه، وإنه لأكبر الأسباب في هذا الغضب المتزايد في الأمة، وهذا القلق المنتشر بينها، وإنه- والله- لوضع غريب، وقبيح أن يكون الحاكم الفرنسي هو المشرّع والمنفذ والمرجع في كل شيء، وأن يكون المسلم الجزائري من هذا الوضع في دائرة مفرغة، يبتدئ من حيث ينتهي، وينتهي من حيث يبتدئ، ويشتكي من الظلم إلى الظالم، ويستعدي عليه القوانين المكتوبة في الأوراق، فيجدها منسوخةً بقوانين أخرى في النفوس، ويفزع إلى ما يفزع إليه أفراد الأمم من قضاة ومحاكم، فلا يجد في ذلك شيئًا يمت إليه بنسب أو يعلق به بسبب، ويلجأ إلى ما تلجأ إليه الشعوب من حماتها الذين اصطنعتهم لنفسها ونصبت منهم رقباء على حكوماتها، وهم النواب، فلا يجد منهم من يعترف له بمنة سابقة، أو يدخر عنده يدًا لاحقة ... إن الأمة التي ليس لها على نوابها سلطان يحملهم على ترضيتها والخوف من غضبها، وليس لها على قضاتها وحكامها يد تشعرهم بمكانها منهم، ومكانهم منها، هي أمة سوائم، تساق إلى الموت وهي تنظر، ومن مارَى في وجود مثال منها في هذا العصر فالأمة الجزائرية هي المثال الشاهد المشهود. ... وخُض في حديث غير هذا فللحديث شعاب، وقد كررنا هذا الحديث حتى ملّ، فاطرد عنا سأم التكرار بطريف، وإن كان غير ظريف، وهلم بنا إلى أمثال العرب، وقعْ منها على قولهم: "رمتني بدائها وانسلت"، وجاوزْ مورده البعيد إلى مضرب قريب، وحاول فإن التوفيق لك حليف. أرأيتك هذا الاستعمار الذي نمارس منه الشقاء ونتجرع بسببه العلقم ... إنه يجهد نفسه في عيب الشيوعية، ويقيم من نفسه عدوًّا لها، ومن أعماله حربًا عليها، وما هو- في الواقع- إلّا داع لها بتلك الأعمال التي هي أبلغ من الأقوال، فهو بذلك يزرعها من حيث يريد اقتلاعها، ويُثبتها من حيث يريد زعزعتها، وليس في السفه ولا في الخطل ولا في التناقض أشنع من هذا، وإنه ليعد أمضى سلاح يسدده في الدعاية ضدها، أنها عدوة للأديان وأنها عاملة على محوها ... وليت شعري ماذا أبقى الاستعمار الفرنسي "الديمقراطي" للشيوعية من حرب الأديان ومنها الإسلام؟ ... إننا نشهد ونُشهد الله على أن الشيوعية إن حاربت الأديان، أو الإسلام خاصة، فهي تلميذة للاستعمار الفرنسي في ذلك، فهو الذي خطط لها الخطط وفتح لها الباب وضرب الأمثلة، ومن البعيد أن يساوي التلميذ الناشئ شيخه المحنك المحكك، ومن العيب أن يعيب الأستاذ على تلميذه اتباع خطواته ...

القضية ذات الذنب ... الطويل

القضية ذات الذنب ... الطويل * - 1 - تعوّد الناس إطلاق الوصف على الكواكب السماوية ذوات الأذناب، لأنهم تعوّدوا رؤيتها بالعين في بعض الأطوار الفلكية، وسماعَ أخبارها والمزاعم التي تعقد حولَ أسبابها وآثارها، وأجمعوا- قبل معرفة أسبابها الطبيعية- على التشاؤم منها، واعتقاد أنها ستلف هذا الكوكب الأرضيّ بذنبها في يوم من الأيام فتطوّح به، كما يلفّ الفيل قطعة الخشب بخرطومه ويطوح بها. ولكنهم لم يتعوّدوا إطلاق هذا الوصف على القضايا الأرضية، مع أن منها ما يفرَع الكواكب ذوات الأذناب طولًا، ويفوقها خطرًا وشؤمًا وتفزيعًا، واذكر الآن- بعد أن نبّهناك- ما شئت من القضايا ذوات الأذناب، فإنك ستنسى واحدةً هي أطولهن ذنبًا، لأنها دقت في الغرابة حتى خفيتْ على الأذهان، وتعاصت عن الحل لأن الذي أحكم عقدَها هو الشيطان، وللشيطان ولوع بالإسلام لأنه موتور له، بما فضح من مكائده، وبما. بالغ في التحذير منه، وبما حصّن النفوس منه من المعوّذات، فلا عجب إذا كانت آثارُ يده بارزة في هذه القضية على يد أعظم أعوانه في المعاني وهو الاستعمار، وأكبر أعوانه من الأشخاص وهم دعاة الاستعمار، فلندُلّك على هذه القضية متبرّعين: هي قضية فصل الإسلام عن حكومة الجزائر ... ... عد ما شئت من القضايا ذوات الأذناب الطويلة، واخترْ منها أشدّها تعقيدًا، وأكثرها تشعّبًا وعواملَ خلاف، وتناقض مصالح، وقلْ- مع ذلك كله- إن حلّها قريب، ممكن،

_ * نُشرت في العدد 175 من جريدة «البصائر»، 26 نوفمبر سنة 1931.

ميسور، إلا قضيتنا هذه فإن تعصب الشيطان وأعوانه فيها صيّر حلّها قريبًا من المستحيل، ولعل قضية "الزيت" بين الفرس والإنجليز تحلّ في ساعة أو ساعتين، ولعلّ قضية "الجلاء" بين مصر وانجلترا تفصل في يوم أو يومين، ولعلّ الصراع بين "الكتلتين" ينتهي في شهر أو شهرين؛ أما فصل الدين الإسلامي عن حكومة الجزائر فهو- بما يحيط به من مقاصد الحكومة، وما يكتنفه من ظنونها- بعيدُ التصوّر في الذهن، بعيدُ الوقوع في الحسّ، غير ممكن التحديد بسنة أو سنتين، فإذا جال التحديد في خاطر الحكومة جاوزتْ به عشرات السنين، إلى القرن والقرنين، أو إلى ما يقدّر الاستعمار لنفسه من العمر، فكأن هذه القضية- في نظره- من أسباب طول العمر، فامتدادها امتداد لعمره، وليس كل هذا منه لأن القضية في نفسها صعبة، فهي- لو خلص القصد- من أسهل القضايا؛ وليس كل ذلك لأن أحدَ الطرفين فيها ضعيف، فهذا قدر مشترك في كثير من القضايا العالمية، وليس كل ذلك لأننا أصررْنا على المطالبة بالفصل إصرارًا لا تسامحَ فيه، فإن إصرارنا على الحق نتيجة لإصرار الحكومة على الباطل، وليس كل هذا لأن حق الأمّة في القضية غير واضح ... بل كل ذلك ... لأن حق الأمّة فيها أوضح من الشمس ... ومن طبائع هذا الاستعمار، التي عرف بها وعرفتْ به، أنه يعمد إلى الحق فيصوّره باطلًا وإلى الوضوح فيلبسه مدارع من اللبس. إن عقلية هذا الاستعمار الذي بلينا به- حين تتصل بالإسلام- عقلية "لاتينية" أولًا، صليبية ثانيًا، فهي تتخبّط بين لجّتين، لا تنحسرُ إحداهما حتى تجلّل الأخرى وترين، وتتغذّى من عنصرين، لا ينضب أحدهما حتى يثرّ الآخر ويفور، وهو بهذين الدافعين احتلّ الجزائر، ولهذين الباعثين عامل الإسلام فيها هذه المعاملة الشنيعة؛ ولعمرُ الحق إنهما لوَسْمان في الاستعمار الفرنسي للإسلام، متأصّلان فيه، مؤثران في أعماله، سائقان إلى جميع تصرفاته، يظهرهما لحاجة، أو يظهرُ أحدَهما لمصلحة؛ وقد يخفيهما لكيد، فتعرب عنهما هذه البوادر التي تبدر حينًا بعد حين من ساسته وقساوسته، فيصرّحون بأن الجزائر كانت لاتينيةً في القديم، ومفهومه الموافق أن تكون لاتينيةً في الحديث، وأنها كانت مسيحية في الغابرين، وفحواه أنها مسيحية في الآخرين، وعلى هذه القوالب صُبّت القوانين التي تساس بها الجزائر، وبهذه الروح نفذت، ولهذه الغاية يعمل العاملون من رجال الاستعمار في أيّ مظهر ظهروا، وبأيّ اسم تكلّموا، ولا عبرة بهذه الأغشية التي يموّهون بها أعمالهم من العلم والفن والمدنية والديمقراطية والإنسانية، فتلك ألوانٌ غير قارة ولا ثابتة، تخدع العينَ والأذن، ولكنها لا تخدع الحقيقة. ... هذا هو مدد الاستعمار الفرنسي الأصيل، وهذا هو ميراثه غير المدّعى ولا الدخيل، وهو مثار هذه النزعات التي يجهد في إحيائها في الشمال الأفريقي كالنزعة البربرية، ويُعميه

الهوى فيحاول أن يصلَ آخر الحبل الممدود بأوله وينسى أو يتناسى ثلاثة عشر قرنًا طبعت فيها العروبة والإسلام هذا الشمال بالطابع الذي لا يمحى، ووسمه بالسمة التي لا تزول ... طرأتْ على فرنسا عدة مؤثّرات في القرون الأخيرة، من العلوم والفنون والصنائع، وانبثقتْ منها عدة مذاهب اجتماعية، واتسعتْ لعدة جنسيات وأديان، وكل واحدة من هذه المؤثّرات كافية لتحويل النظرة من أفق إلى أفق، ونقل الاتجاه من سبيل إلى سبيل، وتبديل العقلية من نزعة إلى نزعة، وقد فعلتْ هذه المؤثرات فعلها في العقلية الفرنسية فتغيّرتْ في كل شيء إلا في الاستعمار وما يتبعه من آثام، فإنها بقيت- كما كانت- "لاتينية"، وفي معاملة الإسلام فإنها بقيت- كما كانت- "صليبية"، ومن ناقضَنا في هذا جئناه بالدليل الذي لا ينقض، وهو حالة الإسلام في الجزائر، ومن رمانا بالمبالغة والتهويل رميناه بالحجّة المسكتة، وهي أن في الجزائر ثلاثةَ أديان يتمتع اثنان منها بالحرية الكاملة والاحترام الشامل، ويخص الإسلام- وحده- بهذه المعاملة الشاذّة التي هي في واقعها استعباد واضطهاد، وفي مغزاها احتقار وانتقام، وإن في هذا وحده لمقنعًا حتى للمكابرين. ... لا يجد الباحث عناء في العثور على مصداق ما قلناه من تمكّن النزعة الصليبية في هؤلاء القوم، فهذه باريس منبع الثقافات والفنون والصنائع، التي استطاعت أن تجمع المتناقضات، وثوقف الإلحادَ بجنب المسيحية المتشدّدة، والإباحية العارية بجنب الحشمة المتزمتة، واللهو المعربد بجنب الوقار الساكن، تضم فيما تنضم عليه بيئة "صناعية" لصنع العقول، يديرها رجالُ دين، ويُدبّرها مستشرق شهير، وتقف جهودَها ونشاطها على تغذية النزعة البربرية في نفوس أبناء الجزائر والمغرب، من التلامذة الدارسين للعلم، أو العوام العاملين للقوت، وتغريهم بالتنكر للإسلام لأنه دينُ العرب، وبالتنصل من العربية لأنها جنسية طارئة غريبة، وتحاول إقناعهم بأن هذا الوطن بربري، وأن العقلية البربرية أقرب إلى اللاتينية منها إلى العربية، بسبب قرب الجوار، وصلة البحر المتوسط المتقارب الشاطئين، وبما تركه الاستعمار اللاتيني القديم فيها من آثار وتلاقيح، ولم يظلم الماريشالَ "ليوتي" من نسب إليه وضع الحجر الأول لبناء هذه المدرسة، وأن أول المتخرّجين فيها نابغة من أبناء المغرب، ولكن خلفاءَه في تلك النزعة وسعوا الدائرة، ولم يعودوا يقنعون بصيد المثقفين من أمثال ذلك النابغة، ونقلهم من صميم الإسلام إلى صميم المسيحية، بل أصبحوا يأنفون أن يكون للمسلم أو العربي مكانة ممتازة في المسيحية، كما يأنفون أن يكون لأحدهما مكانة ممتازة في العلم أو في السياسة أو في الجندية، وإنما يعملون اليوم للذبذبة والتشكيك حتى يتنكر العربي لعروبته، والمسلم لإسلامه، ولخلق جنسين يسهل عليهم ضربُ أحدهما بالآخر،

فيستريحوا منهما معًا، ذلك لأنهم يعلمون أن الإسلام هو مساك الأخوة الروحية، فإذا وهى وضعف تأثيره على النفوس، نجمت النعرات المفرقة، ووجد دعاة التفريق مداخلَ للإغراء واللإغواء. وليس في هذا الوطن بربري وعربي كما يوهمون، وإنما هم جزائريون، جمعهم الإسلام على تعاليمه، ووحدتهم العربية على بيانها، كما أوضحناه بالأدلة في مقال "عروبة الشمال الأفريقي" المنشور بعدد 150 من هذه الجريدة، ولكن من عادة الاستعمار أن يحصي المعاني الميتة ليقتل بها المعانيَ الحيّة، ويزيّن للناس الباطلَ ليدحض به الحق، وقد أكثر من هذا حتى أشعر الأمم به، فأصبحت لا تفهم من كلماته إلا عكس معانيها. ... وتعصبْ- أيها المسلم- لدينك التعصبَ الطبيعي المعقول، وزد على ذلك القسط الطبيعي جميعَ ما يرمونك به من أنواع التعصب المرذول، فإنك لست ببالغ معشار ما عند هؤلاء من التعصب للمسيحية، ولكن تعصّبهم منظّم تحرسه القوّة، فأصبح معدودًا في حسناتهم، وتعصّبك فوضى يخمده الضعف، فأصبح مزيدًا في سيئاتك، وقد أوهموك أن التعصب مذموم، واستعانوا عليك بجهلك، ففرطت في محموده ومذمومه، وتجرّدت من أنفذ سلاح تحفظ به دينك، وما زلت تفرط في حقه خوفًا من أن ينبزوك بباطله، حتى أمسيتَ تعيش بلا عصبية لدينك، ولا عصبية لدنياك، وان هذا لسر ما ناله الاستعمار منك، لأنك بسببه أضعتَ الدينَ، وبسببه أضعت الدنيا، وخسرت الصفقتين. إننا لا نلتمس دليلًا على انطواء هؤلاء القوم على النزعة الصليبية، وان هذه القرون لم تضعفها فيهم ولم تنسهم إياها- أكبر ولا أكثر إقناعًا من قول القائد العسكري الذي احتلّ دمشق على إثر الحرب العالمية الأولى، فقد وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال يخاطبه: قد زعمت أننا لا نعود، وها نحن أولاء عدنا ولا نخرج ... ... وقد نعلم أن بعض رجال الإدارة الاستعمارية، وبعض الجارين في أعنّتهم من رجال الدين المسيحي، يتهمون صاحب هذا القلم بأنه ينشره لهذه الحقائق يثير الفتن، ويحصي كوامن الإحن، وانه يتهجّم على المسيحية، ونعلم أن كلامهم هذا نمط من التخويف بالباطل للصدّ عن الحق، ولا والله الذي أوحده، وكتبه التي أؤمن بها جميعًا، ورُسله الذين لا أفرّق بين أحد منهم، ما هاجمت دينًا بالباطل، وإنما نعيت على رجال الأديان أن يكونوا

أعوانًا للاستعمار الظالم الذي لا يقبله دين، وعبتُ على رجال المسيحية أن يمالئوا السياسة على اهتضام الإسلام، وأن يمارسوا التبشير في ظل الحكومة وفي حماية قوّتها، فإن هذا غمزٌ في كرامة الدين الذي يدْعون إليه، لأن سبيل الأديان إلى النفوس هو الإقناع، لا الحيلة والقوّة، وبيّنت لهم أن دينَ السياسة إلحادٌ في دين الله، وأنها إن أكلتْ بهم اليوم فستأكلهم غدًا، فتعالوا يا قومُ إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن نتعاونَ على تحرير الأديان، ثم لكم علينا أن نتعاونَ على ما فيه خير الإنسان. ... وفي الأخير ... وضعت حكومة الجزائر هذه القضية في جدول أعمال المجلس الجزائري لهذه الدورة. فهل عزمت على قطع الذنَب؟ لا نظن ... وسنرى، وسنقول ...

القضية ذات الذنب ... الطويل - 2 -

القضية ذات الذنب ... الطويل * - 2 - ... وها هم أولاء قد وضعوا القضية في جدول أعمال المجلس الجزائري، ولا نبحث عن الدواعي لهذا (الاستعجال) لأننا نعلمها، وخطب رئيس المجلس في جلسة الافتتاح فذكرها، وهو- في هذه الدورة- مسلم، فهل يرجو الراجون أن يكون من اسمه ودينه وجنسه أعوانٌ لرئاسته على فصل هذه القضية على وجه يرضي هذه العناصر الأربعة فيه؟ وخطب الوالي العام في ذلك الافتتاح فذكرها وخصها بالتنويه من بين أعمال المجلس، ونحن نعلم أن الخطبتين تحدّرتا من غمام واحد، أو نحتتا من معدن واحد، وأن ما تمنع الكياسةُ ذكرَه في خطبة الوالي يُباح ذكره في خطبة الرئيس، لذلك قرأنا في خطبة الرئيس من التعريض بنا ما لم نقرأه في خطبة الوالي، ونشهد أنه تعريض لطيف في ذوقنا، وإن كان خشنًا في قصد الرئيس. وبادر المجلسُ فألّف اللجنة التي تنظر القضية وتبحثها، ونشر أسماءَ رجالها من القسمين (1)، وتسامح في هذه المرّة فأدخل في اللجنة رجالًا كانوا مذودين عن حياض اللجان، فكأن طائفًا من الديمقراطية طاف بهذا المجلس، أو كأن خاطرةً من الوحي تنزّلت عليه، أو كأن هاتفًا من وراء الغيب هتف به: أنْ أثبتْ وجودَك ... فإن استطاع المجلس أن ينقل القضية من ذيل الجدول إلى رأسه، اتّحدت القرائن على أن هناك اتجاهًا جديدًا ولو في هذه القضية بخصوصها، وكل الفضل في هذا الاتجاه راجع إلى الظروف. ...

_ * نشرت في العدد 176 من جريدة «البصائر»، 15 ديسمبر سنة 1931. 1) من القِسْمَين: كان المجلس الجزائري مؤلفًا مناصفة من الجزائريين والفرنسيين.

ولكل عاقل أن يسأل: لماذا يتوقف هذا المجلس في هذه القضية على تقديم الحكومة إياها وعرضها عليه؟ مع أن البرلمان الفرنسي وكل تنفيذها إليه لا إلى الحكومة، ولماذا يتربّص بها هذه المدّة الطويلة؟ مع أنها أهم من جميع القضايا التي عُرضت عليه في خلال السنوات الثلاث الماضية، والجواب معلوم، يكاد لوضوحه أن يحكمَ على السائل بأنه ... غير عاقل. ومع كل هذه البوادر فإننا لا نظن أن الحكومة جادّة في فصل القضية فصلًا نهائيًّا تبتّ فيه الحبال، وتقطع العلائق، وتقيم به العدل في نصابه، وتسوّي به بين الأديان، وتُرضي به أمة كاملة مطالبة بحقها، جادّة في الحصول عليه ... لا نظن ذلك بها ... لأن لها طبعًا غير الطبائع، ولأن لها في هذه القضية تاريخًا حافلًا بالمداورات، ولأن لها سمعًا ألف التصامّ عن سماع كلمة الحق حتى صمّ بالفعل؛ ومن أراك من نفسه الإصرار على الباطل، وهو يعلم أنه باطل، فقد أرشدك إلى عدم الثقة به إن ادّعى أنه رجع إلى الحق، ولا نظن أن المجلس يستطيع أن يفعل في القضية شيئًا، ما دام زمامه في يد الحكومة، وما دام غيرَ مستقل الإرادة. ... إن الأصلَ في هذه المجالس أنها تصارع الحكومات، وتناقشها الحساب، وتردّها إلى الصواب، وتحارب النزعات الفردية، كل ذلك لأنها تأوي من الأمّة إلى ركن شديد، أما المجلس الجزائري فإن شأنه غريب، وأمره عجيب. إننا- مع احترامنا لأشخاص هذا المجلس- لا نسكت عن الانتقاد لوضعه ولأعماله، ولا نمسك عن سوْق النصائح إليه، وإن كانت مرّةً في ذوقه، ثقيلةً على سمعه، ولا نتملّقه ليكون في جانبنا أو يجريَ على هوانا، فإننا قوم لا نرضى أن تكون لنا منّة على الحق، ولا نرضى أن تكون لأحد علينا منّة في الإعانة على خدمة الحق، لأن الحق للجميع، وفوق الجميع، وإنه لا خصم لنا في هذه القضية نحاول الانتصارَ عليه، وإنما نحاول نزع حق من غاصب وهو الحكومة، وإرجاعه إلى صاحبه وهو الأمّة، فمن أعاننا في هذا السبيل فقد أعان الحق وأعان الأمّة وأعان نفسه. ... أصبحنا لا ندري أهما شيئان أم شيء واحد. هذه الحكومة بصبغتها وأعمالها، وهذا المجلس بوضعه وتشكيله، وأسباب تشكيله، ووسائل تشكيله، الأسماء تختلف، والعلائق تأتلف، والأوضاع غريبة، واللبيب يفهم.

ولقد كنا نسأل فصلَ الحكومة عن الدين، فطوّحتْ بنا التصاريف إلى حالة أوشكنا معها أن نسأل فصل الحكومة عن المجلس، لأن تحرير المجلس من سيطرة الحكومة عليه هو الخطوة الأولى في فصل الدين عن الحكومة. إن الشرط الأساسي للفصل أن لا يكون للحكومة برنامج خاص في القضية، وأن لا يكون للموظفين الدينيين برنامج خاص فيها، لأنهم أبناء الحكومة، وللأب حق الاعتصار في بعض أموال بنيه، أو لأنهم عبيدُها، والعبد وما ملك لسيّده. أما إذا كانت الحكومة تقدّم للمجلس ملف القضية، وفيما هو (ملفوف) فيه برنامجها الخاص، وعلى أحد وجهيه طابع الرغبة، وعلى الآخر طابع الرهبة، وكأنه لباسُ جندي، يزعج بشارته، قبل أن يزعج بإشارته، وكأنه يقول للمجلس: "نفذني لأني برنامج الحكومة" ثم يستشهد ببرامج الأنصار التي تشهد له (وقد قرأنا منها ثلاثة). أما إذا كان الأمر هكذا فهو أكبر دليل على أن الحكومة لا تنوي الفصل، وإنما تنوي ضده، وما هذه الحركة الجديدة منها إلا فعلة من فعلاتها المعروفة التي تذرّ بها الرماد في العيون، وتطيل بها العلل، حتى تجلب للعاملين الملل. نذكّر المجلس بأن الفصل مقرّر في صُلب الدستورين الفرنسي والجزائري، فليس له ولا من وظيفته النظر فيه، ونحذّره من هذه الأحابيل التي تلبس الحق بالباطل، فتخيّل إليه أن هذه الكيفية فصل، وما هي إلا الوصل القديم أعوزته شهادة رسمية قانونية، فجاء يلتمسها من المجلس بالحيلة ... ... أما نحن فما زلنا في هذه القضية على مذهبنا القديم، لم يتغيّر لنا فيها رأيٌ، ولم يتجدّد لنا فيه نظر، وأنَّى يتغيّر الرأي أو يتجدّد النظر في قضية دينية إلهية، تضفي على كل ملابساتها لبوس الدين الذي لا تغيّره الأزمنة، ولا تؤثّر فيه الأحداث، ولا تتجدّد فيه النظريات، والدين السماوي كالسماء: علو وصفاء، وظهور بلا خفاء، وحقائق ثابتة، ونسب غير متفاوتة، وحركات منظّمة، وأحكام مقوّمة، فإن خفيت السماء فمن الغيم، وهو من الأرض، وإذا خفيتْ حقائق الدين فمن الجهل أو من الضيم، وهما من سوء العرض، وكما أن السماء نور تحجبه الأرض عن نفسها، فالدين السماوي رحمة يحيلها البشر نقمة وشرًّا بما تكتسب أيديهم من موبقات، وتبتكر عقولهم من ضلالات. وقد شرحْنا هذه القضية فيما رفعناه إلى الحكومة من مذكرات، وآخرها مذكّرة ماي سنة 1950، وفيما كتبناه على صفحات هذه الجريدة، وإنه لكثير، وبينا الحقائق، وأقمنا

الأدلّة، وضربنا الأمثال، وبسطنا الحلول وقرّبناها إلى الأذهان، فكنا في ذلك كله كمن ينادي صخرة صمّاء، فإذا دلّت هذه الحركة القائمة اليوم على أن الآذان تفتّحت لسبب ما فإننا سنلقي فيها اليوم ما ألقيناه أمس. لم نزل واقفين عند حدود مذكّرتنا في ماي سنة 1950 لم نتقدم عنها ولم نتأخر، فإن كان عندنا جديد، فهو أن كل حلّ يبقي للحكومة أثرًا في شؤون ديننا فهو حل باطل، وأن كل فصل ينطوي على الحيلة فهو- في نظرنا- لغو، لا يقنعنا ولا يرضي الأمّة، وأن كل تشريك للموظفين الدينيين في الرأي والنظر فهو تشريك للحكومة، كما حققناه في تلك المذكّرة. ... إن الفصل الحقيقي الذي نريده هو تسليم الدين الإسلامي إلى أهله المسلمين، فإن أحسنوا فيه فلأنفسهم، وإن أساؤوا فعلى أنفسهم، كما يفعل المسيحي في دينه، واليهودي في دينه، وكذَب وفجر من زعم أننا دعاة فوضى، وهل في العالم من يمجّد النظام مثل المسلم الذي راضه الإسلام على آدابه وتعاليمه؟ وهل يوجد أحكمُ من ذلك النظام الذي بينّاه وأشرنا به في مذكّرتنا؟ وكذَب وفجر من ادّعى أننا مختلفون في أصل ديننا، فإن كان بيننا خلاف فهو من آثار الاستعمار، لا من آثار الإسلام، والحكومة الاستعمارية هي زارعة الخلاف بيننا، وهي التي تسقيه كلما ذبل، وتغذّيه كلما ضعف، وكذَب وفجر من قال إن جمعية العلماء تريد احتكار القضية لنفسها، وما جمعية العلماء إلا الأمّة المسلمة، وما أعمالها إلا تثبيت الإسلام، والدفاع عنه، فإن وُجد في الأمّة من يخالفها اليوم فسيوافقها في الغد القريب، لأنها تدعو إلى القرآن، وأي مسلم يخالفها في هذا؟ وتدعو إلى سنة محمد، وأيّ مسلم ينكر عليها هذا إلا من ينطق بلسان الاستعمار؟ ... كلّ فصل على دغل فنحن ننكره ونحاربه، وسنتمادى على مقاومتنا له، وسنبقى- كما كنا- عاملين على تحرير ديننا، ننتقل مع خصومنا من ميدان إلى ميدان، حتى نلقى الله أو يحكم بيننا وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين.

كتاب مفتوح

كتاب مفتوح إلى الأعضاء المسلمين بالمجلس الجزائري * ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها السادة: اسمحوا لنا حين سمّيناكم أعضاء ولم نسمّكم نوابًا فإننا ممن لا يكذب على الحقيقة؛ وكل عاقل يعرف الوسيلة التي تذرّعتم بها إلى هذا المنصب، يستحي أن يسمّيكم نوابًا بمعنى النيابة الذي يعرفه الناس؛ وإنما أنتم أعضاء تألف منها هيكل غير متجانس الأجزاء لا يجمع بينها إلا معنى بعيد، وعاملٌ غريب، ومصلحة ليس لكم ولا للأمّة منها شيء: وإنما أنتم موظّفون، لكم من النيابة لفظها وحروفها، ولكم من الوظيفة معناها وحقيقتها، وما دامت الانتخابات بالعصيّ فأبشروا بطول البقاء في هذه الكراسي. النيابة وكالة عن جمهور؛ والشرط في الموكل أن يكون حرًّا مختارًا مطلق التصرّف. ولا أجرح عواطفكم بذكر شروط الوكيل؛ فليت شعري إذا قال النوّاب الأحرار: نحن وكلاء الأمّة، ونحن اختارتنا الأمّة. فماذا تقولون؟ ... إن لكل عيب سترًا يغطّيه. وقد ستروكم بكلمة "مستقل" فما زاد العيبُ إلا افتضاحًا، لأن هذه الكلمة قد وُضعت في غير محلّها. إن من المناظر التى تثير العبر وتُسيل العبرات في هذه الانتخابات أنكم كنتم تروْن كما يرى الناس صندوقين للانتخاب في قرية واحدة أو شارع واحد يدخل الأوروبي إلى أحدهما منشرحَ الصدر باسمَ الثغر حرّ التصرّف مطلقَ الإرادة والاختيار، فيعطي ورقته لمن شاء، معتقدًا أنه أدّى شهادة خالصة للحق لم يراع فيها إلا مصلحة جنسه ورضى ضميره.

_ * نُشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر»، 26 أفريل سنة 1948.

ويدخل العربي إلى الآخر خائفًا وجلًا منزعجًا مسلوبَ الإرادة والحرية لا يرى حوله إلا إرهابًا وسلاحًا وألسنةً تتوعّد، وأيديًا تتهدّد، وأعينًا ترمي بالشرر، ويعطي ورقته لمن يُراد منه لا لمن يريد، إن من يرى هذا المنظر لا يعجب إذا رأى بعد ذلك أن الفائزين في الصندوق الأول نوّاب وإن اختلفوا في المبادئ، وان الفائزين في الصندوق الثاني نوائب وإن سمّوا أنفسهم "مستقلّين". ... يا قوم: نحن وأنتم من أمّة جرى عليها القدر بأن يفرض عليها الاستعمار كل شيء فرضًا، وأن لا يعتبر رأيها حتى في أمسّ الأشياء بحياتها، وأن لا يسمع لها صوتًا ولو ردّد صداه المشرقُ والمغرب. آية ذلك أن الأحزاب الفرنسية من اليمين إلى اليسار- وشأنها الاختلاف في كلّ شيء- اتفقت على احتقارنا وعدم المبالاة بنا في شيء يخصّنا وهو دستور الجزائر، فوضع كلّ حزب للجزائر دستورًا بنى أصوله وفروعه على ما يوافق هوى حزبه لا على ما يوافق مصلحة الجزائر ورغبة أهلها؛ كأن الوطن موات، وكأن أهله أموات، وكأن تسعة ملايين مسلم كلهم أطفال قاصرون يتحكم في مصالحهم الأوصياء والقضاة وليس فيهم رجل رشيد. وبين تنازع الأحزاب ومعاكسة الحكومة وُلد هذا الدستور الأبتر الذي أنتم ومجلسكم من ثمراته. ولم يوجد في الدنيا شيء يجمع بين كونه مسخوطًا عليه كأنه نقمة، ومحسودًا عليه كأنه نعمة، إلا هذا الدستور، فما أشبه هذه الأمّة بقول القائل: "حتى على الموت لا أنجو من الحسد" وبين سخط الساخط وحسد الحاسد جرت أمور، ونُصبت جسور، وصلتم منها إلى هذه المقاعد؛ فهل أنتم- بعد خمود الفورة والصحو من نشوة الفوز- شاعرون بواجبكم، ومقدّرون لمسؤوليتكم؟ لا نطالبكم بما هو خارج عن نصوص الدستور، فما أنتم لذلك بأهل. وما نحن بالذين نكلّفكم الشطط، أو نطالبكم بما ليس في الطاقة، وأنتم رجال، للوطن عليكم حق الأبوّة، وللأمّة عليكم حق الأمومة؛ فهل أنتم عارفون بحقوق الأبوين؟ إن مَنْ لم يكن منكم عالمًا لن يخطئه أن يكون عاقلًا، ومهما بلغتم من المكانة عند أنفسكم، أو بلغ بكم الحظ عند غيركم، فلن تستغنوا عن وعظ واعظ، ونصيحة ناصح، ولو شئنا أن نلقّنكم درسًا مختصرًا في معنى الشرف والرجولة لقلنا لكم: إنه لا شرف في الوصول إلى ما وصلتم إليه بمثل الوسائل التي وصلتم بها، ولا رجولة لمن يرقص على

الأشلاء والدماء والسجن والتغريم؛ ولكننا نعلم أن زماننا أملكُ بأحوالنا، وأن أحوالنا أشبهُ ببعضها من الغراب بالغراب، فلا نستنكر على مَن فرض الدستور أن يفرض رجاله، ولا على من ضيّق نصوصه أن يضيّق مجاله، ولا على من استعمل الإكراه في الدين، أن يستعمل الإكراه في الدنيا؛ وقبل النيابة كانت الإمامة، وقبل جحا كان أبو دلامة، ولعلّكم تعلمون ما ورد في من أمّ قومًا وهم له كارهون، وعلى الائتمام به مكرهون ... إن هذا كله لا يمنعنا من تأدية ما في ذممنا من واجب النصيحة. فاذكروا قبل كل شيء أن "الأصوات" التي وصلتم بها إلى هذه المقاعد هي أصوات إخوانكم المسلمين. تقولون إنها جاءت عفوًا من غير ظلم، وتقول الحقيقة إنها كانت عدْوًا بغير علم. وليست أصواتَ اليهود والإسبان، والفرنسيين والطليان، فكل جنس ألزم طائرَه في عنقه؛ ولو أن أحب الناس فيكم، وأحوجهم إليكم، وأعظمهم مصلحةً في وجودكم، أراد أن يرفعكم على أعناق غير أمّتكم لما استطاع، ولو استطاع لما سمحتْ نفسه بذلك، لأنكم- وأمّتكم معكم- أحطّ قدرًا في نظره من ذلك، فاذكروا حقوق أمّتكم عليكم في النهايات، إن لم تذكروها في البدايات، واذكروها في النتائج وإن أغفلتموها في المقدّمات، واذكروها عند اقتسام المصالح لعلّها تغفر لكم بعض السيّئات. ... إن دينكم ودين أمّتكم الإسلام، وقد عدَتْ عليه عوادي الاستعمار، فابتلع أوقافه، واحتكر التصرّف في مساجده ورجاله، وتسامح مع الأديان كلها فبت حبلها من حباله إلا مع الإسلام، وقد طالبت الأمّة بفصل دينها عن الحكومة كما انفصلت الأديان، وبتسليم مساجدها وأوقافها إلى يدها لأنها أحقّ بتسييرها والتصرف فيها، ولأن الإسلام نفسه يوجب عليها ذلك، كما طالبت بفصل القضاء الإسلامي- وهو جزء من دينها- عن القضاء الفرنسي، لأنه لا يتحاكم إليه إلا المسلمون فيما هو من خصائصهم، كما طالبت بحريّة الحج لأنه ركن من أركان دينها لا تتمكّن من إقامته على وجهه إلا إذا كان مطلقًا من القيود. طالبت الأمّة بهذا الأصل الذي هو "الفصل" وبجميع فروعه المذكورة، وألحّت في الطلب، واختارت المناسبات، واستعملت الوسائل، فما كانت تلقى إلا الآذان الصمّاء، والوعود الجوفاء، إلى أن فرض عليها "دستور الجزائر"، فجاء بمادة صريحة في فصل الإسلام عن الحكومة الجزائرية، وكان النص على ذلك صريحًا لا يقبل التأويل، ووكل تنفيذ ذلك إلى المجلس الجزائري، ونحن نعلم أن هذه القضية ستعرض على المجلس، وأنه صاحب الاختصاص فيها، والمسؤولية عنها، وأن الحكومة ستريدكم على إبقاء ما كان على ما كان،

أو تعرض عليكم حلولًا لا تحقق رغائبَ الأمّة، أو برنامجًا من سلالة الدستور، فيه من مشابهه النقص والتشويه، فماذا أنتم صانعون؟ إن المسألة مسألة دين وأمّة، وإن الأمّة بالمرصاد، وإن جميل الحكومة معكم لا يكون ثمنه مقتطعًا من حساب القضية الدينية. وإن لغتكم العربية مصفدةٌ بالسلاسل والأغلال من القوانين والقرارات، وإن مدارسها- على ضعفها وقلّتها- معرّضة للإغلاق. وإذا كانت اللغة سائرةً إلى المحو والاندثار بسبب هذه التضييقات فإن النتيجة الحتمية لذلك هي محو الدين واندثاره لأنها الوسيلة الوحيدة التي يتوتف عليها حفظه وبقاؤه. أتدرون لماذا أوقف البرلمان الفرنسي تنفيذَ قانون الفصل عليكم، مع أنه لو تولّى تنفيذه لأراح واستراح؟ إنها لعبة شيطانية بكم من دهاة الاستعمار، إنها توريط لكم، إنهم يريدون أن يحرّكوا النار بأيديكم، إنهم كانوا على اتصال بالحكومة الجزائرية، وكانوا على ثقة من أن المجلس الجزائري سيتمّ كما يريدون- وقد تمّ كما أرادوا- وأنهم لا ينتخبون له إلا كل سامع مطيع، وأن الحكومة الجزائرية ستوحي إليهم بأن لا يرضوا بفصل الدين عنها فتكون النتيجة التي تذيعها فرنسا في العالم أن المسلمين هم الذين لم يرضَوا بانفصال دينهم عنها، فتفوز مرّتين، ويخسر المسلمون شيئين: الدين والسمعة. إن هذه المكيدة ستلصق بكم سبة الدهر وستجعلكم أشأمَ على جنسكم ودينكم من عاقر الناقة. ... إن أقوامًا قبلكم وصلوا إلى ما وصلتم إليه، وارتقوا على اكتاف الأمّة إلى كراسي النيابة ولكنهم خانوا العهد وأضاعوا الحقوق، فسجّل عليهم التاريخ خزي الأبد وكلة المقت، فحذار حذار أن تكونوا مثلهم. وفي الماضي لمن بقي اعتبار، وإن أيام النيابة معدودة فاعمروها بالصالح الباقي.

كلمتنا عن الأئمة

كلمتنا عن الأئمة * كتبنا في العدد 139 من «البصائر» كلمةً عن الأئمة الحكوميين، وبينا حكم الله- المبني على حكمته- فيهم، ثم شرحنا تلك الكلمة بكلمة ثانية في العدد 140، ثم وضّحناها بكلمة ثالثة في العدد 142، ثم سمعنا هيعةَ المغرب الأقصى فطرنا إليها خفافًا، ووافيناها مع الصبح سراعًا، وشغلنا عن واجب مهم بواجب أهمّ، ووصلنا جهادًا بجهاد، من غير أن نخرج عن دائرة الدفاع عن الدين، ومن غير أن نخسر واحدة من الحسنيين، وإذا كانت «البصائر» قد لقيتْ مصرعها في المغرب فتلك غاية الجهاد، وتلك عاقبة كنا نقدّرها، ولا نحذرها؛ وحسب هذا القلم شرفًا أن يطولَ بالحق قصرُه، وأن تحشرَ مع سيوف الفتح كِسَره، ولا نامت أعينُ الجبناء. وها نحن أولاء نعود إلى الميدان الأول أوفرَ ما نكون نشاطًا، وأكثر ما نكون اغتباطًا، فقد كانت هذه الفترة كافيةً لاختمار تلك الكلمات عن الإمامة في الأذهان، ولتعرف المدى الذي وصلتْ إليه هذه الأمّة من تفهّم الحقائق الدينية العليا، فطالما شغلتهم الظواهر عن تلك الحقائق، وطالما ألهتهم القشور عن اللباب، وطالما غرّهم بالله ودينه الغرور، وطالما دسّ لهم الاستعمار السم في الدسم. وانتهى إلينا من تسقط الأخبار، وقصّ الآثار، أن الأمّة كانت بعد تلك الكلمات أزواجًا ثلاثة: فأما الذين استنارت بصائرهم، وآمنوا بأن الدين لله، وأن بيوته لا يعمرها إلا من خشي الله، وأن تراث الإسلام لا يرثه إلا المسلمون فزادتهم تلك الكلمات إيمانًا بذلك واستبصارًا فيه وثباتًا عليه؛ وأما العوام المغرورون بالمداورة، والأتباع المجرورون بالمجاورة، فقد نقلهم صدى تلك الكلمات من رتبة اليقين بصحة الباطل، إلى رتبة

_ * نُشرت في العدد 153 من جريدة «البصائر»، 30 أفريل سنة 1951.

الشك فيه، فهم يتساءلون، ثم تغلبهم العادة فيتساهلون، وأما الذين في قلوبهم مرض من الأئمة وأتباعهم، والمتشوفين إلى الوظائف من أشياعهم، فزادتهم مرضًا إلى مرضهم، وأصبحوا يخطبون بسبنا، والعاقل فيهم من يعرّض بذلك ولا يصرّح، وفزعوا إلى الفقه اللفظي، يقلّبون أوراقه ويستنجدونه ويستذرون منه بالكنف الذي لا يحمي، كأننا حين كتبنا تلك الكلمات كنا نجهل كلام الفقهاء في صفات الإمام وشرائط الإمامة وجوبًا وكمالًا، وكأننا كنّا غافلين عن أئمة صقلية والأندلس في فورات التغلّب، أو جاهلين بمعنى العبارة التي يردّدها المؤرّخون وهي "أن العدو أبقى لهم دينهم"، فإن معناها أنه أبقى لجماعة المسلمين التصرّف التام في دينهم، ومنه تولية الأئمة، وكأننا كنا بمنزلتهم في الجهل بأن الفقهاء إنما يذكرون الشروط الجزئية (الشخصية) وأما الكليات فتفهم من فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمله، ومن مقاصد الشريعة العامة، ومن الحكم المنطوية في تلك المقاصد، ومن تلك الكليات أن الإسلام شرطٌ أولي في المولي (بالكسر) وفي المولّى (بالفتح) وأن الأول يكون أعلى قدرًا وأرفع منزلة في الإسلام من الثاني، ذلك أن المولّي للإمام هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نائبه وهو الخليفة، أو نائب الخليفة وهو الأمير، أو نائب الأمير، وهم جماعة المسلمين مجتمعين، وهؤلاء كلهم أعلى منزلة في الإسلام من الإمام، وما كانوا كذلك إلا بحكم الإسلام، فهل هؤلاء الأئمة مع من ولّاهم بهذه المنزلة؟ وهل يرضى منهم الإسلام أن يكونوا بهذه المنزلة؟ إن الإسلام لا يرضى للإمام الذي نصبه "شفيعًا" للمصلّين أن ينقلب فيصبح "متشفّعًا" لنيل الإمامة بمن لا يدين بالإسلام، بل بمن يهين الإسلام. على أن الشرائط التي يذكرها الفقهاء في الإمامِ كلها حجة على هؤلاء الأئمة بألفاظها ومعانيها وحقائقها ومراميها، وكلّها عناوين على معادن من قوّة النفس والروح والعقل، ورموز إلى مراتبَ عليا مما يتفاوت فيه الناس حتى تصحّ إمامة واحد منهم، ولا تصحّ إمامة الآخر. فهم يشترطون الإسلام، وهم يعنون به نوعًا يناسب هذه المرتبة الشريفة، وهو بالضرورة أعلى مما يشترط في الشاهد أو المذكي أو راعي الغنم، وهم يشترطون الذكورة، وهم يعنون بها الرجولة، ومغزاها في لغة الدين وفي لغة التخاطب مغزًى بعيد، يرجع إلى كمال الإنسانية، وهم يشترطون الفحولة، وهي تكميل لصفة الرجولة وقوّة لها، وهم يشترطون الحرية، ومعناها الجامع يتألّف من مجموعة فضائل، من استقلال الفهم واستقلال العلم واستقلال الفكر واستقلال الإرادة، والخلو من أنواع الاسترقاق كلها، وإن منها لما هو شرّ من استرقاق البدن بدركات، وحسبك باسترقاق الروح نقصًا، وحسبك به قادحًا في الإيمان فضلًا عن الإمامة.

فهل توفّرتْ هذه الشروط الفقهية في هؤلاء الأئمة حتى تكون إمامتهم صحيحة؟ أم هم يحسبون أن دين الله ألفاظ مما يتعايش به الناس في البيع والشراء، أو مما يتحاسبون به من الأعداد المسرودة، تعد عشرةً فإذا هي عشرة؟ إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين؛ وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به؛ وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذ الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثر العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يبنى على الفاسد فهو فاسد. إن الإسلام إنما شرع العبادات لتكون شواهدَ وبيّنات على العقائد الإيمانية، ثم جعل المسجد بيته ليكون مظهرًا لتلك الشهادة، فكل ما يقع فيه من صلاة واجتماع لها، ومجالس مدارسة وخطب، فهو إعلان لتلك الشهادة، وكل ما يتصل به من محراب ومنبر ومئذنة وإمام فهو مؤدّ لتلك الشهادة، فيجب أن تتظاهر هذه الأشياء كلها على الحق، وأن يكون بناؤها على أساس الحق، حتى تكون شهادتها حقًّا على عقائد الحق. وإن كل ما يؤدّيه المسجد- في حكمته الإسلامية- هو إقامة لدولة القرآن، وتشييد لمدرسة القرآن، ورفع لمنارة القرآن، وكل مختلف إلى المسجد مقيم لحقّه وحق الله فيه، فهو "خرّيج" مدرسة القرآن، و"خرّيجو" هذه المدرسة هم الذين قوّموا عوج الكون، وعدلوا ميل الزمان، وكانوا في هذه الدنيا نورًا ورحمة. وإن المسجد لا يؤدّي وظيفته، ولا يكون مدرسةً للقرآن، إلا إذا شاده أهل القرآن، وعمروه على مناهج القرآن، وذادوا عنه كل عادية، وما جعل القرآن المساجد لله إلا لتكون منبعًا لهدايته، وما وصف الذين يعمرون مساجد الله بأنهم لا يخشون إلا الله، إلا ليقيم الحجة على ضعفاء الإيمان ويعزلهم عن هذه المرتبة. وصدق الله، وصدق رسوله الذي وصف القرآن بأنه "لا تنقضي عجائبه". فوالله لكأنَّ هذه الجملة: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} من هذه الآية، بهذا الأسلوب، المفيد للحصر بأبلغ صيغه، نزلت اليوم، وهّاجةً بأنوار الرسالة، مطلولةً بأنداء الوحي، لتكون حجّتنا القاطعة على هذا النمط من عمار المساجد، الذين يخشوْن المخلوق، ولا يخشوْن الله، ولو كانت شرائط الإمامة- حتى التي يذكرها الفقهاء- متوفرةً فيهم، لما أسخطوا الله بإرضاء الاستعمار ... وليكذبونا بموقف واحد أرضَوا به ربهم، وأسخطوا الحكومة ... إنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، ما دام أمر توليتهم في يديها.

إن هذه الظواهر الغرّارة التي أبقاها الاستعمار من الأسماء والصفات والهيئات، لا تحجب عنا الحقيقة، ولا تسكتنا عن كلمة الحق فيها، وهي أن تولية حكومة غير مسلمة لأئمة المسلمين، إفسادٌ للدين، وإبطالٌ للعبادات، لأنها نسخٌ لأحكام القرآن، وتعطيل لحكمته، وإطفاءٌ لروحانية الإسلام في نفوس طائفة أخذ عليها العهد أن تنشرَ هدايته، وتنطق باسمه، وتتقدّم الصفوف للدفاع عنه، وإن الرضى بهذه الحالة إقرار للإفساد، وإعانة عليه. إن للاستعمار في إفساد العقائد والأديان طريقةً هو فيها نسيج وحده. يعمد إلى الأسماء فيبقيها ويثبتها، وإلى الظواهر فيسبغ عليها ألوانًا تجعلها قائمة الذات في رأي العين، جميلة الوضع في حكم الذوق، محتفظة بالمقوّمات السطحية في لمس اليد، ثم يعمد إلى الحقائق والمعاني بوسائل المنوّم والساحر فيمسخها ويغيّرها ... هل رأيت الجوزة المؤوفة (1)؟ ... إن رأيتها رأيت ظاهرًا جميلًا، وقشرةً صلبة، ثم تكسرُها فتجد نخالة مما أسأر الدود، أو سوادًا مما فعل الماء المتسرّب، وهي- مع ذلك- جوزة تشترى، ويُدفع فيها الثمن، وتُقدّم تكرمةً للضيف ... وذلك شأن الاستعمار في رجال الدين منا ... أيها القوم، لسنا لكم خصومًا، وإنما نحن نصحاء، ولا خصم لنا في القضية إلا الاستعمار. إننا نريد تحريركم، وتصحيحَ بنائكم، وإرجاعكم إلى الله، وتقويةَ صلتكم بالأمّة التي تصلّي وراءكم، حتى تكونوا شفعاءها إلى الله، وإن نزاعنا مع الاستعمار في ميدان من صميم الدين، فلا تقفوا في طريقنا، ولا تكونوا عونا له علينا، وإننا لا نسكت حتى نؤدّيَ حق الله فيه، وفيكم إن أبيتم إلا ذلك ... أنصفونا ولو مرّة واحدة، أيكون شفيعًا للمسلمين عند ربّهم من يصلّي (للبايليك) (2) ويقرأ الحزب (للبايليك) ويتردّد على أبواب الحكام ... لغير حاجة؟ ...

وشهد شاهد

وشهد شاهد * شهادة الشيخ بيرك على "رجال الدين" ــــــــــــــــــــــــــــــ في أيام الحملة الكبرى على الحكومة، وكتابة تلك السلسلة الوثيقة الحلقات من المقالات، في قضية فصل الحكومة عن الدين، ظهر "رجال الدين" بمظهر مناقض للدين، فكشفوا الستر عن حقيقتهم المستورة، ووقفوا في صف الحكومة مؤيّدين لها، خاذلين لدينهم وللمدافعين عن حرّيته، مطالبين بتأبيد استعباده، عاملين بكل جهدهم على بقائه بيد حكومة مسيحية تخرّبه بأيديهم، وتشوّه حقائقه بألسنتهم، وتلوّثُ محاريبه ومنابره بضلالتهم ... وتمسخ أحكامه بفتاويهم، وقد أخذوا في الزمن الأخير ببعض مظاهر العصر، وتسلّحوا ببعض أسلحته بإملاء من الحكومة للدفاع عن الباطل، فكوّنوا جمعية، وأنشأوا مجلة، وجهّزوا كتيبةً من الكتاب يقودها أعمى، خذلانًا من الله ليشترك عاقلهم وسفيههم في هذه المخزيات، بحكم العضوية في الجمعية، والاشتراك في المجلة، بعد ما كانوا يعملون فرادَى، فيمتاز البريء منهم من المجرم، ولو في دائرته الضيّقة وبين أهله وجيرانه. دافعناهم- عندما ظهروا بذلك المظهر- بالحق فركبوا رؤوسهم، فتسامحنا قليلًا إبقاءً على حرمة المحراب والمنبر التي انتهكوها، فتشدّدوا إبقاءً على "حرمة" الخبزة، فكشفنا عن بعض الحقائق المستورة فلجّوا وحاصُوا، وثاروا وخاروا، فلما عتوا عن أمر ربّهم رميناهم بالآبدَة ... وهي أن الصلاة خلفهم باطلة ... لأن إمامتهم باطلة ... لأنهم جواسيس ... ...

_ * نشرت في العدد 177 من جريدة «البصائر»، 17 ديسمبر سنة 1951.

فعل ذلك الحكم الصادر فعله في نفوس القوم، وكان وقعه فيها أليمًا، وهم أول من يعلم أنه حق، ولكنهم كانوا يسترونه بظواهرَ كاذبة، معتزّين بقوّة الحكومة مغترّين بغفلة الجمهور الذي يغشى المساجد، آمنين أن تقال فيهم كلمة الحق الفاصلة. وكان تأثير ذلك الحكم في طبقات الأمّة بحسب درجاتها في الفهم ذكاءً وغباءً، وبحسب حالاتها في الحكم على الأشياء صراحةً ونفاقًا، وعلى قدر تأثّرها بالدين احتياطًا وتساهلًا، فأما الأذكياء الصرحاء المحتاطون فأقلعوا عن ائتمام يقودهم إلى غضب الله، واستشفاع يجرّهم مع الشفعاء إلى الدرك الأسفل، وأما غيرهم فقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمّة، ووجدناهم يأتمون بهذا الصنف من الأئمة، وأما بعض القَعَدة من الفقهاء الذين لا ينصرون حقًّا، ولا يخذلون باطلًا فلبسوا لبوس القاضي أبي الحسن النباهي الأندلسي في موقفه من لسان الدين ابن الخطيب حين ألّف كتابه في ذم الوثيقة والموثقين ... فتناجَوا بالإنكار علينا، ودافعوا عن هذه الطائفة بما هو أنكى فيها، وأشنع من السب الصريح، وهو "إبقاء الستر مسدولًا على الختر" وهم يعلمون أنه لا تستر إلا العورات، فالقوم- في نظر أنصارهم من الفقهاء- عورات يجب أن تستر، وهكذا تكون النصرة، وهكذا يكون الدفاع. وما كانت تلك الآبدة التي رميناهم بها من آثار لجاج الجدل المحتدم، ولا كانت سلاحًا مدخرًا لآخر المعركة، ولا كانت منا خطرةً عارضة، ولكننا كنا فيها على يقين من أمرنا، وعلى بيّنة من ربنا، وعلى علم ضروري بما يجري من الفضائح التي رتّبنا عليها ذلك الحكم، فالوظيفة الدينية الإسلامية أصبحتْ عند الحكومة- بتهافت هؤلاء القوم عليها- مشروطةً بالجوسسة، والقوم أصبحوا بها جواسيس على الأمّة على حساب دينها، إلا القليل، ولا حكم للقليل. ونحن لم نستثن هذا القليل من ذلك الحكم، لأنه إذا حافظ على شرف نفسه في نظرنا ونظر الناس، وعُرف بتوفر شروط الكمال عندنا وعند الناس، فبماذا يتحصن أمام الحاكم حين يريده على شيء مما ينافي الشرف، ما دام عزله وولايته بيده؟ إن كلامنا على عمومه، في الوظيفة على عمومها، لا في الموظف، وما دامت الجوسسة في حكم الحاكم من لوازم هذه الوظيفة، وفي ترجيح طالب على طالب، فلا معنى للاستثناء، ولا قيمة عند الله لاستقامة لم تربأ بصاحبها عن طلب وظيفة دينية من حكومة معتدية على دينه. كلامنا في أصل القضية، وهو غير قابل للاستثناء، ولا كلام لنا في الفضل والعلم والاستقامة، فنحن أعرفُ الناس بأهلها، وبحظوظهم من العلم أو الفضْل، ولكنهم مغمورون بهذه الطائفة كلها، فليقصر اللائمون لنا على التعميم، وليعرفوا هذه الحقيقة، ولينصفوا الدين قبل الأشخاص إن كانوا مؤمنين، ونحن نرى أن هذه القلّة المحتمية بالفضل غير محمية من غضب الحاكم عليها، واحتقاره لها، ومن إهماله إياها في الاعتبار والمنزلة.

ولحا الله هذه الوظائف، فكم كانت سببًا في إفساد الدين، وفي تخريب الدنيا، وكم جرّ التكالب عليها إلى تفريق شمل، وتمزيق وحدة، وإذا كان هذا في الوظائف الدنيوية سيئًا، فهو في الوظائف الدينية أسوأ، وإن البلاء المنصبّ على جامع الزيتونة لآتٍ- في معظمه- من هذا الوادي. ... وما زلنا نشهد من صنع الله في نصر الحق أنه يأتي ببيّناته وحججه من حيث لا يحتسب أهله، وينتزع الشهادة له من أعدائه من حيث لا يشعرون، كما ينزل النصرَ على عباده المؤمنين بعد أن يستيئسوا؛ فقد عثرنا في الأسابيع الأخيرة على مقال للشيخ "بيرك" مدير الشؤون الأهلية بالولاية العامة بالجزائر أثناء الحرب الأخيرة، نشرته مجلة "البحر المتوسط" الفرنسية التي تصدر بالجزائر في جزئها الحادي عشر، الصادر عن شهري جويليه- أوت من سنة 1951 شهد فيه كاتبه المتخصص في شؤون هذه الطائفة بحقيقتها، ووصفها بصفات أهونها هذه الصفة، وهي الجوسسة، التي كنا نستحي من وصفهم بها لو لم يحرجونا. والشيخ "بيرك " رجل إداري، شابَ قرْناه في الوظائف الإدارية الخاصة بالمسلمين، وكانت خاتمة تلك الوظائف إدارة الشؤون الأهلية المعروفة في تاريخ الاستعمار بأقطابها: لوسياني، وميرانت، وميو، وبيرك، وما منهم إلّا له فيها مقام معلوم وتصرف مذموم، وله من تمكين أوضاعها جزء مقسوم ... وهذه الإدارة هي مرجع رجال الدين في التوْلية والعزل، والتيسير والتوجيه، ومنها يتنزّل الرضى والسخط عليهم، فالشيخ "بيرك" كان رئيس القوم وموجّههم ومربّيهم ومكمّلَ ما كان ناقصًا فيهم من رسوم الخضوع والامتثال المطلق، وقد لابسهم ولابسوه، وعرف مداخلهم ومخارجهم، وأكمل تربيتهم و"تسليكهم"؛ فإذا شهد عليهم بشيء فهي شهادة عيان، وإذا وصفهم بنقيصة فهي من صنع يده فيهم. عنوانُ هذه القطعة التي قرأناها من كلامه، واقتطفنا منها هذه الشهادة "العلماء والمرابطون" (1) وقد كتبها سنة 1946، فهو قد كتبها في أخريات أيامه، وضمّنها شيئًا من

_ 1) هذه الكلمة شائعة في المغرب العربي وقصرها في الجزائر، وأصلها منحدر من مرابطة الثغور يوم كان لهم شأن في سداد الثغور التي يطرق منها العدوّ، وكانوا لا يرجعون إلى حكومة ولا نظام، وإنما كانوا يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ثم انتقل هذا الاسم إلى العباد المنقطعين لعبادة الله في الجبال والمغاور، وفي هذه الأزمنة المتأخرة أجمعت العامة على أن تطلق هذا الوصف على كل درويش وكل دجّال وكل مشعوذ بالنسب أو بالدين، ولا يطلقها العوام على العلماء، ولما قامت جمعية العلماء استنجد بهم الاستعمار لحرب الجمعية ولكن الله خذلهم جميعًا.

تاريخ حركتنا، وآراءه، فينا وفي غيرنا، فجاءت هذه الشهادة التي نقلناها من كلمته وكأنها وصية محتضر، يعترف بالخطأ، وينعى على حكومته سوءَ تصرّفها، ويُنذرها عواقب هذا التصرف، ويقول كلمة الحق في هذه الطائفة، وكأنه يقول كلمة الحق في نفسه ... لا يهمّنا ما قاله عنا وعن حركتنا، ولا تهمّنا أغلاطه العلمية في أطوارها التاريخية، ولا تهافُت استنتاجه في القضايا الإسلامية، ولا جعله للجزئيات كليات، شأن الكتّاب الغربيين حين يكتبون عنا، وإنما يهمّنا من "مقاله" رأيه في أصحابه وصنائعه رجال الدين، الذين ذمّهم بما كان يمدحهم عليه، ووضعهم في مرتبة دنية، بالأعمال التي كان يرشّحهم بها للمقامات العلية. قال ما ترجمته الحرفية: "إن خطأنا الفاحش في سياستنا الدينية منذ عشرين سنة، هو أننا تساهلنا في وجود موظفين دينيين في المساجد، يسيطر عليهم الجهل المركّب والطمع وعدم التهذيب، ولا حدّ لرغباتهم في أن يُحمدوا بما لم يفعلوا. فعدم الكفاءة، والمبالغة في الخضوع والانقياد، هي الشهادات الوحيدة التي يمكن لهم أن يعتزّوا بها. لقد رأينا مفتيًا يستفتي الطيب العقبي في موضوع صبياني، حكم فيه علماء الدين أكثرَ من مائة مرّة، لكن هذا المفتي كان جاسوسًا مخبرًا للبوليس، كما سمعنا أحد الموظفين الدينيين في مؤتمر عام يظهر فكرًا من الأفكار البالية التي يمجّها الذوق، حتى انفجر زملاؤه التونسيون والمغاربة ضحكًا لم يستطيعوا له دفعًا، لكن هذا الموظف الديني ممن لا يكادون يفارقون مكاتب البوليس، ورأينا أحد الحزابين لم تمكّنه معلوماته القرآنية التافهة من اتقاء أغلاط في الحفظ والتجويد لا تصدُر عن أقلّ المسلمين علمًا، لكن هذا الحزاب كان عونًا مأجورًا للانتخابات. وهكذا ظهرَ في "الإسلام الجزائري" مراؤون لا همّ لهم سوى الامتثال إلى الظاهر من الأوامر، وزنادقة (يدافعون عما احتكروه من امتيازات)، ولا يقيمون لكبريات المشاكل وزْنًا، فأغلبيتهم مارقون من الدين جهلًا أو قلة إدراك. وهكذا شاركنا في انحطاط "هيئتنا الدينية الإسلامية" معجّلين بإذلالها ... هذا هو الخطأ الكبير، والذنب الذي لا يغتفر، وإنا لنؤدّي اليوم ثمنه غاليًا". (مقتطف من مجلة "البحر المتوسط"، جزء11، جويليه - أوت 1951). هذه شهادة الرجل في أصحابه، ولا يستطيع أحدٌ تجريحها، لأنها شهادة صاحب في أصحابه، في شيء من صميم الصحبة الجامعة بينهم، ومن صلب الموضوع الذي كانوا مصطحبين عليه، ويا ليته زاد في التمثيل للوقائع الشخصية سرقة أكفان الموتى يوم كانت

الأكفان "مقسطة"، فقد سرق إمام قماش الأكفان، فلما تحقّقت التهمة رفعته الحكومة من منصب إمام إلى منصب مفتٍ ... ... نعجب- أولًا- لاختيار القائمين على المجلة نشر هذا المقال في هذا الوقت، وفيه هذه الشهادة الصريحة، ونعجب- ثانيًا- كيف لم ينشره الكاتب في حياته؟ وكيف لم يسعَ في إصلاح هذه الحالة التي صوّرها، يوم كان يملك الإصلاح؟ وكيف لم يغيّر هذا المنكر حين كان قادرًا على تغييره بعد ما عرف الخطأ وغلاءَ ثمنه؟ ... ولقد عرفْنا هذا الرجل ولقيناه وفاوضناه مفاوضات رسميةً- بحكم منصبه- في قضية فصل الدين، وفي حرية التعليم العربي، فلم نر منه إلا مدافعًا عن الاستعمار وأوضاعه، ولم نجد منه تساهلًا في القضيتين، ولا اعترافًا بحقنا فيهما، وإن كان يحسنُ الإصغاء لكلامنا، ويُظهر التسليم لحججنا. إننا نرسل إليه- وهو في العالم الآخر- شكرنا، لا على هذه الفضيحة التي نخجل منها قبل أن يخجل هؤلاء القوم الذين صلبتْ على عضّ الهوان جلودهم، وإنما نشكره على أن وضع في أيدينا الحجة القاطعة على ما نتهم به هذه الحكومة- صراحةً- من أنها عاملة على إفساد الإسلام بإفساد رجاله ... وكفى بكلام هذا الرجل دليلًا لنا، وحجّة عليها. وإن في الجمل التي نقلناها من مقاله كلمتين، كل واحدة منهما حجة لنا في جميع ما كتبناه، وأدرنا عليه كلامنا في الحكومة وفي هذا الموضوع، الأولى تصريحه بالإسلام الجزائري: L'Islam algérien، والثانية نسبته الهيئة الدينية الإسلامية إليه وإلى حكومته، في قوله: Notre clergé musulman ومن قرأ مقالاتنا في الموضوع، عرف موقع هاتين الكلمتين، وأثرهما البليغ في تصديق اتهاماتنا للحكومة، وأننا لم نكن متجنّين ولا مبالغين. ... والآن أوجه الخطاب إلى المشهود عليهم، وكأنه ليس في الميدان إلا أنا وهم، فأقول: أيها السادة: لقد أقمتم عليّ القيامة يوم كتبت فيكم ما كتبت، ولم أصفْكم إلا ببعض ما وصفكم به الشيخ "بيرك"، وثارت ثائرتكم عليّ، ورميتموني بالعظائم، وأطلقتم العنان لألسنتكم العيية، وأقلامكم المفلولة، فنضحتْ بسبي، ورشَحت بثلبي، ولم تتركوا سبيلًا للتأليب عليّ والإغراء بي إلا سلكتموه، فأين أنتم اليوم؟ وأين حميتكم في الانتصار للكرامة الشخصية؟ ولا أقول: لكرامة الإسلام، فقد برّأتم أنفسكم منها.

كنت وصفتكم ببعض هذه الصفات تفاريق، وقد جمعها الشيخ "بيرك " ووصفكم بها جملة، وإن التفاريق لأخف وقْعًا من الجملة، وأنا اليوم حي وهو ميت لا ترجون رحمته ولا تخافون بطشه؛ فما لكم لا تثورون عليه بعضَ ثورتكم علي؟ وما لكم لا تحشدون الأنصار للرد عليه ونقض كلامه؟ ... الحجة قائمةٌ عليكم، ولكن أحد مقيميها اسمه "محمد البشير" والآخر اسمه "أوغستان بيرك " وهذا وحده عند الجبناء أمثالكم كاف في ثورتكم عليّ، وسكوتكم عليه. لتعلموا أن قعودكم عن نقض شهادته عليكم، هو آخر الشهادات وأقطعها على أن كل ما قاله فيكم حق وواقع، وأنكم جواسيس ... وأن الصلاة خلفكم باطلة ...

حرية التعليم العربي وحرية الصحافة العربية

جمعية العلماء وحرية التعليم العربي وحرية الصحافة العربية ورفع القيود والقرارات الموضوعة للتضييق عن التعليم العربي ــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى أبنائي الطلبة

إلى أبنائي الطلبة المهاجرين في سبيل العلم * ــــــــــــــــــــــــــــــ أوجه النداء إلى جميع أبنائنا المهاجرين إلى الشرق العربي، أو إلى أطراف المغرب العربي، أو إلى أوربا، ثم أخصّص المهاجرين إلى تونس لأنهم كثرة، ولأن في أحوالهم لغيرهم عبرة. إنكم يا أبناءَنا مناطُ آمالنا، ومستوح أمانينا، نعدكم لحمل الأمانة وهي ثقيلة، ولاستحقاق الإرث، وهو ذو تبعات وذو تكاليف، وننتظرُ منكم ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصبح. وإنكم يا أبناءَنا فارقتم الأهل، وفيهم الآباء والأمهات، وفارقتم الديارَ التي خلعتم فيها التمائم، وفارقتم الوطن الذي له على كل حرّ كريم دَين! وفاؤه الحب، وكفاؤه النفع والجميل، وما هوّن فراقكم على آبائكم وهوّن فراقهم عليكم إلا الآمالُ اللائحة لكم ولهم في مستقبلكم، ولما تعودون به من علم يصحبه فخر، وحسنُ ذكر، وطيبُ أحدوثة. إن آباءَكم يتخيّلون من وراء هجرتكم ما يعود به المجاهد المقدام من أجر وغنيمة، وما يرجع به التاجر المخاطر من أرباح وطرائف. وإنكم لتتخيلون من وراء هجرتكم- وأنتم في ربيع الحياة- ما يفوق أفوافَ الربيع حُسنًا وجمالًا، ويفوق أزهارَه أريجًا وعطرًا. وإن الوطن- وهو أبو الجميع- يتطلع من وراء هذه الهجرة إلى إحياء وتعمير وإعادة مجد وبناء تاريخ؛ نحن نعلم أن الأب العامي الفقير حين يرضى بفراق ولده، ويزوّده ببعض ما يملك من قوت العيال الصغار طائعًا مختارًا مطمئنًّا، إنما يفعل ذلك اعتقادًا بأن فعله تكفير

_ * نُشرت في العدد 9 من جريدة «البصائر»، 3 أكتوبر سنة 1947.

عن جريمة الجهل، ومحو لوصمة الأميّة، وتنصّل من ضَعة الخمول، وأن الأب العالم الذي يرضى بذلك ويهون عليه، إنما يفعله معتقدًا أن ولده سيكون أعلمَ منه، وأوسع اطلاعًا، وأنفذ بصيرة على نسبة من زمنه، وتطورات زمنه؛ ولا يعتقد غير ذلك منهم إلا مغرور بنفسه، الجاهلُ أحسن إدراكًا للزمن منه؛ وأن الوطن حين يرضى بخلوّه من أبنائه أنهم ما أخلوْه إلا ليعمروه، وما قطعوه إلا ليصلوه، وما فارقوه شبانًا عزلًا إلا ليعودوا إليه كهولًا مسلّحين بقوة التفكير، تظاهرها قوة العلم، تظاهرها قوة العمل. يا أبنائي، إذا عرفتم هذا، وعرفتم واجبَ أنفسكم التي تحمّلت الأتعاب، وتجرّعت مرارة الاغتراب، وذاقت طعم الحاجة والشدة، وواجبَ آبائكم الذين غذَوا وربَّوا، وأجابوا داعيَ العلوم فيكم ولبّوا، وواجب الوطن المجدب الذي جعلكم روّاده إلى القطر، وأرسلكم وانتظر، ورجا من إيابكم الحيا والحياة؛ إذا عرفتم ذلك كله، فماذا أعددتم لهذه الواجبات؟ إنكم لا تضطلعون بهذه الواجبات إلا إذا انقطعتم لطلب العلم، وتبتلتم إليه تبتيلًا، وأنفقتم الدقائق والساعات في تحصيله، وعكفتم على أخذه من أفواه الرجال وبطون الكتب، واستثرتم كنوزَه بالبحث والمطالعة، وكثرة المناظرة والمراجعة، ووصلتم في طلبه سوادَ الليل ببياض النهار. إن أسلافكم كانوا يعدّون الرحلة في سبيل العلم من شروط الكمال فيه، بل كانوا، في دولة الرواية، يعدّون الرحلة للقاء الرجال من شروط الوجوب؛ فكانوا يقطعون البراري والصحارى والقفار، ويلقون في سبيله المعاطب والأخطار، وكانوا يجوعون في سبيله ويعرون، ويظمأون ويضحون، لا يتشكّون الفاقة والنصَب، ولا يعدّون الراحة إلا التعب، ولكنهم لا يضيّعون أوقاتهم- إذا وصلوا إلى أمصار العلم ولقوا رجاله- في مثل ما تضيّعون فيه أوقاتكم من إسفاف ولغو، بل كانوا يحاسبون أنفسهم على الدقيقة أن تضيع إلا في استفادة وتحصيل. فتعالوا نقارن سيرتكم بسيرتهم، وتحصيلكم، ثم نتحاسب على النتيجة! كانوا يقيّدون وأنتم لا تقيّدون، وكانوا ينسخون الأصولَ بأيديهم ويضبطونها بالعرض والمقابلة حرفًا حرفًا وكلمة كلمة؛ وأنتم أراحتكم المطابع، ويسّرت لكم الكتب؛ ورُبّ تيسير جلب التعسير؛ فإن هذا التيسير رمى العقول بالكسل، والأيدي بالشلل، حتى لا تجريَ في إصلاح الأغلاط المتفشية في تلك الكتب. وكانوا يرجعون بالرواية الواسعة والمحفوظ الغزير، وينقلون الجديد من العلم، والطريف من الآراء والمفيد من الكتب، من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فانظروا بماذا ترجعون أنتم اليوم؟

وكانوا ينقطعون عن أهليهم وديارهم انقطاعًا متصلًا يدوم سنوات، وأنتم تزورون أهلكم ودياركم في كل موسم، وفي كل عطلة، ويزورونكم، وتخاطبونهم في اليوم الواحد ويخاطبونكم. الحقيقة أننا لا نسمّي رحلتنا اليوم رحلةً إلا بضرب من التوسع، كما نسمّي السفر بالطائرة سفرًا، ونضعه بجنب السفر على الإبل. ... يا أبناءنا، إن الحياة قسمان: حياة علمية، وحياة عملية، وإن الثانية منهما تنبني على الأولى قوّة وضعفًا، وإنتاجًا وعقمًا، وإنكم لا تكونون أقوياء في العمل إلا إذا كنتم أقوياء في العلم، ولا تكونون أقوياء في العلم إلا إذا انقطعتم له، ووقفتم عليه الوقتَ كله، إن العلم لا يعطي القياد إلا لمن مهره السهاد، وصرَف إليه أعنّة الاجتهاد. لا تعتمدوا على حلق الدروس وحدها، واعتمدوا معها على حلق المذاكرة، إن المذاكرة لقاحُ العلم، فاشغلوا أوقاتكم حين تخرجون من الدرس بالمذاكرة في ذلك الدرس، إنكم إن تفعلوا تنفتح لكم أبواب من العلم، وتلحْ لكم آفاق واسعة من الفهم. لا تقنعوا بالكتاب المقرّر، واقرأوا غيره من الكتب السهلة المبسوطة في ذلك العلم، تستحكم الملكة ويتسع الإدراك، وسينتهي الإصلاح الذي تقوم به إدارات جامعاتنا إلى اختيار كتب سهلة ممتعة في كل علم، تفرض عليكم قراءتها ومطالعتها، ثم كتب أخرى، في المعارف العامة، كالتاريخ، والأدب، والحكمة، والأخلاق، والتربية، فوطّنوا أنفسكم على ذلك من الآن، وروّضوها على اختيار النافع المفيد من الكتب؛ ومن العار الفاضح أن لا نرى في الكثير من أبنائنا الذين تخرّجوا من الزيتونة، واتّجهوا بفطرتهم إلى الأدب، من استوعب كتاب الأغاني قراءة، ولا في من اتجهوا إلى علوم الدين من استوعب قراءة الصحيحين والسنن؛ ولعمري ما سلاح الأديب إلا الأغاني وأمثاله، ولا سلاح الفقيه إلا تلك الكتب وأشباهها. لا تقطعوا الفاضل من أوقاتكم في ذرع الأزقة إلا بمقدار ما تستعيدون به النشاط البدني، ولا في الجلوس في المقاهي إلا بقدر ما تدفعون به الملل والركود، ولا في قراءة الجرائد إلا بقدر ما تطلعون به على الحوادث الكبرى، وتصلون به مجاري التاريخ. خذوا من كل ذلك بمقدار، ووفّروا الوقت كله للدرس النافع والمطالعة المثمرة.

لا تعتمدوا على حفظ المتون وحدها، بل احفظوا كل ما يقوّي مادتكم اللغوية، وُيُنمّي ثروتكم الفكرية، ويُغذّي ملكتكم البيانية؛ والقرآن القرآن! تعاهدوه بالحفظ وأحيوه بالتلاوة، وربّوا ألسنتكم على الاستشهاد به في اللغة والقواعد، وعلى الاستشهاد به في الدين والأخلاق، وعلى الاستظهار به في الجدل، وعلى الاعتماد عليه في الاعتبار بسنن الله في الكون. اتركوا المناقشات الحزبية والخلافات السياسية لأهلها، المضطلعين بها، المنقطعين لها، ودعوا كل قافلة تسير في طريقها، وكل حامل لأمانة من أمانات الوطن مضطلعًا بحملها، قائمًا بعهده فيها، حتى تنتهي تلك الأمانات بطبيعتها إلى جيلكم، فتأخذوها بقوة واستحقاق، واعلموا أن كل مَن يدعوكم إلى ذلك إنما يدعوكم ليضلّكم عن سبيل العلم فهو مضلّ، وكل مضلّ مضرّ؛ أو ليتكثر بكم فهو غاشّ، وكل غاشّ ممقوت، أو ليلهيكم بما لا تحسنون عما تحسنون، فهو ماكر، وكل ماكر ممكور به؛ إن من يريد أن يتكثر بكم لا يتكثر إلا ليقللكم، ولا يتقوّى بكم حسًّا إلا على حساب إضعافكم معنى، فالحذر الحذر! فإن الوطن يرجو أن يبني بكم جيلًا قويّ الأسْر، شديد العزائم، سديد الآراء، متين العلم، متماسك الأجزاء، يدفع عنه هذه الفوضى السائدة في الآراء، وهذا الفتور البادي على الأعمال، وهذا الخمول المخيّم على الأفكار، وهذا الاضطراب المستحكم في الحياة، وهذا الخلاف المستمر على السفاسف، فإذا جاريتم هذه الأهواء المتباينة، واستجبتم لهذه الأصوات المتنافرة، ضيّعتم على الوطن جيلًا، وزدتم في بلائه ومحنته، وأطلتم مدة المرض بتأخير العلاج. لا يعذلكم في حب وطنكم إلا ظالم، ولا يصرفكم عن إتقان وسائل النفع له إلا أظلم منه، أنتم اليوم جنود العلم فاستعدّوا لتكونوا غدًا جنود العمل. إن وطنكم مفتقر إلى جيل قويّ البدن، قويّ الروح، مستكمل الأدوات من فضائل وعزائم، وإن هذا الجيل لمنتظرٌ تكوينه منكم، ومحال أن تخرج الحالة التي أنتم عليها جيلًا بهذه الصفات. إننا نعلم أنكم تنطوون في أيام الطلب على خيالات وأماني من الراحة ورُفهنية العيش، وعلى آمال فسيحة في المستقبل، يوم تنتقلون إلى العمل، وتنتقلون إلى أهليكم تحملون الشهادات والألقاب. وإن هذا هو منشأ القلق والاضطراب في نفوس الكثيرين من إخوانكم الذين يزاولون التعليم الآن. فادفعوا عنكم هذه الخيالات، ووطنوا النفوس على أنكم تلقوْن من البلاء والمجهدة في الحياة العملية أضعاف ما تلقون منهما في الحياة العلمية.

لا أقول لكم هذا تهويلًا، ولكن أقوله ترويضًا، ومن وطّن نفسه على المكروه هانت عليه الشدائد، ووجد كل شيء ضاحكًا باسمًا جميلًا محبولًا. ومن تخيّل الراحة وحكم أخيلتها في نفسه، ثم كذبته الآمال كان بين عذابين، أمضّهما كذب المخيلة. يا أبنائي! إن الزمن قد وضعكم وضعًا صيّركم جديرين بأن تطلبوا العلم لوجه الله، ولوجه العلم، لا للوظائف ولا للشهادات. تطلبون الوظائف في تونس، فيحول بينكم وبينها نظام الاحتكار، وتطلبونها في الجزائر فتمنعكم منها سياسة الاستعمار! وربّ ضارّة نافعة! إذا كانت السياسة الاستعمارية تجعل منكم جزائريين في تونس، ثم تجعل منكم تونسيين في الجزائر، فاطغوا عليها بقوة الإرادة، وبقوة العلم، وبقوة الشباب؛ وكونوا وسطًا عامرًا لا تظهر فيه الجزائرية ولا التونسية، ولا تفترق فيه الأنساب، وإنما تجمعكم فيه العروبة والإسلام، ووطنيتهما العامة؛ وإن هذا الوسط هو الذي يسود في المستقبل القريب، وهو الذي تمحى معه الخطوط الجغرافية، والحدود الوهمية. لا تستشعروا الغربة فأنتم في وطنكم وبين أهليكم، وفي وطنكم الجامع. وإن دم الجيل ومزاجه ليتعاطفان بالإلهام، فاجروا على إلهام الخير مع إخوانكم الشبان تَنْمُ المحبة وتقوَ بواعث الخير. إن في تونس تيارات مختلفة اقتضتها مقتضيات زمانية ومكانية خاصة، فإياكم أن تنغمسوا فيها، أو تكونوا في جانب دون جانب. وإذا دعاكم منها داع فاعتصموا بالعلم الذي هاجرتم لأجله، وبالمعهد الجليل الذي تذوب بين جدرانه جميع الاعتبارات.

اللغة العربية في الجزائر

اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرّة، ليس لها ضرّة * ــــــــــــــــــــــــــــــ اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبةً ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي لأنها دخلتْ هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين ترحلَ برحيلهم وتقيم بإقامتهم. فلما أقام الإسلامُ بهذا الشمال الأفريقي إقامةَ الأبد وضربَ بجرانه فيه أقامتْ معه العربية لا تريم ولا تبرَح، ما دام الإسلام مقيمًا لا يتزحزح، ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتنساب بين الشفاه والأفواه. يريدها طيبًا وعذوبة أن القرآن بها يُتلى، وأن الصلوات بها تبدأ وتُختم، فما مضى عليها جيل أو جيلان حتى اتسعتْ دائرتها، وخالطت الحواس والشواعر، وجاوزت الإبانة عن الدين إلى الإبانة عن الدنيا، فأصبحت لغة دين ودنيا معًا، وجاء دور القلم والتدوين فدوّنت بها علوم الإسلام وآدابه وفلسفته وروحانيته، وعرف البربر على طريقها ما لم يكونوا يعرفون، وسعتْ إليها حكمة يونان، تستجديها البيان، وتستعديها على الزمان، فأجدت وأعْدت. وطار إلى البربر منها قبس لم تكن لتطيره لغة الرومان، وزاحمت البربرية على ألسنة البربر فغلبتْ وبزت، وسلّطت سحرها على النفوس البربرية فأحالتها عربية، كل ذلك باختيار لا أثر فيه للجبر، واقتناع لا يد فيه للقهر، وديمقراطية لا شبح فيها للاستعمار. وكذَب وفجَر كل من يسمّي الفتح الإسلامي استعمارًا. وإنما هو راحة من الهم الناصب، ورحمة من العذاب الواصب، وإنصاف للبربر من الجوْر الروماني البغيض. من قال إن البربر دخلوا في الإسلام طوعًا فقد لزمه القول بأنهم قبلوا العربية عفوًا، لأنهما شيئان متلازمان حقيقة وواقعًا، لا يمكن الفصل بينهما، ومحاول الفصل بينهما كمحاول الفصل بين الفرقدين.

_ * نُشرت في العدد 41 من جريدة «البصائر»، 28 جوان سنة 1948.

ومن شهد أن البربرية ما زالت قائمة الذات في بعض الجهات، فقد شهد للعربية بحسن الجوار، وشهد للإسلام بالعدل والإحسان، إذ لو كان الإسلام دين جبرية وتسلط لمَحا البربرية في بعض قرن فإن تسامح ففي قرن. إذا رضي البربري لنفسه الإسلام طوعًا بلا إكراه، ورضي للسانه العربية عفوًا بلا استكراه، فأضيعُ شيء ما تقول العواذل، واللغة البربرية إذا تنازلت عن موضعها من ألسنة ذويها للعربية لأنها لسان العلم وآلة المصلحة، فإن كل ما يزعمه المبطلون بعد ذلك فضول. إن العربي الفاتح لهذا الوطن جاء بالإسلام ومعه العدل، وجاء بالعربية ومعها العلم، فالعدل هو الذي أخضع البربر للعرب، ولكنه خضوع الأخوة، لا خضوع القوة، وتسليم الاحترام، لا تسليم الاجترام. والعلم هو الذي طوّع البربرية للعربية، ولكنه تطويع البهرج للجيدة، لا طاعة الأمَة للسيدة. لتلك الروحانية في الإسلام، ولذلك الجمال في اللغة العربية، أصبح الإسلام في عهد قريب صبغة الوطن التي لا تنصُل ولا تحول. وأصبحت العربية عقيلةً حرّة، ليس لها بهذا الوطن ضرّة. ... ما هذه النغمة الناشزة التي تصك الأسماعَ حينًا بعد حين، والتي لا تظهر إلا في نوبات من جنون الاستعمار؟ ما هذه النغمة السمجة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر بإذاعة الأغاني القبايلية. وإذاعة الأخبار باللسان القبايلي (1). ثم ارتفعت قبل أسابيع من قاعة المجلس الجزائري بلزوم مترجم للقبايلية في مقابلة مترجم للعربية؟ أكل هذا إنصاف للقبايلية، وإكرام لأهلها، واعتراف بحقها في الحياة، وبأصالتها في الوطن؟ كلا. إنه تدجيل سياسي على طائفة من هذه الأمّة، ومكر استعماري بطائفة أخرى، وتفرقة شنيعة بينهما، وسخرية عميقة بهما. إن هاتين النغمتين وما جرى مجراهما هي حداء الاستعمار بالقوافل السائرة على غير هدى، لتزداد إمعانًا في الفيافي الطامسة، فحذار أن يطرب لها أحد. وإن النغمتين من آلة

_ 1) اللسان القبايلي: نسبة إلى "القبائل"، وهي لهجة بربرية.

واحدة مشوّشة الدساتين، مضطربة الأوتار، ومغزاهما واحد، وهو إسكات نغمة أخرى تنطق بالحق وتقول: إن هذا الوطن عربي، فيجب أن تكون لغته العربية رسمية. فجاءت تلك النغمات الشاذّة ردًّا على هذه النغمة المطردة، ونقضًا لها وتشويشًا عليها، ولتُلقي في الأذهان أن هذا الوطن مجموع أجناس ولغات لا ترجحُ إحداهن على الأخرى، فلا تستحق إحداهن أن تكون رسمية. لا يوجد قبائلي يسكن الحواضر إلا وهو يفهم عن الفرنسية. ولا يوجد في "قبائل" القرى - وهم السواد الأعظم- إلا قليل ممن لا يحسن إلا القبايلية، ولكن ذلك السواد الأعظم لا يملك جهاز راديو واحدًا لأنهم محرومون من النور الكهربائي كما هم محرومون من نور العلم، وكل ذلك من فضل الاستعمار عليهم. فما معنى التدجيل على القبائل بلغتهم؟ ولا يوجد عضو قبايلي في المجلس الجزائريّ إلا وهو يحسن الفرنسية، فما معنى اقتراح مترجم للقبايلية؟ أما نحن فقد فهمنا المعنى. وأما الحقيقة فهي أن الوطن عربي. وأن القبائل مسلمون عرب، كتابهم القرآن يقرأونه بالعربية، ولا يرضَون بدينهم ولا بلغته بديلًا. ولكن الظالمين لا يعقلون.

حقائق

حقائق * أقربُ الأعمال إلى التمام والنفع والإثمار ما بني منها على التجربة الاستقرائية الممحّصة، ومن بنى عمله على غير هذه القاعدة فهو مخادع أو مخدوع، وهذا زمن "اجتماعي" لا يؤمن للفردية بوجود، ولا يخضع لها في حكم، ولا يعوّل عليها في عمل، وقد انتقلت فيه الأعمال العامة من أيدي الأفراد إلى أيدي الجماعات والجمعيات، فازدادت تلك القاعدة تمكنًا وتأكّدًا؛ ووجب على الجماعات العاملة أن تراعيها في أعمالها حتى لا تفشل وتخيب؛ وإن فشل الأفراد أهون وأبعد عن ردّ الفعل من فشل الجماعات. من أراد أن يخدم هذه الأمّ فليقرأها كما يقرأ الكتاب وليدرسها كما يدرس الحقائق العلمية. فإذا استقام له ذلك استقام له العمل، وأمن الخطأ فيه، وضمن النجاح والتمام له؛ فإن تصدّى لأيّ عمل يمسّ الأمّة من غير درس لاتجاهها ولا معرفة بدرجة استعدادها كان حظه الفشل. وأنا رجل ممن هيّأتهم الأقدار لخدمة هذه الأمّة في نواح دقيقة شريفة لا يقبل فيها الزيف، ولا يتسمح فيها مع الباطل؛ من هذه النواحي ما هو أمانة تؤدّى بلا تصرّف، وما علينا إلا أن نقول ونُبلغ، وما على الأمّة إلا أن تسمع وتطيع؛ وهذا هو الدين في سلطانه الأعلى، ومنها ما يقتضي المسايرةَ والمجاراةَ لاستعداد الأمّة، وهذا هو الجانب الاجتماعي، ومنه التعليم. فأزعم أنني جرّبت ودرست، وأنني قرأت هذه الأمّة وفهمتها كما أقرأ الكتاب وأفهمه، وما هذا ببعيد ولا كثير على من خدم أمّةً ولابسها عشرات السنين معلّمًا مدرّسًا واعظًا خطيبًا، محاضرًا ينتزع مواضيعَ محاضراته من وجوه الجمهور قبل أعمالهم؛ وقد خرجتُ من

_ * نُشرت في العدد 47 من جريدة «البصائر»، 30 أوت سنة 1948.

هذه الدراسة الطويلة بنتائج جليلة يجب أن تدوّن وأن تكون دستورًا للعاملين، ولست بصدد تدوينها هنا، وإنما أسجل واحدة هي بسبيل مما نحن فيه؛ وهي أن هذه الأمّة أصبحت كالتاجر الحذر من تقلب الأسواق، لا يصارف إلا يدًا بيد؛ ومرجع ذلك فيها إلى أسباب معقولة، فقد ألحّ عليها الدجّالون باسم الدين قرونًا، وراضوها على أن تعطيَ ولا تأخذ، ولا تسأل لماذا؛ حتى قامت حركة الإصلاح الديني واكتسحت التخريف فحرّرت الأمّة من أولئك الدجّالين؛ ثم ظهر في الميدان دجّالون في صورة أخرى وباسم آخر وهو السياسة؛ والصنفان يلتقيان في نقطة، وهي أن بضاعتهما وعود غرارة، وبروق كاذبة، وخيالات لا حقيقة لها، وأماني لم تسلك لها وسائلها. ومقدّماتٌ لم تربط بها نتائجها؛ لا إصلاح لما فسد من الأخلاق، ولا تقوية لما ارتخى من عرى الأخوّة، ولا بناءٌ لكيان الأمّة بالتربية الصالحة والتعليم النافع؛ ويلتقيان أيضًا في نقطة أخرى وهي محاربة العلم ورجاله، ومقاومة التعليم بجميع أنواعه؛ والباعث للفريقين على هذا واضح، وهو أن العلم نور، وهم يعملون في الظلام، والعلم إيقاظ للأمّة، وهم يريدون بقاءها في النوم لينالوا منها ما يريدون؛ وقد فات كلًّا من الفريقين أن الإلحاح على الفريسة يخلق منها مفترسًا، وأن كثرة الوخز تثير الإحساس الكامن؛ وقد أصبحت هذه الأمّة على كثرة الوخز حسّاسةً مهتاجةً لا تصدّق إلا بالواقع، ولا تؤمن إلا بالمحسوس لما ألحّ عليها التدجيل الذي يعد ولا ينجز، والدجّالون الذين يأخذون ولا يعطون؛ وإن هذا الخلق ليزداد فيها تمكّنًا على الأيام؛ وسينتهي بها إلى أن تصفّي حسابها مع من لم يصفِّ حسابه معها، ولا يغترّ المغترّون بهذه الظواهر الهادئة، فما هي إلا أواخر فورة، وأوائل ثورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.

بوركت يا دار

بوركت يا دار * نصّ القصيدة التي ألقاها الشاعر أحمد سحنون في حفلة افتتاح دار العلماء (المركز العام) ــــــــــــــــــــــــــــــ بوركت يا دارُ، لا حلّتك أكدار … فأنتِ معقل جند العلم يا دار قد كنت حلمًا جميلًا رفّ طائره … بالوهم، حتى اجتلتك اليوم أنظار قد كنت واجبَ شعب هبّ مندفعًا … كالسيل، تحدوه للأوطان أوطار قد كنت حاجةَ نفس للعلا طمحت … فحقّقت حاجة في النفس أقدار قد كنت فكرةَ بناء لأمّته … واليوم أنت بناءٌ ليس ينهار وهكذا العزم لا تثنيه عاديةٌ … عن المضيّ ولا يطفيه إعصار عزمُ "البشير" (1) أحال العجزَ عاصفة … والعزمُ كالسيف للأخطار بتار "جمعيةُ العلماء" اليومَ إن طفرَت … نشوى فكم نالها من قبلُ أكدار قد هزّها من وناها واستقلّ بها … نسرٌ تعوّد خوضَ الجوّ جبّار فاليومَ نستقبل الدنيا بأفئدة … شعّتْ بها من أماني المجد أنوار واليوم نهتف بالبشرى مردّدةً … نشيدَها الحلوَ أرجاءٌ وأقطار واليوم نفرغ للأعمال في ثقة … والكل للكل أعوانٌ وأنصار نمضي لتحقيق غايات مقدّسة … فيها يحاربنا باغ وغدّار سلاحنا الحق، والإيمانُ قائدنا … وجندنا الصبر لا يعروه إدبار "جمعيةُ العلماء" اليوم قد وجدتْ … اداتها، فلتسرْ لم تبقَ أعذار فجرُ الحياة بدا في الأفق مؤتلقًا … تهفو قلوبٌ لمرآه وأبصار يا دارُ فيك جمال الفن قد ظهرت … آياته، كل جزء فيه آثار وشى مبانيك ذوق من بنيك سما … كما توشي حواشي الروض أزهار

_ * نُشرت في العدد 54 من جريدة «البصائر»، 25 أكتوبر سنة 1948. 1) عَزْمُ "البشير": هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي.

يا دارُ يهنيك ما تجنيه من ثمر… فيك البلادُ، وللأعمال أثمار يا دار فيك تعيد الضادُ عزّتها … وكل قلب به للضاد إكبار وفيك يبعثُ ماض طالما حييت … على مآتيه أجيال وأعصار وتستعاد "عكاظ" فيك ثانيةً … بها تدوّي أناشيدٌ وأشعار تفديك دُورٌ لغير الهدم ما بنيت … بل تفتديك من الأسواء أعمار يفديك جيرانُ سوء منك أكمدَهم … جيشٌ عتيدٌ من الأحرار جرّار غصّوا بهم حنقًا عنهم، ولا عجب … ليسوا بأول جيران لنا جاروا يا فتيةَ الضاد حان الوقت فاطرحوا … هذا الونى وانهضوا، فالناس قد طاروا سيروا على نهج آباء لكم سلفوا … فإنهم في طريق المجد قد ساروا شقّوا الزحامَ إلى العلياء واقتحموا … أخطارَها، إنما العلياءُ أخطار اسعوا لتحيوا حياة العز، أو فَرِدُوا … حوضَ الردى، فالردى يُمحى به العار أرواحُ آبائكم في الخلد قد هتفت:… تحرّروا، فجميع الناس أحرار

المعهد الباديسي

المعهد الباديسي * فتح المعهد الباديسي في الشهر الماضي أبوابه، واستقبل بالبِشر والترحيب مدرّسيه وطلّابه، ومدّته شعاب القطر بسيل من التلاميذ ملأ رحابه. تعرف في وجوههم الرغبة في العلم والأمل في تحصيله، وتستبين من صغر الأسنان، وطراوة الأفنان، وتباعد الديار، أن وراءهم نفوسًا من الآباء والأمهات نذرتهم للعلم وقرّبتهم له، وتحملت ألم البعد والغربة، في سبيل هذه القربة. كأن تلامذة السنة الماضية أذّنوا في جهات القطر أذانًا عاليًا، ونادَوا في جنباته نداء متواليًا: حيّ على المعهد، حيّ على خير العمل، فتلاحق المدد، وتضاعف العدد، وكأن فترة الصيف كانت كلها تهيئةً وإعدادًا لم تقرأ إدارة المعهد حسابه، حتى فاض عليها السيل؛ والمتتبع لهذه النهضة العلمية التي هبّت ريحها عاتيةً في القطر الجزائري، يحسن به أن يؤرّخ لأطوارها بهذه الفواصل الزمنية التي يسبقها الفتور، وتصحبها الحرارة، ويعقبها النشاط؛ فالمدارس تتزايد في كل سنة، وتلامذة المعهد يتزايدون في كل سنة. فالنهضة العلمية إلى امتداد، وعمل العاملين لها إلى نجاح إن شاء الله. بدأ المعهد في سنته الأولى على خلاف ما تبدأ به مشاريعنا، قويًّا جيّاشًا بالحركة والنشاط، ولكنه نشاط من جهة واحدة، من المدير والمدرّسين، ولم يبدُ النشاط من الجهة الثانية، جهة التلامذة، إلا في النصف الأخير من السنة الدراسية حين فهموا ما قرأوا، وبدأوا يهضمون ما فهموا، على تفاوت أسنانهم، وحين سيقوا بالحزم والكياسة إلى الانسجام في المظاهر، والاستقامة في الأخلاق، حتى تمّت السنة، وجاء الامتحان بأحسن النتائج التي شهدها كل محتك بالمعهد، متصل بأسبابه. ووفتْ هيئة الإدارة والتدريس بما نذرتْ، ففازت بالريع الزكيّ مما بذَرتْ.

_ * نُشرت في العدد 59 من جريدة «البصائر»، 6 ديسمبر عام 1948.

أما في هذه السنة فقد غمر النشاط المدرّسين والتلامذة، وبدأت الحركة مملوءة بالحياة والنشاط، وسرَت العدوى من القدماء إلى الجدد. وأصبح النشاط والنظام سمةً ثابتة للمعهد، يؤخذ بها كل من اتصل به، وكان الإقبالُ عظيمًا مع تضييق الإدارة في شروط الالتحاق، فتلقّت لجنة القبول ثمانمائة طلب في شهر سبتمبر وحده. وامتازت هذه السنة الثانية بالميزات الآتية: 1 - زيادة عدد المقبولين بضعف ما كانوا في السنة الماضية، إذ بلغ عددهم ستمائة تلميذ. 2 - إنشاء السنة الرابعة التي يحصل التلميذ في نهايتها على الشهادة الأهلية. 3 - زيادة ثلاثة مدرّسين أكفياء، وهم المشايخ عبد القادر الياجوري، وعبد اللطيف القنطري، وعبد الرحمن شيبان. والثلاثة محرزون لشهادة التحصيل من الكلية الزيتونية. وما زال المعهد في حاجة إلى ثلاثة آخرين. 4 - تحسين برنامج الرياضيات وعلوم الحياة بإسناد تعليمها إلى مدرّسين أكفياء مثقفين بالثقافتين. 5 - تحسينات واسعة ذات أثر في النظامين الداخلي والدراسي. 6 - تشديد المراقبة على التلاميذ في الناحية الأخلاقية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن التربية الفاضلة هي الغرّة اللائحة في جبين المعهد الباديسي، وهي الميزة التي يمتاز بها على جميع معاهدنا من أعلاها إلى أدناها، ولو تكاملت وسائلها- ومنها توحيد السكنى- لأخرج المعهدُ في بضع سنين للأمّة الجزائرية جيلًا مسلّحًا بالفضائل، زعيمًا بإحياء الدين والدنيا، ولقدَّم لجامع الزيتونة نموذجًا من خرّيجي السنة الرابعة يجمع بين حياة الفكر ومتانة الخلق. 7 - اشتراء ثلاث بنايات حبسًا على المعهد، اثنتين منها لسكنى المشايخ المتأهّلين، وواحدة لسكنى الطلبة، وهي تسع مائة وستين طالبًا. وقد بلغت قيمة جميعهن شراءً وإصلاحًا أحد عشر مليونًا من الفرنكات. ... هذه الميزات هي الخطوات الواسعة التي تقدّم بها المعهد إلى الأمام في هذه السنة، وهي خطوات جريئة حازمة، لا يقوم بها إلا جريء حازم مثل جمعية العلماء، ولولا ثقة الأمّة بجمعية العلماء، وثقة جمعية العلماء بنفسها وبأمانتها، ما أقدمت على هذه العظائم، في مثل هذه الظروف العصيبة. وما أقدمها على هذه المخاطر إلا أمر خطير، وهو إسكان الطلبة، فقد

لقيت إدارة المعهد ولجانه العناءَ المضني في حل مشكلة الإسكان، وبذلت الغالي من الجهد والوقت والمال، فلم تجد من الأماكن ما يكفي، ولم تجد في الموجود ما يشرّف المعهد والعلم، وما زالت مشكلة المساكن قائمة تتطلب حلّها. ومحالٌ أن تحلّ إلا ببناء حيّ كامل للطلبة، يحمل اسمهم، ويتّسم بسيماهم؛ وما ذلك على الأمّة الجزائرية بعسير، وما هو في جنب المعهد الجليل بكثير، وإن لجمعية العلماء لأملًا يلوح من خلال المستقبل، تعتمد على الله وعلى الأمّة في تحقيقه، وإن في نفسها لصورةً كاملة للمعهد، سيبرزها للوجود اطّراد النهضة، وعزيمة الجمعية، وهمّة الأمّة، وثقتها المتينة بالجمعية. ... ومن شأن النهضات إذا استحكمت أسبابها في الأمم، وقويت دواعيها من إلحاح الزمان، وحفز الضرورة، أن تظهر متساوقةً في الأسباب والمسبّبات. غير أن الناظر إلى نهضتنا نظرة استبصار، يرى فيها نشوزًا في بعض جوانبها؛ فإن هذا الإقبال الذي نشاهده من أمّتنا على العلم لا يقابله إقبال آخر على البذل يكافئه ويقوم به؛ وهذه هي علة العلل في ما تعانيه مشاريعنا العلمية من ضيق ورهق، والحقيقة الواقعية هي أن مشاريعنا قائمة في الجانب المالي على الفقراء ومتوسطي الحال. أما الأغنياء- إلا من رحم ربّك- فلم يقوموا بما يجب للنهضة من بذل إلا بمثل ما يقوم به الفقراء أو بقريب من منزلتهم. وإلى هؤلاء المتقاعسين عن البذل، المتصامّين عن العذل، نرسلها صيحة إنذار، ليس معها إعذار، ونقول لهم: إن كل ما يصيب هذه الحركة المباركة من شلل، أو يعتريها من خلل، فأنتم المسؤولون عنه عند الله وعند الناس، فلتنفقوا مما جعلكم الله مستخلفين فيه، ولتعلموا أن كل ما تنفقونه في هذا السبيل يعلي ذكركَم، ويزكّي أموالكم، ويعود عليكم وعلى أمّتكم بالنفع، وإن قبض الأيدي عن الإعانة مسبّة، وسوء مغبّة، وأن مقادير الأموال هي أقدار الرجال، و"أن الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلا من قال هاء وهاء" كما جاء في الحديث الصحيح. أما الفقراء والمتوسطون فقد أبلوا، وأما قادة الحركة فقد شادوا وأعلوا، وأما أمثالكم فقد جاءوا بالوشل، وأما المثبطون فقد باءوا بالفشل، وأما القافلة فهي تسير، فيها المعيي وليس فيها الكسير. ... أما قيمة المعهد المعنوية عند الأمّة فهي القيمة الغالية، وأما منزلته فهي المنزلة العالية، وأما الثقة به فهي المثل الشرود، والزرد المسرود، إلا فئةً عُرفت بسيماها، إذ أضلّها الله وأعماها، جرت من الخبث على نسق، وسرَتْ من الجهل في غسق. تحارب الله ورسوله

وكتابه، وتعادي العربية والعلم والتعليم، وتهدم دعائم الوطنية باسمها، وتتبع في ذلك كله ما يلقي الشيطان وأولياؤه وعابدوه ... هذه الفئة هي التي تحارب المعهد، وقبله حاربت المدارس والتعليم وزهدت فيهما، وقبل ذلك حاربت الدين وقلّلت من شأنه ... وهذه الفئة هي التي تشيع قالة السوء فيه، وقبل ذلك أشاعتها في مؤسسيه وفي من يتشرف باسمه، فما باءت إلا بالخذلان والخسران ... هذه الفئة التي لم تجد في الجزائر من يستمعُ لوساوسها، وينقاد لدسائسها، فشحنت بضاعتها الكاسدة إلى تونس ونشرت في بعض جرائدها المريضة بداء هذه الفتنة، والتي لا تتحفظ في رواية، ولا تتثبت في خبر، أن المعهد الباديسي يحاسب التلامذة على أفكارهم ... وكل هذا افتراء وزور وبهتان عظيم، وإن المعهد ليربّي أبناءه على حرية الفكر في حدودها، وعلى حرية القول ما لم تصل إلى الدركة التي عليها هذه الفئة العابدة للشيطان. وتربّيهم على الوطنية الحقيقية التي تستند على الدين والعلم والفضيلة، لا على الوطنية الزائفة، وطنية التزوير والتضليل، والتزمير والتطبيل. وقبل وبعد، فللمعهد نظامه الصارم في تربية أبنائه على الدين وفضائله، وليخسأ كل أفاك أثيم. ومن خسّة هذه الفئة ونذالتها أنها أرصدت رجالًا منها متجرّدين من العقل والدين، وأجرتْ لهم أجرًا معلومًا ليجوبوا أزقة قسنطينة ويختلفوا إلى مقاهيها ويختلطوا بطلبة المعهد، ليفتنوهم عن العلم، ويصدّوهم عن سبيله، ويزيّنوا لهم الجهل والبطالة ... إن الاستعمار- وهو العدو اللدود للعربية والدين وتعليمهما- لم يبلغ في حربها ما بلغته هذه الفئة العابدة للشيطان. ومن يدري؛ فلعلّ هذه الفئة بعضُ أسلحته. وما لنا نرتاب؟ فهم أمضى أسلحته ... ... ويمينًا بالذي طهر المعهد، وأنزل في كتابه {أَلَمْ أَعْهَدْ}، لنقطعنّ من هذه الفتنة دابرَها، ولنقعن من هذه الفئة مقيمها وعابرَها ...

التعليم العربي والحكومة - 1 -

التعليم العربي والحكومة * - 1 - كلُّ الوسائل التي تتذرعّ بها حكومة الجزائر لمقاومة التعليم العربي هي: إما قوانين أصدرها مجلس الأمّة في فرنسا في أوقات مختلفة، ولأسباب متنوّعة، وإما قرارات إدارية فردية، مصدرها الجزائر، ومبناها على إيعازات بوليسية، توجبها الروح الاستعمارية، والنوع الأول غالبه عام مطلق، يشمل كل تعليم حرّ لم تباشره الحكومة، بأية لغة كان، ومن أية جمعية صدر، والثاني خاص بنا معشر المسلمين، مصبوبٌ علينا وحدَنا، موضوع بالقصد المباشر للتضييق على لغتنا وديننا، وقد كثر هذا النوع وتوالد، حتى أصبح بعضه ينسي بعضه عند المنفذين، مع اجتهادهم وحرصهم، وكلما زادت الأمّة إقبالًا على تعلّم لغتها ودينها، زادت الحكومة في القيد تضييقًا، حتى لو أنها نفّذت تلك القرارات بحذافيرها لما بقي في الجزائر من يكتب حرف هجاء عربيًّا، ولكنها تضع القرارات وتسكت، لتكون عند تنفيذها قديمة عتيقة، ومن (صنع الأوائل)؛ والعتق أصل من أصول الحسن والاستكرام، وصنع الأوائل موضع للاعتبار والاحترام. كلا النوعين شرٌّ على التعليم العربي وبلاء وإرهاق وتضييق، أما القرارات فإنها لم توضع إلا لذاك. ولم تركب موادّها إلا للإهلاك، لأنها صادرة عن نفوس متشبعة بالاستعمار القاتم، حتى إن الدولة المؤقتة التي تشكلت بالجزائر سنة 1943 لم تنسنا- وهي في أشدّ أوقاتها ضيقًا وحرجًا- فزادت في حبل تلك القرارات طاقة، ليس للمدارس بها طاقة، وأما القوانين فإن شارعها وواضعها لم يراع فيها وضعية الأمّة الجزائرية ولا موضع تعليم العربية من دينها، ولا نشكّ في أنه لم يتصوّر ذلك في ذهنه، ولم يخطر له على بال، وإنما لاحظ حين الوضع- شأن المشرعين وواضعي القوانين- الحالة الغالبة، وهي حالة أمّته الفرنسية،

_ * نُشرت في العدد 65 من جريدة «البصائر»، 31 جانفي سنة 1949.

لاحظ تعليمًا حرًّا في أمّة حرّة، ذات حقوق مقرّرة، وقوانين محترمة، وحرية للفرد والجماعة مكفولة. فإذا وسّع فذلك ما تقتضيه الحرية، وإذا ضيّق فلأن التعليم الحرّ في نظره يعدّ افتياتًا على الحكومة التي تكفّلت بالتعليم قبل الخبز والماء؛ والأمّة الفرنسية لا تحتاج إلى هذا النوع الذي نسمّيه التعليم الحرّ، أو التعليم الشعبي، لا سيّما في قسمه الابتدائي؛ لأن التعليم عندها إجباري إلزامي للذكور والإناث، وتقوم به الحكومة مجانًا، فما حاجتها إلى جمعية أو مكتب للتعليم الابتدائي؟ ولم يبقَ خارجًا عن دائرة الإلزام والوجوب إلا التعليم الديني، والتعليم الثانوي والعالي؛ والنوعان الأخيران لا يتناولهما قانون، لأن طلابهما كبار وأحرار؛ والنوع الأول تمارسه الهيئات الدينية أو الكنائسية. وهو الذي يمكن أن يمسّه القانون اللائكي بالتضييق، ولكننا نرى الحكومات هنا وفي فرنسا تعطف عليه، وتعينه أدبيًّا بالتسهيل والتيسير، وماديًّا بالمال والهبات العقارية، وأنف اللائكية راغم. أما إن جاوز هذا التعليم البحر للتبشير والتنصير، فالحكومة الجزائرية تصبح له هي المولى وهي النصير. أما نحن فإن حالتنا تناقض حالة الأمّة الفرنسية مناقضةً تامة في جميع تلك الخصائص التي لاحظها مشرّع تلك القوانين وبنى عليها أحكامه؛ ديننا مخالف لدينها، تعلّمًا وعلمًا وعملًا، ولساننا مخالف للسانها، وضعًا ونطقًا وكتابة، وطبيعتنا العامة مخالفة لطبيعتها، وأوضاعنا مباينة لأوضاعها، وليست لنا حقوق مقرّرة، ولا نساس بقوانين قارّة، وليست لنا حرية في الحياة مكفولة، ولا تعليم إلزامي. وللمتحكمين فينا قصد مصمّم في القضاء على ديننا ولغتنا، وفي بقائنا على الجهل والأميّة، وفي حرماننا من جميع أنواع العلم الذي مفتاحه التعليم، بدليل أن الحكومة الاستعمارية لم تشأ- ولا أقول لم تستطع- أن تعلم منا في قرن وخمس قرن تعليمًا ابتدائيًّا أبتر إلا أقل من العشر ممن هم في سن التعليم، ولم تشأ أن تخلط أبناءها بأبنائنا فيه، لتقيم الدليل الواضح الفاضح على أن تعليمها لأبنائنا تعليم ناقص. إذا كانت تلك حالتهم، وهذه حالتنا، وهذه مسافة التباين بيننا وبينهم، فكيف يصحّ عند العقلاء أن يجري علينا في التعليم الحرّ قانون واحد، وهو عندهم نافلة، وهو عندنا من أوكد الفروض؟ وكيف يراد منا أن نذعن لذلك القانون الذي لم نخطر- بوضعيتنا الشاذة- على بال شارعه؟ وكيف تلزمنا هذه الحكومة الاستعمارية بأن نبني أمرًا على غير مضارعه؟ وبأية وسيلة نتوسل إلى تعليم أبنائنا دينهم الحافظ لأخلاقهم، ولغتهم الحافظة لدينهم؟ إذا لم نعتمد على جهودنا الخاصة، وعلى ما هدانا إليه العصر من نظم وجمعيات. وافرضْ أن رجلًا فرنسيًّا فتح مكتبًا حرًّا للتعليم الابتدائي، فهل تظن أن الحكومة تعارض أو تعاكس أو تعطّل، أو تعامله بأقل من القليل مما تعاملنا به؟ تقول الحكومة- هنا- إن الفرنسي مهذّب لا يدوس القانون، ومنها طلب الرخصة، ولا يأنف منها كما تأنفون. ونقول نحن هنا: لا لا. ولكن الفرنسي حرّ عزيز لا يستطيع (كوميسير) أن ينهره، ولا بوليس أن

يقهره، ولا حاكم أن يحتقره، ولا هم جميعًا أن يماطلوه أو يعطلوه. فإذا طلب الرخصة صباحًا فإنه يعطاها مساءً، أما المسلم فإنه يقدّم طلب الرخصة إلى أصغر مكلّف فيدخل به في بحر من الإجراءات لا ساحل له، حتى يفرغ جيبه، وتحفى قدماه، ويكل ذهنه، زيادة على السخرية والاحتقار. فإذا قدّر لذلك الطلب أن يخرج من مكتب الصغير إلى مكتب الكبير، تجدّدت الإجراءات، وتعدّدت التحرّيات، وكثرت المراجعات، وانفتح للصغير باب الاعتذار، واتسع للطالب أفق الانتظار، حتى يمل وييأس؛ والمحظوظ هو الذي يحصل على الرخصة في سنة؛ وما المحظوظ إلا من قامت الشواهد على إخلاصه للحكومة، وأثبتَ الفحص الإداري براءته من العيوب صغيرها وكبيرها؛ وأكبرها أن فيه وسمًا من جمعية العلماء ونسبة إليها، أو أنه يحمل فكرتها الإصلاحية؛ وأصغرها أن يكون اشترك في جمعية علمية، أو حضر في حفل أدبي، أو استمع لنشيد قومي أو انتسب إلى حركة سياسية، فكل هذا مما يسجّل في الصحائف، وكل هذا مما يوجب لصاحبه الحرمان من رخصة التعليم، أضف إلى ذلك أن كل طالب للرخصة تصك أذنيه، من أول موظف مكلف، هذه الجملة: "احذر أن تفتح المدرسة قبل أن تأتيك الرخصة"، وهو يعلم أنها لا تأتي؛ فقدر- أنت- أن هذا الطالب المسكين إنما يفتح المكتب ليتعيش بأجرة تعليم القرآن، أو ليقوت عياله بأجرة تعليم القواعد البسيطة من العلم، فهل يعامله الجوع والحاجة هذه المعاملة البطيئة؛ وهل يعذره الجوع والحاجة إلى أن تتم الإجراءات؟ هذا هو ما يجري في الجزائر في هذه المسألة البسيطة، وهذا قليل مما يقاسيه طالب الرخصة المسلم، زيادة عما لم نصوّره من إرهاق بالأسئلة، وحساب عسير عما تكنه الضمائر من الميول، وجرح للكرامة الإسلامية العربية، وازدراء للهيئة والشكل، وإلجاء إلى المواقف المهينة. وهذا ما جعلنا نمقتها ونسترذلها ونكفر بها، فما هي- والله- رخصة تطلب فينالها المجدود، ويحرمها المحدود، وإنما هي غضة يعسر ابتلاعها، وقصة يثقل سماعها، ورهصة لا تحتمل أوجاعها؛ وإن للحكومة فيها من وراء ذلك لسرًّا، وهو أنها تجعل منها أداة تصرف بها الطالبين. وليت المتاع بها طويل، ولكنه متاع قليل، بل هي أحط وأقل من رخصة "فتح مقهى" مثلًا؛ ولا تبقى نافذةً إلا بقدر ما يبقى صاحبها مغفولًا عنه أو مستقيمًا في نظر الحكومة؛ فإذا زاغ عن الصراط، أو قصر في الاشتراط، فنزعها منه أهون عليها من قصّ القلامة.

التعليم العربي والحكومة - 2 -

التعليم العربي والحكومة * - 2 - لا معنى للشمول في القوانين، ما لم يصاحبه شمول في التطبيق والتنفيذ؛ وإذا كان واضع القانون ليس منا، ومنفذه ليس منا، فمن البلاء تطبيقه علينا. ألا إن في الاستعمار لفحةً من جهنم، وإن في المستضعفين سمات من أهلها، أظهرُها أنهم لا يموتون ولا يحيون. وكما أن جهنم تتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها الإيمان، فإن الاستعمار يتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها العلم، وإذا كان العدو الأكبر لجهنم، هو العمل الصالح، فإن العدو الأكبر للاستعمار هو التعليم. يحرّم الاستعمار الفرنسي التعليم على مسلمي الجزائر، ويفرضه على أبنائه وفي وطنه، فاعجبْ لشيء واحد يحرَّم في وطن، ويُفرض في وطن؛ ومن عرف الاستعمار معرفتنا به لم يعجب ولم يندهش، خصوصًا في وطن كالجزائر، لغته العربية، ودينه الإسلام، وطنٌ أنهكه الاستعمار، فلم يبقِ منه لحمًا إلا تعرّقه، ولا عظمًا إلا هشمه، فانتزع خيراته الطبيعية من أيدي أهله، ثم تسلل إلى مكامن النفوس لينزع الإيمان من قلوبهم، بهذه الوسائل التي منها تسيير مساجدهم على هواه، وحرمانهم من تعلم دينهم ولغتهم، فلما رآهم هبّوا ودبّوا، وأيقن أنهم ربما أوضعوا وخبوا، رماهم بهذه القوانين التي بعضها يشلّ، وبعضها يغلّ، وجميعها يقتل. ...

_ نُشرت في العدد 66 من جريدة «البصائر»، 7 فيفري سنة 1949.

قلنا للحكومة مرّات- في صدق وإخلاص-: إن هذه الأمّة رضيتْ لأبنائها سوء التغذية، ولكنها لا ترضى لهم- أبدًا- سوء التربية: وإنها صبرت مكرهة على أسباب الفقر، ولكنها لا تصبر- أبدًا- على موجبات الكفر. وقلنا لها: إن هذه الأمّة أصبحت منك بمنزلة الهرّة التي دخل صاحبها النار بسببها، لأنه لم يطعمها، ولم يدعها تأكل من خشاشِ الأرض؛ فلا أنت علمت الدنيا، ولا أنت سمحت لنا بتعليم الدين. وقلنا لها: إن هذه الأشياء الروحية التي تسمّى الدين والعقيدة والضمير، هي أشياء طبيعية، بل هي أجزاء من الوجود الإنساني، فمقاومها كمصادم الجبل الأشم، لا يبوءُ إلا بالزعزعة والضعضعة؛ أفتسمحين للإباحية بالإباحة، ولتحلل الأخلاق بالتحليل، حتى تراخت الأواصر، وانحلت العناصر، وفي ذلك البلاءُ العظيم، ثم تتشدّدين في الدين وتعليمه هذا التشدّد؟ وقلنا لها: إن تعطيل المدارس العربية بالأوامر الإدارية- لأن المعلم الذي يعلّم، أو الجمعية التي تدير، غير مرضيّ عنهما- يعد عقوبةً للأطفال الصغار الذين لم يرتكبوا ذنبًا، ولو أنها عقوبة لهم في أبدانهم لقلنا: جرح ويندمل، ولكنها عقوبة لهم في دينهم وشواعرهم وعقولهم. إننا نريدهم أَنَاسِيَ وأشياءَ نافعة لنفسها وللمجتمع، وأنت تريدينهم لصوصًا وحيوانات ضارّة وبلاءً على أنفسهم وعلى الأمّة. وقلنا لها: إن هذه المدارس التي شيّدتها الأمّة لأبنائها بأموالها ولم ترزأ خزانتك فيها درهمًا ولا دينارًا، قد أصبحت تضاهي مدارسك سعةً ونظامًا وجمالًا واستكمالًا لشرائط الصحة، واسترحنا واسترحت. فلو كان الأمر بيننا جارًيا على المنطق، مبنيًّا على حسن النية، لكنت- إذا لم تنشطي- لم تخذُلي، وإذا لم تعيني، لم تعارضي، وإذا لم تعتبرينا أعوانك على تهذيب هذا الشعب، لم تعتبرينا أعداءً ومشوّشين على سياستك الاستعمارية، فما زالت الدول عاجزةً عن تعليم أممها وعن تهذيبها، وما زالت الجمعيات تعاونها في ذلك، وما زال الفريقان متآزرين على التهذيب العام، في عصر التهذيب العام. أفلا تنتج القضايا المنطقية في هذه القضية أنك مصممة بأعمالك على قتل التعليم وقتل العربية وقتل الإسلام؟ وقلنا لها: إننا قوم لا نفرّ من المسؤولية بل نتحملها مسرورين. ولا نعمل أعمالنا في ليل دامس، بل نعملها في وضح النهار، وإن لكل مدرسة من مدارسنا جمعيةً جاريةً في تكوينها على القوانين العامة، مسؤولة عن أعمالها، مستوفيةً للإجراءات الرسمية، وأول المواد في قوانينها الأساسية أنها جمعيات تعليم ديني عربي؛ فإذا كان في مدرستها معلم أو معلمون فهي "الضامنة" فيهم والمسؤولة عنهم. فمن العدل أن يكون الترخيص في تشكيل الجمعية ترخيصًا

لها في التعليم ما دامت هي المسؤولة عن المدرسة والمؤسسة لها. ومن الشطط، بل من الظلم، بل من التناقض، بل من المحال العادي، أن تطالب بعد ذلك بترخيصات شخصية لكل معلم. أما أن هذا من الشطط الذي لا يطاق احتماله، فلأن المعلم قد ينفصل عن الجمعية في أيام، لأنه لم يرضها، أو لأنها لم ترضه، وقد يمرض أو يموت، فتضطر إلى معلم آخر، وقد يتكرر هذا المعنى في الشهر الواحد مرّات، وفي كل مرّة تتكرّر الإجراءات اللازمة للرخصة، وفي كل إجراء ما قدّمنا في المقال السابق من التعقيدات المقصودة. وأما أنه ظلم، فلأن تلك العمليات تستلزم- طبعًا- تعطيل المدرسة، وتشريد الأطفال بناء على قاعدة "لا تفتح المدرسة حتى تحصل الرخصة". وأما أنه تناقض، فلأن مؤدّاه أن الترخيص الأول في تكوين الجمعية عبث ولغو، ولا معنى له، ولا قيمة لتسجيله في الدفاتر الرسمية، ولا لاعتراف القانون بها، ولا لتعليق المسؤولية على أعمالها، لأن المسؤولية تتعلق بالأعمال، وعمل الجمعية إنما هو التعليم، واشتراط الرخصة الخاصة في المعلم تعطيل لها عن مباشرة هذا العمل الذي اعترف لها القانون به يوم اعترف بها. وأما أنه من المحال العادي فلأن نظر الجمعية ونظر الحكومة في المعلم متباينان بل هما كالخطين المتوازيين في الهندسة، لا يلتقيان مهما امتدّا، فالجمعية تشترط في المعلم كفاءته العلمية والأخلاقية، أو تزكية جمعية العلماء له، ولا تشترط غير ذلك. والحكومة تشترط شهادة "الدوسي البوليسي"، ولا تشترط غير ذلك. وشتان ما بينهما عندنا في الجزائر، لاختلاف النظرين في أصل الميزان الذي يوزَن به المعلم، ولاختلافهما- إلى حدّ التضاد- في معنى المؤهلات والمواقع. قلت لرجل من رجال الإدارة الحكومية الجزائرية، وهو يفاوضني في هذه القضية مفاوضة رسمية، وكنا يومئذ نتناقش ونبحث الأسباب التي توجب حرمان المعلم من إعطاء رخصة التعليم، فقلت له: يظهر لي أنه لا يمكن أن نتلاقى معكم في نقطة، ما دام مقياس الفضيلة عندنا وعندكم متفاوتًا إلى هذا الحدّ، فنحن نرى- مثلًا- أن السياسة ليست جريمة ولا ما هو أهونُ من الجريمة، وإنما هي حق طبيعي يمارسه كل عاقل، وتزيد عندنا بمعنى، وهو أنها لم تعدُ أن تكون أنةً يستريح إليها المظلوم ... وأنتم ترونها- بالإضافة إلينا فقط- جريمة أية جريمة، وتعاقبون عليها بالسجن والنفي فضلًا عن الحرمان من رخصة التعليم ... ونحن نرى أن الزنا والخمر وما أشبههما كبائر تسقط العدالة والشهادة، ولا نرتضي مرتكبها معلمًا لأبنائنا ... وأنتم لا ترونها جرائم، ولا تعاقبون عليها. فللقاضي- مثلًا- أن يسكر

ويعربد ويفسق ويكفر، ولا حرج عليه لأنه حرّ ... ولا نعتقد أن ميزان الفضيلة اختل عندكم إلى هذه الدرجة، ولكن شيطان الاستعمار يزيّن لكم كل ما تستقبحه الأديان، وتستهجنه العقول، إذا كان ذلك في المستعمرات. قلت له: وأنا أؤكّد لك أن كل ما زرعتموه في المستعمرات من خبائث ورذائل، وسقيتموه بماء الحرية لينمو ويترعرع، فتفسدوا به أهلها وتهلكوهم، ستجنون ثمراته المرّة في أبنائكم وفي وطنكم. فأنتم تسخرون الشيطان للإفساد من حيث يشعر، ولكنه يعود فيسخركم للفساد من حيث لا تشعرون ... جرّنا إلى هذا كله حديث "الرخصة" فلها الويل: أهي رخصة تعليم، أم غصّةٌ وعذاب أليم؟

التعليم العربي والحكومة - 3 -

التعليم العربي والحكومة * - 3 - قضية واحدة من بين عشرات القضايا، يتجلّى فيها كل ما صرّحنا به، ولمّحنا إليه، من معاملة الحكومة للتعليم العربي، وتصميمها على محوه، بالتضييق والمعاكسة، واتخاذها من هذه القوانين والقرارات سبلًا إلى ما تريد من ذلك؛ وهذه القضية تشهد بكثرة الإجراءات وتعقيدها، وتكشف عن مقاصد الحكومة منها، وتقيم لنا العذر فيما نبديه من تألّم، وما نجهر به من تنديد بالحكومة ومعاملاتها، وتشهير بقوانينها وقراراتها، وفيما نصارحها به من أننا لا نرضى بهذه القوانين لأنها مفروضة علينا فرضًا في أمر يتعلق بنا وحدنا، وهو ديننا ولغتنا، ولا نحترمها، لأنها باطل،، والباطل لا يحترم، ولا نقرّها، لأنها حرب على ديننا ولغتنا، ولا نحتملها ولو أدّتْ إلى إغلاق جميع المدارس دفعة واحدة. وأننا لا نرضى إلا بالحرية الصريحة، فإن لم تكن فالموتة المريحة. وإنما يقبل العقلاءُ المقبول، وإنما يعقلون المعقول، وإذا كان للقويّ مأربٌ في قتل الضعيف، فمن السماجة أن يسنّ لقتله قانونًا، بل من الشهامة أن يسن لذبحه سكينًا. وقبلُ وبعدُ فإن هذه القضية التي نصفها اليوم، شهادة قاطعة على ظلم الاستعمار، ونموذج من تعنّته ومصادرته للحق، وبيانٌ واضح لطريقة من طرائقه في حرب الدين والعلم، ووسيلةٌ من وسائله في قتل معنويات الشعوب، وعنوان على مخازيه التي منها أن يعتبر الإسلام غريبًا وهو في داره، والعربية أجنبية وهي في منبتها. ...

_ * نُشرت في العدد 67 من جريدة «البصائر»، 14 فيفري سنة 1949.

هناك على مقربة من الحدود الفاصلة بين مقاطعتي الجزائر وقسنطينة، قرية صغيرة من قرى بني منصور، تدعى "تيغيلتْ" تابعةً في التصرّف الاستبدادي لحوز (مايو) (1). طاف بأهلها منذ سنوات طائف من الشعور الديني، واخترقت آذانهم الأصوات المتعالية من جمعية العلماء في الدعوة إلى التعليم العربي، فأنكروا حالتهم وحالة أبنائهم من الجهل والأميّة، إذ كانوا محرومين من كل ما يسمّى تعليمًا، فأجمعوا أمرهم وكوّنوا جمعية، وأسّسوا كتّابًا لتعليم أبنائهم، على قدر حالهم، ومبلغ مالهم، واتصلوا بنا اتصال المسلم المسترشد، بأخيه المرشد. فعينّا لها معلمًا لم نأت به من مصر، ولا من العراق، بل من عمالة قسنطينة، وشرع في تعليم الأولاد تعليمًا ابتدائيًا بسيطًا ليس فيه كيفية تحطيم الذرّة، ولا كيفية تحضير القنبلة الذريّة؛ وإنما هو تعليم لأشكال الحروف العربية وتركيب الكلمات منها؛ وما مضت أسابيع حتى هاجت الحكومة وماجت، ونشط ممثّلها متصرف حوز "مايو" (2) وأعوانه نشاطًا، ما نظنهم يبذلون معشاره في تتبع المجرمين وقطّاع الطرق ومحترفي السوق الأسود؛ واستدعى المعلم وأعضاءَ الجمعية إلى إدارته مرارًا، وأمرهم بإغلاق المدرسة، وطرد المعلم، وهدّدهم في كلامه بكل ما تمليه الغطرسة على جبار مستبد، ولما رأى أن كلامه لم يؤثّر التأثير الذي يرضي فرعونيته، وأن المعلم لم يذهب، وأن المدرسة لم تغلق- جلب الجميع بقوة "الجندرمة" (3)، وأحالهم على دائرة البوليس السرّي متهمين بتهم لفّقها أعوانه- وهي تهم محضرة جاهزة في كل إدارة وبيد كل مدير، يستعملها كلما خانه القانون، وخذله الحق، فيرجع إلى تلك التهم لينتقم بها، فاستنطقهم البوليس السرّي لا باللسان بل بالعصا (والكرباج)، وأدخلهم السجن "رهن الاستنطاق" كما يقولون. أما المعلم فقد نفاه حاكم (مايو) نفيًا شفويًّا، وهدّده- إن بقي في حوزه- بالعقوبات الرادعة وبإخراجه بقوة الجندرمة مشيًا على رجليه إلى بلاده (لأنه أجنبي) ... يعني أنه من قرية تسمّى (تاملوكة) تابعة لنانكين، من بلاد الصين، لا لقسنطينة. وكَذَبَ الجغرافيون ولو صدقوا ... تعاقبت التحقيقات في هذه المسألة "الخطيرة"، فلمّا تمّت- وما كادت- أحيلت إلى قاضي الصلح بمايو، وحمل أولئك المساكين ثباتهم على دينهم، ورغبتهم في تعليم أولادهم، على أن ينفقوا النفقات، ويضحّوا بالمصالح، ويأتوا بالمحامين من الجزائر. ثم رفعت المسألة بعد حكم قاضي الصلح فيها إلى محكمة الاستئناف بالعاصمة، فتضاعفت على المساكين الأتعاب، وتعطّلت الأعمال، وانفتح عليهم بابٌ لا يسدّ من نفقات الذهاب

_ 1) حَوْز "مايو": الحَوْز وحدة إدارية يسكنها فرنسيون وجزائريون. و"مايو" هي مدينة "مشَدَّالَة". 2) اسم إفرنجي لقرية استعمارية واقعة في شرقي مقاطعة الجزائر في الحدود الداخلة بينها وبين مقاطعة قسنطينة. 3) اسم للحرس الوطني الفرنسي، وهم أدوات الترويع، وزبانية الإرهاب للجزائريين.

والإياب وأجور المحامين، وعلى ذلك كله فهم صابرون، محتسبون عند الله ما نالهم من أذىً في أبدانهم، ونقص في أموالهم، معتقدون أن العاقبة للمتقين ... ونودي على القضية في محكمة الاستئناف في الأسبوع الماضي بعد حول كامل وزيادة من يوم نشأت، ولكنها لم تفصل بل تأجّلت، ولا يعلم إلا الله بماذا تنتهي؟ ... من لي بمن يسجّلها ويعجّلها لعنةً خالدةً على الاستعمار؟ ومن لي بمن يزجيها ولا يرجيها سبةً تالدةً له ولأنصاره في العالمين؟ ومن لي بمن يصبّها ولا يغبّها دموعًا سخينة على جدث الإنصاف وعلى رُفات المنصفين؟ ومن لي بمن يرسلها صارخةً صاخَّةً في آذان أدعياء الديمقراطية ودُعاتها والمدّعين لها، أينما حلّوا، أن يتصدّقوا علينا مشكورين بالكفّ من هذه الدعوة الدعية، فقد غثت ورثت، وسمُجت و (خمجت) (4)؟ قضية بسيطة، أساسها ظلم، وحائطها بغيٌ، وسقفها عدوان، وأصلها الأصيل "فتح مكتب قرآني بدون رخصة حكومية" تتدحرج من محكمة إلى محكمة، ومن حاكم إلى حاكم، حولًا كاملًا: أفي الحق هذا؟ ... كلا. وفي كل دور من أدوارها يتجشم المتهمون فيها قطع مائتي ميل ذهابًا وإيابًا، وإنفاق ما هم في حاجة إليه لقوت عيالهم في الركوب وأجور المحامين. أمن الإنصاف هذا؟ ... كلا. إن حولًا كاملًا ليكفي لفضّ مشكلة برلين وما أشبهها من مشكلات العالم الكبرى، ولكنها لم تكف لفصل قضية جمعية بني منصور، المتعقدة المتشعبة التي ظهر فيها وجه الحق لرجال الإدارة فاتهموا وطالبوا وحرّروا التقارير واستعدوا فيها المحاكم العدلية. وخفي وجه الحق فيها على غيرهم. ولعل الذنب في هذا التطويل الذي استغرق حولًا كاملًا، محمول على الزمان الذي أصبح ... ولا بركة فيه ... وسلني أنبئك عمّن جندت الحكومة لهذه القضية التي نزعم نحن أنها بسيطة. إنها جنّدت كبير الجماعة، والحارس، والجندرمة، والبوليس السرّي والعلني، والمتبرع والمتصرّف، وأعوانه ورئيسه، وعامل عمالة الجزائر، وقاضي الصلح بمايو، وقضاة الاستئناف بالجزائر، كلّ هؤلاء مرّت بهم هذه القضية، وكلهم نظروا فيها وفي أوراقها وملفاتها.

_ 4) هذه اللفظة عامية، ولعل لها أصلًا من قول العرب "ماء خمجرير" أي متغير منتن.

أما الجانب الإداري من هؤلاء فيقول: إن هؤلاء المتهمين مجرمون، معتدون على القانون، وإن من العدل، ومن المحافظة على الأمن ردعهم وزجرهم، وأما الجانب العدلي فلم نسمع كلمته الأخيرة، وأما نحن ... فقد قال ديكتاتور (مايو) فينا كلمة ذهبية إذ قال لبعض الجماعة: لو أنكم جئتم بمعلم من طلبة الزوايا (5) - من بلاد القبائل- لما عارضتكم في شيء، ولوَجدتم مني المساعدة والإعانة. ولكنكم اتصلتم بجمعية العلماء وجئتم بالمعلم من تلامذتها وأنصارها. وأنا لا أسمح أن يدخل إلى وطني (هذا الميكروب). ... أنا مريض، والموضوع طويل عريض، وقد أصبحتُ بين عاملين: همّ يتجدّد وطبيب يتشدّد، وإن حق الضمير لأوكد عندي من حق الجسد، وليقع الاستعمار أو ليطرْ فإننا نتعلم لغتنا وديننا، ولو في سمّ الخياط، أو على مثل حدّ الصراط.

_ 5) جمع زاوية، وهي مراكز مشايخ الطرق الصوفية، وقد كانت قبل الاستعمار الفرنسي تقوم بجانب من التعليم الديني والعربي، ولكن الاستعمار سخّرها حتى أصبح معظم القائمين عليها مطاياه يرتكب الموبقات باسمهم، وهذه الطوائف هي الأسلحة التي كان يحارب بها جمعية العلماء، ولكن الله نصرها على التابع والمتبوع.

التعليم العربي والحكومة - 4 -

التعليم العربي والحكومة * - 4 - لم تقف الحكومة في حرب التعليم العربي ومضايقته عند تلك الحدود التي شرحناها وقبحناها، وتلك القوانين والقرارات التي جرّحناها وفضحناها، بل أتتْ في هاتين السنتين الأخيرتين بما هو أقبح وأدلّ على سوء النية في التضييق على مدارسنا والتعطيل لها، وابتكرت أنواعًا من العرقلة، أخرجت بها القضية من باب القانون، والنظام، والمحافظة على الصحة، إلى باب العناد السخيف، والمعاكسة اللئيمة، التي تربأ كل حكومة محترمة لنفسها أن ترتكبها مع خصم لها، وإن لجّ في الخصومة، فضلًا عمن ليس بخصم، وإنما هو طالب حق، فضلًا عن كون المطلوب شريفًا لا ينازع في شرفه حتى الشيطان الرجيم، وهو العلم ... منذ سنتين، أو منذ جدّت الأمّة الجزائرية في الحركة التعليمية بقيادة جمعية العلماء، ورأت الحكومة أنها عزمة دينية إجماعية لا تفلها القوانين، ولا تشلّها القرارات المكتوبة، عمدت هذه الحكومة إلى قرارات أخرى (شفاهية)، لم تصدُر بها المراسيم، ولم تصبغ بالصبغة الرسمية وإنما هي إيعازات إلى المديرين والمعلمين بمكاتبها الرسمية الابتدائية، ليقوموا على تنفيذها بالضبط والدقة. وهي إذا نفذت كانت أنكى وأضرّ بالتعليم العربي من تلك القوانين المكتوبة. ونحن فقد أصبحنا مفتوحًا علينا في فهم هذه الحكومة ومقاصدها واتجاهاتها، وأصبحنا من المبرّزين في تأويل تصرفاتها وأعمالها، وأصبحنا نتدسَّس إلى مدبّ السرائر من نياتها وخواطرها، كما تفعل هي معنا، وهذا بذاك ولا عتب ... ففهمنا بالقرائن الصادقة، والشواهد الناطقة، أن هناك برنامجًا عمليًّا واسعًا عميقًا ذا شُعب متعدّدة ومرام بعيدة، لحرب التعليم العربي، يعتمد على التنفيذ الصامت لا على القرارات المعلنة التي تثير النقد والاعتراض، وأن اعتماد الحكومة في تنفيذه، على المديرين ورجال التعليم؛ ومن أشنع ما تتسم به الحكومات

_ * نُشرت في العدد 68 من جريدة «البصائر»، 21 فيفري سنة 1949.

الاستعمارية، التسلط على رجال العلم، ورجال القضاء، وتصريفهم في أغراضها المنافية لشرف العلم وشرف القضاء؛ والعلم رمز الإنسانية والكمال، والقضاء رمز العدل والمساواة؛ ومن رشد الحكومات الصالحة أن تكفل للعلم والقضاء الحرية والاستقلال، وتبعد برجالهما عن جميع المؤثّرات، فإذا سخرهما الاستعمار في أغراضه، واتخذ من رجالهما أدوات لتنفيذها، فذلك هو الفساد في الأرض؛ ولذلك تجدنا لا نثق ببعض علماء المشرقيات الذين يتخذ منهم الاستعمار مستشارين في وزارات الخارجية، فيجعل من العلم، معينًا على الظلم. ... رأينا من آثار هذه البرامج في كثير من القرى تساهلًا عظيمًا في قبول التلامذة بالمكاتب الابتدائية الفرنسية، خلافًا للسنة المقرّرة عند الحكومة، وخلافًا لعملها المطلق ... الذي طالما نعيناه عليها وأنكرناه، وهو عدم عنايتها بتعليم أولاد المسلمين؛ وما كان هذا التساهل رحمةً منها بهم، ولكن لتصُدّ أكبر عدد منهم من غشيان المدارس العربية الحرّة، ثم تجريهم على برنامج فارغ إلا من التوافه، مضطرب الساعات، فمنهم من يأخذ ساعتين، ومنهم من يأخذ أربعًا، فيخسر التعليم العربي، ولا يحصل على التعليم الفرنسي. والعذر الذي تسمعه منهم على هذا الاضطراب هو عدم وجود الأماكن! ... ونقول نحن: إذا لم تكن الأماكن كافية لهم، فلماذا تقبلونهم من أول يوم؛ ولو أنصفوا لقالوا: إن قصدنا الوحيد هو معاكسة التعليم العربي وكفى ... إن مدارسنا عامرةٌ بهذا الصنف من الأطفال. وهو هذا الصنف المتشرد الضائع الذي لم يجد إلى التعليم الحكومي سبيلًا؛ وان عدده لكثير، إنه ليقارب التسعين من المائة من أبناء الأمّة التي تدفع الضرائب، وتقوم بواجبات الجندية ... وما كنا في يوم من الأيام حربًا للتعليم الفرنسي على تفاهته؛ بل نحضّ عليه، ونعدّه باباً من أبواب الثقافة، وسلاحًا من أسلحة الحياة. وإنما نريد أن نجمع لأبنائنا بين التعليمين، جمعًا للمصلحتين، وما داموا محرومين من التعليم الفرنسي، فمن حقنا ومن واجبنا ومن الإحسان إلى أبنائنا أن نشغلهم النهار كله بتعلّم دينهم ولغتهم؛ بدليل أننا لا نقبل في مدارسنا تلامذة الفرنسية إلا بعد الرابعة والنصف مساء، لئلا يحرموا من أحد التعليمين، على ما في هذه الساعات الزائدة من إرهاق للمعلّمين والتلامذة عندنا. هذا ما نراه نحن؛ أما الحكومة فإنها ترى أن بقاء أبنائنا هائمين في الأزقة معرضين للشر والفساد، خير من تعليمنا إياهم تعليمًا عربيًّا وإسلاميًّا، فلما صمّمنا على أداء الواجب علينا لديننا وأمّتنا، صمّمت على المعاكسة والتضييق، فلما لججنا في المقاومة، لجأت إلى مثل هذا العناد الذي لو تمّ وعمّ لكان مفسدًا لتعليمها، قبل أن يكون مفسدًا لتعليمنا.

قد أصبح من عقائدنا الراسخة، بل أصبح من الحقائق الواقعة أن هذه الحكومة عاملة على إفساد تعليمها الرسمي لأبنائنا، وتصييره هيكلًا بلا روح، وحرمانهم في الأخير من مفتاح التعليم الثانوي. وهو "الشهادة الابتدائية". فهي تتعهد البرامج بالتنقيص من المفيد والزيادة من السفاسف. وهي تكثر بزعمها من التعليم الصناعي الآلي لتبعد أبناءنا عن منشطات الفكر والروح، وهي تكل تعليم أبنائنا- بدعوى الضرورة- إلى طائفة ليست لهم كفاءة المعلم، ولا شهادته، ولا مؤهلاته، ومن أغرب ما وقفنا عليه في أول هذه السنة الدراسية نسخةٌ من هذه الأوامر ... التي توجّه إلى مديري المكاتب الفرنسية، ومما فيها: الأمرُ بالتقدم إلى طلبة العربية الذين يعرفون القراءة والكتابة البسيطتين، وترغيبهم في تعليم العربية بالمكاتب الفرنسية. فما معى هذا؟ ومتى كانت المكاتب الحكومية الابتدائية تعلّم العربية؟ لا معنى لذلك إلا أن المطبخة دائبة على الطبخ. ورأينا من آثار ذلك البرنامج، في كثير من المدارس الفرنسية، تمديد ساعات الدراسة المسائية إلى الساعة الخامسة، خلافًا للقانون السائر في جميع المدارس. ولا موجب لهذا إلا تفويت ميقات المدرسة العربية على التلميذ، وليتهم يعمرون له تلك الساعة بنافع مفيد، لكنهم يعمرونها بلهو فارغ أو بعمل شاق؛ ولقد مررتُ في شتاء السنة الماضية بقرية "بريكة" فرأيت بعيني تلامذة المكتب الفرنسي (المسلمين طبعًا) يجمعون الزيتون من بستان تابع للمكتب أو لإدارة المتصرف، وكان ذلك في الساعة الخامسة إلا ربعًا بالضبط. وما يسّر على الحكومة وأعوانها تنفيذ هذه الأمور الشاذة، وتطبيقها بسهولة، إلا أصل أصلته. وهو عزل التلامذة المسلمين من زملائهم الأوروبيين في التعليم الابتدائي في مكاتب خاصة بهم، يطلقون عليها اسم " Ecole indigène" (1). ولو كانوا مع أبنائها لما عاملتهم هذه المعاملة. ولقد كانت الشهادة الابتدائية إلى وقت قريب تقسم على نمطين: أحدهما يعرف بنمط Titre indigène وكلمة (أنديجان) هذه في قاموس الاستعمار وفي ألسنة حماته الطغاة هي نبز وتحقير لهذا العنصر الشريف الذي أوقعته الأقدار، وتصرفات الفجار، في قبضة الاستعمار الفرنسي. فإن كذبتنا الحكومة وقالت إن التعليم واحد، والبرنامج واحد، فلتخبرنا: ما هي العلة في تخصيص أبناء المسلمين بمكاتب منبوزة بهذا النبز؟ أم هي تعد هذا من الديمقراطية الفرنسية؟ وقد عرفنا- بفضل الله- هذا الطراز من الديمقراطية، فعرفنا أنه مرادف للعنصرية السوداء اللون، العنيفة التأثير. ...

_ 1) " Ecole indigène": مدرسة أهلية، أي خاصة بالجزائريين الذين كانت فرنسا تسمّيهم "أهالي" احتقارًا لهم.

بعد هذا كله- وأمثاله معه- تمنّ فرنسا على مسلمي الجزائر، وتقول: إنها علمتْ، وما علمت، ولكنها قلمت ... وما أغرب شأن الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي: فئةٌ تدرس في جامعة، وملايين ترسف في (جامعة) (2) ويا بُعدَ ما بين الطرفين!

_ 2) الجامعة هي القيد الذي يجمع اليدين والرجلين.

التعليم العربي والحكومة - 5 -

التعليم العربي والحكومة * - 5 - يرجع تاريخ هذه المشادّة القائمة بيننا وبين الحكومة في قضية التعليم العربي إلى خمس عشرة سنة، فهي مقارنة لظهور جمعية العلماء تقريبًا، ولكنها تشتد وتتعقّد في كل سنة، تبعًا لنمو الحركة الإصلاحية واستفحالها وتطوّرها، فكلما اشتدّت حركة التعليم وامتدّت، ظهر للحكومة فيها رأي فسنّت لشلّها قانونًا أو قرارًا. وسكتت عن تنفيذه إلى حين؛ كما كانت متسامحة مع الجمعية لأوّل ظهورها، في إلقاء دروس التذكير في المساجد؛ فلما استفحل ذلك ورأت أنه مضرّ بسياستها الاستعمارية، وأنه تحنيثٌ لها في اليمين الذي قطعته على نفسها: لتحاربن الإسلام في الجزائر، ولتحصرنه في مثل جحر الضبّ من الضيق، ولتقطعن صلته بماضيه وصلته بمطلعه، حتى يتكون لها إسلام جزائري جغرافي محصور في حدود أربعة، خال من روحانية الإسلام وفضائله، لما رأتْ ذلك أصدرت القرارات بمنع أعضاء الجمعية من إلقاء الدروس الدينية في المساجد، وقصر إلقاء الدروس في المساجد على الموظفين الرسميين، أو "رجال الدين" كما يسمّيهم تقريرها الأخير، فمنعت كاتبَ هذه السطور من إلقاء دروس التفسير بالجامع الأعظم من تلمسان، ببرقية من الوالي العام إلى عامل وهران، وكان ذلك في أواخر سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة؛ ثم منعت الأستاذ العقبي من إلقاء دروسه بمساجد العاصمة بقرار (ميشال) المعروف. ابتدأت المشادّة من ذلك الحين، وكانت في مبدإ أمرها مشادّةً في حرية المساجد، لأن الحركة التعليمية نشأت بعد ذلك، بعد أن تغلغلت دعوةُ جمعية العلماء في النفوس فحرّكتها، وفي الآذان ففتحتها؛ فأنت ترى أن تاريخ المشادّة طويل، وأن هذه القوانين والقرارات كان يتنزّل بها الوحي الاستعماري منجمة حسب المصالح ...

_ * نُشرت في العدد 69 من جريدة «البصائر»، 28 فيفري سنة 1949.

وقد تعاقب على الجزائر في هذه الحقبة سبعة ولاة مختلفي الميول السياسية، متنوعّي الحزبية، ولم يستطعْ واحد منهم أن يحلّ هذه المشكلة بوجه يرضي المسلمين، أو يبرقع - على الأقل- وجه الاستعمار البغيض في مسألة دينية كهذه. بل ما صدرت القرارات الخانقة إلا في عهد كثير من هؤلاء السبعة. ومن لم يضرّ منهم في السلب لم ينفع في الإيجاب. وكم ترك الأول للآخر. كما تعاقب أربعة مديرين على إدارة الشؤون الأهلية، أو "الأنديجانية" بالتعبير الصحيح، فلم يستطع واحدٌ منهم فضّ المشكلة، لأن الطبيعة الاستعمارية واحدة في الجميع، بل كانوا بتلك الطبيعة يضعون في طريق حلّها العقاب، ويُمدّون نار الاستعمار فيها بالثقاب. وهذه الإدارة هي النافذة الوحيدة التي تشرف منها الحكومة على المسلمين الجزائريين، وهي المعمل المختص بحبك المكائد، وفتل الحبال، وهي المطبخ الذي تُطبخ فيه الآراء على حسب الشهوات، وهي "البورصة" التي كانت تباع فيها الضمائر وتشترى. وهذه الإدارة في جميع أدوارها كانت تجهز برجال استعماريين من الطراز الأول، وأول الشروط فيهم أن يمضوا درجات التدريب الإداري في الأحواز المختلطة (1) "الأنديجانية". وقد رأس هذه الإدارة رجل عالم قانوني وهو السيد (ميو) عميد كلية الحقوق في الجزائر، ولولا الاستعمار وتسخيره للعلماء كما ذكرنا في المقال السابق، لكان أقربَ الرؤساء الحكوميين إلينا، وأحسنهم فهمًا لقضيتنا، ولكن الاستعمار لا يعرف علمًا ولا قانونًا، لأنه لا دين له ولا ضمير، فلم يستطع الرجل أن يتغلّب بعلمه وقانونه على صبغته الإدارية، ولا على روحه الفرنسية، وما تقتضيانه من تقليد استعماري متّبع، ولا نحن سلّمنا في شعرة من مطالبنا، أو تساهلنا في قلامة ظفر منها. فمرّت أيامه كأيام زملائه الآخرين ودخل وخرج وهو فرنسي في الحالتين، وقد بلوْنا هؤلاء الفرنسيين فوجدناهم يختلفون في المبادئ إلى حدّ التناقض، ولكنهم حين يصلون إلى الاستعمار، ودوْس الضعفاء، وسيادة فرنسا، يتغلب فيهم صوت الدم على صوت الضمير، واتفاق الروح على اختلاف المبادئ، وهذه هي الجرحة القادحة التي لا تنفع معها تزكية في علمائهم ومفكريهم وفلاسفتهم؛ وفي كل ما يدعون ويذيعون في العالم من جمهورية وديمقراطية. وقد اتصل بنا الأستاذ (ميو) هذا لأول عهده بالإدارة، وطلب الاجتماع بنا لفضّ المسألة الدينية وقضية التعليم، فاستجبنا، وكان الاجتماع الأول حافلًا بالوعود

_ 1) هي أقضية أو نواح غالب سكانها عرب مسلمون، يعيّن لها حكام فرنسيون يحكمونها بأحكام استثنائية، يحبس المرء من غير سب ويغرب بغير سب، ولا حق له حتى في السؤال بكلمة: لماذا.

والمجاملات، وكان اجتماعًا غاب عنه الاستعمار بوجهه الجهم، وحفه العلم برعايته للحرمات؛ وكان مما صارحنا به أننا على حق في قضيتنا وأنه منتدب من الحكومة لحلّها معنا بالمفاوضات الهادئة؛ وأن الحكومة قلقة جدًّا من هذه القضية؛ وقال: إنه لشرف للعلم الذي يجمع بيننا أن يحل أحد رجاله مشكلةً عجز عن حلّها أقدرُ الإداريين وأقدمهم، وانتظرنا، فإذا وعود الرجل تثبيط، واذا صعوده تهبيط، وإذا علمه من ذلك النوع الموضوع "تحت الطلب". فلما استيأسنا منه كتبنا إليه رسالة المستيئس، وسننشرها في العدد الآتي نقلًا عن العدد الحادي والعشرين من السلسلة الأولى لجريدة «البصائر»، ليقرأ القرّاء منها صفحة من جهادنا في هذه القضية التي لا نسلّمها حتى نسلّم الأنفاس، لرب الناس. ... لم نكن في يوم من الأيام مغترّين بهذه المفاوضات التي كانت تتجدّد كلما تجدّد مدير، أو أشار على الحكومة بها مشير، أو جاءها من الأحوال العامة نذير؛ ولا كنا بانين عليها شيئًا إيجابيًّا تطمئن إليه النفس، وتستقرّ عليه الحالة، وينطفئ به هذا الضرام المشبوب في الأمّة، تحرّقًا على دينها ولغتها، وسخطًا على الاستعمار الواقف لهما بالمرصاد؛ بل كنا جارين على سنتنا في التعليم، وتأسيس مدارسه وجمعياته، موفين بعهد الله في خدمة دينه ولغة كتابه. لم نكن نغترّ بتلك المفاوضات لأننا نعرف قيمتها، ونعرف مقصد الحكومة منها، ونعرف نيّتها التي لا تتبدّل في شأن التعليم العربي؛ ونعلم أن مقصدنا منه ومقصدها فيه متباينان، وأن كلًّا منا متمسّك برأيه التابع لمصلحته، ورأينا في التعليم مبني على عقيدة دينية ومصلحة قومية اجتماعية، ورأي الحكومة مبني على أصول استعمارية، غايتها هدمُ الإسلام والعربية، فأنَّى نلتقي في نقطة؟ ما دمنا نرمي إلى غايتين مختلفتين، وإذا كان خصمك لا يتفق معك في مفهوم الخير والمصلحة والمنفعة، وفي مفهوم الشرّ والمضرّة والمفسدة، بل لا يتفق معك في معنى الحق والباطل، فمن المحال أن تلتقيا على نتيجة، أو تجتمعا على مفيد، أو تفترقا على طائل، ومن العبث أو من سخرية أحدكما بالآخر تضييع الوقت في أمثال هذه المفاوضات، أو تعليق الأعمال والآمال عليها. إن المفاوضات لا تكون إلا لتجلية الجوانب الغامضة من القضية، أو تبيين النقط المجهولة، أو فهم المقاصد الخفية، أو حلّ المواضيع المشكلة؛ وشرط نجاحها حسنُ النيّة وطهارة القصد من الجانبين. وقضيتنا نيّرة الجوانب، معلومة المذاهب، مفهومة المقاصد، واضحة المعالم، بيّنة الحق؛ ولكن المفاوضات فيها لا تنجح ولن تنجح لفقدان شرط النجاح، وهو حسن النيّة وطهارة القصد في أحد الجانبين ...

التعليم العربي والحكومة - 6 -

التعليم العربي والحكومة * - 6 - ... ودعانا بعد ذلك منذ سنتين آخر مدير لتلك الإدارة أو ذلك المطبخ. وهو السيد (باي) إلى المفاوضة وحلّ المشكلة بأمر من الوالي العام، وعيّن المفاوضين رسميًّا، وعيّنت جمعية العلماء الأساتذة: العربي التبسي، وأحمد بوشمال، وعبد القادر محداد، واجتمع المفاوضون مرّتين، تبيّن منهما البعد السحيق بين وجهتي النظر؛ وكان الحديث في الجلستين خاصًّا بحرية التعليم العربي، وهو أهون المشاكل وأقربها إلى الحل، فكيف لو جاوزوها إلى حرية المساجد والأوقاف وحرية القضاء الإسلامي؛ وهي المشاكل التي تجهد جمعية العلماء في حلّها، وتسعى لتحريرها، ولقد كنا في كل مفاوضة أو محادثة نشترط إعلان إلغاء جميع القوانين والقرارات القديمة المتعلّقة بقضايانا، ثم صياغة قانون واحد صريح نتفق عليه، وتكون مادّته الأولى حرية الدين وجميع متعلقاته، ولكن هذه الحكومة لم تشأ أن تلغي حرفًا واحدًا من تلك القرارات والقوانين. فلما خابت المفاوضات الأخيرة جاءني الشيخ (باي) يومًا إلى منزلي وبيده نسخة مشروع وضعه دهاقين الإدارة بالحكومة الجزائرية لتستصدر الحكومة على نمطه من مجلس الأمّة الفرنسي "قانونًا" أو من الوزارة "ديكري" (1) وكان ذلك المشروع خاصًّا بالتعليم العربي فقط ليس فيه ذكر للمساجد والأوقاف والقضاء، وفيه النص على إلغاء جميع القوانين والقرارات المتعلقة بالتعليم العربي واستبدال هذا القانون الموحّد بها. وترجمت لي تلك النسخة فإذا فيها كل ما في تلك القوانين والقرارات من روح ومعنى مع تبديل في الألفاظ ونقص لحرف وزيادة لآخر، وإذا هو هي، غير أن القديم متفرّق، والجديد مجموع. وطلب مني بكل إلحاح تجديد المفاوضة على هذا الأساس "المتين" وضرب لي أجلًا ضيّقًا، لأن الضرورة- بزعمه- تقتضي الاستعجال، فلم أقبل منه الأجل،

_ * نُشرت في العدد 70 من جريدة «البصائر»، 7 مارس سنة 1949. 1) "دِيكري": كلمة فرنسية معناها مَرْسُوم.

وقبلت المفاوضة بنفسي مع مندوب عيّنه، ولبثنا نتحدث ثلاث ساعات من كل يوم، لمدة أسبوع، حديثًا فارغًا مكرّرًا معادًا وكان محدّثي يقتنع بالحجة، ويسلم بالبرهان، ويتحرك ضميره للاعتراف بالحق أحيانًا، ولكنه لم يكن يملك التفويض اللازم لإنهاء المشاكل، فكان لا بد له من سلوك المداورات الإدارية التي تزيد المشكل إشكالًا. ومن الأمانة في تبليغ الأعمال للرأي العام، أن ننشر ترجمة تلك النسخة، ليشاركنا القرّاءُ في علم ما نعلم من تقمّصها للقوانين والقرارات القديمة. فكأنه مجموع متون متفرّقة، أحسن الطابع جمعها ونشرها. وإن الحسنة الوحيدة فيها هي تصريحها بإلغاء القوانين القديمة في المادة الأولى التي هي أول ما يطالع القارئ، ولا حرج إذا تضمنت بقية المواد ما يناقض أولها، والإماتة والإحياءُ في آن واحد، من المعجزات التي لا تجري إلا على أيدي نمط من الرجال مخصوص. والأستاذ (باي) عمل في الإدارة الاستعمارية بالمغرب، ثم عمل في مثلها بالجزائر، وهو الآن بتونس، ولا ندري أهو مشتغل بالحل أو بالعقد. وهذا نصّ النسخة: "مشروع قانون يخصّ المدارس الابتدائية الحرّة والمدارس الدينية الحرّة في الجزائر. رئيس مجلس الوزراء: "تبعًا لتقرير من وزير التعليم الوطني. وبناء على رأي وزير الداخلية. وبناء على قانون 23 أوت 1898، وقوانين 23 أكتوبر و21 فيفري 1936 المتعلقة بالولاية على الجزائر، وإدارتها العليا. وبناء على قانون 18 جانفي 1887 الخاص بتنظيم التعليم العام. وبناء على قانون 18 أكتوبر 1892 الخاص بتعليم الأهالي الجزائريين الابتدائي العام والحرّ. وبناء على المادة 29 من قانون 27 سبتمبر 1907 التي تشرح تنفيذ القانون والتي تحدّد شروط تنفيذ قوانين الفصل بين الدولة والكنيسة (2) في الجزائر، وشروط مزاولة الأعمال الدينية العامة. وبناء على قانون لجنة التحرير القومي الفرنسي، بتاريخ 6 أوت 1943 الخاص بفتح المدارس الحرّة الإسلامية ذات الصبغة الدينية. وبناء على قانون 27 نوفمبر 1944 الخاص بسير التعليم الحرّ في الجزائر. وبعد سماع المجلس الدولي الاستشاري. وبإيعاز من الوالي العام على الجزائر يقرّر ... إلخ ". ...

_ 2) هو قانون فصل الدين عن الدولة، وأصله وُضع في فرنسا من أيام الثورة الفرنسية لمنع الكنيسة من الحكم واستقلالها بالدين، فطالبنا نحن بتنفيذه في الجزائر مع الإسلام.

هذا سجل واف للقوانين والقرارات المشتبكة حول مسألة واحدة، وهي التعليم العربي بالجزائر، وهي كما ترى من الكثرة بحيث أصبح القانون الأصلي معها كثوب الفقير، كله رُقع، وكله خروق. ولعل القارئ تهوله هذه الكثرة، وهو لم يقرأ إلا تواريخها وبعض أرقام موادها، وكيف به لو قرأ نصوصها وموادها؟ وما وُضع عليها من الشروح، والحواشي، والتعاليق، والملحقات، والاستدراكات، والزوائد، والإحالات، والتقارير، والبيانات، ولو قرأ كل ذلك لرأى العجب العجاب. وأنسته هذه الكثرة- التي ينسي آخرها أولها- ما نشكو منه من كثرة الشروح والحواشي في كتب فقهائنا المتأخرين ... وآخر ما يسترعي انتباه القارئ الغافل، من هذا الثبت الحافل، هو تواريخ هذه القوانين والقرارات وتعاقبها وتشابكها وكثرة الإحالات فيها، ففي خمسين سنة وضعت هذه النصوص كلها لمسألة واحدة، وكان أول نصّ منها بسيطًا، ثم تعاهده رجالُ السياسة- بإيعازات من رجال الحكم والإدارة- بالتنقيح والزيادة والتوضيح، حتى وصل إلى هذه الصورة وهذه الكثرة التي تستدعي وضع (كشف ظنون) جديد خاص. ومن يدري؟ فلعلّ واضعه الأول أوصى ببعض ما أوصى به الشيخ خليل في خطبة مختصره بقوله: "فما كان من نقص كملوه" ... وأنا أشهد أنني اجتمعتُ بجماعة من المحامين، ورجال القانون، وطائفة من العلماء الباحثين، وفئة من أهل الاطلاع الواسع في الشؤون الإدارية، وثلة من المباشرين للمكاتب العامة، وهواة مجاميع الجرائد والمجلّات العلمية والرسمية، وسألت كلًّا منهم عن هذه القوانين وأين توجد مجموعةً، فما عرفوا شيئًا من ذلك، ولا أرشدوني إلى شيء من ذلك، ما عدا ما هو متفرّق في الجريدة الرسمية تفرّقًا شنيعًا، تنفق في جمعه أوقات وجهود، ثم سألت رجال القانون عن فقه هذه القوانين، فأجابني المنصفون منهم بأنه لا فقه لها إلا في أدمغة الإداريين المقلّدين، إذ الشأن في فقه القوانين أن يكونَ (مدهونًا) بالفلسفة الاجتماعية، مطابقًا لروح الزمان والمكان. وهذه القرارات الفردية وهذه القوانين البوليسية لم توضع لإصلاح شيء، وانما وضعت لإفساد شيء، فإذا احتيج فيها إلى شيء فيرجع فيه إلى الفقهاء المفسدين ... قالوا: وهي قبلُ وبعدُ قوانينُ استعمار. قلت لهم: ولا تزول إلا بزوال الاستعمار. قالوا: ولا يبنى على الصالح إلا الصالح. قلت: وكل ما بني على الفاسد فهو فاسد.

التعليم العربي والحكومة - 7 -

التعليم العربي والحكومة * - 7 - هذه هي مقدّمة المشروع الذي وضعه الشيخ (باي) بمعونة الرجال الاختصاصيين في الإدارة وتقدّموا به إليّ، كأساس للمفاوضة، على أننا إذا اتفقنا على ما فيه قدّم للوزارة لتصدر بنصوصه (ديكري) ينسخ "الديكريات" ويأكل القرارات، ولا أدري، بماذا مهّدتْ إدارة الجزائر لهذا المشروع عند الوزارة، وفي الديوان الجزائري هناك؟ وإنما الذي ندريه أن الوزارة وكل ما تفرّع عنها من اللجان والإدارات (ذات الاختصاص) خاضعةٌ في كل ما يتعلّق بنا للإدارة الجزائرية، ترجع إليها، وتتلقّى الوحي منها، وتصدُر عن رأيها، ولا تنقض ولا تبرم إلا بإشارتها. ألم ترَ أن المقدّمة التي نشرناها خُتمت بهذه الجملة: "وبإيعاز من الوالي العام على الجزائر". وبعد هذه الديباجة التي تشير إلى جميع القوانين، وتعتمد عليها، و (تأخذ بخاطرها) وتنبّهنا إلى مواقعها، وترمز بكثرتها إلى أن العبء الذي سيخفّف عنا بسببها عظيم، وأن المنّة علينا بها جسيمة، بعد ذلك تأتي مواد المشروع مبنية بأحجار القوانين القديمة، موضوعةً على أساسها، على هذا النسق. "المادة الأولى: قد أُلغي العنوان الثالث وهو: (التعليم الخاص بالأهالي الأنديجان) من قانون 18 أكتوبر 1892 المتعلّق بالتعليم الابتدائي الحرّ عند الأهالي الجزائريين، وكل النصوص التي كمّلته أو غيّرته". وهذه المادة هي الجملة الوحيدة المغرية من المشروع، لأن قانون 18 أكتوبر 1892 هو أصل البلاء كله على التعليم العربي في جملته وتفصيله، وكل ما جاء بعده فهو فرع عنه أو تكميل له، ويقول الشيخ (باي) في أول حديث له معنا في المشروع: إن هذه المادة

_ * نُشرت في العدد 71 من جريدة «البصائر»، 14 مارس سنة 1949.

محقّقة لشرطنا الأساسي، وهو إعلان إلغاء جميع القوانين القديمة وتعويضها بقانون واحد جديد؛ ونحن لا نصدّق بذلك ولا نعدّه محقّقًا لشيء ولا مفيدًا لشيء، لأن ذلك القانون وجميع القوانين التي تشبهه، مصوغة كالسلسلة كلها حلق متشابكة، أو كالشبكة كلها خروق لا تسدّها إلا بقلب وضعها؛ وهي غير محقّقة للإلغاء، لأننا اقترحنا على الحكومة أن يكون الإلغاء معلنًا من جانبها. وعرَض هذا الاقتراح مفاوضو جمعية العلماء على مفاوضي الإدارة في المرّة الأولى بصورة أوسع، وهي أن يُعلنَ الإلغاء في الجرائد ويُعلن معه الشروع في المفاوضات، فأبى ذلك مفاوضو الحكومة، وقالوا لممثّلي الجمعية: أعلنوا أنتم إن شئتم ... "المادة الثانية: يجب على المعاهد الدينية على اختلافها، والتي لا يشتمل برنامج تعليمها سوى الدروس الدينية وبعض مبادئ القراءة والكتابة ولا تعلم المواد الأخرى التي تُدرس في المدارس الابتدائية، وهي المواد المشار إليها في المادة 27 من قانون 18 جانفي 1887 الخاص بالتعليم الابتدائي العام: على هذه المعاهد أن تخضع للنظام الآتي: أولًا: على المدير الذي يريد فتح مدرسة من هذا النوع أن يخبر- كتابيًّا- نائب عامل العمالة (1) في منطقته، وإذا كان في المناطق الجنوبية العسكرية فليخبر رئيس تلك المنطقة العسكرية. ويستطيع أحد المعلّمين أن يقومَ بهذا الإخبار بدلًا من المدير. ويجب أن يتضمن هذا الإخبار بصفة خاصة عدد التلاميذ الذين سيدخلون المدرسة. كما يجب أن يرسل مع الإخبار الأوراق التالية: 1 - تصميم المحل. 2 - شهادة ولادة المدير أو المعلم تثبت أن صاحبها ذو جنسية فرنسية. 3 - شهادة براءة من الأحكام الجنائية لا يزيد تاريخها عن ثلاثة أشهر. 4 - شهادة استقامة وحسن أخلاق. فإذا لم يجب عامل العمالة أو رئيس المنطقة الجنوبية في ظرف شهر من يوم إرسال هذه الأوراق المشروطة فيمكن فتح المدرسة دون توقف. ولا يرفض طلب فتح مدرسة إلا إذا كان السبب يرجع إلى دواعي الصحة في المحلات، أو سيرة المدير أو المعلمين. ثانيًا: يجب على المدير أو المعلم أن يسجّل في دفتر خاص أسماءَ التلاميذ وتاريخ ولادتهم وتاريخ دخولهم المدرسة وأسماءَ آبائهم ووكلائهم الشرعيين وعناوينهم. وهذا السجّل يجب أن يكون دائمًا تحت طلب الحكومة". ...

_ 1) نائب عامل العَمالة: نائب الوالي أو المحافظ.

ثم يذكر المشروع منع العقوبات البدنية، واشتراط التلقيح، وإبعاد المصابين من التلاميذ بالأمراض المعدية، واستكمال المدرسة للشرائط الصحية، وهي شروط تقوم بها مدارسنا دون اشتراط، لأن ديننا يهدي إلى النظافة والصحة والنظام. ويرى القارئ لهذه المواد، التي نشرناها بنصها من المشروع، أنها تذكر المدير والمعلم ولا تذكر الجمعية، مع أن مدارسنا كلها تديرها جمعيات لا أفراد، والجمعية أقوى على تحمل المسؤولية، وأقرب للقيام بالتعهدات والشروط، وأدنى أن تحقّق النظام المطلوب في مصلحة اجتماعية كهذه؛ ولكن الحكومة لا تعنيها المصلحة ولا النظام، وإنما يعنيها أن تكثر من أسباب التعطيل، وما يسهّل أسباب التعطيل، لذلك تعترف بالمدير وتتجاهل الجمعيات. لتكون أعمال التعليم كلها فردية، وليكون المسؤولون عنها أفرادًا، وقلع الأفراد أهون عليها من قلع الجماعات؛ واستهواءُ الفرد، أو أخذه بالترغيب والترهيب والمساومات أسهل وأمكن. وقد ناقشتُ محدّثي الرسمي في هذه النقطة وشرحت له معنى ما ذكرت هنا بإسهاب، وبيّنتُ له ما نعتقده من مقاصد الحكومة فيها، فاقتنع ولم ينكره بذوقه الخاص؛ وإن لكل واحد من رجال الحكومات في كل نازلة ذوقين: ذوقًا إنسانيًّا كأذواق الناس يميّزون به المعقول من غير المعقول، والحلو من المرّ، والحسن من القبيح، لا يخرجون فيه عن طبائع الأشياء وخصائصها وأشكالها ومقاديرها؛ وذوقًا حكوميًّا يتكيّف بالاعتبارات الحكومية، وينعكس وينتكس، بالتعمل والتأثّر، حتى يصير الحلو عند صاحب هذا الذوق مرًّا، والحسن قبيحًا. اقتنع صاحبي بأن حركتنا التعليمية حركة جمعيات، وأنها هي المسؤولة، وأن الخطاب يجب أن يكون معها، وأن المدير أو المعلم إنما هو موظف عندها، وأن تكليفه بهذه الشروط مدرجة إلى تعطيل أعمال الجمعيات؛ ولكن ذوقه الحكومي لم يسمح له بتجرع هذا ... وفي المادة الثانية وجوب الإخبار بفتح المدرسة، إلخ. والإخبار المجرّد أمر بسيط، نقبله ولا نتحرج منه؛ ولكننا نقبله على أنه إخبار مجرّد مقرون بالشروع في التعليم؛ أما الحكومة فتسمّيه إخبارًا، وتفسّره استئذانًا، لأنها تقول: إذا لم يجب عامل العمالة أو رئيس المنطقة في ظرف شهر من يوم الإخبار فللطالب أن يفتح المدرسة. إذن فهو استئذان، وترخيص، لاإخبار؛ ولو كان إخبارًا فقط لما توقف على إذن ولا تأجيل؛ وما دام التأجيل مقرّرًا فمعناه أن لعامل العمالة أن يجيب بالرفض، وأن يتعلّل بتلك العلل المستثناة. هذه واحدة من بقايا المعاني القديمة في هذا المشروع.

التعليم العربي والحكومة - 8 -

التعليم العربي والحكومة * - 8 - ثم يقول هذا المشروع الذي هيّأوه للوجود، وجرّدوه من خصائص الوجود وعناصره، وأرادونا على أن ننفخ معهم الروح في جماد، فأبينا، واستدرجونا إلى أن نقبل القديم، ملفوفًا في ثوب جديد، معنونًا بعنوان جديد، فأبينا، وأن نتجرّع السم في زجاجة دواء، فامتنعنا، يقول المشروع في تفصيل المادة الثانية: "رابعًا: يمكن لعامل العمالة بإيعاز من السلطة البلدية، ولحاكم المنطقة العسكرية بإيعاز من السلطة التي تحت نظره، أن ينزع رخصة التعليم مؤقّتًا، أو مؤبّدًا من المدير أو المعلم إذا وقعت منه خطيئة في مزاولة عمله، أو ارتكب ما يفسد أخلاقه وسيرته، ويجب على المدير أو المعلم الذي يخلفه أن يقدّم الأوراق اللازمة المشار إليها في القسم الأول من هذه المادة بحروف: أ، ب، ج، من هذا القانون. ويستطيع الوالي العام على الجزائر أن يعطّل- بصورة استثنائية- سير أي مدرسة في حين وقوع حادث ذي صبغة خطيرة، وبإيعاز من عامل العمالة أو حاكم المنطقة الجنوبية العسكرية". كنا وما زلنا نعلن للملأ، ونقول للحكومة: إن البلاءَ المنصبّ على تعليمنا آت أقلّه من القوانين وأكثره من كيفية تنفيذها، ومن القائمين على تنفيذها، وما القائمون على تنفيذها إلا صغار الشرط ومن فوقهم من حكام الأحواز المدنية، والمناطق العسكرية، لأن هؤلاء الجبابرة حين يتولّون تنفيذ القوانين المتعلقة بنا، وبديننا وتعليمنا، لا يباشرون ذلك على أنه تنفيذ لقانون يقف الطرفان عند حدوده ونصوصه، ولا يأتون ذلك بشيء من روح العدل، وإنما يباشرون ذلك على أنه انتقام من العربي المسلم (الأنديجان)، وبروح التشفي والمكر وإطفاء الحقد

_ * نُشرت في العدد 72 من جريدة «البصائر»، 21 مارس سنة 1949.

الكامن، فالتنفيذ عندهم في هذا الباب، تنفيذ عقوبة لا تنفيذ قانون، وقد بلوْنا ذلك وخبرناه فإذا هو هو في جميع صوره ومظاهره وملابساته، حتى في ردّ الجواب، وهيئة الخطاب. هذا الذي جأرنا بالشكوى منه هو الذي تقرّره وتثبته هذه الفقرة من هذه المادّة من هذا القانون، فتبنّي الرخصة ونزعها وتعطيل سير المدارس (على الإيعازات) من هذا الصنف الذي ما خلق إلا ليكون شرًّا على ديننا ودنيانا، والذي لا يوعز في حقنا إلا بالهضم والظلم، والشر والتضييق، والذي لا يرضيه عنا شيء، إلا أن ننسلخ من كل شيء، فإلى هؤلاء الذين لا يحكمون فينا بالعدل والقانون، وإنما يحكمون بالعاطفة والشهوة، يكل "المشروع" أمرًا حيويًّا، وعلى إيعازاتهم يبني حياتنا وموتنا. ونرجع الآن إلى مقارنة بين الفقرة التي نقلناها، وبين ما قبلها. فهذه الفقرة تفاجئ بأن لعامل العمالة أن ينزع الرخصة بإيعاز ... وأية رخصة هذه؟ ولم يجر لها ذكر وإنما جرى ذكر الإخبار المجرّد محفوفًا بالإبهام وما يشبه التناقض، وقد ناقشناه في المفاوضة وأشرنا إليه في المقال الماضي. ثم تتعثّر هذه الفقرة في إجمال للإيعاز وللسبب الذي ينبني عليه وهو (الذنب الخطير) وقد ناقشت المفاوض الحكومي في هذا التناقض وشرحت له في هذا الموضع رأي الجمعية في أصل (الرخصة) وبيّنت له فسادها وأضرارها، وأبواب التحكمات التي تفتحها علينا، وسجّلنا كل شيء ولكن الرجل مفاوض غير مفوّض ... ثم ألزمته بتحديدات لهذه النقط المظلمة، والعبارات المبهمة، ومنها الذنب الذي يستوجب مرتكبه نزع الرخصة منه، فأجاب على الإجمال بإجمال، فشرحت له مراد الحكومة من هذا الإجمال، ومرادها (بالذنب الخطير) وأنها تطلق وتعمّم ليبقى باب التأويل مفتوحًا لرجالها، ولكنها- على كل حال- لا تريد من الذنب شرب الخمر ولعب الميسر، والزنا، وكبائر الإثم والفواحش، لأن هذه كلها مشمولة بحمايتها، وكلها- ولو اجتمعت- أخفّ في الإجرام من جريمة التعليم العربي، وإنما تريد الحكومة من الذنب شيئًا واحدًا، تسمّيه إذا شاءت بأسماء عديدة، وتحصره إذا شاءت في اسم واحد وهو السياسة، ولو كان هذا الوصف الشريف منطبقًا على كل من (تتّهمه) به لهان الأمر، ولكنها تكل إلى عمالها رمي من شاؤوا به. فإذا غضبوا على شخص ما، لأمر ما، ولم يجدوا في أعماله مطعنًا، ولا في حياته مغمزًا، ولا في سيرته معلقًا للتهم، رموه بهذه النقيصة التي لا كمال معها، لينتقموا منه، ويطفئوا نار غضبهم عليه، وما دامت حكومتهم تضع المتون، وتكل إليهم الشروح، فهذا هو الشرح الوجيه التي يتفق مع مراد الشارع، ويؤدّي مراد الشارح. هذا هو المقصود من الذنب، وضعته الحكومة قصدًا ونيّةً وبيّنه رجالها عملًا وتطبيقًا، وعرفناه نحن مشاهدة وتجريبًا، فكل إجمال فيه ضائع، وكل تفصيل له عبث ولغو.

فإذا جاوزنا من المشروع (رابعًا) كما يجاوز الحاج رابغًا، وجدنا (خامسًا) لا يفهمه إلا الراسخون، ولا يضعه إلا الماسخون، وهو: "خامسًا: في المدن التي لا تكفي مدارسها (الحكومية) العامة لإيواء كل التلاميذ الذين هم في سن الدارسة- يسمح عامل العمالة بإذن كتابيّ منه، بفتح مدارس حرّة ذات صبغة دينية، لمدة لا تتجاوز سنة واحدة دراسية. لتعلّم في ساعات التعليم بالمدارس العامة دون مراعاة للمسافة التي بين المدرستين. ويمكن أن تجدّد هذه الرخصة". ومعنى هذه المبهمات أن قوانين الحكومة تمنع فتح مدارس (أجنبية) بجنب مدارسها الرسمية وتمنع كل تعليم أجنبي في الساعات التي تكون فيها مدارسها مشغولة بالتعليم الرسمي، كل ذلك بالنسبة للأولاد الصغار الذين يكون سنهم دون الرابعة عشرة، ولكن هذا كله لا يعقل تطبيقه إلا إذا كان التعليم إجبارًّيا، ومدارسه كافية لكل طالب، أما حالتنا مع هذه الحكومة فكلها شذوذ في شذوذ، فالتعليم ليس إجباريًّا، والموجود لفظ بلا معنى، وجسم بلا روح، وتعب بلا فائدة، وللحكومة في جعله كذلك حكم وأسرار، ولعلها من المفيد لنا لا الضار، والمكاتب غير كافية حتى لعشر المعشار، وإدارتها لا تقبل من أبنائنا إلا بمقدار، فلما رأت الحكومة إقبال الأمّة على تعليم أبنائها، تعليمًا عربيًّا دينيًّا، وتصميمها على ذلك، ورأتْ من جهة أخرى تنبّه الأمّة لتقصير الحكومة في التعليم المدني، وعدم قيامها بالواجب له، واحتقارها للمسلمين في كل ما يجب لهم منه، وبخسها لحظّهم منه، لما رأت الحكومة ذلك وتدّبرت عواقبه، أدمج مشرّع هذا المشروع هذه الفقرة، ليلفتنا من جهة إلى هذا القانون المدسوس فيخيفنا به، وليمنّ علينا بأن للعامل أن يرخص: في الدراسة الدينية، للأطفال الصغار، في ساعات التعليم الرسمي، إذا كانت المدرسة لا تكفي لإيوائهم ... وليت شعري، إذا وجدت هذه الأمور كلها، واجتمعت، ثم جاء شخص أو حكومة أو أي كائن يريد منع الناس من التعليم حتى يستأذنوه، وحتى يرخص لهم، ولمدة عام واحد فقط، ثم يعاد الاستئذان ويعاد الترخيص أو يُرفض، إذا جاء إنسان أو حكومة بمثل هذه الموبقات، مع وجود هذه المقتضيات كلها، فماذا يقال فيه؟ الحق أن أقلّ ما يقال فيه: إنه عدوّ لدود للعلم والتعليم، ووليّ حميم للجهل والأميّة، وهذا هو ما قلناه- في صراحة- لهذه الحكومة. وما قلنا لها هذا إلا لما تعاملنا به من مثل هذه التشريعات. ومن المضحكات قول هذا المشرع: دون مراعاة للمسافة بين المدرستين ... إن هذه الأمور إذا اجتمعت صيّرت العاقل بين أمرين: إما أن يضع جميع الاعتبارات والقوانين تحت رجليه ويعلم، وإما أن يجنّ ...

التعليم العربي والحكومة - 9 -

التعليم العربي والحكومة * - 9 - ثم ماذا؟ ... ثم يقول هذا المشروع الذي لم يرزَق براعة الاستهلال، ولا دليل الحياة من الاستهلال: "المادة الثالثة: تخضع المعاهد التي يشمل برنامج تعليمها كل أو بعض مواد التعليم الابتدائي المشار إليها في المادة 27 من قانون 1887، لنصوص المادتين الثانية والثالثة من قانون 27 نوفمبر 1944 الخاص بنظام التعليم الحرّ في الجزائر، ولا يطلب من المعلّمين أي شرط ليعلّموا في هذه المعاهد مواد غير مذكورة في المادة 27 من قانون 18 جانفي 1887". ولسنا بصدد شرح هذه المواليد المختلفة في الأعوام، المتجمعة في أنها ظلم وظلام؛ مقنّعات بقناع النظام. وإن هذه الإحالات المتكرّرة لتكفي وحدها في التعقيد، وخفاء المراد عن المريد، وكلها قوانين كانت نائمة، وكانت الحكومة عنها صائمة، فلم توقظها في وقت من الأوقات، مثل ما أيقظتها في هذه السنوات الأخيرة. لأنها كانت تظن أنها سلاح لغير قتال ولا معركة، لأن الأمّة كانت تغطّ في النوم أيضًا، فما حاجة الحكومة إلى تلك القوانين؛ وإنما وضعتها للاحتياط وقطع الشك ... فلما جدّ جد الأمّة في هذه السنين، وفتحت أعينها على تراث منهوب، وحق مغصوب، ومدّت أيديها للاسترجاع والتجديد، مدّت الحكومة يدها إلى تلك القوانين تحرِّكها وتوقظها، وتغذّيها بالزيادات والملحقات؛ ومن أشنع هذه الزيادات ما وُلد في طالع النحس، وهو ما قرّرته لجنة التحرير القومي يوم كانت الدولة الفرنسية كلها في الجزائر، وكانت فرنسا كلها تضطرم ثورةً وحربًا. ففي ذلك الوقت الحرج الذي ينسى فيه الخليل خليله، لم تنسنا لجنة التحرير القومي، وكافأت الأمّة

_ * نشرت في العدد 73 من جريدة «البصائر»، 28 مارس سنة 1949.

الجزائرية على الإحسان بالإساءة، وعلى المعونة بالخذلان، وعلى الدم بالهدم والهضم؛ وكان الهضم عامًّا لجميع الحقوق، ولكن التعليم العربي نال الحظ الأوفر من هذه الهضيمة، إذ رمته لجنة التحرير القومي بقانونين، وإن لم تكن لها قوّة "التقنين": أحدهما قانون 6 أوت 1943، والثاني قانون 27 نوفمبر 1944؛ وقد ذكرا في هذا المشروع، وأدرجا في مقدّمته، مع القوانين التي يجب الاعتماد عليها، والرجوع إليها: وإن التشريع في أيام الحرب للأمور الاجتماعية، كالتعليم مثلًا يخطئه التوفيق ويحالفه السفه والخطل، لأن زمن الحرب زمن ضرورة وترخص واستثناء، فما يصلح فيه لا يصلح في غيره، وحالة الحرب حالة اضطراب في العقول والأفكار، ليس معها هدوء ولا استقرار، فما شرعته تلك العقول، أو أنتجته تلك الأفكار، لا يكون إلا شدّةً أو انتقامًا أو بلاءً مبينًا. بل نقول: إن عمل لجنة التحرير القومي، أو عمل الحكومة الفرنسية في تلك الأيام في مثل هذه الشؤون، يعد كالعمل يوم القيامة، لا ينفع الأبرار، ولا يضرّ الفجّار. إن أوجع الضربات المسدّدة للتعليم العربي، من هذا التشريع "الحربي" ما فرضه على المدارس العربية من تعمير خمس عشرة ساعة في الأسبوع بتعليم اللغة الفرنسية. سألني المفاوض الرسمي- وهو يحاورني في هذه النقطة من المشروع- عن رأي في هذه الساعات الخمس عشرة، وعما يمكن أن نقبله منها، فقلت له: إننا لا نرضى في هذا الباب بشيء يزاحم لغتنا، ويضايق تعليمنا، وبيّنت له في تعليل ذلك الأسباب الآتية: أولًا: إن مدة التعليم عندنا هي خمسة أيام في الأسبوع، فإذا قسمنا عليها خمس عشرة ساعة كان حاصل القسمة ثلاث ساعات لكل يوم؛ فماذا يبقى لتعليمنا العربي؟ ثاينًا: إن تعليمنا ديني، وفيه حفظ القرآن، وحفظ حصّة من القرآن يستغرق ثلاث ساعات من اليوم، فماذا يبقى لتعليم الدين والعربية؟ ثالثًا: إن أولياء تلامذتنا إنما جاؤونا بأولادهم لتعلّم العربية والدين، ولا نحقّق رغبتهم إلا بتعليم أبنائهم ست ساعات كاملة. رابعًا: إن أغلب تلامذتنا يتركّب من المطرودين من المكاتب الفرنسية بدعوى مجاوزة السن القانونية، أو بدعوى ضيق الأمكنة عنهم، وفي الجمع لهم بين تعليمين إضاعةٌ للتعليمين معًا. خامسًا: إن تعليمنا ابتدائي، وما عهدنا تعليمًا ابتدائيًّا يجمع بين نوعين من التعليم. سادسًا: إن مدارسنا تنفق عليها الأمّة، وهي محدودة الموارد المالية. فمن أين ننفق على طائفة تساوي عدد معلّمي العربية؟ لا نقدر نحن على الإنفاق، ولا نرضى بأن تنفق

الحكومة على هؤلاء المعلّمين، إذا رضيت هي بذلك، لأننا نعلم مقاصدها من ذلك، ونعرف عواقب ذلك، ومن عواقبه التدخل والتحكم والتسلّط والإفساد. سابعًا: إن أولادنا الذين يتعلمون في المكاتب الفرنسية ست ساعات في اليوم لا ينجح منهم تسعون في المائة، لفساد مقصود في البرنامج، واختلال متفق عليه في النظام، فكيف ينجحون أو يستفيدون من ثلاث ساعات في اليوم؟ إلا إذا كان المقصود مضارّة كل من اللغتين للأخرى، وهو ما نقوله ونعتقده ونؤّيده بالشواهد. ثامنًا: إن للّغة الفرنسية مدارسها وحكومتها وملايينها وقوّتها، فما معنى هذه المضايقة؟ وما معنى هذه المزاوجة التي لا تفيد واحدةً منهما؟ ولتحقيق السبب الخامس من هذه الأسباب وتيسيره علينا جاء المشروع بعد كلامه السابق متصلًا بقوله: "يستطيع عميد جامعة الجزائر بصفته مديرًا عامًّا للتعليم الوطني في القطر كله أن يضع تحت تصرّف مديري المدارس، حين يطلب منه ذلك، المعلّمين الذين ينقصونهم لتعليم المواد التي تدرس إجباريًّا باللغة الفرنسية" ... لم نسمع كلمة (إجباريًّا) إلا هنا، وفي مدارسنا التي شدناها بأيدينا، وأنفقنا عليها أموالنا، ونعلم فيها ديننا ولغتنا؛ أما في مدارس الحكومة فلم نسمع كلمة إجباريًّا أبدًا؛ وإلى الآن، وبعد قرن وزيادة، لم تشرع فرنسا قانونًا يقضي بتعليم المسلمين تعليمًا إجباريًّا كما هو الشأن في أبنائها، وكما هو الشأن عند جميع الأمم، وبقيت هذه المنقبة مدّخرة لدور لجنة التحرير، فتقرّر جعل تعليم اللغة الفرنسية إجباريًّا، ولكن في مدارسنا لا في مدارس الحكومة ... ثم يختم المشروع بهذه المادة التقليدية وهي: "المادة الرابعة: وزير التعليم الوطني ووزير الداخلية مكلّفان كل في ما يخصّه بتنفيذ هذا القانون الذي سينشر في الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، وفي الجريدة الرسمية لحكومة الجزائر". ولكن المشروع أدركه الغرق، ولم يعدُ أن يكون حبرًا على ورق؛ وقد رضيت المفاهمة فيه، مع أنه لا يتضمن إلا جزءًا من مطالبنا لئلا يقال: إننا متعنّتون، وكنت على يقين من أول خطوة بأن المفاهمة ستخفق. كما أخفقت قبلها المفاهمة التي تولّاها الأستاذ التبسي وصاحباه، لأننا انتهينا من فهم الإدارة الجزائرية إلى الدرجة التي لا يطلب بعدها علم. ولكنني ناقشت صاحبي في نقط المشروع الأساسية وهي: الرخصة، وسلطة الحاكم في

التعطيل، وأسباب التعطيل، وفرض خمس عشرة ساعة في الأسبوع للفرنسية، وبيّنت له رأينا فيها بشدة وصراحة، ثم رفضت المفاهمة في المشروع بحذافيره، وفي جملته وتفصيله، وأبى لي ديني أن أعطي الدنية فيه، وأبت لي عروبتي أن أقرّ الضيم للغتي، وأبى لي شرف الجمعية وشرف العلم، أن أتمادى في مفاهمة ضالة عقيمة في حق طبيعي ثابت، وأن أجاري الاستعمار في الهبوط إلى هذه التوافه في وقت تطلعت فيه الشعوب التي هي أقل منا شأنًا وأحطّ درجة إلى التحرّر من قيود الاستعمار. رفضتُ المفاهمة ونفّذت قرارات الجمعية في سير التعليم إلى نهايته، وللحكومة أن تسقط السماء علينا كسفًا، وأن تتجنّى علينا ما شاء لها التجنّي والظلم. وبعد، فهذه صورة من هذه القضية كلها حقائق. وليست هي كل القضية، وإنما هي جوانب منها تأكدت الحاجة إلى بيانها فبينّاها على النمط الصحفي الذي يفيض على نزوات، الألم، ودواعي الضغط، لا على النسق التاريخي الذي يبيّن الأسباب ويبني عليها النتائج، ويشرح ويتقصّى؛ وإذا كانت في هذه الكلمات كلمة شديدة فإنما ذلك لشدة الدافع إليها، ولعلّ القرّاء الغضاب الساخطين لا يقنعهم هذا الأسلوب الليّن المتساهل، وعذري إليهم أنني لم أقصد إلى الإثارة والاستفزاز، وإنما قصدت أولًا إلى التنبيه الهادئ، وعمدت إلى تقرير الواقع لا إلى إقراره. أما النتيجة ... وأما رأيي فـ ...

التعليم العربي والحكومة - 10 -

التعليم العربي والحكومة * - 10 - وأما بعد، فهذه فصول، بعض أجزائها حكاية صادقة، وبعضها تجريح مؤلم، وبعضها رأي صريح، وبعضها نقض هادئ. وفيها جمل ثائرة، وكلمات بالغضب فائرة، وليس فيها تجنّ ولا تعنّت، وليس فيها تساهل في الحق ولا تنازل عن بعضه. فإن عابها البعض بأن فيها تطويلًا في مسألة قصيرة، أو بكاءً في غير مأتم، أو تباكيًا يُشمت العدو، أو أخذًا بقديم من التشكي ينافي روح العصر الذي شبّ عن طوق الصغائر، وخبّ في طلب العظائم والكبائر. فعذر هذا العائب أنه نائم أو غائب، أو جاهل للحال، أو جار مع الخيال. وكل هؤلاء لم يبتلِ بمثل ما ابتلينا به، من أمّة خدّرها الاستعمار، حتى صيّرها آلات استثمار، ورماها بالجهل وكله علل، وراضها على الأميّة وهي شلل، فنسيتْ نفسها وماضيها، وجهلت حاضرها ومستقبلها، وعميتْ عليها الأنباء، وثقُلت عليها الأعباء، ومن حكومة غلب عليها العناد، وغاب عنها الرشاد، ومن حكام يحكمون العاطفة، وهي غضب وحقد، ويجرون مع الهوى، وهو تشفّ وانتقا، ويخدمون مبدأ، وهو استعمار واستعباد، ومن ابتُلي بمثل ما ابتُلينا به حمد منه الإكثار، واستحسن التطويل، فإن أفاد فهو بيان وتوكيد، أو لا فهو بثّ يريح، ونفث يشفي. ... أما الحقيقة التي يجب أن تعرفها أمّتنا من هذه المعركة، ويجب أن تشيع فيها شيوع الحقائق المسلمة، ويجب أن يأخذ كل فرد منها حظه من معرفتها، فهي أنها صراع بين الإسلام والمسيحية، ظهرت آثاره في جانبين: في جانبنا بهذا الصبر المستميت، وهذا

_ * نُشرت في العدد 74 من جريدة «البصائر»، 4 أفريل سنة 1949.

التصلب الشديد، وفي هذه المقاومة العنيفة التي يعدّها الخوالف تهوّرًا منا وجنونًا، وظهرت آثاره في الجانب الحكومي بهذا التصامّ عن الحق، وهذا التصميم على الباطل، وهذه البرامج التي تظهر كل يوم لحرب التعليم العربي- الإسلامي، ومن فروع هذا البرنامج الواسع- الانهماك في تشييد مئات المكاتب وفتح مئات الأقسام، لتسع أولادنا فتشغلهم بتعليمها عن تعليمنا، وتُعطّلهم عن تعليم مفيد بتعليم ناقص لا يؤهّلهم لشيء من طرق الحياة ووسائلها، وإنما يؤهّلهم لشيء واحد وهو الاستعباد المريح للسيد ... إذ لا يحصلون من وراء هذا التعليم إلا على كلمات يلوكونها بالفرنسية ويفهمون بها عن الحاكم إذا أمر، وعن المعمّر إذا زمجر، ومن فروعه هذه الأقسام الليلية التي فتحتها الحكومة في هذه السنة، بعد ما مهّدت لها في التي قبلها، وجنّدت فيها جيوشًا من المعلّمين بمرتبات إضافية، لتفتن بها الشبان منا والأحداث عن تعلّم لغتهم ودينهم؛ ومن فروعه هذه المكائد التي تنصبها لطلبة العربية الذين يعرفون القراءة والكتابة لتستهويهم بالوظائف وتُغريهم بالمرتبات. فهذه- ومثلها كثير- كلها حيل تحوكها الحكومة لتقطع بها الطريق على التعليم العربي الديني، وتسدّ المنافذ على طلّابه. وأين كانت هذه الحكومة بالأمس القريب يوم كان تسعون في المائة من أبنائنا يهيمون في أودية الأميّة؟ أكانت عاجزة بالأمس عما قدرت عليه اليوم؟ إنها كانت بالأمس أقدر منها اليوم على التثقيف العام، وعلى فرض التعليم الإجباري، وكانت أقوى وأقوم، وكانت أنعم بالًا، وأكثر فراغًا. ولكنها كانت مغتبطة بحال المسلم من الجهل والأميّة، وكانت تمهّد له سبيلها، وكانت تتمنّى أن لا يفتح عينه على العلم، وأن لا يفتح عقله للعلم؛ فلما أفاق من غفوته، ونهض من كبوته، وأقبل على الحلم، جاءت تخادعه بهذه البرامج التي ذكرنا بعض فروعها لتلهيه بالقشور عن اللباب، وتُريه النافذة وتمنعه من ولوج الباب. فلتحذَر الأمّة هذه المظاهر الغرّارة فإنها كالسراب، يخدع الظامئ ولا يرويه. وإن مثل الحكومة كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر، فلما كفر قال إني بريء منك. إن الحكومة تعتمد، في الوصول إلى غايتها في هذا الباب على الساحر الأكبر وهو المال، تغوي به وتُغري وتغرّ، وتخيّل إلى الناس من سحره أنها تنفع وهي تضرّ، وإذا رجع الأمر إلى المال فالحكومة هي الفائزة بلا شك. لأن المال بيدها لا بيدنا. فلم يبق للأمّة من سلاح تدافع به الحكومة وتُبطل به سحر المال إلا الإيمان والكرامة والعزيمة والإصرار، وهذه كلها من أوائل ما يغرسه الإسلام في نفس المسلم. ... إن الذين ينظرون من الأشياء إلى ظواهرها، ويقفون عند السطحيات، ويرون أن هذا الصراع أمر عاديّ مما يقع بين الحاكم والمحكوم، إذ كان أمر الأول لا يقوم إلا على

القوّة، وعلى العنف في تلك القوّة، وكان أمر الثاني لا يستقيم لحاكمه إلا بالخضوع والانقياد؛ فإن خرج عن هذا الطور فإلى المقاومة، ما أمكنت المقاومة؛ فإن تمرّد أحيانًا فلكي يستريح من العذاب النفسي؛ فإن زاد فذلك عرق الحرية ينبض في القلب أو في اللسان، لتثبت وجودها، ولتدل على نفسها بنفسها. أما المتعمّقون في التفكير فيرون أن هذه المعركة غير عادية، وإنما شأنها ما ذكرناه، وهو أنه صراع بين الإسلام والمسيحية. فالحكومة- وإن كانت لائكية في الاسم- مسيحية في المعنى والنسبة والأعمال والمظاهر، والاستعمار كله مسيحي، يخفي ذلك ما يخفيه فتفضحه الشواهد والشهود؛ والعنصر اللاتيني في هذا الباب هو إمام الأئمة وقطب الأقطاب. إن إلحاحنا في المطالبة بحرية التعليم العربي، وبحرية المساجد وإرجاعها مع أوقافها إلى أهلها، وباستقلال القضاء الإسلامي عن القضاء الفرنسي، لأن هذه الثلاثة هي بعض حقوقنا في الحياة، ولا يكمل الجانب الديني منها إلا بهذه الثلاثة مجتمعةً متلازمةً؛ وحرية التديّن حق طبيعي لكل إنسان، وليست الحياة الدينية هي كل حقوقنا. بل هناك الحياة الدنيوية، أو الحقوق السياسية، وهي حق طبيعي أيضًا لنا ولكل إنسان. أثبته الله، ويريد الاستعمار محوه. وما أثبته الله فما له من ماح. هذه الحقوق السياسية هي نقطة الإشكال في نظر الاستعمار، فهي التي تقضّ مضجعه، وتفسد عليه تخيلاته، وترميه بالمقعد المقيم؛ حتى أصبح يتوهم أن كل صيحة هي دعوة إليها، وأن كل لفظة كناية عنها. وأن كل طريق مؤدّية إليها؛ وحكومة الجزائر سادنةُ الاستعمار، بهذه الديار، مصابة بعارض مزمن، من هذا الخيال المزعج، فهي تصرفنا عن حقوقنا السياسية بكل صارف، وهي تود- بجدع الأنف- أن تمنعنا من التفكير فيها؛ ولو استطاعت لمنعت طيفها أن يلمّ بنا في المنام؛ وهي لذلك تسدّ الذرائع الموصلة إليها، وتحاربنا في الوسائل، لتصدّنا عن المقاصد؛ وهي لذلك تتعمّد إقحام السياسة في كل أعمالنا، وتسمّي كل شيء مما نقول ونعمل سياسة، حتى قراءة القرآن وتأدية الصلاة والصوم والحج، وهي لذلك تدُسّ أنفها في كل أمر ديني، فتتمسّك بالمساجد وأوقافها، وتتحكّم في رجالها، وتسيطر على الحج ووسائله، و (تحجّج) كل عام متصرّفًا فرنسيًا وقائدًا نصف فرنسي وعدة أعوان جواسيس، لتشكّل منهم في سفينة الحج (حوزًا ممتزجًا) (1) بجميع خصائصه وأشخاصه، حتى يشعر المسلم الجزائري أن يد الاستعمار لا تفلته في البر والبحر، وفي مكة والمشاعر ...

_ 1) الحوز الممتزج، هو كل ناحية في القطر الجزائري، سكانها مسلمون، أو معظم سكانها مسلمون، ويُسَمّيه الفرنسيون: Commune mixte، والمتصرّف هو الحكم المستبد الذي يحكم هذه الناحية ويسمّونه: Administrateur، والقانون الذي يستمد منه أحكامه هو قانون الأخذ بيمينه الذي يبيح له أن يضرب الأهلي ويسجنه بغير محاكم.

إن الحكومة تسمّي أعمالنا الدينية سياسة لتحاربنا بذلك، كما يلبس القوي خصمه الضعيف لباس الجندي، ويقلّده شبه سلاحه ليقول للناس: إنه جندي، وإنه شاكي السلاح، وإنه مقاتل. وإنه يريد أن يقتلني فيستبيح بذلك قتله ... ووقفنا عند حدود المطالبة بالحقوق الدينية الطبيعية فلم يعن ذلك شيئًا، وتدرّجنا من اللين إلى الشدّة، فلم ينفعنا ذلك فتيلًا، وجارينا الظروف أحيانًا، فلم يجدِ ذلك نقيرًا، وجاوزنا الحدود أحيانًا، لنستعين بشيء على شيء ولنتخذ من الأشدّ وسيلةً للأخفّ فلم يفد ذلك قطميرًا، وتطوّر الزمان وتطوّرت الأمّة، وتعدّدت المقتضيات، ولكن الحكومة جامدة ودار ابن لقمان على حالها؛ ورجعنا إلى تجارب ربع قرن ندرسها، ونعتصر منها ما نجعله أساسًا لأعمالنا من جديد، وقاعدةً لمستقبلنا ومستقبل ديننا ولغتنا وأبنائنا، فكانت نتيجة الدرس أنه لا أظلم من الظالم إلا من يخضع لظلمه ويحترم قوانينه الظالمة. أما الرأي الشجاع العاقل الحصيف الموزون بميزان العدل والحق، ولا يضيره أن يكون هو الرأي الأخير، ولا أن يكون رأيَ (العبد الفقير). فهو أن نجمع ونصمّم، ونعتمد على أنفسنا، ونتوكّل على ربّنا، ونتعلّم ديننا ولغتنا وكل ما يخدمهما من علوم وفنون، من البدايات إلى النهايات. لأن ذلك ألزم لحياتنا ووجودنا من الطعام والشراب. ولا نبالي بمخلوق يقف في الطريق، ولا بحقود يغصّ من حقده بالريق. واذلّاه ... واذلّاه ... أما يكفينا ضعةً وهوانًا أن نستجدي ونمد أكف (الشحاتين) في شؤون ديننا؟ لا استجداء في الدين بعد اليوم- أيتها الأمّة- إن كنت مؤمنة بالله واليوم الآخر، وبمحمد وبالقرآن، وعفا الله عما سلف من ذلك. أما نحن فقد كنا علماءَ دين، ودعاة علم وتربية، وزرّاع خير ورحمة، ولكن الحكومة تعدّ هذا كله سياسة، وتعتبرنا لأجله سياسيين: فليكن ذلك، ولنكن علماءَ وسياسيين، ولنكن كل شيء ينفع أمّتنا ويحمي ديننا ولغتنا. ما دمتَ لا تجد صاحبك إلا حيث تكره، فمن العدل أن لا يجدَك صاحبك إلا حيث يكره.

معهد عبد الحميد بن باديس

معهد عبد الحميد بن باديس * ((عذري فيما يراه قرّاء هذا المقال من نقص في الإبانة، وتشويش في البناء، وتفاوت بين الأجزاء، وبُعد عن المعهود من مثلي في مثله، أنني كتبته في أثناء أسفار، في عشرات من القرى، وفي عشرات من الحالات التي تعتري المسافر، المنهوك الأعصاب من المحاضرات والأحاديث، فجاء المقال وعليه نفض من روح كاتبه، وفيه رُقع ولمع وألوان شتى، وجاء كصاحبه يلهث تعبًا، وكأنه مريض بالسكر، وقد حاولت تنقيحه فأبت الشواغل، وزاحم الواغل ... فتركته كما هو)): أيتها الأمّة: وإليك يُساق الحديث. هذا موقف الحساب على الأموال والأعمال، وهذا سجله الحافظ للدقائق والجلائل، يُمليها على الأجيال الحاضرة، ويحدّث بها الأجيال المقبلة، متصلة الإسناد، مؤّيدة بالشهود والشواهد، ويسوءنا- والله- أن يتحدّث عنا بتقصير في الواجب، أو يشهد علينا بتضييع للحق، وإضاعة للفرصة، أو يسجّل علينا نقص القادرين على التمام. إن المرء حديث بعده، وإن الأمّة أحاديث متسلسلة؛ وفيما يتركه الأول للأخير المال والمتاع، وفيه العلم والفضائل وفيه الأحاديث ... وإن الأحفاد وأحفادهم لا ينسون نقصنا لكمالهم، ولا يغضون عن مقابحنا لمحاسنهم، ولا يصفحون عن زللنا لبرّهم بنا؛ ولكنهم سيحاسبون فيناقشون الحساب، وإن هذه النهضة التي بدت مخايلها لا يغطّي كمالها الأخير نقصها الأول، وإن ترعرع في مثل رونق الضحى شبابها، وتفرّعت في أزكى المنابت أفنانها. إن أحفادنا- يوم تتصل أسبابهم بأسباب هذه النهضة- سيتحدثون عنها وعنا، وسيوفوننا الحساب على أعمالنا لها، وعلى آثارنا فيها حمدًا وذمًّا، كما نتحدّث نحن عن أجدادنا الأدنين والأبعدين، ونذكر ما بنوا وشادوا، وما نقضوا وتبَّرُوا.

_ * نُشرت في العدد 90 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1949.

فاخْشَي- يا أمّة- يومًا يعرض فيه هذا الطور من أطوارك على أخلافك، ويُمتحن هذا الساف (1) الأول من بنائك، بأيدي أبنائك؛ فيجدون النقص هنا، والعوج هناك، والتهافت هنالك، ثم ينظرون فيجدون الأساس قد وُضع على دِمنة ... ذلك هو الفضوح، وتلك هي سخنة العين. إن التاريخ سيكتب عن يومك هذا أنه ميلاد نهضة، وفجر انقلاب، وبدء تجديد ستنتزع منه هذه الشهادة انتزاعًا لا خيرة فيه، لما في طبيعة يومك هذا من الغلوّ والإسراف، والإخلاء (2) والإسفاف، ولما فيه من الدعاوى الدعية، والشهادات غير المرعية؛ فاحرصي على سدّ الخلل وتقويم العوج ما استطعت، وأكثر مما تستطيعين، حتى تكون الشهادة قريبة من الصدق. إن عمل الأجداد للخير والنفع، وبناءهم الباقيات الصالحات للعلم، مفخرةٌ للأحفاد، وحفز لهممهم، وتقصير للمسافة عليهم، وتقليل من الجهد والنصَب، وغرس وتمهيد؛ فضعي- أيتها الأمّة- في أيدي أبنائك ما يفاخرون به، وابني لهم ما لا يحتاجون معه إلى الترميم. إن برّ الآباء للأبناء أساسٌ لبرّ الأبناء للآباء فأقرضوا أبناءكم البرّ الحسن تجدوه مضاعفًا ويؤدّوه إليكم ومعه فائدته وريعه. ولو أن آباءنا وأجدادنا الأدنين بنوا لنا المدارس لأراحونا من هذه المتاعب التي نلقاها في بناء المدارس، ولصرفنا هذه الجهود في ما بعد البناء من تثمير وتعمير؛ ولكنهم- عفا الله عنهم- عاشوا لأنفسهم في شبه غيبوبة عن زمنهم، يتعلّلون بالخيال، ويلوذون من الحرور بالظل الزائل، ولم يعيشوا لنا، ولا فكّروا فينا، ولا أقرضونا شيئًا يذكّرنا بهم، فماتوا غير مذكورين، ولا مشكورين، وتركونا نمشي بأجرد ضاح؛ ولولا بقية من مساجد القدماء في الأمصار لوجدنا آباءنا يصلّون في الشوارع والأسواق؛ إن أسلافنا الصالحين كانوا مسلّطين على هلكة أموالهم في المصالح العامة، وفي بناء المآثر للأعقاب، وكانوا كلهم بمقربة من قائلهم: إذا حال حولٌ لم يكنْ في بيوتنا … من المال إلا ذكره وفضائله يلتقون معه في الذكر والفضائل؛ أما نحن فإن أموالنا تذهب في أعراس الإنسان، وأعراس الشيطان، وفي المآتم والخصومات، وفي المواخير والحانات، وفي فضول الحياة وقشورها، وفي خسائس اللذات والشهوات، ولو أن هذه الأمّة أوتيتْ رشدَها، وأنفقت جزءًا مما تنفقه

_ 1) الساف هو السطر من البناء يضعه البنّاء حجرًا بجنب حجر ثم يملأ الفراغ بالطين أو الكلس وصغار الحجارة ثم ينتقل إلى ما فوقه وهو الساف الثاني. 2) الاخلاء من الشاعر هو خلو شعره من المعاني المبتكرة، فإذا كان الشاعر كذلك قيل هو يخلي.

في شهواتها على المصالح العامة، لم يبق في هذا الوطن أمّي ولا مريض ولا عاطل ولا فقير. ولكن الخذلان الذي لا غاية وراءه أن غنيّنا ينفق مئات الألوف على لذّاته وشياطينه، فإذا سُئل بذل القليل، في مشروع جليل، أعرض ونأى بجانبه. ... هذا المعهد أمانة الله بيننا وبينك- أيتها الأمّة- وعهد العروبة والإسلام في عنقنا وعنقك، وواجب العلم علينا وعليك، وحق الأجيال الزاحفة إلى الحياة من أبنائنا جميعًا، فأيّنا قام بحظه من الأمانة، ووفى بقسطه من العهد، وأدّى ما عليه من الواجب، واستبرأ لذمّته من الحق؟ لا منّة لنا ولا لك على الله ودينه، وما عظم من حرمات العلم، وما أوجب من رعاية الأبناء، وإنما علينا أن نتعاون جميعًا، كل بما قسم الله له، وقد اقتسمنا الخطتين، فقمنا وقعدت، واجتهدنا وقصرت، قمنا بقسطنا من الواجب حق القيام، فدعوْنا ما وسعت الدعاية، وبينا ما وسع البيان، وعلمنا ما أمكن التعليم، ونظّمنا إلى حيث تبلغ غاية التنظيم، ووعدْنا فأنجزنا الوعد، وأخذنا الأمر بقوّة، لأن زمنك قويّ لا يرضى بصحبة الضعفاء. نحن إنما نبني لك، ونفصّل على مقدارك، ونرشدك إلى ما يجب أن تكوني عليه لتستبدلي حالةً بحالة، ولبوسًا بلبوس. عصرُك عصر نهوض، ومن لم يجارِ فيه الناهضين كان في الهالكين؛ وقد بدت عليك مخايل النهوض وقال الناس قد نهضت، فحق القول، ولم يبق للنكوص مجال، وما عن هوى نطقنا، ولا عن غشّ صدرنا، حين قلنا لك: إنك لا تنهضين إلا بالعلم، وإن نهضة لا يكون أساسها العلم هي بناء بلا أساس ولا دعامة. إن النهضات الأصيلة لا تعرف القناعة، ولا تدين بها، ولا ترضى بالتقلّل والتبلّغ، وإنما هي القوّة والفوران، والتأجّج والجيشان، والبناء والرم، والأكل اللم، وصدْم ثابت بسيار، ودفع تيار بتيار. إن قليلًا للنهضة- في باب العلم- معهد يضم ستمائة تلميذ، في أمّة تعدّ بعشرة ملايين، تسعة أعشارها ونصف عشرها أميّون. وإن قليلًا للنهضة مائة وثلاثون (3) مدرسة ابتدائية في قطر واسع الأرجاء مترامي الجنبات.

_ 3) كان هذا عدد المدارس الحرّة التي أنشأتها جمعية العلماء بمال الأمّة في السنة التي صدر هذا العدد في شهورها، وقد بلغ عدد تلك المدارس في سنة 1955 قريبًا من أربعمائة مدرسة. وبلغ عدد تلامذة تلك المدارس قريبًا من خمسة وسبعين ألفًا بين ذكور وإناث. وبلغ عدد المعلمين في السنة المذكورة الأخيرة قريبًا من سبعمائة.

وإن قليلًا للنهضة- ولو كانت في مبدئها- أربعون ألف تلميذ يتعلّمون المبادئ الأولية من لغتهم ودينهم من مجموع من الأطفال يبلغ مليونين لا يعرفون منها ولا من غيرها شيئًا. وان قليلًا للنهضة عشرات من الملايين تنفق على العلم، بجانب مئات من الملايين تصرف في الشهوات والكماليات والمحرّمات. دعوْنا هذه الأمّة- بعد تحقّقنا للقابلية فيها- إلى التعليم العربي الابتدائي، لأنه الخط الذي تبتدئ منه النهضات العلمية، فلبّتْ لا وانيةً ولا عاجزة، وشادت له من المدارس ما يفخر به الفاخر، ويغصّ به الشانئ الساخر، وتمكّنت منها الرغبة في هذا النوع من التعليم إلى درجة أمنَّا معها الانتكاس والرجوع إلى الوراء؛ ولكن هذا العدد من المدارس لا يتناسب مع النسبة العددية للأمّة، ولا مع طول الركود السابق للنهضة، ولا يفي بالحاجة اللازمة، ولا بدّ من مضاعفة السير لمن تأخر كثيرًا عن القافلة. ثم خطوْنا بها خطوة ثانية ثابتة إلى الأمام، لأن التعليم الابتدائي وحده لا يكفي همًّا ولا يشفي ألمًا، وإنما هو مفتاح للعلم، وارتفاع عن الأميّة، وإنّ وراءه لدرجات إن لم يؤدّ إليها كان عقيمًا وكان عاطلًا؛ وإن للوقوف عنده والقناعة به لآفات، منها زهد الجيل في العلم، وفتور هممه فيه، وفساد تصوّره له؛ فكانت هذه الخطوة هي المعهد الباديسي. وهذا المعهد- على عظمته، وظهور نتائجه من أول يوم- ليس إلا معهدًا تجهيزيًّا يحتضن المتخرّجين من السنة الخامسة الابتدائية، ومن ماثلهم من ذوي الجهود الخاصة، فيقوّيهم في الدينيات علمًا وعملًا، وفي القرآن حفظًا وفهمًا، ويروّض ألسنتهم على القراءة والخطابة، وأقلامهم عن الإنشاء والكتابة، وعقولهم على التفكير الصحيح، ويصوغهم صياغة أخلاقية متقاربة، ويشرف بهم على علوم الحياة من باب الرياضيات والطبيعيات، ويهيّئهم تهيئة صحيحة قوية للتعليم العالي، هذه هي حقيقته، لا نغلو في بيانها ولا نقصر، وإن أوائله في ذلك لمنبئة بأواخره. وأقلّ ما يجب لنهضتنا التعليمية- إن كنا نريد النهوض جادّين- أن تكون لهذه المرحلة التجهيزية منها ثلاثة معاهد: بقسنطينة والجزائر وتلمسان، نجهّزها بالرجال، ونزوّدها بالمال، حتى يؤوي كل واحد منها ألف تلميذ؛ ولو تكافأت جهود جمعية العلماء في هذا السبيل، وجهود الأمّة، وتوافتْ على هدف واحد منه، لبرز هذا العمل الجليل في سنة واحدة من الزمن؛ وإنه لعمل جليل حقًّا، نراه نحن ويراه ذوو العزائم معنا قريبًا، ويراه المثبطون والعاجزون بعيدًا، وما هو ببعيد إلا عن هممهم ... مرّت على المعهد سنتان نما فيهما وترعرع أضعاف ما كان مقدّرًا لوليد سنتين مثله، في أمّة كأمّتنا، وظرف كهذا الظرف، فما هي الأسباب في هذا النمو السريع؟

السبب يرجع إلى عدة عناصر: منها إخلاص القائمين عليه من رئيس ومرؤوس، وجدّهم وثباتهم، ومنها إيمان الباذلين للمال بالعلم، وإنه المنقذ الوحيد للأمّة، ومنها كون التعليم الابتدائي بلغ حدّه، وأصبحت مدارسه تُخرج العشرات من تلامذة السنة الخامسة، فيجدون أنفسهم- بعدما ذاقوا لذة العلم- محرومين من مواصلة التعليم، فوجدوا في المعهد شفاء من ألم الحرمان. وسبب آخر نفساني، وهو قوّة المقاومة من عناصر الإصلاح لعناصر الإفساد، ومن قوى الخير لقوى الشر، فنشأ من ذلك مزيج من التأثر والتأثير، كان خيرًا وبركة على المعهد، وكان بعض السبب في هذا النمو السريع. ظهر نجاح المعهد في الناحية المعنوية، فقد استولى على الأمد الأقصى من السمعة الصالحة، في الأوساط الصالحة من الأمّة، وأصبحت تنظر إليه نظر الإعجاب والتقدير، وتُعلّق عليه الآمال الكبار. وظهر نجاحه في نتائج التعليم، فقد أتى في هذه السنة بالعجب العجاب، وكانت النتائج فوق المستوى العادي، في جميع السنوات، بل كان النجاح منقطع النظير في السنة الثانية، والسر في هذا النجاح هو أن شياطين الوسوسة صُفّدت في هذه السنة، وانقطع ما كانوا يزّينونه للطلبة ويروِّضونهم عليه من تلهية بالباطل، وتدلية بالغرور، ففاء الطلبة إلى الرشد، وأقبلوا على العلم، وباء الشياطين بالخزي والخذلان. وظهر نجاحه في صحة التوجيه العقلي والفكري والخلقي لتلاميذه، فقد رأيناهم يأتون متأثّرين بأفكار ونزعات شتّى، فلا تمضي عليهم الأشهر الثلاثة الأولى حتى تلين مقادتهم للعلم، ويصبحوا منسجمين في الاتجاه، متقاربين في الأخلاق، معرضين عن اللغو، إلا النادر الذي لا حكم له. وظهر نجاحه في الإدارة، فقد كانت مثالًا عاليًا في الضبط والحزم والنظام. ... يعنى المعهد بالرياضيات والطبيعيات، ويجعل منها ذريعة إلى مقاصد سامية، كان التلميذ العربي محرومًا منها، لأن المعاهد العربية خالية منها، وقد قام المعهد في هذه السنة بتجربة موفّقة بلغت الغاية من النجاح، إذ تطوّع الدكتور عبد القادر بن شريف بإلقاء دروس في حفظ الصحة على تلامذة المعهد، مستعينًا بأشرطة سينمائية، فلقيتْ من الطلبة إقبالًا يفوق الحدّ، وتطوّع الصيدلي الأستاذ علاوة عباس بإلقاء دروس أسبوعية في علم وظائف الأعضاء

وتركيب الجسم، فكان لها من التأثير والإقبال مثل ذلك، وتطوّع الأستاذ محمد الجيجلي من أساتذة التعليم الثانوي الفرنسي بإلقاء دروس في الجغرافيا، وتطوّع الأستاذ محمد بن عبد الرحمن بإلقاء دروس في الحساب، فكان لهذه الدروس من الآثار الشيء الكثير، وإدارة المعهد عازمة على أن توسّع هذا البرنامج، وتزيد في حصصه الأسبوعية في السنة المقبلة، وهي تشكر هؤلاء الأساتذة على ما قدّموه للمعهد من معونة قيّمة صادقة. أما السنة الآتية فنحن نعلم من الآن أنها ستكون أكمل وستكون أثقل: تكون أكمل بالتلامذة المدرّبين، والشيوخ المجرّبين، والإدارة المحنّكة، والنظام المحنّك، وتكون أثقل بالتكاليف المالية الجديدة، فالمعهد كما يقرأ القرّاء في تفاصيل الحساب من هذا العدد مدين بما يقرب من ستة ملايين من الفرنكات، وستؤدّى إلى أصحابها في أولّ السنة الدراسية إن شاء الله، ومفروض عليه أن يعمر السنة الأولى التي انتقل أبناؤها إلى السنة الثانية، بأربع طرائق لا تقلّ عن مئتي تلميذ، ومعنى ذلك أنه مضطر إلى إحضار مساكن لنصف هذا العدد على الأقل، وإلى إحضار أربعة أقسام للدراسة، وإلى إحضار أربعة مشايخ جدد للتدريس، وإنها لضرورة لا محيد عنها وعن تحمّل أثقالها، فعلى الأمّة أن تسمع وتعي، وعلى الذين عوّدونا إمداد المعهد بالمال، أن يضاعفوا إمدادهم، وعلى أصحاب البصائر الثاقبة، المفكّرين في المصير والعاقبة، أن يفكروا معنا في إيجاد وسائل للدخل القار، لحفظ حياة هذه المشاريع العلمية، فإن قيامها على ما تقوم عليه اليوم غير مضمون الاستمرار، ولا ضامن للاستقرار، ولنا في هذا الموضوع آراء أنضجتها الروية، ومخضها التمحيص، شرحناها للأمّة في المجامع الحاشدة، وسنجلّيها في «البصائر» لذوي البصائر.

مدارس جمعية العلماء

مدارس جمعية العلماء * نجوم متألقة في ليل الجزائر الحالك، منها الكبيرةُ ومنها الصغيرةُ؛ ولكل واحدة حظها من اللألاء والإشراق، وقسطها من الإضاءة لجانب من جوانب هذا الوطن الذي طال في الجهل ليله، وأقام بالأمية ويله. حياةُ الأمم في هذا العصر بالمدارس، ما في هذا شك، إلا في قلوب ران عليها الجهل، وغان عليها الفساد؛ ونفوس ختم عليها الضلال، وضرب على مشاعرها المسخ، وطال عليها الأمد في الرق، فصدئت منها البصائر، وعميت الأبصار، فتغير نظرها في الحياة ووسائلها؛ فرضيتْ بالدون، ولاذت بالسكون. الحياة بالعلم، والمدرسة منبع العلم، ومشرَع العرفان، وطريق الهداية إلى الحياة الشريفة؛ فمن طلب هذا النوع من الحياة من غير طريق العلم زل، ومن التمس الهدايةَ إليه من غيرها ضل؛ وحياة الأمم التي نراها ونعاشرها شاهد صدق على ذلك. تبني الأممُ ما تبني من القصور، وتشيد ما تشيد من المصانع، وتنسق ما تنسق من الحدائق، وتحف ذلك كله بالسور المنيع، فإذا ذلك كله مدينة ضخمة جميلة، ولكنها بغير المدرسة عقد بلا واسطة، أو جسم بلا قلب؛ وإذا ذلك كله إرواء للغرائز الحيوانية، وإرْضاء للعواطف الدنيا بالمتع واللذّات، والتباهي وطلب الذكر؛ أما إرْواء العقل والروح، وإرضاء الميول الصاعدة بهما إلى الأفق الأعلى، فالتمسهما في المدرسة لا في القصر ولا في المصنع، ولو تباهت الأبنية المشيدةُ بغاياتها، وتفاخرتْ بمعانيها لأسكتت المدرسةُ كل منافس.

_ * نشرت في العدد 93 من جريدة «البصائر»، 31 أكتوبر سنة 1949.

تغالى خلفاءُ بني العباس في تشييد قصورهم، وعمروها بأسباب الترَف المادّي، ووسائل اللذات الجسمانية، وأسبغوا عليها كل ما يستهوي من جمال وفن، وتسامت همم الخلفاء إلى إظهار جلال الخلافة في البناء والتشييد، فما قصرَ في ذلك منهم أوّلٌ ولا أخير، وباهتْ بغداد بتلك القصور أمصارَ العالم كله، ولكنهم لم يهتدوا إلى البَنِيّة التي تخمل كل بناء، ولم ينفقوا في تشييد المدرسة بعض ما ينفقون في تشييد القصر من مال وعناية وذوق، إلى أن جاء أحد وزرائهم فسبق للمنقبة التي تغطّي المناقب، وشاد المدرسة النظامية، هنالك علمتْ بغداد أنّ كلّ ما حازَته من جمال كانت تنقصه نقطة الجمال، وأن كل ما وصلتْ إليه من عظمة كان ينقصه سر العظمة، وأن كل ما كتب عنها التاريخ، ودون وصفها الشعرُ خيالٌ أيدته هذه الحقيقة، وأن كلّ ما حوى "الجانبان" (1) بناءٌ تنقصه لبنة التمام. كانت تلك القصور تزخر بالترف الذي يفضي إلى الرذيلة، وتؤوي في أكنافها أممًا من الجواري والغلمان والفجرة والغدرة، وتخفي في أقبائها الموت والظلم، وتحاك في أرْوقتها المكائدُ والحيل، وتهدر في ساحاتها الأعراض والدماء والفضائل، ويقرّب إليها ناسكوها قرابين المصانعة والنفاق. أما مدرسة الوزير نظام الملك فقد أصبحتْ تزخر بطلاب العلوم، ويَسطَع في آفاقها من أئمة الإسلام نجوم، ويشع شعاعها فيجاوز النهر إلى خراسان، والبحر إلى الأندلس. ناهيك بابن الصباغ، وأبي حامد الغزالي، وأبي إسحاق الإسفرائيني. ... تبارك الذي أسند البناء إلى نفسه، فأرشدنا بذلك إلى أنّ البناء من صفات الكمال، ودلنا على أنّ العظيم يبني العظيم، فقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} وقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ... تبارك الباني، وجل المبنى؛ فهذا الكون كله بناء وتركيب، ونظام وترتيب، وهذه الحياة كلها بناء تحسه الحواس، أو تعقله العقول، أرأيتَ عملَ الإنسان؟ إنه يتكامل حجرًا على حجر في البناء، وحرفًا بعد حرف في الكتابة، وكلمةً بعد كلمة في الحديث، وخيطًا على خيط في النسج، وخطوةً بعد خطوة في المشي؛ أرأيتَ عمله العقلي؟ إنه بناء فكرة على فكرة، وخاطرة على خاطرة، ونتيجة على مقدمات، أرأيتَ صنع الله في العوالم النامية من نبات وحيوان؟ إنها أطوار ودرجات، وأحوال متلاحقة،

_ 1) جانبا بغداد هما العهد والرصافة.

وطبقات مترامية إلى غايات، فلا يزاحم طوْرٌ طورًا، ولا تسبق غايةٌ وسيلتها؛ وكل ذلك بناءٌ بديع، وتركيبٌ معجز. ... والأمم إنما تتفاضل وتتعالى بالبناء للخير والمنفعة والجمال والقوة، وما عدا هذه الأربعةَ فهو فضولُ عابث، لا يدخل في قصد العقلاء؛ وقد بنى أسلافنا لكل أولئك مجتمعةً ومفترقة، بنوا المساجد مظهرًا للخير، وشادوا المدارس مظهرًا للمنفعة، وأعلوا الحصون مظهرًا للقوّة، وسمَكوا القصور مظهرًا للجمال، فضموا أطراف الفخر، وجمعوا حواشي المجد، وحازوا آفاق الكمال، وقادوا الحياة بزمام، وأنشأوا بذلك كله للحضارة الإنسانية الشاملة نموذجًا من المدينة الفاضلة التي تخيلها حكماءُ اليونان، ولم يحققها ساسة يونان، وإنما حققها من ساد بالعدل، وقاد بالعقل؛ وأولئك آبائي!! ... ... يُعذَر النائم، ولا يعذَر المستيقظ، والأمة نامت نومًا طويلًا ثقيلًا، فإذا عدَدْنا حركتنا القائمةَ اليومَ يقظةً فغير كثير عليها أن تبني بضع مئات من المدارس في بضع سنين، وغير كثير على المستيقظ أن يشتد عدْوًا للحاق بالسابقين، لأن اليقظة استئناف حياة، والحياة المستأنفة ليستْ وجودًا من عدم، وإنما هي تجديد لما انهدم؛ فلها تكاليفُ ثقيلة، ولها صُعدَاء مطالبها طويلة. أفاقت الأمة الجزائرية إفاقةً غيرَ منتظمة، لأن الأحداث التي سببتْ لها النوم حقنتها بأنواع شتى من المخدارات، منها ما يفسد الدين، ومنها ما يشكك في اليقين، ومنها ما يزلزل العقل، ومنها ما يشل الإرادة، ومنها ما ينسي الماضي، ومنها ما يغير الاتجاه، ومنها ما يزيغ النظر إلى الخير والشر فيغيرُ مفهومهما، ومنها ما يفسد الفطرة، فلما أفاقت وجدت نفسها على مراحل من ماضيها، وعلى قاب قوسين من الاضمحلال والتلاشي؛ ووجدت من الدين عقائدَ لابسها الضلال في الفهم، والضلال في العمل، ومن المال أرزاقًا مقترةً يبض بها الكد المضني، والعرَق الصبيب، ومن الصناعة صنعةَ الجمل التي لا تفيء عليه إلا النقبَ في الظهر، والوجى في الخفّ، والتحجر في الثفنات، ومن العلم ألفاظًا بلا معان، وقشورًا بلا لباب؛ ومن التاريخ معالمَ طامسة، وظلمات دامسة، ومن قيم الحياة الحظ المغبون، والأجر الممنون، ومن المنازل الإنسانية منزلة المضيعة والهوان.

ووجدت بعد ذلك العذاب الواصب فئةً منها، يلبسون جلدتها، وبتسمون بأسمائها، ويتكلمون بلغتها، يدعونها إلى جهنم!! ... فمنهم الذي يزين لها الشرّ، ومنهم الذي يقبحُ لها الخير! ... فيهم من يهدِّئها، وليس فيهم من يهديها! كلهم ينوّمها، وليس فيهم من يقوّمها! وها هي ذي تعبِّد العقاب (2)، وتمهد الصعاب، وتبني لنفسها، وبيدها، وبمالها، على إلهام الخير من ربها، واستلهام الحق من كتابه وسنة نبيه، هذه المدارس التي تنشر «البصائر» في هذا العدد صورَ بعضها لتنشط العاملين، وتغيظ الخاذلين، وتوسع الأمل في نفوس الآملين. وهذه المدارس التي أربتْ على المائة بالعشرات كلها من آثار جمعية العلماء ومن ثمرات إرشادها وإعدادها للأمة؛ وستسفر هذه الحركة المباركة- إن شاء الله- في بضع سنين أخرى عن مئات من المدارس؛ لأن هذه الرغبة المتأججة في صدور الصالحين من الأمة لا يطفئها تعنت الظالمين، ولا وسوسةُ الدجالين، ولا كيدُ المفسدين. وإن من لئيم المكر أنْ يحاول بعض الأشرار، المسخرين من الاستعمار، لحرب هذه الحركة، التسلط على بعض هذه المدارس باسم التعليم وهم لا يحسنونه، وباسم النظام وهم لا يتقنونه، وهم يسرّون في أنفسهم التوصّل بتسييرها إلى تدميرها، وبفتحها إلى إغلاقها، وقد فضح الله كيدهم في واحدة أو اثنتين وضعوا أيديهم عليها فعمروها ولكن بالتخريب، وكانوا في ذلك كمسيلمة الكذاب، تفل في بئر حلوة فأصبح ماؤها أجاجًا! ... ... أما دعائم هذا البناء التي تمسكه أن يزول، وتصونه أن يختل أو يحول، فهم أشبال الغاب، وحماة الثغور، عمار المدارس، وسقاة المغارس، مربو الجيل وأئمته، أبناؤنا المعلمون المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد، الصابرون على عنت الزمان، وجحود الإنسان، وكلب السلطان، المقدمون على كثرة الخوّان، وقلة الأعوان، جيش الحق، وحاصة (3) الشق، وألسنة الصدق. أي طلائعَ الزحوف، وأئمة الصفوف، سلام عليكم بما صبرتم، وتحيات من الله مباركات طيبات بما آويتم لغة الضاد ونصرتم، وثناء عليكم يأرج كالمسك من والد برٍّ بكم، شفيق عليكم، نصحه لكم هدى، وروحه وجوارحه لكم فدى ...

_ 2) العقاب جمع عقبة. 3) جمع حائص، وحاص الثوب خاطه وجمع أطرافه بالخيط.

إلى أبنائنا المعلمين الأحرار

إلى أبنائنا المعلمين الأحرار * أيها الأبناء البررة! وصفناكم- في العدد الخاص بالمدارس- بما أنتم أهله، وذكرناكم- ذكركم الله في الملإ الأعلى- بالخير والجميل، وأرسلنا إليكم تلك التحية الأبوية الخالصة صادرةً عن قلب يكن لكم الحب والتقدير والشفقة، راجين أن يكون رجع التحية منكم واجبًا يؤدى على أكمل وجوهه، وعملًا يحقق على أحسن حالاته، وغايةً توصَل بأسبابها من أقرب الطرق، وبأنفع الوسائل، لا كلامًا يذهب مع الريح، ولا قشورًا من الأعمال تضيع الوقت، وتبعد الغاية، ولا أنينًا من الشكوى والتسخط يذهب بالصبر ويوهن العزيمة، وهما حلية الأبطال. ها أنتم هؤلاء تبوأتم من مدارسكم ميادين جهاد، فاحرصوا على أن يكون كل واحد منكم بطل ميدان، وها أنتم هؤلاء خلفتم مرابطة الثغور من سلفكم الذين حموا الدين والدنيا، ووقفوا أنفسهم لإحدى خطتين: الدفاع المجيد، أو موت الشهيد، فاحذروا أن تؤتى أمتكم من ثغرة يقوم على حراستها واحد منكم، فيجلب العار والهزيمة لجميعكم، واعلموا أنكم عاملون، فمسؤولون عن أعمالكم، فمجزيُّون عنها من الله ومن الأمة ومن التاريخ ومن الجيل الذي تقومون على تربيته كيلًا بكيل، ووزنًا بوزن. إننا- يا أبنائي- كنا أوّل من نام، وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن لا نقطع الوقت في العتاب والملام، والحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، ومن الحزم أن نتحاسب على الدقائق، إذا تحاسب غيرنا على الساعات، وعلى الأيام إذا تحاسب غيرنا على الأعوام. إنّ وراءَنا من الزمن سائقًا عنيفًا، وإنّ معنا من العصر وروحه زاجرًا مخيفًا، وإن أمامنا

_ * نشرت في العدد 94 من جريدة «البصائر»، 7 نوفمبر سنة 1949

سبلًا وعرة، وصراطًا أرق من الشعرة، وإنّ عن أيماننا وعن شمائلنا عوائقَ من الدهر، ومعوّقين من البشر، وإنّ في طيّ الغيوب، من القدر المحجوب، بوائق في أكمامها لم تفتق، وإنْ أدري أقريب أم بعيد ما أوعد الله الظالمين، ولكنّني أدري أنّ العاقبة للمتقين، وأننا لا نغلب العوائق، ولا نتقي البوائق، إلا بإيماننا بالله، ثم بديننا، ثم بلغتنا، ثم بأنفسنا ثم بالحق الذي جعله الله ميزانًا للكون، وقيومًا على الكائنات، ترجع إليه صاغرة، وتقف عنده داخرة. إن التقصير في الواجب يعدّ جريمة من جميع الناس، ولكنه في حقنا يضاعف مرتين، فيعدّ جريمتين، لأن المقصر من غيرنا لا يعدم جابرًا أو عاذرًا، فقد يغطي على تقصيره عمل قومه أو حكومته، وقد يقوم له بالعذر حاله الجاري على كمال مقنع؛ أما نحن فحالنا حال اليتيم الضائع الجائع، إذا لم يسعَ لنفسه مات. فإذا قصرنا في العمل لأنفسنا ولما ينفع أمتنا ويرفعها، فمن ذا يعمل لها؟ آلحكومة؟ وقد رأينا من معاملتها لنا أنها تمنع الماعون، وتداوي الحمى بالطاعون، وتبارز الإسلام بالمنكرات، وتجاهر العربية بالعدوان. فمن ضل منا مع هذا فقد ضل على علم، ومن هلك فإنما هلك عن بينة. وإن لما يبوء به المقصرون من الندامة لمرارة، تجتمع في العقبى مع الخسارة، فيكون منها حال من الحسرة يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج؛ وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا ونعيذكم بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها؛ وقد نهى ديننا الإسلام عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبيّن آثاره وعواقبه، وحضّ على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل والتواكل والإضاعة، فشرع لنا بذلك كله من شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس ما لم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية، وما أخذنا بذلك إلا ليأخذ بحُجَزِنا عن التهور في الكسل والبطالة، ويقينا تجرّع مرارة الندم، وحرارة الحسرة. قصر آباؤنا وأجدادنا في واجبات اقتضاها زمانهم، وفرطوا في حقوق تقاضاها منهم مكانهم؛ بعد ما لاحت لهم النذر، وقامت عليهم الحجج، ودمغتهم البينات، فغالطوا في الحقائق، وكذبوا بالنذر، وموهوا بالزيف، وغشوا أنفسهم بالأماني والأحلام، وغشونا بالضلالات والأوهام؛ حتى مات من استيقظت شواعرُه منهم بحسرات الندم، ومات الغافلون منهم كما يموت الغفل من النعم، فلا حسرةُ أولئك أجدَت علينا شيئًا، ولا غفلة هؤلاء أفادتنا نقيرًا؛ وإنما أضاف تفريطهم المخجل واجباتهم إلى واجباتنا، فأصبحت حملًا ثقيلًا، هو هذا الذي ننوء به وينوء بنا، هو هذه الأعباء المركومة التي نحاول النهوض بها فيقيمنا الإيمان والأمل، وتُقعدُنا الكثرةُ والثقل، وإن من الظلم تكليف جيل بواجبات أجيال، وإن من الجور أن يحمل القرن الأخير أوزار القرون الماضية. ولو أنهم- سامحهم الله- قاموا بواجباتهم أو ببعضها، لخففوا عنا الكثير، وهوّنوا علينا العسير، كما خففنا نحن وهوّنا على الجيل الآتي؛ ولو أنهم غرسوا الشجرة، لقرّبوا منا جني الثمرة.

هذه هي حالتنا- يا أبنائي- نهدم ونرفع الأنقاض ونبني ونعمر في آن واحد، ونؤدّي فريضة الوقت ونقضي الفوائت على غيرنا في آن واحد، ثم نؤدّي الكفارات على ذنوب لم نجترحها ... كل ذلك مع محاربة من الجار، ومشاغبة من الشريك في الدار، ومع وشل من المال لا يتمّ به العمل، ومثبطات من سوء الحال يتضاءل معها- لولا الإيمان- الأمل، وإنها لحالة لا يثبت معها إلا المؤمنون الصابرون الصادقون المخلصون المحتسبون، المؤيَّدون بروح من الله، ونحن وأنتم كل ذلك، إن شاء الله. ... ها أنتم هؤلاء تربعتم من مدارسكم عروش ممالك؛ رعاياها أبناء الأمة وأفلاذ أكبادها؛ تديرون نفوسهم على الدين وحقائقه، وألسنتهم على اللسان العربي ودقائقه، وتسكبون في آذانهم نغمات العربية، وفي أذهانهم سر العربية، وتدبرون أرواحهم بالفضيلة والخلق المتين، وتروضونهم على الاستعداد للحياة الشريفة بعد أن تجتثوا من نفوسهم بقايا آثار المنزل الجاهل، والأب الغافل، وتقودونهم بزمام التربية إلى مواقع العبر من تاريخهم، ومواطن القدوة الصالحة من سلفهم، ومنابت العز والمجد من مآثر أجدادهم الأولين، فقفوا عند هذه الحدود، واجعلوها مقدّمةً على البرنامج الآلي في العمل والاعتبار، وفي السبر والاختبار، واحرصوا كل الحرص على أن تكون التربية قبل التعليم، واجعلوا الحقيقة الآتية نصب أعينكم، واجعلوها حاديكم في تربية هذا الجيل الصغير، وهاديكم في تكوينه، وهي: أن هذا الجيل الذي أنتم منه لم يؤتَ في خيبته في الحياة من نقص في العلم، وإنما خاب أكثر ما خاب من نقص في الأخلاق، فمنها كانت الخيبة، ومنها كان الإخفاق. ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال، منطبقًا على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلَعَة إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، وإنه قويّ الإدراك للمعايب والكمالات، فإذا زينتم له الصدق، فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر، فكونوا من الصابرين، واعلموا أن كل نقش تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشًا في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلًا في أرواحكم فهو- لا محالة- ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل؛ ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة.

أوصيكم بتقوى الله فهي العدّة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي مهبط الروح والطمأنينة، وهي متنزل الصبر والسكينة، وهي مبعث القوة واليقين، وهي معراج السمو إلى السماء، وهي التي تثبت الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن. وأوصيكم بالرفق والأناة في أموركم كلها، وبخفض الجناح للناس كلهم، وباتقاء مواطن الشبه، واجتناب مصارع الفضيلة، وما أكثرها في وطنكم هذا؛ وبإجرار الألسنة عن مراتع الغيبة والنميمة، وفطمها عن مراضع اللغو واللجاج؛ فهي- لعمري- مفتاح باب الشر، وثقاب نار العداوة والبغضاء. وأوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نجم بالشر ناجمها، وهجم- ليفتك بالخير والعلم- هاجمها، وسجم على الوطن بالملح الأجاج ساجمها؛ إنّ هذه الأحزاب، كالميزاب، جمع الماء كدرًا، وفرّقه هدرًا، فلا الزلال جمع، ولا الأرض نفع. وأوصيكم بحسن العشرة مع بعضكم إذا اجتمعتم، وبحفظ العهد والغيب لبعضكم إذا افترقتم؛ إن العامة التي ائتمنتكم على تربية أبنائها تنظر إلى أعمالكم بالمرآة المكبرة، فالصغيرة من أعمالكم تعدها كبيرة، والخافتة من أقوالكم تسمعها جهيرة، فاحذروا ثم احذروا ... أي أبنائي! إن هذا القلب الذي أحمله يحمل من الشفقة عليكم، والرحمة بكم، والاهتمام بشؤونكم، ما تنبت منه الحبال، وتنوء بحمله الجبال، وهو يرثي لحالكم من الغربة وإلحاح الأزمات ويودّ بقطع وتينه لو أزيحت عللكم، ورقع بالسداد خللكم، ولكنكم جنود، ومتى طمع الجندي في رفهنية العيش؟ وأسود، ومتى عاش الأسد على التدليل؟ وهو يشعر أن التدليل تذليل. إنكم- يا أبنائي- رجالُ حركة، فلا تشينوها بالسكون، وأبطال معركة، فلا يكنْ منكم إلى الهوينا ركون. وإنكم رجال جمعية العلماء، فشرفوا جمعية العلماء.

كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار - 1 -

كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار * - 1 - أيها الأبناء الأعزّة! إن هذه الحركة العلمية المباركة أمانةٌ في أعناقنا جميعًا، وعهد إلهي محتم الوفاء علينا جميعًا، فنحن في تحمله وفي وجوب الوفاء به سواسية، ليس صغيرنا بأقل تبعةً ولا أخف حملًا من كبيرنا؛ ونحن في تحمل هذه الأمانة وأدائها أمام ربّ يعلم ما نخفي من النيات وما نعلن من الأعمال، وأمام أمة تعين على الوسائل، وتنتظر النتائج، وتحاسب على ما بينهما، وأمام تاريخ لا يغادر سيئةً ولا حسنةً إلا أحصاها، وأمام خصوم أشداء يحصون الأنفاس ليوقعوا العقوبة ويترقبون العثرة ليعلنوا الشماتة، فلنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الناس، ولنقدّر موقع أقدامنا قبل أن نضع الأقدام، ولنجعل من ضمائرنا علينا رقيبًا لا يغفل ولا يتسامح. إننا نزيد عليكم- بعد الاشتراك في حمل الأمانة العامة- باستحكام التجربة، وعرك الأيام، وعجم الحوادث، والتمرّس بالخصوم، والصبر على المكاره، والاستخفاف بالحساد الذين أكل الحسد أكبادهم، فما بالينا أطاروا أم وقعوا، وملابسة الأمة على البر والجفاء، وعلى الإحلاء والإمرار، وعلى الخشونة واللين، وبأننا الغرض المنصوب للسهام، لأننا- دائمًا- في مكان القيادة في الصفوف، فلا تصل الرمية إلى أحدكم إلا بعد أن نثخن ولا يبقى فينا موضع لسهم! فإذا رأيتمونا نمسكم بالشدة أحيانًا، ونقسو عليكم في التثقيف، فذلك لكي يخلص لنا من عَشَراتِكُمِ آحادٌ يخلفوننا في هذه الخلال، إذا خلتْ أمكنتنا في المراكز الأمامية، بعد أن يقطعوا من مراحل العمر ومقامات التدريب ما يؤهلهم لذلك. ...

_ * نشرت في العدد 132 من جريدة «البصائر»، 9 أكتوبر سنة 1950.

أنتم في ميادين التعليم فرسان سباق، منكم المبتدي، ومنكم الشادي، وفيكم المغبر، وفيكم المتخلف، ولا يكشف عن جواهر الأصالة والعتق فيكم إلا هذه الأعمال، التي واجهتكم في أطوار الحداثة والاقتبال، خيرةً من الله، فيها الخير واليمن، وتوجيهات منه، فيها السداد والنجح، وامتحانًا من زمنكم، فيه التربية والتمحيص، وفيه التمرس والاحتكاك، فإذا تكشف هذا الامتحان عن نتيجة صادقة كنتم غريبةً في الأجيال، وفلتةً في السنن، وعذركم الشفيع في هذا التفاوت أنكم لستم أبناء مدرسة واحدة، تجمع وتوحد، وتقارب وتسدّد، وأنكم لا ترجعون جميعًا إلى تربية منزلية، أحكمتها العادات الرشيدة، وأقرّتها المصطلحات المفيدة، ولا إلى توجيه حكومي، يهيئكم للحياة، ويسوسكم بالمصلحة، ويروضكم على الرجولة، ويجمعكم على المنفعة، وإنما أنتم أبناء زمن عقه آباؤكم فعقكم، وأضاعوا حقه، فأضاع حقكم، وتنكروا له فتنكر هو لكم، فما افترّت شفاهكم له عن ابتسامة إلا قابلها بالتجهم، ولا أزلفتم إليه بتحقّق إلا عاملكم بالتوهم، ولا مددتم إليه كف رغبة إلا ردّها بالحرمان. أنتم- في وضعكم الاجتماعي- أبناءُ حياة ليس لكم في تسييرها يد، ووطن ليس لكم في أرضه مستقرّ، وجيل ليس لكم في تكوينه أثر، وتاريخ ليس لكم في تسطيره قلم، وقانون ليس لكم في وضعه شرْك، وحاضر ليس لكم في تدبير مستقبله رَأيٌ، فجئتم على هذه الصورة التي لا تأتي إلا في فترات مجنونة من الزمن، وفي فلتات شاذة من الطبيعة، أو انعكاسات غريبة من نظام الخلق. وأنتم- في وضعكم العلمي- أبناء مدارس (1)، وجودها في زمان، وروحها في زمان، فهي من يقظتها في حلم، وهي مع جدّة الزمان في قدَم، وهي لا تعطي من الحياة إلا صورَها الميتة، وهياكلها العظمية، وألوانها الحائلة، هذه المدارس التي بنيت بإرشاد القرآن، فأصبحت وهي أبعدُ شيء عن القرآن، وهدْي القرآن، وخلق القرآن، بل لا يُبعد من يقول: إنها أصبحتْ معاول لهدم القرآن، لأنها لم تخدم القرآن، بهذه العلوم التي قالوا: إنها خادمة للقرآن، فلم تزكِّ النفوس التي جاء القرآن لتزكيتها، ولم تهيئها لسعادة الدنيا، ولا لسعادة الآخرة، ولم ترفع العقل من درجة الحَجر إلى درجة الاستقلال في التعقل، ولم تصحح موازينه في إدراك الحياة وفقه أسرارها، وليت شعري: هل صححت دراسةُ المنطق في هذه المدارس- بهذه الطريقة اللفظية العقيمة- إدراكات العقول ومقاييسها، كما صححت دراسته العلمية إدراكات القدماء أو كما صححت إدراكات المعاصرين لماضي الأمم الأخرى؟ وهل طبت هذه المدارس لأخلاق أبنائها الذين أذووْا زهرات أعمارهم فيها؟ وهل أفاضت البيان في قرائحهم وألسنتهم وأقلامهم؟

_ 1) يشير إلى الحالة السيئة التي كان عليها التعليم الديني والعربي لأوائل هذا العهد.

ليس الذنب في هذه الحالة الأليمة ذنبكم، وليست التبعة فيها واقعة عليكم. بل أنتم فرائس هذه الأخلاط القاتلة، وأنتم المجني عليكم لا الجناة، وإنما التبعة على الذين يملكون القدرة على التغيير، ثم لا يغيرون، وتواتيهم الفرص إلى الإصلاح، ثم لا يصلحون. ... إن كثيرًا منكم في حاجة إلى الاستزادة من التحصيل لو تيسرتْ لهم أسبابه، وانفتحت في وجوههم أبوابه، ولكنهم انقطعوا عن التعلم اضطرارًا، فشغلناهم بالتعليم اضطرارًا، لأن حالتنا جميعًا- وأمتنا معنا- حالةُ اضطرار لا اختيار معه، وحالة شذوذ لا قاعدةَ له، وإن التعليم لإحدى طرق العلم للمعلم قبل المتعلم، إذا عرف كيف يصرّف مواهبه، وكيف يستزيد وكيف يستفيد، وكيف ينفذ من قضية من العلم إلى قضية، وكيف يخرج من باب منه إلى باب؛ فاعرفوا كيف تدخلون من باب التعليم إلى العلم، ومن مدخل القراءة إلى الفهم؛ وتوسّعوا في المطالعة يتسع الاطلاع، ولا يصدنكم الغرور عن أن يستفيد القاصر منكم من الكامل، والكامل ممن هو أكمل منه. إن حاجتنا إليكم هي أن تنقذوا هذا الجيل الناشئ من الأمية التي ضربت بالشلل على مواهب آبائهم، وكانت نقصًا لا يعوَّض في إنسانيتهم، ثم كانت سببًا في كل ما يعانونه من بلاء وشقاء؛ وأن تحببوا إليهم العربية، وتزينوها في قلوبهم، وأن تطبعوهم على التآخي والتعاون على الخير، وأن تربُّوهم على الفضيلة الإسلامية التي هي مناط الشرف والكرامة والكمال، وأن تأخذوهم بممارسة الشعائر الدينية صغارًا، حتى نأمن تضييعهم لها كبارًا، وأن تزرعوا في نفوسهم حب العلم والمعلم، وحب الأب والأم، وحب بعضهم بعضًا، وحب الله ورسوله والإسلام قبل ذلك ومعه وبعده. لا يضيركم ضعف حظكم من العلم إذا وفر حظكم من الأخلاق الفاضلة، فإن أمتكم في حاجة إلى الأخلاق والفضائل؛ إن حاجتها إلى الفضائل أشد وأوْكد من حاجتها إلى العلم، لأنها ما سقطت هذه السقطة الشنيعة من نقص في العلم، ولكن من نقص في الأخلاق. أخشى أن تغيب عن بصائركم حقيقةٌ ثابتة، وهي أنكم معلمون للصغار، وأئمةٌ للكبار، أولئك يأخذون من أخلاقكم وعلمكم، وهؤلاء يأخذون من أخلاقكم؛ فإذا راعيتم الجانب الأول، واعتقدتم أنكم معلمون للصغار، وحسبُ المعلم أن يؤدّي وظيفته أداءً آليًّا، وأغفلتم الجانب الثاني فلم تبالوا بما يأخذه منكم استقامةً واعوجاجًا، كان

ضركم أكثر من نفعكم؛ وإن الذي يلوح لي من تتبع أعمالكم، وتقصّي أحوالكم، أن كثيرًا منكم عن هذه الحقيقة غافلون. يسوءني أن أرى في كثير مما يرجع إليّ من شؤونكم، هنات يهوّنها عليكم الترخص واتساع مجال الإباحة، وتغضّون النظر عن عواقبها إذا استشرتْ، وسرَت عدواها من بعض إلى بعض، وأصبحت وسمًا لكم وتعريفًا بكم، وتزنونها بمعانيها عندكم لا بآثارها في الأمة، مما يدخل في معنى "الاستهانة بشعور الأمة".

كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار - 2 -

كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار - 2 - إنّ هذه الأمة- يا أبنائي- هي أمتنا، وهي رأس مالنا شئنا أو أبينا، وهي عوننا على العلم، وهي مدَدُنا وملاذنا، وهي نصرتنا ومعاذنا، وهي مناط قوتنا، ومظهر أعمالنا، فعلينا أن نراعي شعورها في غير واجب يترك، أو محرم يؤتى، وأن نسير بها إلى الغاية في رفق وأناة، لا أقول لكم: سايروها على الباطل، وجاروها في البدع، وواطئوها على الضلال، فذلك ميدان وقفنا فيه قبلكم موقف المنكر المتشدّد، ونازلنا أبطال الباطل حتى زلزلنا أقدامهم، ونكسنا أعلامهم، وقد أرحناكم ومهدنا لكم السبيل، وإنما حديثنا فيما دون ذلك، مما مرجعه العادة لا الدين، وسبيله العرف لا السنة، ودرجته الكمال لا الضرورة، ولنا في نبينا- صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، فقد كان يجاري العرف الجاري، ما لم يناقض عقيدة دينية أو حكمًا شرعيًّا، وإذا توقف إصلاح الأمة على هجر الشهوات، والإمساك عن بعض المباحات، فمن الواجب أن يقدم حظ الأمة على حظ النفس. ... أنتم جنود العلم، ولكلمة "جندي" معنى يبعث الروعة، ويوحي بالاحترام، ويجلب الشرف، ويُغلي القيمة، لأنه في غاية معناه حارس مجد، وحافظ أمانة، وقيّم أمة، لذلك كان من واجبات الجندي الصبر على المكاره واللزبات، والثبات في الشدائد والأزمات، والسمع والطاعة فيما يغمض على الأذهان فهمه من العلل، ويعسر على العقول هضمه من الحكم؛ فإذا استرسل الجندي في الجزع والشكوى، أو خانه الصبر فلاذ بالضجر،- أخطأ النصر، وضاع الثغر، وإنما أنتم حراس دروب، ومرابطة ثغور، فاصبروا واثبتوا، وقد كفيناكم سداد الرأي، فهاتوا سداد الإرادة وسداد العمل.

_ * نشرت في العدد 133 من جريدة «البصائر»، 23 أكتوبر سنة 1950.

وأنتم ممثلو جمعية العلماء في ناحية من أهم أعمالها، وهي التربية والتعليم، فكل واحد منكم صورة مصغرة من الجمعية في نظر الأمة، وجمعية العلماء هي رمز الدين الصحيح، وهي حارس الفضيلة الإسلامية، وهي المثال المفسر للحكمة المحمدية بأحسن تفسيراتها، وهي المثل المضروب في مقاومة الباطل والمبطلين، وهي مظهر القدوة الدينية اعتقادًا وعملًا؛ فهي- لذلك كله- ملءُ سمع الأمة وبصرها، وهي الأريج المتضوّع بسمعة الجزائر في العالم الإسلامي، فكونوا- في مظهركم ومخبركم- أمثلةً صحيحةً منها، واعلموا أن كل زلة منكم- وإن صغرت- محسوبةٌ على جمعية العلماء، منسوبةٌ إليها. وفي وطنكم موجة من الإلحاد، جاءت في ركاب الثقافة الغربية، ومكن لها القصد الصحيح من غايات الاستعمار، ومهد لها في نفوس هذا الجيل جهله بحقائق الإسلام، وضعف صلته بالله، وإنّ تساهلكم في إقامة شعائر الدين، أو استخفافكم بأحكامه، معين على تفشي الإلحاد في الجيل الجديد الذي تقومون على تربيته، فاحذروا الظهور بمظهر المستخف بالدين، ولو في فلتات اللسان، فإن لكل فلتة ولكل كلمة تصدر منكم أثرًا في نفوس تلاميذكم؛ لأنكم محل القدوة عندهم، ولأن زمنهم يتبرع بالباقي، فإذا وجد العون منكم كان أجود بالشر من الريح المرسلة. وفي زمنكم عارض من انحلال الأخلاق، بعض أسبابه في الواجدين الاسترسال في الشهوات، وبعض أسبابه في المعدمين التشوّف إليها، وأكبر أسبابه في الجميع الاستعمار وأساليبه في علاج المرض بالموت، وغسل النجيع بالرجيع، فعالجوا هذا الداء قبل حلوله في نفوس الصغار بتقوية العزائم والإرادات فيهم، وبتعويدهم الصوم عن الشهوات، وبتحبيب العمل إليهم، حتى إذا انتهوا إلى الحياة العملية اقتحموا ميادينها بنفوس غير نفوسنا، وهمم غير هممنا، وعزائم غير عزائمنا، وإرادات غير إراداتنا، وقدرة على كبح الغرائز الشهوانية غير قدرتنا. أنتم حراس هذا الجيل الجديد، والمؤتمنون عليه، والقوّامون على بنائه، وأنتم بناة عقوله ونفوسه، فابنوا عقوله على أساس من الحقيقة. وابنوا نفوسه على صخرة من الفضائل الإنسانية، وأشربوه عرفان قيمتها؛ فإن من لم يعرف قيمة الثمين أضاعه؛ وقد غبنت هذه القيم في عصركم فكان ما ترون من فوضى واختلاط. ربوهم على ما ينفعهم وينفع الوطن بهم، فهم أمانة الوطن عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم. ربوهم على التحابّ في الخير، والتآخي في الحق، والتعاون على الإحسان، والصبر إلا على الضيم، والإقدام إلا على الشر، والإيثار إلا بالشرف، والتسامح إلا في الكرامة.

ربوهم على استخدام المواهب الفطرية من عقل وفكر وذهن، وعلى صدق التصور وصحة الإدراك ودقة الملاحظة والوقوف عند حدود الواقع. هناك حدود مشتركة بين الضار والنافع من أعمالكم، فتبينوها ثم اعملوا على قدرها، ولا تجاوزوا حدًّا إلى حد، فتضروا من حيث قصدتم إلى النفع، فمدح المجتهد من تلامذتكم مذكٍ للنشاط، كما هو مدعاة إلى الغرور، والفصلُ بينهما رهينُ لفظة مدح مقدرة أو مبالغ فيها منكم؛ ولأن تخمدوا نشاطًا، خيرٌ من أن تُشعلوا غرورًا في نفس التلميذ، إن النشاط قد يعاود، ولكن الغرور لا يزايل، وإن الغرور لأعضلُ داء في عصركم، وإن صنفكم لأكثر الأصناف قابليةً لهذا الداء، لما فيه من إيهام بالكمال في موضع النقص، وتمويه للتخلف بالتقدم، وتغطية للسيّئ بالحسن، وهذه محسنات الغرور في نفوس المغرورين، والغرائز ضارية، والتجارب فضَّاحة، والصراع بينهما كان وما زال ولا يزول، فاحذروا الزّلة في هذا المزلق، وحذّروا تلامذتكم منها بالقول والعمل. ربوهم على بناء الأمور على أسبابها، والنتائج على مقدماتها علمًا وعملًا، واعلموا أن العلم يبدأ مرحلته الأولى من هذه البسائط التي تقع عليها حواسكم في الحياة كل لحظة فتحتقرونها ولا تلقون لها بالًا، مع أن مجموعها هو العلم إذا وجد ذهنًا محللًا، وهو الحياة إذا وجدت عقلًا مفصّلًا. بيّنوا لهم الحقائق، واقرنوا لهم الأشباه بالأشباه، واجمعوا النظائر إلى النظائر، وبيّنوا لهم العلل والأسباب، حتى تنبت في نفوسهم من الصغر ملكة التعليل، فإن الغفلة عن الأسباب هي إحدى المهلكات لأمتكم، وهي التي جرّت لها هذه الحيرة المستولية على شواعرها، وهذا التردد الضارب على عزائمها، وهذا الالتباس بين المتضادات في نظرها. امزجوا لهم العلم بالحياة، والحياة بالعلم، يأتِ التركيب بعجيبة، ولا تعمروا أوقاتهم كلها بالقواعد، فإن العكوف على القواعد هو الذي صير علماءنا مثل "القواعد"، وإنما القواعد أساس، وإذا أنفقت الأعمار في القواعد فمتى يتمّ البناء؟ ربوهم على أن يعيشوا بالروح في ذلك الجو المشرق بالإسلام وآدابه وتاريخه ورجاله، ذلك الجو الذي يستوي ماضيه ومستقبله في أنهما طرفا حق لا يشوبه الباطل، وحاشيتا جديد لا يبليه الزمن، وعلى أن يعيشوا بالبدن في هذا الزمن الذي يدين بالقوة، ويُدلّ بالبأس، وعلى أن يعيشوا بالروح في ذلك الزمن المشرق العامر بالحق والخير والفضيلة، وعلى أن يلبسوا لبوس عصرهم الذي يبني الحياة على قاعدتين: "إن لم تكن آكلًا كنت مأكولًا"! و"كن قويًّا تحترم".

حقوق الجيل الناشئ علينا

حقوق الجيل الناشئ علينا * ... للجيل الآتي علينا حقوق أوّلية مؤكّدة، لا تبرأ ذممنا منها عند الله، ولا تسقط شهادة التاريخ علينا بها، إلا إذا أدّيناها لهم كاملةً غير مبخوسة؛ وملاك هذه الحقوق أن نعدّهم للحياة على غير الطريقة التي أعدّنا بها آباؤنا للحياة. الأخلاق والآداب والأفكار والإحساسات والاتجاهات العامة والمشخّصات الخاصة، هي "الأمتعة" التي يرثها جيل عن جيل، ومنها يتكوّن مزاجه صحةً واعتلالًا، فماذا ورثنا عن آبائنا؛ وماذا نورّث أبناءنا منها؟ ليس من العقوق أن نقولَ: إن آباءنا لم يورثونا شيئًا نافعًا من هذه الأمتعة، وليس من العقوق أن تقول: إن أباك خلفك فقيرًا ... إذا كان عاش فقيرًا، ومات فقيرًا. بل من الإنصاف لهم أن نقول: إنهم ورثونا هذه الصفقة الخاسرة التي هي رأسُ مالنا اليوم، من أخلاق لا تزنُ جناحَ بعوضة، وآداب لا تستقيم عليها حياة، وأفكار بدائية لا تجول في المدار الواسع من الحياة، وعقول تقدّر فتخطئ، وتدبِّر فتبطئ، وإحساسات مذبذبة، واتجاهات خاطئة مدبّرة؛ وغير ذلك مما تركنا غرباءَ عن عصرنا وأهل عصرنا، وصيّر الحياةَ منا في غير دار إقامة ... فهل يحسن بنا أن نورّث بنينا هذا السقط من الأمتعة بعد شعورنا ويقيننا بعدم كفايتها للحياة؟ يعذر هذا الجيل الذي نحن منه، بأنه استلم التركة العامة أدوات معطلةً، وأسلحةً مفلولة، وأجهزةً بالية، من جيل انتهى به زمنه إلى درجة من الإفلاس المادّي والأدبي، صيّرته في غير زمنه، ولكنه لا يعذر إذا سلّمها- كما هي- إلى الجيل الآتي ويقترف جريمةَ غش لا تغتفر إذا حمل أوزاره وأوزار أجيال قبله على الجيل الآتي، بعد أن كشف عررها، وتبيّن ضررها.

_ * نشرت في العدد 145 من جريدة «البصائر»، 5 مارس سنة 1951.

فتح جيلنا هذا عينه، في ظلمات متضرّبة، بعضها فوق بعض، تتخللها بروق معشية، ورعود صاخة، ثم رجع بصره فإذا ذئاب تتخطف، وصوالجة تتلقّف، وطفيليات أنبتها الدهر في دمنته، ثم رجع البصر كرتين فإذا أمامه مسافاتٌ مما قطع السائرون؛ ثم طلب الحياة، فإذا سبلها وعرة، والصراط إليها أرقّ من الشعرة، وما زال هذا الجيل يتعثّر في أذيال الماضي، ويتخبّط في ظلمائه، ويحمل من أثقاله ما يقعد به كلّما رام النهوض، وإن أثقل ما يعانيه من تلك الأوزار، اختلافُ الرأي حتى فيما تبينت طريقته، ولجاج الفكر حتى فيما ظهرت حقيقته. حرام علينا أن نرضى للجيل الآتي بما لم نرض به لأنفسنا، وأن نجرّعهم هذا الحنظل الذي تجرّعناه، وأن نلوّث نفوسهم البريئة بهذه القاذورات، وأن نبتليهم بما ابتلانا به آباؤنا من أدواء التفرّق المهلك، والأنانية الكاذبة، والغرور المدلي، والتنكّر للقريب، والخضوع للغريب. حرام علينا أن نقلّدهم هذه الأسلحة المسمومة فيتفانون كما تفانينا، ويذوق بعضهم بأسَ بعض، ويشقون جميعًا ويسعد بشقائهم الغير. حرام علينا أن نسلم إليهم شيئًا من هذه التركة التي يجب أن تنفقَ في جهاز الميت فتدفنَ معه ويأمن الأحياء شرّها، إذا لم ينالوا خيرَها. ... السبيل القويم الذي يؤدي إلى حفظ الجيل الجديد من هذه الشرور المتوارثة، وإلى توثيق عرى الأخوة بين أفراده، وإلى توحيد أفكاره ومشاربه واتجاهاته، وإلى تصحيح فهمه للحياة، وتسديد نظرته إليها، وتشديد عزيمته في طلبها- هو المدرسة العربية التي تصقل الفكر والعقل واللسان وتسيطر عليها، وتوجيه الجيل الناشئ إلى الإسلام والعرب، وإلى الشرق والروحانية، فعلى هذه المدرسة يتوقّف جزء كبير من ذلك الواجب الثقيل، وعليها يتوقف حظ كبير مما نرجوه لهذا الجيل؛ وبهذه المدرسة نستطيع أن نبرئ ذممنا من حقوق أبنائنا وأن نكفر عن سيئات اجترحتها أجيالنا الماضية. لا نغالط أنفسنا فنزعم لها أن هذه اليقظة البادية الآثار، المتفشية في الجيل القديم، كافية في توجيه الجيل الجديد إلى الخير، وفي توحيد ميوله على الخير؛ أو نزعم لها أن هذا الحظ التافه الذي حصلنا عليه من التعليم الأجنبي يغنينا أو يعيننا في هذا الصدد؛ أو نزعم لها أن الحالة الحاضرة للمدرسة العربية توصل إلى هذه النتيجة المرغوبة.

فاليقظة موجودة، ولكنها لم تصل- بعدُ- إلى الصحو الصاحي، وما زالت تغالبها بقايا من النوم الثقيل الطويل، والتعليم الأجنبيّ- على تفاهته في الكيف وقلته في الكمّ، وعلى اضطرارنا إليه وإقبالنا عليه- يسبقه جهل، وتقترن به آفات، وتعقبه مفاسد، وهو- على ذلك كله- يفتح عينًا، ليعمي عينًا ومن بلغ إلى غايته منّا أصبح بالطبيعة متنكّرًا لماضيه ودمه وقومه، لأن ذلك التعليم وجده فارغًا فملأه بما يشاء هو، لا بما نشاء نحن ... وأما حالة المدرسة العربية الحاضرة فهي محل الشاهد. ما هي الغاية من المدرسة العربية الحديثة؟ ما دُمنا من بناة هذه المدرسة، ومن أول الداعين إليها، والقائدين لحركتها، والواضعين لبرامجها، والمشرفين على كل دقيقة وجليلة فيها، والمعرّضين للبلاء في سبيلها، ففينا من الجرأة ما يدفعنا إلى الجواب عن هذا السؤال. الغاية من هذه المدرسة هي تربية هذا الجيل وتعليمه. وغاية الغايات من التربية هي توحيدُ النشء الجديد في أفكاره ومشاربه، وضبط نوازعه المضطربة، وتصحيحُ نظراته إلى الحياة، ونقله من ذلك المضطرَب الفكري الضيّق الذي وضعه فيه مجتمعه، إلى مضطرَب أوسعَ منه دائرة، وأرحب أفقًا، وأصحّ أساسًا، فإذا تمّ ذلك وانتهى إلى مداه طمعنا أن تخرج لنا المدرسة جيلًا متلائمَ الأذواق، متّحدَ المشارب، مضبوط النزعات، ينظر إلى الحياة- كما هي- نظرةً واحدة، ويسعى في طلبها بإرادة متحدة، يعمل لمصلحة الدين والوطن بقوة واحدة، في اتجاه واحد. غاية التعليم هي تفقيهه في دينه ولغته، وتعريفه بنفسه بمعرفة تاريخه، تلك الأصول التي جهلها آباؤه فشقوا بجهلها، وأصبحوا غرباء في العالم، مقطوعين عنه، لم يعرفوا أنفسهم فلم يعرفهم أحد. فهذه هذه الغاية السامية التي في تحقيقها نجهد ونكدح، وللوصول إليها نعمل، وفي العمل لها نلقى الأذى، وفي الأذى فيها نلقى راحة الضمير واطمئنان النفس، وببلوغها- إن شاء الله- نكون قد أدّينا الأمانة، وقضينا المناسك، وكفّرنا عن جريمة التقصير، وفزنا بالعاقبة فحمدنا السرى. وبماذا يتم تمامُ هذه الغاية؟ لا يتم هذا على وجهه المثمر إلا بتوحيد منهاج التربية وبرنامج التعليم، ولا يتم توحيد المنهاج والبرنامج إلا بتوحيد الإدارة، ولا يتمّ توحيد الإدارة إلا بتوحيد الإشراف العام، درجات متلازمة سبقتنا بها الأمم التي بنتْ حياتها على تجربة النافع والأخذ بالأنفع، فقطعت الأشواط البعيدة في الزمن القريب.

وهذه هي المعاني التي دعتنا إلى جمع المدارس العربية تحت إدارة واحدة، وإشراف واحد، وإلى حشر المعلمين تحت لواء واحد، لِعِلْمنا أن توحيد الغايات لا يأتي إلا بتوحيد الوسائل. يسوءنا- والله- ويسوء الحق، أن تكون الحقيقة في هذه القضية أوضحَ من الشمس، وأن يكون رأينا فيها بعيدًا من اللبس، ثم يتمارى بعض الناس فيها فيشاقّوننا في الرأي والعمل، وتأبى بعض الهيئات إلا أن تنفرد بمدرسة أو بضع مدارس، ويأبى بعض أبنائنا الطلبة أن يكونوا إلا ملوكَ طوائف: إمارة بلا عمارة، وزعامة بلا دعامة: كلّ ذلك لدواع من الجبن، أو بواعثَ من الحسد أو دوافعَ من الغرور والأنانية، أو كلّ ذلك مضروبًا بعضُه في بعضه؛ ومن ادّعى منهم خلافَ هذا فلا يصدّقه الناس، لأن قاعدة السبر الأصولي لا تقتضي إلا هذا، لو رزق الله إخواننا هؤلاء عقولًا تزن الأمورَ بعواقبها، وإخلاصًا يذيب الحسد، ويذهب بالأنانية، لعلموا أن الخير كل الخير في الاجتماع، وأنّ القوة كلّ القوة في الاتحاد، وأن الخروج على الجماعة أهلكَ من قبلنا وهم في نهاية القوة. فكيف لا يهلكنا ونحن في نهاية الضعف؟ وأن الثمرات التي نرجوها من المدرسة للجيل الجديد لا تأتي مع هذا التفرّق والتشتيت، وأن من يريد الإصلاح فليدخل فيما دخل فيه الناس، وليعالج- مخلصًا- من الداخل، أما محاولته للإصلاح وهو خارج فليست إلا هدمًا وتخريبًا، وأن الجيل الذي تخرجه هذه المدارس المتغايرة المتنافرة لا يأتي إلا متغايرًا متنافرًا، لا يزيد شيئًا عن خرّيجي الزوايا في العهد القديم، لا يجمعهم من الخلال إلا أبلغها في تفريقهم وهو تعصّب كل تلميذ لزاويته، والحلفُ برأس شيخها، وبئس الجيل جيل يكون هذا مبلغه من التربية والعلم، وبئس المربّون نحن إن رضينا لهم هذه المنزلة. ... اثنتان يجب توحيدهما وإصلاحهما بحزم وشجاعة وإخلاص، وإلا كنّا جانين على النهضة ومستقبلها، غاشين للأمة في أطفالها وشبابها، متسببين لها في خسارة رأس مالها الضخم، والثنتان هما: هيئات المدارس، وهيئات الكشافة ...

حقوق المعلمين الأحرار على الأمة

حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة * ونعني بالمعلّمين هذه الطائفة المجاهدة في سبيل تعليم أبناء الأمة لغتهم، وتربيتهم على عقائد وقواعد دينهم، وطبعهم على قالب من آدابه وأخلاقه. نعني هذه الطائفة الصابرة على مكاره الحياة كلها، المحرومة من الراحة والاطمئنان في جميع أوقاتها، فهي في الشتاء تشقى وتتعب، وفي الصيف تضحى وتنصب، وفيما بين ذلك تكابد وتعاني؛ على ضيق من العيش، وتنكّر من الدهر، وتجهّم من الولاة، وفقدان للحافز من الرغبة والتنشيط. فلا مسكن مريح، ولا شمل مجموع، ولا مرتّب كافٍ يسدّ الضرورة، ويقوّي الضعيف، ويخفّف الهم، ويصونُ الهمة عن التبذل. هذه الطائفة هي عماد جمعية العلماء في أجلّ وظائفها، وهي التربية والتعليم، وهي العصب المدبر لحياة هذه الحركة المباركة؛ فعليها- بحكم الأمانة والدين- واجباتٌ تشرعها الجمعية بالنظام والقانون، وتؤكّدها بالدعوة والإرشاد، وتستعين على تحقيقها بالمراقبة والتفتيش؛ ولها حقوق تتقاسمها الجمعية والأمة أمرًا وتنفيذًا، فهل قامت الجمعية والأمة متعاونتين بهذه الحقوق على أكمل وجه؟ أما جمعية العلماء، فإن واسطتها إلى الأمة هي هذه الجمعيات المحلية المشرفةُ على المدارس، القائمة مباشرةً بتصريف شؤونها المالية، وهذه الجمعيات هي المرجع الوحيد في ماديات المدارس، وهي الحاملة للحمل الثقيل فيها، ولما كانت جمعية العلماء تبني كل أمورها على الواقع المشهود، وتُراعي الظروفَ وشدّتها ورخاءَها، لتضمن لهذه المدارس الدوام والبقاء، كانت تتقدم إلى الجمعيات المحلية في باب المادّيات بما يحتمل الطاعة، وتتحمّله الطاقة، لأن من الحكمة اجتذاب الجماهير بالترغيب والمسايرة، لا بالإثارة والسوْق

_ * نشرت في العدد 149 من جريدة «البصائر»، 2 أفريل سنة 1951.

العنيف، فهما من دواعي الانتكاس، والانتكاس أخطرُ ما يعرض للحركات في مراحلها الأولى، لذلك كانت تعتبر في مرتبات المعلّمين الحد الأدنى مما يقوم بالضروريات، وهي تعلم ما يقاسيه المعلم من آلام في حياته، وتُشفق عليه وترثي له، ولكنها تعلم مع ذلك حالة الموارد المالية للمدارس، وأهمّها ما يؤخذ من آباء التلامذة مشاهرة؛ وأغلب الآباء فقراء، ولو كان لمدارسنا مدد ثابتٌ من الأغنياء وحقّ الله في أموالهم، لجعلناه بعض ما نبني عليه في التوسيع على المعلمين وإزاحة بعض عللهم، ولكننا هزَزْنا هؤلاء الأغنياء بما يهتزّ له الكرام، فلم تسقط منهم ثمرة، ورقينا لعاهة الشحّ فيهم باسم الله وباسم الدين والوطن، وناشدناهم الله في هذا الجيل المقبل أن يحلّ به ما حلّ بهم من جهل، يصحبه هوان، يصحبه شر مستطير؛ فلم ينزل عفريت بخلهم لرقية، وبقيت مواردُ المدارس- لغيبة الأغنياء عن ميدان البذل- محدودةً مقترة، تتراجع ناضبة، حتى أصبحت لا تبلّ من جفاف، ولا تقوم بكفاف، وإذا لم يكن الغيث هاميًا، فلا ترجُ أن يكونَ النبت ناميًا. ... نوجّه بعضَ العتب إلى رجال جمعياتنا المحلية، ولا نبرئهم من تبعة التقصير، ونعيب فيهم خلةً كادت تكون غالبةً عليهم، وهي أنهم يؤثرون المصالح الخاصة على المصلحة العامة عند التعارض، ولو أنهم- سامحهم الله- وجّهوا بعضَ اهتمامهم إلى حالة المدارس المادية، وبعضَ تفكيرهم إلى ابتكار مواردَ أخرى للمال، لكان لعملهم أثرٌ يذكر في حلّ هذه الأزمة التي شغلنا التفكير فيها عن التفكير في توسيع دائرة الحركة وتكميل نقائصها، ولو أنهم كانوا أكثرَ جرأة مما هم عليه لما توقفوا عند كل فترة يأنسونها من الجمهور؛ فليعلموا- علمهم الله- أن كل تقصير يقع منهم في هذا الواجب، فمصيبته تقع على المعلّمين البائسين، وأننا لا نسمح بأن يكون تفريطهم على حساب هذه الطائفة المجاهدة، ولا نرضى أن تكون خاتمة أعمالهم فشلًا وخيبة، ولا أن يكونوا هم السبب أو بعضَ السبب فيما يصيب هذه النهضة العلمية من خمود أو تراجع. إن الموانع لكثيرة، وإن العوائق عن الخير لوفيرة، وشرّها ما عاق عن العلم والدين، ووقف عثرةً في طريقهما، ولكنها عند الرجال مصاعب سهلةُ التذليل، لأنهم يعتبرونها عوارض تزول، وأحوالًا تتحوّل؛ فيكون فهمهم لها وتصوّرهم إياها على حقيقتها أكبر أعوانهم عليها، فيلقونها بالهمم النافذة، والتصميم الخارق، والصبر الثابت، حتى تنقشع غماؤها، وتسلم المقاصد الذاتية؛ وإذا هاج البحر وعصفَتْ عواصفه، فالغرق عارض، والسلامة هي الأصل، وما على الربّان الحاذق المتأثّر بهذه الحقيقة إلا أن يعالجَ الشدّة

بدوائها، فيعالج الفزع بالصبر، والعواصف بحسن التصريف لها، وإلحاحَ الأمواج بإلحاح العزيمة، فإذا هو ناجٍ سالم محرز لمهجته وسفينته. ... ولكنّ هذا كله كلام لا يجلب المنام، ولا يغني عن الطعام، ولا يكسو العظام، ولا ينعل الأقدام، والحقيقة التي تجب مواجهتها كفاحًا، هي أن الأزمة خانقة، وأسعار الضروريات والحاجيات، كسعود الأقوياء، كل يوم في ارتفاع، ووجه المستقبل يطلّ من خلل الأيام كالحًا باسرًا ينذر بالسوأى وزيادة ... وأصوات العمّال الكادحين وأجراء المشاهرة والمياومة تصمّ الآذان بطلب الزيادة في الأجور، لأن الزيت- وهو الإدام- أصبح بقيمته شجًى في الحلوق، ولأن الثياب الساترة أصبحت بسبب الغلاء فاضحة، ولأن ورقة (الألْف) بورك فيها فأصبحتْ (كالشين) في حساب الجُمَّل (1). في (الجزم الصغير) عند (اليقاشين) (2) ... وهذه الطائفة المجاهدة الصابرة عندنا تتوقّع الموت، ولا ترفع الصوت، ولا مرجع لها - بعد الله- إلا جمعية العلماء التي حبّبتْ إليها التعليم، وزيّنته في قلوبها، ثم ساقتها إلى ميادينه، وجنّدتها في كتائبه، فإذا لم تبذلْ كل مجهود في تخفيف البلاء وتهوين الغلاء عليهم بالزيادة في المرتبات، فإن العاقبة تكون وخيمة، وإذا كنا لا نخشى أن يفرّوا من الزّحفْ، ثقة بهم، واعتمادًا على متانة دينهم، وصدق وطنيّتهم، وركونًا إلى شهامتهم واعتزازهم بمهنتهم، فإننا نخشى ما هو أسوأ عاقبةً من ذلك ... نخشى أن يعلموا أبناءنا بلا قلوب ولا عقول، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى صلة القلوب بالقلوب، وتأثّر العقول بالعقول، واستقاء الأرواح من الأرواح؛ فإذا حصل ذلك جاء التعليم وفيه أثرُ الجوع والهزال، وعليه سيما الفقر والخصاصة، ويأتي هذا الجيل وعلى عقله من هذه الآثار ما على أجسام مواليد الحرب التي نشأتْ في فقر من المواد المغذية؛ وإذا كنتم تسمعون عن الأمم الحية أنها توفر أرزاقَ القضاة حتى لا تلجئهم مطالب الحياة إلى الرشوة، فكذلك يجب توفير أرزاق المعلّمين حتى لا تطمحَ نفوسهم إلى ... هجر التعليم. أما والله لو استطعتُ لأعطيتُ المعلّم جمًّا، ثم لأوسعت العطاء ذمًّا، حتى تقوى فيه نزعة الكرامة وشرف العلم، والشعور بأن العلم كالعبادة، وكفاؤه الأجرُ من الله لا الأجرة من المخلوق، ولكن التمنّي تعلّق بخيال ... ...

_ 1) الشين في ذلك الحساب يحسب بألف في اصطلاح المغاربة، ولكن ألفه كألف الفرق بعد واو الجماعة لا يساوي شيئًا. 2) اليقّاشين: الذين يكتبون التّمائِم. و "اليَقْشَة": حِرْفَتُهم.

هذا نذير من النذر الأولى لرجالنا القائمين على المدارس، والحاملين معنا للعبء المادي، فعليهم أن يقدُروا قدرَه، ويفكّروا في مغزاه، ويتعاونوا على إيجاد موارد جديدة، ليتوفّر لنا مال نرفع به مرتبات المعلّمين، ونرفع به أقدار العلم والتعليم؛ وإن هذه الأزمة إلى انفراج، فليثبتوا لها، وليكسروا حدّتها بالتدبير الذي يفل الحدّة، ويخفّف الشدة، وإننا قد قرّرنا الريادة في المرتبات، ولكننا تربّصنا حتى لم يبقَ مصطبر، وانتظرنا حتى يبلغهم هذا الخطاب السافر، فإذا تمارَوْا بالنذير، فسنقنعهم بسوء الحال، ووخامة العقبى، وإن ظننا فيهم- على ذلك- لجميل ...

اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي

اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي * لغةُ الأمة هي ترجمان أفكارها، وخزانة أسرارها، والأمة الجزائريةُ ترى في اللغة العربية- زيادةَ على ذلك القدر المشترك- أنها حافظة دينها، ومصخحة عقائدها، ومدوّنة أحكامها، وأنها صلةٌ بينها وبين ربّها، تدعوه بها وتعترف، وتبوءُ بها إليه فيما تقترف، وتؤدّي بها حقوقه، فهي لذلك تشدّ عليها يدَ الضنانة، وما تودّ أن لها بها لغات الدنيا، وإن زخرتْ بالآداب، وفاضتْ بالمعارف، وسهلتْ سبلَ الحياة، وكشفتْ عن مكنونات العلم؛ فإن أخذتْ بشيء من تلك اللغات فذلك وسيلة إلى الكمال، في أسباب الحياة الدنيا؛ أما الكمال الروحاني، والتمام الإنساني، فإنها لا تنشده ولا تجدُه إلا في لغتها التي تكون منها تسلسلها الفكري والعقلي، وهي لغة العرب، ذلك لأنّ لغة العرب، قطعةٌ من وجود العرب، وميزةٌ من مميزات العرب، ومرآة لعصورهم الطافحة بالمجد والعلم والبطولة والسيادة؛ فإذا حافظ الزنجي على رطانته، ولم يبغ بها بديلًا، وحافظ الصيني على زمزمته، فلم يرضَ عنها تحويلًا؛ فالعربي أولى بذلك وأحقّ، لأن لغته تجمع من خصائص البيان ما لا يوجد جزء منه في لغة الزنج أو لغة الصين، ولأن لغته كانت- في وقت ما- لسانَ معارف البشر، وكانت - في زمن ما- ترجمانَ حضاراتهم، وكانت- في وقت ما- ناقلةَ فلسفات الشرق وفنونه إلى الغرب، وكانت- في وقت ما- هاديةَ العقل الغربيّ، الضالّ إلى موارد الحكمة في الشرق، وكانت- في جميع الأوقات- مستودَعَ آداب الشرق، وملتقى تياراته الفكرية، وما زالت صالحةً لذلك، لولا غبارٌ من الإهمال علاها وعاق من الأبناء قلاها، وضيمٌ من لغات الأقوياء المفروضة دخل عليها؛ وهي قبل وبعدَ كلّ شيء حاضنةُ الإسلام، ودليله إلى العقول، ورائدُه إلى الأفكار، دخلتْ به إلى الهند والصين، وقطعتْ به البحارَ والفلوات،

_ * نشرت في العدد 152 من جريدة «البصائر»، 23 أفريل سنة 1951.

وفيها من عناصر البقاء ومؤهلات الخلود ما يرشحها للسيطرة والتمكّن، فقد احتوشتها الرطانات من كل جانب، ودخلتْ عليها دخائل العجمة واللكنة، فما نال كل ذلك منها نيلًا، وإن لغةً يصيبها أقلّ مما أصاب اللغة العربية من عقوق أبنائها، وحرب أعدائها، لحقيقة بالاندثار والفناء، ولكنها لغة العرب ... والأمة الجزائرية من أوفى الشعوب العربية لهذه اللغة، وأكثرهم برًّا بها وتمجّدًا واعتزازًا، وأقواها شبهًا بها في الشدة على العوادي، والصبر على المكاره، والثبات على المقاومة، فالعربية غالبتْ في هذا الوطن عدة لغات، فلم تهن ولم تغلَب، والأمة الجزائرية ناهضَتْ عدة استعمارات روحية وماديّة، فلم تقهر ولم تخذل. جاهدت هذه الأمة في سبيل لغتها جهادًا متواصلًا، كان من ثمرات النصر فيه هذه النهضة التعليمية التي ولدت الكتّاب والشعراء والخطباء والوعّاظ، وهي نهضة لم تعتمد الأمةُ فيها إلا على ما في نفسها من حيوية موروثة، ولم تلتمس فيها عونًا من أجنبيّ، بل لم تلقَ من الأجنبي إلا المعارضةَ الحادة والتثبيطَ القاتل؛ وكان من نتائج هذه النهضة إلحاح الأمة في المطالبة بمظهر سياسيِّ وطني للغتها، وهي أن تكون رسميةً في المدارس والدواوين والأقلام والأحكام، وأن يعترف لها بمكانتها في وطنها، وأن تمحَى عنها تلك الوصمة التي لم تسبّ بأشنعَ منها، وهي أنها "أجنبيةٌ في دارها"؛ وتكرّر الإلحاح في هذا، وارتفعت الأصوات به من كل جهة، ودَخلت الجرائد في المعمعة، واقتحمت القضية المجالسَ النيابية، وأذن النوّابُ بها على المنابر، ووقفت السياسة الاستعمارية عرضةً تصُدّ وتسدّ، وتطاول وتمدّ، وتتغابى وتتجاهل، وتطبخ الآراء- كعادتها- فلا تنضج رأيًا حتى يلوحَ لها خلافه، فتتركه فجًّا (1)، وتسلك غيره فجًّا؛ وكلّ تلك الآراء لا تبلغُ الأمةَ أمنيةً في لغتها، ولا ترمي إلى سداد ينفع الطرفين، إلى أن طلع علينا القرار المتعلّق بالتعليم العربي، الذي ختم به الوالي السابق أعماله وموبقاته في الجزائر، مؤرّخًا بيوم 26 فيفري من هذه السنة، ومقدّمًا إلى المجلس الجزائري لينظر فيه ويضعه موضعَ التنفيذ. ونظرنا في ذلك القرار، قبل أن ينظر فيه المجلس الجزائري، فإذا هو تحطيم لا تنظيم، كما يسمّي نفسه، ولو أن العربية كانت موجودةً بالمدارس العليا أو السفلى، لكان هذا القرار إعدامًا لها، فكيف وهي معدومة، ونقول: معدومة، ونكرّر القول، ولا يردّنا عنه أن "كتاب المفصّل" للزمخشري يدرس في الأقسام العليا، فإن ذلك بعضُ شواهدنا على أنها معدومة، من غير أن نضيفَ إلى هذا الكتاب، من يدرّس الكتاب ... ...

_ 1) الفجّة: غير الناضجة.

بيننا وبين الحكومة خلاف ينتهي إلى التضاذ في فهم معنى التعليم العربي، سببه اختلافُ أداة الفهم فيها وفينا، فهي تفهمه بالذهنية الاستعمارية العنصرية المتأثّرة بالسيادة والاستعلاء، وتراه بالعين التي لا ترى إلا مصلحتها فتحتاط وتبالغ في تقدير العواقب، وتعمى عن مصالح غيرها وإن كانت كالجبال ضخامةً، وكالشمس وضوحًا، وكالعقليات ثبوتًا، ونحن نفهمه بالذهنية القومية الوطنية، ونراه حقًّا لا يعمى عنه ذو بصر، ولا يدفع بالمغالطة، ولا يتحقّق بمثل ما احتوى عليه هذا القرار الفارغ المتناقض الذي هو كالشبكة، كله خروق، يستطيع المنفذ أن يخرج من أيها شاء. ... شهد التاريخ الحديث- الأمة الجزائرية العربية غضبَى ثائرة لتلك المعاملة المهينة التي كان الاستعمار يعامل بها لغتها، وشهدها تبني لنفسها، وتشيد نهضتها التعليمية بيدها، وتحكّ جلدها بظفرها، وشهدها- مع ذلك- تزعج الاستعمار وتصارعه، وتطالب وتغالب، فليشهدها الآن غضبى ثائرة على هذه البوادر التافهة التي يسمّيها "ملوك الجمهورية" تنظيمًا وإصلاحًا، ويمنونها عليها، ويعدّها المضللون نتيجةً للمصابرة والجهاد. إن الأمة لا ترضى ولن ترضى بهذا الجزاء البخس كفاءً لما أجمع عليه رجالها من علماء وساسة من المطالبة بحق العربية في وطنها، وحقّها على الخزينة التي تتغذّى بأموالها، وقد كانت هذه الأمة تظن أن عصرَ القرارات المطاطة- ذات المسامّ والمنافذ- قد انقضى، وجاء عصر الحقائق وتفتّح الأذهان والعقول و ... العيون، ولكنّ هذا القرار الأخير بيّن لها أن الاستعمار ما زال في ضلاله القديم. إن هذه الأمة المؤلفة من عشرة ملايين، هي صاحبة الحق في هذا التعليم، لها غنمه، وعليها غرْمه، فيجبُ أن تكونَ هي صاحبة الرأي الأول في بداياته، وصاحبة الفصل الأخير في نهاياته، وأن تكونَ هي القائمة به، والقيّمة عليه، بمعنى أن يكون المعلّم له من أبنائها المتضلعين في لغتهم، والحارس الرقيب عليه من رجالها المؤتمنين عليها، وأن لا يكون حظها في التعليم الثانوي أوكسَ من حظ الإنكليزية والإسبانية. فالأمة تريد من التعليم العربي الحكومي الذي يحقّق للعربية صفة "الرسمية" أن يكون تعليمًا كاملًا في جميع مراحله، يبنى على أساس صحيح في المرحلة الابتدائية، وصحةُ الأساس تكون بالمعلم الكفء، والكتاب الوافي، والبرنامج الكافي، ثم ينتقل- صحيحًا- إلى الدرجتين الثانوية والعليا. والأمة تريد تعليمًا عربيًّا يساير العصر وقوّته ونظامه، لا تعليمًا يحمل جراثيم الفناء، وتحمله نذُر الموت.

والأمة تريد تعليمًا عربيًّا عليه طابعها، وفيه أثرُ يديها، وله ما لها من روح، وعليه ما عليها من سمات. إن هذه الأمة تعتقد- وتموت على اعتقادها- أنّ لغتها جزء من كيانها السياسي والديني، وشرط في بقائها، وقد التقى على الكفاح في سبيلها الدينُ والسياسة، فلم يختلفْ لهما فيه رأيٌ، ولم يفترق لهما قصد، وما هذا القرار بالذي يشفي من مرض، أو يوفِّي بغرض.

دروس الوعظ في رمضان

دروس الوعظ في رمضان * أظلّنا شهر رمضان المبارك، وهو شهر تتفتّح فيه أبواب الرحمة، وتتفتّح فيه قلوب المؤمنين المستعدّين لتلقّي تلك الرحمة، فتصوم ألسنتهم وجوارحهم عن الفواحش المجترحة بها، ويتقرّبون إلى الله ببعدهم عنها. وتنبسط أيديهم بالإحسان إلى الفقراء، والبر باليتامى، والتوسعة على العيال، فلم يبقَ على هذا الإعداد الحافل بالخير، الذي يهيئ شهر رمضان النفوس إليه إلا المحرّك للنفوس، المنبّه للشواعر، المذكّر بالواجبات، الدالّ على مواضع الرحمة وعلى السُبل الموصلة إليها، البصير بعلل الأمة وطُرق علاجها، وهو الوعظ الديني. والوعظ الديني هو رائد جمعية العلماء إلى نفوس الأمّة، جعلته مقدمة أعمالها، فمهّد واستقرّ، وذلّل الصعاب، وألان الجوامح، وعليه بنت هذه الأعمال الثابتة من إصلاح للعقائد، ونشر للتعليم، ومنه جنت كلّ ما تحمد الله عليه من نجاح. والوعظ الديني هو الذي حرّكت به جمعية العلماء الهمم الراكدة، وشدّت به العزائم الواهية، واجتثّت به الرذائل الموبقة، فكان هو معينها على غرْس الإصلاح الديني، وتثبيت جذوره، وامتداد أصوله وفروعه. ولم تُخِلّ الجمعية بهذه الوظيفة الشريفة يومًا، ولا قصّرت فيها، ولا كان النجاح المتواتر مزهدًا فيها، أو مقلّلًا من أهميتها، ولكن التجارب المتكررة هدتها إلى أنّ أشد الأزمنة ملاءمةً للوعظ الديني الأوقات الفاضلة- وأفضلها شهر رمضان- لتلاقي عدة عبادات فيه، من الصوم والصدقة والتراويح والتهجّد، وكل عبادة منها ذاتُ أثر في النفس؛ فكيف إذا اجتمعن؟ ولأنه أطول ظرف من ظروف العبادة، فاتصالُ الوعظ في أيامه ولياليه خليق أن ينقل السامعين من

_ * نشرت في العدد 156 من جريدة «البصائر»، 21 ماي سنة 1951.

حال إلى حال، وأن يمكن لعادات الخير في نفوسهم، فإذا كان صومهم حقيقيًّا جامعًا لمعاني الصوم وآدابه مشركًا للجوارح كلها في تلك المعاني، كانوا أكثر تأثرًا بالوعظ، وأدنى إلى الانتفاع به في تزكية نفوسهم، وعلاج عللها، وإن شهرًا كاملًا يقضيه المؤمن في الاستشفاء بأنواع من الأشفية الروحية والبدنية، لحقيق أن يضمن به راحة السنة. ولجمعية العلماء في هذا السبيل سنّة حميدة جرت عليها منذ سنوات، وهي توزيعها لعشرات من رجالها العاملين في ميدان التعليم على المدن والقرى، في شهر رمضان، ليحيوا لياليه بدروس الوعظ بعد نافلة التراويح، ويمتزجوا بالأمة في سائر الأوقات ناصحين مذكّرين، وقد تجلّت آثار هذه الدروس في التربية العامّة للأمّة، بارتفاع قيمة الفضائل في مجموعها، وبتفهّمها لحقيقة الصوم وحكمته، وبهجرها لكثير من فواحش الألسنة فيه، وبمعرفتها للإحسان وحسن اختيارها لمواطنه، وبقوة المعنويات فيها قوةً مشهودة، وبنماء التآخي والتعاون بين أفرادها، وبإلمامها بالسيرة النبوية، وتفطنها لمنابع العِبر منها، وبانتشار الثقافة الفقهية بينها. ... بعد هذه الكلمة يقرأ القارئ قائمة طويلة بأسماء المشايخ الذين عيّنتهم جمعية العلماء للوعظ في رمضان المقبل، وأسماء المراكز التي عُيّنوا فيها. فعلى المشايخ الواعظين أن يتّعظوا في أنفسهم قبل أن يعظوا غيرهم، فإن الوعظ إذا لم ينفع صاحبه لم ينفع الناس، ومن لم يكن متأثّرًا بقوله، لم يكن مؤثرًا به في الناس. وعليهم أن يقوموا بما انتدبناهم فيه خيرَ قيام، وأن يؤدّوا حق الله عليهم في النصح والتذكير، وأن يعتمدوا في تذكيرهم على صرائح الآيات القرآنية، وما صحّ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يضربوا الأمثال بسيرته وسيرة أصحابه- رضي الله عنهم- وأن يجلوا حدود القدوة في ذلك كله، وأن يقرّبوا المعاني من أذهان العامّة، فإن ذلك وسيلة إلى تحبيب العلم إلى نفوسهم زيادة على تشريكهم في الخير وتقريبهم من الهداية. وعليهم أن يجاوزوا ما لا يعلمون من دقائق الوعظ الخفية، إلى ما يعلمون من حقائقه الواضحة، فإن كلامهم في الدين، فليحذروا أن يقعوا في مزلقة القول على الله بغير علم، وهو من الكبائر التي يأمر بها الشيطان، وفي الهدي النبوي مجال واسع للمذكّرين، وفي الواضح مندوحةٌ عن المشكل. إن لجمعية العلماء منكم جندًا لهذا الميدان، تفخر به وتُباهي، ولكن هذا الجند متفاوت الحظوظ والأقدار، فمنهم الفوارس المتمرّسون بالمنابر والجموع، العارفون بمداخل

الوعظ إلى النفوس، لكثرة المران والتجربة، ومنهم حديثو العهد بالحياة العملية وبالمجتمعات، وإلى هذا الفريق من رجالنا مهّدنا بالكلمة السابقة. وعليهم أن يمكّنوا- ما استطاعوا- في نفوس السامعين معاني الشرف والرجولة، وشرف النفس والاعتزاز بالإسلام والعروبة، فإن الإسلام جاء لجميع ذلك، وإن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائرة على ذلك، فالإسلام دين العزّة والكرامة والشرف والفضيلة، فمن لم يكن بهذه الصفات فإسلامه ناقص بقدر نقصانه فيها، وإن صلّى وصام وحجّ البيت ماشيًا. وعليهم أن يشرحوا للأمة "مظلمة القرن العشرين"، وهي هذه المعاملة المهينة التي تعامل بها الحكومة دين الإسلام ومعابده وأوقافه وشعائره من حج وصوم، وإن أحقّ محلّ بهذه الدروس المباركة- وما فيها من خير ورحمة وسلام- هي بيوت الله، لولا ظلم الاستعمار. ولينوّهوا بالمواقف التي وقفتها جمعية العلماء في هذه القضية، وعليهم أن يوجّهوا عنايتهم إلى علاج الأمراض المتأصلة في الأمّة، ومحاربة المنكرات الفاشية فيها، كالكذب، والغيبة والنميمة والسعاية بالأخ والتجسّس عليه، وكالسرقة والخمر والميسر، وكالأيمان الفاجرة وشهادة الزور، ويمين الطلاق، وكالقطيعة والخصام والخلاف، وكالركون إلى الكسل والبطالة والسؤال مع القدرة على الكسب، وكنقض العهد وخلف الوعد وخيانة الأمانة والبخل والإسراف في غير محلّه، وكانتهاك الحرمات والاستخفاف بالمحرّمات، والجبن والخوف من غير الله. وعليهم أن يجتنبوا الحديث في مثارات الفتن، وفي البدع التي فرغتْ جمعية العلماء منها، فقد ضعف شأنها، وفي إعادة الحديث عليها تقوية لها وإحياء. فهذه عهود أتقدّم بها إلى نفسي وإلى إخواني وأبنائي المشايخ الوعّاظ، فعلينا جميعًا أن نلتزمها في هذا الشهر المبارك الذي التزمنا أن ننفع فيه أمّتنا بالموعظة الحسنة. وعلى السامعين أن يكون همّهم من حضور مجالس الوعظ نصيحةً تزكِّي النفس، أو فائدةً علمية تكملها، لا قطع الوقت و "تقصير الليل". وأن يقبلوا على هذه المجالس بآذان مصغية، وقلوب واعية، ونيّات خالصة، ومقاصد صالحة، فبذلك ينفعهم الله بما يسمعون ... وأن يفرّقوا بين هذه المجالس التي أنعم الله بها عليهم، وبين المجالس التي يزيّنها لهم الشيطان ليقطعوا الليل بها في سمر صاخب، ولهو ماجن، ومال ضائع، وحرمات منتهكة. وفّقنا الله جميعًا إلى ما يقرّبنا إليه، وجنّبنا ما يبعدنا عنه، وأرانا ما يسرنا في هذه الأمة، ويسّرنا جميعًا لخدمة هذا الوطن وإخراجه من الظلمات إلى النور.

الكلمة الأخيرة للأمة

الكلمة الأخيرة للأمّة * أما آن لعشّاق سلمى أن يقولوا: صحا القلب عن سلمى؟ أما آن للحالمين بالوحدة الفرنسية أن ينفضوا عنهم الأحلام؟ أما آن للمنتظرين أن يقطعوا حبل الانتظار؟ أما آن للمستعصمين بالأمل أن يُريقوا صُبابة الأمل؟ يا هؤلاء! إن الاستعمار شيطان، وإن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوًّا، وإن الاستعمار شر، ومحال أن يأتي الشر بالخير، ومحال أن يُجنى من الشوك العنب. إن فرنسا نبية في الاستعمار، وإنها ترى أنه شرع لا ينسخ وعقد لا يفسخ، فدعوها وشرعها لله وسنن الله، وللزمان وتصاريف الزمان. إن الإلحاح في المسألة ذلة وإن اليأس إحدى الراحتين. والله والله، ألِيَّةَ المسلم البر، لا يرجو الخير من الاستعمار إلا من خولط في عقله فرجَا من الصخر أن يبضّ بالقطر، وما كنا نرجو منه أن يسترجع ما غصب من دنيانا، والدنيا مادة يملكها الغاصب؛ بعد تسلّطه على ديننا، والدين روحاني لا يسلبه إلا من يسلب الروح، ولكننا كنّا نظن أن تلك القلوب القاسية ترققها الشدائد، وأن تلك النفوس العاتية تلطّفها المصائب، وأن تلك الإحساسات الغليظة ترهفها مناظرُ البؤس الذي نزل بها، وتوقظها أصوات القوارع التي حلّت بدارها، من اكتساح "الألمان" لها، واجتياحها لديارها في يوم وبعض يوم، فقطع علينا هذا الظنّ يومَ حجر الحقد تلك القلوب على مسلمي الجزائر حتى أبتْ عليهم أن يشاركوها في فرحة فنغصتها عليهم بمناظر الدماء (1) والأشلاء.

_ * نشرت في العدد 4 من جريدة «البصائر»، 29 أوت سنة 1947. 1) إشارة إلى حوادث 8 مايو 1945 التي قتلت فيها فرنسا 45 ألف جزائري.

واضيعتاه! أفي الوقت الذي تطمح فيه أنظار الأمم الضعيفة إلى الاستقلال التام، يرسلها رئيس وزراء فرنسا صيحة إنذار، بأن لا حق لنا حتى في استقلال ديننا؟! واخيبتاه! أبعدَ مداورات دامت سنوات يُفرض على الأمة الجزائرية دستور أعرج أبتر، لا يسمع ولا يبصر، لم يؤخذ رأيها في وضعه، ولم يُسمع صوتها في دفعه؟! واذلّاه .. ! أبَعْد البراهين اللائحة كفلق الصبح على حق هذه الأمة في السياسة وفي الحياة، وعلى استحقاقها لجميع الحقوق في السياسة والحياة، تعامل بالدون، وتحمل على خطة الهون؟! أيها المتردّدون على قصر البوربون، إنه لا طارد كاليأس، وقد أيأسوكم فكأنهم طردوكم، فارجعوا ارجعوا وتداعوا إلى الاتحاد على الحق الواضح بالمنطق المعقول، فإن القوم قد اتّحدوا على هضمكم بالمنطق المسلّح، ارجعوا واجتمعوا واجمعوا الأمة في مؤتمر، واشرحوا لها الحقيقة، ودعوا لها الكلمة الأخيرة في تحديد الموقف وتقرير المستقبل. لا اندماج إلا لبعضكم في بعضكم، ولا اتحاد إلا لأجزائكم الطبيعية بعضها مع بعضها.

المشاكل الإجتماعية

جمعية العلماء والمشاكل الإجتماعية بالجزائر ــــــــــــــــــــــــــــــ مشكلة الزواج مشكلة الطلاق مشكلة الصداق مشكلة الأحزاب دعوات مكررة إلى اتحاد الأحزاب والهيئات

من مشاكلنا الاجتماعية (1)

من مشاكلنا الاجتماعية (1) الشبّان والزواج * ــــــــــــــــــــــــــــــ تعاني الإمة الجزائرية وجاراتها المتّحدة معها في الدين والجنس، المقاربة لها في العادات والمصطلحات، عدة مشاكل اجتماعية، لا يسع المصلحين إغفالها، ولا السكوت عليها بعد ظهور آثارها، وتحقّق أضرارها، وستعالج «البصائر» طائفة من أمهاتها، ببيان نتائجها، وبيان وجه الرأي في علاجها، سائلة من حملة الأقلام وحملة الألسنة وذوي الرأي أن يظاهروها في هذا العلاج، ومن الأمة أن تقوم بواجبها من السمع والطاعة والتنفيذ، فإن من بعض هذه المشاكل ما لو تمادى وامتدّ لأتى بنيان الأمة من القواعد، وقضى عليها بالمسخ أولًا، والتلاشي أخيرًا. أعضل هذه المشاكل، وأعمقها أثرًا في حياة الأمة، وأبعدها تأثيرًا في تكوينها مشكلة الزواج بالنسبة إلى الشبّان، فالواقع المشهود أنّ الكثير من شبابنا- وهم أملنا وورثة خصائصنا- يعرضون عن الزواج إلى أن يبلغ الواحد منهم سن الثلاثين فما فوق، ويترتب على ذلك أنّ الكثيرات من شوابنا يتعطلن عن الزواج إلى تلك السن، فيضيع على الجنسين ربيع الحياة ونسماته وأزهاره وبهجته وقوّته، ويضيع على الأمة نبات ذلك الربيع، وثمر الخصب والنماء والزكاء فيه، ثم تضيع بسبب ذلك أخلاق وأعراض وأموال، وإذا زادت هذه الفاشية فشوًّا، واستحكم هذا التقليد الفاسد، فإن الأمة تتلاشى في عشرات من السنين. إن أمّتنا ليست منسجمة العوائد في أمورها الحيوية، وليست مطبوعة على قالب واحد في تكوينها الاجتماعي؛ ولذلك نجد البُداة المتّصلين بالفطرة لا يحسّون بهذه المشكلة بل تؤدّي بهم البساطة إلى الخروج عن حد الاعتدال تفريطًا، فيزوّجون أولادهم قبل سنّ البلوغ، وهو تفريط شائن مَعيب، وخيرُ الأمور الوسط.

_ * نشرت في العدد 6 من جريدة «البصائر»، 12 سبتمبر سنة 1947.

إننا نتحدّث عن شبابنا الذين يُطاولون بالزواج وهم ينوونه، وأما أولئك الشبّان الذين أركسوا في الدرك الأسفل من الحيوانية، فانطلقوا مع الشهوات، واستمرأوا التحلّل من قيود الدين والعقل، ورأوا أن الزواج قيد لحريتهم البهيمية، فتحالفوا مع الشيطان على بتّ حباله، فأولئك قوم مجرمون. شبابنا الأعزاب المتأولون نوعان، من حيث الئقافة وعدمها. فأما المثقّفون الذين يستغلّون ثقافتهم، ويعيشون بها، فيبالغون كلما ذُكر الزواج في الاحتياط للمستقبل، والاستعداد لتكاليف النسل، ومنهم من يعتذر للعزوبة بأنه لا يجمل به أن يتزوّج من الجاهلات الأميات، وعذرهم هذا يطوي أشياء يلوحون لها تارة، ويصرّحون بها أخرى؛ وقد يزيغ بعضهم الزيغة الكبرى فيتزوّج بأجنبية، يُنفق عليها ما ينشئ ابنة عمّه خلقًا جديدًا متعلّمًا مهذبًا مدبرًا منظّمًا، ولا نلوم أولئك ولا هؤلاء، لأن الحضارة الغربية أفسدت أذواقهم، وأزاغت نظرهم إلى الحياة، فجعلت البعض يحتاط للمستقبل احتياطًا مفرطًا، وجعلت البعض يأنف من الفضيلة إذا كانت أمية، ولا يأنف من الرذيلة إذا كانت متعلّمة، لا نلومهم وإنما نلوم أنفسنا، إذ لم نأخذ للأمر عدته، ولم نحتط لعواقبه البعيدة، فنعلم البنت تعليمًا إسلاميًا قويًا بروحه، قائمًا بفضيلته، واسعًا بمعانيه، ترغم به هذا الشباب الأخرق على الرجوع إلى أصله، ولا يفلّ الحديد إلا الحديد. وأما غير المثقفين وهم الذين يعتمدون على العمل الجسماني، ولم يصلْ بهم فساد الذوق إلى احتقار الجنس، فهم يعتذرون عن تأخير التزوّج أعذارًا أخرى منها المقبول ومنها المردود؛ ولئن سألتهم ليقولن: كيف نتزوّج مع هذه الشروط المرهقة، وهذه العوائد التي تجلب الإفلاس على الأغنياء، فكيف بالفقراء أمثالنا، وإن كثيرًا منهم لصادق في كثير من هذه المعاذير، وإن عذرهم لبيّن ولا تلحقهم في هذا ملامة، وإنما اللوم على هذا المجتمع الفاسد الذي نبذ هداية الدين، وإرشاد العقل، وشهادة الواقع، وحكم العوائد، وتناول هذه المسائل الكبيرة بالنظر القصير، وإلى هذا المجتمع نسوق كلمتنا هذه: إن الأمّة الرشيدة هي التي تحرس شبّانها في طور الشباب من الآفات التي تصاحب هذا الطور، فتحافظ على أفكارهم أن تزيغ، لأن هذا الطور طور له ما بعده من زيغ أو استقامة، وتحافظ على أهوائهم أن تتجه اتجاهًا غير محمود، وتحافظ على عقولهم أن تعلق بها الخيالات، فتنشأ عليها، ويعسر أو يتعذّر رجوعهم عنها، وتحافظ على ميولهم وعواطفهم أن تطغى عليها الغرائز الحيوانية، لأن هذا الطور هو طور تنبّهها ويقظتها. راعى الإسلام- وهو دين الفطرة- كل ذلك فندب إلى الزواج، وحضّ عليه وسمّاه إحصانًا، وشرع له من الأحكام ما هو أقرب إلى التيسير والفطرة والتسامح، كلّ ذلك

ليحفظ على الشاب والشابّة دينهما وعرضهما ويضبط عليهما عواطفهما فلا تمتدّ العين إلى محرم، ولا تهفو النفس إلى محظور، ولا يجاوزان بالفطرة حدود الله. ولو أننا وقفنا عند حدود الله، ويسّرنا ما عسرته العوائد من أمور الزواج، لما وقعنا في هذه المشكلة، ولكننا عسرنا اليسير، وحكمنا العوائد، والعجائز القواعد، في مسألة خطيرة كهذه، فأصبح الزواج الذي جعله الله سكنًا وألفة ورحمة- سبيلًا للقلق والبلاء والشقاء، وأصبح اللقاء الذي جعله الله عمارة بيت وبناء أسرة- خرابًا لبيتين بما فرضته العوائد من مغالاة في المهور، وتفنّن في النفقات والمغارم. هذه العوائد بدّلت حكم الله، ونسخت سنّة رسوله، فأصبح الزوج لا ينظر من الزوجة إلى دينها وحسبها وجمالها، وإنما ينظر إلى شيء واحد ... إلى مالها، فلتكن من خضراء الدمن، ولتكن دميمة الخلقة، كلّ ذلك لا يضيرها عند الزوج الطامع إذا كان لها مال، وولي الزوجة لا ينظر من خاطب بنته إلى أصله ودينه وأخلاقه، وإنما ينظر إلى شيء واحد ... إلى ماله وما يقدّمه من المهر الغالي والحلي النفيس، وبعد هذا لا نعجب إذا رأينا كلّ زواج يبتدئ بهذا الاعتبار، ينتهي بالطلاق والعدواة والخصام بعد أشهر وأيام. إن الصدقات التي يتغالى فيها هؤلاء الحمقى يكتفي فيها الإسلام بأقل متموّل، وقد زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمة مؤمنة على أن يعلمها زوجها سورًا من القرآن، واكتفى في تزويج أخرى بخاتم من حديد (لو وُجد) ليرشد إلى أن المال ليس له من الاعتبار في باب الزواج إلا ما لخاتم الحديد. إن مقاصد الإسلام في هذه السنّة أعلى من كل ما يعمله الناس، فهو يرمي بما شرع إلى بناء البيوت على المحبة والتعاون على تربية النسل وتعليمه وتقوية الأمة به. وعلى هذا فالرجل الذي يُزوّج ابنته على هذا الأصل الواهي، ولا يراعي في زوج بنته إلّا جانب المال، رجل لا عقل له ولا ضمير، فقد يفلس ذلك الزوج، ويرجع على صداق زوجته وثروتها حتى يفلسا معًا، ويكون عاقبة أمرهما الطلاق، وكم رأينا من غني زوّج بنته بسكّير لما قدّم من حلي وساق من مهر، فعاشت بنته في نكد، ولم تتمتعّ بزوج ولا ولد؛ وكم رأينا مَن باع داره التي تُظلّه وتُظلّ أطفاله لإهداء بنت من بناته إلى زوجها، فلما جاء دور الثانية لم يجد، ووجد الشيطان فسوّل له أن يعضلها حتى تموت. هذه بعض الموبقات التي قرّرتها العادة الفاسدة في مجتمعنا، فأدّت إلى بقاء الشبّان والشّابات أعزابًا ساخطين على الحياة متبرمين بها. ثم ماذا كانت العاقبة؟ فساد أخلاق وتهوّر في الفسق وأول الغيث قطر.

أيها الآباء! يسّروا ولا تعسروا! وقدّروا لهذه الحالة عواقبها وارجعوا إلى سماحة الدين وشره، وإلى بساطة الفطرة ولينها. إن لبناتكم مزاحمات في السوق على أبنائكم، وإن معهن من الإغراء والفتون ما يضمن لهنّ الغلبة في الميدان؛ فحذار أن يغلب ضعفهن قوّتكم، وإن هذه الحرب التي أفنت ملايين من الشبّان، أبقت عديدهم من النساء، وإنهن يُجلن الآراء والأعين في مستعمرات من الشبّان، أو في شبّان من المستعمرات، وإنهن مسلّحات بأفتك من أسلحة الحرب، فحذار أن يكون شبابنا فرائس هذا الاستعمار الضعيف القوي. إنكم لا تغالبون الطبيعة البشرية إلا غلبتكم، ولا تشادّون سنن الله إلا قهرتكم وإن الدواء في أيديكم، فيسّروا ولا تعسروا. أيها الشبّان! إنكم لا تخدمون وطنكم وأمّتكم بأشرف من أن تتزوّجوا، فيصبح لكم عرضٌ تدافعون عنه، وزوجات تحامون عنهن، وأولاد يوسعون الآمال، هنالك تتدربون على المسؤوليات، وتشعرون بها، وتعظم الحياة في أعينكم، وبذلك تزداد القومية قوة في نفوسكم، إن الزوجة والأولاد حبال تربط الوطني بوطنه، وتزيد في إيمانه، وإن الإعراض عن الزواج فرار من أعظم مسؤولية في الحياة، ولمن تُخدمُ الأوطان؟ إذا لم يكن ذلك لحماية من على ظهرها من أولاد وحُرَم، ومن في بطنها من رفات ورمم. قد كان أجدادكم العرب يضعون نساءهم وذراريهم خلف ظهورهم في ساعة اللقاء لئلّا يفرّوا ... وهذا هو الحفاظ.

من مشاكلنا الاجتماعية (2)

من مشاكلنا الاجتماعية (2) الطلاق * ــــــــــــــــــــــــــــــ الطلاق حلّ عقدة، وبتّ حبال، وتمزيق شمل، وزيال خليط، وانفضاض سامر، فيه كلّ ما في هذه المركبات الإضافية التي استعملها شعراء العرب، وجرت في آدابهم العاطفية مجرى الأمثال، من التياع وحرارة، وحسرة ومرارة، ويزيد عليها جميعًا بمعنى آخر، وهو ما يصحبه من الحقد والبغض والتألّم والتظلّم. لهذه الملابسات التي هي من مقتضيات الفطر السليمة، والطباع الرقيقة، شرعه الإسلام مقيدًا بقيود فطرية حكيمة، وقيود شرعية قويمة، اعتمد في تنفيذها بعد فهم المراد منها على إيمان المؤمن، وشرع له من المخففات ما يهون وقعه كالتمتيع ومدّ الأمل بالمراجعة، وتوسيع العصمة إلى الثلاث، حتى تمكن الفيئة إلى العشرة؛ وما وصْفه في القرآن بالسراح الجميل والتسريح بالإحسان، إلا تلطيف إلهي في أسلوب معجز يبعث في النفوس المؤمنة نفحات تلطف وما تزال تلطف من غلظ الإحساس وعرام الحيوانية حتى يصير الطلاق "عملية بلا ألم". والزواج عقد بين قلبين، ووصل بين نفسين، ومزج بين روحين- وفي الأخير- تقريب بين جسمين، فإذا تراخت عراه بين القلبين ضاعت حكمة الله في السكون والرحمة والعطف، وهنا يدخل العقل مصلحًا بلغة المصلحة والتعاون والإحسان، وشفاعة النسل (إن كان)، فإذا زاغت الفطرة من أحد الزوجين عن محورها، أو طغت الغرائز الحيوانية على الفضائل الإنسانية في أحدهما أو كليهما، ولم يقم العقل وحده أو مع الحكمين، بإصلاح ذات البين، فالله أرحم من أن يكلف عباده تحمّل هذا النوع من العذاب النفسي، وهو الجمع بين قلبين لم يأتلفا، وطبعين لم يتّحدا، وروحين لم يتعارفا؛ لذلك شرع لهما الطلاق

_ * نشرت في العدد 7 من جريدة «البصائر»، 19 سبتمبر سنة 1947.

ليستريح إليه من ضاق ذرعًا بصاحبه ضيقًا معقولًا بدواعيه وأسبابه؛ ولما كان من بعض أسباب الطلاق ما يزول فتتجاوب النفسان من جديد، وتتراجعان الحنين إلى العشرة، شرع الإسلام تلك الملطفات التي ذكرنا بعضها، والتي تُبقي على أصل الصلة، وتحفظ "خط الرجعة". جهل المسلمون حقائق دينهم، وجهلوا الحكم المنطوية تحت أحكامه، ومن أسباب ذلك جفاف الفقه عند الفقهاء لأخذهم إياه من كتب تُعلّم الأحكام ولا تُبيّن الحِكَم، فأثر ذلك في نفوس المتفقهة- وهم مرجعُ العامة في سياسة الإفتاء- آثارًا سيّئة، منها اعتبار تلك الأحكام تعبدية تُحفظ ألفاظها، ولا يتحرّك الفكر في التماس عللها، وطلب حكمها، وتعرف مقاصد الإسلام منها، وتصفّح وجوه المصلحة والمفسدة فيها. أنا لم أسمع مدةَ دراستي للفقه في بعض تلك الكتب إلا كلمتين تثيران في النفس شيئًا من الإحساس الحي، وتنبّهان على خيال من الحكمة، وتبثّان في المشاعر بصيصًا من النور، إحداهما في باب النكاح، وهي قولهم: "النكاح مبنيٌّ على المكارمة"، والثانية في باب الطلاق، وهي تناقلهم لأثر "أبغض الحلال إلى الله الطلاق ". ولو أن فقهاءنا أخذوا الفقه من القرآن، ومن السنّة القولية والفعلية، ومن عمل السلف، أو من كتب العلماء المستقلّين المستدلين التي تقرن المسائل بأدلّتها، وتبيّن حكمة الشارع منها، لكان فقههم أكمل، وآثاره الحسنة في نفوسهم أظهر، ولكانت سلطتهم على المستفتين من العامة أمتن وأنفذ، ويدهم في تربيتهم وترويضهم على الاستقامة في الدين أعلى. إن من يأخذ فقه الطلاق من آية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، ومما بعدها من الآيات الآمرة بالوقوف عند حدود الله، الناهية عن تعديها، أو من آية: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}؛ أو من آية الحكمين ووعد الله بالتوفيق عند الإصلاح، وبالإغناء من واسع فضله عند التفرّق؛ أو من آية تخيير النبي أزواجه بين حالين: أحدهما التمتيع والسراح الجميل، مَن أخذَ فقه الطلاق من هذا المنبع العذب يعلم أيّ حكم مبثوثة تحت كل كلمة وكل جملة، ومن تفقه هذا الفقه ونشره في الناس يبعد جدًّا أن يتلاعب بتلك العقدة الإلهية التي عقدها الله بين الزوجين، فيضعها في موضعها المعروف بين المسلمين الآن. هذا الجمود في الفقه والفقهاء، وذلك الخلاف الواصل بين طرفي الإباحة والحظر في المسألة الواحدة، هما اللذان سهّلا على المسلمين تعدّي حدود الله في الطلاق، وأفضيا بهم إلى هذه الفوضى الفاشية في البيوت، وإلى ارتفاع الثقة بين الأزواج والزوجات، وزاد الطين

بلة وضْعٌ منحرف لمكان الزوجة من زوجها، حتى أصبح متخلخلًا متزلزلًا لا استقرار له، وما جاء هذا التخلخل إلا من سوء فهم من الرجل، انبنى عليه سوء تصرّف منه في الحق الذي خوّله الشارع، وهو أنه يملك العصمة، وما جاء سوء الفهم إلا من سوء التفهيم من الفقيه، فالفقيه لا يعرفُ إلا أن العصمة بيد الزوج، لأنه لا يجد في كتب الفقه إلا هذا، وهو حق في أصل الشريعة، ولكن الإسلام لا يُعطي هذه الحقوق أو هذه الامتيازات إلا للمسلم الصحيح الإسلام، القويّ الإيمان. فهو يكل إليه عهدًا ويستحفظه على أمانة، اعتمادًا على رشده، وثقة بإيمانه، أما إعطاء هذه الامتيازات إلى الجاهلين المتحلّلين من قيود الإسلام فهو لا يقلّ شناعة وسوء أثر عن إعطاء السلاح للمجانين. ... يخرج الرجل إلى السوق، أو يجلس في المقهى، ويختلف مع آخر في شأن جليل أو حقير فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق حانثًا فتكون النتيجة خراب بيت، وتمزيق أسرة، وتشريد بنين. ويتناقش آخر مع صهره في زيارة أو استزارة فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق، وتكون النتيجة تقطيع أرحام، وتكوين فتنة. ويتنازع اثنان الحديث في السياسة أو التفضيل بين شخصين أو في الغيم والصحو، فتجري ألفاظ الطلاق متناثرة متعددة، كأنها لازمةُ الحديث، وكأن الكثير منهم لم يتزوّج إلا ليجعل الزوجة أداة يمين، أو ليصدقه الناس حين يحلف لعلمهم أنه متزوّج. وكثيرًا ما تطلق الزوجة بهذه الأيمان والالتزامات العابثة، وهي لا تعلم من ذلك شيئًا ولم تتسبّب فيه. وكثيرًا ما تكون آمنة في بيتها سعيدة بزوجيتها، فتفاجأ بالطلاق من زوج أحمق مأفون، لخلاف شجر بينه وبين جار أو بائع أو مشتر على أتفه الأسباب. أيها المسلمون: إن عقدة الزواج عقدة مؤكدة، يحافظ عليها الأحرار، ويتلاعب بها الفجّار، وإن العصمة امتياز لرجالكم، ما لم تطغوا فيه وتظلموا، فإذا طغيتم فيه وجُرتم عن القصد، كما هي حالتكم اليوم، انتزعه منكم القضاء الإسلامي العادل لو كان. فإذا لم يكن عاقبكم الله بعذاب الخزي. ما هذه الفوضى وهذا الاضطراب إلا عقوبة من الله لكم، وغيرة منه على أحكامه أن تتولوها بالهوى المطاع، والجهل القالب للأوضاع.

أيها المسلمون: إنه لا أشقى من ابن المطلقة، وإن أباه يُشقيه أولًا، ويشقى به أخيرًا، فإذا ربيَ في حضن أمّه المطلقة شقي ببعده عن أبيه، وشقي أبوه بما تغرسه أمّه في نفسه من بغض له وحقد عليه. إن الأمة لا تنعم بأطفالها صغارًا، ولا تنتفع بهم كبارًا، إلا إذا نشأوا متقلبين في أحضان الآباء والأمهات، متلقّين لدروس العطف والحنان من قلبين متعاطفين، لا من قلب واحد. ليت شعري أيدري المتساهلون في الطلاق ماذا جنوا على أنفسهم وعلى أبنائهم وعلى أمتهم؟

دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات

دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات * إلى كل عامل مخلص للقضية الجزائرية من أحزاب وهيئات وأفراد ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها القوم: ها هي ذي الانتخابات البلدية على الأبواب، وهي مقدمة لانتخابات متتابعة وحلقة من سلسلة طويلة من النيابات، وإن من طبيعة الانتخابات في الأمم التي لم تنضج آراؤها في الحياة، ولم يتّضح منهاج الحياة لها، أن تشتّت الشمل المجموع وتفرّق الكتلة المتراصّة الأجزاء، فكيف بالشمل الممزق والرأي المفرق؟ وها نحن أولاء نرى خصوم القضية الجزائرية من أئمة الاستعمار قد جمعوا صفوفهم وأجمعوا أمرهم على حرب قضيتنا في منبتها أشدّ مما حاربوها في فرنسا، وها هم أولاء أعدّوا من رجالهم للمراكز العليا في هذه النيابة كل ذي سابقة سوداء في القضية، وكل بطل من أبطال الكيد لها، وكل ذي نية خبيثة في القضاء عليها، وكل ذي دخلة سيئة للإسلام، وكل ذي يد ملوثة بدماء أبنائه. إنهم قد تداعوا جهرة إلى الاتحاد هنا كما اتّحدوا هناك. اتّحدوا هناك على إحباط برامجكم فنجحوا، وعلى تخييب مطالبكم فأفلحوا، وإنهم قد اتّحدوا هنا على إسكات أصواتكم، وإخماد حركاتكم، وبيدهم أزمة القوة من حُكم ومال، ومطابع وجرائد وقسيسين. إن ضعف الضعيف لا يكون- في سنّة الله- إلا زيادة في قوة القوي، وإن اختلافكم ضعف، فهو لا يكون إلا زيادة في قوة خصومكم وخصوم قضيتكم. لا تستيئسوا. إن لم يكن لكم بعض ما لديهم من القوة المادية، فعندكم من القوة المعنوية ما لو أحسنتم تصريفه واستغلاله لغلب ضعفكم قوّتهم.

_ * نشرت في العدد 10 من جريدة «البصائر»، 13 أكتوبر سنة 1947.

إن قوّتكم في الاتحاد فاتّحدوا. إن الأمة من ورائكم، وهي مختلفة باختلافكم، فإذا اتحدتم اتحدتْ، وإنها متألمة من اختلافكم في مثل هذا الوقت، وفي مثل هذا الموقف، وإن هذا التألّم قد يفضي بها إلى اليأس وانعدام الثقة بكم، فأنعشوا آمال أمّتكم باتحادكم وقوُّوا معنوياتها بجمع كلمتكم. إن خصومكم يتقدّمون إلى الميدان بقائمة واحدة مختارة من أهل الكفاءات في حربكم وبغضكم، ومن أهل السوابق في الكيد لكم، يؤيّدها الموافق المتحمّس، ويرجع إليها النافر والشارد والمحايد، فتكتسب من وحدتها قوة الاتحاد، ومن التفاف الفرق قوة الإجماع. وإن هذه القوة تُصيّر الباطل حقًّا في نظر القانون. أما أنتم فتتقدمون- ما دمتم مختلفين- بقوائم مختلفة متعددة مبنية على عصبية الحزبية، لا على أساس الكفاءة، ولا على اعتبار المصلحة الوطنية، تصحبها دعايات يلعن بعضها بعضًا، ولا تنتهي حتى تقطع ما بقي من أوصال هذه الأمة الضعيفة، وتأتي على ما بقي من وشائج القربى وصلات الأخوة، ثم تترك بعدها نيرانًا من العداوة لا يطفئها ماء البحر، وندوبًا من الحزازات والأضغان لا يمحوها كرّ الزمن، وتصيّر الأخ ينظر إلى أخيه وكأنما ينظر إلى قاتله، فهي كالأمراض المستعصية إن لم تقتل تركت الضعف والارتخاء والفتور والنحول، ثم تبرز القوائم الناجحة فإذا هي هزيلة مضعوفة، مرقّعة الأطراف، خالية من الكفاءات خالية من روح النضال خالية من القيادة الصحيحة، وإذا بتلك الحمية قد بردت، لأن باعثها هو الانتخاب، وعصبية الأحزاب، لا مصلحة الوطن وحقوق الأمة، ومن المحزن أننا ما زلنا نعتبر الانتخاب غاية لا وسيلة في حين أنه في حقيقته وفي نظر الأمم الحية وسيلة لا غاية، وهذه إحدى نقط الضعف في عقليتنا العامة، فليعتبر بها رجالنا وأحزابنا، تضاف إليها أخرى من نقائصنا وهي أن الانتخابات في نظر الأمم الحية كميدان المصارعة الرياضية، لا ينتهي المتصارعان حتى يتصافحا على الوفاء للفن، أما عندنا فهي مجال خصام، تبتدئ بالسباب، وتنتهي بالعداوة، وما ذلك إلا لأن حظ النفس لم يزل عندنا مقدمًا على حظ الوطن وعلى المصلحة العامة. يا قادة الأحزاب! إن في مبادئكم دسائس دخيلة من الأفكار، تؤرّث العداوة الحزبية بين الإخوة بحجّة المحافظة على المبدإِ، فانبذوها بضرورة الاتحاد ومراعاة الظروف، وادحضوا شبهتها بحجة الوطن الصريحة، وإن في صفوفكم دساسين مدخولين من الرجال لهم أغراض في المنافع والكراسي ولهم مقاصد في الإفساد، وإنكم لتعرفونهم بسيماهم وتعرفونهم في لحن القول، فأخرجوهم من الصفوف، ولا تسمعوا لهم كلمة ولا تطيعوا لهم رأيًا، وإن إخراجهم لا ينقص عددًا ولا يقطع مددًا، بل يقطع دابر الفساد من صفوفكم ويسأصل مادة الضعف من أتباعكم.

يا قادة الأحراب! إنكم مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ وأمام الوطن وأمام الأمّة، فاعرفوا قيمة هذه المسؤولية الثقيلة، واشتركوا في تحمّلها بإخلاص تخف ويخف عليكم ثقلها. إن العمل النافع للجزائر يبتدئ من الجزائر، وإن الانتخابات باب للمرور، لا دار للاستقرار، فاعبروه متكاتفين، ولا تعبروه متخالفين، واجعلوا مصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب، ومصلحة الحزب قبل مصلحة الشخص. أيّتها الأمة الجزائرية! إن هذه الأحزاب تستمدّ قوّتها منك، وأنت الزاد والمدد، والعدّة والعدد؛ فاحمليها- بجميع الوسائل- على الاتحاد؛ إنها متكلمة باسمك، فاحمليها على الاتحاد باسمك، إنها إن اختلفت كنت أنت الخاسرة على كل حال، وقضيتك هي المهضومة على كل حال، ويومئذٍ لا ينفعك نجاح الناجح منهم؛ أما إذا اتحدوا وتقدّموا للانتخاب بقائمة واحدة، فإن نجاحهم في النيابة عنك محقق، ونجاح قضيتك قريب، فإذا لم تربحي الحق ربحت الاتحاد وكفى به ربحًا. أيتها الأحزاب! أيها النوّاب! ... دعوْناكم إلى "اتحاد أجزائكم الطبيعية بعضها مع بعضها" في تلك الكلمة المدوية في العدد الرابع من «البصائر»، واتصلنا بكثير من المسؤولين منكم وبينّا لكم ضرورة الاتحاد في هذا الوقت الحرج، فوجدنا بعضكم يقول في الاتحاد بلسانه، ما ليس في قلبه، ويسارع إليه بالقول ويبطى عنه بالعمل، ووجدنا بعضكم لا يفهم من الاتحاد إلا أن يكون اندماجًا وإلحاقًا، لا كما يفهمه الناس من حفظ كل حزب لكيانه، والاتحاد والتعاون على ما فيه مصلحة الوطن، ووجدنا بعضكم لا يرضى إلا بأن تكون جمعية العلماء جزءًا من هذا الاتحاد. وجمعية العلماء- كما هي في حقيقتها، وكما أعلنت- فوق الأحزاب. ومن مصلحة الأحزاب أن تكون جمعية العلماء فوق الأحزاب.

دعوة مكررة إلى الإتحاد

دعوة مكررة إلى الإتحاد * دعوْنا بالقلم مرّات أحزابنا السياسية الجزائرية إلى الاتحاد؛ وبينّا لهم ما يجهلونه من ثمراته وفوائده. ودعونا إليه باللسان في مجالس لا تحصى، نوّعنا فيها العبارات، وشرحنا الأسباب الداعية إليه من واقعة ومتوقعة؛ وخاطبنا بذلك جماعة من المسؤولين وذوي الرأي من أحزابنا، وتلطفنا في التحيّل، فاخترنا للدعوة كثيرًا من المناسبات التي يسهل معها الدخول إلى النفوس النافرة، والتأثير على العواطف الفائرة، والتغلّب على النزعات الحادة، واتخذنا من الإسلام والعروبة الجزائرية محورًا للدعوة إلى الاتحاد، وموئلًا نسوق إليه المتفرقين من أهله، لا تحريكًا للعصبية الدينية أو الجنسية، ولكن لأنها الجوامع الطبيعية لرجالنا العاملين، والصفات التي تربطهم بالأمة، والأصول التي ائتمنتهم الأمة على المطالبة بحقوقها فيها، ولأن الاستعمار إنما يسومنا الخسف والظلم لأجل هذه الثلاثة ويغالبنا عليها منذ قرن ونيف؛ ولو أن الشعب الجزائري كان مسيحي الدين عربي الجنس لَلقي من الاستعمار بعضَ العطف بمقدار ما تقتضيه أخوّة الدين، وإن تقاضى منه ثمن ذلك العطف تسخيرًا في تذليل بني العمومة من العرب والمسلمين كما هي عادة الاستعمار التي عرفها العرب وتفطنوا لخباياها، ولو كان هذا الشعب غير عربي ولا مسلم للقي من عطف الاستعمار المسيحي الشيء الكثير، بشرط أن تبقى العنجهية الأوربية هي السائدة فوق الجميع. ولو أننا قصدنا في الدعوة إلى الاتحاد على تلك الأصول الثلاثة، إثارة النعرة الدينية أو الجنسية، لما توجّه إلينا لوم من عاقل في هذا الزمن الذي أصبح من مميزاته وخصائصه التجمّع العنصري في أعرض الأمم دعوى في الإنسانية والديمقراطية، والتكتّل الديني في أعرقها نسبًا في الإلحاد واللايكية. ...

_ * نشرت في العدد 13 من جريدة «البصائر»، 1 ديسمبر سنة 1947.

كلّ مسلم عربي جزائري مخلص يُؤيّدنا في الدعوة إلى هذا الاتحاد. ويود منه ما نود، ويعتقد فيه ما نعتقده من أنّه المعقل الوحيد للقضية الجزائرية والوسيلة الوحيدة لنجاحها، ويرى ما نرى من آثار هذا التفرّق الشنيع الذي شتّت شمل هذه الأمة الضعيفة فزادها ضعفًا على ضعف في وقت تطلعتْ فيه إلى المطالبة بحقّها، فهي فيه أحوج ما تكون إلى جمع القوى والتئام الشمل واتحاد الكلمة. ترد علينا رسائل كثيرة من عقلاء الأمة المخلصين لها السالمين من عصبية الحزبية، وكلها حضّ على السعي في الاتحاد بين الأحزاب وجمع الكلمة المتفرقة في هذا الوقت التي تجمعت فيه جموع الاستعمار على دحض حقّنا بباطله، وفي هذا الجو الذي كله نذر ومخاوف، والرسائل على كثرتها بحيث لا يخلو منها بريد يومي وخصوصًا في الأسابيع الأخيرة- كأنما كتبت بقلم واحد في أمور ثلاثة: التشهير بضرر الخلاف، والتنويه بضرورة الاتحاد، وتعليق الأمل في جمع الكلمة على كاتب هذه السطور وجمعية العلماء. وقد تغالى بعض الكاتبين فعصب قضية الاتحاد برأس كاتب هذه الكلمة، وجعلها عهدة في عنقه، وبالغ بعضهم- وهو من ذوي الآراء النيّرة والعلم الواسع والإخلاص المحقّق- فقفز إلى غاية الغايات وهي جمع الكفاءات في حزب واحد. أما ضرر الخلاف على القضية الجزائرية فهو أمر يستوي في إدراكه جميع الناس، وأما ضرورة الاتحاد فهي أمر لا يختلف فيه عاقلان، وهو أمنية كل مسلم مخلص لدينه وجنسه ووطنه، وقد شعر به المسؤولون من رجال الأحزاب فتداعوا إليه جهرة في حين حدّة الخلاف وعنفوانه، ووجود أقوى أسبابه. ولا يماري في لزوم الاتحاد إلا قصير النظر في العواقب، أو خادم لركاب الاستعمار من حيث يدري أو لا يدري، أو مدخول النسب في الوطنية، أو مغطى البصر في العصبية الحزبية، أو سمى العقيدة في الإسلام والعروبة، أو متّهم في إخلاصه لهما، نقول هذا بكل صراحة لأننا نعتقده، ونعتقد معه أن كل الأحزاب في جميع الأمم لا يخلو أتباعها من أخلاط، كما لا تخلو أعمالها من أغلاط. وأما تعليق الأمل بكاتب هذه السطور وبجمعية العلماء فهو في محله، لأن الكاتب خلق لذلك، وعمل لذلك، وأنفق عمره في ذلك، وحلّ أصعب عقدة عقدها الاستعمار فجمع الكراغلة والحضر (1)، على ما جمع

_ 1) قبيلان يتكوّن منهما سكّان مدينة "تلمسان"، المدينة التاريخية القريبة من الحدود الغربية للجزائر، والكراغلة هم بقايا العنصر التركي الذي كان يحكم الجزائر، والحضر هم من عدا الكراغلة من عرب وبربر، وقد كانت بين القبيلين عداوة مستحكمة منذ الحكم التركي، وزاد بها الاستعمار الفرنسي ثباتًا واستمرارًا. ولما استقرّ كاتب هذا المقال بتلمسان ممثّلًا لجمعية العلماء وناشرًا لمبادئها في العمالة الوهرانية كانت أول مشكلة اعتنى بحلّها هذه المشكلة بين هاتين الفرقتين، وقد وفّقه الله في ذلك، فتآخى الفريقان على رغم أنف الاستعمار.

عليه الإسلام ربيعة ومضر. وتمّ بسعيه وسعي إخوانه العلماء- في وقت لا يقل حرجًا وضيقًا عن وقتنا هذا- جمع الأحزاب في هيئة أحباب البيان، يوم كان البيان هو مسألة الوقت ومحلّ الإجماع، وكان يصرّح هو وإخوانه في كل جلسة كما يصرّح الآن بأن جمعية العلماء "فوق الأحزاب" لا فوقية التعالي والترفّع، إذ لو كانت كذلك لما رضيت بالدخول في هيئة، ولا بالحضور في مجمع، وإنما هي فوقية الإرشاد والنصيحة والمحافظة على الوحدة، بحيث تكون الحَكَم والمرجع كلّما شجر خلاف في رأي، أو نجمت فرقة في مبدإٍ، ولكن بعض رجالنا- سامحهم الله- لم يفهموا هذا المقصد الصالح، وأرادوا الجمعية على أن تكون قسيمًا ثالثًا وطرفًا في النزاع، وحملوها على غير حقيقتها ومبادئها، وأوّلوا بالهوى بعضَ مواقفها الضرورية على غير وجهها، وأراد كل فريق أن تكون ألعوبة في يده، أو مسخّرة لأغراضه، أو أداة يهدم بها خصمه، والجمعية فوق ما يظنون، وفوق ما يتوهمون، ليست عاملَ تفريق، وإنّما هي عامل جَمْع، وليست أداة هدم، وإنما هي أداة إصلاح، ولو استبطن رجالنا السياسيون بواطنَ الأمور، وتدبروا عواقبها، لعلموا أن المصلحة الوطنية أولًا، والمصلحة الحزبية ثانيًا، تقتضيان وتتقاضيان من العاملين لهما أن تكون جمعية العلماء فوق الأحزاب، لتكون حكمًا بين الأحزاب، ولو جرت الجمعية على ما أرادوا لكانت حزبًا سياسيًّا ثالثًا يزيد الطين بلّة، وفي الأمراض علة؛ وفي صفوف الأمة صدعًا، ولانهارت دعامة الاستقلال الأولى وهي العلم والتعليم، أما كفى الأمة ما تعاني من حزبين حتى نزيدها ثالثًا؟ ... لا بدّ في الاتحاد من تذكّر بعض الماضي، ولا بدّ من نسيان بعضه، يُذكر الصالح من الماضي ليبنى عليه الحاضر، وينسى غيره لأن السياسة تتلوّن بالظروف، والظروف رهينة التحوّل والتغيّر؛ إنما يستثار التراب الساكن للبحث عن شيء نافع؛ أما إثارته لغير معنى ولا فائدة، فهو عمل يقذي ويؤذي فنرجو من رجالنا- ونلحّ في الرجاء- أن يتّحدوا على الأصول المسلمة، لأننا نعلم جميعًا أن الغاية واحدة، وأن الخلاف إنما هو في الوسائل الموصلة إلى تلك الغاية، وإذا كان الأمر كذلك كان الاتحاد من أيسر الأمور، زيادة على كونه من ألزم الأمور، وما ضاق الرأي والتدبير يومًا عن تقريب المتناقضات، فضلًا عن جمع المتقاربات. وإذا صدقت النيات، وصفت الضمائر، وأخلصت القلوب في خدمة الوطن- فكل صعب يهون، وكل عسير يتيسّر. على رجالنا أن يعلموا أنه إذا كان الاتحاد لازمًا في كل وقت، وحسنًا في كل وقت، فهو في هذا الوقت ألزم وأحسن.

وأن أمامهم ثلاثة أمور توجب عليهم الاتحاد العاجل المخلص، ليواجهوها مجتمعين متكاتفين صفًّا واحدًا يعمل لغاية واحدة. أمامهم التكتّل الاستعماري، واقفًا بالمرصاد للقضية الجزائرية، متحفّزًا للقضاء عليها، وما جمعَ جموعه إلا من أجلها؛ وما طوى أحزابه في حزب إلا للقضاء على أحزابنا، أفنعينه على أنفسنا بالتفريق؟ وأمامهم الانتخابات للمجلس الجزائري إحدى الثمرات المرة لذلك الدستور الأعرج الذي وضع من غير إرادة الأمة ولا استشارتها، ولا نشك في أن أحزاب الاستعمار ومن ورائها الحكومة تعد العدّة للاستيلاء على جميع مقاعده بكل الوسائل؛ ولا نشك في أن الخطط دبرتْ، وأن الدوائر فصلت على قدر الأذناب والأنصار، لضمان الفوز للأذناب والأنصار، فإذا لم تواجهها أحزابنا باتحاد متين، وقائمة واحدة، خسرت القضية مرتين: مرة بتمهيد السبيل لفوز الاستعمار وأذنابه وأنصاره، ومرة بتوسيع خرق الشقاق والتفرّق بين أجزاء الأمة الذي هو أثر من آثار الانتخاب. وأمامهم الحالة العالمية العامة بغيمها وظلماتها، لم يضطرب حبلها يومًا اضطرابه في هذه الأيام. وإن في جوّها لبوارق، من ورائها صواعق؛ وإن في طيها لبوائق لم تتفتّق عنها الأكمام. فإذا لم نعالج أحداثها باتحاد عتيد، ولم نقف في وجهها صفًّا واحدًا، وأظلّتنا ونحن متفرّقون متخاذلون، أضعنا الفرصة وخسرنا الصفقة؛ ويا ليتها خسارة تبقي الرجاء وإن أطالت المدة. ولكنها خسارة للقضية وللرجاء فيها معًا. إن في أحزابنا كفاءات، وفيها رجال، وفيها كنوز من الإخلاص، وقد غطى الخلاف على جميع ذلك، فهل من يد جريئة تُزيح ذلك الغطاء البغيض؟ أيّتها الأمّة: أنت تلك اليد، وأنت- وحدك- القادرة على توحيد الأحزاب. إن قوة الأحزاب مستمدّة من قوّتك، فاعرفيهم متّحدين، ولا تعرفيهم مختلفين، أما كيف تؤدّين هذا الواجب، فإن عليّ بيانه إذا لم يتّحدوا. وسيكون البيان آخر ما يمليه الواجب من محض النصيحة. أما أنا فقد بلغت ... اللهم اشهد.

عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين

عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين * للقوة والسلطان أثر في الأبدان، وأثر في الأرواح؛ وأقوى الأثرين تأثيرًا وأظهرهما وسمًا، وأبقاهما على المدى، ما كان في الأرواح، لأن التسلّط على الأبدان يأتي من طريق الرهبة، والرهبة عارض سريع الزوال، أما التسلّط على الأرواح فبابه الرغبة، والدافع إليه الاقتناع والاختيار. ولعلماء الإسلام سلطان على الأرواح، مستمدّ من روحانية الدين الإسلامي وسهولة مدخله إلى النفوس: تخضع له العامة عن طواعية ورغبة، خضوعًا فطريًّا لا تكلّف فيه، لشعورها بأنهم المرجع في بيان الدين، وبأنهم لسانه المعبّر حقًّا عن حقائقه، والمبين لشرائعه، وبأنهم حُرّاسه المؤتمنون على بقائه، وبأنهم الورثة الحقيقيون لمقام النبوّة، وكان العلماء يجمعون بين وظيفة التبيين في التعبديات، وبين وظيفة التقنين في المعاملات؛ أما الخلفاء فلم تكن وظيفتهم- في الحقيقة- إلا التنفيذ لما يراه العلماء من مصلحة في المعاملات الفردية أو الاجتماعية. كان هذا السلطان ظاهرًا على أشدّه، متجليًا في سطوعه في صدر الإسلام يوم كان العلماء قوّامين على الكتاب والسنّة، جارين على صراطهما، واقفين عند حدودهما، قائمين بفريضة الأمر بما عرفاه، والنهي عما أنكراه، لا يهدون الأمة إلا بهديهما، فكان سلطانهم نافذًا حتى على الخلفاء، وألسنتهم مبسوطة بالنقد والتجريح لكل من زاغ عن صراط الدين كائنًا من كان، وكان رأيهم هو المرجع في مصالح الدين والدنيا. لا جرم أن كان خلفاء الدنيا من معاوية وهلم جرًّا يعرفون لهم هذا السلطان الواسع، فيتّخذ منه الموفقون منهم عونًا على الخير والإصلاح فلا يقطعون دونهم رأيًا ولا حكمًا، ولا يتبرّم به المستبدّون منهم،

_ * نشرت في العدد 36 من جريدة «البصائر»، 17 ماي سنة 1948.

لأنهم يرون فيه سلطانًا على سلطانهم، فيأخذون في توهينه، تارةً بالمصانعة المرائية والاستيلاف المخادع، وتارة بالمنابذة المكشوفة والتجنّي المعاند. بايع معاوبة لابنه يزيد، وحمل الأمة على البيعة له بالترغيب والترهيب والمطاولة، فتمّ له ذلك؛ ولكنه كان يرى تلك البيعة كاللغو، ما لم يبايع العبادلةُ والحسن، لمكانتهم في العلم ومكانهم من الأمة، فعمد إلى الحيلة المستظهرة بالسيف، وكذلك فعل بنو مروان كلما تخلّف مثل سعيد بن المسيب عن البيعة، وكذلك فعل الخلفاء بعدهم في قضية البيعة أيام اشتداد سلطان العلماء وامتداده، حتى انتقل أمرها إلى طور آخر، وأصبحت في أيدي الأمراء والقوّاد والأجناد، وخرجتْ من يد الخلفاء والعلماء معًا، وكأنما كان ذلك عقوبة من الله للخلفاء على تعاليهم، وللعلماء على تنازلهم؛ وما وقع في البيعة وقع في غيرها من مصالح الأمة التي يتنازعها السلطانان. بقي العلماء- مع ذلك- ظاهرين على الحق، يتولّون القيادة الحقيقية للأمة في غير ما يمسّ السلطان المادي الزائف، وكانوا أيقاظًا لكل حدث يحدث في الإسلام، وكانوا كلّما رأوا شبحَ بدعة خفّوا إلى إزالتها، وكلّما أحسّوا بضلالة ومنكر في الدين بادروا إلى تغييره بالفعل والقول: يُجسم لهم الاحتياط الصغائر فيعاملونها معاملة الكبائر؛ لا يتساهلون ولا يترخّصون، سدًّا لذرائع الفتنة والضلال، وكانوا يصدُرون في أعمالهم وأحكامهم عن الكتاب والسنة، فيصدرون عن الدليل الذي لا يضلّ، ويستندون إلى الحجة التي لا تدحض؛ وكانت الأمة ترجع إليهم، فترجع إلى وحدة متماسكة في الدين لا تتفرّق بها السبل، ولا تتشعّب الآراء؛ إلى أن فتنتهم المذاهب والخلافات الجدلية في أصول الدين وفروعه، وغطّت عليهم العصبيات المذهبية وجه الحق، فرأت منهم العامة غير ما كانت ترى من وحدة في الدين، عاصمة لوحدتها في الدنيا، ووحدة في العلم، عاصمة من تفرّقها في المصالح، وجرّوها إلى ما هم فيه من خلاف، فجرّتهم إلى ما هي فيه من فساد، وضعف لذلك سلطانهم عليها، فتوزّع أمرَها أمراء السوء الظالمون، وقادة السوء الجاهلون، واجتمع هؤلاء على قصد واحد وهو استغلال العامة فاصطلحوا. لم يزلْ أمراءُ السوء يكيدون للعلماء حتى زحزحوهم- مع تطاول الزمن- عن مكان القيادة الروحية للأمة، وصرفوهم عنها، واستبدلوا بهم في استمالة الدهماء والعامة قادة لبسوا لبوس الدين ليغروا باسمه، وزهدوا في العلم إذ ليسوا من أهله، واستمدّوا قوّتهم من قوّة الأمراء، وتقارض الفريقان الشهادات بالتزكية والتراضي على المنافع والسكوت عن المنكر، هؤلاء يُضلونها، وهؤلاء يُذلونها، والإضلال في الدين وسيلة الإذلال في الدنيا؛ واستنامت الأمة على الهدهدة باسم الدين، وعلى الاغترار بما يزيّنون لها من الجهل، وما يقبحون لها من العلم، وما يقرّبون لها من طرق الجنّة، وهم في ذلك كلّه لا يقربونها إلى الله إلا بما

يبعدها عنه من بدع ومحدثات، والعلماء في هذه المرحلة غافلون يغطون في نومة أرْبتْ في الطول عن نومة أصحاب الكهف والرقيم، إلى أن فتحوا أعينهم على دين غير الدين، فشبه لهم، وأصبحوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأصبحوا يُزكون بعلمهم ذلك الجهل ويشهدون لأولئك القادة الجاهلين بالكمال والفضل، ولأولئك المبتدعين بما انتحلوه لأنفسهم من الولاية والكرامة، على المعنى الذي اخترعوه، لا على المعنى الذي جاء به الدين، ثم لم يكتفوا منهم بذلك حتى نحلوهم خصائص الألوهية. وشعر أولئك المبتدعة بتهوّر العلماء للمطامع الخسيسة، وسقوطهم على المطاعم الخبيثة، فقادوهم بزمامها، ثم شعروا بإقرارهم للمهانة والذل في نفوسهم، فأمعنوا في تحقيرهم وإغراء العامّة بهم، وأهان العلماء أنفسهم، فسهِل الهوان عليهم، فأصبحوا أذلّ من وتد بقاع، وصاروا عبيدًا وخولًا لهؤلاء المبتدعة الضُلَّال، يعيشون عالة عليهم، ويتساقطون على فتات موائدهم، ويتطوعون لهم حتى بأخس شهواتهم، ويشهدون لهم الزور على الله ودينه، ويحلون لهم من اللذائذ ما حرّم الله، وعلى هذه الحالة أدركنا عصرنا وأهلَ عصرنا. والشرب مشوب من قديم، ولكن آخر الدنّ دُرْدي. ولقد رأيت بعينيّ معًا منذ سنين في طريق باب منارة من تونس، عالمًا يُعدّ في الطبقة الممتازة في علماء جامع الزيتونة، يهوي بالتقبيل على يد مخرف مبتدع جاهل متعاظم، لو حُكِّمتُ لحكمتُ بأن يكون عبدًا لذلك العالم، فرأيت يومئذٍ كيف تُعبد الأصنام، وعلمتُ كيف يكون العالم سبَّةً للعلم، وخطر ببالي قول المتنبّي: وَقَدْ ضَلَّ قَوْمٌ بِأَصْنَامِهِمْ … فَأَمَّا بِزِقِّ رِيَاحٍ فَلَا وسقط ذلك العالم من حسابي، فما ذكرته بخير حيًّا، ولا ترحمتُ عليه ميتًا، ولا عددت موته- كموت العلماء- ثلمة في الإسلام! ... ما ظلم الله العلماء، ولكن ظلموا أنفسهم، ولم يشكروا نعمة العلم، فسلبهم الله ثمراته من العزة والسيادة، والإمامة والقيادة، وكان لخلوّ ميدان السلطة والأمر منهم أثر فاتك في عقائد المسلمين وأخلاقهم؛ وكان من نتائجه إلقاء الأمة بالمقادة إلى مَن يُضلّ ولا يهدي من المشعوذين الدجّالين. فأضلّوها عن سواء السبيل، ومكّنوا فيها للداء الوبيل، وأعضلُ أنواعه الاستعمار، الذي وجد منهم مطايا ذُللًا سماحًا إلى غاياته الخبيثة في الإسلام والمسلمين؛ ولو كان العلماء هم القادة، وكانوا أحياء الضمائر والمشاعر، وكانوا- كما كانوا- شداد العزائم والإرادات، لوجد منهم الاستعمار في مشارق الإسلام ومغاربه حصونًا تصدّ، ومعاقل تردّ. ***

أما والله- ألية المسلم البر، وسريرة الضمير الحر- لا ترجع هيبة العلماء إلى مستقرّها من نفوس الأمة حتى يقوموا بعهد الله في بيان الحق، ويتضافروا على حرب البدع والضلالات التي لابست الإسلام، ولبست عقائده ففسدت، وآدابه فكسدت، ولبست على المسلمين دينهم فأصبحت حقائقه في واد، وعقولهم في واد، وحتى يجلوا على الأمة تلك الكنوز الدفينة في كتاب الله كتاب الإنسانية العليا، وفي سيرة محمد دستور الحق والخير والكمال؛ وإن ذلك في صميمه هو ما تقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في دعوتها وعملها الإصلاحيين، وإنها لا تفتأ جاهدة في الإصلاح الديني حتى تؤدي أمانة الله منه، وتبلغُ الغاية من إقراره في النفوس، وتمكينه في الأفئدة؛ وقد بلغت دعوتها للمقصورات في خدورهن، وللرُّحل في قفارهم، وللبداة في بواديهم، وللحضر في نواديهم، حتى أصبحت آثارها بادية في العقول والأفكار والإرادات وقد رجع للقرآن بعض نفوذه وسلطانه، وحجّته وبرهانه، وللسنّة النبوية مكانها علمًا وعملًا، وللعلماء المصلحين قوّتهم في التوجيه، ومكانتهم في التدبير، وقدرتهم على القيادة. وإن هذه النتيجة لدعوة جمعية العلماء لمعجزة ادّخرها الله لهذا القطر الجزائري، فلا يوجد قطر من أقطار الإسلام تأثّر أهله بالفكرة الإصلاحية الدينية كما تأثّر مسلمو الجزائر، ولا يوجد في علماء الإسلام جماعة قاموا بهذه الدعوة الجريئة، متساندين مجتمعين، يجمعهم نظام وانسجام، كما قام رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، على كثرة اللدد في الخصوم ووفرة اللجاج في المعارض؛ وكم وددنا لإخواننا علماء الأقطار الإسلامية، لو قاموا بمثل ما قمنا به من تطهير عقائد المسلمين، وتوجيههم التوجيه الصحيح النافع في الدين والحياة، والرجوع بهم- في صراحة وجرأة- إلى كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم، وإنقاذهم بذلك من عصبيات المذاهب والطرق التي فرّقت شملهم، ومصائب التفرّق والخلاف التي أذهبت ريحهم؛ ومع أن إخواننا علماء الإسلام يملكون ما لا نملك من وسائل الاجتماع، وأسباب القوة، فإن جهودهم في الإصلاح الديني لم تزل فردية محدودة، وخطواتهم في السير به لم تزل بطيئة متثاقلة. أما والله، لو أنهم اجتمعوا وتذامروا، وشنّوها- كما شنناها- غارة شعواء على البدع والضلالات التي مهّدت للانحلال وفساد الأخلاق بين المسلمين، ومكّنت للضعف والخور في نفوسهم، وللوهن والفشل في عزائمهم، وللزيغ والاعوجاج في فطرتهم، وللرثاثة والنكث في روابطهم، ثم صيّرتهم- لذلك- حمًى مستباحًا، ونهبًا مقسمًا، لو فعلوا ذلك لأعادوا للإسلام قوّته وكماله، ونضرته وجماله، وللمسلمين مكانهم في البشر ومكانتهم في التاريخ.

ثلاث كلمات صريحة

ثلاث كلمات صريحة * ... 1 - إلى الأمة: هذه الحركة العلمية الجليلة القائمة بالقطر الجزائري، هي الأساس المتين للوطنية الحقيقية، وهي التوجيه الصحيح للأمة الجزائرية، فغايتها التي ترمي إليها هي تصحيح القواعد المعنوية من عقل وروح وفكر وذهن، وتقوية المقوّمات الاجتماعية من دين ولغة وفضائل وأخلاق، وتلك وهذه هي الأُسس الثابتة التي بُنيت عليها الوطنيات في الأمم، هذه حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر أو جاهل. وهذه الحركة العلمية لم يضع أصولها العملية، ولم ينظّم قوافلها، ولم يحم حماها من كل دسّاس وكل خنّاس، إلا جمعية العلماء، ولا يعلي بناءها ويرفع سمكها في المستقبل إلا جمعية العلماء. وهذه حقيقة أخرى لا يكابر فيها إلا حسود، أو متّبع لهواه، أو مسخَّر للاستعمار. وهذه الحركة لا تبلغ مداها، ولا تؤتي ثمراتها، ولا تتمخّض عن نهضة ثابتة إلا إذا استندتْ على عمادين قارين من علم وعمل. واعتمدت على سندين قويين من جمعية العلماء والأمة. وهذه حقيقة ثالثة أوضح من الصبح. فجمعية العلماء والأمة شريكتان متضامنتان في احتضان هذه الحركة، والقيام عليها، والعمل على نمائها، حتى تتشقّق عن نهضة شاملة تفرّع النهضات رسوخًا وتمكّنًا، ولا يشترك اثنان في عمل إلا كان العمل بينهما كالطائر لا ينهض إلا بهما، ولا يقصر أحدهما إلا كان الجناح الذي يمثّله مهيضًا. فالواجب على الشريكين أن يقوم كل واحد منهما بقسطه على

_ * نشرت في العدد 54 من جريدة «البصائر»، 25 أكتوبر سنة 1948.

أكمل وجه، وإلا باء بجريمتين: الإساءة إلى العمل في صميمه، والإساءة إلى الشريك العامل بالفتّ في عضده. أما جمعية العلماء فقد قامت بقسطها وبرئت إلى الله من تبعة التقصير، وإلى الأمة من خيانة الأمانة، وما زالت دائبة في ترقية الحركة، جاهدة في حياطتها بالنظام، تنتقل بها في كل عام من عالٍ إلى أعلى، ومن نافع إلى أنفع، لا تريد من الأمة على ذلك جزاء ولا شكورًا، ولا تبغي منها إلا أن تقوم بقسطها من العمل، وهو بذل الماعون من مال لا تقوم الحركة إلا به، وتصميم لا تتمّ الأعمال إلا به، وإجماع على التعليم لا تخرقه الحزبيات والانتخابات، فهل قامت الأمة بذلك؟ وهل بذلت من مالها ما يكافئ ذلك الجهد الذي بذلته جمعية العلماء؟ يسوء الأمّة أن نقول الحقيقة، ويسوءنا أن نكتمها. هذا معهد عبد الحميد بن باديس هو الخطوة الثانية إلى النهضة العلمية العتيدة بعد المدارس الابتدائية، ومنزلته منها منزلة من يأخذ ليعطي؛ يأخذ منها المتعلّمين، ويعطيها المعلّمين؛ وقد لقينا في تأسيسه من العقبات المالية ما لم نجتزه إلا بالصبر وتوفيق الله، وقد صفّت اللجنة المالية للمعهد حسابها للسنة الماضية وسينشر فيقرأ القرّاء أن المعهد مدين، وها نحن أولاء في السنة الثانية من إنشائه، وقد حفز نجاح التعليم الأمة وأطربها الحادي، فتضاعف عدد التلاميذ، فتضاعف عدد المدرّسين، فتضاعفت النفقات الشهرية حتى زادت على نصف مليون من الفرنكات. وإن ألزم الضروريات السكنى للمدرّسين والتلامذة، والسكنى عقبة كأداء لا يذللها إلا المال الوفير. وقد اشترينا في الأيام الأخيرة دارًا لسكنى شيخين من شيوخ المعهد، بلغت قيمتها مليونًا ونصف مليون، ووضعنا أيدينا على دار عربية تسع مائة وخمسين تلميذًا، وتبلغ قيمتها ونفقاتها أكثر من خمسة ملايين. ولجنة الإسكان جاهدة في إحضار الأماكن بالكراء أو بالشراء، ومن ورائها ستمائة تلميذ يطلبون السكنى ومن أمامها أصحاب أملاك يطلبون الملايين، ولكن أين الملايين؟ قد بلغنا في الاحتياط أبعدَ حد، وقرأنا لكلّ شيء حسابه قبل أوانه، وكشفنا للأمة عن كل شيء ولكن الأمة لم تقدّر الأمر كما قدّرناه، فقمنا بواجبنا، ولم تقم بواجبها، فاللهمّ اشهد. لا نُنكر أن عشرات من المدارس العظيمة قد شيّدتها الأمة بعشرات من الملايين تولّت الجمعيات المحلية قبضها وصرفها، ولا نُنكر أن الأمة في أوائل نهضة من شأنها أن تكثر فيها الجمعيات، ويكثر فيها طلاب المال، وأن نتيجة ذلك الإفقار أو الملل، ولكننا نعلم أن من لوازم النهضات يقظة الفكر، وأن من آثار يقظة الفكر التنبّه لتدجيل الدجّالين، والموازنة بين شعب النهضة وتقديم الأهمّ منها على المهم ... ***

إلى تلامذة الزيتونة والقرويين!

وهذا عدد يناهز مائتين وستين معلمًا وزّعتهم الجمعية على المدارس وعلى المعهد وكلهم جنود منقطعون للعلم، يأتمرون بأوامر الجمعية، وتسعة أعشارهم فارقوا أهليهم وتغرّبوا، ليقوموا بالواجب ويؤذوا الأمانة وينفعوا الأمة في أجدى الجهات عليها وهي أبناؤها الصغار، ويتحمّلوا التعب وضيق العيش. وقد كانت السكنى هي مشكلة السنين الماضية، فزادت عليها مشكلة غلاء المعاش، وإن الواحد منهم لينفق نفقة مضاعفة: ينفق على نفسه مثل أو أكثر مما ينفق على أسرته. وقد أصبحت المرتبات المقرّرة في الماضي لا تكفي لنصف الضروريات. فهل تقدّر الأمة أن المعلّم ملك لا يأكل ولا يشرب؟! إن جمعية العلماء تعطف كل العطف على أبنائها المعلّمين، وتعترف لهم بأنهم مغبونون في الناحية المادية، وإنها لا يقرّ لها قرار إلا إذا أصبحت حقوق المعلّمين المادية مكافئة لما يقومون به من واجبات، إن المجلس الإداري للجمعية قد درس في اجتماعه الأخير هذه المسألة بكل اهتمام وعطف، وقرّر رفع الأجور بحسب الدرجات ابتداء من أول أكتوبر الجاري، وسينشر القرار في منشور خاص مع الدرجات واللوائح والبرنامج، وهي الأعمال التي أنجزتها لجنة خاصة كوّنها المجلس الإداري تحت إشرافه من قدماء المعلّمين وأصحاب الكفاءات وسمّاها "لجنة التعليم العليا" وأسند إليها كل ما يتعلّق بالتعليم توزيعًا للأعمال والمسؤوليات. والجمعية تحرّض الجمعيات المحلية المتعهدة بمالية المدارس على أن تقوم بتنفيذ ما قرّرته الجمعية في تقدير مرتبات المعلّمين، وعلى أن تبتكر من الوسائل لجمع المال ما يقوم بذلك الواجب، وتحذّرها من الركون إلى عادة قديمة سيّئة، وهي: أن تراخي الجمعيات المحلية وتهاونها وتخاذلها وتقصيرها في العمل، كل ذلك يُحسب على الأمة تقصيرًا في الواجب، وعلى المعلّمين ضياعًا للحقوق؛ وأن هذه العادة هي أم النقائص المخلة بجهازنا التعليمي، وأن الجمعيات المحلية هي الوسيط بين جمعية العلماء ومعلّميها، وبين الأمة، فلتحرص هذه الجمعيات على أن تكون صلة متينة، وواسطة أمينة، ولتؤدِّ الأمانة على أتمّ وجه، ولتكن حازمة في الحق والخير معينة عليهما. 2 - إلى تلامذة الزيتونة والقرويين! ... أنتم- يا أبناءنا- نتاج هذه الحركة العلمية المباركة، وأنتم غلة سنة خضراء بين سنين يابسات، وأنتم الركاز الذي أظهرته هذه الرجة العنيفة التي أيقظت جمعية العلماء أمتكم على دويّها ... أفاق آباؤكم من تلك الهزّات، وصكّت آذانهم أصوات تنادي: إلى الإسلام ... إلى القرآن ... إلى سنّة محمد ... إلى لغة العرب ... إلى أمجاد السلف ... إلى تاريخ الإسلام ... إلى العلم ... فوجدوا كتائب الأمم المدلجة في طلب العلم قد حمدت السرى،

فأقسموا ليكفرن عن خطيئة النوم والغفلة بكم، وليقدمنكم قُربانًا للعلم، وليمسحنّ بأيديكم الكاتبة آثار الأمية وأوضارها. وهم يودّون- بكل مفروح به- لو يزاد من أعمارهم في أعماركم، فوجّهوكم هذا التوجيه الصادق للعلم، ومهّدوا لكم سبل الهجرة إلى منابعه. وإن منهم لمن يبيع قوتَ العيال ليزوّدكم، ويمتهن الأعزة منهم ليسودكم، وما كانوا قبل جمعية العلماء يوجّهون أبناءهم لمفيد، أو لمحمود من المقاصد سديد. وأنتم- يا أبناءنا- بواكير نهضة علمية قد أظلّ زمانها، وجاء إبّانها، وظهرت تباشير فجرها الصادق، ولمعت مخايل مُزنها الوادق، والعلم- إن كنتم لا تعلمون- هو أساس الوطنية، وقطب رحاها، ومركز دائرتها، ودليل سيادتها. لا حق لكم على الوطن، بل الحق كله للوطن عليكم، وإن أوْكد حقوقه عليكم أن تحقّقوا بالعلم مطالبه، وتعمروا بالعلم جوانبه، وتنيروا بالعلم غياهبه. أعيذكم بالله وبشرف العلم وبأمانة الوطن أن تُنفقوا دقيقة من أوقاتكم- بعد قوام الدين والحياة- في غير الطلب والتحصيل للعلم، والقراءة والمذاكرة في العلم. وأعيذكم بالله وبشرف العلم أن تعودوا إلى الوطن كما فارقتموه بنصف قارئ وربع قارئ، وعشر قارئ. وأعيذكم بالله وبشرف العروبة أن تسري إليكم العدوى من ممتهني الوطنية فتمتهنوا العلم، فلقد توهّموا- ضلة- أن الوطن يُخدم بالدعاوى الجوفاء، فحذارِ أن تتوهّموا أن العلم ينال بالدعاوى الجوفاء. كلا ... إن الوطنية لعقيلة كرام، لا يساق في مهرها بهرج الكلام، وكريمة بيت، لا تنال بلَوْ ولا بِلَيْت. وإن العلم كبير أناس، لا يُصاحب إلا بضبط الأنفاس. أعيذكم بالله وبشرف الأبوة أن تعقّوا آباءكم ووطنكم وأن تكونوا سخنة عين لهما، فترجعوا بعد طول الغيبة بالخيبة، وصفر العيبة، وأن اللباب من الشباب هم الذين يكونون كفارة وطهرة لوالديهم، لا كفارًا فجرة بأياديهم. إن طريق العلم محفوف بالعوائق، من مقت يحيق، ووقت يضيق، وإن الأقدار قد وضعت في طريقكم إلى العلم عائقًا جديدًا هو شر العوائق وأضرّها ... هو هؤلاء الدعاة الغاشون، والسماسرة المضلّون، يدعونكم إلى السياسة ليصدّوكم عن العلم، وإلى الحزبية ليفرّقوكم من الجماعة، وإلى الوطنية ليشغلوكم باسمها عن حقيقتها، ويلهوكم بلفظها عن تحصيل أقوى وسائلها، وهو العلم، إنهم يملأونكم بالخيالات صغارًا، لتفرغوا من الحقائق كبارًا، وإنه لنوع من التسميم المرجأ لا يشعر به المصاب إلا بعد فوات الوقت.

إلى أولياء أولئك التلامذة

العلم ... العلم ... أيها الشباب لا يلهيكم عنه سمسار أحزاب، ينفخ في ميزاب، ولا داعية انتخاب، في المجامع صخاب، ولا يلفتنكم عنه معلّل بسراب، ولا حاوٍ بجراب، ولا عاوٍ في خراب، يأتم بغراب، ولا يفتنّنكم عنه منزوٍ في خنقة، ولا ملتو في زنقة، ولا جالس في ساباط، على بساط، يحاكي فيكم سنّة الله في الأسباط. فكل واحد من هؤلاء مشعوذ خلّاب وساحر كذّاب. إنكم إن أطعتم هؤلاء الغواة، وانصعتم إلى هؤلاء العواة، خسرتم أنفسكم، وخسركم وطنكم، وستندمون يوم يجني الزارعون ما حصدوا، ولات ساعة ندم ... ... 3 - إلى أولياء أولئك التلامذة ... لكم الحق- أيها السادة- دينًا وعقلًا وعادة أن توجّهوا أولادكم ما داموا صغارًا حيث تشاءون من وجهات الخير، ما لم يكن في ذلك مأثم أو قطيعة رحم. فإذا بلغوا الرشد تقاضيتموهم برًّا ببر، وإحسانًا بإحسان، فإذا خرجتم في سلطتكم عن حدود الدين، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وهؤلاء التلامذة أبناؤكم وجّهتموهم للعلم واخترتم لهم طريقه، فكان ذلك منكم نهاية البر بهم والنظر لهم، وكان في ذلك رضى أنفسكم ورضى الله ورسوله وصالحي المؤمنين، وكان ذلك منكم معدودًا عند المفكّرين في ما يخدم به الرجال أوطانهم، لأن أبناء اليوم هم ذخائر الوطن في المستقبل، وكل ما نزوّدهم به من تربية صالحة، وأخلاق وعلم فهو إعداد وتجنيد وتسليح للوطن. ولكن ما قولكم- يرحمكم الله- إذا اعترض أبناءكم وهم في طريقهم إلى العلم لصوص يحاولون أن يقطعوا عنهم طريقه، أتسكتون وتقعدون عن نجدتهم؟ وتتركونهم للصوص يعبثون بهم، فتضيع آمالكم وأموالكم، وتخيب نيّاتكم ومقاصدكم؟ أم تهبون سراعًا إلى استخلاصهم من أيدي اللصوص؟ الدين والعقل والعادة، كل هؤلاء يفرض عليكم أن تصونوا أبناءكم وتحفظوهم من هؤلاء اللصوص. إلا أن لصوص العقول أفتك من لصوص الأموال وأشدّ منهم عبثًا وإفسادًا، وإن اللصوص الذين أعنيهم لصوص عقول يتحكّمون بأبنائكم في مطارح هجرتهم إلى العلم. وفي

مسارح غيبتهم عنكم، فيضلونهم عن سواء السبيل، ويوجّهونهم لغير الجهة التي أردتم، ويأتونهم- كالشيطان- من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ويصدّونهم عن ذكر الله وعن الصلاة وعن العلم إلى أحاديث يزوقونها لهم، تملأ السمع، ولا تملأ العقل، ويصرفونهم عن كتب العلم ودروس العلم إلى جرائد حزبية مملوءة بالكذب والنقائص والمهاترات والسباب. إن هؤلاء اللصوص المأجورين بأموالكم قد نالوا مأربهم في إفساد عقول أبنائكم في غفلة منكم، وصدّوهم عن العلم، وشغلوهم بالسفاسف الحزبية، حتى أصبح المقهى أحبّ إليهم من الجامع، والجريدة أحب إليهم من الكتاب، والمناقشات الحزبية أشهى إليهم من المذاكرات العلمية، وقد فرّقوهم شيعًا وأوزاعًا، بعد أن جمع العلم بين قلوبهم وأفكارهم، وأيسر ما في هذا الداء أنهم يزيّنون لهم عقوقكم، ويهونون عليهم حقوقكم. إن هؤلاء اللصوص يغدون على أبنائكم ويروحون، ويقعدون لهم بكل صراط، ويتنقلون بهم في الإفساد وتضييع الأوقات وتعطيل المواهب من منزلة إلى منزلة، ومن مرحلة إلى مرحلة، وآخر مرحلة لمن تمّ تسليكه على أيديهم أن يقتلعوه من حلقة الدرس ويبعثوا به من تونس إلى الجزائر داعية انتخاب، وخطيبًا يدعو لذلك الصنف الذي تعرفونه من النوّاب. أفلهذا أرسلتم أبناءكم إلى تونس؟ أم أنتم لا تبصرون؟ أليس من المبكيات أن لا ينجح في شهادة التحصيل من جامع الزيتونة إلا ستة أو سبعة من ألف تلميذ وبضع مئات من أبنائنا؟ وما السبب؟ السبب يرجع بالخصوص إلى هؤلاء اللصوص. ... أيها الآباء- وكلنا آباء- إن جمعية العلماء هي الهيئة الوحيدة التي تحضن حركة التعليم العربي في داخل القطر، تقوم بها وتحوطها وتناضل عنها، وتقوم بأمانة الله في توجيه هذا الجيل للدين والعلم. وهي- بطبيعة عملها- المؤتمنة على عقول الصغار حتى لا تضل ولا تطغى، وعلى عقائدهم حتى لا تفسد ولا تزيغ، وإن من أداء الأمانة أن تتقدّم بهذه الحقائق إلى الأمة. كما تقدّمت بالنصائح السالفة إلى التلامذة. وجمعية العلماء تعتقد أنه لا يتمّ إصلاح التعليم في الداخل إلا إذا تمّ إصلاحه في الخارج، لشدة الاتصال بينهما، ولأن التعليم في الخارج هو الذي يغذّي التعليم الداخلي بالمعلّمين، ومحال أن ينال التعليم الداخلي خيرًا من معلّمين يتخرّجون من المقاهي، ويحصلون معلوماتهم من الجرائد الحزبية، ويتدرّبون في الميادين الحزبية على السباب،

وتنقص التعليم، والتنكّر للعلم، والترويج للأميّة بتمجيد الأميين والسير في ركابهم والتمسّح بأعتابهم، أفيرجى من أمثال هؤلاء المعلّمين خير؟ اللهم لا! ... إن جمعية العلماء مصمّمة على أن تحوط التعليم في الخارج برقابة تمدّها على التلامذة، ونصائح تشتد فيها، ليحذروا أولئك اللصوص، ولينقطعوا إلى العلم، وليضعوا بين أعينهم الواجب الذي ينتظرهم في وطنهم، وهو التعليم. فأعينوها- أيها الآباء- بقوة تجعل بين أبنائكم وبين أولئك اللصوص رَدْمًا، وما هذه القوة بزبر الحديد، ولكنّها بالإعانة والتأييد، وبالمراقبة والتشديد، وبالوصايا الحازمة للتلامذة أن يعرفوا قيمة ما هاجروا إليه، فيقصروا جهودهم وأوقاتهم عليه.

من مشاكلنا الإجتماعية (3)

من مشاكلنا الإجتماعية (3) أعراس الشيطان * ــــــــــــــــــــــــــــــ كنّا نفهم أن الشيطان يطوّف ما يطوّف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزيّن لها معصية الله، ويحرّكها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنّا نعلم أن للشيطان مراجَ خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في "العمالة الوهرانية"، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوّها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها ... وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزّين قلّما يجدها في غيرهم من رعاياه، وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزَّلُ إلا على كل أفّاك أثيم. والشيطان حقيقة روحية، لا تدرك بالحواس، ولا تُعرف بالحدود، ولا تُقاس بالموازين البشرية؛ وإنما نعرفه بآثاره في أوليائه، من القابلية للشر والفساد، والاستجابة للمنكر والباطل، والتهوّر في الفسوق والعصيان، والمسارعة إلى المساخط، والعكوف على الضلال، وسرعة التلقّي لوحي الشيطان وتلبيسه، والمحادة لله ورسوله فيما أمرا به أو نهيا عنه. ويجتمع في مجموع صفاته أنه درب مفتن متمرّس بسلائل آدم، خالي الذرع من الهم إلا بهم، من يوم قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فهو يتفنّن في تزيين الفواحش لهم، ويعرضها عليهم مزركشة ذات تهاويل، ويضع الأسماء على غير مسمّياتها، ليغرّ بالزركشة ويغري بالاسم، فيضع للأغرار من أتباعه اسم الدين على ما ينقض الدين ويهدمه، واسم الخير على ما يمحو الخير ويعدمه، ويوحي إلى أوليائه بالفواحش مغيّرة العناوين، فيأتونها مبتدرين، ويجترحونها مخلصين، كما يأتي المؤمن القانت فرضَ ربّه، ويستقبل أمره.

_ * نشرت في العدد 95 من جريدة «البصائر»، 14 نوفمبر سنة 1949.

ولكن يبدو لنا أن الشيطان المكلّف بالعمالة الوهرانية بليد القريحة، جامد الفكر، خامد الذوق، جافي الطبع، كثيف الحسّ، خشن المسّ، بدوي النزعة، وحشي الغريزة، فكلّ ما يأمر به أولياءه وأتباعه فهو من جنس طبعه، سمج غث خال من الجمال والفن والذوق، وقد عهِدنا الشيطان "المتمدن " لطيف الإحساس، فنيّ الذوق، وعهدنا أعماله فنية الأسلوب فاتنة المظهر؛ والفتنة هي سلاح الشيطان الأحدّ، يكسو بها أعماله فيصبي الحلماء، ويستنزل النسّاك إلى مواطن الفتاك، أما هذه الأعمال التي نشاهدها من أولياء الشيطان في عمالة وهران فهي سخيفة باردة حيوانية وحشية. ... هذه "الزرد" التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكلّ ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكلّ داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان، ألم ترَ إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يُهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كلّ ذلك مما يأمر به الشيطان "البدوي"، وكلّ ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبيّن لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه. كلّما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يُقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوّله لهم الشيطان وليًّا صالحًا، بل يصوّره لهم إلهًا متصرفًا في الكون، متصرفًا في النفع والضرّ والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلًا صالحًا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيًّا وكان صالحًا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرّب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فَاءُوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كلّ ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثَقُل الدين وألحّ الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار! ..

جُلْ ما شئت في عمالة وهران في النصف الأخير من الربيع، والنصف الأول من الخريف، فإنك تسمع في كل سوق أذانًا بزردة، وترى في كل طريق حركة إلى زردة، وركابًا تشد إلى وعدة. وسرْ ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات ترَ القبابَ البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسلْ تجد القليل منها منسوبًا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقلّ مجهولًا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمّرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يَبني قبة أو قبّتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحرّاس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محبّ في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكّن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها. وكأن هؤلاء القوم يعتقدون أن أرواح الأولياء كالثعابين والحيات، تتخذ من الحجارة المجموعة مقرًّا وملجأً، فكلّما وجدوا حجارة مجموعة اعتقدوا أنها مباءة لولي واتخذوها مزازًا. ولقد مررتُ في إحدى جولاتي في تلك المقاطعة بقطعة أرض موات، كأنها مقبرة أموات، مرصّعة بالحجارة، مغطاة بالسدر والدوم، تحفها قطع متجاورات، غُرست زيتونًا وكرومًا وفواكه شتّى، فكأن تلك القطعة من بينها جنة الرجاز التي تخيّلها أبو العلاء المعرّي في رسالة الغفران؛ فشهدت كل واحدة بصاحبها، ثم مررتُ بعد سنة بتلك القطعة، فدلّني تبدّل الأرض غير الأرض على أن صاحبها الأول قامت قيامته، ووجدت تلك الحجارة قد رُكمت على حافة الطريق، ثم مررت بها مرة أخرى في تلك السنة فإذا تلك الحجارة المركومة قد رشّت بالجير الأبيض، وإذا فيها كوى للبخور والشمع، قلت، سبحان من يحي قلوبًا ويميت قلوبًا، سبحان من جعل التوحيد مفتاح السعادة في الدارين. ولقد ماتتْ هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهّرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثّر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه، ودعا داعي الشيطان إليها فأسمع، وكأنّما أذن في

القانتين بصلاة، أو ثوّب في المستطيعين بحجّ، فإذا هم في اليوم الموعود مهطعون إلى الداعي، رجالًا ونساءً وأطفالًا، يُزجون الرواحل، ويسوقون القرابين، ويحملون الأدوات، تراهم فتقول إن القوم صُبِّحوا بغارة، تسيل بهم الطرق، وتغصّ بهم الفجاج، حتى إذا وصلوا إلى الوثن نُصبت الخيام، وسالت الأباطح بالمنكرات والآثام. وإن لعودة هذه المنكرات لسببًا جديدًا غير العقيدة، فقد ضعفت، وغير المنفعة المادية لدعاة الشيطان، فقد نزرت، وإنما هو تنشيط الحكومة لها، وتحريضها على إحيائها، لأن في بقائها قوّة للاستعمار، ومقاومة للحركة الإصلاحية، وإلهاء لرجال الإصلاح عن البناء والإصلاح، وإنا- إن شاء الله- لهذه المكائد لمتفطنون، وإنا على إحباطها لعاملون، وإنا للحديث عن هذه المخزيات لعائدون. ... يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعيَ الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مَفسدة للعقيدة، وإن فروعها مُفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحلّ أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن.

من مشاكلنا الإجتماعية (4)

من مشاكلنا الإجتماعية (4) الصداق ... وهل له حد؟ * ــــــــــــــــــــــــــــــ من أمراضنا الاجتماعية التي تنشر في أوساطنا الفساد والفتنة، وتعجّل لها إلى الدمار والفناء - عادةً- المغالاة في المهور، وما يقابلها من المغالاة في الشورة (1)، وقد أفضت بنا العوائد السيّئة فيها إلى سلوك سبيل منحرف عمّا تقتضيه الحكمة، وعما تقتضيه المصلحة، وهو تنزّل الأغنياء للفقراء رفقًا بهم، وتيسيرًا عليهم، فأصبح الفقراء يتطاولون إلى مراتب الأغنياء ويقلدونهم، تشبّهًا بهم، ومجاراة لهم، والضعيف إذا جارى القوي انبتّ فهلك. وقد كانت هذه القضية- وما زالت- أهمّ ما تضمنه منهاجنا في الإصلاح الاجتماعي، فعالجناها بالترغيب والترهيب، وبيان ما تقتضيه الحكمة الشرعية، وما يقتضيه الحكم الشرعي: تناولناها في الخطب الجمعية، وفي دروس التفسير والحديث، وفي المحاضرات العامة، وفي المقالات المكتوبة، وحملنا الحملات الصادقة على العوائد التي لابستها فأفسدتها، حتى صيّرت الزواج الذي هو ركن الحياة، أعسر شيء في الحياة، وبينّا بالشواهد الواقعية ما تجرّه هذه الحالة على الأمة- إذا تمادت- من وخامة العاقبة وسوء المصير، ولكن أعمالنا في هذه القضية لا تظهر نتائجها الكاملة إلا في جيل يكون أقوى إرادة من هذا الجيل الذي ملكت العوائد عليه أمره، فأعمته عن مصالحه، وأفسدت عليه دينه ودنياه، وإن المرأة لنعم العون في هذا الباب، وما دام عقل المرأة لم يرتق إلى معرفة الحقائق، وتبين وجوه المصالح، فإن أملنا في إصلاح هذه الحالة ضعيف والمرأة هي نصفنا "الضعيف القوي" شئنا أو أبينا. وقد حاول بعض أهل الشعور الحي نوعًا من التطبيق العملي لإصلاح هذه القضية، في منطقة مخصوصة تجمعها وحدة قبلية، فحدّدوا للمهر مبلغًا يستوي فيه الفقير والغني، بلا

_ * نشرت في العدد 123 من جريدة «البصائر»، 12 جوان سنة 1950. 1) الشُّورة: ما تُجَهَّز به العروس من ثياب وأثاث.

نقص فيه، ولا زيادة عليه، ولكنهم غفلوا عن أمرين: الأول أنهم مهما هبطوا بالمبلغ المحدود فإن في الفقراء من لا تصل قدرته إليه، فيصبح هذا التحديد إرهاقًا له وتعنيتًا، والثاني إن إصلاحًا مثل هذا لا يتم إلا إذا سبقه إصلاح في الأخلاق، وإصلاح في التربية، وتقوية للوازع الديني في النفوس، حتى يتغلّب على العوائد المستحكمة؛ ولو أنهم وضعوا حدًّا أعلى للأغنياء بعد إقناعهم بالتزامه، وتركوا للفقراء مجالًا واسعًا يبتدئ من الواحد وينتهي إلى العشرة مثلًا، ليقف كل فقير عند الدرجة التي تنتهي إليها قدرته، ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرًا وأحسن تأويلًا، ولكان أقرب إلى النظرة العمرية في إيقاف المغالاة عند حد. وقد سُئلنا أن نكتب كلمة في هذا الموضوع تبيّن الحكم الشرعي على وجهه وتجلي الحكمة الشرعية على حقيقتها، فكتبنا هذه الكلمة في بيان الحكم العام، في الحالة العامة، ولم نوجّهها إلى جماعة خاصة، وإنما وجّهناها إلى الأمة كلها لأن مرضها واحد، ولأننا نراعي في أعمالنا- إن شاء الله- الفائدة العامة. ... الصداق نحلة شرعية مشروطة في عقدة النكاح، يعجلها الزوج للزوجة أو يعمر بها ذمّته إلى أجل، ولا نقول ما يقوله الفقهاء المسارعون إلى التعليلات السطحية التي لا تتفق مع الحكمة: إن الصداق عوض عن البضع أو ثمن له، فإن هذا التعليل يدخل بهذه العلاقة الشريفة في باب البيع والشراء والمعاوضات المادية، وحاشا لهذه الصلة الجليلة التي هي سبب بقاء النوع الإنساني أن تكون كصلة الثوب بمشتريه، أو صلة المتاع بمقتنيه! بل إن معناها أعلى وأجلّ؛ إنها إكرام من الرجل القوام، للمرأة الضعيفة، ووصلة بين قلبيهما، وتوثيق لعرى المحبّة بينهما، وتأنيس يسبق العشرة المستأنفة، وبريد يحمل البشرى بالقرب؛ فإذا أدخلناها في باب الأثمان والقيم لم يبقَ إلا أن نسمّي الزوجة بائعة، والزوج مشتر، والخاطب سمسارًا؛ وإننا نتلمّح من الحكمة الإلهية العليا العامة في الجنس كله أن الصداق في الإسلام جبر لما نقص المرأة من الميراث، فمن عدل الله أن نقص لها في ناحية، وزادها في ناحية، وكرمها فأعفاها من تكاليف النفقة في أطوارها الثلاثة، بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهذه هي الحكمة التي ندمغ بها الطاعنين في الإسلام، الهازئين بأحكامه، المتعامين عن حِكَمه. وليس للصداق في أصل الشريعة ونصوصها القطعية، وتطبيقاتها العملية، حد منصوص يوقف عنده لا في القلة ولا في الكثرة، وإنما هو موكول إلى أحوالهم في العسرة واليسرة، وطبقاتهم في الغنى والفقر، ولو كان له حد منصوص في القلة لما اختلف الأئمة في حدّه الأدنى، فقال مالك ثلاثة دراهم أو رُبع دينار، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم، وقال غيرهما

خمسة؛ ولما اختلفت مداركهم في المقيس عليه ما هو؟ أهو ما يجب فيه القطع في السرقة؟ أم ما تجب فيه الزكاة في رأي بعض أئمة المالكية؟ وإن كان القياس في الرأيين واهيًا لخفاء أو لبعد العلة الجامعة بين المقيس وبين المقيس عليه. ولو كان له حد منصوص في الكثرة لوقف عنده عمر، ولم يعزم على تحديده، وإن كانت الروايات لا تفيد أنه عزم على التحديد، وإنما نهى عن المغالاة فيه، فرواية أصحاب السنن لقول عمر: لا تغالوا في صدُقات النساء؛ وأن امرأة قالت له: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: وآتيتم إحداهن قنطارًا من الذهب (وهذا الحرف من قراءة ابن مسعود)، وأن عمر قال: امرأة أصابت، ورجل أخطأ. فتسليم عمر للمرأة يدلّ على أنه لا حد للأكثر، وهو الحق، وهو الواقع ونهيه عن المغالاة سداد ونظر بالمصلحة، وتأديب للمغالين، وعمر خليفة مصلح حريص على حمل الأمة على القصد في كل شيء، وعلى عدم الاندفاع في التطوّر، وقد فاضت الأموال في عهده من الفيوء والمغانم؛ والمال المفاجئ عامل من عوامل سرعة التطوّر ومجاوزة حدود القصد؛ ومن نظر في وصاياه لعتبة بن غزوان في تخطيط البصرة، شهد ببعد نظره في بناء الأمة على أساس متين، ومن تأمّل نهيه عن المغالاة في الصداق، وعزمه على إلزام المطلق ثلاثًا في اللفظ، علم حرصه على أخلاق الأمة أن يدركها التحلّل والانهيار؛ وإنه لا يعزم تلك العزائم إلا حين يرى الناس تتايعوا (2) في أمر كانت لهم فيه أناة، كما قال هو في قضية الثلاث، ولله در عمر! ... نرجع إلى الشواهد العلمية من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمل أصحابه رضي الله عنهم، نجدها لا تدل على تحديد في الأدنى ولا في الأعلى، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصدقَ نساءَه كما في الصحيح اثنتَيْ عشرة أوقية ونشًّا، والأوقية أربعون درهمًا، والنش نصف الأوقية، فتلك خمسمائة درهم، وتزوّج عبد الرحمن بن عوف على نواة من ذهب، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأقرّه، والنواة وزن معروف عندهم، قالوا في تفسيره إنه ربع النش، فهو خمسة دراهم. وفي حديث الواهبة نفسها لرسول الله أنه قال لخاطبها: التمس ولو خاتمًا من حديد ثم زوّجه إياها بما معه من القرآن، يعني بأجرة تعليمها سورًا من القرآن سمّاهنّ.

_ 2) التتايع بالياء المثناة معناه في المحسات السقوط وعدم التماسك.

أما خمسة الدراهم، وخمسمائة درهم، فهي مال معدود، ولكنه لا يقتضي التحديد للأقل ولا للأكثر، وأما أجرة التعليم فهي مال، ولكنه مجهول في قضية الواهبة، وأما خاتم الحديد فليس بذي بال، وكيفما قدّرت قيمته كانت أقلّ مما جعله الأئمة حدًّا أدنى، ورأيُنا فيه، وفهمنا لحكمته أنه رمز نبوي بعيد المغزى، عالي الإشارة، إلى أن ما يفتتن به الناس بمقتضى طبيعتهم من اعتبار المال في الزواج ليس مقصدًا شرعيًّا، وإن أحقر شيء مما يُسمّى مالًا كافٍ فيه؛ أما القصد الحكيم فهو من وراء ذلك: هو في الإحصان، وقمع الغرائز الحيوانية، وسكون القلب إلى القلب، وتحقيق حكمة الله في التناسل وتسلسل النوع، إلى غير ذلك من الحكم التي ليس منها المال، وإنما المال هنا جاذب مادي موصل يسدّ رغبة سطحية، وما أغلى صداق الواهبة في حكم العقل، إذ سيق إليها علمًا بسور من القرآن يزكيها، لا دراهم معدودة يُفنيها إنفاق يوم أو يومين، ولو وجد ذلك الخاطب خاتمًا من حديد فأصدقها إياه لانتقلت الحكمة إلى باب آخر، وهو إنزال الناس منازلهم في الفقر والغنى بحيث يتزوّج كل واحد بما يملك. وقضية الواهبة- على كل حال- قضية عين، لا تقوم بها حجة، زيادة عن كونها خرجت مخرج التفسير، في أسلوب بليغ من التعبير، ومعتاد في كلام من أوتي جوامع الكلم، كقوله في أحاديث الحث على الصدقة: "ولو بظلف محرق" "ولو بفِرْسِنِ شاة" "ولو بشق تمرة". هذا ولا ننسى أننا نستروح من كلمة الطَّوْل الذي جعله الله موجبًا للانتقال من نكاح الحرائر إلى نكاح الإماء، أن الصداق مال له بال بالنسبة إلى أحوال الرجال. ... والخلاصة أن الشريعة المطّهرة الحكيمة لم تحدّد في الصداق حدًّا أدنى، ولا حدًّا أعلى، لأن الناس طبقات، فقراء وأغنياء وبين ذلك، فإذا انساقوا بالفطرة القويمة، والشريعة الحكيمة، وجروا على منازلهم في المجتمع، صلح أمرهم واستقامت لهم الحياة، وإذا زاغوا عن الفطرة، وحادوا عن الشريعة، وخرجت كل طبقة عن مداها المقدّر لها، هلكوا وشقوا. والدين إنما يخاطب المؤمنين به، المتّبعين لأحكامه، المتأدبين بآدابه، الواقفين عند حدوده، فإذا ترك الأمر مطلقًا كالصداق فإنما يفعل ذلك اعتمادًا على إيمانهم وأمانتهم، وعرفانهم لما تقتضيه مصلحتهم، واعتبارهم للحِكَم قبل الأحكام. واذا صلح المجموع وكان بهذه المنزلة من فهم الدين ومعرفة مقاصده العامة، فبعيد أن يتورّط في العسر والإرهاق والحرج، وبعيد أن يتطاول الفقير إلى منزلة الغني فيقع الفساد في الأرض.

والدين مع هذا الإطلاق في الصداق، قد ندب الناس إلى التيسير، ونهاهم عن التشديد والتعسير، في الزواج والمهر، حتى تتيسّر إقامة هذه السنّة الفطرية على جميع الناس. نحن لا نبدّل أحكام الله، ولا نقول بتحديد الصداق، ولكننا نقول ونكرّر القول: إن المغالاة في المهور أفضت بنا إلى مفسدة عظيمة، وهي كساد بناتنا وإعراض أبنائنا عن الزواج، واندفاعهم في رذائل يعين عليها الزمان والشيطان، فعلى المسلمين أن يذلّلوا هذه العقبات الواقعة في طريق زواج بناتهم وأبنائهم، وأن يقتلوا هذه العوائد الفاسدة المفسدة، وأن ييسّروا ولا يعسروا وأن يعتبروا في الزواج حسن الأخلاق، لا وفرة الصداق، وفي الزوجة الدين المتين، لا الجهاز الثمين.

جمعية العلماء والسياسة الفرنسية بالجزائر

جمعية العلماء والسياسة الفرنسية بالجزائر

ذكرى 8 ماي - 1 -

ذكرى 8 ماي * - 1 - ذكراك يا يوم … تحزّ في الأحشا إذا أقبل القوم … وحش تلا وحشا ... يا يوم لم تشرق … شمس على مثلك أَل الضحى مُغرق … والملتجَى مُهلك ... ذكراك يا يوم … لا تأتَلي حوما تعتاد في النوم … فتطرد النوما ... رِيع الحمى فيكا … والأهل في غفله لم يُعف عافيكا … طفلًا ولا طفله ... فيك اعترت لمه … رهطًا من الشُّمس فقتلوا أمّه … أحيتهم أمس ساقت لهم نصرًا … جازَوْه بالكسر

_ * نشرت في العدد 119 من جريدة «البصائر»، 15 ماي 1950.

كمن فدى الأسرَى … فبات في الأسر ... لهفي على هاوٍ … على شفا العمر قد تلّه غاو … فخرّ للصدر ... لهفي على مرضَع … قد عُفِّرت أُمُّه ما خب أو أوضع … إلا الشقا أَمَّه ... الشعب مسّته … فيك اليدالعَسرا أضحى فمستّه … بالضرّ والعُسرى ... يا يوم، ذكراكا … لم تبرح البالا لو طاف مسراكا … بالليث ما صالا ... زرعت أحساكا … منبتها الصدر فكيف ننساكا … إنّا إذن غدر

ذكرى 8 ماي - 2 -

ذكرى 8 ماي * - 2 - يوم مظلم الجوانب بالظلم، مطرّز الحواشي بالدماء المطلولة، مقشعرّ الأرض من بطش الأقوياء، مبتهج السماء بأرواح الشهداء؛ خلعت شمسه طبيعتها فلا حياة ولا نور، وخرج شهره عن طاعة الربيع فلا ثمر ولا نوْر، وغبنت حقيقته عند الأقلام فلا تصوير ولا تدوين. ... يوم ليس بالغريب عن (رزنامة) الاستعمار الإفرنسي بهذا الوطن، فكم له من أيام مثله، ولكن الغريب فيه أن يجعل- عن قصد- ختامًا لكتاب الحرب، ممن أنهكتهم الحرب على من قاسمهم لأواءها، وأعانهم على إحراز النصر فيها؛ ولو كان هذا اليوم في أوائل الحرب لوجدنا من يقول: إنه تجربة، كما يجرّب الجبان القوي سيفه في الضعيف الأعزرل. ... إثنان قد خلقا لمشأمة الاستعمار والحرب؛ ولحكمة ما كانا سليلي أبوّة، لا يتم أولهما إلا بثانيهما، ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأوّلهما؛ وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا اليوم في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيّته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد، فجثث القتلى من هذه الأمّة ضحيته. ...

_ * نشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر»، 15 ماي 1948.

تستحسن العقول قتل القاتل، وتؤيّدها الشرائع فتحكم بقتل القاتل، ولكن الاستعمار العاتي يتحدّى العقول لأنه عدوّها، والشرائع لأنها عدوّه، فلا يقوم إلا على قتل غير القاتل ... ويغلو في التألّه الطاغي، فيتحدّى خالق العقول، ومنزل الشرائع، وينسخ حكم الله بحكمه، ورحمة الله بقسوته، فيقتل الشيوخ والزمنى والنساء والأطفال. أين النعمان بن المنذر ويوماه من الاستعمار وأيامه؟ كان للمنذر يومان: يوم بؤس ويوم نُعمى، وبينهما مجال واسع للبخت، وملعب فسيح للحظ، فإذا طار طائر النحس في أحد يوميه وقع على حائن أتت به رجلاه، أو محدود لم يلتق مع السعد في طريق، أما الاستعمار فأيامه كلها نحسات، بل دهره، كله يوم نحس مستمر، مُحيت الفواصل بين أيامه ولياليه، فكلّها سود حوالك، يطير طائر النحس منها فلا يقع إلا على أمم آمنة مطمئنة؛ وأين قتلى ضمختْ دماؤها الغريين (1)، من قتلى ضمخت دماؤها أديم الأرض، وخالطت البحار حتى ماء البحار أشكل. ... أمة كالأمم حلّت بها ويلات الحرب كما حلّت بغيرها، وذاقت لباس الجوع والعري والخوف، وتحيّفت الحرب أقواتها وأموالها، وجرّعت الثكل أمهاتها واليتم أطفالها، وأكلت شبابها، وقطعت أسبابها، وصليت نار الحرب ولم تكن من جُناتها، وقدمت من ثمن النصر مئات الألوف من أبنائها قاتلوا لغير غاية، وقتلوا من غير شرف؛ في حين كانت الأمم تقتتل على الملك، والملك مجد وسيادة، وعلى الحرية، والحرية حياة وعزة، أما هذه الأمة فكانت تقاتل لخيال من أمل، وذَماء من حياة، وصبابة من رجاء، وخُلب من وعد علا نداؤه، وتجاوبت في الخافقين أصداؤه، من ديمقراطية زائفة كذبَ نبيّها مرتين (2) في جيل واحد، فلما سكن الإعصار وتنفّست الأمم في جوّ من السلم، وتهيأت كل أمة أن تستقبل بقايا النار من شبابها، وكلّ أم أن تعانق وحيدها، عاودت الاستعمار ألوهيته وحيوانيته في لحظة واحدة، يحادّ الله بتلك، ويغتال عباده بهذه، وعاد بالتقتيل على من كانوا بالأمس يمدّون حياته بحياتهم، ليريهم مبلغ الصدق في تلك الوعود، ويحدّثهم بلغة الدم ومنطق الأشلاء أنه إنما أقام سوق الحرب ليشتري حياته بموتهم، وليرمّم جداره بهدم ديارهم، فإذا بقي منهم كلب بالوصيد، أو من ديارهم قائم غير حصيد، قضى ذلك المنطق فيه بالإبادة والمحو، وجعل أيامه خاتمة لأيام الدم والحديد، وعطَفه على عدوّ الأمس المشترك عطفًا

_ 1) الغريان: بناءان قرب الكوفة كان النعمان يلطخهما بدماء قتلاه. 2) نبيُّها: هو الولايات المتحدة الأمريكية. مرّتين: إشارة إلى وعود أمريكا في الحربين العالميتين.

بالفاء لا بثم، وكَذلك كان، فقد فتح الناس أعينهم في يوم واحد على بشائر تدقّ بالنصر، وعلى عشائر من "المنتصرين" تُساق للنحر؛ وفتحوا آذانهم على مدافع للتبشير، وأخرى للتدمير، وعلى أخبار تؤذن بأن الدماء رقأت في العالم كله، وأخرى تقول: إن الدماء أريقت في جزء صغير من العالم، هو تلك القرى المنكوبة من مقاطعة قسنطينة. وفي لحظة واحدة تسامع العالم بأن الحرب انتهت مساء أمس ببرلين، وابتدأت صباح اليوم بالجزائر، وفيما بين خطرة البرق، بين الغرب والشرق، أعلنت حرب من طرف واحد، وانجلت في بضعة أيام عن ألوف من القتلى العزّل الضعفاء، وإحراق قرى وتدمير مساكن، واستباحة حُرُمات ونهب أموال، وما تبع ذلك من تغريم وسجن واعتقال؛ ذلكم هو يوم 8 ماي. ومن يكون البادئ يا ترى؟ آلضَّعيف الأعزل، أم القوي المسلّح؟ ... لكَ الويل أيها الاستعمار! أهذا جزاء من استنجدته في ساعة العسرة فأنجدكَ، واستصرخته حين أيقنتَ بالعدم فأوجدك؟ أهذا جزاء من كان يسهر وأبناؤك نيام، ويجوع أهله وأهلك بطان، ويثبت في العواصف التي تطير فيها نفوس أبنائك شَعاعًا؟ أيشرّفك أن ينقلب الجزائري من ميدان القتال إلى أهله بعد أن شاركك في النصر لا في الغنيمة ولعلّ فرحه بانتصارك مساوٍ لفرحه بالسلامة، فيجد الأب قتيلًا، والأم مجنونة من الفزع، والدار مهدومة أو محرقة، والغلة متلفة، والعرض منتهكًا، والمال نهبًا مقسمًا، والصغار هائمين في العراء؟ ... يا يوم! ... لله دماء بريئة أُريقت فيك، ولله أعراض طاهرة انتُهكت فيك، ولله أموال محترمة استُبيحت فيك، ولله يتامى فقدوا العائل الكافي فيك، ولله أيامى فقدن بعولتهن فيك، ثم كان من لئيم المكر بهنّ أن مُنعن من الإرث والتزوّج، ولله صبابة أموال أبقتها يد العائثين، وحُبست فلم تُقسم على الوارثين. ... يا يوم! ... لك في نفوسنا السمة التي لا تمحى، والذكرى التي لا تُنسى، فكنْ من أية سنة شئت فأنت يوم 8 ماي وكفى. وكل ما لك علينا من دَين أن نُحي ذكراك، وكل ما علينا لك من واجب أن ندوّن تاريخك في الطروس لئلا يمسحه النسيان من النفوس.

الأسابيع في عرف الناس

الأسابيع في عرف الناس * يعرف الناس من الأسابيع المضافة إلى معانيها ما يتعلق بمصالحهم، ويتّصل بحياتهم والدورية مثل أسبوع العرس، وأسبوع المأتم، وأسبوع الحصاد، وأسبوع الذباب، وأسبوع طَكُّوك، وغير ذلك من الأسابيع المختلفة. هذه الأسابيع وأشباهها يعرفها عامة الناس ويطلقونها إطلاقًا واسعًا لا يتقيّد بالمعنى اللغوي الذي هو سبعة أيام، بل يفهمون منها الظرف الزمني الذي يعمره العمل أو الحادث. ولكن الاستعمار أبا العجائب، وأم الغرائب، يحدث في بعض الأحايين أسابيع ليست في حساب الناس، وليست مما يتصل بمصالحهم وحياتهم، وإنما هي أسابيع ذات معان من مُصاص الشر وعُصارة الظلم، يخفيها أزمانًا ويوري بأضدادها أحيانًا، ثم يُجلِّيها لوقتها المقدّر، فإذا هي الظلم والوحشية والقسوة وما شاء الهوى من قتل الأبرياء، وسجن الضعفاء وتغريبهم وتغريمهم. من هذه الأسابيع الجديدة الوقوع- القديمة المعاني- أسبوع الإرهاب الذي بدأ قبيل انتخاب المجلس الجزائري، ولم ينته إلى الآن، وهو أسبوع لا نذهب بعيدًا عن تسميته، فقد أرشدنا الاستعمار وكفانا المؤونة وسمّاه أسبوع "سبّ فرنسا" لأن التهمة التي بنيت عليها المحاكمات وكانت ذريعة للقتل والسجن والتغريب والتغريم، هي التهمة بسبّ فرنسا! ... فتساءلنا: هل هناك نسب بين سبّ فرنسا والانتخاب؟ وهل هناك تلازم عقلي بينهما؟ فإن لم يكن هذا ولا ذاك فما معنى كون سب فرنسا لا يكون إلا في أيام الانتخاب؟ وما معنى كون العقوبة عليه لا تكون إلّا في أيام الانتخاب؟ كأن مسلمي الجزائر يسكتون عن هذا النوع

_ * نشرت في العدد 37 من جريدة «البصائر»، 31 ماي سنة 1948.

من السباب تعففًا أو رضى، فإذا جاء موعد الانتخاب، ركبهم عفريت السباب، وكأن القوانين المسنونة للعقاب على السب تعطل وتُطوى تلك السنين، حتى إذا جاء وقت الانتخاب بُعثت ونُشرت وشحذت بعد الكلال. إن أذكى الأذكياء ليعجز عن حلّ هذا اللغز. أيها الاستعمار، لا تجعل الشرائع ذرائع للانتقام، ولا تجعل القوانين كوانين للإحراق.

أفي كل قرية حاكم بأمره؟

أفي كلّ قرية حاكم بأمره؟ * كأن في القطر الجزائري حكومات متعددة لا حكومة واحدة. بل كأن كل قرية فيها متصرف بسيط - حكومة مستبدة ترجع في النقض والإبرام إلى رأي المتصرف لا إلى القانون العام، وكأن القوانين التي يُساس بها هذا القطر ليست مسطرة في الدفاتر، بل في أدمغة أولئك الحكّام المحليين. وذلك كلّه لأن الذين تطبّق عليهم تلك القوانين والأحكام عرب ومسلمون وأنديجان، وتظهر تلك التصرفات الشاذة جلية في معاملة جمعية العلماء ورجالها، والتعليم العربي ومعلّميه ومدارسه وجمعياته، فزيادة على الصفة اللازمة لحكومة الجزائر الاستعمارية، وهي المقاومة للتعليم العربي والدين الإسلامي ولجمعية العلماء القائمة بهما، ترى أن عمّال الحكومة لا يرجعون في ذلك إلى طبيعة حكومتهم لأنها تبرد حقدهم على الإسلام والعربية، بل يرجعون إلى آرائهم الفردية وطبائعهم الخاصة، لأنها هي التي تُطفئ الغيظ وتطفئ نار الحقد. وحكومتهم تسمع وكأنها لا تسمع، وترى وكأنها لا تبصر، لأن أعمالهم ليست شذوذًا في قاعدة ولا خرقًا لإجماع، وإنما هي قيام بفرض لم تأمر به الحكومة، ولا يسوءها القيام به. ... في العام الماضي عطّل متصرف خنشلة مدرسة قاييس بأمره الخاص وإرادته، وما زالت معطلة إلى الآن برغم ما بذلناه من الاحتجاجات الصارخة، وعطل حاكم سور الغزلان مدرسة "سيدي عيسى" بلا سبب، ولم يأذن بفتحها إلا بعد ترضية بسيطة قدّمتها الجمعية المحلية للمدرسة اختصارًا للإجراءات، وعطّل حاكم مايو مدرسة "بي منصور"، ونفى معلّمها من دائرته، وجرّ أعضاء جمعيتها إلى محاكمات مزوّرة أعدّ لها كل ما سوّلته له نفسه الطاغية من

_ * نشرت في العدد 50 من جريدة «البصائر»، 20 سبتمبر سنة 1948.

وسائل باطلة، وقال للجمعية بصراحة إنه لا يرضى أن ينتقل "مكروب" جمعية العلماء إلى "مملكته"، ونبّهنا رؤساءه إلى أعماله فلم يسكنوا متحركًا. واعتدى "نصف شيخ" قرية "ايغيل علي" على حرمة المسجد فاقتحمه بالسلاح، وعلى كرامة خطيبه ومدرّسه فأهانه، واسم هذا النصف شيخ اسم مسلم، ولكن أفعاله ليست أفعال المسلمين؛ بل هو يأتمر بأوامر المبشّرين أو يتطوّع لتنفيذ رغباتهم، وعطّل حاكم "فج مزالة" مدرسة "الربع" من دوار "راس فرجيوه" وأمر القائد أحمد بن عاشور أن يأتيه بمفاتيح المدرسة ففعل ... طاعة لسيّده. ... طالما أفهمنا الحكومة أن هذا التعطيل للمدارس العربية يعد عقوبة للأطفال الصغار الذين لم يقترفوا ذنبًا، وبرهانًا قاطعًا على سوء القصد في معاملة الإسلام والعربية في دارهما، ودليلًا على بعض ما يضمره الاستعمار لهذه الأمة من بقائها تتخبط في الأمية، وإنما هذه الوقائع جزئية متفرقة الأماكن ضربناها مثلًا وعبرة ولو أردنا التقصي لما أمكن. أما الكلية المطردة فلم تتجلَّ إلا في بلدة العجائب، بلدة "عنابة"، ففي هذه البلدة من خصائص المعاملات وبدائع الظلم والمنكر ما يشبه على الناس أنها قطعة أجنبية في القطر الجزائري، لا ينقصها إلا النقود، والحدود، والحواجز الجمركية، والتمثيل القنصلي، وطالما سمعنا أنهم يريدون فصلها عن عمالة قسنطينة، فهل هذا من ذاك؟ وهل هذا لأجل ذاك؟ كل من في هذه البلدة من حكّام، وبوليس سري وعلني، يجهد جهده في حرب جمعية العلماء ومقاومة حركاتها، وكلهم مُرصَد لتتبعّ المنتسبين إليها، وكأنهم يريدون عزل عنابة عن بقية مدن القطر التي استنارت آفاقها بعلم جمعية العلماء، وتعليم جمعية العلماء، وأفكارها ومدارسها، وكأنه ليس في البلدة مجرمون ولا نصّابون يستحقّون اهتمام البوليس وتتبّعه إلا من يدخل البلدة من المنتسبين إلى جمعية العلماء. ومن العجيب في أمر بوليس هذه البلدة أنه يرتكب مع أعضاء جمعية العلماء إجراءات ما عهدنا القانون يسمح بها إلا في ظروف استثنائية وبأوامر خصوصية، فكأنه مطلق اليد والتصرّف في كل ما يتعلّق بنا. منذ ثلاثة أشهر ذهب وفد من جمعية العلماء مركّب من الشيخين محمد الشبوكي وكامل الحناشي إلى عنابة، لتفقّد الحركة الإصلاحية بها، فكان البوليس أتبع لهما من ظلهما من الدقيقة التي وصلا فيها، وما أقاما فيها ليلة حتى دعيا إلى الكوميسارية (1) وحُبسا فيها أربع ساعات ونصفًا وطُرحت عليهما أسئلة غير معقولة ولا معتادة على صورة تشبه بحث المجرمين

_ 1) الكوميسارية: محافظة الشرطة.

في الشدة والدوران والإرهاق وتغليظ القول: ثم فُتّشت حقائبهما وأوراقهما وكتبهما العربية- طبعًا- وحجزت في الكوميسارية ما يقرب من يومين حتى تدخّلت بعض الهيئات المنتصرة للحق وأوفدت نائبًا شيوعيًّا لفكّ المحجوزات المحرّمة في بلدة عنابة. وفي أثناء رمضان الماضي، ذهب إلى عنابة الشيخ فرحات العابد أحد مديري مدارس جمعية العلماء لقضاء إجازته الصيفية بين أحبابه وأقاربه وليقوم بأحاديث في الوعظ والإرشاد الديني كبقية إخوانه المكلّفين بذلك من الجمعية؛ فاستدعته الكوميسارية وأرهقته تحقيقًا وبحثًا، وسلّطت عليه أعوانها يتعقّبونه في كل حركة وسكون، والرجل معروف في البلدة، وله فيها قرابة وأصدقاء، ولكن ذنبه في نظر الكوميسارية أنه من جمعية العلماء، بدليل أن الأسئلة التي كانت تنهال عليه كلها متعلقة بجمعية العلماء وأعمالها وبرامجها، كأن جمعية العلماء ليست في الجزائر، أو كأن عنابة ليست من الجزائر، أو كأن الإدارة العليا- التي نظنّ أنها تشرف على تلك الكوميسارية- لا تعلم شيئًا عن جمعية العلماء فهي في حاجة إلى تلك التدقيقات التي تأتيها من كوميسارية عنابة. وفي هذه الأيام الأخيرة زار "عنابة" الشيخ أحمد رضا حوحو أحد أعضاء الجمعية لمصالح خاصة له بها، فأقلق البوليس راحته منذ وصوله باقتفائه لخطواته، وضبطه لأنفاسه، ثم استدعاه للكوميسارية- على العادة- وحقّق معه كما حقّق مع إخوانه من قبل؛ وكان الموضوع هو الموضوع ... ما هي جمعية العلماء؟ ما هي أعمالها؟ ما هو برنامجها التعليمي؟ ورئيسها ... ماذا يصنع؟ وأين هو الآن؟ وهل يريد زيارة عنابة؟ ألم تصبح عنابة- بهذا كله- بلدة العجائب والغرائب؟ ألم يُصبح هؤلاء الذين يُسمّونهم رجالَ الأمن رجالَ خوف؟ يخوفون الناس وهم آمنون، ويهيّجونهم وهم مطمئنون، ويعاملونهم معاملة الأجانب وهم في وطنهم ... بلى وإن لهم من وراء ذلك كله غاية هم غير واصلين إليها بإذن الله، وهي حجب "شمس المعارف" على "البوني" (2) حتى لا تشرق أشعّتها على ذهنه. وإن غاية الغايات لهم في هذا التضييق على جمعية العلماء هي مقاومة الإسلام والعربية بهذا القطر، إن لم يكن في جميع القرى ففي بعضها، ولو سألت أعوان البوليس بعنابة لِمَ تشتدون في ما يلين فيه غيركم، لأجابوك: لا يضرّنا مَن ضلّ إذا اهتدينا ... أما نحن فنقول: إننا مسؤولون عن ديننا ولغتنا وعن نشرهما، فإذا أصبحت عنابة جهنم فإننا سندخل لأجلهما جهنم! ...

_ 2) شمس المعارف اسم كتيّب شهير في الأوفاق والطلسمات ومؤلفه الشيخ أحمد البوني. وعنابة كانت تسمّى في القديم بونة، وبلد العناب، فأخذ الإفرنج الاسم الأول وأخذنا نحن الاسم الثانى، وفي ذكر شمس المعارف والبونى تورية لطيفة.

عادت لعترها لميس

عادت لعترها لميس * ولَميس هذه في مورد المثل هي امرأة كانت لها عوائد شر تعتادها، وأخلاق سوء تفارقها ثم تقارفها، لغلبة الفساد فيها وصيرورته أصلًا في طباعها- والعتر هو الأصل- فسيّرت العرب فيها هذا المثل. أما في مضرب المثل فهي الإدارة الجزائرية، وعترها هو الاستعمار البغيض إلى كل نفس، وما يقتضيه من ظلم وعنت للمستضعفين، وما يبنى عليه من انتهاك لحرماتهم، وما ينتهي إليه من وحشية في معاملتهم، وقتل لمعنوياتهم، ومسخ لأخلاقهم. كل الحكومات الاستعمارية تجعل معنويات الشعوب المغلوبة هدفها الأول فترميها بما يُضعفها، ولكن على التدريج لا على المغافصة، وبالحيلة لا بالقوة، وفي السر لا في العلن. أما حكومة الجزائر فإنها تتعمّد تلك المعنويات بالقتل الوَحِيِّ عمدًا مع الإصرار، وجهرًا ليس فيه إسرار، وعنادًا لا رجوعٍ فيه، ولا توبة منه، وغاية أمرها أنها تسنّ القوانين القاتلة وتتناسى تنفيذها إلى حين، تغليطا للمغفلين وايهامًا للمنتقدين، فإذا عادها من جبروتها عيد، عمدت إلى تلك القوانين فأخرجتها كما يخرج السلاح لوقت الحاجة، فإذا اقتضتها الظروف شيئًا من التعمية والإيهام، وضعت تلك الأسلحة التي اسمها القوانين، في أيدي أسلحة بشرية ممن يلبس لباس هذه الأمة المسكينة وبدعى باسمها- كالعاصي مثلًا- وقالت له: "ارمِ بهذا، فإنما خلقتك لهذا، ورزقتك من أجل هذا، ورفعت ذكرك لمثل هذا، وانتخبتك لتنفيذ هذا، وأوطأت الناس عقبك لتقوم بهذا ... ارْمِ دينك باسم دينك، واخدع أمّتك باسم أمتك، واكذب على تاريخك باسمه، وعفّ رسومه بما بقي من رسمه ... أجهز على البقية الباقية ولك مني الجُنة الواقية، والمنزلة الراقية، وفي خدمتك المذياع، وفي نصرتك

_ * نشرت في العدد 64 من جريدة «البصائر»، 24 جانفي يشة 1949.

الأتباع والأشياع ... ارْمِ باسمك لتغطي به اسمي، وقل بلسانك ومن ورائه لساني، لأستدفع بك ما عسى أن يلحق من تهمة، أو يعلق من وصمة، فإني لم أضع للدين لجنة، وللهلال لجنة، وللحج لجنة، إلا لأمحو من أعمالي أثر الهجنة ... ولا تنسَ أن من نعمي عليك أنني أكتبُ وأنسب إليك ... وكفاك فخرًا أن وجودي هو وجودك: وكفاني نجاحًا أن كان "للوظيفة" لا لله سجودك، وكفاني ثقة بك أن صرّحت بأن "مصلحتك هي مصلحتي". وحسبنا جميعًا أننا روحان في جسد، وشعرتان في حبل من مسد، وأننا دنَّا- على شيوع الإلحاد- بمذهب الحلول والاتحاد". هذا ما يقوله لسان الحكومة لصنائعها من أمثال العاصمي، حين تريدهم على تنفيذ رغائبها الاستعمارية، وإن لها في كل ما ترمينا به هذين النوعين من الأسلحة: سلاح القانون، وهو تحت يدها، وهذا النوع المسترذل من السلاح البشري، وهو تحت رجلها ... ولكنها تسكت ما تسكت لحكمة استعمارية ثم تعود ... كما عادت لعترها لميس. ... عادت لعترها (لميسنا) في الصيف الماضي- وقد ماتت تلك العوائد السيئة (عادة الزرد) (1) التي تُنتهك فيها الحرمات، وتستحل المحرمات- فأوعزت إلى صنائعها أن يحيوها، ويسّرت لهم كل ما عسرته الأزمة المالية الخانقة، وأحضرت لهم كل ما غيّبته سنو الحرب الماحقة، وإذا بعاصمي الزرد و "الوعائد" (2)، ومحيي معالم البدع والعوائد، يدعو إلى وعدة "عابد"، ويقيمها بسيئاتها وموبقاتها وفواحشها، على أسوإ ما كانت تقع عليه من المنكرات التي لا يسيغها عقل ولا دين ولا مروءة، وإذا بآخر في وهران، يدعو إلى زردة أخرى من زرد الشيطان. وإذا بآخرين في غيرها يدعون إلى غيرها، ولم يكتفِ هذا التنشيط الداخلي لهذه الزرد التي صاحبها يفتقر، وآدِبها ينتقر؛ فدعت الجَفَلَى إلى الزردة الكتانية (3) التي صاحبها "يْزَرَّدْ ويزيد". للحكومة في كل مذهب تذهبه عاصمي وإن لم تسمِّه مفتيًا حنفيًّا. وكل هؤلاء عاصمي في حرفته، "سودته" عبوديته، ولو ساعده الوزن لقلب المثل وقال نفس عاصمي سوّدت عاصميًّا ... وكلهم لا يعرفون معنى للعيب، إذا امتلأ الجيب، ولا يأبه للعار، وان دخل النار، ولا كعاصمي الزرد مشعوذًا يأكل الدنيا بالدين، ويضل عن سبيل المهتدين؛ وجلّ

_ 1) عادة الزّرد: جمع "زَرْدَة" وهي التجمّع الذي يُقيمُه الطرقيون، والمقصود به مآدب الأكل. 2) الوعائد: جمع "وَعْدَة" وهي كالزَّرْدَة. 3) نسبة لعبد الحي الكتاني، قد كان يقيم زردة سنوية، وتتولى فرنسا دعوة أتباعها وعبيدها من أطراف الجزائر.

دين الله أن يعلق بهؤلاء السماعين للكذب، الأكّالين للسحت، فإن آلمهم كلامنا هذا فليخبرنا فقيههم عن حكم الله في كل ما يقع في "وعدة عابد" التي هو بطلها وجبلها الذي يمسكها أن تزول، وهل كل ما يقع فيها يتفق مع أحكام الإسلام؟ وهل الأموال التي تنفق فيها يرجع شيء منها إلى مصلحة الأمة فتعدّ مما أنفق في سبيل الله؟ كانت هذه العوائد، التي يسمّونها "وعايد"، المنتشرة في العمالة الوهرانية- على الخصوص- من شر ما أوحى الشيطان إلى أوليائه، وتنزل به عليهم؛ وإنما تنزل الشياطين على كل أفّاك أثيم؛ فأمرهم بالفحشاء ووعدهم الفقر إن تركوها؛ وقد ركدت ريحها في السنوات الأخيرة، وأعرض عنها كثير ممن وفّقهم الله، وتأثر بالإصلاح الذي يحارب أمثالها من البدع والمنكرات والآفات، ومنهم من وزعه عنها وازع المروءة، فإن ما يقع فيها لا تحتمله نفس الحر الأبي الغيور على أمّته، ولما جاءت الحرب وفشت الخصاصة في الناس نسوها وهجروها، والفقر ينهى عن الفحشاء والمنكر أحيانًا، إلى أن عادت لميس، فأزّتْ لإحيائها خلفاء إبليس. ... وعادت لعترها (لميسنا) في كل ما جرى من انتخابات في السنة الماضية، لما رأت المسلمين بدأوا يقدرون الانتخاب حق قدره، ويعرفون له قيمته، وبدأوا يتذوّقون معنى الديمقراطية التي أمات الاستعمار معناها الإسلامي في نفوسهم، فكدرت لهم شربها بتدخّلها العلني، وبما تستخدمه من وسائل الترغيب والترهيب، إلى أن كشفت في الانتخابات الأخيرة عن سرّها، وصرّحت عن شرّها، وكان ما كان، مما صدق الخبر فيه العيان. إن الديمقراطية عند حكومة الجزائر كصلاة المنافقين، لا تزكي نفسًا، ولا تنهى عن فحشاء. وتفضلها صلاة المنافق بأن فيها من الصلاة مظهر الصلاة فإن الديمقراطية- عند الأمم التي تنتحلها وتزعمها لنفسها- تتجلّى في عدة مجالى أرفعها الانتخاب، فهو عندهم العنوان الواضح للحرية، والبرهان اللائح على إطلاق الإرادة، والميزان العادل لاختيار الشعب. أما في الجزائر فالانتخابات، منذ سنّت، لعبة لاعب وسخرية ساخر، ورهينة استبداد؛ ولدت شوهاء ناقصة، وما زالت متراجعة ناكصة، وُضعت من أول يوم على أسوإ ما يعرف من التناقض، وأشنع ما يُعلم من التحكم والميز والعنصرية، وهو تمثيل الأكثرية في المجالس المنتخبة للأقلية من السكّان، والأقلية فيها للأكثرية منهم، قد كانت هذه الانتخابات شرًّا مستطيرًا على الأمة الجزائرية وأفتك سلاح رماها به الاستعمار، بعد أن نظر النظر البعيد، وكانت ضربة قاضية على ما كانت تصبو إليه وتستعدّ من وحدة الكلمة واجتماع الشمل،

فكلّما جهد المصلحون جهدهم في جمع كلمتها- وكادوا يفلحون- جاءت هذه الانتخابات فهدمت ما بنوا وتبرته تتبيرًا، كان هذا كله قبل أن تقف الحكومة مواقفها المعروفة في انتخابات السنة الماضية؛ أما بعد أن ظهرت بذلك المظهر، وسنّت للانتخابات الجزائرية دستورًا عنوانه "الحيف والسيف" وارتكبت فيها تلك الفضائح التي يندى لها الجبين خجلًا، والتي يأنف الفرد المستبدّ من ركوبها، فضلًا عن حكومة جمهورية في مظهرها، ديمقراطية في دعواها، فإن الانتخاب أصبح وبالًا على الأمة ووباءً، وذهب بالبقايا المدّخرة فيها من الأخلاق الصالحة هباءً، وأصبحت هذه الكراسي عاملًا قويًّا في إفساد الرجولة والعقيدة والدين، وإمراض العزائم والإرادات، وفيها من معاني الخمر أنّ من ذاقها أدمن، وفيها من آفات الميسر أنّ من جرّبها أمعن. وقد كنا نخشى آثارها في تفريق الشمل وتبديد المال، فأصبحنا نخشاها على الدين والفضيلة، فإن الحكومة اتخذت منها مقادة محكمة الفتل لضعفاء الإيمان ومرضى العقيدة وأسرى المطامع منّا، وما أكثرهم فينا، خصوصًا بعد أن أحدثت فيها هذه الأنواع التي تجرّ وراءها المرتبات الوافرة، والألقاب المغرية. ليت شعري، إلى متى تتناحر الأحزاب على الانتخاب وقد رأوا بأعينهم ما رأوا؟ وعلامَ تصطرع الجماعات؟ وعلامَ تنفق الأموالُ في الدعايات والاجتماعات إذا كانت الحكومة خصمًا في القضية لا حكمًا؟ وكانت تعتمد في خصومتها على القوة وهي في يدها، وكانت ضامنة لنفسها الفوز في الخصومة قبل أن تنشب. ويحٌ للأمة الجزائرية من الانتخاب، وويل للمفتونين به من يوم الحساب. ... وعادت لعترها لميس في هذه الأيام، وكانت عودتها هذه المرة للمدارس العربية التي تديرها جمعية العلماء، فبعد أن سكتت عليها سنين اتّسق فيها سيرها وعاد إلى الأمة خيرها، عادت عليها في هذه الأيام بالتضييق والتعسير، وأخرجت ما كان مخبوءًا في جعبتها من القوانين والقرارات، وألقت بها في أيدي القضاة وحرسة الأمن ليرهقوا ويغلقوا ويحاكموا، كأن التعليم جريمة يترتب عليها العقاب، وكأن حبل الأمن اضطرب بسبب هذه المدارس ومعلّميها وأطفالها. بدأت دعوة المعلّمين إلى المحاكم نَقَرى، ونحن نقدر أنها ستعمّ، وإن أول المطر قطر ... وإن الأحكام ستكون بالغرامة فالسجن، ولكننا سندخل هذه المحاكم برؤوس مرفوعة، وسنتلقّى هذه الأحكام بنفوس مطمئنة بالإيمان، وسندخل السجون بأعين قريرة، وسنلتقي (بإخواننا) المجرمين في مجالس الأحكام ومقاعد الاتهام ... وحسبنا شرفًا أن يكون

ذلك في سبيل ديننا ولغتنا، وحسبنا فخرًا أن تكون التهمة "فتح مدرسة دينية أو قرآنية بدون رخصة". وحسب الاستعمار (ديمقراطية) أن يحاكم معلّمي العربية والإسلام، ويسجنهم على التعليم كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الإجرام، في محكمة واحدة، وسجن واحد، وظرف واحد، وقد يكون يوم جمعة في الغالب، أليس هذا احترامًا للإسلام، ومن مصلحته كما يقول العاصمي؟ أليس هذه هي الديمقراطية؟ فما لكم تكذبون؟ ليبلغ الاستعمار ما هو بالغ في التضييق على ديننا ولغتنا والتصميم على هضم حقوقنا بهذه الوسائل التي منها العاصمي، فإن الإسلام حي خالد في داره، وإن العربية حية خالدة في جواره، لا يضيرهما تضييق، ولا يُبطئ سيرهما تعويق. ولكن الذي يغيظ ويحنق هو هذه الدعوى العريضة الطويلة من الاستعمار في تثقيف الشعوب، وتعليم الأمم، وقطع دابر الأمية، وكيف تتفق هذه الدعوى منه مع أعماله التي تقاوم التعليم وتتنكّر له؟ وتنصر الأمية وتحميها، وتغذّي الجهل وتقوّيه، والتي تفضل عصا الشقيّ على قلم الكاتب، فتتساهل مع العصَى حتى تصير عصيًّا، وإن آذت وإن قتلت، وتحطم القلم لئلا يلد أقلامًا، وإن رشحت بالخير، وإن جرت بالنفع. أليس معنى مقاومة التعليم نشر الأمية وتكاثر الأميين؛ لا يقتضي المنطق إلا هذا، ولا يفعل الاستعمار إلا هذا، لأن له مذهبًا في المحافظة على الأمية لئلا تزول، كمذهب العلماء في المحافظة على الحيات السامّة لئلا ينقطع نسلها. كما أنّ الذي يُضحك ويبكي في آن واحد أن تجعل الحكومة من نظمها التي تطالبنا بها في مدارسنا، وتجازي المدارس على التقصير فيها بالتعطيل، استيفاء الشروط الصحية في المدرسة محافظة على صحة التلامذة، ومدارسنا- بحمد الله- مستكملة لهذه الشرائط، ولكن هؤلاء التلامذة حين تُغلق في وجوههم المدرسة فيهيمون في الشوارع فتفسد أخلاقهم، أو يأوون إلى مساكن رطبة فتعتلّ أبدانهم، لا تراهم الحكومة بعين الرحمة والعطف كما كانت ترعاهم وهم في المدرسة، كأن المحافظة على الصحة لا تكون حقًّا للطفل على الحكومة إلا إذا كان تلميذًا في مدرسة عربية، فإذا أغلقتها في وجهه فلا حق له في المحافظة على الصحة. وما لهذه الحكومة لا تذكر المحافظة على الصحة إلا في سياق الحديث على مدارسنا، وأين هي من هذه الألوف المؤلفة التي تنام على الأرصفة في زمهرير الشتاء؟ أين هي من هذه العوالم من الأحياء الذين يسكنون القبور؟ أين هي من هذه المناظر المحزنة التي تقع عليها العين في قلب العاصمة وفي أرباضها؟ أوَادم يحفرون لسكناهم الغيران كالفيران، ينامون فيها هم وأطفالهم، فيفتك بهم السلّ ويغشاهم الموت من كل مكان، ولو أن طفلًا منهم خرج

من غاره ودخل مدرسة عربية لجاءت الحكومة تسعى وهي تخشى أن يصيبه سوء من عدم المحافظة على الصحة ... أما الخطوة الأولى التي تخطوها الحكومة في حركتها الجديدة ضد المدارس، وتجعلها ذريعة للمحاكمة، فهي إلزام المعلّمين بطلب الرخصة بأسمائهم الخاصة، والحكومة هنا تتجاهل وجودَ جمعية العلماء- المسؤول الأول عن هذه المدارس- لمأرب في نفسها نحن نعرفه، وقد حاولنا إقناع المسؤولين من رجال الحكومة في المفاوضات الرسمية وفي الأحاديث الخاصة بأن طلب الرخصة الشخصية بالنسبة لحركة كحركتنا التعليمية لا يقبل ولا يعقل، لأن المعلّم ليس هو الذي يفتح المدرسة، وليس هو المسؤول عنها، وإنما المؤسّس للمدارس والمسؤول عنها الجمعيات المحلية، ومن ورائهن في المسؤولية جمعية العلماء، ونبسط لهم من الحجج ما يقنع المنصفين منهم فيقتنعون، فإذا جاء التنفيذ يمتنعون، لأن للاستعمار رأيًا أصيلًا في القضية، وقد كانت هذه النقطة إحدى النقط التي كانت سببًا في إخفاق المفاوضات، وما زلنا محتفظين فيها برأينا. وسنشرحه حين ننشر نصوص القرارات، وخلاصة المفاوضات.

الشك في الإيجاب ... نصف السلب

الشك في الإيجاب ... نصف السلب * قرأنا في خطب كثيرة من المسؤولين من رجال الحكومة الجزائرية - وخصوصًا في الأشهر الأخيرة- جملة تتردّد وتُعاد، حتى كادت تكون محورًا لتلك الخطب، أو لازمة لها كلوازم الحديث و "عكاكيزه"، من مثل: "صل على النبي" و"سيدي مرحوم الوالدين" في العربية الشرقية، أو مثل: « N'est-ce pas? Alors» (1) في الفرنسية. هذه الجملة المردّدة هي "أن الجزائر فرنسية". وليس تاريخ ولادة هذه الجملة بالقديم، ولا هي من الجمل المألوفة لألسنة هؤلاء الخطباء، ولا لأسماع الجمهور الخاص الذي يسمعهم، وإنما هي بنت سنة أو سنتين على الأكثر. ونحن نستغرب ترداد هذه الجملة المملولة في هذه الظروف، ونبحث عن العلة الداعية إليها، فلا يهدينا البحث إلا إلى شيء واحد، وهو الشك في منطوقها شكًّا خالط نفوس هؤلاء الخطباء في كون الجزائر فرنسية، أو ليست فرنسية، فهم يردّدون هذه الجملة اصطناعًا لليقين، وترويحًا على العاطفة، وترجيحًا للجانب الذي يهوونه؛ كما يُماري المماري في المعدوم فيقول: إنه موجود، وما درى هؤلاء أن ترديدهم لهذه الجملة في ظرف ذي خصائص وعوارض، يقذف الشك حتى في نفوس المستقيمين من سامعيهم، ويزرع الاحتمال في أذهانهم، لأن عدّها من بدوات اللسان، أو من تحصيل الحاصل الذي تصان عنه أقوال العقلاء، إنما يكون في أول سماع، أما إذا تكررت الجملة، ونبتت في موضعها من كل خطبة، وشهدت القرائن أنها مقصودة، فلا يكون الفهم المتبادر إلا ما ذكرنا من شك القائل، وتشكيك السامع.

_ * نشرت في العدد 111 من جريدة «البصائر»، 13 مارس سنة 1950. 1) " N'est-ce pas? Alors" : جملة فرنسية معناها: أليس كذلك؟

وتصوّرْ- أنت- أن لشخص دارًا تعالم الناس أنها مملوكة له بوجه من وجوه الملك، ورأوه يتصرّف فيها، وينتفع بمرافقها، من غير شرك ولا نزاع، فهل يحسن منه- في غير المعارض المخصوصة- أن يُعلن للملإ، في غير مناسبة، أن الدار داره؟ وهل يجمل به أن يردّد في كل مجمع، هذه الجملة: "داري داري"؟ هل يفيد سامعيه شيئًا جديدًا يحسن السكوت عليه؟ وهل يحمل السامعون هذا التكرار منه محمل التوكيد اللفظي، وهم يعرفون أن التوكيد اللفظي يصحّ في كلام واحد متصل الجمل؛ أما هذه الجملة فهي تقع في كلام متعدد وفي أمكنة مختلفة، وفي أزمنة متباعدة. الفهم الطبيعي المتبادر إلى أذهان جميع الناس، هو أن الرجل طرقه الشك في ملكه للدار، وطاف به شعورٌ بأنها مغصوبة، مثلًا ... فهو يغطّي بهذه الجملة المردّدة غصبًا للدار يوشك أن يفتضح أمره، أو يدفع بها خصمًا في الدار يوشك أن يرفع دعواه، وكأنه بهذه الجملة يهيّئ الجو للسماع الفاشي ... ليستشهد به يومًا ما ... ولكنه مهما كرّر الجملة وردّدها لم يزد على تنبيه الناس إلى أن في الدار حقيقة أخرى من وراء الجملة، وأن في دعوى الملكية قادحًا شرعيًّا تخفيه الجملة، وأن في هذا الترداد تحويمًا على تلك الحقيقة، لا تحويلًا للأذهان عنها، وأن هذا (الرجل) غرس الشك من حيث أراد اقتلاعه. ... كبرت كلمة تخرج من أفواه هؤلاء المستعمرين الجبّارين، محادة لله ولقدرته وخلقه، ومضادة لدينه وسنّته، وطمسًا لحقائق التاريخ والآداب وأصول الأجناس، وعنادًا للطبيعة والأوضاع الجغرافية ونكرانًا للفوارق الملموسة من الدم الجاري، والإرث الساري، والتقاليد المتسلسلة. لو أن البحر الأبيض جفّ والتأمت حافتاه، حتى أصبحت الجزائر ربضًا من أرباض مرسيليا، لما كان لهذه الكلمة موضع في العقل ما دامت تلك الفوارق قائمة، ولو أن الجزائريين كفروا بالواحد، وآمنوا بالثلاثة، لما كان لهذه الكلمة موقع في النفس ما دامت سنن الله في ملكه جارية، ولو أن حاكمًا حكم عليهم بقطع نسبهم من عدنان، وإلصاقه باللاتان، لم يكن حكمه إلا كحكم قاضي الجزائر في الصوم والإفطار، وحكم واليها في المولد النبوي، ما داموا يدينون بالإسلام، وينتمون إلى ذلك النسب السامي العريق في الأصالة والشرف، المحاط بالنبوّة والنور. وهل الجزائر فرنسية؟ ... لا يا قوم لا. إن الله خلقها عربية مُسلمة، وستبقى عربية مسلمة إلى ما شاء الله، وإن الوراثة وسمتها بسمات خالدة، وصفات ثابتة، لا تفارقها حتى يفارق الشمس إشراقها.

ملكها الرومان قرونا فلم تنقلب رومانية، وبادوا ولم تبد، وبقيت ولم يبق منهم إلا آثار الظلم، ومعالم الطغيان، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}. وملكها الأتراك- وهم أبناء ملّتها وربائب دينها- فلم تنقلب تركية، سادوا فيها بالانتصار لها، ثم حادوا بالاغترار للزمن، ولكنهم شادوا فيها أبنية الحق من بيوت الله، فتناستْ أمرَهم، وحفظت ذكراهم. وصبغها التاريخ الطويل بأصباغ مما تنفضه أدواره، فكان أثبتها على الزعازع، وأبقاها على وجه الدهر صبغان زاهيان، هما: العروبة والإسلام. إن القوة- إذا لم يزنها العقل- ضعف، وإن العلم- إذا لم تحطه الحكمة- جهل، وإن الملك- إذا لم يحمه العدل- زائل، وإن سلاح الحق من الحرير، يفلّ سلاح الباطل من الحديد، وإن "السيادة"، ليست حسنى ولا زيادة، وإنما هي استعباد، يبغضه العباد وربّ العباد، ويا ويح الأقوياء من غضب الله، وغضب المستضعفين من عباده. ... الاستعمار مذهب يعتنقه الأقوياء، فما لهم يتفاوتون هذا التفاوت البعيد في مظاهره؛ يتفاوتون في الشرّ، يقارفه أحدهم سافرًا ليس عليه نقاب، وداعرًا ليس عليه مسحة من حياء؛ ويجترحه أحدهم معصية في صورة قربان، وفاتكًا في مسوح رهبان، كذلك يتفاوتون في العوراء، ينطق بها أحدهم كاسمها عوراء شوهاء، تجرح وتؤلم، وينطق بها الآخر ملفوفة في معارض النصح، أو محفوفة بمظاهر الإرشاد، أو مبلولة الحواشي بماء كذب من الحكمة، ونحن ... فما سمعنا قط أن الإنكليز مثلًا قالوا: إن الهند إنكليزية، فسبحان من قسّم الآداب، كما فرّق في الأنساب. وهذه الكلمة الدعية المملولة، التي لم يؤيّدها الحق ببرهانه، ولم تضعها الحكمة في مكانها، كلمة مؤذنة باحتقارنا، جارحة لكرامتنا، طاعنة في شرفنا وديننا وتاريخنا، فهل يريد القوم منا- بعد أن باءوا بسوء الأدب- أن نبوء بالإغضاء عليها، والإقرار لها، والرضى بسبتها؟ هيهات هيهات لما يريدون. إننا- والله- لا نقبلها ولا نرضى بمهانتها، ولا نقرّها، ولا نقصر في دحضها بأدلة الحق، ولو أن الاستعمار شرعها زجلًا بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار لكان في آذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثة مرذولة ممجوجة مملولة، ولهدينا بالفطرة إلى الطيب من القول: وهو أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية. كلمات قالها أوّلنا، ويقولها أخيرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا.

لجنة "فرانس - إسلام" - 1 -

لجنة "فرانس - إسلام" * - 1 - (كلامنا موجّه إلى فرنسا الاستعمارية، وإلى آلات الاستعمار من عقول، وأفكار، ورجال، وهيئات، فلا تتجاوز الظنون بنا هذه الدائرة). ــــــــــــــــــــــــــــــ كلمتان أكرهتا على الجوار في اللفظ والكتابة، فجاءت كل واحدة منهما ناشزة على صاحبتها، نابية عن موضعها منها، لأنهما وقعتا في تركيب لا تعرفه العربية، ولا يقبله الذوق العربي. في العربية تركيب الإسناد، والإسلام لا يرضى أن يُسند إلى فرنسا الاستعمارية، ولا أن تُسند هي إليه، وفي العربية التركيب الإضافي، والإسلام لا يسمح أن يضاف إلى فرنسا، ولا أن تضاف هي إليه؛ وفي العربية التركيب الوصفي، والإسلام لا يقبل أن يوصف بالفرنسي ولا أن توصف فرنساب "الإسلامية"؛ وفي العربية التركيب المزجي، والإسلام وفرنسا كالزيت والماء، لا يمتزجان إلا في لحظة التحريك العنيف، ثم يعود كل منهما إلى سنّته من المباينة والمنافرة، وفي الشرائع الاستعمارية الفرنسية بالجزائر مذهب كانوا يسمّون جانبه التأثيري "الإدماج" وجانبه التأثّري "الاندماج" ومعناه قريب من معنى التركيب المزجي، ولكن هذا المذهب التحق بالمذاهب البائدة التي ولدها العتوّ عن أمر الله والعلو في أرض الله، فتلك آراؤه سخرية الساخر، وأولئك رجاله لعنة الأول والآخر، فهل هذه اللجنة تناسُخ لذلك المذهب غير المرحوم؟ وهل رجالها نُسخ من ذلك الطراز المعلوم؟ إننا لا نفهم من هاتين الكلمتين إلا ما نفهمه من كلمتَي "خير- شر" إذا وُضعتا في حيّز كهذا، لكلِّ معنى إفرادي جزئي، وليس لهما معنى تركيبي كلي، فإن كنّا مخطئين فالذنب

_ * نشرت في العدد 114 من جريدة «البصائر»، 3 أفريل سنة 1950.

لاختلاف المعنيين، ولاختلاف الطبيعتين، ولاختلاف المزاجين وللبعد السحيق في أذهاننا بين معنى "فرنسا" وبين معنى "الإسلام". أما المعنى الذي نفهمه ولا نخطئ في فهمه فهو يتوقّف على كلمة محذوفة بين الكلمتين؛ وتقديرها هكذا: فرنسا الاستعمارية- عدو- الإسلام، والحذف من مذاهب لغتنا، وحذف ما يعلم جائز ... نعم ... نعم إن فرنسا الاستعمارية عدوّ الإسلام في ماضيها كله، وفي حاضرها، فلم يكتب تاريخها أنها جاورته فأحسنت، أو قدرت عليه فعفت، أو عاملته فصدقت، أو حكمت أهله فعدلت، ودلّ الواقع المشهود على أنه لم يجنِ منها إلا الكيد له بعيدًا، والإضرار به قريبًا، والعمل على محوه في جميع الحالات؛ ويجري علينا حكم المجانين إذا تصوّرنا أن حاضرها في هذا يخالف ماضيها، أو أن آتيها يكون خيرًا من حاضرها؛ لأن ما نقوله عنها صيّره الاستعمار ذاتيًّا فيها، والذاتيات لا تتخلّف، ومنطق الذاتيات لا ينقض. وما دام هذا هو حظ الكلمتين من فهمنا، فما هو حظ اللجنة من تقديرنا؟ وما هو حظ أعمالها في اعتبارنا؟ ... نحن نعد هذه اللجنة "تدجيلة" جديدة في السياسة الفرنسية الاستعمارية تفتّق عنها ذهن مستشرق "حكومي" (1) من الذين يجعلون الاستشراق ذريعة لاستهواء الشرقيين المفتونين بالغرب، الخاضعة عقولهم وأفكارهم لعقوله وأفكاره، وأنا أسمي ثلة من هؤلاء المستشرقين "حكوميين" تسمية صادقة أصدر فيها عن روية وتثبّت، فما هم إلا أذناب لحكوماتهم، وما هم إلا موظفون أو مستشارون حكوميون، وما هم إلا "تراجمة" للحكومات الاستعمارية وأدلاء، يترجمون لها معاني الشرق، ويدلّونها على المداخل إلى نفوس أبنائه وإلى استغلال أوطانه، وما هم إلا آلات في أيدي وزارات الخارجية، تستعملها لإبطال حق الشرق، وإحقاق باطله، ولبقاء الأمم الضعيفة في الاستعباد، أو إرجاعها إلى الاستعباد. فالاستشراق في هؤلاء عند الحكومات الاستعمارية معناه معرفة مداخل أوطان الشرق، ودخائل أبناء الشرق، وابتكار الوسائل لاستعمار العقول أولًا والأوطان ثانيًا، فهم روّاد عقليون قبل القوّاد العسكريين: ولذلك نرى هؤلاء المستشرقين الحكوميين يبنون أمرهم في الشهرة بين الشرقيين على الأبحاث العلمية الخالصة، ويغطون ضراوة الحجاج بطراوة "الحلاج"؛ فإذا طارت الشهرة في الآفاق، ووقع على الثقة بهم الإصفاق، أصبحوا سهامًا

_ 1) هو المستشرق لوي ماسينيون.

نافذة لدولهم في جنب الشرق، وأدلاء بارعين على عورات الشرق، ومن هذه الطائفة صاحب فكرة "فرانس- إسلام". من الطبيعي أن تكون أذهان هؤلاء المستشرقين المأجورين منصرفة إلى الاختراع كأذهان الكيماويين والميكانيكيين، وأن تكون هممهم متوجّهة إلى الاكتشاف كهمم الروّاد والفلكيين، ولكن هل يُكتب الخلودُ ورفع الذكر لمن اكتشف "وقف أبي مدين" في القدس كما كتبا لمن اكتشف أميركا ورأس الرجاء الصالح في الأرض، أو لمن اكتشف كواكب المجرّة في السماء؟ إن هذا الصنف من المستشرقين هم الذين سخروا العلم للسياسة، وهم الذين رضوا للعلم بالامتهان، وهم الذين لم يعتصموا بالاستقلال العلمي، فعصفت بهم الأهواء، فأصبحوا مبشّرين بالاستعمار، داعين إلى ضلاله، فهم غير أهل لاحترام العالم العلمي وإجلاله، وهم- من منازل الاعتبار- في المنزلة الدنيا بين ذوي الوظائف السياسية الرسمية، ولست أدري لماذا فوّتوا على أنفسهم أبّهة الوظيفة ومظاهرها؟ ... ... كوّن هذا المستشرق لجنته في فرنسا التي هي أحد طرفي الاسم، وأوحى إلى المغرورين به في شمال أفريقيا ما أوحى، فإذا الدعاية قائمة، وإذا الاسم دائر على الألسنة، ولكن الأغراض غير محددة ولا مفهومة. وانتظر الناس الأعمال التي تفسّر المقاصد، والمقدّمات التي تشعر بالنتائج، فكانت المقدمات أحاديث ومناشير وبرقيات عن فلسطين، وعن قضية المشرّدين، وعن وقف أبي مدين (الجزائري) ثم انتقلت إلى "تدويل القدس"، وهنا فهم مَن لم يكن يفهم، وضاع الفهم ممن كان فاهمًا، أهذه "شكشوشة" (2) أديان؟ فلماذا- إذن- ذكرت فرنسا في الاسم ولم تذكر المسيحية؟ ... ولم نجد في التاريخ قديمه وحديثه عالمًا غير مسلم حذق العربية فهمًا، وأتقنها حفظًا، وغاص على أسرارها، ولابست روحه روحها، ثم لم تهده إلى حقائق الإسلام، ولم تقف به على بابه، وأقلّ المراتب التي يضعه علمه الكامل بالعربية فيها أن يكون فيه صغو إلى الإسلام، وسير في اتجاهه، وتفتّح ذهن إلى فهمه، وبشاشة نفس مع أبنائه، كأنه يحسّ أنه

_ 2) شكشوكة: معناها خَليط. وأصلها أكلة تُصنع من خليط من الخُضَر.

بمقربة منهم، وأن بينهم وبينه رحمًا واصلة، ونسبًا جامعًا، وقد امتحنا هذا الأصل فيمن عرفناه- بخبره أو أثره- من المستشرقين الفرنسيين الذين يأتوننا موظفين، أو تجّار "استشراق" فوجدناهم شذوذًا في القاعدة، فعلمنا أن ضعف تلك العاطفة فيهم آتٍ من ضعف نصيبهم من العربية، والحقيقة هي تلك ... وما كنا نظنّ أن مستشرقًا ما من هؤلاء يستخفّنا برقاه، أو يسترهبنا بسحره، لأننا عرفناهم بسيماهم، وعرفناهم في لحن القول، فساء ظننا بهم تبعًا لسوء ظننا بالاستعمار الذي جعلهم جوارح لصيده، ووسائل لكيده؛ ما كنا نتوهّم ذلك حتى جاء المستشرق صاحب فكرة "فرانس- إسلام" وقعقع الشنّ، فخيّب الظن.

لجنة "فرانس - إسلام" - 2 -

لجنة "فرانس - إسلام" * - 2 - (كلامنا موجّه إلى فرنسا الاستعمارية، وإلى آلات الاستعمار من عقول وأفكار، ورجال، وهيئات، فلا تتجاوز الظنون بنا هذه الدائرة). ــــــــــــــــــــــــــــــ ... وهذا القلم ليس شعودي السن، ولا عنصري النزعة؛ ووالله ما ليق- منذ جرى- بهوى، ولا مُد بباطل، ولا غمس شقاه في منكر، ولا تحلبت ريقته من حمأة التفريق، ولكأنما صيغ هو ولسان صاحبه من جوهر واحد، فهما يتجاريان إلى غاية في حرب شعوبية المذاهب والطرق في الإسلام، وشعوبية الدماء والألسن في الأجناس، وشعوبية الشرق والغرب في أرض الله. ولكن يسوء هذا القلم أن تتنزّى العروق الخفية حينًا بعد حين بالظلم، ملفوفًا بالعلم، وبالمغالطات في صورة النصائح، وأن يستخفّنا هؤلاء القوم فنطيعهم؛ وأن يستميلونا بالأقوال الفارغة فنميل إليهم، وأن يلهونا بالخيالات عن الحقائق فنلهو، وأن يستغفلونا عن ديارنا فيصبحوا سادة فيها، ونصبح عبيدًا؛ ثم هم يستغفلوننا عن ديننا ولغتنا ليصبحوا أئمة فيها، ونصبح مقلّدين، وأن يغزونا الاستعمار الأوربي بالحديد حتى إذا فُلّ غزانا بالرأي والكتاب والعلم والعالم، وأن تتعاصى عليه أقفال عقولنا فيجد مفتاحها عند المستشرق. يسوءنا- والله- أن يكون العلم مفتاحًا للشر، وأن يتستر غلاة الشعويية بالألفاظ المموّهة بالإنسانية والديمقراطية، ثم يرْموا أعداء الشعوبية- مثلنا- بالشعوبية. إن أولى الناس بالتجرّد من الشعوبية هؤلاء المستشرقون، لأنهم يتحلّون باشتراكية علمية تُنافي الشعوبية، وينفردون عن علماء أممهم باتّساع في أفق المعرفة، وباطّلاع مباشر على

_ * نشرت في العدد 115 من جريدة «البصائر»، 15 أفريل سنة 1950.

المقارنات التي تقارب بين الأمم؛ لا جرم أن الاطّلاع على خصائص مجتمع تُدني منه، ولا تُبعد عنه، وتؤنس به ولا توحش منه؛ فإذا تهافتوا على السياسيين في اعتبار الأعلى والأدنى. ثم تهافتوا مع المستعمرين في مقياس الأقوى والأضعف، ثم تنزلوا مع المعمّرين إلى ميدان الآكل والمأكول، فأية قيمة لعلمهم؟ وأية ميزة تميّزهم من الناس؟ تعددت جرائم الاستعمار في هذه العصور الأخيرة، واشتدّ تكالبه على الأمم الضعيفة، فما سمعنا صيحة استنكار من هؤلاء المستشرقين على دولهم، أو على أممهم، وإن لهم عند دولهم، وبين أممهم المنزلة الرفيعة، والكلمة المسموعة، فعلمنا أن بعض أسباب ما ينعمون به من منزلة وسمعة هو سكوتهم عن تلك الجرائم، بل تزيينها، بل الإعانة عليها، وعلمنا أن الاستشراق أصبح (صنعة) لا علمًا، وأن الاستعمار ينشطها لمآرب له فيها؛ وعلمنا أنه- لأمر ما- كان ازدهار الاستشراق مقارنًا لازدهار الاستعمار. ونحن نعلم- مع هذا- أن المستشرقين أصناف؛ فمنهم من يطلب العلم رغبة في العلم، وشوقًا إلى المعرفة، وآية هذا الصنف أن يُترجم عن لغات الشرق خير ما فيها لينقل إلى أمّته غذاءً نافعًا، ويضيف إلى معارفها بابًا من المعرفة جديدًا، وهذا الصنف هو موضعُ إجلالنا واحترامنا، ومنهم من يحيي أثرًا من آثار الشرقيين بنصّه ولغته، وهذا الصنف لم ينفع أمّته بعلمه، وإنما نفع نفسه عندنا بما نسبغه عليه من نعوت الإعجاب والتقدير بمبالغتنا الشرقية التي زادها الاستعمار الفرنسي في عقولنا تمكّنًا ورسوخًا؛ ولو أوتينا ما أوتي هذا الصنف من تيسّر الأسباب لفعلنا ما لم يفعلوا؛ ومنهم من يعمد إلى عورات الشرقيين فيفضحها لقومه، وإلى مواقع الضعف فيهم فيدل قومه عليها، وهذا الصنف هو الكثرة الكاثرة، وهو هدف انتقادنا، ومبعث سوء اعتقادنا. لا نلوم من يخدم وطنه، وينفع أمّته، ولكننا نلوم من يستهزئ بنا فيغشّنا، ومن يتظاهر بنفعنا وهو يعمل لضرّنا، ومن يعلن في معاملتنا خلاف ما يبطن، فبعض الإنصاف- أيها القوم- ولا تلوموا من ضاق ذرعه بالاستعمار فغلب صبره، فباح بشكواه، فاعترضته أعمالكم، فلمسكم لمسة، مهما تكن غير خفيفة، فلا تقولوا إنها غير عفيفة؛ وقليل لمن مسستموه بنصب وعذاب، أن يمسّكم بنقد وعتاب، ولئن كتبنا عليكم الكلمات، فلطالما كتبتم عنّا الأسفار. ... وجاءت كارثة فلسطين ... - وفلسطين ملتقى العواطف الروحية، ومجلى التقديس الاجتماعي، ووجود العرب فيها توازن طبيعي لحفظ تلك العواطف، وحقّهم فيها أوضح من

الشمس، وشهادة القرون لهم بالاضطلاع وحسن الملكة واحترام الأديان ثابتة مسجلة، فما سمعنا من مستشرقي الاستعمار كلمة منصفة، ولا شهادة عادلة، حتى إذا قُضي الأمر ظهرت للوجود لجنة "فرانس- إسلام" يحمل لواءها مستشرق استعماري مدفوع بالنزعة الاستعمارية، لا بالوازع الإنساني، ولا بالعاطفة التي اكتسبها من اطّلاعه وبحثه، ولا بما يلقى من الشرقيين من إكبار وتقدير ... وعمّم الاسم، ولكنه خصّص الفعل ... ومن الأقوال السائرة أن الأمور بخواتمها، ولكن أمر هذه اللجنة بمبادئها، لأنها جاءت في الأخير، وبدأت من الأخير، ولو كانت على شيء من الكياسة لغالطت الناس بأشياء مما يتناوله اسمها، ولكن البدار إلى غاية مرسومة ختم على قلبها، وأعجلها عن التروّي فقفزت إلى تلك الغاية من أعسر طريق. الأقربون أولى بالمعروف- أيتها اللجنة- فلماذا جاوزت الجزائر إلى فلسطين؟ وفي الجزائر إسلام، وفي الجزائر أوقاف، وفي الجزائر مشرّدون. في الجزائر إسلام مستباح الحمى، منتهك الحرمات، وفي الجزائر أوقاف دينية منقوضة العقود، مهدومة الحدود، وفي الجزائر مشرّدون شبعوا بالجوع، واكتسوا بالعري، وعلموا بالجهل، وتداوَوا من المرض بالمرض، واستجاروا من الموت بالموت فأجارهم، فلا هم أحياء ولا هم أموات، وفي الجزائر أصوات تتصاعد بطلب الحق، من فرنسا غاصبة الحق، وفي الجزائر تشكو آخر كلمة في اسمك من أول كلمة، وقد سمعت- أيتها اللجنة- ورأيت فلماذا لم تقع عينك على الشر القريب، ووقعت على الشر البعيد؟ ولماذا لم تعطفي على الإسلام هنا، وعطفت عليه هناك؟ ولماذا لم تبدئي بتحرير أوقاف الإسلام في الجزائر، وبدأت بوقف (أبي مدين) في فلسطين، أم أن قلب المستشرق كالإبرة الممغطسة لا تتجه إلا إلى اتجاه واحد وهو الشرق؟ لا ندري أين كان هذا المستشرق يوم شاركت دولته في جريمة فلسطين، وإخراج الإسلام منها، بموافقتها على التقسيم، وبمساعدتها المفضوحة لليهود في الهجرة والتهريب؟ إنه كان ساكتًا سكوت المغتبط بتلك الأدوار، لأن الإحساس المتنبّه فيه إذ ذاك هو إحساسه الفرنسي الحاقد على الإسلام، فلما تمّت الأدوار، وبلغت نهايتها، وعلم أن اليهود سيأخذون المسالك على دينه ودولته- معًا- تنبّه إحساسه المسيحي الحانق على اليهود، فجاء يُعزّي المسلمين البسطاء تعقلة الشامت، ويبكي لهم على ليلاهم، ودولته أحد المساعدين على قتلها، وجاء ينبّه دولته إلى أن هناك منفذًا تدخل منه إصبعها إلى فلسطين (القريبة من سوريا) وهو وقف (أبي مدين الجزائري)، وأن هناك فرصة تسترجع

فيها عطف المسلمين الأغرار، وهي قضية المشرّدين، وأن ذلك لا يتمّ إلا بتدويل القدس؛ وليت شعري ماذا يجدي علينا تدويل جانب من مدينة القدس بعد أن ضاعت منّا فلسطين كلها؟ ... إن هذا- في دين اللجنة- لفتح جديد للسياسة الفرنسية، من أنضى في تحقيقه بدنه، فكأنه قرب للاستعمار بدنة.

ويح المستضعفين

ويح المستضعفين * "يا ممسكي الأعنّة، إن رَكوبَة الباطل صعبة، فلا تتقحموا، ويا مشرعي الأسنّة، إنه لا سهم في الجعبة، فلا تتوهّموا، ولا منتهكي الحرُمات، ما ماتت الحرية بينكم ولكن الحرَّ مات، ولا ناشدي الحق في مجامع المبطلين ... لا ردّ الله ضالّتكم، أتطلبون الفص من اللص، وتقيسون في مورد النص، إن الحق ينشدكم، فلا يجدكم، فهل ترجون وجدانه، حين تطلبون نشدانه؟ التمسوه في صفوفكم المتفرقة، وآرائكم المغربة المشرقة، فإذا لم تجدوه فلا تلوموا الذئب على الافتراس. الأماني كواذب، وأكذب منها رجاء العدل من مستعمر". تجري في القطر الجزائري- منذ أكثر من أسبوعين- أعمال مباغتة، من التفتيش للمنازل، والترويع للنساء والأطفال، والاعتقال للمئات من شباب الأمة، وأكثرهم عائل تتوقف عليه حياة أسرة تنتظر قوتها المقتر من عمله المتقطع، وتسري هذه الحالة من قرية إلى قرية، ويتطاير شررها من شرق القطر إلى غربه، ومن غربه إلى شرقه، وهي- على ذلك- سائرة من التخصيص إلى التعميم، ومن التحديد إلى التمدّد والانتشار. وتظاهر هذه الحملة البوليسية حملة أخرى صحفية، تشنّها صحف الاستعمار هنا في الجزائر، وهناك في فرنسا، وتبالغ- على عادتها- وتهوّل، وتشرح فتُطوِّل، وتؤكّد أنها مؤامرة مسلّحة، وتصفها بالصفات المزعجة في حروف كبيرة، وكلمات ضخمة، وجمل مثيرة، وعناوين لافتة، وخرائط محدّدة، كأحسن ما يفعل الصحافي الماهر إذا أراد الإعلان عن شيء وإثارة الاهتمام به، ثم تؤيّد بأرقام للأسلحة والذخائر المحجوزة فتأتي بما يُضحك

_ * نشرت في العدد 118 من جريدة «البصائر»، 1 ماي سنة 1950.

ويُخمد الاهتمام حتى في نفوس المتحمّسين، لأن أكثر من مجموع تلك الأرقام يوجد عند معمر واحد ... ولكن تلك الأقلام المنطلقة في التفاصيل، المستمدّة من أهواء المعمّرين، تقف عند حد التهويل ومحاولة إقناع أولي السلطة بأن في الجزائر خطرًا حقيقيًا على الاستعمار، ولا تكلف نفسها رجوعًا إلى منطق، ولا تحليلًا لواقع، ولا موازنة بين الممكن وبين غير الممكن، ولا مقارنة لسوابق الأحداث بلواحقها ولا تتجاوز ذلك كله إلى النقطة الإنسانية، وهي حالة المعتقلين، وحقّهم في الدفاع، وحظّهم في المعاملة، مع أنها تعلم كما نعلم أن البوليس في الجزائر لا يسأل عما يفعل في معاملة الأهلي، وأنه كالمنوّم المغناطيسي في الاستهواء واستخراج كنائن الصدور، غير أن أحدهما يتسلّط على الأبدان، والآخر يتسلّط على الأرواح. أما الاعتقال هذه المرة في شكله وكيفيته فقد كان أشبه بحالة الحية مع العصفور: اقتلاع، فابتلاع، أصحاب هذه الصحف الطائرة في هوجاء، السائرة على عوجاء، أعلمُ منّا بأحوال المعتقلين وما يلقون من تعنيت، ولكنهم بذلك راضون مغتبطون، أما الأمة فإنها لا تعلم من أحوال المعتقلين شيئًا، ولا تعلم من أمرهم بعد الاعتقال إلا ما تعلمه من أصحاب القبور: ضيق، وضغطة، وسؤال محرج، وانقطاع عن الأحياء، غير أن أصحاب القبور موكلون إلى العدل الإلهي الذي لا يظلم ولا يحابي، وأبناؤنا المعتقلون موكلون إلى الظلم البشري الذي يحقد وينتقم، ويسأل معنتًا، ويخاطب مبكتًا، ويجازي منتقمًا، ويعذّب متشفيًا، ويصل بذلك كله إلى الاعتراف (الكيماوي) على طريقة استخراج المعادن بالصهر والعصر، وإذا قسنا اللاحق على السابق فليس ثم إلا ذاك، وليس وراء الشر إلا شر منه، وليس وراء هذه (الباطنية) التي تجري عليها هذه الاعتقالات إلا العذاب، كما أنه ليس وراء الباطنية في الدين إلا الكفر. ليت شعري، إذا لم تنصح الجرائد الحكومات بالرفق، وتحرّي الحق، والتسوية في المعاملة، ولم تنصح الحكومات الجرائد بالاعتدال، واجتناب التهيّج والاستفزاز، فكيف ينام الناس في أمان؟ وكيف يبيتون من الحياة على ثقة؟ وكيف يستقيم للمودة والإخاء بين الطوائف سبيل؟ وكيف يجد المتساكنون في الوطن الواحد الراحة والاطمئنان؟ ونحن ... فقد أصبحنا- لكثرة ما بلونا من سرائر السياسة الاستعمارية وعجمنا من أعوادها- نفقه كثيرًا من اتجاهاتها ومقاصدها، وكثيرًا من نتائج أعمالها المترتّبة على مقدّمات من نوعها، وكثيرًا من المرامي التي ترمي إليها تلك الأعمال، كما أننا أصبحنا موقنين لبعض النوبات التي تعتريها، لا يختلّ لنا فيها حساب، ولا ينخرم لنا ضابط. ويجمع

ذلك قولك، إنه كلما طالب الشعب الجزائري بحقّه دبّرت له مكيدة ... ويكفينا لتصحيح هذه القاعدة أن نستعرض حالة هذه السياسة في الجزائر في ثلاثة عقود من السنين، من انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى الآن، ولا يكلفنا القارئ بضبط التواريخ ونصوص القرارات فإن ذلك واجب المؤرّخ، أما نحن فسائقون للعبرة، ومعتمدون على الخبرة. نذكر أن أولى انتباهة من فرنسا للزوم تغيير سياستها مع مسلمي الجزائر كانت بعقب الحرب العالمية الأولى، وكانت في وزارة كليمانصو، وكأنها أرادت استئلاف الجزائريين- في الجملة- على ما أراقوا في سبيلها من دماء، وما قدموا في الدفاع عنها من تضحيات، فكان الممكن الميسور في نظرها- إذ ذاك- أن فسحت لهم قليلًا في المجالس البلدية والعَمَالية، وأن رخّصت لهم في حمل السلاح كالأوربيين، ولكن المعمرين المدللين رأوا تلك الهنات الهيّنات أمرًا عظيمًا، وجسّمتها لهم الأنانية حتى عدّوها مساواة لهم، واعتبروا ذلك التصرّف من حكومتهم فتحًا لباب يعسر سدّه، فأجمعوا أمرهم على نسخ ما شرعت، وفسخ ما عقدت فشكّلوا بمالهم ونفوذهم عصابات لصوص مسلّحة من الأهلين تعبث بالأمن وتفسد السابلة، وتطرق المنازل للنهب، واتّخذوا من تلك الأعمال حجة على أن الترخيص في حمل السلاح للجزائريين كوضعه في أيدي المجانين، ولم يزالوا على ذلك حتى استردّت الحكومة ما أعطت من ذلك الترخيص. ثم ازداد الشعور العام يقظة وانتشارًا، وفتحت حركة الإصلاح الديني الذي قامت به جمعية العلماء مُغلقات الأفكار، وخرجت الحركة السياسية من صبغتها الفردية إلى ميدانها الاجتماعي، وتألّفت (وحدة النوّاب) وكان لها في مبدإ أمرها اتجاهٌ محمود، وللأمة حولها التفاتٌ مشهود، فهال ذلك المعمرين، وقادتهم هنا وأنصارهم هناك، فدبّروا مكيدة 5 أوت سنة 1934 بتسليط المسلمين على اليهود في مدينة قسنطينة، منبت الحركة ومقرّ أقطابها، وما كان بين المسلمين واليهود ما يدعو إلى ذلك ولا إلى أقلّ منه، ولكن يدَ الاستعمار صنّاع في تدبير المكائد، ولا شك عندنا في أن تلك المذبحة دُبّرت لقتل الحركة السياسية. ولم تؤدّ تلك المكيدة إلى غاية الاستعمار المرجوّة، فاستفحلت بعدها الحركة، وارتفع صوت المطالبة بالحقوق جهيرًا، وتقارب السياسيون تقاربًا لم يعهد مثله، فتمخّضت عن "المؤتمر الإسلامي الجزائري" سنة 1936، ونجح نجاحًا منقطع النظير، وقطع وفده البحر إلى فرنسا، على أمواج من أمل الأمة وتشجيعها، فجنّ جنون الاستعمار، وخانه الصبر والأناة، فتعجّل بتدبير مكيدة اغتيال "المفتي كحول" في أسبوع رجوع الوفد، وفي يوم اجتماعه بالأمة، وغاية الاستعمار من تلك الحادثة قتلُ الحركة السياسية التي كان أجلى مظاهرها المؤتمر.

وجاءت الحرب ... وخفتت الأصوات، فاستعلنت النيات، وتعطّلت الأعمال، فانطلقت الآمال، وكمَّت الألسنة، فأفصحت الإشارات، وهدأت الخلافات فتقاربت القلوب، إلى أن جاء الحلفاء وعلى ألسنتهم أغان عن الحرية ينشدونها، وعلى شمائلهم معان من الديمقراطية يردّدونها، وفي نفوسهم أمان للأمم يعدون بها ويعددونها، فحنت النفوس إلى الحرية، وجرَت الألسنة بالمطالبة بها، وظن الجزائري الذي شارك في الحرب بماله وبحاله وبمهجته- كما ظن كل الناس- أنه واصل إلى مراده، ومتقاض أجر جهاده، وأن الحرب- وهي نار- نقّت القلوب من الدغل، ولكن الاستعمار كان كعقرب الشتاء، تحس وإن لم تتحرّك، فسجّل تلك الأصوات المطالبة بالحرية، وأسر المكيدة في نفسه إلى يوم النصر الأخير، وأتى بها شنعاء صلعاء في حوادث 8 ماي 1945، وانطوى اليوم الذي أرّخوا به لانتصار الديمقراطية، بتسجيل أكبر انكسار للديمقراطية، وشاء القدر الواعظ أن يدخل الضّيفان الحاملان للواء (1) الديمقراطية إلى الجزائر، وفي كل مسمع نغمة من الحرية، وفي كل جانحة نشوة من الانعتاق، وفي كل ناد ذكر من الديمقراطية، وأن يخرُجا منها وفي كل حيّ مأتم (2)، وفي كل بيت نادبة. هذه أربع شهادات يشهدن أن الخامسة اختهن ...

_ 2) الضيفان الحاملان للواء: هما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتان نزلت قواتهما في الجزائر في نوفمبر 1942. 2) إشارة إلى حوادث 8 مايو 1945.

حدثونا عن العدل فإننا نسيناه - 1 -

حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه * - 1 - ... كيف لا تنسى العدل أمة لبثتْ في ظلمات الظلم أحقابًا، وعقبت في ظلّ يحمومه أعقابًا؟ أم كيف تذكره بعد أن محت آيته آية السيف، فلم تنعم منه بإلمامة الطيف؟ وكيف يجد العدل مجالًا بين حاكم لا يسأل عمّا يفعل، وبين محكوم يُسأل عما لم يفعل؟ وكيف يجد العدل سبيلًا إلى نفوس زَرَع فيها الاستعمار- أول ما زرع- بذرة احتقار المسلم الجزائري، ثم ربّاها- أول ما ربّى- على الاستعلاء على المسلم الجزائري، ثم علّمها- أول ما علم- هضيمة المسلم الجزائري، وتجريده من أسباب القوة والحياة بكل وسيلة، وترويضه على الذل حتى يطمئن إليه، ويعتقد أنه كذلك خلق، أو لذلك خلق، فإذا سُلب مالُه عدّ سلامته من الضرب غنيمة، وإذا ضرب جسمه عدّ نجاته من ضرب العنق منحة كريمة، وإذا تأوّه للألم النفسي أو البدني عُدّ التأوّه منه جريمة؟ إن الاحتقار هو الأساس الخلقي الذي وضع عليه الاستعمار قواعدَه، وبنى عليه قوانينه، وإن ملكة الاحتقار هي الغاية في العالم الاستعماري، ينتهي إليها عالمه، وحاكمه، ومشرّعه، ومنفّذه، ولكنه بعد أن تراءى العيانان، عيان الفاعل وعيان القابل، لم يجد فينا قابلية الاحتقار، أباها لنا عرق في الإباء أصيل، وإرث من "محمد" أثيل، فانقلب ذلك الاحتقار على مرّ الزمن حقدًا يصهرُ الجوانح؛ وتحوّل بفعل الأحداث بُغضًا يأكل الأكباد، وكلّ ما يراه الرائي ويسمعه السامع من البلاء النازل علينا فذلك مصدره، وهذا مورده. يا لله ... لما يحمل هذا الجسم المثخن بالجراح من حصانة ومناعة، ولما يكمن فيه من دفاع ومقاومة، هي آثار الخصائص الأصيلة في الجنس العربي، ولولاها لكان في

_ * نشرت في العدد 119 من جريدة «البصائر»، 15 ماي سنة 1950.

الغابرين، وهي بقايا المزايا السامية من الدين المحمدي، ولولاها لختم به تاريخ طسم وجديس وعاد الأولى، ولو أن ما حلّ بهذه الأمّة حلّ أيسره بأمة أخرى، لانعكست فيها نظرية "داروين" ... ابدأ بما شئت، واختم بما شئت، من النُظم والقوانين التي تُساس بها الجزائر، تجدها كلّها دائرة في مبادئها وغاياتها على محور واحد، وهو احتقار المسلم الجزائري وبغضه، وانظر ما شئت في أعمال الحاكمين كبارًا وصغارًا، وفي ملابساتهم للناس، وفي شمائلهم، تجد الأعمال مفسّرة لذلك، والملابسات حتى في الحديث جارية على ذلك، والشمائل ناطقة بذلك. هلمّ إلى الدين تجد الاستعمار الذي كفر بالأديان يقول لك بصريح القول والعمل: أنا أحق منك بالتصرّف في دينك، فلا تدخل المسجد إلا بإذني ولا تُصَلِّ إلا من وراء إمامي، ولا تحجّ إلا برخصتي، ولا تصُمْ إلا على رؤيتي، ولا تزكّ إلا بعد استشارتي، ولا تضع زكاتك إلا حيث أريد لا حيث تريد، ومعنى هذا كله نسخ آية من القرآن، بآية من وحي الشيطان، ولم يبق إلا أن تتلوها كما يريد، "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للاستعمار" وكذب الشيطان الرجيم، وأفك الاستعمار الذميم. ثم ارجع البصر في الدنيا وقوانينها التي يسوسنا بها الاستعمار، تجد ذلك المعنى لائحًا في كل حرف منها، فائحًا من كل كلمة من كلماتها، واضحًا في كل تأويل من تأويلاتها، بيّنًا في كل تطبيق من تطبيقاتها؛ انظر إلى قوانين الانتخاب- وهو عصب الحياة وسلاح الدفاع- تقع أول نظرة منك على احتقار مفضوح بشواهده، وهو وجود صندوقين لأمّتين، لم تقعد بأولاهما قلّتها، ولم تغن عن أخراهما كثرتها، ولا معنى لذلك إلا وجود طائفتين: سيدة ومسودة، ثم انظر إلى التفاصيل في الكم والكيف والإجراءات، وتحكم الإدارات في الإرادات تجد تصداق ما قلناه كالشمس ليس دونها حجاب، ثم انظر إلى قوانين التعليم- وهو سر الحياة وإكسيرها- تجد الاحتقار والبغض ماثلين في كل جولة طرف. يقول المسلم الجزائري للاستعمار: علّمني، فيقول: لا، ويقول له: دعني أتعلّم وحدي ما يقومني، فيقول: لا، ويقول له: دعني أعِنْك على التعليم العام، فيقول: لا. وتبقى الرابعة بينكما، لا يمنعك من قولها إلا الرهبة منه، ولا يمنعه من قولها إلا احتقارك أيضًا ... ولو قالها لكانت ترجمتها: لا أعلمك لأنني أحتقرك وأبغضك، ولا أدعك تتعلّم وحدك، لأنني أحتقرك وأبغضك، ولا أدعك تعينني لأنني أحتقرك وأبغضك. وتعالَ إلى القوانين الجنائية- وهي مظهر المساواة فيما يزعم الاستعمار- تجد الألفاظ واحدة، والتطبيقات مختلفة: يجني الجانيان منا ومنهم جناية متماثلة الكم والكيف والظروف

والشهادات والقرائن، فيصطرع القانون المكتوب في الطروس، والقانون المكتوب في النفوس، ويتضاءل الأول أمام جانيهم حتى ليكاد يعتذر إليه، فتصبح جنايته بالتأويل ليست جناية فلا جزاء عليها، وتمسي جنايتنا بالتهويل جنايتين ونصفًا، فالجزاء عليها ضعفًا وضعفًا. وانحدر إلى الإجراءات البوليسية البسيطة فما فوقها تجدها كأنها تنفيذ لشريعة اسمها شريعة الاحتقار والبغض، أول موادّها لا رحمة بضعيف، ولا عذر لعائل، ولا شفقة على بائس، ولا احترام لذي مقام ديني؛ بل كل المسلمين سواسية أمام قانون الاحتقار. إن الاحتقار هو الأساس الذي بنى عليه الاستعمار تربيته وتعليمه وحكمه، وقد أصبح خلقًا ذاتيًّا في أبنائه وأنصاره وحكّامه، لا يستطيعون الانفكاك عنه لأنه جزء من وجودهم، ومادة لحياتهم، ثم غمره البغض فأصبحا عنصرين مكوّنين لشيء موجود هو هذا الظلم. وإن الاحتقار والبغض هما اللذان رفعا الحصانة عن ديننا، وأموالنا، وأعراضنا، وأبداننا. ... سلوا عقلاء الأرض الذين لم يصابوا في عقولهم بمرض الاستعمار، وسلوا علماءها الذين لم يفسد علمهم الاستعمار، سلوهم جميعًا أو أشتاتًا: هل يلتقي الاستعمار والعدل في طريق؟ وهل يتحقق العدل مع الاحتقار والبغض بين حاكم ومحكوم؟ سلوا أرسخ الأمم عرقًا في الحرية، وأكثرها تمتّعًا بها، عن الأسباب التي تمكّن للعدل في الأرض، وتحقّقه بين الناس، وتثبّت أصوله بينهم، يجيبوا بلسان واحد: إن العدل لا تثبت أركانه لزعازع الاستبداد، ولا يقوى بنيانه على طغيان المستبدين، إلا إذا كان بين الحاكم والمحكوم علاقة من محبة، وجامع من مصلحة، ورابطة من روح، وشركة في شعور: شعور من الحاكم بأن المحكوم شريكه ومعينه، وشعور من المحكوم بأن الحاكم زميله وقرينه، وأنهما- لذلك كله- متعاونان على إقامة العدل، فإذا وُجد أصل هذا الشعور في الجانبين ازداد تمكّنًا كلّما آتى العدلُ ثمراته، حتى ينتهي في نفس الحاكم إلى اعتراف بأن المحكوم هو الذي رفعه إلى تلك المنزلة، وفي نفس المحكوم إلى اعتقاد بأنه مساوٍ للحاكم في استحقاق تلك المرتبة. وأخرى ... تُثبت العدل وتحميه، وهي إحساس الحاكم برقابة متيقّظة ممن تحته، وبمحاسبة دقيقة ممن فوقه، فإذا زايله وازع الضمير، ووازع القانون، ردّه وازع المراقبة والمحاسبة إلى سواء السبيل، وأين في الحكّام- اليوم- من يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس؟

إن الحاكم إذا لم يكن له ضمير يردعه، ولا قانون يزعه، ولا رقيب يمنعه، ولا حسيب يذوده عن الظلم ويدفعه، رجع إلى الغرائز الإنسانية الدنيا، فدفعته إلى المحاباة والعنصرية، فكان على يده ضياع العدل أولًا، وضياع قوّته التي يستند إليها ثانيًا، وكم أهلك الظلم من أمم، وتلك هي سريرة الاستعمار، وتلك هي جريرته التي يأخذه الله بها، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}. ... والرقابة الفعّالة في هذا الزمن الذي وصل طرف الحضارة الأخير بطرف البداوة الأول ... وردّ الإنسان إلى غرائز الحيوان، تكاد تنحصر- في مظهرها- في النيابة والصحافة، فقد أصبحت النيابة في الأمم التي رسخ فيها نظامها، وبُنيت حياتها عليها، رقيبًا عتيدًا على الحكومات وعلى الحكّام، وأصبحت الصحافة بجانبها حسيبًا مرهوب الصولة، يقرع النفوس بتحذيره ويخلع القلوب بتشهيره، فإذا جرتا إلى غاية واحدة كانتا ملاذًا للمظلوم، تقومان بنصره، وملجأً للملهوف، تسرعان إلى غوثه، وملتحدًا للضعيف تأخذان بيده، ولكن ... إذا أفسدت المطامع النوّاب، وأفسدت العنصرية الصحافة فعلى العدل السلام. ... وماذا في الجزائر من هذا؟ ...

حدثونا عن العدل فإننا نسيناه - 2 -

حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه * - 2 - ... وماذا في الجزائر من ذاك؟ يسمع البعيدون الذين منّ الله عليهم بالسلامة مما نحن فيه، أن في الجزائر نوّابًا ومجالس نيابية، وأن فيها من مواليد عهد التطورات مجلسًا جزائريًّا، يتراءى في مظاهر برلمانية، تلوح عليه مخايل البرلمان وسماته، وتنفح من طياته روائح البرلمان ونسماته، يسمعون ذلك عن الجزائر فيحسبون أن الحرية صافحتها، وأن عوادي الدهر صافتها، وأن هذه المجالس النيابية خليقة أن تراقب الحكومة والحكّام، وأن تناقش، وأن تحاسب، وأن تحامي عن مصالح الأمة وحقوقها، كدأبها في كل بلد نيابي، وقد يغبطنا جيراننا الأقربون عن هذه الحياة الشورية التي حرمهم الاستعمار منها. مَن يَسمعْ يَخل، والبعيد يسمع الأصداء لا الأصوات، والحقيقة هي أنه ليس في الجزائر نيابة ولا نوّاب، ولا منتخبون ولا انتخاب، وأن حالتها في هذا الباب- بعد مائة وعشرين سنة من استعمار فرنسا أم الدساتير وأم الشعوب النيابية في العالم- قد انتهت إلى حيث ابتدأ (الباش أغا) عبد الله قائد دوار شرق الأردن. وان هذا التشابه لينبئ بأن ذلك الباش أغا قد استعرض في بدايته (عيّنات) من النيابات، فاستوقفه نوع النيابة الجزائرية في نهايتها، فاستهوته، فاختارها فقلّدها، والشكل يقع على شكله. ليس في الجزائر نيابة ولا نوّاب، بالمعنى الذي تعرفه الأمم، وإنما هي صور بلا حقائق، وألفاظ مجرّدة من معانيها، وأجسام مفرغة من أرواحها ... إنما هي وظائف توزّعها الحكومة على أعوانها، وتضع عليها هذه الأسماء، تمويهًا وتغليطًا، وتغطّيها بأقلية ضئيلة من

_ * نشرت في العدد 120 من جريدة «البصائر»، 22 ماي سنة 1950.

النوّاب الأحرار، تمهيدًا للغدر، وتعويذًا من العين، ودفعًا للتهمة وقالة النقد، فإذا اجتمعتْ هذه المجالس النيابية ليوم الفصل في المشكلات، أو ليوم الرأي في المعضلات، لم تجد نوّابًا ولا رأيًا، ولكنك تجد الحكومة تتحكّم وتسيطر، وتوجّه وتملي، ثم لا يكون إلا رأيها، وإنك لترى أشخاصًا وتسمع أصواتًا، وتشاهد حدودًا من النظام، وتسمع في بعض الفترات نبرات حرة تخترق تلك الكثافة الغالبة، حتى يخدعك النظر، وتهُمّ بأن تعتقد أنها مجالس نيابية، ولكن ذلك كله ما دام الحديث في القشور والتوافه، أما إذا عُرضت مصالح الحكومة، وعارضتْها مصالح الوطن وحقوق الأمة فإن النيابة تنقلب حكومة، ويضيع الصوت الحرّ- إن كان- في الضجيج. لا تكون النيابة مثمرة إلا إذا كان الانتخاب حرًّا، وكان المنتخب عارفًا بقيمة نفسه وبمعى الانتخاب، ولم ترَ الجزائر انتخابًا حرًّا خاليًا من شوائب التدخّل الحكومي من يوم نشأ فيها الانتخاب؛ ولا تبحث بعد هذا عن أعجوبة الأعاجيب في هذه المجالس، وهي تمثيل الأقلية فيها لأكثرية السكّان، وتمثيل الأكثرية لأقليتهم، ولئن سألتهم ليقولن: إن أكثرية السكّان متأخرة عقلًا وثقافة، منحطّة علمًا وتفكيرًا، لا جرم أنها لا تستحقّ إلا هذه النسبة في التمثيل، فسلهم: ما الذي أخّرها؟ إن الاستعمار هو الذي أخّرها عامدًا، فسدّ عليها منافذ العلم، وأفسد فيها معاني الرجولة، وعامل القيم الإنسانية والموازين العقلية فيها بالبخس، ومحا منها بوسائله السحرية من الوظيفة واللقب والنيشان والأطماع كل المثل العليا التي هي مناط الطموح في الأمم، فأصبح معظمها حيًّا بلا حياة، وبلا أمل في الحياة، تسيَّر، ولا تخيّر، ويفتات عليها، ولا تشاور، وأصبح هؤلاء النوّاب نوائب نازلة عليها، لا يعرفونها إلا في أيام الانتخاب، أو لا يعرفونها قط، لأن الحكومة عرفت بهم، فإذا حلّت الكوارث بالأمة، أو فعلت الحكومة الأفاعيل بالأمة، سكتوا، كأن الأمر لا يعنيهم، ولأن الحكومة ما وضعتهم حيث هم إلا ليسكتوا ... إن الغابط لنا على هذه النيابة خابط في ضلالة، وإن الحاسد لنا عليها حاسد على الموت، وإن الممتن بها علينا ممتن بالسراب على العطاش. هذه هي حقيقة النيابة في الجزائر، فكيف يُرجى منها ما يُرجى من أمثالها في الأمم من مراقبة للحكومة، ومحاسبة للحكّام، وحماية للأمة، حتى يفشو العدل، ويشيع بين الناس. وأما الصحافة في الجزائر فإنها استعمارية خالصة لحمًا ودمًا، تعيش على ماله، وتسير بتوجيهه، فهي تخدم ركابه، وتنصر مبادئه، وتثبت أصوله وتنافح من ورائه، وتأمر في حق الأمة الجزائرية بالمنكر، وتنهى عن المعروف وتضع الموازين البخس، لمصالحها، وتجسّم

المخاوف منها، وتزين المبالغة في إرهاقها وتعذيبها، ولا تقنع بما يقع من الحكّام من ضغط وزجر وإعنات، بل تعدّه تقصيرًا منهم في الواجب، وتفريطًا في المحافظة على السيادة الاستعمارية، والحقوق الفرنسية، ولذلك كله تراها لا تدعو ثبورًا واحدًا، بل تدعو ثبورًا كثيرًا كلما سمعتْ نبأة بطلب حق، أو رفع مظلمة، وشأن الصحافة الحرّة شأن النوّاب الأحرار، قلة في العدد، ونضوب في المدد، وريح تُلاقي إعصارًا. وهذه هي حقيقة الصحافة في الجزائر، فكيف يُرجى منها ما يُرجى من مثلها عند الأمم من مراقبة حكومة، أو محاسبة حكّام، حتى يفشو العدل ويشيع بين الناس. ... يقول الاستعمار- وقوله الباطل-: لا حق للأمة الجزائرية في الحياة، وما قالها إلا بعد أن فعلها ... جرّدها من سلاح الحماية، فلا قانون يحميها، ولا نيابة تنطق باسمها، ولا صحافة تدافع عنها، ولا حاكم منها يعطف عليها ... فمن الذي يحمي عرضها من الثلب، ويحمي مالها من السلب، ويحمي دينها من القلب، ويحمي جسمها من الضرب، لا شيء ... لا شيء ... ولا بعض الشيء ... هل تنتظر هذه الأمة العدل من فرنسا (منارة العدل)؟ لقد انتظرته حتى ملّت الانتظار، فعادت إلى اليأس، وارتفعت صيحاتها بالتظلّم إلى فرنسا حكومةً وبرلمانًا وشعبًا، فلم يجبها عند ذاك مجيب. حلّت المصائب بهذه الأمة، وتتابعت المكائد التي تدبّرها حكومتها الاستعمارية، فرفعت صوتها إلى آخر ملجإ حكم عليها القدر بالالتجاء إليه، وهو فرنسا، فلم تظفر منها بشيء يداوي الجروح، ويسلّي النفوس، ولا رأت منها عناية- ولو مصطنعة- بهذه القضايا الخطيرة، ولا نهيًا عن تلك المنكرات التي تئطّ منها السماء والأرض، ومظهر العناية من دولة عريقة في الجمهورية، وأيسر شيء عليها أن ترسل لجنة برلمانية للتحقيق العادل، ولكن شيئًا من ذلك لم يقع. بل وقع في كل حادثة ما يضاده ويعاكسه، وهو إعلان الثقة بمدبّري المكائد، ومكافأتهم عليها، والإملاء لهم ليزدادوا طغيانًا وإثمًا. وقعت حوادث 5 أوت 1934 - وهي مكيدة مدبّرة- فلم تحرّك فرنسا ساكنًا، وتركت المكيدة تجري لغايتها. ووقعت حوادث 8 ماي 1945 المروّعة فأعلنت فرنسا ثقتها بالمدبرين لها، ورضاها عما يصنعون، واهتزت الدنيا لهولها وفظاعتها، ولم تهتز فرنسا إلا هزّة الإعجاب ببطولة الهاتكين

للأعراض الطاهرة، الفاتكين بالمهج البريئة، المثخنين في شعب أعزل: ورويت الضواري الوالغة من دماء هذه الأمة، وشفيت الصدور المغيظة عليها من الغليل، وأفاق المظلومون من غمرة الذهول، على حمى مستباح، ودماء مطلولة، فرفعوا أصواتهم يطلبون من فرنسا إرسال لجنة برلمانية للتحقيق الذي لا يردّ فائتًا، ولا يحيي مائتًا، ولكنهم كانوا ينادون صخرة صمّاء، ومن عجيب ما رآه الناس في تلك الحادثة أن بريقًا من الإنصاف لاح في نفس بعض المسؤولين هنا فانتدب شخصين اثنين للتحقيق في أول بقعة اندلع فيها لهيب الحادثة، وأحد الشخصين فرنسي منصف، والآخر جزائري متعفّف، ولكنهما رجعا ليومهما، وحيل بينهما وبين الاطّلاع على أصغر جزئية في القضية. ووقعت بعد ذلك حوادث (دوّار السطح)، وأتت بما تقشعرّ منه الجلود، وانجلت الحقائق بالوثائق، فلم يتحرّك من فرنسا ساكن، ولا نبض لها عرق. ووقعت في السنّة الماضية حوادث (دوار علي بوناب) فكانت تمثيلًا للوحشية في أشنع صورها، وكثر فيها القيل والقال، والجواب عن السؤال، وطارت أخبارها إلى ما وراء الستار الحديدي، ولكن فرنسا طردت القاعدة، فظلّت قاعدة. ... وفي هذه الأيام تجري حوادث صامتة الظواهر، مفصحة البواطن، مسبوقة بالأمثال والشواهد، تومض نارها من خلل الرماد، ولكنها تُنسي كل ما قبلها في الترويع والتجنّي، وإن لها لغاية في الكيد، هي سائرة إليها، فمن أين نلتمس العدل فيها؟ أمن فرنسا؟ ...

حدثونا عن العدل فإننا نسيناه - 3 -

حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه * - 3 - ومن أين نلتمس العدل؟ ... أمن فرنسا الاستعمارية؟ ... إن فرنسا اثنتان: تلك التي يتمجد التاريخ بصحائفها البيضاء في العلم والعرفان، ويتغنّى بروائعها في الأدب والفن، ويتحدّث عن وقائعها في تحرير نفسها من الاستعباد الروحي والعقلي والبدني، ويشيد بأعلامها في السياسة والبيان، ونحن لم نرَ فرنسا الموصوفة بهذه الصفات، ولم نعرفها، ولم نحسّ بها، ولا شأن لنا معها، إلا شأن البعيد الدار، المختلف الأوطار عن الأوطار. وأما فرنسا الثانية التي التقى تاريخها بتاريخنا من سنة 1830 إلى الآن فهي التي عرفناها فاتحة بالسيف، حاكمة بالحيف، وأيأسنا من عدلها أنها حقّقت لنا معنى المثل: المستجير بعمرو ... وكيف نستدفع البلاء، بما هو أصل البلاء؟ إن فرنسا هذه التي نعرفها دولة أشربت معاني الاستعمار، وما يتبعه من احتقار وظلم واستعباد، وما يستلزمه من عتو وغطرسة وأنانية، ومن العجب أنها مع هذا تنتحل صفات الأخرى وتدّعيها وتفخر بها في العالمين، فهي كالجزّار يذكر الله ويذبح، ونحن لا نعرف لها تلك الصفات، ولا نعترف بشيء لم نره، ولم نستبن في أنفسنا أثره، ولا نعرف إلا صحائفها السوداء في معاملتنا، ووقائعها في ظلمنا وتقتيلنا، ولا نصدق بشيء مما تدعيه لنفسها، أو يدّعيه لها المفتونون بها من العدل والديمقراطية. لم نرَ من فرنسا الاستعمارية إلا الهضم لديننا، والمحو للغتنا ومقوّماتنا، والزراية بجنسيتنا، والمنّ علينا بما لم نذق طعمه ولم نَرِح رائحته، والاستكبار في الأرض بغير

_ * نشرت في العدد 121 من جريدة «البصائر»، 29 ماي سنة 1950.

الحق، والنكران لفضلنا عليها في الأزمات؛ أفلا يعذرنا العقلاء إذا أنكرنا كل فضيلة تتّسم بها، أو يسمها بها المفتونون بمدنيتها، المسبّحون بحمدها: والناس أكيس من أن يمدحوا رجلًا … حتى يروا عنده آثار إحسان تريدنا فرنسا الاستعمارية على أن نحمدها بما لم تفعل، فنقول: عسى ولعلّ ... ثم تريدنا على أن نحمدها بما فعلت معنا من ظلم وعدوان، وأن نصوّر مساوئها فينا محاسن وأن نسمّي شرّها خيرًا، وجورها عدلًا، وإساءتها إحسانًا، وإهانتها تشريفًا، وأن ننكر إحساسنا وعقولنا، وأن نتنكّر للمنطق وللواقع، فلا نقول إلا ما يرضيها وإن جانب الحق، ولا نعمل إلا ما يوافق هواها، وإن أسخط الله، فنقول: لا، ثم لا، لأن ترجمة هذا كلّه أنها تلطمنا فنشكرها على اللطمة، وتعذّبنا فنقدّم لها شواهد الإخلاص. هذه هي فرنسا التي نعرفها، أو هذا هو الجانب الذي نعرفه من جوانب فرنسا، قلنا فيه ما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان لها جانب غير الذي عرفناه، فسلوا عن العسل مَن ذاق طعمه، أما نحن فقد ذُقنا الحنظل، فوصفنا الحنظل. ولو أن حاتمًا جمع كل ما قاله في نفسه، وقاله الشعراء فيه، في ديوان، وقرأه على جار له حُرم رفده، فلم ينل من لحوم نحائره حُزة، ولا من أوبارها جزة، أكان يهتزّ لذلك، ويشكره عليه، إن لم يكذبه؟ وكذلك نحن؛ لا نهتز لما تمتدح به فرنسا، أو يمدحها به المادحون، ما دمنا لم نرَ منه في أنفسنا إلا عكسه ونقيضه، وقلْ أنت: أنا غني، فلعلّك لا تجد من يكذبك، ولكنك حين تقول: أنا الجواد المفضل، تجد- لا محالة- من يقول لك: وأين الأثر؟ ولو أن ذكرك بالإحسان والعدل استفاض حتى ملأ مسامع الدنيا، لما أغنى عنك يوم الفخار شيئًا، إذا جاء جارُ بيتك يحمل من ترويعك له دلائل ويستظهر على تجويعك له بشواهد وبيّنات. إن الاستعمار غشاوة على الأبصار، ورين على البصائر، فهو- كما يرمي فاعله بالعمى عن الحقائق- يَرمي المبتلى به بالعمى عن المحاسن، فلو أن فرنسا خلعت ثوب الاستعمار، ومحت رسومه، لزالت هذه الغشاوة عن بصرها فعرفت لنا حقوقنا، ولزالت عن أبصارنا فعرفنا لها محاسنها؛ وما دام الاستعمار، فالرين على البصائر والغشاوة على الأبصار، وليس في طبائع الأشياء غير هذا. ... وإلى عقلاء العالم، وساقة القوافل البشرية نسوق الحديث، وإن كنا في شك من أن المادية الخبيثة أبقت في العقلاء معنى التعقّل، حتى يدركوا كيف يسعد الأقوياء بشقوة

الضعفاء، وفي مرية من أن الاستعمار ترك لأولئك الساقة وجهة غير وجهته التي يزاحم عليها سائق سائقًا، ويجاري فيها متخلف سابقًا: أنتم تحثون الركائب لغاية تزعمونها، وفي القافلة الكبرى أنضاء طلاح، إن لا تعوّق عن تلك الغاية تؤخر البلوغ إليها، فهلّا أذّنتم في أولاها بالأناة والتلبّث، وحدوْتم في أخراها بالعجلة واللحاق، حتى يتلاقى البطاء والسراع على الغاية؟ أما عملكم اليوم فهو مضاعفة لقوادم الطائر حتى يحلّق في الجوّ، وإضعاف لحركات الواقع حتى ينبَتّ في الدو. هل أتاكم نبأ أمة تعيش في زمنكم، بغير أدوات الحياة في زمنكم؟ وهل أنتم على بصيرة من وضعيتها الناشزة الغريبة الشاذة في نواميس زمنكم؟ هل أتاكم نبأ عشرة ملايين من سلائل البشر الراقية، تحكمها فئة تعادل عشرها، ليس بينهما من الجوامع إلا الآدمية، ولا من الصلات إلا صلة القوي بالضعيف، ولا من العلائق إلا امتصاص الأقل لدم الأكثر، وسمنه بهزاله، واعتزازه بإذلاله. إن هذه الملايين تُساس بقوانين لا رأي لها فيها، وبمجموعة من النُظم لا يد لها فيها، وبأنواع من الإدارات غابت عن وضعها، وهي موضع تنفيذها وبعُصَب من الرجال ليس فيهم واحد منها ... إلا واحد يمسك عنقها للذبح، وآخر يضرب بدنها للإرضاء. كيف ترجو هذه الملايين العدلَ أو تتخيله؟ وليس من أبنائها قاض مستقلّ في محكمة، ولا رئيس مسؤول في إدارة، ولا ضابط كبير في ثكنة، ولا حاكم كبير ولا صغير في مركز، ولا مدير حرّ في مصلحة، بل كل فرد منها خادم مطيع، وكل أجنبي عنها مخدوم مطاع، وكل الوظائف الرئيسية في وطنها محتكرة لغيرها، وكل المنافع الثابتة أو النابتة في أرضها محرّمة عليها. تشريك المواطنين في الرأي والحكم هو سمة زمنكم، ولكن هذه السمة مطموسة في الجزائر، وحرية المعتقدات والأديان هي شعار زمنكم، ولكن هذا الشعار لا يوجد في الجزائر، وحرية التنقّل هي مفخرة زمنكم، ولكنها معدومة في الجزائر، والمساواة في القانون والعدالة من ثمرات زمنكم، ولكنها محرّمة في الجزائر، والديمقراطية هي دعوى زمنكم، ولكنها باطلة في الجزائر، وحرمات المنازل والأعراض من تبجحات زمنكم، ولكنها مهتوكة في الجزائر، وعصمة الأبدان من الضرب والتعذيب من أكاذيب زمنكم، ولكن الجزائر أصبحت مدرسة عالية لتعليم النمط الرفيع من أنواع الضرب، وأساليب التعذيب وأصبحت تجارِبُه الأولى في أبداننا، ولولا هدير البحار، وصخب الساسة لسمعتم أنين المكلومين، ولامتزج في آذانكم حفيف السياط بالصراخ و "العياط"؛ وليوشكن إن تمادى زمنكم في التفنّن، ولم تبادروا جرثومة الاستعمار بالاستئصال- أن تستمرئوا لذة نيرون باحتراق روما،

وأن يهاجر أبناؤكم إلى الجزائر، للتخصص في فن التعذيب على أساتذته. نعم، نعم- ولا نُنكر الفضل- إن حرية الرذيلة من آفات زمنكم، وهي موجودة على أكمل وجه وأتمّ حال في الجزائر. ... ويحكم! إنكم لسائرون بهذه القوافل إلى الدمار، وإن حاديكم إليه هو الاستعمار، فعاملوه بالقطيعة تتواصلوا، واقضوا عليه قبل أن يَقضي عليكم. ويحكم! إن هذا العارض الذي تسمّونه الاستعمار ليس ذاتيًّا في زمنكم، ولا هو من طبيعته، فإن تركتموه حتى يُلبس العصر الجديد لبوسه كان عونًا عليكم، إن الزمان لا تؤمن غوائله وتقلباته، أم أنتم في أمان من الزمان؟! ... ويحكم! إن هذا الاستعمار الذي تؤيدونه، وهذه الديمقراطية التي تنوون إقرارها في العالم، أو إقرار العالم عليها، ضدان لا يجتمعان، فلماذا تغشّون أنفسكم، وتغشون العالم، وتكذبون على الحق؟ ويحكم! أحيوا العدل وانشروه، وأميتوا الاستعمار واقبروه، تكن الأمم كلها معكم بقلوبها، وعقولها، وأبدانها، وأموالها، وتأمنوا البوائق التي تخشون انفجارها، فإن لم تفعلوا فأيقنوا أن كل ما تنفقونه من جهد ووقت ومال في تمكين الاستعمار ضائع، ولا الحمد مكسوبًا، ولا المال باقيًا، ثم ما يزال بكم هذا الغول الذي تربّونه وتحتضنونه حتى يرديكم في هاوية. ... أفكلّما رثّ حبل الاستعمار، وتصدّع جداره، وأشرف على الفناء في حربين ماضيتين، جاءت أميركا حاضنة الديمقراطية، تكفكف دموعه وتنظّم جموعه، وترمّم جداره، وتعمر بالدولار داره؟ إن الأمم الضعيفة قد لُدغت من جحر واحد مرّتين، فاحذروا الثالثة، وقد أصبحت هذه الأمم تلقّب أميركا بلقب لا يشرّفها، وهو أنها (نصيرة الاستعمار). الاستعمار عمل أوّله ختل، وآخره قتل، وشر لا بقاء عليه، ثم لا بقاء له، ووحش مروّض آخر صرعاه رائضه؛ ومرض آكل يأتي على المكاسب، ويثني بالمواهب، ومخلوق

لئيم، يُدان ولا يفي، وينتقم ولا يشتفي، ويستأصل ولا يكتفي، ويجاهر بالسوأى ولا يختفي؛ وكنود، أوْلى الأيدي عنده بالقطع يد مُدّت بإحسان إليه. والمساواة عدل تنمو عليه الأخوة، وتنبعث منه القوة. والاستقلال تكافؤٌ في الآدمية، واحترام للإنسانية، وتبادل للمنفعة والخير، وتحقيق لسنّة الله. والعدل من الأقوياء هو الميزان الذي يُقرّ كل شيء في نصابه، ولكن أين هو؟ لم يبق إلا الحديث عنه، فحدّثونا عنه، فإننا نسيناه! ...

ويحهم ... أهي حيلة حربية؟ ..

ويحهم ... أهي حيلة حربية؟ .. * نشرت جريدة "الجزائر الجمهورية" اليومية الصادرة في 22 من الشهر الماضي تفاصيل جزء صغير من مؤامرة سرية واسعة، كشف الغطاء عنها النائب البرلماني الشريف جماد، في المجلس الوطني الفرنسي في جلسة 11 فيفري الماضي، وأعلنها كحقائق واقعية مضبوطة، بالأسماء الصريحة، والأماكن المعينة والإحصائيات المدقّقة، لاستعدادات هائلة بالأسلحة والذخائر الحربية، والأجهزة المتنوّعة، والوقود والسيارات، ورجال الاختصاص، حتى ليخيّل إلى قارئها أنها حملة حربية كاملة ... ولو لم يصرخ بها نائب برلماني مسؤول، يعرف ما يقول، على منبر مجلس الأمة، لقلنا إنها من نسج الخيال. وقرأنا تلك التفاصيل، على حالة بين الدهشة والاستغراب، وبين التصديق والتكذيب، حتى انتهينا؛ فإذا هي استعدادات تبعث الرعب والفزع في النفوس، وإذا هي تسليح جديد لطائفة كانت مسلّحة- قبل- بالحكم والمال، فكأنها إمداد لليث بناب فوق نابيْه، وتقويةٌ للقوس بقاب مع قابيْه، وإذا تلك الحملة كلها شر من شرور مخبوءة لهذه الأمة المسكينة العزلاء الجائعة العارية الحافية المجرّدة- عن عمد وإصرار- من كل أسباب القوّة، وإذا هي في شريعة هؤلاء الطغاة وفي نفسيتهم الخبيثة جزاء- مستحق- لهذه الأمة على ما بذلته من تضحيات مكفورة في سبيل فرنسا! ... وإن كشفها في قرية "فج مزالة" لا يعني أنها محصورة فيها، ومقصورة عليها، وإنما هو كشف لفرع من فروعها، واكتشاف لوكر من أوكارها؛ ومحال أن يكون هذا التدبير الشيطاني المحكم خاصًّا بفج مزالة، ولا خصوصية فيها تقتضي هذا. وتفلسفنا قليلًا- على حسب بساطتنا- لنرجّح اليقين على الشك، فقلنا: إن كشف هذه المؤامرة ونشرها يساوي كشف سر من أسرار الحرب شناعة ونكرًا، فإفشاؤها في

_ * نشرت في العدد 146 من جريدة «البصائر»، 12 مارس سنة 1930.

البرلمان، ونشر الجرائد لها، يصيّرها حقيقة واقعة، وسكوت الحكومة عن تكذيب ناشرها، وعن عقاب مُفشيها، هو إقرار لها، واعتراف بها، وتصديق بكل ما قيل عنها، وسمّه إن شئت- غير مكذب- "حكمًا بشرعيتها"؛ فإذا لم تصدق هذه الفلسفة العاقلة البسيطة- التي يَبْدَهُ بها كل عاقل- فلا بدّ من أحد جديدين: إما أن الأرض عمرت بالمجانين، وإما ... أن ملائكة الرحمة قد تنزلت على القوانين ... ورجعنا إلى الماضي نستقريه ونسأله، فوجدناه كله شواهد على هذا، ووجدنا أنفسنا- بعد زوال الدهشة- أعلمَ الناس بهذا، وأحق الناس بكشف هذا، لولا بلادة تُخالط، ونفوس تُغالط، فقد علَّمَنا أول هذه المكائد آخرها وأنبأنا ماضيها بمستقبلها، ونفضت هذه النفوس الخبيثة سرائرها على أقلامها الكاتبة، وألسنتها الخاطبة، فتركتنا لا نُخطئ وزنًا ولا تقديرًا. ... وقعت حوادث 8 ماي المريعة، ودارت رحاها في سطيف، وخراطة، وقالمة، وانجلت عن تلك الفضائح الوحشية التي تكفي وحدها لتلطيخ تاريخ فرنسا بالسواد، من تحريق للديار، وإتلاف للثمار، ونهب للأموال، وتقتيل للرجال، وتذبيح للشيوخ والنساء والأطفال، وانتهاك للحرمات الإنسانية، مما لو رآه فرعون لافتخر بفوات ما فاته منه، فقد كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء ... وانتظر العقلاء- بعد انحسار الغمرة- أن تكفر فرنسا عن زلة أبنائها (الممدنين المعلمين) بتحقيق يمهّد للعدالة، ويكون من ورائه ما يقمع الظالمين، ويرضي المظلومين، ويكفكف دموع البائسين، ولكنها لم تفعل ... وأستغفر الله، بل فعلت كل أسباب النكبات الواقعة بعدها والمتوقعة. ثم وقعت حادثة "دوار السطح" وهي نسخة مصغّرة من حوادث 8 ماي، أو ذيل من ذيولها، أعيد فيها تمثيلُ رواية نهب الأموال، واستباحة الأعراض وانتهاك الحرمات، وانتظر العقلاء من الحكومة شيئًا يعيد النوم إلى الجفون الساهرة، والأمن إلى القلوب الواجفة، ولكنها لم تفعل ... ثم وقعت حادثة "دوار علي بوناب"، وهي جزء من (ذلك البرنامج الحافل) وعلت فيها أصوات المتظلمين، وأوسعتها الجرائد بيانًا وتعليقًا، وانتظر العقلاء شيئًا من الحكومة، إن لا يكن إقرارًا للحق لا يكن إقرارًا للباطل، ولكن مواقفها من هذه الحوادث كانت متشابهة، كبقر بني إسرائيل، تصامًّا عن الحق، وتغطية للجريمة، ودفاعًا عن المجرمين، بل جاءت في هذه الحادثة الأخيرة ببدع جديد في باب المكابرة وإنكار المحسوس، فنسخت سنة "حسان الحق"، المنافح عن الحق، "بحسان الباطل" المنافح عن الباطل ...

من ذلك الحين فهمنا، وفهم كل العقلاء أن تلك الحوادث أمثلة من قاعدة وعنوان على كتاب، وآثار من عقيدة انطوت عليها نفوس هؤلاء القوم، واصطبغت بها أرواحهم الخبيثة، وهي أن دم المسلم هدَر، وعرضه مباح، وماله فيء، ودينه لهو، ولغته لغو، ومنظره قذى، وبدنه هدف تدريب على الضرب، وصراخه من الألم نغمات موسيقية. ... الحقيقة التي انتهينا إلى فهمها في العمليات، أن حادثة سطيف وما تفرّع عنها وما تبعها، لم تكن سماوية فتكون من سر الأقدار، ولم تكن جرح عجماء فتدخل في حكم "الجُبَار"، وإنما هي حوادث محكمة التدبير، مبيتة، مجمع عليها، من جامعة المعمّرين بإملاء رجال الحكومة أو ممالأتهم، ولم يبلغ بنا الجنون ولا الغفلة أن نعتقد أن الحكومة لم تكن على علم بكل مكيدة قبل أن ترجف راجفتها، لأنها تتمتعّ بحاسة في (الشم) لم يهبها الله لمخلوق. وإذا قلنا: "الحكومة"، فإننا لا نعني رجالًا يحملون ألقابًا عالية، ويقتعدون مناصب رفيعة، ويذهب الواحد منهم فيخلفه آخر، وإنما نعني هذا الجهاز الاستعماري الثابت المقيم الذي لا يبرح، من موظفين صغار، ومعمّرين كبار، فهؤلاء في الجزائر هم الحكّام وهم الحكومة، وهم الحكم، وهم كل ما يتصرف من هذه المادة، لا نستثني إلا المحكوم والحكمة والحكيم، فليس فيهم محكوم، بل كل واحد منهم حاكم بأمره، وليس فيهم حكيم بل كل واحد منهم جبّار في الأرض، وليس في أعمالهم حكمة، وإنما هي ظلم، تمدّه قوّة، يمدّها استعلاء، تمدّه عنصرية رعناء. ولم تكتفِ الحكومة بالسكوت على الفضائح التي اجترحها هؤلاء القياصرة في حوادث ماي وما تبعها، بل بالغتْ في تدليلهم بالبكاء على موتاهم، والتعزيات الرسمية والوعود الصريحة بالانتقام من قاتليهم، والإنعام على رؤسائهم بالنياشين والترقيات، على أننا نعادل كل قتيل منهم بآلاف القتلى منا، كل ذلك من غير أن تعطي موتانا لفتة مجاملة، أو تصدر منها لأحيائنا فلتة من حسن المعاملة، وكل ذلك كان في وقت لم تجف فيه دماء أبنائنا في مواطن الدفاع عنها، وانتزاع النصر من أعدائها، وكنّا نرضى الرضى كله لو فتح التحقيق ونصب ميزان العدالة، وتبين المجرم، ونحن- بعد ذلك- أهل العفو وأهل المغفرة. ولم تكتفِ الحكومة بذلك ... وكأنها رأت أن عدد القتلى منا لم يبلغ النصاب المقرّر، فحكمت محاكمها العسكرية على العشرات بالإعدام ونفّذته فيهم، وكأن ذلك كله لم يشفِ غليلها، فسنت قانونًا متنه من وحي الرومان، وشرحه من فقه الإسبان، يقضي بمنع أيامى

القتلى من التزوّج، وبعدم قسم المواريث المتخلفة عنهم، وبعدم السماح لأهل البر والإحسان بتبنّي يتاماهم ... أفلا نعذر بعد هذا كله إذا فهمنا أن تلك المعاملات تنشيط للمجرمين، وتشجيع لهم على العودة إلى اقتراف أمثالها؟ إن مكيدة "فج مزالة" المكشوفة لمصداق لفهمنا واعتقادنا. أفلا نُعذر إذا أيّدنا فهمنا هذا بخروجنا من السجون والمعتقلات في حوادث 8 ماي ... فقد أطلقوا سراحنا باسم العفو والامتنان، كأننا مجرمون ألحفنا العفو، لا مظلومون برّأتنا العدالة. ... وجمعية العلماء كانت أول طعمة لنار تلك الحوادث، وكان حظها من السجن والاعتقال أوفر الحظوظ، وها نحن أولاء نقلب الطرف في هذه القائمة "المزالية" فنجد أكثرها من رجال جمعية العلماء وأنصارها وأعوانها على الخير، فهذا الشيخ عبد المجيد حيرش وأسرته، تكاد تستوفيهم القائمة عدًّا، والذي نعرفه ويعرفه كل الناس أن هذه الأسرة بعيدة عن السياسة قريبة من العلم، فلا ذنب لها عند الحكومة إلا انتسابها لجمعية العلماء، ولا ذنب لها عند "الكولون" إلا احتفاظها بقطع أرض في بحر لجيّ من أملاك المعمّرين، وقد تلقّت هذه الأسرة في حوادث 8 ماي ضريبة قاسية، فأودع رجالها السجون واستؤصلت نعمتهم، وانتهبت نقودهم وذخائرهم، وذبحت أنعامهم، مع بعدهم وبعد ديارهم عن مسرح الحوادث، والشيخ عبد المجيد حيرش عضو في جمعية العلماء، منقطع للعلم والتعليم، مدرّس بالمعهد الباديسي في قسنطينة، فما شأنه في القائمة السوداء ... المكشوفة حديثًا؟ لا عجب ... فلو كشفت بقية القوائم لوجدنا رجالَ الجمعية منزلين في منازلهم منها ... ... إن الشعب الأعزل محكوم عليه بالموت شاهدًا وغاًئبا، وإن الشعب الذي لا يشارك أبناؤه في الإدارات الحاكمة، ولا رأي له في تشريع ولا تنفيذ، لا ينتظر إلا أمثال هذه الحالة، يحيا مع الحيّات، فيجاورها وتجاوره، وهو لا يدري متى تساوره، ويعطيها من دمه، فتعطيه من سمّها. وإذا كان في الغرابة غريب فهاكه: اقرأ ما كتب عن مكيدة "فج مزالة" فإذا وصلت إلى قوائم "الميلسيا" (1) فإنك ستجد في آخر كل قائمة اسمًا عربيًّا أو اسمين ... كأنهم جعلوها

_ 1) الميلسيا: الميليشيا.

تمائم للتعويذ من العين، أو معاذير عما يرتكب من العار والشين، ونحن نعلم من سرّ ذلك وحكمته وآرابه المخبوءة ما إن أهونه تضرية المسلم على قتل أخيه، وما لهم- خيّبهم الله- يُشركون أدنياءنا في الظلم، ولا يشركون أعلياءنا في الحكم؟ ورجعنا إلى الشعر نستلهمه العزاء والسلوى، وننتزع منه الشواهد والأمثال، فذكرنا قول الأول: وما من يد إلا يد الله فوقها … وما ظالم إلا سيُبلى بظالم وقول الآخر: أين عاد؟ أين فرعون؟ ومن … ملك الأرض وولّى وعزلْ وقول الأخير في نصوص هذه الشريعة: قتل امرئى في غابة … جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل … مسألة فيها نظر وقول الآخر يخاطب عيسى: خلطوا صليبك والخناجر والمُدى … كلٌّ أداة للأذى وحِمامُ ... لك الله، أيها الشعب المعذّب، لقد هُنت عليهم حين هُنت على نفسك إنهم ما ضربوك إلا بعد أن جربوك، وما جرفوك إلا بعد أن عرفوك، وما جنوا عليك واتهموك إلا بعد أن قرأوك وفهموك، فلا تلمهم، ونفسك فلم، وغيِّرْ ما بنفسك وهلمّ ... أعنتهم في إفساد دينك وأخلاقك فارتفعوا وانحدرت، وأعنتهم على إفساد دنياك فاستغنوا وافتقرت، واجتمعوا وافترقت، وانتظموا وانتثرت، وجرّوك بمغوياتهم ومغرياتهم فانجررت، فإذا كان القوم قد أمنوا بوادرك فلأنك عوّدتهم ذلك من نفسك، وإذا كانوا قد أمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. إن القوم لا يدينون إلا بالقوة، فاطلبها بأسبابها، وأْتِها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخذهما بقوّة تعش حميدًا، وتمت شهيدًا. بالأمس كانوا يعتمدون عليك ليحيوا، واليوم هم يأتمرون بك ليقتلوك، وما شر من الأولى إلا الثانية، فهل في وسعك الخلاص من الاثنتين؟ ***

أيها القوم! أين البطولة؟ إن البطل من يقرع الحديد بالحديد، لا من يقرع الحديد باللحم والدم. أين الشرف؟ إنه لا محمدة في قتل الأعزل، فادّخروا السلاح لأهل السلاح، وعند جنوبكم (2) من مواقعه الخبر اليقين. أين العهد؟ إن هذا الشعب قاتل دونكم، وذبّ عن حرماتكم، وشارك في تحرير أوطانكم، وزفّ لكم النصر منظوم الأكاليل، أفمن حُسن الجزاء أن تقتلوا من أحياكم؟ ومعذرة منه إليكم ... فإنه لم يكن يدري حين نصركم على عدوّكم أنه نصركم على نفسه أيضًا. إنه منطق سخيف لم يتعلّمه، وأدب حيواني لم يؤدبه به دينه وتقاليده، وعرق خبيث لم تُدَسِّه فيه أعراقه الكريمة. أتقتلون من كان لكم بالأمس حارسًا أمينًا؟ إن قتل الحارس معناه استدعاء اللص. فأبشروا بتداعي اللصوص المبيرة، والحشود المغيرة. ويومئذٍ تدعونه، فلا تجدونه.

_ 2) وعند جُنُوبكم: إشارة إلى اكتساح ألمانيا لفرنسا في الحرب العالمية الثانية في مدة قصيرة.

أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية؟

أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية؟ في كل نادٍ أثر من ثعلبة * ــــــــــــــــــــــــــــــ وثعلبة - في حديثنا اليوم- هو روح لا شخص، هو روح من الأرواح الخبيثة، التي تعتري طائفة من الثعالى الخبيثة، لأغراض خبيثة. أما الروح فهي الاستعمار الذي أصبح كالسل في الملازمة والتعاصي عن الطب، وفي الفتك في آخر الأمر ... وكما يبتلي السل الأجسام الضعيفة القابلة لسريانه وتأثيره، لأنها غير محصّنة بقوّة المقاومة في الدم، يبتلي الاستعمار الأرواح الضعيفة القابلة لوسوسته وسحره، لأنها غير محصّنة بقوة الإيمان، ومتانة الخلق، وسموّ الهمّة، والشعور بالكرامة والشرف، وما زال للاستعمار في هذه الأمة حق معلوم من هؤلاء الثعالى ... وهم فئة استفزّها الشيطان بصوته فنزر حظها من الإيمان والشرف، فأعطت قيادها للشهوات والمطامع. فقادتها إلى الاستعمار، فكانت حظه منّا، وكأن الله قال للاستعمار ما قاله للشيطان: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ}؛ فكلما قامت في الوطن حركة صالحة، وخشي منها على سلطانه أن ينهار، وعلى ليله أن ينسخه النهار، رماها منهم بواحد كالجماعة في باب التهويل، أو بجماعة كالواحد في باب التعويل، يحاولون نحت صخرتها بالأظافر، وإطفاء جمرتها بالألسنة، والحط من قيمتها بالكذب، وإشاعة قالة السوء فيها بالوقاحة؛ وكلما خاب رهط، عوّضهم برهط، فلا عددهم ينفد، ولا الخيبة تعظ، ولا الاستعمار يرعوي، وقد شهدنا كل هذا في مقاومته لجمعية العلماء في مبدأيها الأساسيين: فصل الدين، والتعليم العربي. كانت حكومة الجزائر الاستعمارية تحارب جمعية العلماء بالكيد المغلّف بالقانون، والقانون المبطّن بالكيد؛ ولكنها كانت كلما جاءت بآبِدة، وأحكمت تدبيرها، قدّر الله تتبيرها، فرجعت إلى مقاومتها بنوع من جنس عملها:

_ * نشرت في العدد 152 من جريدة «البصائر»، 23 أفريل سنة 1951.

في الرسميات بهذا التعليم العربي الميت الذي أحدثته، أو الذي تريد أن تحدثه، وتكثر له من المدارس والأقسام، وتريد أن (تنظّمه) بالقرار الأخير الصادر من الوالي العام السابق الذي هو قتل لما بقي من التعليم العربي، وفي غير الرسميات بهؤلاء الرهط الذين تنتدبهم (لمنافسة) جمعية العلماء في أنواع عملها، فهذا مرشد، وهذا واعظ، وهذا مفسّر للقرآن في المساجد وفي المجلّات، وهذا معلّم، وهذا صحافي ... وقد رفعتهم جميعًا إلى أسفل، ونصبتهم أعلام مقاومة، وفتحت لهم مغارات تضليل، سمّوها كليات، وبسطت أيديهم وألسنتهم وأقلامهم بالسوء، وهي من ورائهم تتوارى بهم، كما يتوارى سائق الحمار بالحمار، ثم يَخِزُه ليندفع على غير هدى الغريزة الحمارية، فلا يفهم الناس إلا أن وراء الحمار سائقًا، وأنه يسوقه إلى ما ليس في طبعه، أو ليس في قدرته. ولو كان هؤلاء الرهط على شيء من الإخلاص واستقلال الإرادة لكانوا مزيدًا فينا، ولشفع الإخلاص في نقص الكفاءة، ولهداهم حب الخير لأمّتهم إلى تأييد الحركة القائمة بكلمة الخير أو بالسكوت؛ ولكنهم مسخّرون لهدمها، غافلون عن العاقبة الحتمية، وهي أنه إذا تمّ لمسخّرهم شيء مما أراد منهم، عاد عليهم فهدمهم. ... من هؤلاء الرهط (مخلوق) في بسكرة و (مخلوق) في تونس، هما هدف حديثنا اليوم، ونمسك عن البقية إلى أن يحين حينهم، تربط بين المخلوقين صلات قديمة، فيها ما هو لله، وصلات جديدة، كلها للشيطان، وقد أوحى الاستعمار إلى المخلوق البسكري أن ينشئ مدرسة ويضع لها اسمًا يغري، وبرنامجًا يغرّ، وأن يتولّى هو الظواهر التي يراها الناس، ويكل السرائر إلى من "يراكم هو وقبيله"، وكان العربون في هذه الصفقة الخاسرة، تقديم المحل نقدًا، وأشياء أخرى نقدًا ووعدًا؛ وأوحى إلى المخلوق التونسي أن ينشئ صحيفة يضع اسمه واسمها في أعلاها، ويترك أوديتها مجرى للقاذورات. وقد قام كل مخلوق منهما بما أوحي إليه على حدة، ثم التقيا على قدر ... وتعاونا على الإثم كما أشار "المعلم" وأمر، فكان منهما هذه الافتراءات التي ينشرانها عن جمعية العلماء، وهذه الأكاذيب المتعمّدة التي لو انفصل فيها لسان كل منهما عن قلبه لكذب القلب اللسان؛ ونحن نعلم أن هذه الأكاذيب صادرة عن مخلوق بسكرة، لأنه (خُلق) لمثلها، ومنشورة- بالأمر- من مخلوق تونس، لأنه (أنشئ) لنشر أمثالها. وقد سكتنا عن الأولى احتقارًا لأحدهما واستصغارًا للآخر، فلما تماديا وجب علينا أن نلقمهما حجرًا، ونلقّنهما درسًا، إن لم يكن زجرًا لهما، فموعظة لأمثالهما.

وبعيد أن تضلّنا هذه الأسماء التي تُنعَل بها المقالات عن المجرم الحقيقي، المركّب من رجلين: صاحب مدرسة بسكرة، وصاحب جريدة "أفريقيا الشمالية" وما أفريقيا الشمالية إلا هذا المضطرب الضيّق الذي تضطرب فيه هذه الصحيفة وصاحبها، من قرية هنا إلى خيمة هناك، ومن فرد في تونس إلى أفراد في الجزائر، وما مبدأُها الذي تسير عليه إلا الترويج للمتاع المرذول، والانتصار للفريق المخذول، والنطح للصخور، وإن أوهت القرن، والحرق للبخور، ولو في لهيب (الفرن)، ثم الاستنجاد بالفلول، والانتساب بين عامر وسلول. وما هذه الأسماء التي تُنسب إليها المقالات؟ إن بعضها خيالي، استعير للتستّر، وبعضها من جِراء السوء الذين ربّتهم جمعية العلماء وعلّمتهم وأنفقت عليهم، ولولاها لما كانوا، ولا عرفوا القلم والكتابة، ولكنهم كفروا نعمتها، وعقوا أبوّتها، لفساد في الفطرة لا تقوى التربية على إصلاحه، وهي تحمد الله على أنه ليس كل أبنائها (أبا قصّة). ... تثير هذه الصحيفة الغبار حول تعليم جمعية العلماء للبنت المسلمة في مدارسها، وترميها - إفكًا وزورًا- بالعظائم، وتختلق من الوقائع ما يهدي البُلْه فضلًا عن العقلاء إلى قصدها من ذلك ومرماها، وتتصنعّ الغيرة على أعراض المسلمات أن تنتهك، وعن الحرمات الإسلامية أن تُهان، وتستعدي السماء والأرض على جمعية العلماء لأنها عرّضت الأعراض المصونة للتمزيق، وتتباكى على الإسلام حتى يوشك أن ينقلب مدادها دموعًا. وكل ذلك كذب، وكل ذلك بهتان يأتفكه الشريكان، اتّباعًا للوحي الأعلى، واستدرارًا لأجور مطففة، يتقاضيانها من مصدر ذلك الوحي. وهل كفرت الجرائد العربية كلها بالإسلام وتنكّرت له، فلم يبق إلا هذه الجريدة مؤمنة به منتصرة له؟ وهل جفّت كلها من الغيرة عليه، فلم تبقَ إلا هذه الجريدة تغار عليه، وهل تواطأت الجرائد العربية كلها على الرضا بهذا المنكر فخرقت جريدة (أفريقيا الشمالية) اجماعهنّ، وكانت أمة وحدها في تغيير المنكر. لا شيء من ذلك، وإنما هي خطة مرسومة، وأعمال مقسومة، وأوامر تقابل من أفراد المأمورين بالطاعة، وتوجيهات إلى الشر افتقرت إلى لسان حال، فكانت هذه الجريدة هي لسانه "الرسمي" فلم يبقَ من صفات التعريف بها إلا أن يكتب على وجهها: "صحيفة أسبوعية لنشر الأكاديب والدفاع عن الرذيلة، وتشجيع الدجّالين ومحاربة الصدق والصادقين"، ولعنة الله على الكاذبين.

ما لهؤلاء الرهط- أنصار الأعراض- يسكتون عن أعراض عشرات الآلاف من المسلمات المستخدمات عند الأجانب؟! ما لهم لم تتحرّك غيرتهم على عشرات الآلاف من اللواتي يملأن المواخير؟! ما لهم عميت أبصارهم وبصائرهم عن هذا السيل من التعليم الاستعماري الجارف المتوجّه إلى البنت المسلمة على الخصوص، لينتزعها من الخدر، وينزع عنها لباس الفضائل الإسلامية؟ أين كانوا- لا كانوا- من أفواج البنات المسلمات، طرائد البؤس، وفرائس التبشير المسيحي، وهنّ تحت أسماعهم وأبصارهم؟! كأن هؤلاء المسلمات كلهن في كنف الصيانة، وكأن أعراضهن في حماية عمر بن الخطاب من أمثال نصر بن حجاج، فلم يبقَ معرضًا للانتهاك إلا بضعة آلاف ممن يتعلمن في مدارس جمعية العلماء. كذبتم وفجرتم- أيها الرهط-. إن جمعية العلماء حاربت الرذيلة جهارًا، وحاربت دعاة التحلل الأخلاقي كفاحًا، ووقفت من التبشير وغيره مواقف مشهودة، وإنها تعلّم البنت المسلمة العلم والعفاف، وتربّيها على الكرامة والشرف، علمًا بأن العلم الديني هو رائد العفاف، وأن الجهل هو سبب انحدارها إلى ما ترونه وتتعامون عنه، وإن جمعية العلماء- لما بلته من أمثالكم من فساد الأخلاق- تبالغ في الاحتياط، وتسرف في التشدّد، وتعاقب على الظنة والتوهّم، قمعًا لغرائز الشر، وسدًّا لذرائع الفجور، وإن في بعض من تشيرون إليه منتصرين ممن فصلتهم عن التعليم، من كان سبب فصله هذا الاحتياط. نحن نعلم أن الدوافع الخارجية والداخلية هي التي دفعتكم إلى هذا التقوّل وإشاعة هذه الافتراءات، وكنا نعرض عنكم لو كنتم مميزين، أو كنتم تؤثرون الستر على أنفسكم، فلا تجمعون بين الكذب وبين الافتضاح به؛ ولكنكم مدفوعون مأجورون، والمأجور لا يقف عند حد، والمدفوع لا يملك التماسك؛ فوجب أن نفضحكم، وأن نبلغكم من الفضيحة ما أردتم، ومن رضي لنفسه ما رضيتم لأنفسكم من لؤم التوقح، فليصبر على ألم الكي، وان أحرق وأنضج. الحقيقة- أيها الرهط- أن الاستعمار متشائم بحركات جمعية العلماء كلها، لأنها إيقاظ لشواعر الأمة، وإحياء للفضائل الإسلامية في أنفسها؛ ومتشائم- على الخصوص- بتعليمها للبنت المسلمة، لأن نتيجته تكوين بنت صالحة، تصبح غدًا زوجة صالحة، وبعد غد أمًّا صالحة؛ وهاله أن تعمر البيوت- ولو بعد حين- بالصالحات، فيلدن جيلًا صالحًا صحيح العقائد، متين الإيمان، قويم الأخلاق، طموحًا إلى الحياة، فتطول به غصّته، ثم تنتهي به قصته ...

والاستعمار- كما لا تعلمون- بعيد النظر، عارف بما للمرأة في أمتها من الأثر، فهو - لهذا- حرّككم، وما زال يحرّككم لإثارة هذا الغبار الأسود في وجه جمعية العلماء، وهو الذي اختار لكم من بين المواضيع الكثيرة هذا الموضوع الشائك، لأنه قدّر له نتيجة - وأخطأ في تقديرها- وهي تشكيك الأمة في أعمال جمعية العلماء، وإحداث أثر من سوء الظن في نفوسها، وتكون النتيجة زعزعة ثقة الأمة بالجمعية في خصوص تعليم البنت وإعراضها عن هذا النوع من التعليم، وتكون النتيجة النهائية رجوع المرأة المسلمة إلى الجهل ثم إلى الفجور، أو إلى هذا الاسترقاق الذي يسمّى استخدامًا ... هذا حظ الاستعمار من جهل المرأة المسلمة بدينها ولغتها، وهذه هي النتيجة التي نَعِم بها حينًا من الدهر لو لم تكدرها عليه جمعية العلماء بهذه البداية التي عرف نهايتها، وهذا أحد الدروس التي يجب أن يتلقّاها الأغرار مثلكم، من المجرّبين أمثالنا، لو هيّأ الله لكم من أمركم رشدًا. وهناك نتيجة ثانية لجهل البنت، نراكم أحرجتمونا إلى بيانها إحراجًا مؤسفًا، وهي نتيجة تُشبع شهواتكم وحدكم، ولا يأمر بها الاستعمار، ولكنها لا تسوءُه إن حصلت وهي حقيقة يندى لها الجبين خجلًا لو أبقت الوقاحة فيكم قطرة من حياء. أتدرون ما هي؟ هي ... أننا أدركنا وأدركتم أقوامًا منّا كانوا يأخذون البنات المسلمات هدايا بلا صداق، ويعاملونهن كالسبايا بلا عتاق، ثم يتركونهن محبوسات بلا طلاق. ويجاوزون في هذا الباب كل حدود الشرع، وما زال من بقاياهم من يتزوج في غرة كل شهر، ويطلق في انسلاخه، فلما جرف الإصلاح هذه الضلالة بقي في نفوسكم حنين إليها وتحرّق عليها، وتمنٍّ لعودتها، فأنتم بممالأتكم للاستعمار وإعانته على تجهيل البنت المسلمة- إنما تحلبون حلبًا لكم شطره وتعملون عملًا- لشهواتكم الخسيسة إحدى نتيجتيه؛ ولكم الويل فقد أخطأت أستاهكم الحفرة، وإذا نزلت الأمة بأولئك الأقوام من درجة التأليه إلى درجة البشرية، فكيف لا تنزل بكم من البشرية إلى جهنم؟ ...

كلمتنا عن إدارة البريد

كلمتنا عن إدارة البريد * كتبنا في العدد 149 من «البصائر»، الصادر يوم 2 من شهر أبريل، كلمة (1) عن ضياع كثير من الجرائد والمجلات الشرقية التي تبادل «البصائر»، وعزوْنا بعض أسباب الضياع إلى إدارة البريد الجزائرية، لتقصيرها في التوزيع أو لقصورها في العربية، أو لخضوعها لبعض المؤثرات السياسية؛ وكل ذلك مما يمسّ كرامتها كإدارة مؤتمنة على الأموال والأسرار والمصالح، وقد كان لتلك الكلمة أثرها في الإدارة العليا المسيطرة على مصلحة البريد فكتب إلينا السيّد كاتب الولاية العام، الرسالة التالية: الجزائر في 18 أفريل سنة 1951 سيّدي المدير، أتشرّف بإعلامكم أنه لفت نظري مقال "صحف الشرق العربي" المنشور في عدد ثاني أفريل من جريدتكم ... وإنني أعطي- الآن- أوامر باتخاذ تدابير خاصة لتمكينكم- في سرعة وانتظام- من الدوريات والمنشورات التي حرّرت عناوينها باللغة العربية. وتفضلوا- سيدي المدير- بقبول فائق احتراماتي. الإمضاء ونحن نشكر لحضرة السيد الكاتب العام للولاية عنايته بهذه القضية، ونرجو أن تكون ذات أثر ملموس، وليسمح لنا أن نفتح معه بابًا من الحديث في أطراف هذه القضية ليعلم حضرته- إن لم يكن يعلم- أن هذه المعاملة الشاذة المنافية للحرية وللمصلحة معًا، ليست

_ * نشرت في العدد 153 من جريدة «البصائر»، 30 أفريل سنة 1951. 1) نُشرت في الجزء الثاني من "آثار الإمام"، [ص:395].

خاصّة بالصحف التي ترد علينا، وليست خاصّة ببريد العاصمة، بل هي عامة في كل علاقاتنا بالبريد، وفي كل مركز من العمالات الثلاث لنا فيه علاقة بالبريد. فقرّاء «البصائر» في الشرقين: العربي والإسلامي، وأصحاب الجرائد التي تبادلها بالبصائر، كلهم يشكون عدم انتظام وصولها إليهم، وأنه لا يصلهم من العشرة إلا عددان أو ثلاثة أو خمسة، وقليل منهم من تصله العشرة كاملة. ومن العجيب أن الأعداد التي لا تصل إلى واحد منهم، هي- بعينها- التي لا تصل إلى معظمهم، ونستبعد جدًّا أن يكون التعطيل صادرًا من إدارات بريدهم، إذ لا داعي إلى ذلك، وقد بحث أولئك القرّاء وأصحاب الجرائد، وراجعوا المسؤولين عن البريد في أوطانهم، فتحقّقوا أن التعطيل ليس داخليًّا، وقد انتقدت «البصائر» بعض ملوك العرب وأمرائهم انتقادًا مرًّا، فلم يجرؤ واحد منهم على منع دخولها ورواجها في مملكته، لا لشيء إلا التأثّر بالحرية، والاحترام لـ «البصائر»، والاعتراف بمكانتها، هذا وهم ليسوا "جمهوربين". وهنا في الجزائر نذكر للسيد الكاتب العام مثالين اثنين مما يجري في بلدة واحدة جزائرية، وهي بلدة "تبسة". ولا نذكر له منع «البصائر» من دخول المغرب الأقصى، فذلك إجراء عسكري ليس من اختصاصه، وإن كنا نعتقد أنه إجراء لم يقع في زمانه ولا في مكانه، وهو- مع ذلك- لا يُسكتنا عن كلمة الحق. ففي هذه الأيام تُشترى الجرائد اليومية المصرية الرائجة في باريس برسم الشيخ العربي التبسي وبماله، وترسل إليه باسمه وعنوانه في تبسة، ومن باريس لا من مصر، ولكنها لا تصل إليه، ويراسل المكلفين بشرائها وإرسالها، فيجيبون- وهم ثقاة- بأنهم أرسلوا المجاميع في حينها، وليست المسافة بالبعيدة، ولا بريد فرنسا بمختلّ النظام، إلا أن يكون في البريد شيطان مريد ... ومنذ سنتين كنا نلقى العناء حين نريد الاتصال بالشيخ العربي التبسي. أو يريد هو الاتصال بنا بواسطة رقمه التلفوني، فلا نسمع في أغلب الأوقات إلا أن الجهاز فاسد، أو أن صاحبه لم يجب، ونحن نعلم- يقينًا- خلاف ذلك، وقد نكون معه على اتفاق تجريبي، فيكون حاضرًا ويكون الجهاز صحيحًا، ولكننا لا نسمع في الأغلب إلا نفس الجواب، ولا يسمع هو إذا طلب إلا كلمة "لم يجب"، وكتبنا كلمة في «البصائر» بعنوان "الرقم السجين" (2) فلم تفد، حتى اضطرّ الشيخ التبسي في الأخير إلى قطع جهازه التلفوني، وهو في حاجة أكيدة إليه فرارًا من المغرم، بدون مغنم. ...

_ 2) نُشرت في الجزء الثاني من "آثار الإمام"، [ص:303].

العالم- يا جناب الكاتب العام- سائر إلى الاتصال، تحثه الحياة، وتدفعه المصلحة، شئنا أو أبينا، ويوشك أن تصبح الكرة الأرضية دارًا واحدة فلا تكونوا عرضة لسيره، وقد اجتمع الخير والشر على وصل أجزائه، واجتمع الولاء والجفاء، والسلم والحرب على التقريب بينهما، فزويت أطرافه المتباعدة بالراديو والسينما والطيّارة والمدرسة والكتاب والجريدة والطب وجمعية الأمم ... والجوسسة ... والميكروب ... وإن الزمان قاهر غلّاب بأطواره وظروفه، وأحكامه وصروفه، وقد حكم على الأحياء أن يتّصلوا على الطوع والكره، وأن يسيروا في ركابه على السخط والرضى، وأن يتلاقوا على أحداثه في الحياة والموت، وها هي ذي دماء الأضداد تُسيلها الحرب في الشرق الأقصى، وها ذا عرق الجهد يصبه السلم في أمريكا، وما عن رضى سالت تلك الدماء في صعيد واحد، ولا باختيار تصبّب ذلك العرق في ميزاب واحد، ولكنه حُكم الزمان ... فسايروا العالم، وجاروا الزمان، وافتحوا أبواب الاتصال، تسدّوا باب النقد، وتدفعوا ظنون السوء، وتربحوا أكثر مما تخسرون، ومن العجيب أنكم تعرفون كل هذا، ولا تعملون بشيء منه. ... إن بين النصح والنقد فارقًا من هوى النفس، وإن بين العدل والجور فاصلًا من الأنانية، وإن لكلمة الحق ثقلًا يخفّفه الإنصاف، ومرارة تحلّيها سعة الصدر، وإن لكلامنا عندكم شرحين، شرحًا يُمْليه الحق وشرحًا يُمْليه الباطل، فكونوا ما شئتم! ...

جمعية العلماء والمغرب العربي

جمعية العلماء والمغرب العربي مراكش الجزائر تونس ليبيا

أفي كل حي، عبد الحي؟

أفي كل حي، عبد الحي؟ مؤتمر الزوايا بعد مؤتمر الأئمة * ــــــــــــــــــــــــــــــ سكتنا حتى تمّ الأقنوم الثالث، وها نحن أولاء نطقنا. ونحن حتى في هذا المقال نبين حقيقة، ونكشف عن دسيسة؛ ولا نريد أن نفتح به بابًا للخصومة، إذ لا خصم لنا إلا الاستعمار الذي قضى على ديننا ولغتنا، وأتى على مؤسساتنا الدينية وأوقافنا بالاقتلاع والابتلاع؛ وقد سكتنا عن رجال الزوايا منذ عشر سنين وسكتوا، وفاء كثير منهم إلى الحق؛ وانصرفنا إلى التعليم، فأعان بعضهم بالتنشيط القولي، وبعضهم بالسكوت، وبعضهم بتقديم أولادهم للمدارس. أما الأئمة فهم مغرورون فيما أتوا هذه المرة إلا واحدًا أو اثنين، تعودت الحكومة أن تخطط لهما فينفذا. وأما رجال الزوايا فلولا ذلك العاملُ الجليب لما أقدموا على ما أقدموا عليه؛ وان ما أقدموا عليه لعظيم. ولا يجوز السكوت عليه. غير أنّ في الفريقين استعدادًا لمثل هذه المواقف، وقابليةً للانجرار، فإذا كان في المقال شدة فهي صلابة الحق، وإنّ فيها لدوافع لهم من تلك العلة لو كانوا يعقلون. ولقد نعلم أن مما ترمي إليه الحكومة وتبتهج به، فتح واجهة جديدة للنزاع مثل هذه، وأن تغري بين رجال الدين كما أغرت بين رجال السياس فتشغل البعض بالبعض وتستريح، ولسنا بمبلغيها قصدها إن شاء الله ثم شاء قومنا ... أسلوب قديم من أساليب الإدارة الاستعمارية بشمال أفريقيا، جرّبته في أيام الغفلة والأوهام فنفعها، فلم تنسه حتى في أيام اليقظة والحقائق؛ فهي تستعمله كلما ألحت الأمة في المطالبة بحقوقها الدينية والسياسية، وتستخدمه كلما سدّ عليها المطالبون منافذ الشبهات

_ * نشرت في العدد 31 من جريدة «البصائر»، 12 أفريل سنة 1948.

بالبرهان، وتلجأ إليه كلما تقاربت صفوف الأمة وأوشكت أن تتراص، لترميها منه بالخلل والخلاف والتضريب والتشغيب. هذا الأسلوب هو أنها تعمد في الأزمات إلى سلاح مفلول أكله الصدأ، فتنفض عنه الغبار وتصقله وتجلوه وترمي به في الميدان، والعجيب أنها تفعل ذلك وهي ليست على ثقة من نجاحها به ولا من نجاحه بها ... وما هذا السلاح في حقيقته إلا طائفة رباها الاستعمار على الطمع الخسيس، وما يلده الطمع من خنوع واستكانة، وراضها على التقليد له والائتمام به، وطبعها على الإخلاص له والتفاني في خدمته، وسلخها من هذه المعاني التي يعتز بها الرجال، من الضمير الوطني، والشعور الديني، والقيمة الشخصية، والإرادة المستقلة، ودرجها في مدارج (التسليك) الحكومي إلى مقام التجرد والفناء؛ فلما تمّ له ذلك منها، وأصبحت منه كالميت من غاسله، صرفها في أغراضه، وسخرها في مصالحه، واتخذ منها وسائل لغاياته؛ فتارة يثير بها الغبار في وجوه العاملين، وتارة يلهي بها الأمة والألسنة والمجالس، ليشغلها بالباطل عن الحق وبغير المفيد عن المفيد؛ وتارة يقيم منها ضرارًا للحق وضرة لأهله، وهو في كل ذلك يلتمس بها ما يلتمسه المبطل إذا خانته الحُجة. لا تعجب إذا كان الاستعمار لا يجد مبتغاه إلا في طائفة مخصوصة هي المذكورة في العنوان، ولكن تأسف لهذه الطائفة التي تمكن للاستعمار أن يعبث بكرامة الدين، فيستخدمها باسمه، وأن تكون لها- مع هذا- دعوى في الدين ولو كدعوى آل حرب في زياد، أو نسبة إليه، ولو كنسبة عقبة ابن أبي معيط في أمية (1). ... عرفنا هذا من الإدارة الاستعمارية حتى ما يغالطنا فيه أحد؛ وعرفنا من هذه الطائفة أنها كانت في تاريخ الاستعمار طلائع لجنوده، وأعمدةً لبنوده، وشباكًا لصيده، وحبائل لكيده، وأنها كانت وما زالت، في المواقف الوطنية والأزمات القومية، داعية هزيمة ووسيلة تخذيل، وأنّ من المخجل أن نسمي أفرادها أناسيّ تعقل وتعي وتشعر؛ وإنما هي آلاتٌ وأدَوات تسخّر

_ 1) عقبة ابن أبي معيط ابن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، كان من أسارى بدر، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق الظبية في رجوعه إلى المدينة أمر فقتل صبرًا وخلبًا ولما أيقن أنه مقتول قال: أأقتل من بين قريش صبرًا، فقال له رسول الله: إنما أنت يهودي من أهل صفوريا، لأن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من صفوريا، وقال له عمر: (حنَّ قِدْحٌ ليس منها) يعني أنه ليس من قريش.

وتسير، وعرفْنا في قائدها الجديد، وحامل رايتها عبد الحي الكتاني، أنه كالدرهم الزائف لا يدخل في معاملة إلا كان الغش والتدليس واضطراب السوق؛ وأنه لا يعرف العالي والنازل، والمُدَبَّج والمرسل، إلا في رواية الحديث، ولا يعرف زين الدين وابن الصلاح إلا في رجال المصطلح والآثار، أما مع الاستعمار فإنه لا يعرف إلا التلقي والمباشرة والاتصال، وأنه تاجر بارع في المقايضات باسم الدين والعلم والطرُقية؛ والتاجر الحاذق لا يعجزه إذا بارَتْ سلعته في موطن أن يضرب في الأرض وأن يشدّ الرحال. ... في شهر يناير الماضي تداعى الأئمة وحواشيهم العليا والسفلى إلى عقد اجتماع في الجزائر للنظر- زعموا- في المصالح الخاصة بهم وفي الوسائل التي يحفظون بها تلك المصالح؛ فقال الناس- وللأئمة علينا عهدُ الله أن لا نحكي إلا ما قال الناس وما جاءتنا به الرسائلُ الكثيرة المستفسرة- قال الناس: ما حاجة هؤلاء إلى الاجتماع وليس لهم بعادة؟ وأية المصالح يخشون عليها الضياع؟ أمصالحهم الشخصية؟ أم مصالح الدين الذي يمثلونه؟ وهل جمعيتهم التي أسفر عنها الاجتماع نقابة موظفين؟ فيكون من واجباتها أن تضرب عن العمل إذا لم تستجب رغائبها في زيادة الأجور، وأن تحتج وتنذر وتتوعد إذا نزل الحيفُ بعضو من أعضائها؟ وهل تستطيع جمعية الأئمة أن تفعل شيئًا من ذلك؟ الناس يقولون: لا، ويقولون أيضًا: ما عهدنا هؤلاء القوم يتحرّكون إلا بمحرك، ومن عسى أن يكون هذا المحرك؟ وأيّ ذوق وأية كياسة زَينت لهم اختيار هذا الظرف للاجتماع؟ والأمةُ مقبلةٌ على أمور ذات شأن في حياتها وسائرة إليها في طريق كله عواثير، وواضعة نصب عينيها غايةً واحدة من شذّ عنها شذّ في النار؟ أليس هؤلاء المؤتمرون من الأمة؟ أليسوا أئمة الأمة؟ وهذه المجلة التي قرروا إصدارها- وما نراها تكون إلا لسان حالهم- فماذا ينشرون فيها؟ أتكون رسمية تنشر أوامر التولية والعزل؟ إن الأمر ليس بأيديهم وقد كفتهم الكافية؛ أم تكون رسميةً بمعنى آخر فتنشر الفتاوى الشرعية التي تعمر أوقات المفتين ليعمّ النفع بها، والخطب الجمعية التي يلقيها خطباؤهم ليقرأها من لم يسمعها؟ أم تنشر شروط الإمامة العصرية ومنها الاعتماد في التزكية على (الدوسي)؟ هذا بعض ما يقوله الناس، وما نقلنا إلا القليل. وما لنا فيه إلا الرواية العادلة، وهي- كما يرى القارئ- أسئلة تتقاضى أجوبتها من المؤتمرين؛ ولو صرحوا وأوضحوا من أول يوم لما كان لأكثر هذه الأسئلة من محل؛ ولكنهم سكتوا وأجملوا، وهموا ولم يفعلوا، وأعلنوا عن تشكيلات سطحية إن دلت على شيء فهو أن المؤتمرين ليس لهم من الأمر شيء، وأنهم مسيرون لا مخيرون؛ فحامت حولهم الظنون، ثم اقتحمت الأسوار وكأنها حقائق؛ والذنب ذنبُ الزمان المتوثب المتيقظ الحساس

الصاخب، فمن ظنّ أنه يعمل فيه بمنجاة، ومن جاء يعرض فيه البضاعة المزجاة، كلاهما مغفل مغرور. ... وفي 15 مارس الماضي انعقد مؤتمر رجال الزوايا: ومما دل الناس على أن هذا من ذاك، وأنهما معمولان لعامل واحد- كما يقول النحاة- وقوعهما في ظرف واحد، وخلوهما من الكياسة وحسن الذوق واحترام شعور الأمة؛ ثم جاءت خاتمة الدلائل على اتحادهما في المنشإ والغاية وهي إقامتهما في مقبرة واحدة (2). بلغنا ما وقع في المؤتمر الأوّل بالتفصيل؛ وهو عبارة عن تلك الشكليات التي أشرنا إليها مما يدلّ ظاهره على هزل لا جدّ فيه، ولولا كلمات علمية ألقاها بعض العلماء منهم لكان المؤتمر أشبه شيء باجتماع عادي في مقهى، ووددنا لو تكلم مفتي تلمسان وألقى درسًا، ولو فعل لطوّقنا منة لا يقوم بها الشكر، إذ يقوم عنا بالعذر فيما عسى أن يحسبه بعض الناس علينا في باب التحامل، ويقوم لنا بالحجة على ما صنع الاستعمار بهذه الوظائف الشريفة من التبذّل والسقوط؛ ونعتقد أنه لو تكلم وسمعه زملاؤه لاستعفى العارفون منهم بقيمة الوظيفة وشرف العلم في الحال، أنفةً منهم للعلم والوظيفة أن يشركهم فيهما مثل ذلك المفتي. وبلغنا ما وقع في المؤتمر الثاني بالتفصيل أيضًا، حتى أسماء الحاضرين والخطباء وما خطبوا، وأنهم تواردوا على معان متقاربة في غايات الاجتماع الظاهرية وهي جمع الشمل وتجديد العهد وخدمة العلم بالتعليم، وكان من كياسة الرئيسين (الدائم والهائم) (3) أن بالغا في إخفاء الغاية الحقيقية، حتى قام طالب مأجور يعدّونه من أتباع الأتباع، فذكر جمعية العلماء بوصفها القديم الذي كانوا ينبزونها به، وهو أنها جمعية وهابية، وأنها تريد التسلط على المساجد لتوظف فيها أتباعها الوهابيين؛ وبهذه الكلمات كشف ذلك الطالب (غير المسؤول) عن بعض الحقيقة وتعجّل البوح بما ضاق عنه صدره لأنه إمام، والعرب تقول: "شر أهرَّ ذا ناب"؛ ونحن لا يهمنا ذلك كله كما لا يهمنا ما نشرته الجرائد الفرنسية من مقاصد وغايات، لأننا نعلم الحقيقة علم اليقين.

_ 2) هي مقبرة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجرجري، صاحب الطريقة الرحمانية المنتشرة بالجزائر وتونس. 3) كان هذا الاجتماع تحت رئاسة اثنين: الدائم مصطفى القاسمي، والهائم عبد الحي الكتاني.

والحقيقة هي أن هؤلاء القوم ما زالوا حيث تركناهم في سنة 1937، لم تؤثر فيهم أحداث الزمن، ولم يتأثروا بما حل بالأمة من محن، ولم تخرق آذانهم هذه الأصوات المتعالية، ولا انتهى إلى إحساسهم شيء من هذه اليقظة المتفشية في الأمة، ولا وصل إليهم أثر من هذا التطور الذي غمر العالم، وأنهم ما زالوا آلات صماء في يد الاستعمار، يصرِّفها متى شاء لما شاء؛ بل الواقع أنهم ازدادوا تعلقًا به وطاعةً له، بقدر ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؛ ومن دأب الاستعمار إلصاق الحاجة بالناس ليتخذها مقادة لضعفاء الإيمان والإرادة منهم، وقد حلت المصائب بهذه الأمة، وهؤلاء القوم غارّون في نومهم، وامتلأت السجون والمعتقلات بالرجال، وهم آمنون مطمئنون، وجاعت الأمة وما منهم إلا الطاعم الكاسي، وإن الصحف لَمُنَشَّرةٌ بين أيدينا بما أخذوا من المؤن باسم الزوايا، وبما باعوا منها في السوق السوداء، وما كانوا يأخذون تلك المقادير الوافرة إلا على حساب الأمة، فلهم الويل: أهي زوايا أم متاجر؟ إن الحكومة الجزائرية الاستعمارية تعرف ما لا يعرفون، تعرف أن التطور سنة من سنن الله، ولكنها تؤجل وتطاول، وقد أحست بضغط المطالبة بالحقوق السياسية والدينية، فحرّكت هؤلاء القوم بعد طول الهجعة، وأعدّتهم للمعارضة والتشغيب على طلّاب الحقوق الدينية، كما أعدت طائفة أخرى انتخبتها هي لا الأمة للتشغيب على طلّاب الحقوق السياسية، وقد كشفت الانتخابات التي تدور رحاها في هذين الأسبوعين ما كان مبيتًا من مكايد الحكومة، وفضحت ما كان مدبرًا من مخازيها، وتبين ما كنا نعتقده ولا نشك فيه، وهو أن المؤتمر الأول، والمؤتمر الثاني، والمجلس الجزائري، ذريةٌ بعضها من بعض، وكلها من صنع يد الحكومة، وبعضها متمم لبعضها، وكما أنه لا حرية للأمة في هذا الانتخاب، لا إرادة للمؤتمرين في ذلك الاجتماع، ويجمع ذلك كله قولك: تدبيرات لإخماد الحركتين الدّينية والسياسية بهذا الوطن. الأمة تطالب بفصل الدين عن الحكومة، ولسانها في ذلك جمعية العلماء، والمطلب حق، ولا مفرّ للحكومة منه، والحكومة لا تريد أن تنفض يدها من المساجد وأوقافها ورجالها، فكيف العمل؟ العمل هو جمع هذا الجند من المفتين والأئمة والمؤذنين ورجال الزاويا، وإعدادهم لوقت الحاجة فإما أن يبقى ما كان على ما كان، وإما أن تسلم المساجد والأوقاف لهم، لأن هذا أيضًا لا يخرج عن إبقاء ما كان على ما كان. والأمة تطالب بحقوقها السياسية، ولسانها في ذلك رجالها السياسيون، والمطلب حق، والحركة دائبة، فكيف العمل؟ العمل هو أن تنتخب الحكومة نفسها (على طريقة نيرون) أغلبيةً ساحقةً للمجلس الجزائري، تضمن لها إبقاء ما كان على ما كان ... ولو إلى حين. وعبد الحي الكتاني ... ما هو وما شأنه؟

عيد العرش المحمدي العلوي

عيد العرش المحمدي العلوي * آمال فساح، في الفوز والنجاح، وتباشيرُ صباح، باليسر والإسجاح، وتوْق وطماح، إلى السؤدد اللماح. وكدّ وإلحاح، من أصَلاء في العز أقحاح؛ وعزمات صحاح، في الذياد والكفاح، ومغدًى ومراح، في الحق الصراح، وشباب نضّاح، عن الشرف الوضاح، ومليك مسماح، في العلم والإصلاح، وإمامة تاجها العمامة. صدفت عن المظاهر، وعزفت عن المزاهر، لتخط الأسوة، وتحط الجبرية والقسوة، وأعلام من علماء الإسلام، حافظوا على الإرث، وطهروه من الدم والفرث. تلك هي حلية الصدور، وزينة المجالس، في عيد العرش المحمدي العلوي. ... وذكريات من المجد التليد تثار، وآفاق من الفخر الطريف تنار، وسمات من مخايل البطولة تشهر، وصفحات من تاريخ العظمة تنشر، ولمحات من الشرف العلويّ الفاطمي تشع فتشيع، ونفحات من الغر الجلائل من أعمال الأوائل تضوع وتذيع، وذخائر من أخلاق الطيبين الأخاير، تجبى لوارثها، ومفاخر، مما ترك الأوّل للآخر، تجنى لهمامها وحارثها، وصُوَرٌ من عز الملك تجلى، وسور من مكارم الأبوة تتلى، وشمائل من باني البيت إسماعيل تجلت في محمد. تلك هي الجمل التي شرحها عيد العرش المغربي فأبان، ورفع أحاديثها مسندةً إلى أبان، وفرع بها الشماريخ الباذخة من أبان. ...

_ * نشرت في العدد 58 من جريدة «البصائر»، 29 نوفمبر سنة 1948.

والعرشى المغربى همّك من عرش، زُرّتْ أزرارُه على إدريس في الأولين، وعلى الأباة بني عليّ في الآخرين، فرست أواسيه في طينة الشرف الأرفع، وبسقت أفنانه في جوّه الصافي الأنصع ... وأوطأ متونه، ذوائب لمتونه (1)، ومدّ تمتانه (2)، على واحد هنتانه (3)، وأرّث الإرين (4)، بمساعر مرين ... همك من عرش مدّ ظلاله على المغارب أحقابًا، وأطت رحاله على عتبات برقة مرات، فإذا شاركنا إخواننا في البشرى، بعيده، فإنما نفي بعهد قلّ الأوفياء به؛ وننعم بخيال طاف طائفه بنفوس مترقبة لمسراه، متعرضة لمجراه، وما زال الطيف كالضيف محببًا إلى الكرام، مبغضًا للّئام. ... ومن حكم الله في هذا العرش أنه لم يزل حارسًا للغة الضاد من الأضداد، حاميًا للدين من المعتدين، ولم تزل في مقتعديه أمثال مضروبة في النضح عن الإسلام والعروبة؛ اختلفت بها الأنساب بين يعرب ومازيغ، ولم تختلف بهم الأسباب في رعاية العلم وتقدير البيان، فكم ولدت دُوَلهم من أعلام في الأدب والبيان، ونوابغ في الفقه والتشريع، وأساطين في الفلسفة والحكمة، وأثبات في التاريخ والخبر. ... وما زلنا ننكر على المسلمين في زمننا هذا، إقامتهم لهذه الاحتفالات؛ ونعدها عليهم في باب المجانة واللهو؛ ونقول: إن معظمها محاكاة لا تأتي بفائدة، وتقليد للأقوياء لا يعود بعائدة، وأنها تتنافى مع الجد والشهامة، وتلهي عن الواقع والواجب، وأن الأليق الأشبه بنا عقد مناحات نندب فيها الجدود العاثرة، والأشلاء المتناثرة؛ ولكننا حين نصل إلى هذا النوع الذي ينبه ويوقظ، ويحرّك الذكرى الكامنة، ويثير القوة الخامدة، ويذكّر بالماضي من الأعمال والرجال، ويدعو إلى التأسي بالعاملين، نسلم أنها دروس تلقى على الجاهلين، وأمثال تضرب للمأخوذين الذاهلين؛ ونؤمن بأنها تاريخ يحيا، وأجيالٌ تنشر، وأعمالٌ تبعث، وما أحوج الأمم الغافلة، النازلة بالسافلة، المنقطعة عن القافلة، المشغولة عن الفرض بالنافلة، إلى أمثال هذه الدروس الحافلة. ...

_ 1) لمتونة قبيلة بربرية عظيمة تتفرع إلى بطون وأفخاذ ومن فروعها دولة المرابطين الملثمين. 2) التمتان الحبل الذي تشد به الخيمة أن تسقط. 3) هنتانة قبيلة أخرى وواحدها هو الشيخ أبو حفص عمر بن يحى بن عبد الواحد أحد أصحاب المهدي بن تومرت وجد الملوك الحفصيين ملوك تونس. 4) الإرين جمع إر، وهي النار أو موضع إيقادها.

أيها الإخوان في المغرب الأقصى، نحييكم على بعد الدار، وحيلولة الجدار، ومعاكسة الأقدار، تحية ودّ، لا تقابل بالرد، ونهنئكم بهذا العيد السعيد، تهنئة الغريق لمن بالساحل، والمبعد لمن طويت له المراحل؛ وندعو للجالس على العرش بالتأييد من ذي العرش، ونتمنى لكم- كما تتمنون لنا- سعادةً يطرّز حواشيها النعيم، وسيادةً تدفع إلى حرم العزّ من ثنية التنعيم. إننا لمحنا من السنان صفحته، وشممنا من الريحان نفحته، فتعاطفت الأرحام، وتداعت وشائج القربى إلى الالتحام، وهزّتنا الأريحية إلى هذا النزر القليل من التحية، تحملها عنا إليكم ريح الصبا كلما هبت، وبُرُدُ الصحائف كلما خبت، فاعذرونا فإننا لا نبلغ في هذا المقام- وإن أطلنا- القلامة من أصبوع، والدقيقة من أسبوع، والقطرة من ينبوع. ... أيها الإخوان، إن العروش لا تثبت ما لم تكن أواسيها القلوب والمهج؛ فكونوا دون العرش صفًا، وجمعًا ملتفًّا، وساعدًا وكفًّا، ودَفعًا للباغي وكفًّا، وذودوا عنه كل مريب، والقريب منهم قبل الغريب.

موجة جديدة

موجة جديدة * موجة جديدة من الاستياء غمرت العقلاء العارفين بما وراء الأكمة، سببتها هذه الموجة الجديدة في راديو الجزائر التي تستعد الحكومة لإنشائها خاصة باللغة البربرية (القبائلية). ما كنا نتوقع حين نشرنا افتتاحية العدد الماضي أن الحماقة تبلغ بالاستعمار المسيِّر للإذاعة الجزائرية إلى هذا الحد، وما كنا نظن أن هناك دركةً أخرى من السماجة أحط مما ظهر به الاستعمار في أصل الإذاعة باللغة القبائلية، حتى سمعنا ممن سمع ذلك الراديو أنه أعلن عزمه على تخصيص موجة للغة القبائلية، كاملة الأدوات ببرنامجها، ومحاضريها، ومخبريها وموسيقاها وقرائها، ولا ندري هل القرآن الذي يتلونه، يتلونه باللغة العربية أو باللغة القبائلية؟ ولا نستغرب أن يتهوّر هذا (الراديو) يومًا ما في ضلالة جديدة فيتلو للقبائل قرآنًا جديدًا بالقبائلية، إِذْ لم يبق لِمَنْ جانب الحِكمةَ إلا هذا النوع من أنواع السفه العقلي، ولو فعل لما عدم من يفتيه ويزين له. وإنما المشكلة في من يضع هذا القرآن أو يترجمه بالقبائلية، وإذاعة القرآن في الموجة القبائلية هدم للغرض الاستعماري الخبيث ونقض له من أساسه وصفعة يتلقاها قفا الاستعمار من كف الاستعمار، وإن الهوى ليعمي ويصم. ولعل القراء يعجبون لإعادتنا الحديث في هذه المسألة إذ يتوهمون أنها ليست بهذه المكانة من الأهمية، وإن أمرَ هذه المسألة لأعظم مما يتوهمون، إنها فرع من شجرة خبيثة غرسها الإستعمار بيده وتعهدها بالعناية والتربية، واسمها الحقيقي "التفريق بين الأخوين العرب والبربر".

_ * نشرت في العدد 42 من جريدة «البصائر»، 5 جويلية سنة 1948.

ومن فروع هذه الشجرة الخبيثة الظهير البربري المشهور. ومن فروعها ما سارت عليه حكومة الجزائر منذ قرن في وطن زواوة من تخصيص بقوانين وأحكام إدارية وقضائية، وتقوية النظام العشائري فيه، وإبعاده بالتدريج عن القضاء الإسلامي. ومن فروعها تكثير مراكز التبشير بالنصرانية في الوطن القبائلي. ومن فروعها راديو الجزائر للغة القبائلية. وليست الحكمة في الإذاعة القبائلية هي الأخذ بخواطر القبائل وتشريف لغتهم؛ لأن الحكومة تعلم ما نعلم من أنّ خمسة وتسعين في المائة من القبائل سكان (مداشر) (1) في رؤوس الجبال لا يعرفون الراديو ومن (ردّاه)، ولا يسمعون صوته ولا صداه. والخمسة في المائة من سكان الحواضر والقرى الاستعمارية يتكلمون العربية ويفهمونها كما يفهمون الفرنسية، ويستطيبون الإذاعة العربية، ويطربون للموسيقى العربية لأنهم عرب مسلمون، رغم أنف الاستعمار. وإنما الحكمة الاستعمارية في هذه المسألة خاصة- زيادةً على ما تقدم- أن يشيع في العالم الذي لا يعرف لهذا الوطن إلا لغةً واحدة وهي العربية، أن فيه لغةً أخرى يتكلمها كثير من الناس ولا يفهمون العلم والحياة إلا بها، بحيث اضطر- شفقةً عليهم ورحمةً بهم- أن يخصص لهم إذاعةً، وينفق عليها الملايين احترامًا لهذه اللغة، ولأهلها. ولو علم العالم حقيقة الأمر وعلم ما عليه أهل هذه اللغة من بؤس وما هم فيه من شقاء لقال للاستعمار الفرنسي ما يقوله المصري لقليل الحياء: (اختش). إن هذه (العملية) الجديدة سلاح مبتكر لحرب العربية، ومكيدة مدبرة للتقليل من أهميتها، وحجة مصطنعة لإسكات المطالبين بحقها في وطنها. ولكنه سلاح مفلول، ومكيدة فاشلة وحجة داحضة، يسخر منها القبائلي قبل العربي. وسيعلم الاستعمار وأعوانه أن هذه الموجة ستبتلعها أمواج، وأن المذيعين فيها كالمغنين في المقبرة. أصداءٌ في الأثير، لا تحرِّك ولا تثير. وقد فات هذه الحكومة، التي تنفق أموال الأمة فيما لا يفيدها، أن اللهجات البربرية بهذا الوطن متعددة متباعدة، بحيث لا يفهم أهلها بعضهم عن بعض، وهبها أرضت بهذا الصنيِع واحدة فأين الأخريات؟ وأين المزابية والشاوبة (2)؟ أم أنها ستخصّص لكل واحدة موجةً حتى ترضي الجميع؟

_ 1) مَداشر: جمع "دَشْرَة" وهي القرية. 2) المزابية والشاوية: لهجَتان بربريتان.

إن الجميع بحكم العروبة والإسلام لا يرضَوْن بغير العربية بديلًا. كما لا يرضون بغير الإسلام دينًا. لسنا بهذه الكلمات ننتقد راديو الجزائر ولا برامجه ولا رجاله. ولو شئنا نقده لنقدناه في الصميم، ورميناه بالمقعد المقيم، ولنشرنا ما وهبه الله من جمود البرامج وتفاهة المواضيع وضيق العطن، ولكننا قوم عمليّون، فلا ننتقد من جوانب الراديو إلا ما يعنينا كعرب نغار على لغتنا، ومسلمين نغار على ديننا، وما الراديو إلا أداةٌ حكومية تسيره في أغراضها، ولو شاءت لجعلت منه مدرسة تهذيب، ومنبع حقائق، ولكونت منه لسان صدق ينشر محاسنها ومحامدها ويستهوي إليها أفئدة العالم، لا بوق تضليل ينشر مكايدها الاستعمارية، ويُلبسها حللًا مستعارة تمزقها نسمات الحق فضلًا عن عواصفه. نحن ننتقد عملًا من أعمال الحكومة، اتخذت الراديو وسيلة لتنفيذه، فإذا ذكرناه هنا فإنما نذكره بالعرض لا بالقصد، وقد قصرنا ... وسنطيل ...

ليبيا، موقعها منا

ليبيا، موقعها منا * ليبيا - بأجزائها الطبيعية- قطعة ثمينة من وطن العروبة الأكبر، ومعقل حصين من معاقل الإسلام الباذخة، مكتنفة الشمال والجنوب بجمالين من مياه البحر الأبيض، ورمال الصحراء المغبرة؛ مسورة الشرق والغرب بجمالين من عظمة مصر ومجد تونس: فهي رقعة من صنع الله مطرزة الحواشي بما يسحر الألباب، ويفتن النفوس، ويستهوي الأفئدة، ويذكر بالعزة، ويفتق القرائح عن روائع الوصف، وبدائع التمثيل، وهي- لذلك كله- نازلة من نفس كل عربي في مستقر الغيرة والحفاظ، ومن نفس كل مسلم في منزلة الحب والكرامة، وننفرد نحن سكان الشمال الأفريقي بمعنى من معاني التقدير لهذه القطعة العزيزة من وطن العروبة والإسلام، وهو أنها كانت مجرَّ عوالي الفاتحين من أسلافنا، ومجرى سوابقهم إلى هذا الشمال، يحملون إليه التوحيد والحكمة والسلام، فعلى ثراها مرّ عقبة والمهاجر وحسان، ومن بعدهم موسى وطارق، وإدريس وعبد الرحمن، وفي جنباتها تصاهلت جياد الكماة الصّيد من مضر ويمن، وأنها كانت كذلك مجازًا للأبطال، من بني هلال، الذين غرسوا العروبة بهذا الشمال، وأنها كانت أخت الجزيرة، تلك أنبطت وهذه أحْرَتْ، وتلك أنبتت وهذه أرْوَتْ، وتلك قدحت وهذه أورت، وأنها صارت- بعد ذلك- بابنا إلى الشرق، يوم كان أبرّ ببنيه، وأحنى عليهم من البحر، لا نلج حظائره القدسية إلا منه، حجاجًا وتجارًا ومستبضعي علم. إن كل قارئ مطلع في هذا الوطن الجزائري ليعرف عن ليبيا وقراها، وجبالها، وأوديتها، ودُروبها مثل أو أكثر مما يعرف عن وطنه، لكثرة ما يقرأ عنها في كتب الرحالين المغاربة من أمثال الفهري والعبدري وابن بطوطة، والتيجاني، والعيّاشي، والورتلاني؛ وإن كل عامي راوية للشعر الملحون ليحفظ أسماء قراها، ووديانها، وجبالها، أكثر مما يحفظ

_ * نشرت في العدد 112 من جريدة «البصائر»، 20 مارس سنة 1950.

من أمثالها من بلاده، لكثرة ما يسمعها في قصائد شعراء الملحون الوصافين لركاب الحج، المعدّدين لمنازله، احتذاءً للبوصيري في (عدة المنازل) (1)، من أمثال محمد الشلالي، وابن السنوسي، وابن خلوف، وابن يوسف، وغيرهم من الشعراء الشعبيين في المائة الثانية عشرة إلى الآن؛ وهؤلاء هم الذين انتهت إلينا أخبارُهم وأشعارُهم، عن طريق الحفظ والرواية، وقد كانوا يُرَحلون ركب الحج من مراكش إلى مكة، ويصفون الجادّة التي يسلكها وصفًا شعريًّا مشوّقًا، أحسن مما يصفه الجغرافي المتقصّي، وأدخل في النفس منه، حتى يخيل إلى السامع أن هذه الموصوفات منه بمرأى العين؛ وأذكر أنني في سن الصبا كنتُ سمعتُ أسماء زوارة وطرابلس، والجبل، ومسراته، والخمس، وزليطن، وبنغازي، ودرنة، وأجدابية، متناثرةً في هذا الشعر، موصوفةً، محددة المسافات التي تفصل بينها، قبل أن أقرأها في كتب الرحلات والجغرافيا، وقبل أن أسمعها من أفواه السفار، أو من أفواه أهلها. ... ولإخواننا الليبيين- أو الطرابلسيين كما نسميهم- علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام، يجب أن تبل ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدّى، وإنّ من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة والعُصَب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدوًّا واحدًا، مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع- إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء، متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين؛ ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال؛ ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم- وقد قصمت الحرب ظهره- جائعًا يتضوّر، وقابعًا يتحفز، وحانقًا يتلظى، وراجيًا يتعلق، وطامعًا يتملق؛ ينتصر بالمتات، وينتظر الفتات. قاوم هؤلاء الإخوان الكرام الاستعمارَ الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجبار العنيد ختم عليهم بالعبودية

_ 1) يقول البوصيري في قصيدته الهمزية في آخر تعديده للمنازل من مصر إلى مكة إلى المدينة: هَذِهِ عِدَّةُ الْمَنَازِلِ لَامَا … عُدَّ فِيهِ السِّمَاكُ وَالْعُوَّاءُ

المؤبّدة، جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار، والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا: وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدْرون أنهم يعينون استعمارًا على استعمار، وأنهم سينتقلون من شِدْق الأفعى إلى ناب الأفعوان؛ ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصمّت الآذان عن سماع صوتهم حينًا، ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعًا كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952. كنا نعرف أن الاستقلال جنة لا يعبر إليها إلا على جسر من الضحايا، وكنا نعدّ إخواننا الليبيين أول الداخلين إلى هذه الجنة بغير حساب، لأنهم قدّموا من الضحايا ما لم تقدّمه أمة شرقية، ولأنهم جمعوا أسباب الفلاح الأربعة: الصبر والمصابرة والمرابطة والجهاد، ولكن شيطان الاستعمار أبى عليهم ذلك، ووضع في طريقهم برزخًا زمنيًّا، أو جسرًا ثانيًا غير الضحايا والقرابين والأعمال الصالحة، وهو هذا الأجل المحدد بسنة 1952. ويقول الاستعمار: إنه وضعه للإعداد والتشويق، ونقول نحن: إنه وضعه للإبعاد والتعويق، ومرحبًا بالسنتين إذا كنا نقضيهما في الاستعداد والتأهل وإصلاح الفاسد من أخلاقنا ورجالنا وأعمالنا. واهًا لهذا الوطن المتردّد في لهوات الزمان، الذي جنى عليه موقعه من البحر الأبيض ومن الصحراء، فثبتت عليه أعين الطامعين، وازدحمت عليه أقدام الأقوياء، وحامت عليه حوائم الدرهم والدينار، تغرّ وتُغري، وإنّ لها في نفوس ضعفاء الإيمان وفاقدي الضمائر لموقعًا، ومن وراء الدرهم والدينار سماسرة تتخطف، وصَوالجة تتلقّف، وأبالسةٌ تأمر بالمنكر، وتنهى عن المعروف، وتدفع الألقاب قيمًا للممالك، ومن أبناء الوطن فريق من أعوان التفريق، وأعوان التحريق، وهنا أصل البلاء، وهنا منبت العلة، وهنا- فقط فقط- جرثومة الطاعون، وهنا العدو الحقيقي فاحذروه ... وحنانًا على إخواننا المجاهدين! ... كتب عليهم أن يتجرّعوا ثلاث مرارات في جيل واحد: مرارة الإهمال في العهد التركي، ومرارة الاستعباد في العهد الإيطالي، وها هم أولاء يتجرّعون مرارة التنكر من حلفاء دلوهم بغرور، وسجروا بهم التنوّر، ثم أخلفوا الوعد، ونقضوا العهد. من بعض حقكم علينا- أيها الإخوان- أن نسعدكم، ولو بقول معروف، من نصيحة خالصة، ودعاية نافعة، وتذكير منبه، وليسعد النطق إن لم يسعد الحال.

ليبيا، ماذا يراد بها؟

ليبيا، ماذا يراد بها؟ * شاعت بيننا- معشر المستضعفين- كلمة خاطئة، ألجأنا إليها الضعف وأملاها علينا العجز، فألفناها حتى غطّى الإلف خطأها وسخافتها، ويسرها التعوّد على الألسنة والأقلام، كما يسّر كلمة الكفر على لسان قائلها، وكأننا ورثناها عن الساسانيين أصحاب الكُدية، لا أصحاب الملك والدولة؛ وإن كانت لغة الساسانيين مبعثها الجبلة، والجبلة شعبة من القوة؛ فكلمتنا هذه مبعثها الاستخذاء، والاستخذاءُ وليد الضعف. هذه الكلمة الخاطئة هي "طلب الاستقلال" ومعناها في الواقع، طلب الحق من غاصبه، أو طلب الملك من سالبه؛ ولو كان من طبيعة الغاصب السالب أن يرد المغصوب فيئَة إلى الرشد، وإنابةً إلى الله- لردَّهُ من غير طلب، ولا رفع دعوى، ولا إقامة دليل. أما الكلمة المصيبة لهدف الحق فهي "العمل للاستقلال" ... إن العامل للشيء سائر إليه بذرائعه الطبيعية خطوةً خطوة؛ فهو واصل إليه لا محالة؛ وهو آخذٌ له حين يأخذه بالاستحقاق الطبيعي؛ أما طالب الشيء- في مفهومه العرفي- فهو كطالب الصدقة، إما أن يعطى وإما أن يُحرم؛ فإن أعطِيَ فبفضل، وإن حرم فبعدل؛ وعجيبٌ أن تعيش هذه الكلمة الجوفاءُ بيننا مع كلمة عبقرية تضارها وتناقضها، وهي أن "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى". شروط الاستقلال الحقيقية هي: الإيمان به مع التصميم، ثم العمل له مع الإصرار، ثم المحافظة عليه بعد تحصيله، وليس منها- عندنا- إلا طلبه ... وإخواننا الليبيون عملوا للاستقلال على قرب عهدهم بانتزاعه منهم، وبذلوا في استرجاعه فوق ما يبذله من في منزلتهم من الضعف والقلة؛ وإن حبله لم ينقطع من أيديهم، وإن روائحه العطرة لتُفعم أنوفهم، وإن أخيلته الجميلة لتتراقص في أذهانهم، وإن ذكرياته لماثلة

_ * نشرت في العدد 113 من جريدة «البصائر»، 27 مارس سنة 1950.

في نفوسهم مثول ذكريات الشباب في نفوس الشيوخ، وليس بين إشراق الشباب وأفوله إلا فسحةٌ في العمر، وإن كثيرًا من الأحياء في ليبيا أدركوا زمن انتزاعه، وسيدركون زمن ارتجاعه. ... هذا الشيء الذي يسمونه (مجلس الأمم المتحدة) لم يبلغ من العدل والرحمة أن يقسم الحقوق بالسوية، وأن يقتص للجمّاء من القرناء، بل دينه وديدنه أن يركب للقرناء قرونًا أخرى تنطح بها المستضعفين، وتذودهم بها عن مراتع الحياة ومواردها؛ وقد قرر ذلك المجلس استقلال القطر الليبي العزيز، استقلالًا شابه بالدخن وشانه بالتأجيل؛ ومع ذلك فقد تهللت أسرّة، وخفقت قلوب، وحييت آمال كانت كامنة في النفوس، وتشوّف المدلجون- بعد هذه التباشير- إلى الفجر الصادق، بتبلّج عموده على هذه الرقعة، آملين أن يعمّ بقية الرقاع، لكن المتعمقين كانوا يرون أن هذا القرار ليس من طبيعة الروح الشريرة التي تصرّف ذلك المجلس وتسيره؛ وإنما هو ثمرة من ثمرات الجهاد المتواصل، من ذلك الشعب الذي نقص الاستعمار عدده وأمواله، ولم ينقص اعتداده بنفسه وإيمانه بحقه؛ وأنه أثر من آثار أصوات الدول الصغيرة التي أكسبها الاتحاد قوة في ذلك المجلس، فاتجه سعيها إلى نصرة الضعفاء، "وكل ضعيف للضعيف نسيب"، وأنه نتيجة من نتائج التشاكس بين مطامع الأقوياء، ومخاوف بعضهم من بعض، فلولا التنين، الذي ابتلع الصين، ولم تزل كبده حرّى إلى نُغبة من ماء البحر الأبيض، لما وافقت أمريكا وإنكلترا على قرار الاستقلال، ولولا العملاق الذي يضع رجله على طهران، ويده على الظهران وعينه على وهران، لما صادقت روسيا على ذلك القرار، فهو بما حفه من هذه الأسباب، استقلال كياد من الدول الغربية لروسيا، يردن منه إقصاءها عن البحر المتوسط، ليأمنَّ شرها وشركها؛ ثم يقسمن الفريسة أجزاء، كما شاء لهن الهوى بأسماء خلّابة من ورائها قوة غلّابة، وما كان ذلك التأجيل إلا لهذا، وقد ظهرت الحقائق جلية بما بدر منهن- الواحدة بعد الأخرى- قبل أن يجف مدادُ قرار الاستقلال، هذه في فزان وتلك في برقة، وثالثة تنتظر طرابلس؛ وإنهن لبالغات إلى أهدافهن، وواجدات فينا من يأخذ بأيديهن إليها، ومن يَمْدُدْنَ له في أسباب المطامع، فيقطع لأجلها صلته بالله، وعلاقته بالوطن، إلا إذا بدأنا بالأشراك المنصوبة بيده فأزلناها، وبادرنا إلى الأوثان المرفوعة باسمه فكسرناها، وعمدنا إلى النقائص المتأصلة في نفوسنا فاستأصلناها، وصمدنا إلى الجموع المتفرقة فجمعناها، وإلى الألسنة الداعية بالتفريق فقطعناها، وإلى الشهوات الجامحة فقمعناها، وإلى الألقاب المهينة فمحوناها، وإلى العزائم المرتخية فقوّيناها بالحق وشددناها، وإلى جميع الثغر التي يأتينا منها العدو فأغلقناها في وجهه وسددناها، ثم لقيناه بعد ذلك بصف واحد، وإرادة واحدة، ولسان واحد، ورأي جميع،

وعزيمة ترتد عنها المحاولات حسرى، وكلمة واحدة لا يقبل معناها التأويل، وهي (أن هذا الوطن واحد لا يقبل التقسيم، وأن أبناءه وحدة لا تقبل التجزئة، وأنهم يريدون حياة حرة كريمة)؛ ولو فعلنا ذلك لجاء الاستقلال عفوًا بلا طلب، صفوًا بلا كدر، بمعناه في لغتنا لا في لغة قياصرة مجلس الأمم. إن هؤلاء الأقوياء قد راضونا على الشهوات الخسيسة، حتى عرفوا مواقعها ومداخلها إلى نفوسنا، فأصبحوا يقودوننا بزمامها، ويبتزّون ضمائرنا بالشهوات النفسية، كالرتب والألقاب، وأموالنا بالشهوات الحسية، كفضول اللباس والطعام والشراب، وإن أوقى الجُنَن منها الزهد فيها، والتعفف عنها؛ ولو أن أهل فزان- مثلًا- استنارت بصائرهم، ونالت منهم الموعظة بغيرهم، فرفضوا لقب "الباي"، وهجروا شرب "التاي"، لسعت إليهم الحرية حبوًا. ... من كتم داءه قتله، وقد آن أن نعلن داءنا، ونعترف بنقائصنا، وإن لم يكن لنا فضل المعترف، فقد فضحنا الزمان قبل أن نفيء إلى أنفسنا، ونتدارك الوهي بالترقيع، فصيَّرَنا بذلك مثلة في الإنسانية، وداء إخواننا الليبيين هو داؤنا جميعًا، ليس لأحدنا فيه فضل إذ لا فضل في النقص، ولا بيننا فيه تفاضل، لأن علة العلل واحدة؛ هو الداء الذي ترك جزيرة العرب تضم ملاءتها على بضع دول وإمارات، وعلى عدة ملوك وأمراء؛ ولولا ذلك الداء لكان للعرب دولة واحدة، لأنهم أمة واحدة في رقعة واحدة، ولكان ذلك أرهب لعدوّهم، وأحفظ لحقيقتهم، ولولا ذلك الداء لما ضاعت فلسطين، ولما بؤنا بسبة الدهر وعار الأبد. أصل دائنا التفرق والخلاف، بدأ صغيرًا في الدين، ثم بدأ كبيرًا في الدنيا ومن الخلاف تشعبت شعب تلتقي معه في الأثر والنتيجة والشر والضر، والطعم المر؛ كما يحمل الفرع خصائص أصله، فاذكر الخلاف تذكر التخاذل والأنانية ووهن العزائم، واذكر الخلاف تذكر عدم الاعتداد بالنفس وعدم الثقة بين الإخوان؛ واذكر الخلاف تذكر تعدد الزعماء والأحزاب في الوطن الواحد، واذكر الخلاف تذكر ضعف العقيدة وخطل الرأي، واذكر الخلاف تذكر بيع الذمم والضمائر، والتفريط في المصالح الوطنية، واذكره تذكر كل مرض عقلي نعانيه، وكل حقيقة في الحياة نغلط فيها؛ فالرجولة مائعة، والتفكير سطحي، والتضحية أقوال، والأهواء متبعة، والزعامة زعم، والنصر تصفيق، والقضايا الخطيرة نلقاها بالعقول الصغيرة، والألسن القصيرة؛ وهذه الأمراض هي التي أدركها المستعمرون فينا فاحتقرونا، ولو لم يعتبرونا أطفالًا لما وضعوا في أيدينا هذه اللعب يلهوننا بها عن أعمال الرجال. ***

أيها الإخوان الليبيون: إن لكم إخوانًا يصل بينكم وبينهم الماء والصحراء، ويشرفون عليكم من مخارم هذه السلاسل الشامخة من الأطلس الكبير، وإنهم يشاركونكم في الشدائد والمحن، كما شاركوكم في الألسنة والسحن، وإنهم يقاسمونكم مرارة الامتحان الذي أنتم فيه، فانظروا في أيّ موضع وضعتكم الأقدار، إنكم في موضع قدوة لشعوب ترجو ما ترجون، وتعمل لما تعملون، فاحذروا أن تكونوا قدوة في الهزيمة، ومثالًا لخيبة الأمل، واقتلوا الألقاب تحيوا الحقائق؛ إننا نعيذكم بشرف الرجولة أن تكون فيكم سيوف اليمن، وجنرالات تونس (1)، فتلك لا تصلح للضرب، وهذه لا تغني في الحرب.

_ 1) من الألقاب العسكرية الموروثة في تونس من العهد التركي لقب "أمير الأمراء"، ولما احتلت فرنسا تونس أبقت الألقاب مجردة من معانيها، لتلهي بها ضعفاء الإرادة، وقد ترجموا هذا اللقب بكلمة (جنرال)، فأصبح الجنرالات بتونس أكثر من الباشوات في دوار شرق الأردن على عهد عبد الله.

إضراب التلامذة الزيتونيين

إضراب التلامذة الزيتونيين * ما زلنا نربأ بجامعاتنا- أو جوامعنا- التاريخية أن تبقى جاريةً على التقليد البالي في مناهجها وكتبها، وأن ترضَى لنفسها هذا الجفافَ في الزمان الممرع، وهذا التمطّي في العصر المسرع، وما زلنا نرجو لها- مخلصين- إصلاحًا شاملًا، يعقبه صلاح كامل. يبتدئ ذلك الإصلاح من الكتب، وينتهي إلى العقول، ويجرف ما بين الطرفين من أوضاع من النظم بالية، وأوساخ على الأذهان عالية، أثبتها الإلف لا الفائدة، وزيّنها النقص لا الكمال، وبين البدء والختم مجالات سيفعل الإصلاح فيها فعله، ويأخذ مأخذه. وإن لنا في هذا الإصلاح لآراءً جريئة، أوحى بها إلينا حالُ الأمم الإسلامية بين الأمم، وصقلتها التجارب المتكررة في وسائل الإصلاح، ونحن نتربّص بنشرها أوقاتها المقتضية، ما دام عصرنا يتسم بالنفاق، وبعد المجاملة من أصول الأدب، والرياء من حسن الذوق وجمال السلوك، ولو نشرناها اليوم لأثرنا ثائرة، وأسعرنا نائرة، وأغضبنا أقوامًا شاء لنا ولهم الهوى أن نتنادَم على بساط ذلك النفاق، ولو خلع هذا العصر لبوسه وزايلتْه سماته، لأرانا أنّ نهاية ما يرجوه الراجون ويطلبه الطالبون من الإصلاح هي بداية الإصلاح الحقيقي الذي نراه ونقول به. وكأنّ أبناءنا الزيتونيين- نصرهم الله ونضر وجوههم- أرادوا بثورتهم الحاضرة أن يختصروا هذه الفترة المنافقة، وأن يقرِّبوا منّا الزمن الصالح لنشر هذه الآراء، وإنّ لهذا الأمر لعاقبةً هذا نذيرها، فإذا لم نقدم عليها طائعين أُرغمنا عليها مكرَهين. ونحن- حين نشكر أبناءَنا- نرى أن شطرَ الشكر يرجع إلى هذا التقريب الذي نخرج به من تبعة كتمان الحق، لأن النصيحة إذا تأخرتْ عن ميقاتها أصبحت غشًّا، ومن أظلم ممن غشّ نفسه وأمّته؟

_ * نشرت في العدد 118 من جريدة «البصائر»، 1 ماي سنة 1950.

وعذرًا إذا تعجلتُ كلمةً منصفة، وهي أن الإصلاح المأمولَ لا يتوقف منه على الحكومات إلا شطرُه المادّي، وأهونْ به، أما شطرُه الآخر- وهو اللباب- فلا يضطلع به إلا ثلاث فرق متساندة مخلصة: المسيّرون لهذه الجامعات بالإدارة والتعليم، والتلامذة، والأمة، ومن اعتمد في هذا القسم من الإصلاح على غير هؤلاء فقد سجّل على نفسه قصر النظر، وقصور الرأي، والتقصير في الواجب. وإنني مرسل إلى أبنائي التلامذة الزيتونيين بالكلمة التالية، تحييهم، وتشدّ من عزائمهم، فإن لم تكنْ رَوْحًا يدوم ويبقى، تكنْ ريحانًا يُشمّ ويذوى، وإذا تأخّرتْ عنهم فعذرُها أن العُرْج في آخر الذود، فلينتظروا العوْد، وأن عسى أن أكونَ قد قمت ببعض حقّهم عليّ. ما هذا التصميم الذي يفلّ الحديد؟ وما هذه العزائم التي لا تعرف الهزائم؟ وما هذا التحدّي الذي يقهر الخصوم اللدّ؟ وما هذا الإصرار الذي يقتحم البحر وقد جاشت غواربه؟ إنها- وأبيكم- هبة من نفحات الأجداد، طاف طائفها بنفوس لم يدنّسها الاستبداد، ولم يكدر صفوها سوء الاستعداد، فهاجت وتلظّت، ولازَمت فألظّت، ولو غير نفس العربيّ المسلم كانت، وغشيها من صدإ السنين وعنت الأيام ولؤم التحكّم ما غشيَ النفس العربية المسلمة- لَلانت، ثم هانت، ثم ذابت وادّغمت، أو لاطمأنت إلى شيمة العبيد، أبد الأبيد، ولكنها النفس العربية المسلمة، تركّز في التراب ولا تبلى، وتراوحها الأنداء فلا تصدأ، وتصلَى النار ولا تحترق، فقولوا للذين يريدون طمس التاريخ، ومحو الخصائص النسبية، والمعاني الإرثية: أطمسوا ما شئتم مما سطرته الأقلام في الكتب، أما ما كتبته يد الله في النفوس فمحال أن تطمسوه، ولأنتم أعجز من ذلك، ولا كرامة، وإنّ نبْض عرق واحد بخصيصة دموية ليضيع عليكم جهد العقول والسنين. وأنا عربي، أعرف الخصائص العربية، وأغالي بقيمتها- على بصيرة- في قيم الخصائص الإنسانية، وأتلمّحها من مأثور أقوالهم كأنني أراها، وأبالغُ فأجعلها ميزانًا لتصحيح الأنساب، وأنا- في ذلك كله- مؤمن بناموس الوراثة، ثم أتصفَّح تلك الخصائص في أخلافهم فلا أجدُها، فأرتاب في النسبة، وأقول إنها هُجنة دسيسة، أو نطفة خسيسة، وأبقى ظاهريًّا حتى يقوم دليل، وقد أقام أبناؤنا الزيتونيون الدليل هذه المرة على أنهم عرب، فليهنأوا بصحة النسب، قبل نيل الأرب، وإنها لصفقة رابحة. أجدَّكم أن العزائم التي قهر أجدادُنا الفرسَ والرومانَ بمثلها قد تمثّلت من جديد، في الشباب الزيتوني العتيد؟ وأن الإصرار الذي لبِس طارقًا فأخضع به الجبّارين: البحر والجبل، قد لابس نفوس أبنائنا الزيتونيين كرةً أخرى؟ وأن الإيمان الذي صاحب خالدًا في اليرموك،

وسعدًا في القادسية، والمثنَّى في بابل، وعمرًا في بلبيس، وعقبةَ في افريقية، قد خالطت بشاشته قلوب طائفة من أحفادهم؟ إيه- أبناءَنا الأعزّة- أإضرابٌ ما صنعتم، أم إطراب؟ لقد أضربتم، فأطربتمونا، فللهِ إضراب كل ما فيه إطراب، فاسكُبوا- يا أبناءنا- هذه الأغاريد في الآذان العَطِلَة، فقد طال عهدُها بسماعها، واضرِبوا هذه الأمثال الشوارد في التحدّي، للظلم والتعدّي، فقد استطابا في دياركم، وكذّبوا الظانين بكم ظنّ السوء فقد طال ما قالوا عنكم وتقوّلوا؛ قالوا إنكم كآبائكم تقولون كثيرًا، ولا تعملون شيئًا، هانكم تحسنون المطالبة، ولا تحسنون المغالبة، وإنكم ترهبون القويّ، وتتبعون الغويّ، وإنكم لا تعملون الواجب، لأنكم لا تعرفون الواجب، وإنكم تنامون على الضيم والهون، لأنكم في غمرة ساهون، وإنكم في حالتي الحمق والكيس، لا تعدون أخلاق امرئ اقيس (1): فأمثلُ أخلاق امرئ القيس أنها … صلابٌ على طول الهوان جلودها لله أنتم، حيث كنتم، فقد كذّبتم هذه الأقاويل بالفعلة الحاسمة، وأريتمونا مثالًا من التصميم بعد ما قامت فينا نواعيه، ونموذجًا من التحدّي بعد ما فقدت منا دواعيه، ورمزًا من التحكُّم في التحكّم خابت من قبلكم سواعيه، وعنوانًا من الوفاء لزمنكم قل راعيه وغاب واعيه. أضربتم فسخِروا وقالوا: عادة ونوبة، ثم أصررتم فتماروا وقالوا: رُعونة من ورائها معونة، ثم تحدّيتم فصدّقوا، ولئن زدتم ليقولنّ: آمنّا أنه لا إله إلا الذي خلق الزيتونة شجرة مباركة، والزيتونيين رجالًا مباركين ... أضربتم فتلفَّت الزمان المشيح بوجهه، المليحُ بنهره ونجهه، ثم مدَّ الإضراب مدّه، وبلغ أشدّه، فتساءل الناس: أفي الحقّ هذا؟ أفي الواقع هذا؟ ثم انقسموا فريقين. أضربتم فقال بعض الناس: أضربوا عن الدرس، وهو جدوى، وعن العلم، وهو غذاء، وقلنا نحن: أضربوا عن حاضر لا أمل فيه، لينشئوا مستقبلًا كله آمال، وكله خيرات. إن الأسابيعَ التي تقضونها في الإضراب، لأجْدَى عليكم من شهور ينقضين في مقدمات بلا نتائج، وفي التقلّب في موات، من عقول الأموات. تلك دروس تغذّي الذهن، ونحن من تغذيتها للعقل والروح في شك مريب، وهذه دروس تغذّى العقل فيعرف الحياة، وتغذّي الإرادة فتعمل للحياة، وتغذي الروح فتفقه سر الحياة، وتغذي العقيدة فيتبيّن كل إنسان واجبَه، وتغذي العزيمة فينبعث كل إنسان إلى تأدية

_ 1) امرؤ القيس قبيلة من العرب.

واجبه، وتغذّي النفس فتطهرُ من أدران الخوَر والفسولة والتخنث والتردد، وإن هذه لجماع الأمراض التي أودت بأمّتكم. أعندنا علم؟ فأين الحياة؟ إن العلم الذي لا يحيي، جهل مسمّى بغير اسمه! أعندنا علماء؟ فأين قيادتُهم للأمة، وأين آثارهم في توجيه الأمة وتوحيد الأمة؟ إن العالِم إذا لم يقدْ انقاد، فإن انقاد جاءت الفتنة والفساد. معذرة إليكم- يا أبناءنا- إذا لم نعمل لكم شيئًا فقمتم تعملون لأنفسكم. لعلّكم سمعتم وحفظتم هذه الجملة: الناس بزمانهم أشبهُ منهم بآبائهم، ولعلكم سمعتم في معناها تأويلين أو تأويلات؛ لكنها لا تقبل التأويل، لأنها من آيات الله في الأنفس والآفاق؛ فأين موضعُ الشبه منكم بزمانكم؟ زمانكم طائر، وأنتم واقعون، وزمانكم مصمّم، وأنتم متردِّدون، وزمانكم سائر، وأنتم جامدون، وزمانكم ضاحك مستبشر، وحظُّكم منه العبوس والحزن، ويمينًا، لو أن هذا الزمان تمثّل بشرًا سويًّا وانتسبنا إليه لعرَضنا وعرضكم على القافة ... تريدون أن تبرّوا أباكم الزمان، وأن تصدُقوا في انتسابكم إليه، فلكم العذر ولكم الحق. كأن عيني تراكم في معهدكم تطوُون الليالي كأنما تطوُون من التاريخ صحائف، وتعافون الطعام، وكأنما تصدفون عن المعاني البطنية التي أذلَّت أعناق الكثير من أمّتكم فكانت المقادة إلى إذلالهم وإذلال الوطن بهم، وتصومون وكأنما صومُكم عن الشهوات الغالبة التي ينقُدُها الغرب أثمانًا لضمائر الشرقيين وفضائلهم، إن صومَكم- وإن كان غير مشروع- لأزكى من صوم كثير من عبَّاد الشهوات: أيْ أبناءنا، لولا هذه المعاني التي رفعتم بها من قيمة عملكم، لكان إضرابكم ضربًا من غضب الصبيان، يفثأ (2) باللعبة الحقيرة، ويكسر بالبسمة المصطنعة؛ إن هذا النوع التافه من الإضرابات لا يخيف خصمًا، ولا ينيل رغيبة، وقد ألفه الناس حتى ما يبالوا به بالة. أما والله لو نال شبابَ الأمم الحية عشرُ ما نالكم من بخس وهضيمة لأقاموا الدنيا وأقعدوها، ولقام معشر خشن، فكيف يستكثر منكم إضراب أسابيع؟ إن دينكم وتاريخكم ووطنكم ورفاتَ أجدادكم، كل أولئك في حاجة إلى هذا النوع السامي من مقاومة الجمود، ونفض غبار الركود ... أيها الأبناء الأعزّة: أفي هذا الشمال قعدة عن نصركم؟ إن كانوا، فلا كانوا، ولا كان من يلوذ بالاعتزال عن هذا النزال.

_ 2) يفثأ: تكسر حدّته، وأصله من فثأ الماء المغلى إذا صبّ عليه الماء البارد وقت الغليان.

أيها الأبناء الأعزّة: ما زلنا نتتبَّع أخباركم باهتمام، ونعوّذكم بالله وبالمعوّذات من كلامه أن تكون من ورائكم يدٌ تحرّككم للمساعي الضائعة، أو تكيد لكم من حيث لا تشعرون، فقد عوّدنا هذا الزمان الفاسد عادات مرذولة في استغلال الشباب وتصريفهم في غير الطرق التي خلقوا لها. أيها الأبناء الأعزّة: لستم منا بموضع الهوان حتى ننساكم، وليس شأنكم عندنا بالهيّن حتى لا نفكّر فيه، وليس مستقبلكم في نظرنا بالرخيص حتى لا نغالي فيه، إنما أنتم عندنا أحجار بناء المستقبل المجيد، فحقٌّ علينا أن نتخيّر وأن نستجيد، وإنما أنتم ذخائر الغد، فواجب أن نحافظ وأن نضنّ، إنما أنتم كفّارة ما اجترحنا من سيئات، ولا يقبل الله إلا الطيِّب، إنما أعماركم صحائف في تاريخ هذه الأمة، فجديرٌ بنا وبكم أن نعمرها بالباقيات الصالحات، وأن لا نبدّد دقائقها في التوافه والصغائر. إنما عقولكم أسلحة للحرب الفاصلة بين الخير والشر، فواجبٌ أن نشحذَ وأن نسُنّ، إن عصركم بطل، فمن البرّ به أن تكونوا أبطالًا؛ وإن جيلكم سماويّ التشوّف، فلا تخلدوا إلى الأرض؛ وإن حاضركم جديد، فلا تكونوا منه في موضع الرقعة البالية، وإن الحياة حسناءُ، مهرُها الأعمال العامرة، فلا تسوقوا لها الأقوال الجوفاء، وإن دينكم ينهاكم أن تأخذوا الأمور بالضعف والهوينا، فخذوها بالقوة والغلاب؛ وإن أربع خلال ارتضاها الله لعباده وأمرهم بها: الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، و {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

إبليس ينهى عن المنكر! ...

إبليس ينهى عن المنكر! ... * من خصائص المدرسة الاستعمارية الفرنسية في تخريج تلامذتها أنها لا تجري على منهاج المدارس العلمية في الاعتداد بالسنوات والدرجات، ثم الاعتماد على الشهادات والإجازات، إنما تجري على المنهاج الطُرقي الحديث في تربية المريدين، وهو منهاج عجيب، مبنيٌّ على اختصار الوقت واختزال الطريق واستعجال النفع من المُريد لا للمُريد، من أوجُه الشبه بين المدرستين الاستعمارية والطرقية الحديثة اللتين اصطحبتا في النشأة، وتقارضتا النصر والمعونة، أنّ العلم ليس شرطًا في واحدة منهما، بل ربّما كان الجهل شرطًا في صحة الانتساب إليهما، وفي كمال الاكتساب منهما؛ وما معنى الخصوصية إذا لم يكن هذا؟ ... وإنما مبنى الأمر فيهما على المواهب والحظوظ (وعلى اللحظات) من أساتذة الأولى ومشائخ الثانية؛ فلحظة من الأستاذ ترفع التلميذ درجات، ولحظة من الشيخ تدفع المريد إلى النهايات، هذا كله باعتبار الأصل العام، ثم تأتي الشروط الإيجابية والسلبية في كل فرد؛ وأهمّها في الإيجاب الاستعداد للشرّ في التلميذ، وأهمّها في السلب التجرّدُ من الدين والفضيلة، وتأتي بعد الأهمّ مهماتٌ في الطرفين، كالسمع والطاعة والإخلاص، وكالتسليم في المشخِّصات الإنسانية، وموت الضمير الآدمي، وإخماد الشعل الفكرية وقطع العلائق الفطرية مع القوم والجنس والوطن. هذه المدرسة الاستعمارية تهيئ تلامذتها أو مريديها للشر، وتروّضهم عليه في حال تطول قليلًا، أو تقصُر جدًّا، على نسبة استعداد التلميذ، وإنما تروّض نفوسهم على الشر بالجملة، فإذا جاء دور التفصيل لم يعجزها أن تُلبس الفاتك منهم لباسَ الناسك، وتقلِّد الراعي وظيفة الداعي، وتسِمَ الخلي بسِمَة الوليّ؛ وتحرّك لسان الماكر بورد الذاكر، وتؤزّر أولاد الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقابَ الملوك.

_ * نشرت في العدد 143 من جريدة «البصائر»، 19 فيفري سنة 1951.

من تلامذة هذه المدرسة الاستعمارية النجباء المقدمين، تلميذ بالمغرب الأقصى، قفز قناطر الامتحان بخطوة، وغبّر في وجوه أساتذته بلهوة، وقطع أسئلتهم المتنوّعة الكثيرة بهذه الجمل القصيرة، وهي: "أنا روح الاستعمار وسرّه وحقيقته المشخِّصة، وإنه لو لم يكن في الدنيا استعمار لكنتُ وحدي استعمارًا قائمًا بذاته، ولو انقطع الاستعمار- لا قدّر الله- فسأكون أنا وحدي حافظ أنسابه، ووارث أسلابه، وقيّم أبوابه، والمتعبِّد بتلاوة كتابه، وأنا وحدي المثال المحقِّق لقاعدته، وأنا وحدي الدليل على خروج الاستعمار من صورته الذهنية إلى حقيقتة الخارجية، وإنني كنت أرجو أن أكونه لو لم يكن، فلما أخطأني من ذلك ما أخطأ ابن أبي الصلت من النبوّة، لم أكن كابن أبي الصلت، بل كنت أول المؤمنين به، الذابِّين عن حياضه، المغرّدين كالذبابة في رياضه، الناشرين لدينه، العاملين على امتداد سلطانه، وإنني عاهدت نفسي على أن أكونَ للاستعمار ما كان أبو مسلم الخراساني للمنصور، أو ما كان طاهر بن الحسين للأمين، وساءا مثلًا ... أين يقعان منِّي؟ وأين يقع المنصور والأمين من المستعمرين الميامين؟ ... فاجعلوني سيِّدًا أكنْ لكم عبدًا؛ وأعينوني بقوة أجعل لكم بين البربر وبين العرب رَدْمًا، ثم لآتينّكم منهم بطوابير تملأ البوابير" (1). هذه ترجمةُ جوابه في الامتحان الكتابي ... ويَلمّه (2) محظأ نار، وشيطان استعمار ... إن تلميذًا يسابق أسئلةَ الأساتذة بهذا الجواب، لَحقيق أن يفعلَ ما فعله الحاج التهامي الجلاوي، أو لَحقيق أن يكون هو- نفسُه عينُه- الحاج التهامي الجلاوي ... وهبْه هو هو أو هو إياه، فما هو على الحقيقة بالتهامي كما سمّاه أبواه، ولا بالجلاوي كما عزاه من عزاه، ولا بالشريف المزواري كما يصفه المادحون الكذبة وإنما هو شر مهيأ للمغرب الإسلامي منذ كان هو، ومنذ كان للاستعمار فيه وجود، وهو سلاح من الباطل مجرّد في وجه الحق كلّما نأمتْ نأمتُه، وجلت عن السكوت ظُلامته، وما أمرُ هذه الأسلحة الاستعماريَّة بسِرّ، فقد فضحناها بأقوالنا، ثم فضحت نفسها بأعمالها، ثم فضحها الاستعمار بسوء استعمالها، فلم يبقَ إلا التفكير الجدّي والعمل الحازم لفلِّها وإبطال فعلها، وإنّ من المؤسف أن الخلاص منها لا يكون إلا مع الخلاص من أصلها الذي تفرّعت عنه، ومن مادتها التي تمدّها بالنماء والبقاء، وإن ذلك لما يعمل له العاملون الصادقون المخلصون. ولا بعدَ من خير وفي الله مطمع، ولا يأس من روح وفي القلب إيمان. ...

_ 1) البوابير: جمع "بابور" وهو الباخرة. 2) أصلها ويل أمّه ثم خففت بحذف الهمزة واتصلت الكلمتان في الكتابة.

قبل أسابيع معدودة قام هذا الرجل التهامي الذي ليس من تهامة، ولا كرامة، بأخبث ما تقوم به أحط صنيعة استعمارية في أرض الله؛ وتسامى إلى مقام ينحطُّ عنه أمثاله من الآلات البشرية الرخيصة؛ وتطاول إلى أفُق من يتطاول إليه يجد له شهابًا رصدًا، وإننا لا ندري من أي حاليْه نعجب: أمن تطاوله ذاك، وأين السّمك من السمّاك؟ أم من مجيئه في مقام واحد بنقيضتين، تَلعَنُ إحداهما الأخرى؟ فقد أظهر نفسه في الأولى فاتكًا جريئًا، وفي الثانية ناسكًا بريئًا، فشهدت الثنتان بأنه آفِك مبطل في الثنتين. أراد في الأولى أن يظلم الناس ولا يتظلَّموا، وأن تبسط يداه فيهم بالضر والشر ولا يتكلَّموا، وأن تكون آيةُ الحق منسوخةً لأجله، وتاج الأمة المغربية الماجدة موطئًا لرجله ... ويلُمّه مرةً أخرى! لقد جاء بها شنعاء صلعاء؛ ثمّ ماذا؟ وأن يكون لأولئك المستضعفين الذين أشقاهم القدر به وبحكمه وغشِّه وظلمه، كجهنم لمن حلّ فيها ... يستغيثون فلا يغاثون. وأراد في الثانية أن يكون محاميًا للدين وظهيرًا ووليًّا ونصيرًا وكافلًا ومُجيرًا، وممن يريد أن يمنع المتظلمين؟ من مرجعهم الأسمى، وحماهم الأحمى، سلطانهم الشرعي "محمد بن يوسف". وممن يريد أن يجير الدين؟ من مجيره ... بل من جاره المنيع الجناب، بل من ملجئه وعصمته، السلطان "محمد ابن يوسف". ويلُمه مرة ثالثة! أمِن الدين الذي يدافع عنه أن يظلم الناس، ثم يحول بين فرائس ظلمه وضحايا عدوانه، وبين رفع ظلاماتهم إلى سلطانهم وسلطانه؟ أمن الدِّين الذي يدافع عنه ما سارت به الركبان من أعماله المنكرة وموبقاته المشتهرة؟ أمِنَ الدين، أن يكون عدوًّا لأنصار الدين، وظهيرًا لأعداء الدين؟ وما لنا نتشدّد مع الرجل كل هذا التشدّد، وما لنا لا نُعذر إليه، فنسأل أيّ دين يعني؟ فإن كان يعني دين محمد بن عبد الله، قلنا له ما قاله عمر لعقبة ابن أبي معيط: حنَّ قَدَح ليس منها، وقلنا له: ليس الإسلام بعشِّك فادْرج، وليست دارُه بدارك فاخرجْ، وقلنا له: واضيعة الإسلام إن كنت أنت ناصره! وقلنا له: ما لك وللإسلام بعد أن تجرّدت من فضائله، وتعرّيت من آدابه، وقفزت حدوده. كأنها- عندك- درجات الامتحان ...

وإن كان يعني نحلة الشاب الظريف (3)، أو دين صالح بن طريف (4)، قلنا: ما أشبه الباطل بالباطل، وما أحقّ العاطل بنصرة العاطل! ... لم يفُتْ هذا المخلوق العجيب إلا أن يغلط يومًا فيدخل أحد مساجد مراكش الجامعة (ولو جامع الفناء ... مثلًا) فيصعد المنبر في يوم جمعة، وبخطب الناس، فيتباكى كما يتباكى بعض الناس عندنا، ويتشاجَى كما يتشاجون، ولا غرابة ... فهما رضيعا لبان، وسليلا أمومة، وخرِّيجا مدرسة، وبذلك- فقط- يصبح الحاج التهامي من "رجال الدين" ...

_ 3) شاعر جزائري تلمساني كان في المائة السادسة للهجرة، في شعره معان قد تكون من شطحات الخيال ولكن ظواهرها ملحدة. 4) متنبئ ظهر في مدينة تامسنّا بالمغرب الأقصى ووضع لنفسه قرآنًا سخيفًا سمّى سوره بأسماء غريبة، وفتن به كثيرًا من القبائل البربرية، وكان ظهوره في خلافة هشام بن عبد الملك في سنة 127 وأصله من قبيلة برغواطة البربرية، أخباره في ابن خلدون والقرطاس والاستقصاء.

إبليس يأمر بالمعروف! ...

إبليس يأمر بالمعروف! ... * ليس في أبواب السُّخرية بالإسلام، أسمجُ من هذه الفصول السخيفة التي تقوم بتمثيلها السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا، وإن لها في الجوانب الدنيوية لمنادح، فما بالها تحنُّ إلى التحرّش بالدين، هذا النوع البارد من الحنين؟ لم تتورّع أمس عن نصب موظّف مسيحي رئيسًا لجمعية دينية إسلامية بالجزائر وقسنطينة؛ ولم تتوزع اليوم عن نصب التهامي الجلاوي محاميًا عن الدين، ومشفقًا عليه، ومنتصرًا له؛ وإنّ بين الحادثتين لمسافةً مملوءة بالأحداث والتجارب التي تحمل المذنب على التوبة والإقلاع، ولكن القائمين على هذه السياسة لا يتوبون ولا هم يذَّكرون، وإن بين القطرين دينًا جامعًا، وأرحامًا متشابكة، فما جُرِّبَ هنا وخاب، محكوم عليه بالخيبة هناك، ولا يُغني عنه أن يتقدّم هنا بقبَّعة، وهناك بعمامة. ... إن ظروف الحادثة، والجوّ العالمي المتحكّم في أعصاب السياسيين، والأحداث التي سبقتها في المحيط المغربي الخاص، كل أولئك تدلّ على أنها كانت مدبَّرة لأوانها، وأنها رواية من فصل واحد، اختير لتمثيلها رجل واحد؛ ولم يُسدَل الستار، ليبقى المجال واسعًا للنكرات المسرحية التي تظهر في الملعب بعد ذلك، فالوقت محدَّد، والأسباب محضَّرة، والمناسبة منتظرة، والممثِّل تام الحفظ والتلقين. وكل هذا ليس مما يعنينا شأنُه؛ لأنه شيء مألوف ليس بجديد في السياسة الاستعمارية، ولا غريب عنها؛ ولكن الذي أزعجنا وأثار اهتمامنا لجدّته وغرابته، هو عرض الدين في

_ * نشرت في العدد 144 من جريدة «البصائر»، 26 فيفري سنة 1951.

الرواية، وهضيمته، والانتصار له ... فهذه القطعة من الرواية هي التي لمسَتْ مواقع الإحساس منا، فقلنا: أصحيح أن الإسلام بالمغرب في خطر؟ أصحيح أن هذا الرجل هو الذي يقوم بنصره، وقد كنا نعلم- ونحن أطبّاء هذا المرض- أن الإسلام في جميع مواطنه تحيط به أخطار لا خطر واحد، وأنّ بعض أخطاره هذا الرجل وأمثاله ... وأن أكبر الأخطار وأعظمها ما التجأ إليه هذا الرجل من أنواع الحماية؛ فهل جدَّ في الاكتشافات الطبيّة أن يكون السرطان دواءً للسل؟ وهل جدّ في القوانين الاجتماعية أن يكون "حاميها حراميها"، كما يقول المثل الشرقي؟ ... طارت أخبار الحادثة، وردَّدتها الصحف والمذاييع، وقعقعت بها البُرد في الشرق والغرب، وقال كل قائل فيها رأيه: صوابًا أملاه الإنصاف ومحَّصه التحقيق، أو خطأ أملاه الغرض وزوّره التلفيق، وهوّنها بعض الناس غفلةً عما وراءها، وهوّلها بعضهم حذَرًا مما وراءها، أو استغلالًا لما وراءها، وسكتنا نحن حتى هدَرت الشقائق وقرَّت، لا استخفافًا بالحادثة، فلعلّنا من أكبر المتشائمين بعواقبها، المقدّرين لخطرها، المدركين لمراميها، ولكننا سكتنا ننتظر كلمة علماء الدين، فإن نطقوا كانت كلمتهم فصلاً في القضية، وإن سكتوا كان سكوتهم حجّةً على الدين، وحجةً ناهضة للمعتدين. كنا ننتظر كلمتهم في هذه القضية التي نعدّها غمزًا لإبائهم، وامتحانًا لكرامتهم، وطعنًا في كفاءاتهم لحمل أمانة الدفاع عن الدين، لأنهم مسؤولون أمام التاريخ، أين كنتم إذا كان ما يدّعيه الحاج التهامي حقًّا؛ وأين أنتم إذا كان ما يدَّعيه باطلًا؟ وهم محجوجون في الحالتين. ولنا مع هذه الطائفة حساب، ولنا عليها عتاب، فهم- بحكم الله- حرَّاس هذا الدين، والمؤتمنون على حرماته، وقد أوتوا سلطانًا إلهيًّا مبينًا ففرّطوا فيه، واستحقّوا إرثًا نبويًّا ثمينًا فأضاعوه، حتى خرج الأمر من أيديهم، وتعاوَرتْه أيدٍ سفيهة لا تحسن تصريفًا ولا قيادة، فوقعت الأمة فريسةً للمبتدعين في الدين، والمتسلطين في الدنيا، والمتبعين لأهوائهم في الدين والدنيا؛ وإذا نام الحارس، استيقظ اللص، طبيعة لا تتحوّل، وصبغة لا تحول، وهذا هو حال علماء الإسلام في الشرق والغرب، لم يقوموا بحق الله في عباده، فأصبحوا أضحوكةً بين عباده، وكساهم الله ثوب عزٍّ فنضَوْه فأذلّهم، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}. ولو أنهم قاموا بواجباتهم في حماية الدين، وحافظوا على سلطانهم الديني الروحي لسدّوا المنافذ على عبَّاد المادّة، وقطعوا الطريق على المتطاولين بغير حق، ولو فعلوا لكانوا - أبدًا- مُرْصَدين لهذه البوادر الخبيثة التي تبدُر في كل حين من أصحاب الجاه الدنيوي،

وأصحاب الغرض السياسي؛ والفريقان في جميع أطوار التاريخ يتجاذبان في حالي تصافيهما وتجافيهما هذه الخلّة، وهي اتخاذ الدين سُلمًّا لأغراضهما الدنيوية والسياسية، ولو بما يهدِم الدين؛ وقد تلبَس دعوى حماية الدين لبوس صدق زائفًا، إذا صدرت من منتسب إليه، ولكنَّ الشناعة التي لا توارى، والفِرْية التي لا يصدقها غبيّ ولا ذكي، هي صدورها من أجنبيّ عنه، مجاهرٍ بعداوته، كدعوى المسيحيّ حماية الإسلام، أو دعوى المسلم حماية الأنصاب والأزلام. علماء الدين- إذا أصلحهم الله- هم حماة الدين حقًّا، وهم المؤتمنون عليه، وهم - إذا عافاهم الله من الجبن والطمع- حفَظته وأنصاره وأسماعه وأبصاره، وهم- إذا سدّدهم الله- نبالُه وقِسيُّه، وحِباله وعصيُّه، وكلهم- إذا جمع الله كلمتهم- غِفاره ودَوْسه، وخزرجه وأوسه؛ ولو أن علماءَنا- من خمسة قرون- حافظوا على تلك الصولة التي كانت لسلفهم على أهل الدنيا والسياسة، لسرَتْ إلينا منهم نفحات ينعشُنا عبيرها، ولمحات يهدينا شعاعها، وإذن لا يكون لهؤلاء الأدعياء في الدين هذه الجرأة على الدين. أما والله لو أنّ الحاج التهامي كان يشعر بأن علماء الدين محتفظون بقوّتهم وسلطتهم لما حدّثته نفسه باقتراف ما اقترف، ولو لقَّنه ألف ملقِّن، ولكنه شعر بخُلوّ الغاب من أشباله، وفراغ الميدان من أبطاله، فتجرَّأ ثمّ اقتحم ... ولسنا في هذا الموقف فضوليين، فلو أن الحاجّ التهامي دافع عن منصبه المخزني، وعن نفوذه الإداري، واستعان على ذلك بمن شاء، وركب في ذلك من الوسائل ما يركبه أمثاله من أمراء الإقطاع، وأحلاف السيوف والأنطاع، لما لَفت أنظارَنا إليه، ولما خالف الصورة التي نحملها له في أذهاننا؛ ولكنه فاجأنا بدعوة لم يسبقها إرهاص، وأذّن فينا للصلاة بِلُغة الزنوج، فادّعى أن ثورته إنما هي لحُرُمات الدين المنتهكة، ثم غلا فطلب من فرنسا حماية الإسلام، كما نقلتْ عنه بعض الجرائد الفرنسية فأزعجنا من ذلك ما يزعج كلّ عالم مسلم يغار على الإسلام أن تُنتهك حُرماته، ويعُدُّ أكبر انتهاك لها أن ينتصب لحمايتها إمامُ المنتهكين لها، وأن يستعينَ في ذلك بأكبر العاملين على انتهاكها. إن وطن الإسلام حيث تُقام شعائرُه، وتتناوَح عشائره، فلنا في كل قطعة منه شرك، ولنا في كل قبيل من أهله نسبة، وعلينا في كل موقف من مواقف النضال عنه حق، فليهنأ الحاج التهامي، فوالله ما كنّا نتوقّع له أن تكون عاقبة علوّه جفاء لسلطانه، وتنكُّرًا لإخوانه، واحتقارًا لدينه، وسعيًا في نكث الحبل، وتشتيت الشمل، واستعاذةً من الفخ بالخاتل، واستعانة على الحياة بالقاتل ... ***

ونضّر الله وجوه إخواننا علماء الدين بالمغرب الأقصى، فقد بلغنا أنهم قالوا كلمتهم في القضية، فأدُّوا الأمانة، وأقرُّوا الحق، وخرجوا من العهدة، وقاموا بواجب يحسُن به الذكر، وتُدفع به التهمةُ عنّا جميعًا، ومحَوا هُجنةَ السكوت في المقامات الحرِجة التي ألِف علماؤنا أن يلوذوا فيها بالصمت، فلا ينصرون حقًّا، ولا يخذلون باطلًا، ولا يبوءون فيها بمحمدة من المحقّ ولا من المبطل، وبلغنا أنهم كانوا في هذا الموقف على إجماع تخِرّ له أصنامُ الباطل، وبلغتْنا قِطَع من عرائضهم المرفوعة إلى السلطان، فإذا هي فرائض مكتوبة أدّيت، لا عرائض مكتوبة ألحمت وسُدّيت ...

أرحام تتعاطف

أرحام تتعاطف * طالما نعينا على المسلمين خصوصًا، وعلى الشرقيين عمومًا، هذا التقاطع الذي شتّت شملهم، وفرّق جامعتهم، وصيّرهم لقمة سائغة للمستعمرين، وطالما شرحْنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسُقنا المَثلات، وجلونا العبر، وكانت نُذر الشر تتوالى، فيتمارَوْن بها، وصيحات الضحايا منهم تتعالى، فيصِمُّون عنها، والزمن سائر، والفلك دائر، وهم في غفلة ساهون. دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهي جامعة الإسلام، إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق، وحذّرناهم من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم ومبعث بلائهم، وبيَّنا لهم أنها دسيسة استعمارية، زيّنها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه وأدلّاؤه، وغايتهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأنّ الاستعمار- بهذه الدسيسة وأشباهها- يُفسد فطرة الله فيهم، وينقُض دين الله عندهم، ففطرة الله تُلهِم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره، ودينُ الله يوجب حقوق الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه، وهو بهذا يُعمِّم التناصر، ويقيم في الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار، والناس كلهم متجاورون، جوار الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن، فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودَها عمّ التناصر والتعاون، وسدّت المنافذ على المغيرين، وعلى المفسدين في الأرض، ولكنّ الاستعمار- بهذه الدسيسة- بدّل شرعة الله بشرعة الشيطان، فهو يقول لك: أقصِر اهتمامك على دارك، ولا تلتفتْ إلى دار جارك، ويوسوس للجار بمثل ذلك، حتى إذا أطاعاه خرّب الداريْن، واستعبد الجارين.

_ * نشرت في العدد 148 من جريدة «البصائر»، 26 مارس سنة 1951.

وما زال الاستعمار يروّض المسلمين والشرقيين على قبول هذه الدسيسة، ثم على استحسانها، ثم على الأخذ بها، حتى تقطَّعوا في الأرض أممًا ليس منهم الصالحون ... ثم تقطَّعت الأمم جماعات، وكلّما آنس منهم مخيلة انتباه غرّهم بما يغرّ به الشيطان، بشجرة الخلد وملك لا يبلى، وجرّهم بما ينجرّ به الصبيان: ألفاظ فارغة وأسماء وألقاب، وعروش من أعواد، في مسيل واد، حتى ابتلع ممالكهم، واسترقَّ ملوكهم، واحتجن أموالهم، وتركهم مثلًا في الآخرين، واعتبرْ ذلك بهذا الاستعمار الجاثم في شمال أفريقيا، وعدْ بذاكرتك إلى مبدإ أمره، وكيف أكل العنقود حبّة حبّة، متمهّلًا مطاولًا، يرقب الخُلسَ، ويدَّرع الغَلس؟ وكيف أطعمتْه غفلتنا الكراع، فأطمعته في الذراع، حتى استوعب الجسد كلّه أكلًا. وكيف كان يعتدي على الجزء، فيقابله الكل بالهزء. اعتبر ذلك ترَ أننا ما أخِذنا بغتة، ولا سُلبنا هذا الملك الضخم فلتة، وإنما هي آثار تلك الدسيسة فينا، استبدلنا التناحر بالتناصر، والتعاوي بالتعاون، ثم نزلنا دركة، فأصبحنا وإن الأخ ليقتل أخاه في سبيل قاتلهما معًا، ولو اتّعظ الأخير منا بالأول لما مدّ الاستعمار هذا المدّ، ولما بلغ فينا إلى هذا الحدّ. ... وحلّت المحنة بالمغرب الأقصى، وجاءت فرنسا بالخاطئة، فأهانت ملكًا، وهدّدت عرشًا، وأذلّت شعبًا، وروّعت سربًا، وانتهكتْ حُرمات، واعتقلت أحرارًا، وكبتت أصواتًا، وحطت أعلياء من مراتبهم، ونصبَتْ أدنياء في غير مناصبهم، واستعانت على العقلاء بالسفهاء، وسلّطت الأخ على أخيه، والرّعيّة الآمنة على ملكها الأمين، وأشعلت النار بنا، لتُطفئها بنا ... فلا يكون ضرامها في الإشعال والإطفاء إلا أجسامنا ودماؤنا ... وجنت - بذلك كله- ثمار ما زرعته من تفريق، ورأينا- رؤية العين- ما كنّا نحذره على المسلمين، ونُحذّر منه المسلمين ... رأينا المثال المجسّم من انتصار الاستعمار بالمسلم على أخيه المسلم، وترويع المسلم بأخيه المسلم، وخوف المسلم من أخيه المسلم، كلّ ذلك والدين واحد، والوطن واحد، والمصلحة واحدة، والخصم المتربّص واحد، ولولا حكمة من العقلاء، وأناةٌ من الحلماء، لأريقت دماء المسلمين بمُدَى إخوانهم، في سبيل تمكين الاستعمار من رقاب جميعهم، ولعمري إنها لأقصى غاية من الفساد بلغناها، وأقصى أمنيّة للاستعمار نالها بنا فينا. من كان يظنّ أو يتوقّع أن يجلب الاستعمار على عرش من عروش الإسلام العريقة، لا بخيله ورجله، بل بخيل المسلمين الذين رفعوا دعائمه ورجلهم؛ من كان يظن أو يتوقَّع أن الاستعمار يبلغ منا هذا المبلغ، فيدوسنا بأرجلنا، ويريق دماءَنا بأيدينا، وينتصر علينا بنا،

ويصيِّر من بعضنا لبعضنا "بعابع" تخويف، ووحوش إرهاب، ويبلغ في ترويضنا إلى حد أن نصبِح أذلةً عليه، أعزةً على قادتنا ورجالنا؟ من كان لا يظن ذلك ولا يتوقعه، فها هو ذا محقَّق غير مظنون، وواقع غير متوقع، ولئن وقع متفرقًا في غير المغرب، فقد وقع كله مجتمعًا في المغرب. وكأنّ الأزْمة اشتدّت لتنفرج ... وكأنْ القنديل آذن بالانطفاء فتلك إيماضتُه الأخيرة، وكأنّ يد الله التي ارتفعت عنّا بما كسبت أيدينا قد لامستنا هذه المرة ... فلم نرَ محنةً من المحن التي جرّها الاستعمار على الإسلام وعلى الشرق، كانت أجمع للقلوب، وأدعى إلى التناصر من هذه المحنة، فقد كانت عاملًا إلهيًّا فتح العيون العُمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغُلف، وأيقظ الشواعر النائمة، ونبّه القوى الخامدة، فتعاطفت الأرحام المتقاطعة، وتعارفت الأرواح المتناكرة، فكانت تلك الموجة الجارفة من السخط والغضب والامتعاض، ظهرت في صحف الشرق، ثم سرت إلى حكوماته وهيئاته، ثم انتقلت عدواها إلى الشعوب، فكوّنت إجماعًا رهيبًا على انتصار المشرق للمغرب، لم يسبق له مثيل، وكانت غضبةً إسلامية ارتاع لها الاستعمار، وقدّر عواقبها، فلاذ بالحيلة والكيد والتهديد على عادته، وواهًا لها غضبةً لو اعترتنا مرةً أو مرتين قبل اليوم، لما عاش الاستعمار بيننا إلى اليوم! إننا- على ضعفنا- ما زلنا نملك أسلحة لو أحسنَّا استعمالها مجتمعين، لأرهبنا صهيون ونيرون معًا، ولكنّ طالع الاستعمار ما زال بغفلتنا وتخاذلنا متنقلًا بين "سعد السعود" وبين "سَعْدِ بُلَع"، ولو عاملناه بغير هذه المعاملة لكان منزلُه "الدَّيران". ولو أن المسلمين والشرقيين عمومًا لقُوا خصومهم في كل معترك سياسي بمثل هذا الإجماع في الرأي، والتواطؤ على الغضب، لهَتَموا أنيابهم الحداد، وقلَّموا أظافرهم الجاسية، ولكنهم لانوا لخصمهم أولًا، فقسا عليهم أخيرًا، وعوّدوه أن لا يلقوه جميعًا، فعوّدهم أن يلتهمهم جميعًا. ونكون عقلاء واقعيين إذا قدّرنا أن هذه الضجة التي أثرناها ستنتهي بلا فائدة، ولا تنال من ظاهر الاستعمار منالًا؛ لما نعرفه من أساليبه في إسكات مثلها بالحيلة والكيد؛ ولما نعرفه من أنفسنا من عيوب الانخداع والاغترار وسرعة التراجع، وعدم الاستمساك، ولكننا نكون عقلاء واقعيين أيضًا إذا قدرنا هذه الضجة قدرها، وأعظمنا آثارها النفسية في الشعوب الإسلامية والشرقية، وأقمناها دليلًا على شمول اليقظة لها، وحياة الشعور فيها، وانتزعنا منها فألًا، ما ينتزعه الاستعمار منها طيرة. ***

أينقِم منّا الاستعمار أن نتناصر بالكلام، وهو سلاح المغلوب، ونتعاون بالأقلام، وهي بقية المتاع المسلوب، وتتعاطف منا الأرحام، وذلك أيسر مطلوب؟ إن صحّ ذلك منّا فلا رضي ولا حظي، ولا زال غضبان حرِدًا. إننا لا نلومه إلا إذا لمنا السباع الضارية على الافتراس، وإنما نلوم أنفسنا أن لا نكون شوكًا في لهواته، ونغَصًا في شهواته، وسوادًا في لونه، وفسادًا في كونه، وضياعًا في صونه، وخذلانًا في عونه، ولو كنّا ذلك لأنصفناه وانتصفنا لأنفسنا منه ...

سكت ... وقلت ...

سكتُّ ... وقلت ... * (هدية إلى حُماة العروبة بالمغرب الأقصى) ــــــــــــــــــــــــــــــ سكتُّ، فقالوا: هدنة من مسالم … وقلت، فقالوا: ثورة من مُحارب وبينَ اختلاف النطق والسكت للنُّهى … مجال ظنون، واشتباه مسارب وما أنا إلا البحر: يَلقاك ساكنًا … ويلقاك جيَّاشًا مهولَ الغوارب وما في سكون البحر منجاة راسب … ولا في ارتجاج البحر عصمة سارب ولي قلم آليتُ أن لا أمدَّه … بفتل مُوارٍ، أو بختل موارِب جرى سابقًا في الحقّ ظمآن عائفًا … لأمواه دنياه الثِّرار الزَّغارب (1) يسدّده عقل رسا فوق رَبْوة … من العمر، روَّاها مَعين التجارب إذا ما اليراعُ الحُرّ صرَّ صريرُه … نجا الباطل الهاري بمهجة هارب ومن سيئات الدهر أحلافُ فتنة … وجودُهُمو إحدى الرزايا الكوارب ومن قلَمي انهلَّت سحائبُ نقمة … عليهم بوَدْقٍ من سمام العقارب ... فيا نفسُ لا يقعُد بكِ العجز، وانهَضي … بنصرة إخوان، وغوْثِ أقارب حرامٌ، قعودُ الحُر عن ذَوْد معتد … رمى كل ذَوْد في البلاد بخارب وبَسْل (2)، سكوتُ الحر عن عسف ظالمٍ … رمى كلّ جنب للعباد بضارب يُسَمِّنُ ذئبَ السُّوء قومي سفاهةً … بما جبَّ منهم من سنامٍ وغارب وما كان جندُ الله أضعف ناصرًا … ولا سيفُه الماضي كليلَ المضارب

_ * نشرت في العدد 150 من جريدة «البصائر?»، 9 أفريل سنة 1951. 1) جمع زغرب: وهو الماء الكثير المستبحر. 2) بسل حرام.

ومن جنده ما حطّ أسوارَ "مارد" (3) … وما صنعَ الفارُ المهين "بمارب" (4) ومن جُنده الأخلاقُ: تسمو بأمة … إلى أفق سعد للسِّماك مقارب وتنحطُّ في قوم فيهوُون مثلَ ما … ترى العين من مهوى النجوم الغوارب ينال العُلا شعبٌ يُقاد إلى العلى … بنشوان، من نهر المجرّة شارب ... رعى الله من عُرْب المشارق إخوةً … تنادَوْا فدوّى صوتهم في المغارب توافوْا على داعٍ من الحق مُسْمع … ووفَّوْا بنذْر في ذِمام الأعارب هُمُو رأسُ مالي، لا نضار وفضّة … وهمْ ربحُ أعمالي ونُجْح مآربي وهمْ مورِدي الأصفى المروّي لغُلتي … إذا كدّرَتْ "أمُّ الخيار" (5) مشاربي

_ 3) مارد قصر منيف ضرب به المثل: تمرد مارد وعزّ الأبلق. 4) سدّ معروف باليمن، ترتّب عن اختلاله سيل العرم المذكور في القرآن، وهو في منازل سبأ. 5) "أم الخيار" كنية اصطلح الأدباء في الجزائر من أبنائنا العاملين على تكنية فرنسا بها، أخذًا من قول أبي النجم الراجز: قد أصبحت أم الخيار تدّعي … عليّ ذنبًا كله لم أصنع ووجه هذه التكنية أنها كانت تتجنّى علينا، وتخلق لنا من الذنوب ما لم نصنعه، كلّما أرادت إلحاق الأذى بنا.

عروبة الشمال الافريقي

عروبة الشمال الافريقي * عروبة الشمال الافريقي بجميع أجزائه طبيعية، كيفما كانت الأصول التي انحدَرت منها الدماء، والينابيع التي انفجرت منها الأخلاق والخصائص، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد؛ وهي أثبتُ أساسًا، وأقدم عهدًا، وأصفى عنصرًا، من إنكليزية الإنكليز، وألمانية الألمان. قضت العروبة بقوّتها وروحانيتها وأدبها وسموّ خصائصها وامتداد عروقها- في الأكرمين الأُوَل من نبات الصحارى وبناة الحضارات فيها- على بربرية كانت منتشرةً بهذا الشمال، وبقايا آرّية كانت منتشرةً فيه، وفعل الزمن الطويل فعله حتى نسيَ الناس ونسي التاريخ الحديث أنّ هنا جنسًا غير عربي؛ وضرب الإسلام بيُسره ولطف مدخله، وملاءمة عقائده للفطر، وعباداته للأرواح، وآدابه للنفوس، وأحكامه للمصالح، على كل عرق ينبض بحنين إلى أصل، وعلى كل صوت يهتف بذكرى إلى مَاضٍ بعيد؛ وزاد العروبة تثبيتًا وتمكينًا في هذا الشمال هذه الأبجدية العربية الشائعة التي حفظت أصولَ الدين، وحافظت على متون اللغة، ودوّنت الآداب والشرائع، وكتبت التاريخ، وسجَّلت الأحكام والحقوق، وفتحت الباب إلى العلم، وكانت السبيلَ إلى الحضارة. كل هذه العوامل صيّرت هذا الشمال عربيًّا قارَّ العروبة على الأُسس الثابتة من دين عربي، ولغة عربية، وكتابة عربية، وآداب عربية، ومنازع عربية، وتشريع عربي، وجاء التّاريخ- وهو الحَكَم في مثل هذا- فشهد وأدَّى، وجاءت الجغرافيا الطبيعية فوصلت هذا الشمال بمنابت العروبة من جزيرة العرب، وجاء الزمن بثلاثة عشر قرنًا، تشهد سِنوها وأيّامها بأنها فرغت من عملها، وتمّ التمام، ووقع الختم، وأن عروبة هذا الوطن جرَتْ في مجاريها

_ * نشرت في العدد 150 من جريدة «البصائر»، 9 أفريل سنة 1951.

طبيعيةً منسابة، دم يشُبها إكراه، ولم يشِنها عنف، ولم يؤثّر فيها عامل دخيل، ولم تقُم على تحيُّل أو استغفال، وإنما هي الروح عرفت الروح، والفطرة سايرت الفطرة، والعقلُ أعدى العقل، وكأنّ الأمم التي كانت تُغطِّي هذه الأرض قبل الاتصال بالعرب، كانت مهيأة للاتصال بالعرب، أو كأنّ وشائج من القربى كانت مخبوءة في الزَّمن، فظهرت لوقتها، وكانت نائمة في التاريخ فتنبَّهت لحينها؛ وإن الأمم لتتقارب بعد أن كانت متباعدة، مثل ما تتباعد بعد أن كانت متقاربة، ولا يتوقف التقارب إلّا على دعوة مصحوبة بحجّة، أو حادثة مقرونة برجَّة، وكلتاهما وُجدت في الإسلام. إن كل ما يحتجّ به القادحون في عروبة هذا الشمال هو حجة عليهم، فالدُّوَل التي قامت فيه- كاللمتونية والرستمية والموحّدية والصنهاجية والمرينية والزيَّانية- ليس لها من البربرية إلا النسبة العرفية، وهي فيما عدا ذلك عربية صميمة: عربية في الضروريات المقوّمة للدولة، كوظائف القلم من إدارية ومالية، ووظائف القضاء من عقود وتسجيلات، وعربية في الكماليات التي تقتضيها الحضارة والترف، كالغناء والموسيقى والشعر، فما علمنا أن شعراء البلاطات في تلك الدول تقرّبوا إلى الملوك بالشعر البربري، إلا أن يكون في النادر القليل، وفي حال الاصطباغ بالبداوة الأولى. ... هذه العروبة الأصيلة العريقة في هذا الوطن، هي التي صيّرته وطنًا واحدًا، لم تفرّقه إلا السياسة، سياسة الخلاف في عصوره الوسطى، وسياسة الاستعمار في عهده الأخير؛ وهذه العروبة هي مساكه على كثرة المفرّقات، وهي ملاكه على وفرة العوامل الهادمة، وهي رباطه الذي لا ينفصم، ببقية أجزاء العروبة في الشرق، وهي السبب في كل ما يأخذ من تلك الأجزاء وما يعطيها، فينصرُها في الملمَّات، ويتقاضاها النصر في المهمات؛ فالعالم العربي بهذه العروبة المكينة كالجسد الواحد إذا ألمّ بجزء من أجزائه حادث، أو نزلت به مصيبة، تداعت له سائر الأجزاء بالنصرة والغوث، أو بالتوجّع والامتعاض؛ وقد امتُحن المغرب الأقصى- وهو عضو رئيسي من هذا الجسد- هذه المحنة التي لم نزلْ في عقابيلها، فهبّت مواطن العروبة كلُّها صارخةً في وجه العادي، فقال كل عاقل في الدنيا: إن هذا التضامن طبيعيّ، لأنه حنين العرق إلى العرق، ومجاوبة الروح للروح، ونداء الدّم للدّم، وأنه فيض من شعاب الفطرة الإنسانية، لا تملك القوة المادية زمامه، ونعرة من ذوي رحم، لا يتوجّه إليهم فيها اللوم فضلًا عن المؤاخذة، وهل يُلام يهود أميركا على انتصارهم لإخوانهم يهود ألمانيا؛ وهل يُلام فرنسيّو كندا إن توجّعوا لكارثة حلّت بإخوانهم في فرنسا؛ إنها نعرة طبيعية لم يضعفها الإغراق في البداوة، ولم يخفّفها

الإمعان في الحضارة، ولم يشذّ بها دين ولا علم، وما العرب إلا من الناس، وما هم بأقلّ حظًّا في الإنسانية من الناس. ... هذا هو فجّ الحقائق الذي يسلكه العقلاء فلا يضلّ بهم سبيل، ولا يفسُد عليهم تعليل، فأما الاستعمار فإنه يسلك في ذلك كله فجاجًا طامسة الأرجاء، فيتناول الحقائق الثابتة بالتشويه والمغالطة، ثم بالمكابرة فيها، ويُجادل بالباطل ليُدحض به الحق، وكأنّ سُنن الله (مستعمرة) أيضًا. فهو ينقلها من رُقعة إلى رقعة كقطَع الشطرنج، إذا خالفت سنّته هو، وينقض قوله بفعله، وفعله بقوله، كلما أفحمه المنطق وأوهى حجّته. ينكر الاستعمار عروبة الشمال الافريقي بالقول، ويعمل لمحوها بالفعل، وهو في جميع أعماله يرمي إلى توهين العربية بالبربرية، وقتل الموجود بالمعدوم، ليتمّ له ما يريد من محو واستئصال لهما معًا، وإنما يتعمد العربية بالحرب لأنها عماد العروبة، وممسكة الدين أن يزول، ولأن لها كتابة، ومع الكتابة العلم، وأدبا، ومع الأدب التاريخ، ومع كل ذلك، البقاء والخلود، وكل ذلك مما يُقضّ مضجعه، ويُطير منامه، ويصخّ مسمعه، ويُقصِّر مقاهه. وما هذه البدَوات التي تبدو منه حينًا بعد حين، إلا وسائلُ لمَحْو العربية ونقص العروبة من أطرافها، فكلّما هاجتْ به النَّوْبة، وغاظه من العروبة هذا التحدّي، وهذا الصمود للعوادي، وهذا التصلُّب في المقاومة، ارتكب جريمة، وسنّ لها من القوانين ما يقوّلها ويُغطِّيها، ويُسمّيها مصلحة، وجنّد لها من الأشخاص كل حاكم، وكل طامع، وكل ذي دِخلة سيئة، ومن الأعمال: التطبيل والتزمير، والإعلان والتشهير، ومن المعاني الاستمالة والتيسير والاستهواء والتغرير، والإغواء والتبشير، وما الظهير البربري في ذلك الباب بأول ولا أخير. كل ذلك الجهد، ومثلُه معه مصروف إلى غاية واحدة، وهي محو العربية وقتل العروبة، وكل ذلك الجهد مردف بجهد آخر في إحياء المعاني الميتة التي قتلها الإسلام من بِدع وضلالات ... ومن أباطيل الاستعمار وتهافته، أنه يسمِّي السوداني المتجنِّس بالجنسية الفرنسية ليومه أو لساعته: فرنسيًّا، ويلحقه بنسَبه، ويُساويه به في حقوقه ومميزاته، ثم ينكر على البربري - مثلاً- أن يكون عربيًّا، بعد ما مرّت عليه في الاستعراب ثلاثة عشر قرنًا وزيادة، وبعد أن درج أكثرُ من ثلاثين جيلًا من أجداده على الاستعراب، لا يعرفون إلا العربية لغةً يتكلّمون بها ويتأدّبون ويتعبّدون، فليت شعري: أيهما أقرب إلى الواقع: آلْبَرْبَرِيّ المستعرب، أم السوداني المتفرنس؟ وأيهما أنفذ؟ أحكم الله، أم حكم الاستعمار؟

ومن آيات بغض الاستعمار لكلمة العروبة ونفوره منها، أنه لا يريد أن يعترف بأثر من آثارها الطبيعية من تراحم وتعاطف، فهو في محنة المغرب الأقصى الأخيرة، وما أثارته من غضب العرب وسخطهم وإجماعهم على الاستنكار، لا يَرُد ذلك إلى مردّه الطبيعي، وهو التعاضد الجنسي، وإنما يردّه إلى شيء آخر تنكره روح هذا العصر المنافق، وهو التعصّب الديني، كلّ ذلك ليبعد عن خواطره- ولو بالتوهّم- خيالَ العروبة مجتمعة الشمل، متصلة الأسباب، موصولة الأرحام، معلنة لعروبة الشمال الافريقي، وتُعمي الأهواء عينيه على حقيقة مجردة، وهي أن حظّ العرب المسيحيين في مصر والشام من التألّم لمحنة المغرب الأقصى، لم يكن أقلّ من حظ إخوانهم المسلمين. إن الاستعمار- على ذلك كله- ليعرف عروبة هذا الشمال ويعترف بها، ولكنه ممن يكتمون الحق وهم يعلمون، فقد احتلّ هذا الوطن فكانت أقواله في الحرب والسلم، وأحكامه في العدل والظلم، كلها جارية بأنه عربي، وعلى أنه عربي، وكلمة العرب Les Arabes التي يطلقها على أهله تمييزًا أو نبزًا أكبر حجة عليه، ولكنه في مبتدإ أمره ومنتهاه رجس من عمل الشيطان، وهل في عمل الشيطان خير أو حق؟ إنما هو عناد للحق، وتزيينٌ للباطل، ونقض للخير، وبناء للشر، وما شاء الشيطان من النقائص.

جمعية العلماء وفلسطين

جمعية العلماء وفلسطين

فلسطين (1)

فلسطين (1) تصوير الفجيعة * ــــــــــــــــــــــــــــــ يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحًا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبراتٍ هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عُنق كل مسلم جزائري لك- يا فلسطين- حقٌ واجبُ الأداء، وذمام متأكِّد الرعاية، فإن فرّط في جنبك، أو أضاع بعضَ حقك، فما الذنب ذنبُه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبلته. يا فلسطين! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإنّ هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأنّ فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودًا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطًا؛ وإليك إليك ترامت همم الفاتحين، وترامت الأيْنُق الذلل بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوَّة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد إلى منابت الوحى القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله. ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويمًا من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وِرْدًا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهرك من رجس الرومان، كما طهر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان. داست حماك سنابك الخيول البابليَّة، وجاست خلال الديار، وسُبي بنوك (أسلاف الصهيونيين)، فلم ينتصر لك ولا لهم أحد، لولا أن منّ عليهم الفاتحون المستعبدون، وإن

_ * نشرت في العدد 5 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1947.

المنّ لأنكى على الحر من الاسترقاق، ثم غزاك الرومان، وأذلُّوا بنيك واشتفَوْا منهم إثخانًا في القتل وانتقامًا- زعموا- من جريرة الصلب، وما ظلمت يا فلسطين، ولكنّ بَنيكِ جرّوا عليك الجرائر، وما كنتِ لتُفْلِتي من براثن الرومان لولا أن انتصف الله لك من عدوّك بالإسلام والعرب، فنصروك وطهّروك وبلُّوا الرحمَ الإبراهيميّة بِبُلالها، ووفَوْا لأبناء العمومة بحقّ القربَى والجوار، وأصبحت من ذلك الحين ملكًا ثابتًا للإسلام، وإرثًا مستحقًا من موسى لمحمد، ومن التوراة للقرآن، ومن إسحق لإسماعيل. يا فلسطين! ملكك الإسلام بالسيف ولكنه ما ساسك ولا ساس بنيك بالحيف، فما بالُ هذه الطائفة الصهيونية اليوم تُنكر الحق، وتتجاهل الحقيقة، وتجحد الفضل، وتكفُر النعمة؛ فتُزاحم العربيّ الوارث باستحقاق عن موارد الرزق فيك، ثم تَغْلو فتزعم أنه لا شرب له من ذلك المورد. ما بالُ هذه الطائفة تدَّعي ما ليس لها بحق، وتطوي عشرات القرون لتصلَ- بسفاهتها- وعدَ موسى بوعد "بلفور"، وإن بينهما لَمَدًّا وجزْرًا من الأحداث، وجذبًا ودفعًا من الفاتحين. ما بالُها تدّعي إرثًا لم يَدفعْ عنه أسلافها غارةَ بابل، ولا غزو الرومان، ولا عادية الصليبيين، وإنما يستحق التراث من دافع عنه وحامى دونه، وما دافع بابل إلا انحسارُ الموجة البابلية بعد أن بلغَتْ مداها، وما دافع الرومان إلا عمر والعرب وأبطال اليرموك وأجنادين، وما دافع الصليب وحامليه إلا صلاح الدين وفوارس (حِطِّين). إن العرب على الخصوص، والمسلمين على العموم، حرّروا فلسطين مرّتين في التاريخ، ودفعوا عنها الغارات المجتاحة مرّات، وانتظم ملكهم إياها ثلاثة عشر قرنًا. وعاش فيها بنو إسرائيل تحت راية الإسلام وفي ظل حمايته آمنين على أرواحهم، وأبدانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وعلى دينهم، ومن المحال أن يحيف المسلم الذي يؤمن بموسى، على قوم موسى. ما أشبه الصهيونيين بأوّلهم في الاحتياط للحياة، أولئك لم يقنعوا بوعد الله، فقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}، وهؤلاء لم يثقوا بوعد بلفور حتى ضمنت لهم بريطانيا أن يكونوا في ظل حرابها، وتحت حماية مدافعها وقوانينها؛ وبكل ذلك استطاعوا أن يدخلوا مهاجرين ثم يصبحوا سادة مالكين، ودعْ عنك حديث الإرهاب فما هو إلّا سراب. ولو أنَّ السيوف الإنجليزية أُغمدت، والذهب الصهيوني رجع إلى مكانه، وعرضت القضية على مجلس عدل وعقل لا يَستهويه بريق الذهب، ولا يرهبه بريق السيوف، لقال القانون: إن ثلاثة عشر قرنًا كافية للتملّك بحق الحيازة، وقال الدين: إن أحق الناس بمدافن

الأنبياء هم الذين يؤمنون بجميع الأنبياء، وقال التاريخ: إن العرب لم ينزعوا فلسطين من اليهود، ولم يهدموا لهم فيها دولةً قائمة، ولا ثلُّوا لهم عرشًا مرفوعًا، وإنما انتزعوها من الرومان، فهم أحق بها من كل إنسان. ... إن الصهيونية فيما بلونا من ظاهر أمرها وباطنه نظام يقوم على الحاخام والصيرفي والتاجر، ويتسلّح بالتوراة والبنك والمصنع، وغايتها جمعُ طائفة قُدّر لها أن تعيش أوزاعًا بلا وازع، وقُدِّر لها أن تعيش بلا وطن- ولكن جميع الأوطان لها- فجاءت الصهيونية تحاول جمعها في وطن تُسمِّيه قولًا فلسطين، ثم تُفسِّره فعلًا بجزيرة العرب كلها، فهو في حقيقته استعمار من طراز جديد في أسلوبه ودواعيه وحُججه وغاياته، يجتمع مع الاستعمار المعروف في أشياء، وتفرّق بينهما فوارق، منها أن الصهيونية تعتمد قبل كل شيء على الذهب، تشتري به الضمائر والأرض والسلاح، وتشتري به السكوتَ والنطق، وتشتري به الحكومات والشعوب، تعتمد عليه وعلى الحيلة والمكر والتباكي والتصاغر في حينه، وعلى التنمّر والإرهاب في فرصته. إن فلسطينَ أرض عربيّة لأنها قطعة من جزيرة العرب، وموطن عريق لسلائل من العرب، استقرّ فيها العرب أكثرَ مما استقرّ اليهود، وتمكَّن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية، وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة، وسادتْ فيها العربية أكثر مما سادت العبرية، وما الانتداب الإنجليزي إلا باطل، ليس من مصلحة العرب ولا من مصلحة اليهود، وما الوطن القومي إلا خيال جسَّمتْه الأحلام الدينية، والمطامع المادية، وما منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولجنة التحقيق إلا تعلّات لا تُسكِت ولا تُسَكِّن، وما استمرار الهجرة إلا مدٌّ للحمأة وتأريث للنار، ومَن ضاقت به رحاب الدنيا لا تسعه فلسطين، ومن لفظته حواشي الأرض لا تستقرّ به فلسطين، أمَّا حديث التشريد والمشرّدين من اليهود فهو مشترك إلزام في القضية، وما أكثر المشرَّدين في الأمم الإسلامية، بل ما أكثر المشرَّدين من العرب، فإذا أخذْنا الرحمة بالمشرّدين قاعدةً كان أحق الناس بها مشرّدي العرب الذين لا يفصلهم عنها بحر ولا يقال في هجرتهم إليها إنها شرعية أو بدعية كما يقال في هجرة اليهود، وما ظُلِمت كلمة الشرع بأفحش من نسبة الحيل إليها عند بعض فقهائها، ومن نسبة الهجرة اليهودية إليها عند فقهاء الاستعمار. ***

أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين، أو تضعها فى غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها، لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى، ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى حلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته، هو الذي يُباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم، وهيهات هيهات لما يروم. إن بين دول الاستعمار علائقَ ماسّة، وإنهنّ يتباعدن ما دام خيال الشرق وبنيه والإسلام وأمَمه بعيدًا، فإذا لاح ذلك الخيال حنّت من الاستعمار الدماء، وتعاطفت الأرحام، وتُنُوسِيت الأحقاد، فهلّا فعلنا مثل ما فعلوا؟ أيها العرب! إن قضية فلسطين محنةٌ امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تُنال بأنها حق في نفسها، وليست تُنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيّات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة. إن الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه. وكونوا حائطًا لا صدع فيه … وصفًّا لا يُرقّع بالكُسالى

فلسطين (2)

فلسطين (2) وصف قرار تقسيمها * ــــــــــــــــــــــــــــــ تصدّع ليلُ فلسطين الداجي عن فجر كاذب العيان، وتمخّض مورد الطامعين فى إنصاف أوربا القديمة وأوربا الجديدة عن آل لماع يرفع الشخوص ويضعها في عين الرائي لا في لَمْسَ اللامس، وباء الظانُّون ظنَّ الخير بالضميرين الأوربي والأمريكي بما يستحقّونه من خيبة تعقُبها حسرة، تعقُبها ندامة؛ وتكشف ذلك اللبس الذي دام عشرات السنين عن الحقيقة البيضاء، وهي أن حق الشرق لا وليَّ له في الغرب ولا نصير، وجاء بها هذا المجلس الذي يُسمّونه- زوراً- مجلسَ الأمم المتحدة شنعاء لا تُوارَى من أحكام القاسطين، وأحلام الطامعين. تراءى الحقُّ والباطل في ذلك المجلس، لا العربُ واليهود، وجاء أهل الحق يحملون المنطق، ويخطبون المعدلة، ويخاطبون الضمير والعقل، ويحتكمون إلى الشعور والإحساس وما منهم إلا من هو في الخصام مبين؛ وجاء أهل الباطل يحملون الإبهام المضلِّل، والكيد المبيت، والمكر الخفي، والدعاوى المقطوعة من أدلّتها، ومع كل أولئك- الرنين الساحر يستهوُون به الأفئدة الهواء والضمائر الخربة؛ وأنصَتَ التاريخ ليسجّل الشهادة، واستشرف الكون لينظر هل تُخرَق للأقوياء عادة، ونُشِر الأصل والدعوى. وتعارضت البيِّنة والشبهة، وأفصح الحق واتّضَح، ولجلج الباطل وافتضح، ولكنّ تلك الدول المتحدة على الباطل ألجمها الحق بحججه، وأجرَّتها الحقيقية بوضوحها، فحكموا الانتخاب ... وليت شعري أي موضع للانتخاب هنا؟ إن تحكيم الانتخاب هنا كتحكيم القُرعة بين أصحاب الحظوظ المتفاوتة، كصاحب العشر مع صاحب النصف، كلاهما باطل، لا يسيغه عقل ولا شرع ... وأي فرق بين ما نعيبه من تحكيم الجاهلية للأزلام الصمّاء وحصى التصافُن، وبين تحكيم أصوات من أموات وويلات، سمّوهم ممثِّلي دويلات؟

_ * نشرت في العدد 21 من جريدة «البصائر»، 2 فيفري سنة 1948.

أسفر الانتخاب عن تقسيم فلسطين تحدّيًا للعرب وحقّهم، وللمسلمين ودينهم، فكان حظ اليهود منها- بغير انتخاب ولا قرعة- الجهات الخصبة، المتصلة بالعالم، القريبة من الصريخ، الموطأة الأكناف، المأمونة الأمداد والمرافق؛ وكان حظُّ العرب منها الجهات الرملية القاحلة والجبلية الجرداء، وكان حظ البيت المقدَّس ميراث النبوّة عن النبوّة أن يصبح إرثًا لأحفاد الصليبيين، وذِيدَ عنه الخصمان المحقّ والمبطل: فلا اليهود به فازوا، ولا العرب إيَّاه حازوا، وإنا لنعلم الاعتبارات التي بُني عليها هذا التقسيم، والمكائد التي انطوى عليها، والمقاصد التي رَمى إليها، وإنا لنعلم الدواعي التي حملت الناطقين على النطق والساكتين على السكوت. وإننا لا نغترُّ بما حاكوا وما لاكوا، ولا نرتد على أعقابنا بما حذَّروا وما أنذروا، ولا نعتبر الحياد إلا كيادًا، وإنَّنا نعتقد أنهم جميعًا سيذوقون وبالَ أمرهم، وأن مكرهم سيحيق بهم، وأن تشتيتهم لشمل فلسطين فاتحة لتشتيت شملهم، وأن النار التي أشعلوها في فلسطين ستلتهمهم جميعًا. إيه يا فلسطين!! لقد كنت مباركةً على العرب في حاليْكِ! في ماضيك وفي حاضرك! كنتِ في ماضيك مباركةً على العرب يوم فتحوك فكمّلوا بك أجزاءَ جزيرتهم الطبيعيّة، وجمَّلوا بك تاج ملكهم الطريف، وأكملوا بحرمك المقدس حرميْهم، ويوم اتّخذوك ركابًا لفتوحاتهم، وبابًا لانتشار دينهم ومكارمهم ومرابطَ لحُماة الثغور منهم ... أنت عتبتهم إلى مصر، ومعبرهم إلى أفريقيا، ومنظرتهم إلى بحر العرب، لم تطأكِ بعد أقدام النبيين أطهرُ من أقدامهم، ولم يحمِك بعد موسى أشجعُ من أبطالهم ... وكنت مباركةً عليهم في حاضرك المشهود فما اجتمعتْ كلمتهم في يوم مثل ما اجتمعتْ في يوم تقسيمك، ولقد فرّقهم الاستعمار الخبيث في عهدهم الأخير، فما تنادَوْا إلى الاتحاد مثل ما تنادَوْا إلى الاتحاد في سبيلك، ولقد تخوّف أوطانهم من أطرافها، فما تداعوا إلى الذود عن قطعة من أرضهم مثل ما تداعوا إلى الذود عنك. أما والله يا فلسطين، لكأنَّ أعداء العرب أحسَنوا إليهم بتقسيمك من حيث أرادوا الإساءة، ولكأنّ المصيبة فيك نعمة، ولكأنّهم امتحنوا بتقسيمك رجولتنا وإباءَنا ومبلغ التضحية بالعزيز الغالي فينا، ولكأنَّهم جسّوا بتقسيمك مواقع الكرامة والشرف منّا، وكأنّ كل صوت من أصواتهم على التقسيم صوت جهير ينادي العرب: أين أنتم؟ فلا زلتِ مباركةً على العرب يا فلسطين! ... أيها العرب! قُسمت فلسطين فقامت قيامتكم ... هدرت شقائقُ الخطباء، وسالت أقلام الكتّاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرةً تحرّك رواكدَ النفوس، وانعقدت المؤتمرات،

وأقيمت المظاهرات، فهل كنتم ترجون من الدول المتّحدة على الباطل غير ذلك؟ وهل كنتم تعتقدون أنه مجلس أمم كما يزعم؟ كأنَّ تلك الأمم وحَّد بينها الانتصار على الألمان النازي، واليابان الغازي. فجعلت من شكر الله على تلك النعمة أن تنظم أمم العالم في عقد من السلام والحرية تستوي فيه الكبيرة والصغيرة؛ ودوله في مجلس تستوي فيه القوية والضعيفة، ليقيم العدل، وينصف المظلوم، وكأنَّكم ما علمتم أن ذلك المجتمع يمشي على أربع، ثلاث موبوءة، والرابعة موثوءة. يا قوم! ما ظُلمت فلسطين يوم قُسمت، ولكنَّها ظُلمت يوم بذل بلفور وعده للصهيونيين باسم حكومته، وما منَّا- أهلَ هذا الجيل- إلا من شهد يوم الوعد، وشهد يوم التقسيم، وشهد ما بينهما، ومَن عرف مصادر الأمور عرف مواردها، فانظروا- ويحكم- ماذا فعل الصهيونيون من يوم الوعد إلى يوم التقسيم، وانظروا ماذا فعلنا. علم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كونه وعدًا، وأن نصّه الطريّ اللّين هو: "أن انكلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين! " فأعدّوا لتحقيقه المال، وأعدُّوا الرجال، وأعدّوا الأعمال؛ واتخذوا من الوقت سلاحًا فلم يضيعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا ... فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن غفلتنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوّات كلها ظهيرًا لهم علينا. وعلمنا نحن أن ذلك الوعد وعد إنكليزيّ وعد بلفور به اليهود عند حاجته إلى ذهبهم، كما وعد الشريف حسينًا بخلافة شاملة ووحدة كاملة عند حاجته إلى تخذيل الأتراك، وأن الوعود الإنكليزية شيء عرفناه- بزعمنا- بعضُه من بعض، يُخلف مع اليهود كما أخلف مع الشريف حسين. وتعامينا عن الفوارق العظيمة بيننا وبين اليهود، وبين وعود الإنكليز لنا ووعودهم علينا. كان الواجب أن نعمل من يوم الوعد لما ينقُض الوعد، فنجمع الشمل المشتت، والهوى المتفرق، ونقضي على الصنائع التي اصطنعوها منا، ونحارب الواعد والموعود بالسلاح الذي يحاربوننا به، ونعلم أن اليهود لا يكاثروننا بالرجال فرجالنا أكثر، ولا يكاثروننا بالشجاعة فشجاعتنا أوفر، وإنما يكاثروننا بالمال والعلم والصناعة، فلو كنا ممن يفكر ويقدِّر ويأخذ بالأحوط الأحزم، لبدأنا من أول يوم بالإعداد والاستعداد، فأعددنا المال، وأعددنا العلم، واستعددنا بالصناعة. وإن في ثلاثين سنةً ما يكفي لأن نستعدّ كما استعدّوا، وأكثر مما استعدّوا. لا بالأقوال والاحتجاجات التي هي سلاح الضعفاء، ولكن بمصانع العقول وهي مدارس العلم، وبمعامل الأسلحة والعتاد، وبمصايد المال وهي الشركات التجارية، ولو فعلنا لانجحر صهيون في وجاره، وانكمش من يؤازره اليوم من أنصاره، ولو فعلنا لما كانت مماطلة الأمس ولا تقسيم اليوم.

أما وإننا لم نفعل فلنعتبر أن صدمة التقسيم القاسية العنيفة هي تأديب إلهي بُنقّي من هممنا الوهنَ والزغل، وينْفي من صفوفنا الكلّ والوَكل، وإن الأمم التي تصاب بمثل تأخّرنا وتخاذلنا وغفلتنا لمحتاجة إلى أحداث ترجّها رجًّا، وتزجُّها في المضايق زجًّا، لتنفض عنها أطمار الخمول والضعة، وتطهرها من أدران الخوَر والفسولة. إن العروبة لفي حاجة إلى ذلك الطراز العالي من بطولة العرب. وإن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت فى سبيل الحق، ليحيا الحق.

فلسطين (3)

فلسطين (3) العرب واليهود في الميزان عند الأقوياء * ــــــــــــــــــــــــــــــ إنَّ الأقوياء الذين تولّوا أمر التقسيم، وحملوا أولئاك الضعفاء بالوعد والوعيد على التصويت عليه، ما ارتكبوا تلك الجريمة الشنعاء وغمطوا حق العرب، إلا بعد أن غمزوا مواقع الإحساس من العرب، فرأوهم جادّين كالهازلين، ورأوا منهم ناكثين كالغازلين، ورأوا في أمرائهم المقاومين على أعنف ما تكون المقاومة، والمساومين على أخس ما تكون المساومة، وفي شعوبهم الجاهل والذاهل، والمتشدّد والمتساهل، فبنوا مقدمات الحكم على هذا التفاوت في الكيان العربي، وغرّهم بالعرب الغرور، ولم يُتبعوا الأيام نظرَهم، بل وقعت عينهم على يوم العرب وأغفلوا غدهم، ثم فعلوا الفعلة النكراء فوازنوا بين ما نملك من قوى مادية نستطيع بها الممادَّة في الجهاد، وبين ما يملك الصهيونيون من ذلك، ودرسوا وقارنوا واستخدموا الجمع والطرح، فأنتجَتْ لهم المقدمات هذه الحقائق، وهي أننا لا نملك مصنعًا للسلاح، ولا معملًا للكيمياء ولا رجالًا فنّيين كالذي يملكه اليهود من كل ذلك، وأن ثلاثين سنةً مرت- وكلها نُذر بهذه العاقبة- لم توقظنا من غفلتنا، ولم تدفعنا إلى الاستعداد لها، فقالوا: نقسمها، ونربح اليهود، لأنَّ لنا فيهم فائدة معجّلة، ولا نخشى العرب لأنه ليس فيهم مضرّة مؤجّلة. ولكن فات أولئك البانين لكل شيئ على الماديّات أن هناك سلاحًا أمضى من جميع الأسلحة المادية، وأنه الشرط الأول في نفعها وغنائها، وهو سلاح الروحانيات، من إيمان بالحق، واعتداد بالنفس، وحفاظ على الكرامة وتقديس للشرف، وإباء للضيم، ومغالاة بالتضحية والفداء، واستخفاف بالظلم والظالمين، وفاتهم أن العرب وإن نزُر حظهم من القوى المادية التي لا يستهين بها الا جاهل، فإنّ حظهم موفور من القوى الروحية التي لا يستهين بها إلا مغرور. وستتقابل القوَّتان في فلسطين: قوة الروح ومعها الحق، وقوة المادة

_ * نشرت في العدد 22 من جريدة «البصائر»، 9 فيفري سنة 1948.

ومعها الظلم والباطل. وسيرى العالم أيّتهما تُحطّم. وأيتهما تتحطّم؟ وكأن الله جلت قدرته أراد أن تجري التجربة الثانية للسلاح الروحاني امتحانًا لقدرته على المقاومة في أرض فلسطين منبع الروحانيات على يد وارثيها بالفرض من إسماعيل وإبراهيم، وسيُصارف العرب اليهود مادة بمادة حتى إذا بطلت خاصية المادّة فضلوهم بتلك الذخائر الروحانية التي اختصّوا بها، وستكون العاقبة للروح وعجائبه، لا للمادّة وغرائبها. ويح الأقوياء! ... أكانوا يتخيلون- يوم استهواهم البريق فرجحوا كفة صهيون- أن العرب يستسلمون للضعة، ويخضعون للهون والدون، وصفقة المغبون، أو يرضون بحكومة أصوات معروضة للإعارة والإجارة، هي عندهم من قبيل صوت الناعي ينعى من غير تأثّر، والنادبة تندُب من غير شجىً، فإن لم يكن أولئك الأقوياء بتلك المخيلة فهل بلغ بهم الاستخفاف بدماء البشر أن يُسبِّبوا لإراقتها الأسباب، ويفتحوا لهدرها الأبواب؟ ألم تكفهم المجازر الكبرى حتى يخلقوا لها بُنيات، ويفتحوا إلى أمثالها مطالع وثنيات؟ ... كذبتكم المخيلة أيها الأقوياء! ... إن العرب إذا سيموا الحيف حكموا السيف، وإنهم سيأخذون حقّهم بالدم الأحمر في حين أراد اليهود استلابه منهم بالذهب الأصفر. وإن الزمان سيأخذكم بهذه الدماء المراقة، أخذ الأرض لفرس سُراقة (1)، وإن التاريخ سيعصِب بكم عارَها وشنارها، وسيئاتها وأوزارها. وويح لليهود! ... أبلغتْ بهم الغباوة أن يشتروا الحياة الموهومة بالموت المحقق؟ أما وسِعهم ما كانوا فيه من أخوّة العرب لهم، وعدل العرب فيهم، وفضل العرب عليهم، وانتصار العرب لهم، حتى يكفروا بذلك كله، ويلتمسوا النصفة ممن شرّد آباؤه آباءَهم وطرد أجداده أجدادهم، ويستجدوه الرحمة فيُنجدهم بالعذاب؛ وليس برحيم مَن ألقاك في جحيم! وويح الجميع! ... إن غرسَ صهيون في فلسطين لا ينبت، وإذا نبت فإنه لا يثبت، فانتظروا إنّا معكم من المنتظرين. ... كان حظّ فلسطين في أدوار الزمن، وأطوار التاريخ، وعصور الفتوحات، حظ العقيلة الكريمة؛ تؤخذ في ميدان البطولة ممهورةً لا مقهورة، أخذها البابليون غلابًا، وأخذها الفرس اغتصابًا، وأخذها الرومان اقتسارًا، وأخذها العرب اقتدارًا، ولا يعدّ أخذ اليهود لها من

_ 1) سراقة بن مالك المدلجي، الذي قفا أثر النبي وصاحبه أبي بكر يوم الهجرة على جعل يأخذه من قريش إذا ردّه إليهم، فلما لحقهما في الطريق ساخت قوائمُ فرسه في الأرض، والقصة مبسوطة في كتب التاريخ والسير.

كنعان في واحدة من هذه، وإنما هي كتابة الله بشرطها، ومعجزة موسى في حدودها. ولكنَّها في هذا العصر، عصر الحضارة، حضارة القرن العشرين، وعصر الديمقراطية، ديمقراطية العالم الجديد، وعصر الحرية، حرية الثورة الفرنسية، وعصر الشيوعية، شيوعية ماركس ولينين، تؤخذ في سوق الأغراض والمنافع الخسيسة بيعًا ومساومة ... فات اليهود أن يأخذوها بالسيف من العرب فيكفِّروا بعد عشرات القرون عن سيّئة اجترحها أسلافهم يوم قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}، فاتهم ذلك، وأعوزتهم الخصائص الدمويّة التي يكونون بها كذلك، فلجأوا إلى ما هو الأشبه بهم لا بها، وهو ... وهو الشراء. شراء القوي ليكون لهم معينًا، وبحمايتهم رهينًا، وشراء المعلنات اللافتة، والأصوات ولو كانت ... خافتة! ... يا بخس فلسطين! ... أيبيعها من لا يملكها ويشتريها من لا يستحقّها؟ يا هوان فلسطين! ... أيكون من ذوي الحق في بيعها تلك الدويلات التي لم تُخلَق خلقًا طبيعيًّا وإنما خلقتها المنافسات، والتي لم يبلغ الكثير منها جزءًا مما بلغته فلسطين من مجد في التاريخ، وسابِقة في الحضارة، ويد في نفع البشرية. بل لم تبلغ مجتمعةً ما بلغته فلسطين من احتضان النبوّات واستنباط الشرائع والعلوم والحكم. ويقولون إنّ فلسطين منسك للأديان السماوية الثلاثة وإنها قبلة لأهل تلك الأديان جميعًا، فإن كان ما يقولون حقًّا- وهو حق في ذاته- فإن أحق الناس بالائتمان عليها العرب، لأنهم مسلمون، والإسلام يُوجب احترام الكُتب والكتابيين، ويوجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، ويضمن إقامة الشعائر لليهود والمسيحيين، لا اليهودُ الذين كذَّبوا الأنبياء وقتلوهم، وصلبوا- بزعمهم- المسيح الصادق، وشرّدوا حوارييه من فلسطين، وكفروا بمحمد بعد ما جاءهم بالبيّنات. ومن غريب ما صنعته الحضارة المادية بأهلها، وما طبعت عليه نفوسهم من جفاف، وما ابتلتْ به ضمائرهم من زيغ وانحراف، أن الدولَ والدويلات التي صوّت ممثلوها على تقسيم فلسطين وغرس اليهودية في الجزء الأهم منها غرسًا رسميًا قانونيًا؛ كلها دول تدين أممها بالمسيحية، وباعتقاد أن اليهود صلبوا المسيح ... فهل يُلام العرب بعد هذا- والمسلمون من ورائهم- إذا اعتقدوا أنها حرب صليبية، بعض أسلحتها اليهود، وأنها ممالأة مكشوفة من الدينين الصالب والمصلوب على الإسلام؛ نعم وإن كلمة المارشال اللنبي التي قالها يوم انتزع القدس من يد الأتراك لا تزال مأثورة مشهورة، ولا يزال رنينها مجلجلًا في الآذان، وصداها متجاوبًا في الأذهان. أيها العرب، أيها المسلمون! إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منّا ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون.

فلسطين (4)

فلسطين (4) ماذا نريد لها وماذا يريدون * ــــــــــــــــــــــــــــــ نحن العرب نريد لفلسطين أن تكون عربية، وأن تبقى عربية فتبقى لها بشاشة النبوة، وحلاوة الإيمان، وجاذبية الوحي وروحانية الشرف، ومخايل السامية، وصبغة السماء. نريد أن تبقى عربية الأنساب، سامية الأحساب، سماويّة الأسباب، تتماسك أجزاؤها بروحانية الدين، وتُشرق أرجاؤها بلألأة القدسية، وتُطل جنباتها بأنداء الشرق، وتتراحب آفاقها للقلوب التي تختلف في العبادة ولكنها لا تختلف في المعبود، فتظلّ العرب أصحاب الفضل عليها في التاريخ، والسيادة عليها فى الواقع، والاضطلاع بحمايتها وحماية عُمارها، وإعلاء كلمة الله فيها، لا كلمة الدرهم والدينار، وتظل اليهود الذين لم يكتب التاريخ لهم مكرمة عليها ولا يدًا من يوم قال لهم موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فارتدُّوا على أدبارهم إلى يومنا هذا، وتحفظ عليهم ما هم أحرص الناس عليه من حياة ومال. نريد أن تبقى أرضًا مقدّسة مكملة لقدسية مكة ويثرب، لا يراد فيها إلحاد بظلم، ولا تقوم على أرضها جبرية حكم ولا جبْرية مال. ونريد لها أن تبق- كما كانت- جزءاً طبيعيًّا من جزيرة العرب مكملًا لبقية الأجزاء، وما دامت القضية قضية أحلام، فإن لنا في جزيرة العرب لَحُلمًا ... ولكنه أقرب من حلم اليهود للتحقيق، وهو أن تصبح مملكةً واحدة، بدستور واحد، وثقافة واحدة، ونقد واحد، لاحدود تفرِّق، ولا إمارات تغرّب وتشرّق، ولا أمراء تمزّق أهواؤهم وتخرّق، ولم لا تكون دولةً واحدةً؟ وإن فيها لأمةً واحدة، لا تحتاج في تكثير سوادها إلى الطرّاق، وشذّاذ الآفاق، ولا تحتاج في تعمير بلادها إلى الواغل الذي يزحم، والوارش الذي لا يرحم وما بيننا وبين

_ * نشرت في العدد 23 من جريدة «البصائر»، 16 فيفري سنة 1948.

ذلك اليوم إلا إفاقة رجل نائم وصحو جوّ غائم: وإن ذلك لقريب، إنه لقريب ... ومعاذ العروبة أن تقضي جريرة العرب، على جزيرة العرب. ويريد اليهود أن يجعلوها وطنًا قوميًّا يحققون به الأحلام الدينية التي فتنت أحبارهم، والمطامع الدَّنية التي فتنت أغنياءَهم، وأن يجعلوها مهجرًا لهذه الفلول والأوزاع التي طردتها أوربا، ولفظتها أطراف الكرة من كل محتال، وكل دجال، وكل عابد للمال، تبرمًا بهم وضيق صدر منهم، وما في كل أولئك من يمت إلى السامية بعرق، فإننا نعلم أن هذه الحُميراء التي غمرت أرض فلسطين وتهافتت عليها مهاجرةً من أقاليم الشمال، البعيدة عن الاعتدال، ليست إسرائيلية النجار، وإنما هي أمشاج من أصول أوربية، متباينة الخصائص الجنسية والنزعات الوراثية، جمعت بينها المطامح المادية أولًا، والصهيونية ثانيًا، واليهودية الزائفة ثالثًا، فمنها السكسوني والجرماني، والسلافي واللاتيني، وقد تداعت على صوت الصهيونية إلى فلسطين تحمل معها تلك الخصائص الجنسية المتمرّقة، وتجمل مع تلك الخصائص العلم الأوربي، والفن الأوربي، والجشع الأوربي، والإلحاد الأوربي، والاستعمار الأوربي، والعتوّ الأوربي، وكل شيء عرفت به أوربا ... وفي أوربا كل شيء إلا الخير، فإذا مدّت هذه الحميراء مدها، وضربت بجرانها في فلسطين، فهل يبقى شيء من القدسية لفلسطين؟ وهل يبقى شيء من الشمائل السامية في فلسطين؟ وهل تكون فلسطين يومئذٍ إلا جحيمًا يضطرم بالمادة التي شهدنا آثارها في أوربا، وشاهدنا من عملها في تخريب العقول، أضغاف ما شاهدنا من آثار الحروب في تخريب المدن، وهل تكون فلسطين يومئذٍ إلا رقعة من الشرق الطاهر، مكَّن فيها الصهيونيون للإلحاد والإباحية اللذين قضيا على أخلاق أوربا، وابتلت العالم منها بالداء العضال؟ ثم ماذا يكون مصير العرب بعدئذٍ في جزيرتهم الآمنة المباركة؟ ما أشأم الصهيونية على فلسطين، وما أعقّ صهيون لفلسطين، وما أضلّ ضلالَ اليهود إذ يَجْرون وراء خيال الوطن القومي فيجرُّون البلاء لفلسطين، ويُزهقون روح (سام) بمادة الغرب المسمومة، وسبحان من فاوت بين العنصرين في رقّة الحس، ودقّة الحدس، والأصل واحد، وسبحان من خص العرب بالعامري، واليهود بالسامري (1). وما أجهل العرب إذا لم يعاجلوا هذه الجرثومة الصهيونية الخبيثة بالاستئصال! إنهم- والله- إن لا يفعلو تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. ...

_ 1) العامري هو مجنون ليلى وهو رمز للرقّة واللطف ومثال للإنسانية السامية، والسامري هو الذي مكر باليهود في غيبة موسى للمناجاة وفتنهم بالعجل الذهبي، وقصته في عدة سور من القرآن وتفصيلها في سورة طه.

ونحن نريد فلسطين كاملة بالاستحقاق الذاتي، لأننا آخِرُ ورثتها، ولأننا واضعو اليد عليها بالحوز والتصرّف كما يقول فقهاء القانون، والصهيونيون يريدونها كذلك كاملةً بالحُلم والطمع والتمنِّي والتباكي والاحتيال والاستعانة بالأعداء، وشراء الضمائر الرخيصة ولكن ما بالُنا وما بالُهم؟ ما بالُنا حين ضُربت الأزلام على تقسيمها بيننا وبينهم غضبنا غضبة الحر الذي لا يرضى إلا بحقّه كاملًا غير منقوص، وثُرنا ثورة المظلوم الذي آثر أن يموت كريمًا على أن يعيش لئيمًا. وما بالهم هلّلوا للتقسيم وطاروا به فرحًا ودقّوا له البشائر في كل أرض فيها يهودي وعرفنا من معارف الوجوه ما تخفيه مجاهل النفوس من ابتهاج وسرور، حتى لقد أنساهم الفرح كل ما يسمّى ذوقًا وكياسة ولطفًا ومجاملة مع عشائرهم العرب المسلمين الذين وفوا لهم في كل محنة نالتهم إلى الأمس القريب من أصدقائهم اليوم ضاربي الأزلام على تقسيم فلسطين. إنما غضبنا وثرنا لأننا أصحاب حق لم نرضَ أن يشركنا فيه من ليس له فيه حق، وإنما رضوا وفرحوا لأنهم مبطلون، والمبطل الذي يعتمد على الحيلة والمكر يطلب الشيء كاملًا وهو يعتقد أنه مبطل فيكون ضميره أقوى خواذله، إن لم يكن أقوى عواذله، فإذا ظفر بشيء منه بحكومة باطلة قنع بالنزر ورضي باليسير، كالسارق يقنع بكل ما حصل في يده، لأنه لم يبذل فيه إلا الحيلة والاستغفال، وأهون بهما! ولو أن مجلس اللصوص حكم لصهيون بتل أبيب وحدها وطنًا قوميًّا لرَضي صهيون بالحكم، وعدَّها غنيمة باردة، ولم ينقص فرحه عن فرحه اليوم بنصف فلسطين الأخصب الأطيب ... هذه واحدة، وأخرى يضمرها صهيون وقد عرفها الناس من امتداد أحلامه، ومأثورات المهوّسين من أسلافه، وهي أنه يحرص كل الحرص على وضع قدمه في أرض فلسطين باسم وطن قومي، ولو كان أفحوص قطاة، وباعتراف دولي ولو بشراء الأصوات، ويعتمد بعد ذلك على المطاولة والذهب واستجداء المعونة من (أهل الفضل والخير) كالإنجليز اليوم ولا أدري من ... غدًا، وإن أحلام صهيون قد عرفها الناس وعرفوا أنها تمتدّ إلى جزيرة العرب كلها وإلى جزيرة سيناء، وقطعة من أرض مصر، ومن عاش آلاف السنين في أضغاث، ولم تتحقق له واحدة منها في شبر، حقيق بأن يعيش آلافًا أخرى من السنين في حواشي الأضغاث بعد أن تحققت له في مئات الأميال.

فلسطين (5)

فلسطين (5) الإنكليز حلقة الشر المفرغة * ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها العرب: إن الإنكليز هم أول الشر ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان، منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي، وإنهم ليزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صُوَر مجسّمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسمومة تهشّم وتحطّم وتخرّب، لا لمّة تُلِمّ ثم تنجلي، وطائف يمسّ ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق، ويزيدون عليه بأنهم لا يُطردون بالاستعاذة، وتذكُّر القلب، ويقظة الشواعر، وإنما يُطردون بما يُطرد به اللص الوقح من الصفع والدفع والأحجار والمدر، ويُدفعون بما يدفع به العدوّ المواثب، بالثبات المتين للصدمة، والعزم المصمّم على القطيعة وبت الحبال، والإرادة المصرّة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان: "إن الإنكليز لكم عدوٌّ فاتخذوهم عدوًّا". يردّدها كلّ عربي بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانه، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدمه من قربانه. قد غرّكم أول الإنكلبز فأعيذكم أن تغترُّوا بآخره بعد أن صرح شرُّه، وافتضح سره، وانكشف لكم لينه، عن الأحساك والأشواك، وقد تمرَّس بكم فعرف الموالج والمخارج من نفوسكم، قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلّل معادن النفوس منكم قبل أن يحلِّل معادن الأرض من وطنكم وعجم أمراءكم، فوجد أكثرهم من ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم. قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوَّى أمله، ولولا وعده لكانت الصهيونية اليوم - كما كانت بالأمس- حُلمًا من الأحلام يستغلُّه (الشطار) وبتعلّل به الأغرار.

_ * نشرت في العدد 24 من جريدة «البصائر»، 23 فيفري سنة 1948.

وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقّق وعده، وأنّ في ظل انتدابه، وبأسنَّة حرابه، حقّق صهيون مبادئ حلمه، فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز- وقوانين الإنكليز- وفتن ضعفاءكم بالخوف، وفقراءكم بالمال، حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهَّد الأرض بأيديكم وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم وابتزاز أرزاقكم. وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنُّوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع، ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعةً إلا في دين الإنكليز؟ وعلمتم أنَّ بريطانيا هي التي جرَّت ضرَّتها البلهاء أمريكا إلى محادَّتكم وجرَّأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات، وأنها هي التي ألَّبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفّف، وتظاهرت بالروية والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويهًا بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المُعَزّي ... يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم، إن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين، وقد لُدِغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا، وخُدعتم من الجانب الإنكليزي كرّات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خُدع خلفكم كما خُدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم، ودعاكم إلى موائده الفِقار فلبَّيتم، وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما آنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلّق بأسبابه. فيا ويحكم ... أكلّ ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء؟ أو لأنهم أقوياء وأنتم ضعفاء؟ كلا ... إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخذية، وليسوا أغنياء عنكم، وإنهم لأقوياء بما يستمدُّونه من أرضكم وجيوبكم، فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذُلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمِّروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم؛ إن لبدة الأسد هي بعضُ أسبابه إلى زرع الهيبة في القلوب، ولكنّ لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كلَّ أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمُن وراءها الرهبة، لأمسى الأسد هرًّا مجرود العنق، معروق الصدر، بادي الهزال والسلال. إن الغنى عمل وتدبير، فلو عملتم لكنتم أغنياء؛ وإن بدء الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات، وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم، وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد.

هذا أول الإنكليز عرفتموه، فهل عرفتم آخرهم؟ إنهم كانوا أداة تفريقكم في الماضي، وكانوا عونًا للزمان عليكم، فلمّا رأوا شملكم إلى اجتماع، وجامعتكم إلى تحقّق، جمعوا لكم كل ما عندهم من مكائد ومصائد ... إنهم ينطوون لكم على العظائم، وإنّ في جعبتهم ما في جعبة الحاوي من حيّات. وإن في أيديهم عروق الجسم العربي يضغطون على أيّها شاءوا متى شاءوا، في أيديهم قضية مصر يساومون بها ويماكسون، وفي أيديهم قضية السودان يلوّحون بها ويعاكسون، وفي أيديهم قضية ليبيا يشاغبون بها ويشاكسون، وفي قبضتهم شرق الأردن بما فيه، وما شرق الأردن إلا خيط الخنق، وشريط الشنق، قتله الإنكليز بأيديهم، وأمَرُّوا على الأيام قتله لأمرٍ هُم بالغوه إن لم تهُبُّوا وتذبُّوا، وفي أيديهم العراق ومنابعه، واليمن وتوابعه، ولهم على سوريا ولبنان يد ممنونة، في طيّها مُدْية مسنونة، وفي أيديهم مفاتيح الجزيرة، وأمراء الجزيرة، وقد أعدّوا لكل قفل من أقفالها مفتاحًا، ولكل أمير من أمرائها مِقودًا من رغبة أو من رهبة، ولهم مع ذلك من بينكم العيون الراصدة، والألسنة الحاصدة، وفيكم مع ذلك الآذانُ السامعة، والهمم الطامعة، وفي سجلّاتهم ذممكم وهممكم وقيمتكم، قدّروها تقديرًا، وأوسعوها تحليلًا وتدبيرًا. إنهم ما حرّكوا مشروع سوريا الكبرى في ميقات معلوم إلا ليفتنوا بعضكم ببعض، ويغروا بيتًا ببيت، وقريشًا بتميم، فينخرق الإجماع وتفترق الجامعة، وإن هذه النقطة هي أعلى ما يصل إليه الدهاء الإنكليزي، كما أنها أعسر امتحان للضمير العربي الذي يتمنّى أن يتكتل العرب ولكن بدافع من أنفسهم لا على يد عدوّهم؛ وإن الإنكليز لقادرون على تحريك غيرها من الفتن المفرقة، وإنكم- أيها العرب- لا تردُّون كيدهم إلا بإجماعكم على تحديهم، واجتماعكم على إيقاف تعدّيهم، وإقامة جامعتكم على اعتبار مصلحة العرب، ووطن العرب، فوق الأغراض والأشخاص. إنكم لا تردّون كيدهم بقوة جامعة الدول العربية، حتى تُسندوها بجامعة الشعوب العربية؛ فحرِّكوا في وجوههم تلك الكتلة متراصةً يرهبوا ثم يذهبوا. ... لمسنا في هذه الكلمة حقائق مريرة وأومأنا إلى قضايا يسوءُنا أن نزيد حمأتها مدًّا. ولكن ما عذرنا إذا أمسكنا عن الشرح، ولو كان فيه جرح؛ وقد تأدَّى إلينا من تراث أجدادنا العرب هذه الحكمة الغالية: "من كتم داءه قتله". أما ما يجب علينا لفلسطين فموضعه مقال آخر.

فلسطين (6)

فلسطين (6) واجباتها على العرب * ــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب هذه السطور عربي، يعتز بعروبته إلى حد الغلوّ، ويعتدُّ بها إلى حد التعصّب، ويفخر بأبوّة العرب له إلى حد الانتِخاء؛ ما يودُّ أنّ له بذلك كله جميعَ ما يفخَر به الفاخرون من أحساب؛ فإذا أدار الضمائر في هذه المقالات على منهج التكلّم وقال: أنا، ونحن، وقلنا، وفعلنا، ولا نرضى ولن نرضى فهو حقيق بذلك، وإذا حشر نفسه في العصبة الذائدة عن فلسطين، وأشركها في العصبية الغالية لفلسطين، فليس بمدفوع عن ذلك، لأنه عربي أولًا، ومسلم ثانيًا، وفلسطيني بحكم العروبة والإسلام ثالثًا؛ فله بعروبته شرك في فلسطين من يوم طلعت هوادي خيول أجداده على البلقاء والمشارف، وتصاهلتْ جيادهم باليرموك، تحمل الموت الزُّؤام للأروام؛ وله بإسلامه عهد لفلسطين من يوم اختارها الباري للعروج، إلى السماء ذات البروج، وله إلى فلسطين نسبة من يوم قال الناس: مسجد عُمر، بل من يوم قالوا: غزة هاشم؛ فإذا لم يقم بالحق، ولم يَفِ بالعهد، وُسِم بالعقوق لوطنه الأكبر، ووُصم بالخيانة لدينه الجامع، وزنَّ بدعوى البنُوَّة في تلك الأبوَّة، وقديمًا انتخى جرير - وهو في الصميم من تميم - بخيله التي وردت نجران معلمة بالدارعين؛ وما وردت نجران إلا لإنقاذ تَيم، حين مسّها الضيم (1)؛ فكيف لا ينتخي بخيله التي وردت المشارف مَن هو في السر من فهر، وفي الذوائب من قريش. وما وردت إلا لإنقاذ تراث الخليل، من يد الدخيل. وهذه الصحيفة عربيّة، تلوح من خلال سطورها ومضات من إشراق البيان العربي، وتَسري في جوانبها نفحات من سر العروبة، وتُسجَّل على صفحاتها صُوَر من أمجاد العرب،

_ * نشرت في العدد 25 من جريدة «البصائر»، 1 مارس سنة 1948. يقول جرير يفتخر بهذه القصة: خيلي التي وردت نجران معلمة … بالدارعين وبالخيل الكراديس تدعوك تيم، وتيم في قرى سَبَإٍ … قد عضّ أعناقها قدّ الجواميس

وتُستروح من أعطافها سمات من شمائل العرب وترفضّ فِقَرها- أحيانًا- عن مثل فتيت العنبر من مفاخرهم، وعن مثل شتيت الجوهر من آدابهم، وهي- بعد- لسان من ألسنة الإسلام، تنافح عن تراثه، وتناضل بين يَدَيْ وُرَّاثه، وتجاوز في ذلك مواطن العرب إلى حيث تتشابك الوشائج الروحية، وتتعانق الفروع الإسلامية؛ إلى حيث تجتمع القلوب على القرآن، وتتظاهر على تلاوته الألسنة والأسماع، إلى حيث تتفيأ على النفوس ظلاله، ويرتسم فيها جلاله، فإذا تقلَّدت هذه الصحيفة القلم الجائل، وروَّتْ ظمأها بالمداد السائل، في سبيل فلسطين فهي حقيقة بذلك، وإن ذلك لبعض حق فلسطين عليها. وهذا الوطن الذي نبتنا في ثراه، وغُذِّينا بثمراته، وسُقينا عذبه ونميره، وتقلّبنا بين جباله وسهوله في النضرة والنعيم، وأودعنا فيه الذخائر الغالية من رُفات الأجداد، وطنٌ عربيُّ المنتسب، يشهد بذلك القلم واللسان، والأسماء والأفعال، وتشهد بذلك التواريخ المكتوبة، والأخبار غير المكذوبة، فإذا تظلَّم وتألَّم لفلسطين، وامتعض وارتمض للعدوان عليها، وإذا نهض يُواسي ويُعين، ويُسعف ويسعد، فهو حقيق بذلك، وإن ذلك لبعض حق فلسطين عليه. ولكن ... هل من الصحيح أن التفجّع والتوجّع والتظلم والتألم والأقوال تتعالى، والاحتجاجات تتوالى، هي كل ما لفلسطين علينا من حقّ؟ وهل من المعقول أن التفجّع وما عطف عليه- مجتمعات في زمن، مقترنات في قرن- تدفع حيفًا، أو تفلّ لظالم سيفًا، أو تردّ عادية عاد، أو تسفّه حلم صهيون في أرض الميعاد؟ لا ... والذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ... قُسمت فلسطين (بالتصويت) وهو أضعف صدى، وعلى (الأوراق) وهي أنزر جَدًا، وبالأغلبية السائرة على غير هُدى، تحدّيًا للعرب الذين كانوا في ذلك المجلس أضعف ناصرًا وأقلّ عددًا. فقامت قيامة العرب الأُباة حيثما أقلَّتهم أرض، وكان المظهر الأول للإباء العربي إجماع مندوبيهم في جامعة الدول على استنكار التقسيم، وتسميته باسمه الحقيقي وهو الاعتداء والإجرام، وإرسالهم في وجوه الظالمين صيحةً صاخّة بأنهم لا يذعنون لهذا الحكم ولا يخضعون له، وأنهم سيتحدّون هذا القضاء وقضاته بالاحتكام إلى السيف، يمحون به بغي الخُلطاء، وبقية اللُّقطاء، فسجل أولئك المندوبون للعروبة موقفًا من مواقف الشرف، ما هو بأول المواقف ولا بآخرها؛ وكان المظهر الثاني في الصحف والألسنة والأقلام، فأجمعتْ صحف العرب على اختلاف مواطنها من بغداد إلى مراكش على التنديد والاستنكار، وأجمع خطباء العرب على التحريض والاستنفار؛ وكان المظهر الثالث مظهر الأمم العربية فتداعت إلى المؤتمرات. وتنادتْ إلى الاجتماعات والمظاهرات.

ولكن ... هل من الجدّ أن هذه المظاهر الثلاثة مجتمعةً هي كل ما لفلسطين على العرب من حقوق؟ وهل هذه المظاهر الثلاثة مجتمعة تمحو قرار التقسيم، وتُثبت حق العرب؟ اللهم لا ... ثم كان المظهر الرابع اجتماعات وزراء الدول العربية باسم جامعتها، وزعماء العرب السياسيين وقادتهم العسكريين، لتنسيق الآراء وترتيب الخطط وتدبير المقاومة المشتركة، وقد بلغوا من ذلك ما أقرَّ عيون العرب وهدّأ خواطرهم، وإن قال قائلون: إنهم تباطأوا في أمر يجب فيه الاستعجال، وأطالوا الروية فيما يلزم فيه الارتجال، وقال آخرون: إنهم ما زالوا يؤثرون الديبلوماسية ومجاملاتها مع دهاة الديبلوماسية، وُيخشى أن يكون من آثار ذلك فتٌّ في الأعضاء وتوهين للعزائم وتنفيس على العدوّ في الوقت. أمّا الحقّ الذي مكانه من هذه المظاهر مكان البسملة من اللّوح، فهو ما قام به عرب فلسطين الأبطال الذين كشفوا عن صواب الرأي القِناع، وحذفوا من الجملة حرف الامتناع، ونبذوا التردد، وأخذوا بالمغافصة، ومحوا بالسيف ما قال ابن دارة (2)، وفتحوا باب الموت على مصراعيْه، و "تآسوا فسنّوا للكرام التآسيا" (3)، وهذا هو العنوان كتبه عرب فلسطين بالصفاح لا بالأقلام، وهذا هو الواجب شرعه عرب فلسطين لجميع العرب. ... أعمال عرب فلسطين مقدّمة فأين الكتاب؟ وطليعة فأين الكتائب؟ وواجب فأين ما لا يتمّ الواجب إلا به؟ ما على عرب فلسطين- بعد ذلك- من سبيل، إنما السبيل على العرب في مشارق الأرض ومغاربها، حكومات وقادةً وشعوبًا رجالًا ونساءً، وليست القضية قضية جماعة أو حكومة أو قطر؛ وإنما هي مسألة العرب جميعًا؛ لا يستبرئون لعهد العروبة وأمانتها إلا بالقيام بها جميعًا. ثم هي- بعد- قضية استعمار أحول، رجلُه في فلسطين وعينه على العراق والخليج وأعالي اليمن، وعينه الأخرى على مصر؛ فإذا لم يبادر العرب بالاصطلام، بادرهم بالالتهام: هما خطتا: إمّا إسارٌ ومنّة … وإما دمٌ، والموت بالحر أجدر إن الواجب على العرب لفلسطين يتألف من جزءين: المال والرجال، وإن حظوظهم من هذا الواجب متفاوتة بتفاوتهم في القرب والبعد، ودرجات الإمكان وحدود الاستطاعة ووجود

_ 2) تلميح لقول الشاعر العربي: محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا. 3) عجز بيت وصدره: وإن الألى بالطفّ من آل هاشم.

المقتضيات وانتفاء الموانع، وإن الذي يستطيعه الشرق العربي هو الواجب كاملًا بجزءيه لقرب الصريخ، وتيسُّر الإمداد، فبين فلسطين ومصر غلوة رام، وبينها وبين أجزاء الجزيرة خطوط وهمية خطَّتها يد الاستعمار، وإذا لم تمحُها الجامعة فليس للجامعة معنى. وإذا لم تهتبلْ لمحوها هذا اليوم فيوشك أن لا يجود الزمان عليها بيوم مثله. ... واجب الدول العربيّة التصميم الذي لا يعرف الهوادة، والاعتزام الذي لا يلتقي بالهوينا، والحسم الذي يقضي على التردّد، والنظام الذي ينفي الفوضى والخلل، والرأي الذي يردّ ليلَ الحوادث صبحًا، والإجماع الذي لا ينخرق بحياة "عبد الله " (4) ولا بموت "يحيى" (5) ... وواجب زعماء العرب أن يتفقوا في الرأي ولا يختلفوا، وأن يتوقّوا عيوب الزعامة ونقائصها من تطلعّ لرياسة عاجلة، أو تشوّف لرئاسة آجلة، وأن يوجِّهوا بنفوذهم جميع قُوَى العرب الروحية والمادية إلى جهة واحدة وهي فلسطين، وأن لا يفتتنوا بما يفتحه عليهم العدو من ثغَر في اليمن أو في شرق الأردن، ليشغلهم بالجزئيات عن الكليات وليجعلَ بأسهم بينهم، وأن يكونوا على اتصال وتعاون مع الحكومات العربية. وواجب كتّاب العرب وشعرائهم وخطبائهم أن يلمسوا مواقع الإحساس ومكامن الشعور من نفوس العرب، وأن يؤجّجوا نار النخوة والحمية والحفاظ فيها، وأن يغمزوا عروق الشرف والكرامة والإباء منها، وأن يثيروا الهمم الراكدة، والمشاعر الراقدة منها، وأن ينفُخوا فيها روحًا جديدة، فيها كل ما في السيّال الكهربائي من نار ونور. وواجب شعوب الشرق العربي أن تندفع كالسيل، وتُصبِّح صهيون وأنصاره بالويل، وأن تبذل لفلسطين كل ما تملك من أموال وأقوات، وما قيمة الأموال المدَّخرة لنوائب الزمن إذا لم تُبذَل في نائبة النوائب؟ وما قيمة الأقوات المحتكرة لمصائب القحط إذا لم تدفع بها مصيبة المصائب؟ ووالله يمينًا برَّةً لو أن هذه القوى- روحيَّها ومادّيها- انطلقت من عُقلها، تظاهرت وتضافرت، وتوافت على فلسطين وتوافرت، لدفنت صهيون ومطامعه وأحلامه إلى الأبد، ولأزعجت أنصاره المصوّتين إزعاجًا يطير صوابهم، ويحبط ثوابهم، ويطيل صماتهم ويكبت أصواتهم، ولأحدثت في العالم الغربي تفسيرًا جديدًا لكلمة "عربي". أما عرب الشمال الافريقي ...

_ 4) عبد الله بن الحسين أمير الأردن (الذي وقعت على الأردن منه بلية) كما يقول المتنبي. 5) يحيى بن حميد الدين إمام اليمن الذي يعدّه الشاعر من مصائب اليمن في قوله: جهل وأمراض وظلم فادح … ومخافة ومجاعة وإمام!

فلسطين (7)

فلسطين (7) أما عرب الشمال الافريقي ... * ــــــــــــــــــــــــــــــ أمّا عرب الشمال الافريقي فهم عرب ولا فخر، وواجبهم في إنقاذ فلسطين هو واجب جميع العرب مع اعتبار العذر. ولكن ... الله لعرب الشمال الافريقي وما يلقون من ظلم الجار، وبعد الدار، وَعَنت الاستعمار، يتجاورون مع اليهود في وطن، ولكل منهما في فلسطين هوًى ملحّ يصهر الجوانح، ولكنّ أحد الفريقين يعلن هواه إلى حد العربدة فيُعذر ولا يُعذَل، والآخر يُخفي هواه ويخشى أن تنمّ عليه نأمة فيناقشُ الحساب. يقيم اليهود معسكرات التدريب، ويُجَهزون سفن التهريب، كل ذلك تحت سمع الاستعمار الفرنسي وبصره، فلا يجدون منه إلا الأمن والعافية، والأعين الغافية، ولو همّ العرب بشيء من ذلك أو بأقلّ القليل منه، لقامت قيامة الاستعمار الفرنسي، واستخرج لكل حركة اسمًا مما اشتمل عليه قاموس المحرَّمات، وربط بكل اسم منها عقوبة تنصّ عليها القوانين المدَّخرة لوقت الحاجة. ويسافر اليهود إلى فلسطين أو إلى حيث يشاءون لأنهم فرنسيّون بالاستلحاق على مذهب الأستاذ "كريميو"، ولا يستطيع العرب أن يجاوزوا الحدود لأنهم "مدجّنون"، والتدجين من لوازمه تشديد المراقبة، وتغليظ المعاقبة. ويجمع اليهود عشرات الملايين باسم فلسطين لتكون في السلم أدوات تعمير، وفي الحرب آلات تقتيل وتدمير، فلا يحول بينهم وبين ذلك قانون ولا كانون، ولو أراد العرب شيئًا من ذلك لوجدوا أمامهم القوانين العائقة، والإجراءات الخانقة. ويرى الرأي العام الفرنسي المسيطر على هذا الشمال، ومن ورائه الضمير الأوربي الذي يؤمن به بعضُ الأغرار منّا، هذا التفاوت في العمل والمعاملة، فلا يغُضّ من عنان الحرية لليهود حتى يرجعهم إلى الحد المعقول، ولا يسلسُ للعرب حتى يقفوا مع اليهود في درجة واحدة.

_ * نشرت في العدد 30 من جريدة «البصائر»، 5 أفريل سنة 1948.

بعض الإنصاف يا أصحاب هذه الضمائر المظلمة، فإنا لا نسألكم الإنصاف كله؛ أتعذِرون اليهود في إجلابهم على فلسطين، وجمعهم الأموال للاستيلاء على فلسطين، وتسليحهم لإخوانهم في فلسطين، ولا تعذرون العرب إذا هم فعلوا مع إخوانهم في فلسطين شيئًا من ذلك؟ أترخِّص حكوماتكم ليهود العالم في الهجرة إلى فلسطين، وتيسّر لهم سبلها، وتبيح لهم خرق القوانين الدولية المسطورة، فإذا حاول العربي شيئًا من ذلك رُدَّ وصُدَّ، وإذا دعا داعي العرب إلى شيء من ذلك عُدَّ مشوشًا ومتعصبًا وعنصريًّا؛ ولا والذي طواكم على هذه الضمائر، ما أرتْنا الحقيقة إلا أنكم أئمة العنصرية وأقطابُها، وما أرتْنا التجربة إلا أن كل شعب بنى حياته على العنصرية كانت هي علة موته. آمَنّا الآن- على بداوتنا- بأن العالم المتحضّر قد تهوّد، وآمنا بأن السحر الذي أبطله موسى قد أحياه أشياعه ولكن بغير أدواته، أبطله بعصا الخشب، وأحيَوه بحبال الذهب، وآمنّا بسفسفة القضايا العقلية التي تحيل اجتماع الضدّين حين رأينا التضاد يجمع طرفيه في دائرة مغنطيسية فإذا هو ممكن ... وإذا عقيدتا الصلب لعيسى والتأليه له تجتمعان في هالة من البريق المُعشي للأبصار والبصائر، فكأنَّه لا تأليه ولا صلب ... كلَّ ذلك لأنه لا ضمير ولا قلب. تعالوا يا أصحاب هذه الضمائر المنفصلة ... إلى كلمةٍ سواء بيننا وبين اليهود. تعالوا نقامركم مقامرة لا يقترحها إلا عربي، ولا يُقْدم عليها إلا حرّ أبيّ، ولكنها مقامرة تفضّ النزاع الذي أعياكم أمره، وراع العالم شرّه- في لحظة- دعونا من التقسيم فالرقعة ضيّقة بأهلها، ومن الوطن القومي فالكلمةُ ضائقة بمعناها، وهلمَّ بنا إلى الحل الناجز، والفصل الحاجز. احشدوا إلى فلسطين جيشًا من الصهيونيين من نبْت الشرق أو غرس الغرب ولا نشترط إلا أن يكونوا صهيونيين، ونَكِلُ إليكم عدده، ونحشد نحن بإزائه جيشًا من العرب ولكم علينا أن يكون أقل من جيش اليهود عددًا إلى الثلثين، على شريطة واحدة، وهي أن يكون سلاح الفريقين متكافئًا في أنواعه وأصنافه وألوانه وأوصافه؛ ثم اضمنوا لنا البحر أن لا يقذف بمدد، ونضمن لكم الصحراء أن لا يتسرب منها أحد؛ ولتَبْقوا أنتم، ويهود العالم، وعرب العالم، نظَّارةً متفرّجين لا إعانة ولا إمداد، ولا هجرة ولا جهاد، ثم نفوّض إلى الجيشين حلّ المشكلة بالموت في ميقات يوم معلوم، فإن غلب الصهيونيون سلَّمنا في فلسطين، وآمنَّا بالوطن القومي، وزدنا على ذلك تحية وسلامًا، وتهنئة وإكرامًا؛ وإن غلب العرب كان الجُعل متواضعًا يزيّنه الرجوع إلى الطبيعة وهو بقاء فلسطين عربية تُظِل اليهود الأصلاء بالرعاية والحماية. وتُجلي اليهود الدخلاء الذين نجموا مع قرن الصهيونية ودخلوا فلسطين باسمها وعلى صوتها ودعوتها. إنها- كما ترون- مقامرة تنطوي على مغامرة، وإن فيها لكثيرًا من المحاباة لليهود. ومع ذلك فقد رضينا ورَضي العرب ... أقولها وأنا مسلم، والمسلمون يسعى بذمّتهم أدناهم، وعربي والعرب هم الذي وضعوا "كلمة الشرف" للعالم وأفهموه معناها.

فإن لم تفعلوا- ولن تفعلوا- فاعلموا أن أشنعَ ما يسخله التاريخ تألُّب أمم على أمة، وانتصار أقوياء لباطل، وإن أقبحَ ما تقع عليه العيون جانٍ يتجنّى وظالم يتظلّم. ... ونرجع إلى عرب الشمال الافريقي ... إن عليهم لفلسطين حقًّا لا تسقطه المعاذير، ولا تقف في طريقه القوانين مهما جارت، ومهما كانت فرنسية من ماركة (1) "خصوصي للمستعمرات" هذا الحق هو الإمداد بالمال، ومن أعان بالمال فقد قام من الواجب بأثقل شطريه. إن فلسطين ليست في حاجة إلى آرائنا، فلها من آراء مداره العرب ما هو كرؤية العين حسًّا، وكأخذ اليد لمسًا، وكفلق الصبح إشراقًا وكشفًا. وليست في حاجة إلى رجالنا، فلها من أشبالها وممن والاهم عديد الحصى، وما فيهم إلا مَن يعتقد أن موته حياة لوطنه، وأن نقصه من عديد قومه زيادة فيهم، ومهما استمدّ الصهيونيون الرجال من أوروبا فأمدَّتهم بالأخلاط والأنباط والعباديد والرعاديد، من ربائب النعيم، وعشّاق الحياة، أمشاج النسب وأمساخ الحضارة، استمدّوا الجزيرة فأمدَّتهم بكل مصداق لقول القائلة: ومخرَّق عنه القميص تخاله … وسْط البيوت من الحياءِ سقيما حتى إذا رفع اللواء رأيتَه … تحت اللواء على الخميس زعيما وبكل مصدق لقول الأول: "فأيَّ رجال بادية ترانا". ... إن مما يرهب عدوّك ويحمله على احترامك، أن تكون عاقلًا حازمًا، وأن تكون فغالًا لا قوّالًا، وإن أوجب واجب علينا نحن العرب الذين ابتُلينا بالاستعمار ووُضعنا منه في هذا الوضع الشاذ، أن نلوذَ في مثل قضية فلسطين بالعقل يحمينا من المزالق، وبالحزم يحمينا من التقصير، وأن لا نقول إلا ما نستطيع فعله. وقد ارتفعت بعض الأصوات هنا وفي تونس تدعو الأمة العربية إلى غايات لا تملك وسائلها، وبدرت كلمات عاثرة لم يملها التدبُّر، ولم تقوِّمها الحكمة، فكانت نتيجتها الطبيعية احتقار خصومنا لنا واستخفافهم بنا وكأنَّه لم يكفنا اتهامهم لنا بأننا أمّة أقوال، واسترسال مع الخيال، وأن كلامنا جعجعة بلا طحن، حتى جئنا نضع في أيديهم الشاهد المحسوس على ذلك، ومن لي بعرب كالعرب، لا يقولون إلا ما يفعلون؟

_ 1) ماركة: كلمة فرنسية معناها عَلامة.

لا نستطيع إمداد فلسطين بالرجال لأنه ليس لنا ما لليهود من تسهيلات، وليس عندنا ما عندهم من اتصالات ومؤسسات. وإنما نستطيع أن نمدَّ بالمال، فليعمل العاملون لذلك وليقفوا جهودهم على ذلك، فإنه أيسر علينا وأنفع لفلسطين، وليقُم أهلُ الرأي والثقة بتكوين لجان مركزية في العواصم تتفرّع منها لجان فرعية في الأقاليم، ولْيُعلنوا عملهم للأمة. ولتقم الأمة بواجبها، ولتعلم أن الغالي رخيص في سبيل عُروبة فلسطين، وأن صوم أسبوع في الشهر وادّخار نفقاته لفلسطين لمما يسهل على الفقير، وإن هجر الشهوات أسبوعًا من الشهر وإرصاد نفقاته لفلسطين لمما يسهل على الغني، وأن هجر الملاهي المبيدة للمال شهرًا كاملًا ووقف ما كان يُنفق فيها على فلسطين لأمر ميسور للغني والفقير معًا، وإن التعفّف عن كماليات الحياة عامًا كاملًا وشراء شرف الدهر بقيمها لأمر غيرُ بعيد من همّة العربي، وإن النور الذي أشرق في نفس عثمان بن عفّان فخرج من ماله وجهّز جيش العسرة لغير غريب عن نفس المسلم. ألا هل بلَّغت؟ اللهمّ اشهد! ... ... أما أنا، كاتب هذه السطور، فوالذي روحي بيده لو كنت أملك ما يملكه العموري (2) من سَخْل، أو ما يملكه البسكريّ من نخل، أو ما يملكه الفلّاح من أرض، أو ما يملكه الحضري من دور ورباع، أو ما يملكه الكانز من ورِق وورَق، لخرجتُ من ذلك كله في سبيل عروبة فلسطين، ثم لا تجدُني مع ذلك منَّانًا ولا كنودًا، ولكنني أملك من هذه الدنيا مكتبة متواضعة هي كل ما يرثه الوارث عني، وإنني أضعُها خالصًا مخلصًا، بكتبها وخزائنها تحت تصرّف اللجنة التي تُشكَّل لإمداد فلسطين، ولا أستثني منها إلا نسخةً من المصحف للتلاوة، ونسخة من كل من الصحيحين للدراسة (3).

_ 2) نسبة إلى منطقة "عَمور" بالجزائر المشهورة بتربية الأغنام. 3) شكلنا اللجنة المركزية في العاصمة (الجزائر) وشرعنا في تشكيل اللجان الفرعية، كل ذلك تحت إشرافي فجمعت اللجان التي تمكنت من العمل تسعة ملايين من الفرنكات حملها أمناء منّا إلى باريس ودفعوها إلى الأستاذ أحمد عبد الخالق ثروت سفير مصر إذ ذاك بفرنسا لقاء إيصالات رسمية ليدفعها إلى الجامعة العربية، وقد فعل، فقد سألت الأستاذ عبد الرحمن عزّام عنها حين قدمت مصر قبل إحدى عشرة سنة فأفادني وصولها ولا أدري ما فعل بها. ولم يكن من الممكن إرسالها على غير هذه الطريق. أما مكتبتي التي وهبتها لفلسطين، فما كاد الوفد الذي ألفناه لجمع الإعانات يرجع من رحلته الأولى حتى جاءت الأخبار باجتياح اليهود صحراء النقب، ووصولهم إلى العقبة، وانهيار الجيوش العربية، إذ كانت لا ترجع إلى قيادة واحدة، وخروج الفلسطينيين من ديارهم حسب ما رسم الإنكليز ووكلوا تنفيذها إلى صنيعتهم بل عبدهم المطيع عبد الله، فظهر للجنة أن لا تتسلّم المكتبة ولا تتسبّب في تشتيتها مثل العرب.

فلسطين (8)

فلسطين (8) قيمة عواطف المسلمين في نظر فرنسا * ــــــــــــــــــــــــــــــ عُرضت قضية فلسطين- يوم عرضت- على ما يسمّونه مجلس الأمم المتحدة (على الباطل)، وفرنسا أحد أعضائه، فوافقت على التقسيم، ولم تراع مصلحتها الحقيقية، ولم تحترم شعور المسلمين وعواطفهم، وكانت في تلك الموافقة مقلِّدةً لا مجتهدة، وتابعةً لا مستقلّة، ومؤتمةً بإمام لا يصحّ الائتمام به في شريعة العقل، لأنه سفيه باع ما لا يملك بالنسيئة لا بالنقد، وليتها إذ أخطأت العدل في تلك القضية أصابت الكياسة، ولو كانت كياسة صورية رخيصة، كتلك التي تستّرتْ بها إنكلترا قريعتُها في الاستعمار وكثرة العلائق بالمسلمين؛ فقد وقفتْ إنكلترا في ذلك اليوم موقفًا قال بعض الناس إنه مصانعة، وقلنا نحن إنه مخادعة؛ ولكنه لا يخلو من كياسة محدودة بحينها، وبه حفظت للعرب والمسلمين ما يحفظه التاجر للعملاء، أو المسافر للزملاء، أما فرنسا فقد تجلَّت في ذلك المجلس بكل ما في العرق اللاتيني من حقد وَقاح، وبُغض صُراح، وتحدٍّ لعواطف المسلمين، واستخفاف بشعورهم، ثم نكص الرئيس المفتون وبدا له في التقسيم بَداءٌ فشك وارتاب، وشكَّك وأراب، ولم يستقرّ له في المسألة رأيٌ. ولكن فرنسا لم تنكص ولم تشكّ، كأنّ لها عند العرب والمسلمين تِرَةٌ. ثم أعلنتْ دولة إسرائيل استعجالًا لتعبير رؤيا صهيون، وتحقيقًا لحكم المهوّسين من أتباعه، وبادر راهب البيت الأبيض بالاعتراف المتّفق عليه، فما كان من فرنسا إلا أن تحلّبت شفاهُها على الاعتراف، وهامت به وحامت حوله؛ ولكنها- لأمرٍ ما- توقّفت عن الاعتراف، وأرسلتْ بدَله التحيات الأخوية والتهنئات القلبية لدولة إسرائيل. نحن لا نجهل تغلغلَ الصهيونية في فرنسا، ولا نجهل تحكّمَ اليهودية في مرافقها الحيوية، وفي جهازها الحكومي، بل في كيانها الذي هي به أمة؛ بل نَعدّ فرنسا ومستعمراتها

_ * نشرت في العدد 38 من جريدة «البصائر»، 7 جوان سنة 1948.

كلّها مستعمرةً واحدة يهودية، بل نستغرب مطالبةَ اليهود بوطن قومي، مع أن فرنسا كلّها وطن قومي لهم، لم يفقدوا فيه إلا الاسم وما أهونه، بل نحن نعتقد أنهم يطالبون من فلسطين بوطن ثان بعد تحصيلهم على الوطن الأول، بحيث يكون لهم من فلسطين وطن، فيه المُنى والأحلام، وإرواء الظمإ التاريخي، وإشباع الهوس الديني، والنكاية في المسلمين بالتسلُّط على قبلتهم الأولى، ويكون ذلك الوطن في الأخير مفتاحَ الشرق، ثم يكون لهم من فرنسا وطن فيه المال والجاه ومُتع الحضارة، والأخذ بناصية التجارة، والسلطان الفعلي على الوزراء والوزارة، والنكاية في الكنيسة المسيحية بالاستيلاء على بنتها البكر. فعلت فرنسا كلّ ذلك خوفًا من اليهود، أو تأثّرًا بنفوذهم، أو انسياقًا بعصاهم، وهذا هو الصحيح، ولم تفعله مجاملةً لهم، إذ لو كان للمجاملة هنا مجال لكان العرب والمسلمون أحق من تُجامله فرنسا، وهي التي طالما رفعت صوتها- في معرض الافتخار- بأنها دولة إسلامية. في المغرب العربي الذي تتحكّم فيه فرنسا، وتستأثر بخيراته، وتستميت في سبيل الاحتفاظ به، خمسة وعشرون مليونًا من العرب المسلمين، وكلهم أعطوا فرنسا ولم يأخذوا منها، في حين أنّ اليهود أخذوا منها كل شيء، ولم يُعطوها شيئًا، ولكل هذه الملايين هوًى في فلسطين، واعتقادٌ لعروبة فلسطين، ووشائج قربى مع عرب فلسطين، فكان واجب السياسة والكياسة معًا يتقاضى فرنسا أن تراعي عواطفهم نحو فلسطين، وأن تتباعد عن كل ما يجرحها، وأن تتّخذ من ذلك كلّه ذريعة للحياة، ولو فعلتْ لربحت من إرضاء هذه الملايين من القلوب ما هو أعود عليها بالخير من دولارات أمريكا، ولكنها لم تفعل ولن تفعل لأن الأمر ليس بيدها. ... من الغريب أن الفرنسي الرسمي يسهل عليه أن يقول: إن فرنسا دولة إسلامية، مع أنه ليس للمسلمين أية يد في تسيير الدولة، ولا يسهُل عليه أن يقول: إنّ فرنسا دولة يهوديّة، مع أن اليهود فيها هم كلّ شيء، وهو يقول الأولى رياءً أو افتخارًا، ولا يقول الثانية أنفةً أو احتقارًا. فما أشبه الفرنسي في هذا الباب بالمتألِّه المغرور، يلعنُ الشيطان وهو متبع لخُطواته.

فلسطين (9)

فلسطين (9) عيد الأضحى وفلسطين * ــــــــــــــــــــــــــــــ النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع؟ إخواننا مشرّدون، فهل نحن من الرحمة والعطف مجرَّدون؟ تتقاضانا العادة أن نفرح في العيد ونبتهج، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر. وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها ونغتمّ، ونُعنَى بقضيتها ونهتمّ. ويتقاضانا إخواننا المشرّدون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافي، أن لا ننعم حتى ينعموا، وأن لا نطعم حتى يطعموا. ليت شعري! ... هل أتى عبَّادَ الفلس والطين، ما حلّ ببني أبيهم في فلسطين؟ أيها العرب، لا عيد، حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتُنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نحر، حتى تقذفوا بصهيون في البحر. ولا أضحى، حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى. أيها العرب: حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء، وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع، وحرام أن تطمئنّ بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء. أيها المسلمون: افهموا ما في هذا العيد من رموز الفداء والتضحية والمعاناة، لا ما فيه من معاني الزينة والدعة والمطاعم. ذاك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم.

_ * نشرت في العدد 53 من جريدة «البصائر»، 18 أكتوبر سنة 1948.

إن بين جنبيّ ألمًا يتنزَّى، وإن في جوانحي نارًا تتلظّى، وإن بين أناملي قلمًا سُمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وإن في ذهني معاني أنحى عليها الهم فتهافتت، وإن على لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت. فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ … نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أُجِرَّتِ

جمعية العلماء والشرق والإسلام

جمعية العلماء والشرق والإسلام

عيد الأضحى

عيد بأية حال عدت ... عيد الأضحى * ــــــــــــــــــــــــــــــ يا عيد ... بأيّة حال عدت، وبأيّ نوال جُدت ... لهذه الأمم التي تتشوّف إلى هلالك، - وتتطلّع إلى إقبالك، وتنتظر منك ما ينتظره المدلج من تباشير الصبح؟! بأية حال عدت إلى هذه الأمم التي تألَّبت عليها الأيام، واصطلحت مع الليالي، فلا تأتيها هذه إلا سوداء حالكة بالظلمات، ولا تمُرّ عليها تلك إلا قاتمة متدجّية بالظلم. إن هذه الأمم التي تدين بتعظيمك، وتتيمّن بورودك، وتُقيم شعائر الله في يومك، تتلمّح فيك اليمن والرباح، وتجتلي في غرّتك اليسر والسماح، وتتنسّم في حلولك السعادة والهناء، وتتوسّم في هلالك الخير والبركة. إن هذه الأمم كادت تسأم من أسماء الأيام، وتتبرم بالجُمع والسبوت والآحاد، لفرط ما تعاقبت عليها بالضر والشر؛ وهي تترقّب يومًا يُعرف بوسمه، لا باسمه، ويُتعرَّف بآثاره، كما يتعرف الربيع باخضراره، وأنت ذلك اليوم، وأنها كانت تستطيل الليل، وتقطعه في الترقُّب للنهار الذي يتبلّج صبحه بالضياء والإشراق، وتسطع شمسه بالنور والحرارة، ويفيض ضحاه بالحركة والنشاط، فأصبحت تستطيل النهار لإقباله عليها بالهمّ والغمّ، وإدباره عنها بالعنَت والرهق، وتطمئن إلى الليل بما فيه من ظلمات، فرارًا من النهار لما فيه من ظلم، ومن لها بليل لا صباح له؟! ... فيك- أيها العيد- يستروح الأشقياء ريح السعادة، وفيك يتنفّس المختنقون في جو من السعة، وفيك يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعّم الواجدون بأطايبه، وفيك تُسلس

_ * نُشرت في العدد 12 من جريدة «البصائر»، 27 أكتوبر سنة 1947.

النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وفيك تهشّ النفوس الكزّة إلى الإحسان؛ فلا تلُم البائسين- وقد عوّدتهم هذا- أن يسألوك المزيد، فيطلب الخائفون أن تُشرق عليهم شمسك بالأمان، ويرجو المظلومون أن يطلُع عليهم يومك بالانتصاف. ويتمنى المستعبدون أن يتجلّى لهم ليلك عن الحرية والسيادة. ... إن تفاخرت الأيام ذوات الشيات والمياسم، والمواكب والمواسم، فيومك الأغرّ المشهّر، وإن أتت الأيام بمن له فيها ذكر من الرجال، أو بمن شرفها بنسبة من الأبطال، جئت بإبراهيم، وإبراهيم آدم النبوّة، بعد آدم الأبوّة، وبإسماعيل، وإسماعيل سامك البنية القوراء، وعامر الحنيّة القفراء، ورمز التضحية والفداء، وناسل العديد الطيّب من النجيبات والنجباء؛ وبمحمد، ومحمد لبنة التمام، ومسك الختام، ورسول السلام، وكفى ... وإن جاءت الأيام بما أُثِر فيها من رموز، ونُثر باسمها من كنوز، جئت بالشعائر المأثورة، والنذر المنذورة؛ وجئت بالهدي يتهادى، والبُدن تتعادى، وجئتَ بالفدية والكفارة، والتجرّد والطهارة، وجئت بالأضحية والقربان، رموزٌ طواها الإسلام في الشعائر المضافة إليك ووكل لتصاريف الزمان شرحَها، وقد شرحتْ وأوضحت؛ وأين من يعقِل أو من يعي؟ ... يا عيد ... بأية حال عدت؟ ... وهذه فلسطين التي عظَّمت حُرُماتك ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن، وتأرج ثراها بالأثر العاطر من إسراء محمد، وتضمَّخ بدماء الشهداء من أصحابه. واطمأنَّت- من أول يوم- قلوب أبنائها بهدي القرآن، وجنوبهم بعدل عمر، تسام الدون، وتقاسي عذاب الهون؛ قد اجتمع على اهتضامها عُتو الأقوياء، وكيد الضعفاء؛ يريدون أن يمحوا معالمك منها، ويحسروا ظلال الإسلام عنها؛ طرقت حماها غارةٌ شعواء، من الشهوات والأهواء، يحميها الحديد، وينافح عنها الذهب، وغمرتها قطعان من ذؤبان البشر، وشراذم من عبّاد المال، يريدون أن يحقّقوا فيها حلمًا غلطوا في تفسيره؛ وأن ينصبوا فيها مسيحًا دجّالًا، بعد أن كذّبوا المسيح الصادق؛ وأن ينتقموا فيها من المسلمين بعد أن عجزوا عن الانتقام من بابل ويونان، وفارس والرومان، وروسيا والألمان، وإيطاليا والإسبان؛ وأن يرثوها بدون استحقاق، ويجعلوا من بني إسماعيل خَوَلًا لبني إسحاق. وهذه الجزيرة العربية مَجْلى البيان والوحي، ومسرح الخيال والشعر، ومنبت حماة الحقائق من قحطان وعدنان، تُنصب فيها أشراك الشركات ووراء كل شرك صائد؛ وتتناطح

فيها رؤوس الأموال؛ ووراء كل رأس مال رؤوس حيوانية تفكّر في الكيد، وأيدٍ حريرية تحمل القيد؛ وأرجل تسعى للاحتلال والاستغلال؛ وقد فُجعت صحراؤها في الدليل الذي كان يستاف أخلاف الطرق (1)، بالدليل الذي جاء يستشفّ (2) أطباق الأرض، ويشتَفُّ (3) ما فيها من سوائل؛ وأصبح ما في بطن الأرض من الكنوز السائلة والجامدة بلاءً وشقاءً لمن على ظهرها من أهل وسكان. وهذه مصر كنانة السهام؛ أرض العبقرية وسماء الإلهام، وقبلة العرب ومحراب الإسلام؛ تدفع بقوّة إيمانها ألوهية فرعون جديد. وتدفع بيقظتها كيد شيطان مريد، بعد أن أنقذها الإسلام من تعبّد الفراعنة الأولين؛ وإن فرعون الجديد لعالٍ في الأرض- كأخيه- وإنه لمن المفسدين. وهذا الشمال (4) قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال، في سموم من الاستعمار وحميم وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، أفسد الاستعمار أخلاقهم، ووهّن عزائمهم، وفرّق بين أجزائهم لئلّا يجتمعوا، وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم لئلّا يدّكِروا، وضرب بينهم وبين العلم بسور ليس له باب؛ ومكّن فيهم للضعف والانحلال، بما زيّن لهم من سوء الأعمال؛ وبما غزا به نفوسهم وعواطفهم من أفكار ومغريات. وهذه تركيا ذات السلف الصالح في رفع منارك، وإقامة شعارك، واقفةٌ على صراط أرقّ من السيف، واقعة بين دبّ عارم يترقّب الفرصة لازدرادها، وبين محتال بارع يمدّ الشباك لاصطيادها، ويطوي في العمل لتحريرها نية استعبادها، ويداويها من المرض الأحمر بالداء الأصفر. وهذا الهند الإسلامي لا يكاد يظفر بالأمنية التي سلخ في انتظارها القرون، وبذل في تحصيلها الجهود، ويستعيد تراث الإسلام الذي أثّله المهلب والثقفي (5) حتى تعاجله الدسائس والفتن، وحتى ليوشك أن يرجع إلى العبودية طائعًا مختارًا، فيسجّل على نفسه عار الدهر وخزي الأبد. وهذه جزائر الهند الشرقية التي عرفتك مع الإسلام. والتقت بك في البيت الحرام، وكوّن منها عدل الدين واعتدال الزمان والمكان أمة كما تهوى الفطرة الكاملة، وتطلب

_ 1) الاستياف شم الدليل لتراب الأرض ليعرف أين موقعه عند الضلال، ومن هذا الفعل أخذت كلمة المسافة. 2) استشف الشيء صيّره شفافًا أو وجده كذلك بعد الاختبار. 3) اشتف ما في الإناء إذا أتى على آخره فلم يترك منه شيئًا. 4) يريد شمال افريقيا. 5) محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند لأوائل الدولة المروانية.

الإنسانية الفاضلة، تحاول حلّ العقدة التي عقدها المكر بالسيف، وتعاني من تصامم الأقوياء وإخلاف وعودهم ما هو أشد من البلاء، وأشق من الموت؛ ولولا أن (الغربيّة) رحم يرعاها الغربي للغربي ما استعبدتِ السبعة سبعين (6). وهذا العالم كله مسيّر إلى غاية مشؤومة، متوقّع لضربة قاضية، تنسي الماضية؛ وهو يستنزل الغيث من غير مصبّه، ويستروح ريح الرحمة من غير مهبّه، ويتعلّل بالعلالات الواهية، من جمعية (7) لم تجمع متفرقًا من هوى، ولم تزجر عاديًا عن عدوان، إلى مجلس أمن لم يؤمِّن خائفًا، ولم ينصر مظلومًا، وإنما هو كرة بين لاعبين، أحدهما يستهوي بالفكرة، والآخر يستغوي بالمال. وويل للعالم إذا نفد النفاق، واصطدمت قوة الفكر بقوة الذهب. ... أما والله لو ملكتَ النطق يا عيد، لأقسمتَ بما عظّم الله من حرماتك، وبما كانت تقسم به العرب من الدماء المراقة في أيامك ومناسكك، ولقلتَ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد، يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفت من ربكم المواعيد. ولكنكم أخلفتم، وأسلفتم الشر فجُزيتم بما أسلفتم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. فلو أنكم آمنتم بالله حق الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوّة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض؛ ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبتْ ريحكم، وما ظلمكم الله ولكن ظلمتم أنفسكم. أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم. لا تظنوا أن الدعاء وحده يردّ الاعتداء، إن مادة دعا يدعو، لا تنسخ مادة عدا يعدو؛ وإنما ينسخها أعدّ يعدّ، واستعدّ يستعدّ، فأعدّوا واستعدّوا تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم.

_ 6) عدد سكان جزائر جاوه سبعون مليونًا أو يزيدون، وسكان هولاندة التي تستعمر تلك الجزائر كلها سبعة ملايين. 7) جمعية الأمم المتحدة.

هجرة النبوة من مكة إلى يثرب

هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب * لم تتّسع العربية- على رحب آفاقها- لذلك المعنى الجليل الذي بدأ تاريخًا، وأنهض أمّة واستأنف عالمًا، فسمّته بأقرب الكلمات إلى معناه، وبما يدلّ على ظاهره الذي هو انتقال جسماني- من بلد إلى بلد- كما لم تتّسع لمعنى حركة الشمس في أفلاكها فسمّته بأضعف مظاهره وبما تدرك العين منه وقالت: سبْح جرَيَان وجاء العلم فشرح ووضّح وفسّر وتوسّع، وهذا شأن اللغة كلما عجزت عباراتها الوضعية عن تأدية معنى عظيم، وضاقت عن تحديده، أطلقت عليه كلمة، تردّدها الألسنة، ويتعارفها الناس، وتشير ولا تحدّد، وتركت للعقول التوسع في تصوير الحقيقة، وإبعاد النجعة في طلبها؛ أما الإسم الذي جُعل عنوانًا على الحقيقة فلم يعدُ أن كان منبهة، كما جعلتْه اللغة، وهذا شأنها في الكلمات ذات المدلول الواسع مثل الخير والعلم والحق والجمال، ولغات العالم في هذا الباب واحدة، لأن عقول الناس فيه واحدة أو متقاربة. ... انتهى الحكم في ذلك المعنى الجليل إلى التاريخ بعد اللغة فسمّاه الهجرة النبوية المحمدية، وكشف بهذين الوصفين بعض السر، ونبّه العقول إلى أنها هجرة من نوع آخر، ومضى يربط سوابقها بلواحقها، ويصف، وفي كل وصف مثار للإحساس، ويقصّ، وفي كل قصّة موضع للعبرة، ويروي الوقائع، وفي كل واقعة جيش لجب من الحماس، ويحكي الأقوال، وفي كل قول مجال للحكمة، ويسلسل الحوادث، وفي كل حادثة مسرح للعقل، ويسمّي الأشخاص، وفي كل شخص وقفة للتوسم، ويستعرض الآراء، وتحت كل رأي

_ * نُشرت في العدد 14 من جريدة «البصائر»، 17 نوفمبر سنة 1947.

نسق من التدبير، ثم يبني النتائج على المقدمات، ويصل الآثار بالمؤثّرات، وينتهي وقد كشف عن ذلك المعنى الجليل الذي ضاقت عنه كلمة (هجرة) أتمّ كشف، وفسّره أكمل تفسير. لا كاشف للحقائق الكونية كالبحث، ولا شارح للأسرار الدينية كالتدبّر، ولا محلِّل للأحداث الاجتماعية كالتاريخ، أما اللغة فوظيفتها وضع العنوان ورسم الخطوط، ومن طلب من اللغة ما هو فوق ذلك فهو لاغٍ. ... كانت الهجرة- بهذا المعنى الخاص- وما زالت، هروبًا من الباطل والمبطلين، ونجاءً بالنفس أو بالعقيدة أو بهما، فهي في خلاصتها انهزام يعتذر بالضعف إلى أن يجد القوّة، وفرار بعزيز يخاف عليه إلى حيث يؤمَن عليه، لم يخرج عن هذا المعنى حتى هجرة الأنبياء والصدّيقين كإبراهيم ولوط هاجرا من بابل إلى كنعان، ولم يرجعا إلى بابل من كنعان، أما هجرة محمد وأصحابه فكانت هجرة قوّة كاثرها الباطل المتهافت، والشِّرك المتخافت، وعاقها عن امتداد العروق، وبُسوق الأفنان في أرضها التي فيها نبتت. وجوّها الذي فيه تنفّست، وقد طاش ذلك الباطل الطيشة الكبرى، وبحث عن حتفه بظلفه، فأخرج تلك القوّة إلى حيث تزداد قوّةً ورسوخًا، وهذا من عجيب صنع الله لهذا الدين القويّ الراسخ. من اللطائف أن القرآن ذكر قصّة الهجرة المحمدية من مكة إلى يثرب بأسلوب ليس من نسق التاريخ فسمّاها إخراجًا من الذين كفروا ولم يسمّها هجرة بصريح اللفظ، وإن سمّى الصحابة المهاجرين، ونوّه بالهجرة، وحضّ عليها، وقرنها بالإيمان، وجعلها شرطًا في الولاية فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} وبعض الحكمة في ذلك أن التذكير بالإخراج من الديار يُذكي الحماس، ويُبقي الحنين إلى الديار متواصلًا، ويُنمّي غريزة الانتقام والأخذ بالثأر، وأن إيجاب الهجرة بتلك الأساليب المغرية البديعة، هو جمع لأنصار الحق في مأرز واحد، بعد تشتّتهم لينسجموا ويستعدّوا إلى الرجعة والكرّة. وانظر إلى بدر والحديبية وعمرة القضاء تجدها كلها تعبِّر عن اتجاه وتحويم، وعن حنين إلى مكّة تدل مظاهره على خفاياه، ثم انظر أية ثورة تثيرها في النفوس الحرّة آية: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وآية: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. إن للإخراج من الديار لشأنًا أيّ شأن في القرآن، فهو يُبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه، وهو يقرنه بالقتل تشويهًا له وتشنيعًا عليه، وإن له في نفوس الأحرار لأثرًا يتعاصى

عن الصفح والعفو، وإن له في نفس سيد المرسلين لوقعًا مؤلمًا من يوم قال له ورقة: "إذ يخرجك قومك"، فقال: "أوَ مخرجيَّ هم؟ " إلى يوم أخرجه قومه بغير حق، إلى يوم أخرجه ربّه إلى بدر بالحق، إلى يوم صدَقَه ربّه الرؤيا بالحق. ... ما زلت منذ درست السيرة بعقلي، أقف في بعض مقاماتها على ساحل بحر لجيٍّ من العبر والمثُلات، ومن بين تلك المقامات حادثة الهجرة. فلا يكاد عقلي يستثير بواعثها الطبيعية حتى أتلمَّح العوامل الإلهية فيها فأستجلي من بعض أسرارها التمهيد للجمع بين أصلي العرب اللذين كانا في الجاهلية يتنازعان ملاءة الفخر. ويُؤَرّث الرؤساءُ والشعراءُ بينهما نار العصبيّة، حتى أضعفتهما العصبية، وحتى أطمع الضعف فيهما جاريهما القويين: جار الجنوب الحبشي، وجار الجنب الفارسي، وكادا يستعبدان هذا الجنس الحرّ لولا أن فال رأي أبرَهَة في الفيل، ومالتْ رايات فارس في ذي قار. جاءت النبوّة من مكة إلى المدينة تعمل عملها في جمع القوّتين اللتين أحالهما التفرّق ضعفًا. فجمعت المهاجرين والأنصار، وكأنما جمعت عدنان وقحطان في دار، يتصافحان على العروبة، ويتآخيان على الإسلام، ويُحيِيان من الأواصر والشوابك ما أماتته عِبِّيَّةُ الجاهلية، ويُميتان من النعرات المفرّقة ما كانت تحييه المنافرات والمفاخرات، وفي عقد التآخي بين المهاجرين والأنصار عنوان ذلك ودليله، ولو دامت للقرآن هيبته في الأفئدة وسلطانه على القلوب لما نبض عرق اليمانية والقيسية في الدولتين الأمويتين بالشرق والأندلس، ولما نجمت تلك النواجم التي ذهبت بريح العرب، ولما وجَّهت الدعوة العباسية وجهتها إلى خراسان، ولما بقيت هذه العروق الدساسة التي ما برحت تنفث السم في قلب الجزيرة العربية إلى الآن. ... ليت شعري ... وليتٌ يقولها المحزون، هل تحمل ذكرى الهجرة المتكرّرة مع كل عام، أولئك اليمانيين الراكدين وهم جمهرة أنساب قحطان، وأولئك الحجازيين الراقدين، وهم منحدَر دماء عدنان، على أن يتداعَوا إلى ما تداعى إليه أجدادهم، وأن يتآخوا على ما تآخوا عليه؟ هل يرجعون بالذاكرة إلى بيعة العقبة وما جرت للعرب من أخوة وسيادة، وعزّة وسعادة، فيتبايعون على حماية الحوزة العربية والذب عن حياض العروبة؟

هل آن لهم أن يعلموا أن هذه المذاهب التي صيّرتهم أوزاعًا في الدين والدنيا هي السبيل المفرّقة عن سبيل الله الواحد، وهي التي نهى الله عن اتّباعها؟ هل يعلمون أن طلّاب الغاز غزاة، وأن الشركات أشراك، وأن رؤوس الأموال الأجنبية ذات قرون ناطحة، وأن الوطن الذي يعمر بمال الأجنبي ويد الأجنبي وعلم الأجنبي! محكوم عليه بالخراب، وإن تعالت في الأفق قبابه، وكُسيت بوشي السماء هضابه، وسالت بذهب الأرض شعابه؟

شهر رمضان

شهر رمضان ... أثر الصوم في النفوس* ــــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات، وهو يعتبر المسلم تلميذًا ملازمًا في مدرسة الحياة، دائمًا فيها، دائبًا عليها؛ يتلقّى فيها ما تقتضيه طبيعته من نقص وكمال، وما تقتضيه طبيعتها من خير وشر، ومن ثم فهو يأخذه أخذ المربّي في مزيج من الرفق والعنف، بامتحانات دورية متكرّرة، لا يخرج من امتحان منها إلا ليدخل في امتحان؛ وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة. وامتحانات الإسلام متجلِّية في هذه الشعائر المفروضة على المسلم، وما فيها من تكاليف دقيقة، يراها الخليّ الفارغ أنواعًا من التعبّدات تتلقَّى بالتسليم، ويراها المستبصر المتدبّر ضروبًا من التربية شُرعت للتزكية والتعليم؛ وما يريد الله ليضيِّق بها على المسلم، ولا ليجعل عليه في الدين حرجًا؛ ولكن يريد ليطهِّره بها، وينمّي ملكات الخير والرحمة فيه، وليقوّي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير، والإقلاع عن الشر، ويروّضه على الفضائل الشاقة، كالصبر، والثبات، والحزم، والعزم، والنظام، وليحرِّره من تعبُّد الشهوات له وملكها لعنانه، وما زالت الشهوات الحيوانية موبقًا للآدمي، منذ أكل أبواه من الشجرة، حكمة من الله في تعليق سعادة الإنسان وشقائه بكسبه، ليحيا عن بيّنة، ويهلك عن بيّنة. في كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، ولعقله، وإرادته، ودع عنك الأركان الخمسة، فالامتحان فيها واضح المعنى بيّنُ الأثر، وجاوِزْها إلى أمّهات الفضائل التي هي واجبات تكميلية، لا يكمل إيمان المؤمن إلا بها، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في القول والعمل، والصبر في مواطنه، والشجاعة في ميدانها، والبذل في سبله، فكل

_ * نُشرت في العدد 43 من جريدة «البصائر»، 12 جويلية سنة 1948.

واحدة، أو في كل واحدة منها امتحان تكميلي للإيمان، تعلو فيه قيم، وتهبط قيم، وفي التوحيد امتحان لليقين، واليقين أساس السعادة، وفي الصلاة امتحان للإرادة، والإرادة أصل النجاح، وفي الحجّ امتحان للهمم بالسير في الأرض، وهو منبع العلم، وفي الصوم امتحان للصبر، والصبر رائد النصر، ونحن نريد من الامتحان هنا معناه العصري الشائع. غير أن الصوم أعسرها امتحانًا، لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية ومقاومُ الشهوات في نفسه أو في غيره قلما ينتصر، فإن انتصر فقلما يقف به الانتصار عند حدّ الاعتدال، بل كثيرًا ما يجاوزه إلى أنواع من الشذوذ والتنطع تأباها الفطرة والعقل، وهذه الروح المقاومة في الصوم هي التي راعتها الأديان والنحل، فجعلت الصوم إحدى عباداتها، تروّض عليه النفوس المطمئنة، وتروّض به النفوس الجامحة؛ ولكن الصوم في الإسلام يزيد عليها جميعًا في صوره ومدّته، وفي تأثيره وشدّته، فمدّته شهر قمري متتابع الأيام، وصورتُه الكاملة فَطْم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن، وكلّ ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصوم، كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم. فلا يتوهمنَّ المسلم أن الصوم هو ما عليه العامّة اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعًا فيما لا يحبّ الله من الجهر بالسوء من القول، وعذرًا فيما تبدر به البوادر من اللجاج والخصام والأيمان الفاجرة!! كلا ... إن الصوم لا يكمل، ولا تتم حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزّعة على الجوارح، وللأذن شهوات في الاستماع، وللعين شهوات في امتداد النظر وتسريحه، وللسان شهوات في الغيبة والنميمة، ولذّات في الكذب واللغو والتزويق: وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفَّقون من أصحاب العزائم القويّة، وأن تلك الضراوة هي التي هوّنت خطبه حتى على الخواص فلم يعتبروا صوم اللسان من شروط الصوم؛ وأعانهم على ذلك التهوين تقصير الفقهاء في تعريف الصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن الشهوتين، وافتتانهم بالتفريعات المفروضة، وغفلتهم عما جاء في السنَّة المطهرة من بيان لحقيقة الصوم وصفات الصائم. ... صوم رمضان محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقّة على هجر اللذائذ والطيّبات، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكّمه في أهوائها،

وضبطه بالجِدّ لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع، ولما تصوّروا ما يفعله الجوع بالجائعين، وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن الوجدان، ومنها هذا، فلو أن جائعًا ظلّ وبات على الطوى خمسًا، ووقف خمسًا أخرى يصوّر للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف. لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء، وسيّد الحكماء، أجود ما يكون في رمضان. ... ورمضان نفحة إلهية تهُبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرّة، وصفحة سماوية تتجفى على أهل هذه الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرّه، فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة، وأين مكانهم في تلك الصفحة. ورمضان "مستشفى" زماني يجد فيه كلّ مريض دواءَ دائه، يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان، ومرضى البِطنة والنعيم بالجوع والعطش، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية. ورمضان جبّار الشهور، في الدهور، مرهوب الصولة والدولة، لا يقبل التساهل ولا التجاهل، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال، وأن معظم جنده من الأطفال، يستعجلون صومه وهم صغار، ويستقصرون أيامه وهي طوال، فإذا انتهك حرمته منتهك بثّوا حوله الأرصاد، وكانوا له بالمرصاد، ورشقوه ونضحوه، و (بَهْدلوه) وفضحوه، لا ينجو منهم مختفٍ في خان، ولا مختبئ في حان، ولا ماكر يغِشّ، ولا آو إلى عشّ، ولا متستّر بحُشّ (1): ولا من يغيّر الشكل، لأجل الأكل، ولا من يتنكّر بحجاب الوجه، ولا بسفور الرأس، ولا برطانة اللسان، كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة، حتى الهيئات والكلمات، وهم قوم جريحهم جُبار الجرح، وقتيلهم هدر الدم. سبحان من ضيّق إحصارَه … وصيّر الأطفال أنصارَه وحرّك الريحيْن بُشرى به … رُخاءَه الهيْنَ وإعصاره ...

_ 1) الحش: الكنيف.

ورمضان- مع ذلك كله- مجلى أوصاف للوُصاف: حرم أهل المجون مما يرجون، وحبس لهم من مطايا اللهو ما يُزجون؛ وأحال- لغمّهم- أيام الدجون، كالليالي الجون؛ فترِحوا لتجلّيه وفرحوا بتولّيه، ونظموا ونثروا، وقالوا فيه فأكثروا، وأطلّ على الشعراء بالغارة الشعواء فهاموا وجنُّوا، وقالوا فافتنّوا، قال إمامهم الحكمي: إن أفضل يوم عنده أول شوال؛ وقال الغالون منهم والقالون ما هو أشبه بهم. ولو لم يكن لآخرهم "شوقي" إلا، "رمضان ولَّى" ... لكفته ضلّة، ودخنًا في اليقين وعلّة، والرجل جديد، وله في العروبة باع مديد، وفي الإسلام رأي سديد؛ وفي الدفاع عنه لسان حديد؛ ونحن نعرفه، فلا نَفْرقه. أما المعتدلون والمراءون فمنهم القائل: شهر الصيام مبارك … ما لم يكن في شهر آب خفت العذاب فصمته … فوقعت في عين العذاب ومنهم القائل: يا أخا الحارث بن عمرو بن بكر … أشهورًا نصوم أم أعواما طال هذا الشهرُ المبارك حتى … قد خشينا بأن يكون لِزاما أما الوصف العبقري، والوادي الذي طم على القَريّ، فهو قول الحديث الموحَى: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، وحديث الصادق: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»، وحديث الصحيح: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ». وقول الكتاب المكنون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

معنى العيد

معنى العيد * العيد في معناه الديني كلمة شكر على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه، ولكنها تعتلج في سرائره رضًى واطمئنانًا، وتنبلج في علانيته فرحًا وابتهاجًا، وتسفر بين نفوس المؤمنين بالبشاشة والطلاقة والأنس. وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة. والعيد في معناه الإنساني يوم تلتقي فيه قوّة الغني وضعف الفقير على (اشتراكية) من وحي السماء عنوانها (الزكاة) و (الإحسان) و (التوسعة). فيطرح الفقير همومه، ويسمو إلى أفق كانت تصوّره له أحلامه، ويتنزّل الغنيّ عن ألوهية كاذبة خضوعًا لألوهية الحق. والعيد في معناه النفسي حدّ فاصل بين تقييد تخضع له النفس، وتسكن إليه الجوارح وبين انطلاق تنفتح له اللهوات، وتتنبّه له الشهوات. والعيد في معناه الزمني قطعة من الزمن خُصّصت لنسيان الهموم، واطّراح الكُلَف، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة. والعيد في معناه الاجتماعي يوم الأطفال يفيض عليهم الفرح والمرح، ويوم الفقراء يلقاهم باليُسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعُها على الصلة والبرّ، ويومُ المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور. أما العيد عندنا فهو في ألسنتنا كلمة أفرغت من مدلولها، فهي مهملة. وفي عاداتنا هنَةٌ قُطعت من أصولها، فهي مبتذلة، وفي فهومنا آية نُسخ حكمها فهي معطّلة.

_ * نُشرت في العدد 162 من جريدة «البصائر»، 2 جويلية سنة 1951.

من وحي العيد

من وحي العيد * يا عيد: لو عدْتَ على قومي بالخفض والدّعة، أو جُدت عليهم باليُسر والسعة، لوَجدت مني اللسان الخافق بذكرك، والقلم الدافق بشكرك، ولكنك عُدت عليهم بنهار كاسف الشمس، ويوم شرّ من الأمس، فاذهب كما جئت، فلستُ منك، ظاعنًا ولا مقيمًا، وعُد كما شئت، فلست مني، حميدًا ولا ذميمًا. ... يا عيد: لستَ بالنحس ولا بالسعيد، وإنما الناس لأعمالهم؛ سعد العاملون وشقي الخاملون، ولو أنصفناك لقلنا: إنك يوم كالأيام، من عام كالأعوام، وُلدتَ كما وُلدتْ هي من أبوين- الشمس والأرض- لم ينزع بك دونها عرق مختلف عنها، ولم تتميّز- لولا الدين والعرف- بشيء منها، فأنت مثلها غاد على قَدر، رائحٌ على قدَر، ومنّا- لا منك- الصفو والكدر؛ أو لقلنا: إنك معرَّس مدلجين، يعدِّلون بك المراحل، ومستراح ملجِّجين، يقدّرون بك دنوّ الساحل، فلو عمرنا أيام العام بالصالحات لكنت لنا ضابط الحساب، وحافظ الجراب، ثم لم تلتْنا من أعمالنا شيئًا، ولم تبخسنا من أزوادنا فتيلًا؛ ولكنّنا قصرنا وتمنّينا عليك الأماني، وتبادلت ألسنتُنا فيك أدعية لم تؤمِّن عليها القلوب، ثم ودعناك وانتظرنا إيابك، وأطلنا الغيبة واستبطأنا غيابك.

_ * نُشرت في العدد 163 من جريدة «البصائر»، 16 جويلية سنة 1951.

يا عيد: كنا نلتقي فيك على مُلك اتّطدت أركانه، وعلى عزّة تمكّنتْ أسبابها، وعلى حياة تجمع الشرف والتّرف، وتأخذ من كل طريفة بطرف، وعلى جِدّ لا ينزل الهزل بساحته، واطمئنان لا يلمّ النصب براحته؛ فأصبحنا نلتقي فيك على الآلام والشجون، فإن أنساناهما التعوّد فعلى اللهو والمجون، أصبحنا نلتقي فيك على عبودية لغير الله، أقررناها في أنفسنا فأصبحت عقيدة كالعبودية لله. ... يا عيد: إن لقيناك اليوم بالاكتئاب، فتلك نتيجة الاكتساب؛ ولا والله ما كانت الأزمنة ولا الأمكنة يومًا ما جمالًا لأهلها، ولكن أهلها هم الذين يجمّلونها ويكمّلونها؛ وأنت- يا عيد- ما كنتَ في يوم جمالًا لحياتنا، ولا نضرة في عيشنا، ولا خضرة في حواشينا، حتى نتّهمك اليوم بالاستحالة والدمامة والتصوّح؛ وإنما نحن كنا جمالًا فيك، وحِلية لبكرك وأصائلك، فحال الصبغ وحلم الدبغ، واقشعرّ الجناب، وأقفرت الجنبات، وانقطعت الصلة بين النفوس وبين وحيك، فانظر ... أيُّنا زايل وصفه، وعكس طباعه؟ بلى ... إنك لم تزل كما كنتَ، وما تخوّنت ولا خُنت؛ توحي بالجمال، ولكنك لا تصنعه، وتُلهم الجلال، ولكنك لا تفرضه، ولكننا نكبنا عن صراط الفطرة وهدي الدين، فأصبحنا فيك كالضمير المعذّب في النفس النافرة، وأصبحت فينا كالنبي المكذّب في الأمة الكافرة ... ... ويْحي من العيد، وويحَ العيد مني ... ألي عنده ثأر؛ فلا ألقاه إلا كما يلقى الثائر المثؤور، عابس الوجه، مقطّب الأسرّة، غضبان السرائر؛ فما أذكر أني لقيته مرّة بالتسهل والترحيب، وما أذكر أني كتبت عليه كلمة متهلّلة ضاحكة لم يشبها شوب التصنّع؛ وما أذكر أنني سلكت في استقباله هذا الفج الذي يسلكه الكتّاب الخليّون في التهنئة به، وتصويره بغير صورته، وتملّقه ليعود عليهم بالمجد الذي أضاعوه، والتمنّي عليه أن يجود عليهم بما لا يملك، ثم الاسترقاء له بالأدعية التي لا تُفتَّح لها أبواب السماء، لأنها إزجاء للركائب بلا حاد، ودرءٌ في نحور البيد بلا هاد، فويحي من العيد، وويح العيد مني ... ألي عنده ثأر؟ ... ... والحقيقة هي أني ما زلت كلّما أظلّني عيد من أعيادنا الدينية أو القومية، أظلّتني معه سحابة من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات،

والقرب من الموبقات، واحتدمت جوانبي من التفكير في ما هم فيه من سدر، لا يملكون معه الورد ولا الصدر، وذكرتُ كيف يعيشون على الخيال، المُفضي إلى الخبال، وكيف يحيون في الظلام، على الكلام، وكيف يسترون عوراتهم بالأكفان البالية، وكيف يحتقرون زمنهم في جنب الأزمنة الخالية، والزمن غيران، يضن بخيره على أبناء غيره (1)، وكيف استخفّهم علماؤهم وزعماؤهم وكبراؤهم وملوكهم فأطاعوهم في معصية الله، وقادوهم إلى النار فانقادوا بشعرة، وكيف يلقَون أعيادهم التي هي موقظات عزائمهم بهذه التقاليد الزائفة، والعادات السخيفة، والمهازل التي تطمس معالمها، وتُشوّه جمالها، فأجدني بذلك كله كأنني من قومي أعرابيٌّ بين أنباط، أفهم من لفظ العيد غير ما يفهمون، أو كأنني فيهم بقية جاهلية لا أفهم من معنى العيد إلا ما يفهمه شعراؤها الغاوون، من همٍّ يعتاد النفوس، وجوىً يلزم الحيازيم وذكرى خليط مزايل؛ يُثيرها غراب يثوّب، ويهيّجها طيف يؤوّب، وتؤجِّجها الأثافي السفح والأطلال الدوارس. ... وقومي هم العرب أولًا، والمسلمون ثانيًا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمّة تفكيري. أفكِّر في قومي العرب فأجدهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكّرون، وأراهم لا ينقلون قدمًا إلى أمام، إلا تأخّروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمَة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلّى بحلاهن، فحصرت همّها في إثارة غيرة حرّة على حرّة، وتسخير نفسها لضرّة، نكايةً في ضرّة، وأفكّر في علّة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرّق المبيد لهم، فأجدها آتيةً من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوّقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذلّ، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبّوا الحياة الدنيا فرضوا بسفسافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يُقم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم، وأصبحوا يتوهّمون كل حركة من إسرائيل، أشباحًا من عزرائيل. وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورًا بلا لباب، وألفاظًا بلا معان؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل

_ 1) يعني أنهم ليسوا من أبناء هذا الزمان، فهم متقدّمون عنه بأفكارهم وعقولهم، أو متأخرون عنه بقرون.

والشيع؛ قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها، ويتعادون لأجلها؛ وقد نسوا حاضرهم افتتانًا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادًا على أوليهم، ولم يحفلوا بمستقبلهم لأنه- زعموا- غيبٌ، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، ولكن زرع الأولون ليجني الآخرون. وهم على ذلك إذ طوّقتهم أوربا بأطواق من حديد، وسامتهم العذاب الشديد، وأخرجتهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، وورثت بالقوّة والكيد والصولة والأيد، أرضهم وديارهم، واحتجنت أموالهم، وخيرات أوطانهم، وأصبحوا غرباء فيها؛ حظّهم منها الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس. إن من يفكّر في حال المسلمين، ويسترسل مع خواطره إلى الأعماق، يُفضي به التفكير إلى إحدى نتيجتين: إما أن ييأس فيكفر، وإما أن يُجنّ فيستريح. ... وجاء هذا العيد ... والهوى في مراكش يأمر وينهى، والطغيان في الجزائر بلغ المنتهى، والكيد في تونس يسلّط الأخ على أخيه، وينام ملءَ عينيه، والأيدي العابثة في ليبيا تمزّق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال، ومشكلة فلسطين أَكِلَةٌ خبيثة في وجه الجزيرة العربية، تسري وتستشري؛ والأردن قنطرة عبور للويل والثبور، وسوريا ولبنان يتبادلان القطيعة، والحجاز مطمح وُرّاث متعاكسين، ونُهْزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته) معلّقة بحماية زيته، واليَمن السعيدة شقيّة بأمرائها، مقتولة بسيوفها؛ والعراق أعيا داؤه الرّاق، وتركيا لقمة في لهوات ضيغم. وهي تستدفع تيارًا بتيّار، وتستجير من الرمضاء بالنار، وفارس طريدة ليثين يتخاطران، وباكستان لم تُزمع التشمير، حتى رُهصت بكشمير؛ والأفغان تحاول الكمال، فيصدّها الخوف من الشمال؛ وجاوة لم تزل تحبو، تنهض وتكبو، وتومض وتخبو. ... هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقلّ غناؤها، وهذه أحوال العرب والمسلمين، الذين يُقبل عليهم العيد فيُقبل بعضهم على بعض، يتقارضون التهاني، ويتعلّلون بالأماني، أفلا أُعذر إذا لقيت الأعياد بوجه عابس، ولسان بكيّ، وقلم جاف، وقلب حزين؟ ...

الإسلام

الإسلام * أبيات من الرجز، كنت أنظم كل أربعة منها لتوضع في إطار بجانب اسم الجريدة، ثم ضممتها للملحمة الرجزية من نظمي، وهي تبلغ عشرات الألوف من الأبيات، منها نحو خمسة آلاف في تاريخ الإسلام وحقائقه. ــــــــــــــــــــــــــــــ بوركت يا دين الهدى ما أثبتَك … حقُّك بتَّ المبطلين وبتك مَن ذا يجاريك؟ وأنت السيل … والسيل فيه غرق وويل من ذا يساريك؟ وأنت النجم … والنجم نور الهدى، ورَجْم شعارك الرحمة والسلام … للعالمين، واسمك الإسلام الحق من سماتك الجليّه … والعدل من صفاتك العليه والعقل- منذ كنت- من شهودك … والفكرُ بعد العقل من جنودك ... كانا كتبر في التراب أرصدا … فمسحت يُمناك عنهما الصّدا يا دين، إن الدّين ليس يُنسى … بل يُقضى معجّلًا أو ينسى يا دين، إن الصبغ لن يحولا … وإن عندك لهم ذُحولا وعندك التِّراثُ والطوائل … أقرضها الأوائل- الأوائل تجمعوا عنك لأخذ الثار … وأقبلوا في القسطل المثار عوّضتهم من الخسار الربحا … فأبصروا- بعد الظلام- الصبحا علَّمتهم كرامة الإنسان … وجئتهم بالعدل والإحسان ألْحفتهم مُلاءة الأمان … وسستهم بالعهد والضمان وذمة جوارُها لا يُخْفَر … ونعمة آثارها لا تكفَر أشركتهم معَ بنيك في حقوق … حكمت أنّ سلبَها منهم عقوق

_ " نُشرت في الأعداد 152، 153، 156، 157، 158، 159، 160، 161، 163، 164 من جريدة «البصائر»، سنة 1951.

أفرطتَ في الرحمة والإكرام … فأفرطوا في البغي والإجرام وفي العباد من إذا لِنت اجْترى … ومَن إذا صدقته القول افترى ومن إذا سقيته المحض المري … سقاكَ شوْبًا من قذىً وكدَر عروقُ لؤم في الغرائز التي … مهما تسامتْ للعلا تدلَّت إن الضلال والهوى والأثَره … وكلّ شرّ قد محوتَ أثَرَه اتصلت من بعد ما فصلتا … ونَبَتَتْ من بعد ما استأصلتا تجسمت فأصبحت جبالا … واستوثقت حتى غدت حبالا ثم تداعت في حمى الصلبان … ورِعْية القسوس والرهبان إن طلبوا عندَك ثارَ الغلب … فهل تراهم أجملوا في الطلب؟ لا والذي بك العقولَ حرّرا … وثبت الحقّ بها وقررا وجعل القرآن حجة الأبد … هو المعين العدّ، والكتْب الزَبد مفصّلًا أنزله نجوما … وللهدى سيّره زحوما قد أمِنوا- إلا بحق- سيفَك … وأمِنوا على الزمان حيفَك ولمعة من صارم يسل …كومضة من عارض ينهل والأرض أحوجُ لدَرء العيْث … منها إلى جلب الحيا والغيث ما سلّ سيفٌ فيك إلا لمدى … لو لم يجُزْه الناس ظلّ مغمدا ... لغة العرب: نغار عن أحسابنا أن تُمتهن … والحر عن مجد الجدود مؤتمن ولغة العرب لسان ممتحن … إن لم يذُد أبناؤه عنه، فمن؟ ... المنابر: إن المنابر في الإسلام ما نصبت … إلا لترفَع صوت الحق في الناس فاخترْ لأعوادها لا من يلين له … في الحق عود ولا يُصغي لخنّاس ومن إذا رِيع سربُ الدين خفّ له … ولم يكن لعهود الله بالناسي

من نفحات الشرق

من نفحات الشرق * داوِ الكلوم يا شرق، فما زلنا كلَّما استشفينا بك نجد الراحة والعافية، ونظفر بالأدوية الشافية؛ وما زلنا كلما استنشقنا ريحًا استنشيْنا رَندك وعرارك، وكلّما استورينا زندًا استمجدنا مَرْخَك وعَفَارك، وما زالت أفئدتنا تهوي إليك فتصافحها حرارة الإيمان، وبرد اليقين، ورَوْح الأمان، وما زلت تُتحفنا مع كل بازغة منك بالنور اللائح، والشعاع الهادي، وما زال يتبلج علينا من سناك في كل داجية فجر، وتسري إلينا من صباك في كل غماء نفحات منعشة. ... وافنا يا شرق مع كل نسمة منك تهبّ، ومع كل بريد من قِبلك يخبّ، بأثارة مما أبقت الأيام فيك من آثار السماء، فقد انقطعت الصلة- في غيرك- بينها وبين الأرض، منذ طمعت أوربا في استعمار كواكبها، وتعفيرها بأوضار مادّيتها، وهل تنقل أوربا إلى السماء يوم تستعمرها إلا مخامرها ومواخيرها وآثامها وفواحشها؟ وكَذَبَتْهم الكذوب، فإن الصعود إلى السماء خيال يسري في ظلّ حقيقة، وباطل يجري في عنان حق، وحلم من أحلام العلم، أخطأت تعبيره علماء المادّة، وحقّقه محمد مرّة واحدة، في تاريخ البشرية، ووضّح التفكير الإسلامي تفسيره في تلك المرحلة الأولى بالعروج الروحي إلى الملإ الأعلى، والجوَلان الفكري في ملكوت السماوات، فلولا هداية الإسلام إلى اجتلاء أسرار السماء، وتوجيه العقول إلى فتح مغاليقه، وربطه بالأرض بواسطة الروح، لما لاح هذا الخيال في ذهن مفكر، ولا طاف طائفه بعقل عاقل، وكذب الطرفان، وصدقت الواسطة، الأوّلون قادهم

_ * نشرت في العدد 164 من جريدة «البصائر»، 23 جويلية سنة 1951.

الإعجاب بالكواكب إلى عبادتها، والآخرون قادهم إلى استعمارها، والإسلام كذب الأولين، وسيسفِّه الآخرين ... ... ما زالت فيك- يا شرق- ملامح من الخير، ومخايل من الفضيلة، ومشابه من عبقرية العقول التي حلّت مشكلات العلم، ووسّعت آفاق المعرفة، وخطّت خطوط الفن الأولى، ومن الأرواح التي اتّسمت بالطهر، واضطلعت بالأمانة، وعبرت البرزخ الإنساني إلى أفق الملائكة، فساوق نغمها بكلام الله زجلهم بتسبيحه، فاتسق منهما إيقاع حدَتْ به ركب الإنسانية إلى منابع الخير، ومشارع الحق، ومراتع الجمال، ثم ... إلى الجنّة. يا شرق، فيك من كل مكرمة عرق، فاجْر على أعراقك الكريمة، ففي تربتك نبت الإيثار والتضحية، ومن أرضك انبجست الرحمة والرفق، ومن آفاقك هبّت النجدة والغوث، وعلى أديمك دبّت النبوّة والحكمة، ومن سمائك تنزّلت البيّنات الفارقة بين الهدى والضلال، وعنك أخذ الناس المكارم والمراشد، ومنك امتاروا أغذية الأرواح، واستبضعوا طرائف العلم ... آسِ جراحنا، وإن كنت مثخنًا من ملوكك المغرورين، وكبرائك المفسدين وعلمائك الضالين، بألف جرح؛ فلا يحزنك أنهم عقّوك وشقّوك؛ ولا يقعد بك عن أداء رسالتك أنهم أضاعوك وباعوك، وأنهم أكلوا خيرك، وعبدوا غيرك، ولا يرعك أن على كل فَنن من دوحتك ديكًا منهم يدلّ الثعلب بصياحه، وغرابًا يجلب الشؤم بنعيبه، فامض على نهجك، ودعهم للزمان الذي يقيم الأمت، ويقوّم السمت؛ ولا تبال أيةً سلكوا، ولا بأي واد هلكوا؛ فما هم من النسبة إليك في الصميم المهذّب، وإنما هم دخلاءُ تغرّبوا، ونبيط تعرّبوا، وفي كنائنك من الشباب من يتجافى عن دَدِه، لتعمير غدك بغده، ومن الكهول من فُرّ عن تجربة، وخلص تبرًا من أتربة، ومن الشيوخ من سلخ عمره لحماك حارسًا، ووقف دهره لسرّك دارسًا؛ فاستعدِ هؤلاء على أولئك، وكاثر الضالين بالمهتدين، وارْم البطان الفجرة، بالعجاف البررة، ترْم الخبيث بالطيب، وتغسل الدرن بالصيب، وإذًا لا يلبثون فيك إلا قليلًا. ***

نأسى عليك يا شرق أن تتقاذفك الأقدار، فتنقلب من عبادة الأصنام الحجرية، إلى عبادة الأصنام البشرية، فمتى تنهض بمن يكسر هذه في الآخرين، كما كسر محمد أخواتها في الأولين؟ ... أناديك: داوِ الكلوم، وقد فعلتَ، فأنعشت نفسًا ظامئة إلى ريِّك وريَّاك، متطلعةً إلى سهيلك وثريّاك، وإياي أعني، فقد كنت في هذا العيد الأخير على الحالة التي وصفتها صادقًا في كلمة العدد الماضي، من ضيق النفْس، وحرج الصدر، والامتعاض لحالة المسلمين، وظهوري بين الناس بوجه ضاحك ووراءه قلب حزين، فجاءني الشرق أو جادني بما كانت مواقعه مني (مواقع الماء من ذي الغلة الصادي). أثقل ما يعرض لنفس الحرّ شيئان: أن يحزن والناس كلهم في فرح، وأن ينقبض وهم جميعًا في مرح؛ وكذلك كنت في أيام العيد الماضي، لولا نفحات من الشرق، آمنت معها بكل ما كان يزعمه الشعراء لنسيم الصبا من آثار ... خلصتْ إليّ من إخوان الصدق في الشرقين، رسائل تحمل التهنئة بالعيد، بأسلوب جديد، غير ذلك الأسلوب الرثّ المبتذل الميت الذي عرفناه وألفناه، ولكنه يُفشي اليقظة ويصف الداء والدواء، ويجمع الأمل والعمل، ويسمو بالفكر والروح، ويربط الكاتب والقارئ بشعور واحد، ويعدي نفسًا من نفس، فكأنما مسّتها منها كهرباء، ويفيض كل لفظ منه بمعاني الاتصال الروحاني، فتحسّ النفس المكروبة أن لها من أختها مؤنسًا في الوحدة، ومعينًا على الشدّة، ومثبّتًا عند زيغ الأبصار وزلزلة الأقدام، وكذلك كنت بعد وصول رسائل التهنئة إليّ من جدة والمدينة والموصل وبغداد وباكستان ودمشق وبيروت والقاهرة والهند وجاوة، فكنت أقرأها تهنئة، فأجدها تسلية. سلم جناحاك يا طائرة البريد، وبلغ قائدك ما يريد، ووُقيت شرّ العواصف الهوج، والفُجاءات الموبقة، وسلكت من السماء سبلًا، معبّدة ذللًا، فلولاك ما وصلت النجدة في حين الحاجة إليها، وقد سمعنا بنقلك الشفاءَ إلى مريض البدن، في ساعة من الزمن. أأنتِ كذلك مع مرضى الأرواح؟ ... وحيّا الله أولئك الإخوان على بعد الدار، لكأنهم علموا أن على الجانب الغربيّ رجلًا يهتم بهم أبدًا، فاهتمّوا به يومًا، ولكنّه يوم كألف سنة، فأزاحوا عن نفسه، همًّا ناصبًا، وجاءوه بفن من الترويح تواطأوا فيه على نهج، فكأنهم استملوه من لسان واحد، وكأنهم علموا البلوى، فجاءوا بالدواء ومعه السلوى، وخصّ الله بتحياته المباركة أولئك الذين زادوا

على التهنئة بالعيد تهنئة العربية "بالبصائر"، وتهنئة «البصائر» بجهادها وبالمكانة التي تبوّأتها في القلوب، ووددت- والله- لو تجرّدت رسائلهم من إطراء هذا العاجز، وتنزيله منزلة هو أعلم الناس بأنه لا يستحقها، وإذن لنشرت منها ما ينبّه القرّاء إلى ما تفعله الأخوّة الإسلامية التي ننشدها، ونعمل على تثبيت قواعدها، وإلى المدى الذي بلغته «البصائر» في ربط القلوب، وتوحيد الاتّجاه، وتضييق دائرة الخلف في الدين والدنيا، وتوسيع ميدان التعارف، ثم في نقل الجزائر من (باب النكرة) إلى (باب المعرفة) ... ... إن أنسَ شيئًا من تلك المعاني العلوية فلن أنسى تلك الرسالة التي كتبها الأستاذ محمد هارون المجدّدي، سكرتير السفارة الأفغانية بالقاهرة، نيابة عن والده المسلم الصادق السفير محمد صادق المجدّدي، ولن أنسى، ما حييت ما لمس إحساسي الديني من تلك الرسالة، وهو اعتذاره عن والده بعذر غريب عند المفتونين منا من ربائب الحضارة الغربية، وهو: "أنه ذهب إلى المسجد الأقصى ليُقيم سنة "الاعتكاف " في العَشر الأواخر من رمضان، كدأبه في كل عام" ... سفير دولة إسلامية يفارق مركزه الرسمي، ويترك أشغاله الرسمية، ويخالف سنّة زملائه، ويشدّ الرحال إلى ثالث المساجد الثلاثة، ليقيم فيه سنّة إسلامية، هي أفضل السنن في تزكية النفس، وتطهيرها من المكدّرات، وفي تصفية الأرواح، وتلطيف كثافتها، شرعت في شهر رمضان لتكون نفس المؤمن بمقربة من الله في الدائبين، على حين يختار بعض ملوك المسلمين، وكثيرٌ من كبرائهم هذا الشهر للسفر إلى أوربا لينتهكوا حرماته، ويتقرّبوا بنفوسهم الخاطئة إلى آثامها وشهواتها، وعلى حين يقيم غيره من سفراء الدول الإسلامية حفلات (الكوكتيل) بأموال المسلمين، يبيعون فيها دينهم وفضائلهم الشرقية بالثمن البخس، ويتقرّبون بها إلى أسيادهم الأوربيين الذين ما سادوهم باطّراح الدين، وإنما سادوهم بالخلق المتين، والمحافظة على الخصائص الموروثة، والأخذ من كل شيء بلبابه لا بقشوره. لعمر الحق ... إن اعتكاف سفير مسلم للعبادة في أحد المساجد الثلاثة، لحجة من حجج الله، على الملوك والوزراء والكبراء الذين فرّطوا في دينهم فخسروه وما ربحوا الدنيا، ثم كانوا وبالًا على أممهم، وسبة لدينهم.

محنة مصر محنتنا

محنة مصر محنتنا * تعاني مصر العزيزة هذه الأيام، ما يعانيه الحرّ الأبيّ، أُكره على الضيم، وأريد على ما لا يريد، وجُرّع السمّ مدُوفًا في الحنظل، وقطعت أوصاله وهو يشعر، واستبيحت محارمه وهو يسمع ويبصر، حتى إذا استيأس من الإنصاف ونفد صبره، خطا الخطوة الفاصلة، وأقدم على تحطيم القيد بنفسه، وعلى تمزيق الصحيفة التي أملتها القوّة على الضعف، فقبلها مكرهًا كمختار، وكانت أهون الشرّين، فأصبحت- بحكم الزمان- أثقل الخطبين. ... صمّمت مصر على حلّ العقدة التي عقدها السيف يوم التلّ الكبير، وأحكم المكر عقدها بعد ذلك في سلسلة من الأعوام بلغت السبعين، صاحبتها سلاسل من الأحداث والأسباب المصطنعة، زادت العُقَد تأرّبًا واستحكامًا، وسلاسل من الوعود المنوّمة تكرّرت فتُأُلفت ففقدت التأثير، وفتحت مصر عينيها على أفظع ما تُفتح عليه العيون: تغرم ليغنم الإنكليز، وتجوع ليشبع الإنكليز، وتموت ليحيا الإنكليز، وينهدم مجدها ليبنى بأنقاضه مجد الإمبراطورية الإنكليزية، ويفرض عليها أن تعيش غريبة في وطنها، وأن تعاون على طمس حضارتها ومسخ عقليتها، والانسلاخ من شرقيتها، والنسيان لماضيها، وأن تنتبذ من أهلها مكانًا غربيًّا ... وأن تجفّف ماء النيل لتفهق به مشارع (التاميز) ... ...

_ * نُشرت في العدد 174 من جريدة «البصائر»، 5 نوفمبر سنة 1951.

صمّمت مصر على إحدى الخطتين، فكانت التي فيها الشرف والكرامة، بعد أن استنفدت التجارب، واستفرغت الجهود، وبعد أن استعرضت الماضي بعبره وشواهده، فرأت أن ساعة من العمل خير من ألف شهر في الكلام، وأنها تمارس خصمًا إن استنجزته الوعد طاول، وإن تقاصرت أمامه تطاول، فخطت هذه الخطوة واثقة مستبصرة، وتركت للأقدار ما وراءها، كما يفعل المظلوم المستيئس من إنصاف ظالمه، ومن نصر النظارة، يركب الحدّ الخشن، ويعتمد على نفسه، وينادي ربّه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}. رأت مصر- كما رأينا وكما رأت الشعوب المستضعفة- أنّ السنّة قد انعكست، فأصبحت أيام الحرب أكثر عددًا من أيام السلم، وأن لصوص الاستعمار شغلتهم الحرب عن السلم، ولم تشغلهم السلم عن الحرب، فأصبحوا في حرب متصلة الحلقات. وعلمت مصر- كما علم غيرها- أن الشعار الكاذب لحرب 14 - 18 هو وعود المتحاربين للأمم الضعيفة بأن نهاية الحرب هي بداية تحريرهم فليسكتوا إلى حين، لأن السلاح خطيب جمعة يجب الإنصات له، ويَحرُم الكلام معه، فلما انتهت تلك الحرب أمعن اللصوص المنتصرون في استعباد المستضعفين، وصمّت آذانهم عن سماع أصواتهم، وجاءت حرب 39 فتجدّدت تلك الوعود بألفاظها، وزيدت عليها نون التوكيد المشدّدة، وسيقت تلك الشعوب الموعودة على نغماتها إلى جهنم بأوزار غيرها، ولمنافع غيرها، فلما خفّت المعامع، وسكتت المدافع، عادت طبيعة الكذب والإخلاف إلى مستقرّها من نفوس اللصوص، وعادت الحالة إلى أشنع مما كانت عليه من تحكّم واستعباد، وما انتهت تلك الحرب حتى ظهرت على العالم أعراض الحمل بحرب أخرى ثالثة، وأصبح العالم كله استعدادًا لها، وأوجد الطغاة العالون في الأرض بذلك مرخّصًا لطغيانهم، ولإسكات الأصوات المطالبة بالتحرير، وعادت نوبة المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة، والتعلّل بأن الحرب على الأبواب، فلنحتفظ بهذه الأبواب، وبأن الديمقراطية في خطر، فلنتعاون على إنقاذها مجتمعين قبل كل شيء ثم نتناصف، وهم لا يريدون من الديمقراطية إلا سيادتهم واستعلاءهم وتحكّمهم في الشعوب والأوطان واستئثارهم بقوّاتها وخيراتها، فقالت مصر: إذا كانت الحرب لم تنصفني، مع احتراقي بنارها، وكانت السلم لا تنصفني، مع اضطلاعي بوسائلها، وتمهيدي لأسبابها، فلأنتصف لنفسي، ولآخذ حقي بيدي ... فأقدمت وجاءت بها غراءَ مشهّرة الأعلام، وسنتها سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها، ممن ضاقت به الحيل، واشتبهت عليه السّبل؛ ولعمري لئن سبقها إلى هذه المنقبة رجال من فارس، ليلحقنّها فيها رجال من العرب الأشاوس ... ***

الآن يا مصر ... الآن وقعت على مفتاح القضية، وقد أقدمت فصمّمي واحذري النكول والتراجع فإنهما مضيعان للفرصة؛ اجعلي من أرضك صعيدًا واحدًا، واجمعي أبناءك كلهم فيه صفًّا واحدًا، بقلب رجل واحد، على الحفاظ والنجدة والاستماتة في حقك والموت في سبيله، واجعلي من وجهيك وجهًا واحدًا مستبين القسمات، واضح السنن، يراه عدوّك فلا يرى إلا الحق مشرقًا، والغضبة بارزة العنوان. إن بين السبق والتخلّف خطًّا دقيقًا، يتجاوزه الحرّ الأصيل، فإذا هو مستول على القصب، وإن بين النصر والهزيمة خطوة ضيّقة، يخطوها الشهم الشَّمَّريُّ فإذا هو حائز الغلب؛ وإن المعالي شدّ حيزوم، وشحذ عزيمة، وتلقيح رأي سديد برأي أسدّ، وتطعيم عقل رشيد بعقد أرشد، ثم استجماع للقوّة الداخلية كما يستجمع الأسد للوثبة. ليت شعري! ... لو لم تصنع مصر ما صنعت، فماذا كانت تصنع؛ أكانت تستخذي للغاصب، فتبقى مقيّدة به، يعادي فتعادي بلا سبب، ويحارب فتحارب بلا أجر ولا غنيمة، ويرضى فترضى بلا موجب، ويواصل فتواصل على مضض؟ وكنا نظن أن الإنكليز راجعوا بصائرهم، وأخذوا من تأديب الزمان بنصيب ومحوا سيّئة الاستعمار بحسنة التحرير، وسنّوا للمستعمرين الجائعين سنّة التعفّف- يوم حرّروا الهند وباكستان- على ما في ذلك التحرير من شوائب، ويوم أعانوا سوريا ولبنان على التخلّص من البلاء المبين، كنا نعتقد أن تلك البوادر من انجلترا- لو تمادت عليها- أصلح لها وأبقى على شرفها، لأن من ثمراتها أن يصير خصومها أصدقاءَ وأعوانًا، ولكن معاملتها لمصر هذه المعاملة القاسية التي انتهت بالأزمة الحالية، كذّبت ظنوننا، وسفهت اعتقادنا، وأقرّت أعين المستعمرين أعداء التحرير. ... إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المعبّرة عن إحساس الشعب الجزائري كله، تعلن تأييدها للشعب المصري وتضامنها معه في موقفه الحازم، ولا تصدّها عن أداء واجبات الأخوّة هذه الحدود الوهمية التي خطّها الاستعمار بين أجزاء الوطن الواحد، ولا هذه السدود الواهية التي أقامها بين أبناء الوطن الواحد، لأن العواطف الجيّاشة كعثانين السيل لا تردّها حدود ولا سدود. وجمعية العلماء تحيّي جهود الشعب المصري، المجاهد في سبيل حرّيته واستقلاله، وتدعو له بالثبات في هذا المعترك الضنك، وبالانتصار في هذه المعركة الحاسمة، وأن يكون انتصاره آيةً من الله يثبّت بها عزائم المستضعفين، ويحلّ بها ما عقد الأقوياء، وإن الشعب

الجزائري حين يظهر بهذا الإحساس الشريف الطاهر نحو أخيه الشعب المصري، إنما يقدّم جهد المقلّ، من قلوب ملؤها الحب لمصر، والاعتزاز بأخوّة مصر، والإعجاب بما صنعت مصر، وإنه يعتقد أن كلّ مصري يخرج عن إجماع مصر فهو مدخول العقيدة، مغموز النسب، وأن كل عربي لا يؤيّد مصر، فهو عاقٌّ للعروبة، ناكث لعهدها، وأن كلّ مسلم لا يعين مصر بما يملك فهو مارق من الأخوّة الإسلامية الشاملة. ولقد قام مكتب جمعية العلماء في القاهرة بالواجب على أكمل وجه، فقام- لأول نشوب الأزمة- بتبليغ معاني التأييد والتضامن للحكومة المصرية باسم جمعية العلماء والشعب الجزائري، وتلقّى من رفعة رئيس الوزارة المصرية الشكر والتقدير، وأذاع راديو القاهرة ذلك كله على العالم، وإنّا لمغتبطون بأداء هذا الواجب، شاكرون لمكتبنا في القاهرة قيامه به عنا.

يا مصر

يا مصر ... * نسمّيك بما سمّاك الله به في كتابه، فكفاك فخرًا أنه سمَّاك بهذا الاسم الخالد الذي تبدَّلت أوضاعُ الكون ولم يتبدّل، وتغيّرت ملامح الأرض ولم يتغيّر، وحسبك تيهًا على أقطار الأرض أنه سمّاك ووصفها، فقال في فلسطين: {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} و {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، وقال في أرض سبأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} ولم يُسمّ إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قرية، فتيهي وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفالَ على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمّة رعاية لا تُخفر، وبجوار أمن لا يخزى جاره. نأسى لك- يا مصر- أن أنزلتك الأقدار بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء وجرّت عليك الشقاء، وأن حبتك هذا الجمال الذي جذب إليك خُطّاب السوء من الأقوياء الطامحين؛ والقوّاد الفاتحين، وأن أجرى فيك هذا الوادي العذب الذي كان فتنة الخيال البشري، فلم يقنع لمائه إلا بأن ينبطه من الجنة، وكان وثن القدماء من روّاده فتقرّبوا إليه بالنذور والقرابين، وكان طغوى فرعون ذي الأوتاد، فحرّك فيه نزعة الألوهية، فتوهّم أن شاطئيه الأخضرين هما نهاية الكون، وأنهما كفاء لملك الله الطويل العريض، وأن وضعك من هذا الكوكب الأرضي في موضع الواسطة من القلادة، فتعلّقت بك الابصار حتى "كأنَّ عليك من حدق نطاقًا"؛ وأن جعلك برزخًا فاصلًا بين الشرق والغرب، فكنتِ- على الدهر- مجال احتراب بين الشرق والغرب، فصبرًا يا مصر فهذا الذي تعانيه هو مغارم الجمال والشرف والسّلطة. ... سمّوك "عروس الشرق" فكأنما أغروا بك الخطّاب، وهجهجوا فيك الآساد الغلاب، ووسموك "بمنارة الشرق" فلفتوا إليك الأعين الخزر، ولووا نحوك الأعناق الغلب، ولو دعوك

_ * نشرت في العدد 178 - 179 من جريدة «البصائر»، 17 جانفي سنة 1952.

"لبؤة الشرق" لأثاروا- بهذا الاسم- في النفوس معاني رهيبة، منها دقُّ الأعناق، وقصم الظهور، وتقليل الأعضاء، وقديمًا سمّوا بغداد "دار السلام" فجنوا عليها، وكأنّما دلوا المُغيرين عليها، ولو سمّوها "دار الحرب"، لأوحى الاسم وحده ما تنخلع منه قلوب الطامعين وتخنس له عزائمهم، وتنكسر لتصوّره الجيوش اللجبة، فغفرًا- يا مصر- فما هذه الأسماء إلا من هُيام الشعراء. ... وما زلت- منذ كنت- مهوى أفئدة العظماء الفاتحين، فأخذوك اقتسارًا وصلحًا، وحازوك طوعًا وكرهًا، وما منهم إلا من مَهرك المهر الغالي، وساق إليك الثمين المدَّخر، بما خلّد فيك من آثاره، وبما خلّف فيك من سمات قومه ومعانيهم: حازك الإسكندر فخلد فيك الإسكندرية، وملكك قمبيز فخلّف فيك شيات من فخار فارس وخيلائها، وحلّ فيك بطليموس فخلّف فيك أثارةً من حكمة يونان، وداعبَك قياصرة الرومان فخلّفوا فيك أثرًا من عظمة الرومان، وفتحك عمرو، فمهرك بيان العرب كلّه وهداية الإسلام كلها، ففخرًا- يا مصر- فهذه المخايلُ اللائحة على صفحاتك هي بقايا مهورك الغالية، وإن أثمنها قيمة- وحقّك- وأثبتها أثرًا، وابقاها بقاء، وأشبهها بشمائلك،- لمهر عمرو ... فما زلت منذ تفيّأت ظل الإسلام الظليل، تجدين منه في كل داجية نجمًا، ووراء كل داجية فجرًا، وما زلت كلّما شكوت ضرًّا في دينك، يخفّ إليك من يكشفه، وكلّما شكوت شرًّا في دنياك، يخف إليك من يدفعه. خفّ إليك "جوهر" حين لحقتك علامةُ التأنيث، وتقلّب على فراشك العبيد، وخفّ إليك "صلاح الدين" حين امتُهِن فيك الدين، وخفّ إليك "سليم" حين لعبت بك أهواء المماليك، وخفّ إليكَ "علي" حين تحكّم فيك الصّعاليك، تأخّروا بركبك عن زمانك، فألحقك بزمانك، وبالقوافل السائرة من بني زمنك، وأراد لك أن يكون محلُّك من الغرب أمامًا، وأن تكوني من الشرق أمًّا وأمَّةً وإمامًا، فما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثورًا، ووضعوا لك في كل فجّ فخًّا، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في برّ، فمِن بعض ذلك كلّ ما تُعانين. لئن كانت أزماتك في التاريخ كثيرة، فكلها إلى انفراج عاجل، ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تُبتلى بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدّهما زمنه بالقوّة والأيد، وأن يستحلّ حرماتك غاصب غريب لا تجمعك به نسبة لشرق، ولا يلتفّ منكما- إلى آدم- عرق بعرق، فيجعل منك أداة لكيده، وجارحةً لصيده، ومطية لصولته، وطريقًا لظلمه وظلامه ... فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك لكان لك شركة في كل ما حمل الإنكليز من أوزار، ولحمَّلك العدل كفلًا من مأثمهم في الشرقين ...

إذ لولا قناتك ما ثبتت له على أديم الشرق قدم، فليتك تعاسرت بالأمس في حفر هذه القناة، أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتوسعين هذه ردمًا، كما أسعوا تلك هدمًا ... حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك لا ما يُرديك، وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ وما ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردًا. لا توحشنّك غربة ... إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة على مواردك، هائمة بحبك، تقطع الأنّات في التفكير فيك، ولا تقطع الأنّات من الامتعاض لك، وإن مئات الملايين من الالسنة رطبة بذكرك، متحرّكة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنيّة بمحاسنك؛ وإن هذا لرأس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان ... أنت اليوم مثابة العروبة في ثراك حيِيَ بيانها، وبسقت أفنانها، وفي رياضك تفتّحت أزهارها وغرّدت بلابلها، ففي ذمة كل عربي حرّ الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء. وأنت اليوم قبلة المسلمين، يُوَلّون وجوههم إليك كلّما حزبهم أمر، أو حلّت بهم معضلة، وينفرون إلى معاهدك، يمتارون العلم منها، وإلى كتبك يصحّحون الفكر والرأي عنها، وإلى علمائك يتلقّون الفتيا الفاصلة في الدين والدنيا عنهم، فلك- بذلك- على كل مسلم حق، وهذا أوان الحاجة إليه. وأنت اليوم مأرز الإسلام، فكلّما سيم الهوان في قطر، أو رماه زنديق بنقيصة، فزع إليك واستجار بك يلتمس الغوث ويستمد الدفاع، فلك على المسلمين في المشارق والمغارب فضلُ الحماية لدينهم، وعليهم أن يطيروا خفافًا وثقالًا لنصرتك، ثم لا منّة لهم عليك ولا جميل. وكيف بك- مع هذا- لو كنت مظهرًا للإسلام الصحيح، ولمُثُله العليا في العقائد والأعمال والأحكام، إذن لكنت قدوةً في إحياء سننه التي أماتتها البدع، وفي إقامة أعلامه التي طمستها الجهالات، وفي بعث آدابه التي غطت عليها سخافات الغرب، وفي نشر هدايته التي طوتها الضلالات؛ وإذن لحييت وأحييت، ومن الغريب أنك قادرة على تغيير ما بك من هذه الأدران، ثم لم تغسلي، وإنك قادرة على إعادة الإسلام إلى رسومه الأولى، ثم لم تفعلي، ويمينًا برّة لو فعلت لما حلّ بك ما حلّ، ولو فعلت لقُدت المسلمين بزمام، ولكنت- بهم- للعالم كله إمامًا أيّ إمام. وسبحان من قسّم الحظوظ بين الجماعات فأعطى كلّ جماعة حظًّا لا تعدوه، وفرّق الخصائص على البقاع فخصّ كل بقعة بسرّ لا يعدوها، فما زلنا نستجلي من صنع الله لك وللإسلام لطيفة سماوية، وهي أنه كلما رثت جدّة الإسلام، وخالطته المحدثات، سطع في أفق من آفاقه نجم يهدي السارين إلى سوائه، وارتفع صوتٌ بالدعوة إلى أصول هدايته، ثم

لا يلبث ذلك النجم أن يخبو، وذلك الصوت أن يخفت، إلا نجمًا سطع في أفقك، وصوتًا ارتفع من أرجائك، وقد ارتفعت أصوات بالإصلاح الديني في أقطار الإسلام، وفي حقب معروفة من تاريخه، فضاعت بين ضجيج المبطلين، وعجيج الضالين، إلا صوت "محمد عبده" فإنه اخترق الحدود وكسر السدود. ... عهدكِ التاريخ صخرةً من معدن الحق، تنكسر عليها أمواج الباطل، فكوني أصلب مما كنت، وأرسخ قواعد مما كنت، تنحسر الأمواج وأنتِ أنتِ. أقدمت فصمّمي ... وبدأت فتمّمي ... وحذار من التراجع، فإن اسمه الصحيح "الهزيمة"، وحذار من التردّد فإنه سوس العزيمة. إنك فائزة هذه المرة بأقصى المطلوب، لأنك أردتِ فصمّمت، وإنما يعين الله من مخلوقاته المصمِّمين، وإذا كان المطلوب حقًّا، وكان الطلب عدلًا فأكبرُ الأعوان على نيله التصميم، فصمّمي، ثم صمّمي. إن قلبي يحدّثني حديثًا كأنما استقاه من عين اليقين، وهو أنك فائزة منتصرة ظافرة في هذه المعركة، لأنك استعملت فيها سلاحًا كنت تنشدينه فلا تجدينه، وهو الإرادة، يحدوها التصميم، يمدّهما الإيمان بالحق، يربط ثلاثتهما الإجماع على الحق. إنك فائزة في هذا اليوم بالأمنية التي عملت لها قرونًا، وإن فوزك فوز للعرب وللإسلام والشرق؛ فيا ويح دعاة الوطنيّات الضيّقة المحدودة، إذا أقدم الأبطال نكصوا، وإذا زاد الناس نقصوا؛ ويحهم إنّ المستعمر سارق، وإن السارق الحاذق لا يسرق إلا في الظلمة أو في الغفلة، فإذا انحسر الظلام، أو انقشعت الغفلة ولّى مدبرًا بالخيبة والخسار، وإن مصر لفي فجر صادق، وإنها لفي يقظة صاحية، فأيّ موضع يسع السارق فيها؟ صمّمي، وأقدمي، ولا يخدعنك وعد، ولا يزعجنك وعيد، ولا تُلهينّك المفاوضات والمخابرات، فكلّها تضييع للوقت، وإطالة للذل، ولقد جرّبت ولُدِغت من جُحر واحد مرارًا! إن الخصوم- كما علمت- لئام، فاقطعي عنهم الماء والطعام، وإن اللؤم والجبن توأمان منذ طبع الله الطباع، فحرّكي في وجوههم تلك القوى الكامنة في بنيك يرتدعوا. صمّمي وقولي للمتعاقلين الذين يعذلونك على الإقدام: "إنّ أضيعَ شيء ما تقول العواذل". ***

انثُري كنانتك- يا كنانة الله- فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تُراعي واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد، وهو العزائم، والمادة التي تطفئ النار، وهي اتحاد الصفوف، والمسنّ الذي يشحذ هذين، وهو العفة والصبر، فلعمرك- يا مصر- إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار إلا ساعةً من نهار، ولكنهم قاتلوك في الزمن كله بالأستاذ الذي يفسد الفكر، وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يُمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالفلم الذي يزّين الفاحشة، وبالبغيّ التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثّل الفجور؛ وبالراقصة التي تغري بالتخنث؛ وبالمهازل التي تقتل الجدّ والشهامة، وبالخمرة التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب، فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة ... ثم تصومي عن هذه المطاعم كلها ... إن القوم تجّار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم ... وقابلي أسلحتهم كلّها بسلاح واحد، وهو التعفّف عن هذه الأسلحة كلها ... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، وانصرفوا ... وماذا يصنع "المرابي" في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟ ... نعمة من الله عليك أن امتحنك بهذه المحنة، وأنت في مفترق الطرق، ولو تأخّرت المحنة قليلًا لخشينا أن تسلكي أضل السبل. فرصة من فرص الدهر، هيأها لك القدر للرجوع إلى هدي محمد، ومحامد العرب، وروحانية الشرق، فإن انتهزتها محوت آية الغرب، وجعلت آية الشرق مبصرة. ... ويا مصر، نحن وأنت سواء في طلب الحق ومطاردة غاصبه، ونحن وأنت مستبقون إلى غاية واحدة في ظلام دامس، ولكنك أصبحتِ، فيا بشراك ويا بشرانا بك، ولم نزل نحن في قطع من الليل، نرقب الفجر أن ينبلج نوره، وما الفجر منّا ببعيد.

أثر الأزهر في النهضة المصرية

أثر الأزهر في النهضة المصرية * ... والنهضات أولها ثورة، وآخرها ثورة، فكان الأشبه أن أقول: أثر الأزهر في الثورات المصرية، لأن الأزهر حقيق عليه أن يعلّم الناس الثورات على الأباطيل في الدين والدنيا، ولأن الأزهر ساهم بالفعل في الثورات المتتابعة في مصر على الحاكمين من الأمراء المفسدين، وعلى المتحكّمين من المستعمرين الغاصبين؛ ولعمر الحق إذا لم يكن الأزهر معهدًا لتعليم الثورات على الشر، وميدانًا لتنظيم الثورات على أهل الشر، فماذا عسى أن يكون؟ ويزيد من حلاوة الحديث عن أثر الأزهر في الثورات المصرية، أن في مصر الآن ثورة على "جريمة هذا العصر"- وهي الاستعمار- نرجو أن تزيد اشتعالًا حتى تقطع دابره منها، فيكون ذلك إيذانًا من الله بقطع دابره من جميع الأقطار، فإن هذه الثورات لا تُحمد مباديها حتى تحمد خواتمُها: فإذا بدأت فائرة، ثم ختمت فاترة أعطت لخصومنا الحجة علينا، وجرّأتهم على الاستخفاف بنا، والإمعان في استعبادنا، والاطمئنان إلى أمن العواقب. ولقد كان الأزهر في أدوار فساد الحكم في مصر، أو في فترات إغارة الفاتحين الأجانب عليها من "سان لويس" إلى "نابليون"- هو المئذنة التي يستشرف الناس إلى سماع كلمة الحق منها، فإذا قالها كانت الفاصلة؛ ولقد قالها جماعة من أئمته لا يحصون في أزمات أشد من هذه الأزمة الحاضرة وأحدّ، فكان لها الوقع الحاسم في النفوس، والتأثير البليغ في الأفكار- قالها سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام في قضية المماليك الأمراء حين طغوا وبغوا، فحكم عليهم ببيع رقابهم، لأنها مملوكة لبيت مال المسلمين، قالها فقوّم بها وضعًا

_ * نشرت في العدد 178 - 179 من جريدة «البصائر»، جانفي سنة 1952.

مقلوبًا كان هو السبب في انقراض كثير من الدول الإسلامية، أو في اختلال أحوالها، وهو احتكار المماليك لمراتب الإمارة. ولو رزق الله بغداد عالمًا كابن عبد السلام في شجاعته وسمو نفسه، لأنقذ الخلافة العبّاسية من المماليك الأتراك ببيعهم في سوق الرقيق، وإقرار الأشياء في نصابها، ولو رزق الله الأندلس عالمًا مثله لأنقذ الدولة الأموية فيها من موالي المنصور بن أبي عامر، ولأفاء عليها من الخير والبركة ما لم يُفِئْه "خيران" و "مبارك" من أولئك الموالي. وما كانت كلمة أولئك العلماء نافذةً ذلك النفوذ الخارق للعادة إلا لأنهم نسوا أنفسهم وذكروا الله، وآثروا ما عنده، من منازل الكرامة على ما عند الأمراء من الرتب والألقاب، وما عند الأغنياء من المال والمتاع، وتجرّدوا من الرغبة التي تُذِلّ الرقاب، ومن الرهبة التي تكُمّ الأفواه، فإذا قالوا قال الله، وإذا قال الله بطل كلّ قول وكلّ قائل. وما أحوج مصر اليوم إلى علماء من ذلك الطراز، يقولون كلمة الله في السلم فتكون هادية إلى الصلاح، وفي الحرب فتكون قائدةً إلى النصر، لأن كلمة الله في لسان العالم الربّاني هي الميزان العادل، وهي الحبل الواصل، لأواخر الأشياء بأوائلها، وهي التي توجّه الناس إلى وجهة واحدة هي قبلة الحق، وهي التي تقودهم إلى ميدان التضحية والاستشهاد، وهي التي تمحو النزوات الطائشة، وتثبّت البصائر باليقين، وهي التي تحدّد علاقتهم بالله فلا يجاهدون في سبيله وهم منحرفون عن سبيله ... ولكن مصر لا تبلغ هذه الأمنيّة إلا إذا عاد في الأزهر سلطان العلماء إلى ما كان عليه في أيام "سلطان العلماء"! .. فقد أصبح علماء الدين تابعين لا متبوعين، وهانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس، وتركوا سياسة العامة بالدين، لمن يسوسها بالدنيا، فلا بدين تمسّكت ولا بدنيا ظفرت. ... فإذا انتقلنا من أثر الأزهر في الثورات إلى أثره في فروع النهضة الأخرى، فإننا نجده ساهم في الكثير منها بالسهم الوافر، وشارك علماء الاختصاص الدنيوي فيها بالأعمال الجليلة، وفروع هذه النهضة متشابكة، تتقارب حتى تخفى الحدود الفاصلة بينها، وتتباعد حتى يصير كل فرع أصلًا برأسه، وأبرز فروع النهضة المصرية التي كان للأزهر فيها أثر بارز هي: الدين، والأدب، والسياسة، ولا أبعد إذا قلت: إن النهوض بهذه الفروع الثلاثة بدأ من الأزهر وتدرّج إلى الكمال فيه، ومن حسنات شوقي أنه يقرّر هذه الحقائق في شعره فيقول في الأزهر على عهد المماليك الأخير:

ظلمات لا تَرى في جنحها … غير هذا الأزهر السمح شهابا قسمًا، لولاه لم يبقَ بها … رجل يقرأُ أو يدري الكتابا ويقول في النهضة السياسية ونشأة القضية المصرية وهو يتحدث عن الأزهر: وُلدت قضيتُها على محرابه … وحبَتْ به طفلًا وشبَّت مُعصِرا ... وأنا لا أكاد أسمِّي نهضة مصرية إلا ما كان منبثقًا من روح مصر الشرقية، ووضعيتها الإسلامية، وطبيعتها العربية، فهذا هو الذي أجلّه فيها وأكبره، لأنه انتشار لشيء كانت أصوله مطوية فيها، وامتدادٌ لمعان كانت ناقصة في الدلالة، مقصورة على الأوليات، كمينة في خبايا الأنفس، ولا يتمدد الزئبق ويستطيل في رأي العين إلا لأنه زئبق وتلك خاصيَّته ... ومحال أن تنهض أمة بغير خصائصها، أو تقوم بغير مقوّماتها، فإن نهضت بغير ذلك فتلك نهضة مزوّرة؛ وحقيقتها أنها انتقال إلى الأمة صاحبة تلك الخصائص، وارتحال بالعقول من موطن إلى موطن، أو هي "تجنُّس فكري" سُمِّي نهضة. وعلى هذا الرأي فأنا لا أسمّي نهضة إلا ما كان آتيًا من الأزهر، أو متسبّبًا عنه ومتصلَّا بَه، مباشرة أو بواسطة أو بوسائط، وكل ما جاء على غير طريقه فهو ثانوي أو مكمّل، ومن المبهج أن هذا هو الواقع في نهضة مصر، فإن الدعائم التي قامت عليها دولة البيان نُحتت من معدن الأزهر، وإن معظم الأقطاب الذين اضطلعوا بالسياسة نشأوا نشأتهم الأولى في الأزهر، وإن أول صوت جهير ارتفع بالإصلاحين الديني والاجتماعي خرج من الأزهر، وإن الترويج للنهضة في الأرياف والدعاية للآراء، كان بألسنة أبناء الأزهر، ولولاهم لما راج في مصر رأيٌ، ولا ثبتت عقيدة، وإن زعموا لها المزاعم، وعقدوا عليها صلاح الدين والدنيا فهم أعصاب القرى، كما يصفهم شوقي في قوله: هزّوا القرى من كهفها ورقيمها … أنتم لعمر الله أعصاب القرى أثر الأزهر في النهضة المصرية هو الجزء الطبيعي الأصيل فيها، وهو الخميرة التي تُحيل الدخيل أصيلًا، لأن ذلك الجزء منزّل على طباع الأمة، ومرتبط بدينها وآدابها وتاريخها، وكل ما لابس النهضة من غير طريقه فهو مستوحًى من روح العصر كما يقولون، وليست لنا يد في تكييف هذا العصر حتى تكون روحه ممازجةً لروحنا، وموافقة لتفكيرنا، وإنما هو مستعار من أمم ليست بيننا وبينها صلة من دين ولا أدب، وليست متفقة معنا في تقدير الموازين الخلقية، والقيم الإنسانية، والاعتبارات الزمنية، وحسبنا دليلًا على هذا أن النهضات- في حقيقة معناها- تجديد وإصلاح، ولا يكون التجديد إلا

لشيء تقادم، ولا يكون الإصلاح إلا لشيء فسد، فالتجديد والإصلاح وصفان عارضان والشيء في ذاته هو هو. ولا تعجب إذا كانت النهضة شملت الأزهر نفسه، فما هو إلا من الكوائن الفاعلة المنفعلة، ولوم يغربل التاريخ هذه النهضة، فيأخذ منها ويدع، ويثبت من جملها ويمحو، فإننا لا نجد فيها إلا الأزهر وآثاره، وروح مصر وطبيعتها، ولسان العرب وبيانهم، وفضيلة الشرق وتقاليده، وهداية الإسلام وآدابه، ومثله العليا المتجلية في حقائقه التي سار العالم على نورها أحقابًا فما ضلّ وما غوى، وستذوب الأجزاء الغريبة الصالحة في هذا الكل الطبيعي فتصبح جزءًا من ماهيته، وستنفى الأجزاء غير الصالحة كما ينفي الجسم الصحيح جراثيم المرض. ... لست أنكر تلقيح أدبنا بالآداب الراقية، ولا تطعيم حكمتنا بالحكم الحية. فلا الإسلام السمح يأبى لنا ذلك، ولا الحياة الدائبة تستغني عن ذلك، وقديمًا فعلنا ذلك، وحديثًا تفعل الأمم ذلك، ولكن قبل الربح تجب المحافظة على رأس المال، ولست أنكر على الأزهر أن يجاري الأحياء في الحياة، وأن يزاحم عليها، بل أرى من الواجب عليه أن يزاوج بين علوم الدين وبين علوم الدنيا، وأن يهيّئ أبناءه ليكونوا عقبان جوّ، وسباع دوّ، وأن يكونوا أحلاف حرب وأحلاس محاريب، وأن يكونوا دعاةً أجرياء إلى دينهم الحق، وأدبهم الحي، وفضائلهم الروحية وأن يعرفوا أنفسهم، ثم يتعارفوا، ثم يتعرّفوا.

ثلاثة كتب

لكاتب هذه المقالات المجموعة هنا ثلاثة كتب: 1 - الكلمات المظلومة. 2 - الشاب الجزائري كا تمثله لي الخواطر. 3 - سجع الكهان. وهذا الأخر نقد لاذع للحكومات العربية والشعوب العربية وملوكهم، على مواقفهم الذليلة المهينة المترددة في فلسطين، وكنت كتبت كثيرًا في التنديد بهم، فلم يؤثر ذلك في هذه الصخور الجامدة، فاستخدمت هذا الأسلوب، ونزعت فيه منزع القدماء في السجع وعزوته إلى كاهن الحيّ. وقد نشرت «البصائر» عدة كلمات من كل كتاب لدواعٍ خاصة فاستحقّت أن تنشر فى «عيون البصائر»، وعسى أن ييسر الله نشر الكتب الثلاثة، ففي غير المنشور منها هنا ما هو أبلغ في التصوير وألذع في النقد مما نشر.

كلمات مظلومة

كلمات مظلومة * 1 - المقاديم المقاديم عند العرب جمع مقدام، وهو الذي يقدم على العظائم، والشاهد قول شاعرهم: مقاديم وصالون في الروع خطوهم … بكل رقيق الشفرتين يَمانِ أما عندنا فالمقاديم جمع مقدّم (1) على غير قياس في اللفظ والمعنى. ... 2 - العدل العدل عند العرب وصف بالمصدر، مبالغة في إثبات الصفة حتى كأن الشخص صار صفةً محضة، أو كأن الوصف تجسّم فصار شخصًا، والعدل هو الذي لا يجور في حكم ولا في شهادة ولا في قول. أما عندنا فمعناه ما تعرف وأعرف! ... 3 - الكلية الكليَّة عند جميع الأمم هي معهدٌ عال تُدرس فيه العلوم العالية، وتُبحث فيه حقائقها النهائية نظرًا وتطبيقًا، أما عندنا فالكلية مكتب ابتدائي تقرأ فيه أوّليات بعض العلوم.

_ * نشرت في الأعداد 1 و 2 و 4 و 5 من جريدة «البصائر»، ابتداء من 25 جويلية سنة 1947. 1) مُقدَّم: يُطلَق على المسؤول عن شؤون "الزّاوية".

إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بُني على هذه المقدمات الكاذبة، ونغش أنفسنا إذا صدّقنا أن مدارسنا الابتدائية كليات، ويا خجلتنا بين الأمم الجادة، إذا صارفتْنا على السماع بالقناطير فلم تجد عند العيان إلا الدوانق. يا قومنا! إن للواقع عليكم حقًّا، وإن للتاريخ حقًّا، وإن للأمة التي تعملون لها حقوقًا، فأنصفوا الثلاثة من نفوسكم! ... 4 - الاستعمار عجيب! ... وهل الاستعمار مظلوم؟ إنما يقول هذا (كولون الشمال) (2) أصحاب الكيمياء التي أحالت السيد عبدًا، والدخيل أصيلًا، أما أنت فتوبتُك أن تحشر كلمة "مظلوم" هذه في الكلمات المظلومة. هوّن عليك فإن المظلوم هنا هو هذه الكلمة العربية الجليلة التي ترجموا بها لمعنى خسيس. مادة هذه الكلمة هي "العمارة" ومن مشتقاتها التعمير، والعمران، وفي القرآن: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، فأصل هذه الكلمة في لغتنا طيب، وفروعها طيبة، ومعناها القرآني أطيب وأطيب، ولا ننكر من استعمالاتها في ألسنة خاصتنا وعامّتنا إلا "العمارة" الدرقاوية (3). ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث، ظلم لها، فاستحقّت الدخول من هذا الباب، والإدراج تحت هذا العنوان. فالذي صيّر هذه الكلمة بغيضة إلى النفوس، ثقيلة على الأسماع، مستوخمة في الأذواق، هو معناها الخارجي- كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدّي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشره، والقسوة، والانتهاك، والقتل، والحيوانية ... إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تفسّرها آثاره وتنجلي عنها وقائعه.

_ 2) الكُولُون: هم المستوطنون الأوربيون. والشمال: شمال افريقيا. 3) العمارة: معناها الرَّكْب. الدرقاوية: هي الطريقة الصوفية المعروفة.

وواعجبًا! تضيق الأوطان على رحبها بهذه المجموعة، وتحملها كلمة لا تمتّ إلى واحد منها بنسب، وإذا كنّا نسمّي من يجلب هذه المجموعة- من كبائر الإثم والفواحش إلى وطن- ظالمًا، فأظلم منه من يحشرها في كلمة شريفة من لغتنا: ليخدع بها ويغرّ، وليهوّن بها على الفرائس شراسة المفترس، وفظاعة الافتراس. أما والله لو أن هذا الهيكل المسمّى بالاستعمار كان حيوانًا لكان من حيوانات الأساطير بألف فم للالتهام، وألف معدة للهضم، وألف يد للخنق، وألف ظلف للدوس، وألف مخلب للفرس، وألف ناب للتمزيق، وألف لسان للكذب وتزيين هذه الأعمال، ولكان مع ذلك هائجًا بادِيَ السوءات والمقابح على أسوإ ما نعرفه من الغرائز الحيوانية. سمّوا الاستعمار تخريبًا- إذ لا تصحّ كلمة استخراب في الاستعمال- لأنه يخرّب الأوطان والأديان والعقول والأفكار؛ ويهدم القيم والمقامات والمقوّمات والقوميات. وخذوا العهد على المجامع اللغوية أن تمنع استعمال هذه الكلمة في هذا المعنى الذي لا تقوم بحمله عربة مزابل. ... 5 - الإصلاحات وليهدأ بال قادة الإصلاح الديني الإسلامي، فإن إصلاحهم لا يدخل في هذا الجمع المؤنث إذ هو إصلاح حقيقي ينطبق لفظه على معناه انطباقًا عادلًا لا ظلم فيه ولا غبن. وإنما أعني هذه الإصلاحات (الفاسدة) التي يكثر الحديث عليها في هذه الأيام من الدول والحكومات، فكلّما تعالت الأصوات من الأمم المطالبة بحقّها في السياسة والحياة، كانت العُلالة التي تسكت بها الأصوات؛ كلمة الإصلاحات فتتطلّع الأعناق، وتتشوّف النفوس، ثم تفتح الأعين على مهازل لا تسدّ خلة ولا تدفع ألمًا. والشاهد القريب (إصلاحات) الجزائر التي شكّلت لها إدارة كاملة، وحشر فيها من الموظفين جند، وخصّص لها في الميزانية مال، وقُدّر لها من العمر سنوات، ولم يكن لها من العمل إلا التقريرات والملفات وأسماء المشروعات، ويقال إنها أخذت بالحزم والحسم، فبذلت اللقب والاسم، وانتقلت من تنفيذ العهود والشرائط إلى وضع الخطط والخرائط، والبركة في الأوراق. وقرأنا عن إصلاحات المغرب وإصلاحات تونس وإصلاحات أخرى تُصاغ من وراء البحر للجزائر، فقلنا: ما أشبه حجل الجبال بألوان صخورها.

ليت شعري! هل عرف القوم أن هذا الاسم وحده مشعر بأن ما قبله إفساد، إذ لا يكون الإصلاح إلا لحالة فاسدة. فإذا تبجّحوا بأنهم بهذه الإصلاحات مصلحون فقد اعترفوا بأنهم كانوا مفسدين. ... 6 - الديمقراطية والديمقراطية رأي يوناني نظري جميل، منسوب إلى اسم صاحبه، وهو قائم على أن الشعب هو مصدر السلطة، ومن ثمّ فهو صاحب الحق في الحكم والتشريع، وعلى أن الأفراد متساوون في هذا الحق، ويناقضه رأي آخر يوناني النشأة أيضًا. اصطرع الرأيان في ميدان الجدل، ثم اصطرعا في ميدان العمل حتى أصبحا مذهبين في سياسة الحكم، وبابين في فلسفة الاجتماع، وكانت هذه الآراء الجميلة في الحياة مثل رأي ديموقراط تدور بين فلاسفة اليونان وقياصرة الرومان، أولئك يدرسونها جدلًا، وهؤلاء يدرسونها عملًا، إلى أن انتصف الله للحق بالإسلام، فجاء بالشورى والمساواة- حكمًا من الله- وأين حكم العقول من حكم خالق العقول؟ وجاء عمر فلقّن العالم درسًا عمليًّا في المثل الأعلى للحكم، ثم جاءت الحضارة الغربية المجتهدة في إثمار الحقول، المقلدةُ في أثمار العقول، وكان من آثار التعصب فيها للآريّة والمسيحية أنها آثرت الديمقراطية على العُمَرية، آثرتها في التسمية والنسبة، أما في التطبيق والعمل، فإن هذه الحضارة- وهي حاضنة المتناقضات- اتسعت لرأي ديمقراط ولرأي ميكيافيلّي صاحب كتاب "الأمير"، فإذا أرادت التلبيس ألبست الثاني ثوب الأول. لم تُظلَم هذه الكلمة ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة، فقد أصبحت أداة خداع في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجندها الاستعمار في كتائبه، وجاء السلم فكانت سرابًا بقيعة، ولقد كثر أدعياؤها ومدّعوها والداعون إليها، والمدّعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعيّ فيها لابسٌ ثوبَي زور. أصبح استعمار الأقوياء للضعفاء ديمقراطية، وتقتيلهم للعزل الأبرياء ديمقراطية، ونقض المواثيق ديمقراطية. لك الله أيتها الديمقراطية! ...

الشاب الجزائري كما تمثله لي الخواطر - 1 -

الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر * - 1 - أتمثّله متساميًا إلى معالي الحياة، عربيدَ الشباب في طلبها، طاغيًا عن القيود العائقة دونها، جامحًا عن الأعنَّة الكابحة في ميدانها، متَّقد العزمات، تكاد تحتدم جوانبه من ذكاء القلب، وشهامة الفؤاد، ونشاط الجوارح. أتمثَّله مقدامًا على العظائم في غير تهوّر، محجامًا عن الصغائر في غير جبن، مقدّرًا موقع الرجل قبل الخطو، جاعلًا أو الفكر آخر العمل. أتمثّله واسع الوجود، لا تقف أمامه الحدود، يرى كل عربي أخًا له، أخوةَ الدم، وكلَّ مسلم أخًا له، أخوة الدين، وكل بشر أخًا له، أخوة الإنسانية، ثم يُعطي لكل أخوّة حقّها فضلًا أو عدلًا. أتمثّله حِلْفَ عمل، لا حليف بطالة، وحلس معمل، لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة، لا رائد خيال. أتمثّله برًّا بالبداوة التي أخرجت من أجداده أبطالًا، مزورًّا عن الحضارة التي (رمته بقشورها)، فأرخت أعصابه، وأنّثت شمائله، وخنّثت طباعه، وقيّدته بخيوط الوهم، ومجّت في نبعه الطاهر السموم، وأذهبت منه ما يُذهب القفص من الأسد من بأس وصولة. أتمثّله مقبلًا على العلم والمعرفة ليعمل الخير والنفع، إقبال النحل على الأزهار والثمار لتصنع الشهد والشمع، مقبلًا على الارتزاق، إقبال النمل تجدُّ لتجِدَ، وتدَّخر لتفتخر، ولا تبالي ما دامت دائبة، أن ترجع مرة منجحة ومرة خائبة. أحبّ منه ما يُحبُّ القائل:

_ * نشرت في العدد 5 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1947.

أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ … كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَقْرًا وأهوى منه ما يهوى المتنبى: وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ سَمِيذَعٍ … أَرِيبٍ كَصَدْرِ السَّمَهْرِيِّ الْمُقَوَّمِ خَطَّتْ تَحْتَهُ الْعِيسُ الْفُلَاةَ وَخَالَطَتْ … بِهِ الْخَيْلُ كَبَاتَ الخَمِيسِ الْعَرْمَرِمِ يا شباب الجزائر، هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! ...

الشاب الجزائري كما تمثله لي الخواطر - 2 -

الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر * - 2 - أتمثّله محمديّ الشمائل، غير صخّاب ولا عيّاب، ولا مغتاب ولا سبّاب، عفًّا عن محارم الخلق ومحارم الخالق، مقصور اللسان إلا عن دعوة إلى الحق، أو صرخة في وجه الباطل، متجاوزًا عما يكره من إخوانه، لا تنطوي أحناؤه على بغض ولا ضغينة. أتمثّله متقلّبًا في الطاهرين والطاهرات، ارتضع أفاويق الإصلاح صبيًا، وزُرَّتْ غلائلُه عليه يافعًا، فنبتَت في حجره، ونبتت قوادِمُه في وكره، ورفرفت أجنحته في جوّه، لم يمسَسْه زيغ العقيدة، ولا غشيت عقله سُحُب الخرافات، بل وجد المنهج واضحًا فمشى على سوائه، والأعلام منصوبة فسار على هداها، واللواء معقودًا، فأوى إلى ظله، والطريق معبّدًا فخطا آمنًا من العثار، فما بلغ مبلغَ الرجال إلا وهو صحيحُ العقد في الدين، متينُ الاتصال بالله، مملوءُ القلب بالخوف منه، خاوي الجوامح من الخوف من المخلوق، قويّ الإيمان بالحياة، صحيح النظر في حقائقها، ثابت العزيمة في المزاحمة عليها، ذلق اللسان في المطالبة بها، ناهض الحجّة في الخصومة لأجلها، يأبى أن يكون حظُّه منها الأخسّ الأوكس، أمن بعقله وفكره أن يضلّل في الحياة كما أمن بهما أن يضلّل في الدين. "وفي الحياة كما في الدين تضليل" (2) يا شباب الجزائر! ما قيمة الشباب؟ وإن رقَّت أنداؤه، وتجاوبت أصداؤه، وقُضِيَتْ أوطارُه وغلا من بين أطوار العمر مقدارُه، وتناغت على أفنان الأيام والليالي أطيارُه، وتنفَّست عن مثل روح الربيع أزهاره، وطابت بين انتهاب اللذات واقتطاف المسرّات أصائله وأسحاره.

_ * نشرت في العدد 6 من جريدة «البصائر»، 12 سبتمبر سنة 1947.

بل ما قيمة الكهولة؟ وإن استمسك بنيانها، واعتدل ميزانها، وفُرَّت عن التجربة والمراس أسنانها، ووُضعت على قواعد الحكمة والأناة أركانها. بل ما قيمة المشيب؟ وإن جلّله الوقار بمُلاءته، وطوار الاختبار في عباءته، وامتلأتْ من حكمة الدهور وغرائب العصور حقائبه، ووُصلت بخيوط الشمس، لا بفتائل البُرْسِ جماته وذوائبه. ما قيمة ذلك كله؟ إذا لم تنفق دقائقه في تحصيل علم، ونصر حقيقة، ونشر لغة، ونفع أمة، وخدمة وطن. يا شباب الجزائر، هكذا كونوا ... أو لا تكونوا ...

الشاب الجزائري كما تمثله لي الخواطر - 3 -

الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر * - 3 - أتمثّله كالغصن المَرُوح، مطلولًا بأنداء العروبة، مخضوضر اللّحا والورق مما امتصّ منها، أخضر الجلدة والآثار مما رشح له من أنسابها وأحسابها، كأنّما أنبتته رمال الجزيرة، ولوّحته شمسها، وسقاه سلسالها العذب، وغذّاه نبتها الزكي، فيه مشابه من عدنان تقول إنه من سرّ هاشم أو سُرَّة مخزوم، ومخايلُ من قحطان تقول كأنه ذو سكَن، في السَّكن (1)، أو ذو رضاعة، في قضاعة (2) متقلّبًا في المنجبين والمنجبات، كأنّما ولدته خِندِق (3)، أو نهضت عنه أمّ الكملة (4)، أو حضنته أختُ بني سهم (5)، أو حنَّكته

_ * نشرت في العدد 10 من جريدة «البصائر»، 12 أكتوبر سنة 1947. 1) السكن قبيلة قحطانية. 2) قبيلة يتنازعها قحطان وعدنان، ويقول شاعرهم: نحن بنو مالك الشيخ الهجان الأزهر قضاعة بن مالك بن حمير في النسب المعروف غير المنكر في الحجر المنقوش تحت المنبر 3) خندق هي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، زوجة إلياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، وأم أولاده، مدركة وإخوانه. 4) أم الكَمَلَة هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، إحدى منجبات العرب، والكملة أبناؤها الأربعة، وقد سئلت أي بنيك أفضل؟ فقالت: الربيع بل عمار بل قيس بل أنس، ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يُردي أين طرفاها، وأبو الكملة هو زياد بن سفيان بن عبد الله بن ناشب العنسي. 5) تلميح إلى قول ابن الزبعري: ألا لله قوم ولدت أخت بني سهم، وهي ريطة بنت سعيد ابن سهم، وقد أنجبت ثمانية رجال أكبرهم هاشم بن المغيرة جد عمر بن الخطاب لأمه، وكانوا كلهم مزيدًا في مفاخر مخزوم.

تُماضر (6) الخنساء لعوبًا بأطراف الكلام المشقّق، كأنما وُلد في مكّة، واسترضع في إياد، وربا في مسلنطح البِطاح. أتمثّله مجتمع الأشدّ على طراوة العود، بعيد المستمرّ على ميعة الشباب، يحمل ما حمّل من خير لأن يد الإسلام طبعته على الخير، ولا يحمل ما حمّل من شر لأنّ طبيعة الإسلام تأبى عليه الشر؛ فتح عينيْه على نور الدين، فإذا الدنيا كلها في عينيه نيّرة مشرقة، وفتح عقله على حقائق الدين، فإذا الدين والكون دالٌّ ومدلول عليه، وإذا هو يفتح بدلالة ذاك مغالق هذا، وفتح فكرَه على عظمة الكون فاهتدى بها إلى عظمة المكوّن، فإذا كلّ شيء في الكون جليل، لأنه من أثر يد الله، وإذا كل شيء فيه قليل، لأنه خاضع لجلال الله، ومن هذه النقطة يبدأ سموّ النفوس السامية وتعاليها، وتهيُّؤها للسعادة في الكون، والسيادة على الكون. أتمثّله مجتلًى للخِلال العربية التي هي بواكير ثمار الفطرة في سلاستها وسلامتها، كأنّما هو منحدر لانصبابها وقرارة لانسكابها، وكأنما خيط على وفاء السموأل وحاجب (7)، وأشرج على إيثار كعب وحاتم (8)، وخُتم على حفاظ جسّاس والحارث (9)، وأغلِق على عزة عوف وعروة (10). أتمثّله مترقرق البشر إذا حدّث، متهلّل الأسِرَّة إذا حُدّث، مقصورَ اللسان عن اللغو، قصير الخُطى عن المحارم، حتى إذا امتدَّت الأيدي إلى وطنه بالتخوّن، واستطالت الألسنة على دينه بالزراية والتنقص، وتهافتت الأفهام على تاريخه بالقلب والتزوير، وتسابق الغرباء إلى كرائمه باللَّصّ والتدمير، ثار وفار، وجاء بالبرق والرعد، والعاصفة والصاعقة، وملأ الدنيا فعالًا، وكان منه ما يكون من الليث إذا دِيس عَرينه، أو وُسم بالهون عِرْنِينُه.

_ 6) تماضر بنت عمرو بن الشريد أخت صخر، الخنساء الشاعرة المشهورة، وتحريضها لأولادها على الجهاد وحمدها لله حيث ماتوا كلهم في موقعة واحدة، كل ذلك مفصّل في كتب السير والأدب. 7) السموأل بن عادياء المثل المضروب في الوفاء، وحاجب بن زرارة التميمي مثله وهو الذي رهن قوسه عند كسرى. 8) كعب بن مامة الإيادي، وحاتم الطائي جوادان مشهوران يًضرب بهما المثل في الكرَم. 9) جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان قاتل كليب والحارث بن عباد، لهما ذكر تدور عليه حرب داحس والغبراء، وأخبار مفصّلة في كتب الأدب. 10) عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، يُعدّ في أولياء العرب وأعزّهم، ولعّزته قابل الملك عمرو بن هند: لاحر بوادي عوف، وعروة بن المنبه بن جعفر بن كلاب الرحّال أو الوفّاد، كان يجير اللطائم للمناذرة ويجير على الحيين بكر وتغلب حتى قتل، وكان قتله سببًا في يوم الفجار بين كنانة وقيس.

أتمثّله شديدَ الغيرة، حديدَ الطيرة، يغار لبنت جنسه أن تبور، وهو يملك القدرة على إحصانها، ويغار لماء شبابها أن يغور وهو يستطيع جعله فيّاضًا بالقوة دافقًا بالحياة: ويغار على هواه وعواطفه أن تستأثر بها السِّلع الجليبة، والسحن السليبة، ويغار لعينيه أن تسترقهما الوجوه المطرّاة، والأجسام المعرّاة. يا شباب الجزائر، هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! ...

الشاب الجزائري كما تمثله لي الخواطر - 4 -

الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر * - 4 - أتمثّله حنيفًا فيه بقايا جاهلية ... يدّخرها لميقاتها، ويوزّعها على أوقاتها، يردّ بها جهلَ الجاهلين، في زمن تفتّقت علومه عن جاهلية ثانية شرّ من الجاهلية الأولى - وتمخّضت عقولُ أبنائه بوحشية مقتبسة من الغرائز الدنيا للوحش اقتباسًا علميًّا ألبَس الإنسان غير لبوسه، ونقله من قيادة الحيوان إلى الانقياد للحيوانيّة، وأسفرت مدنيَّتُه عن جفاف في العقول، وانتكاس في الأذواق، وقوانينُه عن نصر للرذيلة وانتهاك للحُرُمات، وانتهت الحال ببنيه إلى وثنية جديدة في المال وعبادة غالبية للمال، واستعباد لئيم بالمال. أتمثّله معتدلَ المزاج الخُلُقي بين الميوعة والجمود، وبين النسك والفتك تتّسع نفسه للعقيق، وعمر وابن أبي عتيق، فيصبو، ولا يكبُو، كما تتّسع للحرم وناسكيه فيصفو ولا يهفو، وتهزُّه مفاخرات الفرزدق في المربد، كما تهزّه مواعظ الحسن في المعبد. أتمثّله كالدينار يروق منظرًا، وكالسيف يروع مخبرًا، وكالرمح أمدحُ ما يوصف به أن يقال ذابل، ولكن ذاك ذبول الاهتزاز وهذا ذبول الاعتزاز، وكالماء يمرؤ فيكون هناءً يُروي، ويزعق فيكون عناء يُردي، وكالرّاية بين الجيشين تتساقط حولها المُهَج وهي قائمة. أتمثّله عفّ السرائر، عفّ الظواهر، لو عرضت له الرذيلة في الماء ما شربه، وآثر الموت ظمأ على أن يرد أكدارها، ولو عرضت له في الهواء ما استنشقه، وآثر الموت اختناقًا على أن يتنسَّم أقذارَها. أتمثّله جديدًا على الدنيا، يرى من شرطها عليه أن يزيد فيها شيئًا جديدًا، مستفادًا فيها، يرى من الوفاء لها أن يكون ذلك الجديد مفيدًا.

_ * نشرت في العدد 11 من جريدة «البصائر» 20 أكتوبر سنة 1947.

أتمثّله مقدّمًا لدينه قبل وطنه، ولوطنه قبل شخصه، يرى الدين جوهرًا، والوطن صدفًا، وهو غوّاص عليهما، يصطادهما معًا، ولكنه يعرف الفرق بين القيمتين، فإن أخطأ في التقدير خسر مرّتين. أتمثّله واسعَ الآمال، إلى حد الخيال، ولكنه يُزجيها بالأعمال إلى حد الكمال، فإن شُغِفَ بحب وطنه شَغَفَ المشرك بحبّ وثنه، عذره الناس في التخيّل لإذكاء الحبّ، ولم يعذر فيه لتغطية الحقيقة. أتمثّله مصاولًا لخصومه بالحجاج والإقناع، لا باللجاج والإقذاع، مُرْهبًا لأعدائه بالأعمال، لا بالأقوال. أتمثله بانيًا للوطنية على خمس، كما بني الدين قبلها على خمس: السباب آفة الشباب، واليأس مفسد للبأس، والآمال لا تدرك بغير الأعمال، والخيال أوّله لذة وآخره خبال، والأوطان لا تخدم باتّباع خطوات الشيطان. يا شباب الجزائر، ... هكذا كونوا ... أو لا تكونوا.

سجع الكهان - 1 -

سجع الكهّان * - 1 - هذه فصول، إن لا تكنْ فيها روح الكاهن ففيها من الكاهن سجْعُه، وإن لا يَجُلْ في جوانبها صَدَى الكهانة ففيها من ذلك الصدى رَجْعه؛ فيها الزمزمة المفصحة، والتعمية المبصرة، وفيها التقريع والتبكيت، وفيها السخرية والتنكيت، وفيها الإشارة اللّامحة، وفيها اللفظة الجامحة، وفيها العسل للأبرار، وما أقلَّهم، وفيها اللسع للفجار، وما أكثرهم، فلعلّها تهزُّ من أبناء العروبة جامدًا، أو تؤزّ منهم خامدًا، فنجني شيئًا من ثمرة النية، ونغيِّر أواخر هذه الأسماء المبنيّة. وفي هذه الفصول من لبوس الألفاظ ما يَعُدُّه المتخلفون من كتّابنا غريبًا، وما غرابته في أذواقهم، إلا كغربة الأعلاق النفيسة في أسواقهم؛ ولو حفِظوه ووَعَوْا معانيه وأقروه في مواضعه من كلامهم، وأحسَنوا إجراءه في ألسنتهم وأقلامهم، لأحيَوْه فحيوا به، ولأصبح مأنوسًا لا غريبًا، وأصبحوا به من لغتهم قريبًا؛ ولكن أعياهم الإحسان، فعفّروا في وجوه الحسان، وعجزوا في جني الثمرة عن الهصر، فرضوا من اللغة بما يباع في "سوق العصر" (1). منشئ الفصول ... "نحن الكهّان، أفراس رهان. منّا السابق المصلي، ومنّا الآبق المولّي. كنّا إرهاصًا للنبوّة، ودليلًا للضعف إلى القوة، فلما جاء الحق، وحيص (2) الشق، اندحرنا وانجحرنا،

_ * نشرت في العدد 69 من جريدة «البصائر»، 28 فيفري سنة 1949. 2) سوق العصر عند العامة هو السوق الذي تُباع فيه الأشياء القديمة المستعملة (الخردة والأسقاط). 2) حيص: خيط، ومنه المثل: أن دواء الشق أن يحاص.

فلما عادت الكسرويّة إلى شرائعها، والقيصرّية إلى ذرائعها، آن أن نعود إلى الإنذار، ونصرخ في وجوههم: حذار حذار، إن بطش الله لشديد، وإن الحرير قد يفلّ الحديد". كاهن قديم ... "الكاهن، لا يُداري ولا يداهن؛ كلامه رمز، ليس فيه لمز. عاذ غيره بالتصريح فعاد بالتجريح، ولاذ هو بالكهانة، فأمِن المهانة. كان ... فكان الزاجر الرادع، للفاجر الخادع، وكان ... فكان نذير السارق والمارق، والخاتل والقاتل، والمحتال والمغتال، والقاذف والحاذف، والمبتهر والمبتئر (3). تجف قلوبهم إذا نوفروا إليه، وتجفّ لهواتهم إذا وقفوا بين يديه، لاستتارهم بالعيب، واستهتارهم بالغيب، فلما جاء "محمد" بالحق فاء الناس إلى ضمائرهم، وحكموا هديَه في سرائرهم، وردُّوا الغيب إلى عالمه فاستراحوا، ولكنهم اليوم عادوا إلى الجاهليَّة، وتقلّبوا في أرحام حنظليّة وأصلاب باهليَّة، فماذا نصنع؟ أنتقدّم منذرين، أم نتأخّر معتذرين؟ بل نُحيي الاسم، ونُميت- كما أمات الإسلام- الرسم". كاهن عصري ... "كلام الكاهن ليس بالواهي ولا الواهن، كأنما وخزه الماء، أو لمستْه السماء، ففيه من الماء إيراق، وفيه من السماء إشراق. شارف مكامن الغيوب ولَمَّا ... وورد معين العربية فورد جمًّا. عمر صحائف من ديوان العرب، وكان من شعرهم كالكرب من القَرَب (4)، بل كان هو الشعر في أول أدواره، وكان قارعَ باب البيان وفارعَ أسواره ... اصطنع الكهّان السجع ليروقوا السامع ويروعُوه، وليسهل على الناس فيحفظوه وَيعُوه. ولهم في حوْك الكلام مقامات حسان، أخذ منها ابنُ دريد والهمذاني تلك المقامات الحسان. سبقوا في السجع فما سبقتهم إلا الحمائم، وأخذوه طبعًا فما لحقهم فيه صنعًا إلا "بعض ذوي العمائم". وما عدا هذا من الأسجاع، فهي غُصص تتبَعُها أوجاع". كاهن أديب ...

_ 3) الابتهار ادّعاء الفاجر الفجور كاذبًا، والابتئار ادعاؤه صادقًا. 4) حبل يشد في عراقي القربة.

لا أقسم بذات الحفيف، والجناح الخفيف، المشارفة في جوّها للكفيف (5) وبالسر المودع في التجاويف والتلافيف، وبالمغيرات صبحًا عليها التجافيف، والمغيرين على الحق كالعاهر ابن العفيف (6). وبالسابغات والسوابغ من الدروع والجلابيب، وبالآخذين أمس من تلّ أبيب بالتلابيب، وبالبحر والسفينة، والحبر و"الدفينة" (7)، إن أبا الطيب المتنبي لمن موالينا، وممن تلقَّى الكهانة عن أوالينا، وإنه ما دُعي بالمتنبي (8) إلا لأنه كان شاعرًا كاهنًا، ليناقض النبي الذي لم يكن كاهنًا ولا شاعرًا، وقد نُفِيا عن النبي مجتمعين، فثبتا في المتنبي مجتمعين، وإن كثيرًا من شعره كهانةٌ ملتفِّعة بالشعر، يُوطّيها في جُمل، ويغطِّيها بممدوح أو جمل؛ وستظهر أخباؤها، وتُعلم أنباؤها ... وإن قوله: وقعت على الأردن منه بليّة، هو من الكهانة الكاهنة (بالحالة الراهنة). قالوا أراد أسدًا قانصًا، وقلنا أراد رجلًا ناقصًا. قالوا: أراد كلبًا، روع قلبًا، ومزّق خلبًا، وأوسع المهج سلبًا، وقدم ضراغمة غُلبًا، أوطنها غابات غلبًا وذاد عنها أشاوس غلبا، قلنا: إنما أراد رجلًا ركب صعبًا، وباع شعبًا، وعقَّ لؤيًّا وكعبًا، وسلك بنو أبيه شِعبًا، وسلك وحده شعبًا، وخذلهم في الجلى فملأ القلوب رعبًا، واشتفّ صُبابة المال، فلم يدَعْ لبائس حلسًا ولا لبائسة قَعْبًا ... لم يُرد أسدًا خادرًا، وإنما أراد رجلًا سادرًا، يظهر في زمن نحس، ويبيع ضفَّتي الأردن بثمن بخس، وأيْن ليث عفَّره بدر بسوط، من شخص كفَّره صدْرٌ بنوط. أيّتها البُحيرة (9)، مالك في حيرة؟ لقد شهدت لبدر بن عمّار بالفتوة، فهل تشهدين لأبي الطيب بالنبوّة؟ ... وحدّثي الولي يا (ولية)، أيّهما كان عليك بلية؛ ذاك الذي وردك زائرًا، أم هذا الذي وردك خائرًا؟ إنهما لا يستويان؛ ذاك أسد غاب، رزقه في الناب، وهذا حلف وِجار، رزقه على الجار؛ ذاك يعيش على فرائسه، وهذا يعيش على فضلات سائسه، ذاك رمزُ إقدام، وهذا موطئ أقدام؛ ذاك ورد الفرات زئيرُه، وهذا جاوز الفرات تزويره؛ ذاك مشغول البال بتربية الأشبال، وهذا مشغول ... بعُرْس الغول. أيها الصاعد في العقبة، المجاحش عن خيط الرقبة، البائع لجار السوء صقبه، لا يكن صوتُك الصيت، ولو أحييت المجر الميت.

_ 5) السماء لأنها مكفوفة. 6) ابن العفيف التلمساني، له نزعات شاذة في الاعتقاد. 7) طعام معروف عند اليهود. 8) بدر بن عمار الذي قتل الأسد. 9) المراد بحيرة طبرية.

أيها الخاذل للغزَّى (10)، ما أنت لهاشم ... إنما أنت لعبد العزَّى، أغضبت سراة الحيّ، وأزعجت الميت منهم والحيّ، من لؤيّ إلى أبي نُمَيّ. فويحك، أما تخاف أن تهلك، يوم يقال: يا محمد إنه ليس من أهلك. كاهن الحي

_ 10) جمع غاز.

سجع الكهان - 2 -

سجع الكهّان * - 2 - أليّة بتربة الكواهن، ما حازم في أمره كواهن. ويلٌ للعرب، من حبل قد اضطرب، وشرٍّ قد حلّ ولا أقول قد اقترب. قُسم الويل، على العميم والخُويل. فويل للعرب من ملوكهم، وويل للعجم من سلوكهم، وويل للروم من صعلوكهم، جنت على الأصفر ناره، وعلى الأبيض ديناره، وعلى الأسود فدامته واغتراره، وعلى العربي ركْبُه البطيّ، ولسانه النبطي. ما أكثر الملوك وأهون العنا، وما أكثر السيوف وأقلّ الغنا، سيوف، كالدراهم الزيوف، هذه لا تُقني، وتلك لا تغني، ونعيذ العروبة بالله من ملك لا يدفع، وسيف لا يقطع. أحاجيكم، ولا أناجيكم، مملكة في أفحوص، وعاصمة ليس لها (فحوص)، ودولة بلا صولة، وخزينة من أصفار وخزانة بلا أسفار، وكرسي بلا قوائم وعرش بلا دعائم ... عرش كعشّ الحمامة، عُود من غرَب (1) وعود من ثُمامة. قد لصَّه (2) قعيده في هيعه … وناله بالبيع لا بالبيعه وسيوف مجرَّبة، تخيّرن من يوم "تُرَبَة"، وجيش درّبه الغير، وجرّبه إلا في الخير، وبطانة مدّ بها الشيطان أشْطانَه، وحاشية كالماشية، وأسماء بلا مسمَّيات، ومجازات لا حقائق لها، و (مجازات) كلها حقائق، وملك يأتمر ولا يحجُّ ولا يعتمر، يَحسُن فيه التمثيل بملك (التمثيل). بكت الجلالة منه كما بكى الخز من روح (3)، وضاق صدرها بسرّه وشرّه ومَن

_ * نشرت في العدد 70 من جريدة «البصائر»، 7 مارس سنة 1949. 1) الغرب والثمام: عودان رخوان. 2) لصه: سرقه، ومنه اللص. 3) روح بن زنباع المقول فيه: بكى الخز من روح وأنكر جسمه.

لها بالبوح؟ عشقها يافعًا، والتمس لوصلها شافعًا، فكان الشافعُ عدوّ وطنه وقومه، وظالم أمسه ويومه؛ فأين يقع هذا من أرض الله؟ فإن عرفتموه فسلوه من ملكه، بعد ما لاكه وعلكه، وفي خرت الإبرة سلكه؟ ومن صيَّره غراب بين، وجالب حَيْن؟ ومن أعجم تعريبَه، وأحكم على الشر تدريبَه؟ أنشد ابن خلكان في القرن السادس هذا البيت: كَسِنَّوْرِ عَبْدِ الله بِيعَ بِدِرْهَمٍ … صَغِيراً فَلَمَّا شَبَّ بِيعَ بِقِيرَاطِ وقال: إنّ عبد الله هذا لم يعرف أحد من هو. فمن لقي ابن خلّكان فليخبره أنّ كاهن الحي عرف عبد الله صاحب السنور ... أيها العربي: الحق سافر، والعدو كافر، والقوي ظافر، فعلام تنافر خصمك إلى خُنافر (4)؟ ويلك إن المنافرة لا تكون إلا في المشكوك، وإن الحق تحميه السيوف لا الصكوك، وويحك إنّ منافرة الكهنة إلى الكهنة، بالخيبة مرتهنة، مجلس الأمن مخيف، والراضي بحكمه ووضعه ذو عقل سخيف، إنهم ليسوا من شكلِك، وإنهم متفقون على أكلك. كاهن الحي

_ 4) خنافر بن التوأم الحميري، كان كاهنًا في حمير، ثم أسلم على يد معاذ بن جبل، وأخباره مع صاحبه شصار مبسوطة في كتب الأدب وكتب الرجال.

سجع الكهان - 3 -

سجع الكهّان * - 3 - أيها الأعارب، هل فيكم بقايا من حرب أو من محارب؟ (1) دبّت بينكم العقارب، وأنتم أقارب، فتكدَّرت المشارب، وتقوَّضت المضارب (2). وكهُمت المضارب (3)، وغاب المسدِّد في الرأي والمقارب، ولم وتُغنِ النذر والمثلات والتجارب، إن لدُهاة المغارب يدًا خفيّة المسارب، قرأوكم سطورًا لا رجالًا، وعرفوكم بطاءً عن الجُلَّى لا عِجالًا، وحفظوكم شعرًا بلا رويّ، وفكرًا بلا رويَّة فأخذوكم ارتجالًا، وخالوكم على البعد أعمالًا، فوجدوكم على القرب أقوالًا، وحسبوكم عُمَدًا في التركيب الأمميّ فألفوكم مفاعيلَ وأحوالا، فأعربوكم إعراب الفَضَلات، وعاملوكم معاملة المهملات، وراضوكم على المهانة حتى ذل جانبكم، ووطِّئت مناكبكم. فأصبحوا لا يُبالون برضاكم لأنه لا ينفع، ولا يأبهون لسخطكم لأنه لا يضرّ. إن الغضبة لا تعقبها وثبة، هي غضبة الذليل العاجز، ولو افترَّت كلُّ بارقة منكم عن صاعقة، لما حمد شائموها القطر، إن غضبة العاجز لا تُبكي ولا تُنكي. تشتعل في الحنايا ولا تهدم الحنايا، تحرق صاحبها ولا تحرق الناس، وتلك هي غضبتكم حين تغضبون. إن للغرب فيكم مطايا ذللًا، ولرائده منكم أدلَّة أذلة. هم أصل البلاء والعلّة، قادكم بسلوك من الأمراء والملوك، فقادوكم إلى الهاوية، فانزعوا المقادة من هؤلاء القادة تُفلحوا، ولن تُفلحوا ولن تصلحوا ما دام يلقاكم بوسيط واحد، فتلقَوْنه بسبعة سفراء، ويلقاكم برأي جميع، فتلقونه بسبعة آراء، ويلقاكم بكتيبة ملمومة، فتلقونه بشراذم شتّى ... ويتحداكم نذيرُه بإنجيل واحد، فتعارضونه بيوحنّا ولوقا ومتّى ...

_ * نشرت في العدد 71 من جريدة «البصائر»، 14 مارس سنة 1949. 1) حرب ومحارب: قبيلتان من العرب. 2) تقوّضت المضارب: المضارب الخيام. 3) كهمت المضارب: كهمت كلت والمضرب ما يُضرب به من السيف والمضارب جمعه.

لن تفلحوا ولن تصلحوا إلا إذا رجع أمركم إلى الشعب، وأجمع الشعب على رأي واحد، واتفق الرأي على نظام واحد، وتمخّض النظام بدستور واحد، وملك واحد؛ فإن قلتم: إن هذا عسير، فعيشوا عيشة الأسير أو موتوا ميتة الحسير، شبر في الحياة وقبر في الممات. جاءتكم النذُرُ تترى، والمعجزات شفعًا ووترًا، وقامت عليكم الحجّة من ثلاثين حجة، فتغافلتم أوّلًا، وتخاذلتم أخيرًا، وضاعت العروبة بين التغافل والتخاذل. إن الفارق بين لفظَي العرب والغرب نقطة، وفيها كل السر، وفيها كل الشر. وقف الغرب بالباب فلم تتحرّكوا، ثم أنشب الظفر والناب فلم تستدركوا، ثم دسّ أنفه في التراب فوجد رائحة الزيت، ثم طلب الوقوف بالأعتاب فوطّأتم له أكناف البيت. إن الزيت إدام، ازدحمت عليه الأقدام، فحرمه الجبان وحازه المقدام، وكان حظكم منه حظ الطبّاخ الصائم: زَهَمًا في اليد ورائحة في الأنف، فيا أرض ابلعي زيتَك، وَأَحْيِ ميتك، وإلا خرّب (أبرهةُ) الغرب بيت الله وبيتك. ألا إن الغرب جاهد في أن يلحق بلفظ السبع منكم حرفين فإذا هو (سبعون)، وأن يزيد في عدد السبع من ملوككم فإذا هو سبعون. أيها العرب: ما أضيَعَ حكمة الأسلاف عندكم. لقد أبقوا لكم من وحي السماء وحكمة الحكماء، ما لا يُبليه التراب، ولا تُنسيه الأحقاب، وما لو عملتم به لسدتم الكون أئمة، وقُدْتُم الكائنات بالأزِمَّة، ولفللتم السيوف بالآراء، ودحضتم الآراء بالسيوف؛ ولكنكم أضعتم التراث بتشاكس الورّاث، وإذا كان الوارث غير همّام ولا حارث، غارت العين الفوّارة، وقحلت الأرض الغوّارة: وَرِثْنَا الْمَجْدَ عَنْ آبَاءِ صِدْقٍ … أَسَأْنَا فِي دِيَارِهِمْ الصَّنِيعَا إِذَا الْبَيْتُ الرَّفِيعَ تَعَاوَرَتْهُ … بُناةُ السُّوءِ أَوْشَكَ أَنْ يَضِيعَا أيها العرب: أطعتم الكبراء فأضلُّوكم، وخضعتم للأمراء فأذلّوكم، حتى لِنتم للعاجم، ودِنْتم للأعاجم، وحتى ألقيتم بالمقاود، لمن سمّاهم أجدادُكم رقاب المزاود، فويحكم: أغنيٌّ ويقترض، ومحجوج ويعترض؟ عزّ الداء وغاب الآسي ... لم يأسُ جراحَكم ألف "دكتور"، فهل يأسوها "ديكتاتور"؟ ... ***

وضع الأجداد العقال للرجل فنقلته الأحفاد إلى الرأس، وعدلوا به من الأباعر إلى الناس، وما بين النقل والنقل، ضاع العقل ... والتصريف للألفاظ كالتصرّف في الأموال فيه القصدُ والسرَف. كاهن الحي

سجع الكهان - 4 -

سجع الكهّان * - 4 - أخنى الزمن على اليمن … أبدلها صابًا بمن (1) جيش الشقا لها كمن … مهزولة على السِّمن مغصوبة بلا ثمن … دستورها: لا تفهمن لا تقرأن لا تعلمن … سلْ سِيفها (2) أنت لمن؟ سلْ سَيْفها بيد من؟ … أغْرِبَة على دمن لا ناصر لا مؤتمن … عُد للحمى يا ابن اليمن جُدْ بالدماء من غير مَن … إن لم تذد عنها فمن؟ ... يا ذا جدَن (3) أيْنَت (4) عدن؟ … روح جنتْ على البدن فهو الحوا (5) وهي الفدن … شر الملا لها سدَن قرن البلا فيها شَدَن … يا نائيًا لا تبعدن يا وانيًا لا تقعدن … يا ساهيًا لا ترقدن يا خاملًا لا تزهدن … ولا تغب بل اشهدن

_ * نشرت في العدد 72 من جريدة «البصائر»، 21 مارس سنة 1949. 1) الصاب: مر، والمن قرين السلوى في القرآن. 2) سيف البحر بكسر السين ساحله، والسيف الثاني واحد السيوف وهو معروف. 3) ذو جدن من أذواء اليمن. 4) أينت: لغة فصيحة في أين الاستفهامية. 5) الحواء: أبيات حقيرة، والفدن القصر.

ولا تُدِن ما لم تُدَن … لا تعتصر في غير دن تبغي الهُدى على الهدن (6) … تخشى الردى فلتخلدن ... يا بلاد الأذواء (7)، لا أقول: وُقيت الأسواء، ولا أقول: سُقيت الأنواء، ولكن أقول: ثكلت الأبناء، يا مطارح الأبناء (8)، فكل أدوائك من أبنائك، وإذا كان الولد سخنة عين ومجلبة عرّ وشين، فالثكل فيه نعمة لا رزية، والعقم به فضل ومزية. سموك السعيدة فشقيت بمن ولدت، وما سعدوا ولا سعدت؛ فأين أنت اليوم ممن كنت سعيدة بهم وكانوا سعداء بك؟ أين أنت من سعد العشيرة وحماة الأهل والجيرة؟ أين أنت من حمير وأشياعهم وتبع وأتباعهم؟ أين؟ لا أين ... أما ظفار، فقد حالف عهدها الإخفار، وخالف ظلامها الإسفار. وأما حضرموت، فقد ساورها الموت، وجاورها الخسران والفوت، وحاورها النجيُّ فما سمع لها صوت، وأما صنعا، فما أحسن بنوها صنعًا، قد أصبحت خرقاء، وعطلت من طوق الورقاء، وعقمت أن تتمخض عن ألمعيّة (زرقاء)، ما حاكت في عبقريّ الأزمنة ولا وشتْ، وطار الناس فما حبتْ ولا مشت. انعكست الخصائص وغلبت النقائص، وأعوز الجوَّ الطائر حين أعوز البحر الغائص. ... أيها العامد إلى غامد (9)، والدافع إلى يافع (10)، هلّا وقفت بالأطلال، من عبد كلال (11)، وهبطت التلاع، من ذي كلاع (12)، فهتفت بالرفات، من الأموات، علَّهم يسمعون فيهطعون، قل- وخلاك ذمّ- قد دُخلت الدار من جميع الأقطار، فهل من

_ 6) الهدن جمع هدنة، وحياة الهدنة مضلة. 7) الأذواء: أمراء اليمن في القديم، جمع ذو. 8) الأبناء: طائفة من الفرس استوطنوا اليمن. 9) غامد: قبيلة يمنية. 10) يافع: كذلك، ثم أطلق على موطن باليمن. 11) عبد كلال: أبو قبيلة يمنية. 12) ذو كلاع: من أذواء اليمن.

المقاول الصيد، حارس بالوصيد، إن الصائد قد صيد، وإن الشاعر قد أخلى (13)، فلا بديع في البيت ولا بيت في القصيد. كذب الرعد، وأخلف الوعد، وأورد الإبلَ سعد، فضاع (قبل) ولم يُحفظ (بعد). فكأنّ امرؤ القيس أورى زنده، واستعرض مستقبل بني أبيه من كندة، فقال: ودع عنك نهبًا صيحَ في حجراته؛ وها هي ذي مواطن قومه نهب مقسَّم، وقد كذبت المخايل من توسّم. سل سبأ، هل جاءها النبأ، وقل صدق المثل (14) فيك مرتين، وأعاد التاريخ نفسه كرتين، لقد سار أعقابكم في الزمن الحثيث سيرة وانية، فبادوا في الجيل الحديث بيدَةً ثانية. نادِ- مسمِعًا- في الجمع الراشد، من بكيل وحاشد (15)، فإن أصاخوا إصاخة الناشد، فقل: دهمكم السيل فلكم الويل، هذه آثار أسلافكم مجفوّة وهذه قدورهم الراسيات مكفوّة، وهذه الرقاع من البقاع غير مُلْتامة ولا مرفُوَّة، طمست السوافي، ما خلَّدت القوافي، وهفت الهوافي بالقوادم والخوافي، وفرست العوافى (16) ما نامت عنه العيون الغوافي (17)، ماتت الأذواء وعاشت الأذواد، وذهبت الأقيال (18) وبقيت الأقياد. إن الزمان الذي جرَّ إلى جُرْهُم، وخثا على خثعم، قبل أن يأتيهم بنذير، أو يبلوهم بتحذير، قد جاءهم من الغرّة بعذير: أما اليمانون فلهم من الإسلام محجّة، وعليهم من زمانهم ألف حجّة، فهم كثمود، حين لاح لهم من البرهان عمود، فضلّوا؛ أو كقوم هود، حين أخذت عليهم العهود، فزلّوا. كاهن الحي

_ 13) أخلى الشاعر إذا كان شعره ليس فيه معنى جيد. 14) المثل هو: تفرّقوا أيدي سبا. 15) بكيل وحاشد: قبيلنان باليمن ما زال اسمهما محفوظًا. 16) عوافي الطير والسباع هي المفترسات منها. 17) الغوافي: النائمة. 18) الأقيال: الملوك في عرف اليمن القديم.

سجع الكهان - 5 -

سجع الكهّان * - 5 - والعتاق الضمر، والعقبان والحمَّر (1)، والهامة ودُمَّر (2)، والزامر إذا زمّر، والخادع وما دمّر، والعامر إذا عمّر، والشمّري إذا شمّر، ومن حبس الجيوش جمَّر، ومن دخل ظفار فحمَّر (3)، إن للظماء مآرب في ماء مارب (4)، إنها تلوب على مطلوب، كوَّنه الحيا فكوّن به الحياة، فلا تجد إلا السراب والخراب والغراب. يا عاد، أودى درم (5)، فما عاد، ويا سبأ، هل كنت من سيل العرِم على ميعاد؟ أغنى أسلافك عن ماء مأرب، ماءُ يثرب، وبرَّد أحشاءهم ماءُ بردى، واتخذ أبناء قَيْلَة في ظلال النخل مقيلًا، واتخذت غسّان منه (6) إلى جنان الشام سبيلًا، فماذا أغنى أخلافك اليوم؟ إنهم عُراة، بالسَّراة، وظماء بلا ماء، ورعية لراعٍ غير ترعية (7)، حطّمهم رعاة البر، فأصبحوا خولًا لرعاة البحر، حفَّ مارب وروافده، فخرب اليمن ومحافده. يا أخلاف لم يسبق مخلاف، بنيتم السد وأحكمتم للثغور السد، وأحسنتم لأواخي الأخوّة الشدّ، وجددتم للأبناء ما بناه الجدّ. هلّا وجهتم العناية إلى هذه الآية. {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ}. إنها- وأبيكم- عبرة العبر، في وصْل المبتدإ بالخبر، أين الجنتان عن يمين وشمال؟ وأين البلدة الطيبة؟ إنها اليوم رمال، وأين القرى الظاهرة والعمارة

_ * نشرت في العدد 74 من جريدة «البصائر»، 4 أفريل سنة 1949. 1) نوع من الطير. 2) متنزهان بظاهر دمشق. 3) صار حميريًا، وهو مثل. 4) مأرب: سد أثري في اليمن، وقصته في القرآن. 5) مثل، ودرم رجل في عاد غاب ولم يرجع، وأودى هلك. 6) الضمير إلى غسان لأنه في الأصل اسم ماء نزلوا عليه. 7) الترعية، بالكسر والتخفيف: الذي يحسن الرعي.

المتكاثرة؟ إنها اليوم قفار، وأين تقدير السير بالأميال، لتيسير الاتصال؟ إنها اليوم مجاهل، يضلّ فيها القطا، ويقطع فيها من المطايا المطا (8). أجدبت الخمط والأثل، فضلًا عن الكرم والنخل. أعرض أسلافكم عن هدى الله فباعد بين أسفارهم، وجعلهم أحاديث، ومزقهم كل ممزق. وأعرضتم عن سنن الله فباعد بين قلوبكم، وكنتم أهون عليه من أن يُسَيَّر فيكم حديث، أو يسطّر في شأنكم قصص، أولئك أخذوا على قوّة، فالأحاديث عنها تملأ المسامع، وتهزّ المجامع؛ وأنتم أخذتم على ضعف وانحلال، فالحديث عنكم لا يُثير عزّة، ولا ينير السبيل إلى قدوة. لو بذل الكُهّان، ما عزَّ وما هان، في أن يأتوا بمثل قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لما حصّلوا، ولو رقوا إلى سماء البلاغة بسلّم وكان فيهم العض (9) والملهم والمكلم، لما وصلوا؛ جلّ كلام الله، وقلّ كلام الكاهن. ... يا أسلاف، ورّثتم الحكمة وسيّرتم الأمثال والفِقَر، وعمرتم من التاريخ صحائف بالمحامد، وشغلتم القرون بالحديث عنكم، وشدتم الباقيات للحضارة، وزيّنتم الحياة بالقوة والبأس الشديد، وسبقتم العالم إلى موارد العزة في الدنيا، ووقفتم في نصف هذه الكرة تحكمون وتتحكّمون، وتصلون شرقها بغربها وتقسمون، فبدتم وما بادت آثاركم ولا أخباركم. ويا أخلاف، ماذا صنعتم؟ وبماذا اقتنعتم؟ هذه آثار سلفكم، عرف الغريب مواقعها، وجهلتم مواضعها، فهل النسب مدخول؟ أو الانتساب غير منخول؟ ويلكم! إن الألوان، على الدلالة أعوان، سوّد بنو العباس لسؤددهم، وبيَّض العلويون لطهارتهم، وخضَّر العبيديون لدعواهم ودعايتهم، وزرّقتم (10) ... لماذا؟ ... كاهن الحي

_ 8) المطا: الظهر. 9) العض: العالم الخبير، والعضان زيد بن الكيس ودغفل أعلما العرب بالنسب. 10) لبستم الزرقة، وبدو اليمن يعشقون هذا اللون.

سجع الكهان - 6 -

سجع الكهّان * - 6 - أقسم بالذيب الأطلس، والثعبان الأملس، إن المتجر بالأحرار لمُفلس، وإن العاقل بين الأشرار لمُبلس، وإن العربيّ لزنيم إذا بقي في المجلس (1)، ذهب العز الأقعس، وحلّ الجد الأتعس، ونزل من غِيَر الزمان ما أنسى النسيب في الكثيب الأوعس، والتشبيب بالثغر الألعس. أيها الهائمون في البيد، النائمون على الذل المبيد، الراضون بعيشة العبيد، على البرير والهبيد (2) لن تزالوا كذلك أبد الأبيد، لا عمر لُبَدِ أو لبيد، حتى تعملوا بقول الشاعر: ومَن ومَن، فهو دين كل زمن (3). كتب الله أن الصداقة مطوّية على العداوة، وأن الحضارة متصلة الطرفين بالبداوة، وأن في الإنسان جبلة من الحيوان، ما زال في النزوع إلى أصلها غير وان، وأن الضعيف طعام للقوي، وأن الرشيد في أبناء آدم مجرور بالغوي، وأن من لم تبسُط يدك لتقتله بسط يده لقَتْلك، وأن من قصرت في ختله جدّ في ختلك. ... ثارٌ للغرب في فلسطين، لم تنبُت عليه شجرةٌ من يقطين، وشياطين تنزو للإغراء إثر شياطين؛ ويوم في أعناقكم بيوم حطّين، تنسيه غريزة الماء والطين، فتذكره نُعرة الجنس

_ * نشرت في العدد 75 من جريدة «البصائر»، 11 أفريل سنة 1949. 1) مجلس الأمم المتحدة على الباطل. 2) البرير: ثمر الأراك، والهبيد: حب الحنظل. 3) إشارة إلى قول زهير في معلّقته: وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ ... الأبيات.

والدين، أنَسيتم يوم تنادوا مُصْبِحين، وتعادوا مسلّحين، وتداعوا مصطلحين، وتعاووا من كل حدب، وتهاووا من كل صبب، ذؤبان تقدمها رهبان، وغربان تظلّلها صلبان، بنفوس من الحقد ثائرة، وقلوب بالبغضاء فائرة، تنازعكم إرث الإسلام، ومعراج نبي السلام؟ أنسيتم ما فعله صلاح الدين بالمعتدين؟ إن نسيتم أمسكم فهم له ذاكرون، وإن كفرتم بيومكم فهم له شاكرون. أين كنتم يوم أعطوا العهود لليهود؟ أم أين كنتم يوم جاءوكم بالفهود في المهود؟ أم أين كنتم يوم آمنوا بإسحاق وكفروا بهود؟ كلّ ذلك وقع وأنتم شهود، ولكنهم كانوا أيقاظًا وأنتم رقود، أمعنوا في الاستعداد وأمعنتم في الرُّقاد، اعتمدوا على العلم و (الريال) واعتمدتم على الجهل والخيال، جاءُوكُم بصف واحد كملمومة الصخر، وجئتموهم بصفوف متخاذلة، جاءُوكُم على قلب رجل واحد، وجئتموهم بقلوب متنافرة، قادهم إلى الظفر قائد واحد ورأيٌ جميع، وقادكم إلى العار قوّاد متشاكسون ورأيٌ شتيت، ما أضاع السيادة إلا توزيع القيادة، اجتمعوا وافترقتم، فسَلِموا واحترقتم. تالله ما ضاعت فلسطين اليوم، ولكنها ضاعت يوم وُعدوا بها، فركنوا إلى العمل، وركنتم إلى الكلام، بل ضاعت قبل ذلك بقرون، منذ نبت قرن صهيون، فتماريتم بالنذر، ولم تأخذُوا الحذر. لا تقولوا إن شرّ دين، ما جرّ التشريد للمتشرّدين، فإن شرًّا منه عقلكم الذي جرّ العار للعرب أجمعين، وكرّ بالخزي على جميع المسلمين. ... جاء النصر من مصر، فلماذا تخلَّفت البصرة عن النصرة؟ قلب وجف بالنجَف، بعد ما رقأ الدمُ وجفّ، وآخر خفق بالمنتفق، بعد مغيب الشفق وافتراق الرّفق، ما أغنى الخفوق من قلب الشّقوق، وما أجدى الوجيف بعد ما سدَّ الباب وأجيف (4). أيها العرب: بعضكم أبرار، وجلكم أشرار، وكلكم أغرار ... كاهن الحي

_ 4) أجيف الباب: أغلق مصراعاه

سجع الكهان - 7 -

سجع الكهّان * - 7 - بارقٌ في برقة، شمنا من بعيد برقه، فإذا أصوات رجعُها في الآذان خلاف وفرقة، ووقعُها في النفوس أسى وحُرقة، وإذا فرق من رفاق الجهاد تُعادي فرقة فرقة، وإذا إنتاج ذلك كله وليد في خرقة، وقابلةٌ تجهد في الأهباط وتقول: ارقهْ. وإذا الغرب من ذلك الهيكل الملموم يُزايل شرقَه، وإذا الوتد مفروق، والقاعدة فروق، والحمى بالشعواء الصامتة مطروق، وصُواع بني الأب بأيدي بني الأم مسروق، وإذا القيصرية- المحروبة في كل وطن- تبدو في هذا الوطن المحروب قرونها، ويأبى إلا التقحم في المهاوي حرونها، وإذا صفحة من تاريخ ملوك الطوائف تُعاد، فتلقى ممن يعيشون على التفريق الإسعاد. أي جيران الشمال، ومعاقد الآمال، أعيذكم بالعروبة وهي الأمّ، وبالوطن وهو الهمّ والأمّ، وبعمر، حادي الزّمر، عمر الشهيد، وما عهده بالعهيد، وبما أرقتم من دموع ودماء، لم يبق منها إلا الذماء، وبالإسلام- وهو الذِّمام- أن تختلفوا في الحق، فترضوا بالشقّ، أو توسعوا الشقّ، فتقعوا جميعًا في الرقّ، وأعيذكم أن تغتروا بالوعود الخالبة من الدول الغالبة، فإنما ذلك إبساس من الأيدي الحالبة، وأعيذكم أن تُنْكروا التقسيم وأنتم منقسمون، وأعيذكم أن يكون غرب النيل كشرق الأردن ... وأعيذكم أن ترضوا بالخفض، ولا تقبلوا (الضم)، إن الضم علامة (البناء)، وآية (استقرار) البناء، فاجهدوا في إثبات الضم وخلاكم ذم. إن هؤلاء الأقوياء كلما عجزوا عن قيادة الجمع قادوهم بواحد ... فاحذروا ذلك الواحد، وإن الجانب الغربي لكم عدوٌّ، فاتّخذوه عدوًّا، واحذروه رواحًا وغُدوًّا، واحذروه قلقًا وهدوًّا.

_ * نشرت في العدد 88 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية سنة 1949.

ويحَ فزّان، هل أتاها نبا وزَّان؟ شال بها الميزان، فهي رهينة أحزان. وويح برقة البوارق، من الدخيل الطارق، ومن الأصيل المارق، ومن اللص السارق. عتبات الفتح بنيت على الكسر، وآسرة الصيد مُنيت بالأسر، وصائدة المناسر (1) صادها النسر، وجسر العروبة إلى المغارب، عصفت به الأعاصير ... فتداعى الجسر، وباذلو الماعون في ساعة العُسْر، جُزُوا في العاقبة بالخسر، ثم كانت خاتمةُ الكيد، إرجاعهم إلى القيد. كاهن الحي

شخصيات

شخصيات عدّة شخصيات تناولتها البصائر، إما بالتقريظ والمدح، أو بالغرض والقدح، وكلها بقلم جامع هذا الكتاب محمد البشير الإبراهيمي، الذي يرجو أن يكون ما وصف به هذه الشخصيات صادقًا مطابقًا لحقيقة الموصوفين به.

عبد الحي الكتاني

عبد الحي الكتاني * ما هو؟ وما شأنه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــ في لغة العرب لطائف عميقة الأثر، وإن كانت قريبةً في النظر؛ ومنها التسمية بالمصدر والوصف به؛ يذهبون بذلك إلى فجّ من المبالغة سحيق، تقف فيه الأذهان حسرى، ويغالَط به الحسّ فيتخيّل ذوبان الموصوف وبقاء الصفة قائمةً بذاتها؛ كأن الموصوف لكثرة ما ألحّت عليه الصفة وغلبت أصبح هو هي أو هو إياها؛ وعند الخنساء الخبر اليقين حين تقول: * فإنما هي إقبال وإدبار * وعلى هذا يقال في جواب ما هو عبد الحي؟ هو مكيدة مدبّرة، وفتنة محضرة؛ ولو قال قائل في وصفه: شّعْوَذَةٌ تَخْطِرُ فِي حِجْلَيْنِ … وَفِتْنَةٌ تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ لأراح البيان والتحليل، كما يقول شوقي؛ ولعفّى على أصحاب التراجم، من أعاريب وأعاجم، ولأتى بالإعجاز، في باب الإيجاز؛ إذ أتى بترجمة تُحمَل ببرقيّة، إلى الأقطار الغربية والشرقية، فيعمّ العلم، وتنتشر الإفادة، وتذيع الشهرة ... ولو أن الرجل وصف نفسه وأنصف الحقيقة في وصفها لما زاد على هذا البيت، ولو شاء "تخريج الدلالات السمعية" (1) على ذلك لَما أعجزه ولا أعوزه؛ ولكن أين من عبد الحي ذلك الإنصاف الذي لم يخلُ منه إلا شيخ الجماعة الذي حادّ الله وقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}.

_ * نُشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر»، 26 أفريل سنة 1948. 1) تخريج الدلالات السمعية: كتاب في أصول الوظائف الشرعية للخزاعي، اختلس الكتاني نسخة خطية منه من مكتبة عمومية بتونس، ولما ألحّوا عليه في إرجاعها وهدّدوه بتدخل الحكومة، سلخ الكتاب ونسخه في كتاب نسبه إلى نفسه وسمّاه التراتيب الإدارية.

وإذا أنصفنا الرجل قلنا: إنه مجموعة من العناصر منها العلم ومنها الظلم، ومنها الحق ومنها الباطل؛ وأكثرها الشرّ والفساد في الأرض- أُطلق عليها لكثرتها واجتماعها في ظرف- هذا الاسم المركّب الذي لا يلتقي مع الكثير منها في اشتقاق ولا دلالة وضعية، كما تُطلق أسماءُ الأجناس المرتجلة، وكما يُطلِق علماء الكيمياء على مركّباتهم أسماءَ لا يلمحون فيها أصلًا من أصولها، ومن الأسماء ما يوضع على الفال والتخيّل، فيطيش الفال، وتكذب المخيلة، ومنها ما يوضع على التوسع والتحيّل، فيضيق المجال، وتضيع الحيلة، وإن اسم صاحبنا لم يصدُق فيه إلا جزءُه الأول، فهو عبد لعدّة أشياء جاءت بها الآثار وجرت على ألسنة الناس، ولكن أملكها به الاستعمار؛ أما جزءُه الثاني فليس هو من أسماء الله الحسنى، ولا يخطر هذا ببال مؤمن يعرف الرجل، ويعرف صفات عباد الرحمان، المذكورة في خواتيم سورة الفرقان، وإنما هو بمعنى القبيلة، كما يقال كاهن الحي وعرّاف الحي وعير الحي، وقبّح الله الاشتراك اللفظي، فلو علم العرب أنه يأتي بمثل هذا الالتباس لطهروا منه لغتهم، وتحاموه فيما تحاموا من المستهجنات، ولو أدرك نفاة الاشتراك في الاستعمالات الشرعية زمن عبد الحي، أو أدرك هو زمنهم وعرفوه كما عرفناه لكان من أقوى أدلّتهم على نفيه، ولارتفع الخلاف في المسألة وسجّل التاريخ منقبة واحدة لعبد الحيّ، وهي أن اسمه كان سببًا في رفع خلاف ... وإذا كانت أعمال الشخص أو آثار الشيء هي التي توضع في ميزان الاعتبار وهي التي تُناط بها الأحكام فهذا من ذاك ولا عتب علينا ولا ملام. وكأن صاحبنا شعر ببعض هذا- ومثله من يشعر- فموّه اسمه ببضع كنى، ولكنه لم يجرِ فيها على طريقة العرب في تكنية أنفسهم، بل كنى نفسه بأبي الإقبال، وأبي الإسعاد، وما أشبه ذلك مما هو غالب في كُنى العبيد، تفاؤلًا وتروّحًا، وقد رأينا بعض من كتب لعبد الحي، أو كتب عليه، يكنيه بأبي السعادات، وهو لا يعني سعادات ابن الشجري، ولا سعادات ابن الجزري، وإنما يعني سعادات ثلاثًا لكل واحدة منهن أثرٌ في تكوينه أو في شهرته: جريدة "السعادة" لأنها تُطريه، وقرية بو"سعادة" لأنها تُؤويه، ونسخة أو جزءًا من البخاري بخط ابن "سعادة" لأن الخزانة الجليلة تحويه، والرجل مفتون بهذا النوع من الكُنى لنفسه ولغيره، يُغرب فيها ويُبدع حتى كنى الشيخ النبهاني بأبي الحجاز. هذا وإن لصاحبنا أولادًا صالحين يشرّفه أن يكتنى بأحدهم، فلماذا لم يفعل؟ ... ***

من سنن العرب أنهم يجعلون الاسم سمة للطفولة، والكنية عنوانًا على الرجولة. لذلك كانوا لا يكتنون إلا بنتاج الأصلاب وثمرات الأرحام من بنين وبنات، لأنها الامتداد الطبيعي لتاريخ الحياة بهم، ولا يرضون بهذه الكُنى والألقاب الرخوة إلا لعبيدهم، وما راجت هذه الكُنى والألقاب المهلهلة بين المسلمين إلا يوم تراخت العرى الشادّة لمجتمعهم، فراج فيهم التخنّث في الشمائل، والتأنّث في الطباع، والارتخاء في العزائم، والنفاق في الدين؛ ويوم نسِي المسلمون أنفسهم فأضاعوا الأعمال التي يتمجّد بها الرجال، وأخذوا بالسفاسف التي يتلهّى بها الأطفال، وفاتتهم العظمة الحقيقية فالتمَسوها في الأسماء والكُنى والألقاب؛ ولقد كان العرب صخورًا وجنادل يوم كان من أسمائهم صخر وجندلة، وكانوا غصصًا وسمومًا يوم كان فيهم مرّة وحنظلة؛ وكانوا أشواكًا وأحساكًا يوم كان فيهم قتادة وعوسجة. فانظر ما هم اليوم. وانظر أيّ أثر تتركه الأسماء في المسمّيات. واعتبر ذلك في كلمة (سيدي) وأنها ما راجت بيننا وشاعت فينا إلا يوم أضعنا السيادة، وأفلتت من أيدينا القيادة. ولماذا لم تشِع في المسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة؛ ولو قالها قائل لعمر لهاجت شرّته، ولبادرت بالجواب درّته. كُني المعرّي وهو صغير بأبي العلاء، ولو تزوّج كالناس وولد له لسمّى أكبر أولاده العلاء؛ وهو اسم عربي فخم تعرف منه كتب السير أمثال العلاء بن الحضرمي، ولكن المعرّي لمّا عقل وأدرك سخافة القصد من كنيته قال هازئًا: "كُنيتُ وأنا وليد بالعلاء فكأن علاءً مات، وبقيت العلامات"؛ وأين إسعاد عبد الحي من علاء المعري؟ ... عرف الناس وعرفنا عرفان اليقين وعلمنا حتى ما نسائل عالمًا، أن هذا الرجل ما زال منذ كان الاستعمار في المغرب- لا كانا- آلةً صمّاءَ في يده، يديره كما شاء، ويريده على ما شاء. يحرّكه للفتنة فيتحرّك، ويدعوه إلى تفريق الصفوف فيستجيب، ويندبه إلى التضريب والتخريب فيجده أطوع من بنانه، ويريد منه أن يكون حمّى تُنهك، فيكون طاعونًا يُهلك؛ وأن يكون له لسانًا، فيكون لسانًا وأذنًا وعينًا ويدًا ورجلًا ومقراضًا للقطع، وفأسًا للقلع، ومعولًا للصدع، وما يشاء الاستعمار إخماد حركة، إلا كانت على يديه البركة، وما يشاء التشغيب على العاملين للصلاح، والمطالبين بالإصلاح، إلا رماهم منه بالداهية النكراء والصيلم الصلعاء؛ وما يعجزه الاضطلاع بعبء، أو الاطلاع على خبء، إلا وجد فيه البغية والضالة؛ وما يشاء التشكيك في رأي جميع، أو التشتيت لشمل مجموع، إلا وجد فيه المشكّك المحكّك، والخادم الهادم؛ وقد تهيّأتْ فيه أدوات الفتنة كلها حتى كأنه أُعدّ لذلك إعدادًا خاصًا. وكأنه "مصنوع بالتوصية"، وكأنما هو رزق مهيّأ مهنأ للاستعمار، وما

زال الاستعمار مرزوقًا بهذا النوع؛ فالرجل شريف أولًا، وعريق في الشهرة ثانيًا، وطرقي ثالثًا، وعالم رابعًا، وكل واحدة من هذه فتنة لصاحبها بنفسه وللناس به، فكيف بهن إذا اجتمعن؟ وكيف بهن إذا كان اجتماعُهنّ في غير موفّق؟ والرَّجُل بارع يستخدم كل واحدة من هذه في ميدانها الخاص، ويستخدمها جميعًا في الميدان العام: يستخدم العلم في الشهرة، والطرقية في الفتنة، فإذا حزب الأمر اتخذ من أحدهما طليعة، ومن الآخر جيشًا، ومن الشهرة أو الشرف ردءًا؛ ولكن أغلب النزعات عليه، النزعة الطرقية لأنها أكثر فائدة، وأجدى عائدة، وأقرب سبيل، في باب التضليل، ناهيك بدعوى لا يحتاج صاحبها إلى إقامة دليل. ... كان بلاءُ هذا الرجل محصورًا في محيط، ومقصورًا على قطر، وكان إخواننا في المغرب يعالجون منه الداء العضال، وكنا نعدّ أنفسنا آثمين في السكوت عنه، وفي القعود عن نصرة إخواننا في دفع هذا البلاء الأزرق، فلما تنبّهت عقولهم لكيده، وتفتّحت عيونهم لمكره، وتهاوت عليه كواكب الرجم من كل جانب، فبطل سحره، وقصّرت رُقاه عن الاستنزال، وضلّ سعيه، وقلّ رعيه، انقلب استعمارًا محضًا قائمًا بذاته، وهاج حقده على الأحرار والسلفيين فترصّد أذاهم في الأنفس والأموال والمصالح، وأصبح كالعقرب، لا تلدغ إلا من يتحرك ... ولكن السوأة التي لا توارى، والزلّة التي تضيق عنها المغفرة، والعظيمة التي يستحي الشيطان أن يوسوس بها، والشنعاء التي لا يقدم عليها إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المطلق في علم الشر، هي اجتراؤه في فورة الاستعمار الأخيرة على أعلى رمز تتمثّل فيه أماني الوطن، وأمنع كنف يلوذ به السلفيّون الأبرار، والوطنيون الأحرار. إن الخطايا قد تحيط بصاحبها فيقتل نفسه مثلًا، ولكن ما صدّقنا أن الحال ينتهي به إلى قتل أمّة إلا هذه المرّة، وإن الزلل ليرسخ إلى أن يصير خلقًا وعادة، ولكن ما عَهِدنا أنه يفضي بصاحبه إلى هذه الدركة التي لا تُبلَغ إلا بخذلان من الله، وما كنا نتصور أنّ شرّ شرّير يتّضع قدره إلى هذا الحدّ، أو يتّسع صدره لحمل هذا الوسام، وسبحان من يزيد في الخَلق ما يشاء. وكأن الرجل أخذ فيما أخذ عن الاستعمار طريقة التوسّع، وكأنه أصغر المغرب- على سعته- أن يكون مجالًا لألاعيبه ومكايده، فجاوز في هذه المرّة الحدود، وتخطّى الأخدود، واندفع إلى الجزائر وتونس ليبثّ فيهما سمومه، ويتخذ منهما ملعبًا جديدًا لرواياته التي منها

مؤتمر الزوايا بالجزائر، وليقوم للحكومة بما عجزت عنه من استئلاف النافر، واستنزال العاقّ، وليوحّد بين الأقطار الثلاثة ولكن بالتفريق، ولينقذها من البحر ولكن بالتغريق. كان عبد الحي فيما مضى يزور هذا الوطن داعيًا لنفسه أو مدعوًّا من أصدقائه، وهم طائفة مخصوصة، فكنّا نولّيه ما تولّى، ولا نأبه له، وكانت تبلغنا عنه هنات كاختصاصه بالجهّال وهو عالم، وانتصاره للطرقية وهو محدّث، إلى هنات كلها تمسّ شرف العلم وكرامة العالم، فكنّا نحمّله ما تحمّل ولا نبالي به، وكان يزور لمامًا، ويقيم أيامًا، ولكنه- في هذه المرّة- جاء ليتمّم خطّة، ودخل الباب ولم يقل حطّة، وصاغ في الجزائر حلقات من تلك السلسلة التي بدأ صنعها في المغرب، دلّتنا على ذلك شواهد الأفعال والأقوال والملابسات والظروف، ثم زار تونس ليؤلّف فيها "تكميل التقييد" (1) وكأنه يتحدّى بهذه الرحلة الطويلة رحلة أبي الحسن المريني (2) ... وشتّان ما بين الرحلتين. تلك كانت لتوسيع الممالك، وهذه كانت لتوزيع المهالك، ويا ويح الجزائر المسكينة، كأن لم تكفها الفتن المتماحلة حتى تزاد عليها فتنة اسمها "مؤتمر الزوايا"، ولم تكفها النكبات المتوالية حتى تضاف إليها نكبة اسمها "عبد الحي". إن في رحلة عبد الحي هذه لآيات، منها أن الحكومة أحسّت بإعراض من رجال الزوايا، وانصراف عما تريده منهم بطرقها القديمة، فأرادت أن تؤيّد قوّة القهر بقوّة السحر، فكان عبد الحيّ الساحر العليم، وآية ذلك أنه زار كل واحد من مشايخ الطرق في داره، وأقام عنده الليالي والأيام، ونعتقد أنه تعِب في إقناع الجماعة ولمِّ شملهم، وقد سمعنا من عقلائهم عبارات التشاؤم بمقدمه في هذه الظروف، والتبرّم بتكاليفه في هذه السنوات العجاف، وإن ضيافة هذا الرجل وحدها لأزمة مالية مستقلّة، ولو كان للجماعة شيء من الشجاعة لولّوه الظهر، وصارحوه بالنهر، ولكن الشجاعة حظوظ، والصراحة أرزاق. ... ويقال، في جواب ما شأنه، إنه الشأن كله، ونقسم بالله الذي خلق الحيَّ وعبد الحيّ، أنه لولاه لما خطر مؤتمر الزوايا على بال واحد منهم، حاشا حواريَّ عبد الحي بتلمسان، وهو

_ 2) اسم كتاب في الفقه لابن غازي جاء اسمه مطابقًا بسعة أعمال عبد الحي للمحنان. ونحن نريد المعنى الوفي في الكلمتين، فقد جاء الرجل ليكمل تقييد الجزائر وتونس بما ينقصهما من قيود مكره. 3) أبو الحسن أنبه ملك في الدولة المرينية، بلغت فتوحاته إلى حدود ليبيا، وانتظم المغارب الثلاثة، وفي غزاته لتونس بنفسه كان المؤرّخ ابن خلدون قد ختم بها حياته العلمية وكان بدء اتصاله بالملوك والدول.

رجل ليس فيه من صفات الحواريين إلا الصيد، وليس هو من الزوايا في قبيل ولا دبير، ونحن أعرف بالجماعة من عبد الحي، وقد انصرفوا في السنوات الأخيرة إلى أعمالهم الخاصة وساروا في هوى الأمّة، وشاركوا في مشاريعها العامة بقدر الاستطاعة؛ ولو سمعوا نصائحنا لتولّوا قيادتها من جديد ولكن بالعلم وإلى العلم، وعلى ما هم عليه فإن القسوة لم تبلغ بهم إلى حدّ معاكسة شعور الأمّة، حتى يُعرِسوا في مأتمها، لولا هذا المخلوق. ثم نسأل عبد الحي: لماذا لم يفعل في المغرب ما فعله في الجزائر، فيجمع الزوايا على الدعوة إلى التعليم؟ إنه لم يفعل لأنه لا يرى زاوية قائمة إلا زاويته، وكلّ ما عداها فمنفرجة أو حادّة كما يقول علماء الهندسة، ونسأل رجال الزوايا: لماذا لم يجتمعوا لمؤتمرهم قبل مجيء عبد الحي؟ وهل هم في حاجة إلى التذكير بلزوم العلم والتعليم حتى يأتيهم عبد الحي بشيء جديد في الموضوع؟ يا قوم، إن الأمر لمدبَّر، إن الأمر لمدبّر علمه مَن علِمه منكم وجهِله مَن جهِله، وما نحن بمتزيّدين ولا متخرّصين. ولو أن عبد الحي كان غير من كان، ونزل باسم العلم ضيفًا على الأمّة الجزائرية غير متحيّز إلى فئة، وغير مسيّر بيد، وغير متأبّط لشرّ، للقي منها كل إكبار وتبجيل ولو أضافته على الأسودين التمر والماء، وإن ذلك لأعظم إعلاءً لقدره، وإغلاءً لقيمته. ... ولقد كان من مقتضى كون الرجل محدِّثًا أن يكون سلفيّ العقيدة وقّافًا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشياطين، وأن يكون مستقلًّا في الاستدلال لما يؤخذ ولما يترك من مسائل الدين، وقد تعالت همم المحدّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين، فكيف بالمبتدعة الدجّالين؛ وعرفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها، لا يعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا في الاجتهاديات المحضة التي لا نصّ فيها؛ ولكن المعروف عن هذا المحدّث أنه قضى عمره في نصر الطرقية وضلالات الطرقيين ومحدَثاتهم بالقول والفعل والسكوت، وأنه خصم لدود للسلفيين، وحرب عوان على السلفية، وهل يرجى ممن نشأ في أحضان الطرقية، وفتح عينيه على ما فيها من مال وجاه وشهوات ميسّرة ومخايل من المُلك، أن يكون سلفيًّا ولو سلسل الدنيا كلها بمسلسلاته؟ إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة، فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السنّة عملًا لا قولًا؛ والدراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية، ثم يروّض نفسه بعد ذلك على الهدي المعتصر من تلك

السيرة وممن جرى على صراطها من السلف، وعبد الحي محدّث بمعنى آخر، فهو "راوية" بكل ما لهذه الكلمة من معنى. تتصل أسانيده بالجن والحن ورتن الهندي (4) وبكل من هبّ ودبّ. وفيه من صفات المحدّثين أنه جاب الآفاق، ولقي الرجال، واستوعب ما عندهم من الإجازات بالروايات، ثم غلبت عليه نزعة التجديد فأتى من صفات المحدَثين (بالتخفيف) بكل عجيبة، فهو محدّث محدِث في آن واحد؛ وهمّه وهمّ أمثاله من مجانين الرواية حفظ الأسانيد، وتحصيل الإجازات، ومكاتبة علماء الهند والسند للاستجازة، وأن يرحل أحدهم فيلقى رجلًا من أهل الرواية في مثل فواق الحالب، فيقول له: أجزتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر (الكليشي) (5)؛ فإذا عجز عن الرحلة كتب مستجيزًا فيأتيه علم الحديث بل علوم الدين والدنيا كلها في بطاقة ... أهذا هو العلم؟ لا والله. وإنما هو شيء اسمه جنون الرواية. ولقد أصاب كاتب هذه السطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة، ولم أتبيّن منشأه في نفسي إلا بعد أن عافاني الله منه وتاب عليّ، ومنشأُه هو الإدلال بقوّة الحافظة، وكان من آثار ذلك المرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مضر وربيعة بجماهرها ومجامعها، وأن أنسب جماهر حمير وأخواتها، وأن أعرف كل ما أثر عن دغفل في أنساب قريش، وما اختلف فيه الواقدي ومحمد بن السائب الكلبي؛ ثم فُتنت بحفظ الأسانيد، وكدت ألتقي بعبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانين بالرواية، لولا أن الله سلّم، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهم وهُضم، لا ما رُوي وطُوي. زرت يومًا الشيخ أحمد البرزنجي- رحمه الله- في داره بالمدينة المنوّرة وهو ضرير، وقد نُمي إليه شيء من حفظي ولزومي لدور الكتب، فقال لي بعد خوض في الحديث: أجزتُك بكل مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه ... الخ. فألقى في روعي ما جرى على لساني وقلت له: إنك لم تعطني علمًا بهذه الجمل، وأحر أن لا يكون لي ولا لك أجر، لأنك لم تتعب في التلقين وأنا لم أتعب في التلقّي؛ فتبسّم ضاحكًا من قولي ولم يُنكر، وكان ذلك بدء شفائي من هذا المرض، وإن بقيت في النفس منه عقابيل، تَهيج كلما طاف بي طائف العُجْب والتعاظم الفارغ إلى أن تناسيته متعمّدًا، ثم كان الفضل لمصائب الزمان في نسيان البقية الباقية منه؛ وإذا أسفت على شيء من ذلك الآن فعلى تناسيّ لأيام العرب، لأنها تاريخ، وعلى نسياني أشعار العرب، لأنها أدب.

_ 4) رتن الهندي شيخ دجّال ظهر على رأس المائة السادسة للهجرة وادّعى أنه صحابي وأنه يروي عن النبي مباشرة وأنه حضر زفاف فاطمة الزهراء، وقد روى عنه جماعة من المحدثين المصغين له وأنكر أمره ودعواه جمهور أعلام المحدثين كالحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر، وأثبت الذهبي أنه دجال كذاب. 5) الكليشي: كلمة فرنسية معناها الشريط.

وحضرت بعد ذلك طائفةً من دروس هذا الشيخ في صحيح البخاري على قلّتها وتقطّعها؛ وأشهد أني كنت أسمع منه علمًا وتحقيقًا؛ فقلت له يومًا: الآن أعطيتني أشياء وأحرِ بنا أن نوجَر معًا، أنت وأنا؛ فتبسّم مبتهجًا وقال لي: يا بنيّ، هذه الدراية وتلك الرواية. فقلت له: إن بين الدراية والعلم نسبًا قريبًا في الدلالة، تُرادفه أو تقف دونه؛ فما نسبة الرواية إلى العلم؟ وقطع الحديث صوت المؤذّن وقال لي: بعد الصلاة حدّثني بحديثك عن نسبة الرواية إلى العلم، فقلت له ما معناه: إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتون وتصحيح الأسماء، فلما ضُبطت الأصول وأُمن التصحيف في الأسماء خفّ وزن الرواية وسقطت قيمتها، وقلت له: إن قيمة الحفظ- بعد ذلك الضبط- نزلت إلى قريب من قيمة الرواية، وقد كانت صنعة الحافظ شاقةً يوم كان الاختلاف في المتون، فكيف بها بعد أن تشعّب الخلاف في ألفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذرّ الهروي، والأصيلي، وكريمة، والمستملي، والكشميهي، وتلك الطائفة، وهل قال حدثني أو حدّثنا أو كتاب أو باب؛ إن هذا لتطويل ما فيه من طائل. ولا أراه علمًا بل هو عائق عن العلم، وقلت له: إن عمل الحافظ اليونيني على جلالة قدره في الجمع بين هذه الروايات ضرب في حديد بارد، لا أستثني منه إلا عمل ابن مالك، وإن ترجيح ابن مالك لإعراب لفظة لأدلّ على الصحة في اللفظ النبوي من تصحيح الرواية، وقد يكون الراوي أعجميًّا لا يقيم للإعراب وزنًا، فلماذا لا نعمد إلى تقوية الملكة العربية في نفوسنا، وتقويم المنطق العربي في ألسنتنا، ثم نجعل من ذلك موازين لتصحيح الرواية؛ على أن التوسّع في الرواية أفضى بنا إلى الزهد في الدراية، وقلت له: إنك لو وقفت على حلق المحدّثين بهذا الحرم، محمد بن جعفر الكتاني ومحمد الخضر الشنقيطي وغيرهما لسمعتَ رواية وسردًا، لا دراية ودرسًا، وإن أحدهم ليقرأ العشرين والثلاثين ورقة من الكتاب في الدولة الواحدة (6). فأين العلم؟ وقلت له: إن مَن قَبْلنا تنبّهوا إلى أن دولة الرواية دالت بضبط الأصول وشهرتها فاقتصروا على الأوائل، يعنون الأحاديث الأولى من الأمهات وصاروا يكتفون بسماعها أو قراءتها في الإجازات، وما اكتفاء القدماء بالمناولة والوجادة إلا من هذا الباب. قلت له هذا وأكثر من هذا، وكانت معارف وجهه تدلّ على الموافقة ولكنه لم ينطق بشيء، وأنا أعلم أن سبب سكوته هو مخالفة ما سمع لما ألف- رحمه الله. ولقيت يومًا الشيخ يوسف النبهاني- رحمه الله- بباب من أبواب الحرم فسلّمت عليه فقال لي: سمعت آنفًا درسك في الشمائل، وأعجبني إنحازك باللوم على مؤلّفي السيَر في اعتنائهم بالشمائل النبوية البدنية، وتقصيرهم في الفضائل الروحية، وقد أجزتُك بكل مؤلّفاتي

_ 6) في الدولة الواحدة: في المَرَّة الواحدة.

ومروياتي وكل مالي من مقروء ومسموع من كل ما تضمّنه ثبتي ... إلخ. فقلت له: أنا شاب هاجرت لأستزيد علمًا وأستفيد من أمثالكم ما يكملني منه، وما أرى عملكم هذا إلا تزهيدًا لنا في العلم، وماذا يفيدني أن أروي مؤلفاتك وأنا لم أستفد منك مسألة من العلم؛ ولماذا لم تنصب نفسك لإفادة الطلّاب، فسكت، ولم يكن له- رحمه الله- درس في الحرم، وإنما سمعت من خادم له جَبَرْتي أنه يتلقّى عنه في حجرته درسًا في فقه الشافعية. وكان بعد ذلك يُؤثر محلي على ما بيننا من تفاوت كبير في السن، وتباين عظيم في الفكرة. رحم الله جميع من ذكرنا وألحقنا بهم لا فاتنين ولا مفتونين. أما أولئك السلف الأبرار فعنايتهم بالرواية والرجال راجعة كلها إلى الجرح والتعديل اللذين هما أساس الاطمئنان إلى الرواية، وقد تعبوا في ذلك واسترحنا، وما قولكم- دام فضلكم- لو فرضنا أنّ محدث القرن الرابع عشر ومسنده عبد الحي عُرض بعجره وبجره على أحمد بن حنبل، أو على يحيى بن معين، أو على عليّ بن المديني، أو على مَن بعدهم من نقّاد الرجال الذين كانوا يجرّحون بلحظة، ويُسقطون العدالة بغمزة في عقيدة، أو نبزة في سيرة، أو بغير ذلك مما يُعدّ في جنب عبد الحيّ حسنات وقُرُبات، فماذا نراهم يقولون فيه؛ وبماذا يحكمون عليه؟ خصوصًا إذا عاملوه بقاعدة (الجرح لا يُقبَل إلا مفسَّرًا). ... وبعد، "فقد أطال ثنائي طول لابسه" (7) فليعذرنا عبد الحيّ، ووالله ما بيننا وبينه تِرَة ولا حسيفة؛ ووالله ما في أنفسنا عليه حقد ولا ضغينة، ووالله لوددنا لو كان غير من كان، فكان لقومه لا عليهم، وإذًا لأفاد هذا الشمال بالكنوز النبوية التي يحفظ متونها، ونفع هذا الجيل الباحث الناهض المتطلعّ بخزانته العامرة، وكان روّاد داره تلامذة يتخرّجون، لا سيّاحًا يتفرّجون؛ وعلماء يتباحثون، لا عوام يتعابثون، ولكنه خرج عن طوره في نصر الضلال فخرجنا عن عادتنا من الصبر والأناة في نصر الحق، وجاء يؤلب طائفة من الأمّة على مصالح الأمّة، فهاج الأمّة كلها، وهاج معها هذا القلم الذي يمجّ السمام المنقع، فنفث هذه الجمل، وفي كل جملة حملة، وفي كل فقرة نقرة، فإن عاد بالتوبة، عدنا بالصفح؛ وان زاد في الحوبة، عدنا على هذا المتن بالشرح، ولعلّ هذا الأسبوع هو أبرك الأسابيع على الشيخ، فقد أملينا فيه مجالس في مناقبه جاءت في كتيّب، سميناه- بعد الوضع- "نشر الطيّ، من أعمال عبد الحي"، فإنْ تاب وأدناه، ووفينا له بما وعدناه، وإلا عممناه بالرواية، وأذنَّا لعبد الحي في روايته عنا للتبرّك واتصال السند، وهو أعلم الناس بجواز رواية الأكابر عن الأصاغر.

_ 7) شطر من بيت للمتنبي تمامه: إن الثناء على التنبال تنبال.

محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس

الرجال أعمال * محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس إماما النهضة العلمية في الشمال الإفريقي ــــــــــــــــــــــــــــــ البصائر ميزان حق، ولسان صدق، فهي تزن الرجال بأعمالهم الجليلة، ومواقفهم الشريفة، وتقوّمهم بالقيم الإيجابية، لا بالقيم بالسلبية، وهي تمدح المستحقين للمدح فلا تشين المدح بالغلوّ، وتذمّ المستأهلين للذم فلا تزين الذمّ بالكذب والاختلاق. و «البصائر» لا تأبه للصيت الطائر في المجامع، والاسم الدائر على الألسنة، والشهرة السائرة في الآفاق، ما لم يكن من ورائها أعمال نافعة تشهد، وآثار صالحة تُعهد، وثمرات طيّبة تُجنى. وقد صدّرت هذا العدد بصورة اثنين من رجال العلم والعمل بهذا الشمال الإفريقي، توافت شهرتهما وأعمالهما إلى غاية، وتسابقتا إلى أمد، فكان السبق للأعمال. وإذا كانت الشهرة قد تكذب، فإن الأعمال لا تكذب، وهي قائلة في كل واحد منهما كلمة، حظّ العمل فيها من التنويه أوفر من حظ العامل. ونحن حينما نذكر العمل لا نريد به المعنى القاصر في عرف الفقهاء، وإنما نريد منه هذه الأعمال العامّة النافعة التي فيها ما في النور والماء من غذاء وقوّة وحياة، وفيها ما في الدهر من استمرار وامتداد. رحم الله الميت، وبارك في عمر الحيّ، إلى أن تتكامل أعماله، وتتحقّق في إصلاح "الزيتونة" آمالنا وآماله.

_ * نُشرت في العدد 44 من جريدة «البصائر»، 26 جويلية سنة 1948.

- 1 -

- 1 - الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور علم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره، فهو إمام متبحّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال لها، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي، وتفرّد بالتوسّع والتجديد لفروع من العلم ضيّقها المنهاج الزيتوني، وأبلاها الركود الذهني، وأنزلتها الاعتبارات التقليدية دون منزلتها بمراحل: فأفاض عليها هذا الإمام من روحه وأسلوبه حياة وجدّة، وأشاع فيها مائية ورونقًا، حتى استرجعت بعض قيمتها في النفوس، ومنزلتها في الاعتبار. وبعيد جدًّا أن يبلغ الإصلاح في الكلية الزيتونية مبلغه قبل أن تقوم الدراسات العليا فيه على ساق، وقبل أن تنفق لها في عرصاته سوق، وقبل أن تشمل تلك الدراسات التفسير والحديث والأخلاق والأدب والتاريخ. هذه لمحات دالة- في الجملة- على منزلته العلمية، وخلاصتها أنه إمام في العلميات لا ينازع في إمامته أحد. وأما العمليات فلا نعدّ منها التدريس في جامع الزيتونة، وإنما نعدّ منها إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وقد اجتمعت في الأستاذ وسائله، وتكاملت أدواته، من عقل راجح لا يخيس وزنه، وبصيرة نافذة إلى ما وراء المظاهر الغرّارة، وفكر غوّاص على حقائق الأشياء، وذكاء تشفّ له الحُجب، واطلاع على تاريخنا العلمي في جميع أطواره، واستعداد قوي متمكّن للتجديد والإصلاح، ومن شأن هذه المواهب المتجمعة في أمثال الأستاذ أنها تكمن حتى تُظهرها الحاجة والضرورة؛ والحاجة إذا ألحّت كشفت عن رجل الساعة، وأخرجت القائم المنتظر، وقد وُجدت الحاجة إلى الإصلاح في كليتنا، فوُجد الرجل المدّخر، فكان الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور؛ وإن تدبير الأحوال الاجتماعية لأقوى وأبقى من تدبير الجماعات، وإن تدبير الجماعات لأثر من روح الاجتماع، وإن غفل الناس عن ذلك. تقلّد الأستاذ مشيخة الجامع للمرّة الأولى فدلّت المصائر على أن التدبير الاجتماعي لم يكمُل، وكان من الظواهر المحسوسة أنها وظيفة جديدة لم يطمئن موطنها، ولم يدمّث موطئها، ولم تهشّ لها النفوس المبتلاة بالتقليد، والمريضة بالمنافسة، خصوصًا وهي- في حقيقتها- نزع للسلطة من جماعة وحصرها في واحد؛ والخروج عن المألوفات العادية يراه المجدّدون وضعًا للإصر، وانطلاقًا من الأسر، ويراه الجامدون فسادًا في الأرض وشرطًا من أشراط الساعة.

ثم قُلّد الأستاذ مشيخة الجامع للمرّة الثانية، وكان الأمر قد استتبّ، والنفوس النافرة من التجديد قد اطمأنّت، والضرورة الداعية إلى الإصلاح قد رجحت؛ ومعنى ذلك كله أن التدبير الاجتماعي قد كمل، فخبّ الجواد في مضماره، وشعّ نور ذلك الاستعداد من ناره، وكان ما سرّ نفوس المصلحين من إصلاح وإن لم يبلغ مداه بعد. لم يرَ جامع الزيتونة في عهوده الأخيرة عهدًا أزهر من هذا العهد، ولم يرَ في الرجال المسيرين له رجلًا أقدر على الإصلاح، وأمدّ باعًا من شيخه الحالي، وإذا كان الإصلاح يسير ببطء فما الذنب ذنبه، وإنما الذنب لطبيعة الزمان والمكان، وضعف المقتضيات، وقوّة الموانع، وحسبه أنه حرّك الخامد، وزعزع الجامد، وأجال اليد المصلحة في الإدارة وفي كتب الدراسة وفي أشياء أخر؛ وتلك هي مبادئ الإصلاح التي ينبني عليها أساسه، وحسبه أيضًا أنه نبّه الأذهان إلى أنّ إصلاحات خير الدين كعهد الأمان، كلاهما لا يصلح لهذا الزمان. وشتّان ما زمنٌ كله ممهّد للاحتلال، وزمن كل ما فيه ينادي بالاستقلال. والحق أن في الجهاز التعليمي بجامع الزيتونة خللًا يحتاج إلى الإصلاح، وعللًا يجب أن تُزاح، ونقائص يجب أن تعالج، وتوافه من النظم يجب أن تُلغى؛ وكلها بقايا من إصلاحات خير الدين، لم تعد تصلح لخير العلم ولا لخير الدين. فإذا اطمأن بعض أصدقائنا وإخواننا من علماء الزيتونة إلى بقاء ما كان على ما كان، فليعلموا أن وراءَنا من الزمن سائقًا عنيفًا حُطَمَة، يستحثّ البِطاء، ولا يغضّ من أعنّة العجال، وأنّ بين أيدينا ودائع من شباب متطلعّ إلى الكمال، توّاق إلى السبق، حريص على دقائق عمره أن تُنفق إلا فيما يَنْفُق. وهو يريد أن يكون كزمنه وأبناء زمنه، وزمنه ثلاثة: جدّ واتقان ونظام. وأبناءُ زمنه أحالهم العلم عقبان جوّ، وغيلان دوّ. وفرضت عليهم الحياة أن يأخذوا الكثير من العلم، في القليل من الوقت، وأرتهم مصداق ذلك حتى لا يرتاب مرتاب. وليعلموا أن خصوم الإسلام في ازدياد، وأن سير الإلحاد في اطّراد، وأن العلوم الغربية زاحمت العلوم الإسلامية على نفوس شبابنا فافتتنوا، وأن ضرائر العربية من اللغات الأوروبية يتبرّجن تبرّج الجاهلية الثانية، وقد زاحمنها على ألسنة شبابنا فافتتنوا، وأن التعليم في كلياتنا المشهورة بوضعه الحالي لا يكفُل لنا سدّ أبواب هذه الفتن. ... ولا أكذب الله، ولا أحاجي عباده، فقد أخرجت الزيتونة طرازًا من الرجال لو لم تفتنهم الوظائف المحدودة لأتوا في الإصلاح الدينى والدنيوي بالعجب، وما زالت هذه الوظائف المقيّدة قيدًا للنبوغ، بل مدفنًا للعبقرية، تنزل المواهب منها بدار مضيعة؛ وكم من عبقرية

أطفأ شعلتها التشوّف إلى الوظيفة قبل الوصول إليها، لأن ذلك التشوّف يدور بصاحبه في الدائرة الضيّقة التي توصّل إليها، لا في الدائرة الواسعة التي يُشرف منها على آفاق العلم وعوالمه، فما أشام الوظيفة على العلم، وما أضرّ ذلك العرف السائد في تونس بالنبوغ، وهو توارث الوظائف الدينية والشرعية في بيوت مخصوصة، حتى أصبح أبناءُ تلك البيوت يتطلّعون من أول العهد بالطلب إلى الوظائف التي يشغلها ذووهم، كأنها وقف عليهم، أو حق مفروض لهم، وإن ذلك وحده لمشغلة عن طلب الغايات في العلم. ... إن الإصلاح المرجوّ لجامع الزيتونة لا يبلغ مداه إلا إذا توفّرت فيه ثلاثة شروط: الاستقلال والمال والرجال. أما الاستقلال- وهو أهم الشروط- فهو أن تصبح الكلية الزيتونية بمنجاة من التسلّط الحكومي كيفما كان لونه، بعيدةً عن المؤثّرات السياسية والتيارات الحزبية، مثبتةً وجودها الذاتي بأنها تؤثّر ولا تتأثّر؛ فمن حاول إخضاعها لنزعة حكومية، أو جرّها لمذهب سياسي، أو توجيهها لوجهة حزبية، فهو مفسد خبيث الدخلة. وأما المال فإن الإصلاحات تتطلب أموالًا طائلة، ونفقات سخية، ومهما تبذل الحكومة من الخزينة العامة فإن ذلك لا يكفي ولا يُغني، على ما فيه من آفات، فإن الحكومات لا تعطي بدون أخذ، وبدون أن تتّخذ من العطاء وليجةً للتدخّل ومقادة للمسيرين، ودرَّ درُّ الأوقاف الإسلامية لو لم يفسدها سوء الإدارة وتسلّط الاستعمار، إن الكليات حتى في أغنى أمم العالم لا تقوم على مال الحكومة المحدود وحده، وإنما تقوم على عطاء الكرماء وبذل المحسنين، فهل آن لأمّتنا أن تعلم هذا فتعمل به؟ وأما الرجال فإن في الزيتونة رجالًا لو تعاونوا وسلموا من داء المنافسة على الرياسة لحقّقوا الآمال في الإصلاح، ولعجّلوا به، وقد كانوا ينتظرون القائد الحازم فقد وجدوه. ... إن الإصلاح المنشود للزيتونة لا يتمّ إلا في جوّ بعيد عن القصر ووساوسه، وعن الهيكل الوزاري ودسائسه، وعن الاستعمار ومكائده ومصائده. وإن الزيتونة لا تتبوّأ مكانها الرفيع إلا بواسطة جهاز داخلي متماسك الأجزاء من علمائها، يؤُمّهم إمام مدرّب محنّك فقيه في المذاهب الإدارية، مجتهد في أصولها.

- 2 -

وإن ذلك الإمام المدرّب الفقيه المجتهد الجامع لشروط الإمامة في هذا الباب لهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. إن الذين يُثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثير لمجرمون. وإنا- إن شاء الله- للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحي لمؤيّدون وناصرون. - 2 - باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر؛ وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وامام الحركة السلفية؛ ومنشئ مجلة "الشهاب" مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربّي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدْي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومُحيي دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسّر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقّن مباديها، علم البيان، وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأوّل مؤسّس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضي عنه. وحسبُ ابن باديس من المجد التاريخي هذه الأعمال التي أجملناها في ترجمته؛ وإنّ كل واحد منها لأصل لفروع، وفصل من كتاب، وإذا كان الرجال أعمالًا فإن رجولة أخينا عبد الحميد تقوَّم بهذه الأعمال. وحسبُه من المجد التاريخي أنه أحيا أمّةً تعاقبت عليها الأحداث والغير، ودينًا لابسته المحدَثات والبدع، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطّى عليه النسيان، ومجدًا أضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب. وحسبه من المجد التاريخي أن تلامذته اليوم هم جنود النهضة العلمية، وهم ألسنتها الخاطبة، وأقلامها الكاتبة، وهم حاملو ألويتها، وأن آراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي هي الدستور القائم بين العلماء والمفكّرين والسياسيين، وهي المنارة التي يهتدي بها العاملون، وأن بناءَه في الوطنية الإسلامية هو البناء الذي لا يتداعى ولا ينهار. وحسبه من المجد التاريخي أنّ إخوانه الذين حملوا معه معظم الأمانة في حياته، اضطلعوا بحملها كاملة بعد وفاته، في أيام أشدّ تجهّمًا من أيامه، وفي هزاهز ما كان يتخيّلها حتى في أحلامه، فما وهنوا ولا هانوا، ولا ضعفوا ولا استكانوا. وأنهم استُخلفوا على النهضة فكانوا نعم الخلف، تمّموا وعمّموا، وأجمعوا وصمّموا.

وأنهم وفوا له ميتًا كما وَفَوْا له حيًّا. واعتزُّوا باسمه بعد مماته، كما كان يعتزّ بهم في حياته. فقد كان- رحمه الله- على جرأته وبديهته وبيانه وشجاعته- ربما تُدركه الفترة في الرأي في المواقف الحرجة فيلتفت فيرى إخوانه إلى جنبه فيندفع كأنما مسّته كهرباء، وكأنه الأتِيُّ المنهمر، فلا يبقي ولا يذر. ... ومن غرائب هذه العصابة التي كان ابن باديس شارة شرفها، وطغرى عزّها، أن الشيطان لم يجد منفذًا يدخل منه إلى أخوّتهم فيفسدها، أو إلى علائقهم فيفصمها، أو إلى محبتهم بعضهم لبعض فينفث فيها الدخل، فعاشوا ما عاشوا متآخين كأمتن ما يكون التآخي، متحابين كأقوى ما تكون المحبة؛ ولقد كانوا مشتركين في أعمال عظيمة، معرّضين لعواقب وخيمة. ومن شأن ما يكون كذلك أن تختلف فيه وجوه الرأي وتتشعّب مسالكه، فيكثر فيها اللجاج المفضي إلى الضغينة، والانتصار للرأي المفضي إلى الخلاف، خصوصًا إذا اشتجرت الآراء في مزلقة الاستعمار التي يرصدها لنا؛ فوالذي روحي بيده ما كنا نجتمع في المواقف الخطيرة إلا كنفس واحدة، وما كنا نفترق- وإن اختلف الرأي- إلا كنفس واحدة. وإني لا أجد لفظًا يؤدّي هذه الحالة فينا إلا لفظة "إخوان الصفاء". فلقد- والله- كنا إخوان صفاء، وما زلنا إخوان صفاء، وسنبقى إخوان صفاء، حتى نجتمع عند الله راضين مرضيين إن شاء الله. إن لهذه الحالة فينا علّة وثمرة: أما العفة فهي أن اجتماعنا كان لله ولنصر دين الله ولتأدية حق الله في عباده، دأبنا في ذلك التعاون على الخير، والاستباق إلى الخير، فلا مجال للمنافسة وحظ النفس. وأما الثمرة فهي هذا النجاح الباهر الذي نلقاه في كل أعمالنا للأمّة، في تطهير العقول، وفي تصحيح العقائد، وفي استجابة داعي القرآن، وفي تمكين سلطان السنّة، وفي صدق التوجه إلى العلم، وفي تشييد المدارس، وفي كثرة الإقبال عليها والبذل لها، وفي كل معالجة بيننا وبين الأمّة. إن هذا من صنع الله لا مما تصوغه الأهواء النفسية الخبيثة، وما جمعته يد الله لا تفرّقه يد الشيطان. ... ما زلت آسَى على شيء كلّما ذكرته، وأجد له في نفسي حرارةً ومضضًا، وهو أن تستأثر الجزائر وحدها بتلك المجموعة الباديسية من فكر ثاقب، ورأي أصيل، وعلم غزير، ولسان

مبين، وأن لا يكون لبقية الأقطار الإسلامية منها حظ؛ وكم كنت أتمنّى لو يقوم برحلة في أطراف العالم الإسلامي داعيًا إلى الله، وإلى الاجتماع على كتاب الله، وكنت نازعته الحديث في هذا مرّات، وقلت له: إن من النقص أن تقضي طول عمرك مدرّسًا لهذه الكتب وهذه القواعد، في طائفة من الطلّاب؛ فإن زدت فمحاضرًا في الجموع، وأن يبقى هذا العلم محصورًا في الجزائر، وكان من حبه- رحمه الله- لتلامذته وشغفه بتربيتهم أنه يتولّى بنفسه دراسة الكتب العالية طوال السنة، إلا في الجولات المحدودة للوعظ والإرشاد، أو لاجتماعات الجمعيات، فكان يحيل الأمر إليّ تنضلًا. ويقول لي: أنت أعرف بالشرق، وألين عريكة مني (وهذه عبارته بحروفها). وكنا نتفق على الأصل ونسوّف ونسوّف إلى أن فرّق الموت بيننا. هذه بعض أعمال الرجل العظيم الذي مات فورثت أسرته جثمانه فأقامت له مشهدًا، وورثنا نحن أعماله فأقمنا له معهدًا، وعسى الله أن يوفق أسرته إلى وقف مكتبته على معهده ليعمّ النفع بها كما عمّ النفع بعلمه، وليحيا ذكره بهما معًا، وليس بالكثير في حقّ من وقف حياته الغالية على الأمّة، أن توقف مكتبته الرخيصة على الأمّة.

دمعة على المنصف

دمعة على المنصف * يعزّ على هذا القلم الذي لا يكاد يجف مداده، ولا تنقطع من القريحة أمداده، أن تصاب تونس العزيزة في مناط أملها، بل في نياط قلبها، فلا يُسمع له جرس، ولا يصرّ بكلمة على طرس. يعزّ على هذا القلم الذي براه الباري لينضح العسل المصفّى للمقسطين، وينطف الصاب والحنظل للقاسطين، ويرسل الحُمم مدرارًا على المستعمرين، أن تنتهي مظلمة المنصف إلى غايتها الشنعاء من موت الغربة، ومهانة الأسر، وتعنّت الاستعمار، فلا يشنّها شعواء على التعنّت والمتعنتين. يعزّ على هذا القلم الذي شدَّ الحق أزره، وسدّد المنطق رمايته، أن يموت المنصف غريبًا، مظلومًا، مسلوب التاج، فلا ينفث كلمة تبعث الشجى وتثير الشجن وتحلّ عقدة الرواية. يعزّ على هذا القلم أن يصرخ الناعي لموت المنصف فلا يجري، وأن يثوّب الداعي بمري الشؤون فلا يمري، وأن تطير نفس تونس الولهانة شعاعًا فلا يتقسّم شظايا، وأن يجب حق الجار فلا يكون أولَ الناهضين بفرضه. يعزّ على هذا القلم أن تقف به الأقدار موقفَ السيف من يد الجبان، وأن يقعد من ورائه كلالُ الذهن، وجمود القريحة، وفتور الأعصاب حائلات بينه وبين القيام بالواجب.

_ * نشرت في العدد 49 من جريدة «البصائر»، 13 سبتمبر سنة 1949.

لو مات المُنصف بالأغواط (1)، لطافت الجزائر بجثمانه عدة أشواط، ولذهبت فيه مذهب العرب في "ذات أنواط"، ولغسلته بالعبرات المسفوحة، وكفّنته بألفاف القلوب، ودفنته في مستقرّ العقيدة والواجب من نفوسها. ولو مات "بتَنَس" لتاهت فخرًا على الثغور، وباهت بيوم موته أيامها في غابرات العصور، ومحت بهذه المنقبة جميع ما وسمها به الشعراء من شين، ووصموها به من نقص. ولو مات بأية بقعة من أرض الجزائر لكانت هي تونس نضرة واخضرارًا، ولاكْتسبت الجزائر بجميع أقطارها شرفًا ممن مات ميتة الشرف فيها، ولقبست معاني عالية من الفداء والتضحية بعُد عهدُها، ولفغمتها نفحة ساطعة من عزّ الإمارة حُرمتها الأنوف الشمّ من أبنائها منذ أيام عبد القادر، ولتسمَّعت نغمةً ساحرة عطلت آذانها منها من عهد عهيد. إي والله، لو مات المنصف في الجزائر لمات في وطنه، وبين أهله، وفي أمة وفية متعطشّة للعزّ والسيادة، مستشرفة إلى حيث تنقطع علائق الطموح، لا يقل تقديرها للعظماء أمثال الفقيد عن تقدير أختها تونس لهم، ولا يقصر فهمها لمعاني العظمة في الرجال عن فهم أختها تونس لها، ولكنه مات بـ"بو"، في دار غير داره ووطن غير وطنه وناس غير ناسه، لم يستنشق مع حشرجة الموت نفسًا من أنفاس وطنه العزيز، الذي لقي الأذى في سبيله، إلى أن مات في سبيله، ولم يكتحل عند إغماضة الموت بمنظر من تلك المناظر التي كانت هوى قلبه، وشغل خواطره، وصبابة نفسه، ولم يتجرّع مع غصة الموت نطفة من ذلك الماء الذي كان يحمي حوضَه، وبُحرّم على المكدرين خوضه. وما زالت الموارد للحتوف موارد، وما زالت الدنايا تُحلي المنايا! وما زالت الأوطان محتاجةً إلى هذا النوع السامي من الهمم والعزائم، وإلى هذا الطراز العالي من الرجال، وإلى هذا النوع اللطيف من أنواع الموت! وإلى هذه الدماء الزكية التي تثعب حمراء كالحرية، نقيّة كعقيدة الحق، تجري فتكتسحُ ما في نفوس الأمم من خور وفسولة. إن موت العظماء حياة لأممهم، فإن كانت في الغربة زادت جلالًا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالًا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالًا وجمالًا، فإن صحبها سلب العز والملك كانت حلية وكمالًا، وكل ذلك اجتمع في موت المنصف. مات نابليون غريبًا في جزيرة القديسة "هيلانة"، ونابليون ممن زادوا في تاريخ فرنسا

_ 1) الأغواط واحة جميلة في الجنوب الجزائري، اختارتها فرنسا منفى للمنصف، ثم نقلته منها إلى مدينة "تنس" الواقعة على شاطئ البحر غربي مدينة الجزائر، ثم نقلته إلى قرية "بو" بالجنوب الغربي لفرنسا.

صحائف بيضاء، وفي مجدها الحربي أساطين رفيعة، فما كانت موتته الغريبة ثلمة في فرنسا، لأنه مات وفرنسا بيد الفرنسيين. ومات عبد الحميد أسيرًا في سجنه- وعبد الحميد أكثر أسماء الخلفاء سيرورةً على الأفواه- فما بكت عليه سماء ولا أرض، لأنه مات وتركيا بيد الأتراك. ومات غيرهما من الملوك والعظماء في غربة وظلم، فكان من ورائهم ما يخفّف الفجيعة فيهم، ويلأم ببعض العزاء ما تصدع بموتهم. ولكن ... ولكن موت المنصف في قرية نائية من قرى فرنسا- غريبًا عن وطنه وأمّته، مظلومًا في عرشه وملكه، مسلوب التاج، مخفور الذمام- مصيبة يزيد في معناها الشنيع معنى، وهو: أنه مات وتونس ليست للتونسيين!! وأنه مات وتونس ليست طليقة، وهي بالانطلاق خليقة! ... عزاء للوطن المفجوع فيك يا منصف، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك- وما أكثرها- يا منصف! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيبَ ذكر، وعند ربّك ثمين ذخر، وهيهات أن تجزيك الجوازي من هذه الأمة التي نهجت لها نهج الكرامة، وشرعت لها سنن التضحية، ولقّنتها هذا الدرس السامي من الثبات والإباء والشمم، وعلّمتها كيف تموت الأسود جوعًا وظمأً، ولا تطعم الأذى، ولا ترد القذى. ... جهد المقلّ يا منصف! ونظار حتى يعاود النشاط هذا القلم، وينحسر الركود عن هذه القريحة، وتنجلي غمرة الأسى، فيتوافى القلم والقريحة على تجلية العبر، من سيرة ليست كالسير.

إلى الزاهري

إلى الزاهري * كتبتَ - أيها الشيخ- كثيرًا من الباطل، وسنكتب قليلًا من الحق، ولكنّ قليلنا لا يقال له قليل، ولو كنتَ وحدك ... تكتب بقلمك، وتقول بلسانك، وتعبّر عن فكرك، لأوليناك جانب الإهمال، وسكتنا عنك طول العمر كما سكتنا عنك في ماضيك القريب، وفي ماضيك البعيد احتقارًا لشأنك، واستهانة بما أهان الله منك، وربّما عذرناك في مجانبتك للصدق بأنك لا تعرفه، وإنما يؤاخذ الإنسان بترك ما عرف، وربّما أثنينا عليك بالوفاء للصاحب الذي صاحبك منذ عققت التمائم، وهو الكذب، وباستقامتك على الجبلة التي جُبلت عليها، وهي الشر، وبالموهبة التي خُصصت بها، وهي البراعة في قلب الحقائق، وربّما رحمناك من هذه النار التي تصلاها، وهي نار الحقد. ومعذرة ... فإن من الميسور أن نُطفئ النار ذات الوقود، وليس من الممكن أن نُطفئ الحقد من صدر الحقود. وهنيئًا لك هذا الذوق اللطيف في أخذك بأحد بيتي ابن الرومي في الحقد، وهي قوله: وما الحقد إلا توأمُ الشكر في الفتى … وبعضُ السجايا ينتمين إلى بعض وتركُك للبيت الثاني وهو قوله: فحيث تَرى حقدًا على ذي إساءة … فثم تَرى شكرًا على أحسن القرض فلم تقصر حقدك على من أساء إليك، ولم تشكُر من أقرضك القرض الحسن، واسترحت من حيث تعب الكرام. وإذا فهمنا مذهب ابن الرومي كما فهمته، فكل هذه الخصال البارزة فيك فضائل، وآمنَّا وسلَّمنا وقلنا: سبحان المنعم الوهّاب.

_ * نشرت في العدد 61 من جريدة «البصائر»، 27 ديسمبر سنة 1948.

ولكن شأننا اليوم مع هذا الشبح الذي تختفي وراءه حينًا، ويختفي وراءك حينًا آخر، فقد تشابهتما وتشاكل الأمر. وقد انعقد بينكما نوع غريب من الحلول، لم يُعرف في جاهلية ولا إسلام. فأنت تتكلم باسمه، ولستَ إياه. وهو يتكلم باسمك، وليس إياك. ليجد كل واحد منكما في صاحبه ملتحدًا يدفع عنه المسؤولية، ويحمل عنه التبعة احتيالًا ومكر السيئ، ثم تبوءان بالسلامة معًا. إننا إن أخذنا بمذهب الفقهاء عاملناك بما قالوه في المتسبّب في الجريمة والمباشر لها. وإن أخذنا بمذهب الأدباء، عاملناك بما تُسلمه معنا، وهو أن قائل الشر هو الشاعر الإنسي، لا رئيّه الجنيّ. ولا والله لا نبرح هذه المرة حتى نهدم الصومعة على رأس الراهب. فإن بيت الله- في جلاله- لا يجير عاصيًا ولا فارًّا بخَرْبة، وما كانت صومعتكم بيت الله، ولا كان راهبكم أبا عزّة في قومه ... أفتظن- يا شيخ- أنك استعذت من هذا الشبح بمعاذ؟ أم يظن هذا الشبح أنه تقلَّد من قلمك سيفًا من فولاذ؟ وما هو إلا سيف أبي حية، ولو سمّيته- كما سمّاه- لعاب المنية. إنك وذلك الشبح تعيشان في بقيّة من التقية. ولو كنتما صريحين لقلتما لنا ما هو الحق: أأنت مدير أم مُدار؟ وأنت المكتري أم صاحب الدار؟ ولبيَّنَ لنا ذلك الشبح منزلتك عنده: أأنت عبد مأمور، كما يقول بعض الناس؟ أم أنت عامل مأجور، كما يقول آخرون؟ ... إن أرذلَ الرجال، من يتطرف إليه مثلُ هذا الاحتمال؛ أما الحقيقة فهي أنكما شَرِيكَان في جريمة السب والكذب وقلب الحقائق: منك الألفاظ لمكانك في الكتابة، ومنهم المعاني لمنزلتهم في الأمية والتعجرف. أمّا تلك الأسماء، التي تُنعِل بها بعض كلماتك، فاغرُرْ بهما من لا يعرفك ولا يعرفها ... إننا لم ننسَ يوم كنت تنسب مقالاتك في "الوفاق" إلى الأستاذ "بوشاقور" والأستاذ "بوشنتوف" والناس كلهم يعرفون من هما، وما هي دركتهما في الأمية. ولو صحّ فألك واشتق من الكاتب الواحد كُتّاب، كما اشتقّ من اللفظ ألفاظ، لامتلأت الجزائر بالأساتذة والكتّاب؛ ولكذبت الإحصاءات الرسمية في عدد الكاتبين والأميين بهذا القطر؛ ورحم الله أهل الحياء. وأما قول أحد أسيادك في تصريح له بجريدة "الأسبوع": "إن جريدة الزاهري تناصر حركتنا" فهو سبّة لك ولحركته معًا. ولولا أن تقول- كعادتك- إن هذه وشاية بين متحابين، لشرحنا لك المنطوق من تلك الكلمة والمفهوم. ونحن نتمنّى لكما دوام الألفة والمحبة، وندعو لكما بذلك؛ وإن كانت أمنية لمحال، ودعاءً في ضلال، فما عهدناك تصبر على طعام واحد، وما عهدنا أسيادك يسقون الشجرة بعد جَنْي الثمرة.

إن أسيادك- يا شيخ- بارعون في استغلال المواهب والكفاءات والاختصاصات. ولو كنت من أصحاب المبادئ الثابتة لما صحبوك ساعةً من نهار. ولكنهم يستغلّون- إلى حين- اختصاصك في السب والكذب والبهت. وتستغلّ أنت- إلى حين- جندَهم المسخّر لبيع "المغرب العربي" (وما أكثر باعة المغرب العربيّ فيهم)، ولعلّك أعجبك منهم أنهم قوم محظوظون في الزعامة، فطمعت أن تصبح زعيمًا بالمجاورة أو التوهّم كما قالوا في "جحر ضب خرب"، وفاتك أنّ شروط الزعامة عندهم أربعة، وأنت لا تملك منها إلا واحدة ... ... قد كان يَسعُنا أيها الشيخ أن نعمر سنتنا بالأعمال، وتعمرون سنتكم بالأقوال، فإذا جاء رأس السنة وحلّ وقت الحصاد، قلنا: هذه أعمالنا، وقلتم: هذه أقوالنا، وعرضنا البضاعتين على الأمة لتنظر وتحكم أيتهما أزكى طعامًا، وأعظم عائدة، ثم قلنا لكم: سلام عليكم، وكل عام وأنتم سبّابون عيّابون كذّابون، ورجع كل منا إلى ما يُسر له، وكان يسعنا أن نبدأ من هذه السنة فنعفيكم من السنوات الماضية من تاريخكم التي هي سنوات مغسولة، لا نقطة فيها ولا حرف. وإذا وُضِعت الأعمال في كفة والأقوال في كفة، وهبط الثقيل وارتفع الخفيف، علّل الفارغون أنفسهم بأن ارتفاع الفارغ ارتفاع، وقد شهد الناس بأنه ارتفاع، وكفى. أهذا هو المنطق أيها القوم؟ كان يسعنا هذا، وكان مما ركب في طباعنا هذا، ولأجله سكتنا على تحرشكم المستمرّ سنوات، وفي استطاعتنا أن نسكتَ سنوات أخرى لو أنكم اقتصرتم على السب والكذب اللذين يهدمان صاحبهما قبل أن يهدم بهما الناس، ولكنكم أقمتم لنا الدلائل من أقوالكم وأعمالكم على أنكم تحاربون العلم والدين بسبّ العلماء، وتحاربون التعليم بإفساد المعلمين وأنكم تصدُرون في ذلك عن عمد وإصرار. وأن لكم خطةً مرسومة في الاستيلاء على جميع المشاريع بقصد إفسادها وتعطيلها لأنكم لا تحسنون تسييرها. كل ذلك ليخلو لكم وجه الأمة، وتحلو لكم أموالها، وإن هذه المقاصد منكم لم تبقَ خافيةً حتى على الصبيان. إنكم أصبحتم كأصنام البابليين التي قال فيها إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، ولو كان إضلالًا في السياسة لهان الأمر ولكنكم جاوزتم إلى ميادين ليست من اختصاصكم، وتقحَّمتم في مسالك لا تحسنون السير فيها، وافتضحت نيّاتكم المبيتة فاحوجتمونا إلى هذا، وإنكم لتعلمون أن فتح هذا الباب لا يعود بالخير علينا ولا عليكم، ولا على الوطن الذي أكثرتم في التدجيل على الأمة باسمه. ومن لنا بالدليل على أنكم مخيَّرون لا مسيّرون؟ ***

ويحك- يا شيخ- وويح أسيادك. أكلّ هذا الجهد الذي تبذلونه في حرب جمعية العلماء، معدود عندكم من خدمة الوطن؟ أكل هذا الاسم الواسع الذي انتحلتموه لجريدتكم لم يتّسع إلا للتحرّش بجمعية العلماء والتعريض بها وبرجالها؟ إن "المغرب العربي" محتاج إلى غير هذا، وإن كلَّ جزء من أجزائه في حاجة شديدة إلى جمعية كجمعية العلماء ورجال كرجالها، فإذا طوّعت لكم أنفسكم أن تكونوا سبةً على هذا الجزء من المغرب، فلا تكونوا سبةً على بقية الأجزاء، ونزِّلوا أنفسكم منزلة ذلك الذي كان يحلف بالقرآن وهو لا يحفظ إلا ربعه، فقال له قائل: "احلف بربعك" ... أم تظنون أن سكّان المغربين، الأقصى والأدنى، يصدقونكم إذا قلتم: إن جمعية العلماء تخدم الاستعمار؟ أتظنونهم يتركون يقينهم لافترائكم؟ وهم يكادون يطيرون إعجابًا بأعمالها وحملاتها الصادقة على الاستعمار. ويحك وويح أسيادك ... فارقتم الحياء فراق الأبد، فتحالفتم مع الاستعمار على حرب جمعية العلماء، وركبتم كل عظيمة من المباهتة وقلب الحقائق وإلصاق كل نقيصة فيكم بنا، فهل أمنتم منا أن نجاريكم فنخلع الحياء شهرًا من السنة أو يومًا من الشهر أو ساعة من اليوم فنرميكم بأحجاركم؟ لقد كنتم تسبوننا بألسنتكم في المقاهي ومجالس السوء، وتلقّنون صبيانكم سبّنا، حتى أصبحت أفواههم مستنقعات ... فلم يُقنعكم ذلك لأنه سبٌّ بالمجان، فارتقيتم إلى سبّنا بالكتابة لتّتخذوا منها سلعةً للبيع، ووسيلة لجمع المال. وتضيفوا إلى الهلال الأحمر هلالًا أسود ... ومن الغريب المضحك أنكم تعتمدون في بيع السب على السب، فقد شهد العقلاء أن تسعة أعشار جريدتكم لا تُباع إلا بالسب والتخويف والتهديد وما يُشبه الإكراه، وأن العشر العاشر فقط يباع بالتغليط والتضليل (وعلى النيف) (1). إن هذه لحقيقة لا تستطيعون إنكارها وتكذيبها إلا بالعمل. ولو فعلتم وتركتم بيعها للرغبة والاختيار- كما تباع الجرائد- لأفلست في أسبوع، فجرّبوا إن كنتم منصفين. أيها القوم: إن الوطن الذي تتوقّف خدمته على بيع السب والكذب لوطن مخذول سلفًا؛ وإن الحزب الذي يريد أن يكملَ بتنقيص غيره لحزب ناقص أبدًا، وإن السياسة التي تغذّى بمثل هذه المطاعم لسياسة ميتة ... بالجوع. ...

_ 1) وعلى النِّيفْ: النِّيف هو الأنف، أي حَمِيَّة.

أتذكر- يا شيخ- ماضيك الصحافي، وصحائفك الماضية التي تهاوت في مثل عمر الزهر، من "الجزائر"، إلى "البرق"، إلى "الوفاق"، وقد ماتت كلها بالهزال والتسمّم. ولو كانت مما ينفع الناس لمكثت في الأرض، فاحتفظ بما بقي من أعدادها، فسيحتاج الناس إلى ما فيها يوم ينكس الله طباعهم، ويطمس على بصائرهم، فيصبح السب والكذب عندهم من الفنون الجميلة، فيشيدون المعاهد العالية لتعلّمها، ويقتبسون النماذج الرفيعة من تلك الجرائد. أتذكُر يوم ضاقت بك الحيل فعرضت همّتك وذمّتك وقلمك في المزاد العلني فكنّا أزهد المشترين فيك؟ كن شريفًا ولو لحظة من عمرك واعترف بهذه الحقيقة. ألم ننصحك نصيحة لو أحيا الله أبويك لما نصحاك بمثلها؟ ولكنها ضاعت كما تضيع المِنّة عند غير شاكر. ألم تفترص الفرصة حين خاطبناك في صندوق الحروف الذي تملكه لنطبع به «البصائر»، بالبيع أو بالكراء، فأخذت منّا عشرة آلاف فرنك لتفكّ بها رهن الصندوق من الطابع الإسباني، وكنت عاجزًا عن فكّه بستة آلاف فرنك؟ فلما حصلت عليه اشتططت وشرطت قرض مائتي ألف فرنك في مقابلة كراء الحروف، فلما يئست منا عرضت نفسك على دكتوريْن لهما ماضٍ عريق في خيانة الوطن لتخدم ركابهما وتزكيهما في الخيانة، في مقابل قناطير من الورق منَّياك بها، فلما لمناك على ذلك قلت لنا بالحرف: "ما نكذبش عليكم، أنا نتبع مصلحتي المادية حيثما كانت" والجملة الأولى هي لازمتك المعروفة عند جميع الناس، وهي لازمة كل كذّاب، إذ لا يكثر من نفي الشيء إلا المتّصف به، ثم كنت متشوّفًا إلى خدمة مَن تُسمّيهم اليوم باللائكيين، ولو أعاروك التفاتة، أو أشاروا إليك بغمزة، لكنت اليوم من عبيدهم المطيعين، ولكانت اللائكية، في نظرك ملائكية، ثم عرّجت على الشيوعيين، ولهم معك ماضٍ معروف، فوجدتهم أيقاظًا، ذاكرين لذلك العهد، مثنين عليك بمثل ريح الجورب، ولوآنستَ في ذلك العهد من جانب الطرُقيّة نارًا، لقلت في غير تردّد: إني أجد على هذه النار هدى. ثم وقع بك الحظ على هؤلاء القوم أو وقع بهم عليك، وهم لم ينسوا ماضيك معهم، وإنما يتناسونه لأمر ستنجلي عنه الغيابة، يوم ينكفئ القدر بما فيه من صبابة. فهل فكّرت بعد هذه الأطوار أن تستقلّ بجريدة لا تناصر بها حركة ولا سكونًا، ولا تعتمد فيها على شخص ولا على حزب؟ وهيهات ... إننا نقامرك - مع الأسف- بما شئت من المال الذي تتحلّب شفتاك شوقًا إليه، وتحسدنا على جمعه وتفريقه، وتتساءل في حيرة المشتاق: أين يذهب هذا المال؟ نقامرُك على أن تصدر جريدة ليس عليها إلا اسمك ووسمك، وليس لها اعتماد إلا على قيمتك الشخصية وسمعتك الاجتماعية، فإن راجت المائة الأولى من العدد الأول قمنا لك بالشرط وإن ثقل، وبؤت بفائدتين: المال ومعرفة أين ذهب بعض المال.

أيها الشيخ: "إن البلاء موكل بالنطق"، وإن من قال كل ما يُحبّ، سمع بعض ما يكره. وإن من اشتغل بالناس، يوشك أن يشغله الناس عن نفسه. وإنك ستتجنّى وتتّهم وتتعنّت وتذهب في التأويل كل مذهب، ولكنَّك لا تأتي بشيء جديد، فكل ما تقوله غدًا قد قلته أمس مكررًا ومعادًا، وأنت امرؤ بادي المقاتل لخصومك، بادي الهنات لأصدقائك، ومن كان مثلك لم يَضر عدوًّا، ولم يسرّ صديقًا. هذا بعض حقّك علينا أدّيناه معذورين، أما حقُّ أصحابك فسنؤدّيه معذورين ومشكورين.

الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار

من نفحات الشرق الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار * ــــــــــــــــــــــــــــــ علم من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة السلفية الحقّة، دقيق الفهم لأسرار الكتاب والسنّة، واسع الاطّلاع على آراء المفسّرين والمحدثين، سديد البحث في تلك الآراء، أصوليّ النزعة في الموازنة والترجيح بينها، ثم له- بعدُ- رأيه الخاص. يوافق ما يوافق عن دليل، ويخالف ما يخالف إلى صواب، لأنه مستكمل للأدوات المؤهلة لذلك، ولأنه يفهم القرآن على أنه أصل ترجع إليه الآراء والمذاهب والفهوم، وأنه كتاب الكون، ودستور الإنسانية، لا كما يفهمه كثير ممن كتبوا في التفسير. فجرّدوا أقلامهم لتسطير أفهام غيرهم، وجرّدوا القرآن من خصائصه العليا، وقيّدوا هدايته العامة بمذاهبهم الخاصّة. والأستاذ البيطار مجموعة فضائل، ما شئت أن تراه في عالم مسلم من خُلق فاضل إلا رأيته فيه، مجاوز للحدود المذهبية والإقليمية، يزِن هذه المذاهب الشائعة بآثارها في الأمة، لا بأقدار الأئمة، ويعطي كُلًّا ما يستحق، جريء على قولة الحق في العلميات، ولكن الجرأة منه يلطفها الوقار، والوقار فيه تزيّنه الجرأة، فيأتي من ذلك مزاج خُلقي لطيف، متساوي الأجزاء، مُلتحم الخلايا، قل أن تجده في أحد من علمائنا المعدودين. والأستاذ البيطار مفكّر عميق التفكير، وخصوصًا في أحوال المسلمين، بصير بعللهم وأدوائهم، طَبٌّ بعلاجهم ودوائهم؛ يرى أن ذهاب ربحهم من ذهاب أخلاقهم، وأن معظم بلائهم آتٍ من كبرائهم وأمرائهم وعلمائهم، وهو يعني كبراء الدعوى، وأمراء السوء، وعلماء التقليد. يرجع في ذلك كله إلى استقلال في الفهم والاستدلال، ومقارنات في التاريخ والاجتماع، وتطبيقات مصيبة للحقائق الدينية على السنن الكونية، وله في الإصلاح الديني سلف صدق، حقّقوه علمًا، وطبّقوه عملًا. يعتمد في تحصيله وتربيته على طودَيْن شامخين من أطواد

_ * نشرت في العدد 64 من جريدة «البصائر»، 24 جانفي سنة 1949.

بدء معرفتي به

العلم والعمل: أحدهما الإمام عبد الرازق البيطار، والثاني الإمام المحدّث جمال الدين القاسمي، عنهما أخذ، وفي كنفهما نشأ، وعلى يدهما تخرّج. فجاء عالمًا من ذلك الطراز الذي نقرأه في التراجم، ولا نجده فيمن تقع عليه العين من هؤلاء العلماء الذين يقرأون ويحفظون وينقلون، ولكنهم لا يفقهون ... هذا العديد المتشابه الذي كأنه نُسخ من طبعة واحدة من كتاب، لا يقع التحريف في واحدة منها إلا وقع في جميعها، ولا يزيد واحد منهم في العدد إلا كما يزيد كتاب في مكتبة، لا كما يزيد فارس في كتيبة، بآية أنهم ما كثروا في الأمة إلا قلّت بهم الأمة، ولا ثقلوا في أنفسهم إلا خف وزنها في الأمم، ولا تغالوا في التعاظم إلا كان ذلك نقصًا من معاني العظمة فيها، وبآية أن علمهم لم يؤهّلهم لقيادة الأمة، فتركوا القيادة لغيرهم، وأصبحوا كأدوات التصدير التي يسبقها حرف الجر، فيدخل عليها ولا يعمل فيها، وبآية أنّ العالم في أوربا لا يعدّ عالمًا إلا إذا زاد في العلم شيئًا، أو كشف من خفيِّه شيئًا، أو جلا من غامضه شيئًا. ونفض- مع ذلك- على العلم من روح زمنه شيئًا؛ ولا عجب ... فالعلم عندهم ياقوتة في منجم، وعندنا ... لفظة في معجم، والأولى تستخرج بالبحث والإلحاح، والثانية تستخرج بمعرفة الاصطلاح، والأولى حظ المجتهد العامل، والثانية حظ المقلّد الخامل. بدء معرفتي به: خرجتُ من المدينة- فيمن خرج- إلى دمشق في أخريات سنة ست عشرة ميلادية، وكنت أتمنى لو أن دواعي ذلك الخروج كانت تقدمت ببضع سنوات لأدرك الإمامين اللذين كانت لهما في نفسي مكانة، وهما عبد الرزّاق البيطار وجمال الدين القاسمي. وكنت- وأنا بالمدينة- قرأتُ للقاسمي عدة كتب عرفت منها قيمته ومنزلته، وقرأت عن البيطار وسمعتُ ما دلّني عليه وأدناني منه. وفي أول اندلاع الثورة الشريفية قدم المدينة من دمشق جندي شاب من آل المارديني، وتعرّف إليّ في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وتردّد على دروسي مرات في الحرم النبوي، فانعقدت بيننا ألفة روحية لا تأتي بمثلها الأسباب، وذلك الشاب شقيق الاستاذ جودت المارديني، ولأسرة المارديني بدمشق صلة متينة بأسرتَي القاسمي والبيطار. فكنت أسأله عما يهمُّني من دمشق وأحوالها وعلمائها، وعن القاسمي والبيطار. كأن هاتفًا من وراء الغيب القى إليَّ أنني سأرحل إلى دمشق. فأخبرني ذلك الشاب أن الله تعالى أبقى من بيت البيطار وارثًا لعلم الإمامين ومشربهما في الإصلاح، هو الأستاذ محمد بهجة البيطار، وأن له من الشباب المحصل صحبًا قليلًا عددهم، يوافونه على الفكرة، ويلتقون معه على المبدإ، وأنه هو إمامهم ومرجعهم، فشوَّقني حديث الشاب إلى الاستاذ، وعلمتُ أن الروحين تعارفتا، فائتلفتا، ولم يبق إلا تعارف الأجساد.

ثم رجع الشاب إلى دمشق فأخبر الأستاذ عني بمثل ما أخبرني عنه، فتمّ التجاوب الروحاني بيننا، وتنادت الروابط الفكرية إلى الاجتماع فكان. ولما دخلت دمشق بعد ذلك بقليل، كان أول من زارني- بعد كرام الجالية الجزائرية- من أصدقائي السوريين الذين عرفوني بالمدينة المنوّرة: الأستاذ عبد القادر الخطيب المظفر، وذلك الشاب المارديني الذي أنساني الزمان اسمه وإن لم لينسني ذكراه، فكاد يطير فرحًا بمقدمي، وطار إلى أبناء المشرب، كما كان يسمّيهم، يؤذن فيهم بزيارتي فزاروني لأول مرة في رهط أذكر منهم شيخ الجماعة الأستاذ البيطار، والأستاذ عبد الحكيم الطرابلسي، والأستاذ جودت المارديني، والأستاذان قاسم ورضا القاسميين والأستاذ سعيد الغزي، والأستاذ عبد القادر المبارك، وكان بيننا في لحظة ما يكون بين إخوان الصفا وإخوان الصبا من تأكُّد المحبة وارتفاع الكلفة وسقوط التحفّظ. ثم تعاقبت الاجتماعات وانتظمت، واتّسقت أسباب اللقاء، واتّسعت آفاق البحث في الأسمار، وكثُر الصحب، وما منهم إلا السابق المغبر، والكاتب المحبر، واللسِن المعبّر، فكنّا لا نفترق من اجتماع إلا على موعد لاجتماع، وكان واسطة العقد في تلك المجالس الأستاذ الجليل والأخ الوفي الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين مدّ الله في حياته. ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلًا، فأشهدُ صادقًا أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر، في عمري الغامر؛ وأني كنت فيها أقرّ عينًا وأسعد حالًا من ذلك الذي نزل على آل المهلب شاتيًا، فوجد الإدبار رائحًا والإقبال آليًا. ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن (الجزائر)، ولكن ... من لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؟ إن نسيت فلن أنسى ساعات كنت قضيتها في مكتبة آل القاسمي ممتعًا عيني وذهني في مخطوطات جمال الدين، ومسودات مباحثه في التفسير والحديث، وفي ذلك المخطوط الحافل الذي ما رأت عيني مثله في موضوعه، وهو كتاب "بدائع الغرف، في الصنائع والحِرف" لجدّه الشيخ محمد سعيد الحلّاق، أرّخ فيه لصناعات دمشق الجليلة التي أخنى الزمان على أكثرها، وجلا فيه صفحات من مجدها الصناعي البائد. ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت. وخصّت بالمثقلات الدوالح مجامع الأحباب، وأندية الأصحاب، من الصالحية والجسر والنير بين المزة والربوة. فكم كانت لنا فيها من مجالس، نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية، على ود أصفى من بردى تصفق بالرحيق السلسل، ووفاء أثبت من أواسي قاسيون، وأرسى من ثهلان ذي الهضبات. لا توبَن في مجالسنا حرمة، ولا يُكلم عرض، ولا يقارف مأثم. وإنما هو الأدب، بلا جدب، نهصر أفنانه، والعلم، بلا ظلم،

نطلق عنانه. والفن، بلا ضن، نروّق دنانه. والنادرة، بلا بادرة، نتلقفها. والنكتة، بلا سكتة، نتخطفها. ويا تُربة الدحداح، بوركت من تربة، لا يذوق الغريب فيها مرارة الغربة. ولا زلت مسقطًا لرحمات الله. إنني أودعت ثراك أعزّ الناس عليّ: أبي وابني وجدَّي أولادي. فاحفظي الودائع إلى يوم تُجزى الصنائع. ويا جنات الغوطة، وقراها المغبوطة، لا زلت مجلى الفطر، والحد الفاصل بين البدو والحضر، أشهد ما عشوتِ من الغرب إلى نار، ولا عشيت منه بنور. ولأنت التي تمسكين دمشق أن تميد، ومن فيها أن يميل. تبارك من رواك بسبعة أودية، وكساك من وشي آذار بخضر الأردية. كم فُتنتُ بمناظرك الشعرية، وأخذت بمجاليك السحرية، وكم تزوّدت عيناي فيك بروضة وغدير، وكم تمتّعت أذناي من جداولك وأشجارك بحفيف وهدير. ويا يوم الوداع ما أقساك، وإن كنت لا أنساك. لا أنسى بعد ثلاثين سنة ولن أنسى ما حييت موقف الوداع بمحطة البرامكة والأستاذ الخضر يكفكف العبرات، وتلامذتي الأوفياء: جميل صليبا، وبديع المؤيد، ونسيب السكري، والأيوبي، يقدّمون إلي بخطوطهم كلمات في ورقات، ما زلت محتفظًا بها احتفاظ الشحيح بماله. عهود لم يبق إلا ذكراها في النفس، وصداها في الجوانح، والحنينُ إليها في مجامع الأهواء من الفؤاد. ولولا أن السلوّ كالزمن يتقادم، وأن الهوى مع العقل يتصادم، لقلت مع المتنبي: أبُوكم آدم (1)! ... ولقد راجعتُ "مذكّراتي" المنقوشة في ذاكرتي فوجدتُها حافظة لتلك العهود بأيامها ولياليها وأحاديثها، فليت شعري أيذكر الأحياء من إخوان الصفا مثل ما أذكر؟ ذلك ما تكشف عنه رسالة الأخ الأستاذ محمد بهجة البيطار التي ننشر بعضها بعد هذه الكلمات. وهي التي أثارت هذه الذكريات في نفسي فكتبتها، ليعلم هذا الجيل الذي نقوم على تربيته أن في الدنيا بقايا من الوفاء والمحبة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنساني، وأنه لولا هذه البقايا لانحدر الإنسان إلى حيوانية عارمة كالتي بدت آثارها في الجماعات التي جفّت نفوسها من الوفاء والمحبة، فخلت من الإحسان والرحمة، فهوت بها المطامع، إلى ما يراه الرائي ويسمعه السامع. وإن منبت الوفاء الشرق، وإن زارعه وساقيه والقيّم عليه هو الإسلام، وعسى أن تحمل «البصائر» هذه الذكريات إلى الإخوان الأصفياء في دمشق فنتنادم على البُعد، ونلتقي على الذكريات، ونتناشد:

_ 1) يقول المتنبي في قصيدة شِعب بَوَّانٍ: يَقُولُ بِشِعْبِ بَوَّانٍ حِصَانِي … أَعَنْ هَذَا يُسارُ إِلَى الطِّعانِ أَبُوكُمْ آدَمٌ سَنَّ المَعَاصِي … وَعَلَّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنانِ

إِنَّا عَلَى الْبِعَادِ وَالتَّفَرُّقِ … لَنَلْتَقِي بِالذِّكْرِ إِنْ لَمْ نَلْتَقِ وعهدًا لأولئك الإخوان أني ما جفوت ولا غفوت، وأني لم أزل- منذ افترقنا- أتسقّط أخبارهم من الصحف ومن السفار، ولولا الهزاهز والفتن ما انقطع بيننا للصلة حبل.

محمد خطاب

محمد خطاب * إذا خلا الاسم من نعوت السيادة، وتجرّد أصله من حروف الزيادة، فصاحبه هو السيد، والصرح أملأ للعيون ممردًا، والسيف أرهب للنفوس مجرّدًا. ... وأخونا محمد خطاب رجل من رجال الأعمال الذين لا يردّ نجاحهم فيها إلى الإرث، أو المصادفات والمغامرات؛ وإنما يردّ إلى العصامية، والبناء المتأنّي طبقًا عن طبق، ومماشاة العصر الجديد، في الأخذ بوسائل التجديد. منقطع النظير من بين رجالنا في عدة خلال، لو تفرّقت عليهم ووجدت فيهم لنفعوا أنفسهم، وشرّفوا أوطانهم، فما شئت من حنكة وتدريب، وما شئت من خطًى واسعة في الاختيار والتجريب، وما شئت من نهزة وتشمير. لا تفوت معهما فرصة، وما شئت من ضبط للوقت لا تتجرعّ معه من التفريط غصّة، إلا وجدت كل ذلك فيه؛ شهد الزائرون لمزارعه الواسعة بالمغرب، التي يديرها بنفسه، ويُفيض عليها من عزيمته وذوقه الفنّي، أنها نموذج عال من الفن الراقي في الفلاحة، ومدرسة منظّمة يمارس فيها العملة المخلصون لأنفسهم من أساليب الزراعة والغراسة وآلات الفلح المتنوعة، كل مفيد نافع؛ وإنهم لكثرة ما يتعهدهم بالإحسان والنصح والتدريب يعتبرون أنفسهم شركاء وزملاء لا عملةً ومأجورين. وهذه هي نهاية ما تصل إليه النفوس من السموّ، والهمم من الكمال؛ وهذه أيضًا هي نهاية ما يصل إليه الإحسان، من الرضا والاطمئنان وسدّ منافذ الحسد والحقد، ولو أن أصحاب الأعمال الكبرى ساسوا العمال بمثل هذه السياسة، لما نشأت المشكلة الاجتماعية التي قسمت العالم إلى معسكرين متناحرين. ...

_ * نُشرت في العدد 86 من جريدة «البصائر»، 11 جويلية سنة 1949.

ومحمد خطاب من الأغنياء الذين يظهرون آثار نعمة الله عليهم، ويحصّنونها بالإحسان، فهو برّ بعماله، برّ بأمّته وبوطنه، وهو نابغة من نوابغ الإحسان، ما يتمنّى المتمنّي أن له به أمّة كاملة من هؤلاء الأغنياء الذين عنا الشاعر واحدًا منهم فعناهم جميعًا، إذ يقول: يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً … إِذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلَا ففي ماله حقوق لله، يقسّمها على عيال الله، وفي ماله حقوق لأمّته، يقسّمها على مصالحها العامة، وفي ماله حقوق لوطنه الثاني كفاء لما أفاء عليه من خير، واعترافًا بما لبنيه عليه من فضل الأخوّة، وحقوق لوطنه الأول، بدأت بذوي القربى والأرحام، ورفقاء الصبا والملاعب، وانتهت عند المصالح العامة، والمشاريع النافعة، والكرماءُ المحسنون في الأمم من نفحات الله، ففيهم من آثار رحمته سمة. وعليهم من شمولها مسحة، وعندهم أن غاية المال محامده وفضائله، وأن ثمرته رفع الذكر، وإعلاء القدر، وأن ادخار صنائع المعروف خير من ادخار المال. ومن اللطائف النفسية في المحسنين أن كل واحد منهم مولع بناحية من نواحي الإحسان، تغلب على طبعه فتكون مجلى لكرمه، ومنتهى لإحسانه، حتى تغطي على النواحي الأخرى، فقد عرفنا من حاضر التاريخ وغابره أن للمحسنين أذواقًا في الإحسان. وفي نفوسهم اتجاهات، معلّلة في الغالب بآثار تتركها المشاهدات والتأملات في أذهانهم وعقولهم، فبعضهم يقف إحسانه على نوع من البؤساء كاليتامى أو المرضى أو الفقراء، وبعضهم يقف إحسانه على المبادئ الفكرية أو الاجتماعية النافعة، وينتهي الشذوذ ببعضهم في الرحمة إلى أن يقف إحسانه على الحيوان الأعجم، يخفف من شقائه، أو يحافظ على بقائه. وأخونا خطاب مولع- بعد الإحسان العام الذي فُطر عليه- بالإحسان إلى العلم وتعليمه. وقد ملكتْ عليه هذه الجهة هواه، وهام بها هيام المغرم المفتون، يفيض ذلك على لسانه وفي أحاديثه الخاصة والعامة، وإن هذا الاتجاه منه لأصدق دليل على قوّة التمييز، وحسن الاختيار لجوانب الخير التي يخصها المحسنون بإحسانهم، وجوانب الخير تتعدّد وتتشابه، فيقع اختيار المقلّدين السطحيين على أسهلها في المراس، وأخفّها في الحمل، وأقربها لمدح المادحين، ويختار المحسنون الصادقون أثقلها محملًا، وأعمّها إفادة، ولا يشك وطني صادق أن أنفع الأعمال لأمّتنا الجاهلة هو التعليم والإنقاذ من شرّ الأميّة، وأن ألف جائع تطعمهم، وألف عار تكسوهم، لا يغنون عن الأمّة غناءَ عشرة تلاميذ تعلّمهم تعليمًا نافعًا، وتربّيهم تربيةً صالحة. ***

ولأخينا خطاب في إحسانه إلى التعليم فلسفة دقيقة تزيد في قيمته، وهي أنه لا يضع إحسانه إلا حيث يعتقد أنه يفيد وينفع، ولا يضعه إلا في الأيدي التي تحسن تصريفه، احتياطًا للإحسان أن يضيع في غير مفيد للأمّة، لأن لكل عمل ظواهر تغرّ، ودجلةً يستغلون، ولكل صاف من الحق مكدرات من الباطل، وهو يرى- مصيبًا- أن حركة جمعية العلماء هي أصدق الحركات القائمة بهذا الوطن. وأن رجالها هم أخلص الرجال العاملين لخير الوطن. وأن مبدأها هو أثبت المبادئ النابتة بهذا الوطن؛ لذلك آثر- من سنوات- أن تكون مبرّاته المالية للعلم والتعليم على يدها، فنذر مبلغًا من المال يدفعه مسانهة لرئيس جمعية العلماء، وهو يوزّعه- بالاتفاق مع المحسن الكريم- على أقرب وجوه التعليم إلى النفع، وقد كانت المبرّة في هذه السنة مضاعفة، وكان النفع بها مضاعفًا، نال منها معهد ابن باديس مائتا ألف فرنك، ومدرستي تونس لسكن الطلبة مائة وتسعون ألف فرنك، ومدرسة خطاب بالميلية (مسقط رأس المحسن) مائتا ألف فرنك، ونال جمعية بعثات جمعية العلماء إلى تونس مائة ألف فرنك وصلتها على أقساط، ومدرسة الفلاح بوهران خمسون ألف فرنك، ومدرسة الأمير عبد القادر بمعسكر خمسون ألف فرنك، وجريدة «البصائر» مائة ألف فرنك. أما مدرستا تونس لسكن الطلبة فهما داران اكترتهما جمعية العلماء لتشارك بهما في تخفيف أزمة إسكان الطلبة وأوكلت التصرّف فيهما لوكيلها الأستاذ الشيخ الشاذلي بن القاضي. وقد كانت الجمعية تدفع ثمن كرائهما في كل سنة، ولكنها في هذه السنة وقعت في ضائقة سببها استنفاد المعهد الباديسي لجهودها المالية، فتأخّر دفع قيمة الكراء عن أجله أشهرًا، ولما علم بذلك هذا المحسن الكريم التزم أن يضاف إلى المبرّة ثمن كراء الدارين وقدره مائتا ألف وأربعون ألف فرنك للسنة، ليخفّف بذلك حملًا ناء به صندوق الجمعية، وليمهّد لها سبيل التفرّغ لمشاريعها الكثيرة. وقد طلب هذا المحسن الكبير من رئيس جمعية العلماء أن يضع له قائمة جديدة بالمشاريع التي تدخل في المبرّة للسنة المقبلة، فوقع الاتفاق بينهما على المشاريع الآتية: مدرسة الفلاح بوهران، مدرسة الأمير عبد القادر الناشئة بمعسكر، مدرسة قنزات، مدرسة وجامع حيّ "سانت أوجين" بالجزائر، مدرسة وجامع حي "بيلكور" بالجزائر، وسينال كل مشروع حظه من المبرّة في شهر سبتمبر الآتي إن شاء الله. مدّ الله في عمر الأخ الكريم، وزاده من فضله وخيره، وأسبغ عليه أردية الصحة والعافية، وجعله قدوة في الصالحات، وكفاه كيد الكائدين، وحسد الحاسدين.

ولا يفوتنا تسجيل منقبة جديدة للأخ خطاب. فقد جرى- أيام زيارته لنا بالجزائر في الشهر الماضي- ذكر مدرسة ندرومة العظيمة التي شيّدت في هذه السنة بمساعي رئيس جمعية العلماء، وجهّزت منها خمسة أقسام، والعزائم معقودة على تشييد عشرة اقسام أخرى في السنتين الآتيتين. فذكر رئيس الجمعية دارًا ملاصقة للمدرسة، يملكها رجل ندرومي مقيم في المغرب، تصلح أن تضاف إلى المدرسة وتخصّص للبنات. فهزّت الأريحية هذا المحسن الأصيل، وتعهّد أن يشتريها من صاحبها- وهو صديقه- ويدفع ثمنها من ماله، ويهبها للمدرسة، مشاركة لأهل ندرومة الكرام فيما بنوا للعلم وشادوا. ... إن الكاتب لتراجم الرجال، والمسجل لأعمالهم، معرّض للمبالغة وشهادة الزور فيما لهم وما عليهم؛ فقد يضفي عليهم أوصاف الكمال وهم عراة منها، وقد يجرّدهم منها استرسالًا مع الهوى، إلا الكاتب في تراجم المحسنين للعلم، والباذلين للصالح العام، فإنه مجبر على الاتصاف بالإنصاف، جبرًا لا اختيار معه؛ وكلما هم بزيغ أو جرى مع الهوى لفّه الإحسان بعجاجته، ورجع به إلى الإنصاف مكرهًا، ولإحساس العرب بتأثير الإحسان وسلطانه نحلوه صفات الملك والاستعباد. وأخونا محمد خطاب من طراز يقل وجوده في الأمم، لا سيّما في مثل أمّتنا التي أفسد الجهل تربيتها، وأنساها حقوق الأخوّة، وحقوق الوطن، وحقوق المجتمع، فوجود رجل مثله فيها يكون حجة لها، وحجة عليها، وقد وُجد في زمن تأكّدت فيه حقوق المجتمع على علمائه وأغنيائه، وأشقى الأمم أمّة يجبن علماؤها، ويبخل أغنياؤها، وأشقى منها أمّة تغلط في موازين الرجال، وتضلّ عنها مواقعهم، وما يضلّها عنهم، وما يضلّهم عنها إلا المجرمون الغشاشون المتشبّهون بما ليس فيهم. وما أكثرهم في أمّتنا! ... ... ونحن ممن لا يجازف بكلمة الوطنية، ولا يعبث بها، فيضعها في غير مواضعها، وينحلها حتى للخائنين بقصد، والخائنين بجهل؛ ولكننا نشرّفها ونضعها في المكان اللائق بها. وعندنا للوطنية موازين. فالوطني كل الوطني هو الذي ينفع وطنه بعمل، وأبناءَ وطنه بعلم: فالعامل المبرّز في الاقتصاد، المزاحم للغريب عن خيراته، الذائد له عن موارده وطني كامل الوطنية، وهذه الجيوش المرابطة في ثغور المدارس من المعلمين الذين ينزعون العصي من أيدي أبناء الأمّة، ويضعون فيها الأقلام، هم الوطنيون الصادقون؛ وهذا الفلاح المتقن

لفلاحته، المجاري فيها للأوربي الدخيل، وطنيّ من الصميم، وهذا المتموّل الذي يضع ماله في قطعة أرض يحفظها ويحسن استغلالها، فينتفع وينفع أبناء جنسه، لا في مقهى يجمع الشبان على البطالة والمجانة وفساد الأخلاق وقتل الوقت بالهذر الفارغ، وطنيّ من الطراز الأول. أما الأقوال بلا أعمال، والدعاوى بلا بيّنات، فاسم الإجرام بها أولى. هذه سيرة رجل، ولكنها سجل عظات، ما أردنا بها مدحه، فما ذلك من عادتنا، وإنما سقناها ذكرى لمن يعد نفسه في الرجال، وليس له مثل هذه الأعمال.

ذكرى مبارك الميلي

ذكرى مبارك الميلي * لا يظلّنا يوم 9 فبراير الغربي، حتى تتجدّد لنا من أخينا العزيز ذكريات، تمدّها حسرات، تتبعها زفرات، فنذكر مكانه في الميدان وقد خلا منه، ونفتقد نفوسنا فنجدها ما سلت عنه، ونعوذ بالتجلد فيخذل، وبالنسيان فلا ينجد، ونعود إلى خمس من السنين نسألها: أما فيك وفي أحداثك التي ابتدأت بعد موت مبارك بثلاثة أشهر ما يذهل فينسي، أو يشغل فيسلي؟ فتقول: لا ... ... وسنو الخطوب، كسنيّ الخصوب، متشابهة الأواخر بالأوائل، تنتهي كما تبتدئ، وقد طلعت علينا تلك السنة السوداء بالداهية الدهياء، وهي موت مبارك، فانتزعت منا فارسًا من الميدان، أحوج ما كنا إلى رأيه وعلمه، وغنائه وكفاءته، ثم انتصفت علينا بالصيلم الصلعاء وهي حادثة 8 ماي، ثم انتهت وإخوان العهد كلهم في غيابات السجون والمعتقلات، ثم توالت الخطوب، وتواترت الفتن، وامتحن هذا الوطن بأشنع ما تمتحن به الأوطان: نقص في الرجال، ونقض للعهود، وضلال في الرأي، واختلاف فيه، وبقيت هذه الفئة القليلة مزوّدة بإيمانها بالله، متكثرة بأعمالها للعلم، تلقى الجفاء والتنكّر من القريب، فتعتصم بالصبر، وتلقى الكيد والتربّص من الغريب، فتتحصّن بالثبات؛ وهي على ذلك إلى أن يفتح الله بينها وبين قومها بالحق، ويحكم بينها وبين خصمها بالعدل، وهو خير الفاتحين، وأحكم الحاكمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. ...

_ * نُشرت في العدد 109 من جريدة «البصائر»، 27 فيفري سنة 1950.

ولكن هل أنصفنا أخانا مباركًا، وأنصفنا العلم معه إذا كان حظه منا بعد موته ذكريات تقام في كل عام، لا ذكرًا يتردّد في كل يوم، وكلمات عنه تقال فتذهب مع الريح أو تكتب فتدفن مع الأوراق؟ ذلك هو السؤال الذي كان يعتلج معناه في الصدور، وتختلج ألفاظه على الألسنة قبل أسبوعين، فقد كنت قبيل يوم الذكرى في جماعة من إخوان العهد، وأبناء الوفاء، نتذاكر في ذكرى هذه السنة، لأخينا مبارك، وما ينبغي أن نسلكه فيها من المسالك: آحتفالٌ يقام وخطب تلقى كالمعتاد؟ إن هذا تقليد مملول، أساء الناس تصريفه، وأساءوا التصرّف فيه، حتى أصبح لا يحرّك إحساسًا، ولا يثير عاطفة، ولا يهزّ شعورًا، ولا يأتي بخير، أصبح نوبة تعتاد، لا باعثًا يقتاد. وتشعّب القول، فتشعّب الرأي حتى قال قائل حصيف: إن خير البر وأبقاه، وأحسن الذكر وأوقاه، ذلك الصنيع الجليل الذي أحيينا به ذكر عبد الحميد بن باديس، وإن المعهد لأبلغ من ألف خطبة تقال، وأسير من ألف مقالة تنشر، وأنفع للأمّة من ألف احتفال يقام، وأدلّ على الوفاء والاعتراف بالجميل لعبد الحميد بن باديس من ألف شاهد، فهلّا سلكنا في إحياء ذكر أخينا مبارك شِعبًا غير شعب الاحتفالات والمقالات؟ وهل عدلنا بأعمالنا وعظمائنا عن هذه المبتذلات؟ ... وكانت هذه الكلمات الحصيفة التي تنطوي على رأي، وتحتوي على حكمة، مغيرةً للحديث من مجرى إلى مجرى، فبردتْ الحمية للاحتفال والخطب والمقالات، ورحنا ندير القول في الذكر الدائم، لا في الذكرى العابرة ... ... إن لأخينا مبارك الميلي على «البصائر» حقًّا، فقد تولّى إدارتها فأحسن الإدارة، إلى أن عطّلتها الحرب الأخيرة، وأجال قلمه البليغ في ميادينها، فما قصر عن شأو، ولا كبا دون غاية، وهي كانت ميدانًا لنشر كتابه (الشرك ومظاهره) فصولًا، وجمعه كتابًا، ولكن ماذا عسى أن تقوم به «البصائر» في وفاء هذا الدين الذي عليها لمبارك الميلي؟ ... إن مقالةً أو مقالات تنشرها عنه في السنة- وهي كل ما تستطيع- لا تخلص ذمة، ولا تفي بدين، وإنما تملك «البصائر» التوجيه والإعداد. وإن لأخينا مبارك الميلي على جمعية العلماء حقوقًا، فقد كان مرجعها يوم تحلولك المشكلات، وتضلّ الآراء، فيشرق عليها بالرأي كأنه فلق الصبح، وقد كان معقلها يوم تشتبه المسالك، وتكاد الأقدام تزلّ، فيثبت على الحق كالجبل الراسي، وكان منها بحيث لا يجترئ عنها مجترئ، ولا يفتري عليها مفتري، إلا رمته منه بالسيف الذي لا تنبو مضاربه.

ويمينًا لولا ملازمة المرض الذي أودى به، وتأثيره في قوّته البدنية، وفي قوّته العقلية، لكان فلتةً في البطولة العلمية بهذا الوطن، كما كان آيةً في الذكاء ودقّة الفهم والجلد على البحث والاطلاع، وإنّ واجب جمعية العلماء في هذا النوع الطريف من إحياء ذكره ينحصر في ترويج الباقي من مؤلفاته المطبوعة، وإعادة طبعها طبعًا فنيًّا مصحّحًا، وإتمام تاريخه للجزائر. وإن لأخينا مبارك الميلي على الأمّة الجزائرية حقوقًا بما علّم وكتب، وبما نصح وأرشد، وبما ردّ على الدين من عوادي المبتدعين، وبما وقف من مواقف في الإصلاح الديني والدنيوي. فمن وفائها له، ومن أدائها لبعض حقه، أن تنشط جمعية العلماءِ على إقامة معهد ثان بعاصمة الجزائر تطلق عليه اسم مبارك الميلي، وتحصي به ذكره، وتخدم به لغتها ودينها، وتخطو به في العلم خطوة للأمام. هذه معان لما دار في ذلك المجلس، نعرض مقدّماته مسلمةً مقبولة، ونُلزم جمعية العلماء والأمّة بالتفكير في تحقيق النتائج.

أثارة من أعمال رابح الفرقاني

ثناء كعرف الطيب ... * "أثارة من أعمال رابح الفرقاني" ــــــــــــــــــــــــــــــ في الشعراء مسلم، وفي المحدّثين مسلم، ولا أدري أي باعث من البواعث التي تعتلج في النفس، أذكرني الساعة ببيت من ديوان مسلم بن الوليد، ولم يذكرني بحديث من صحيح مسلم بن الحجّاج. إن ألوان النفس لغريبة، وان سلطان الخواطر عليها لنافذ، وإن تأثّر النفس الشاعرة بالشعر لأدنى إلى طبيعتها، وأسرع نفاذًا إلى سرائرها، أو لا ... فما الذي طاف بنفس حزينة مطمئنة إلى الايمان بالقدر، مرتقية من الإيمان به إلى الرضى به، فيطير بها من حديث: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، مثلًا، ويقع بها على قول الشاعر: "ثناءٌ كعرف الطيب يهدى لأهله" ثم يقف بها عند هذا المصراع لا يتعداه، ولا يسمح لها أن تتعدّاه، مع حفظها له ولما قبله، وإيداعها إياه في الحافظة التي لا تضيع ولا تخون. النفس نفسي ... إن زكيتها فما أنا عليها بالمتهم، وان دسيتها فما غيري عنها بالمسؤول، وإن ذكرتها بما فيها فما ضررت الناس ولا نفعتهم، وأنا لا أتهم نفسي بقسوة، ولا أزن طبعي بجفاء، ولا أدفعها عن رقّة وحنان ورحمة، وأشهد، لقد خلقت رقيق الإحساس، سليم دواعي الصدر، سريع الاستجابة إلى التسامح والإغضاء، رحيمًا بالبائسين، شفيقًا عليهم، مسعدًا لهم بما أملك من لسان ثرّ، وجاه نزر، ولا أذكر المال، ولا- والله- ما تأثّرتْ نفسي في حياتي الحافلة بالأحداث تأثّرين متباينين، لمؤثرين متقابلين، مثل ما تأثرتْ في هذه الأيام: تأثّر الحزن المكتوم لحادثة فاس (1) التي ذهبت بطائفة من شبابنا،

_ * نُشرت في العدد 109 من جريدة «البصائر»، 27 فيفري سنة 1950. 1) حادث مريع: سقطت دار يسكن فيها طلبتنا الذي يدرسون العلم بمدينة فاس فماتوا ومات معهم فاضل جزائري نائب عنا في تفقّد أحوالهم المعاشية.

وبرجل فذّ من رجال العمل المنظّم فينا؛ وتأثّر الارتياح والرضى المستعلن لمبرّة المحسنين من آل السبتي. أهو خلل في المزاج يصوّر التافه خطيرًا، ويُصير الجهام مطيرًا؟ أم هو طول العشرة للأيام يسوّل للنفس، ويهوّل على الحسّ؟ أم هو التطوّر، يفسد التصوّر؟ أم هي روحة من هواء الجبال التي تبدّت في الصبا، وتندّت بالصَّبا؟ أم هي لمحة من الأجداد الأشاوس، الذين اختطوا "المحمدية" و "نقاوس" (2)؟ لا أدري ... ولو شئت لدريت أن هذا الأخير، غير جدير بالتأخير ... من الكوارث ما يُطلق الألسنة فتندفع في التصوير والتهويل، أو في التخفيف والتقليل، إلى غير حدّ في ذلك كله، تبعث الأسى والشجى في النفوس، أو تبعث العزاءَ والسلوى إليها ... وإن منها لما يرمي الألسنة بالحصر، ويُشرج الحنايا على الغمّ، ويطوي الوجوه على الوجوم. وإن كارثة فاس لمن النوع الثاني، وكلما لاءم النسيان جرحها، نكأت الذكرى ترحها، وعني أحدّثكم، فقد بلغني خبرها بعد أيام من وقوعها، لبعدي عن مواقع الأخبار، وانقطاعي في مطارح الأسفار، فكأنني صعقت لهول الحادث وفظاعته، ولم أحتمل سماع تفاصيل الحادثة ممن سمعها من المذياع، أو قرأها في الصحف، وبقيتُ على تلك الحالة من التأثر، لا أستسيغ إعادة أخبارها، ولا أنشط لكتابة كلمة عنها إذا حاولت ذلك، حتى أفضتْ بي تلك الحالة إلى نوع من سوء الأدب لست بأهله، ونمط من التقصير في الواجب ليس لي بعادة. بقيتُ على تلك الحالة التي لم أعهدها من نفسي، ولم يعهدها الملابسون لي مني، حتى سمعت خبر إحسان الأخوين الكريمين: الحاج عمر السبتي، والحاج محمد السبتي، وتكرُّمهما بدار كاملة المرافق على الطلبة الجزائريين المهاجرين في طلب العلم بفاس، فكأنما نشطت من عقال وكأنما مسح ذلك الخبر كل ما ألمّ بنفسي من حزن، وإن هذا ليس بغريب من آثار الإحسان في النفوس؛ ونشطت بعد ذلك لكتابة هذه الكلمة القديمة الجديدة، أُوفّي بها أربعة حقوق لأربع جهات: حق أبنائنا الشهداء في ذكرهم، وإعلان التفجّع عليهم في كل مناسبة؛ وحق إخواننا أعضاء جمعية الطلبة الجزائريين بفاس، فقد وازنوا الأمّة، في علوّ الهمّة. فقاموا مقامها، وواسوا عنها، وبكوا بعيونها، واستبكوا باسمها، واضطلعوا بالواجبات عن الأسر المفجوعة؛ وحق الأمّة المغربية الماجدة التي كفكفت دموع أختها، بعطف المليك، وتأبين الشاعر والخطيب، وتعزية العالم والمعلم، وعناية الأحزاب، واغتمام

_ 2) المحمدية، هي بلدة تُعرف اليوم بالمسيلة (مؤنث المسيل)، أُسّست في القرن الثاني للهجرة وكانت فيما بعد ذلك عاصمة إقليم الزاب، وخرج منها جماعة من أئمة العلم، وأقام بها الشاعر ابن هانئ قبل أن يلتحق بالأمراء الفاطميين بالقيروان، وبها وُلد الشاعر ابن رشيق. أما نقاوس فهي مدينة أخرى تقع في مسلك من مسالك الأطلس بين سطيف "بلدنا" وبين طُبْنَة.

الجمهور، حتى أنسوا الأبناء هناك ألم الغربة، وهوّنوا على الآباء هنا وقع المصيبة، وذكروهم أن التربة التي وارت أبناءهم إنما هي تربتهم، وكم وارت قبلهم من رفات أجدادهم، وحق المحسنين الكريمين من آل السبتي في التقدير لعملهما والثناء عليهما. وأنا لا أزن عمل هذين المحسنين بقيمته المادية، وإنما أزنه بقيمته المعنوية، ولا أعدّه إحسانًا إلى الطلبة، وإنما أعده إحسانًا إلى الجزائر كلها من المغرب كله، كان سرًّا مخبوءًا في النفوس الكريمة من أبنائه، فأبرزته الفاجعة للوجود، وتولّى الأخوان الكريمان عن المغرب إسداءَ عارفة إلى الجزائر، لا تنساها، ما بلّ بحر صوفة، كما تقول العرب، ولو أن هذين المحسنين تبرّعا بالملايين من المال، لَمَا وقعت في النفوس موقع دار للسكنى، ولو كانت خصًّا، فكأن القائمة كفارة عن الساقطة، وما ألطف الاختيار، وما ألطف موقعه، وقلْ ما شئت في الحوادث، قل إنها تفرّق الجمع، وقل إنها تشتّت الشمل، وقل إنها تريق الدموع والدماء، ولكن يجب أن تقول أيضًا: إنها تجمع القلوب على التعاطف، وتمهّد للبعداء أسباب التعارف، وتعرّف ذوي الرحم كيف يصلون الأرحام. أنا باسم جمعية العلماء وباسم الأمّة الجزائرية أتقدّم إلى المغرب وساكنيه، من مليكه الهمام، إلى علمائه الأعلام، إلى محسنيه الكرام، إلى أحزابه وهيئاته وجمعياته، بإحسان عن إحسانهم، وثناء على اهتمامهم، تحملهما هذه الكلمات التي معناها عرفان الجميل، وحقيقتها مكافأة الجزيل بالقليل، وإن عرفان الجميل لألذ وأشهى إلى النفوس الكريمة من كل مفروح به ... وعذرًا أيها الإخوان، إذا جئنا بعدكم، فإننا رأينا غيوث اهتمامكم لم تزل متوالية، وكلمات شعرائكم وكتابكم لم تزل متواصلة، ومن عادة الشاكر المثني أن تكون كلمته هي الأخيرة. وحيّا الله المغرب ومليكه، ومعادن الخير من رجاله، الواصلين لرحم الأخوّة. وحيّا الله ذلك الأخ البرّ الذي تمثّلت فيه الجزائر بالمغرب، فكان لسانها الذاكر الشاكر، وكان في هذه الفاجعة وكأن فيه من كل أسرة مفجوعة فلذة، فكان هو المعزِّي وهو المعزَّى، وكان وحده القائم بشروط الوفاء، من تأبين ورثاء، وتسلية وعزاء، ومكافأة للمحسنين وجزاء، ذلكم- فاعرفوه- هو الأستاذ رابح خطاب الفرقاني.

لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد

سؤال وجوابه * لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد ــــــــــــــــــــــــــــــ سألنا جماعة من الأدباء بيان ما أثنى به الأعرابيّ على بعلته، وذكروا أنهم قرأوها في افتتاحية "للبصائر" قريبة العهد، فما فهموا مرجع إشارتها، وسألوا عن البعلة- مؤنث بعل- هل هي فصيحة. أما البعلة فهي فصيحة، ومن قرأ عرف، وأما ما أثنى به الأعرابي على بعلته، فهو إشارة إلى قوله يخاطب زوجته: أَثْنِي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فَإنَّنِي … مُثْنٍ عَلَيْكِ بِمِثْلِ رِيحِ الجَوْرَبِ وريحُ الجورب من الرجل العرقة التي تمكث فيه أيامًا، ولا تزور الماء إلا لمامًا، هو (طيب عاطر الأنفاس) فالثناء بمثله ثناء بأخبث شيء في الدنيا، ولم يبق من استيفائه لشرائط المكروه إلا أن يصدر عن ذي فم أبخر ... بهذه المناسبة- وإن كانت مستقذرة- أكرّر النصيحة لأدبائنا الكسالى، وأجعلُ هذه النصيحة غسولًا للجورب ورجله، أن لا يقنعوا من الأدب بما يلقاهم منه في أيام الطلب في الكتب المقرّرة، فإن ذلك القدر النزر لا يربي ملكة، ولا يصقل ذهنًا، ولا يكوّن أديبًا، إنما يربي الملكات الأدبية الصحيحة ويقوّمها- الإدمان، إدمان القراءة المتأنية المتدبرة لكتب الأدب الحرّة الأصيلة، والاستكثار من حفظ الشعر واللغات والأمثال، ومعرفة مواردها ومضاربها، والتنبّه لمواقع استعمالها من كلام البلغاء، من شعراء وخطباء وكتّاب، ثم ترويض القرائح والألسنة والأقلام على المحاذاة؛ ذلك أدنى أن تستحكم الملكة، وتنقاد القريحة فتجري الأقلام على سداد، ويمدّها الفكر من تلك المعاني بأمداد، وتوضع الكلمات في

_ * نُشرت في العدد 143 من جريدة «البصائر»، 19 فيفري سنة 1951.

الجمل، في موضع اللآلئ من العقد، وما جاء حسن العقد منظومًا، إلا من حسنه منثورًا، ثم تكون الحِكم والأمثال والنكت كفواصل الجمان في العقود الثِّمان. ... انتقاد. وردّه: انتقد بعض الأدباء تجريدنا للشاعر محمد العيد من الألقاب التي هو أحقّ بها وأهلها، واقتصارنا في وصفه على لقب: "شاعر الحِكم والمثل"، فيما صدرنا به قصيدته الحكيمة في احتفال بسكرة. ونحن نقول لهذا المنتقد المخلص، إننا جرّدنا شاعرنا من تلك الألقاب مخلصين، عن عمد، لأمرين خطيرين. أما الأول فهو أن هذه الألقاب الأدبية أصبحت كالألقاب الحكومية، يتمجّد بها من لا يستحق التمجيد، ليكمل بها نقصه، ويوازن بإيقاعها رقصه، حتى أصبح الناس مترددين في وجه الاستحقاق وعلّته، أهو كماله لينقص بها؟ أم نقصه ليكمل بها؟ وقد أصبحت هذه الألقاب موردًا آجنًا لكثرة طرّاقه، وأسرف الفارغون في خلعها على الفارغين، ونظرنا ... فإذا هي لم تنفق كاسدًا، ولم يَنْبُه بها خامل، وانما مكّنت للزور ومهّدت، وسوّت بين السابق وبين المتخلف، فتعسر التمييز، واعتبر أثرها في قائدين: (قائد) الجيوش في الميدان و (قائد) الجحوش في الدوار، ذاك يبلغ المجد صاعدًا، وهذا يريده قاعدًا، فهل يستون مثلًا؟ ولكن اللقب سوّى بينهما على رغمي ورغمك. وكل شيء كثرت فيه الدعوى، وعمت به البلوى، وجمع الاشتراك فيه أخلاطًا وأنماطًا، وعربًا صرحاء وأنباطًا، ترفّعت عنه الهمم العالية، وأذاله التبذّل فنزل به إلى قرارة البخس، وإن كان في نفسه جليلًا. وما بعبث خلقُ الله الناسَ طبقات، وجعله الأقدار درجات، وتقديره الأرزاق قسمًا، وتوزيعه المواهب حظوظًا وحصصًا، كذلك ... وما بعبث تخصيص العرب كل نفيسة من الأشياء باسم يميّزها من جنسها: ففي الشعر عيون، وما كله بعيون، وفي النساء عقائل، وما كلهن عقائل، وفي النجوم دراري، وما كلها دراري؛ وفي الجوهر فرائد، وما كله فرائد، وفي المال كرائم، وما كله كذلك. فإذا فسد الذوق، فأطلقنا الأسماء الخاصة على الجنس العام، وقلنا في الأمَة الوكعاء: إنها عقيلة نساء، وفي العنز الجرباء إنها كريمة مال، ثم أوغلنا في التشبيه على هذه الطريقة، فقلنا في شموع (المولد): إنها كواكبُ دُرّية، وفي صواريخ الصبيان: إنها قنابل ذريّة- إذا فعلنا ذلك- أفسدنا اللغة أولًا، ثم أفسدنا الأخلاق ثانيًا، وملأنا العالم بالزور والغرور.

مما أفسد نظام الأمم كثرةُ الأمراء، ومما شوّه جمال الأدب في عصرنا كثرة الشعراء، ولم يكف ذلك حتى كثر فيهم أمراء الشعراء، ولقد كنّا نسمع بملوك الطوائف في الحكم، ولكننا لم نسمع إلا في هذا العصر بملوك الطوائف في النظم، ففي كل قطر شعراء وأمير شعراء، ينازعه حبل الإمارة شاعر أو شاعران أو شاعرون (فقد مللنا جمع التكسير لكثرة ما تردد، كما سئمنا من مفهومه هنا لكثرة ما تعدّد)؛ وإن نتيجة النتائج لهذه الكثرة أن تنتهي إلى شيوعية في الأدب تقضي على جيّده بذنب رديئه. لو كانت هذه الألقاب صاحبتْ ذويها كأسمائهم من يوم الولادة، لوسعنا العذر في السكوت على نقصها وشينها، كما وسعنا العذر فيمن سمّوه "منصورًا" فشبّ مخذولًا، ودعوه "نفيسًا" فجاء مرذولًا، ولكنها تأتي مع الفتوّة أو مع الكبر، فواجبٌ أن نحتاط لها، وأن لا نجعلها عناوين على الإحسان، وموازين للرجحان. وأما الأمر الثاني فهو أن محمد العيد وأمثاله من المحسنين لفنونهم، قد شبّوا عن طوق هذه الألقاب الجوفاء، فزهد فيها زهدًا كأنه طبيعي فيه، شأن المتشبعّ بفنّه، المتقن لصنعته، حسبه من الشهود الإتقان والإحسان؛ أما هذه الألقاب فإنهم لا يرونها بالعين التي يراها بها الناقصون: لا يرونها مكفلةً لهم، ولا زائدةً فيهم، فهم كالسيوف، أروع ما تكون مجرّدة، وإذا كانت قيمة الحاوي بجرابه، فما كانت قيمة السيف - في عقل العقلاء- بقرابه، وإنما هي بالجوهر والفرند، ثم بالتصميم في الضريبة. إن الألقاب لا تزيد في قيمة محمد العيد إلا بمقدار ما زادت "الباشوية" في قيمة طه حسين. على أننا نعتناه بالنعت المفصَّل على ذاته، المفصِّل لآياته، وهو: شاعر الحكمة والمثل، إذ هما قاعدة شعره، وخاصتا مقاطعه وقصائده، ويزيد على تناول الحكمة والمثل بأنه "صدّاح غير مدّاح".

السلطان محمد بن يوسف

السلطان محمد بن يوسف * آليْت بالحظائر المستره والآي في رقوقها مسطره والكعبة الجليلة المطهره والروضة الشريفة المنوّره إنّي أسوق الواعظات المنذره صادعةً رادعةً محذّره ناصحة لقومنا مذكّره واسمةً بالهون كل نكره من خابط في الظلمة المعتكره ووارد سؤرَ المياه الكدره وعابد للنجمة المنكدره دليلها الحق، ومن ينصف يره ... إنّ أميرَ المسلمين جوهره وصورةٌ من خلق مصوّره ونسخةٌ من أدب محرّره وقطعةٌ من حكم مقرّره وقطرة من الهدى منحدره في الدهر من جد الشراف حيدره

_ * نُشرت في العدد 147 من جريدة «البصائر»، 19 مارس سنة 1951.

مناقب على المدى مدّخره لمن غدا بين الملوك مفخره وإن أتتْ أيامه بأخره ... إنا إذا الحمد تلوْنا سوره ثم جلوْنا- كالمرايا- صُوره ثم حدوْنا في البرايا زمره سقنا إليه شمسه وقمره ومن يطب مولى الموالي عنصره فمن تمام فضله أن ينصره ... من ادّعى وصف الكرام الخيره فاستشهدوا أخلاقه وسيره واستنبئوا من الزمان غيره وسائلوا: مَنْ قادَه وسيّره؟ فالزيرُ- إن تنشده- حلفُ الزيرَه ... يا عصبة في الغيّ ليست مقصره قد عميت عن الهدى والتبصره لا تفرحي: إن الغنى والسيطره لم يبرحا إلى الهلاك قنطره لا تمرحي: إن الهوى والأثره جالبةٌ كلّ البلا أو أكثره تسمّعي: إن الليالي مخبره بأن أيّام الصعود مدبره ... قد كتب الدهر ووالى عِبره وصدّقت رُؤى العيون خبره

أن قصورَ الظالمين مقبره عمارها إلى الخراب معبره ... ليس من عادتنا أن نثني على الأشخاص لذواتهم أو لمقاماتهم التي قرّرتها الأوضاع والمصطلحات، وإنما نثني- إذا أثنينا- على الأعمال الصالحة، فينصرف الثناء إلى العاملين بالتبَع. وليس مما رُكب في طباعنا الصغو إلى الملوك، أو انتحال النزعة الملكية مذهبًا، فقد قرأنا عن كثير من غابري ملوك الإسلام ما زهدنا فيهم، وما كرّه إلينا نظام الملكية، وبلوْنا من حاضريهم ما يتبرأ منهم الإسلام من المنديات، وعلمنا علم اليقين أن أعمال الغابرين والحاضرين منهم هي التي أفضت بالإسلام والمسلمين إلى هذه المنزلة من الحطة والهوان؛ فأصبحنا نعتقد أن الملكية نظام لا يعتزّ به الإسلام، ولا يحيا عليه المسلمون، ولا يستطيعون أن يجاروا به أمم الحضارة في هذا الزمان، خصوصًا مع ما انتحلوه لأنفسهم وتعبدوا به رعاياهم من هذا التألّه الكاذب، وهذه الحقوق التي لم يأذن بها الله، وهذه المميزات التي زادها طولُ الزمن، واستحكام الجهل رسوخًا، والتي استمسكوا بها حتى في هذا العصر العالم اليقظان، عصر الدساتير المسنونة بإرادة الأمم، فلا يحاكمون، وإن خربوا الدين والدنيا، ولا يعاقبون، وإن أهلكوا الحرث والنسل، ولا يعاتبون، وإن انتهكوا الحُرُمات، وجاهروا بالمنكرات، وإنك لتسمّيهم ملوكًا لترفعهم عن مقام العبيد، فتجبهك الحقيقة بأنهم عبيدٌ لشهواتهم وأهوائهم؛ وإنك لتلتمسهم في مواطن الحفاظ من أوطانهم، والاحتفاظ بأموالها، والاختلاط بأهلها، والمشاركة لهم في النعماء والبأساء، فلا تجدُهم إلا في أوربا، و (بواليع الأموال في أوربا)، ومُغريات أوربا، يجرونها إلى ديارهم طوعًا، فتجرّهم إلى ديارها كرهًا، ويأخذونها تفاريق فتأخذهم جملة ... ويقتبسونها نورًا، فتقبسهم نارًا؛ وإنك لتجدهم حيث شئت إلا في مقام القدوة في الخير والصلاح. فإذا أثْنينا اليوم على محمد بن يوسف ملك المغرب، فإنما نثني على أعماله الجليلة ودينه المتين، ومواقفه المشرّفة المجيدة في نصر الحق على الباطل، ودحض البدعة بالسنة، وفي الدفاع عن حقوق وطنه، وفي سيرته النبيلة التي هي مضرب المثل في ملوك الإسلام. وإذا أحببناه فلأنّ في أعماله وخصاله ومواقفه ما يفرض حبّه فرضًا على كل مسلم صادق الإسلام. وإذا أعجبنا به فلأنّ كل فصل من سيرته موطنُ إعجاب.

وإذا نصرناه بما نملك من كلام فلأنه ملك مسلم مظلوم ... مظلوم في أمّته، ثم مظلوم ببعض أمّته، وليس في أنواع الظلم أحزّ في الصدور من هذا النوع، وليس فيها أدعى لانتصار ذوي النخوة العربية والشهامة الدينية من هذا النوع. ... نعرف عن جلالة السلطان محمد بن يوسف كل ما يجب أن يعرفه عالم مسلم، حرّ الفكر، مستنير البصيرة، موقوف المواهب على خدمة الإسلام، وإصلاح المسلمين عن ملك مسلم ممتاز بين ملوك المسلمين- في عصر كثر فيه الملوك- خصوصًا في هذه الرقعة العربية- كثرةً معاكسة لسير الزمن، منافرة لسيرة أبناء الزمن، فكانوا وباء للأجساد، ووبالًا على الأرواح، وجائحة مرسلة على الأموال، ومطايا يستعملها الأجانب لاستغلال الأوطان، ثم للاستيلاء عليها. نعرف عنه دراسةً، ونعتقد فيه وجدانًا، ونشهد منه عيانًا، ما يرفعنا عن الأخذ فيه بالتقليد، ويربأ بنا أن ننتقل في الحكم عليه من رأي قديم إلى رأي جديد، كما تربأ بنا عادتنا في الحُكم على الرجال، أن نحابيه أو نتعصّب له، جريًا مع هوى غالب، أو انتصارًا لمذهب جامع. فالنتيجة التي انتهتْ إليها الدراسة، واطمأن لها الوجدان والعيان في هذا الملك العظيم حقًّا، هي أنه ملك مسلمٌ صحيح الإسلام، مؤمن متين الإيمان، سلفي العقيدة والتعبّد، قديم في دينه، جديدٌ في دنياه، مجدّد مصلح في الدين والدنيا، واسع الاطلاع على أحوال زمنه، يقظان العقل في أسرار السياسة المحيطة به، شجاع الرأي في الجدل المحتدم فيها، يمارس من الأجانب هولًا واحدًا،- ومن الأقارب أهوالًا، يعمل لشعبه دائمًا، ويعمل لنفسه قليلًا لمعنى يرجع إلى شعبه، وهو أن يرسم لهم خطوط الاقتداء والتأسي، ومن رأينا فيه أنه لو تأتت له الوسائل ولاينته الظروف، لطوى مراحل التقدّم بالمغرب في مرحلة. هذه الخلال هي سر عظمته عندنا، وهي سر حبنا إياه، وإعجابنا به، وانتصارنا له، ولو أنّي حكمتُ هذا الحكم قبل أن أجتمع به في الرحلة الأخيرة إلى باريز، لكان فيه شوبٌ من التقليد والاتكاء على السماع الذي شان العقائد، وأفسد التاريخ، وغطّى الحقائق؛ ولكنني طابقت بين السماع والعيان، وصحّحت الاستدلال في تلك الساعة التي تحدثتُ فيها إليه، وتحدث إليّ، مجردًا من الكلف والرسميات، في بلد غربة وموطن حريّة، وقد زُوِيت في تلك الساعة القصيرة، أطراف تلك النفس الكبيرة، وكانت ساعةً من تلك الساعات المعدودة في التاريخ، التي يلتقي فيها عالم مسلم، بملك مسلم، فلا يجري على لسانيهما إلا ما يرضي الله، وينفع الناس.

لمحتُ في هذا الملك الديمقراطي ملاءمة الفضائل الفطرية فيه، للفضائل المكتسبة بالدرس والتجربة والاحتكاك، فالذكاء الفطري يمازج الإلمام الواسع بما يجري في الكون، والإيمان بالعاقبة يزاوج الاحتفاظ الشديد بحقوق المسلمين، والإيثار يساند الإقدام، والصبر على المكاره يقارن الصراحة في قولة الحق، طرازٌ من الأخلاق متلائم النّسب، متلاحم النسج، متناسب العرض، في شخصية واحدة، يزيّن ذلك كله بساطة متناهية، هي بساطة المسلم الصادق المتشبع بالفضيلة، الذي لا تزدهيه المظاهر، ولقد وقع نظري وذهني- وأنا أحادثه- على صغيرة من آثار تلك البساطة، ولكنها مبعث الروعة والجلال، وهي تجرّد هذا الملك من تلك العهون والذلاذل (ولا أقول: الحُلي) التي يزيّن بها بعض ملوكنا وأمرائنا صدورهم، وأعناقهم، وتراقيهم، على ضرب مما كان يزيّن به العرب جمالهم ... فلا يكون معناها عند العقلاء إلا أن أصحابها فرغت بواطنهم من معاني السلطان، فعمروا ظواهرهم بهذه (الشرطان)، وعلى أن الزمان انتهى من السخرية بهؤلاء إلى هذه الدرجة، فعوّضهم من الأعمال التي يتجمّل بها الرجال، بهذه الحِلْية التي يتجمّل بها غيرُهم ... ... والمحنة الأخيرة! ... والمحنة الأخيرة لهذا الملك المظلوم كانت جرحًا في قلب كل مسلم طاهر السريرة، لما وسمتْ به من التلاعب بالدين الإسلامي، والعبث به، وجعله سلمًا لأغراض سياسية استعمارية، ولما وُصمت به من الإهانة لملك مسلم صالح ذي سلطة دينية لم يخلّ فيها بشرط، تستند على بيعة شرعية قرّرتها الأوضاع والرسوم، وثبتها الإجماع على الرضا، ومكّن لها الاختبار والامتحان، واستوى في إيجابها نطقُ الناطق وسكوتُ الساكت، ولم ينقض الملك لها عهدًا، ولا نكثَ عقدًا، ولم يأت في حالتي الشدة والرخاء إلا ما يقتضي توكيدها، ويُوجب تجديدها، فالاعتداء على الأوضاع الإسلامية اعتداءٌ على الإسلام في نظر المسلمين، والإهانة لملك مسلم صالح إهانة للإسلام. أما ما خُتمت به الرواية فإكراه من السلطة الاستعمارية لا يقرّه شرع سماوي، ولا قانون إنساني، وارتكاب من الملك لأخف الضررين، تعلو فيه حجةُ العاذر على شبهة العاذل، وهو - في حقيقته- بناء على السيف، وما للبناء على السيوف دوام، وإمعان في الحيف، والممعن في الحيف، ممعن في ظلام؛ وإنما يدوم على تقلبات الزمن بناءٌ أساسه العقل، وحائطه العدل ...

ذكرى عبد الحميد بن باديس

ذكرى عبد الحميد بن باديس * يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابيّ الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحية في الأرض، قوّة تحرّك، ورابطة تجمع، ونورًا يهدي، وعطرًا ينعش، وهذا هو معنى العظمة، وهذا هو معنى كون العظمة خلودًا، فإن كل ما يخلف العظماء من ميراث، هو أعمال يحتذيها من بعدهم، وأفكار يهتدون بها في الحياة، وآثار مشهودة ينتفعون بها، وأمجاد يعتزّون بها ويفخرون، والاعتزازُ والفخز من الأغذية الروحية الحافظة لبقاء الجماعات، وهذه المجموعة من ميراث العظماء هي التي تسلسل بها الحياة متشابهة الأطوار قرونًا، ولولاها لانفصمت حلقاتها، فكان لكل فرد قانونٌ خاصّ، وحياة خاصّة، مقطوعة الصلة بمن قبلها ومن بعدها، فيفسد النظام ويختل الوزن وينعدم التشاكل، فينعدم التعاون. والعظمة الحقة- عظمة الخير والجمال والمنفعة- مستمدّة عناصرها الأولى من ينابيع النبوّة، التي هي مثال لتصفية النفس من كثافة المادة وكدورة الأثرة، فهي متصلة بالله، شعر البشر بذلك أو لم يشعروا، واعترفوا بالألوهية أو جحدوا، فكل عظيم أفاد وهدى ونفع وأسعد، فهو سائر على قدم النبوة، أو هو حواريّ لمست روحه شرارة من قبس النبوّة، ومن وزن العظمة بهذا الميزان، ذاد عن حياضها أبالسة الشر من عظماء القوة والطغيان، الذين ظلموا العظمة فاقترضوها، ثم فرضوها، وعظماء العصبيات الجنسية المحدودة الذين ضاقوا عن العظمة، فضاقت بهم، فكل هؤلاء يشيل بهم ميزان الخير الدقيق، وإن رجح بهم ميزان (الخبز والدقيق). ومن الغرائب التي ينطوي عليها الاجتماع البشريّ أن أفراده وجماعاته يشعرون بالقصور عن مراتب العظمة، ويشعرون أنهم مفتقرون إليها، لا تستقيم لهم حياة بدونها، فإذا لم

_ * نُشرت في العدد 151 من جريدة «البصائر»، 16 أفريل سنة 1951.

يوجد فيهم عظيم، ولم تسقه إليهم المقادير، ساقته الأساطير، فتصوّر لهم أخيلتهم عظيمًا، ويُفيضون عليه من التمجيد ما يصوّره مثلًا أعلى، ويصيره مرجعًا أسمى، ثم يعمدون إلى معاني العظمة الكاملة المتفرّقة فيهم، فيخلعونها عليه إعارة، ليأخذوها عنه استعارة، بالقدوة والاتصاف في الأعمال، أو بالتمثل والاستشهاد في الأقوال، ومثل ما فعلوا في العظماء فعلوا في الحكماء مرسلي الحكم، في الكلم، واعتبر ذلك بلقمان في الأوّلين، وجحا في الآخرين، فإننا نجد هذا الاسم دائرًا على الألسنة عند طوائف كثيرة من الأمم، يردّون الحكمَ والأمثالَ إليه؛ ومثله- على نسبة ما- البهلول، والفياش، والمجذوب، عند بعض العرب، و"ماريوس"، وصاحبه عند الفرنسيين وغيرهم عند غيرهم، وكل ذلك يدلّ على أن أفراد النوع مولعون بالعظمة والشهرة، مفتونون بالحكمة والمثل، حتى إنّ أحدهم يرسل المثل، أو يصوغ الحكمة ثم ينسبها إلى غيره ممن ملأ أذهان الناس، وشغل حيّزًا واسعًا من شعورهم، ليكون ذلك أسيَر للمثل، وأبقى للحكمة، وإن هذا لنوع من "القرابين" الروحية للمعاني المتألهة. والعظمة الحقيقية كالشعر المطبوع، تستند على الطبع الموهوب، والاستعداد الفطري ثم تأتي الأدوات في الدرجة الثانية، مساوقة للطبع، متناسقة مع الاستعداد، حتى تتمكّن وتثبت، وتقابلها عظمة صناعية زائفة، تحشد لها الأسباب، وتجلب المعاني، وتستعار لها الأدوات، أو تشترى من السوق، فتأتي متداعية متهافتة، لا تستقرّ ولا تثبت، ثم تموت قبل صاحبها أو تموت بموته. وكما أن استحكام القوافي في الشعر لا يأتي من معرفة أحكام القوافي في العروض، لا تأتي العظمة بالتكفف والصنعة، ولا بالاستعارة والتقليد. ... وعبد الحميد بن باديس عظيم بأكمل ما تعطيه هذه الكلمة من معنى، فهو عظيم في علمه، عظيم في أعماله، عظيم في بيانه وقوّة حجّته، عظيم في تربيته وتثقيفه لجيل كامل، عظيم في مواقفه من المألوف الذي صيره السكوت دينًا، ومن المخوف الذي صيره الخضوع إلهًا، عظيم في بنائه وهدمه، عظيم في حربه وفي سلمه، عظيم في اعتزازه بإخوانه، ووفائه لهم، وعرفانه لأقدارهم. وإذا كان من خوارق العادات في العظماء أنهم يبنون من الضعف قوّة، ويخرجون من العدم وجودًا، وينشئون من الموت حياة، فكل ذلك فعل عبد الحميد ابن باديس من الأمّة الجزائرية. ***

وهذه الذكريات التي يقيمها الناس لعظمائهم، والمذكرات التي ينصبونها لبقاء أسمائهم محفوظةً، وأعمالهم ملحوظة، هي تجديد للعهد بهم، وتمديد للاتصال الروحاني الذي يربط الفروع بالأصل، ويحثّ على التأسّي والاستمرار، ودعوة متجدّدة إلى مبادئهم، وردعٌ للمتطاولين الذين يهتبلون الغفلة وفراغ الميدان فيتعاظمون، فهي- في بعض غاياتها- حراسة للعظمة الحقيقية من العظمة الصناعية، وكأنها تصحيح لحدودها، وتفقّد لموازينها، ومراقبة دائمة للتزوير أن يلمّ بها، فيطغى عليها، فيفسد على الناس أمرها وآثارها، وهذه النقطة وحدها تعدّ من محسنات التكرار لأقوال العظماء، والترديد لفضائلهم في كل سنة. ... وذكرى عبد الحميد بن باديس هي ذكرى أعماله وآثاره في الأمّة، فهذه اليقظة المتفشية فيها، وهذه الحركات السارية كالنار في الضرام، وهذه النظرات الجديدة في الحياة، وهذه الاتجاهات المسدّدة فيها، وهذا التجدّد في الأذهان والعقول، وهذا التصلّب في المقاومة، وهذه الأقلام الجارية بالبيان العربي، وهذه الألسنة المحلولة العقد في الخطابة، كلها مذكّرات بعبد الحميد، وفي كل منها أثر من يده، وأثارة من عقله، ونفخة من روحه، دعا إليها، وجهر بها، وعمل لها، وغرسها في نفوس تلامذته بالدرس، وفي عقول جلسائه بالمذاكرات، وفي عامة الأمّة بالمحاضرات. إن هذه النهضة التي لم تزل في تباشيرها، ستمدّ مدّها حتى تصبح تاريخًا حافلًا، وستنشئ بنفسها مؤرّخها المنصف، ويومئذ يضطر ذلك المؤرّخ إلى إرجاع العناصر إلى أصولها، فيجد عبد الحميد بن باديس "واضع الأس والحجر". ... في مثل هذا اليوم من شهر أفريل من كل سنة، تتبارى الأمّة الجزائرية في إقامة الذكرى لعبد الحميد بن باديس، إحياءً لذكره، واعترافًا بفضله، وتتولّى مدارس جمعية العلماء وشعبها تنظيمها والإشراف عليها، وتعميرها بالخطابة والشعر، وتخليدها بالكتابة، وتشترك فيها الأحزاب السياسية، ومنظّمات الطلبة في خارج الجزائر، وكل ذلك بعض حقوق إمام النهضة على رجال النهضة، ولكن أكبر حقوقه علينا في التخليد، وأعوَدها علينا بالنافع المفيد، هو البناء والتشييد. فليس بنافعنا ولا بنافعه أن نبكي في كل سنة ونعدّد، ولا أن نكرّر فضائله ونردّد، وإنما الذي يعود عليه بأجر من دعا إلى خير، وسنّ سنّةً حسنة، ويعود علينا بفائدة من غرس غرسًا فسقاه، وعمل صالحًا فأبقاه، هو تشييد المعاهد العلمية وتعميرها، وتعهّدها بالعناية، وإمدادها بأسباب البقاء، وقد كان المعهد الباديسي بدءَ العمل، فلا يكوننّ الختام.

الفضيل الورتيلاني

الفضيل الورتيلاني * وصلتنا من بيروت كلمة من الأخ الكريم الحاج خليل أبو الخدود- ومعها تصريحات لولدنا الأبرّ الأستاذ الفضيل الورتيلانى- قبيل الاجتماع العام لجمعية العلماء، وكنا إذ ذاك منهمكين في إعداد الاجتماع، وفي استقبال السنة الدراسية وشؤون المدارس والمعهد الباديسي، وما يستلزمه ذلك من أدوات ووسائل وتجديد في الأجهزة اللازمة من برامج ومال ورجال، ولقد كان إسكان تلامذة المعهد- وعددهم يشارف السبعمائة- كافيًا لاستنفاد الجهد، واستغراق الوقت، وقارنت تلك الجهود تأخّر «البصائر» عن مواقيتها لأسباب داخلية اقتضاها التجديد، لذلك كله تأخّر نشر الكملة وما معها من تصريحات إلى هذا العدد، فمعذرة إلى الأستاذين الفاضلين، البعيدين عنا بعد الدار، القريبين منا قرب العمل المشترك، والفكرة الجامعة: أبي الخدود والورتيلاني. ... وقد كنا قرأنا في الجرائد الشرقية خبر عفو أمير اليمن عن المتهمين في الحركة الانقلابية التي كان من آثارها قتل أبيه يحى حميد الدين، فلم يحرّك منا هذا العفو شعرة، كما لم يثر منا ذلك الانقلاب إلا الألم، ولا يستطيع أحد أن يتهمنا في هذا بجفاء الطبع، أو جفاف العاطفة، فنحن من أشد الناس افتتانا بالعروبة والعرب، وأرقّهم إحساسًا في النوائب التي تنوبهم، وأعمقهم أسىً للحالة التي هم عليها، ولكن رأينا في ملوك العرب معروف، ومن رأينا في الكثير منهم أن كل ما يصدر منهم من عقد ونقض وعفو ومؤاخذة فهو ناشئ عن خطرات من الوساوس الفردية، لا عن بواعث من المصلحة العامة، وأنهم عدموا القوانين

_ * نُشرت في العدد 174 من جريدة «البصائر»، 3 نوفمبر سنة 1951.

المقيّدة، فاستحكمت فيهم النزعات المطلقة، فأصبحوا- في نظرنا- يوجدون، فكأنهم - في فراغ الحياة- ما وُجدوا، ويُفقدون فكأنهم- لهوان الخطب- ما فقدوا، ومن رأينا في ذلك الانقلاب أنه أحط من بصيرة المتبصرين بدرجات، وأنه متأخر عن وقته بسنوات، وأنه لو صحبته البصيرة، وكان العلم والعقل من ذرائعه، لكان تطورًا لا انقلابًا، ولما سال فيه ملء محجم من الدم. ... وقالت تلك الأخبار: إن العفو شمل الأستاذ الفضيل الورتيلاني المتهم بتدبير الانقلاب والاغتيال، وتباشر أصدقاؤه وعارفو فضله بهذا العفو، كأنهم رأوا فيه حدًّا للحالة التي يعيش عليها، وكأنهم يرون أن تلك التهمة- على بطلانها- عاقت الأستاذ الفضيل عن مواصلة جهاده في سبيل العرب والمسلمين، فالعفو يضمن له متابعة الكفاح. والأستاذ الورتيلاني ابن بار من أبناء جمعية العلماء، وغصن من دوحتها الفينانة، فتح عينيه على شعاعها، وسار في الحياة من أول خطوة على هداها، وقضى عنفوان شبابه في أحضانها، وتخرّج في العلم والعمل على قادتها، وبزّ الجياد القرّح في ميادينها، ورمى الغايات البعيدة بتسديدها، وراض عقله على التفكير الصائب، ولسانه على الحديث الصادق، في الإصلاح الديني الذي هو أساس مبادئها، فجذبه استعداده القوي منه إلى العمل في ميدان الإصلاح الاجتماعي، وجرّته غيرته المحتدمة على وطنه إلى العمل للإصلاح السياسي، وهذه أنواع من الإصلاح متشابكة الأصول، متشابهة الفروع، تفصل بينها فواصل اعتبارية دقيقة، ولكن الأجرياء المقدمين يرونها متلازمة، متوقفًا بعضها على بعضها، فلا يتم جزء منها إلا بتمام جميعها، ومن هؤلاء ولدنا الفضيل، فلما ضاق عنه وطنه الأصغر، طار إلى وطنه الأكبر. ولمكان الأستاذ الورتيلاني منا، ومكانته عندنا، وعدّنا إياه من أبنائنا البررة، ورجالنا الأفذاذ، ويقيننا بطهارة ذمّته من القاذورات، وتسامي همّته إلى بناء المأثرات، نرى أن كلمة "العفو عنه" كما تقول الجرائد، سبة لم يسب بأفحش منها، ولا نظن أن ولدنا الفضيل ارتاح لها، أو وقعت منه موقعًا، لما نعرفه فيه من الشمم وكبر النفس، وما زالت كلمة العفو في مثل هذه المواطن ثقيلة على النفوس الحرّة، لا يطرب لها إلا المذنبون الضارعون، كالذي يقول: "رأيت العفو من ثمر الذنوب"، وإذا كان العفو لا يكون إلا عن جانٍ، فإقراره إقرار للجناية، ومتى كان الفضيل جانيًا حتى يعفى عنه؟ أو حتى يكون العفو عنه مدعاة للسرور والابتهاج؟ وقد وقع لنا مثل ذلك مع الاستعمار، يظلمنا، ثم يبدو له فيقول: عفوت عنكم، فلا يكون أحز في نفوسنا من ظلمه إلا عفوه.

كل ذنب الفضيل أنه أراد أن يعالج ناحية من نواحي تلك المملكة الشقية، فعاجلته الأيدي الخفية- التي لا تريد إصلاحًا- بتلك الحادثة. وبعض ذنبه- إن كان هذا يسمّى ذنبًا- أن جرأته على مصارحة الأمير القتيل بلزوم الإصلاح، وتنبيهه إلى مواقع الخطر المترتّب على الإهمال، كل ذلك جرّأ الطائشين على التعجّل بأمر لم يجيلوا فيه روية، ولا تدبّروا له عاقبة، والمعاني الكبيرة لا تحتملها العقول الصغيرة، وأعان على ذلك ظلم طال أمده واتّسع مداه، وتظلّم خفت صوته فلم يتردّد صداه. إننا نعلن- نيابة عن الأستاذ الورتيلاني بما لنا عليه من حق الأبوّة- أنه يستحق التبرئة والاعتذار إليه، لا العفو، إذا كانت العقول قد ثابت إلى رشدها، وطهر الجو من الروائح الاستعمارية التي أفسدته؛ أما إذا كان الإمام لا يحسن الإمامة، وكان السيف لا يقطعُ إلا أوصال جاليه، فخير للفضيل أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق من أن تكتب في تاريخه الحافل "طرة" وهي أنه (مجرم معفو عنه). ... إننا قوم لا نرضى من الأخلاق إلا أن تكون عقائد، وإن هذه الاعتبارات هي التي أسكتتنا عن الحديث في هذا العفو، وإن لامنا عن هذا السكوت اللاءلمون؛ أما ما جرّته تلك التهمة على الأستاذ الفضيل من تنكّر الملوك له، وضيق الحكومات به، فهو امتحان البطولة، وطالما أدّاه الأبطال قاسيًا ثقيلًا؛ وما زالت العليا تعي غريمها، كما يقول ابن خميس؛ وهو دليل البطولة، والبطولة منها عليها شواهد. وأما ما لقيه بسببها من تجهّم بعض الأصدقاء، فهو دليل على أن صداقتهم كانت على دخن، أو من شماتة بعض الخصوم، فهو دليل على أنه كان غيظ الحاسد، ومسيح الدجاجلة، وكل ذلك مما يغلي قيمة الفضيل، ويبين عن صفاء جوهره، وأن تلك الغمّة العارضة ما زادت على أن كانت تلقيحًا في رجولته، وتنقيحًا في أصدقائه، وافتضاحًا لخصومه ...

الجزء الرابع

ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. الجزء الرابع 1952 - 1954 الناشر: دار الغرب الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــــــ

دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى

آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي

ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ القاهرة، 1952 ــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة محمد الغزالي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة محمد الغزالي (*) ــــــــــــــــــــــــــــــ كانت القاهرة- لأكثر من ثلث قرن مضى- ملتقى عدد من المجاهدين الكبار يجيئون إليها في ظل عقيدة جامعة، وأخوة وثيقة، ولغة مشتركة، وآمال واحدة. وكان المسلمون ينظرون إلى الزعماء القادمين نظرة حب جارف وإعزاز بالغ، كانوا يرون النظر في وجوههم عبادة، والحديث معهم والأنس بهم قربى إلى الله. أذكر من هؤلاء الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، وقائد جهادها الأول، زارني يومًا في وزارة الأوقاف- وكنت مسؤولاً عن المساجد- فزكَّى بعض المشروعات التي أقوم بها، ورسم لي طريق إنجاحها، وشعرت كأنه يعد نفسه مسؤولًا عن مستقبل الإسلام في مصر، فهو يهتم به اهتمامي أنا به أو أكثر، ولا عجب فدار الإسلام واحدة وإن اختلفت منابت الأفراد .... وأذكر من أولئك الزعماء اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. عرفته، أو تعرفت إليه، في أعقاب محاضرة بالمركز العام للإخوان المسلمين ... كان لكلماته دوي بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رُزِق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها. لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدَّنا إليه- على قيمته المعنوية- إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق، وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين، وغيظه المتفجر ضد الاستعمار، ورغبته

_ *) وعد الشيخ محمد الغزالي بكتابة مقدمة لهذا الجزء، ولكن أجل الله سبق قبل أن يكتبها، فاخترنا هذا المقال الذي كتبه عن الإمام الإبراهيمي في مجلة الثقافة الجزائرية، عدد 87، مايو- يونيو 1985. فرحم الله الكاتب والمكتوب عنه.

الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يحرروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خِطاباتِهِ يزأر كأنه أسد جريح، فكان ينتزع الوَجَل من أفئدة الهيابين ويُهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: "إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء". إن الخطيب أو الكاتب يوم يستمد توجيهاته من قلبه ويصبها في نفوس تلامذته إنما يُكوّنُ فيالق من أولي الفداء، ويصنع قذائف حية من رجال ينسفون الباطل نسفًا، وذلك ما أحسسناه ونحن نستمع إلى الشيخ البشير الإبراهيمي في القاهرة، فعرفنا لماذا ضاق به الفرنسيون وطاردوه، ومن ثَمَّ قررنا الالتفاف به والاستمداد منه. ومن الخطإ تصوُّرُ أن الشيخ الكبير كان خطيبًا ثائرًا وحسب ... لقد كان فقيهًا ذكي الفكرة بعيد النظرة. ووقع لي معه حوار في مسألتين طريفتين. قال لي مرة: لعلك قرأت في السيرة الشريفة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا ينصرفون عن مجلسه إلَّا على ذَوَاق- وزن جمال-. قلت: نعم. قال: فما الذواق الذي ينالونه في مجلسه؟ فتَرَيَّثْتُ قليلاً ثم أجبت: لعلهم كانوا يتناولون بعض الأطعمة أو الأشربة كما يقع في عصرنا هذا عندما تُقَدِّم للأضياف والوافدين أقداحًا من الشاي أو غيره ... قال لي: ظننتك أفضل من أن تجيب هذه الإجابة الساذجة، أذلك شيء ينوِّه به الأصحاب الكرام؟ قلت في تلهف: فما هذا الذواق الوارد في السنة؟ قال: إنه تذوق أرقى، ألا تذكر الحديث الشريف: «ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا». إن المجلس النبوي تظلله الحكمة، ومقام النبي فيه ترقيق القلوب، ورفع المستوى، وتخليص الروحانية من شوائب الأرض، وجعل البشر في مصاف الملإ الأعلى ... فما ينصرف أحد عن هذا المجلس الزكي إلا وقد تذوق نازلًا من السماء، ولا يعود إلى أهله إلا بذخر يعليه ويعليهم. الحق، ان هذا المعنى كان جديدًا علي، غير أني شعرت بأنه الحق، وأنه أولى كثيرًا من تفسير الذواق بأنه طعام أو شراب ...

وسألني مرة: ما تقول في هذه الذبائح التي تملأ ساحات مِنًى، يتحلل بها الحجاج والعامرون من مناسكهم؟ فلم أدر ما أقول، كل ما استطعت أن أجيب به أنها من شعائر الحج والعمرة قربة إلى الله وطعمة للفقراء، وفي الآية {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ ائأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا ائبَائِسَ ائفَقِيرَ}. قال: ليت الحجيج يحققون هذه الغاية فيأكلون ويتصدقون ويفرح بصنيعهم البائسون الفقراء، إنهم يذبحون ويدعون ذبائحهم على الثرى لا يقربها إنس ولا وحش، فتضيع سدى، وقد نُهينا عن إضاعة المال. حبذا لو وضعت خطة للإفادة من هذا الخير المبذول وتعميم النفع به ... وما تمناه الشيخ البشير الإبراهيمي نفذ بعد ثُلُث قرن، فقد عرفت الآن أن ما يذبح يكون بقدر حاجة الفقراء، والباقي يوجه لسد ثغرات الجوع، والجفاف في أماكن أخرى ... وهذا هو الفقه الصحيح وحسن التصرف في تنفيذ أحكام الشرع الشريف. كان لقاؤنا بالشيخ البشير الإبراهيمي مصدر متعة أدبية وعلمية تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه، ولكن الرجل كان يشرد بين الحين والحين، فنحس أنه معنا وليس معنا، كان جسمه معنا وقلبه معلقًا بالجزائر يتحسس أبناءها، ويتبع العراك الدائر بين الإسلام والصليبية في هذه القطعة الغالية من دار الإسلام، وكنت أشعر بأنه يكتب إلى رجاله أو المسؤولين عن الكفاح الجزائري يشير عليهم بالرأي ... وأستطيع الجزم بأنه ما ضعف يومًا ولا استكان ولا يئس من روح الله، ولا شك في أن الله ناصر جنده، ومعز المجاهدين المسلمين. وهناك أمر لا يعرفه الكثيرون، لقد حاول أن يسد الفجوة بين جماعة الإخوان ورجال الثورة المصرية، فإن الفريقين يقدرونه ويصغون إلى نصحه، ولكن الشر كان قد تفاقم بين الفريقين وعزَّ على العلاج، فتوقف محزونًا. وظل الشيخ البشير، ومعه بعض الجزائريين يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للمجاهدين، وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف الشهداء، ولا أنسى من بين أصحاب الشيخ الأخ الفضيل الورتلاني الذي زاملني في الدراسة وأنا في تخصص الدعوة والإرشاد قبل مجيء الإبراهيمي ببضع سنين، وكان الشيخ الفضيل عملاقًا في مبناه ومعناه ورجلًا له وزنه، وكان يتبع الشيخ البشير على أنه تلميذ وفي له، ويتعاونان على نصرة القضية الجزائرية بكل ما لديهما من طاقة ... قال لي الشيخ البشير: إنكم بليتم بالاستعمار مثل ما بلينا، وشعرتم بضراوته مثل ما شعرنا، لكنكم لا تعرفون أن ما أصابنا نوع شاذ من الاستعمار يشبه السرطان من بين أنواع

العلل المهلكة، إنه كان يريد محو شخصيتنا وعقيدتنا ولغتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، ومن المستحيل الإبقاء عليه أو البقاء معه. إن معنى ذلك الموت الخسيس، وأولى بنا أن نموت جميعًا في ميادين الكفاح والتضحية من أن نموت على هذا النحو الذي يراد لنا ... والجزائري إذا غضب تحول إلى شخص آخر، وقد كنت ألمح تغيرًا عضويًا في وجهه بل في كِيانِه كله عندما يتحدث عن ضرورة الجهاد إلى آخر رمق وعن ضرورة بقاء الجزائر مسلمة تتكلم بلغة الوحي وتحل العربية محل الفرنسية. (وها قد نصر الله الجزائر، ونضر وجوه المجاهدين وعاد الدخيل من حيث جاء، واندحر أتباعه وأعوانه). فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم … كباطل من خلال الحق منهزم ومعرفتي بالشيخ البشير الإبراهيمي تجعلني أتساءل عن حدود الوفاء للقيم والمبادئ التي عاش من أجلها ومات في سبيلها؟. إني أتخيله حيًا، وأتصور أنه يسمع رجلاً يرطن بالفرنسية، ما أحسبه يتركه دون تقريع وتعنيف بالغين. وله الحق في غضبه فإن الاستعمار العسكري ذَنَبٌ والاستعمار الثقافي هو الرأس، والحية لا تموت بقطع ذَنَبِها، بل الأمر كما قال الشاعر: لَا تَقْطَعَنْ ذَنَبَ ائأَفْعَى وَتُرْسِلَهَا … إنْ كُنْتَ شَهْمًا فَأَتْبِعْ رَأْسَهَا الذَّنَبَا وعلى الجزائر أن تحرر ثقافتها من التبعية كما حررت أرضها من الاستعمار، والخطوات البطيئة في هذا المضمار لا ترضي شهداءها الأبرار، بل البدار، ليتأكد الانتصار، وتتضاعف الثمار.

السياق التاريخي (1952 - 1954)

السياق التاريخي (1952 - 1954) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لقد أتى على الجزائر حين من الدهر لم تكن- عند أخواتها- شيئًا مذكورًا، فَنُسِيت بعد أن كان اسمها على كل لسان، وجُهِلت بعد أن كانت معروفة لدى كل إنسان. ولو اقتصر الأمر على الجهل والنسيان لهان، ولكنه جاوز ذلك إلى تصديق كثير من العرب والمسلمين بأنها قطعة من فرنسا، وتسليمهم بأنها امتداد لها. وقيَّض الله للجزائر من يُجَلِّي صورتها لأَخَواتِها، ويذكِّرُهُن بها، ويعرفها لهن بأجلى بيان وأفصح لسان، ذلكم هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي كان يَرُدُّ - في المشرق- على من يَصفه بعلَّامة الجزائر بأنه "علَامة" الجزائر، وأنه علامة رَفْع، فقد جمع الله فيه "أقباسا من روح جمال الدين، ولمحات من إصلاح محمد عبده، وفيوضا من علم رشيد رضا" (1). من عوامل نجاح أية حركة هو أن تُرتِّبَ مراحلها، وتضبط أطوارها، بحيث لا تسبق مرحلةٌ مرحلةً، ولا يجاوز طورٌ طورًا، ولا تُسْتَعْجَل نهاية فترة قبل أن تستوفِيَ أَمَدَها، ويحينَ أجلها، ولا تخترق سُنَن الله في النمو الطبيعي لأي كائن. وكذلك كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد أعطت لكل مرحلة حقها، ولم تطلب منها ما لا تحتمله ظروفها الاجتماعية وأحوالها النفسية وأوضاعها السياسية، فلم تتجاوز مرحلة إلى التي بعدها إلا بعد الاطمئنان إلى تمام المرحلة السابقة، فأقامت كيانها طبقًا عن طبق، وأعلت بنيانها سافًا بعد سافٍ، مما جعلها تسلم من الانتكاس، وتنجو من الارتكاس.

_ 1) من حديث الأستاذ العراقي محمد عبد الله الحسو عن زيارة الإمام الإبراهيمي للعراق، «البصائر»، عدد 200، الجزائر في 8/ 9 /1952.

بلغت الجمعية- بعد عشرين سنة من تأسيسها- أشدها، واستوت على سوقها، واستغلظ عودها وتجذرت مبادئها في عقول الجزائريين، ورسخت في قلوبهم، بعد أن رأوا بأعينهم وأدركوا ببصائرهم حجم التغيير النفسي والتطور العلمي والوعي السياسي الذي أحدثته، فعلقوا عليها آمالهم: جمعية العلماء المسلمين، ومَن … للمسلمين سواكِ اليوم منشود خاب الرجآ في سواكِ اليوم، فاضطلعي … بِائعِبْءِ، مذ فرَّ دجال ورعديد أمانة الشعب، قد شُدت بعاتقكم … فما لغيركمُ تُلقَى المقاليد (2) وأدركت الجمعية أن المسؤولية الملقاة على عاتقها- دينيا وعلميًا وسياسيًا- أكبر من طاقتها، وأضخم من إمكاناتها، فولَّت وجهها إلى أخواتها، وقررت أن تستغل عمقها الاستراتيجي، وهو العالم العربي والإسلامي. لقد بدأت جمعية العلماء هذه المرحلة بفتح مكتب لها في آخر سنة 1950 بالقاهرة، فهي أهم مركز حضاري وثقافي وسياسي في الشرق آنذاك، وهي مقر جامعة الدول العربية، وملتقى صفوةِ المفكرين وخِيرَةِ العلماء العرب. ثم خطت الجمعية خطوة أخرى في خريف سنة 1951، فعينت كوكبة من العلماء ذوي السمعة الواسعة، والشهرة الذائعة، والمكانة الرائعة والمصداقية الكبيرة في أوطانهم وفي العالم الإسلامي، عينتهم رؤساء شرفيين لها (3)، ليقوموا بالتعريف بها وبالقضية الجزائرية التي تجاهد في سبيلها في أوساطهم ولدى المسؤولين في أوطانهم. ثم اتصلت مباشرة- بواسطة رئيسها الإمام الإبراهيمي- في آخر سنة 1951 بالوفود العربية والإسلامية في مؤتمر الأمم المتحدة الذي عقد بباريس، حيث "اقترح عرض قضية الجزائر على الجمعية العامة في دورتها الحالية" (4). ثم أوفدت رئيسها إلى المشرق في مارس 1952، سفيرًا للجزائر، وناطقًا باسم شعبها، ومعرفًا بقضيتها، ومطالبًا- وهو من لا يعجزه بيان ولا يخونه لسان- بحق الأخ على أخيه، ومذكِّرًا بواجب الأخ نحو أخيه، "وأنها- الجمعية- لا ترضى بما دون الواجب، ولا ترضى لنفسها بالتصدق والامتنان والمجاملة" (5).

_ 2) مفدي زكريا: ديوان اللهب المقدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، [ص:268]. والمعروف أن مفدي زكريا هو أحد قادة حزب الشعب الجزائري. 3) انظر أسماءهم في السياق التاريخي للجزء الثاني من هذه الآثار. 4) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو، يونيو 1985. [ص:123]. وكان فاضل الجمالي آنذاك وزيرًا للخارجية في الحكومة العراقية. 5) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في هذا الجزء من الآثار.

غادر الإمام الإبراهيمي الجزائر يوم 7 مارس 1952؛ موليًا وجهه شطر المشرق العربي، وكانت سمعته العلمية والسياسبة قد سبقته عن طريق ما سَلَفَ ذِكْرُه، وعن طريق جريدة البصائر التي كان الإمام يحرص على إرسالها إلى شخصيات مرموقة في المشرق، وعن طريق كثير من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في فرنسا، وكانوا على صلة بشُعَب جمعبة العلماء فيها، وأصبحوا- بعد عودتهم- مسؤولين وأساتذة مثل محمد المبارك، وعمر بهاء الدين الأميري، وصبحي الصالح، وجميل صليبا. كانت سفارة الإمام الإبراهيمي إلى المشرق متعددة المهام، متنوعة الجوانب. وقد جرى التركيز- حتى الآن- عند الحديث عن هذه السفارة على الجوانب التربوية والعلمية، وأُهمل الجانب السياسي المحلي والعري والإسلامي، وهو جانب لا يقل أهمية عن الجوانب، التربوية والعلمية إن لم يفقها. إن الجانب السياسي لهذه السفارة سيتجلَّى إِنْ قُدِّر للوثائق الرسمية للدول التي زارها، ولجامعة الدول العربية أن تنشر، أو ظهرت مذكرات الشخصيات السياسية التي التقى بها، أو اُطُّلعِ على تقارير السفارات والقنصليات والمخابرات الفرنسية في تلك الدول في ذلك العهد. إنه ليس معقولًا أن يلتقي الإمام الإبراهيمي- ذو النظرة الشمولية للقضايا- ملك دولة أو رئيسها مدة ساعة أو أكثر؛ ليقتصر في حديثه معه على قبول عددٍ من الطلبة الجزائريين في معاهد وجامعات بَلَدِ ذلك الملك أو الرئيس، كما أنه ليس معقولاً أن يقبل الإمام أن تطول سفارته حولين كاملين (52 - 54) من أجل الحصول على عددٍ من المنح مهما كَثُر، لو لم يكن السعي لتحرير الجزائر هو الهدف الحقيقي لرحلته. إن الذي يقرأ- بتمعن- بعض ما كتبه الإمام الإبراهيمي في هذين السنتين يُحِسُّ البعد السياسي لمهمته، المتمثل في السعي لتحرير الجزائر، فقد جاء في مقاله الرائع "تحية غائب كالآيب" (6)، وهو يخاطب وطنه: " ... وأما فِراقك فشدة يعقبها الفرج"، ويصف عمله في الشرق بأنه "سعيٌ في كشف غمتك"، ويَهوِّنُ عليه غيابه "فلا يَهُولَنَّك فراغك مني أيامًا، فعسى أن يكون المسك ختامًا، وعسي أن تسعد بآثار غيبتي أعوامًا"، ويبعث بتحياته إلى الشباب الجزائري ويُذَكِّر بالمهمة التي أُعِدُّوا لها " ... ومن شُبَّان ربيناهم للجزائر أشبالًا، ووترناهم لعدوها قِسِيًّا ونِبالًا، وصوَّرنا منهم نماذج للجيل الزاحف، بالمصاحف، وعلمناهم كيف يُحْيُون الجزائر، وكيف يَحْيَون فيها".

_ 6) انظره في هذا الجزء من الآثار.

وقد بيَّن في مذكراته إلى جامعة الدول العربية أن غاية الجمعية "هي تحرير الشعب الجزائري" (7)، و"أنها بدأت بتحرير العقول تمهيدًا للتحرير النهائي" (8)، وأنها "تربيه لا على المطالبة بحقه؛ بل أخذ حقه بيده" (9)، وذكَّر هذه الجامعة بأنها "ملزمة- بروح ميثاقها- أن تحرر كل عربي بالمستطاع من وسائلها" (10)، وأنها "إذا كانت لا تستطيع تحرير الجزائر عسكريًا لاستحالة ذلك في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن تعاوننا بالحظ الأوفر على تحرير العقول" (11)، مع مطالبة "حكوماتنا العربية أن تقف موقف الحزم والصلابة من فرنسا المتعنتة" (12)، وفي هذا الإطار يندرج اجتماعه باللجنة السياسية لجامعة الدول العربية وطلبه منها "أن تُعْنى عناية خاصة بالقضية الجزائرية، وتساعد الشعب الجزائري على الحصول على حقه في تقرير مصيره" (83). والذي أراه هو أنه ما مَنعَ الإمام الإبراهيمي من إبراز هذا الجانب السياسي في سفارته، والتركيز عليه في كتاباته في الصحف والمجلات، وفي ندواته الصحفية، وأحاديثه الإذاعية، وخطبه الجماهيرية، إلا خشيته من انتقام فرنسا من مدارس جمعية العلماء بإغلاقها، وبطشها بمعلمي الجمعية بسجنهم، ونتيجة ذلك كله حرمان آلاف التلاميذ، وضمهم إلى أضعاف أضعافهم المشردين في الشوارع. أما في المجالس الخاصة فكان حديثه "عن استقلال الجزائر وتحريرها من نير الاستعمار" (14). لم يُنْس الإمامَ الإبراهيمي همُّ وطنه همومَ أشقائه في المغرب وتونس، فبعث برقيات احتجاج وتنديد إلى المسؤولين الفرنسيين على موقفهم تجاه السلطان الشرعي للمغرب محمد الخامس، الذي بعث إليه برقية يذكِّرُه فيها "أن التفريط- في الأمانة- خيانة لله وللوطن والتاريخ" (15)، وطالب الجامعة العربية "اتخاذ موقف أسرع وأجرأ وأحزم" (16)، كما أثار القضية التونسية- في رحلته إلى باكستان- مع وزير خارجيتها، وخصها بكلام مؤثر في مؤتمره الصحفي هناك (17).

_ 7) انظر مقال "مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية" في هذا الجزء من الآثار. 8) نفس المقال. 9) انظر مقال "رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي" في هذا الجزء من الآثار. 10) نفس المقال. 11) انظر مقال "مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية" فى هذا الجزء من الآثار. 12) نفس المقال. 13) جريدة المنار، السنة الثالثة، عدد 40، الجزائر 10 أفريل 1953. 14) جميل صليبا: مقتطفات من مذكرات جميل صليبا عن الشيخ الإبراهيمي، مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:36]. 15) انظر تلك البرقيات في هذا الجزء من الآثار. 16) نفس المقال. 17) انظر مقال "رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، الحلقة 5" في هذا الجزء من الآثار.

إن الإمام الإبراهيمي يؤمن أن أكبر عللنا التي أطمعت أعداءنا فينا، وأطالت أيامهم في بلداننا هي تفرق كلمتنا، وتمزق شملنا، وتصدع صفنا؛ فقضى حياته داعيًا إلى الوحدة، جامعًا للشمل، راتِقًا للصف بين أبناء الوطن الواحد وبين أقطار الأمة. وقد صادف وجوده في المشرق بداية الخلاف بين حكومة الثورة المصرية وبين جماعة الإخوان المسلمين، فاستغل مكانته لدى الفريقين، وسعى- بوازعه الديني، وحسه السياسي- إلى رأب الصدع، فاجتهد "أن يسد- بينهما- الفجوة" (18). لقد شغلت وحدةُ المسلمين فكر الإمام الإبراهيمي، وملكت عليه مشاعره، وأخذت نصيبًا موفورًا من كتاباته، ومحاضراته، ونصائحه للحكام ولقادة الأحزاب. وهو ينظر إليها- كما أسلفت- من زاويتين: الزاوية الدينية، فالمؤمنون إخوة، وأمة واحدة بنص القرآن الكريم، وهم جسم واحد بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ والزاوبة السياسية لدرء الأخطار التي تحيط بهم، وجلب المنافع إليهم. وقد ضرب لهم المثل بالغرب الذي يفرقه كل شيء، ويوحِّدُه الكيدُ للمسلمين، حتى يصبح ذلك الكيد كَالرَّحِمِ "يرعاها الغربي للغربي" وأنه لولا- تلك الغَرْبِيَّة- ما استعبدت السبعة سبعين (19). من أجل ذلك اعتبر الإمام الإبراهيمي "السبب الأكبر لرحلتي هذه بعد الدراسة والتعارف هو السعي في إحياء الجامعة الإسلامية التي هي خير ما يجتمع عليه الشرق وأممه وملله" (20)، فجدد- بذلك السعي- هذه الفكرة التي كان الغرب يرتعد لمجرد ذكرها، لأن معناها بروز كتلة سياسية على المسرح العالمي، تهتدي بالإسلام وتتخذه شرعة ومِنْهاجًا، ويتعاون أجزاءها للتخلص من السيطرة الأجنبية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، بل وتقدم للبشرية مشروعًا حضاريًا قويمًا يحررها من إرهاب الشيوعية غير الفطرية، وينقذها من استغلال الرأسمالية غير الخلقية. إن أولى الناس بالتجاوب مع الإمام الإبراهيمي في كل ما دعا إليه هم نُظراؤه من العلماء، ولكن يبدو أنه كان كمن يطرق حديدًا باردًا؛ نستشف ذلك من مقاله القيم "وظيفة علماء الدين" (2) ومقاله "متى يبلغ البنيان؟ " (22).

_ 18) انظر مقدمة الشيخ محمد الغزالى لهذا الجزء من الآثار. 19) انظر مقال "عيد الأضحى" في الجزء الثالث من هذه الآثار، ويشير بالسبعة إلى الهولندينين الذين يبلغ عددهم سبعة ملايين، وبالسبعين إلى السبعين مليون أندونيسي. 20) انظر مقال "في الموصل" في هذا الجزء من الآثار. 21) انظره في هذا الجزء من الآثار. 22) انظره في هذا الجزء من الآثار.

لقد وصف هؤلاء القَعدَة من العلماء بأنهم "يتناولون الأمور الكبيرة بالعقول الصغيرة، والأنظار والقصيرة" (23)، وشنع عليهم تقصيرهم في واجب النزول إلى الميدان، وأخذ عليهم التزامهم بيوتهم أو مساجدهم، منتظرين إقبال الناس عليهم، متكئين على مقولة "العلم يُؤْتَى ولا يأتي"، وهي كلمة- كما يقول- لا تصدق في كل زمان، "وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا" (24). وحاول أحدهم أن يبرر تقصيره بقوله: "إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد"، فرد عليه الإمام: "إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك" (23). ومن أَشدِّ المآخذ التي أخذها الإمام الإبراهيمي على هذا الصنف من العلماء قبولهم الإعفاء "من الجندية التي هي حلية الرجال، وإن في قبول العلماء لهذا الإعفاء، وسعيهم له لشهادة يسجلونها على أنفسهم بفقد الرجولة ... فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلاً عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبب له، أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد، والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعُدُّون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين" (26). إن فكرة الجامعة الإسلامية التي آمن الإمام الإبراهيمي بها، ودعا إليها، وسعى في سبيلها، وحث على إحيائها قد تجسدت- فيما بعد- في "منظمة المؤتمر الإسلامي". وإذا كان أثر هذه المنظمة ضعيفًا، وعملها قليلاً، فما ذلك إلا لأن كثيرًا من المسؤولين في العالم الإسلامي يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويؤمنون بها وجه النهار ويكفرون بها آخره، ويقولون للشعوب الإسلامية أشياء، وإذا خلوا إلى أسيادهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. أما الإمام الإبراهيمي فما عليه- كعالم- إلا البلاغ، وقد بلغَّ، وما عليه إلا التذكير وقد ذَكَّر، وما عليه إلا البيان وقد بيَّن، لم يَتَلَجْلَجْ له في ذلك لسان.

_ 23) انظر مقال "متى يبلغ البنيان؟ " في هذا الجزء. 24) من مقال "وظيفة علماء الدين، الحلقة 3" في هذا الجزء. 25) نفس المقال. 26) نفس المرجع والمقال.

أما المهمة الأخرى التي قام بها الإمام الإبراهيمي في سفارته إلى المشرق، فهي السعي لدى حكوماته لقبول عدد من الطلبة الجزائريين في معاهد بلدانها وجامعاتها، وتخفيف العبء في هذا الميدان عن جمعية العلماء. ويبدو أن هدف الإمام في هذا المجال ليس- فقط- حصول أولئك الطلبة على نصيب من العلم ومقدار من المعارف، ولكنَّه- أيضًا- ربط الصلة بينهم وبين لِدَاتهم في الدول العربية الأخرى، ونَقْبُ ذلك السور الذي ضربته فرنسا بين أبناء الجزائر وإخوانهم في البلدان العربية والإسلامية، فالتعارف مدعاة للتآلف، والتناكر مدعاة للتخالف، وقد واصلت الثورة الجزائرية تنفيذ هذه الفكرة. وقد أسفرت جهوده في هذا الميدان على قبول أكثر من 200 طالب جزائري في معاهد وجامعات مصر والعراق، وسوريا والكويت والسعودية (27). كما استطاع أن يحصل على الاعتراف بشهادات جمعية العلماء، "ومن نِعم الله علينا- ثم بفضل مساعي الأستاذ الرئيس- أن اعترفت المعاهد الشرقية رسميًا بالشهادات التي تعطيها جمعية العلماء ومؤسساتها لتلاميذنا، وجعلها مساوية لمثيلاتها من المعاهد الرسمية التي تشرف عليها الحكومات الإسلامية تونس، ومصر، وسوريا، والعراق" (28). إن ذلك الاعتراف لم يكن مجاملة للجمعية ولرئيسها، فما في العلم من مجاملة، وليس الإمام الإبراهيمي بالذي يقبل المجاملة في العلم. فالاعتراف- إذن- هو نتيجة اقتناع مسؤولي التربية والتعليم في تلك الدول بجهود جمعية العلماء في هذا الميدان، واعتراف بفعالية تنظيمها، وجدية نظامها والمستوى الجيد لطلابها ومعلميها. وقد تمكن الإمام الإبراهيمي أن يزود معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بمجموعة من الكتب، منها ألف مجلد تبرع بها الأمير سعود بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية (29). وذكر الدكتور جميل صليبا- أحد تلامذة الإمام الإبراهيمي في دمشق بين سنتي 1917 - 1920 - أنه جمع لفائدة جمعية العلماء- بطلب من الإمام- "عددًا كبيرًا من الكتب المدرسية وغير المدرسية"، ولاحظ الإمام أن ما جُمع ليس بينه مجلة واحدة فقال: "إن المجلات تهمه أكثر من الكتب، لأنها تعبر عن الحركة الأدبية والنشاط الفكري أكثر

_ 27) انظر تفصيل ذلك في مقال "مشكلة العروبة في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار. 28) محمد خير الدين: مذكرات ج 1 [ص:224]. 29) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في هذا الجزء من الآثار.

من الكتب المترجمة أو المطبوعة لغرض ثقافي معين، فجمعتُ له ما توافر لدي من أعداد مجلة الثقافة، ومجلة المعلم العربي ومجلة المجمع العلمي العربي وغيرها" (30). وحصل الإمام على مساعدات مالية لجمعية العلماء "أُرْسلت من أقطار عربية مختلفة وفي أزمنة متفاوتة إلى مركز جمعية العلماء بالجزائر، وأرسلت الإيصالات إلى أصحابها مقرونة بالشكر" (31). وفي أثناء هذه الفترة 52 - 54 جاب- رغم تقدم السن وآلام المرض- عددًا من الأقطار هي باكستان، والعراق، ومصر، وسوريا، والأردن، والضفة الغربية، والحجاز، والكويت، ولم يكتف في زيارة هذه البلدان بعواصمها؛ بل كان يتنقل بين مدنها، وقد تردد عليها أكثر من مرة. فالتقى المسؤولين السياسيين في تلك الدول، واجتمع بزعماء أحزابها ورؤساء جمعياتها، وكبار علمائها، وعِئية القوم من أبنائها، وأصحاب الأقلام فيها، واحتك بجماهيرها. فرفع المذكِّرات السياسية، وقدم التقارير العلمية عن حالة الجزائر، فصوَّر معاناتها وأوضح عمق محنتها، ودرَّس في المساجد، وحاضر في النوادي والجامعات، وخطب في التجمعات والمؤتمرات، وتحدث في الإذاعات، وكتب في الصحف والمجلات، وعلى القارئ أن يتصور مبلغ الجهد الذي بذله، ومقدار العمل الذي قام به في هذين السنتين عندما يعرف أنه ألقى بباكستان وحدها- في مدة ثلاثة أشهر- 70 محاضرة (32). إن المحاور الأساسية التي أدار عليها الإمام الإبراهيمي نشاطه هي: 1) الجزائر: فهو سفيرها، والناطق باسمها، والمصور لمحنتها، والمعبر عن آمالها، فكان يهتبل الفرص للحديث عنها، ويخلق الأجواء للتذكير بها، فهي دائمة الحضور في عقله، جارية على لسانه، حاضرة حتَّى في لباسه، وأَنَّى له نسيانها وهو "يعتقد أن في كل جزيرة قطعة من الحسن وفيك الحسن جميعه، لذلك كُنَّ مفردات وكنت جَمْعا. فإذا قالوا: (الجزائر الخالدات)، رجعنا فيك إلى: توحيد الصفة وقلنا (الجزائر الخالدة) (33)، وما كان يُهوِّن عليه أتعاب السفر، ويخفف عنه لغوب الحَضَر، إلا يقينه أن ذلك "مزيد في قيمة الجزائر"، التي "لو تبرَّجَتْ لي المواطن في حُلَلِها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عنك

_ 30) جميل صليبا: مقتطفات من مذكرات جميل صليبا عن الشيخ الإبراهيمي ... مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985. [ص:57]. 31) انظر مقال "مشكلة العروبة في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار. 32) انظر مقال "من أنا؟ " في الجزء الخامس من هذه الآثار. 33) انظر مقال "تحية غائب كالآيب" في هذا الجزء من الآثار.

لما رأيت لك عديلًا، ولا اتخذت بك بديلًا" (34). وكان يشيد برجولة أبنائها، واعتزازهم بنسبهم العربي، واعتصامهم بحبل الله، وكان يذكِّر الجميع بحق الجزائر عليهم، وبأن واجبهم نحوها واجب عيني لا كفائي، لأنها ثغر من ثغورهم، ورباط من رباطاتهم، وحصن متقدم من حصونهم. وقد كان يفعل ذلك في عزة المؤمن، وصراحة الإنسان الجزائري، وهمة العالم، "ولقد عشتُ معه شهرًا بالشرق، وحضرت بعض زياراته لبعض الرؤساء والملوك العرب، فكانت تتجلى فيه صفة العالم المسلم؛ يخاطبهم بأسمائهم، ويكلمهم بصراحة لم يتعودوها" (35). وقد ظهر أثر عمل الإمام الإبراهيمي في تلك الاستجابة التلقائية للبلدان العربية والإسلامية- قادة وشعوبًا- لاحتضان الجهاد الجزائري الذي اندلع في نوفمبر 1954، ودعم المجاهدين الجزائريين بجميع أنواع الدعم المادي والمعنوي، ولولا ذلك العمل الكبير الذي ذكَّر العقول، وهيأ النفوس، وحرك الأحاسيس لما كان تحرُّك العرب لفائدة القضية الجزائرية بتلك السرعة، ولما كان دعمهم لها على ذلك المستوى. لقد بَلَّغَ الإمام والله أثبت، وقد زرع والله أنبت. 2) الإسلام وحقائقه، وعظمة تشريعه وواقعيته، ونبل مقاصده، وسمو مبادئه، وقدرته لا على حل مشكلات المسلمين فقط، بل على حل مشكلات البشرية جميعها. ولذلك كان الإمام كثير المؤاخذة للعلماء الذين يأخذون الإسلام تفاريق، ويخضعون كلياته لجزئيات مذاهبهم، ويصرفون المسلمين عن القرآن بدعوى "أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأَنَّى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه- يصفه بأنه عربي مبين، وأنه غير ذي عوج، وأنه ميسر للذكر، وينعته بأنه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يفهم؟ " (36). 3) حاضر المسلمين السيئ، وواقعهم المزري، وتشتتهم الفظيع، وتدابرهم المريع، مما سهل على الدول الأجنبية استعبادهم، بل وضرب بعضهم ببعض. فكان يدعو إلى توحيد الكلمة، وَلَمِّ الشمل، ورأب الصدع، ورتق الشق، فإذا فعلوا ذلك استطاعوا- رغم ضعفهم المادي- أن ينالوا من عدوهم، وأن يخدشوا إن لم يقدروا على أن يبطشوا، وأن يكونوا- بموقعهم- غصة في حلقه، وجلطة في دمه. لقد كان يصور بحق، ويعبر بصدق.

_ 34) نفس المقال. 35) حمزة بُوكُوشَة: "لحظات مع الشيخ الإبراهيمي" جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر في 21/ 5/ 1970. 36) انظر مقال "دولة القرآن" في هذا الجزء من الآثار.

4) العناية باللغة العربية، وجعلها لغة المسلمين كما كانت في صدر الإسلام، لأنها الوسيلة التي تُبقي صلة المسلمين بمصدري دينهم وبتراثهم قائمة. وكان يقول للمسلمين من غير العرب "إن اللغة العربية ليست لغة العرب حتى توضع في موازين الترجيح، وتتعاورها العصبيات بين جنس وجنس، أو تعلو إليها الأنظار الشعوبية، ولكنها لغة القرآن، وخِيَرَةُ الله لكتابه، وإذا كان للعرب عدو أو منافس ينازعهم المفاخر، أو يجاذبهم المحامد، أو يغض منهم، أو ينكر عليهم، فليس للقرآن عدو بين المسلمين، وعدو القرآن ليس من أمة القرآن، ففي هذه المنزلة أنزلوا هذه اللغة، وعلى هذه الأصل فخذوها" (37). لقد أنزل العرب والمسلمون الذين التقوا بالإمام الإبراهيمي وتعرفوا إليه، أَنْزَلوه المنزلة اللائقة، وأحلوه الصدارة من مجالسهم، فقد رأى فيه الحكام صدق القول، وإخلاص القصد، وإباء للمشارب الكدرة، وترفعًا عن المطامع، وسموًا عن الصغائر. ورأى فيه العلماء وأرباب الفكر- بالإضافة إلى ما سلف- علمًا غزيرًا، وفكر منيرًا، ورأيا سديدًا، وبصرًا حديدًا، وسعيًا في الخير بريئًا، ولسانًا في الحق جريئًا، واكتشفوا فيه الفقيه الذكي (38)، والعالم اللغوي (39)، والخبير الاجتماعي، والمؤرخ البعيد النظر، العميق التحليل، والأديب المتمكن، والناقد البصير، والكاتب القدير، والخطيب المصقع والسياسي البارع، فذكَّرهم- بذلك كله- بأعلام المغرب العربي وأساطينه وجهابذته، ذكَّرهم بابن رشيق المسيلى في عمدته، وبالمقري في نفحه، وبالونشرسي في معياره، وبالشاطبي في موافقاته، وبابن خلدون في مقدمته، وبابن معطي الزواوي في ألفيته، وبعبد الرحمن الأخضري في جوهره، وبابن رشد في فصل مقاله، وبابن عبد ربه في عقده وغيرهم، مما جعل "أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه (40)، وأدباء العراق وعلماءه يعترفون "ونحن فى العراق هز عواطفنا وألهب أحاسيسنا في محاضراته وأحاديثه، لم نشهد أديبًا أو داعية بمقدرته وطول نفسه، وإجادته لفن القول وسعة اطلاعه" (41)، ويؤكد ذلك كله الشيخ عبد الحميد السائح، الرئيس السابق للمجلس الوطني الفلسطيني، فيقول: " ... أما العلَّامة محمد البشير الإبراهيمي فقد لقيته وخبرته، وسبرته، وكاشفني وكاشفته، حتى عرفت صدق عزيمته، وصافي طويته ... لقيته متحدثًا حديث المؤمنين الصادقين،

_ 37) انظر مقال "رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، الحلقة 5" في هذا الجزء من الآثار. 38) انظر تعليق الإمام الإبراهيمي على ضياع أضاحي المسلمين في مِنًى، في مقدمة الشيخ محمد الغزالي لهذا الجزء من الآثار. 39) انظر مراجعته للأستاذ عبد العزيز الميمني في هذا الجزء من الآثار. 40) انظر مقدمة الشيخ الغزالي لهذا الجزء من الآثار. 41) جمال الدين الألوسي: الجزائر بلد المليون شهيد، بغداد، مطبعة الجمهورية، 1970، [ص:153].

وسمعته محاضرًا كالسيل الهادر، وخبرته ثائرًا لا يقر له قرار، ما دام للاستعمار أثر في ديار الإسلام، وعرفته داعية صادقًا للإسلام في صفائه وإشراقاته، ومبشرًا بسمو مبادئه، وعرفته حكيمًا حازمًا في إدارة الجلسات، وإدراك ما يدور فيها من اقتراحات ومناقشات، يضع كلا في نصابه ومكانه المناسب مما جعل له في نفسي مكانة لا تبارى، ومنزلة في الذؤابة لا تجارى ... هو المصلي في الميدان والمبرز بين الأقران" (42). كل أولئك أهَّله لدخول المجمع العلمي بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولو لم ينهكه المرض، ويشغله جهاد الجزائر، وما يوجبه عليه من سعي دائب لدعمه وحشد التأييد له؛ لكانت مساهمته في المجمعين متميزة، فهو "من بقايا حراس لغة العرب" (43). ورغم ذلك فقد "كنا نعول التعويل كله على مساهمته والإفادة من علمه وفضله" (44). وإذا كانت العادة قد جرت بأن يُهَنَّأَ المختارون لعضوية مثل هذه المؤسسات، فإن الأستاذ محمود جبر- شاعر آل البيت، وشاعر جمعية الشبان المسلمين- قد خرق هذه العادة، وهنأ مصر والمجمع اللغوي بذلك الاختيار، فكتب مخاطبًا الإمام الإبراهيمي: "أَشُدُّ على يدك، فخورًا بك، وأهنئ مصر بتوفيقها إليك .. إن نسبة المجمع اللغوي إليك فخر له وذخر ... فأنت موسوعة الموسوعات، ومعهد العلماء، وحسن الأدب وحقيقته" (45). محمد الهادي الحسني البليدة (الجزائر)، 28 أكتوبر 1996.

_ 42) عبد الحميد السايح: عالم ثائر، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:103]. 43) انظر "رسالة إلى الأستاذ خليل مردم" في هذا الجزء من الآثار. 44) إبراهيم مدكور: المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء13، القاهرة 1962، [ص:129]. 45) انظر نص الرسالة في: محمد خير الدين، مذكرات، ج 1، [ص:373].

في باكستان

في باكستان (من مارس إلى يونيو 1952) ــــــــــــــــــــــــــــــ

رحلتي إلى الأقطار الإسلامية

رحلتي إلى الأقطار الإسلامية * - 1 - قبل أن أشرع في نشر هذه السلسة من المقالات عن رحلتي، يتقاضاني خلق الوفاء أن أقدّم بين يديها على صفحات «البصائر» التحيات القلبية الخالصة إلى إخواني أعضاء العلماء جمعية الجزائريين، شركائي في الجهاد، وأعواني على العمل، وخلفائي على تلك الحركة المباركة الحيّة المحيية، تحيات تحفها نفحات الشرق، وتزفها لمحات البرق، وتكنفها فرحتا المؤمن الصائم حتى ما بينهن فرق، وتختمها شهادتي بأن أولئك الإخوان هم ذخري إذا أعدت الذخائر، وهم فخري إذا عدت المفاخر. وإلى شيوخ وطلاب المعهد الباديسي الذي أوفى للأمّة الجزائرية بنذرها، وزكّى لها النبات من بذرها، وكان- بآثاره- كفّارة ماحية لسوء تقصيرها، وحسنة كفيلة بحسن مصيرها. وإلى أبنائي المعلّمين، جنود العلم المرتبة، وكتائبه المكتبة، ففد كنت أحييهم- على القرب- في كل سنة عندما تنتهي الامتحانات، تحية أمسح بها عن نفوسهم الجاهدة نصب عامها، وأنضح بريق الأدب جفاف أيامها، وشاء الله أن أحييهم في هذه السنة وبيني وبينهم من ذرع الكرة الأرضية أكثر من ربعها، ليعلموا أني أذكر عهودهم، مبدئًا ومعيدًا، وأشكر جهودهم قريبًا وبعيدًا. وإلى ذلك "الحرس المتنقل" في سبيل الحق، المتفرق لجمع القلوب على كلمة الحق، السائق إلى الله عباده، في شهر العبادة. وإلى أعضاء الشُّعَب: أعضاء الجمعيات المحلية، الذين هم الجهاز المحرّك، والعصب المصرف، والجوارح المنفذة.

_ * «البصائر»، العدد 194، السنة الخامسة، 23 جوان 1952.

بواعث الرحلة

وإلى الأمة الجزائرية الباذلة لموجودها، في سبيل وجودها، التي أقرضتُها القرض الحسن، فوفته اعترافًا، وهجرت في خدمتها الوسن، فمدّت عليّ من الحنوّ طرافًا، أعليت قدرها- ولا منّة- حاضرًا، وعرضت وجهها ناضرًا، ورفعت ذكرها غائبًا، وصيّرت مادحًا لها من كان عائبًا، وعرفت نكرها كاتبًا، وغاليت بقيمتها خاطبًا، وخلعت عليها وصفيها الخالدين: العروبة والإسلام، فزادهما بياني روعة وجلالًا، ثم جلوتها فيهما على أخواتها، فوقفت عليها العيون، وأكبرتها الصدور، وأشهد ما قارنتها بواحدة منهن في هذين فقصرت عن غاية، مع بعد الفارق، وعقوق المارق، وكيد الطارق، ولؤم السارق. فكيف لو أرخى لها الدهر من عنانه؟ وما قلت إنها عربية عريقة إلا أدّى كل حرف من هذه الجملة شهادته، وما قلت إنها كابدت البلاء في سبيل إسلامها إلا فاض الحنان، وثارت الأشجان، وما قلت إنها قهرت في المحافظة على ذينك الوصفين خصومًا لدًّا، وكسرت سواعًا وودًّا، إلا تمنّى كل سامع أن يكونها. فمني للأمّة الجزائرية تحيات مباركات طيّبات تغمر أجزاءها، وتضمن عني جزاءها. ____ بواعث الرحلة ____ دواعي هذه الرحلة كثيرة، ولكنها ترجع إلى أصل واحد، ومثيراتها في نفسي قديمة العهد، تتصل بما ركب في طباعي من حب الاطلاع والبحث، خصوصًا في شؤون الشعوب الإسلامية، وكانت تذودني عن هذه الرحلة- كلما هممت بها- الأعمال الداخلية لجمعية العلماء، وما هي بالقليلة، وعدم موافقة إخواني عليها، حرصًا منهم على تلك الأعمال أن تختل أو تتعطّل، ونحن معشر هذه الطائفة نعدّ من سعادتنا وسرّ نجاحنا أننا لا نتحرّك إلا عن اتفاق، ولا نسكن- إذا سكنا- إلا عن اتفاق، فلما توافرت الدواعي أذن لي إخواني فكانت الرحلة. والأصل الذي ترجع إليه تلك الدواعي يتشعّب إلى أربع شعب: الأولى: دراسة أحوال المسلمين في مواطنهم، وبحث المقارنات والمفارقات القائمة بين تلك الأحوال، ونسبة دركات الانحطاط فيهم إلى درجات الاستعداد للنهوض، وتصحيح الميزان لما تستطيع كل طائفة منهم أن تقدّمه إلى الأخريات من العون والماعون، حتى يحصل التعاون بعد تحصيل أهم أسبابه، وهو التعارف.

الثانية: الاتصال المباشر بعلماء الدين، هذه الطائفة التي تجمعنا بها نسبة ووصف، وتشاركنا في العهد الإلهي المأخوذ علينا جميعًا، وفي حمل الأمانة، ولا ندري هل تشاركنا في الوفاء بذلك العهد، وأداء تلك الأمانة. وهذه الطائفة هي أحق الطوائف بقيادة المسلمين إلى السعادة، وجمع كلمتهم على الحق والخير، إذا تسلّحت بما لا ينافي الإسلام من وسائل زمنها، وأنّى يتمّ لهذه الطائفة أن تجمع كلمة المسلمين على الحق والخير، قبل أن تجمع هي نفسها كلمتها على الحق والخير؟ وقبل أن تتفق على مفهوم الحق والخير؟ وعلى كل حال فالاتصال بعلماء الدين ألزم لمثلي من الاتصال بغيرهم من الطبقات النابهة في الأمم الإسلامية، لتعرف طريقة فهمهم للدين وعملهم بالدين، وعملهم للدين، ومدى اقتدارهم البياني والاستدلالي على الدعوة إليه، ومدى استعدادهم للتضحية في سبيله، ومدى اتصالهم بطبقات الأمّة، واتصالهم بالطبقات الحاكمة، أو المستشرفة للحكم: أهو اتصال نفوذ ديني يأمر وينهى، أم اتصال مجاملات عرفية تخضع وتستخذي؟ وأن هذه النقطة هي المحك، وهي الميزان بين عالم وعالم، وأن العالم الديني الذي يعوّل عليه في هذا الباب هو الذي فهم دينه على وجهه الصحيح، وفهم نفسه بوزنها الصحيح، وفهم زمنه على وجهه الصحيح أيضًا، وعرف أمراض المسلمين، ووطن نفسه على علاجها، ونكب عن ذكر العواقب جانبًا، أما الخلاف المذهبي بين العلماء فهو أيسر من أن يقف عقبة في هذا السبيل، وعلاجه - إذا صحّت النيات وعقدت العزائم على توحيد المسلمين- في جملة واحدة: الاتفاق على المتفق عليه، والسكوت على المختلف فيه سكوتًا ينتهي مع طول الزمن إلى نسيان الخلاف، وما أرث الضغائن وأيقظ الفتن إلا الجدل واللجاج، وان المتفق عليه لشيء كثير، وان فيه لخيرًا كثيرًا، وان فيه الكفاية للإصلاح وزيادة. الثالثة: دراسة أحوال الحكومات الإسلامية القديمة والناشئة، والأصول التي تبني عليها الحكم، والاتجاهات التي تتوجّه إليها من حيث هي حكومات، ومدى تغلغل المؤثّرات الخارجية في أجهزتها الحكومية. كل تلك الدراسة لنعرف أيها أقرب مسافة من روح الإسلام وروح الشرق، وأيها أصلح لأن تكون مثالًا قريبًا للحكم الإسلامي الصالح، حتى يسانده المصلحون بالرأي وحشد المؤهلات فيصبح في وقت قريب محقّقًا لرغائب المسلمين، رادًّا عليهم ما ضاع من أحكام القرآن التي سعد بها سلفهم وأسعد. الرابعة: دراسة نفسية شباب الأمم الإسلامية المتباعدة الديار، ومبلغ تأثرهم بالعوامل الخارجية التي تبعدهم عن روح الإسلام، ليقدر بقدرها ما يجب لهذه الحالة من علاج، ان الشباب في جميع الأمم، وفي جميع العصور هم الدم المجدّد لحياتها، الناقل لخصائصها بالوراثة، فإذا طرأ على هذا الدم ما يفسده، أو عرض للخصائص ما يزيغها، تهوّر الشباب في عماية، وزعم التطوّر، في هذا التهوّر، فمسخ أمّته وأدغمها في غيرها، ثم لا تكون في ميزان

ذلك الغير إلا تابعة مسودة مستعبدة نازلة عن ذاتيتها، لأنها طارت بجناح مستعار، الطائر به واقع، وهذا هو المسخ، بل هذا هو الموت، ومن المؤلم أن يكون القاتل هنا هو الشباب مصدر الحياة والإحياء، وما ركب هذه الشنعاء إلا لأنه انحرف فغرّته التهاويل، وفتنته الأقاويل، ألا إن الشباب هم الساف الجديد في بناء الأمّة، فإذا أفرط في التأثّر رمى الجسم كله بالاعتلال. هذه حقيقة، يجب أن تقف بجنبها حقيقة أخرى، وهي أن الشباب ليسوا هم المسؤولين عن هذه الجريمة الشنعاء، وإنما المسؤول هو المجتمع الإسلامي المنحلّ المختلّ المعتلّ الذاهل الغائب عن الدنيا، والمسؤول الأول من هذا المجتمع هم أولياء الأمر من آباء وقادة وحاكمين، وفي كلمة واحدة: المسؤول عن كل جيل، لاحق هو الجيل السابق، فإذا تداخلت الأجيال السابقة تعلّقت بهم التبعة جميعًا، ولا عذر يبرئ من هذا الذنب، وسيرى القارئ في أثناء هذه الدراسات شرح هذا الإجمال. ومن سوء حظ الأمم الإسلامية (وهو في نظرنا وحكمنا من سوء تصرّفها إذ لا مدخل للحظ في مصاير الأمم) أن تطوّرها لا ينشأ في هذا العصر عن استعدادها الطبيعي، وليس لها في أسبابه يد حتى تبنيه طبقًا عن طبق بنظام تدريجي يكمّل فيه الأخير ما بدأه الأول، ولكنها مغلوبة على أمرها، تابعة لغيرها في كل شيء وقد أصبح تيار الحضارة الغربية جارفًا لا يمهل ولا ينتظر، وأصبح شباب الأمم الإسلامية معرضًا لهذا التيار من أول خطوة في الحياة، وقد أخذ عليه الحياة من أقطارها، فتآثر بهذه الحضارة وأعشته أنوارها فأحرقته نارها، والآباء بين غافل، لأنه جاهل، وبين متذمر يدرك العواقب ولكنه لا يصنع لاتقائها شيئًا، والحكومات الإسلامية فيما بلونا من أمرها إما مأخوذة بهذا السحر، فهي تجري وراء الساحر على غير بصيرة، وقد أوحى إليها فيما أوحى أن القيام على الحقول والبقول، ألزم لحياتها من القيام على العقول، وإما متخلفة عن قوافل الزمان، عاكفة على الدمن، معتمدة في العصر الذرّي على سيوف الهند واليمن. لذلك كله أصبح من الواجب على قادة النهضة الإسلامية وحماتها أن يرسلوا صيحة جهيرة وراء هذا الجيل الراحل عن الديار بروحه وعقله وهواه، ليرجع إليها، وليس براجع إلا إذا عرف لماذا يرجع، وماذا يجد إذا رجع، فلنعرفه أنه سيجد ماضيًا مشرقًا يتصل بحاضره اتصال الأصل بالفرع، وسيجد تاريخًا حافلًا، وذخائر عقلية، ومجالات روحية تمكن له في الإنسالية الكاملة، وتضمن له جميع المتع العقلية والفكرية والروحية والبدنية، إلا هذه الشهوات السطحية والنزوات الحيوانية فليس لها مكان عندنا، ولا قرار في شرقنا، فإذا رجع هذا الشباب من غربته العقلية، وعاد إلى مستقرّه الشرقي، واطمأن إليه أمِنّا على تاريخنا الانقطاع، وأمِنّا على ذخائرنا الضياع، لأنه سيأخذها بقوّة الشباب، ويقين العقيدة، وتزكية

العلم، وصدق الشعور، وحيوية الإحساس، ويمسح عنها صدأ الإهمال، ويتناولها بآلات جديدة لم يفسدها الترك والاطراح، ولم يثلمها التقليد كما ثلمها في عقول آبائه وأرواحهم. هذه هي النقطة التي يجب أن تبدأ منها أعمال المصلحين من حماة الإسلام، وتلتقي عليها جهودهم، وإلا فإنهم يضربون في حديد بارد، فإن كانوا فاعلين فليبدأوا العمل في ميدانين: في البيت الذي هو معمل التكوين، وفي المدرسة التي هي معمل التلوين، وليتعاهدوا البيت بالتطهير وتقوية التربية الدينية في من يلي تربية هذا الجيل من آباء وأمهات، وليحملوا القائمين على هذه المدارس التي يضطرب فيها الجيل على إقرار الدين فيها علمًا وعملًا إلى جانب الدنيا. هذا هو الجهاد الأكبر الذي لا يعذر المصلحون في العالم الإسلامي في التخلف عن ميدانه، وهو في حقيقته وواقعه معركة بين الإيمان والكفر على شبابنا، فمن ظفر فيها غنمه، وبوادر هذه المعركة تدلّ على أن النصر ليس في جانبنا، ولئن لم نستعدّ للجولة الثانية، إنا إذًا لخاسرون، والجولة الأخيرة ستبتدئ من الصبية قبل الشبيبة، فعلى المصلحين أن يبادروا بتلقيحهم "بالمصل الواقي" وما هو إلا التربية الإسلامية الصحيحة الكاملة، فإن المحافظة على الأرواح ليست أقل شأنًا من المحافظة على الأبدان، وأن يصرفوا عنايتهم واهتمامهم كله إلى هذه الناحية، ولا يتشاغلوا بالآباء ووعظهم فإن هذا عمل لا غناء فيه في مسألتنا، وحسبهم من هذه الطبقات- التي جفّت على عوج، وانطمست فيها آية الفطرة- إصلاح يمنع انتشار العدوى، ويحول دون استشراء الداء، ودون تعطيل الإصلاح. ... والعجب من ملوك الإسلام وكبراء الشرق، أنهم لا يلتفتون إلى هذه الناحية بل يتركون الشبان تتخطفهم ذئاب الآراء ونسور العقول، ويلهون أنفسهم بهذه الطوائف المدبرة، يهتمون بها ترغيبًا للمصلحة، أو ترهيبًا لدفع المفسدة، فأما العضو الحي الذي سيحمل الأمانة غدًا، ويضطلع بالدولة، ويقود المسلمين إما إلى جنة وإما إلى نار، فإنهم لا يلقون له بالًا، ولو اعتنوا به وأحاطوه بالرعاية لعاشوا به سعداء راضين مطمئنين، وماتوا قبله آمنين على هذه الأمانة. ... ويح المسلمين! يولد مولودهم، فإما أن يهمل ولا يعلم- وهذا هو الأكثر- فيستقبل الحياة بلا دين ولا دنيا، وإما أن يعلم هذا التعليم الشائع فيجمد وتخمد فيه جذوة الإسلام،

وإما أن يسلك به المسلك الثالث وهو التعليم الأوربي أو المطبوع بالطابع الأوربي فيلحد ويحتقر آباءه وأمّته ودينه ولغته ووطنه، فمن للمسلمين؟ ... هنا شكوى متردّدة بين جنبات الشرق، وتهمة مترادّة بين شيوخه وشبابه، أولئك يشكون من هؤلاء أنهم تمرّدوا على الدين فلا يقيمون شعائره، وعلى الفضائل فلا يقيمون لها وزنًا، وهؤلاء يشكون من أولئك أنهم رجعيون جامدون لا يسيرون مع الزمن ولا يتركونهم يسيرون، تسمع هذه الشكوى، وما ثم إلا الشكوى، فأما العمل لإزالتها، والسعي في علاجها، والتقريب بين طرفيها فلا تسمع عنه خبرًا، ولا ترى له أثرًا. وقد أتاحت لي إقامتي شهرين في باكستان أن أدرس بنفسي حالة شبانها، فرأيت الحالة مشابهة لما عندنا، ثم اجتمعت في كراتشي بنفر من رجالات الشرق النابهين فأخبروني عن أوطانهم متألمين أن حالة الشبّان واحدة، ثم شهد المؤثمر الأخير عدّة وفود من الأقطار الإسلامية، فتهيّأ لي أن أدرس عدة نواح منها هذه، فخرجت بهذه الزفرات التي بثثتها في هذه الكلمات، فإذا أطلت في هذه النقطة فعذري هو هذا، على أنني لم أنته إلى الرأي المفصّل، وسأفصله في "الرحلة" فإنني الآن إنما أكتب إلى «البصائر» وهي صحيفة. هذه هي المقاصد الأساسية لرحلتي، وإن وراءها لنوافل كثيرة أهمها التعريف بجمعية العلماء وأعمالها للإسلام والعربية، والتعريف بالجزائر والشمال الافريقي كله، فإن إخواننا في الشرق لا يعلمون عنا إلا القليل المشوّه، وقد قمت بهذا التعريف في دواخل باكستان على أكمل وجه، فأصبحت أحوالنا وأعمالنا معروفة على حقيقتها، وأصبحت في نظر المجتمعات التي سمعت عرضها وبيانها مني مما تجب العناية به، ومن تلك النوافل المؤكّدة تصحيح أخطاء السماع بالعيان، ومنها توكيد التعارف بين أجزاء العالم الإسلامي وفتح الباب لتبادل الزيارات، ولم تزل هذه الرحلات عند أسلافنا أخذًا وعطاءً وإفادة واستفادة، وإذا يسّر الله إكمال هذه الرحلة يسّر كتابتها على النحو الذي شرعت فيه، ودوّنت المرحلة الأولى منه، فستكون رحلة عامرة بالمعلومات الصحيحة، والآراء الممحصة إن شاء الله، وسيكون أول مستفيد منها أبناء الشمال الافريقي. إن هذه المقالات التي أكتبها متتابعة في «البصائر» هي خلاصة المذكرات التي أعددتها لكتاب الرحلة، ومعذرة لإخواننا الشرقيين إذا قرأوا فيها سردًا لتنقلاتي، أو توسّعًا في شيء معلوم عندهم، فإنني إنما أكتب لقومي ومن يليهم، وهم في حاجة شديدة إلى مثل هذه الأخبار، لانقطاعهم عن الشرق وتشوّفهم إلى كل ما يرد منه أو عنه، ومعذرة أخرى إلى قرّاء

بدء الرحلة

«البصائر» إذا أحسّوا بتفاوت في أسلوب هذه المقالات، فإن ذلك نتيجة التأثرات المتفاوتة التي ترد على الرحّالة الدارس. ... ____ بدء الرحلة ____ خرجت من الجزائر يوم الجمعة سابع مارس 1952 وشيّعني في المطار إخواني المشائخ الأجلّة الذين أذكر أسماءهم هنا تنويهًا بفضلهم وتجديدًا لذكراهم، الأساتذة: العربي التبسي، ومحمد خير الدين، وعبد اللطيف القنطري، وأحمد توفيق المدني، وحمزة بوكوشة، وباعزيز بن عمر، وولدي أحمد الإبراهيمي، ورجال المركز كلهم، ووفد من أفاضل البليدة، ذكر الله الجميع بخير الذكر، ووصلت إلى باريس بعد زوال ذلك اليوم فتلقاني بالمطار الأستاذان المحاميان عياش ابن عجيلة، وأحمد بو منجل، ولبثت في باريس يومي الجمعة والسبت للاجتماع برئيس الشعبة المركزية لجمعية العلماء وأعضائها ورجال الحركة فيها. وفي مساء الأحد تاسع مارس على الساعة السابعة ركبت القطار السريم إلى رومة وصحبني إليها الأستاذ أحمد بو منجل فوصلناها مساء يوم الإثنين الموالي قبل قيام الطائرة إلى مصر بساعتين، فذهبنا رأسًا من محطة القطار إلى المطار، وفي المطار ودّعني الأستاذ بو منجل راجعًا إلى باريس من ليلته. قامت الطائرة (وهي تابعة لشركة ك. ل. م. الهولاندية) من مطار رومة على الساعة الثامنة من مساء الإثنين فوصلنا مطار فاروق بالقاهرة على الواحدة بعد نصف الليل، وكانت مرحلة من أجمل المراحل، فالجو صاح والقمر مبدر، والبحر المتوسط تحتنا، مبرقع بقزع من الضباب الأبيض. إنه منظر لم أرَ في عمري أجمل منه، حتى قطعه علينا منظر أضواء المدن المصرية، وبدأت الطيارة تنحدر، وقيل هذا مطار فاروق، وكانت الساعة الواحدة بعد نصف الليل. كنت أبرقت من باريس إلى مكتب الجمعية بالقاهرة بساعة سفري من رومة وساعة وصولي إلى مصر ورقم الطائرة، وغاب عني أن الأحكام العرفية المنصوبة في مصر تقضي بمنع التجوّل بعد العاشرة ليلًا، لذلك لم أجد في المطار أحدًا ينتظرني، فتوليت الإجراءات القانونية بنفسي، وهي كثيرة معقّدة استغرقت ساعتين من الزمن، ثم ذهبت مع المسافرين في سيارة الشركة المرخص لها إلى الفندق المرخّص له وهو فندق "هليولوليس" بمصر الجديدة،

- 2 -

وأنا على يأس من لقاء الجماعة في تلك الليلة، فما راعني إلا وهم مجتمعون في فناء الفندق ينتظرونني، لا يبرحونه حتى إلى المدخل الخارجي لأن ذلك يعدّ تجوّلًا ممنوعًا، وعرفت الأستاذ الصديق سعدي من أول نظرة وقد مرّت على افتراقنا عشرون سنة، وقد بدأت السن تأخذ من معارف وجهه، ولا تسل عما غمرني من السرور لرؤية الأستاذ الصديق، وعما داخالني من الأنس للاجتماع بالإخوان، وقد علموا أن ركاب الطائرات لا بدّ أن يقدموا إلى هذا الفندق فرابطوا فيه، من أول الليل، وأبلغوني تحية صاحب السعادة عبد الرحمن عزام باشا، وصاحب المعالي الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وأنهما كانا عازمين على اقتبالي في المطار لو كانت الطائرة تصل نهارًا، ولكن رجال الأمن كانوا متشدّدين في تطبيق قانون منع التجوّل، وقضينا بقية الليلة في بهو الفندق في سمر وحديث إلى الصباح، فنقلوني إلى فندق جزيرة بالاس حيث اتفق مكتب الجامعة ... - 2 * - انتقلنا إلى فندق "جزيرة بالاس" لأن مكتب الجامعة العربية ومكتب جمعية العلماء بالقاهرة اتفقا على نزولي فيه، وحجزا لي فيه غرفة للنوم ومكتبًا للاستقبال فيه جهاز تيليفوني، وكان ذلك في الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء حادي عشر مارس، وما جاءت الساعة الثامنة حتى كان أول زائر صاحب المعالي الدكتور محمّد صلاح الدين باشا، وعبد الرحمن عزام باشا، وكأنما كانا على ميعاد، وذكريات اجتماعي بهما في باريس لم تزل ندية رفافة، تَفغَم وتفعم، وكأن تبكيرهما بهذه الزيارة كان وصلًا لذلك وبقية من معانيه، جزاهما الله عن الوفاء خيرًا. ثم تواترت زيارة الإخوان فملكت الدقائق والثواني، وآنست نفسًا طال شوقها إلى مثل هذه المجالس وهؤلاء الإخوان وهذه الأحاديث وأنست الراحة والنوم مع شدة الحاجة إليهما، وما الأسير العاني اشتبهت أيامه، وطال في الأغلال مقامه، حتى إذا استيأس جاءته البشرى بالسراح، وحرية البراح، ولا الغائب المنقطع، تلقّته الأقطار بخيبة الأوطار، فلجّ في ركوب الأخطار، "ليبلغ عذرًا أو ينال رغيبة" ثم فاجأته الأقدار بالرجوع إلى الأهل والدار، مقضي المآرب، مهنأ المشارب، بأطيب نفسًا، ولا أقرّ عينًا، ولا أكثر ابتهاجًا مني في ذلك الأسبوع الذي أقمته بالقاهرة، وكأنها أرحام تعاطفت، وأرواح تعارفت فتآلفت،

_ * «البصائر»، العدد 197، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 28 جويليه 1952.

فارتفعت الكلف، وسقط التحفظ والاحتراز، ولا أنسى- ما حييت- فضل أولئك الإخوان الذين زاروا وتردّدوا، ولم تروهم الشربة الواحدة فعدّدوا، وما منهم إلا عالم، أو نابه، أو كاتب، أو صحافي، أو ذو مكانة اجتماعية، أو تلميذ، ولله تلك الفئة المهاجرة للعلم من أبناء الجزائر، فكأنهم- والله- أبناء بررة، يلوذون مني بأب طال غيابه عليهم، ثم تيسّر إيابه إليهم ... لكم الله أيها الأبناء، وعليّ نذر لله أن أتعب لراحتكم، وأن أميط الأذى عن ساحتكم، ما عشت وانتعشت، وما أخلصتم للعلم وانقطعتم له ونويتم به نفع الجزائر ... إن الجزائر أمّكم البرة، وهي تعلّق عليكم الآمال، وترجوكم للأعمال لا للأقوال، ولستم بنيها إن هجرتموها، ولستم لها إن رجعتم إليها بالفارغ والسفساف، ولستم ورّاثها إن لم تردّوا عليها ميزاتها وأنا أعيذكم بالجزائر وهي الأم، وبالعلم وهو الأَمّ، وبالأطلس الأشم، وبابن بادبس وهو المثال الأتمّ، أن ترجعوا إليها أبعاض علماء، وأجزاء زعماء، أعلاها ثلث وربع، وأدناها سدس وسبع، فما أكثر هؤلاء فيها، ولكنهم يمسكون عليها الذماء، ولا يملكون لها النماء، فهي في حاجة إلى من يرود ويعود، فيقود ويذود، ونحن قد شرعنا لكم المشارع، ونهجنا لكل صالحة طريقًا، وصدمنا الباطل حتى تضعضع، ووضعنا لكم الأساس على صخرة، وبدأنا لتتمّموا، وليت شعري ... إذا خلت أمكنتنا منا فمن لها غيركم؟ ... لا تتسع هذه المقالات لذكر أسماء الإخوان الذين زاروني واحتفوا بي، وإن كانت مدوّنة في مذكراتي، ولا تتسع كذلك لذكر أعمالي ومقابلاتي وزياراتي للأمكنة والرجال، فإن ذلك مرجأ إلى الكتابة عن "مرحلة مصر" بعد رجوعي إليها إن شاء الله، وقد كفاني بعض المؤونة مكتب الجمعية بالقاهرة، ونشر المجملات في حينها على قرّاء «البصائر»، وإن قصر في السرد ونسي بعض الأسماء، ولكني ما زلت مملوء النفس سرورًا بشيئين: الأول درس ألقيته في المركز العام للإخوان المسلمين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية. ولا قيمة للدرس في ذاته، وإنما قيمته بحاضريه وبمكانه، وبالجمعية التي دعت إليه، وبمعنى آخر أسمى من ذلك كله وهو أنه وصل بين جمعيتين تعملان لإحياء الإسلام الصحيح بإحياء روحانيته، والثاني زيارتي لجامعة فؤاد الأول، واجتماعي بمديرها سعادة عبد الوهاب مورو باشا، وبعض أساتذتها الكرام، وزيارتي لكلية الآداب، وللمكتبة الضخمة، ولقاعات المطالعة والبحث، ولقاعة المحاضرات، فأشهد مخلصًا أنني خرجت مرفوع الرأس تيهًا، مملوء النفس فخرًا، مفعم الجوانح إعجابًا بهذه الجامعة التي هي مفخرة الشرق وحجّته على الغرب، وأشهد مخلصًا لقد أحسست بعد الخروج كأن وجودي تضاعف مليون مرّة بوجود هذه الجامعة ومعذرة لمن يتّهمني بالمبالغة، فأنا من قوم يشهدون كل يوم

إلى كراتشي

بناءً ليس لهم فخره ولا نفعه، وبناءً ليس منهم أصله ولا فرعه، ويلقون في كل ساعة خصمًا يرميهم ويرمي جنسهم بعقم الفكر، وتخلّف الذهن وخرق اليد، وقد باهوا بماضيهم، فقيل لهم: وأين حاضركم؟ فارتج عليهم، وأجرهم الواقع بما أخرسهم، فلهم في أعمال بني أبيهم حجة، ولهم بها افتخار، وقد أكسبتهم تلك الحالة تفنّنًا في المباهاة، وذوقًا لطيفًا في صوغها، فهذا من ذلك، ولا عتب ... ولقد ساءني- والله- أن تكون هذه الجامعة الفخمة حمى للعربية، ولا تكون حمى للإسلام، وإن مجد العربية من مجد الإسلام، وإن في الإسلام لكنوزًا من الفلسفة الروحية والكمالات الإنسانية، وما ان هذه الجامعة لأحق ببحثه ودراسته. أما الجامعة الأزهرية فيؤسفني أن وقتي لم يتّسع لزيارتها زيارة تليق بمكانتها في نفسي، وإن زارني كثير من أساتذتها الأجلّاء، وإن زرت إدارتها ومديرها الأستاذ الجليل محمد عبد اللطيف دراز ردًّا لزياراته المتكرّرة، وتنويهًا بمكانه من جمعيتنا لأنه من رؤسائها الشرفيين، وسأقضي ما فاتني من حقوق الإخوان، وسأستوفي ما حرمته هذه المرّة من الزيارات والدراسات في الزورة الثانية لمصر، وقد تقاضى مني الإخوان بذلك وعدًا أنا منجزه إن شاء الله تعالى. ... ____ إلى كراتشي ____ كنت يوم خرجت من الجزائر مصمّمًا على أن أقيم في القاهرة يومين، وأواصل السفر بعدهما إلى باكستان، لأن مكان مصر من هذه الرحلة يأتي في الأخير، ولأن باكستان هي الأولى في البرنامج، ولأحضر اجتماعًا يعقد في كراتشي باسم مؤتمر العالم الإسلامي القديم، ولكن أمرين حدثا في مصر فرميا ذلك التصميم بالوهن: الأول مقابلة جميل أولئك الإخوان الذين حدّدوا المواعيد لزيارتي، بجميل مثله، والثاني ما بلغي بعد وصولي إلى القاهرة من أن اجتماع كراتشي إنما هو اجتماع اللجنة التنفيذية للمؤتمر، وأن الاستدعاء الذي بلغي إنما يراد به استجراري لزيارة باكستان، وحسنًا فعلوا، أما مؤتمر الشعوب الإسلامية فلم تبلغني الدعوة إليه إلا وأنا بالقاهرة في رسالة حملها إلي الأستاذ سعيد رمضان الذي رجع من رحلته إلى أندونيسيا وباكستان في اليوم السابق لخروجي من القاهرة، وبادر فزارني على أثر وصوله، ثم تفضل فزارني ليلًا وقضى معي ساعات، ولا أنسى فضله عليّ فيما قدّم إليّ من معلومات غالية، كانت وما زالت نورًا يسعى من بين يدي في هذه الرحلة.

لذلك كله امتدّت إقامتي في القاهرة إلى تسعة أيام، وأحمد الله على أنها كانت عامرة بالفوائد، وما تسعة أيام في جنب القاهرة إلا كتسع ثوان، وإن لنا في مصر لمآرب لا تقضى في الأيام، وإن لنا فيها لبعثة لم تزل نواة فهي تنتظر السقي والتعهد، ومكتبًا لم يزل ضيّقًا فهو ينتظر التوسعة والتنظيم، وإن لمصر علينا- بعد ذلك وقبله- لحقوقًا وحقوقًا توجب علينا الاتصال، ما وسع الوقت والحال. أما اختياري لباكستان نقطة ابتداء لهذه الرحلة فهو مقصود، لما اجتمع فيها من الخصائص المحقّقة للأغراض التي ذكرتها في بواعث الرحلة، ومن تلك الخصائص ميولها الإسلامية التي هي صفة ثابتة في الشعب، ومظهر مقصود للحكومة، أعلنت عنه وجاءت بشواهده، لإيمانها بفوائده، وكان هو السرّ في اتجاه المسلمين إليها، وقد أعددنا دراسة وافية في هذه النقطة لكتاب الرحلة، ومنها اتساع صدرها لأمثالي من علماء الإسلام ومفكّريه وكتّابه، ولإقامة المؤتمرات العامة للشؤون الإسلامية من جميع الشعوب الإسلامية، ومنها حسن استعدادها لتلقّي الإرشادات والنصائح والمعونة المعنوية من كل مرشد مخلص، ومنها احتضانها لقضايا الشعوب الإسلامية السياسية، ومنها أنها أصبحت محل عطف المسلمين لما اعترضها من مشاكل داخلية وخارجية من أول يوم من تكوينها، ومنها أنها رأس مال ضخم للإسلام بتاريخها واتساع رقعتها ووفرة سكانها، ومنها أنها لجدتها وغرابة انفصالها وكثرة المذاهب الدينية فيها لم تزل مجهولة عند كثير من المسلمين، ففي الاتصال بها تعريف لها وتعريف بها، وعلم يُعطى وعلم يُؤخذ، ولا أذكر هنا ما يلوكه بعض الناس من تطلعها لزعامة الأمم الإسلامية، فإنني لم ألمح هذا ولم ألمسه مع طول إقامتي وكثرة ملابساتي لمظانه، وباكستان أول من يعلم أن الزعامة نتيجة أعمال، لا مقدّمة أقوال. ... وبعد الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس العشرين من مارس قامت بنا من مطار فاروق بالقاهرة طائرة من طائرات شركة ك. ل. م. الهولاندية، فنزلت بنا في مطار بغداد بعد ثلاث ساعات وربع تقريبًا، واسترحنا في المطار ساعة ونصفًا تناولنا فيها طعام الغداء في مطعم الشركة، وكان الأستاذ سعيد رمضان أبرق من القاهرة في مساء اليوم السابق إلى الأستاذ محمد محمود الصواف ببغداد ليلقاني في المطار ويؤنسني في ساعة الاستراحة، ولكن البرقية لم تصله إلا بعد عصر ذلك اليوم، وأنا إذ ذاك في سماء الخليج الفارسي، وغفل الأستاذ الصواف عن موعد الطائرة فبشّر الأصدقاء وتداعوا للخروج إلى المطار، ولكنهم انتبهوا فخاطبوا المطار فأخبرهم بفوات الموعد، وقد كتب لي إلى كراتشي يتأسف ويتسخط على تأخر البرقية، ثم ركبنا إلى البصرة فوصلناها في ساعة وعشرين دقيقة، ونزلنا فاسترحنا ساعة

ونصفًا واستعدّت الطائرة للمرحلة الأخيرة الطويلة، ثم ركبنا بعد العصر والشمس في الأصيل، فقطعت بنا المسافة إلى كراتشي في خمس ساعات ونصف، ووصلناها على الساعة الواحدة بعد نصف الليل بتوقيت كراتشي، والفرق الزمني بينها وبين العراق ساعتان ونصف، كالفرق بينها وبين مصر، أما الفرق بين كراتشي والجزائر فهو أربع ساعات ونصف تقريبًا، فالزوال في كراتشي يوافق الساعة السابعة والنصف صباحًا في الجزائر، وطريق الطائرة من البصرة إلى كراتشي كله فوق الخليج الفارسي وبحر عُمان، ولكننا قطعناها في ليل مظلم. ... وصلنا مطار كراتشي، وهو مطار عظيم واسع مستكمل لجميع المرافق والشروط، وقد أصبح ذا أهمية عظيمة في وصل الشرق بالغرب، وهو يبعد عن المدينة بنحو ثمانية عشر كيلومتر، ونزلنا فوجدت في انتظاري سماحة الأستاذ الأكبر الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين، والأستاذ عمر بهاء الدين بك الأميري وزير سوريا المفوّض بباكستان، وولدنا الأستاذ الفضيل الورتلاني، وإنعام الله خان، والدكتور الزبيري وجماعة من رجال مؤتمر العالم الإسلامي، وأنزلوني في فندق "ميتروبول" أعظم فنادق باكستان كلها، وكراتشي فقيرة في الفنادق، ليس فيها من فنادق الدرجة الأولى إلا اثنان، وبقية الفنادق من الدرجة الثالثة والرابعة عندنا، والسبب في ذلك أن عمرانها المدني جديد، وقد كانت قبل الانفصال ميناء تجاريًا، وما أخذت مكانتها الجديدة إلا بعد أن أصبحت عاصمة، وأصبحت في كراتشي يوم الجمعة الحادي والعشرين، فخف لزيارتي من لم يسعه استقبالي في المطار، ومنهم الدكتور عبد الوهاب عزام سفير مصر، والسيد عبد الحميد الخطيب، وزير المملكة العربية السعودية المفوّض، والأستاذ أبو بكر حليم مدير الجامعة ورئيس مؤتمر العالم الإسلامي، والأستاذ الأكبر الشيخ سليمان الندوي أحد أعلام العلماء في باكستان ورئيس مؤثمر العلماء، والأستاذ محمد محمود الزبيري وزير المعارف في حكومة الانقلاب اليمني وشاعر اليمن الفذّ، وهو أديب رقيق حواشي الطبع، سليم دواعي النفس، جيّاش الشاعرية لو وجد لها متنفّسًا، ولكن للشاعرية رحمًا يصلها الواصلون للأرحام، ولقد وجدت شاعرية الزبيري وصالًا للرحم، وهو الشاعر الوزير عمر بهاء الدين الأميري، فجمعت بينهما خلال كثيرة: كلاهما شاعر رقيق حساس، وكلاهما يعتمد في شعره على السليقة لا على الصنعة، وكلاهما مؤمن صادق متعبد متصل بالله من طريق المحافظة على الصلاة لأوقاتها، فجمعت بينهما كراتشي بعد أن جمعت بينهما تلك الخلال، وكان كل واحد منهما أنسًا وكمالًا لوجوده، وتطارحا الشعر فكان كل واحد منهما مذكيًا لقريحة صاحبه، وصدرت عنهما بدائع في الجد والهزل والمباسطات، وقد استحكمت صلتهما بي من أول لحظة، فأطلعاني على كل ما بينهما من هذا النوع الذي كان

يسمّى (المراجعات) ونزلا عن ذوقهما فيها لذوقي حتى في تصحيح الكلمات والتراكيب، ثقة منهما بي، حفظهما الله، فأشهد لوجه الأدب أنهما شاعران، تتّحد في شعرهما ميزة السلاسة والرقة وخصب الخيال، وتوحّد بينهما الروحانية والمزاج الديني القوي، وقد لازماني على طول مدة إقامتي في كراتشي واقترحت عليهما تحكيك شعرهما وعدم الاكتفاء بفيض الخاطر، فإن فعلا ونشرا شعرهما بعد ذلك ليكوننّ منه مزيد في ثروة الأدب. ... وصلّينا الجمعة في اليوم الأول في مسجد جديد قريب من الفندق مع الوزراء الثلاثة، الخطيب وعزام والأميري وسماحة المفتي الأكبر، وولدنا الفضيل، وقد كبر في صدري شأن هؤلاء الوزراء، ورأيت عز الدين كيف يعلو على عز الجاه والمنصب، وأعظمت فيهم هذا السعي الحثيث إلى ذكر الله في وقت بدأ فيه التحلل الديني من أمثالهم، ثم علمت مع طول العشرة محافظتهم الشديدة على إقامة الشعائر، وسعيهم إلى المساجد للجمعة لا يتهاونون ولا يترخصون، مع الفقه الصحيح لأحكام الدين، وما منهم إلا عالم ديني بأوسع ما يدلّ عليه هذا الوصف، وفهمت أن هذا كله نتيجة التربية البيتية الصالحة، وفي المفوضية السعودية يقام الأذان لجميع الأوقات، وفيها مصلّى مخصوص، وجميع الموظفين في السفارة المصرية والمفوضية السعودية يصلّون، وإذا صلح الرئيس صلح المرؤوس. زارني في الأيام الثلاثة الأولى جميع القائمين بالأعمال والملحقين في المفوضيات العربية، وزارني وزيرا إيران وأندونيسيا، ووزير سيلان وهو مسلم، مع أن المسلمين في سيلان لا يجاوزون بضع مئات من الآلاف في سبعة ملايين من الوثنيين، وقد رغبني في زيارة سيلان، فأخبرته أنها في برنامج رحلتي، ففرح وعرض عليّ التسهيلات اللازمة. كنت في الأيام الأولى لوصولي إلى كراتشي في جو عربي خالص طليق، لم أشعر فيه بشيء من الوحشة أو من غربة اللسان أو من منافرة الطبع أو من شذوذ العادة، ولم أحمل فيه نفسي شيئًا من الكلف والمجاملات، بل كان فوق ذلك كله جوًّا أدبيًا علميًّا راقيًا، يزيّنه وقار المفتي الأكبر، ودعابات الأميري اللطيفة المتتابعة، ومحفوظات عزام الغزيرة وذكرياته التاريخية، وكياسة الخطيب التي هي التفسير الصحيح للظرف الحجازي الذي ضربوا به المثل، وجِدُّ الفضيل الذي زادته التجارب رسوخًا. وكنت أجري مع كل واحد منهم في عنانه، كأننا لدات سن، وخلطاء صبا، وعشراء دار، وكانت موائد الضيافة تجمعنا كل يوم وكل ليلة في دورهم على التناوب، فتتطاير النكت الأدبية، وتشيع البشاشة والأنس، وتتجلّى الأخوّة في حقيقتها، ويشهد الكرم لنفسه: كرم الطعام، وكرم الكلام (حتى كلنا رب منزل) فلا تبدر من

أحدنا بادرة، إلا أتبعها الأميري بنادرة، وعلى كل مائدة من هذه الموائد العربية الكريمة يحضر الإثنان والجماعة من كرام الإخوان الباكستانيين، ويشاركون في بهجتها بما عندهم من العربية، أو بما ينقله الإخوان عزام والأميري إليهم بلغتهم الأوردية، وينقلان إلينا عنهم ما يزيد الجو إشراقًا، ويزيد الأنس امتدادًا، ويزيد الأرواح امتزاجًا، فكنت لذلك كله كأنني بين أهلي وإخواني في الجزائر، لم أفقد إلا وجوههم- لا فقدتها- بل إنني تخففت هنا من ذلك الإطراق الذي يستلزمه التفكير، ومن ذلك التفكير الذي يستدعيه العمل، ومن ذلك العمل الذي تتطلبه وظيفة جمعية العلماء، ولقد كنت أجلس مع أولادي الساعات وكأنني لست منهم وليسوا مني، وكأنني بينهم أصم لا يسمع ولا يعي، لأنني إذ ذاك أفكر في مقالة "للبصائر" أنفض عليها سواد ليلي لتكون مع الصباح في المطبعة، أو في سفرة، تثبت جواز الطفرة، أو في حفلات تزاحمت أوقاتها، وما من حضوري في جميعهن بد، أو في مشاكل المعلّمين والجمعيات، وهي صرف السوق، وملء الوسوق، أو في فثء غضب بالتحمل، وإرضاء غاضب بالتجمل، فالآن أسرح وأمرح، وألقي الهموم عن كاهلي وأطرح، فقد ألقيت تلك الأثقال على من لا يؤوده حملها لفضل علمه، ووفور عقله، وحدّة ذكائه، وشدّة حزمه، وهو الأخ الأستاذ التبسي، وإن جزاءه علي أن أمدّه بمدد من الأدعية الصالحة في مجالي الإجابة من صلواتي وخلواتي أن يعينه الله على تلك الأعمال التي بلوتها مختبرًا، واضطلعت بها مصطبرًا، فوجدتها لا تقوم إلا على اثنتين: زكانة الرجال، في ركانة الجبال، وكلتا الخلتين يجمعهما أخونا الأستاذ التبسي، وهذا تصوير غريب، لحالتي في المشهد والمغيب، أربعو أن يقع- على بعد الدار- لإخواني هناك وفي مقدّمتهم أخي الأستاذ التبسي فيعينهم جدّه على الجدّ، وتدفع عنهم دعابته سأم العمل المتشابه، وضجر النفوس المرهقة. ومن دعابته أنني تخففت من الأعمال، ولا والله ما تخففت، وإنما انتقلت من تعب مملول لاتحاد لونه إلى تعب متجدّد الألوان، وفي تجدّد الألوان مجال لتجدّد النشاط وباعث على إقبال النفس وتفتّحها للاستئناف. وكل جمع إلى افتراق، فما تمّ ذلك الأسبوع الزاهر الذي خففت عنا مجالسه وطأة حرارته، حتى بدأت الخيام تقوض، وأصبح الذاهب من الأيام والرفاق لا يعوّض، فرجع الأستاذ المفتي إلى القاهرة، وودّعنا الوزيران عزام والأميري إلى رحلة في دواخل باكستان قرّراها وحدّدا مواعيدها قبل وصولي، وحيث أن لها مساسًا بالرسميات فلا مناص من تنفيذها، وبعدهما بقليل خرج الأستاذ الفضيل في رحلة إلى الهند وباكستان الشرقية وجاوة، وتأثّر السامر لغيبة هؤلاء الأربعة فاستوحشت مغانيه، واستبهمت معانيه، ولكن بقيت لنا من السيد الخطيب بقية تؤنسنا عند طروق الوحشة، ورأيت أن ذلك الأسبوع كان استجمامًا من نصب السفر، وقد آن لي أن أبدأ العمل الذي من أجله قدمت، وفي سبيله أقدمت، وهنا تجلّت المعضلة، وحلّت المشكلة (مشكلة اللغة)، التي هي وسيلة الفهم والتفاهم، فلنتحدّث عليها.

- 3 -

- 3 * - ____ مشكلة اللغة ____ في الهند، لغات كثيرة لعلها تبلغ المائة، والمبالغون ينتهون بها إلى المئات، وهم مخطئون، وأغلبية الهنادك كانت تصطنع اللغة الهندية، وهي تستمد معظم ألفاظها من السنسكريتية القديمة، وتستعين بشيء من الفارسية وغيرها من اللغات الشرقية، ثم خالطها شيء من الأوردية والإنكليزية، ولكنهم بعد الانفصال أخذوا ببدعة "التطهير"، تطهير لغتهم من الدخيل، وإحياء السنسكريتية الميتة للاقتصار عليها، هذه البدعة التي طاف طائفها ببعض الأمم الشرقية كالأتراك الكماليين، فلم تدلّ على قوّة، بل دلّت على ضعف، لأن لغاتهم الأصلية التي يريدون إحياءها لا تقوم بالحياة العصرية، فيضطرون إلى الأخذ عن اللغات الأوربية لا محالة، فيرقعون قديمهم بغريب، وقريبهم ببعيد، فهم إنما يطهرون لغتهم من لغة إخوانهم، فيزداد الشرقي من أخيه بعدًا، ومن الأجنبي قربًا، ويبقى الأجنبي مستعبدًا لهما معًا، وإن هذه لإحدى المعاني الجديدة التي وسوس بها الغرب في صدور الشرقيين، وزيّنها لهم. وأغلبية المسلمين في الهند اليوم تصطنع اللغة الأوردية، نسبة إلى الأوردو، لفظة تركمانية مغولية معناها الجيش، وهي لغة حديثة، تكوّنت بين الجيوش المغولية الفاتحة من لغاتهم الأصلية أو من لغات الإسلام الشائعة إذ ذاك، وهي العربية لغة الدين والأدب، والفارسية لغة الفن والرقّة، والتركمانية لغة الجندية والحرب، وكان مبدأ تكوّنها في مناطق مخصوصة من مقاطعات يوبي ولكنو، ثم توسّعت وعمّت، ولم تكن في أول أمرها لغة الملوك والطبقات الراقية، ولا لغة العلم والأدب، بل كان الشأن الأكبر في عنفوان الدولة المغولية وعظمتها للعربية والفارسية، ولكنها تطوّرت تطوّرًا سريعًا، وانتشرت انتشارًا واسعًا في أخريات تلك الدولة حتى أصبحت لغة الدين والأدب والسياسة، ففسّر بها القرآن والحديث، وكتب بها الفقه والتاريخ، ثم أخذت حظها من الأدب والفلسفة، ونظم بها الشعر في المواضيع

_ * «البصائر»، العدد 198، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 4 أوت 1952.

العالية، ونبغ فيها شعراء فحول، مثل حالي وغالب، وآخرهم إقبال، ولكن للفارسية أثر قوي في شاعرية هؤلاء الشعراء، فكلما سموا إلى الآفاق العلية لم يحلقوا إلا بأجنحة الفارسية. وقواعدها التركيبية قريبة من قواعد الفارسية، ولكنها أصعب منها، وهي بعيدة جدًّا عن التركيب العربي، فتكثر فيها الروابط اللفظية مثل: هي، ومي، وكي، وكا، وكو، وتكتب بالخط الفارسي الجميل، ويزيدون على بعض الحروف علامات مخصوصة لتؤدّي المخارج القريبة الزائدة على المخارج العربية والفارسية، وهي مخارج صعبة في التقليد، وغالبها متوسط بين مخرجين، ولتعدّد هذه المخارج أصبحت حروفها نحو أربعين حرفًا، هي الحروف العربية المعروفة، ويزيدون على بعضها علامات. وجاء الإنكليز وقضوا على الإمارات المغولية، وأصبحت لغتهم لغة الحكم والإدارة والتجارة، فدخلت منها- بحكم الضرورة- كلمات كثيرة في الأوردية، ومع أنها حديثة عهد فإنها تغلغلت وأصبحت من الأصول التي تعسر إزالتها، على خلاف المعهود في اللغات القوية إذا طرأ عليها دخيل ثم أرادت التخلّص منه، وأنا أرى أن لتهاون المتكلمين بالأوردية دخلًا عظيمًا في إقرار تلك الكلمات الإنكليزية وتمكينها. كما أن في لغتهم خميرة من القابلية لذلك، لأنها مبنية على التلفيق. أصبحت الأوردية بعد هذه الأطوار لغة قومية، وطغت على كثير من اللغات الإقليمية، فأصبحت كلها ثانوية بالنسبة إليها، ولاعتزاز أهلها بها واعتقادهم أنها كافية في الدين والدنيا، لم يجدّوا في تعلّم العربية مع احترامهم لها وشهادتهم بأنها لغة الدين، فلا يتعلّمها إلا علماء الدين منهم، ويتعلّمونها على الكبر، فتجدهم يفهمون دقائق الحديث والفقه، ولكنهم لا يستطيعون التكلّم بها بسهولة، ولا يكتبون بها كتابة بليغة، فيجد الناقد آثارًا لعجمة بادية فيما يكتبون بها، ولم يسلم من هذا حتى كبار العلماء أمثال صديق حسن خان. ومن رأينا أن هذا آت من ضعف الملكة الأدبية الحاصلة من كتب الدراسة المشهورة بينهم، فهم يتعلّمون الأدب من المعلّقات السبع ومقامات الحريري، وليست هذه الكتب بالتي تمكّن للملكة العربية، ولقد قامت ندوة العلماء في هذه العصور الأخيرة بمجهود عظيم، وسلكت في تعليم العلوم العربية مسالك مثمرة، فتخرج منها جماعة يكتبون العربية كتابة فنية صحيحة، ومنهم صديقنا الشيخ مسعود عالم الندوي، ولقد كنا نقرأ قبله وقبل أقرانه للشيخ شبلي النعماني فكأننا نقرأ لكاتب عربي تام الملكة، فهذا دليل على أن القوم إنما قصّر بهم فساد طريقة التعليم. وسنتكلم عن طريقة التعليم العربي الموجودة الآن حين نصل إلى التعليم. وانفصلت باكستان، فاضطرت الحكومة أن تبقي على الإنكليزية كلغة رسمية إلى حين، والحالة الآن مضطربة، ففريق يريد أن تكون الأوردية هي الرسمية، وسكان البنغال وهي

باكستان الشرقية- وعددهم نحو خمسين مليونًا- لا يريدون هذا، لأن لغتهم البنغالية، والأوردية ليست شائعة بينهم، فالأولى في نظرهم أن تكون لغتهم هي الرسمية، فإنْ لم تكن فالعربية، لأنها لغة الإسلام الجامعة. وأهل البنجاب- وعددهم يزيد على خمسة عشر مليونًا- يريدون لغتهم، ولكنهم لا يمانعون في رسمية اللغة العربية للاعتبار الديني المذكور، ولإقليم السند لغته السندية وإن كانت ضيّقة، ولكنهم يحسنون الأوردية، وعاطفتهم الدينية لا تجعلهم يجافون اللغة العربية، وعلى الجملة فاللغة العربية تفوز بالأغلبية الساحقة لو رجع الأمر إلى الانتخاب، ولا يحاربها إلا طائفة قليلة يسخرها الإنكليز لحربها، لأنهم لا يريدون أن تكون للعربية سيادة تزيد في توثيق الأسباب بين باكستان وبين الأمم الإسلامية، ولا يفقه أحد سرّ هذا التقارب وآثاره مثل ما يفقهه الإنكليز. والتحمس السائد للعربية في باكستان مبني على عاطفة دينية لا على واقع، أما الواقع الذي تحادثت في تصويره مع من تحادثت معهم من رجال الحكومة، ومن المفكرين المعنيين بهذه المسألة، فهو أن جعل اللغة العربية رسمية لأمّة يناهز عددها مائة مليون أمر متعسّر ما دام هذا العدد الضخم كله يجهل العربية، بل يجهل أن في لغته الأوردية قريبًا من خمسين بالمائة من الألفاظ العربية الفصيحة، فإذا عرضت عليه كلمة كلمة لم يعرف أن أصلها عربي، وإنما يعرف أنها أوردية وكفى ... وعلى هذا فالواجب أن يمهّد لهذه الفكرة بأمرين متلازمين: الأول جعل التعليم العربي في المدارس الابتدائية إجبارًّيا، والثاني تبديل الموجود من مناهج التعليم العربي بأصلح منه، واستخدام مئات أو ألوف من المعلّمين العرب حتى ينشأ على أيديهم جيل ينطق العربية بسهولة ويفهمها، ثم يتدرّج هذا الجيل إلى الكمال مع مراتب التعليم، فإذا وصل إلى الدرجة التي وصل إليها التعليم الإنكليزي في الكم والكيف حسن بل وجب أن تكون اللغة العربية رسمية في كل مرافق الدولة، وتجب المبادرة بهذا، لأن كل تأخّر له وتراخ فيه يكون في صالح الإنكليز ولغتهم، ويكون تطويلًا لمدة استعمارهم الفكري، والحكومة لا ترى للعدول عن الإنكليزية مبرّرًا إلى أن يستقر الرأي الإجماعي على اللغة الرسمية، وأنا أستحسن أن تكون اللغة الأوردية هي اللغة الرسمية في فترة الانتقال، تقريرًا للسيادة القومية وللاستقلال، إذ ما دامت اللغة الإنكليزية هي لغة الدواوين والتعليم والاقتصاد فإن الاستقلال ناقص على أهون الاعتبارات إن لم نقل إنّه صوري. ... ونعود إلى العنوان، وهو مشكلة اللغة بالنسبة إليّ. يجب على زائر باكستان، كيفما كان قصده، أن يكون ملمًّا- قدر حاجته- بواحدة من لغتين: الأوردية أو الإنكليزية، فإن كان جاهلًا بهما مثلي ضاعت مصالحه في الناس،

ومصالح الناس فيه، ووجد نفسه أعجميًّا بين أعراب. أما العربية فإنك لا تلقى الناس بها إلا كما يلقى السميع الأصم، ولتنتظر حتى تجتمع بمولانا فلان، أو العلامة فلان، وما أقلّ هذا الصنف في هذا البحر الزاخر، وأما الفرنسية فقل من يسمع بها فضلًا عمن يحسنها، وأقرب إلى النجاح من يحسن الفارسية، فقد يجد واحدًا في الألف يحسن التفاهم بها. وأنا لا حظّ لي في شيء من هذه اللغات، ولم يفتق الله لساني إلا بالعربية، وأنا راض بهذا، وإن كنت لا أدري أي نوع من أنواع الرضى هو: أرضى العاجزين، أم رضى المكابرين؟ لذلك وجدتني من أول لحظة في مشكلة لا تُحلّ، وفي حرج لا يدفع، حتى في طلب الماء البارد من خادم الفندق، وفي التحية مع الزائر، وضيوف كراتشي من أبناء العربية كلهم مثلي، وإن فيهم لمن يحسن الإنكليزية أو شيئًا منها، فهو بها في بعض الراحة وبعض اليسر، كالأستاذ الأكبر مفتي فلسطين، فكنت أرتفق بهم في بعض الأوقات، فإذا خلوت انسدّت عليّ المسالك، يزورني الزائر عن قصد وشوق فلا نزيد على: السلام عليكم وعليكم السلام، فإذا جاوزتها إلى المألوفات في التحية مثل: صباح الخير، وكيف أصبحتم، وكيف حالكم، لم يفهم ما أقول، وأطلب الخادم لحاجة، فيسكت وأسكت، وألتجئ إلى الإشارة فلا تفيد، ويهتف التيليفون من سائل مشتاق يريد مني تحديد وقت للزيارة جريًا على الرسوم في زيارة (العظماء) فيبدأ الخطاب بالإنكليزية، فأقول: لا أفهم، فيثني بالأوردية لأنه فهم بالقوّة أني لا أفهم الإنكليزية فأقول: لا أفهم، فيكرّر الخطاب ولا أدري أهو بالأولى أم بالثانية، فأعتصم بلا أفهم، ثم أضطرّ إلى شيء من سوء الأدب، وهو رمي آلة التيليفون، وقد حملني الغضب مرّة على أن ألقيت على واحد من مخاطبي في التيليفون خطبة عربية أنيقة، قلت له يا سيدي لست من العظماء حتى تتعب نفسك بهذه المراسيم، ولو كنت منهم لكان لي ترجمان عيناه بالشرر ترجمان، أو خادم، يدفع عني الأوادم، أو سكرتير، يعامل مثلك بالتقتير، ولكنني رجل بسيط كالسمسار أو الوسيط، فزرني من غير أعذار، أو اغزني من دون سابق إنذار، وهلم نتعانق وتقضي حواجبنا الحوائج بيننا، أو نتصارع فتشتفي وأشتفي، فقال لي كلمة فهمت منها أنه يأسف لأنه لا يفهم العربية، فكرّرت عليه السجع، وقلت له: إن من الحيف أن لا تفهم لغة الضيف، ثم تريده على أن يفهم عنك (بالسيف)، وكانت هذه الأسجاع شفاء لغيظي، ولكنني كتمتها على الجماعة لأنني ما زلت في يومي الثالث، ويشاء الله أن يزورني في ذلك اليوم رجل فاضل مهذّب ذو مقام اجتماعي، وأن يجد معي ترجمانًا، ففهمت من مجرى الحديث أنه صاحبي، واعتذر بأنه طلبني لأحدّد له الوقت وأن من الأدب مع أمثالي أن لا يفاجأوا بالزيارة، وأسف أسف المؤمن الصادق على أنه لا يفهم العربية لغة القرآن، وأنه ذاب خجلًا حين لم يفهم ما خاطبته به، فقلت له: هوّن عليك فقد كنت أدعو لك بالخير، وأشهد لله أن صاحبي هذا رجل فاضل، وأنه من أصحاب الموازين الرابعحة في الفضائل، ذكره الله

بخير الذكر، وأشهد لله ثانية أن القوم كانوا يزورونني بنيات صادقة، ومحبة للعلم خالصة، واحترام للعلماء عظيم، وأن جهلهم للعربية ليس نقيصة فيهم وحدهم، إذ ليس خاصًّا بهم، وإنما هو شيء عام في الأعاجم كالأتراك والفرس وجاوة. ... أبت لي همّتي أن أجمع بين الجهل والعجز، فتعلّمت في بعض يوم ألزم ما يلزمني للضروريات، وأهمها- عندي- طلب الماء البارد في ثلاث كلمات: طاندة، باني، لاو، والأولى معناها بارد، ولكن مخرج الطاء فيها من أغرب المخارج، والثانية معناها الماء، والثالثة معناها هات، ومن هذه الجملة تعلم صعوبة التركيب وغرابته في ذوق العربي، ومن اللطائف أن أستاذي في هذه الجملة هو ولدنا الفضيل حلّ به ما حلّ بي فحفظ ثمانين كلمة من الأوردية، فألّف منها قاموسًا غير محيط، وفتح الله عليه فأصبح معلّمًا لتلميذ واحد، هو أنا، ثم حفظت زيادة عن شيخي كلمة "برف" بفتح الأولين وسكون الثالث، ومعناها الثلج، ثم حفظت ثلاث كلمات ضرورية، وهي (أو) ومعناها تعال، و "جاو" ومعناها اذهب، و "جالدي" ومعناها أسرع، وأسعفتني الذاكرة بكلمة تركية حفظتها قديمًا ووجدتها هنا، وهي "نماز" ومعناها الصلاة، وحفظت "روطي" ومعناها الخبز، و"نماك" ومعناها الملح، ومن حصل الصلاة والماء البارد والعيش والملح فقد فاز فوزًا عظيمًا، وحفظت "بهوت" ومعناها كثير، و"امروز" بكسر الهمزة ومعناها اليوم، وسألت عن أمس وغد، لأجمع بين الأزمنة الثلاثة، فقيل لي: "كل" بفتح الكاف وسكون اللام، وإنه صالح لهما معًا، وأن الفرق بينهما موكول إلى السياق، فقلت دعوا هذه إلى السياق، إلى كلمات أخرى ظهر بها شفوفي على شيخي، وكم ترك الأول للآخر، وحفظت رقم غرفتي بالإنكليزية وهو: وان، تو، فايف، يعني مائة وخمسة وعشرين، فأصبحت بهذه الكلمات في أنس واطمئنان، ولذت فيما عدا ذلك بالسكوت، فإذا دخل عليّ زائر ولم يكن مترجم، حيّا، ورددت، وبش وبششت، ثم انقلبت سلكًا أفرغ من شحنته فلا سلب ولا إيجاب، ولكي أدفع عنّي عنَت التليفون إذا خلوت حفظت جملة بالإنكليزية معناها لا أتكلّم الإنكليزية، لا أتكلّم الأوردية. ... جرت هذه الوقائع كلها في الأيام الثلاثة الأولى فقلت في نفسي: إذا كان هذا في الخصوصيات، وما أهونها، فكيف العمل في العموميات التي قطعت آلاف الأميال من أجلها؟ ولكن الله لم يطل أمد هذه المحنة، فاجتهد الإخوان في إحضار ترجمان عرفوه، في المؤتمرات، إذ كان يترجم خطب العلماء العرب إلى الأوردية، وهو بارع فيها، معدود من خطبائها، ويفهم العربية فهمًا جيّدًا، ويترجم الدينيات على الخصوص ترجمة دقيقة، وقد

بدء الأعمال العامة

زادت معارفه العربية بملازمتي شهرين زيادة كبيرة. هذا المترجم هو الشيخ محمد عادل القدوسي من المتخرجين في النهضة التي أشرنا إليها، والتي مركزها مدينة ديوبند، ومن القائمين على تصحيح الكتب العربية التي طبعتها الجامعة العثمانية بحيدر أباد دكن، ثم هاجر بعد الانفصال وحلول الكارثة بإمارة حيدر أباد إلى كراتشي، فأصبح ملازمًا لي لا يفارقني إلا ساعات النوم، يتولّى الترجمة بيني وبين الزوّار ويتولّى المخاطبات التيليفوية بالأوردية، ويسفر عني إلى رجال الدولة، وقد صاحبني في الرحلة إلى كشمير وخيبر ومدن باكستان، وترجم عني جميع محاضراتي ودروسي وندواتي الصحافية وأجوبتي وآرائي وتقاريري، ورزقي الله منه بتلميذ مخلص، ومترجم حاذق ورفيق مؤنس في السفر، وقد عرف في الأوساط كلها بالنسبة إليّ فأصبحت أعطف عليه كأقرب المنتسبين إليّ، وعزّ عليّ فراقه كما عزّ عليه فراقي، وقد أوصيت به خيرًا من أثق به من الإخوان، فهو رجل حييّ عفيف شريف النفس، أتت كارثة الهندوس على ما يملك من أسباب الحياة، فنجا بدينه وبَدَنِهِ وأولاده، كان الله له ويسّر له الأسباب. ... ____ بدء الأعمال العامة ____ صلّيت الجمعة الثانية في مسجد غير المسجد الذي صلّيت فيه الجمعة الأولى، وهو مسجد جديد منسوب إلى الشيخ احتشام الحق، أحد أعضاء مؤتمر العلماء الذي انعقد في فبراير الماضي، وأحد العلماء المعروفين بالقرب من مشربنا في الإصلاح الديني، وإحياء السنن الصحيحة، وفي هذا المسجد ألقيت أول محاضرة قبل صلاة الجمعة، وكان الشيخ القدوسي واقفًا إلى جنبي يترجم عني مقطعًا مقطعًا، وكان موضوع المحاضرة وظيفة العالم الديني في الإسلام، فشرحت وفصلت، وبيّنت فأبلغت، ووسمت العلماء بالتقصير في أداء الأمانة، والتفريط في قيادة المسلمين حتى قادهم من لا يحسن القيادة، فقادهم إلى الهلاك، وبيّنت أن وظيفة العالم هي التربية والتعليم، وشرحت كيفيتهما بعمله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بعث ليعلّمنا ويزكينا، فتأثّر السامعون تأثّرًا دلَّ عليه وجومهم، وبدت آثاره على وجوههم، ثم قام الشيخ احتشام الحق فقرأ خطبة الجمعة بالعربية من كتاب، وكان موضوعها فضائل شهر رجب وأنه يصعد إلى السماء ويسأله الله عن أعمال عباده فيعتذر بأنه أصمّ، إلى آخر تلك المحاورة التي وضعها القصاصون بين الله وبين رجب، فلم أملك إلا الحوقلة والاسترجاع،

وحمدت الله على خفوت صوت الخطيب وجهل السامعين بالعربية، وإن هذا لمن المواطن التي يستحب فيها الجهل والصمم وكأن حضرة الخطيب جاء بتلك الخطبة شاهدًا لما وصمت به علماء الدين من إلهائهم للعامة بالقشور، وقد سبق التعارف بيني وبين الشيخ احتشام الحق أثناء الأسبوع الأول في دعوة عشاء بداره، وهو يحسن العربية فهمًا ونطقًا، ثم لم أجتمع به بعد تلك الجمعة، ولا أدري أينا الملوم. ثم صلّيت الجمعة الثالثة في مسجد آخر، وألقيت قبل الصلاة محاضرة طويلة ترجمها المترجم فصلًا فصلًا، وكان التأثر بها عظيمًا، ولما فرغت طلب مني الإمام الراتب أن أخطب للجمعة وأصلّي بالناس، فخطبت خطبة الجمعة من غير ترجمة، ولكن إحساس المصلّين قام مقام الترجمة، فكان تأثّر، وكان خشوع، وكان اتصال روحاني بين السامع والمسموع، كل ذلك لأن حالة السامعين الحاضرة كانت هي الموضوع. ثم صلّيت الجمعة الرابعة من إقامتي الأولى في كراتشي في جامع الميمن، وهو جديد لم يتم بناؤه ولم يسقف وإنما هو مغطّى بـ"قلوع " تدفع الحرّ، ولئن تمّ ليكونن أوسع مساجد كراتشي، والقائمون عليه هم تجّار الميمن، وهي طائفة مواطنها في شرق الهند، وهي أنشط طوائف مسلمي الهند في التجارة والتنقل في سبيلها، وقد حاضرت المصلّين كالعادة بالمترحم، وهم آلاف، فلما حانت الصلاة رغب إلي إمامهم وكبراؤهم أن أخطب للجمعة وأصلي بالناس، وهم لا يشترطون في الإمام الاستيطان، ولا في الجامع السقف، فخطبت وصلّيت. ولما كانت هذه المحاضرات وهذه الخطب الجمعية كلها وصفًا لداء المسلمين ودوائهم، كان التأثّر بها عظيمًا، وإن حالة المسلمين اليوم قد أصبحت من شدّة الوضوح مما يستوي في معرفته العالم والجاهل، وإن مسلمي باكستان والهند عمومًا ليزيدون على طوائف المسلمين التي عرفناها بشدّة التأثّر وسخاء الدمع إذا سمعوا كلام الله أو سمعوا التذكير به، لا سيّما إذا كان بالعربية ولو لم يفهموها، لما وقر في نفوسهم من علاقتها بالوحي والنبوّة وأنها لسان محمد وهم يحبونه، ولغة الجنة وهم يحبّونها ويتمنّونها، ولا عجب في تأثّرهم بما لا يفهمون فقد يطرب سامع الموسيقى إلى حدّ الخروج عن الاعتدال، وليس فيها شيء يفهم ولا يترجم، إنما هو فيض روحاني المأتى، فهو فوق العبارات، فلا تحدّه معاني العبارات، ولا يتوقف عليها. ألا إن مسلمي باكستان والهند لينفردون بخاصية، سمّيتها بعد التأمل والدراسة "القابلية" وأعتقد أن هذا هو اسمها الحقيقي، فقابلية الخير والصلاح والإصلاح فيهم ظاهرة السمات، فلو رزقوا الموجّه المسدّد، والمشير الحكيم، لسبقوا طوائف المسلمين كلها إلى غاية الخير التي نرجوها للمسلمين، ولَلَوَوْا الأعنة سراعًا إلى هدي القرآن، وقالوا للمتخلفين البطاء: الحقوا فقد سبقنا، والموعد بيننا وبينكم "محمد".

- 4 -

- 4 * - ____ كلمة حق ____ الأولى: كانت كراتشي قبل الانفصال ميناءً تجاريًا، تربطها بالهند كله سكة حديد مزدوجة، وتعمرها عناصر مختلفة، أغلبها من غير المسلمين، إما من الهندوس وهم الأكثر. وإما من المجوس وهم قليل، وإما من الشيعة الآغاخانية وهم الأقل، وهذه الطوائف الثلاث من أنشط خلق الله في التجارة والتمرّس بأساليبها، والتقلب في وجوه الاقتصاد، وللمجوس فيها بيوت نار، لأنهم حاملو الشعلة المقدسة من أرض فارس إلى الهند، وللهندوس فيها معابد برهمية، أما المسلمون فلم تكن لهم فيها مساجد تذكر، لأن السنود الذين هم أهلها والمحيطون بها من أبعد الناس عن التجارة وممارستها وإنما يقومون فيها بوظيفة العملاء المستهلكين، أو العمال والحمالين، والفلاحون منهم أشبه بفلاحينا في الجزائر، يكدحون لمصلحة الهندوس الذين يعاملونهم بالربا الفاحش، ومع الربا الفاحش أنواع من الرهن والاستيثاق، وكان سكانها نحو ثلاثمائة ألف، فلما انفصلت باكستان رأى بطل الانفصال محمد علي جناح وصحبه أن تكون هي العاصمة للدولة الإسلامية الجديدة، لوقوعها على البحر، ولتوسطها بالنسبة إلى العرض، ولبعدها عن الحدود الهندية، ولاعتبارات أخرى، وقد عارض السنود في ذلك لأنها عاصمتهم الإقليمية، ولولا عزمة منه- رحمه الله- لما تمّ جعلها عاصمة الدولة المركزية، فصمّم ونقل عاصمة السند الإقليمية إلى حيدر أباد السند، وكان الانفصال مصحوبًا بالمذابح التي كان الهندوس هم البادئين بارتكابها والإفحاش فيها، فتدفّقت على هذه العاصمة الجديدة وحدها نحو ثمانمائة ألف من مجموع الملايين التي هاجرت فرارًا من الموت، واستولت الحكومة الباكستانية على معابد الهندوس، ولكنها لم تصيّرها مساجد، فبدأ أهل الخير والإحسان يبنون المساجد في كراتشي حتى يجد هؤلاء المهاجرون أين يصلون، وأصبحت حركة بناء المساجد حركة شعبية كما أن حركة بناء

_ * «البصائر»، العدد 199، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 1 سبتمبر 1952.

المساكن حركة حكومية، وهو توزيع معقول، ولكن حركة المساجد كانت على غير بصيرة، ودخلتها أغراض بعض العلماء الانتفاعيين فزادتها بعدًا عن حكمة المساجد، فكل واحد من هؤلاء يسعى لبناء مسجد يصلّي فيه هو وأتباعه، ويزين لهؤلاء الأتباع أن لا يصلوا في مسجد آخر، ولا خلف إمام آخر، وقد رأيت مسجدين بينهما عرض شارع تقريبًا، وكل واحد منهما مخصوص بطائفة، وكفى بهذا مفرقًا لكلمة المسلمين، وقد أنكرت عليهم هذا في بعض محاضراتي إنكارًا عنيفًا، وقلت لهم إن المساجد لله، وإنها جامعة لا مفرّقة، وإنه لا يحسن تعدّدها إلا تعدّد المحلّات وتباعدها، لا تعدّد العلماء واختلاف نزعاتهم، وإنه ما شتّت شمل المسلمين إلا ملوك الطوائف، ومساجد الطوائف. هذه القضية من أكبر أسباب تشتيت المسلمين، ويزيد في شناعتها وقوعها في أمّة مقبلة على حياة جديدة ألزم شيء فيها جمع الكلمة، وسكوت علماء الدين عليها يعدّ جناية، فضلًا عن تشجيعهم لها، وهي بهذا الوضع مخالفة ومناقضة لحكمة بناء المساجد في الإسلام، ومباينة لذلك الأصل القطعي فيه، وهو أن المساجد لله. الثانية: شاعت بين عامة مسلمي الهند من قديم الزمان عادة في تعظيم العلماء لم تقف مع طول الزمان عند الحدّ المشروع، بل جاوزت الحدّ المشروع والحدّ المعقول، والمبالغة في كل شيء مُفسدة لحكمته، مُذهبة لجماله، ونحن لا ننكر أصل التعظيم، لأنه مشروع ولأنه من البواعث على التعليم ولأنه شهادة من النقص للكمال، ولكننا ننكر المبالغة فيه، لعلمنا بأثرها السيّئ في تربية الأمّة، فهي إذا مدّت مدّها، وجاوزت حدّها، تنقلب في العامة ذلّا ومهانة وشعورًا راسخًا بالنقص حتى في الدنيويات المحضة، وتنقلب في غير الموفق من العلماء تعظّمًا وجبرية قد ينتهيان إلى التألّه، وعندنا أن السرّ في ظهور الشذوذات الغالية في الهند، واستسهال القفز إلى الحظائر المحظورة، يرجع إلى تغلغل هذه العادة في الأوساط العامية، فهي تنقلهم من المبالغة في التعظيم إلى سرعة التصديق بالمحال، وإلى قبول الدعاوى من المتنبّئين والمتألّهين، ولا يطول عمر هذه الدعاوى الشاذّة إلا بين الجماهير التي انطبعت على الغلوّ في التعظيم، فقد كان الزوال أسرع شيء إلى نحلة صالح بن طريف في برابرة المغرب، وإلى نحلة كرميته (أحمر العين) في الأحساء، وإلى نحلة الحاكم في مصر، وإلى نحلة المقنع الخراساني في الجبال، وما فيهن واحدة عاشت بعد موت صاحبها، إلا فيمن يطمع أن يكون مثل صاحبها، بل كانت تلك النحل هي سبب هلاك أصحابها. أذكرني بمعنى هذا الكلام أنني كنت كلما خطبت في جمعة وهممت بالانصراف بعد الصلاة، اعترضني المصلّون من أول خطوة يقبّلون يدي ويضعونها على جباههم وأقفائهم ومنهم من يتمسّح بثيابي، ولقد صحت في الناس في أول مرّة، وقلت: يا قوم، هذا منكر، فلما لما يكفّوا، قلت: هذا حرام، فلم يزدهم ذلك إلا تهافتًا عليّ، ولو بقيت في المسجد

الزيارات

لبقي المصلّون كلّهم مرابطين ينتظرونني، وكان الأمر في الجمعة الثانية أشدّ، وكان في الثالثة أشنع لكثرة المصلّين في جامع الميمن، وكان صوتي بالإنكار في كلّ مرّة أعلى، ولكنه كان أضيع، وفي المرّة الأخيرة وجدت نفسي في شبه حلقة مفرغة من ورائها حلقات تزدحم وتتضاغط بحيث ما كدت أصل إلى الشارع حيث السيارة إلا والمؤذّن يؤذّن بصلاة العصر، ومن العجيب أن بعض العلماء- وكان يسايرني في تلك الضغطة- أنكر عليّ هذا الإنكار، وقال لي إنهم يحبّونكم، فهم يتبرّكون بكم، وأعجب منه أن مما ألهمته في تلك المحاضرة تقريع العلماء على تقصيرهم في التربية الاجتماعية، وسكوتهم على المنكرات حتى تعظم، وتأوّلهم للصغائر حتى تكبر، وقد فهمها هذا الأخ العالم مرّتين نصًّا وترجمة، ولما خرجنا ونجونا قلت لذلك الأخ: إن النفس لأمارة بالسوء وإن من مداخل الشيطان إلى النفس ما كنا فيه مذ الآن، إنه يصوّره بألف صورة ويزيّنه بألف معنى من معانيه، وافتتان الناس بالمرء يفضي إلى افتتانه بنفسه، ومن هنا أنكر ديننا الغلو حتى في الحب والبغض، ولو تكرّرت عليّ هذه الحالة مرّات لزالت عني مشقّتها بالارتياض والتعوّد، ولم يبق لي الشيطان منها إلا جوانبها الحبيبة إلى النفس، وهي أنها طاعة وانقياد وخضوع تلد الزعامة فالإمارة، فإن أنكرتها عجزًا أو تعفّفًا قفز بي إلى النبوّة فما فوقها، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بعدوّه الإنسان إلى أعلى، ليكون الهبوط بقدر الصعود، وقلت لصاحبي: إن الصغائر في العامة تستحيل كبائر بالمبالغة فيها وبالسكوت عليها من العلماء وأهل الرأي. ... ____ الزيارات ____ زرت فخامة الحاكم العام لدولة باكستان السيد غلام محمد في مقرّه الرسمي، يوم 31 مارس سنة 1952 على الساعة الثانية عشرة والدقيقة العشرين، وكان المترجم هذه المرّة الأستاذ محمود أبو السعود من نوابغ الاختصاصيين المصريين في علوم الاقتصاد، ويحمل عدة شهادات عالية في علوم أخرى وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي، وفهم دقيق له، وهو يتولّى منصب مستشار بنك الدولة الباكستانية، وكانت الترجمة بيني وبين الحاكم العام بالإنكليزية، وفهمت من أول الحديث أنه مشغول الخاطر بالدستور الباكستاني الذي لم يتحرّر ولم يتقرّر إلى الآن، مع اشتغال المجلس التأسيسي به عدة سنوات، وما زالت الدولة جارية على بقايا القوانين الإنكليزية، والرأي العام ينادي بدستور إسلامي كامل تنبني عليه أحكام

إسلامية في الشخصيات والماليات والجنائيات، ومنها إقامة الحدود، ينادون بهذا ويتصوّرونه تصوّرًا مجملًا، والفقهاء منهم وعلماء الدين يتشدّدون في هذا ويشرحونه شروحًا نظرية تختلف باختلاف النزعات المذهبية من تقليد واستدلال، وهم يرون أن الرجوع إلى الأحكام الإسلامية هو الفرق بين العهدين، وما دامت الأحكام إنكليزية فلا استقلال، وهو كلام حق، ورأي سديد لو لم يكن مستندًا على النظريات، ونحن نقول ما هو أبلغ من هذا، نقول ما دام التعليم والكتابة في الرسميات بالإنكليزية فلا استقلال، فكيف بالدساتير والقوانين؟ والمثقفون يريدونه دستورًا مدنيًّا مقتبسًا من حالة الأمّة وتقاليدها، محقّقًا لرغائبها وضروراتها، ولا يتحمّسون فيما بدا لي للاستعارة من الدساتير الأجنبية كما فعل المصريون والأتراك الكماليون، ولا أدري هل هم مجمعون على هذا الرأي، لأنه لم يتح لي أن أحادث كل من لقيت منهم في هذا الباب، فإن كانوا مجمعين على هذا فهو من محامدهم، وسداد تفكيرهم، والذي عرفته- على الجملة- أن هذه الطبقة المثقّفة في باكستان ما زالت على شيء من التماسك مع الأجيال السابقة في الخصائص الموروثة، وما زالت على بقية من احترام الدين، فهي لذلك لا تجرؤ على مناهضة الرأي العام الإسلامي، ومما يختلفون به عن مثقّفينا أو مثقّفي اللغة الفرنسية أن روحهم إسلامية، وأنهم مطّلعون على أصول الإسلام وتاريخه وأبطاله، ولا سيّما السيرة النبوية والصحابة وآثارهم وخصائصهم، والحكومة حائرة بين الرأي العام والعلماء وبين ما يقتضيه الزمان من تساهل، والمجلس التأسيسي سائر بالقضية في تؤدة وبطء، ولعل من معاذير الحكومة في التروّي كثرة المذاهب الإسلامية، وأن أهل كل مذهب يريدون صوغ الدستور والقوانين التي تنبني على قواعده على قالب مذهبهم، والمسألة بسيطة إذا حكّم أهل المذاهب كتاب الله والمتّفق عليه من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعقّدة من جهة الواقع وهو أن مقلّدة المذاهب متعصبون لمذاهبهم، وإن خالفت الكتاب والسنّة بالاجتهادات المحضة. فاتحني فخامة الحاكم العام بالكلام في هذه القضية، وقال: إن أقدر رجل على وضع قانون أساسي صالح للأمم الإسلامية كلها هو جمال الدين الأفغاني، لأنه عالم وحكيم وسياسي، وأنه درس تاريخه فلم يجده- سامحه الله- اعتنى بهذه القضية العظيمة، ثم تلميذه محمد عبده، وهو كذلك لم يصنع شيئًا، وتمنّى فخامة الحاكم العام لو أنني أكتب شيئًا في هذه القضية الجليلة وأعرضه عليه، وأن هذا يعدّ مني خدمة ذات قيمة للقضية، وإعانة للمشتغلين بها، فعلمت من حديثه على طوله أنه عامر الجوانح اهتمامًا بهذه المشكلة، فاعتذرت عن الشيخين بأنهما صرفا عنايتهما إلى الأهم من أحوال المسلمين في زمنهما، وهو التقريب بينهم، وإصلاح خللهم، وإعدادهم لينقذوا أنفسهم من أمرائهم المستبدين، ومن أعدائهم المتسلّطين، ولو تمّ هذا في زمنهما ولو في جهة مخصوصة، لكانت الخطوة الثانية الطبيعية هي هذا الدستور الإسلامي الذي تقصدونه، ولعلهما كانا يريانه أسهل مما نتصوّره

نحن الآن، وهو كذلك إذا خفّ تأثير المذاهب المفرّقة، واجتمع المسلمون على هدي الكتاب والسنّة، وهو ما كان يعمل له الإمامان. ... وزرت رئيس الوزراء دولة خواجه ناظم الدين في مكتبه بالمجلس التأسيسي، فكان الحديث كله عن باكستان والإسلام والمسلمين، والجزائر وجمعية العلماء، وكان المترجم في هذه الزيارة أيضًا الأستاذ محمود أبا السعود بالإنكليزية، وقد زرت رئيس الوزراء بعد الرجوع من رحلة كشمير مرّتين، مرّة مع أعضاء مؤتمر الشعوب الإسلامية بعد أن أزلنا ظواهر سوء التفاهم بين الداعين إليه وبين الحكومة، وقدّمني إخواني المؤتمرون للكلام أمامه فتكلمت وترجم عني الأستاذ سليم الحسيني، ومرّة أخرى رفعت له فيها تقريرًا مفصّلًا مترجمًا إلى الأوردية في الشؤون الدينية، وكان المترجم بيننا الأستاذ أبا السعود أعانه الله، كفاء لما قدّمه لي من عون تزيد في قيمته حاجتي إليه، وجزاه عن أخيه الذي لا ينسى فضله خير الجزاء. ... وزرت قبل الرحلة وزير الدعاية، ووجّهت له كتابًا باسم الأمم العربية على نزارة الحصص التي يعطيها راديو باكستان للغة العربية، وعلى قصر حصة القرآن وعدم تعدّدها، وقلت له: يسوء إخوانكم المسلمين والعرب أن تكون حكومة الهند أحذق منكم في فنون الدعاية، وأحرص على اجتذاب العرب بتوسيع البرنامج العربي، واجتذاب المسلمين بتعدّد حصص القرآن، فاعتذر بكثرة اللغات التي تحتّم عليهم الظروف السياسية أن يذيعوا بها إرضاء لطوائف داخلية، أو مجاورة، وقد وعدته بتسجيل أحاديث دينية واجتماعية استجابة لرغبة إدارة الإذاعة، ولكن الرحلة وما تبعها من أعمال وأشغال حالت بيني وبين إتمامها فسجّلت بعضها بصوتي، وأنا عازم على إرسال بعضها من العراق إلى الأستاذ كاظم الحيدري مدير القسم العربي ليلقيها نيابة عني، وقد وعدني الوزير بأنه يتدارك ذلك النقص الذي عاتبته فيه بالتدريج، بعد أن سلم بملاحظاتي وآمن بسدادها. وزرت- قبل الرحلة أيضًا- حضرة محمد ظفر الله خان وزير الخارجية، في دار سكناه، وجدّدنا ذكريات اجتماعنا في باريس، وشكرته على مواقفه من القضايا الإسلامية، وسردت عليه الحوادث الدامية بتونس، وما يقوم به الاستعمار الفرنسي من استباحة وانتهاك وترويع، فوجدته حافظًا للوقائع والأماكن والأشخاص كأنه شاهدها، وأبدى لي تأثّره الشديد من مكتب الجامعة العربية بالقاهرة، وقال إنه طلب منهم أن يمدّوه بواحد أو باثنين من التونسيين المقيمين بمصر، العاملين في القضية، ليسترشد به مندوب باكستان في مجلس

الأمن في تنظيم التقارير وملفات القضية التونسية، وقال إن مكتب الجامعة وعده ذلك ولم يفِ، وحدّثته عن بعثة جمعية العلماء إلى مدارس باكستان- وهو حديث بدأته مع حضرته في باريس وأربعأناه إلى الاجتماع في كراتشي- فاتفقنا على الاجتماع بوزير المعارف وبحث المسألة معه، وكذلك كان، والوزير ظفر الله خان يفهم عني بالعربية ولا يغمض عليه إلا القليل، فنرجع فيه وفيما يجيبني به إلى الترجمان بالأوردية، وهو في هذه المرّة الشيخ القدوسي. ... وزرت- بعد رجوعي من الرحلة- وزير المعارف، وكنت درست التعليم في الثانويات والكليات والجامعات في بشاور وفي لاهور (وهما مدينتا العلم) فبحثت مع وزير المعارف مسألة البعثة على ضوء تلك الدراسة، وبيّنت له الفائدة المرجوّة لأبناء الجزائر من الدراسة في باكستان، وما تستفيده الحكومة الباكستانية من الفوائد المعنوية، وما يستفيده التلامذة من الامتزاج، وكان ظفر الله خان حاضرًا معنا فدرسنا المسألة مجتمعين، وطلب مني وزير المعارف أن أكتب له بمعنى ما دار بيننا تقريرًا مختصرًا يتخذه أساسًا لعرض القضية على مجلس الوزراء بصفة رسمية، فكتبت التقرير في يومه وترجمته إلى الأوردية، وقدّمته له يوم 6 جوان 1952. ... وزرت في نهاية الأسبوع الأول من وصولي إلى كراتشي صاحبة العصمة السيدة فاطمة جناح أخت المرحوم بطل الانفصال محمد علي جناح، قائد باكستان الأعظم، في دار أخيها التي كان يسكنها، فرحّبت وأهّلت، وسألتني عن الجزائر، وعن الإسلام فيها، وعن المرأة الجزائرية وحظّها من التعليم، وسألتني عن رأيي في المرأة المسلمة عمومًا، وأية الطرق التي يجب أن تسلكها للحياة بعد أن تبيّن أن حالتها الحاضرة فساد لها وإفساد لأمتها، ووبال عليهما معًا، فأجبتها بما خلاصته: إن المرأة المسلمة يجب أن تتعلّم، ويجب أن تتهذب، لكن بشرط أن يكون ذلك في دائرة دينها وبأخلاق دينها، وأن الإسلام ضمن لها حقوق الإنسان كاملة، وحاطها من جميع الجهات بما يجبر ضعفها الطبيعي، وأقرّها في أحضان البرّ والتكرمة بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهي أطوارها التي تجتازها في الحياة، وحدّد لها الوظيفة التي حدّدتها لها الفطرة، وهي أشرف الوظائف الإنسانية بل هي الإنسانية في أول مراتبها، وأعطاها من الماديات والمعنويات ما لم تعطها شريعة سماوية ولا قانون وضعي، وألزمها أن

تتعلّم كما ألزم الرجل أن يتعلّم، لأنه سوّى بينهما في التكاليف، والتكاليف لا تؤدّى إلا بالعلم، وأوجب عليهما العشرة، والعشرة لا تصلح إلا على العلم وجعلها مغرسًا للنسل، وغارسة للخصائص فيه، ومتعهّدة له بالسقي والإصلاح، وكل هذا لا يتمّ إلا بالعلم، وإذا كانت تربية النحل والدود تفتقر إلى العلم، فكيف لا تفتقر إليه تربية الإنسان؟ فإذا جهلت المرأة أتعبت الزوج، وأفسدت الأولاد، وأهلكت الأمّة، وكان منها ما ترين، وهل يسرّك ما ترين؟ فقالت لا، وقد توسّعت في هذه المعاني ومثلت، فأعجبها الحديث فأحسنت الإصغاء، وظهر لي من تنازع الحديث أنها مهتمة بشؤون المرأة المسلمة، وأنها مطّلعة على التشريع الإسلامي المتعلّق بالمرأة، وكان رفيقي في هذه الزيارة إنعام الله خان، والمترجم الشيخ محمد عادل القدوسي. ... وزرت في الأسبوع نفسه قبر المرحوم محمد علي جناح محرّر باكستان، ومعي جماعة كبيرة من أعضاء مؤتمر العالم الإسلامي، ومعنا السيد غلام رضا سعيدي، ممثّل المؤتمر في إيران، ومعتمد بنك الحكومة في طهران، وكان ضيفًا في كراتشي، وتعارفنا فلازمني أيامًا، وهو رجل فاضل عارف باللغة العربية مطّلع على آدابها محسن للنطق بها، ويحسن الإنكليزية جيّدًا والفرنسية قليلًا، وزرنا بعده قبر لياقت علي خان، وهما متقاربان في ساحة واحدة مسيّجة وفي أحد جوانبها ماء ومواضع للوضوء، وليس على واحد منهما قبة، وإنما هما مسنمان في ارتفاع نصف القامة، وعليهما ستور خفيفة من القماش الملوّن، وعلى كل واحد منهما مظلّة مستطيلة تقي الزائرين حرّ الشمس، وقد وضع الزوّار على كل قبر عددًا كبيرًا من المصاحف القرآنية. انتابتني حين وقفت على قبر جناح حالة غريبة، لعلّ منشأها ما في نفسي للرجل من إكبار زادته دراستي لتاريخ حياته ولأعماله في تلك الأيام القليلة، فإنني ما زرت قبره حتى استكملت علم ما كنت أجهل من حياته، فجاش خاطري بأبيات، وأنا واقف على قبره، وأنشدتها بصوت متهدّج، فتأثّر الحاضرون، وكتبوا ما علق منها بالذهن على إثر الانصراف، وما ذكرت منها حين كتابة هذا الفصل إلا هذه الأبيات الثلاثة: هنا شمس تَوارت بالحجاب … هنا كنز تغطّى بالتراب هنا علم طوته يد المنايا … هنا سيف تجلّل بالقراب هنا من معدن الحق المصفّى … يتيم في الجواهر ذو اغتراب

- 5 -

- 5 * - ____ بقية أعمالي في كراتشي ____ عقدت في أول الأسبوع الثاني ندوة صحافية في دار الأخ الأستاذ أبو بكر حليم، مدير جامعة كراتشي الآن، وجامعة "علي كرة" الشهيرة سابقًا، وهو من أعلى من رأيت في باكستان ثقافة، وله قيمة علمية ممتازة، واعتبار في جميع الأوساط الثقافية والحكومية، وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر العالم الإسلامي، وهو الذي اختار أن تكون الندوة في داره، وأحضر الشاي والحلوى، ووجّه الدعوة باسمي إلى الصحافيين ونواب وكالات الأنباء، فلما اجتمعنا وزّعت عليهم منشورًا مطبوعًا مترجمًا إلى الإنكليزية بقلم الأخ محمود أبي السعود، وبيّنت فيه الوضع السياسي في شمال أفريقيا عمومًا وفي الجزائر على الخصوص، وقضية الإسلام وأوقافه ومساجده وأحكامه في الجزائر، ثم شرحت لهم بلساني تلك المجملات وخصّصت تونس بكلام مؤثّر، وفتحت الباب للأسئلة فسألوا وأجبت، وكان الأستاذ أبو السعود يتولّى الترجمة عني إلى الإنكليزية، ومن لطائفه- حفظه الله- أنني سقت في معرض الحديث آية من كلام الله لها مرمى بعيد، وفيها للعقل مجال، فصاح بي: يا أخي إنني هنا أترجم عنك لا عن الله، إنني أستطيع ترجمة كلامك وإن علا، فأما كلام الله فلا، ومما استحسنته في أصحاب الجرائد ومندوبيها- وكلهم من الشبان- أن معظمهم يحسن الاختزال، فقد كتبوا أجويتي مع طولها في أسطر قلائل، ويظهر لي أن وكالة الأنباء الباكستانية الداخلية على حظ وافر من التنظيم، فقد كانت تنشر أخبار رحلتي من راولبندي أو بشاور فتقرأ في اليوم الثاني في جميع جرائد باكستان، وهي مئات. ...

_ «البصائر»، العدد 200، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 8 سبتمبر 1952.

أقام لي معهد اللغة العربية حفلة تكريمية، واستدعت إدارته جميع تلامذته وتلميذاته فجلسن من وراء حجاب، واستدعت كثيرًا من العظماء والوجهاء وحضرها مدير الجامعة الأستاذ أبو بكر حليم والسيد غلام رضا سعيدي الإيراني، وتكلّم أربعة من التلامذة في الترحيب بي باللغة العربية فكان نطقهم صحيحًا فصيحًا، يدلّ على صحة رأيي الذي صرّحت به في جميع المجالس بباكستان، وهو أن تعلّم العربية في الكبر لا يأتي بالفائدة المطلوبة وهو الذي جعل أكابر العلماء لا يحسنون النطق بها مع فهمهم الدقيق لها، وأن تعلّمها في الصغر هو الذي يمكّن لها في الألسنة، ثم يأتي الفهم بعد ذلك، وكان في التلامذة الذين تكلّموا تلميذ بورماوي مهاجر، وتلميذ جاوي، ومما يلاحظه الدارس للهجات الموازن بينها أن الجاوي أقرب إلى اللهجة العربية من غيره، فهو ينطق الحاء العربية والعين من مخرجهما الصحيح كما ينطقهما العربي الأصيل، بخلاف الباكستاني فإنه لا يستطيع النطق بهما البتة، بل ينطق العين همزة، وينطق الحاء هاء في غير الألفاظ المتداولة كالحمد لله، والكلمات العربية في الأوردية أكثر من الكلمات العربية التي في الجاوية، ولكن الجاوي إذا نطق بالكلمة العربية في أثناء حديثه، تدرك من أول سماعها أنها عربية لوضوح مخارجها في لسانه بخلاف الباكستاني، وأنشد التلامذة مجتمعين عدة أناشيد بالعربية منها نشيد إقبال مترجمًا فأجادوا، وأعلن مدير المعهد أن هذه الليلة عربية، ولا حظ للأوردية فيها، وكان الحماس للعربية متأجّجًا في التلاميذ فأعدى الحاضرين كلهم، وطلبنا من السيد غلام رضا سعيدي أن يلقي كلمة بالعربية ففعل فجاءت صحيحة فصيحة بليغة، وقال إن هذه هي المرّة الثانية من مرّتين خطبت فيهما بالعربية، وخطبت في الأخير في موضوع التعليم ومنزلة العربية بين الأمم الإسلامية، وأملى علي الجو كلامًا قويًّا عاليًا، وهي أول خطبة عاودتني فيها عادتي من الانطلاق بعد خطب الجمعة، إذ لم أكن فيها مقيّدًا بترجمان، والترجمة المقطعة- وإن كانت تريح وتعطي الوقت للتفكير- تذهب بجمال الارتجال، وتقف في طريق الاسترسال، فهي لفرسان الخطابة تبريد وكبح، ومما قلته في هذه الخطبة: إن اللغة العربية ليست لغة العرب حتى توضع في موازين الترجيح وتتعاورها العصبيات بين جنس وجنس، أو تعلو إليها الأنظار الشعوبية، ولكنها لغة القرآن، وخيرة الله لكتابه، وإذا كان للعرب عدوّ أو منافس ينازعهم المفاخر، أو يجاذبهم المحامد، أو يغضّ منهم، أو ينكر عليهم، فليس للقرآن عدوّ بين المسلمين، وعدوّ القرآن ليس من أمّة القرآن. ففي هذه المنزلة أنزلوا هذه اللغة، وعلى هذا الأصل فخذوها، فكان لهذه الكلمة نفوذها وأثرها في نفوس من فهموها. يدير هذه المدرسة الأستاذ محمد حسن الأعظمي (من مدينة أعظم كره بالهند، لا من أعظمية بغداد كما يُتوهم) وهو رجل نشيط في أعماله وممّن يحسنون العربية فهمًا وكتابة، وقد جاور في الأزهر سنوات، ومازج الأدباء والكتّاب، ولو قُدّر له أن يرحل إلى الأزهر وهو

حفلة جمعية علماء باكستان

صغير لكملت فيه ملكة النطق وظاهرت ملكة الفهم والكتابة، فكان منه عربي كامل، وقد انتقدت عليه تسمية هذه المدرسة بالكلية، لأنها لم ترقَ إلى هذه الدرجة، وإنما اسمها الصحيح معهد اللغة العربية، وأن التساهل في الأسماء كالتساهل في الأفعال كلاهما قبيح وكلاهما يحدث سوء القدوة، وما أحقّنا بالتزام الواقع واحترامه وتسمية الأشياء بأسمائها، وأن الاسم لكالثوب، إن قصر شان، وان طال شان. ____ حفلة جمعية علماء باكستان ____ وهي غير جمعية العلماء التي أقامت مؤتمر شباط الماضي في كراتشي، فهذه التي نتحدّث عليها أقدم في التأسيس، ولكنها لا عمل لها، ويوشك أن تكون الجديدة مثل القديمة، فليس لواحدة منهما برنامج إيجابي واقعي واضح الحدود، وليس في واحدة منهما عالم نشيط يتبع المقرّرات بالتنفيذ، ويجعل الجمعية حيّة تتحرّك دائمًا. يرأس هذه الجمعية القديمة الشيخ عبد الحامد البدايوني القادري، ولها فرع أو أصل في لاهور اجتمعت برئيسه وهو خطيب في جامع وزير خان وله رسائل كثيرة بالأوردية، أهداني نسخًا منها، وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه (مالك الناس) وجمعيتهم نائمة لا تستيقظ إلا في الموالد أو في بعض المناسبات التي تصحبها ضجة عامة، وقد دعت الجمعية الجديدة إلى مؤتمر شباط الذي أشرنا إليه (ولم يقدر لي الحضور فيه) وكان مؤتمرًا قويًّا إلا في المناسبة التي جعلوها سببًا للدعوة إليه، وهي مضيّ سنتين على وفاة العالم البطل الشيخ شبير أحمد العثماني- رحمه الله- فإنها مناسبة ضعيفة كان الأولى أن تكون ثانوية تابعة لا سببًا، وأقوى ما في ذلك المؤتمر إسناد رئاسته إلى الشيخ سليمان الندوي، وهو عالم جليل يجمع بين العلم ووقار العلم، ولكنه شيخ مسنّ، يشرف ولا يصرف، وقد حرّك ذلك المؤتمر الجمعية القديمة فدعت هي أيضا إلى مؤتمر ينعقد في شهر ديسمبر الآتي. وسنتكلم على الجمعيتين في حديثنا عن الجمعيات، وعن المؤتمرين في كلمتنا عن المؤتمرات فليرتقبهما القرّاء. استجبت الدعوة إلى هذه الحفلة في مركزها، وقرأ مقرئهم آيات من كلام الله، فكان أحسن أداء وأشجى نغمة من كل من سمعتهم في باكستان، وأنشد شاعر مسنّ قصيدة بالأوردية في الترحيب بي وفي تمجيد جمعية العلماء الجزائريين بأعمالها، ووزعوا على الحاضرين خطبة مطبوعة بالعربية في الترحيب بي، ثم تلاها الرئيس، وفيها أن جمعيتهم تحتفل بالموالد، وتحتجّ في مثل قضيتي فلسطين وتونس، وفي هذه الخطبة الدعوة إلى مؤتمر

رحلتي إلى كشمير والدواخل

ديسمبر الآتي، ورجاء أن أرأس جلسته الثانية (أو إحدى جلساته) وأن سماحة مفتي فلسطين قبل أن يرأس الجلسة الأولى، الخ. أثّر فيّ ذلك الشاعر المسنّ بسنّه وشيبته وصوته المتهدّج، وشجاني منه ما شجا أبا تمام من الغناء الأعجمي، فشكرته شكرًا معتصرًا من قلبي وإن لم يفهم هو أيضًا ما أقول، وتخلّصت إلى المعاني العامة التي هي سرّ رحلتي، وشرحت وظيفة العالم بما تفهم منه أعمال الجمعيات ووظائف العلماء، وأعرضت عن تلك الجزئيات التي تضمّنتها خطبة الترحيب، لأن زمنها غير قريب، ولأنه ليس من العدل ولا من العقل أن يقطع علماء الإسلام الآلاف من الأميال، وينفقوا عشرات الآلاف من الأموال، ليحضروا مؤتمرًا يقرّر عليهم إقامة حفلات الموالد، كأنه لم يبقَ للمسلمين من المصالح إلا هذا ... ويا ضيعة الأعمار ... ... ____ رحلتي إلى كشمير والدواخل ____ كانت هذه الرحلة غاية التقت عندها رغبتي ورغبة الحكومة، فأنا رحّالة دارس لأحوال المسلمين، ومن أراد أن يعرف باكستان فلا يعرفها من كراتشي. إن كراتشي لا تبلّ غليلًا، ولا تشفي عليلًا، وفيها ما في العواصم مما يضلّ ويزلّ، وفي باكستان عواصم تاريخية، وجوامع أثرية، وجامعات علمية، ودور كتب، وآثار مجد قديم، وعلماء، وآراء وطبائع، وعادات، وأجناس، ولغات، وعناصر أخرجها الاحتكاك عن مجاريها، ومناظر تسحر، وأودية تزخر، فلا يتمّ الغرض من الرحلة إلا بالتقصّي والاستيعاب، وهناك مشكلة كشمير، والآراء في حلّها مختلفة، والنقد متطاير من عدّة جهات إلى الحكومة، وهناك مشكلة الحدود، والخلاف عليها مستحكم بين دولتين إسلاميتين، ولكلتيهما آراء، فيهمني أن أدرس المشكلتين في موضعهما من الأرض، وفي موضوعهما من الناس، فأستفيد شيئًا لنفسي، تتّسع به مداركي، وتزيد به معارفي، وشيئًا آخر لقومي إذا كتبت لهم أو تحدّثت، وشيئًا آخر يثقل به ميزاني عند الله، من كلمة نصح أقدمها للحكومتين، وكلمة حق أنشرها للأمم الإسلامية، ولي لسان ولي عقل ولي قلم، أربعو أن لا أضرّ بها إذا لم أنفع. وحكومة باكستان يسرّها أن يطّلع أصحاب الأقلام والأفكار من المسلمين على الحقائق، فينشروا دعايتها، وينصروا دعواها، ويكونوا إلى جانبها في قضية كشمير، ووسطاء خير على الأقل في قضية قبائل الحدود، وهي على حق في هذا كله.

- 6 -

والحكومة الباكستانية خصّصت لكشمير إدارة مدنية كاملة، رئيسها في مظفر أباد، العاصمة الجديدة لكشمير الحرّة، ولها نيابة في كراتشي، وأخرى في راولبندي التي هي باب كشمير، وقد قامت نيابة كراتشي بتنظيم رحلتي وترتيب الإجراءات اللازمة لها، واتصلت بنيابة راولبندي، وبالعاصمة (مظفر أباد)، فكان كل شيء من لوازم الرحلة منظّمًا مرتّبًا بصفة رسمية، وخيّروني بين الطائرة والقطار، فاخترت القطار وأنا أعلم ما فيه من عناء ومشقّة، مع بعد الطريق، ولكنني آثرته لآخذ في ذهني بواسطة الرؤية صورة من هذا الوطن الطويل، لا تتأتّى لراكب الطائرة، واتفقنا على اليوم والساعة فكان كل شيء في ميعاده. - 6 * - ____ بقية أعمالي في كراتشي ____ خرجت من كراتشي- ومعي الشيخ محمد عادل القدوسي المترجم- على الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء خامس عشر أفريل، فتكون مدة إقامي في كراتشي خمسة وعشرين يومًا صحيحة، مضى أسبوع منها في أنس ومطارحات أدبية مع الإخوان الأستاذ المفتي الأكبر والوزراء العرب: الخطيب وعزام والأميري وولدنا الأستاذ الفضيل، ثم افترقوا ولم يبقَ إلا الخطيب وولده الأستاذ فؤاد، وكفى بهما أدبًا وجاذبية وكرم نفس ورقّة شمائل، وحسن افتقاد لي، ومضت الأيام الأخرى في الاجتماعات والمقابلات وكتابة المذكّرات، ولم أتبرم فيها بشيء ما تبرّمت بشدّة الحرّ، ولولا أن ليل كراتشي يصلح ما يفسده يومها لكانت الحياة فيها مزعجة، هذا ونحن في الربيع، فكيف إذا هجم الصيف؟ وقد رأيناها في الصيف فكنا نترقّب الليل وطراوته كما يترقّب الصائم المغرب، وكنت أتربص بالكتابة الليل فأجد في برودته وهدوه وخلوه من الطارقين أعوانًا على النشاط لها وصفاء الذهن.

_ * «البصائر»، العدد 201، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 15 سبتمبر 1952.

كان الجو في يوم السفر حارًّا كعادته وزادته رمال "السند" السافية حرارة وشدّة، فلما جاوزنا إقليم السند بعد نحو سبع ساعات قابلتنا أتربة إقليم "الملتان" فلما جاوزناها واجهتنا أتربة إقليم "البنجاب" ولقينا في يومنا وليلتنا العناء من هذه السوافي التي ليست من صنع الريح، وإنما تثيرها سرعة القطار، وليست سرعة القطار إلا السرعة المعتادة عندنا أو أقلّ، ولكن تهيُّل هذه الأتربة وخفّتها بسبب الحرّ هي التي سهّلت اثارتها بأدنى محرّك، بدليل سكونها في آخر الليل حينما بردت فثقلت، ولا دواء لهذه العلّة إلا تشجير هذه السهول الواسعة بالغابات المثمرة وغير المثمرة وبالبقول والبرسيم، والإلحاح عليها بماء السقي حتى تسكن وتستقرّ، ثم زرع نبات "النجم" على حفافي السكة، فلا يقهر هذه الأتربة غيره، وليست هذه العميلة الأخيرة بالشيء العسير، ولقد رأينا هذا النبات (وهو النجم) مزروعًا في حدائق كراتشي العامة، وفي حدائق القصور الخاصة فرأيناه مستحلسًا كعادته يجمل الأرض بخضرته وتناسبه، ويمسك التراب أن يثور. مررنا بحيدر أباد، وبهاولبور، ولاهور، ولم نقف فيها إلا بمقدار ما وقف القطار، لأن غايتنا كشمير، أما هذه المدن فهي في آخر البرنامج. ومررنا ببعض أودية البنجاب العظيمة النابعة من سفوح جبال كشمير، وسنتحدّث عنها وعن هذه المدن في محلّها من هذه الحلقات. وصلنا إلى راولبندي على الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء سادس عشر أفريل، فنكون قد قطعنا المسافة في ثلاث وثلاثين ساعة متتابعة لم يتخلّلها نزول ولا راحة، وقطعنا فيها باكستان طولًا إلى قرب حدود الهند من الشمال الشرقي، وكنا محاذين لحدوده الجنوبية على طول الطريق نقرب منها ونبعد عنها بنسب متقاربة، ولقد كانت السكة الحديدية متصلة بالهند من عدّة جهات، ولكنها انفصلت مع الانفصال، فضاعت بذلك فوائد اقتصادية عظيمة على الوطنين. قطعنا ألفًا وخمسمائة كيلومتر في سهل واحد ليس فيه جبال ولا روابٍ إلى مدى ما تنتهي إليه العين، ومما يؤسف له أن هذه السهول كلها خصبة التربة وتشقّها أنهار البنجاب العظيمة وترعها المنفصلة عنها، وكل ترعة تكون نهرًا عظيمًا، ومع ذلك كله ... فإن المساحات الواسعة منها ما زالت بورًا، والحقول القليلة المزروعة قمحًا أو قصب سكر أو برسيمًا تظهر فيه كالنقط، وكيفية الفلح ما زالت بدائية عتيقة تعتمد على الجاموس في الحرث والنقل والدِّرَاس، ومع ضعف الفلاحة وقدم أساليبها فإن إقليم البنجاب ينتج مقادير عظيمة من القمح والأرزّ تزيد كثيرًا على الاستهلاك المحلّي، وقد رأيناهم يحصدون القمح في أواسط أفريل، فهم سابقون حتى لإقليم بسكرة عندنا، فلو ترقت الفلاحة عندهم وانتظمت

المواصلات التجارية لغمروا أسواق العالم بالقمح قبل أن تحضر قموح روسيا وشمال إفريقيا بشهور، ومن هيّأ الله له أدوات السبق ولم يسبق فهو محروم. ... وصلنا راولبندي ووجدنا ممثلي كشمير في انتظارنا، وبتنا بها ليلتين، ألقيت في الثانية منهما درسًا في المسجد قبل صلاة الجمعة، واجتمعت بصديقنا على الغيب الأستاذ مسعود عالم الندوي، وفي صباح يوم السبت ركبنا سيارة خاصة لحكومة كشمير، وصحبنا ضابط اتصال شاب من الإدارة الخاصة بكشمير، وقد قرّروا أن نذهب من طريق، ونرجع على طريق آخر، لنشاهد جهتين من جبال كشمير الشاهقة ومن السلاسل المتصلة بها، واختاروا الذهاب على طريق "مرى" والرجوع على طريق "ايبت أباد" وهي أطول الطريقين. سرنا بضعة عشر كيلومترًا في سهل قبل أن نصل إلى سلسلة جبال جرداء، تظهر للعين من راولبندي، وليست هي من جبال كشمير ولا قريبة منها، ثم دخلنا واديًا فيه قليل من الماء والأشجار المثمرة، وأخذنا في الصعود، وبدأت المناظر تختلف وتتلوّن، والمتعرّجات تتقارب وتتصاعد، ونحن ننتقل في كل خطوة من صحيفة تطوى إلى صحيفة تنشر، فننتقل من جميل إلى أجمل: شعاب وأودية وغابات من الصنوبر منقطعة، وقرى متناثرة هنا وهناك، متصاعدة مع الجبل، تحيط بها حقول من الشعير قليلة العرض جدًّا، ولكنها مستطيلة لأنها تابعة لوضعية الجبال، وإن الناظر ليعجب لهذه القرى كيف يتأتّى لها الصعود والهبوط والاتصال بالعالم، ولعلهم لارتياضهم على هذه الحياة تعوّدوا الاستقلال فيها، وقد يرتفقون ببعضهم فيما تدعو الضرورة إلى الارتفاق فيه، وان جبالهم لمتناوحة، يكاد إذا صاح أحدهم أن تردّد الجبال صدى صياحه فيسمعه الناس كلهم، وما زلنا مأخوذين بهذا السحر حتى انتهينا إلى قمة "مرى" بعد سير أربع ساعات كلها صعود ومنعرجات مدهشة مَخُوفة. وقمة "مرى" ترتفع عن سطح البحر بسبعة آلاف قدم، فيما أخبرني به ضابط الاتصال (ألفان ومائتا متر وزيادة) وتحيط بهذه القمة غابات عظيمة من الصنوبر، وقد بني فيها من عهد الإنكليز عدة مرافق للمسافرين من فندق تتبعه مقهى ومطعم، وبها بيوت خاصة لسكنى الأسر، وغالبها من الخشب، ولكنها جميلة، فاسترحنا بها قليلًا وشربنا الشاي، وتمتعنا بالماء البارد بالطبيعة، وقد ذكرني بماء سطيف وشريعة البليدة وقنزات، ثم واصلنا السير وبدأنا في الانحدار من أول خطوة، كأننا كنا على مثل روق الظبي كما يقول المعرّي، واستدبرنا الصفحات التي كنا نراها، واستقبلنا صفحات أخرى من قمم وغابات متقطعة وقرى متقاربة وحقول قمح وشعير تظهر كالسطور في اللوح لضيقها واستطالتها، وتدرّجها من أعلى

إلى أسفل، وقد يبتدئ أول سطر من أعلى جبل وينتهي آخر سطر في حافة الوادي، وما أعجب هذا المنظر وما أجمله، لكأنك ترى فيه ميزانًا "تيرمومتر" إلهيًا بديعًا لِدَرَجات الحرارة، فترى- في صفحة واحدة- السطر الأخير على ضفة الوادي أصفر السنابل، علامة النضج والافراك، ترى الذي هو أعلى منه أقل منه في ذلك، وترى ما هو أعلى منهما لأول ما بدت سنابله وامتازت من الورق، وترى الذي هو أعلى منها دونها في ذلك، حتى تقع عينك على الحقل الأعلى فإذا هو أخضر نضر لم تتكوّن فيه القصبات ولا الكعوب، كأظهر ما يكون الفرق بين منطقتين متباعدتين عندنا في الجزائر، أو كمن يستدبر بسكرة ويستقبل باتنة في سني تبكيرها وخيرها، وهذا كله وأنت لم تعد مرمى بصر، في صفحة جبل، ولعمري إن هذا لأجمل منظر رأته عيناي في حياتي كلها. وتراءت لنا- ونحن في هذه المنحدرات العجيبة- قطعة من وادي مظفر أباد، الذي يفصل باكستان عن كشمير، ويمرّ على قرية "جهلم" فيسمّى باسمها، فإذا هو كالثعبان ينساب ويلتوي بين تلك الجبال الشاهقة قوّيًا هدّارًا، ففرحنا بقرب الخروج من تلك المنحدرات، كما أخبرني ضابط الاتصال، ثم وصلنا القنطرة الحديدية الهائلة، وسلكنا من الوادي ضفّته اليسرى بالنسبة إلينا حتى وصلنا قرية مظفر أباد، وهي واقعة على ضفة هذا الوادي، لأول ما خرج من الجبال مغربًا واتجه إلى شبه الجنوب، وقد اتصل به واديان عظيمان أحدهما من الغرب والآخر من الشرق، تحت مظفر أباد، أحدهما على بعد نحو ميل منها أو أقلّ، والغربي على أبعد من ذلك قليلًا، فأصبح بهما نهرًا ذا غوارب، وزاده الانحدار روعة بالهدير والتراكب. ... قد سلكت طرق الجزائر الجبلية بالسيارة، وإن منها الرائع المخيف، فما داخلني من الخوف ما داخلني في طريق "مرى" صعودًا وهبوطًا، فما أدرى أللغربة والغرابة دخل في ذلك؟ أم هو الحرص على الحياة، يقوى فيمن تتقدم به السن فتدنو من الآخرة مراحله.

أخوة الإسلام

أخوة الإسلام * بسم الله والحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... أنا سفير من سفراء الإسلام، الناطقين بكلمته، الناشرين لدعوته، المسيرين باسمه، المضطلعين بأمانة الله في أهله، وهي التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر والرحمة. وأنا بحكم هذه السفارة أحمل تحيات أهله في المغرب الإسلامي، إلى إخوانهم في المشرق الإسلامي، وما أجمل كلمة "أخوة الإسلام" وما ألذّ وقعها في نفوس المؤمنين الصادقين، وما أشدّ شوقهم إلى تحققها في عالم الواقع، وما أضيع حقيقتها بين جمهرة المسلمين، وما أبعدها عن قلوبهم وبصائرهم، وما أكثر دورانها على ألسنتهم لغوًا ورياءً وليًا بغير الحق، في هذا الوقت الذي ضعفت فيه سيطرة القلوب على الألسنة، فانقطعت الصلة بينهما، فأصبح اللسان في حل مما يقول. إن المسلمين إخوة بحكم الله، ولكنهم اتّبعوا خطوات الشيطان، فكان جزاؤهم أنه كلّما تقاربت بهم الديار باعد بينها الاستعمار، وأن يناموا في الزمان اليقظان فلا ينتبهوا إلا على طروق الغارات، والتداعي لأخذ الثارات، وها هم أولاء قد تأخروا عن قوافل الحياة، فهم من حياتهم في مفازة طامسة الأعلام، يعملون للغاية وهم مستدبرون لها، ويلتمسون الهداية من مطالع الضلال، ويطلبون الشفاء بأسباب المرض، ويبحثون على الدليل الهادي وهو معهم، ولكنه على ألسنتهم لا في قلوبهم، فما أحوجهم- وهم في هذه الحالة- إلى سفراء يسفرون بينهم بتحية الإسلام والتحية بريد الأمان والاطمئنان، ثم بالتعارف، والتعارف

_ * كلمة أُلقيت بإذاعة باكستان، أفريل 1952.

وسيلة التعاون، ثم بالتوحيد والاتحاد رائد القوة، ثم بالتوجيه السديد إلى الغاية المنشودة وهي العزة والسعادة. إن المسلمين كثير، ولكن التفرّق صيّرهم قليلًا مستضعفين في الأرض، يشقون لإسعاد غيرهم، ويموتون في سبيل إحياء عدوّهم، وانها لخطة من الهوان يأباها أكثر الحيوانات العجماء، فكيف الخلائق العقلاء. لو صدقت نسبة المسلمين إلى الإسلام، وأشربوا في قلوبهم معانيه السامية ومُثله العليا، واتّخذوا من كتابه ميزانًا، ومن لسانه العربي ترجمانًا، واتّجهوا إلى هذا الكتاب الخالد بأذهان نقية من أوضار المصطلحات، وعقول صافية لم تعلق بها أكدار الفلسفات، لسعدوا به كما أراد الله، ولأسعدوا به البشر كما أمر الله، ولأصبح كل مسلم بالخير والصلاح سفيرًا، ولكان المسلمون في أرض الله أعزّ نفرًا وأكثر نفيرًا، ولكان التقاء المسلم بالمسلم كالتقاء السالب بالموجب في صناعة الكهرباء ينتج النور والحرارة والقوة. أيها المستمعون الكرام: أنا في رحلة استطلاعية إلى الأقطار الإسلامية، وقد مررت بمصر وأنا على نية العودة إليها إن شاء الله. والغرض الأول الأهم من هذه الرحلة هو دراسة أحوال المسلمين في مواطنهم، والتعرّف إلى قادة الرأي فيهم بالعلم والحكم، والامتزاج بمجتمعاتهم، حتى أتبيّن الحقائق مشاهدة وعيانًا، لأن الأخبار التي تصلنا عن إخواننا النائين عنا تصلنا غامضة مختصرة، أو مطوّلة مستفيضة، وكلا الطريقين مشوه للحقيقة، مصوّر لها بغير صورتها، خصوصًا في هذا الزمان الذي أصبحت الأخبار فيه سلعًا تُباع وتُشترى على أيدي سماسرة يعوجون المستقيم، ويروّجون للسقيم، تبعًا لأغراض ليس شيء منها في مصلحتنا. والغرض الثاني من هذه الرحلة هو التعاون بجهد المقل مع أولئك القادة في شخيص أمراض المسلمين المشتركة، والبحث عن وسائل علاجها، ورد الآراء المتفرقة فيها إلى رأي جميع وكلمة سواء، حتى يكون العلاج أسهل وأقرب نفعًا، ثم تمكين أسباب التعارف بين قادة المسلمين، وإن أشبه هؤلاء القادة لي، وأقربهم مسافة فكر مني هم علماء الدين الإسلامي، فهم محل الرجاء في إصلاح أحوال المسلمين إذا صلحوا، وهم أنفذ أثرًا في هدايتهم وإرجاعهم إلى هدي محمد وأصحابه وإلى التخلّق بأخلاقهم المتينة التي سعد المسلمون بالتخلّق بها قديمًا، وشقوا بالتخلّي عنها حديثًا، حتى وصلوا إلى هذه الدركة التي لا يحمدون عليها ولا يحسدون، وما دخل عليهم الشر إلا من هذه الثغر الأخلاقية التي فتحها التحلّل من القيود، ووسعها الاسترسال في شهوات العقول والجوارح.

إن هذه الطائفة الحاملة لِلَقب "رجال الدين الإسلامي" هي من الأمة الإسلامية كالقلب من الجسد، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما ورد في التمثيل النبوي البليغ. وإن عليهم قسطًا عظيمًا من تبعة هذا الانحطاط الشامل للشعوب الإسلامية، لأنهم فرّطوا- من قرون- في القيام بواجبات العالم الديني في الإسلام، وأول تلك الواجبات وأولاها حراسة هذا الدين أن تزيغ عقائده عن مستقرّها من القلوب فتخلفها الوثنية، وأن تختل هدايته السماوية، فتسف بها المادة إلى الحيوانية، وأن تخضع أخلاقه للشهوات فتضيع معانيها وآثارها. إن العالم الديني في الإسلام حارس، والحارس إذا نام دخل اللص، والعالم الديني راع، والراعي إذا غفل هجم الذئب، والعالم الديني ربّان، والربّان إذا لم يأخذ الحيطة غرقت السفينة، والعالم الديني قائد كتائب فإذا عداه الضبط اختلّت الصفوف وحلّت الهزيمة. أكبر مُناي في هذه الرحلة أن ألقى من يتيسّر لي لقاؤه من إخواني وزملائي، وأن نتبادل الرأي بأمانة الإسلام وإخلاص المسلم، في علاج هذه العلل التي خصّت المسلمين وأصبحوا فيها مضرب المثل في هذا العصر الذي أصبحت العزّة فيه دينًا يعتنق، وتنافس فيه الوثني والكتابي على سيادة الأرض، والمسلم القرآني راضٍ بالذلة والقلة والعبودية لهما أو لأحدهما، موزّع القوى، مختلف المشارب، مختلف حتى في الحق الذي لا يختلف فيه الناس، جامد العقل راكد القوى، غافل عن العواقب، مضيع لوقته بين سفاسف الأقوال وتوافه الأعمال، كأنه هيولى لم تتكيّف أو حقيقة ذهنية تجول في الذهن، لا شجرة مباركة تنبت بالدهن، حتى أصبح الجسم الإسلامي العام معرّضًا للفناء والانهيار، مستعدًّا للانحلال والذوبان، والإلحاد متربّص بالباب، والأهواء غالبة، والشهوات متبرجة، والحصانة التي جاء بها الإسلام مفقودة. أيها المستمعون الكرام: أنا الآن في باكستان وقد لقيت من أهلها، حكومةً وشعبًا، إجلالًا وكرم وفادة هم أهله ومحله، وقد صيّرتني أخوة الإسلام أهلًا لبعضه، فلا ينسيني الدلال بهذه الأخوة أن أحييهم تحية المسلم الصادق لإخوانه الصادقين، جزاء لما أنزلوني من منازل الكرامة والبر، وكفاء لما قابلوني به من التأهيل والترحيب، ومهرا لما تخيلته فيهم من مخايل صادقة تبشّر بأنهم أمة تُدعى إلى الحق فتجيب، وإعلانًا مني بأن ما وهب الله لهذه الأمة الباكستانية من الفطر السليمة، والاعتزاز بالإسلام، وجعل الاعتماد على الله أساسًا للأسباب، كل أولئك سيحقّق رجاءها ورجاء المسلمين فيها.

فسلام على باكستان شعبًا وحكومة، سلامًا أؤدي به حقوق البر عن نفسي وعن قومي في المغارب الثلاثة، وإننا لقوم يقوم بذمّتنا أدنانا. وتحيات مباركات طيّبات دونها عبير السحر، وإن كان قريبًا، وعنبر البحر وإن كان غريبًا، أحملها أمانة وأؤديها تكليفًا من إخواني أعضاء جمعية العلماء الجزائريين، ومن أبنائي جنودها العاملين للإسلام، الهادين لقرآنه المحيين للسانه، ومن أنصار جمعيتنا المجاهدين في سبيل الإصلاح، ومن الأمة الجزائرية التي تعد زيارتي لباكستان والأقطار الإسلامية واجبًا أقوم به عنها، ومغنمًا أجلبه إليها، ودينًا يؤدى لباكستان التي وضعت أساسها على الإسلام، وفتحت صدرها للإسلام، ورفعت رأسها اعتزازًا بالإسلام. وإذا كان من حق باكستان على مثلي أن يتقدّم إليها بالنصيحة فإن من حق مثلي عليها أن تتقبّل منه النصيحة. وإن الإسلام قد جمعت أطرافه في النصيحة، وسنفعل وسنفعل مأجورين إن شاء الله. وليهنأ باكستان أن للمغرب العربي كله قلوبًا تدين بالحب لباكستان، وعواطف تفيض بالحنان لباكستان، وأماني تجيش بالخير لباكستان، ونفوسًا تعلّق الآمال على باكستان، وألسنة رطبة بالدعاء لباكستان، ولتشكر الله باكستان على أن هيّأ لها من الصنع الجميل ما جعل لشعبها في قلب كل مسلم مكانًا، ومهّد لها في نفس كل مسلم مكانة، والسلام عليكم.

الرجوع إلى هدي القرآن والسنة

الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المستمعون الكرام في مشارق الأرض ومغاربها: اجتمع المسلمون في أول أمرهم على هداية إلهية عامة، وهي هداية الدين التي جاء بها القرآن، وشرحها محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا إليها المستعدين وحضّ عليها المستجيبين، ونفّذها في أمة الإجابة. وكانت تلك الدعوة جامعة بطبيعتها لموافقتها للفطرة، وجمعها بين مطالب الجسم والروح، وانطوائها على حفظ المصالح، وضبطها لنزوات النفوس. تجتمع تلك الهداية على عقائد صحيحة، وتحفظ علائق العبد بربّه وتحددها، وأخلاق متينة تحفظ العلائق بين العباد وتجددها، وتزن المصالح بالميزان القسط، وتقرر للفضيلة وزنها وقيمتها، وللرذيلة وزنها وقيمتها، وتجعل بينهما حدًّا كأنه منطقة حياد، فيه للمؤمن خيار وله فيه روية وأحكام عادلة، تحفظ حقوق العباد وتفصل في مواطن مظانّ الشقاق. وتجمع أطراف الأمة من غني وفقير على العدل والإحسان. وكان مرجعهم للقرآن وهو محفوظ مفهوم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. ثم فرطوا في سنن الله في دينه، فغفلوا بسبب ذلك عن سنّته في كونه وفي خلقه، فانحدروا من تلك الدرجة التي رفعهم إليها الإسلام، إلى هذه الدركة التي هم فيها الآن، وتماروا بالنذر فسلّط الله عليهم من لا يخافه ولا يرحمهم. إننا نعد من معجزات محمد الخالدة، تلك النذر التي كان ينذر بها أصحابه، ليبلغها الشاهد منهم إلى الغائب، وقد بلغتنا وفيها أوصافنا التي نحن عليها الآن في

_ * من حديث في إذاعة باكستان، أفريل 1952.

القرن الرابع عشر للهجرة، وكأن الواصف لها يصف ما رأت عيناه لا ما تخيلته خواطره. وأبلغ ما في تلك النذر المحمدية قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله: أو من قلة فيها يا رسول الله؟ ... لَا بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل لا منفعة فيه ولا غناء. نحن خمسمائة مليون فيما يعدّ العادّون، ولكننا مع هذه الوفرة الهائلة في العدد مستعبدون، قد نزع منّا البأس على أعدائنا ونزعت الرهبة منا. أيها المستعمون الكرام: قد وصلنا من الانحطاط إلى قرارته، ولم تبق في التدلي دركة أخرى نخشى أن ننحدر إليها، فلم يبق إلّا أن نقيم على هذه الحالة إلى ما شئنا وشاءته لنا المهانة والرضى بالدون. أو نرتفع إلى المنزلة التي أهّلنا الله لها بالإسلام. إن البشائر تدل على أننا اخترنا الثانية، وان المخايل تنبئ بأن شواعر الخير تنبّهت فينا، وان الوظيفة القرآنية التي خالطت أردام سلفنا فرفعتهم من الحضيض إلى الأوج توشك أن تخالط منا نفوسًا خدرتها الأحداث ولم تصل بها إلى الموت، وان تلك النفحات التي هبّت على القلوب الغلف فحركتها، وعلى العيون العمي ففتحتها قد داعبت نفوسنا، فبدأنا نشعر ونحسّ، وأصبحنا نعي ونفكر، وان التفكير هو أول مراتب العمل، وما هذه الأصداء المترددة في الأقطار الإسلامية، وهذه الأصوات المتجاوبة من علماء الإسلام بلزوم التعارف فالاتحاد فالتعاون، إلا بشائر خير وتباشير صبح بعدها السَّنى والنور.

أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام

أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام * وقد يبدو هذا العنوان مدهشًا وغريبًا، ومثيرًا لتأثّرات مختلفة، في كثير من النفوس المختلفة، ولشيء من السخرية في النفوس الساخرة. أما الدهشة فإنّ صاحبها معذور مهما كان، وأما الغرابة فكل وارد جديد على السمع أو على الذهن يُسْتَغْرَب، ولكنه إذا تكرّر وكثر ترداده أصبح مأنوسًا، وأما السخرية فلا تأتي هنا إلّا من رجلين: رجل انطوت نفسه على بغض للإسلام وحقد على بنيه، واحتقار لتعاليمه، ورجل لم يفهم الإسلام إلّا من حالة المسلمين اليوم، ولم يعلم أن بين حقائق الإسلام وبين حالة المسلمين اليوم بُعْدَ المشرقين، والذي في العنوان إنما هو الإسلام لا المسلمون. العناوين لا ذنب لها لأنها دوالّ على ما وراءها، فاسمعوا ما وراء هذا العنوان، ثم ليندهش المندهشون إن لم يقتنعوا، وليسخر الساخرون إن شاءوا. ... تولّى الإسلام في أوّل مراحله قيادة العالم الإنساني العامر للأقاليم المعتدلة، فضاده إلى السعادة والخير بأصلين من أصوله وهما القوة والرحمة، وبوسيلتين من وسائله في القيادة وهما العدل والإحسان، وبأحكامه المحققة لحكمة الله في عمارة هذا الكون. والقوة والرحمة صفتان موجودتان في كل زمان، ولكنهما متنابذتان لم تجتمعا قط في ماض ولا حاضر، حتى جاء الإسلام فجمع بينهما وزاوج، وخلط بينهما ومازج، فجاء منهما ما يجيء من ائتِقاء السالب بالموجب في عالَم الكهرباء: حرارةٌ وضوءٌ وحركة. وما زال

_ * كلمة كتبت بباكستان، ماي 1952، ولم نعثر على الصفحة السابعة من مجموع ثَمانِ صفحات.

معروفًا عند العقلاء، قريبًا من مدارك البسطاء، أن القوة وحدها لا خير فيها لأنها جبرية واستعلاء، وأن الرحمة وحدها لا خير فيها لأنها ضعف وهُوَيْنا، وان الخير كل الخير في اجتماعهما، ولكن الجمع بينهما ليس من مقدور الإنسان المسخّر للأهواء والعوائد، المنساق للأماني والمطامع، المنجذب إلى مركز الأنانية، فلا تجمع بينهما على وجه نافع إلّا قوة سماوية تتجلّى في نبوّة ووحي وخلافة راشدة واتّباع صادق مشتق من هذه. ومن حكمة الإسلام العليا أنه وضع الموازين القسط للمتضادات فإذا هي متآلفة، والمتنافرات إذا تآلفت صلح عليها الكون لأنها سرّ الكون وملاكه، فوضع الحدود لهذه المتنافرات، وأعطى كل واحدة حقّها، ووجّهها إلى الخير في مدارها الطبيعي، فإذا هي أشياء في الاسم والذات والوظيفة، ولكنها شيء واحد في الغاية والفائدة والأثر، وكلها خير ونفع وصلاح وجمال. وضع الحدود بين المرأة والرجل فائتلفا، وأطفأ بالعدل والإحسان نار الخلاف بينهما، والخلاف بينهما هو أصل شقاء البشرية، ولا يتم إصلاح في المجتمع ما دام الخلاف قائمًا بين الجنسين، وما زالت الجمعيات البشرية من الرجال مختلفة النظر إلى المرأة، فبعضهم يرفعها إلى أعلى من مكانها فيُسقِطها ويسقط معها، ويعطيها أكثر من حقّها ومن مقتضيات طبيعتها فيفسدها ويفسد بها المجتمع، وبعضهم يحُطها عن منزلتها الإنسانية فيعدّها إمّا بهيمة وإما شيطانًا حتى جاء الإسلام فأقرّها في وضعها الطبيعي وأنصفها من الفريقين. كذلك وضع الحدود بين الآباء والأبناء، وكم أزاغت الشرائع والقوانين الوضعية هذه القضية عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط. كذلك وضع الحدود للسادة والعبيد، وللحاكمين والمحكومين، وللأغنياء والفقراء، وللجار وجاره، وللإنسان والحيوان، وللروح والجسم، فألّف بين السادة والعبيد بقانون الرفق، والترغيب المتناهي في العتق، وألّف بين الحاكمين والمحكومين بقانون العدل والمساواة، وبين الأغنياء والفقراء بنظام الزكاة والإحسان، وبين الجيران بوجوب الارتفاق والحماية، حتى اعتبر الجيرة لحمة كلحمة النسب أو أشد، ومَحا من المجتمع نظام الطبقات والأجناس والعناصر، فلا فضل لعربي على عجمي إلّا بالتقوى، ولا عزّة للكاثر، ولا تعظّم بالآباء، ولا عصبية بالقبيلة، ولا تفاضل بالجاه والمال، وجعل لليتيم حرمة تدفع عنه غضاضة اليتم، ولابن السبيل حقًا يحفظه من الضياع وفساد الأخلاق، وللغريب حقًا يُنسيه وحشة الاغتراب، وجعل ميزان التفاضل روحيًا لا ماديًا، فالغني أخو الفقير بالإسلام، وليس الغني أخًا للغنيّ بالمال، وقرّر للحيوان الأعجم حق الرفق والتربيب، وحماه من الإعنات والتعذيب، وأشركه مع الإنسان في الرحمة، ففي كل ذات كبدٍ حَرَّى أَجْرٌ، وحلّ مشكلة الروح والجسم، وعدل ما

كان يتخبّط فيه فلاسفة الأمم من أن العناية بأحدهما مضيعة للآخر، فوفّق بين مطالب الروح والجسم، وحدّد لكلٍّ غذاءه وقِوامَه، فإذا هما متآلفان متعاونان على الخير والنفع. ... ساس الإسلام الأرض بقانون السماء، فأشاع إشراقَه في غسقها، وأدخل نسَقَه في الإحكام على نسَقها، وقيّد الحيوانية العارمة في الإنسان بقيود الأوامر والنواهي الإلهية التي لا خيار معها ولا مراجعة فيها، وبذلك نقل الأمم التي دانت به من حال إلى حال، نقلها من الفوضى إلى النظام، ومن التنابذ إلى التآخي، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاضطراب إلى الاستقرار، ومن نزعات نفسية متباينة إلى نزعة واحدة أقرّها فيهم، ثم أقرّها في الأرض بهم، ونقل الأمم المتبدية إلى حال وسط من الحضارة المتأنية المقتصدة، ونقل الأمم المتحضرة إلى حال من الحضارة العقلية تأخذ بالحُجّة، وتمنع من التضخّم والتهافت، ونقل الأمم المؤلهة للملوك والكبراء إلى حال من عرفان القدر وفهم الكرامة، جعلتهم هم الملوك. ... قاد الإسلام أهله بقانونه السماوي الشامل لأنواع التدابير المحيطة بمصالح البشر من حرب وسلم، وخوف وأمن، وسياسة وإدارة، وقضاء في الأموال والدماء والجنايات، وفي بناء الأسرة. قاد بهذا القانون أعقل سكّان الأرض إذْ ذاك في أعمر بقاعها، فما شكا أحد ظلمًا ولا هضمًا، فإنْ وقع شيء من ذلك فهو من حاكم حادَ عن صراطه، أو شخص أخلّ بأشراطه، وقد أخذت الأمم الخارجة منه كثيرًا من قوانينه العادلة في فترات احتكاكهم بالمسلمين محاربين أو معاهَدين في الشام والأندلس وافريقية، كما أخذوا كثيرًا من العادات الصالحة في تدبير المعاش وفي الحياة المنزلية، وما زال كثير من تلك الأصول بارز العين أو ظاهر الأثر في المدنية الحالية. ... جاء الإسلام أوّل ما جاء بإصلاح الأسرة وبنائها على الحب والبرّ والطاعة: الحبّ المتبادل بين أفراد الأسرة، والبرّ من الأبناء للآباء، والطاعة في المعروف من الزوجة للزوج، وحاط ذلك كله بأحكام واجبة وتربية تكفُل تلك الأحكام، وتجعل تنفيذها صادرًا من نفس الإنسان، والرقابة عليها من ضميره، فلا تحتاج إلى وازع خارجي، وجعل تقوى الله والخوف منه حارسين على النفس والضمير، فكلما همّ الإنسان بالزيغ تنبّها فيه، فنبّهاه إلى لزوم الجادّة. وإن يقظة الضمير الذي سمّاه النبي- عليه الصلاة والسلام- وازع الله في نفس المؤمن، ومراقبته لأعمال صاحبه لَهي أعلى وأسمى ما جاء به الإسلام من أصول التربية النفسية، وهي

أقرب طريق لتعطيل غرائز الشرّ في الإنسان، وفرق عظيم بين من يمنعه من السرقة مثلًا خوف الله، وبين من لا يمنعه منها إلّا خوف القانون: فالأوّل يعتقد أنه بعين من الله تراقبه في السرّ والعلن، فهو لا يسرق في السرّ ولا في العلن، والثاني لا يمنعه من السرقة إلّا قانون يؤاخذ على الذنب بعد قيام البيّنات عليه، وفي قدرة الإنسان أن يتحاشى كلّ أسباب المؤاخذة الظاهرة، فإذا أمن ذلك قارف الشر مُقْدِمًا غير محجم، فالخوف من الله يَجْتَثُّ السرقة وجميع الشرور من النفس حتى لا تخطر على بال المؤمن الصادق، وبذلك يأمن الناس على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، أما الخوف من القانون فربّما زاد الناس ضراوة بالشرّ بما يتفنّنون فيه من الحِيَل التي تجعلهم في مأمن من مؤاخذة القانون، فكأنّ هذه القوانين الأرضية تقول للناس: لا سبيل لي عليكم ما دمتم مستترين منّي، غائبين عن عيني، ولذلك فهي لا تمنع الفساد في الأرض بل تزيده تمكّنًا فيها، وانتشار الشرور في هذا العصر أصدق شاهد على ذلك. ... نقول ونعيد القول بأن أصلح نظام لقيادة العالم الإنساني هو الإسلام، ولا نلتفت لسخر الساخر، ولا نأبه لدهشة المندهش، ونأتي بالحجّة على لون آخر، وهو أن الإسلام عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وكل هذه الأجزاء رامية إلى غرض واحد، وهو إصلاح نفس الفرد الذي هو أصل لإصلاح النفسية الاجتماعية، فعقائد الإسلام مبنية على التوحيد، والتوحيد أقرب لإدراك العقل الإنساني من التعدد، وأدعى لاطمئنانه وارتكازه وتسليمه، والعقل إذا اطمأن من هذه الجهة انصرف إلى أداء وظيفته مجموعًا غير مشتّت. والعبادات غذاء وتنمية لذلك التوحيد وعون على تزكية النفس وتصفيتها من الكدورات الحيوانية، والأحكام- ومنها الحدود- ضمان للحقوق، وحسم للشرور، وزجر للثاني أن يتّبع الأوّل، ومَن تأمّل القواعد التي بنيت عليها أحكام المعاملات في الإسلام علم ما علمناه، وهي: لا ضَرَرَ ولا ضِرَار، الضرورات تبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يُقدر بقدرها، درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، الحدود زواجر وجوابر، القصاص حياة. والآداب تزرع المحبّة بين الناس، وترقق العواطف، فتقوي عاطفة الخير والتسامح والإيثار والكرم والشجاعة والصبر، وتضعف عاطفة الشر والتشدّد والأثرة والبخل والجبن والجزع. ... العالم اليوم في احتراب وحبله في اضطراب، وقد ملكتْ عليه المادة أمره، وقد جفّت الروحانية فيه فضؤلتْ، فلم يبق لها سلطانها الآمر الناهي، وانطمست فيه البصائر الهادية فهو يتخبّط في ظلمات، وتجسّمت المطامع الشوهاء فتولت القيادة، وقد جرّ على نفسه في ثلاثة عقود من السنين حربين عاتيتين أهلكتا الحرث والنسل وهو يتحفَّز للثالثة، وقد كان قبل اليوم

إذا اختلف اثنان وجد بينهما ثالث يدعو إلى الإصلاح أو ينتصر للمظلوم، فما زالت به المطامع وفشوّ الإلحاد، وشيوع الفلسفة المادية، والاغترار بالعقل، حتى أصبح مقسّمًا إلى كتلتين قويتين عظيمتين متضادتين، تدورُ كل واحدة منهما على مبدإ اتخذتْه دينًا ودعت الناس إليه، فانضم كل ضعيف إلى واحدة مُكرَهًا كطائع، وكلا المبدأين لا رحمة فيه ولا خير، وكلاهما ينطوي على شرور، وكلاهما يعتمد على الظفر والناب (1) ... ... ذلك فيهم نشروا أحكامه وتعاليمه حتى نَعم العالم، ويومئذ يشهدون انقلابًا فكريًا يقضي على هذا الجنون الذي ابتُليَ به العالم. والإسلام دين اقتناع، فلا أقول إنه يجب على العالَم أن يصبح مسلمًا كاملًا يصلي ويصوم وإنما أقول: إن دواءه مما هو فيه هو الإسلام، فليأخذْ أو فليَدَعْ. ... لا يضير الإسلام في حقائقه ومثله العليا أن لم ينتفع به أهله في تحسين حالهم، فما ذلك من طبيعته ولا من آثاره فيهم، وإنما ذلك نتيجة بُعدهم عن هدايته، وهو كدين سماوي محفوظ الأصول يهدي كل من استهداه، وينفع كل مستعدّ للانتفاع به، ولو أن أمّة وثنية اعتنقته فأخذتْه بقوة فأقامتْه على حقيقته- من العقائد إلى الآداب- لسادت به هذه المآت من الملايين من أهله الأقدمين الذين أضاعوا روحه ولبابه، وأخذوا برسومه والنسبة إليه، ولم يزحزحها عن السيادة أنها جديدة في الإسلام، كما لا ينفع تلك المآت من الملايين أنها عريقة في الإسلام. ولا حجّة علينا ببعض الشعوب الإسلامية التي استبدلت القوانين الأوروبية بأحكام القرآن، لأنّ تلك الشعوب ما فعلت ذلك إلّا بعد أن لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه، ومن لم ينتفع بقديمه لم ينتفع بجديد الناس، وأحوال تلك الشعوب المستبدِلة شاهدة عليها، فهي لم تزدد بهذا الاستبدال إلّا شقاء وبلاء. ... وبعد، فلو أن علماء الإسلام أحسنوا الدعاية إلى دينهم، وعرفوا كيف يغزون بحقائقه الأذهان، لكان الإسلام اليوم هو الفيصل في المشكلة الكبرى التي قسّمت العالم إلى فريقين يختصمون، ولكانوا هم الحكم فيها، ولكنهم غائبون، فلا عجب إذا لم يُشاوَروا حاضرين، ولم يُنتظروا غائبين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_ 1) هنا تنتهي الصفحة السادسة من المخطوط، والصفحة السابعة مفقودة.

تقرير مرفوع إلى صاحب الدولة رئيس وزراء الحكومة الباكستانية

تقرير مرفوع إلى صاحب الدولة رئيس وزراء الحكومة الباكستانية * يا صاحب الدولة، أرفع إليكم بيد الإخلاص، وبدافع النصيحة التي أوجبها الله علينا لعامّة المسلمين ولأولياء أمورهم خاصّة، فقابلوه بما يجب له من الاهتمام والتقدير. إنّي أرى أنّ هذه الناحية التي يشرحها التقرير جديرة بالتقديم على غيرها من مصالح الدولة، لأنّها هي الناحية النفْسيّة التي تقوم عليها الأمّة، والنواحي النفْسيّة الروحية هي قوام الأمم والدول، وإنّي لأعْجَبُ ويعجب معي كلّ مفكّر مسلم يحبّ أن تُبْنَى هذه الدولة الإسلامية الناشئة على أساس صحيح- كيف لم يَكن لهذه الناحية اعتبار أوّلي من أوّل لحظة قامت فيها هذه الدولة. لا نشكّ أنّه يومَ يوضع الدستور الباكستاني تكون أوّل مادّة فيه هذه الجملة بهذا النصّ: "دين الدولة الرسمي هو الإسلام"، وهذه المادة لا تكون حقيقة واقعة صادقة مؤثّرة إلّا إذا سبقتها تمهيدات، واتخذت لها وسائل عملية تضمن تحقيقها على الوجه الكامل الصحيح. والحقيقة التي يجب عليّ أن أصارحكم بها هي أنّ الأمّة الباكستانية- وإنْ كانت مسلمة- تلتقي فيها المذاهب الإسلامية المختلفة المتعارضة، التي يحملها علماء لا يخلون من بعض التعصّب للآراء الاعتقادية، ولا يخلون من الجمود على الآراء المذهبية في جزئيات العبادات والأحكام، ويقابل هذا الجمود جهل مطبق بالدين في العامة، وتحلّل فاش في الجيل الجديد من الشبّان، وهذا شيء لَمسْنا حقيقته في هذه الرحلة، ودرسناه بالعقل الممحّص والبحث المدقّق، ووازناه بالمقارنات التاريخية في الماضي والحاضر، فإذا هو أخطر شيء على هذه الأمة وعلى هذه الدولة، ومن واجب الحكومات الحازمة الرشيدة

_ * تقرير أُرسل إلى رئيس حكومة باكستان السيد خواجة ناظم الدين، ماي 1952.

أن تحتاط لمثل هذا الأمر من بعيد، وتعالجه بالحكمة والتدريج، قبل أن يستفحل فينفجر عن فتن لا قِبَلَ للحكومة بإطفائها، أو يكون عائقًا لها عن التقدّم، أو يكون مشوّشًا للنظام، مخلًّا بالاستقرار. ... والتدبير الموصل إلى المقصود هو أن تكوّن في أقرب وقت وزارة تسمّى "وزارة الشؤون الإسلامية"، وتحاط هذه الوزارة بنوع من التحصين يجعلها آمنة من التقلّبات الحزبية والتيارات السياسية، كما تفعل بريطانيا في بعض مصالحها التي لا تقوم إلا على الاستقرار، وهذه الوزارة متعلقة بالدين، والدين لا يتبذل ولا يتغير، ويختار لهذه الوزارة رجل يجمع بين الثقافة الدنيوية الضرورية وبين الثقافة الدينية علمًا وعملًا. تقوم هذه الوزارة بتحقيق الأمور الآتية على الترتيب: أوّلًا: ضبط الأوقاف الإسلامية المشتّتة بالتسجيل وكفّ الأيدي العادية عليها، وإعدادها للاستغلال العصري الصحيح الكامل حتّى تثمر وتغل فتصبح موردًا ماليًا قارًّا وعمادًا لنشر العلم والدين الصحيح، وإن ضبط الأوقاف الإسلامية القديمة وحفظها من عدوان العادين، وإرجاعها إلى ما يحقق رغبات الواقفين- كل هذا مما يحيي في المسلمين من جديد نزعة الوقف في سبيل الله وتشجيعهم عليه، فالمسلمون اليوم ما قبضوا أيديهم عن الوقف إلّا لأنّهم رأوْا بأعينهم مصير الأوقاف القديمة وضياعها وعدم صيانتها بالقوانين الصارمة، فضاعت بذلك مقاصد الواقفين، وإن حكومة باكستان إذا قامت بهذا الضبط لا تكون مبتدئة ولا مبتدعة، فهذه حكومة مصر فيها وزارة للأوقاف خصوصية وكأنّها حكومة مستقلّة لكثرة أعمالها، وهذا الأزهر الشريف نفسه قائم على الأوقاف الإسلامية بإدارته العظيمة ومنشآته وعلمائه وتلامذته الذين يعدون بعشرات الآلاف. ثانيًا: تنظيم التعليم الديني على برنامج قوي محكم حكيم ينطوي على تمتين الأخوة الإسلامية الجامعة، وعلى التقريب بين المذاهب، وإرجاع المسلمين بالتدريج إلى الأصول المتفق عليها، فلا يمرّ عليهم جيل حتى يكون هذا التعليم الموحّد المنظم قد أثر في نفوسهم وجمع بينهم، وأزال ما بينهم من خلاف في الدين، أو أزال على الأقل آثار الخلاف بينهم، ويتضمّن هذا التعليم إعداد تلامذته ليكونوا معلّمين ووعّاظًا وأئمّة وخطباء مساجد، وتخصّص لهم جميع الوظائف الدينية حينما يحصلون على شهاداته العالية، ولذلك فيجب أن توضع لهم الدرجات وتبيّن لهم الوظائف في البرنامج ليرغبوا في هذا التعليم وينشطوا له، وتقوى آمالهم في الحياة ووثوقهم بالمستقبل، وليكن هذا التعليم في المساجد بصورة وقتية حتى

تتمكّن الوزارة من بناء معاهد خاصة به لائقة بجلالته، وليكن الإنفاق عليه من ريع الأوقاف، فإن لم تف فتحت له الاعتمادات من الخزينة العامة، وكل درهم تنفقه الحكومة في هذا السبيل يعود عليها بالربح الجزيل. ثالثًا: تنظيم الحالة في المساجد القديمة، وإزالة هذه الفوضى الضارلة فيها، ولا يتم ذلك إلّا بوضع نظام شامل للأئمة والخطباء والمؤذنين والقوَمة، وتحسين حالتهم المادية إلى أقصى حدّ، ومراقبتهم برجال أعلى منهم قدرًا في العلم والتديّن ليشعروا أن الرقابة عليهم منهم، وأنها نافذة، فيخضعوا إلى النظام، ولا ينفروا من المنظّم، فإذا تمّ هذا في المساجد القديمة التي هي وقف عام، حمل أصحاب المساجد الخاصة على الدخول في النظام العام الموحّد إن لم يرجعوا من تلقاء أنفسهم، وإن ضعفاء الإيمان والعلم تحتّم عليهم أسباب الحياة أن يجعلوا من بيوت الله وسائل للمعيشة، فتفقد روحانيتها وتصبح متاجر لا معابد، ومفرقة على الهوى لا جامعة على الحق، وفي هذا خطر على تربية الأمة ستظهر آثاره بعد حين، فئتحرص هذه الوزارة على معالجته بالحكمة ومعها القوة، وبالمطاولة ومعها الحزم. رابعًا: تنظيم أحوال علماء الدين وتقريبهم من هذه الوزارة وجمعهم من حولها، وإفهامهم أنها وزارتهم الطبيعية يتصلون بها اتّصال الجندي بوزارة الحربية، والمعلم بوزارة المعارف، وأنها المرجع الوحيد لمصالحهم، ثم تعمل الوزارة على تكليفهم بوظائف دينية علمية من إمامة وخطابة ووعظ، وتلزمهم بالمحافظة على برنامج عام تضعه الوزارة ويكون لأهل الرأي منهم فيه رأي استشاريّ حتى لا يتشتت الرأي، وتختار الوزارة الأكفاء منهم للعضوية في مجلسها الإداري تدريبًا لهم على الأعمال العامة، ويجب على الوزارة أن تهتمّ بتحسين أحوالهم المادية قبل كل شيء، فإن لهذه الطائفة نفوذًا قويًا على العامة، فإذا تُرِكوا على هذه الحالة من الفوضى والإهمال وعدم ضمان الحياة المعيشية- فربّما يصبحون في وقت من الأوقات مصدر خطر على الدولة، وسببًا في الاضطراب والفتنة، وفارغ البال من الخير يعمره الشيطان بالشر، وهذه سنّة الله في الطباع البشرية، أما إذا كلفوا بالوظائف، وضمِن لهم الرزق، فإنهم يشعرون بالعزة والمسؤولية معًا، ويشعرون بأنهم جزء من الحكومة، وبأن لهم شركة في هيكلها الأساسي، وأن لهم مكانة في الدولة ورأيًا في تسييرها، وأن لهم حظًا في الحياة يجب أن يحافظوا عليه، وأن عليهم واجبات للدولة والأمة يجب أن يقوموا بها. إن أوّل فائدة لهذه الطريقة هي تعويدهم على العمل النافع وعلى النظام في العمل، وعلى تقديس النظام واحترامه، وإخراجهم من الكسل والجمود والفراغ، ويومئذ يعاونون الحكومة بنفوذهم الديني على إقرار النظام، وعلى إنشاء الدستور المنتظر المستمدّ من دين الأمّة ومن دنياها. أما إذا وفّقت هذه الوزارة إلى وضع "كادر" للدرجات والترقيات للأكفاء من علماء الدين يتسابقون إليها بالأعمال النافعة، فإنها تعجل بالخير لها وللأمة، لأنهم يعلمون حينئذ

أن الدرجات عند الله تقابلها درجات عند الحكومة، وأنه لا تنافي بينهما، وأن خدمة المرء لوطنه هي خدمة لدينه أرفع من كل خدمة. إن إصلاح هذه الطائفة وتبديل عقليتها أنفع بكثير من تركها على هذه الحالة، وإذا تمّ هذا العمل على هذا الأساس، وسايره التعليم الديني الصحيح، تكون الحكومة قد أمّنت الحاضر بهؤلاء الكبار، وأمّنت المستقبل بذلك الجيل المتعلّم، ووضعت يدها على الفريقين، وسيكون الجيل الجديد المتعلم أفقه لحقائق الدين وبموافقتها التامة للمصالح الدنيوية العامة، فيرتفع هذا التصادم الصوري الماثل في أذهان الجيل القديم، ويرتفع هذا التنافر بين عقلية الآباء وعقلية الأبناء، وما عطّل رقيّ الأمم الإسلامية الحاضرة إلّا هذا التنافر. خامسًا: تنظيم برنامج للوعظ الديني على أساس صحيح واسع، وطريقة فنية تقتبس من حقائق الدين وحقائق النفس وسنن الله الواقعة في كونه، وتمتزج فيها روحانية الدين بأرواح البشر، فتؤثّر فيها وتقودها إلى الخير، لا على هذه الطريقة الموجودة اليوم في المساجد في أيام الجمع، فإنها ترغيب لا يرغب، وترهيب لا يرهب، وإنما هو كلام معتاد يتركه السامعون في الجامع إذا خرجوا من الجامع، بدليل أن هذه المواعظ لم تبدل حالة العامة ولم يظهر عليهم منها أثر، فهم في كل جمعة يسمعون التحذير من الخمر مثلا والخمر لا تزداد إلّا فشوًّا، ومن الكذب وهو لا يزداد إلّا كثرة، وأكبر الأسباب في فشل الوعظ الديني بصورته الحاضرة أنه لا يصدر عن تأثر من قائله، وإنما تعوّد قائلوه أن يقولوه قولًا من غير حكمة، وتعوّد سامعوه أن يسمعوه حُكمًا من غير حكمة، والوعظ كالطعام يقدّم ألوانًا وبقدر الحاجة، ولا يؤثر في السامعين إلّا إذا كان خطابًا من القلب إلى القلب، ومن الروح إلى الروح، وكان الشيء المأمور به أو المنهي عنه مقرونًا ببيان آثاره وحكمه، فإذا كان تحذيرًا من الخمر قُرن ببيان آثاره من إتلاف المال وإذهاب العقل الذي هو سرّ الكرامة الإنسانية، وقضائه على الصحّة، وجلبه للخصام وتكديره للحياة الزوجية، وانتقال آثاره بالعدوى إلى الذرية، وهوان صاحبه على نفسه وعلى الناس. والواجب على الوزارة إدخال الوعظ في مناهج التعليم الديني وتمرين الطلّاب عليه من الصغر، حتى تخرج بعد أعوام طبقة عالمة بكيفية الوعظ وشروطه قادرة على تأديته على أكمل صوره. والواجب أن توزّع الوعّاظ على الأقاليم، وتأمرهم بأن لا يقتصروا على المسائل الدينية فقط، بل يتناولون المسائل الدنيوية التي يعمر بها الوطن وتسعد بها الأمة والحكومة، مثل التحريض على العمل، والتنفير من البطالة والكسل، ومثل تحبيب الفلاحة والتجارة والقراءة، ومثل الأخوة والاتحاد والتعاون على الحق، ومثل إصلاح العائلة التي هي أساس الأمة، ومثل تحسين العلاقة بين الغني والفقير، ومثل الطاعة للحكومة في المعروف.

والواجب أن تدخل هذا النوع إلى الجيش في ساعات معينة من الأسبوع، فإن الجيش هو أحوج الناس إلى التربية الدينية وإلى تقوية الإيمان في نفوس أفراده وإلى تصحيح بصائرهم في الدفاع عن الوطن، فيجب أن يفهم الجيش أن دفاعه عن الوطن إنما هو دفاع عن دين الله الحق، وأن الاعتماد على جيش لا دين له ولا حَميّة كالاعتماد على الأعواد الرخوة التي لا قوة لها، وما انتصرت الجيوش الإسلامية في التاريخ إلا بالإيمان والحميّة الدينية، وما انتصرت الجيوش العثمانية على أوروبا إلّا يوم كانت مسلحة بقوة روحية من الإسلام، فلمّا فقدت هذه الصفة خذلها الله، فالواجب تسليح الجيش الباكستاني بهذه القوّة التي لا يفلُّها طمع ولا يُغريها متاع الدنيا ولا ترهبها قوة العدو. سادسًا: يدخل في اختصاص هذه الوزارة قبض الزكاة الشرعية من الحبوب والعين والأنعام والتجارة. بعد وضعها لذلك برنامجًا محكمًا مضبوطًا بالاتفاق مع الحكومة، ولها أن تدفع منها قسطًا إلى الخزينة العامة، والزكاة في الإسلام هي العنصر الأساسي لبيت مال المسلمين، ومنه كانت تتغذّى المصالح العامة، ومنها بناء المساجد والمدارس والقناطر والحصون والثكنات، ومنها كانت تشترى الأسلحة وبها كانت تحفظ الثغور، أمّا الأموال الأخرى كالأنفال والمغانم والخراج فتارة تكون وتارة لا تكون، ولكن الزكاة هي الركن الدائم، وإذا خصصناها بوزارة الشؤون الدينية فلكي يطمئن الناس إلى دفعها بجاذبية الدين. سابعًا: يدخل في اختصاص هذه الوزارة أيضًا ترتيب الحجّ وتنظيمه والوقوف على راحة الحجّاج بتسهيل الإجراءات هنا، وبتعيين رئيس يصحب الحجّاج في كل سنة، ومسألة الحجّ حقيقة بمزيد الاهتمام من الحكومة. ثامنًا: يدخل في اختصاص هذه الوزارة أيضًا تنظيم الإحسان الديني من التبرعات والصدقات، فعليها أن تصدر قوانين صارمة حازمة وتتكفّل بتنفيذها، لضبط الصدقات والتبرعات على وجوه الخير مثل صيانة اليتامى والفقراء وتعليمهم، فإن هذه المعاني كلّها تدخل في ضمن الدين. وإهمال هذه القضية يؤدّي إلى خطرين عظيمين: الأوّل ضياع أموال الأمة في غير نفع بسبب عدم الضبط، والثاني فتح باب السرقة باسم الإحسان، ويترتب على هذا الأخير فساد أخلاق الشبّان العاطلين، وقد رأينا ورأى الوافدون إلى هذا الوطن العزيز مثالًا من هذا النوع، رأينا في كراتشي وفي غيرها- حتى في القطارات- طوائف من الشبّان يحملون قسائم مطبوعة باسم مدرسة أو جمعية تعلم يتامى المهاجرين، ويعرضون تلك القسائم بإئحاح على كل من يلقونه، وليس فيها ما يدل على ضبط أو نظام، وليس فيها اسم جمعية محترمة ولا رئيس مشهور، ومثل هذه الفوضى تزعزع ثقة المحسنين وتخلط الخبيث بالطيب وتفسد أخلاق هؤلاء الأحداث المباشرين لهذه الأعمال، فلو كانت هناك وزارة دينية لتولّت

بنفسها هذه الأعمال وسدّت الباب على المفسدين، وساعدتها وزارة الداخلية بوضع قانون مضيق للجمعيات ومراقبتها، وبذلك يشتغل بكل شيء أهله. هذا ما دفعني الإخلاص والحب لهذه الحكومة إلى تقديمه لدولتكم، راجيًا أن تحلوه محل الاهتمام، وإنه ليسرّني كعالم ديني أن أعينَ هذه الحكومة الشابة ولو بكلمة طيبة، كما يسرّ جميع المسلمين أن يروا هذه الدولة الناشئة كل يوم في تقدّم وترق، وأن يروها في كل ساعة تخطو خطوة إلى الأمام. يا صاحب الدولة، نحن نعلم مشاغلكم السياسية، ونشارككم الألم النفسي الذي تتحمّله حكومتكم من المشاكل المحيطة بها، ونقدّر جهودكم المبذولة في ترقية التعليم والجندية والصناعة والفلاحة، ولكننا نرى أن ما تضمنته هذه اللائحة يجب أن يكون الأهمّ المقدم، لفائدته المحققة التي لا يختلف فيها اثنان، ولئلا يقال إن حكومة باكستان لا تهتم بالشؤون الدينية، ولذلك لم تخصّص لها وزارة كما خصصتها أندونيسيا المسلمة وإسرائيل اليهودية من أوّل يوم لتأسيسهما. نعتقد جازمين أنكم إن خطوتم هذه الخطوة الجديدة تكونون قد جمعتم قلوب الأمة، وأسْكَتُّم كل معارض، وأرضيتم الله ورسوله والإسلام. ووضعتم في أساس باكستان صخرة من الحق تمسكها وتثبتها. وتقبّلوا- يا دولة الرئيس- مني كل احترام وكل تقدير. محمد البشير الإبراهبمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين (تُرجم هذا التقرير إلى اللغة الأوردية، وقدمته بنفسي إلى رئيس الوزراء "خواجة ناظم الدين" ليعرضه على مجلس الوزراء، ووعد بأنه يخبرني بالنتيجة أينما كنت).

في مؤتمر العالم الإسلامي

في مؤتمر العالم الإسلامي - 1 - * كلمة في المؤتمر ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أيها الإخوان المؤتمرون على خير الإسلام، المجتمعون على عهده وميثاقه، الجامعون لأجزائه التي بدّدتها أحداث بنيه قبل أحداث الدهر، المؤتمنون على تراثه من العلم والحكمة، وعلى جواهره من العقل والفكر، المستجيبون لحضور هذا المؤتمر الذي ثوّب داعيه فأسمع، وسمع واعيه فأهطع، المتوافون كالقطا على مترع عذب ليس بالنزر ولا البكي، ولكن هجره ورّاده فما غار ولا أسن، وإنما ازداد صفاءً لأن منبعه السماء. أحييكم عن جمعية العلماء الجزائريين التي لها في عنق العالم الإسلامي منّة تجل عن المكافآت، وهي صيانة الإسلام في دار يوشك أن يحيلها الاستعمار الفرنسي دار كفر، ولها في ذمة العالم العربي عارفة تجل عن الشكر، وهي إحياء البيان العربي في وطن رماه الاستعمار الفرنسي برطانات غريبة، غمرت لسان يعرب، وطمرت فصاحة يعرب، وغيّرت مجرى الضاد إلى غير واديه. وأحييكم باسم الجزائر، ذلك القطر العربي المسلم الذي حافظ على العزيزين من ميراث السلف، ورضي في سبيل تلافيهما بالتلف، وصبر على سوم الشقاء وجهد البلاء دون أن يصيبهما حيف أو يلحقهما ضيم، وخُيّر بين الخطتين فاختار التي هي أقرب لرضى الله ورضى نبيّه، وهان في دُنياه ولكنه لم يهن في دينه، ولم يهن في عزيمته، وما زالت تنتابه الحادثات تباعًا فيخرج منها أصلب قناة ممّا كان، وأقوى إيمانًا بالله ممّا كان، وأثبت تمسّكًا بالإسلام ممّا كان.

_ * مسوّدة وُجدت في أوراق الإمام المرحوم من كلمة ألقاها بباكستان، ماي 1952.

وأحييكم باسم الشمال الأفريقي، تلك الأقطار التي جمعتها يد الله وأنبتت فيها النبات الحسن من السلائل البشرية حتى ختمتها بالجنس العربي وأورثته إياها، كما ختمت الرسالات السماوية برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، تلك الأقطار التي نظمها عُقبة وصحبه في ممالك الإسلام جواهر، وغرسوها في منابته أزاهر، ومكنوا فيها للبيان العربي حتى رست قواعده في الأرض وعلت شرفاته في السماء. أحييكم عن الشمال الأفريقي من مخارم الأطلس الأشمّ بالسوس إلى منقطعاته على عتبات برقة، لا مفتاتا على إخواني الحاضرين في هذا المؤتمر من أبنائه، ولكن من آثار النبؤة فينا أننا قوم يسعى بذمتنا أدنانا، وأنا لسانُهم المعبّر عن أمانيهم فيكم، والمخبر عن مآسيهم لكم. أيها الإخوان: إن هذا المؤتمر يحمل اسمًا عظيمًا ينطوي على معنى أعظم، فمعناه عند التحليل والشرح هذه الأربعمائة مليون المتفرقة كالحصى في قرارات أودية الحياة، فهذا هو المعنى الذي عناه الواضع لهذا الاسم. ولكن هذا الاسم يثير فينا وفي كلّ مهتمّ حركة فكرية تستجمع أطراف هذا الاسم وحواشيه من ماضيه القوي العزيز إلى حاضره الضعيف الذليل، وفي كل حاشية من حاشيتيه وقفة وعبرات وعبر، وجملة من مبتدإ وخبر. فهذا الاسم في ماضيه كان قليلًا، وكان عزيزًا لا ذليلًا. أيها الإخوان: إن أكبر آية على أن هذا الشمال شيء واحد وكلٌّ طبيعي هو أن المغيرين من قديم الزمان كانوا يقصدونه كلًا: فكل مغير استولى على بعض أجزائه إلّا ورمى ببصره إلى الأجزاء الأخرى وعمل على ضمّها إلى بعضها لأنها مكمّلة لبعضها. أيها الإخوان: أنا رسول العروبة والإسلام بالشمال الأفريقي إلى العروبة والإسلام المتمثلين في هذا المؤتمر، أناجيكم بأمانيه وأبثّكم بعض ما هو فيه، وأشكو إليكم- فأشكو إلى السميع الواعي- ما يلقاه من عنت الظالم وبغي المستعمِر، فإن لم تدركوه بنصرة الأخ ونجدة النصير وغوث الحامي، ضاع على الإسلام حصن من أمنع حصونه وعلى العروبة جزء من أهم أجزائها. إننا ندافع دفاع المستميت حتى يدرك الغوث، ونصابر مصابرة الغريق حتى تتأتى وسائل النجدة، ولكم علينا أن نبقى كذلك محافظين على الثغر المطروق بالغارة مثبتين لأهله. ولنا عليكم أن تبادروا بتعبئة القوى، وإن أول بوارق الرجاء فيكم وبوادر النجدة منكم طلائع هذا المؤتمر الجامع لقوى الإسلام. ***

أيها الإخوان: إن الإسلام ما زال في أوروبا المسيحية في حرب صليبية لم تنطفئ نارها، وإنما غطى عليها رماد المدنية والعلم اللذين غزوا بهما عقولنا، وسحروا بهما عيوننا، وخدروا بهما مشاعرنا، تحيلًا ومكرًا ليصرفونا عن الاستعداد، وما هذه المدنية وهذا العلم إلّا سلاح جديد أفتك من سلاح الحديد: فإن سلاح الحديد يقتل الأجساد فينقل الأرواح إلى مقام الشهادة، أما هذا السلاح فإنه يقتل الأرواح ويجرّدها من أسباب السعادة. أيها الإخوان: إن العالم في اضطراب، لأن أهله في احتراب، وقد جرب المناهج والأدوية وتداوى بكل ما يخطر على البال، وتداوى بالمال وسحره فلم يشف من مسّه، واسترقى بجميع الرقى، فلم يبرأ من لمحه، وعالجه بالدواء الأحمر، فكان الداء الأصفر. ويمينًا برة لا حنث فيها ولا تأول، لو أن الإسلام فهم على حقيقته، وطبّق على وجهه الذي جاء به من عند الله محمد بن عبد الله لكان هو الدواء النافع الذي يحل العقد ويرفع الإشكال، ولكان هو الحكم في معترك الخلاف، والجالب بقوانينه وأخلاقه لسعادة العالم. ولكن الإسلام جمد فذهبت خواصه، وتفرّقت مذاهبه فزهقت روحه وذهبت ريحه. والذنب في ذلك كله في عنق علمائه: تعصّبوا للمذاهب المفرقة فبعدوا عن المذهب الجامع وهو كتاب الله وهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفهموا الدين قشورًا وصدفوا عن اللباب، وتركوا قيادة الأمّة فأضاعوا الأمانة، وصرفوا الأمة بتعليمهم عن معاني الدين الجليلة، فأصاروها إلى الألفاظ، فهي تسبح منذ قرون في بحر من الألفاظ لا ساحل له، وإن الناظر في كتب المذاهب الإسلامية من الفقه والكلام يجد مجموعة يقصر ... ...

- 2 -

- 2 - * خلاصة خطبة الإبراهيمي جوابًا لرئيس مؤتمر العالم الإسلامي في الحفلة التي أقامها تكريمًا لوفود العالم الإسلامي ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الإخوان: إذا هيّأ الله أمة للسعادة جرّ إليها الخير بأسباب من الشرّ، وساق إليها النفع بوسائل الضرّ، ومرّ بها إلى الحق على قنطرة من الباطل، وجعل الخلاف فيها ممكّنًا للوفاق، والتضاد في أعمالها مثبّتًا للائتلاف، وذلك بتوفيق المتخالفين، إلى أن يكون الخلاف خلافًا في الوسائل لا في الغايات، والاتجاه إلى هدف واحد. الرباط الجامع للأمم هو المحبّه، فإذا خلصت المحبّة بين أفراد الأمّة تمحض الخلاف إلى أحسن ثمراته، واختلاف الرأي- كما يقول شاعرنا شوقي- لا يفسد للودّ قضية. كل ما هو موجود بين المسلمين من خلاف وفتن وشرور هو مرحلة طبيعية للأمم في الأطوار الأولى من نهضاتها، فلا يهولننا أن هذا الشيء خصصنا به، ولا يثبطننا هذا عن الاستماتة في علاجه والعمل متضافرين على إزالته بالتدرّج، لأن أول مراحل النهضة هو آخر مراحل الانحطاط. ما دام هذا القرآن موجودًا بين المسلمين، يقرؤونه ويجلّونه ويضعونه في مكانه من التقديس، فإن الأمل في إصلاح المسلمين لا ينقطع، لأن أوائلهم ما صلحوا إلّا به، فلا يصلح آخرهم إلّا به، وما هي إلّا هبة من هباته ونفحة من نفحاته تهب على نفوس هذا القطيع المبدّد وإذا قلوبهم مجتمعة، ونوافرهم متآلفة، وأمرهم جميع، وإذا بالمعجزة القرآنية التي جمعت العرب بعد ما كانوا عليه من تشتّت وتدابر، تعود ثانية فتنقل هذه الأمم من حال إلى حال. الوحدة الإسلامية التي ننشدها تتوقّف على شيء واحد لا ثاني له وهو أن يوجد لها محور، وقد وجد هذا المحور وهو باكستان، وهي نعمة يجب أن نشكر الله عليها وأن نعرف قيمتها وأن نستغلّها.

_ * مسوّدة وُجِدَت في أوراق الإمام المرحوم.

يجب على طرفين أن يشكرا الله على هذه النعمة الجليلة شكرًا عمليًا: الطرف الأول هو حكومة باكستان وشعب باكستان، والطرف الثاني هو الأمم الإسلامية. أما شكر الأمم الإسلامية فقد تحقّق وتجلّى في هذه العناية التي رأيتموها من العالم الإسلامي في استجابته لدعوة ترسلونها مع رسول أو في البريد، وإذا هو مقبل عليكم مرسل إليكم بأفلاذ كبده وخلاصة علمائه وقادته وخطبائه وزعمائه، كأنه متحنث عابد سمع أذان الصلاة، وهذه وحدها نعمة عليكم لم تظفر بها أمة من الأمم الإسلامية ولا حكومة من حكوماتها. وأما نوع الشكر العملي الذي يجب أن تؤديه باكستان حكومة وشعبًا فهو مقسّم عليها لتحفظ به هذه النعمة وتحصنها من الزوال. فالحكومة يجب عليها أن تشكر الله على هذه النعمة بمحافظتها على الإسلام عقيدةً وعملًا وحكمًا وأدبًا ولغةً، وأن تفرض على رجالها أن يكونوا قدوة للناس في هذا. والشعب يجب عليه أن يشكر الله على هذه النعمة بعدم الاختلاف، وعرفان قدر هذه النعمة، والسعي الحازم في توجيه الرأي العام إلى الاتحاد بتوحيد طوائفه المختلفة إليه، فعلماء الدين يتقاربون فيقف كل واحد عند قدره الذي وضعه فيه القدر ويُسَلِّم العالِم للأعلم، والكبير للأكبر. إن المسلمين بدأوا يرتابون فيكم من هذه المؤتمرات المتعاقبة التي وجّهت الدعوات من باكستان وبعضها يحمل اسمًا واحدًا، وإنني أعرف بالأمم الإسلامية منكم أيها الباكستانيون، فلا تغرّنكم هذه الاستجابات السريعة من إخوانكم، فيومَ يعلمون عنكم اختلافًا أو اتباعًا لهوى مطاعًا سينفضّون عنكم وينبذونكم، ويومئذ تدعون فلا يستجيب لكم أحد، فترجعون إلى أسوأ مما كنتم عليه، فاستديموا هذه النعمة بالمحافظة عليها، والنعمة إذا عَظُمت عَظُمت تبعاتها ومسؤولياتها. أنا لا يرضيي أنني في وطني كلٌّ، لأنني مرجع لإخواني العلماء، ومطاع من أتباع جمعيتي، لأن هذا الكلّ مهما قَوِيَ ضعيف، ولكن يسرّني أن أكون جزءًا من هذا الكل العظيم وهو علماء الإسلام، بل أفخر بهذا وأعلم ما له من الآثار النافعة للأمم الإسلامية. كلنا جند النبي، ليس فينا أجنبي. أربعوكم أن نتأدب بأدب جديد وهو الاقتصاد في المجاملات والألقاب وتقارض الثناء.

وحدة الصوم والعيد

وحدة الصوم والعيد * هذا العنوان موضوع عملي جليل من المواضيع التي تجهد جمعية العلماء في تحقيقها والوصول بها إلى الغاية التي ترضي الله ورسوله، وتعين على تضييق دائرة الخلاف بين المسلمين. دعت جمعية العلماء إلى هذا وعملت له في الجزائر ثم في شمال افريقيا كله وأرشدت إلى طريقته العملية، وهي قبول شهادة أي قطر إسلامي بالرؤية والاعتماد في تعميم الخبر بالإذاعات الرسمية التي يذيعها قضاة معينون من حكومة إسلامية، ولم تستثن إلا قضاة الجزائر لأنهم معينون من حكومة مسيحية بصورة ترفع الثقة بهم، ولأن من مقاصد الاستعمار بقاء هذا الخلاف الشنيع بين المسلمين في شعائرهم الدينية. فجمعية العلماء وأتباعها في الجزائر ومقلّدوها في الشمال الأفريقي كله يصومون ويفطرون- إذا لم ير الهلال عندهم- على رؤية أي قطر إسلامي، تثبت وتزكى وتبلغ من قاض مسلم بصفة رسمية على طريق الإذاعة الرسمية. والإذاعات الرسمية اليوم لا يتطرق إليها أي خلل، وجمعية العلماء ترى أن عدم العمل بالرؤية الثابتة على هذه الصورة هو قدح في مصدرها، فهو قدح في أمانة المسلمين بلا حجة ولا بيّنة. وما شتت شمل المسلمين وأرث بينهم العداوة والبغضاء إلا قدح بعضهم في أمانة بعض، في الإمامة والشهادة، وهما حجر الأساس في بناء الأخوة الإسلامية، لأن الإمامة من دعائم الدين، ولأن الشهادة من مقاطع الحقوق في الدنيا. تعمل جمعية العلماء هذه الأعمال وتعدها من أهم الوسائل لجمع كلمة المسلمين، لأن الخلاف كله شر، وشره ما كان في الدين وأشنعه ما اتصل بالعامة وأثر فيها التعصّب الباطل.

_ * جزء من مقال عثرنا على مسودته في أوراق الشيخ، كُتبت بباكستان.

فإن الخلاف في العلميات مقصور على العلماء محصور منهم في دائرة ضيّقة فلا تظهر آثاره ولا أعراضه في العامة، أما الخلاف في الصوم والعيد وما جرى مجراه فإنه يسري في العامة فيتناولونه بعقولهم الضيّقة فلا يثير إلا التشنيع والتعصّب والعداوة. أضاع المسلمون بهذا الخلاف كل ما في الأعياد من جلال روحي ومعان دينية واجتماعية، وأصبحت أعيادنا تمرّ وكأنها مآتم. لا تنبّه في النفوس سموًا ولا تشيع فيها ابتهاجًا، ولا تثير فيها حركة إلى جديد، ولا سعيًا إلى مفيد، ولم يبق فيها إلا معان ثانوية مغسولة فاترة تظهر في هذه الصغائر من ترفيه تقليدي على الصبيان أو توسعة شهوانية على العيال، أو تزاور منافق يتولّاه اللسان ولا يتولّاه القلب، وقد يلتقي الإخوان أو الصديقان أو الجاران وأحدهما مفطر والآخر صائم. فلا تستعلن البشاشة في الوجهين، ولا تنطلق التهنئة من اللسانين، ولا يشعّ الأنس من أسارير الجهتين، وإنما ينقدح في النفسين أن كل واحد منهما مخالف للآخر فهو خصمه، فهو عدوّه. وفيمَ الخصام؟ وفيمَ العداوة؟ إنهما في الدين ... إن هذا الخلاف الفاشي بين المسلمين في الصوم والعيدين هو التفرّق في الدين، ومن سمّاه بغير هذا فهو جاهل أو كاتم للحقيقة عمدًا. والتفرّق في الدين حذّر منه القرآن فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. وكيف يرجو المسلمون الخير وهم متفرقون في دينهم، مخالفون لكتابهم، معرضون عن وصايا نبيّهم، ناكبون عن صراط سلفهم. إن هذا الزمان هو زمان التكتّل والتجمّع وكأن الأفراد هم الذين تحتّم عليهم الحياة أن يتكتّلوا ليدفعوا عنهم البلاء الذي لا يستطيع الفرد أن يدفعه وحده. إن من أشنع أنواع آثار التفرّق بين المسلمين اختلافهم في صوم رمضان وفي العيدين، ولو كان هذا الخلاف خلافًا صامتًا لا يصحبه تشهير لكان شرًا مقدرًا بقدره، ولكن خلافهم في هذا يصحبه تشهير من الصائم على المفطر ومن المفطر على الصائم وتشنيع ينتهي إلى سبب الخلاف فيثير الأحقاد الدفينة والحزازات الطائفية. أصبح الخلاف في الصوم والإفطار تجديدًا للأحقاد الدينية فنكءٌ لجراحها وإثارة للفتن النائمة، ولا مبرّر له من اجتهاد أو خلاف مذهي، أو اختلاف مطالع، فكل هذه الاعتبارات لا وزن لها في باب العلم، ولا محل لها في حقيقة الدين. الإسلام دين الاتحاد والوفاق بكل عقائده وعباداته. وآدابه ترمي إلى الوفاق وتربّي على الوفاق وتدعو إلى الوفاق.

خماسيات عمر الأميري

خماسيات عمر الأميري * الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري- وزير سوريا المفوّض في باكستان- شاعر موهوب، رقيق الحس، وجداني النزعة، خصب الشاعرية، مستجيب الطبع، متدفق الطبع، صادق التأمل، واسع التخيّل، نظم كثيرًا ولم ينشر شيئًا، وله في هذه الضنانة بالنشر أعذار بعضها معقول، وبعضها غير مقبول. يختص كثير من شعر الأميري الذي سمعناه منه بوصف سرائر النفس وانفعالاتها ونشدان الصداقة الصادقة والود الخالص، ويفيض بالذاتية المستعلية بالله، المترفعة عن الاسفاف، المتعففة عن الشهوات إذا نافت الكمال، أو وقفت في الطريق إلى الله، ويسمو في كثير من أغراضه إلى صلة الروح بخالقها، وترقّيها في مجالي التقوى والإيمان فيدلّك حين تقرأه على قرب صاحبه من الله، والاعتزاز بعبوديته له، وقد تبدو في بعض شعره حيرة ولكنها حيرة المؤمن المسلم وجهه لله، لا حيرة الشاك المضطرب، فهو مع شبابه وإلمامه بمعارف عصره، وملابساته لفتن عصره، متين الإيمان بالله، صادق التعبّد له، قوي الخوف منه، وقاف عند حدود آداب الدين والمحافظة على شعائره محافظة دقيقة، ولكنه- مع ذلك- مرح طروب، مطلق اللسان في اصطياد النكت، بارع الذهن في استخراجها من مكامنها اللفظية، لا يتحرج في ذلك ولا يتحفظ، وقد تنزل به هذه البوادر عن منزلته الحقيقية عند من لم يعرفه إلا من طريقها، ولكن هذا الظن به لا يجاوز لحظات. ولو رزق الأميري أناة في نظمه للشعر وصبرًا على تحكيكه وصقله واستفتاء أساليب البلغاء فيه لجاء منه شاعر أي شاعر، وقد أرشدته إلى هذا وعسى أن يفعل.

_ * تقديم لخماسيات الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، «البصائر»، العدد 195، 7 جويليه 1952 (بدون إمضاء).

وللأميري عادة خاصة برمضان، وهي أن يصلّي الصبح مغلسًا، ثم يتلو جزءًا من القرآن تلاوة متدبّر، ثم ينام قليلًا بعد طلوع الشمس، فإذا استيقظ نظم الخاطر الذي يصحب تلك اللحظة في خمسة أبيات، فإن تعددت الخواطر نظم كل خاطر في خماسية، حتى لينظم في الصباح الواحد ثلاث خماسيات أو أربعًا، وقد اجتمع له من هذه الخماسيات ديوان صغير، ورأى لإعجابه بـ «البصائر» أن تتولى نشرها تباعًا، كل خماسية في عدد، و «البصائر» ترحّب بالشعر والشاعر، وبهذا اللون الجديد العامر، وترى أن أحكم الشعر ما صوّر خواطر صاحبه، وأن خواطر الشعراء هي مادة لشعرهم كيفما كان وزنها ولونها. ... وللأميري صلة وثيقة بجمعية العلماء، فهو متّصل بمبدئها الإصلاحي اتصال العقيدة والعمل، وهو متّصل برجالها منذ كان طالبًا في باريس قبيل الحرب الأخيرة، وهو معجب بـ «البصائر» مواظب على قراءتها من ذلك الحين، وهو يرتفع برئيسها الأول عبد الحميد بن باديس، ورئيسها الحالي محمد البشير الإبراهيمي إلى الصفوف الأولى من قادة الإسلام، وهو معجب بشاعر الجزائر محمد العيد، يحفظ كثيرًا مما نشر من شعره في «البصائر» ويتغنّى بمطالعه وغرره. وها نحن أولاء ننشر خماسية في كل عدد وقد ننشر له قصائد كاملة في مناسبات خاصة. وما زال الأدب العربي يظفر في كل عصر من عصوره بهذا الطراز من الشعراء الوزراء، وإن لم يكن بين الوصفين تلازم عقلي ولا عرفي، عرف منهم تاريخ الأندلس عشرًا، وعرف منهم عصرنا الحاضر فؤاد الخطيب وخليل مردم وعبد الوهاب عزّام وعمر الأميري، فهل يطمع كل الشعراء أن يصبحوا وزراء؟ أم أن دولة الأدب ستضن برجالها؟

ديوان «مع الله»

ديوان «مع الله» * للشاعر عمر بهاء الدين الأميري ــــــــــــــــــــــــــــــ قرأت هذا الديوان الصغير، الذي احتوته هاتان الدفتان ... ثم جاد الزمن علي بمعاشرة الشاعر ... عمر بهاء الدين الأميري ... في كراتشي، أسابيع، وتلطف فأسمعي كثيرًا من شعره، مكتوبًا ومحفوظًا، فدهشت لهذه الشاعرية الجيّاشة، التي وهبتها الفطرة الصافية لهذا الوزير الشاعر، وهذا الخيال الخصب الذي يفيض بالمعاني فيضًا ... ... وأقوى ما تبدع هذه الشاعرية، فيما لاحظت، حين تتصل نفس شاعرنا بالله، وبمجالي آياته في الكون، وبأسرار النفس البشرية وغوامضها، وصلاتها بما يجاورها من مخلوقات، ونسبتها إلى هذه العوالم، المنظورة والمغيبة. كذلك حين تتصل أو تماس الآلام أو الآمال، فهنا ترى نوعًا غريبًا من الإبداع في الوصف، ونوعًا آخر من التحليق، وتسمع خفقات تتبعها زفرات ... تتبعها أنّات ... تنبعث منها آهات ... يمزجها الشاعر في مقاطيع صغيرة، من البحور القصيرة، سهلة السبك، سهلة القافية، فتأتي مؤدية لمعانيها، وكأنها بين الآهات انقطاع واستراحة ... ولشاعرنا "خماسيات" تعوّد منذ سنين أن ينظمها في أيام "رمضان" وكأنها تجليات من روحانية هذا الشهر المبارك، على نفس الشاعر الرقيقة، التي يذكيها الاتصال بالله. إن لإيمان صاحبنا الوزير الشاعر، وتقواه، وتربيته الدينية، ومحافظته على الشعائر، دخلًا كبيرًا في تلوين شاعريته، واضفاء جلال الدين عليها ... وهو في هذا شبيه بمثله من الشعراء الأتقياء- وقليل ما هم- ومنهم شاعر الجزائر محمد العيد. ولكن للأميري نفسًا مرحة، وشأوًا في الأحماض بعيدًا، ولكنه لا يجاوز لسانه، وهيامًا بالجمال في أكمل معانيه، لا يتدلى إلى المعاني التافهة، التي يسف إليها أصحاب النفوس الصغيرة ... وللشعراء في فهم

_ * ديوان «مع الله»، دار الفتح، بيروت (لبنان)، 1392هـ، [ص:216].

الجمال وفي معانيه، وفي مجاليه، وفي تذوقه، مشارب متفاوتة، تبتدئ من "الملإ الأعلى" وتنتهي إلى "الغرائز السفلى"! الشاعرية في شاعرنا الأميري قوية، حية، موهوبة، مشبوبة، جيّاشة، وهي مستندة على حظ من البيان العربي غير قليل، وثروة من اللغة محيطة بالمعاني التي راض الشاعر قريحته على النّظم فيها، وتبدو لسلاستها وسهولتها فطرية سليقية، لا تكلف فيها ولا عسر، مفصّلة على المعاني، موزّعة على الأغراض، كأنها لم تخلق إلا لها! ولكم تمنيت لهذه الشاعرية القوية لو صحبها توسّع لغوي، وقراءة متأنية لفحول البلاغة، وإذن، لجاء من هذا الشاعر، نادرة العصر، ولَتكشّف عن فحولة تخمل الفحول. أنا آسف جد الأسف، أن لا تنشر هذه المقاطيع الجميلة، وأن تبقى هذه القصائد من غير نشر، وقد لمت الشاعر، في دلال الأبوّة على هذا التقصير، وقلت له: إن هذا إزراء بالأدب الرفيع، ووأد لكرائم الشعر، وهي من عمرها في الربيع، وفهمت من ملابساتي للشاعر أن هذه النزعة منه راجعة إلى طبعه المتأصّل في الصلاح والتقوى، وأنا أطمع أن يكون لكلامي تأثير في نفسه، فيتحف الأدب العربي بهذه العرائس المخدرة في القريب. ولئن جاد بذلك، لَيجدنّني في طليعة المنوّهين بهذا العمل الجليل ... كراتشي، باكستان في 14 رمضان 1371.

جواب على أسئلة ثلاثة

جواب على أسئلة ثلاثة * ـ[السؤال الأول]ـ: ما هو الموقف الحاضر في الجزائر، وهل هناك حركة إيجابية من الشعب للاتجاهات الاستعمارية الحديثة؟ ـ[الجواب]ـ: الاستعمار الفرنسي في الجزائر وفي شمال افريقيا عامة، هو أفظع أنواع الاستعمار التي عرفها البشر في مراحل التاريخ، لأنه ظلم صريح الأثر وحشي الأسلوب حيواني النزعة متوقح الوجه، ولأنه لا يتصل بالنفوس بحبل أو بخيط من الإحسان إليها ينتهك حرمات الله وحرمات الإنسان على السواء، وهو يحمل للإسلام والعربية حقدًا دفينًا يستره بأقواله، فتكفر به الأفعال القبيحة والمعاملات الشنيعة وانتهاكه لحرمات المساجد وابتلاعه لأوقاف المسلمين واحتكاره التصرّف في الشعائر الدينية كالحج. لذلك لم يبق في الجزائر كبير ولا صغير إلا وهو واقف من هذا الاستعمار موقف العداوة، متربّص به دوائر السوء، عامل بما استطاع- ولو بالنية- على قطع دابره. فالموقف في الجزائر بين الأمة الجزائرية والاستعمار موقف مكهرب بلغ النهاية في الحدة والشدة، فالحكومة تمعن في الظلم وتتصامم عن سماع كلمة الشكوى والحق وتتظاهر بالقوة، والأمة تقابل كل ذلك بالسخرية والتصميم على نيل حقّها الذي آمنت به وبأن هذا هو وقته وأنها تستحقه، وبأنها إن لم تنله اليوم سلمًا تناله غدًا غلابًا وهي تترقب الأيام وتتحيّن الفرص والحكومة تعلم هذا، وتعلم أن سلطان الاستعمار تزعزع وأن أيامه معدودة ولكنها تطاول وتعلّل النفس، وأسخف ما أصابها من خلق طارئ هو

_ * استجواب لصحيفة باكستانية، 1952.

تظاهرها بالقوة على العزل، وبالقدرة على العجز في وقت لم تعد تنفع فيه القوة الحقيقية فضلًا عن الوهمية. والمقاومة الحقيقية الموجودة في الجزائر هي مقاومة أهداف الاستعمار، وقد نجحت إلى أقصى حدود النجاح. فهو قد عمل في مئة سنة على محو آثار الإسلام من النفوس بقتل أخلاقه المتينة وعقائده الصحيحة، وعلى محو عزة العروبة من النفوس، ومحو بيانها من الألسنة والقرائح، وقد كاد ينجح، ولو نجح لتمّ له ما يريد بعد مئة سنة أخرى من فرنسة الجزائر وجعلها مسيحية الدين لاتينية الجنسية. ولكن جمعية العلماء هي التي وقفت له في هذا السبيل وسدّت عليه منافذ أغراضه الخبيثة فنبتت للإسلام قواعده وأحيت العربية ورجعت بها إلى أسبابها، فالجزائر اليوم عربية مسلمة على أصحّ ما تكون قواعد العروبة وأصدق ما يكون الإسلام، ولا نبالغ إذا قلنا ان جمعية العلماء انتصرت في هذا الميدان بجهادها وعملها المتواصل في تحرير الإسلام بالجزائر من عدوين متعاونين عليه، عدو من أبنائه الذين شوّهوا حقائقه بالضلال والتخريب، وعدو من خارجه، وهو هؤلاء المستعمرون الذين غزوه بالجندي والمبشّر، والسياسي والحاكم. وان الاستعمار هو أول الشاعرين بهذه الحقيقة، وهي أن جمعية العلماء هي التي قطعت عليه الطريق إلى هذه الغاية، وان عداوته لجمعية العلماء موزونة بهذا الميزان، فهو لا يخاف من الحركات السياسية المحضة خوفه من حركة جمعية العلماء، لأنه يستطيع أن يقمع تلك الحركات بالقوة أو بغيرها من الأساليب، ومنها الإرضاء والمساومة على الكل بالجزء وعلى الكثير بالقليل، أما حركة جمعية العلماء فقد غرزت في الأرواح ورسّخت في مستقرّ الإيمان، وهي بعد ذلك كلّ لا يتجزأ فإذا لم تنجح فهي لا تستسلم. وليست حركة جمعية العلماء حركة دينية محضة بالمعنى المفهوم من أمثالها في الشرق الإسلامي، وإنما هي حركة كلية لها طرفان: أحدهما الدين بعقائده وأخلاقه وفضائله وروحانيته، والثاني الدنيا بقوّتها ومالها وعزّتها وسيادتها وعلومها، ولا فاصل بين الطرفين، ولا وجود لأحدهما بدون الآخر. ولقد تشابهت السبل على الاستعمار في فهم هذه الحركة لعدم فهمه لحقائق الإسلام ولقياسه إياها على أمثالها في الشرق الذي ضعف فيه سلطان الدين. بهذا الاضطراب في الفهم حكم عليها بأنها حركة سياسية متسترة بالدين، وحاربها على هذا الأساس، وهو واهم في هذا أو متعمّد للكذب، فما كنا يومًا متسترين بالدين وإنما نحن عاملون على إحياء الإسلام بجميع ما فيه، فإذا كان في الإسلام كل شيء فنحن لذلك عاملون، وعلى ذلك فنحن لا نقف عند هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي هي من آثار الاستعمار لا من آثار الإسلام، بل نعمل على قدر الإمكان لجمع هذه الأوصال الممزقة على كلمة الإسلام، وجمعها في حظيرة واحدة كما هي غاية الإسلام. ولسنا نتأرك في هذا أو نتستر.

ـ[السؤال الثاني]ـ: ما رأيكم في الحركات التحريرية القائمة في تونس ومراكش، وهل من سبيل إلى توحيدها جمعيًا؟ ـ[الجواب]ـ: مراكش وتونس جزءان من وطننا المحبوب الشامل تسلّط عليهما الاستعمار الفرنسي بعد الجزائر بمدة تبلغ الخمسين عامًا بالنسبة إلى تونس وثمانين عامًا بالنسبة إلى مراكش وما تسلّط عليهما إلّا ليحصن بهما الجزائر. وحركتهما اليوم حركة متحدة الأهداف متفجرة من صميم الأمة، متّقدة الشعور عميقة الجذور ملتهبة الوطنية. وهيهات أن تخبو أو تفتر كما يطمع الاستعمار غرورًا وكما يقدر جهلًا، وكما يقيس باطلًا. فإن حركة اليوم نتيجة يأس من جميع الطرائق والأساليب التي مرّت عليها الحركة، ونتيجة اعتقاد بأن الاستعمار الفرنسي أصمّ أعمى أبكم مجنون. وأما توحيد هذه الحركات، فقد مرّ بثلاثة أطوار يوم كان سلمًا ومطالبة بالكلام: الطور الأول: توحيد الأحزاب المراكشية في طنجة على يد البعثة الصحافية المصرية المباركة. والثاني الجبهة الجزائرية على يد جمعية العلماء، والثالث ميثاق الأحزاب السياسية لشمال أفريقيا الذي تمّ في باريز على يد جمعية العلماء في شهر ديسمبر 1951. وسيكون لهذه الأعمال أثرها في توحيد الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي. ـ[السؤال الثالث]ـ: نرجو إعطاءنا ملخصًا موجزًا عن تاريخ حياتكم. ـ[الجواب]ـ: ولدت في بادية تابعة لمدينة (سطيف) من مقاطعة قسنطينة، وأعانني على تحصيل علوم العربية والدين أمران: طبيعي وهو توقّد الذهن وقوة الحافظة، واجتماعي وهو أن بيتنا بيت علم نتوارث رئاسته منذ قرون، فأخذت كل ذلك في بيتنا عن أبي وعمّي فحفظت القرآن وأنا ابن تسع سنين، وحفظت في هذه السن من لغة العرب وشعر العرب الشيء الكثير. ثم هاجر أبي بعد موت عمّي إلى المدينة المنوّرة سنة 1908 هجرة دينية سببها ضغط الاستعمار وظلم الحاكمين، ولحقت به سنة 1911 فأتممت دراسة الحديث والتفسير بالحرم المدني على أمثل من أدركته من علمائهما، وألقيتُ دروسًا كثيرة للتلامذة المهاجرين بالحرم. وفي أثناء سنة 1916 خرجت إلى دمشق في من خرج من أهل المدينة بسبب حصار الشريف حسين لها فأقمت فيها إلى أواخر سنة 1919، ولي فيها معارف وأصدقاء وتلاميذ من الطبقة النابهة اليوم.

في أول سنة 1920 رجعت إلى الجزائر، رغم إلحاح الملك فيصل على بقائي بالشرق ورجوعي إلى المدينة المنوّرة لتولّي إدارة المعارف بها. ولدى عودتي وجدت النهضة التعليمية قد بدأت أصولها على يد الإمام عبد الحميد بن باديس العالم المفكر الذي لم ينبت الشمال الأفريقي مثله إلى اليوم. فاتصلنا على التفكير والعمل لخير الإسلام في الجزائر، وبدأ عدد المفكرين يكثر في هذا السبيل والفكرة تنتشر وتلامذة الإمام ابن باديس يتزايد عددهم ويتدربون على الخطابة والاستدلال إلى أن جاءت سنة 1931 وهي السنة الموالية للاحتفال بمئة سنة للاستعمار الفرنسي. وفيها تأسست جمعية العلماء الجزائريين تأسيسًا رسميًا قانونيًا وشرعت في أعمالها الأولية وهي محاربة الآفات الاجتماعية التي أفسدت المجتمع الإسلامي كالخمر والميسر والزنا، بواسطة الدروس الوعظية في المساجد، فأحسّت الحكومة بأن هذه الدروس تفسد عليها خطتها في إفساد العقول بالخمر وإتلاف الأموال بالميسر. فاستصدرت قرارًا بمنع العلماء الأحرار من التدريس بالمساجد لأنهم مشوّشون، ورأت جمعية العلماء أن الأمة هي محل النزاع بينها وبين الحكومة، فالحكومة تريد أن تتركها جاهلة فقيرة، والجمعية تريد تعليمها وإرشادها إلى سواء الصراط في الدين والدنيا، فصمّمت على مواصلة سيرها ومضاعفة عملها في الاتصال بالأمة فانتقلت من المساجد إلى الأسواق والقرى والبوادي، ثم إلى الشوارع والبيوت ودور السينما والمقاهي. وقلنا للأمة منعتنا الحكومة من الاجتماع بك في بيوت الله فلنتصل بك في كل شبر من أرض الله. وتقدمت الكتائب الأولى وما منهم إلا الخطيب المفوّه والواعظ المؤثر فاتصلت بالأمة وحرّكت أوتار النفوس وغزت مكامن العقائد وأفضت إلى مستقرّ اليقين فاجتثت الباطل من العقائد والتأثرات والأخلاق والتصوّرات وغرست فيها الحق من ذلك كله. وهذه أولى مراحل النجاح في عمل الجمعية.

في العراق

في العراق (من يونيو إلى أغسطس 1952) ــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها * إلى القرآن من جديد ــــــــــــــــــــــــــــــ بسم إلله اِلرَ اجّمىدرَّحِيم أيها الإخوان المسلمون: أبعث إليكم على أمواج الأثير بواسطة راديو بغداد تحية الإسلام المباركة الطيّبة الزكية التي هي رمز الأمان، وعنوان الإيمان، والتي يسمعها المسلم من أخيه، فينبعث معها الروح إلى القلوب، ويتفشّى معها الاطمئنان في الجنوب، وينبثّ بسببها الأنس والبشاشة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية تقرّبني منكم، فأجد في نفسي حديث رجعها عنكم. وحسبي وحسبكم هذا صلة جامعة تمهّد لما وراءها من نصح وحث، أو من شكوى وبث. أيها الإخوان: عنوان هذا الحديث الذي تسمعونه الليلة هو: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وهذا العنوان جملة ان لم تكن من كلام النبوّة فإن عليها مسحة من النبوّة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها. والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمّة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلّدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجّلته الأرض والسماء، فلو نطقت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد- منذ دحدحها الله-

_ * مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد 1، 21 نوفمبر 1952، ثم نقلته «البصائر»، العدد 218، السنة الخامسة، 20 فيفري 1953، مع التقديم الآتي: موضوع حديث قيّم للأستاذ الرئيس كان ألقاه بدار الإذاعة في بغداد، واختصّ به مجلة "الأخوة الإسلامية" الصادرة بعاصمة الرشيد بتاريخ 4 ربيع الأول 1372 لصاحبها الأستاذ محمد محمود الصوّاف. وقد رأينا إثباته هنا نقلًا عن المجلة المذكورة تعميمًا لفائدته، وتجديدًا لعهد الاتصال بالأستاذ الرئيس عن طريق ما يُذاع لسماحته وينشر من الأحاديث القيّمة. وهو يتنقل في ربوع الشرق العربي والإسلامي.

أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله مجموعة من بني آدم اتّحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله قومًا بدأوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم. وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالًا صحيحًا للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة. ولم تشهد أمّة وحّدت الله فاتّحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة. هذه شهادة الأرض تؤدّيها صامتة فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين ثم يشرحها الواقع ويفسّرها العيان الذي لم تحجبه بضعة عشر قرنًا. بل إن هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن وعلى هدي من أنزل على قلبه فبيّنه بالأمانة، وبلغه بالأمانة وحكم به بالأمانة وحكمه في النفوس بالأمانة وعلم وزكى بالأمانة ونصبه ميزانًا بين أهواء النفوس وفرقانًا بين الحق والباطل، وحدًا لطغيان الغرائز وسدًا بين الوحدانية والشرك. فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم ويقفون عند حدوده ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات، ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي أو يشذ فيه الفكر، أو يزيغ فيه العقل، أو تجمح فيه الغريزة، أو يطغى فيه مطغى النفس. فالذي صلح به أول هذه الأمة، حتى أصبح سلفًا صالحًا، هو هذا القرآن الذي وصفه منزله بأنه إمام وأنه موعظة، وأنه نور وأنه بيّنات، وأنه برهان وأنه بيان، وأنه هُدًى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأنه قول فصل، وما هو بالهزل. ووصفه من أنزل على قلبه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، بأنه لا يخلق جديده ولا يبلى على الترداد ولا تنقضي عجائبه، وبأن فيه نبأ من قبلنا وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أوعلينا. القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة وحرّر العقول من ربقة التقاليد السخيفة وفتح أمامها ميادين التأمّل والتعقّل ثم زكّى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة وزيّنها بالفضائل والآداب، والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوّى بين الناس في العدل والإحسان فلا فضل لعربي- إلا بالتقوى- على عجمي، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرّر على طبقة أخرى. والقرآن هو الذي حل المشكلة الكبرى التي يتخبّط فيها العالم اليوم ولا يجد لها حل، وهي مشكلة الغنى والفقر، فحدّد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية، وحث على العمل كما

يحث على الفضائل العملية، وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقًا معلومًا في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه، فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم. فلا تستشرف إليه نفسه ولا تمتد إليه يده. والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار فلزم كل واحد قدره فكان كل واحد كوكبًا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صيّر كل فرد مطمئنًا إلى مكانه من المجموع، فخورًا بوظيفته منصرفًا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفًا عند حدوده من غيره عالمًا أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقّها واستوقن لها من الرجل واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمّر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن، وحدّد له يومه فهو منه في عدل ورضى، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، ما دام سيّده يرى في عتقه قربة إلى الله وطريقًا إلى الجنة وكفّارة للذنب. كذلك وضع القرآن الحدود بين الحاكمين والمحكومين، وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وان في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس. القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر ولا يهضم له حق على أساس من الحب والعدل والإحسان. والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، والجسم لا يضيع له مطلب. هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه ... فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربّها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيّدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير.

تعارف المسلمين مدعاة لقوتهم وعزتهم

تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المستمعون الكرام: أبعث إليكم على أمواج الأثير بواسطة راديو بغداد تحيات الإسلام الطيبات الزكيات، وأعرفكم في جمل قصيرة بمغزى رحلتي، وبشيء من أعمال الجمعية التي أوفدتني، وسأحدثكم بعد الليلة بشيء من أحوال الشمال الأفريقي الذي هو قطع عزيزة من أوطان الإسلام. الغرض الأساسي من رحلتي هو التعرّف إلى إخواني المسلمين بالوصف الجامع بيننا وهو أخوة الإسلام. ودراسة أحوالهم في مواطنهم، والاتصال بعلمائهم وزعمائهم وقادة الفكر والرأي فيهم، لننظر ونتبادل الرأي في إصلاح الفاسد من أحوالهم، وإكمال الناقص من أعمالهم، والتعاون على تبديل حالتهم بما هو أحسن منها، وإزالة هذا التناكر الذي يسود مجتمعاتهم، وتهيئة الوسائل الممكنة لتعارف الأخ بأخيه. بدأتُ بباكستان، وأطلت فيها لأن لها من مركزها ونشأتها وأحوالها الداخلية ما يقتضي هذا التطويل، وسأنشر آرائي فيها بواسطة الصحافة إن شاء الله، ليعرف إخواننا البعيدون عنها أشياء من حقائقها. وأنا الآن في العراق، وسأواصل رحلتي لبقية الأقطار الإسلامية لهذا الغرض الشريف، وهو الدراسة والتعرّف، فإن من النقائص التي لازمت المسلمين قرونًا وفوّتتْ عليهم خيرًا كثيرًا وكانت سببًا في إطالة آلامهم وأمراضهم، هذا التناكر الذي يسود مجتمعاتهم، وقد آن الأوان لأن تتعارف هذه الوجوه المتناكرة، وتتقارب هذه النفوس المتنافرة، ووجب على كل مسلم مخلص لدينه، مالك لوسيلة من وسائل التأليف بين مسلم ومسلم أن يسعى في ذلك

_ * من حديث في إذاعة بغداد، يونيو 1952.

بإخلاص، وأن يوجه كل مسلم إلى أخيه، وأن يؤذن فيهم بالتعارف الذي هو بريد التعاون، الذي هو بريد القوّة والعزّة، وأن ينذرهم بأن هذا التقاطع بينهم ليس من روح دينهم، وإنما هو من آثار البُعد عن دينهم، وأنهم أضاعوا حقيقتهم يومَ أضاعوا هذه المعاني التي كانت تربط أجزاءهم، وتحفظ عزتهم، وتمكّن لسيادتهم في الأرض، حتى أصبحوا كلهم- بتفرقهم- في حكم العبيد، ولم تُغنِ عنهم كثرتهم العددية شيئًا حينما أضاعوا تلك الكثرة المعنوية. آن الأوان لأن تتعارف، وآن الأوان لأن تجتمع هذه الأجزاء المتنافرة من الجسم الإسلامي الكبير، ووجب على كل مخلص لدينه أن يسعى في جمع هؤلاء الإخوة المتقاطعين في مصلحة غيرهم. أيها المستمعون الكرام: في العالم الإسلامي مؤسسات كثيرة وجمعيات وأحزاب وجرائد ومجلات، وهذه المؤسسات هي التي يجب عليها أن تتعارف بتبادل الزيارات والجرائد والكتب والنشريات، وأن تقف جهودها كلها من نقطة ارتكاز وهي: تعريف المسلم بأخيه المسلم، وتقريب وسائل استفادة المسلم من أخيه المسلم، حتى يكون التعارف مثمرًا ثمرات كاملة. وإنني أحدّثكم اليوم بمثال من هذا فأعرّفكم بجمعية العلماء الجزائريين وبشيء من أعمالها للإسلام، فإذا عرفتم عنها الكليات، كان ذلك مدعاة لكم إلى البحث عن الجزئيات من أعمالها. وإن هذه المعرفة تفيدكم نشاطًا وتبعث في الجمعية تنشيطًا حينما تعلم أنها بعين من إخوانها أهل الفكر والرأي في العالم الإسلامي. جمعية العلماء الجزائريين لفظ معناه جماعة من العلماء المصلحين جمع بينهم العلم الواسع بحقائق الإسلام المستمدّة من الكتاب والحديث، والاطّلاع الواسع على التاريخ الإسلامي والحظ الوافر من الاطّلاع على أسرار اللسان العربي الذي هو لسان الإسلام وترجمان حقائقه، وجمع بينهم- زيادة على ذلك- نسق من الأخلاق المحمدية منها الإخلاص في الذود عن حقائق الإسلام وتطهيره من كل ما علق به من ضلال العقائد وبدع العبادات، وزيغ الأخلاق، ومنها الألم لحالة المسلمين الحاضرة مع العلم بأن منشأها الأول آت من هجرهم للقرآن وبُعدهم عن فهمه فبعدوا عن هدايته، ومع اعتقاد أنهم لا يعودون إلى ماضيهم العزيز إلّا إذا عادوا إلى القرآن فأحيوه، وأن هذه الجيوش من الرذائل التي تهاجم الإسلام في إيراد الشبه وفي تزيين الإلحاد، لا تُدفع إلّا بالاعتصام بالعروة الوثقى وهي القرآن. إن في الجزائر ذلك القطر الذي هو قطعة من وطن العروبة الأكبر، وفلذة من كبد الإسلام، معاني من الدين وكنوزًا من الأخلاق الإسلامية الشرقية لاذت بنفوس عربية،

وتوارثتها الأجيال عن الأجيال، ومرّت بها فترات من الجهل والضلال، ونزعات من الظلم الأجنبي والاعتلال، فلم تفسدها ولم تفض إلى مكامنها حتى ظهرت في هذا العصر وتجلّت، أظهرتها الحركة الإصلاحية القائمة على يد جمعية العلماء الجزائريين. إن في المغارب الثلاثة تونس والجزائر ومراكش قريبًا من ثلاثين مليونًا من المسلمين العرب الأشداء في إسلامهم وعروبتهم، وطالما انتابتهم الأحداث التي تنسي الإنسان جميع مقوّماته، ولكنهم لم ينسوا عروبتهم ولم يضيعوا إسلامهم، وآخر الأحداث التي حلّت بهم هذا الاستعمار الفرنسي الجاثم على شمال أفريقيا (1). ...

_ 1) لم نعثر على بقية الحديث، ولعله أكمله ارتجالًا.

في الموصل

في الموصل * ها أنا ذا رجعت من جولة قصيرة في هذه القطعة العزيزة من وطني الإسلامي الأكبر، والفلذة الحية من كبد العراق، وهي الموصل وما جاورها عن الشمال والشرق، وأنا آسف أن لم يتّسع وقتي لزيارة ما جاورها عن الغرب، مع أنّ لي في تلعفر وسنجار جولات ذهنية تاريخية لا تقلّ عمّا لي من تلك الجولات الذهنية التاريخية في الموصل وإرْبيل، كعادتي في هذه الرحلة. زرتُ هذه القطعة دارسًا في الدرجة الأولى لنفوس أبنائها، وممحصًا لأخلاقهم، ومستجليًا لما أبقت تصرفات الزمن وتقلبات الأحداث فيها من معاني الإسلام التي غرسها القرآن، وسقاها علماء القرآن الذين أنبتتهم هذه البقعة الخصيبة، فأفاءوا عليها الكثير الطيب زكاء وريعًا ونماء وبركة، وقد كانت هذه القطعة من شمال العراق منبت عظماء ومعدن علماء ومطلع فنّانين، ناهيكم بالموصل التي نبّهت في أهلها الحنين إلى الرحم المجفوة بينهم وبين شمال افريقيا ... تلك الرحم التي بدأت في باب البطولة بعبد الله بن الحبحاب، وختمت في باب الفن بزرياب. وعبد الله بن الحبحاب الموصلي هو الذي اختط جامع الزيتونة بتونس سنة 114 قبل أن يختط جوهر الصقلّي الجامع الأزهر في القاهرة المعزية بأكثر من قرنين، والزيتونة والأزهر هما منذ قرون منارتا العلوم الإسلامية في الشرق والغرب. وزرياب نفحة فنية من نفحات الموصليين تصدقت به بغداد مكرهة على الأندلس، فبقي عطره وشذاه ساريين في الفنّ الموسيقي بالشمال الأفريقي إلى الآن.

_ * كلمة ألقيت بالموصل الحدباء، يوليو 1952، ونشرت «البصائر» ملخصًا لها ووصفًا لاستقبال الموصل في عدد 200، 8 سبتمبر 1952.

فإذا جاوزنا هذين، فما أحلى وما أغلى ما أهداه شمال العراق إلى شمال إفرلقيا من فلسفة أبي عثمان ابن جني في لسان العرب التي هي روحانية العربية تجلّت لطائفها على لسان ابن جني، ومن الآداب الرقيقة التي سالت بها قرائح السري الرفّاء والخالديين والتلعفري، وكأنّ الله تعالت كلمته ادّخر لأخيكم هذا منقبة أداء الواجب عن الأموات في الأندلس وعن الأحياء في المغارب الثلاثة، وما هذا الواجب إلّا ثناء كعرف المسك يُهدى لأهل الموصل، وان ديون الأدب لا يسقطها مرُّ القرون. وزرتُها دارسًا في الدرجة الثانية بما يسعه وقتي لآثار الأقدمين الذين عمروا العراق، منتفعًا بالعِبر، واصِلًا للمبتدإ من شأنهم بالخبر، مهتديًا بهدي القرآن الذي يأمرنا بالسير في الأرض والنظر في عواقب ومصائر مَن قبلنا، وان العراق من أغنى الأقطار بهذه الآثار، فهو يكاد يكون متحفًا لآثار الحضارات والشرائع القديمة، وما كان متحفَ الحضارات والشرائع إلا لأنّه كان مدفن الحضارات والشرائع، وما كان مدفن الحضارات والشرائع إلّا لأنّه كان منبتًا للحضارات والشرائع، وكان لذلك مساحب للفاتحين، ومجالًا للطامحين، ففي سهول اربيل ائتَقَى الشرق والغرب ممثلين في الاسكندر وداريوس متصاولين متطاولين إلى جعل الممالك مملكة واحدة، وعلى تلك السهول مرت موجات الهجرة الآرية من الشرق إلى أوروبا في أحقاب التاريخ البعيد. ... وما لي لا أصدقكم- أيها الإخوان- جلية نفسي، وهي أن دراسة الآثار كانت من نوافل أعمالي ومن التوابع الثانوية للباعث الأصلي، وهو الالتقاء بإخواني الذين هم أبعد أجزاء العراق عنّا، ووزن حالتهم بحالة جنوب العراق ووسط العراق، ثم وزن الجميع ببقية أجزاء العالم الإسلامي، ووزن الجميع بقومي الأدنين وعشيرتي الأقربين من تفاوت واتفاق، في الأخلاق. وما لي لا أصدقكم ثانية، بأنني وجدتُ العلة واحدة والأحوال متشابهة، حتّى كأننا سلالة أبوة قريبة العهد، ففي بعضنا من بعض مَشابه- على بُعد الدار-: جمود وخمود وركود، جمود في فهم الحياة، وخمود في القوى السائقة إلى الحياة، وركود في الأعمال التي يتفاضل بها الأحياء، والغايات التي يتسابق إليها الأحياء. وإن تشابهنا جميعًا في هذه الأحوال العامّة، وتقاربنا جميعًا في الأحوال الخاصّة، وقعودنا جميعًا عن مراتب الرجولة، وتجردنا جميعًا من فضائل الشجاعة والغيرة على الحمى، والحفاظ والغضب للعرض وحماية الحقيقة، ورضانا جميعًا بالذل والضيم والمهانة والتعبّد للأجنبي، والخضوع له في كلّ شيء، والسعي في مرضاته حتّى فيما يهدم ديننا ويضيع

قوميّتنا، واحتقار بعضنا لبعضنا، كلّ هذا التشابه الذي يجده الباحث المستقرئ في أحوال المسلمين بارزًا في جميع المسلمين من أقصى السوس في المغرب الأقصى إلى أقصى الشرق في أندونيسيا- هو الذي جرّأ أعداء الإسلام على أن يجعلوا سببه الأصلي هو الإسلام، وبنوا على هذه المقدّمة الخاطئة أن الإسلام دين خمود وركود وجمود وخضوع وخنوع، ثم أوهموا الجاهلين منا بحقائق الإسلام وتاريخ الإسلام وأمجاد الإسلام أن هذا هو الحق المبين، وأن هذه هي النتيجة المنطقية، فأضلّوهم وأصبحوا يردّدون معهم هذه الكلمات، كما تردّد الببغاء ما تسمع من غير فهم ومن غير عقل، وان مصيبتنا بالجاهلين منا أعظم من مصيبتنا بالأجنبي، فالأجنبي يحتلّ ويستغلّ وهو يعلم أن الدار ليست داره وأنه خارج منها لا محالة، ولكنه لكيده للإسلام وعداوته للمسلمين لا يخرج حتّى يفسد على أصحاب الدار شأنهم بما ينفثه في عقولهم من المعاني الخبيثة المفرقة، وحتّى يترك فريقًا من أهل الدار يسبّحون بحمده، وفريقًا يحنّون إلى عهده، وقد أصبحنا من هذه الحالة على قاعدة، وهي أن كلّ أجنبي لا يخرج من أرض شرقية إلا وهو على نيّة الرجوع. إن أَمْضَى سلاح قاتلنا به فقتلنا هو التضريب بين صفوفنا حتّى أصبح بعضنا لبعض عدوًا، والتخريب لضمائرنا حتّى أصبحت خيانة الدين والوطن بيننا مَحْمَدَةً نتمادح بها، والتمزيق لجامعتنا حتى أصبحنا أممًا متنابذة نتعادى لإرضائه، ونتمادى في العداوة بإغوائه، والتوهين لقوانا المعنوية حتّى أصبحنا كالتماثيل الخشبية لا ترهب ولا تخيف، والاستئثار بقوّاتنا المادية حتّى أصبحنا عالةً عليه، والتعقيم لعقولنا وأفكارنا حتّى أصبحنا نتنازل عن عقلنا لعقله وإن كان مأفونًا، وعن فكرنا لفكره وإن كان مجنونًا، وتلقيح فضائلنا برذائله حتّى انحطّت فينا القيم المعنوية، وبخست موازين الفضيلة عندنا، وأخيرًا ترويضنا على المهانة حتّى أصبحنا نهزأ بماضينا افتتانًا بحاضره، ونسخر من رجالنا الذين سادوا العالَم وساسوه بالعدل إعجابًا برجاله، وننسى تاريخنا لنحفظ تاريخه، ونحتقر لساننا احترامًا للسانه، ووَاذُلّاه! أيرفع الشرق كبراءَه ليكونوا أدوات لانحطاطه، ويُعزّهم ليكونوا آلات لإذلاله! هذا الاستعمار لعقولنا وأفكارنا هو أخطر أنواع الاستعمار علينا، وإن مصائبه منزلة علينا من إجلالنا للفكر الذي يأتي من أوروبا والكتاب الذي يأتي من أوروبا، وتقديسنا للأستاذ الذي يأتي من أوروبا والفنون المسمومة التي تأتينا من أوروبا. هذا النوع الخطر من الاستعمار العقلي هو الذي مهّد للطامّة الكبرى التي هي مأرب الاستعمار منّا، وهي هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي زيّنها لنا كما يزّين الشيطان للإنسان سوء عمله، وحبّبها إلينا كما يحبّب الطبيب الغاشّ للمريض تجرّع السمّ باسم الدواء، ولو كانت خيرًا لَسبقنا إليها في أممه وأوطانه، ولكنه يتزيد بالعناصر الأجنبية ليقوى في نفسه، ويفرّقنا لنضعف، فيكون ضعفنا قوّة فيه.

أليست هذه الوطنيات الضيّقة هي التي أضعفت الحمية الإسلامية حتى قتلتها في النفوس، أليست هذه الوطنيات الضيّقة بمثابة تقسيم الخبزة إلى لقم يسهل مضغها وازدرادها وهضمها؟ والذي روحي بيده لو كان العرب أمّة واحدة لما ضاعت فلسطين. والذي روحي بيده لا تقوم لنا قائمة حتّى نرجع إلى الوطنية الكبيرة الجامعة الواسعة اللامعة النافعة وهي وطنية الإسلام. ... أيها الإخوان: إن السبب الأكبر لرحلتي هذه بعد الدراسة والتعارف هو السعي في إحياء الجامعة الإسلامية التي هي خير ما يجتمع عليه الشرق وأممه وملله. وقد كان الاتصال بيننا قريبًا من المحال، لأنّنا تناكرنا وماتت ملكة التعاطف والتعارف في نفوسنا من قرون، فلمّا فتحنا آذاننا على رجّة الأحداث، وفتحنا أبصارنا على أشلائنا الممزقة، وفتحنا بصائرنا على بُعدنا من الدين وهدايته، وتخبّطنا في ظلام مما كسبت أيدينا، وحاولنا صلة رحم الإسلام ووصل أجزاء الشرق، جَعَلَ الاستعمار بيننا ردمًا، وأوسع معالم الاتصال بين الشرقي والغربي منا رغمًا، وضرب بيننا بسور ليس له باب. وقد كانت الخواطر تمثل لي هذا الاتصال فتبعث في جوانب نفسي بهجةً وسرورًا، فكيف لا أبتهج وقد أصبح حقيقة واقعة، وإنّني أعتبر رحلتي هذه فتحًا لباب، وعنوانًا لكتاب، ومقدّمة لنتائج، وإذا رجعنا إلى الفال نستفتح به أقفال الغيب، ونسِمُ به إغفال المستقبل رأينا أن صبيب المزن مبدؤه قطرة، وأن عصف الريح مبدؤه نسمة، وأن صادق الوحي أوّله رؤيا منام، ثم بعد تلك البدايات ينهمر الغيث وتعصف الأعاصير ويتواتر الوحي. ... أيها الإخوان: هذه الحركات المرجوّة تحتاج إلى قائد من طراز علوي سماوي الروح، وهذه الحركات المرجوّة مفتقرة إلى حكومة تحتضن وتحمي الحريّة، وإلى وطن- ولو ضيّق الأرجاء- يؤوي وينفق. لا نصدق بعد اليوم الأمثال فينا، ولا نثق بزخرفة القادة الملحدين، فمحال أن يقودنا إلى الجنّة مَن هو مِن أهل النار، وهيهات أن يقودنا إلى الحريّة مَن هو عبد شهواته، ومحال على كرامتنا أن نبقى بعد اليوم كمونًا يسقيه وعد، وإبلًا يوردها سعد.

بغداد تكرم المغرب العربي

بغداد تكرّم المغرب العربي * أيها الإخوان: التحايا مفاتيح القلوب، وذرائع الأمل المطلوب، وأشرف التحايا ما مازج النفوس، وخالط الأرواح، ووافق الأمزجة، وأيقظ العواطف النائمة، وحرّك الأوتار الحية بما يشجي ويطرب، ووصل خصائص الأجداد بخصائص الأحفاد فكان بينهما ما يكون من التقاء السالب بالموجب في القوانين الكهربائية: حركة وضوء وحرارة. فلا أحييكم بما حيّا به المعرّي الحبيب وربعه، مخالف دينه وطبعه، إذْ يقول: تَحِيَّةُ كِسْرَى فِي السَّنَاءَ وتُبَّعِ … لِرَبْعِكَ لَا أَرْضَى تَحِيَّةَ أَرْبُعِ ولا أحيّيكم بما حيّا به ابن الرومي مأوى تشيّعه، ومهوى تسبّعه، حين يقول: سَلَامٌ وَرَيْحَانٌ وَرَوْحٌ وَرَحْمَةٌ … عَلَيْك، وَمَمْدُودٌ مِنَ الظِّلِّ سَجْسَجُ بل أرتقي صعدًا إلى تلك التحية الفطرية التي جاء بها دين الفطرة رمزًا للأمان، وعنوانًا للإيمان، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كلمات مفصّلة، ومعان محصّلة، تبعثها الروح إلى الروح، وتنضح الكبد المقروح بالبثّ المشروح. أيها الإخوان: أحييكم بهذه التحية عن نفسي كما ينفح العطر من الجليس إلى الجليس، وعن أخويّ الكريمين ممثلي تونس المجاهدة الصابرة الحاضريْن في هذا الحفل الحافل: الأستاذين محمد بدرة وعلي البلهوان.

_ * من الكلمة التي ألقاها الإمام في حفل ببغداد أُقيم على شرفه بحضور الزعيمين التونسيين محمد بدرة وعلي البلهوان، يوليو 1952.

إن نفسي تحدثني ولا تكذبني أن هذا التكريم الذي تفتنّ فيه بغداد ليس مصروفًا لشخصي، إنما هو موجّه إلى وطني وأبناء وطني الذائدين عن حماه. وأحييكم عن جمعية العلماء الجزائريين التي أتت بما يُشبه معجزة موسى في إنقاذ أمّة، وبما يُشبه معجزة عيسى في إحياء ميّت، وكانت هي في نفسها من معجزات محمّد - صلى الله عليه وسلم - في خدمة دينه وإحياء لسانه. وأحييكم باسم الشمال الافريقي الجبّار على الأعداء وعلى العوادي، الثائر على الهوان والظلم منذ برأه الله، مقبرة الطغاة، وجحيم البغاة، لا مقصرًا إن شاء الله في جزائه، ولا مفرّقًا لأجزائه، ولا معترفًا بالحدود التي خطتها يد الظلم والعدوان. أحييكم عن تلك الأقطار التي فرّقت بينها وبينكم الأقدار وأسمعكم من ألحانها الحزينة نجواها، وأبثّكم من أحوالها المؤلمة شكواها، بلسانها الحرّ الأصيل المعرب، وبيانها العذب الشجي المطرب، تحياتٍ تصافح مواطن الإحساس من نفوسكم، وتخالط معاقد الإيمان من قلوبكم، وتحرّك أوتار الحمية في صدوركم، وتنتظر رجع الصدى بإرواء الصادي، ودلالة الهدى من الدليل الهادي، ونعرة الفدا من الشقيق الفادي. فحيّاكم الله وأحياكم وأدامكم وأبقاكم، وذخركم للعروبة تصلون أسبابها، وتردّون عليها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه وتدفعون ظلّامه، وللشرق تؤدّون فرضه، وتردّون قرضه، وتصونون عرضه، وتصعدون سماءه فتحفظون أرضه. أيها الإخوان: إن الشمال الأفريقي كله فلذة من كبد الإسلام، وقطعة من وطن العروبة الكبير، وبقية مما فتح عقبة والمهاجر وحسّان، وإنّ هذا الوطن هو أحد أجنحتكم التي تطيرون بها إلى العلاء، وانه لامتداد لوطنكم الأكبر، وانه متصل بكم اتصال الكفّ بالساعد، تصلون إليه كما وصل أجدادكم مشيًا، ويصل إليكم كما وصل أسلافه حبوًا، فريشوا هذا الجناح المهيض حتى تقوى قوادمه على الطيران، وصونوا حماه فإنه حماكم، وذودوا عن حوضه فإنه حوضكم. إنّه يحمل أمانة الأجداد التي تحملونها فأعينوه على التحرير، وأنقذوه من سوء المصير. إن في هذا الشمال الذي يحدثكم لسانه كنوزًا من تراث العربية والإسلام طمرها الاستعمار برطاناته عمدًا، وطمس محاسنها بحضارته قصدًا، فأعينونا بقوة تستخرج هذه الكنوز بإحياء الأخلاق والآداب والتاريخ. إن بينكم وبينه صلات من اللغة والدين، وأرحامًا من الجنس والخصائص، فصلوا هذه الأرحام يكنْ بعضنا لبعض قوة.

إنكم لنا أئمة في الخير، وإنّا بكم مؤتمّون في الحق، فحقّقوا شروط الإمامة فيكم، وطالبونا بتحقيق شروط الاقتداء، وَئنُقِمِ الصفوف في معترك الحتوف تحت ظلال السيوف، وإلّا هلك الإمام والمأموم. أما والله لن نفلت من مخالب الاستعمار فُرادى، ولا نفلت منه إلا يوم نصبح أمة واحدة تلقى عدوّها برأي واحد وقلب واحد، فإن لم نفعل، ولم نكفر بهذه الفوارق التي وضعها الشيطان بيننا، فلا نلم الاستعمار وَئنَلُمْ أنفسنا. أيها الإخوان: إن أضعف سلاح رَمانا به الاستعمار هو سلاح الحديد والنار. إن سلاح الحديد يقتل الأجسام فينقل الأرواح إلى مقام الشهادة، أما السلاح الفتّاك الذي رمانا به فهو يقتل الأرواح ويجردها من أسباب السعادة، هذا السلاح هو حضارته وعلومه التي اتخذها رمادًا يغطي به الصليبية الحقيقية التي لم تنطفئ نارها في هذه القرون كلها.

في المملكة العربية السعودية

في المملكة العربية السعودية (من أغسطس إلى أكتوبر 1952) ــــــــــــــــــــــــــــــ

وظيفة علماء الدين

وظيفة علماء الدين * - 1 - لا توجد في الإسلام "وظيفة" أشرف قدرًا، وأسمى منزلة، وأرحب أفقًا، وأثقل تبعة، وأوثق عهدًا، وأعظم أجرًا عند الله، من وظيفة العالم الديني! ذلك لأنه وارث لمقام النبوّة وآخذ بأهم تكاليفها وهو الدعوة إلى الله وتوجيه خلقه إليه وتزكيتهم وتعليمهم وترويضهم على الحق حتى يفهموه ويقبلوه، ثم يعملوا به ويعملوا له. فالعالم، بمفهومه الديني في الإسلام، قائد ميدانه النفوس، وسلاحه الكتاب والسنّة وتفسيرهما العملي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه، وعونه الأكبر على الانتصار في هذا الميدان أن ينسى نفسه ويذوب في المعاني السامية التي جاء بها الإسلام، وأن يطرح حظوظها وشهواتها من الاعتبار، وأن يكون حظه من ميراث النبوّة أن يزكي ويعلم وأن يقول الحق بلسانه ويحققه بجوارحه، وأن ينصره إذا خذله الناس، وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوّة. أما الوسيلة الكبرى في نجاحه في هذه القيادة فهي أن يبدأ بنفسه في نقطة الأمر والنهي فلا يأمر بشيء مما أمر به الله ورسوله حتى يكون أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء مما نهى الله ورسوله عنه حتى يكون أول تارك له ... كل ذلك ليأخذ عنه الناس بالقدوة والتأسي أكثر مما يأخذون عنه بوساطة الأقوال المجرّدة والنصوص اللفظية، لأن تلاوة الأقوال والنصوص لا تعدو أن تكون تبليغًا، والتبليغ لا يستلزم الاتّباع، ولا يثمر الاهتداء ضربة لازم ولا يعدو أن يكون تذكيرًا للناسي وتبكيتًا للقاسي، وتنبيهًا للخامل، وتعليمًا للجاهل وإيقاظًا للخامل وتحريكًا للجامد ودلالة للضال ... أما جر الناس إلى الهداية بكيفية تشبه الإلزام فهو في التفسيرات العملية التي كان المرشد الأول يأتي بها في تربيته لأصحابه، فيعلمهم بأعماله،

_ * مجلة "المنهل"، محرم 1372هـ / أكتوبر 1952م، جدة.

أكثر مما يعلمهم بأقواله ... لعلمه- وهو سيد المرسلين- بما للتربية العملية من الأثر في النفوس، ومن الحفز إلى العمل بباعث فطري في الاقتداء، وقد رأى مصداق ذلك في واقعة الحديبية حين أمر أصحابه بالقول فتردّدوا، مع أنهم يعلمون أنه رسول الله، وأنه لا ينطق عن الهوى، ثم عمل فتتابعوا في العمل اقتداءً به وكأنهم غير من كانوا. كان الصحابة لاستعدادهم القوي لتحمّل الإسلام بقوة يحرصون على أخذ همات العبادات من فعله - صلى الله عليه وسلم -، كما يحرصون على التمثّل بأخلاقه والتقليد له في معاملته لله ومعاملته لخلقه، وعلى التأسي به في الأفعال والترك في شؤون الدين والدنيا، لعلمهم أن الفعل هو المقصد والثمرة، وأن الأقوال في معظم أحوالها إنما هي أدوات شرح، وقوالب تبليغ وآلات أمر ونهي، ووسائل ترغيب وترهيب، وأن في قول قائلهم: "أنا أشبهكم صلاة برسول الله" لدليلًا على تغلغل هذه النظرة في مستقرّ اليقين من بصائرهم، وأنهم كانوا يتشدّدون في أخذ الصور العملية من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كما هي، ويتحرجون من التقصير فيها، ومرماهم في ذلك أن العمليات المأخوذة من طريق العيان أقرب إلى اليقين وموافقة مراد الله منها، وبذلك تتحقق آثارها في النفوس، وقد كانوا يفهمون العبادة بهذا المعنى: أن تعبد الله كما شرع على الوجه الذي شرع، فالكيفيات داخلة في معنى التعبّد، لذلك لم يحدث السلف زوائد على العبادات من أذكار وغيرها بدعوى أنها زيادة في الخير، كما عمل الخلف، وكانوا يفهمون يسر الدين بمعناه السامي وهو أنه لا إرهاق فيه ولا إعنات، وأنه ليس في المقادير الزائدة عن إقامة التكاليف أو في المعاذير الصحيحة العارضة للتكاليف، لا كما نفهمه نحن تساهلًا وتطفيفًا. فهم علماء السلف الإسلام كاملًا بعقائده وعباداته وأحكامه وأخلاقه وفهموا ما بين هذه الأجزاء من الترابط والتماسك ووحدة الأثر والتأثير، وأنها- في حقيقتها- شيء واحد، هو الدين، وهو الإسلام، وأن ضياع بعضها مؤذن بضياع سائرها، أو هو ذريعة له، فلا يقوم دين الله في أرضه إلا بإقامة جميعها، وإذا قال القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ... فمعناه إقامة جميعها، وأنه ليس من هذا الدين أن يصلي المسلم ثم يكذب، ولا أن يذكر الله ثم يحلف به حانثًا باللسان الذي ذكره به متقرّبًا إليه، ولا أن يمسك عن الطعام ثم يأكل لحوم الخلق، ولا أن يخاطب ربّه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم يتوجّه إلى غيره عابدًا ومستعينًا فيما هو من خصائص الألوهية، ولا أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، ولا أن يأمر الناس بالجهاد ثم يرضى لنفسه بأن يكون مع الخوالف، أو ببذل المال في سبيل العلم ثم يقبض يديه كأنه خارج من التكليف، أو بالبر وينسى نفسه، ولا أن يترخّص في الحق إرضاءً لغوي أو غني ولا أن يؤخّر كلمة الحق عن ميقاتها حتى يضيع الحق. وكان كل واحد منهم يرى أنه مستحفظ على كتاب الله، ومؤتمن على سنّة رسوله، في العمل بها وتبليغها كما هي، وحارس لهما أن يحرفهما الغالون أو يزيغ بهما عن

- 2 -

حقيقتهما المبطلون، أو يعبث بهما المبتدعة، فكل واحد منهم حذر أن يُؤتَى الإسلام من قبله، فهو- لذلك- يقظ الضمير، متأجج الشعور، مضبوط الأنفاس، دقيق الوزن، مرهف الحس، متتبع لما يأتي الناس وما يذرون من قول وعمل، سريع الاستجابة للحق، إذا دعا داعيه، وإلى نجدته، إذا ريع سربه أو طرق بالسر حماه. وكانوا يأخذون أنفسهم بالفزع لحرب الباطل لأول ما تنجم ناجمته، فلا يهدأ لهم خاطر حتى يوسعوه إبطالًا ومحوًا، ولا يسكتون عليه حتى يستشري شرّه، ويستفحل أمره فتستغلظ جذوره، ويتبوّأ من نفوس العامة مكانًا مطمئنًا. وكانوا يذكرون دائمًا عهد الله، وأنّه أخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، وأن الحق هو ما جاء به محمد عن ربّه لهداية البشر وصلاح حالهم. وكانوا يزنون أنفسهم دائمًا بميزان الكتاب والسنّة، فما وجدوا من زيغ أو عوج قوّموه في الحال بالرجوع والإنابة، كما يفعل المفتونون بالجسمانيات في عصرنا هذا في وزن أبدانهم كل شهر ... - 2 * - وكان العلماء يردّون كلّ ما اختلفوا فيه من كل شيء، إلى كتاب الله وسنّة رسوله، لا إلى قول فلان، ورأي فلان، فإذا هم متّفقون على الحق الذي لا يتعدد. ولقد أنكر مالك على ابن مهدي- وهو قرينه في العلم والإمامة- عزمه على الإحرام من المسجد النبوي، فقال ابن مهدي: إنما هي بضعة أميال أزيدها، فقال مالك: أوَما قرأت قوله تعالى: {فَئيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأية فتنة أعظم من أن تسوّل لك نفسك أنك جئت بأكمل مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كلامًا هذا معناه ... ثم تلا قوله تعالى: {ائيَوْمَ أَكْمَئتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وقال كلمته الجامعة التي كأن عليها لألاء الوحي، وهي قوله: "فما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس اليوم بدين". وكانوا يحكمون دينهم في عقولهم، ويحكمون عقولهم في ألسنتهم، فلا تصدر الألسنة إلا بعد مؤامرة العقل، ويعدون العقل مع النص أداة للفهم معزولة عن التصرّف، ومع المجملات ميزانًا للترجيح، يدخل في حسابه المصلحة والضرورة والزمان والمكان والحال،

_ * مجلة "المنهل"، صفر 1372هـ / نوفمبر 1952م، جدة.

ويميّز بين الخير والشر، وبين خير الخيرين، وشر الشرّين، لذلك غلب صوابهم على خطإهم في الفهم وفي الاجتهاد، ولذلك أصبحت فهومهم للدين وسائل للوصول إلى الحق، وآراؤهم في الدنيا موازين للمصلحة، وما هم بالمعصومين ولكنهم لوقوفهم عند الحدود وارتياض نفوسهم على إيثار رضى الله وشعورهم بثقل عهده، وفقهم الله لإصابة الصواب. وكانوا يزنون الشدائد التي تصيبهم في الطريق إلى إقامة دين الله بأجرها عنده ومثوبتها في الدار الآخرة، لا بما يفوتهم من أعراض الدنيا وسلامة البدن وخفض العيش وراحة البال، فكل ما أصابهم من ذلك يعدّونه طريقًا إلى الجنة ووسيلة إلى رضى الله. وكانوا ملوكًا على الملوك، واقفين لهم بالمرصاد، لا يقرونهم على باطل ولا منكر ولا يسكتون لهم على مخالفة صريحة للدين، ولا يتساهلون معهم في حق الله، ولا يترضونهم فيما يسخط الله. بتلك الخلال التي دللنا القارئ عليها باللمحة المنبّهة قادوا الأمة المحمّدية إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ... وبسير الأمراء المصلحين على هداهم سادوا أغلب الجزء المعمور من هذه الأرض بالعدل والإحسان، إذ كان الأمير في السلم لا يصدر إلا عن رأيهم، والقائد في الحرب لا يسكن ولا يحرّك إلا بإشارتهم في كل ما يرجع إلى الدين، فجماع أمر العلماء إذ ذاك أنهم كانوا "يقودون القادة". وما رفعهم إلى تلك المنزلة بعد العلم والإخلاص إلا أنهم كانوا "حاضرين" غير "غائبين" ... كانوا يحضرون مجالس الرأي مبشّرين شاهدين وميادين الحرب مغيرين مجاهدين، طبعهم الإسلام على الشجاعة بقسميها: شجاعة الرأي وشجاعة اللقاء، فكانوا يلقون الرأي شجاعًا فيقهر الآراء، ويخوضون الميادين شجعانًا فيقهرون الأعداء ... وللآراء اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي، كما للأناسي اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي. والعالم الجبان في أمة عضو أشل، يؤود ولا يذود، ولعمري ان في اتحاد صف الصلاة وصف القتال، في الاسم والاتجاه والشرائط، لموقف عبرة للمتوسمين. صدق أولئك العلماء ما عاهدوا الله عليه، وفهموا الجهاد الواسع فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القبول في كلامهم عند الخاصة والعامة، وأن القبول جزاء من الله على الإخلاص يعجله لعباده المخلصين، وهو السر الإلهي في نفع العالم والانتفاع به، وهو السائق الذي يَدع النفوس المدبرة عن الحق إلى الإقبال عليه. ونفوذ الرأي وقبول الكلام من العالم الديني الذي لا يملك إلا السلاح الروحي، هو الفارق الأكبر بين صولة العلم وصولة الملك، وهو الذي أخضع صولة الخلافة في عنفوانها لأحمد بن حنبل، وأخضع صولة الملك في رعونتها للعز بن عبد السلام ... وان موقف هذين الإمامين من الباطل لعبرة للعلماء لو كانوا يعتبرون، وان في عاقبتهما الحميدة لآية من الله على تحقيق وعده بالنصر لمن ينصره.

نصر الله أولئك الرجال الذين كانوا يوم الرأي صدور محافل، ويوم الروع قادة جحافل، وفي التاريخ محققين لنقطة الاقتراب، بين الحرب والمحراب، فلقد كانوا يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، وإذا الباطل نافر، ويقذفون بعزائمهم في مزدحم الإيمان والكفر، فإذا الإيمان منصور، وإذا الكفر مكسور، ووصل الله ما انقطع منّا بهم، بإحياء تلك الخلال، فما لنا من فائت نتمنى ارتجاعه أعظم من بعث تلك الشجاعة، فهي أعظم ما أضعنا من خصالهم، وحرمناه- بسوء تربيتنا- من خلالهم ... ولعمري ان تلك القوى لم تمت، وإنما هي كامنة، وإن تلك الشعل لم تنطفئ، فهي في كنف القرآن آمنة، وما دامت نفحات القرآن تلامس العقول الصافية، وتلابس النفوس الزكية، فلا بدّ من يوم يتحرّك فيه العلماء فيأتون بالأعاجيب. وما زلنا نلمح وراء كل داجية في تاريخ الإسلام نجمًا يشرق، ونسمع بعد كل خفتة فيه صوتًا يخرق، من عالم يعيش شاهدًا، ويموت شهيدًا، ويترك بعده ما تتركه الشمس من شفق يهدي السارين المدلجين إلى حين. وما علمنا فيمن قرأنا أخبارهم، وتقفينا آثارهم من علماء الإسلام، مثلًا شرودًا في شجاعة النزال بعد الحافظ (الربيع بن سالم) عالم الأندلس، بل أعلم علمائها في فقه السنة لعصره، فقد شهد وقعة تعد من حوامد الأعمار، فبذ الابطال المساعير، وتقدم الصفوف مجليًا ومحرّضًا، والحرب تقذف تيّارًا بتيّار، حتى لقي ربّه من أقرب طريق ... ولا علمنا فيهم مثالًا في شجاعة الرأي العام أكمل من الإمام أحمد بن تيمية- وعصراهما متقاربان- فقد شنّها حربًا شعواء على البدع والضلالات، أقوى ما كانت رسوخًا وشموخًا، وأكثر اتباعًا وشيوخًا، يظاهرها الولاة القاسطون، ويؤازرها العلماء المتساهلون المتأوّلون. وقد ادّخر الله لهذا العصر الذي تأذن فجر الإسلام فيه بالانبلاج، الواحد الذي بذ الجميع في شجاعة الرأي والفكر وقوة العلم والعقل، وجرأة اللسان والقلب، وهو محمد عبده، فهزّ النفوس الجامدة، وحرّك العقول الراكدة، وترك دويًا ملأ سمع الزمان، وسيكون له شأن ... أما علماؤنا اليوم ...

- 3 -

- 3 * - ... أما علماء الخلف فهم أقل من أن تسمّيهم علماء دين، وأقل من أن تسميهم علماء دنيا. أما الدين فإنهم لم يفهموه على أنه نصوص قطعية من كلام الله، وأعمال وأقوال تشرح تلك النصوص من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ومقاصد عامة تؤخذ من مجموع ذلك ويرجع إليها فيما لم تفصح عنه النصوص، وفيما يتجدد بتجدّد الزمان، لم يفهموه على أنه عقائد يتّبع العقل فيها النقل، وعبادات كملت بكمال الدين. فالزيادة فيها كالنقص منها، وأحوال نفسية صالحة هي أثر تلك العقائد والعبادات وآداب تصلح المعاملة وتصحّحها بين الله وبين عباده وبين العباد بعضهم مع بعض، بل فهموا الدين وأفهموه على أنه صور مجرّدة خالية من الحكمة، وحكموا فيه الآراء المتعاكسة والأنظار المتباينة من مشايخهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى اطّراح النصوص القطعية إلى كلام المشايخ، وإلى سدّ باب الفكر بالتقليد، وتناول حقائق الدين بالنظر الخاطئ والفهم البعيد، والفكر كالعقل نعمة من نعم الله على هذا الصنف البشري، فالذي يعطله أو يحجر عليه جانٍ مجرم، كالذي يعطل نعمة العقل، ولعمري ان سدّ باب الاجتهاد لأعظم نكبة أصابت الفكر الإسلامي، وأشنع جريمة ارتكبها المتعصبون للنزعات المذهبية. وأما الدنيا فليسوا علماء دنيا بالمعنى الأعلى لهذه الكلمة، وهو أن يعالجوا الكسب بطرق علمية، ويدرسوا وسائل الثراء بعزائم صادقة، ويضربوا في الأرض لجمعِ المال بكد اليمين، وعرق الجبين، أما المعنى السخيف لهذه الكلمة فهم أوفر الناس حظًا منه، فهم يطلبون المعيشة بأخس وسائلها، فيحصلون منها على فتات الموائد يشترونه بدينهم وماء وجوههم، هانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس فرضوا بالدون والهون. نعني بعلماء الخلف هذه العصابة التي نشهد آثارها ونسمع أخبارها، ونحدّدها تحديدًا زمنيًا بمبدإ المائة العاشرة للهجرة من يوم بدأت الشعوب الإسلامية في التفكّك والانهيار، ولم يظهر لهؤلاء العلماء أثر في دفع البلاء، قبل إعضاله، بل كانوا أعوانًا له وكانوا بعض أسبابه، وإنما نحدد هذا التحديد متساهلين ... وإن كان المرض ممدود الجذور إلى ما قبل ذلك الحد من القرون، ولكن المرض لم يصل إلى درجة الإعضال إلا في المائة العاشرة وما

_ * مجلة "المنهل"، ربيع الأول 1372هـ / 1952م، جدة.

بعدها، أما عصرنا فهو آخر الدن، وآخر الدن دردي، كما في المثل. وإن الناظر في تاريخ العلم الديني الإسلامي يرى أن طوره الأول كان علمًا متينًا، وعملًا متينًا، وأن طوره الوسط كان علمًا سمينًا وعملًا هزيلًا، أما طوره الثالث والأخير فلا علم ولا عمل، إنما هو تقليد أعمى ونقل أبكم، وحكاية صمّاء، وجفاف جاف، وجمود جامد، وخلاف لا يثبت به حق، ولا يُنفى به باطل، ولا تتمكن به عقيدة، ولا تثبت عليه عزيمة، ولا تقوى عليه إرادة، ولا تجتمع معه كلمة، ولا ينتج فيه فكر ولا تستيقظ معه عزة، ولا تثور كرامة، ولا تتنبّه رجولة ولا نخوة، لأن الشخصية فيه موءودة، والروح المستقلة معه مفقودة، إنما هو تواكل يسمّونه توكّلًا، وتخاذل يسكنونه بالحوقلة والاسترجاع، وخلاف ممزّق لأوصال الدين يسمّونه رحمة، وإننا لا نعني بالعمل الذي جرى في كلامنا ما يفهمه المتخلفون الفارغون، ولكننا نعني به العمل لإعزاز الدين واعتزاز أهله به، والأمر بالمعروف حتى يتمكّن، والنهي عن المنكر حتى لا يكون له بين المسلمين قرار، وحراسة المجتمع الإسلامي أن يطرقه طارق الاختلال، أو يطوف به طائف الضلال وجمع المسلمين على هداية القرآن. أذل الطمع أعناق علماء الخلف، وملكت "الوظيفة" عليهم أمرهم، وجرت عليهم الأوقاف المذهبية كل شر، فهي التي مكّنت لنزعة التقليد في نفوسهم، وهي التي قضت على ملكة النبوغ واستقلال الفكر فيهم، وهي التي طبعتهم على هذه الحالة الذميمة وهي معرفة الحق بالرجال، وهي التي ربطتهم حتى في أحكام الدنيا وأوجه الحياة- بالقرن الثاني لا في قوّته وعزّته وصولته بل في حبس ركاب عنده، وتعطيل دوران الفلك العقلي بعده، ولذلك لم يسايروا الزمن ولم يربطوا بين حلقاته فعاشوا بأبدانهم في زمن، وبأذهانهم في زمن، وبين الزمنين أزمنة، تحرّكت وهم ساكنون، ونطقت وهم ساكتون. لو أن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان مصلحًا اجتماعيًا أو دينيًا- مع ما تهيأ له من القيمة الحربية- لما نقل حالة الأزهر من مذهب واحد إلى مذاهب أربعة، بل كان ينقله من ذلك المذهب الواحد الفرعي إلى أصل الأصول وهو الكتاب والسنّة، ولو فعل لأراح المسلمين من شرور الخلافات المذهبية، ولو وجد جميع ملابساته أعوانًا له على ذلك، لأن مصر كانت بمكان صلاح الدين فيها هي كل شيء وقد سئمت من المذهب الشيعي لغموضه وتناقضه، ولما تكشّف عنه الحاكم من سوءات، ولأن بغداد كانت مشغولة بنفسها عن نفسها، ولأن الشام وعواصمها كانت مغمورة بالحملات الصليبية، ولأن الأندلس والمغرب لم يتغلغل فيهما التعصّب المذهبي كما تغلغل في الشرق، فلو أن صلاح الدين ضرب الضربة القاضية ورجع بالناس إلى المذهب الجامع ثم جاءت انتصاراته المدهشة على الصليبيين، لأصبح بذلك صاحب مذهب متّبع في الإسلام، ولكنه- عفا الله عنه- لم يكن رجل هذا الميدان فلم يزد على أن وسع "التكية" للقعدة، وشيّد الضريح للفكر، وأبعد القافلة عن

صراط السنّة السوي، ومكّن للخلاف، وأنقذ الأزهر من شيعة ليسلّط عليه شيعًا، ويا ليت كاتبه ووزيره القاضي الفاضل المفتون بالتجنيسات والمزاوجات والمطابقات أشار عليه بما يشبه مذهبه في الأدب، وهو أن ينقل الأزهر من الباطنية إلى الظاهرية ... نقرأ في سيَر العلماء من السلف أن فلانًا عرض عليه الخليفة أو الأمير منصب القضاء فأبى وألحّ في الإباء، فلجّ الوالي في العرض فلجّ العالم في الإباء حتى ينتهي به إلى غضب الخليفة وما يتبع الغضب من آثار منها الضرب والحبس، أو ينتهي به الحال إلى الفرار والاختفاء، يأتي كل ذلك فرارًا من فتن الولاية ولوازمها كالتردد على أبواب السلاطين، وتعريض سلطان العلم لسلطان الحكم، وفرارًا من المطاعم الخبيثة التي مهما تتسع لها دائرة الإباحة فإنها لا تطهرها من شوب الشبهات، فهل من يدلّنا اليوم على عالم تعرض عليه ولاية القضاء أو ما دونها في المنزلة فيأباها تعففًا وتحوّلًا مسوقًا إلى ذلك بخوف الله وخشيته، أو بترفّع عن الشبهات؟ كلا، انهم لا ينتظرون عرض الولاية عليهم بل يخطبونها ويبذلون فيها الغالي من المهور وهو الدين والشرف والكرامة ويتوسلون إلى نيلها بالدنيء من الوسائل كالتوجّه بالكافر والفاجر، والتشفّع بالمهين والعاهر ودفع الرشى وهي أشنع الجميع، لأنها شهادة مقدمة على أنه سيرتشي ليسدّد الدين ... ونقرأ في سيرهم أيضًا أنهم كانوا حين يتولّون الولاية يؤدونها كما أمر الله أن تؤدى، ويوفون بعهد الله فيها من العدل والتحري في الحق، وكانوا لا يقبلون الولاية إلا على اعتقاد أن قبولهم إياها واجب متعيّن شرعًا لإقامة القسط بين الناس وإنصاف الضعفاء من الأقوياء، فهم دائمًا في أداء واجب يؤجرون عليه لا في أداء وظيفة ينتفعون بها. وارجع إلى وظائف العالم الديني الأخرى غير الولاية، فلتجدنهم فرّطوا فيها وأضاعوها، معتذرين بتأويلات ما جاء بها الدين ولا عذر بها، فهم قد هدموا ركنًا من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، راضين لأنفسهم بأضعف الإيمان، وأنا لا أصدقهم حتى في هذه، إذ لا يخطر الباطل ولا المنكر لهم على بال حتى يغيروه بقلوبهم، وكيف يخطر المنكر ببالهم، وقد أصبح المنكر عندهم معروفًا، والباطل حقًا والشرك توحيدًا والبدعة سنّة، وعميت عليهم السبل واختلطت الحقائق؟ هم لا يذكّرون أمّة محمد، وإذا ذكروها لا يذكرونها بالقرآن كما أمر الله نبيّه، بل يذكرونها بمرغبات ومرهبات لم تأتِ على لسان صاحب الشريعة، ولم تتفق مع مقاصد شريعته، يزهدونها في العمل للآخرة بما شرعوه لها من أعمال بدعية، ويزهدونها في العمل للدنيا بما يفترون على رسول الله من أحاديث في ذم الدنيا وبما أثر عن شواذ الصوفية الهادمين لحقائق الدين ببدع التبتل الدعي، والانقطاع الكاذب عن الدنيا، وبذلك أضاعوا على الأمة

دينها ودنياها وأوصلوها إلى هذه الحالة التي نشاهدها اليوم، وما زال كثير منهم مصرًّا على تذكير الأمة بما ينسيها الله، وعلى علاج حمّاها بالطاعون. أرأيت لو كان علماء الدين قائمين بواجب التذكير بالقرآن، مؤدّين لأمانة الله، راعين لعهده في أمة واحدة، أكانت الأمة الإسلامية تصل إلى هذه الدركة التي لم تصل إليها أمّة؟ فهي كثيرة العدد تبلغ مئات الملايين، ولكنها غثاء كغثاء السيل. واجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلّما نشط الضلال وأن يسارع إلى نصرة الحق كلّما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمدّ مدّها، وتبلغ أشدّها، وقبل أن يتعوّدها الناس فترسخ جذورها في النفوس ويعسر اقتلاعها. وواجبه أن ينغمس في الصفوف مجاهدًا ولا يكون مع الخوالف والقعدة، وأن يفعل ما يفعله الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه، وأن يغشى مجامع الشرور لا ليركبها مع الراكبين بل ليفرّق اجتماعهم عليها. وواجبه أن يطهّر نفسه قبل ذلك كله من خلق الخضوع للحكّام والأغنياء وتملّقهم طمعًا فيما في أيديهم، فإن العفة هي رأس مال العالم فإذا خسرها فقد خسر كل شيء وخلفها الطمع فأرداه. إن علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادة من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى آداب خصوصية، منها أنهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخّطوا على الزمان وعلى الناس، ويتوكأون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمان، فإنها لا تصدق في كل زمان وهي: "إن العلم يؤتى ولا يأتي" وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابًا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك. فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح، ففي هذا الزمن يجب علي وعليك وعلى أفراد هذا الصنف أن نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم

لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين، وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوّة المغيرة على الأوطان الإسلامية، فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود، لأنها خفية المَسَارِب، غرّارة الظواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضيف فلا تلبث أن تطرد رب الدار ... فقد علماء الدين مركزهم يوم أضاعوا الفضائل التي هي سلاح العالم الديني، وأمهاتها الشجاعة والقناعة والعفة والصبر، وإن تجرّدهم من هذه الفضائل ليرجع في مبدإ أمره إلى خدعة من أمراء السوء المتسلطين حينما ثقلت عليهم وطأة العلماء وقيامهم بالواجب الديني في الأمر والنهي، وعلموا أن العامة تبع للعلماء، وأن سلطان العلماء أقوى من سلطانهم وأن كلمة مؤثرة من عالم مخلص تقع في مستقرّ التصديق من العامة قد تأتي على السلطان الحاكم المتسلّط، فسوّلت لهم أنفسهم أن يحدّوا من هذا التأثير الواسع القوي، فأخذوا يروّضون علماء الدين على المهانة، وألصقوا بهم الحاجة إلى ما في أيديهم من متاع الدنيا، ليجعلوا من ذلك مقادة يقودونهم بها إلى ما يهوون، ثم ربّوهم على الطمع والتطلعّ إلى الاستزادة ومدّ الأعين إلى زهرة الحياة الدنيا، فزلّوا ثم ضلّوا ثم ذلّوا، وتعاقبت الأجيال وتقلبت الأحوال، فإذا العالم الديني تابع لا متبوع، ومقود بشهواته لا قائد، يراد على العظائم فيأتيها طائعًا، يتحيّل على دين الله إرضاءً للمخلوق، ويحلّل ما حرّم الله من دماء وأموال وأعراض وأبشار، يشتري بذلك جاهًا زائلًا، وحائلًا حائلًا، ودراهم معدودة. ومن الكيد الكبار الذي رمى به الأمراء المستبدّون هؤلاء العلماء الضعفاء في العصور الأخيرة أنهم يعفونهم من الجندية التي هي حلية الرجال، وأن في قبول العلماء لهذا الإعفاء وسعيهم له لشهادة يسجّلونها على أنفسهم بفقد الرجولة، وقد استطابوا هذا الإعفاء وأصبحوا يعدّونه تشريفًا لهم وتنويهًا بمكانتهم ومعجزة خصّوا بها، ودليلًا تقيمه الحكومات الإسلامية على احترامها للعلماء ... فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين، ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلًا عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبّب له أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد. والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعدون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين. أيها العلماء: هذا قليل من مساوينا، فلا تظنّوا أني متجنٍّ أو متزيِّد، كونوا منصفين للدين من أنفسكم، إني أحاكمكم إلى ضمائركم حين تستييقظ فيها معاني الإرث النبوي والاستخلاف المحمدي. أليس من الحق أن هذه المساوئ وأمثالها معها مجتمعة فينا؟ ألسنا نأمر الناس

بالجهاد ثم نكون مع الخوالف؟ ونأمرهم ببذل المال في سبيل البر ثم نقبض أيدينا؟ كأن الجهاد بالنفس والمال- وهو ثمن الجنة- لم يكتب علينا. إنني- يا قوم- أعتقد أن أقسى عقوبة عاقبنا بها الله على خذلنا لدينه هي أنه جرّد كلامنا من القبول والتأثير، فأصبح كلامنا في اسماع الجيل القديم مستثقلًا وفي أسماع الجيل الجديد مسترذلًا، ومن ظن خلاف هذا فهو غر أو مغرور أو هما معًا. أصبحنا في أمتنا غرباء تزدرينا العيون، وتتقاذفنا الظنون، لأننا أصبحنا كالدراهم الزيوف، فيها من الدراهم استدارتها ونقوشها، وليس فيها جوهرها ومعدنها.

الشباب المحمدي

الشباب المحمّدي * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشباب في كلّ أمّة هم الدم الجديد الضامن لحياتها واستمرار وجودها، وهم الامتداد الصحيح لتاريخها، وهم الورثة الحافظون لمآثرها، وهم المصحّحون لأغلاطها وأوضاعها المنحرفة، وهم الحاملون لخصائصها إلى من بعدهم من الأجيال. كنا شبابًا فلما شبنا تلفّتنا إلى الماضي حنينًا إلى الشبيبة فرأينا أن الشباب هو الحياة التي لا يدرك قيمتها إلا من فارقها، ورأينا أخطاء الشباب من حيث لا يمكن تداركها، وسيصبح شباب اليوم شيوخ الغد، فيشعرون بما نشعر به نحن اليوم، وليت شعري إذا كان شيوخ اليوم هم شباب الأمس وشباب اليوم هم شيوخ الغد، فعلام هذه الشكوى المترددة بين الفريقين؟ ... وهذا التلاوم المتبادل بين الحبيبين؟ ... يشكو الشيوخ نزق الشباب وعقوقهم ونزواتهم الكافرة، ويشكو الشباب بطء الشيوخ وترددهم وتراجعهم إلى الوراء ونظرتهم إلى الحياة نظرة الارتياب. مهلًا أيها المتقاربان المتباعدان، فليس التفاوت بينكما كسبيًا يعالج، وليس النزاع بينكما علميًا يحكم فيه الدليل، ولكنه سنّة وتطوّر. كنا حيث أنتم، وستصبحون حيث نحن بلا لوم ولا عتاب، هما مرحلتان في الحياة ثم لا ثالثة لهما طويناهما كرهًا، وستطوونهما كرهًا، والحياة قصيرة وهي أقصر من أن نقطعها في لوم أو نقطعها بنوم. ليحرص الشباب على أن يكونوا كمالًا في أمّتهم لا نقصًا، وأن يكونوا زينًا لها لا شينًا، وأن يضيفوا إلى تليد مكارمها طريفًا، وإلى قديم محاسنها جديدًا، وأن يمحوا كل سيئة لسلفهم بحسنة.

_ * كلمة صدرت في كتاب "وصايا أساطين الدين والأدب والسياسة للشبّان" للشيخ عبد الله المزروع، دار المنارة، جدّة، 1992.

والشباب المحمّدي أحقّ شباب الأمم بالسبق إلى الحياة، والأخذ بأسباب القوة، لأنّ لهم من دينهم حافزًا إلى ذلك، ولهم في دينهم على كل مكرمة دليل، ولهم في تاريخهم على كل دعوى في الفخار شاهد. أعيذ الشباب المحمدي أن يشغل وقته في تعداد ما اقترفه آباؤه من سيئات أو في الافتخار بما عملوه من حسنات، بل يبني فوق ما بنى المحسنون، وليتق عثرات المسيئين. وأعيذه أن ينام في الزمان اليقظان، أو يهزل والدهر جادّ، أو يرضى بالدون من منازل الحياة. يا شباب الإسلام، وصيتي إليكم أن تتصلوا بالله تديّنًا، وبنبيّكم اتّباعًا، وبالإسلام عملًا وبتاريخ أجدادكم اطّلاعًا، وبآداب دينكم تخلّقًا، وبآداب لغتكم استعمالًا، وبإخوانكم في الإسلام ولِداتكم في الشبيبة اعتناءً واهتمامًا، فإن فعلتم حزتم من الحياة الحظ الجليل، ومن ثواب الله الأجر الجزيل، وفاءت عليكم الدنيا بظلها الظليل. مكّة المكرمة في 1 صفر الخير 1372هـ.

الشيخ محمد نصيف

الشيخ محمّد نصيف * أيها الإخوان: إن هذه الحفلات التي تقام لتوديع الأصدقاء أو لاستقبالهم، وغير هذا من المناسبات الاجتماعية، هي من دواعي الفِطر السليمة والنفوس الكريمة، وإن الصداقة قد تخمد والمودة قد تركد وإنما يصقلها ويجددها مثل هذه الحفلات ... وإن إقامة هذه الحفلات ليست من ابتكار المدنية الغربية، وإنما قد سبقتهم إليها مدنية الإسلام، وإن الذين ابتكروها هم الأسلاف من أهل الأندلس، وقد سمّوها "صنيعًا". أيها الإخوان: رؤوس الأموال أنواع، وحظوظ الناس منها متفاوتة: منها المادي الذي يُقدّر بخصائص الماديات من الكيل والوزن، أو بالذرع والمسح، أو بالعدد الذي كلّما انتهى صارت ملايينه آحادًا، ومنها المعنوي الروحاني الذي يقاس بالموازين الروحية، وُيوازَن بالقيم العلوية بمعرفة صيارفة من طراز سماوي يتسامى عن المادة وأوضارها وأكدارها وشرورها وآثامها، ولو خُيِّر موفق بين الجنسين لما اختار المادّة وإن تعرّضت بزخارفها، وعرضت بقطوفها الدانية لخارفها، وإنما يختار أقوات الروح من المعنويات، ولكن الأذواق كالأرزاق منها الحلال ومنها الحرام، ومنها السالم والمعتلّ، ومنها السديد والممتل، إن الموفقين لَيعرفون أن رؤوس الأموال المادية كرؤوس الشياطين، تتحرّك قرونها للفتنة والشرّ، ويستمس حرونها للفساد والضرّ، وقد صرنا إلى زمان أصبحت فيه رؤوس الأموال المادية مبعث شقاء للإنسانية، وكفى بحال العالَم اليوم شاهدًا أدّى وسجل وأمن التجريح.

_ * من الكلمة التي أُلقيت في الحفل العلمي التكريمي الذي أقامه الشيخ محمد نصيف ببيته في جدّة، في أكتوبر 1952، بمناسبة انتهاء زيارة الإمام الإبراهيمي للمملكة العربية السعودية. ونشر ملخص منها في مجلة "المنهل"، العدد 4، ربيع الثاني 1372هـ، يناير 1953م.

أيها الإخوان: من سعادة أخيكم هذا أنّ حظّه من هذه الثروة المعنوية موفور، وأنه يكاثر بها ويفاخر، ويعتزّ بها ويغالي، ويعتدّ ويقالى، وحَسْبُه من الحظوظ في الحياة أن يكون له أصدقاء أصفياء من هذا الطراز، يصدقونه المحبّة، والمحبّةُ ملاك، ويصدقونه الهوى، والهوى مساك، ويمحضونه التقدير، والتقدير مسنّ، ويشاركونه في المبدإ، والمبادئ أرحام عند أهلها، وما لي لا أكون موفور الحظ من هذه الثروة وهؤلاء الإخوان الّذين أجتلي غررهم، وكأنّما أستشف من وراء الغيب سرائرهم، ما اجتمعوا إلّا بسائق واحد ليس من حدائه نغم الرغبة والرهبة، ولا هرج الرياء والنفاق، وإنما هو الوداد الخالص والصفاء الصافي، والتكريم لأخ أحبّهم وأحبّوه في المشهد والمغيب، والتقوا به في ميدان القلم بعيدًا وفي ميدان اللسان قريبًا، فكان بين أرواحهم وروحه تجاوب هو من أثر يد الله في الأرواح المتعارفة. أيها الإخوان: إن من مذاهبي التي انْتَهتْ بي تجارب الحياة إليها أنني لا أفهم الصداقة كما يفهمها الناس، وإنما أفهمها امتزاجًا فكريًا سَبَّبتْهُ عوامل خفية المسارب في الجبلة الأولى، ولذلك فأنا أفهم أنّ الصداقة لا تزول ولا تنتهي بعداوة من الجانبين، فإن انتهت بعداوة من الطرفين دلّ ذلك على أنها ليست صداقة، وإنّما هي شيء مقنّع يُسمّيه العرف المنافق المتساهل صداقة وليس بها، إنما هو تجارة انتهت بانتهاء المصلحة، أو زواج متعة انتهى بانتهاء الأجل، أما الصداقة الطاهرة البريئة فهيهات أن تنتهي بعداوة، ولقد يعرف منّي إخواني الملابسون لي أنّي لم أعاد في عمري صديقًا، فإذا بادأني بالعداوة لم أجاره في ميدانها خطوة، ووكلته إلى الزمان الذي يقيم الصعر، فإذا هو تائب منيب أو خجلان متستر، وقد يسبّني أقوام بما ليس فيّ، فلا أقطع عنهم عادة من عوائد البر والرفق لعلمي أنّهم إنما يسبون غيري بعد أن يلبسوه اسمي، وإن هذا لمن طوابع التربية المحمّدية، بين أتباع سنّته، عبّر عنها بجُملة من جوامع كلمه: إنهم يقولون مذمم وأنا محمّد. أيها الإخوان: لقد سمعت كلمات من بعض خطباء هذا الحفل وأنا غير راض بها ولا عنها، وأنا كنتُ- وما زلتُ- أحارب هذه الألقاب، وقد سمعنا من شوقي قوله: "إذا كثر الشعراء قلَّ الشعر"، وعلى هذا الوزن يصحّ أن نقول: إذا كثر المجاهدون قلَّ الجهاد. إن المجاملات لا تكون إلا حيث يكون الضعف، وإن هذه الألقاب لا تتمكن إلا حيث تفقد المناعة الخلقية المتينة، ولذلك لا نجدها عند أسلافنا الذين قوي في نفوسهم سلطان الأخلاق، وما نبتت هذه المجاملات إلا في العصور الإسلامية المتأخرة حينما وقف تيار العلم والخلق، وضعفت دولة السيف والقلم، قادتهم هذه الحالة إلى التمَجُّد الأجوف بالكلمات الضخمة الجُوفِ، ولذلك كثرت الألقاب وصرنا نسمع هذه "الطغراء": الكاتب الكبير، المجاهد العظيم، الزعيم الكبير ...

إنني لم أكن مجاهدًا، وإذا كنتُه ففي شيء واحد هو محاربة البدع والضلالات ومحو الأمية، وتعليم الأمة، وهذه الأمور عادية لا ترفع القائم بها إلى مستوى الجهاد. وحقًا إن الألقاب التي اعتدنا استعمالها إنما هي "طغراءات" جوف لا تحقق أمنية ولا تؤدي إلى غاية شريفة. إن عبد الحميد بن باديس كان إمامًا في العلم والتواضع ومع ذلك فما كان إخوانه يخاطبونه بشيء من ألقاب الزعامة الفضفاضة. والذي أستحسنه هو أن يتخاطب المسلمون فيما بينهم بكلمة "الأخ"، أخْذًا من قوله تعالى: {إِنَّمَا ائمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. ... أيها الإخوان: إنّ مِن بين الأصدقاء الذين جمعتهم الصداقة في هذا الحفل الصادق ثلاثة قدم عهدي بصداقتهم فلم يزدد إلّا جدة: هم الأصدقاء المخلصون محمود شويل، وحسونة البسطي، ومحمد نصيف، فقد جمعنا الشباب الطامح والأمل اللامح بالمدينة المنورة منذ أربعين سنة، وتجاذبنا ملاءة العلم فضفاضة، وتنازعنا كأس الأدب روية، وزجّينا الأيام بالآمال العذاب، ولكننا نمنا في يقظة الدهر فما استيقظنا إلّا وبعضنا مشرّق وبعضنا مغرّب، وبعضنا في مدار الحوادث يُدارُ به ولا تدور، وها نحن أولاء اجتمعنا بعد بضع وثلاثين سنة، وكأنّ خاتمة الفراق وفاتحة التلاق خميس وجمعة لهما ما بعدهما، وكأنّ ما بينهما من هذه المدّة الطويلة انطوى ومحي، وكأنّ الذكريات بينهما حبال ممدودة أو سلاسل مشدودة، وكأننا لم نفترق لحظة، وكأنّ تلك الصداقة الصادقة بيننا شباب أمن الهرم، كما أمن الصيد حمام الحرم. ايه أيها الرفاق، هل تذكرون ما أذكر من تلك الليالي التي كانت كلها سمرًا كما قالوا في ليل منبج؟ هل تشعرون بما أشعر به من تفاوت بين تاريخ الفراق وتاريخ التلاق؟ هل تشعرون كما أشعر بأننا كنا في هذا الفراق الطويل أشبه بالميت أغمض عينيه عن الدنيا وفتحهما على الآخرة؟ هل تحسّون كما أحسّ بأنّ مدّة الافتراق كانت صفحات كلها عبر ووخز إبَر، وجُمَل من الحوادث سمعنا بمبتداها وما زلنا في انتظار الخبر؟ .. هل أنتم شاعرون مثلي بأنّ آمال المسلمين، من يوم تركناها بالافتراق إلى يوم لقيناها بالاجتماع، تحققت ولكن بالخيبة، وأن أعمالهم نجحت ولكن بالفشل، أما آمالهم فما زالت كموتًا يسقيه وعد، وأما أعمالهم فما زالت إبلا يوردها سعد {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. ايه أيها الرفاق: إن الزمان فرّقنا شبابًا وجمعنا شيبًا، ولئن أساء لي هذا فلقد أحسن في أننا اجتمعنا أصلب ما كنّا قناةً في عقيدة الحق، وأجرى ما كنّا أئسِنَةً في كلمة الحق، وأجرأ

ما كنا رأيًا في تأييد الحق، وأثبت ما كنا عزيمةً في الدفاع عن الحق. إنّ الهمم لا تشيب وإن العزائم لا تهرم، وليس هذا البياض غبار وقائع الدهر كما يقول الشاعر، وإنما هو غبار الوقائع مع الدهر، فلا تهنوا ولا تفشلوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. ... أيها الإخوان: إنّي أتوسّمُ في هذه الوجوه وأتلمّحُ ما وراءها من علم ومكارم، لا أقول فيهما بالتقليد ولكنني خبرت وبلوت فاجد مصداق الحديث، هذه مكّة رمت إليكم بأفلاذ كبدها، بل أقول هذا الحجاز رمى إليكم بأفلاذ كبده، ومَن غير أستاذنا الجليل محمد نصيف يستطيع أن يجمع العالم في دار، أو يدّخر كنزًا ثمينًا تحت جدار، ومن عجب أن القضيتين متعاندتان: فالذي يستطيع أن يجمع عالمًا في دار لا يستطيع أن يجمع كنزًا تحت جدار، وما دامت الموائد تُنصب، واللقم ترفع، والصحون تُجرّ، والأفواه تفتح وتضم، والطعام كرات، والملاعق مخاريق بأيدي لاعبينا، فإن حال أستاذنا معنا حال أبي دلامة من شيوخ بني تميم إذ يقول: نحن شيوخ بني تميم ... وأنت- يا أستاذنا- أبو دلامة، فاجهد جهدك، وان شيوخ بني تميم موفون بعهدهم فاوفِ بعهدك، وإن هذه الدار مهدنا فإنْ برمت أو ضجرت فاجعل غيرها مهدك. وإن دار الشيخ نصيف لم تبرم بنا ولم تضجر، فأعانك الله على هذا الجند أيها الشيخ الحصيف الكريم. أيها الإخوان: إذا ما لم ينصف الحجاز شيخه ومخلد مجده ورافع رايته أستاذنا الشيخ نصيفا، فإن العالم الإسلامي كله ينصفه، فكلنا أَئسِنة شاهدة بأنّه مجموعة فضائل نعدّ منها ولا نعدّدها، وانه مجمع يلتقي عنده علماء الإسلام وقادته وزعماؤه فيردون ظماء ويصدرون رواء، وإنني أقولها بصيحة صريحة وأؤدّيها شهادة للحق والتاريخ بأنّه محيي السنّة في الحجاز من يوم كان علماؤه- ومنهم أشياخنا- متهورين في الضلالة، وأنه صنع للسلفية وإحياء آثارها ما تعجز عنه الجمعيات بل والحكومات، وانه أنفق عمره وماله في نصرها ونشرها، في هدوء المخلصين وسكون الحكماء، وسيسجّل التاريخ العادل آثاره في عقول المسلمين، وسيشكر له الله غزوه للبدع بجيوش السنن المتمثلة في كتبها وعلوم أئمتها، وجمعية العلماء نفسُها مَدِينة له، فإن الكتب السلفية لم تصلنا إلا عن يده، وسيسجّل أنه مفخرة من مفاخر الإسلام وأنه كفّارة عن تقصير العلماء، وانه زهرة فوّاحة في أرض الحجاز وأنه جماله الذي يغطّي كل شين. إني كنتُ قلت في الشيخ نصيف أبياتًا منها: قُئ لِلَّذِي عَابَ ائحِجَا … زَ وَجَانَبَ ائمَثَلَ ائحَصِيفَا هَيْهَاتَ لَسْتَ بِبَالِغِ … مُدَّ ائحِجَازَ وَلَا "نَصِيفَا"

إلى علماء نجد

إلى علماء نجد * قال- رحمه الله- مخاطبًا بعض علماء نجد: ــــــــــــــــــــــــــــــ إِنَّا إِذَا مَا لَيْلُ نَجْدٍ عَسْعَسَا … وَغَرَبَتْ هَذِي ائجَوارِي خُنَّسَا 1 وَالصُّبْحُ عَنْ ضِيَائِهِ تَنَفَّسَا … قُمْنَا نُؤَدِّي ائوَاجِبَ ائمُقَدَّسَا وَنَقْطَعُ ائيَوْمَ نُنَاجِي الطُّرُسَا … وَنَنْتَحِي بَعْدَ ائعِشَاءِ مَجْلِسَا 2 مُوَطَّدًا عَلَى التُّقَى مُؤَسَّسَا … فِي شِيخَةٍ حَدِيثُهُمْ يَجْلُو ائأَسَى 3 وَعِئمُهُمْ غَيْثٌ يُغَادِي ائجُلَسَا … كَأَنَّنَا شَرْبٌ يَحُثُّ ائأَكْؤُسَا 4 مِنْ خَمْرَةِ ائآدَابِ عَبًّا وَاحْتِسَا … خَلَائِقٌ زُهْرٌ تُنِيرُ ائغَلَسَا 5 وَهِمَمٌ غُرٌّ تَعَافُ الدَّنَسَا … وَذِمَمٌ طُهْرٌ تُجَافِي النَّجَسَا يُحْيُونَ فِينَا مَالِكًا وَأَنَسَا … وائأَحْمَدَيْنِ وَائإِمَامَ ائمُؤْتَسَا 6 قَدْ لَبِسُوا مِنْ هَدْيِ طَهَ مَئبَسَا … ضَافٍ عَلَى ائعَقْلِ يَفُوقُ السُّنْدُسَا 7 فَسَمْتُهُمْ مِنْ سَمْتِهِ قَدْ قُبِسَا … وَعِئمُهُمْ مِنْ وَحْيِهِ تَبَجَّسَا 8 ...

_ * وضع هوامش هذه الأرجوزة والتي تليها الأستاذ الشيخ الجيلالي الفارسي رحمه الله وهو من أعضاء جمعية العلماء الجزائريين. 1) عسعس الليل: مضى؛ أظلم. الجواري: الكواكب السيارة. الخنس: الرواجع، ج. خانس أي راجع. 2) الطروس، ج. طِرس: الصحيفة، والمُراد بها الكتب، وحذف الواو للضرورة. 3) الشَيخة، ج. شيخ. الأسى: الحزن. 4) الشَّرْبُ، ج. شارب: كصحب وصاحب. 5) العَبُّ: الشرب بلا تنفس. الاحتساء: الشرب شيئًا بعد شيء. الغَلَسُ: ظُئمَةُ آخر الليل. 6) يريد بالأحمدين: الإمام أحمد بن حنبل (780 - 855م.) والإمام تقي الدين أحمد بن تيمية (1263 - 1328م.) والإمام المؤتسى هو الإمام محمد ابن عبد الوهاب (1703 - 1787م.) وهو مؤسس الحركة السلفية الوهابية. المؤتَسى: المقتدى به. 7 (السندس: نوع من الحرير. 8) السمت: هيئة أهل الخير. تبجَّس: تفجر.

بُورِكْتِ يَا أَرْضًا بِهَا الدِّينُ رَسَا … وَأَمِنَتْ آثارُهُ أَنْ تَدْرُسَا وَالشِّرْكُ فِي كُلِّ ائبِلَادِ عَرَّسَا … جَذْلَانَ يَتْلُو كُتْبَهُ مُدَرِّسَا 9 مُصَاوِلًا مُوَاثِبًا مُفْتَرِسَا … حَتَّى إِذَا مَا جَاءَ جَئسًا جَلَسَا 10 مُنْكَمِشًا مُنْخَذِلًا مُقْعَنْسِسَا … مُبَصْبِصًا قِيلَ لَهُ اخْسَأْ فَخَسَا 11 شَيْطَانُهُ بَعْدَ ائعُرَامِ خَنَسَا … لَمَّا رَأَى إِبْلِيسَهُ قَدْ أَبْلَسَا 12 وَنُكِّسَتْ رَايَاتُهُ فَانْتَكَسَا … وَقَامَ فِي أَتْبَاعِهِ مُبْتَئِسَا مُخَافِتًا مِنْ صَوْتهِ مُحْتَرِسَا … وَقَالَ إِنَّ شَيْخَكُمْ قَدْ يَئِسَا مِنْ بَلَدٍ فِيهَا ائهُدَى قَدْ رَأَسَا … وَمَعْلَمُ الشِّرْكِ بِهَا قَدْ طُمِسَا وَمَعْهَدُ ائعِئمِ بِهَا قَدْ أُسِّسَا … وَمَنْهَلُ التَّوْحِيدِ فِيهَا انْبَجَسَا 13 إِنِّي رَأَيْتُ "وَائحِجَى لَنْ يُبْخَسَا" … شُهْبًا عَلَى آفَاقِهِ وَحَرَسَا فَطَاوِلُوا ائخَئفَ وَمُدُّوا ائمَرَسَا … وَجَاذِبُوهُمْ إِنْ أَلَانُوا ائمَئمَسَا 14 لَا تَيْأَسُوا: وَإنْ يَئِسْتُ: فَعَسَى … أَنْ تَبْلُغُوا بِائحِيلَةِ ائمُئتَمَسَا وَلَبِّسُوا إِنَّ أَبَاكُمْ لَبَّسَا … حَتَّى يَرَوْا ضَوْءَ النَّهَارِ حِنْدِسَا 15 وَالطَّامِيَاتِ الزَّاخِراتِ يَبَسَا … وَجَنِّدُوا جُنْدًا يَحُوطُ ائمَحْرَسَا 16 مَنْ هَمُّهُ فِي ائيَوْم أَكْلٌ وَكِسَا … وَهَمُّهُ بِاللَّيْل خَمْرٌ وَنِسَا وَفِيهِمُ حَظٌّ لَكُمْ مَا وُكِسَا … وَمَنْ يَجِدْ تُرْبًا وَمَاءً غَرَسَا 17 تَجَسَّسُوا عَنْهُمْ فَمَنْ تَجَسَّسَا … تَتَبَّعَ ائخَطْوَ وَأَحْصَى النَّفَسَا تَدَسَّسُوا فِيهِمْ فَمَنْ تَدَسَّسَا … دَانَ لَهُ ائحَظُّ ائقَصِيُّ مُسْلِسَا 18 وَأَوْضِعُوا خِلَالَهُمْ زَكًى خَسَا … وَاخْتَلِسُوا فَمَنْ أَضَاعَ ائخُلَسَا 19 تَئقَوْنَهُ فِي ائأُخْرَيَاتِ مُفْلِسَا … أَفْدِي بِرُوحِي التَّيِّهَانَ الشَّكِسَا 20

_ 9) عرّس بالمكان: نزل به لاستراحة من السفر والمراد هنا أقام. 10) جَئسٌ: بلاد نجد (قاله في القاموس). 11) المقعنسس: من خرج صدره ودخل ظهره. بصبص الكلب: حرّك ذنبه. اخْسَأْ: اذْهَبْ؛ اُبْعُدْ. 12) العُرام: الشراسة والأذى. أَبْلَسَ: يئس. 13) انبجس: انفجر. 14) المَرَسُ، ج. مَرَسَةٍ: الحبل- فالمرس: الحبال. 15) الحِنْدِسُ: الظلمة، ج. حنادس. 16) الطاميات: الممتلئات. الزاخرات: المرتفعات، وهما وصفان لموصوف محذوف تقديره: والبحار الطاميات الخ. المحرس: مكان الحراسة، وأراد به الشخص المحروس مجازًا من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه، وقد أبدل منه قوله: مَنْ همه الخ. 17) الوكْس: النقص، ما وكس: ما نقص. 18) دسّ عليه وتَدَسَّسَ: اعمل المكر فيه. 19) أوْضَعَ: أسرع. الزَّكَا: العَدَدُ الزوجُ. الخَسَا: العَدَدُ الفردُ. 20) التيهان: المتكبر. الشكس: الصعب الخلق.

يَغْدُو بِكُلِّ حَمْأَةٍ مُرْتَكِسَا … وَمَنْ يَرَى ائمَسْجِدَ فِيهِمْ مَحْبِسَا 21 وَمَنْ يُدِيلُ بِائأَذَانِ ائجَرَسَا … وَمَنْ يَعُبُّ ائخَمْرَ حَتَّى يَخْرَسَا 22 وَمَنْ يُحِبُّ الزَّمْرَ صُبْحًا وَمَسَا … وَمَنْ يَخُبُّ فِي ائمَعَاصِي مُوعِسَا 23 وَمَنْ يَشِبُّ طِرْمِذَانًا شَرِسَا … وَمَنْ يُقِيمُ لِئمَخَازِي عُرُسَا 24 ... يَا عُمَرَ ائحَقِّ وُقِيتَ ائأَبْؤُسَا … وَلَا لَقِيتَ "مَا بَقِيتَ" ائأَنْحُسَا 25 لَكَ الرِّضَى إِنَّ الشَّبَابَ انْتَكَسَا … وَانْتَابَهُ دَاءٌ يُحَاكِي ائهَوَسَا 26 وَانْعَكَسَتْ أَفْكَارُهُ فَانْعَكَسَا … وَفُتِحَتْ لَهُ ائكُوَى فَأَسْلَسَا 27 فَإِنْ أَبَتْ نَجْدٌ فَلَا تَأْبَى ائحَسَا … فَاقْسُ عَلَى أَشْرَارِهِمْ كَمَا قَسَا 28 سَمِيُّكَ ائفَارُوقُ (فَالدِّينُ أُسَى) … نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ ائفَتَى وَمَا أَسَا 29 غَرَّبَهُ إِذْ هَتَفَتْ بِهِ النِّسَا … وَلَا تبَالِ عَاتِبًا تَغَطْرَسَا أَوْ ذَا خَبَالٍ لِئخَنَا تَحَمَّسَا … أَوْ ذَا سُعَارٍ بِالزِّنَى تَمَرَّسَا 30 شَيْطَانُهُ بِائمُنْدِيَاتِ وَسْوَسَا … وَلَا تُشَمِّتْ مِنْهُمُ مَنْ عَطَسَا 31 وَلَا تَقِفْ بِقَبْرِهِ إِنْ رُمِسَا … وَلَا تَثِقْ بِفَاسِقٍ تَطَيْلَسَا فَإِنَّ فِي بُرْدَيْهِ ذِئْبًا أَطْلَسَا … وَإنْ تَرَاءَ مُحْفِيًا مُقَئنِسَا فَسَئ بِهِ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ ائأَمْلَسَا … تَأَمْرَكَ ائمَئعُونُ أَوْ تَفَرْنَسَا 32 ...

_ 21) الحَمْأة: الطين الأسود، والمراد بها: الرذائل والأوساخ. المرتكس: المنتكس المنغمس. 22) يَعُبُّ: يشرب بلا تنفس. 23) يخُب: يهرول. مُوعِس: سارَ في الرمل. 24) الطَرْمِذَانُ: المباهي، المفاخر. 25) الأبؤُس، ج. بؤس: الشدة والفقر. الأنحُس، ج نحس: ضد السعد. 26) الهَوَسُ: ضرب من الجنون. 27) أسْلس: انقاد. 28) الحسا: بَلَدٌ بنجد. 29) ائأُسَى، ج. أسوة: وهي القدوة. نصر بن حجاج الخ. يشير إلى قصة عُمر - رضي الله عنه - مع هذا الشاب الجميل الذي فتن الحسناوات بجماله، فقد رُوي أن عمر بن الخطاب كان ذات ليلة يعُسُّ بالِمدينة المنوّرة فسمع امرأة تقول: أَلَا سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا … أَمْ لَا سَبيلٌ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاج فلمَّا أصبح استدعاه، فإذا هو أصبحُ الناس وجهًا وأحسنُهم شَعَرًا. فأمر بقصّ شعره. فبدا حسنه. فأمر أن يُعْتَمَّ فازداد حسنًا. فقال عمر: والله لا يقيم بأرض أنا فيها. وأمر له بما يُصلحه وسيَّره إلى البصرة. 30) الخبال: الفساد. الخَنَا: الفُحْشُ. السُّعار: الحرُّ، شدة الجوع والعطش. 31) المُنْدِيات، ج. مُنْدِيةٍ: الكلمة القبيحة يندى لها الجبين حياءً. 32) ذو الطفيتين: نوع من الحيات الخبيثة. تأمرك: صار امريكيًا. تفرنس: صار فرنسيًا.

يَا شَيْبَةَ ائحَمْدِ رَئِيسَ الرُّؤَسَا … وَوَاحِدَ ائعَصْرِ ائهُمَامَ ائكَيِّسَا وَمُفْتِيَ الدِّينِ الَّذِي إِنْ نَبَسَا … حَسِبْتَ فِي بُرْدَتِهِ شَيْخَ نَسَا 33 رَاوِي ائأَحَادِيثِ مُتُونًا سُلَّسَا … غُرًّا إِذَا الرَّاوِي افْتَرَى أَوْ دَلَّسَا وَصَادِقَ ائحَدْسِ إِذَا مَا حَدَسَا … وَمُوقِنَ الظَّنِّ إِذَا تَفَرَّسَا وَصَادِعًا بِائحَقِّ حِينَ هَمَسَا … بِهِ ائمُرِيبُ خَائِفًا مُخْتَلِسَا وَفَارِسًا بِائمَعْنَيَيْنِ اقْتَبَسَا … غَرَائِبًا مِنْهَا إِيَاسُ أَيِسَا بِكَ اغْتَدَى رَبْعُ ائعُلُومِ مُونِسَا … وَكَانَ قَبْلُ مُوحِشًا مُعَبِّسَا ذَلَّئتَهَا قَسْرًا وَكَانَتْ شُمُسَا … فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ الزُّلَالِ ائمُحْتَسَا 34 فَتَحْتَ بِائعِئمِ عُيُونًا نُعَّسَا … وَكَانَ جَدُّ ائعِئمِ جَدًّا تَعِسَا 35 وَسُقْتَ لِئجَهْلِ ائأُسَاةَ النُّطُسَا … وَكَانَ دَاءُ ائجَهْلِ دَاءً نَجَسَا 36 رَمَى بِكَ ائإِئحَادَ رَامٍ قَرْطَسَا … وَوَتَرَتْ يَدُ ائإِلَهِ ائأَقْوُسَا 37 وَجَدُّكَ ائأَعْلَى اقْتَرَى وَأَسَّسَا … وَتَرَكَ التَّوْحِيدَ مَرْعِيَّ ائوَسَا 38 حَتَّى إِذَا الشِّرْكُ دَجَا وَاسْتَحْلَسَا … لُحْتَ فَكُنْتَ فِي الدَّيَاجِي ائقَبَسَا 39 وَلَمْ تَزَئ تَفْرِي ائفَرِيَّ (سَائِسَا) … حَتَّى غَدَا اللَّيْلُ نَهَارًا مُشْمِسَا 40 يَا دَاعِيًا مُنَاجِيًا مُغَلِّسَا … لَمْ تعْدُ نَهْجَ ائقَوْمِ بِرًّا وَائْتِسَا 41 إِذْ يُصْبِحُ الشَّهْمُ نَشِيطًا مُسْلِسَا … وَيُصْبِحُ ائفَدْمُ كَسُولًا لَقِسَا 42 كَانَ الثَّرَى بَيْنَ ائجُمُوعِ مُوبِسَا … فَجِئْتَهُ بِالغَيْثِ حَتَّى أَوْعَسَا 43

_ 33) شيخ نسا: يريد الإمام النسائي صاحب السنن (215 - 303هـ). 34) قسرًا: قهرًا. الشُّمُس، بضم الشين والميم، ج. شموس، بفتح الشين: وهو الفرس الصعب الذي لا يُمكِّن من الركوب. 35) الجَدّ، بالفتح: الحظ. 36) الأساة، ج. آس: الطبيب. النطس: الحذاق الماهرون. 37) قرطس: أصاب المرمى. وتر القوس: جعل لها وترًا، شَدَّ وترها، الأقوس: ج. قوس. 38) جدك الأعلى: لعله يريد به محمد بن عبد الوهاب؛ اقترى البلادَ: تتبّعها وطاف فيها؛ الوَسَا: أراد الوسائل فحذف للضرورة. 39) دجا الليل: أظلم، استحلس: اشتدّ ظلامه. 40) يقال فلان يفري الفرى: أي يأتي بالعجب في عمله؛ ومنه قوله تعالى {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي شيئًا يتَحَيَّرُ فيه ويُتَعَجَّبُ منه؛ وسائسًا: كلمة تممنا بها الشطرَ وليست من كلام الشيخ وهي مناسبة. 41) الغلس: ظلمة آخر الليل؛ أي داعيًا مناجيًا بالأسحار، البر: الخير والصلاح، الائتساء: الاقتداء. 42) الشهم: السيد الذكي الفؤاد؛ المسلس: اللين السهل، الفدم: البليد العَيِيُ، اللَّقِس: الغث النفس خبيثها. 43) أوعس: صار سهلًا ليّنًا، والوعس: الرمل اللين الذي تسوخ فيه الاْقدام.

قُئ لِئأُلَى قَادُوا الصُّفُوفَ سُوَّسَا … خَلُّوا الطَّرِيقَ لِفَتًى مَا سَوَّسَا 44 وَطَأْطِئُوا ائهَامَ لَهُ وَائأَرْؤُسَا … إِنَّ النَّفِيسَ لَا يُجَارِي ائأَنْفَسَا ... وَيَا رَعَى اللهُ ُسُعُودًا وَكَسَا … دَوْلَتَا ائعِزَّ ائمَكِينَ ائأَقْعَسَا 45 أَحْيَى ائمُهَيْمِنُ بِهِ مَا انْدَرَسَا … مَنِ ائحُدُودِ أَوْ وَهَى وَانْطَمَسَا وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ ائمَدَى تَنَفَّسَا … حَتَّى أَرَاهُ بَالِغًا أَنْدَلُسَا 46 أَعْطَاهُ مُئكًا مِثْلُهُ لَمْ يُؤْنَسَا … لَمْ يُعْطِهِ كِسْرَى وَلَا ائمُقَوْقِسَا مِنْ دَوْحَةٍ غَرَسَهَا مَنْ غَرَسَا … فَبَسَقَتْ فَرْعًا وَطَابَتْ مَغْرِسَا لَاذَ بِهِ ائعُرْبُ فَوَاسَى وَأَسَا … وَبَذَلَ ائمَالَ وَحَاطَ ائأَنْفُسَا غَيْثٌ إِذَا قَطْرُ السَّمَاءِ انْحَبَسَا … لَيْثٌ إِذَا اللَّيْثُ انْثَنَى وَانْخَنَسَا 47 وَأَيْنَ لَيْثٌ لِئوُحُوشِ انْتَهَسَا … مِمَّنْ حَبَا الآلَافَ مَالًا وَكَسَا 48 وَقَاهُ رَبِّي كُلَّ مَا ضَرَّ وَسَا … وَدَامَ مَا قَرَّ ثَبِيرٌ وَرَسَا 49

_ 44) الألى: الذين؛ سُوَّسَا، ج. سائس، وسوَّس الأخير: فعل ماض، يقال: سوّس الطعام: وقع فيه السوس، وتسويس الشخص: كِنايَة عن كبره وهرمه، يقول: خلوا الطريق لفتى لا يزال جلدًا قويًا لم يبلغ من الكبر عتيًا ولم ينخر السوس عظمه من الهرم. 45) الأقعس: الثابت المنيع. 46) المدى: الغاية والمنتهى؛ تنفس الصبح: أشرق وأضاء؛ وتنفس العمر: طال. يقول- رحمه الله-: أتمنى لو أن حياتي تطول حتى أرى ملكه قد بلغ الأندلس. 47) انخنس: رجع. 48) انتهس الليثُ: أخذ اللحم بمقدّم أسنانه؛ حبا: أعطى. 49) وسا: أصله وساء فقصره ضرورة؛ ثبير: اسم جبل.

تعليم البنت

تعليم البنت * قَدْ كُنْتُ فِي جِنِّ النَّشَاطِ وَائأَشَرْ … كَأَنَّنِي خَرَجْتُ عَنْ طَوْرِ ائبَشَرْ 1 وَكُنْتُ نَجْدِىَّ ائهَوَى مِنَ الصِّغَرْ … أَهِيمُ فِي بَدْرِ الدُّجَى إِذَا سَفَرْ وَأَتْبَعُ الظَّبْيَ إِذَا الظَّبْيُ نَفَرْ … أَنْظِمُ إِنْ هَبَّ نَسِيمٌ بِسَحَرْ مَا رَقَّ مِنْ شِعْرِ ائهَوَى وَمَا سَحَرْ … وَأَقْطَعُ اللَّيْلَ إِذَا اللَّيْلُ اعْتَكَرْ فِي جَمْعِ أَطْرَافِ ائعَشَايَا وَائبُكَرْ … وَإنْ هَوَى نَجْمُ الصَّبَاحِ وَانْكَدَرْ لَبَّيْتُ مَنْ أَعْلَى النِّدَاءَ وَابْتَدَرْ … ثُمَّ ارْعَوَيْتُ بَعْدَ مَا نَادَى ائكِبَرْ 2 وَأَكَّدَتْ شُهُودُهُ صِدْقَ ائخَبَرْ … وَكَتَبَ الشَّيْبُ عَلَى الرَّأْسِ النُّذُرْ بَاكَرَنِي فَكَانَ فِيهِ مُزْدَجَرْ … فَلَسْتُ أَنْسَى فَضْلَهُ فِيمَا حَجَرْ 3 وَلَسْتُ أَنْسَى وَصْلَهُ لِمَنْ هَجَرْ … أَكْسَبَنِي مَا يُكْسِبُ ائمَاءُ الشَّجَرْ حُسْنًا وظِلًّا وَلحَاءً وَثَمَرْ … طَبَعَنِي عَفْوًا وَمِنْ غَيْرِ ضَجَرْ 4 عَلَى صِفَاتٍ أَشْبَهَتْ نَقْشَ ائحَجَرْ … عَقِيدَتِي فِي الصَّالِحَاتِ مَا أُثِرْ عَنْ أَحْمَدٍ وَمَا تَرَامَى وَنُشِرْ … مِنْ سِيَرٍ أَعْلَامُهَا لَمْ تَنْدَثِرْ وَسُنَنٍ مَا شَانَ رَاوِيهَا ائحَصَرْ … قَدْ طَابَقَتْ فِيهَا ائبَصِيرَةُ ائبَصَرْ 5 وَمَا أَتَى عَنْ صَحْبِهِ الطُّهْرِ ائغُرَرْ … وَالتَّابِعِينَ ائمُقْتَفِينَ لِئأَثَرْ وَقَائِدِى فِي الدِّينِ آيٌ وَأَثَرْ … صَحَّ بِرَاوٍ مَا وَنَى وَلَا عَثَرْ

_ * أرجوزة موجّهة لبعض علماء نجد، استنهاضًا لهم على تعليم البنت، واستئلافًا لقلوبهم حتى تقبل بهذا الأمر "المنكر" في رأيهم. 1) الأشر: المرح والتبختر والاختيال. 2) مَن أعلى النداءَ: يريد المؤذنَ. ارعوى: كَفَّ ورجع. 3) حَجَرَ: منع. 4) اللِّحَاء: قشر العود أو الشجر. 5) الحَصَرُ: العيُّ في النطق.

وَمَذْهَبِي حُبُّ عَلِيِّ وَعُمَرْ … وَائخُلَفَاءَ الصَّالِحِينَ فِي الزُّمَرْ هَذَا وَلَا أَحْصُرُهُمْ فِي اثْنَيْ عَشَرْ … لَا وَلَا أَرْفَعُهُمْ فَوْقَ ائبَشَرْ وَلَا أَنَالُ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِشَرْ … (وَشِيعَتِي فِي ائحَاضِرِينَ) مَنْ نَشَرْ دِينَ ائهُدَى وَذَبَّ عَنْهُ ونَفَرْ … لِعِئمِهِ وَفْقَ الدَّلِيلِ ائمُسْتَطَرْ حَتَّى قَضَى مِنْ نُصْرَةِ ائحَقِّ ائوَطَرْ … هُمْ شِيعَتِي فِي كُلِّ مَا أَجْدَى وَضَرْ وَمَعْشَرِي فِي كُلِّ مَا سَاءَ وَسَرْ … وَعُصْبَتِي فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرْ أَمَّا إِذَا صَبَبْتُ هَذِهِ الزُّمَرْ … فِي وَاحِدٍ يَجْمَعُ كُلَّ مَا انْتَثَرْ 6 (فَخُلَّتِي مِنْ بَيْنِهِمْ أَخٌ ظَهَرْ) … فِي الدَّعْوَةِ ائكُبْرَى فَجَلَّى وَبَهَرْ 7 وَجَالَ فِي نَشْرِ ائعُلُومِ وَقَهَرْ … كَتَائِبَ ائجَهْلِ ائمُغِيِرِ وَانْتَصَرْ (عَبْدُ اللَّطِيفِ) ائمُرْتَضَى النَّدْبُ ائأَبَرْ … سُلَالَةُ الشَّيْخِ ائإِمَامَ ائمُعْتَبَرْ 8 مِنْ آلِ بَيْتِ الشَّيْخِ إِنْ غَابَ قَمَرْ … عَنِ ائوَرَى خَلَفَهُ مِنْهُمْ قَمَرْ فَجَاهُمْ نَقَّى التُّرَابَ وَبَذَرْ … وَلَقِيَ ائأَذَى شَدِيدًا فَصَبَرْ عَلَى ائأَذَى فَكَانَ عُقْبَاهُ الظَّفَرْ … وَائإِبْنُ وَالَى السَّقْيَ كَيْ يَجْنِي الثَّمَرْ (وَإنَّ أَحْفَادَ ائإِمَام) لَزُمَرْ … (مُحَمَّدٌ) مِنْ بَيْنِهِمْ حَادِي الزُّمَرْ تَقَاسَمُوا ائأَعْمَالَ فَاخْتَصَّ نَفَرْ … بِمَا نَهَى مُحَمَّدٌ وَمَا أَمَرْ وَاخْتَصَّ بِالتَّعْلِيمِ قَوْمٌ فَازْدَهَرْ … يَبْنِي عُقُولَ النَّشْءِ مِنْ غَيْرِ خَوَرْ 9 قَادَ جُيُوشَ ائعِئمِ لِلنَّصْرِ ائأَغَرْ … كَالسُّورِ يَعْلُو حَجَرًا فَوْقَ حَجَرْ وَائجَيْشُ مَحْلُولُ الزِّمَامَ مُنْتَثِرْ … مَا لَم يُسَوَّرْ بِنِظَامٍ مُسْتَقِرْ وَلَمْ يَقُدْهُ فِي المَلَا بُعْدُ نَظَرْ … مِنْ قَائِدٍ سَاسَ ائأُمُورَ وَخبَرْ مُحَنَّكٍ طَوَى الزَّمَانَ وَنَشَرْ … وَائجَيْشُ فِي كُلِّ ائمَعَانِي وَالصُّوَرْ تَنَاسُقٌ كَالرَّبْطِ مَا بَيْنَ السُّوَرْ … وَائجَيْشُ أُسْتَاذٌ لِنَفْعٍ يُدَّخَرْ وَائجَيْشُ أَشْبَالٌ لِيَومٍ يُنْتَظَرْ … وَائكُلُّ قَدْ سِيقُوا إِلَيْكَ بِقَدَرْ صُنْعٌ مِنَ اللهِ ائعَزِيزِ ائمُقْتَدِرْ … خَلِّ ائهُوَيْنَى لِلضَّعِيفِ ائمُحْتَقَرْ 15 وَارْكَبْ جَوَادَ ائحَزْمِ فَائأَمْرُ خَطَرْ … فَيَا أَخًا عَرَفْتُهُ عَفَّ النَّظَرْ عَفَّ ائخُطَى عَفَّ اللِّسَانِ وَائفِكَرْ … وَيَا أَخًا جَعَئتُهُ مَرْمَى الشَفَرْ

_ 6) الزمر، ج. زمرة: الجماعة. 7) الخلة بضم الخاء: الصديق. وتكون بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. جلى: سبق، والفرس المجلي هو السابق في الميدان. 8) الندب: السريع إلى الفضائل. 9) الخور: الضعف. 10) الهوينى: التؤدة والرفق.

وَغَايَةَ ائجَمْعِ ائمُفِيدِ فِي ائحَضَرْ … تَجْمَعُنِي بِكَ خِلَالٌ وَسِيَرْ مَا اجْتَمَعَتْ إِلَّا ثَوَى ائخَيْرُ وَقَرْ … وَلَيْسَ فِيهَا تَاجِرٌ وَمَا تَجَرْ 11 وَلَيْسَ مِنْهَا مَا بَغَى ائبَاغِي وَجَرْ … وَمَا تَقَارُضُ الثَّنَا فِينَا يقَرْ 12 إِنَّ فُضُولَ ائقَوْلِ جزْءٌ مِنْ سَقَرْ … فَلَا أَقُولُ فِي أَخِي لَيْثٌ خَطَرْ وَلَا يَقُولُ إِنَّنِي غَيْثٌ قَطَرْ … وَإنَّمَا هِي عِظَاتٌ وَعِبَرْ عَرَفْتَ مَبْدَاهَا فَهَئ تَمَّ ائخَبَرْ … وَبَيْنَنَا أَسْبَابُ نُصْحٍ تُدَّكَرْ كِتْمَانُهَا غَبْنٌ وَغِشٌّ وَضَرَرْ … لَا تَنْسَ (حَوَّا) إِنَّهَا أُخْتُ الذَّكَرْ 13 تَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرْ … تُثْمِرُ مَا يُثْمِرُ مِنْ حُئوٍ وَمُرْ وَكَيْفَمَا تَكَوَّنَتْ كَانَ الثَّمَرْ … وَكُلُّ مَا تَضَعُهُ فِيهَا اسْتَقَرْ فَكَيْفَ يَرْضَى عَاقِلٌ أَنْ تَسْتَمِرْ … مَزِيدَةً عَلَى ائحَوَاشِي وَالطُّرَرْ 14 تَزْرَعُ فِي النَّشْءِ أَفَانِينَ ائخَوَرْ … تُرْضِعُهُ أَخْلَاقَهَا مَعَ الدِّرَرْ 15 وَإنَّهَا إِنْ أُهْمِلَتْ كَانَ ائخَطَرْ … كَانَ ائبَلَا كَانَ ائفَنَا كَانَ الضَّرَرْ وَإنَّهَا إِنْ عُلِّمَتْ كَانَتْ وَزَرْ … أَوْلَا فَوِزْرٌ جَالِبٌ سُوءَ الأثَرْ 16 وَمَنْعُهَا مِنَ ائكِتَابِ وَالنَّظَرْ … لَمْ تَأْتِ فِيهِ آيَةٌ وَلَا خَبَرْ وَائفُضْلَيَاتُ مِنْ نِسَا صَدْرٍ غَبَرْ … لَهُنَّ فِي ائعِرْفَانِ وِرْدٌ وَصَدَرْ 17 وَانْظُرْ هَدَاكَ اللهُ مَاذَا يُنْتَظَرْ مِنْ أُمَّةٍ قَدْ شَلَّ نِصْفَهَا ائخَدَرْ 18 وَانْظُرْ فَقَدْ يَهْدِيكَ لِئخَيْرِ النَّظَرْ … وَخُذْ مِنَ الدَّهْرِ تَجَارِيبَ ائعِبَرْ هَئ أُمَّةٌ مِنَ الجَمَاهِيرِ ائكُبَرْ … فِيمَا مَضَى مِنَ ائقُرُونِ وَحَضَرْ خَطَّتْ مِنَ ائمَجْدِ وَمِن حُسْنِ السِّيَرْ … تَارِيخَهَا إِلَّا بِأُنْثَى وَذَكَرْ؟ وَمَنْ يَقُئ فِي عِئمِهَا غَيٌّ وَشَرْ … فَقُئ لَهُ هِيَ مَعَ ائجَهْلِ أَشَرْ وَلَا يَكونُ الصَّفْوُ إِلَّا عَنْ كَدَرْ … وَإِنَّ تَيَّارَ الزَّمَانِ ائمُنْحَدِرْ لَجَارِفٌ كُلَّ بِنَاءٍ مُشْمَخِرْ … فَاحْذَرْ وَسَابِقْ فَعَسَى يُجْدِي ائحَذَرْ 19

_ 11) ثوى: أقام. قَرَّ: ثبت. 12) التقارضُ: التبادل. 13) أي لا تنس البنتَ في التعليم فإنها أختُ الابن. وهذا هو المقصود الذي مهّد له الأستاذ- رحمه الله- بكل ما سبق. 14) الطرر، ج. طُرة: وهي طَرَفُ الشيء وحاشيته. 15) الدِّرر، ج. دِرّة بالكسر وهي اللبن. 16) الوَزَرُ: الملجأ. الوِزْرُ: الإثم. الحمل الثقيل. 17) غبر: مضى. الورد: الذهاب إلى الماء. الصدر: الرجوع عنه. 18) الخَدَرْ: تشنج يصيب العضوَ فلا يستطيع الحركة. خَدِرت رِجْلُه. 19) المشمخر: العالي.

وَاعْلَمْ بِأَنَّ ائمنْكَرَاتِ وَائغِيَرْ … تَدَسَّسَتْ لِئغُرُفَاتِ وَائحُجَرْ … مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَمِنْ شَطِّ هَجَرْ … وَأنَّهَا قَارِئَةٌ وَلَا مَفَرْ … إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْكَ فَعَنْ قَوْمٍ أُخَرْ وَاذْكرْ فَفِي الذِّكْرَى إِلَى ائعَقْل مَمَرْ … مَنْ قَالَ قِدْمًا (بِيَدِي ثُمَّ انْتَحَرْ) 20 حُطْهَا بِعِئمِ الدِّينِ وائخُئقِ ائأَبَرْ … صَبِيَّةً تَأْمَنْ بَوَائِقَ الضَّرَرْ وَاعْلَمْ بِأَنَّ نَشْأَنَا إِذَا كَبِرْ … عَافَ الزَّوَاجَ بِابْنَةِ ائعَمِّ ائأَغَرْ يَهْجُرُهَا بَعْدَ غَدٍ فِيمَنْ هَجَرْ … لِأَنَّهَا فِي رَأْيِهِ مِثْلُ ائحَجَرْ وَيَصْطَفِي قَرِينَةً مِنَ ائغَجَرْ … لِأَنَّهَا قَارِئَةٌ مِثْلُ البَشَرْ خُذْهَا إِلَيْكَ دُرَّةً مِنَ الدُّرَرْ … مِنْ صَاحِبٍ رَازَ الأُمثورَ وَخَبَرْ صَمِيمَةً فِي ائمُنْجِبَاتِ مِنْ مُضَرْ … نِسْبَتُهَا ائبَدْوُ وَسُكْنَاهَا ائحَضَرْ

_ 20) بيدي ثم انتحر: يشير إلى مَثَل مشهورٍ أرسلته الزَّبَّاءُ. وخلاصةُ قصته أن الزباء قتلتْ جذيمةَ الأبرشَ خالَ عمرو. فدبَّر وزيرُ جذيمةَ (واسمه قَصِيرٌ) مكيدةً لأخذِ الثأر منها. فجَدَعَ قَصِيرٌ أنفَه وذهب إليها باكيًا مدَّعيًا أن عمرًا جَدَعَ أنفَه. فصدّقته ومكث عندها مدة. ثم أتى بالرجال ومعهم عمرو ليقتلوها. وكان لها نَفَقٌ أعدته لوقت الحاجة. فلما أرادت أن تهرب من النفق وجدتْ عمرًا على بابه. فمصَّت خاتمًا مسمومًا كان بيدها وقالت: (بيدي لا بيدِ عمرو) وقد أشار محمد بن دُريد في مقصورته إلى هذه القصة فقال: وَقَدْ سَمَا عَمْرٌو إِلَى أَوْتَارِهِ … فَاحْتَطَّ مِنْهَا كُلَّ عَاليِ ائمُسَمَّى فَاسْتَنْزَلَ الزَّبَاءَ قَسْرًا وَهْيَ مِنْ … عُقَابِ لُوحِ ائجَوِّ أَعْلَى مُنْتَمَى

في مصر

في مصر (من أكتوبر 1952 إلى مايو 1953) ــــــــــــــــــــــــــــــ

صوت من نجيب، فهل من مجيب؟

صوت من نجيب، فهل من مجيب؟ * حصرت قبل أسابيع حفلة تكريم للقائد الشعبي العظيم محمد نجيب أقامتها جمعية من الجمعيات العاملة للإسلام وسمعت خطبًا عادية في المعنى الذي أُقيمت له الحفلة، وسمعت قطعة من الشعر أشهد أنه شعر حي صادق في تصوراته وتصويراته، وأنه مسّ مكامن الإحساس مني حينما مسّ فلسطين، وكأنما غمز من قلبي جرحًا مندملًا على عظم. ثم سمعت في الأخير كلمة القائد البطل: وكان أقلّها عن مصر وحركة الجيش وأسبابها وأهدافها، وأكثرها عن فلسطين وحربها وحالة أهلها المشرّدين. وأقول: القائد ولا أقول: الرئيس لأنني كنت أسمع كلام قائد لا كلام رئيس، وكنت أسمع كلامه فأفهمه بمعنيين: معنى هو الذي تفيده الألفاظ والتراكيب، وينتقل بالسامع من خبر إلى خبر ومن وصف إلى وصف، ومعنى آخر مساوق له ممتد معه، وهو أن هذا الكلام نفسه قائد ... فيه من القيادة أمرها ونهيها وحزمها وصدقها وواقعها وتوجيهها ومضاؤها وجرأتها وجميع خصائصها، فأفهم من ذلك كله أن القيادة هي صفته الذاتية، خلقت معه مستسرة معه في روحه ودمه، ولوّنتها فطرته السليمة، وكوّنتها تربيته الشعبية كما أن الإقدام هو صفة الأسد الذاتية التي خلقت معه، فلما أدّت قيادته العسكرية رسالتها وبلغت مداها انقلبت قيادة عسكرية شعبية سمّاها العرف رياسة، وما هي- في الحقيقة- إلا امتداد لقيادته العسكرية، والقائد القوي الخصائص في الأمة الكثيرة النقائص، لا يزال يخرج من حرب إلى حرب ويدخل من قتام في قتام. سمعت كلمة القائد متئدة رزينة فلما لمست فلسطين ظهرت شجية حزينة فنطق بالصدق ولا أصدق من شهادة العيان. ومحمد نجيب إذا تكلم عن حرب فلسطين، وصوّر نكبة

_ * مجلة "الرسالة"، عدد 1018، ثم نقلتها «البصائر»، العدد 214، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 23 جانفي 1953.

فلسطين كان الراوية الثقة والضابط العدل. وقد حلّل تلك السبة الخالدة وعلّلها باثنتين: قبول الهدنة وفقد السلاح. ثم برأ الشرف العسكري العربي كله من وصمة التخاذل، ولم يعرج على التخاذل السياسي بين ملوك العرب وساستهم، ولكن عده لقبول الهدنة أحد سببي النكبة أبلغ من التصريح في الاتهام والتجريح، فإن الراضين بالهدنة هم رؤساء الحكومات العربية من ملوك وساسة لا قادة الجيوش. كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمسّ نفسي- وهو يلقيها- مسّة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني- يشهد الله- كنت وما زلت من أشدّ الناس اهتمامًا بالحادثة، ثم من أشدّهم التياعًا بالكارثة، فإذا فاتني- لشقوتي- أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي، فكتبت مقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظًا من نار ونحاسًا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة ... لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنّى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم، فإن شهادة الحق تولّد الحق حتى لكأنه حقّان. وتكلّم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسمّيهم مشردين ونحن شرّدناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقونه من شقاء وما يتجرّعونه من غصص، وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسًى كمينًا وهمًا دفينًا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي خرج من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله: "كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وان إخواننا ليتضورون من الجوع ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يومًا من الأسبوع عن اللحم، أو أسبوعًا من الشهر عن هنة من هذه الكماليات، ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يومًا من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعًا من الشهر لا تميتنا ولكنها تحيي إخواننا". ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندى لها عرقًا، إن لم تنخلع القلوب منها فرقًا، وهي قوله: "ان من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم ونسأل لهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعًا، وحكمت علينا بالانحناء ذلًّا ومهانة". حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاها في جمل حاكية، تحتها معانٍ باكية، وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوّره المتصوّرون. ويصوّره المصوّرون من حال أولئك البائسين، وينتزع من تخاذل العرب ملوكًا وحكومات وسادة وكبراء وشعوبًا حتى ضاعت فلسطين وجاع أهلها، وتنتزع من حالة المسلمين المغفلين الذين ما زالوا- وهم ذوو عدد-:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة … ومن إساءة أهل السوء إحسانا ... وما زالوا يطلبون الصدقة ممن سلبهم وما زالوا يفزعون كلما لطمهم اليهود إلى الاحتجاج، وما زالوا يطرقون أبواب هذا الهيكل الخرب الذي يسمّى جمعية الأمم المتحدة. أنا لا أتحدث عن قلوب السامعين ومواقع كلام القائد منها، ولا أملك لها أن تكون خلية أو شجية، وإنما أتحدث عن قلبي. فوالذي خلق القلوب مضغًا سوداء وبث فيها شعلًا من النور، لكأنما كانت تلك الكلمات نبالًا على قلبي تنثال على هدف، ونصالًا تتوالى على جريح. يا للعجب العاجب! أفيؤمن المسلم بأن المسجد الأقصى هو قبلته الأولى وأنه ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، وأنه كان في ليلة من الدهر سلم الأرض إلى السماء، ومطار البشرية المتمثلة في محمد، إلى الملكية المتمثلة في الملإ الأعلى، أفيؤمن بذلك كله ثم لا يقدم، لحماية هذا الحرم وجعله آمنًا، مهجته وماله؟ إن فلسطين إرث النبوّة الخاتمة، من النبوّات المتقادمة. نفذ فيه عمر وصية الإسلام، وحرّره أبو عبيدة وأصحابه في الأولين من رق الرومان ورجس الأوثان، وأدّت وقائع اليرموك وأجنادين شهادتها على استحقاقنا لهذا الإرث واقتدارنا على حمايته. إن أعمال أجدادنا في فلسطين وإرثها وحمايتها هي وصية صريحة لنا بالمحافظة عليها وحجة ناطقة علينا إن نحن قصّرنا فيها أو فرّطنا في جنبها، فيا لتراث نبوي حماه الأسلاف الصالحون، وأضاعه الأخلاف المفرطون. ما أضاع فلسطين إلا العرب، وقد جاءتهم النذر فتماروا بها، ثم حق الأمر وهم غارون فاندهشوا، ثم وقعت الواقعة فأبلسوا، وعمد خطباؤهم إلى الخطب ينمّقونها وشعراؤهم إلى القصائد يزوقونها، وساستهم إلى الدعاوى يلفّقونها، وعامّتهم إلى الخرافات يصدّقونها، بينما عمد ملوكهم إلى الأمداد يعوقونها وإلى الأهواء ينفقونها، وعمد خصومهم اليهود إلى الغايات يحقّقونها، وإلى العهود يمزقونها، وقضي الأمر وأوسعناهم سبًا وراحوا بالإبل! وبعد أن كنا نقول: أهل فلسطين، أصبحنا نقول ما قالته الجرهمية في مكة: بلى نحن كنا أهلها! ولا أدري كيف تنتصر أمة تقطعت بسوء صنيعها أممًا ثم تدلّت في الذل ثم صارت تطلب الرحمة من معذبها، وتعطي الدية لقاتلها، ثم ارتكست في السقوط حتى أصبح نصف ملوكها صبيانًا وأكثر أدلائها عميانًا. ... مضت على كلمات القائد البطل أسابيع، وأنا أتحسّس وقعها في النفوس، وأترقب ثمرتها، من صوم المسلمين عن الطعام يومًا في الأسبوع أو هجرهم لبعض الكماليات أسبوعًا

في الشهر ورصد أثمانها لدفع الغوائل عن مشرّدي فلسطين أو لغير ذلك مما تتفتق عنه العقول من أفكار، وتتمخّض عنه الهمم من آثار. فلم يظهر لها أثر إلا تلك الهزّة التي حرّكت الأيدي للتصفيق، ورسمت التأثّر على الوجوه، ونشرت شيئًا من التهلل على الأسارير ثم لا شيء. إن تلك الكلمة العبقرية ليست كلمة من الكلام، وإنما هي فكرة عبّرت عنها ألفاظ، ومبدأ ترجمته عبارات، ولو كانت نفوسنا- معشر سامعيها- حية مستجيبة لفهمنا الكلمة بهذا المعنى، ولخرجنا من الحفلة منادين بها، داعين إليها، شارحين لمراميها، ناشرين لها في العالم الإسلامي، بادئين بأنفسنا في تنفيذها. ولكننا قوم بنينا أمرنا على اللعب واللهو، والخطإ والسهو، لا على الجد والصرامة، والعزة والكرامة، واطمأننا إلى عادة لا تطمئن عليها الحياة، فكل ما في أحزاننا عويل وبكاء، وكل ما في أفراحنا تصدية ومكاء، وكل استجابتنا لداعي الحق تشقق الحناجر بهتاف، والتقاء الأيدي على تصفيق. ونبتت بعد تلك الكلمة التي لم تعها أذن واعية، فكرة قُطُر الرحمة، وهي فكرة جميلة صحبها العزم فكانت جليلة، ورافقها التنفيذ فكانت نبيلة، وحيّا الله مصر ولَقَّى أهلها نضرة كما كسى أرضها خضرة، ولكن قطر الرحمة ما هي إلا قطر من الرحمة، والمشرّدون أصبحوا بقعة إنسانية عطشى لا ترويها إلا الروائح والغوادي من سحب الخير، وأين الفكرة التي تختصّ بمصر من الفكرة التي تعمّ العالم الإسلامي؟ إن فكرة "الصوم" لو تمّت وانتشرت وصحّت العزائم على جعلها عادة وموسمًا لم تقف عند استحياء المشردين وكفكفة دموعهم، بل كانت تغسل الخزي وترحض العار، وتسلّح جيشًا لاسترداد فلسطين. أيها العرب: ها هم أولاء إخوانكم المشرّدون على غلوة سهم منكم لو تسمعتم لسمعتم أنينهم من الألم يتردد. وحنينهم إلى الديار يتجدد، ودعاءهم إلى الله يرتفع على كل من أضاعهم وأجاعهم. إنهم إخوانكم، وإنها أعراضكم، والقرابة موضع الثواب والعقاب عند الله. والعرض محل المدح والذم عند الناس. وإنهم انسلخوا من الزمان، فلا ماضي ولا حال ولا مستقبل. فهل تأمنون أن يبقى أبناؤهم الناشئون في هذه الحالة على الإسلام والعروبة؟ وهل تأمنون أن يطول عليهم الأمد، ويستحكم فيهم اليأس منكم، فيبايعون اليهود على العبودية المؤبّدة؟ أيها العرب: ساء مثلًا من أفهمكم من معاني العروبة أنها نسبة إلى جنس واعتزاء إلى جد والتصاق برقعة من الأرض، فعاجلوا هذا السطر الخاطئ بالمحو والشطب وخذوا العروبة على أنها ليست جلدة تسمَرُّ أو تصفَرُّ ولا بلدة تغبر أو تخضرّ، وليست متاعًا مما يرث الوارثون ولا أرضًا مما يحرث الحارثون وإنما هي بناء مآثر وإعلاء أمجاد، وإنما هي خلال تتفتّح عن أعمال، وإنما هي عزائم لا تعرف الهزائم، وانما هي طموح وجموح: طموح

لمواطن العز وجموح عن قيود الذل، وإنما هي رأي أصيل وفكر جزيل ولسان بالبيان بليل وعقل هو على الحكمة دليل وقلب للجرأة خليل. فجميع هؤلاء هو العروبة وجامع هؤلاء هو العربي، وما عدا ذلك فهو تعلّل بخيال وتعلّق بضلال، وتخفق يكذبه الخلق وخيانة للعروبة في اسمها وعقوق لآباء كأنّما عناهم المعري بقوله: جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم … بعد الممات جمال الكتب والسير أيها المسلمون: إن اليهود طامحون إلى أكثر من فلسطين، وإنهم يستعدّون بعد أن غمسوا أرجلهم في ماء البحر الأحمر لاحتلال مكة والمدينة، فماذا أنتم صانعون؟ إن كنتم تعتمدون على أن للبيت ربا يحميه فهذا إرهاص لا يتكرر مرتين. وهو عذر لا يقوم بعد أن أخذ عليكم العهد بحماية البيت. إنه لا حجة لنا على الله بل الحجة علينا وإننا لسنا من العزة على الله بحيث يخرق سننه الكونية لأجلنا وقد رفع يده عنا فلا يبالي في أي واد نهلك، وحكّم سنّته فينا فحكمت بأن نُمْلك ولا نَمْلِك، فعودوا يعُد وغيّروا يغير وحققوا الشرط يحقق الجزاء.

في ذكرى المولد النبوي الشريف

في ذكرى المولد النبوي الشريف * - 1 - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المسلمون: ليس هذا المولد النبوي الذي تحيون ذكراه في كل عام ميلاد رجل محدود الوجود بطرفي الحياة، ولو كان كذلك لكان محدود المعنى لأن وراء كل حياة موتًا، ولكان كبقية الموالد التي تتحكم فيها الأعراف فتغالي فيها أو تتوسّط، واحتفال رجل بعيد ميلاد ولده الوحيد العزيز لا ينقل شعور الفرح والابتهاج من الوالدين إلى الجيران إلّا على نمط من المجاملة والمقارضة العرفية. ولكن ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالهدى ودين الحق، هو مولد لكل ما جاء به محمد من الهدى ودين الحق، فهو مولد للصلاح والإصلاح والهداية والرحمة والخير والعدل والإحسان والأخوة والمحبة والرفق، وهو مولد لجميع الشرائع السمحة التي غيّرت الكون، وطهّرت النفوس، وصحّحت الحدود بين الناس فوقف كل واحد منهم عند حدّه، ووضحت المعالم المطموسة بين الخلطاء فوقف كل خليط من خليط موقف المعاون، لا موقف المعاكس: فالمرأة والرجل، والأمير والمأمور، والحر والعبد، والكبير والصغير، والأب والابن، والجار وجاره، والعربي والأعجمي، والأجير والمستأجر، والغني والفقير، كل أولئك أصبح راضيًا بحاله، ناعمًا في عيشه، سعيدًا في حياته آمنًا من ظلم خليطه. ومولد محمد هو الحد الفاصل بين حالتين للبشرية: حالة من الظلام جللها قرونًا متطاولة، وحالة من النور كانت تترقبها، وقد طلع فجرها مع فجر هذا اليوم، فميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - كان إيذانًا من الله بنقل البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الوثنية إلى التوحيد، ومن العبودية إلى الحرية، وبعبارة جامعة من الشر الذي لا خير فيه إلى الخير الذي لا شر معه.

_ * مسودة وجدت في أوراق الشيخ لكلمة ألقاها في الحفل الذي أُقيم بالقاهرة في شهر نوفمبر 1952 بمناسبة ذكرى المولد، بحضور الرئيس محمد نجيب رئيس جمهورية مصر.

مولد محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مولد تلك التعاليم التي حرّرت العقل والفكر وسمت بالروح إلى الملإ الأعلى، بعدما تدنت بالمادة إلى الحيوانية، وبالشهوات إلى البهيمية، وبالمطامع إلى السبعية الجارحة. ومولد محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مولد الإسلام والقرآن وذلك الفيض العميم من المعاني التي أصلحت الأرض ووصلتها بالسماء وفتحت الطريق إلى الجنة. فقولوا لمن جاء بعد محمد من زاعم يزعم الانتصار للحق، وزعيم يهتف بالحق وداع يدعو إلى الحرية، ودعيّ يكذب على الحرّية، وعاقل يبكي على العقل، ومفكّر يجهد في تحرير الفكر، وروحاني يعمل لسمو الروح، وأخلاقي يضع الموازين للمثل العليا، وحاكم يحاول إقامة العدل في الأرض، وحائر لا يدري من أين يبتدئ ولا أين ينتهي، قولوا لهم جميعًا: قد سبقكم محمد إلى هذا كله، وقد نصب لكم بقرآنه وسيرته أعلام الهداية في كل مصعد وكل منحدر، ولكنكم قوم لا تفقهون أو لا تصدقون، فارجعوا إليه إن كنتم صادقين تجدوه منكم قريبًا. هذه هي المعاني التي يجب أن نستشعرها حينما نذكر المولد، وحينما نحتفل به، أما ما عدا ذلك مما نفعله ونقوله فزوائد لا قيمة لها في العقول ولا أثر لها في النفوس. وهذه هي المعاني التي يجب أن نعدّ أنفسنا للتأثّر بها حتى نلين قيادها للخير وندمّث وعورتها لتلقيه وللعمل به، ولا يكون ذلك إلّا إذا مررنا بها على مواطن العبرة فيها، واستدرجناها لحسن الاقتداء بها وإتقان الاحتذاء لها. لو فهمنا المولد المحمدي بهذه المعاني لكان إظلاله لنا في كل عام تجديدًا لهممنا، وإيقاظًا لشواعرنا، وصقلًا لأذهاننا، وجلاءً لأرواحنا، ولكانت آثار ذلك سموًّا في أرواحنا، وسدادًا في آرائنا، وتحوّلًا إلى الخير في أحوالنا، وجمعًا لكلمتنا على الحق، وتوحيدًا لصفوفنا في النوائب. ولكننا فهمناه على قياس من عقولنا وهي جامدة، وعلى نحوٍ من هممنا وهي خامدة، وعلى نمط من عاداتنا وهي سخيفة، وقصرناه على هذه التوافه: لعب للصغار ليس فيها فائدة وخطب للكبار ليس فيها عائدة. فعلنا بمولد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما فعلناه بسيرته فاقتصرنا في كليهما على أضعف جانبيه، فنحن في مولده نلهو ونلعب، وقد نفرح ونطرب، ونعمر يومه وأسبوعه بحفلات تقليدية ليس فيها روح، كذلك نحن نتدارس سيرته التي هي التفسير العملي للإسلام فلا ندرس إلّا جانبها البشري من كيفية أكله ولباسه ونومه، لا جانبها الملكي من صبره وجهاده وتربيته لأُمّته، وبناء الدولة الإسلامية.

- 2 -

يختلف الفقهاء في هذه الحفلات المولدية وهل هي مشروعة أو غير مشروعة، ويطيلون الكلام في ذلك بما حاصله الفراغ والتلهي وقطع الوقت بما لا طائل فيه، والحق الذي تخطّاه الفريقان أنها ذكرى للغافلين وإنما لم يفعلها السلف الصالح لأنهم كانوا متذكرين بقوة دينهم وطبيعة قربهم، وعمارة أوقاتهم بالصالحات. أما في هذه الأزمنة المتأخرة التي رانت فيها الغفلة على القلوب، واستولت عليها القسوة من طول الأمد واحتاج فيها المسلمون إلى المنبّهات، فمن الحكمة والسداد أن يرجع المسلمون إلى تاريخهم يستنيرون عبره، وإلى نبيّهم يدرسون سيره، وإلى قرآنهم يستجلون حقائقه، وإن من خير المنبّهات مولد محمد لو فهمناه بتلك المعاني الجليلة. أيها المسلمون: قبل أن تقيموا حفلات المولد أقيموا معاني المولد، وتدرّجوا من المولد المحمدي الذي هو مولد رجل إلى البعثة المحمدية التي هي مولد دين نسخ الأديان لأنه أكمل الأديان، وهنالك تضعون أيديكم على الحقيقة التي تهديكم إليها هذه الذكرى. حاسبوا أنفسكم في كل عام من أين انتقلتم وإلى أين وصلتم، أشيعوا بينكم في هذه الذكريات المحبة والأخوة والاتحاد على الحق. واذكروا أن صاحب هذه الرسالة بعث بالعزّة والكرامة والعلم والقوة، فكونوا أعزّة وكونوا أحرارًا وكونوا أقوياء، واعرفوا محمدًا بدينه وقرآنه وسيرته لا بمولده، وأقيموا دينه، ولا عليكم بعد ذلك أن تقيموا مولده أو لا تقيموه. إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يطالبكم بإقامة الدين لا بإقامة المولد، وإن دينكم دين الحقائق والأعمال والنُظم فارجعوا إلى تلك الحقائق وانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. - 2 - من الخير للمسلمين أن يسيروا إلى الأمام دائمًا بأبدانهم وعقولهم مع الأمم الزاحفة إلى الحياة، المتزاحمة على مواردها، أو أمام الأمم الزاحفة المتزاحمة، مندفعين بحداء القرآن إلى الحق الذي تؤيّده القوّة، وإلى القوّة التي يؤيّدها الحقّ، ليعمروا هذا الكون بالعدل والصلاح والإحسان والخير والمحبّة، ويتحقّق وعد الله إياهم بالاستخلاف في الأرض، وتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم فيها، وتبديل خوفهم أمنًا إذا آمنوا وعملوا الصالحات وعبدوا الله ولم يُشركوا به شيئًا.

من الخير العميم لهم أن يفعلوا ذلك في جميع العام، إلّا في ليلة واحدة منه وهي الليلة الموافقة لليلة ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالواجب عليهم أن يرجعوا فيها القهقرى، وأن يطووا فيها هذه المراحل الأربع عشرة التي نسمّيها قرونًا، وأن يمحوها من أذهانهم بخيرها وشرّها حتّى كأن لم تكن، ليتصّلوا في ليلة من العام بالآفاق التي انفجر منها ماؤه العذب الزلال، فأروى النفوس وغسل أكدارها، وطهّر الأرض وأحيا مواتها، والواجب أن يتبعوا السبب حتّى يبلغوا مطلع الحقيقة- حقيقة السعادة التي جلاها الله على هذا الكوكب الأرضي، كوكب الشقاء والشرّ والفساد والتناحر، والواجب أن يفعلوا هذا ليجتمعوا بمحمد في ليلة من كلّ عام، فيأخذوا عنه كيف كان يزكّي وكيف كان يعلّم، وكيف كان يجاهد الكفر قبل أن يجاهد الكفّار، ويحارب المعاني الفاجرة قبل أن يحارب الفجّار، وكيف كان يغرس الفضيلة ويتعهدها بالسقي والرعاية حتى تنمو وتورق وتُظلّ وتثمر، وكيف كان يقلع الوثنية ليزرع التوحيد، ويهدم الضلال ليبني الهدى، وكيف كان يهدي بالقرآن للتي هي أقوم، وكيف كان يمهّد للحقّ بالقوّة، ويضع القوّة في خدمة الحقّ، وكيف كان ينتصف للروح من الجسم حتّى إذا بلغ المعدلة أذن لسلطان الروح بالاستيلاء على العرش من غير أن يضار الجسد أو يضيمه، وكيف كان يؤلّف بين سنن الله في الدين وبين سننه في الكون ليربط الأسباب بالمسببات والدين بالدنيا، ويزاوج بين السعادتين فيهما. هذه المعاني- وهي قطرة من بحر- هي التي يجب أن يذكرها المسلمون، وأن يتذاكروها كلّما أظلتهم هذه الليلة من كل عام، وأن يحتفلوا لذكرها باللسان وذكراها بالقلب وتحقيقها بالعمل، وأن يتواصوا بالتخلّق بها في أنفسهم ثم فيمن يليهم من أهل وجيران وأقارب، وأن يتنافسوا في البلوغ إلى غاياتها، وأن يعتبروا هذه الليلة حدًّا فاصلًا بين مرحلة مقطوعة ومرحلة مستأنفة، وموقف محاسبة على عام مضى، واستعداد لعام يأتي ... أما والله لو أننا نظرنا إلى هذه الليلة بهذه النظرة، ووزنّاها بهذا الميزان، وبنينا إقامة الحفلات فيها على هذه الحكمة، لما أُصبنا بهذا الوهن القاتل، ولما أُصيبت جدة الدين بيننا بالأخلاق، ولما تفرقنا شيعًا فيه ومذاهب، ولما تكدّرت مشاربنا منه بالضلال والابتداع، ولا تنوسيت تلك السنن العظيمة بالغفلة والإضاعة. أيها الإخوان: إن نبيّنا منا لقريب لو جعلنا الصلة بيننا وبينه حبل الله القرآن، فقد تركه فينا ليكون النور الممتد بيننا وبينه، وقد كان خُلُقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه ويقف عند حدوده ويصنع أفعاله وتروكه من أوامره ونواهيه، وينحت من معدنه تلك الآداب التي ربّى بها نفسه وراض عليها أصحابه، ثم تركها كلمة باقية فينا وحجّة بالغة لنا أو علينا، وقد شرّفنا - صلى الله عليه وسلم - تشريفًا يبقى على الدهر، وشهد لنا شهادة نتيه بها على الغابرين إذ قال لأصحابه: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِيَ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي».

ولكننا تركنا هذا المرجع الإلهي المعصوم في اقتباس سيرة نبيّنا كما هجرناه في كل ما جاء به من عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وأصبحنا نتلمّسها من كتب فيها الموضوع وفيها المصنوع وفيها الصحيح الذي لا يثير عبرة ولا يحصي نزعة من نزعات الخير فينا، ولا يحملنا على التأسّي بتلك السير التي هي كنوز معارف ومعادن فضائل وأعلام اقتداء، ومنازل نقلة بالفكر إلى المثل الأعلى، وبالروح إلى الملإ الأعلى ... ألستم ترون أن أكثر المؤلفين في السير يصرفون اهتمامهم إلى الجهات التي لا محلّ فيها للاقتداء الذي يزكّي النفس- أكثر مما يصرفونه إلى الجهات التي تزكي النفس وتطبعها على الخلال النبوية، يهتمّون بالمواطن السطحية البشرية مثل كيفية لبسه وأكله وشربه ونومه وملابسة أهله، ويغفلون المكامن الروحية الملكية مثل تعلّقه بالله ومراقبته له وتأديته الأمانة الشاقة وصبره وشجاعته وتربيته لأصحابه، وتدريبهم على جهاد أنفسهم حتّى تكمل وعلى السمع والطاعة للحق وفي الحق، وعلى التعاون والتناصح والتحابب والتآخي والاتحاد ...

الأستاذ الفضيل الورتلاني

الأستاذ الفضيل الورتلاني * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: ما فكرتُ في هذا الموقف، ولا دبرتُ طريق الخلاص من مفاجآته إلّا بعد أن دخلت القاعة وتراءت وجوه الإخوان وسبقني بعضهم بالحديث، فوجدت نفسي بين عاملين قويين متعاكسين: عامل الأدب العرفي الذي يعلو حتّى يصل إلى الغلو والاغراق، وينزل حتّى ينتهي إلى الإسفاف والعامية، وعامل الحقيقة الواقعة الذي هو دائمًا ميزان اعتدال. تواضع الناس على أن مدْحَ المرء لنفسه ذمّ، وتندر العرب في ذلك بالكلمة الساخرة: مادِحُ نفسه يُقرئك السلام، وتواضعوا على أن إطراء المرء لولده ذمّ، فإن لم يكن ذمًّا فهجنة، وإن اعتذر عن ذلك بعض الناس الخارجين عن القياس بأن هذا من مقتضيات الفطرة، فهو تنفس بشيء من معاني العواطف التي تنطوي عليها كلّ نفْس، والفطريات الوجدانية لا تخضع لهذه القوانين التي يسنها المجتمع، ومن كلمات العرب السائرة في هذا الباب: المرء مفتون بابنه، وزاد البحتري: وبشعره، وهو صادق: فإن فتنة الشاعر بشعره أعظم من افتتان الوالد بولده. وأنا أرى أنه ما أكّد هذا القانون العرفي في نفوس الناس إلا غلوّهم في الإطراء، ومبالغتهم في المدح والثناء، حتّى لا يكون المدح عندهم مدحًا إلا هكذا، ولا يكون أدب المواجهة أدبًا إلّا إذا كان من هذه الآداب الزائفة المنافقة التي أصبحت مادّة لحياة الناس لا يتعارفون إلّا بها ولا يتعايشون إلّا عليها ولا يديرون ألسنتهم إلّا بها، من تحية الصباح إلى أن يخيط النوم أجفانهم، وأصبحت عمارة المجالس وبضاعة الأندية وقاعدة السلوك، يعدّون الخارج عنها خارجًا عنهم، ولو أنهم سلكوا القصد والتزموا الحق ووزنوا كلامهم بميزان

_ * كلمة أُلقيت في الحفل الذي أُقيم في فندق "سميراميس" بالقاهرة تكريمًا للأستاذ الفضيل الورتلاني، في شهر نوفمبر 1952.

الصدق لسقط تسعة أعشار هذه اللغة الرائجة في المقابلات والتحايا والتمادح، ولسقط مثلها من قاموس التواضع الزائف مثل العبد الضعيف، العاجز، الفاني. فإذا لم نُئغِ هذا العامل فالأستاذ الفضيل الورتلاني الذي يحتفي به إخوانه وعارفو فضله من أهل العلم والأدب والوجاهة والقلم واللسان- هو ولدي روحيًا وتلميذي فكريًا، وهو ثمرة طيبة من بواكير الحركة الإصلاحية العلمية التي أنا أحد المحركين لها والغارسين لبذورها، زكاه الله صبيًا ويافعًا وشابًا وآتاه من المواهب في الصغر ما شارك به أساتذته في وضع الأساس لهذه الحركة المباركة، بحيث لم يزيدوا عليه فيها- وأنا أحدهم- إلّا بالسنّ، فإذا أطريته الليلة تمشيًا مع أدب التكريم أكون قد مدحت نفسي وانحرفت عن الأدب العرفي. لكلٍّ من الإخوان الحاضرين علاقة بالأستاذ الفضيل هي التي حركته لحضور الحفلة، وهي التي تُملي عليه إذا تكلّم فيها معلنًا أو ناجَى مخافتًا، ولكن علاقتي به تزيد على ذلك كله: هي علاقة الوالد بالولد، وهو لِوَفائه وانصافه يفخر بها، وأنا به أشد فخرًا وأكثر مباهاة وأكثر اعتزازًا. ونحن- بفضل الله وتوفيقه- قد بنينا حركتنا من أوّل يوم على قواعد، منها القصد في الآداب المرعية بين التلاميذ وشيوخهم، لأن القصد أقرب إلى الصدق حتّى كأنه مقلوبه كما يقول علماء البديع، ومنها تفصيل الاحترام الظاهري على مقدار ما تكنّه النفس من معانيه وأسبابه، ومنها تنزيل الاحترام والتقدير على الأعمال لا على المرتبة ولا على السنّ، ومنها تسمية الأشياء بأسمائها من غير محاباة ولا إجحاف، ومنها اعتبار الوقت رأس مال فهو أجلّ من أن ينفق إلّا في المفيد. ... أما العامل الثاني وهو عامل الحقيقة والواقع فهو المقدم عندي وعند جميع العقلاء في الاعتبار، ولذلك فأنا أقتحم الموضوع من غير استئذان للأدب العرفي ولا توقف عليه، وأقول في ولدي وتلميذي وخالصتي الأستاذ الفضيل الورتلاني ما يقوله الوالد العاقل الحساس في ولده البرّ، وما يقوله الشريك الأمين في شريكه الأمين، وما يقوله الزميل الشريف في زميله الشريف، وأقول فيه في المشهد ما أقوله في المغيب، ولا أقول- إن شاء الله- إلّا حقًا. أقول: إنه رجل أي رجل، أو إنه الرجل كل الرجل، بالمعنى الذي تعرفه العرب من هذين التركيبين القصيرين الجاريين مجرى لغة البرقيات في زمننا، تجمع ضيق اللفظ واتساع الدلالة، ولعلّ من الإحسان إلى الإخوان الذين عرفوا الورتلاني في الشرق وهو في أواخر

شبيبته وأوائل كهولته- أن أعرّفهم بشيء من نشأته، فإن ملكات القوة إنما تثبت إذا كان وضعها صحيحًا وعلى أصل صحيح، وإن العئم بهذا شيء أنفردُ به دون الإخوان، فمن الجوامع بيني وبين الورتلاني قرب البلدين وقرب الميلادين، بين ميلادي وميلاده في الزمان بضع عشرة سنة، وبين مولدي ومولده في المكان مسافة لا تزيد على ثمانين ميلًا. وأقول إنه رجل تضافر على تكوينه قوة الاستعداد للخير، وحسن الإعداد له، أما الاستعداد للخير فهو من أثر يد الله في عبده إذا أراد به خيرًا، وقد خلق الرجل مستعدًا للعظائم، مهيّأً لمعالي الأمور، مرشحًا للقيادة، يَلمح فيه المتفرس- وهو صغير- ملامح البطولة، ومخايل الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالذاتية، والذكاء الذي يكاد يحتدم في جوانب صاحبه، ويرى فيه المتوسّم- وهو شاب طرير- جرأة على المكاره يصحبها رأي عاقل وعزم صادق، وجرأة على الطغيان والظلم يصحبها قول مسدّد وعمل دائم، وحركة غير معتادة في لداته من الشبان، وطموحًا نزّاعًا إلى العُلى، وعزّة نفس متسامية إلى الكمال، وثورة على الذين يصفون للأمّة الجزائرية سعادة الآخرة ولا يسلكون بها سبيلها، وعلى الذين يصفون لها سعادة الدنيا ويسلكون بها غير سبيلها. وأما الإعداد فيبدأ من البيت الذي فيه وُلد، والقرية التي فيها درج، والمحيط الذي فتح فيه عينيه، والمضطرب الذي اضطرب فيه طفلًا وشارخًا، والنشأة التي عليها نشأ. نشأ الأستاذ الفضيل في بيت يجمع حاشيتي النسب والحسب، والخلق الموروث والمكتسب، ويتصل سند العلم فيه إلى أجداد، نبغ منهم في القرون الثلاثة الأخيرة آحاد، ويمتاز هذا البيت بالتدين المتين والروحانية المتألقة والتربية الربانية والاتّصال القويّ بالله والتقلّب في مراضيه، والجري على الفطرة السليمة التي لم يمسسها زيغ، والاستقامة الشرعية التي لم يلابسها عوج، يحوط كلَّ ذلك علم متسع الجوانب بالنسبة إلى زمانها ومكانها. ثم درج أول ما درج في قرية تحيط بها قرى، تحيط بهنَّ مجاميع من القرى لم يطرقها دخيل منذ دخل الإسلام، وكلّها متساندة على حماية الدين والعرض والخلق والمال في نظام ذي نزعة جمهورية يقوم بتنفيذه في كل قرية جماعة منتخبون من أهل الفضل والعقل والعدل، ويسمونهم العقلاء أو الأمناء، ولهم في كل قرية دار الأمناء يجتمعون فيها كل يوم ثلاثاء لدرء المفاسد وجلب المصالح، فلا يلمُّ بالقرية شرّ، ولا تنجم فيها بدعة، ولا يقع اعتداء من شخص على شخص، ولا تشم رائحة مما يمسّ عرض الغائب أو الحاضر، إلّا بادروا ذلك بالصلح أو بالحسم أو بالعقاب، ولهم في ذلك أحكام نافذة السلطان تقوم بالمصلحة ولا تجافي أحكام الدين ولا تدع المجال لِتَدَخُّل الحكومة الاستعمارية وأعوانها،

وان سبعين في المائة من قضاياهم لا تسمع بها الحكومة، وقد أدركتُ وأدرك الأستاذ بقية من شيوخ تلك القرى عاشوا الثمانين والتسعين من أعمارهم ولم تَرَ أعينهم فرنسيًا واحدًا في ذلك العمر المديد، ويعاون هؤلاء الأمناء على تربية الجمهور أن في كل قرية جامعًا للجمعة ومساجد للخمس وخطباء من أنفسهم يختارونهم بأنفسهم، وفي كل مسجد حلقًا لتحفيظ القرآن وأخرى لدروس الدين والعربية، لا سلطان للحكومة على هذه المساجد ولا على هذا التعليم المسجدي في هذه القرى دون سائر القطر الجزائري: فإن الحكومة الفرنسية استولت على جميع مساجده وأوقافه واحتكرت لنفسها التصرف في أئمته وخطبائه، وان هذا لموضوع طويل جاهدت جمعية العلماء في ميدانه عشرين سنة وما زالت تجاهد. في هذه القرى السالمة يتزوّج الرجل الصالح بالمرأة الصالحة فيلدان الولد الأصلح، وإذا كان الطفل يتقلّب بين أحضان الصالحين وحجور الصالحات، ويرجع من أخدان صباه وعشراء داره وزملاء ملاعبه إلى طفولة طاهرة راشدة تحرسُها أعين المجتمع كله، فأخلق به أن يكون مثالًا للإنسان الكامل. ثم فتح الأستاذ عينيه أول ما فتح على شماريخ الأطلس الأصغر وقممها الشمّاء، وشناخيبها المتناوحة وغاباتها الطبيعية التي تكسو سطوحها، وغابات الشجرتين المباركتين- التين والزيتون- التي تجلل سفوحها، وعلى الوديان العميقة التي تخترقها هدارة السيول، وعلى مناظر الثلوج التي تكسو تلك القمم ثلث السنة، فاكتسب من كل ذلك هدوء التأمل، ومتانة الفكر، وصلابة العقيدة، وركانة العقل، وثبات الصبغة، ووعورة الجدّ حتّى لا محلّ معه لهزل ولا لهزال، وإنّ التوعّر لَألزم الخلال للرجل، لا سيّما في هذا العصر الهازل المتخنث. ... ثم انتقل من ذلك المحيط بعد أن أتقن القرآن الكريم حفظًا، وألمّ بمبادئ العلوم إلى مدينة قسنطينة، وهدتْه بصيرته النيّرة وقريحته العطشى إلى الاتصال بباني النهضة الجزائرية بجميع فروعها ومربّي الأجيال الحديثة فيها على هدي القرآن وخُلُق محمد عليه السلام، أخطب علماء الإسلام في عصرنا وأقواهم بيانًا لمحاسن الإسلام المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، سليل تلك الأسرة التي خلفت الفاطميين على مملكة افريقية، وللمرحوم طريقة غريبة في وصل تلامذته بالله وتفقيههم في حقائق سُنَنه في الأنفس والآفاق، وله قدرة عجيبة في استلال النقائص من نفوسهم، وفي ترويضهم على الكمالات النفسية واللسانية والبدنية، وفي إعدادهم لمراتب الرجولة التي لا تخضع إلّا لله، وفي تعويدهم على أساليب الدعاية وتزويدهم بدلائل الحق.

وجد التلميذ أجنيته في الشيخ ووجد الشيخ بغيته في التلميذ، فقطع به مراتب التربية والتعليم في سنوات، وحضر عليه معظم دروس التفسير، وقد ختم الشيخ القرآن الكريم كله تفسيرًا في خمس وعشرين سنة، ولم يختمه- فيما نعلم- في مغاربنا الثلاثة إلّا أبو عبد الله الشريف التلمساني، في أوائل المائة الثامنة. غبر الأستاذ الورتلاني في وجوه السابقين فأصبح مساعدًا لأستاذه في إلقاء الدروس للتلامذة وكانوا يجاوزون ثلاثمائة طالب هم عماد الحركة اليوم، وفي تلك المدّة كان يقضي الصيف جوّالًا صوالًا في القطر، واعظًا مذكرًا، مثيرًا للهمم الراكدة. وله في الجزائر اليوم تلامذة وزملاء ما زالوا يحملون الذكريات العاطرة لعهده (1). ...

_ 1) لم نعثر على بقية الكلمة.

الأستاذ سيد قطب

الأستاذ سيد قطب * تمتزج فكرة الوطن الإسلامي الأكبر بنفس الأستاذ سيد قطب امتزاج الروح بالجسد، والعقيدة بالعقل، فهو حفظه الله لم يفتأ يدعو المسلمين في الشرق والغرب بكتاباته الضافية إلى السير على ضوء هذه الفكرة في حركاتهم التحريرية وكفاحهم العام، والاعتصام بأخوتهم الإسلامية التي هي المهيع الأمين لتحقيق أمانيهم وآمالهم في الحياة، كمسلمين لهم من تعاليم دينهم ومجد تاريخهم كل ما يهديهم سواء السبيل، إذا غشيتهم الظلمات وألمت بساحتهم خطوب وملمّات. وقد وجد الأستاذ في صحيفة «البصائر» التي هي اللسان المعبّر عن كفاح الجزائر في سبيل المحافظة على إسلامها وعروبتها وربط نهضتها بالعالَم الإسلامي صدى دعوته الصارخة، فأحبّها وبادر بإرسال هذه الكلمة البليغة الجامعة إليها، وهي إذْ تحلي صدرها بها إنّما تنشر صفحة من جهاد أحد العلماء العاملين من أعلام هذه النهضة التي لن تقف دون أن تصل بالإسلام والمسلمين إلى أهدافهم السامية في طريق كفاحهم من أجل الوحدة والحرية والاستقلال.

_ * «البصائر» العدد 214، السنة الخامسة، 23 جانفي 1953 (بدون إمضاء): وهي الكلمة التي قدّم بها مقال الأستاذ سيد قطب الذي خصّ به «البصائر» تحت عنوان "كفاح الجزائر" وهو الأوّل من سلسلة مقالات كتبها الأستاذ سيد قطب خصيصًا لـ «البصائر».

اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد

اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد * برقيات ــــــــــــــــــــــــــــــ 1 - إلى "الاتحاد العام التونسي للشغل"، تونس إن الجريمة الفظيعة، جريمة اغتيال رئيسكم العظيم المرحوم فرحات حشّاد، قد تركتْ في أنفسنا ألمًا شديدًا، ونحن نقاسمكم آمالكم وآلامكم، وقضيّتكم قضيتنا، وتقبّلوا باسم الشعب الجزائري أحرّ التعازي. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين 2 - إلى جلالة باي تونس، تونس إننا نستنكر تلك الجريمة الشنعاء، جريمة اغتيال المرحوم الزعيم فرحات حشّاد، ونعبّر لكم وللشعب التونسي الحرّ عن أحرّ تعازينا. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين 3 - إلى الأستاذين صالح بن يوسف ومحمد بدرة، نيويورك إننا نقاسمكم الألم والحزن العظيمين اللذين ألمّا بتونس الشقيقة على إثر اغتيال المرحوم فرحات حشّاد ضحيّة القضية الوطنية، والله معكم في كفاحكم من أجل الحرية والكرامة الإنسانية. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين

_ * أرسلت هذه البرقيات من القاهرة، على إثر اغتيال الزعيم فرحات حشّاد، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، على يد عصابة "اليد الحمراء" الفرنسية، وكان ذلك يوم 5 ديسمبر 1952.

4 - إلى السيد الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، نيويورك إن الشعب الجزائري مهتمّ كل الاهتمام بخطورة الوضع بتونس، وهو يستنكر اغتيال الزعيم النقابي المرحوم فرحات حشّاد، ويطالب الأمم المتحدة أن تجعل حدًا للأعمال الوحشية التي يرتكبها المستعمرون الفرنسيون، والتي تهدّد السلام والأمن في العالَم. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين 5 - إلى السيد فوستر دالّلس وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية- واشنطن أمام الحوادث الدامية التي تعيشها تونس الشقيقة، وأمام الاغتيال الفظيع الذي ذهب ضحيته الزعيم النقافي المرحوم فرحات حشّاد، تلك الجريمة التي ارتكبها المستعمرون الفرنسيون، نلفت أنظار حكومة أمريكا البلد الحرّ إلى خطورة الوضع في تونس، ونؤكّد لها باسم الشعب الجزائري أن الحالة الراهنة تهدّد السلام والأمن في العالم. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين 6 - إلى اتحاد نقابات العمّال الأمريكي- نيويورك إن تونس العاملة فقدت إبنًا من أبرّ أبنائها من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، ألا وهو الزعيم النقابي فرحات حشّاد الذي اغتالته أيادي المستعمرين الفرنسيين، ونحن باسم الشعب الجزائري نناشد تضامن عمال أمريكا البلد الحرّ، وأن يلفتوا نظر حكومتهم إلى خطورة الوضع الراهن بتونس ونتائجه التي تهدّد السلام والأمن في العالم. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين

تحية الجزائر

تحية الجزائر * للإجتماع المنعقد يوم 8 ديسمبر بباريس ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الإخوان المتلاقون على هَوَى الوطن الجامع وحبّه، العاملون على إعلاء شأنه وجمع أجزائه. بلغتنا أخبار اجتماع أبناء الشرق العربي بأبناء المغرب العربي في دار، فعجِبنا حتى انتهى العجب إلى أقصاه، وطربنا حتى أخرجَنا الطرب عن طور الاعتدال، ثم رجعنا إلى الفال، نُزْجي به الآمال. عجبنا لاجتماع الإخْوة بعد أن جعل الاستعمار بينهم رَدْمًا، وأوسع معالم الاتصال بين الشرقيّ والغربيّ منهم تحطيمًا وهَدْمًا، وضرب بينهما بسور ليس له باب، حتى نَسِيَ الواحد منهما أخاه أو كاد، وحتى تنكر له كأن لم تَكُ بينهما أشياءُ من نسب وتاريخ، ومواريثُ مقسومة من دين وأدب. وطربنا لأن اجتماع الإخْوة بهذه الصورة الجميلة، ولهذا الغرض النبيل وهو التعارف- هو شيء كانت تمثِّلُه لنا الخواطر الطائرة، والتمنيات الخيالية، فتمتلئ نفوسنا سرورًا، وتَشِيعُ في جوانبنا البهجة والانشراح، ثم يتقضَّى ذلك كله في لمحة الطرف كأحلام النائم، وإذا بذلك الخيال الطارف يصبح حقيقة مجسّمة. ثم رجعنا إلى الفال، نستفتح به أقفال الغيب، ونَسِمُ به أغفالَ المستقبل، ونقول: صَبيبُ المُزنِ أوّلُه قطرة، وعَصْفُ الريح مبدؤه نَسمة، وصادق الوحي أوّله رؤيا منام، وبعد تلك البدايات ينهمر الماء، أو تعصِفُ الأعاصير، أو يتواتر الوحي، فلا عجب إذا كان هذا الاجتماع فتحًا لباب، وعنوانًا لكتاب، ومقدمة لنتائج.

_ * مسودة رسالة وُجدت في أوراق الإمام، ولكننا لم نهتدِ إلى طبيعة هذا الاجتماع.

أيها الضيوف الأعزة، أيها المقتبلون الكرام: يَعِزُّ عليّ- والله- أن أنادي منكم اثنين، وإنما أنتم واحد، ولكن غَلبتْ عليّ النزعة العربية في إجلال الضيف، وإكرام مثواه، ومضاحكته قبل إنزال رحله، واعتبارِه عالَمًا مستقلًّا في مدة الضيافة، فناديتُ الضيفَ وحدَه لآخذَ بحظّي من البرّ به. وناديتُ أبا المَثْوَى وحدَه لأساهمه في أداء واجب الضيافة ولو بالحديث، والحديث من القِرى في مذهب العرب، وها أناذا أعود فأخاطبكم بالوصف الجامع: أيها الإخوة: إن أضعف سلاح رمانا به الاستعمار جمعيًا هو هذا السلاح المادي من الحديد والنار، وأن أمضى سلاح قاتلنا به فقَتَلَنا لَهو التضريب بين صفوفنا حتى أصبح بعضنا لبعض عدوًّا، والتخريب لضمائرنا حتى أصبحتْ خيانة الدين والوطن بيننا مَحْمَدةً نتمادح بها، والتمزيق لجامعتنا حتى أصبحنا أممًا متنابذة، والتوهينُ لقوانا المعنوية حتى أصبحنا كالتماثيل الخشبية لا ترهب ولا تخيف، والاستئثارُ بقُوَّاتنا المادية حتى أصبحنا عالةً عليه، والتعقيمُ لعقولنا وأفكارنا حتى أصبحنا نتنازل عن عقلنا لعقله وإنْ كان مأفونًا، وعن فكرنا لفكره وإنْ كان مجنونًا، وتلقيحُ فضائلنا برذائله حتى انحطتْ فينا القِيَمُ الإنسانية وبُخِست موازين الفضيلة، وترويضُنا على المهانة حتى أصبحنا نهزأ بماضينا افتتانًا بحاضره، ونحتقر لسانَنا احترامًا للسانه. هذا الاستعمار لعقولنا وأفكارنا هو أخطر أنواع الاستعمار علينا، وهو الذي مهّد للطامة الكبرى التي هي مأْرَب الاستعمار، وهي هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي زّينها لنا وحبّبها إلينا، ولو كانت خيرًا لَسَبقَنا هو إليها في أممه وأوطانه، ولكنه يتكتَّلُ ليقْوَى في نفسه، ويفرّقُنا لنضعفَ زيادةً في قوّته. أليس من العار أن يكون للعرب عشْر وطنيات؟ أليست هذه الوطنيات الضيّقة بمثابة تقسيم الخبزة الواحدة إلى لُقَم، ليسهلَ ازدِرادُها لقمةً لقمة؟ أما والله لو كان العرب أمّة واحدة لما ضاعت فلسطين، ولما حلّت بالأقطار العربية هذه النكبات المتوالية. أيْ أبناء العمومة: إن الجزائر والشمال الأفريقي كله فَئذَة من كبد الإسلام، وقطعة من وطن العروبة الكبير، وبقيّة مما فتح عقبة والمهاجر وحسّان، وإن هذا الوطن هو أحد أجنحتكم التي تطيرون بها إلى العلا، وإنّه متصل بكم اتصال الكف بالساعد، تصلون إليه مشْيًا، ويصل إليكم حبْوًا، فَريشوا هذا الجناحَ المهيض حتى تقوى قوادمه، وصونوا حماه فإنه حماكم، وذودوا عن عِرضه فإنه عرضكم. إن هذا الوطن امتداد لوطنكم الأكبر، وإنه يحمل أمانة الأجداد التي تحملونها، فأعينوه على التحرير، وأنقِذوه من سوء المصير.

إن في هذا الشمال بأقطاره الثلاثة كنوزًا من تراث العربية والإسلام، طمرها الاستعمار برذائله عمدًا، وطمس محاسنها بحضارته قصدًا، فأعينونا بقوة نستخرج هذه الكنوز بإحياء الأخلاق والآداب والتاريخ، لا لخيرنا بل لخير الإنسانية. أيْ أبناء العمومة: إن بيننا وبينكم صلاتٍ من اللغة والدين، وأرحامًا مرعيّة من الجنس والخصائص، فقوّوا هذه الصلات، وصلوا هذه الأرحام، يكنْ بعضنا لبعض قوة. إنكم لنا أئمة في الخير، وإنّا بكم مؤتمّون في الحق، فحققوا شروط الإمامة، وطالبونا بتحقيق شروط الاقتداء، وئنُقِمِ الصفوف، في معترك الحتوف ... وإلّا هلك الإمام والمأموم. أما والله لن نُفلِت من مخالب الاستعمار فرادى، ولن نُفلت منه إلّا يوم نصبح أمّة واحدة تلقى عدوّها برأي واحد، وقائد واحد، وقلب واحد، فإن لم نفعل فلا نَلُمِ الاستعمار، وئنَلُم أنفسنا. أيْ أبناء العمومة: ليتني كنت معكم، فأحييكم من قريب، تحية الأخوين، فرَّقتْ بينهما الأقدار، ثم جمعتهما الدار، وأسمعكم من الجزائر الحزينة نجواها، وأبثّكم شكواها، بلسانها الحر الأصيل المعرب، وبيانها العذب الشجيّ المطرب، ولكن الأقدار الغالبة عاقت عن الاتصال بكم، والجدّ العاثر حرمني من التشرّف بلقائكم في هذا اليوم الأغرّ، فها هي ذي تحيات العروبة الكامنة في الجزائر كُمونَ النار في الحجر- توافيكم من وراء البحر، وتتنفّس في ناديكم بمسك دارين وعنبر الشحر، فحيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصلون أسبابها، وتعيدون عليها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه وتدفعون ظلّامه، وللشرق تؤدّون فرضَه، وتردون قرضه، وتصونون عرضه، وتطهرون سماءه وتحفظون أرضه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوكم محمد البشير الإبراهيمي

منزلة الأدب في الحياة

منزلة الأدب في الحياة * هدرت شقاشق أبنائي أدباء الجزائر العزيزة ثم قرّت، في موضوع لم أستطع أن أسمّيه أدبًا، إنما أسمّيه تلاومًا على الركود والسكون الذي عمّ الجزائر كلها في السنة الماضية باستثنأء حركة التعليم التي يقوم بها المعلمون حيّاهم الله عني، وحركة التنظيم التي تقوم بها لجنة التعليم العليا جزاها الله عني خيرًا، ومن ورائها المكتب الدائم لجمعية العلماء بارك الله فيه. شغل الأدباء وقتًا طويلًا وملأوا صحائف من «البصائر» في ذلك التلاوم، أو في جذب وشدّ بين العتاب والعذر، وكنتُ أقرأ وأتتبعّ وأقول: هي حركةٌ أقلّ صفاتها أنها خير من الركود، وانتظر حتّى تجف الشعاب وتفرغ الجعاب، ولا أقول إني لم أشأ أن أكدر صفوهم، بل أقول إنّي لم أشأ أن أصفّي كدرهم، لأن تنازع الحبل صيّر الموضوع قضية تحتاج إلى حكم، وأنا ذلك الحكَم، ولا آتّهم أبنائي بأن يبلغ بهم العقوق إلى أن لا يرتضوا حكومتي، أو يهتبلون غيبتي، فينفضون عيبتي، ويلعنون شيبتي: أعتقد أنني أكرم عليهم من ذلك. كان أبناؤنا الأدباء فريقين: فريقًا لوامين، وفريقًا معتذرين، واللوّامون يبنون أمرهم على أن الأدباء في الجزائر ساكتون لا ينطقون وخاملون لا يُنتجون، وكان الأوجه الأشبه أن يلاموا على أنهم ناقصون لا يُكمِلون وكسالى لا يقرأون، وقانعون لا يدرسون، وأن خير ما زيّن به امرؤ نفسه الإنصاف، وأن من الإنصاف أن نقول إن الأدب عندنا في الجزائر لم يكمل ولم يزل بينه وبين الكمال مراحل، والذي عندنا إنما هو استعداد للأدب ولكنه بدون أدوات، فهو يعتمد على المواهب التي وزّعها الله على عباده وجعل حظوظهم منها متفاوتة،

_ * مسودة مقال بدأه الإمام المرحوم ولم يتممه، مساهمة في النقاش الطويل العريض الذي ملأ صفحات «البصائر» من نوفمبر 1952 إلى الأشهر الأول من سنة 1953 حول الأدب الجزائري وقضاياه، لذا نعتقد أن هذه المسودة كتبت في بداية سنة 53.

فَمَن آتاه الله من أبنائنا حظًا من الموهبة وقف عندها وأخذ يعصر المواهب عصرًا، فتبض له بشيء وتشحّ بأشياء، لأنه لم يرفدها بالأمداد التي تفتقر إليها، والمواد التي تتغذّى منها من المحفوظ والمقروء المهضوم والمدروس المفهوم، فالملكات الأدبية لا تكفي فيها القريحة والطبع حتّى تمدّها الصنعة بأمدادها، وأوّلها متن اللغة غير مأخوذ من القواميس اللغوية لأنها لا تنتهي بصاحبها إلى ملكات لغوية ولا أدبية، وإنما يجب على من أراد أن يربّي ملكته على أساس متين أن يأخذ اللغة من منثور العرب ومنظومهم، فيستفيد بذلك فائدتين: الأولى الكلمة ومعناها، والثانية وضعها في التركيب وموقعها منه وموقعه من النفوس، وحسن التركيب هو سر العربية، ويسمّيه علماء البلاغة حسن التأليف، ومن كلماتهم التي سارت مسير الأمثال قولهم: ولكل كلمة مع صاحبتها مقام. أما أخذ الألفاظ متناثرة من كتاب لغة كالقاموس المحيط ثم وضعها في تركيب كيفما اتفق، فإنه عمل بعيد عن التوفيق مجانب للصواب لأن صاحب القاموس لم يُرد أن يُكوّن بكتابه أديبًا، وإنما أراد أن يخلق مدرّسًا، وقد ذكر كلمة في خطبته دلّت على مقصوده كلّه، فهو يقول في كتاب الصحاح: ولما رأيتُ اقتصار الناس عليه بخصوصه، واعتماد المدرّسين على ألفاظه ونصوصه ... الخ، فهو إنما يريد كتابًا يعتمد عليه المدرّسون بدلًا من صحاح الجوهري، وهو يريد بالمدرّسين مدرّس القواعد العلمية في زمنه الذي هو زمن انحطاط الأدب ونزوله إلى الدرك الأسفل وفساد مقاييسه حتّى يصبح ابن حجر حافظ السنّة وأفقه فقهائها في عصره شاعرًا، وما هو بشاعر. وإذا ذكرنا قاموس الفيروزابادي فما كلّ القواميس مثله: فلسان العرب كتاب يعلّم اللغة، وكتاب المقاييس لابن فارس كتاب لغة يعلّم الأدب، وكتاب المخصّص لابن سيده كتاب لغة وأدب معًا، أمّا اللغة الحقيقية فهي أشعار العرب وأحاديثهم وخطبهم ومحاوراتهم، وأما كتب الأدب المحض فهي كتب الجاحظ والمبرد وابن قتيبة وكتب المحاضرات من مثل عيون الأخبار ومحاضرات الأدباء والعقد الفريد ولباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ وكتب النقد ككتابي قدامة بن جعفر على صغر حجمهما والصناعتين للعسكري والعمدة لابن رشيق حتّى تنتهي إلى المحيط الهادي: الأغاني وما أدراك ما الأغاني. محالٌ أن تكمل ملكة في الأدب لِمَن لم يقرأ هذه الكتب كلّها قراءة تأنّ ودرس، ويحفظ لكل شاعر مجل جاهلي أو إسلامي أشرف شعره وأجزله، ثمّ يأتي كمال الأدب وهو أن يعرف طبقات الشعراء وموازينهم وخصائصهم، وأن يعرف من السير والأخبار ما يحلي به أدبه نظمًا أو نثرًا، فإن الأدب بدون هذه النكت كالطعام بلا ملح، وما سمعتُ قطعة من الشعر لأديب ولا قرأتُ له قطعة نثرية إلّا عرفتُ منها ما قرأ من الكتب، ولقد وعكتُ مرّة فأرسل إليّ أديب يُسليني بقطعة من الشعر، منها:

أيها الحاكي أبا شبرمه … إذ رماه الدهر بالضر ورامه ليتني جئت كيحيى عايدًا … ناذرًا عتق غلام وغلامه والحكاية متكررة في كتب المحاضرات، فلقيته بعد زوال الوعكة وسألته عن غفلة: هل استوعبتَ قراءة عيون الأخبار؟ فأجاب نعم، والعقد الفريد؟ وكذا وكذا الكتب سماهنّ من كتب الأغذية العقلية، وهو صادق، فإنّ آثار القراءة العميقة بادية على شعره كما تبدو آثار الأغذية الصالحة على الجسم فراهةً وقوة وحيوية. أبناءنا الأدباء فقراء في هذه الناحية التي لا يكون الأديب أديبًا إلّا إذا ألمّ بها إلمام المتدبّر، لا المتحيّر المتغيّر، فهم لا يقرأون وإذا قرأوا فقمش من ههنا وههنا. وكلّ ما يستعمله الشعراء والكتّاب اليوم كلمات متداولة محدودة، لا تجاوز مجموعها خمسة عشر ألف كلمة، وهي بضاعة السودق، فإذا كانت كافيةً للاستهلاك اليومي الضروري، على لغة الاقتصاديين، فإنها لا تكفي للمطالب الكمالية والتحسينية في الأدب، والمواضيع تتجدّد، والمعاني تتوارد وتتشابه ثم تتمازج ثم تتمايز، فمن الواجب أن ننحت من هذا المعدن القديم كل يوم جوهرة ونصقلها. لا أرى حالة من الركود، ولو كانت ركودًا لقلنا عسى أن تهبّ الريح، ولكنها قناعة بالموجود، وهذا هو الخطر. ومن قرأ كتب الدنيا ولم يظهر لها في شعره ولا في كتابته أثر، فكأنه لم يقرأ شيئًا. ... ...

مذكرة إيضاحية

مذكرة إيضاحية * (للمذكرات التي قدّمتها لوزارة المعارف المصرية ولمشيخة الأزهر الشريف وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية في يناير الماضي 1953) ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رفعت في الشهر المذكور مذكّرات لوزارة المعارف المصرية ولمشيخة الأزهر الشريف وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية عرضت فيها أعمال جمعية العلماء الجزائريين إجمالًا، وما تمّ على يدها في داخل القطر وفي خارجه، ومنها توجيهها بعثات من تلامذتها إلى الشرق العربي ليدرسوا في معاهده على نفقة حكوماته، وفتحها لمكتب في القاهرة ليشرف على هذه البعثات وليحقق الغاية من إرسالها، وهي اكتساب التربية الصالحة وتحصيل العلم النافع، ثم الرجوع إلى الجزائر لحمل الأمانة التي اضطلعت بها جمعية العلماء. وقد استعرضت- بعد تقديم تلك المذكرة- جميع الاتصالات التي تمّت بيني وبين المسؤولين في الحكومات العربية في شأن جمعية العلماء والتعريف بها، وشرح أعمالها التي كانت نتيجتها تثبيت عروبة الجزائر وتصحيح إسلامها. واستعرضت الاتصالات التي تمت بيني وبين الهيئات وقادة الرأي في هذا الشرق العربي، مقرّرًا لهم وللحكومات لزوم إمداد هذه الجمعية بالعون المادي والمعنوي لأنها في الحقيقة عاملة لهم، مجاهدة في سبيلهم، محافظة لهم على رأس مال عظيم، ومؤتمنة على ذخيرة من ذخائرهم وهي العروبة والإسلام. فلولا هذه الجمعية لضاع على العرب نصف عددهم، وهو ثلاثون مليونًا هم سكّان المغرب العربي، وجرفهم تيّار الاستغراب والبربرة، ولولا هذه الجمعية لضاع على المسلمين هذا العدد من الملايين. استعرضت كل ذلك التعريف بالجمعية، وذلك الشرح لأعمالها وآمالها وتحسّست وقعه في نفوس الإخوان الذين حادثتهم، فرأيت أنني مهما عرّفت بهذه الجمعية وشرحت من

_ * مذكرة مطبوعة، وزّعت على الهيئات المذكورة أعلاه وعلى أجهزة الإعلام.

الشعب الجزائري

أعمالها، ومهما صوّرت من حال الأمّة الجزائرية وتطلعها إلى الشرق العربي ليعرف حقيقتها ثم يأخذ بيدها- مهما فعلت من ذلك- فإن تعريفي لم يزل قاصرًا لا يوصل إلى إخواننا في الشرق الصورة الحقيقية لهذه الجمعية ولهذا الوطن. وخشيت أن يتصوّر إخواننا جمعية العلماء الجزائريين على قياس الجمعيات والأحزاب المتشابهة في المشرق والمغرب ... أشخاص ودوران حول أشخاص، وشخصيات وسعي وراء الشخصيات، وهدم من دون بناء، وأقوال مردّدة، ومقدمات من دون نتائج، ودعاوٍ لا دليل عليها، وغايات تطلب من غير إعداد لوسائلها. فدفعًا لهذا التقصير عن نفسي، ولهذا الوهم الذي ربّما ساور بعض الأذهان فلبس عليها شيئًا كله حق بشيء بعضه باطل، ثنيت (بهذه المذكرة الإيضاحية)، أصوّر فيها جمعية العلماء الجزائريين تفصيلًا، والجزائر وأحوالها إجمالًا، حتى أؤدّي الأمانة كاملة، واستبرئ لله وللحقيقة والتاريخ، وأنا أحرص الناس على أن يبنى تاريخ الجزائر الحديث بأحجاره الأصيلة، ويؤلف من مواده الصميمة لا الدخيلة، وأنا وافد إخوان إلى إخوانهم، فمن حق الفريقين عليّ أن أعرف بعضهم إلى بعضهم حتى يكون غائبهم كالشاهد. ____ الشعب الجزائري ____ الشعب الجزائري فرع من فروع الدوحة العربية الموروثة، لم ينسَ أبوّته، ولم يتنكّر لنسبه على وفرة قواطع الأرحام، ولم يبت صلته بسلائله الأولى المتحدّرة من قحطان وعدنان، ولم تنحرف الضاد عن مجراها في لسانه على كثرة أسباب الاستعجام. وهو- مع ذلك- عضو في الأسرة الإسلامية الكبرى لم يبتغ بدينه بديلًا منذ هداه الله إليه، ولم تختلف به المذاهب فيه، فَقَلَّتْ بينه أسباب الخلاف والعصبية، ومن سدّ الله عليه بابًا من أبواب الخلاف، فقد فتح له بابًا من أبواب الوفاق. وقد جرى هذا الشعب من أجياله الأولى على خير ما في العروبة من خلال وعلى أمهات الفضائل الإسلامية، وحافظ عليها محافظة الوارث الصالح على التراث، إن لم يزد فيه لم ينقصه، وامتاز هذا الشعب بخصائص إنسانية، حظ غيره منها قليل، منها الصلابة في الحق، والكرم والصدق والصبر على الشجاعة والجد، والحفاظ للعرض والدين والكرامة، ومنها الاعتزاز بالعروبة والإسلام والشرف، حتى أنه يرضى- عند الضرورة- بإضاعة كل شيء إلا

جمعية العلماء

هذه الثلاثة، وقد حلّ به من كوارث في تاريخه الطويل ما ينسي المرء دينه ونسبه وموطنه، ولكن عقيدته في هذه الثلاثة لم تتزلزل، وأصيب منذ مائة واثنتين وعشرين سنة بالاحتلال الفرنسي، وهو في شتات من أمره، واضطراب في أحواله، لعوامل سبقت ذلك الاحتلال وكانت تمهيدًا له، فدافع عن كرامته وكرامة دينه ووطنه كما يدافع العربي الخالص والمسلم المخلص، ووقف المواقف الخالدة عشرات السنين في حماية حقيقته والذود عن حماه، مع فقد الأنصار وانقطاع الوسائل، فلما غلب على أمره خسر الدنيا وما يتبعها من مال وسلطان، ولم يخسر الدين وما معه من رجاء الله يطرد اليأس، ويحفظ الصبر، ويستنزل النصر ويبقي على الأمل، ويغري بمعاودة الكرة، ولكن عدوّه كان أنفذ بصيرة في مكامن القوة، فعلم أن سلاح المسلم هو دينه ويقينه، ثم علمه وماله، فسلّط على دينه عوامل المحو الظاهرة والخفية، ورمى يقينه بأسباب الشك الحسية والمعنوية، وحارب علمه بالتجهيل ومحق حاله بالتفقير، وضرب بينه وبين مأرزه في الشرق سورًا محكمًا، فما أفاق على صوت الدعوة الجهير من جمعية العلماء- وهو أول صوت صك آذانه وفتح أذهانه- إلا وهو فقير من دينه ودنياه، جاهل بدينه ودنياه، مفلس من عقله وفكره، مسلوب من عزيمته وإرادته، ولكن بقي فيه مكمن لم تمتدّ إليه يد الاستعمار وهو مكمن الإيمان بالله وبالنفس، والعلاقة باللغة وبالجنس، وفي هذه المعاني عوض عن كل فائت وسلوى عن كل ضائع، وعلى هذه المعاني وضعت جمعية العلماء أساس أعمالها ومن هذه النقطة بدأت السير إلى غاياتها. ____ جمعية العلماء ____ ليس بمبالغ من يقول: إن جمعية العلماء الجزائريين هي أعظم جمعية من نوعها في العالم الإسلامي، على شرط أن يكون ميزان المقارنة هو العمل ومادته ونتيجته، والزمان والمكان وملابساتهما، ثم الموضوع ... فإذا اعتبرنا هذه المعاني في المقارنة وجدنا جمعية العلماء الجزائريين تبذ جميع الجمعيات العاملة في الإصلاح الديني والاجتماعي، والدين يستتبع العلم، والاجتماع يستتبع السياسة، وقد وضعت الجمعية الخطوط الأولى لهذه العصور المتشابكة المتلازمة من أول يوم ثم أتبعتها في الخطوات السديدة فيها جميعًا، على نظام لا ينقض آخره أوله. وجمعية العلماء صاحبة رسالة مقرّرة ومبدأ ثابت وهدف واضح، ومن خصائصها أن تقول وتعمل وتهدم المتداعي لتبني على أساس صحيح، وتسعى إلى الغايات بوسائلها الطبيعية

نشأة هذه الجمعية

أو المعقولة، وتراعي سنّة الله في الأنفس والآفاق، وتجري مع أوليائها وخصومها على الجدد الواضح. فلا تسلك بُنَيَّات الطرق، ولا تتبع مضلات العقول ولا خيالات الخياليين، ولما كانت تأوي إلى الركن الشديد من الدين فهي لا تتكثر بغير المؤمنين ولا تعتمد على غير الصادقين المخلصين؛ ولما كان موضوعها الأمة بنت أمرها معها على الصدق والثقة، تعمل للأمة بصدق، وتعمل معها بثقة؛ ولما كان الاستعمار الفرنسي هو الذي قضى على دين الأمة الجزائرية ودنياها، فقد جاهرته بالعداوة وتتبعته في كل ميدان، وفضحت مكايده، وكشفت عن مخازيه، وتحدت قوانينه بالرفض. والعلاقة بين الجمعية والأمة علاقة روحية، ولذلك فهي تزداد مع كل حادث قوة وتماسكًا، لأن أول الدين وآخره سواء، وزاد هذه العلاقة متانة وتوثقًا أن الجمعية تعمل للأمة في النهار الضاحي وتعاملها على المكشوف، وتبني لها قبل أن تطالبها بالثمن، وتشركها في العمل. فالأمة هي التي تأخذ وهي التي تعطي، ويد الأمة هي التي تقبض وهي التي تدفع، فإذا مرّ شيء من المال بيد الجمعية مرّ عليها وهو منطلق إلى مصلحة شاركت الأمة الرأي المقرر لها والوسيلة المحققة لوجودها. ونثبت لإخواننا الشرقيين في هذا الموضع حقيقة تاريخية، وهي أن كل ما يوجد اليوم في الجزائر من حركات فهو مدين لجمعية العلماء بوجوده، وكل ما يعلو فيها من أصوات فهو صدى مردد للكلمات النارية التي كان يقذفها لسان مبين يترجم عن علم مكين ودين متين، وهو لسان المرحوم باني النهضات الجزائرية من غير منازع الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه الحية وخطبه المثيرة من يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى أن توفّاه الله في أوائل الحرب العالمية الثانية. نشأة هذه الجمعية: أطوار نشأة هذه الجمعية كأطوار نشأة الإنسان، فقد كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى فكرة تجول في خواطر جماعة قليلة من أصحاب الشواعر الحية والتأمّل العميق من علماء الجزائر، ثم استقرّت في ذهنين متجاوبين، أحدهما ذهن جبّار وهو ذهن عبد الحميد ابن باديس، ثم تناولها الذهنان بالإشاعة حتى أصبحت عقيدة ثم تتابعت الدواعي من انتشار الوعي في الأمة فأصبحت حقيقة، وكأن المتلاحق من أحوال الأمة قال لها: كوني فكانت، وجلاها الله لميقاتها، بلا بطء ولا إسراع. تكوّنت في شكلها القانوني في أواسط عام 1931 ميلادية، وكأن الله جعلها تنقيصًا للاستعمار، فقد كان نشوانًا بخمرة الفرح لمرور مائة سنة على استقراره في الجزائر وقد قضى

تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر

السنة التي قبلها في مهرجانات صاخبة دعا إليها العالم كله فما لبّى إلا قليل، فما دخلت السنة الثانية حتى فوجى بتكوين جمعية العلماء في غمرة من ابتهاج الأمة بهذا المولود الجديد، ووجم لها الامشعمار وظنّ الظنون، ولأمر يعلمه الله لم يعارض في القانون الأساسي المجمل، ولم يتشدّد في الإجراءات القانونية، أما الإرهاصات التي أفضت إلى هذه المعجزة فقد سبقتها بأكثر من عشر سنوات، هي فترة استعداد بمقدّمات، وتمخّض عن حقائق واحضار للوسائل، وتجاوب بين العقول وتفشِّ للخير في السرائر، وتقويم للأخلاق بواسطة القرآن، وتوجيه صحيح للعناصر الصالحة التي بقيت محتفظة بشيء من سلامة الفكرة ليكونوا أساسًا للدعوة، وألسنة للدعاية. تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر: تتكوّن جمعية العلماء- كسائر الجمعيات- من مجلس إداري يتركّب من سبعة وعشرين عضوًا من العلماء، ينتخبهم اجتماع عام، من جميع العاملين في التعليم والتدرش! والوعظ، وشعقد هذا الاجتماع في مدينة الجزائر في شهر سبتمبر من كل سنة إلا لضرورة، ثم ينتخب المجلس الإداري من أعضائه مكتبًا دائمًا، يتوثى تسيير الأعمال، وتنفيذ القرارات، وشقسم بقية الأعضاء على لجان فرعية مسؤولة للمكتب الدائم وتتخصّص كل لجنة بفرع من فروع الأعمال، وهي لجنة التعليم العليا وهي أوسع اللجان وأكثرها أعمالًا، لأنها تنظر في البرامج والكتب والمعلمين والتفتيش والتدريب، والامتحانات الابتدائية، ولجنة الفتيا الدينية، ولجنة الوعظ والإرشاد، ولجنة المراقبة العامة، ولجنة الدعاية، ولجنة تسيير جريدة «البصائر» وهي لسان حال الجمعية، ولجنة ضبط الحسابات المالية، ولجنة البعوث إلى الخارج، ولجنة الاتصال بالشُّعَب المنتشرة في القطر، ولجنة الاتصال بالجمعيات المحلية للمدارس بم ولكل لجنة لائحة داخلية تحدّد اختصاصها، زيادة عن اللوائح العامّة للجمعية، وكلّها شرح للقانون الأساسي، ومن وراء هذه التشكيلات مجلس المسؤولين عن المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، ومن وراء الجميع الشُّعب المنتشرة في مدن القطر وقراه، وعددها الآن يزيد على ثلاثمائة شعبة، وكلها مرتبطة بالمركز العام بواسطة لجنة الشّعب ارتباطًا وثيقًا، ولهذه الشعب نظام وتقسيمات إدارية، فلكل مجموعة من الشعب شعبة مركزية ترجع إليها لتسهيل العمل، وتعقد مؤتمرًا إقليميًا في كل شهر أو شهرين، ثم تعقد الشعب المركزية مؤتمرًا في عاصمة المقاطعة في كل ستة أشهر أو في أقل إن دعا الحال، ثم يعقد رؤساء الشعب كلهم مؤتمرًا سنويًا في مدينة الجزائر قبيل انعقاد الاجتماع العام لتنظيم ومراقبة قوائم الانتخابات ثم ينعقد مؤتمر المعلمين قبيل ابتداء السنة الدراسية للنظر في شؤون التعليم كلها بحضور ممثلين للجنة التعليم العليا.

العضوية في الجمعية

وتأتي بعد ذلك تشكيلات الجمعيات المحلية، وهي بعدد المدارس، لكل مدرسة جمعية محلية من أهل البلد التي بها المدرسة، وتقوم هذه الجمعيات بالجانب المادي للمدرسة، فهي التي تجبي المال وتؤثث المدرسة وتدفع رواتب المعلّمين شهريًا ثم تقدم الحساب في آخر السنة الدراسية للمكتب الدائم. العضوية في الجمعية: أعضاء الجمعية غير الإداريين ثلاثة أقسام: العاملون، وهم أهل العلم، والشرط الأساسي فيهم أن تكون لهم قيمة علمية تؤهّلهم للتسجيل في قوائم الانتخاب على وفق القانون الأساسي، وعدد هؤلاء بضعة آلاف؛ والمؤيدون، وهم الملتزمون بدفع اشتراك سنوي حدّده القانون الأساسي، ولا حق لهؤلاء في الانتخاب، وعدد هؤلاء يبلغ في بعض السنين مئات الآلاف، والأنصار وهم الأتباع العاملون بمبدإ الجمعية في الإصلاح الديني، المعتنقون لفكرتها ... المناصرون لها في الأزمات، وعدد هؤلاء يبلغ الملايين. جرائد الجمعية: في طور الاستعداد والتمهيد كان لسان حال الفكرة الإصلاحية هو جريدة «المنتقد» وقد أسّست لهذا الغرض، على قاعدة أن الباطل إذا استحكم ورسخ فمن الحزم أن تصدمه صدمة عنيفة تضعضع أركانه، لذلك كانت شديدة اللهجة قاسية الأسلوب صريحة التجريح، فضاق بها الاستعمار وأعوانه فعطّلوها، وخلفتها مجلة «الشهاب» الشهرية داعية إلى الحق في الدين والدنيا، صادقة الحملة على الضلال في الدين والسياسة، متحدية للاستعمار وهو في عنفوان طغيانه، وكانت حليتها الفاخرة إعلانها لآراء الإمام عبد الحميد بن باديس في الدين والسياسة أو في فصول من تفسيره للقرآن بقلمه البليغ، و «الشهاب» مجلة ولدت راقية، ويقل نظيرها في المجلات العربية في حرارة الدعوة وجرأة الرأي، وقد حماها الله من التعطيل، بما كانت تحمله من دعوة الحق، فهي أطول صحف الجمعية عمرًا، وعاشت ماهدة للدعوة سنوات، ولما تشكّلت الجمعية كانت لسانها المبين، إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية فعطّلناها اختيارًا، ثم لم تعد إلى الصدور. ولما اتسعت الحركة عزّزتها الجمعية بجريدة أسبوعية اسمها «السنة» فعطلتها حكومة الجزائر، لأنها- إذ ذاك- لم تتعوّد سماع تلك اللهجات الحارّة، فأصدرت الجمعية في الأسبوع نفسه جريدة «الشريعة» وكانت أشدّ على الاستعمار من سابقتها فعطّلتها الحكومة بعد أسابيع من صدورها، فأصدرت الجمعية في الحين جريدة «الصراط» أحدّ لسانًا وأقوى بيانًا من أخواتها، فعاجلتها الحكومة بالتعطيل، وكان تعطيلها بقرار وزاري من باريس، وفي هذا

مالية جمعية العلماء

القرار من العجائب أنه صرّح بأن اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، وأن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء فهي معطلة من قبل أن توجد، ولا يشبه هذا القانون المجنون إلا الحكم بالإعدام على من لم يخلق. وسخرت الجمعية من هذا القرار، وأصدرت- بعد مدة- جريدة «البصائر» فسكت الاستعمار ومحا قراره بيده، وبقيت «البصائر» سائرة في طريقها، ناصرة لفريقها إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية، فعطلناها باختيارنا، لأننا لا نستطيع أن نقول ما نريد، ولا نرضى أن نقول ما يراد منّا، فلما انتهت الحرب وما استتبعته من نفي واعتقال أعدنا صدورها، وهي سائرة على منهاجها القويم إلى الآن، فخورة بالمواقف المشهودة التي وقفتها في قضايا الجزائر ومراكش وتونس وليبيا وفلسطين، وقد شهد الموافق والمخالف بأنها مواقف لم تقفها جريدة عربية على الإطلاق، ومجاميعها بلغت تسعة مجلدات، مسجّلة لأعمال جمعية العلماء. من علم ما في هذا الفصل- وهو الواقع - علم مصدر الصيحة الأولى في وجه الاستعمار الفرنسي. مالية جمعية العلماء: ليس لهذه الجمعية الكبيرة الأعمال، الكثيرة المشاريع، مورد مالي قار وهي تعتمد في تسيير مشاريعها الضخمة على الأمة من طريق اشتراكات سنوية يدفعها الأعضاء العاملون والمؤيدون أو تبرعات الأنصار أو زكوات يدفعها الموسرون المؤمنون، وفرنسا واقفة بالمرصاد: فكل من بلغها إعانته لجمعية العلماء انتقمت منه بتعطيل مصالحه حتى رخصة الحج، أو بفرض ضرائب ثقيلة على مورد رزقه. وصندوق جمعية العلماء يموّن عدّة مشاريع متمايزة بميزانيتها. فـ «البصائر» تعيش معيشة ضيّقة على أثمان الاشتراكات والمبيع، والعجز السنوي ملازم لميزانها كما هو الشأن في جرائد المبادئ، والمكتب الدائم ينفق على موظفيه وكتابه وسائر ضرورياته من حساب الاشتراك السنوي الذي تجمعه الشُّعب، والمعهد الباديسي له ميزانية خاصة على التفصيل الآتي، تتغذّى من الزكوات التي يدفعها المؤمنون بالله، ومن اشتراكات سنوية تشترك فيها طبقات كثيرة. هذه الأمة الفقيرة التي أجاعها الاستعمار هي التي بنت بِدُرَيْهِمَاتِهَا صروحًا للعلم وحصونًا لأبنائها، وهي التي تعهّدت بتعمير تلك الحصون والإنفاق عليها.

أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا

أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا: في فرنسا جاليات إسلامية مختلفة تبلغ مئات الآلاف، وفيها من العمّال الجزائريين وحدهم نحو أربعمائة ألف، وهم في ازدياد مطرد، بسبب ما ضيّق الاستعمار على الجزائر من سبل المعيشة، فهاجرت هذه الجالية تطلب العيش من طريق العمل واستقرّت في مراكز الصناعات في فرنسا، وتزوّج كثير منهم من أوربيات عاملات وولد لهم في أرض مسيحية من زوجات مسيحيات، فكانت النتيجة اللازمة لهذا أن الآباء أضاعوا دينهم بتأثير البيئة فضلًا عن الأبناء الذين اجتمعت عليهم البيئة والأمهات والقانون، إنهم بلا شك ينشأون مسيحيين خالصين. هال جمعية العلماء هذا الخطر الذي يسلخ من الأمة الجزائرية على التدريج أجيالًا، فيكون ذلك نقصًا منها وزيادة في عدوّها، فصمّمت على أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذا العدد الضخم، فندبت أحد شبابها المجاهدين، وهو الاستاذ الفضيل الورتلاني للقيام بهذا العمل في باريس سنة 1936، فأسّس في سنة واحدة ثمانية عشر مركزًا تعليميًا في باريس وأطرافها، ثم وسّع الحركة إلى المدن الكبيرة في جنوب فرنسا وشمالها، وتعددت المراكز وأمدّته الجمعية بالمعلّمين، فكانت تلك المراكز تعلّم الأطفال العربية والدين ساعات من النهار، فإذا جاء الليل أقبل الكبار فتلقّوا دروسًا سهلة في أصول الدين وفروعه ومارسوا العبادات العملية، فكانت هذه المراكز كخلايا النحل لا تنقطع منها الحركة، وكان الإقبال عظيمًا، وقد أثمرت تلك الحركات ثمرات ما زالت حديث الناس، وتردّد على تلك المراكز عظماء العرب من الزوّار وأبناء العرب من التلامذة فأعجبوا بالعمل ونظامه وأعظموا نتائجه، وكانت جمعية العلماء الجزائريين مضرب المثل بينهم، ولكن الحرب الأخيرة قضت على ذلك العمل المثمر فلم تبق إلا الأحاديث والأماني والحسرات، وحاولت جمعية العلماء الجزائريين إطلاقه مجددًا، فأوفدت منذ عامين رئيسها ووكيلها إلى باريس ليدرسا المشروع ويحاولا إحياءه بقدر المستطاع، فاعترضتهما عقبة أخرى بعد عقبة المال وهي استحالة وجود الأماكن إلا بأثمان فاحشة، ولم يحصلا من رحلتهما إلا ما يثير العبر، ويسيل العبرات، وهو أن عدد العمّال الجزائريين في باريس وأطرافها جاز مائة وخمسين ألفًا، وأن عدد الأولاد الذين نسلوهم من أمهات مسيحيات يزيد عن عشرين ألفًا من بنين وبنات، وهذا في باريس وحدها، وهو قليل من كثير ... وما زاد وفد الجمعية على أن اشترى مركزًا متواضعًا ليكون رمزًا للمشروع ونقطة بدء في تحقيقه. إن هذا المشروع لا تقوم به إلا حكومات إسلامية متضامنة تمدّه بالمال وإن هذا الواجب ليس مقصورًا على جمعية العلماء الجزائريين وحدها، بل على المسلمين كلهم، وفي طليعتهم الحكومات العربية، فهل يبلغ آذانهم هذا الصوت؟ وهل يحرّك هممهم إذا بلغها؟

مواقف مشهودة لجمعية العلماء

ليت شعري ... لو يشعر هؤلاء المترفون من إخواننا الشرقيين الذين ينفقون مئات الملايين في ملاهي باريس، وعلى شياطين باريس وموبقات باريس ... لو يشعرون بأن في باريس التي يهرعون إليها في كل عام عشرات الآلاف من أطفال المسلمين يسبيهم الكفر في غير حرب، وأنهم مسؤولون عنهم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. أم أن الهوى أصمّهم وأعمى أبصارهم؟ مواقف مشهودة لجمعية العلماء: ولهذه الجمعية- بتوفيق الله- في كل حادثة غريبة موقف مشهور، ولها في كل ملمة تلمّ بالمسلمين في الشرق أو في الغرب موقف مشهود، ومن تتبّع مجاميع صحفها وقف على الكثير من ذلك، ولكننا نقتصر على المواقف ذوات الغرر والشيات. موقفها من المبشّرين المسيحيين: الجزائر مركز ممتاز لجمعيات التبشير المتعددة التي يصبّ عليها المال هباءً والتي تتخذ من المال أدوات للتنصير، والاستعمار الفرنسي مسيحي بالطبع، وإن غطَّى ذلك بألف ثوب، ولذلك نجده من وراء كل حركة تبشيرية يحميها وييسّر لها ويمهّد السبل للانتشار، ومن هذه السبل الشيطانية خلقه للمجاعات في وطن كله خير وفير، ليحمل العراة الجياع على الالتجاء إلى رسل الرحمة المبشّرين، وان الحاكم المدني العام في الجزائر، لرهن بإشارة من إشارات رئيس الكنيسة الكاثوليكية، بل ان هذا الرئيس المسيحي هو الحاكم في الحقيقة. وجمعية العلماء عملية واقعية، فرأت أن تيّار التبشير المؤيّد بأسباب القوة لا يقاوم بالأقوال وأنه لا يقاوم إلا بتقوية المعاني الدينية في النفوس، ومنها القيام بحق الله في البائس الفقير والرحمة باليتيم، والبر بالمساكين، وشرحت للأمة المنافذ التي يتسلّل منها هؤلاء المبشّرون. وما كادت آثار تربية جمعية العلماء تظهر وتأخذ مأخذها من النفوس حتى أحسّ المبشّرون بالشرّ يطرق ساحتهم وحتى تنادوا مصبحين واستَعْدَوا الحكومة على جمعية العلماء، وكانوا أقوى الأسباب فيما نالها من عنت، وجَدَّتْ الجمعية في حرب التبشير بالعمل فلا تواتيها فرصة لفتح مدرسة عربية إسلامية، في مركز من مراكز سلطانهم، إلا بادرت إلى تشييدها تحت أسماعهم وأبصارهم، إغاظة لهم وسدًّا دون أمانيهم وإبطالًا لكيدهم وما أغنت قوّتهم ولا حماية الحكومة لهم شيئًا. ونحمد الله على أننا خفّفنا من شرور هذه الفتنة، وعلى أن في الجسم الجزائري مناعة تدفع عنه غوائل هذا البلاء، والمبشّرون أنفسهم يشهدون أنهم لم تستنزل رقاهم إلا واحدًا أو اثنين في الآلاف من جرائمهم، وأن جمعية العلماء هي أقوى خصم لهم في هذا الباب.

موقفها من الإلحاد

موقفها من الإلحاد: دخل داء النزعات الإلحادية إلى الجزائر في ركاب الاستعمار، يتمشّى مع الحضارة الغربية ويتفشّى في علومها وآدابها، وأمدّه الاستعمار بالقوّة، ليغالب به العقائد الثابتة وليضلّ به المهتدين، أو يحول به بين الضالين وبين الهداية، وقد حالت جمعية العلماء بينه وبين الانتشار بما أفاضت على العقول، وأشاعت في النفوس من الهدي المحمدي، وحاصرته بحقائق الإسلام فحصرته في أضيق الأمكنة، وفي نفوس كأنها رموس. موقفها من الخمر: يعترف بائعو هذه المادة الخبيثة أن كل بلدة تمكّنت فيها دعوة جمعية العلماء بارت فيها سوق الخمر، وقد أفلس كثير منهم بهذا السبب، وهذه حقائق ملموسة لا يختلف فيها اثنان. موقفها من تعليم المرأة: كان الجمود واقفًا في سبيل المرأة ومانعًا من تعليمها، فجاءت جمعية العلماء وأذابت الجمود وكسرت السدود وأخرجت المرأة من سجن الجهل إلى فضاء العلم في دائرة التربية الإسلامية والمنزلة التي وضعت المرأة فيها، والجمعية تبني أمرها على حقيقة، وهي أن الأمة كالطائرة لا تطير إلا بجناحين، وجناحاها هما الرجل والمرأة. فالأمة التي تخصّ الذكر بالتعليم تريد أن تطير بجناح واحد، فهي واقعة لا محالة، ولجمعية العلماء جولات موفّقة في هذا الميدان، فالنساء أصبحن يشهدن دروسًا خاصّة بهن في الوعظ والإرشاد ويفهمن ما للمرأة وما عليها، وشهد الرجال بتبدّل الحال وظهور النتائج في المحافظة على العرض والمال وفي إحسان تدبير المنزل وتربية الولد، وفي مدارس جمعية العلماء نحو ثلاثة عشر ألف بنت، يشاركن الأولاد في السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية، ثم ينفردن ببرنامج محكم، وينعزلن في صفوف خاصة مع الشدة في التربية الإسلامية، والدقة في المراقبة. موقفها من السياسة الجزائرية: إذا كان الإسلام دينًا وسياسة، فجمعية العلماء دينية سياسية، قضية مقنعة لا تحتاج إلى سؤال ولا إلى جواب، وجمعية العلماء ترى أن العالم الديني إذا لم يكن عالمًا بالسياسة ولا عاملًا لها فليس بعالم، وإذا تخلّى العالم الديني عن السياسة فمن ذا يصرفها ويديرها؟ لا

موقف فرنسا من الجمعية

شك أنّه يتولاها الجاهل المتحلل فيغرق السفينة ويشقي الأمة، وكثيرًا ما غلطنا الاستعمار حين يضيق ذرعًا بنا، فيقول أنتم علماء دين فما لكم وللسياسة؟ إن الدين في الإسلام سياسة، وإن السياسة دين، فهما- في اعتباره- شيئان متلازمان، أو هما شيء واحد، وقد جاراه في النغمة الممجوجة بعض ضعفاء الأميين من سماسرة السياسة منّا، والغرضان متقاريان: فالاستعمار يريد أن يزيحنا عن طريقه فيزيح خصمًا عنيدًا يمنعه العلم أن يخدع ويمنعه الدين أن يساوم في حق قومه، وضعفاء الإيمان من قومنا يريدون أن يخلو لهم الجو فيعبثوا ما شاء لهم العبث ولا علم يصدع ولا دين يردع. لجمعية العلماء في كل نقطة من السياسة الجزائرية رأي أصيل، تجهر به وتدافع عنه وتذيعه في الناس وتخالف رأي غيرها بدليل، وتوافقه بدليل، لأنها لا تقبل التقليد في الدين وكيف تقبله في الدنيا؟ وصفوة رأي الجمعية في السياسة الجزائرية تحرير الجزائر على أساس العروبة الكاملة والإسلام الصحيح والعلم الحي، وعلى ذلك فهذه الجهود الجبّارة التي تبذلها جمعية العلماء في سبيل العربية والإسلام والتعليم كلها استعداد للاستقلال، وتقريب لأجله، ولكن كثيرًا من قومنا لا يفقهون، أو لا يريدون أن يفهموا، ولو أرادوا أن يفهموا لحكموا المحسوس الذي لا يرتابون فيه، وهو أن جمعية العلماء حرّرت العقول وصقلت الأفكار وأيقظت المشاعر. والنتيجة الطبيعية لذلك كله هي تحرير الأبدان، لأن الأول مدرجة إلى الثاني. إن أوربا ما استعبدت الشرق إلا بعد أن أفسدت أخلاقه وأضعفت روحانيته، وهيهات أن ينقذ الشرق نفسه من العبودية لأوربا إلا بعد أن ينقذ نفسه من نفسه، وقد مرّت على مصر سبعون سنة وهي في كفاح متواصل مع خصمها، ولو أن قادة الرأي فيها ربوا جيلًا واحدًا على الروحانية القوية لما قامت للخصم قائمة مع الجيل الثاني. هذه حقيقة عريانة من أنكرها فهو ساعٍ إلى الحقيقة على جسر من الخيال. موقف فرنسا من الجمعية: تعتقد فرنسا أن أعدى عدو لها هو جمعية العلماء الجزائريين لأنها كشفت عن مكايدها الخفية، وناقضت كل عمل لها بضده، فهي تهدم وجمعية العلماء تبني، وهي تُجهّل، والجمعية تعلم، وهي تنوم والجمعية توقظ، وكفى بهذا سببًا للعداوة التي لا صداقة معها، ويمنعنا الخجل أن نذكر ما لقيته الجمعية من فرنسا ... فإنه في سبيل الله.

أمهات أعمال جمعية العلماء

أمهات أعمال جمعية العلماء ____ أولًا- مقاومة الأمية: صنعت جمعية العلماء في هذا الميدان ما لم تصنعه الحكومات. والأمية هي شلل الأمم، وتفشّيها في الأمة الجزائرية هو الذي أقعدها عن مجاراة الأحياء في الحياة، وهو أقوى الأسباب التي مكّنت للاستعمار، فكأنه اتّفق معها على أن يخدمها لتخدمه فوفى ووفت. حاربت جمعية العلماء هذا الداء الوبيل الذي يقتل الفكر والضمير، ويقضي على العقل والروح، ويطفئ المواهب، ويخدر المشاعر، ويضعف الاستعداد، وشدّدت العزائم على حربه، وفتحت دروسًا ليلية للكبار لا تزاحم البرامج المقررة، وعمّمت تلك الدروس بالتدرّج في نواديها وكثير من مدارسها، وجنّدت لهذا الميدان مئات من معلّميها، وراجت هذه الدروس واشتدّ إقبال الأميين عليها حتى بلغوا في بعض الأحيان عشرات الآلاف، فيما بين سنتي 1937 و 1939، ولم تمضِ سنتان حتى أصبح الكثير منهم يقرأ قراءة صحيحة ويكتب كتابة صحيحة، وكأنهم عميان تفتّحت عيونهم على النور وسمت همم بعضهم إلى المزيد فبلغوا درجات لا بأس بها وأغرتهم الكتابة على الحفظ فحفظ بعضهم أجزاء من القرآن، وتشوّقوا إلى الفهم فأصبحوا يفهمون كثيرًا من حقائق الدين القريبة، ومعاني الحياة البسيطة، والتسلسل المجمل للتاريخ الإسلامي، وإن هذا الربح عظيم لأصحابه وللمجتمع، ولقد رأينا بأعيننا من معجزات العزيمة أن أميًّا مسنًا أصبح معلّمًا، معلّمًا للأميين وإمامًا لهم يدينون له بالاحترام، وكانت هذه البوادر من النجاح دعاية قوية للتعليم، ونصيرًا عامًا لتحطيم الأمية وتهجينها فزاد الناس إقبالًا على تعليم أولادهم، يرون ذلك كفّارة عمّا كان لهم من الجزء الاختياري في جريمة الأمية، وما جاءت سنة 1943 حتى تجلّت آثار هذا التفكير واغتنمتها الجمعية فأسّست في سنة واحدة سبعين مدرسة في أنحاء القطر. ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية: بدأت الجمعية أعمالها في التعليم العام بالمحاضرات العامة في المساجد والنوادي والقاعات العمومية والميادين الجامعة والأسواق، فكلّفت طائفة من رجالها الكفاة في العلم والبيان بالطواف في مدن القطر وقراه وسهوله وجباله، يزرعون الحماس بواسطة هذه المحاضرات، ويبيّنون الحقائق، ويثبّتون العزائم، ويحرّكون الهمم، ويضربون الأمثال، ويربطون للأمة حاضرها بماضيها، ويذكرونها بما نسيته من أمجاد سلفها، ويهيّئونها لنهضة

ثالثا- تأسيسها للنوادي العلمية

شاملة في العلم والسياسة والاقتصاد، وكانت هذه المحاضرات هي البذر الأول لهذه المبادئ في الجزائر، وتحريك الأفكار لفهم الحياة على حقيقتها، وقد استغرق هذا الأسلوب سبع سنوات، كان أولها بدءًا للصراع بين الجمعية وبين الحكومة. وقارن هذا الهجوم على الجمهور بالمحاضرات هجومًا آخر على الشبّان بدروس علمية منظّمة المواقيت والمواضيع، محذوفة اللغو والفضول؛ ومن أولئك الشبّان تكوّنت الطلائع الأولى لجيش النهضة العلمية، وكانت الطريقة التي بنت عليها جمعيتنا أصول هذه النهضة هي الجمع بين التربية والتعليم، لأن العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلا يوم فارقت التربية الصالحة العلم، وكم شقي أصحاب العلم المجرّد بالعلم وأشقوا أممهم، والسعادة غاية لا يسلك إليها طريق العلم وحده من غير أن تصاحبه التربية، وأن الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي في آية {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ائكِتَابَ وَائحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. فعلت تلك المحاضرات فعلها في الجمهور الجزائري، وآتت أكلها سائغًا هنيئًا وأصبحت غذاء لذلك الجمهور، ومادة من مواد تعليمه، وصلة بينه وبين الجمعية، وفي أصداء تلك المحاضرات أوصلت الجمعية نداءها إلى القلوب، وأصبحت تخاطب الضمائر لا الآذان، وفي إشراق تلك المحاضرات وصلت إلى الغاية التي ترمي إليها وهي توثيق التعاون بينها وبين الأمة على تعليم النشء وتكوين جيل صالح للحياة متّحد النزعات متجاوب الخواطر والمقاصد، يحرّر الوطن من الاستعمارين الروحي والمادي، ومحال أن تحرّر أمة أبدانها قبل أن تحرّر عقولها وأفكارها. ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية: المقصد الأول لجمعية العلماء هو التربية والتعليم، وطبقات الأمة ثلاث متفاوتة الشعور والإدراك، ولكنها مشتركة في القابلية والاستعداد وهي: الشيوخ والشباب والأطفال، فرأت الجمعية أن تصرف عنايتها على الطبقات الثلاث في آن واحد كل طبقة على قدر استعدادها، ولكن أين تلتقي بهذه الطبقات؟ فإذا التقت بالشيوخ والكهول ورقاد المساجد في المساجد، والتقت بالأطفال في المدارس التي شيّدتها للالتقاء بهم فيها، فأين تلتقي بالشبّان الذين فاتتهم المدرسة والمسجد معًا؟ ولكن عزيمة الجمعية لا تقف في طريقها الصعاب، فأنشأت مشروع "النوادي" لتكون وسطًا طبيعيًا بين المساجد والمدارس، وتلتقي فيها بالشبّان الذين هم وسط طبيعي بين الشيوخ والأطفال. أنشأت الجمعية في مدة قصيرة عشرات النوادي في المدن والقرى، وَدَعَت إليها الشبّان فاستجابوا وأقبلوا عليها لأنها أقرب إلى أمزجتهم ولأن فيها شيئًا من التسلية والمرح، ولأن

رابعا- بناء المدارس

فيها قليلًا من جو المقهى ... وفي ظل هذه الجواذب التقت الجمعية بالشبّان وقامت بحق الله فيهم فنظّمت لهم فيها محاضرات تهذب بها أخلاقهم وتعرّفهم بأنفسهم وقيمتهم ومنزلتهم في الأمة وتجمع قوّتهم، ودروسًا تعلّمهم بها دينهم ولغتهم وتاريخهم، فكان لمشروع "النوادي" آثار في الشبان تساوي آثار المدرسة في الأطفال وتفوق آثار المساجد في الشيوخ والكهول، ومن النوادي خرج الشبّان إلى المسجد يؤدّون حق الله، وإلى ميادين العمل يؤدون واجبات المجتمع. ولكن الاستعمار كعادته ضاق ذرعًا بهذه الثورة الفكرية التي أحدثتها في الشيوخ والكهول دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وأشعلتها في الشبّان محاضرات النوادي، ولم يطق على هذه الحالة، فأصدر الحاكم العام أمرًا بمنع رجال جمعية العلماء من إلقاء الدروس في المساجد (الحكومية) لأنها- في رأيه- دروس سياسية، وبعد مدة أصدر أمرًا آخر بحرمان النوادي من بعض الامتيازات كبيع القهوة والشاي لأعضائها وبالتسوية بينها وبين المقاهي العمومية في الخضوع لإشراف العمومية ... ومغزى هذا القرار- الذي له في الجزائر نفوذ القانون- هو إغلاق النوادي لأنها لا تقوم إلا على أثمان المشروبات التي تقدمها لأعضائها، فإذا حرمت منها لم يبق لها مورد إلا اشتراكات الأعضاء وهي لا تكفي. أما الجمعية فإنها قابلت هذه القوانين الشديدة بعزائم أشدّ، ونقلت دروس الوعظ من بيوت الله التي تسلّطت عليها فرنسا إلى حيث يمكن من أرض الله، في البيوت وفي القاعات، وفي المدارس، وفي المدارس الحرة التي أنشأتها الأمة بإرشاد جمعية العلماء وعددها نحو المائة وهي منتشرة في القطر. وأما النوادي فقد تحدّت الجمعية القرار المتعلق بها واستمرّت على إلقاء المحاضرات فيها واستعانت بعزائم الشبّان التي لم تتأثر بآثار ذلك القرار السخيف، والأمر على ذلك إلى الآن، والحرب بيننا وبين الحكومة في شأنها سجال، والمخالفات والتغريمات تملأ السجلات. رابعًا- بناء المدارس: وهذا الفصل- وإن أخّرنا الحديث عليه- هو الغرة اللائحة في أعمال جمعية العلماء، وهو سجل الفخار في تاريخها وتاريخ الجزائر الحديث، وسيلتقي المؤرّخ المنصف والمؤرّخ الجائر في الحكم عليها، لأنها أبنية ومآثر، ولأنها همم وعزائم ولأنها قوة ولّدها الضعف. كانت الجزائر كلها خالية من المدارس العربية النظامية الحرة إلا كتاتيب قرآنية كلها فوضى مهدّدة بالإغلاق في كل حين، ولو بأمر أحقر موظف حكومي، وتعليم العربية في المدارس الحكومية اسم بلا مسمّى وعلم بلا علم. ثم قامت جمعية العلماء منادية بإحياء

العربية على رغم أنف الاستعمار، وكان عملها في السنوات الأولى ما وصفنا وكانت المدارس في تلك السنوات لم تنته إلى العشر، ولكنها بعد حملة المحاضرات وتأثّر الأمة بها وتأجج حميتها للغتها، ثارت الرغبات الكامنة فيها واحتدّ التنافس في هذا الميدان في المدن والقرى، فقفز عدد المدارس من عشرة إلى عشرات وفيها الفخم الضخم الذي يقلّ نظيره في مدارس الحكومة، وفيها ما يحتوي على ثمانية عشر فصلًا، وجميعها مستوفٍ للشرائط كلها على أحدث طراز، ومعظم هذه المدارس شيّدتها الأمة بأيديها وبأموالها والقليل منها مؤجّر، ووضعت المناهج الابتدائية مقتبسة من مناهج وزارة المعارف المصرية، وبينما الحركة في اشتدادها وامتدادها قامت الحرب العالمية الأخيرة فأوقفت كل شيء وعطّلت فرنسا جميع مشاريع جمعية العلماء بصورة كلها تشفٍ وانتقام، وأبعدت كاتب هذه المذكّرة إلى صحراء "وهران" بعيدًا عن العمران في صورة إقامة جبرية إلى انتهاء الحرب، ومات باني هذه النهضة العلمية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس في أوائل سنة أربعين، فلما أطلق سراح كاتب هذه السطور بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، استأنف العمل من أول يوم وبدأ يبعث الحركة من جميع جهاتها: فمن تحريك الشعور السياسي وتنظيم حركة سياسية، إلى مجاراة فورة الأمة في سبيل التعليم. وكان الاحتلال الأمريكي جاثمًا على الجزائر، والأحزاب السياسية تعيث وتعيث، وهو يسعى في جمعها فتفرّقها الأهواء والرعونات، فرأى أنه إذا ضاعت على الأمة الفائدة السياسية بسبب الوضع الحاضر، فلن تضيع عليها الفائدة العلمية، والعلم تسليح، وفي تلك السنة نفسها شيّدت الأمة سبعين مدرسة. وهالت تلك الحركة المتجددة فرنسا فأسرتها في نفسها إلى يوم انتهاء الحرب، فكان حقدها على جمعية العلماء أحد الأسباب في تلك البطشة الرعناء التي بطشتها بالجزائر يوم 8 ماي سنة 1945 فقتلت فيها عشرات الآلاف من أنصار جمعية العلماء واعتقلت مثلهم، وأغلقت مدارس الجمعية كلها بدعوى أنها قلاع للعمل ضدها، ومزارع لغرس بغضها في قلوب الجزائريين، وهذان الوصفان رسميان من كلام الحكومة في تبرير عملها الفظيع، وسجنت كاتب هذه السطور في السجن الحربي تمهيدًا لمحاكمته عسكريًا بتهمة الثورة، وقد كان رجال جمعية العلماء آخر من سرّحتهم من المعتقلات نكاية فيهم وحقدًا عليهم. ما كادت هذه الغمرة تنجلي حتى رجعت الجمعية إلى عملها أقوى مما كانت صلابة وعزيمة وإيمانًا، ونشطت حركة تأسيس المدارس حتى بلغت الآن مائة وبضعًا وأربعين مدرسة. وبلغ مجموع ما أنفقت الأمة عليها من مالها بل من ثمن خبزها تشييدًا وتعميرًا ما يقرب من ألف مليون فرنك، وبلغ مجموع تلامذتها الابتدائيين في الوقت الحاضر نحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات، وبلغ عدد التلامذة المتخرّجين منها من مبدإ الحالات نحو مائتين وخمسين ألف تلميذ، وبلغ مجموع المعلّمين في هذه المدارس نحو أربعمائة معلم

خامسا- المعهد الباديسي

كلهم من تلامذة جمعية العلماء وجنودها الحاملين لفكرتها، وبلغ ما تنفقه الأمة سنويًا على هذه المدارس في أجور المعلّمين وغيرها خمسة وسبعين مليونًا من الفرنكات. مع هذا الجهد العظيم الذي تبذله جمعية العلماء والأمة من ورائها في التعليم العربي، ومع أن حركة بناء المدارس كل سنة في ازدياد، فإنها لم تستوعب إلا جزءًا من ثلاثين جزءًا من أطفال الجزائر المحرومين من التعليم، وما زال في الجزائر مليون ونصف مليون من أطفال الأمة العربية المسلمة مشرّدين في الشوارع محرومين من التعليم العربي والفرنسي معًا. ومع ذلك ترفع فرنسا صوتها بأنها معلّمة العالم، ثم تشعوذ على إخواننا الشرقيين الذين لم يعرفوا دخائلها بمثل هذه المزاعم، ويصدّقها بعض الضعفاء وهي في دعوة التعليم أكذب من سجاح في دعوى النبوّة. خامسًا- المعهد الباديسي: هذا العدد الذي ذكرناه من المدارس كله ابتدائي، ولكن التعليم فيه متين لأنه عمل العقل والإخلاص والمنافسة لعدو حقود، حتى أن التعليم الابتدائي في مدارس الجمعية يساوي في نتائجه العملية نصف التعليم الثانوي في المدارس التي تبني أمرها على الرسميات وتعد نتائج الامتحان بالنقط ... وهذا هو القدر الذي اتّسع له حال الجمعية وهي في نهاية العقد الثاني من عمرها، وتطلبته حالة الأمة وهي في الخطوة الأولى من نهضتها. لكن حب العلم والتطلعّ إلى غاياته أحدث في عشرات الآلاف من حملة الشهادات الابتدائية الذين أخرجتهم مدارس الجمعية، أحدث فيهم ثورة عليها وإلحاحًا يطلبون الانتقال بهم إلى التعليم الثانوي، ورأت الجمعية أن تبريد هذه الرغبة في نفوس أبناء الأمة الناشئين يعد إجرامًا في حقّهم وفي حق اللغة التي أصبحوا يدينون بها وفي حق الإسلام الذي تفتّحت نفوسهم على حقائقه. فماذا تصنع هذه الجمعية والموارد المالية محدودة، والأمة فقيرة، والتعليم الثانوي يكلّف أموالًا وفيرة، والرجال الذين يقومون بتعليمه مفقودون؟ هنا العقبة ... وهنا الموقف الذي يجب على إخواننا العرب شعوبًا وحكومات أن ينقذونا منه ... هنا نظرت الجمعية إلى الداخل وإلى الخارج. أما الداخل فقد دعت الأمة إلى أن تخطو هذه الخطوة الجريئة وأن تضع البذرة الأولى لهذا الغرس الجديد، فاستجابت الأمة، فأقدمت الجمعية على إنشاء معهد ثانوي ذي خمس سنوات، وهو "المعهد الباديسي" بمدينة قسنطينة، منبع الثقافة الإسلامية في القطر كله، وأطلقت عليه اسم إمام النهضة المرحوم الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس.

مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

أنفقت هذه الأمة الفقيرة على هذا المعهد بطريق التبرعات في أبنيته ومرافقه أكثر من مائة مليون فرنك، وهي تنفق في كل سنة على شيوخه والقائمين بتسييره نحو عشرة ملايين من الفرنكات. والمعهد اليوم يحتوي على ألف تلميذ، يدرسون- على المناهج الحديثة- علوم الدين وعلوم اللسان العربي، ومنها الأدب وتاريخ الإسلام والجغرافيا والرياضيات، ويأخذون فيه أصول الدعوة وأصول الخطابة مع التمرّن عليها عمليًا. وفيه أقسام إضافية للفرنسية خاصة بحاملي شهادتها الابتدائية، لإرسالهم إلى أوربا للتخصّص في العلوم الصناعية، وستكون بعثات جمعية العلماء إلى الشرق كلها من تلامذة هذا المعهد. يقوم بالتدريس في هذا المعهد خمسة عشر أستاذًا كلهم من حاملي الشهادات العليا من جامع الزيتونة، ومعهم طائفة من المعاونين والكتبة ولجان للمراقبة والمالية والألعاب الرياضية، وقد اشترت الجمعية منذ عامين دارًا لسكنى طلبة المعهد في أجمل موقع من المدينة تكفي لإسكان خمسمائة تلميذ مجتمعين، لكل تلميذ سرير للنوم ودولاب للأمتعة، مع المرافق التامة من المغتسلات ومطاهر الوضوء، ومجموع ما أنفق على هذه الدار وحدها ثلاثون مليون فرنك. ____ مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر ____ في تونس جامع الزيتونة، ولا يصحّ أن يسمّى جامعة بالمعنى العصري إلا مع التسامح، ولو تناوله الإصلاح الناجز في مناهجه والقلب والتغيير في كتبه ونظامه، والتوجيه السديد للروح المسيطرة عليه، لأصبح جامعة المغرب العربي كله، وهو- مع ذلك- مهاجر الجزائر للعلم، وفي فاس جامع القرويين وهو دون جامع "الزيتونة" نظامًا واتّساعًا في الدراسات، وأبعد عن التجديد والإصلاح، لأن أصابع الاستعمار الفرنسي تدسست فيه أكثر من جامع الزيتونة، لذلك فكّرت جمعية العلماء منذ سنوات في تكوين جامعة عربية إسلامية بمدينة الجزائر تبنى الدراسات العالية فيها على الروح الإسلامية الشرقية الصافية وعلى غايات العلوم الحديثة النافعة، فتكون تكميلًا للجامعين وعونًا لهما في إحياء الثقافة الإسلامية وحفزًا لهما على الإصلاح، وقطعت الجمعية مراحل في التفكير والتخطيط وهي تأمل أن لا يبلغ التعليم الثانوي في مدارسها حدّه حتى تكون الجامعة قد فتحت أبوابها، ولكن المال دائمًا هو العقبة الكأداء.

خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها ____ في المعنويات أولًا: استقرار الإصلاح الديني الإسلامي بمعناه الصحيح الواسع، وأساسه الرجوع إلى القرآن. ثانيًا: إذكاء النزعة العربية في النفوس. ثالثًا: تقوية الشعور السياسي وتكوين رأي عام له. رابعًا: التوجيه إلى الشرق والتنويه بتاريخه وأمجاده. خامسًا: إحياء الفضائل والأخلاق المتينة وعقد جملتها بالقلوب لا بالألسنة. سادسًا: خطوات سديدة في بناء الأسرة على المحبّة، وبناء المجتمع على التعاون. سابعًا: وضع المرأة المسلمة في موضعها من الفطرة ومنزلتها في الإسلام. ثامنًا: التقليل من الافتتان بالحضارة الغربية. تاسعًا: قمع الإلحاد والتحلّل. عاشرًا: إيقاف التبشير عند حدّه. حادي عشر: التخفيف من ويلات الأمية. ثاني عشر: نظام للوعظ والإرشاد تظهر روعته في كل رمضان على الخصوص، قوامه 140 واعظًا. وفي الماديات ثالث عشر: تشييد سبعين مسجدًا حرًّا على نماذج مما كان يؤديه المسجد من التربية. رابع عشر: مائة وبضع وأربعون مدرسة ابتدائية مجهّزة أحسن تجهيز تتسع لخمسين ألف تلميذ. خامس عشر: معهد ثانوي كامل الأدوات والمرافق يحتوي على ألف تلميذ.

خاتمة

سادس عشر: بعثات إلى جامع الزيتونة تبلغ ألفًا وخمسمائة تلميذ. سابع عشر: بعثات إلى جامع القرويين تبلغ مائتي تلميذ. ثمان عشر: هذه البعثات التي بدأت طلائعها تزحف إلى مصر والعراق وسوريا والكويت. تاسع عشر: حركة مباركة لحفظ العروبة والإسلام على العمّال النازحين إلى فرنسا. العشرون: مكتبة جديدة حافلة في المعهد تهيّئ للباحثين مراجع البحث وتعوّض ما أتلفته يد الاستعمار من كتبنا ومكتباتنا، وقد زوّدها سموّ الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية في السنة الماضية بألف مجلد. الحادي والعشرون: إنشاء مكتب ثقافي للجمعية في القاهرة ليكون صلة بين الجزائر والشرق وليشرف على البعثات الحاضرة والمنتظرة، وستجني العروبة والإسلام منه خيرًا كثيرًا. ____ خاتمة ____ هذه هي الأعمال الجليلة التي قدّمتها جمعية العلماء للأمة الجزائرية، بل قدّمتها الأمة الجزائرية، بل قدّمتها الجمعية والأمة معًا للعروبة والإسلام، فحفظت للعرب طائفة من رأس مالهم وربحت للمسلمين جزءًا كبيرًا من مجموعهم كاد يضيع منهم. قامت جمعية العلماء بهذه الأعمال مستعينة بالله، معتمدة على الأمة، مع كيد المستعمرين وخذلان الضالين، وتشويش الجاهلين الذين يخربون بيوتهم بأيديهم. لم تتوجّه الجمعية في هذه المراحل القاسية إلى خارج الجزائر، لأن من مراميها البعيدة تربية الأمة على الاعتماد على نفسها، وعلى التكافل في المصلحة العامة، وهو باب من أبواب التربية الاستقلالية المفضية إلى الاستقلال الحقيقي. ولكنها بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة التي بيّناها في الفصول السابقة أجهدها الإعياء ووقفت مبهورة، والتفتت إلى إخوانها في الشرق وإلى حكوماتهم تلتمس العون والمدد، وتحمل صحيفة أعمالها بيمينها، ولا مجال للتراجع لأن معناه الموت، ولأن نتيجته شماتة الأعداء وهي أنكى على الحر من الموت، وأنا رائدها إلى الروض، وفارطها على الحوض، وقد بلّغت. ليست القضية قضية شخص أو أشخاص، فلا نحن ولا الأمة من ورائنا نرضى بهذا ولا ندين به، فقد ربيناها بعد أن ربّينا أنفسنا على تقديس المبادئ ونسيان الأشخاص

والشخصيات إلا في مقام التأسي والوزن، وإنما هي مسألة أمّة تعد أحد عشر مليونًا من صميم العروبة، مصمّمة على تصحيح نسبتها وتثبيت إسلامها لتبني عليهما استقلالها لأنها تؤمن بأن الاستقلال على غير أساس العروبة والإسلام هو استقلال على غير أساس، فهو منهار من ساعته. فإذا تمّ فهو استقلال لأمة لا تعرفها العروبة ولا يعرفها الإسلام، ولا ينفع استقلالها العروبة ولا الإسلام. قد وجب حق الأخ على أخيه، ووجب على حكومات العرب أن تقف موقف الجد والتضحية والواجب من هذه الحركة حتى تصل إلى غاياتها، وأن كل ما تنفقه الحكومات العربية في هذا السبيل فهو قليل، وهو ضربة في الصميم، وهو عائد عليها في القريب بأرضه وثمراته. إن جمعية العلماء واسطة بين الطرفين وترجمان صادق بينهما وإنها لا ترضى بما دون الواجب، ولا ترضى لنفسها بالتصدّق والامتنان والمجاملة، وللحكومات العربية عليها حق المحاسبة الدقيقة، فقد أخذت بذلك في جميع أعمالها. قد بلغت ... اللهمّ اشهد. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين القاهرة في 3 رجب 1382هـ الموافق 20 مارس 1953 م.

تحية غائب كالآيب

تحية غائب كالآيب ... * حيّ الجزائر عني يا صبا ... واحمل إليها مني سلامًا تُباري لطافته لطافتك، وتُساري إطافته إطافتك، فقديمًا حمّلك الكرام الأوفياء مثلَ هذه التحية إلى من يكرُم عليهم، أو ما يكرم عليهم، فحملتها رَوحًا، وأدّيتها بَوحًا، وأعلنتها شذً ى وفوحًا، وكنت بريد الأرواح إلى الأرواح، بألفاظ غير مكتوبة، ومعانٍ غير مكذوبة، وقديمًا أفضى إليك الشعراء بشجونهم، وائتمنوك على جدهم ومجونهم، فاحتملت غثًّا وسمينًا، وكنت على الأسرار أمينًا، فكأنّك كنت لهم محطة إرسال واستقبال معًا، يحمّلونك الرسائل تخيّلًا، ويتلقّون أجوبتها إحساسًا، وما عرف واش ولا شعر رقيب، وما كنت لديهم الثقة الأثير، إلا لأنك "ابن الأثير". وكأنّ محطات الحقيقة اليوم وُضعت بإشارتك وتأثّرت بأثارتك، وكأن شأنك وشأنهم في ذلك إرهاص بحقيقة حوّموا عليها ولم يردوا، وجمجموا عنها ولم يفصحوا، وادّخَر الله تحقيقها لهذا الزمان، ولا عجب فكل حقيقية مبداها خيال. لي إليك وسيلة مرعية المتات بما أسلف أوائلي فيك من مدح، وبما أذاعوا لك من فضل، وبما رفعوا لك من ذكر، فالذي تؤدّيه عني اليوم هو "ثمن الإعلان" ورثتُه عن سلف، ولم يُسقِط حقّي فيه تقادم الزمان. أنتَ يا صبا ريح، وكأنّ فيك قطعةً من كل رُوح، يجد فيك كل غريب أنسًا، وكل حبيب سلوى، وكل مكروب تنفيسًا، خلال كلّها جلال، وما ذلك الروح الذي يجده الواله في أنفاسك، إلا أنفاس المحبّين تمتزج بأنفاسك، فيجدونها بردًا على الأكباد، وبشاشةً في الأسارير ورضًى في السرائر. فلعمرك ... لئن كان في الرياح لواقح للأشجار، ففيك وحدك لقاح النفوس، ولئن كان فيها ما يُحرق الورق، ففيك وحدك ما يطفئ الحُرَق.

_ * نشرت في العدد 229 من جريدة «البصائر»، 15 ماي سنة 1953.

حسبك شرفًا- يا صبا- أن التقى الناس فيك على وصف، وإن اختلفت بهم المنازع: جهل الجاهلون آثارك فقالوا: ما أسراك! وكل ريح سارية، وعرف العارفون فضلك وكرمك فقالوا: ما أسراك! وما كل شجرة وارية، وبين السُّرى والسرو مفاوز هي مسافة ما بين الحسن الكثيف والحسّ الشفّاف. سِر- يا صبا- طاب مسراك، وصفا مجراك، في جو ضاحك الصفحة، وفضاء سافر الغرّة، لا جبلا نعمان يعترضان مهبّك، ولا عواصف الدبور تعارض مدبّك، فإذا لاحت لك بواذخ الأطلس فاسلك منها ما سلك بنو هلال، فرقة عن اليمين وفرقة عن الشمال، وخذ من آثارهم بما يُجدي، فكلاكما نجدي، وستقع في شمالك على الخؤولة، وفي يمينك على العمومة، فابثُثْ أسرارك، وانثُثْ أخبارك، فهنالك محطة الهوى والشوق. أدِّ التحية عني للجزائر التي غذت وربّت، وأنبتت القوادم في الجناح، وأسلفت الأيادي البيضاء، وأسدت العوارف الغر، وأشربت من الطفولة حب العروبة والإسلام، وأخذت باليد إلى رياضهما، ففتقت اللسان على أشرف لغة وسِعت وحي الله ووحي العقول، وفتحت القلب لأكمل دين جمع الروح والمادة، ثم أورثت- فيما أورثت من مآثر العرب وفضائل الإسلام- أنفًا حميًّا، وفؤادًا ذكيًّا، ولسانًا جريئًا، وهمة بعيدة، وإباءً للمشارب الكدرة، وقناةً لا تلين إلا للحق، وذيادًا عن حُرمات الحِمى والدين، ونفسًا لو تراءت لها زخارف الدنيا من وراء الدنايا ما خاضتها إليها، وروحانيةً أحدُ طرفيها في الأرض، والآخر في السماء تأمر في ذلك كله وتنهى. ثم عمّم التحية إلى كل من تديّر الجزائر من إخوان الصدق، وأحلاف الحق: من علماء جلاهم الإسلام سيوفًا، وبراهم سهامًا، وقوّمهم رماحًا، ثم وحّدتهم العقيدة على غاية، وجمعهم الحق على بساط، وألف بينهم الجهاد في ميدان، فاجتمعت قلوبهم على هداية بها وألسنتهم على دعاية إليها، وأيديهم على بناء لها. ومن أنصار كانوا للدعوة السلفية الإصلاحية خزرجها وأوسها، وكانوا للنهضة الجزائرية عمادها وأُسَّها، وكانوا الأحجار الأولى لبناء الجزائر الجديد، والكتائب المبكّرة لإحياء مجد العرب بعز الإسلام. ومن شبّان ربيناهم للجزائر أشبالًا، ووتّرناهم لعدوّها قسيًّا ونبالًا، وصوّرنا منهم نماذج للجيل الزاحف، بالمصاحف، وعلّمناهم كيف يُحيون الجزائر، وكيف يَحيَون فيها. ... قُل للجزائر الحبيبة هل يخطر ببالك من لم تغيبي قط عن باله؟ وهل طاف بك طائف السلو، وشغلك مانع الجمع وموجب الخلو، عن مشغول بهواك، عن سواك؟ إنه يعتقد أن في

كل جزيرة قطعةً من الحُسن، وفيك الحُسنُ جميعُه، لذلك كنَّ مفردات وكنت جمعًا، فإذا قالوا: "الجزائر الخالدات" رجعنا فيك إلى توحيد الصفة وقلنا "الجزائر الخالدة"، وليس بمستنكر أن تُجمع الجزائر كلها في واحدة. لن أنسى- يا أمّ- أنك كنت لي ماخِطة الغِرس (1)، وماشطة العِرس، فلا تنسي أني كنت لك من عهد التمائم إلى عهد العمائم، ما شغلت عنك إلا بك، ولا خرجت منك إلا عائدًا إليك، لا تنسي أنني ما زلت ألقى الأذى فيك لذيذًا، والعذاب في سبيلك عذبًا، والنصب في خدمتك راحة، والعقوق من بعض بنيك برًّا، والحياة في العمل لك سعادة، والموت في سبيلك شهادة، ولا تنسي أنني عشت غيظًا لعداك وشجًى في حلوقهم، وكدرًا لصفوهم، وأنني ما زلت أقارع الغاصبين لحقّك في ميدان. وأكافح العابثين بُحُرماتك في ميدان، وأعلّم الغافلين من أبنائك في ميدان، ثلاثة ميادين، استكفيتني فيها فكفيت، ورميت بي في جوانبها فأبليت، ولا منّة لي يا أمّ عليك، وإنما هي حقوق أوجبتها شرائع البر، قام بها الكرام، وخاس بعهدها اللئام. خطت الأقدار في صحيفتي أن أفتح عيني عليك وأنت موثقة، فهل في غيب الأقدار أن أغمض عيني فيك وأنت مطلقة؟ وكتبت الأقدار عليّ أن لا أملك من أرضك شبرًا، فهل تكتب لي أن أحوز في ثراك قبرًا؟ ... لله في تقدير السنين أسرار، فبها تحسب الأعمار، وفيها تُؤتي الأشجار الثمار، وفيها يتجدد الحنين والادِّكَار، وفيها يهِيج الشوق بين المتجانسات فينشأ بين الفعل والانفعال وجود، ولقد غبتُ عن الجزائر سنةً وبعض السنة، فكنت أغالب الشوق فأغلبه، فلما قيل: هذا يوم 7 مارس- وهو موفِّي سنة الفراق- هجم عليّ من الشوق ما لا يُغلب، فتمثّلتُ بقول الوزير ابن الخطيب السلماني: وجاشت جنودُ البين والصبر والأسى … عليّ فكان الصبر أضعفها جندا غبت عن الجزائر بجسمي سنةً وبعض السنة، ولكنني ما غبت عنها بروحي وفكري دقيقة ولا بعض الدقيقة، وما عملت لغيرها عملًا ولا جزءًا من عمل، فلساني رطب بذكرها، وشخصي عنوان عليها ورمز إليها، وأحاديثي تعريف بها وإغلاءٌ لقيمتها، ومحاضراتي في

_ 1) الغرس بكسر الغين: شيء من الجنين تمخطه القابلة، والعرس بالكسر: الزوجة، يريد أنه ولد فيها وتزوّج، والولادة والزواج هما بابا الحياة.

المحافل الحاشدة في الشرقين هي فضائلها شائعة، ومفاخرها ذائعة، ومباخرها ضائعة، وأعمالي تمجيد لها ورفع لشأنها، وتنويه بنهضتها وتشريف "لجمعية علمائها"، وما الجزائر إلا جمعية العلماء، لولاها لكانت الجزائر مثل جزائر واق الواق اسمًا يجري على اللسان، ومسمّى معدومًا في الوجود، لا يُنكِر هذا إلا صبيٌّ أو غبيٌّ، أو عقل وراءه خبي. أشهد لقد كنت ألقَى في أسفاري أنواعًا من التعب فلا يهوّنها عليّ ولا يغريني بالإقدام على غيرها إلا يقيني أنها مقلد في قيمة الجزائر وقيمة جمعية العلماء، وكنت ألقى من إخواني في العروبة والإسلام إقبالًا عليّ واحتفاءً بي على نسق من فضلهم وتكرّمهم، فلا يزدهيني من ذلك إلا أنه احتفاء بالجزائر وبجمعية العلماء، وسعدت بلقاء كثير من عظماء الشرق وعلمائه وأمرائه وقادة الرأي فيه، فما عددت ذلك إلا من سعادة الجزائر وجمعية العلماء، ووالله ما أنسانيهما تبدّل المناظر، وتنوّع الأشخاص، ولا لفتني عنهما تعاقب المحاسن على بصري، وتوارد معانيها على بصيرتي، بل كانتا دائمًا شغلَ خواطري، ونجوى سرائري، وطالما طرقتني منهما أطياف، كأنها أسياف، فأرتاع وألتاع، وأكاد أطير شوقًا، ثم يمسح ذلك كلّه عن نفسي أن في سبيلهما سكوني واضطرابي، ولو خرجت تاجرًا لكنت في الأخسرين صفقة، ولو خرجت متروّحًا لكنت كمن هجر الجام ومديره، والروض وغديره، إلى جفاة السَّفْر (2)، وجفاء القفر. ... أيها الوطن الحبيب: رضيت من قسمة الله أن لم يجعلني أبًا لأبناء الصلب وأفلاذ القلب وحدهم، ولو خُلقتُ لهم لحبوت وأبَوْت (3)، وعثرت في مصلحتهم وكبوت، ولصنعت لهم ما تصنع الطير لأفراخها ... بل جعلني أبًا لأبنائك كلهم، يلوذون من علمي بكنف رعاية، ويعوذون من حلمي بسور حماية، فأسوق ضالَّهم ليهتدي، وأحثّ مهتديهم ليزداد هداية. ورضيت فوق الرضى بأبوّتك لي أن رضيت ببنوّتي لك، ويمينًا لو تبرّجت لي المواطن في حُللها، وتطامنت لي الجبال بقُللها، لتفتنني عنك لما رأيت لك عديلًا، ولا اتخذت بك بديلًا، وإذا كانت أوطان الإسلام كلها وطن المسلم بحكم الدين، فإن اختصاصك بالهوى والحب من حكم الفطرة السليمة، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في حبّه لمكّة وحنينه إليها.

_ 2) السفر: المسافرون. 3) أبوت أولادي: صنعت لهم ما يصنع الآباء لأبنائهم.

ورضيت أكمل الرضى أن كان جهد المقل مني يرضيك، وما هو إلا لبنة في بنائك، وقطرة في إنائك، ورعيٌ لذمّتك، وسيٌ في كشف غمّتك، ورضيت من الجزاء على ذلك كله برضى الله وقبوله، فلا يهولنَّك فراغك مني أيامًا، فعسى أن يكون المسك ختامًا، وعسى أن تسعد بآثار غيبتي أعوامًا. ... أيها الوطن الحبيب: إخوتُك في الوطن العربي الأكبر رفاق سفر، ولكنهم ساروا بالأمس وخلفوك، وذكر بعضهم بعضًا ونسوك، فلتهنأ اليوم أن واحدًا من أبنائك ألحقك بالسائرين، ثم جلّى بك فأصبحتَ في المقدّمة، وذكّر بك الناسين، فلهجت باسمك الألسنة، وإنهم شركة مساهمة لم يكن لك فيها سهم، فلتقرّ عينًا بابنك الذي أصبحت به في الشركة ذا سهم رابح، كما كنت به في موقف النضال ذا سهم مصيب وأنت تدري من هو ذلك الابن. أيها الوطن الحبيب: أما الشوق إليك فحدّث عنه ولا حرج، وأما فراقك فشدّة يعقبها الفرج، وأما الحديث عليك فأزهار تضوّع منها الأرج، وأما ما رفعتُ من ذكرك فسئ من دب ودرج، وأما الانصراف عنك فإرجاف بالغيّ لم يجاوز صاحبه اللوى والمنعرج، وأما الأوبة فما زلت أسمع الواجب يهتف بي: أن يا بشير، إذا قضيت المناسك، فعجّل الأوبة إلى ناسك ... وسلام عليك يوم لقيت من "عقبة" وصحبه بِرًّا، فكنت شامخًا مشمخرًّا، ويوم لقيت من "بيجو" وحزبه سرًّا، فسلّمت مضطرًّا، وأمسيتَ عابسًا مكفهرًّا، وللانتقام مسرًّا، وسلام عليك يوم تصبح حرًّا، متهللًا مفترًّا، معتزًّا بالله لا مغترًّا. ومعذرةً إليك إذا كنت ارتخيت، ثم انتخيت، فإنما هي نخوة الأُباة الأشاوس، يدفعون بها وساوس الصدور، ويدفعون بها في صدور الوساوس.

من هو المودودي؟

من هو المودودي؟ * هو الأستاذ العلّامة أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان؛ أصفه وصف العارف الذي قرأ وشاهد، فهو رجل لم ترَ عيناي كثيرًا من مثله، بل لم أرَ مثله في خصائص امتاز بها عن علماء الإسلام في هذا العصر، منها الصلابة في الحق، والصبر على البلاء في سبيله، والعزُوف عن مجاراة الحاكمين فضلًا عن تملّقهم، وهو أفقه من رأيته أو سمعت به في باكستان والهند في حقائق الإسلام تشريعًا وتاريخًا، واسع الاطّلاع، دقيق الفهم، بارع الذهن، نيّر الفكر، كبير العقل، مشرق الروح على تجهّم في ظاهره، سديد التصرّف في المقارنة والموازنة والاستنباط، مستقلٌّ في الاستدلال إلى حد، يمضي من الشريعة إلى مقاصدها العامة، دون احتفال بالجزئيات إلا بمقدار ما يدخل من هذه إلى تلك، عميق الغوص في استخراج النكت، متين العقيدة، تظهر آثارها على أعماله ومواقفه قوة وثباتًا، كما تظهر آثار الغذاء الصالح على البدن فراهةً ونعمة، فلسفي النزعة العلمية لا العقلية، يذوده افتتانه بالنص والواقع عن أن يكون فيلسوفًا عقليًا، ولولا ذلك لكانه، فهو يؤمن بالنص، ويؤمن بعمل العقل في النص، ثم لا يزيد إلا بمقدار، جمهوري العشرة ولكنه خصوصي الزعامة، يرى أن لها- لا للزعيم- حقوقًا تحفظ النظام، وتوزّع الأعمال على الكفاءات، وتقف بالمتطفلين عند حد، فهمت هذا من مجموع أحواله ومن ملابستي لبعض أنصاره، فصورته بهذه العبارات، وأنا أرى أن الفرق بين الزعامة والزعيم شيء دقيق، ودقته هي التي غرّت الزعماء بأنفسهم، وغرّت الأتباع بهم. وهو هيوبة للتحدّث بالعربية، مع دقة فهمه للقرآن والحديث وكتب الدين، واقتداره على تطبيقها، ويرجع سبب ضعفه في الكلام بالعربية إلى قلة استعماله لها في الحديث والكتابة، فهو مع كثرة مؤلفاته التي تبلغ العشرات لم يكتب كتابًا واحدًا بالعربية وكل

_ * نُشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر»، 5 يونيو سنة 1953.

مؤلفاته بالأوردية والإنكليزية، وكلها في المواضيع الإسلامية الخطيرة، التي تقتضيها النهضة والتجديد، ويكثر الخوض فيها في هذا العصر، ويتناولها الغربيون بالنقد والتشويه، وللأستاذ مشاركة قوية في معارف العصر واطّلاع على حضارته، وهو يزنها بالميزان القسط، فلا إنكار ولا اندفاع، بل إنه يقف منها موقف الحذر والانتباه، وقد ترجم أحد أعضاء الجماعة طائفةً من كتبه إلى العربية فمكّن بذلك أبناء العرب من الاطّلاع على أفكاره، وهذا العضو هو صديقنا الوفي الشيخ مسعود عالم الندوي، وقد أهدى لي جميعها منذ سنوات وأنا في الجزائر، فلمحتُ فكرًا شفّافًا، ورأيًا حكيمًا، وفكرًا عميقًا، وتساوقًا بين الألفاظ ومعانيها، لا ينم على أن هناك انتقالًا من لغة إلى لغة، وتبيّنت السرّ في ذلك، وهو أن الموضوعات إسلامية، واللغتان إسلاميتان، والمؤلف والمترجم سليلا فكرة، فعملت الروح عملها العجيب في ذلك، وصديقنا مسعود- لطف الله به- ثاني اثنين في القارة الهندية يحسنان الكتابة بالعربية كأبنائها، والآخر هو الأستاذ أبو الحسن الندوي. والعلّامة المودودي وثيق الصلة بجمعية العلماء الجزائريين، من طريق جريدة «البصائر»، متتبع لحركتها، معجب بها وبأعمالها، قويّ الشعور بقرب المسافة بين مبادئها ومبادئه. وهو يحمل بين جنبيه قلبًا عامرًا بالاهتمام بأحوال المسلمين، والأسى لحاضرهم، والإعجاب بماضيهم، والتنويه بالنظام الحكومي في الإسلام، يراه أعدلَ نظام إنساني، وأضبط نظام للنزوات البشرية، وأحفظ نظام للمصالح المتشابكة، ومن هنا نشأت فكرته في الحكومة الإسلامية، وقد سرّ كثيرًا بالمعاني التي تنطوي عليها رحلتي، لأن تقارب المسلمين بالتعارف يُفضي بهم إلى التعاون على إصلاح شؤونهم، وهو ينعى عليّ شيئًا واحدًا وهو أنني لم أشتغل بتأليف كتب على أحوال المسلمين على النمط الذي سمعه من كلامي، فأجبته بما لم يقتنع به لأنه يعتقد أن هذه الأحاديث العادية التي سمعها مني كتب لا ينقصها إلا التدوين، ورأيه في التأليف أن تكون الكتب صغيرة الحجم حتى تسهل قراءتها وتصريفها، وهذا هو المسلك الذي سلكه في كتبه فكلها كراريس مستقلّة بموضوعات. ... لقيي جماعة من أصحابه لأوّل نزولي بكراتشي، واتصلوا بي اتصالَ الأخوة والمشرب، فوجدتهم يعرفون عن جمعية العلماء ما يمكن أن يستفاد من جريدة «البصائر»، وسمع الأستاذ المودودي بوصولي وهو بمقامه من مدينة لاهور عاصمة البنجاب، فانتظر زيارتي لها فلما عزمت على الرحلة إلى الداخل وكان نظام الرحلة يقتضي أن أسافر إلى كشمير أولًا وأن لا أنزل في لاهور، كتبت إليه أن يلقاني بمحطة لاهور، حرصًا مني على التعارف الشخصي،

قبل زيارتي للاهور، ولكن الرسالة لم تصله في حينها لأن الحكومة تعطل رسائله للمراقبة، لما بينها وبينه من الانحراف الذي سنتعرّض له، ولما بلغته الرسالة أسف وأرسل من ورائي رسولًا إلى راولبيندي التي هي منتهى رحلتي بالقطار وبينها وبين لاهور مئات الأميال فأدركني الرسول بها وبلّغني سلامه واسفه وانتظاره. فلما رجعت من كشمير وبشاور لم أشأ أن أزعجه فلم أخبره إلا بعد نزولي بالفندق في لاهور، فزارني. وتعارفت الأجساد بعد تعارف الأرواح فإذا هو رجل رَبعة، مهيب الطلعة، ممتلى صحة وحيوية، يغلب السوادُ البياض على لحيته الكثة المهيبة، ثم استدعاني إلى داره، وهي مركز الجماعة، فاجتمعنا على الشاي في ثُلّة من أعضاء الجماعة، وطلبوا مني كلمة ونحن على موائد الشاي، فخطبت وأفضت في المواضيع الإسلامية الشاغلة للأفكار، وكان- خفّف الله محنته- يستوقفني كلّما علت لغتي وتخللتها الإشارات والكنايات، ليترجم له أحد تلامذته البارعين في العربية ما غمض عليه، تقصيًا منه للمعاني وحرصًا على أن لا يفوته منها شيء. ... أما ما بينه وبين حكومة باكستان، فأكبر أسبابه وأظهرها أن مبدأ الجماعة الإسلامية هو إقامة حكومة إسلامية في باكستان بالمعنى الصحيح الكامل الذي لا هوادة فيه ولا تساهل، يتضمن دستورها الحكم بما أنزل الله في المعاملات والحدود والقصاص، وللأستاذ المودودي في ذلك آراء بعيدة المدى ومناهج وتخطيطات مدروسة لا تقبل الجدل، بل له دستور كامل مهيّأ وقد نقلت منه مجلة "المسلمون" الغرّاء التي تصدر بمصر قطعًا دلّت على ما ذكرناه وعلى انفساح ذرع العلّامة المودودي في فهم النظام الإسلامي، وحجة الجماعة في ذلك أن المسلمين ما رضُوا بالانفصال عن الهند وما هانت عليهم التضحيات الجسيمة التي لم تضحّ بها أمةٌ في الدماء والأموال إلا في سبيل إقامة دينهم على حقيقته، أما إبقاء ما كان على ما كان فهو لا يساوي تلك التضحيات ولا جزءًا منها. وحكومة باكستان- وإن كانت إسلامية المظهر- مدنيةُ المخبر، لم تزل تسير على النُظم التي وضعها الإنكليز للهند، وهي تريد أن يكون دستورها إسلاميًّا لأن الشعب يريد ذلك، أو لأن معظم الشعب يريد ذلك، ولكنها تريده تدريجيًّا ومع التسامح والتسهّل، ومراعاة مقتضيات الأحوال؛ وهناك طائفة من المستغربين لا تريد الدستور الإسلامي، ولكنها تعمل في الخفاء غالبًا لقلّتها بالنسبة إلى الشعب، ويعتقد المتبصّرون أن هذه الطائفة تلقى تأييدًا أجنبيًّا قويًّا، ولا تتّسع هذه الكلمة لترجيح إحدى الفكرتين، وإن كان لنا في ذلك رأيٌ صارحنا به بعض المسؤولين في ذلك الحين.

لهذا الذي شرحناه ضاقت الحكومة ذرعًا بالمودودي وتشدّده، وصلابته، وصراحة آرائه، وتسرّعه (في نظرها) فكانت تحبسه كلما ظهرت آراؤه المؤثرة، أو فتاواه في الحوادث الخاصة، وتنظر إليه بعين الحذر دائمًا، وقد نسبت إليه فتوى في قضية كشمير أيام اشتدادها والاصطدام المسلّح فيها، ووصفت بأنها سلاح في يد العدو، ومَدَد للدعاية الهندوسية، وقد كنتُ كثير الاهتمام بهذه الفتوى، شديد الحرص على أن أطّلع على حقيقتها، لأنها حكيت لي على وجه لو صحّ لكنت أول المخالفين لها، وقد ألقيت السؤال عنها في مجلس الأستاذ في داره، ولكن السؤال ضاع في معمعة المواضيع التي كان الحديث يتشقق عنها. ثم أنستني أحاديث المجلس إعادة السؤال، ولم تزل في نفسي حزة من فوات تلك الفرصة، ولا أدري هل تعود. وكل ذلك الحرص مني لآخذ الحقيقة من مصدرها ولأتباحث مع الأستاذ فيما يُنتقد عليه إن كانت حقًّا. ومع احتفاظنا برأينا في الخلاف بين المودودي وبين الحكومة في إقامة حكومة على أساس دستور إسلامي، فإننا نقول كلمة صريحة لوجه الحق وهي أن المودودي وحده أقدر رجل على وضع الدستور الإسلامي المنشود لدولة باكستان، وأبرعُ عالم في انتزاع ذلك الدستور من القرآن والحديث، ومن المقاصد العامّة في التشريع الإسلامي والأصول المتّفق عليها بين الأمة، وأنا مع هذا مؤمن بأن العقبة الكأداء في طريق المودودي ودستوره ليست هي الحكومة وحدها بل العقبة التي تنبهر فيها الأنفاس هي جمود فقهاء المذاهب، وما أكثر المذاهب في باكستان! ... ... وفي الأشهر الأخيرة حدثت اضطرابات في باكستان، وسالت دماء، وأمسكت كثير من الجرائد العربية عن شرحها، فلم نتبيّن دواعيها بالتفصيل ولا أغراضها، وأغلبُ الظن أنها تدور على "إسلامية الحكومة". ولعلّ الحكومة رأت آثار المودودي وأصحابه فيها بارزة فسجنته وسجنت كثيرًا منهم، ثم أحالته على محكمة عسكرية عقدت بمدينة لاهور فحكمت عليه بالإعدام وجاءت الأخبار بأنها خففت حكم الإعدام بالسجن أربعة عشر عامًا، فاهتزّ المسلمون بباكستان لهذا الحكم القاسي بنوعيه الثقيل والخفيف، وانصبّ على الحكومة تيّار من الاحتجاج والتظاهر بالغضب، ولا نشك أن تخفيف الحكم أثر من آثار تلك الغضبة. ثم قامت الهيئات الإسلامية القوية بالاحتجاج والاستنكار من مصر وسوريا والعراق والكويت، وتأكّدت عندي الأخبار وأنا بالكويت فامتعضت- علم الله- لذلك وحزنت لما بيني وبين الرجل من صلات ولما بينه وبين جمعية العلماء من تقدير. ولأن الرجل ليس رجل

إقليم أو قطر، إنما هو للمسلمين كلهم، فمن بعض حقّه علينا جميعًا أن نسعى في خلاصه من السجن بعد أن تراجعت الحكومة عن حكم الإعدام. لذلك أبرقتُ البرقية المنشورة بعد هذه الكلمة لكل من حاكم باكستان العام ورئيس حكومتها باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أمثلها أنا وولدها ومفخرتها الأستاذ الفضيل الورتلاني وباسم المغرب العربي كله لأن حظه في الإسلام والانتصار لحُماته ليس بقليل، وإن عسى أن تراعي حكومة باكستان المسلمة هذا الشعور الإسلامي المتدفق بالأمس فرحًا بوجودها، والمتدفق اليوم غيرة على سمعتها أن يقال عنها إنها تحارب حرّية الرأي بل حرية الدين، وأن تدرك أنّ ما ينادي به المودودي وتعدّه هي جريمة يستحقّ عليها الإعدام أو السجن، هو رأي جميع المسلمين فيها. فكلهم يتمنّى ويطالب بأن تكون حكومة باكستان إسلامية لتكون فخرًا للمسلمين ومرجعًا وملاذًا وعزًّا للإسلام وملجأً ومعاذًا. ... كان من تمام الواجب عليّ لصديقي- بعد أن انتصرت له بجهد المقل- أن أعرّف به بني وطني وقرّاء «البصائر»، ليعرفوا أي رجل غضبتُ له هذه الغضبة. ولعلّ البشائر تحمل إلينا نبأ الإفراج عليه، فينقلب غضب المسلمين رضى، وحزنهم فرحًا، وحسب المودودي جزاء في الدنيا على جهاده للإسلام أن يجمع المسلمون على الانتصار له هذا الإجماع، وما عند الله خير وأبقى. وسلام على المودودي طليقًا وسجينًا.

نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستان وإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستان وإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضرة صاحب الفخامة السيد غلام محمد حاكم باكستان العام- كراتشي، حضرة صاحب الدولة السيد محمد علي رئيس الوزارة الباكستانية- كراتشي: شاع في أنحاء العالم أن المحكمة العسكرية بمدينة لاهور حكمت بالإعدام على عالم من أكبر علماء الإسلام ومن أعظم دعاته، وهو الشيخ أبو الأعلى المودودي، ثم شاع الخبر بأن الحكومة الباكستانية خففت هذا الحكم إلى السجن أربع عشرة سنة. إن هذه الأخبار أحزنت مئات الملايين من المسلمين في العالم، وسرّت أعداء الإسلام كلهم، ومهما تكن الدواعي لهذه الأحكام القاسية فإن المسلمين في جميع الدنيا لا يرضون لحكومة باكستان الإسلامية أن يسجّل عليها التاريخ قتل علماء الدين أو سجنهم، لأنها لا تعدم بإعدام المودودي شخصًا، وإنما تحطّم سيفًا من سيوف الإسلام، وتسكت صوتًا من أصوات الإسلام، وتطمس مفخرة من مفاخر الإسلام، ويا فرحة أعداء الإسلام بذلك. إننا باسم جمعية العلماء الجزائريين وباسم ثلاثين مليون مسلم في المغرب العربي نتوجّه في شدة وإلحاح إلى دولة باكستان الرشيدة التي نفخر بها ونعلّق عليها الآمال في إعلاء كلمة الإسلام أن ترجع عن هذه الأحكام التي تزعج نفوس المسلمين، وتطلق سراح المودودي عاجلًا لتردّ الاطمئنان إلى نفوس جميع المسلمين. إن فرح المسلمين بنشأة باكستان، وعطفهم عليها، وانتصارهم لقضاياها، هو رأس مال عظيم للدولة الباكستانية، الواجب أن تزكيه بإطلاق حرية رجل من أكبر رجال الإسلام مهما كانت جريمته السياسية فإنها لا تعدو أن تكون جريمة رأي. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيس تحرير جريدة «البصائر» الفضيل الورتلاني عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والداعية الإسلامي

في الكويت وبغداد ودمشق وعمان ومكة

في الكويت وبغداد ودمشق وعمّان ومكّة (من ماي إلى أغسطس 1953) ــــــــــــــــــــــــــــــ

حكمة الصوم في الإسلام

حكمة الصوم في الإسلام * يسمّي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه ووصفه بأيسر صفاته، ووزنه بأخفّ الموازين، وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية، تبعدُها عن الحقائق العليا وتنزل بها إلى المراتب الدنيا، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضًا، فالنفوس الراهبة تخاف الله خوفًا تفضله على قياس الخوف من الملوك والأقوياء، مع أن الخوف من المخلوق يقتضي البعد عنه، والحذر منه والبغضَ له، أما الخوف من الله فإنه يقرب إليه، ولا يبعد عنه، ويثمر الحبّ والرضى والسكينة والاطمئنان، فأنّى يقاس أحدهما على الآخر! ولكنه الضلال في فهم العبادة جر إلى الضلال في فهم آثارها ومعانيها، ثم إلى الحرمان من آثارها ومعانيها؛ والنفوس الراغبة تطمع في الله طمعًا تقيسه بمقياس الطمع في المخلوق، فتلحف في السؤال ثم تضجر، وتعبده تملّقَا لا تعلّقًا، وكأنها تعطيه لتأخذ منه، وكأن العبادة عملية تجاريّة بين طرفين، مبنى أمرها على المصالح والمعاوضات، ومن غريب أمر هذه النفوس أنها تستأنس لهذا المعنى بعبارات القرآن مثل قوله تعالى: {هَئ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية، وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} الآية، وقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ ائمُؤْمِنِينَ} الآية، ولم تدرِ أن هذه أمثال ضربها الذي لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها، بالمُحَسّات المدركة لجميع الناس، ليستدرجهم منها إلى المعقولات العليا التي لا يعقلها إلا العالمون. ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير، إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا، وتفصيلُها على مقاييسها، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق، والرجاء في الله على وزن الرجاء في

_ * نشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر»، 5 جوان 1953.

غيره، ودعاؤه كدعاء الناس، والتوكّل كالتوكّل، والقرب كالقرب، والعلاقات كالعلاقات، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة، فدخلت معها معاني الإشراك، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها. فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر، ولم يهذّب الصوم النفوس، ولم يكفكف من ضراوتها، ولم يزرع فيها الرحمة، ولم يغرها بالإحسان. ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن، وآيات الأكوان، لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله- وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف فمن وحّد الله حق توحيده، قدره حق قدره، فعرفه عن علم، وعبده عن فهم، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا، وإن كانت الألفاظ واحدة، وإن أَدْرِي أمن رحمة الله بنا، أم من ابتلائه لنا أن جعل لغة الدين والدنيا واحدة؟ أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، وينفح عليها بالرّوح، ويخزها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة، وطراوة وخضرة، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا، ليكون ربيعًا للنفوس متنقلًا على الفصول، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة. إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير، ويسكّنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقها من أسر العادات. ويحرّرها من رقّ الشهوات، ويجتثّ منها فساد الطباع، ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر، ومثبّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه. هو مستشفى زمانيّ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية. ... لكل عبادة في الإسلام حكمة أو حِكَم، يظهر بعضُها بالنصّ عليه أو بأدنى عمل عقليّ، ويخفى بعضها إلا على المتأمّلين المتعمّقين في التفكير والتدبّر، والموفّقين في الاستجلاء والاستنباط، والحكمة الجامعة في العبادات كلّها هي تزكية النفس وتطهيرها من النقائص الروحية، وتصفيتها من الكدرات، وإعدادُ ها للكمال الإنساني، وتقريبها للملإ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية، وينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمعٌ للغرائز عن الاسترسال في الشهوات التي هي أصل البلاء على الروح والبدن، وفطم أمهات الجوارح عن أمهات الملذات، ولا

مؤدب للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه، والحدّ من سلطان الشهوات عليه، بل هو في الحقيقة نصر له على هذه العوامل التي تبعده عن الكمال، وكما يحسن في عرف التربية أن يؤخذ الطفل بالشدة في بعض الأحيان، وأن يعاقب بالحرمان من بعض ما تميل إليه نفسه، يجب في التربية الدينيّة للكبار المكلّفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ائخَاشِعِينَ}، أو متباعدة كشهر الصوم، فإنه لا يأتي إلا بعد أحد عشر شهرًا، كلها انطلاق في المباحات، وإمعان فيها، واسترسال مع دواعيها، وإن شهرًا في التقييد الجزئي بعد أحد عشر شهرًا في الانطلاق الكلي لقليل، وإن جزءًا من اثني عشر جزءًا ليسير في حكم المقارنات النسبية، فهو يسر في الإسلام ما بعده يُسر، وسماحة ما بعدها سماحة. لو أن مسرفًا في تعاطي الشهوات، يطاوع بطنه في التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، ويطاوع داعيته الأخرى باستيفاء اللذة إلى أقصى حد، لكانت عاقبة أمره شقاءً ووبالًا، ونقصًا في صحته واختلالًا، ولكانت الحمية منه في بعض الأوقات واجبًا مما يأمر به الطبيب الناصح، تخفيفًا على الأجهزة البدنية، وادّخارًا لبعض القوّة إلى الكبر، وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيرًا منظمًا للصحة، بلى ... وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، تطبيقًا للتدبير في شهر، وإرشادًا إليه في بقية الأشهر: وإذا كان كثير من المسلمين قد أفسدوا اليوم هذه الحكمة بالإفراط في التمتّع بالشهوات في ليالي رمضان حتى كأنها واجبات فاتتهم، فهم يقضونها مضاعفة مع واجبات الليل، وأفسدوا أجر التعب فيه بنوم نهاره، وسهر ليله في غير طاعة، فإن ذلك لا يقدح في الحكمة الدينية، لأن من كمال هذه الحكمة أن يقتصد المسلم في كل شيء وفي كل وقت، وأن يجمع بين سنّة الدين وبين سنّة الكون في جعل الليل لِباسًا والنهار مَعاشًا. ... إن هذا الاستعداد المتناهي الذي يستعدّه مسلمو اليوم لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب مخالف لأوامر الدين، منافٍ لحفظ الصحة، مناقض لقواعد الاقتصاد. ولو كان هؤلاء متأدّبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف في طعامهم وشرابهم، وأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، والغالب أن يكون لكل غنيّ مسرف في هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والأيامى واليتامى، وهم أحقّ الناس ببرّ الجار الغني، ولو فعل الأغنياء والمسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربة أخرى ذات قيمة عظيمة عند الله، وهي الإحسان إلى المعدمين، وذات مزية في المجتمع، لأنها تقرّب القلوب في الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلّهم بأنه شهر إحسان ورحمة وتوكيد للأخوة الإسلامية.

وإذا كان من لطائف الحكم المنطوية في فريضة الصوم قمع الغرائز، فمنها أيضًا إمرار العوارض الجسمية على من لم يتعوّدها، ففي الناس مترفون منعّمون، يستحيل في العادة أن يذوقوا ألم الجوع لما تيسّر لهم من أسباب الشبع، فكان في هذا التجويع الإجباري بالصوم إشراك لهم مع الفقراء في الجوع حتى يذوقوا طعمه، ويتصوّروه على حقيقته، إذا وقف أمامهم سائل جائع يشكو الجوع ويشكو آلامه ويطلب العون بلقمة على دفعه، ومن ذاق الألم من شيء رقّ للمتألمين منه. وتصوّر أنت غنيًّا واجدًا ميسّر الأسباب لا يطلب شيئًا من شهوات البطن إلا وجده محضرًا، ثم يقف أمامه فقير عادم لم يذق الطعام منذ ليال، فهو يتفنن في وصف الجوع وآلامه، والمضطر حين يطلب الإحسان، أخطب من سحبان، فهل ترى نفس هذا الغني المنعّم تتحرك للخير، وتهتزّ للإحسان، كما تتحرّك وتهتزّ، وتسرع إلى النجدة نفس من سبق له الحرمان من الطعام والتألّم لفقده؟ ... ومن مزايا هذه العبادة في غير هذا الباب أنها عبادة سلبيّة، بمعنى أنها ليس فيها عمل إيجابي من أعمال الجوارح، كالصلاة والحج، وحتى الزكاة فإن فيها نقلًا ودفعًا، وإخراجًا، وإنما الصّوم إمساك عن شيء كان مباحًا في أيام غير رمضان، ثم يعود إلى أصله بعد خروج رمضان، والإمساك وإن كان عملًا إلا أنّه سلب وانتفاء، وسرّ هذه المزيّة أنه أبعد العبادات عن الرياء الماحق للأعمال، حتى إن التسميع فيه- وهو قول الصائم: إني صائم- لا يحمله السامع على أنه تمدّح بالصوم، وليس فيه عمل يُرى، ولا أثر حقيقي أو مصطنع كأثر السجود في الجباه، إلا الشحوب الذي يكون من المرض كما يكون من الصوم، ولهذا البعد من الرياء ورد في حديث قدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». ومن عظم منزلة الصوم عند الله أن شرعه عقوبةً وكفارةً عن ارتكاب بعض المخالفات كالحنث في اليمين، والتمتعّ بالعمرة إلى الحج، والظهار، وقتل الخَطإ، وفطر العمد في رمضان، ولم يجعل هذا لغيره من العبادات والأركان، فلا تكفير عن ذنب بصلاة ولا حجّ ولا مال من جنس الزكاة. ... وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين اقتصارٌ على ما يحقق معناه الظاهري الذي تناط به الأحكام بين الناس، وتظهر الفروق، فيقول الفقيه: هذا مجزئ، وهذا غير

مجزئ ويقول العامي: هذا مفطر وهذا صائم، أما حقيقة الصوم الكامل التي يناط بها القبول عند الله، فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضًا، من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأَيْمان غموس وخوض في الأعراض، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة. فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة. وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة وفي مفهومه شرعًا، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول، مثل: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ ائجُوعُ وَائعَطَشُ»، ومن اللطائف القرآنية أن الله تعالى وصف المغتاب بأنه {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان، وكفى به شناعة، وبأنه ميت، والميت يذكّر بالميتة، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير. أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم، مثل سرعة الغضب، والانفعال، واللجاج في الخصومة على التوافه، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب- فكلها رذائل في غير رمضان، فهي فيه أرذل، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه، وأذهب بهاءه ورونقه، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه، وكذبوا وأخطأوا ... فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطين لنزواتهم عكسَ تلك الآثار: هدوء واطمئنان وتسامح وتحمّل، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول: «إِنِّي صَائِمٌ». فعلى الدعاة إلى الحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يحيوا آداب الصوم في نفوسهم، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس، ومن صبر على الصوم المديد، في الحر الشديد، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون ... ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله.

تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية

تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وهو المستعان، ولا إله غيره، ولا رب سواه، ونسأله الهداية في الختم وفي البداية، ونصلي ونسلم على رسوله الداعي إلى الدين القويم، والمرشد إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه قالة الحق، وحاصة الشق، وألسنة الصدق، ورتقة الفتق، ونعوذ بالله من زيغ العقيدة، وضلال الرأي، ومرض الفهم، وطغيان الوهم، ومن القول على الله بغير علم. اللهمّ اجعلنا هادين مهديين، ومتّبعين لا مبتدعين، وواقفين عند حدودك لا معتدين، واجعل ألسنتنا تابعة لقلوبنا، وقلوبنا متصلة بك، حتى نكون قائلين بالحق، عاملين له، واصلين بالقول والعمل إلى مرضاتك. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَئتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. ... وهذه صحيفة أخرى من صحائف الأبرار، تدعو إلى الحق- إن شاء الله- على بصيرة، وتظاهر أخواتها المتفرقات في العالم الإسلامي، اللواتي سبقنها إلى الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونشر دينه الحق، ونشر سنّة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، كصحيفة «البصائر» في الجزائر، ومجلتَي "الدعوة" و "المسلمون" في مصر، ومجلة "الأخوة الإسلامية" في بغداد، فهذه هي الصحائف التي رفعت الصوت بالحق، في زمن عمّ فيه الباطل، وبثّت النور في أفق غمره الظلام، وأن عسى أن يكون لها من مجلة "الإرشاد" ولي ونصير، ومنجد وظهير، وأن عسى أن تلتقي بهذه الأخوات، وتجتمع هذه الأصوات على بعث الأموات، وإحياء الموات، وتدارك الفوات، وأن عسى أن تنسخ هذه الصحائف أحكام الزمن الحائف وتصدّ بحزم القائد العارف، تيّاره الجارف، ما دامت من ورائها عقائد ثابتة، وعزائم مصمّمة، وألسنة

_ * مجلة "الإرشاد"، أوت 1953، الكويت.

مبينة، ومن أمامها جماعات تحسن الإصغاء، وتستجيب للدعاء، ومن وراء الجميع عون من الله يحيل الضعف قوة، وعناية منه تنير الطريق، ومدد من توفيقه يأخذ باليد إلى الحقيقة، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. ... الدعوة إلى الله وظيفة أهل الحق من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي أثمن ميراث ورثوه عنه، وهي أدقّ ميزان يوزن به هؤلاء الورثة ليتبين الأصيل من الدخيل، فإذا قصر أهل الحق في الدعوة إليه ضاع الدين، وإذا لم يحموا سننه غمرتها البدع، وإذا لم يجلوا محاسنه علتها الشوائب فغطّتها، وإذا لم يتعاهدوا عقائده بالتصحيح داخلها الشك، ثم دخلها الشرك، وإذا لم يصونوا أخلاقهم بالمحافظة والتربية أصابها الوهن والتحلّل، وكل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بقيام الدعوة واستمرارها واستقامتها على الطريقة التي كان عليها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الهداة من العلم، والبصيرة في العلم، والبيّنة من العلم والحكمة في الدعوة، والإخلاص في العمل، وتحكيم القرآن في ذلك كله. ولا يظنن ظان أن الدعوة إلى الله ختمت بالقرآن، وأنه أغنى عنها فقطع أسبابها، وسدّ أبوابها، بل الحقيقة عكس ذلك فالقرآن هو الذي وصل الأسباب، وفتح الأبواب، وجعل الدعوة سنّة متوارثة في الأعقاب، وما دامت عوارض الاجتماع البشري وأطوار العقل الإنساني تدني الناس من القرآن إلى حد تحكيمه في الخواطر والهواجس وتبعدهم منه إلى درجة الكفر به - فالقرآن ذاته محتاج إلى دعوة الناس إليه- بل الدعوة إليه هي أصل دعوات الحق، ولم يمر على المسلمين زمن كانوا أبعد فيه عن القرآن كهذا الزمن، فلذلك وجب على كل من امتحن الله قلبه للتقوى، وآتاه هداه أن يصرف قوّته كلها في دعوة المسلمين إلى القرآن ليقيموه ويحقّقوا حكمة الله في تنزيله، ويحكموه في أهواء النفوس ومنازع العقول، ويسيروا بهديه وعلى نوره فإنه لا يهديهم إلا إلى الخير ولا يقودهم إلا إلى السعادة. ... الحق والباطل في صراع، منذ ركّب الله الطباع، وإنما يظهر الحق على الباطل حين يحسن أهله الدعوة إليه على بصيرة، والدفاع عنه بقوة وقد قام الإسلام على الدعوة، فقوّته- يوم كان قويًا- آتية من قوة الدعوة، وضعفه- يوم أصبح ضعيفًا- آت من ضعف الدعوة. وقد حييت الدعوة إلى القرآن في زمننا هذا على صورة لم يشهد تاريخ الإسلام لها مثيلًا بعد الصدر الأول وقرونه الفاضلة، وارتفعت الأصوات بها في جوانب العالم الإسلامي، متعددة النواحي متّحدة الغايات والمناحي، فمن دعوة إلى عقائد القرآن وعدم الحيدة عنها في توحيد الله، وتنزيهه وتصحيح المعاملة معه، وتجديد الصلة به، ومن دعوة إلى إحياء آدابه في

النفوس، ومن دعوة إلى إحياء أحكامه وجعلها أصولًا للقوانين الدنيوية، ومن دعوة إلى درس حقائقه العليا وآياته في الأنفس والآفاق، ومن دعوة إلى الاهتداء بإرشاده إلى أسرار الكون التي كشفت عنها العلوم التجريبية في عصرنا هذا، وغفل عنها المسلمون ففاز باكتشافها واستثمارها غيرهم، وستفضي هذه الدعوة المتجددة إلى ما أفضى إليه أصلها من خير وعزّ وقوة وسيادة، وإذا جرت الأخيرة على سنن الأولى في الجد والقوة والحزم فستكون مثلها في سرعة ظهور الآثار وقرب الجني من أيدي القاطفين. لا نقص في هذه الدعوات إلا أنها لم تزل متفرقة المسالك، متباعدة المواطن، فعلى قادة هذه الحركات أن يوحّدوا الأعمال والوسائل، وأن يجمعوا هذه القوى المتفرقة لتكون أقوى، ويوحّدوا القيادة العامة ليكون ذلك أدعى لرهبة الخصوم المتألبين، وأجمع لشمل الأتباع والجنود، وإذا كنّا نرى أصحاب الباطل يجتمعون على باطلهم ليدحضوا به الحق، فكيف لا يجتمع أهل الحق على حقّهم؟ ومن طبيعة الحق أن يجمع الناس على أنفسهم، وعلى أولئك القادة أن يبنوا أمرهم على العلم الصحيح والتربية الرشيدة، وعليهم أن يبدأوا بإنشاء جيل قويم يبنونه على التربية الإسلامية القويمة ليكون أساسًا لمن بعده، وأن يغرسوا فيه العقائد والأخلاق القرآنية من الصغر، وأن يروّضوه على الصبر والعفة والجد مع طراوة العود، وأن يوجّهوه الوجهة السديدة في الدين والحياة، ويرشّحوه للعظائم حتى ينشأ مستعدًا لها مستخفًّا بأثقالها. إن شيوع ضلالات العقائد وبدع العبادات والخلاف في الدين هو الذي جرّ على المسلمين هذا التحلّل من الدين، وهذا البعد عن أصليه الأصليين، وهو الذي جرّدهم من مزاياه وأخلاقه حتى وصلوا إلى ما نراه. وتلك الخلال من إقرار البدع والضلالات هي التي مهّدت السبيل لدخول الإلحاد على النفوس، وهيّأت النفوس لقبول الإلحاد، ومحال أن ينفذ الإلحاد إلى النفوس المؤمنة، فإن الإيمان حصن حصين للنفوس التي تحمله، ولكن الضلالات والبدع ترمي الجد بالهوينا، وترمي الحصانة بالوهن، وترمي الحقيقة بالوهم، فإذا هذه النفوس كالثغور المفتوحة لكل مهاجم. ... نصيحتي للقائمين على هذه المجلة أن يسلكوا بها الطريق الواضح إلى الدعوة، وأن يستفيدوا منها من تجارب من سبقهم، وأن يحشدوا لها الأقلام المتينة، والعقول الرصينة، وأن يعتنوا بتصحيحها، فالتصحيح نصف الجمال.

الأستاذ كامل كيلاني

الأستاذ كامل كيلاني * الرجل الذي انتهت إليه حكمة التربية ــــــــــــــــــــــــــــــ بعث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من بغداد إلى الأستاذ كامل كيلاني بالقاهرة الكتاب الآتي بعد الديباجة: "أكتب إليكم مهنئًا بالعيد، وإن كانت معانيه البليغة ممسوحة من نفسي، لأنني أفهمه موقف حساب وعرض، لم يعرض فيه العرب من أعمالهم إلا المخزي، ولم يحاسب فيه المسلمون من عباداتهم إلا بغير المجزي، ولكن التهنئة أصبحت كلامًا يدور على الألسنة برغم الضمائر الحية والشواعر اليقظة! زرت الكويت ورأيت ما رأيت، وألقيت عدة محاضرات كانت- بتوفيق الله- غيثًا على جدب، وفراتًا على ظمإٍ، ولم أنس في لحظة أخي "كاملًا". وهل ينسى الإنسان جزءًا من نفسه كاملًا؟! الحركات عند إخواننا العرب بطيئة جدًا، يحتاج المتعرّض لها إلى صبر متين وأناة، وإلى لطف احتيال، أو إلى ما جمعه الشاعر الذي يقول: ليس للحاجات، الخ، وأنتم أعرف بالبقية! أنا- فيما أعدّ نفسي- مبشر بالمبادئ الصالحة والكتب الصالحة، لأن التجارب انتهت بي إلى أنه ما أفسد العلم ورجاله إلا الكتب الفاسدة. وبما أن الحرص على استقامة الإنسان يبدأ بتقويم الطفل، ولا يستقيم الطفل إلا إذا غرس عقله في "مكتبة الأطفال"، وقد تكون هذه التعبيرات نافرة أو متنافرة، ولا يعنيني أمرها، فإن المعنى الذي أقصده هو هذا:

_ * صحيفة "منبر الشرق"، عام 1953.

إنني أُشهد الله، وأشهد أمام خلقه، بأن الرجل الذي انتهت إليه حكمة التربية من طريق كتب التعليم هو الأستاذ "كامل كيلاني". وستشهد هذه النهضة بهذا يوم يمدّ مدّها، ويجد جدّها. أحييكم وولدنا "رشادًا" وأدعو لكم بالتوفيق، وسأكاتبكم من الشام.

في نادي القلم ببغداد

في نادي القلم ببغداد * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوة الكرام: نادي القلم! اسم شعري لطيف، عليه من السماء صفاؤه، ومن الربيع أنداءه، وفيه من آثار الله وصقله، ومن مساوقة الفطرة وبساطة التركيب، وفيه من الغمام ما يحكي ودقه، وفيه من الواقع ما يحقق صدقه. أسماء النوادي والجمعيات كأسماء الأناسي، فيها الصادق والكاذب، ولكن الفارق الجوهري بينهما أن أسماء الأناسي توضع من غير اختيار أصحابها ولا مشورتهم، ومن غير ترقّب لتحقق معنى الاسم في المسمّى، وتوضع في غمرة من الفرح بالكائنات الجديدة، فيدخل فيها- أوّل ما يدخل- عنصر التفاؤل المبني على الأماني، أو عنصر التوقي من العين أو من الموت، وهذا يرجع إلى المزاعم التي لم تفارق الإنسان بدويًا وحضريًا، ولم يفارقها وثنيًا ومتألهًا. أما أسماء النوادي والجمعيات والأحزاب فإنها توضع بعد تحديد معانيها وتبيين مقاصدها، فكان الواجب أن تكون صادقة دائمًا وأن لا يدخلها الزيف، ولكن الناس يحبّون الاغراب والانحراف، لذلك نراهم يغربون في الأسماء، فيغرقون في الإيهام والتغرير، وإن أحبّ الأسماء في هذا الموضوع ما كان طبيعيًا وما كان منتزعًا من الموضوع كاسم نادي القلم، فإنه اسم مفصّل على موضوعه، ومن ثم فهو أصدق شيء في الدلالة على موضوعه، لا يشبهه في أسماء الأناسي إلّا اسم "عبد الله"، فإن هذا الاسم لا يغرّ ولا يكذب، فالإنسان، آمن أو كفر، وبَرَّ أو فَجَر، فهو عبد الله. بخلاف أسماء الفأل التي لا يحتاط فيها للعواقب كصلاح الدين لمن أفسد

_ * نشرت جريدة "التحرير" البغدادية (جوان 1953) ملخّصًا من هذه الكلمة، نقلته جريدة «البصائر»، العدد 236، السنة السادسة، 10 جويلية 1953، ثم وجدنا في أوراق الإمام مسودّة منها، ننشرها اليوم.

الدين، وبرهان الدين لِمَن هو برهان لأعداء الدين على الدين، ولا يشبهه في أسماء الكتب إلا اسم "إصلاح المنطق" و "لسان العرب" و "كتاب النبات". أيها الإخوان: لي من الصلات الطبيعية بنادي القلم أنني أحد هذه العصبة التي تتّخذ من القلم أداة جهاد في زمن لغة بنيه أبعد ما تكون عن القلم، والحَكَم فيهم السيفُ لا القلمُ، فكأنهم من تلامذة المتنبّي حين يقول: حَتَّى رَجَعْتُ وَأقْلَامِي قَوَائِلُ لِي … ائمَجْدُ لِلسَّيْفِ لَيْسَ ائمَجْدُ لِئقَلَمِ أُكْتُبْ بِنَا أَبَداً بَعْدَ ائكِتَابِ بِهِ … فَإِنَّمَا نَحْنُ لِئأَسْيَافِ كَائخَدَمِ ولي من الصلات المتينة بهذا النادي أن الرجال الذين هم عمده ودعائمه من أصدقائي الذين أعتزّ بصداقتهم، وأعدّ لقاءهم والتعرّف إليهم فصلًا حافلًا بالفخر من تاريخ حياتي، كالأستاذ الجليل شاعر العروبة محمد رضا الشبيبي، والأستاذ الأديب محمد بهجة الأثري، والأستاذ الدكتور محمد فاضل الجمالي، والدكتور أحمد سوسة، والدكتور جواد علي، وجمهرة أعضاء نادي القلم. أيها الإخوان: القلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتنازعوا أمرهم بينهم فيمحوا القطيعة بالوصال، وعلى ذلك فغير بعيد منّي أن أقول كلمة في نادي القلم، وأن أتحدث إلى أبناء أسرةٍ أنا واحد منهم فيما يجب لهذه الرحم من حقوق وفيما يجب على أبنائها البررة من أعمال، يقوّيها التعاون ويضعفها التهاون، وأن أول الواجبات عليهم أن يلمّوا ما أصابها من شعث، ويقوّوا ما انتابها من وهَن، وأن يردّوا على هذه الحرفة التي يُباشرها القلم هيبتها في القلوب وتأثيرها في النفوس ومكانتها بين الناس، وأن يثلموا بهذه الأدوات الضعيفة قوّة الأقوياء، ويلينوا بها قسوة القساة، وأن يردّوا بها حجّة السيف داحضةً والسيف مفلولًا، وأن يتسامَوْا بهذه الطائفة من حملة الأقلام عن تدنيس نفسها بالمطامع وتسخير قواها للشهوات الدنية، فتتجافى عن الهزل في الزمن الجادّ، وعن الإسفاف في حين احتياجنا إلى السمو، وعن التدلّي في عصر الترقّي، وعن الطمع في وقت أحد أسلحتنا فيه التعفّف عما تقدمه لنا يد العدوّ من مطاعم كلها مطاعن، ومشارب كلها إلى الموت مسارب، وملابس كلها محابس، وأفكار كلها للموبقات أوكار، وعلوم كلها في ديننا ومقوّماتنا كلوم. أيها الإخوان: حملةُ الأقلام فينا كثير، ولكن المصيب المسدّد منهم قليل، وكما يحتاج السيف إلى ساعد قوي يحتاج القلم إلى فكر مسدّد، وإن أقلامنا اليوم كالسيوف التي قال فيها الأول:

فهذي سيوف يا عدي بن مالك … كثير ولكن أين بالسيف ضارب وإن كثيرًا ممن يحترف هذه الحرفة بيننا اليوم ممن يصدق عليهم قول الشاعر: تبًّا لدهر قد أتى بعجاب … ومَحا فنونَ الفضل والآداب وأتى بكُتَّاب لو انبسطت يدي … فيهم رددتهمُ إلى الكُتَّاب وإن منهم لأدعياء يتقحمون عرينًا نامت آساده، فكأنّ القائل عَناهُم بقوله: لقيط في الكتابة يدّعيها … كدعوى آل حرب في زياد فدع عنك الكتابةَ لستَ منها … ولو لَطَّخْتَ ثوبك بالمداد أيها الإخوان: شتّان ما بين السماء والسماوة، فمن السخافة في عقل العقلاء أن يقال إنهما واحد لأنّ النسبة إلى كليهما في حكم اللغة واحدة. أيها الإخوان الزملاء، لا يفهم الناس من نادي القلم أنه متحف للأقلام يضم أنواعها وأشكالها وتطورات جواهرها على الزمن من القصب إلى الذهب، وإنما يفهمون- على الأقل - أنه شيء غير ذلك، فما هو هذا الشيء؟ لقد أحسنتم وهُديتهم إلى الطيب من العمل حيث لم تقيدوه بمكان، فرفعتم بذلك أوهامًا منها أنّه نادٍ كالنوادي، وجئتم بكمال يظنّه الناس نقصًا، وهو أنه فكرة محلّها القلوب الواعية، ومظهرها الهمم الساعية، وبقي أن يعرف الناس آثارها الظاهرة. إنّ على هذا النادي الفكري عهدًا مسؤولًا، إنْ غفل عنه قبل اليوم فلن تغفر له غفلته عنه بعد اليوم، ذلك العهد المسؤول هو أن يوجّه بطريق القدوة هذه القوافل الخابطة في غير هدى إلى الصراط القويم، يوجّهها إلى خدمة هذه الأمّة التي منها خلقهم وعليها رزقهم، يفهمها أن هذا الوطن مسلم منذ غرس فيه الفاتحون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - شجرة الإسلام وسقوها بدمائهم، فكيف يعلو فيه صوت ملحد أو صوت وثني؟ إنّ من السماجة بل من الخيانة أن يوكل خبر المسلمين بالتنقص من دينهم، وأن تطمس بينهم حضارة العرب- وأسبابها ما زالت في الأيدي- بحضارات قامت على الظلم والتسخير والوثنية، كل هذه الأدران لا ترحض إلّا بما تنضحه الأقلام الطاهرة القوية من حقائق وحكم وتوجيهات. إنّ في العراق جفافًا لا تُحييه إلّا غيوث المداد من الأقلام الراشدة، وَوَاعجبًا كيف يُصيب العراق جفاف الثرى حتّى تجلب القوت الغالي من الخارج، وفيها الرافدان؟ أم كيف يُصيب العراقيين جفافُ الفكر والعقل حتّى يستعيروا المبادئ الضارة من الأجنبي، وفيهم القرآن يهدي، والعربية تُجدي، والتاريخ الإسلامي يُعيد ويُبدي؟

وواعجبًا لأبنائنا يتنكّرون لدينهم- وهو حق- وهم يعلمون أنّ اليهود حقّقوا حلمًا دينيًا صبروا له عشرات القرون، وأنّ الهنود يغارون للبقرة تُهان فتطيح الرقاب، وقد بنوا على ذلك دولة، فكيف لا يغار المسلم على حقائقه وحقوقه الدينية؟ وكيف لا يبني عليها دولةً تطاول الدول؟ أيها الزملاء الكملة: يجب عليكم أن توجّهوا بأقلامكم الهادية هذه الأقلام الضالّة، ثم تتوجّهوا جميعًا إلى الوجهة السديدة التي تنفع وتدفع وترفع وتسْفع وتشفع، واسمعوا منّي معمولات هذه العوامل: إن الوجهة السديدة هي التي تنفع القريب، وتدفع الغريب، وترفع القناع عن المريب، وتشفع للمنيب، وتسفع المعتدين بالناصية. أيها الإخوان: إن القلم الذي نسبتم ناديكم إليه ذو نَسَب عريق في دينكم وفي آدابكم، فأيّ دين من الأديان السماوية مجّد القلم كما مجّده الإسلام أو وضعه في منزلة مثل المنزلة التي وضعه فيها القرآن؟ فقد وضعه في منزلة لا يرقَى إليها المتطاول، ولا تنالها يَدُ المتناول، نَسَبه الله إلى نفسه وجعله أحد الرواميز الأربعة إلى قوته وكمال قدرته وإحاطة علمه: العرش واللوح والكرسي والقلم، ثم زاده تشريفًا فأقسم به عزّ وجلّ فقال: {ن وَائقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، ولا يُقسم الخالق العظيم إلّا بمخلوق عظيم، وعظمة المخلوقات من عظمة آثاره في النفع والخير، ثم زاده رفعًا فجعله أداة تعليمه لخلقه: {عَلَّمَ بِائقَلَمِ، عَلَّمَ ائإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. إن الأشياء كلها في هذا الوجود تروج وتكسد وتصلح وتفسد وتقبح وتحسن إلّا القلم، فإن سوقه دائمًا إلى رواج، ولا يصحّ في الأذهان أن يأتي يوم تستغني فيه الأمم عن القلم، إلّا إذا صحّ في تلك الأذهان أن يأتي يوم تقلب فيه الأوضاع والحقائق، وتنتكس العقول إلى الوراء، ويخرج فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان، والإنسان من تدبير العقل إلى تدبير البطن، وينعكس فيه الفهم من نطق اللسان إلى نطق الدبر، ويومئذ يكون أفضل الذِّكر أن يقال كلّما ذُكِر الشيطان: رضي الله عنه. أيها الإخوان: القوة اليوم بالأقلام، وبالجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإذا فاتتكم القوة الثانية فلا تفوتنكم القوة الأولى. لقد سمعنا شوقي يخاطب الترك بقوله: نحنو عليكم ولا ننسى لنا وطنًا … ولا سريرًا ولا تاجًا ولا عَلَما هذي كرائمُ أشياءِ الشعوبِ فإنْ … ماتَتْ فكل وجودٍ يشبهُ العَدَما وأنا أقول: إن كريمة كرائم الشعوب هي القلم المحرّر، واللّسان المعبّر، والعقل المدبّر، فإذا ضاعت هذه فالوجود هو العدم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حركتنا حركات أحياء

حركتنا حركات أحياء * جوانب من الخطبة الفيّاضة المرتجلة التي تفضّل بإلقائها سماحة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على شباب الإخوان في المركز العام لخّصها مندوب المجلة. ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا موقف الشكر على النعمة التي أنعمها الله على جمعية الأخوة الإسلامية إذ اجتمعت بأعضائها بعد فترة غياب. وهناك فرق- أيها الإخوة- بين المقيم والغائب وهو أن المقيم لا يشعر بالتبدّل والتغيّر إلا قليلًا، أما الغائب فإنه يشعر بهذا التبدّل ويحسّ بالفرق بين الحالة الماضية والحالة الحاضرة. وأخوكم هذا قد غاب عنكم السنة أو فوق السنة فاسألوه ينبئكم: ماذا رأيت لما فارقتنا وأقبلت إلينا؟ لا شك أن حركتكم حركة ناجحة وإني شعرت بهذا التبدّل وهذا التقدّم المحسوس الذي تلمسه اليد، فقد تركتكم في مسجد ورجعت فوجدتكم في دار ومسجد. إن حركاتنا حركات حق، ودعوة إلى الحق، فالواجب أن تكون في تقدم واستمرار على غرار الدعوة المحمدية الأولى ... بدأت قليلة العدد بطيئة الأثر. فالإسلام في بداية أمره استند على أربعة ثم توسّع وشمل العالم، فالله سبحانه وتعالى يخرج من الضعف القوّة، فالإسلام قام على أكتاف أربعة: على امرأة هي خديجة، وعلى شيخ هو أبو بكر، وعلى صبي هو علي، وعلى مولى هو زيد بن حارثة. فهذا ضعف باعتبار الناس، وهذه الأركان الأربعة الضعيفة التي عددتها هي التي قام عليها الإسلام، وهؤلاء الأربعة هم الذين حملوا عرش الإسلام. ثم ان الإسلام أخذ يسري كما تسري النار في الهشيم، غير أن سريانه في النفوس ضعيف في الظاهر قوي في الباطن. لما سأل هرقل أبا سفيان- وإن هرقل داهية زمانه-: أيكم أقرب نسبًا إلى هذا الرجل؟ (يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فأشير إلى أبي سفيان، فسأله أسئلة تعد دستورًا في علم النفس، وكان من ضمنها: أيزيد أتباعه أم يقلّون؟ فأجاب أبو سفيان: بل يزيدون ...

_ * مجلة "الأخوة الإسلامية"، السنة الأولى، العدد الثالث عشر، بغداد، 2 رمضان 1372هـ الموافق لـ15 ماي 1953م.

وإني فرح بهذه الجمعية التي هي قطعة من قلبي وهي امتداد للحركة التي دعوت إليها، وكلما سمعت أنها ملكت شيئًا من أرض أو امتدّت شبرًا فإني أشعر بالسرور والغبطة، بل إذا بلغني أن الشيخ أمجد الزهاوي يشعر بقوّة في جسمه وفكره ازددتُ فرحًا، وقد أراد الله أن يكون هو سبب وجودي بينكم الآن. وقد التقيت مع الأستاذ الصواف في القاهرة فجرّني أو جررته أو تجاررنا. فأشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة وأسأله لهذه الجمعية التي تمثّل الإسلام بكامله أو أنها تمثّل السياسة الإسلامية وهي إصلاح بين المرء وربّه، وهيهات أن يصلح المرء ما لم يصلح المعاملة مع الله وما لم يعمل لله وحده. وما أخّر المسلمين إلا هذا الشرك الذي أبعد المسلمين عن عبادة الله. لأن الإنسان إذا تلفّت إلى جهات متعددة فإنه يصبح بلا إرادة، وما الإنسان إلّا إرادة وعزيمة فإذا صلحت إرادته صلحت عزيمته، وإذا أراد الإنسان شيئًا وسعى لتحقيقه فإن إرادته تؤدي به إلى نيل مبتغاه، ومن أصبح بلا إرادة أصبح مسيّرًا مثل ما هو حالنا اليوم. فانظروا ذات اليمين وذات الشمال تجدوا المسلمين مسيرين متأخرين في كل شيء، فإن أرادوا أن يكونوا كغيرهم من الأمم فعليهم بأن يقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكم أن تطلقوا على هذه الدعوة ما تشاؤون من تعابير: فسموها بحركة أخوة أو حركة إحياء، لا إحياء الإسلام لأن الإسلام حي بل إحياء الإسلام في نفوسنا، وإن الإسلام لا يقوم بالكم بل بالكيف، وتدبروا آيات سورة الأنفال حول المؤمنين الصابرين الذين رغم قلة عددهم يغلبوا أضعاف ذلك العدد من الكافرين وينتصروا عليهم. ولم يرد الله سبحانه وتعالى إرهاقنا بل أراد أن يثبتنا على القوة الحقّة التي هي قوة النفوس التي تستكن في الإرادات. أيها الأبناء: إن أمتكم تعول عليكم شرط أن تعدّوا أنفسكم إعدادًا روحيًا لا بدنيًا، فإذا أشرقت أنوار الإسلام وغمرت هدايته كل المجتمع البشري، فإن هذا المجتمع سينعم بالخير العميم، وتتحقّق له السعادة في الدنيا والآخرة، والإعداد الروحي يجعل المسلم موقنًا بأنه إذا مات في سبيل الله ينتقل من حياة بعضها شقاء إلى حياة كلها سعادة، فكونوا مسلمين كاملين، أي كونوا عاملين في سبيل الله، وإياكم أن تكونوا أنصاف أو أرباع مسلمين وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا واقتدوا بالقدوة الصالحة، وإن الواحد منّا يستطيع أن يقود الملايين بشرط أن تكون النفوس مستعدة. وإن هذا الشباب إذا تدرّب على الإقدام وقوّة العزيمة وعدم الخوف إلا من الله فإنه يأتي بالأعاجيب. وإن الله يأتي بعبارات الحصر والخوف {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، وإن المسلمين لم يؤخذوا إلا من الابتعاد عن خشية الله ... فإذا كان المسلم لا يرهب إلّا الله فإنه لا يعبد وثنًا ولا

يهاب ظالمًا مهما بلغ طغيانه. ويوم كان المسلمون كذلك سادوا الدنيا وملكوها بالعدل، ولما انتقلوا إلى اعتقادهم بالمخلوق واعتمادهم على المخلوق استعبدوا. فحسبكم أن في الأرض خمسمائة مليون مسلم كلهم مستعبدون، وحياة المسلمين لا تحتاج إلى ترجمة لأنهم كلهم خاضعون لهذا الاستعباد. فلو أقمنا لجنة لامتحان المسلمين لسقط 99% منهم، لأننا مسلمون باللفظ وإلّا فكيف نُغلب بالكَفَرة، أيكذب القرآن؟ حاشا لله: بل نحن كاذبون، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِئعَبِيدِ}، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وقد كرّر الله سبحانه هذا المعنى بأساليب مختلفة، فنحن إذن بين أمرين: فإما أننا كاذبون في إسلامنا، أو أن الله قد جار علينا، والله نزيه عن الجور. إذن فنحن كاذبون في إسلامنا ظالمون لأنفسنا فعلينا أن نتوب والتوبة تكون بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى واتّباع أوامره ونواهيه، والإقلاع عن الخضوع لغيره، وبمواجهة الحياة والاستهانة بها. أتدرون لماذا ملكنا الغربيون؟ لقد ملكونا لأننا انغمسنا في الكماليات السخيفة التي غمرونا بها والتي تملأ الشوارع والمحلات ليضعفوا بها اقتصادنا ويمتصّوا ثرواتنا، وانظروا إلى حكوماتنا التي لا تهتم إلّا بالشيء التافه والوضيع من الصناعات الوطنية. إن العلماء يقسمون الحاجيات إلى: أولًا ضروري، ثانيًا حاجي، ثالثًا كمالي، رابعًا تحسيني. فالضروري هو الذي يستر الجسم ويصونه، أما نحن فننتقل من لبس الكتّان إلى القطن إلى الصوف ثم إلى المحرمات كالحرير، ومن استعمال الساعة النحاسية إلى الفضية إلى الذهبية، وهذه أموالنا تخرج من جيوبنا إلى خزائن الدول الغربية لتعود لنا بحبال نشنق بها وأسلحة نقتل بها، وأصبح كثير مما نستورده من الكماليات كالضروريات لا نطيق العيش بدونه، فصرنا نأكل الحلوى ونحن في البلوى. أيها الأبناء: بدأت بالشكر على هذه النعمة- نعمة الاجتماع- وعرضت لكم أشياء مؤلمة عن واقعنا كمسلمين، وأرجع بكم إلى حياة الاستئثار فأدعوكم إلى العمل والنظر إلى الحياة نظر تفاؤل، واعلموا أن الفجر قريب، وأن شمس الإسلام لا تغيب والله أكبر ولله الحمد.

حركة جمعية العلماء الجزائريين وواقع العالم الإسلامي

حركة جمعية العلماء الجزائريين وواقع العالم الإسلامي * وجّه أحد أعضاء أسرة مجلة "الأخوة الإسلامية" سؤالين عن جمعية العلماء وواقع العالم الإسلامي إلى سماحة العلّامة الأكبر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بمناسبة نزوله في العراق، وها هو ذا سماحته يجيب عليهما مشكورًا وفيهما العبر الغالية والتوجيهات العالية. ــــــــــــــــــــــــــــــ حركة جمعية العلماء: الحركة التي قامت بها جمعية العلماء في الجزائر منذ ثلاثين سنة تقريبًا وعرفت بالحركة الإصلاحية الدينية هي في حقيقتها دعوة القرآن والسنّة الصحيحة فهمًا وعملًا ورجوع بالمسلمين إليهما لأنهما أصل الدين ومنبعه ولأنهما سبب سعادة المسلمين وسيادتهم في العصور الأولى، وفي القرآن ما فيه من هداية وتوجيه صالح وتمكين للمقوّمات التي لا تعتز الأمم إلا بها ولا تقوم إلا عليها. ولذلك كان من آثار جمعية العلماء يقظة همم المسلمين وتنبيه شعورهم وتذكر أمجادهم تاريخًا، فهبّوا بذلك التأثر مطالبين بحقوقهم عاملين بما يثبت تلك الحقوق من علم واستعداد، بعد ما أنساهم الاستعمار بكيده كل ذلك ففرّق جامعتهم وجرّدهم من أسباب القوة وما عرفت الجزائر قيادة روحية رشيدة قبل جمعية العلماء، وكل ما جاء بعدها من الحركات السياسية المحضة فهو في الدرجة الثانية من الاعتبار وفي آخر الدرجات من التأثير. أزعجت حركة جمعية العلماء الدولة الفرنسية إزعاجًا ظهر أثره في المعاملات الجائرة التي تعامل بها الجمعية من يوم منشئها إلى الآن، لأن الدول الأوربية المستعمرة تهدف لتميت

_ * مجلة "الأخوة الإسلامية"، السنة الأولى، العدد الثالث عشر، بغداد، 2 رمضان 1372هـ الموافق لـ 15 ماي 1953م.

واقع العالم الإسلامي

الدعوات الروحية وآثارها في النفوس لأنها أثبت صبغة وأسد خطى وأصدق نتيجة، وزاد في انزعاجها منها أنها حركة بناء للعقول وللمدارس التي تربي العقول، وأنها تعنى بالتربية والتعليم والتكوين والإعداد، وأنها تبني النتائج على مقدّمات صحيحة، وأن الغاية الطبيعية لعملها هي إيجاد أمّة تعرف كيف تطالب وممن تطالب وبماذا تطالب، ثم تصرّ على المطالبة وتعرف كيف تأخذ وكيف تحافظ على ما أخذت، ولا تنكس في مرحلة من مراحلها ولا تنتكس ولا تصالح لأنها تفكّر وتقدّر ولا يزعج الاستعمار شيء مثل الإعداد والتربية والرجوع إلى منابع القوة والعزة من دين ولغة وتاريخ، ولذلك نراه يعمد إلى مقوّمات الأمم بالتشويه والمسخ والطمس حتى تنسى الأمة مقوّماتها فيسهل عليه ابتلاعها والقضاء عليها، وهكذا فعل بالجزائر منذ احتلالها، وهكذا فعل بتونس ومراكش بعدها، وما ابتلى الله الأمة الإسلامية به إلا بعد أن ضعفت فيها تلك المقوّمات بالإهمال والجهل واستبدال الضلالة بالهدى والرق في الدين ومحال أن تتسلّط أمة، وإن بلغت من القوة ما بلغت، على أمة محتفظة بمقوّماتها المعنوية والروحية المستمدّة من دينها، وبمقوّماتها الذاتية المستمدّة من لغتها وتاريخها وخصائصها الجنسية وأمجادها الموروثة، ولا يرهب الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي هذه الحركات السياسية المحضة مثلما يرهب حركة جمعية العلماء التي بدأت في الجزائر وسرت عدواها بالتأثّر والاحتذاء إلى الجناحين مراكش وتونس، ومن خصائص القرآن إذا فهمه الناس وعملوا به أنه يجمع بنيه على مبدإٍ واحد ويوجّههم وجهة واحدة. وسلاح الاستعمار الذي رمى به الشرق هو تفريق المجموع، فليفهم المسلمون أنهم إذا أحيوا القرآن وتعاليمه في نفوسهم أبطلوا جميع مكائد الاستعمار، وأنه لا سلاح لهم بعد أن وصلوا إلى هذه الحالة من الضعف إلا ما يقتبسونه من القرآن من الأخذ بأسباب القوة الروحية والقوة المادية. واقع العالم الإسلامي: واقع العالم الإسلامي اليوم أنه مستعبد مسخّر يتعب ليسعد عدوّه ويموت ليحيي غيره ولا درجة في الخزي والهوان أحط من هذه، ولا ينكر هذا إلا مغرور بالظواهر أو مخدّر من الاستعمار أو جاهل لا فكر ولا عقل له فلا يقبل له رأي ولا يصحّ منه حكم. عداد المسلمين في العالم يزيد على خمسمائة مليون ولكن أي شعب من شعوبه يعدّ مستقلًا استقلالًا حقيقيًا بريئًا من شوائب التدخّل الأوربي كاملًا مستوفيًا لشرائطه وعناصره من السياسة والعلم والاقتصاد؟ الواقع المشهود للعيان أنهم عالة على غيرهم وفي كل شيء، فسياستهم العامة مسيّرة على هوى غيرهم لا على مصالح شعوبهم، ووراء كل حكومة من حكوماتهم أشباح خفية تأمر فتطاع وتنهى فتمتثل وتغضب فيقرأ لها حساب، والعلم يأخذونه على أعدائهم كما يملونه سمًا أو ترياقًا، وخيرات بلادهم وهي أساس قوّتهم محتكرة للأجنبي، حظّهم منها

الحظ الأوكس والتجارة والصناعة لا يد لهم فيها ولا رجل: يبيعون القنطار من نتاج أوطانهم رخيصًا ثم يشترون الداني منه غاليًا، فإذا أغلق صاحب السوق سوقه في وجوههم أفلس غنيّهم ومات فقيرهم جوعًا وهلك عريًا وهم مع هذا مشغولون بالتوافه مفتونون بظواهر السلطة مقدّرون لأسباب الخلاف والتباعد بينهم، لا يفكّرون بالاتحاد الذي يحمي جميعهم ولا في التعاون الذي يحرّرهم ويأتيهم بالقوة ويدفع عنهم استغلال الأجنبي لمرافقهم ولا يتحاكمون في حلّ مشاكلهم إلى العقل الذي يقرر قاعدة: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" ثم يحكم لواحد من الأولين ليحرم الذئب. أما علة هذه الحالة فهي متشعبة المسالك متعددة النواحي ولكنها ترجع كلها إلى سبب الأسباب وهو ضعف الأخوة الإسلامية إلى درجة قريبة من العدم، حتى أصبحت كلمة تقال على الألسنة ولا قرار لها في القلوب، ولو كان لها معنى يخالط النفوس ويؤثر فيها لرجعت حكوماتهم كلها إلى حكومة واحدة أو إلى حكومات متحدة في الرأي واعتبار المصلحه العامة، ولرجع علماؤهم إلى الكلمة الجامعة في الدين وشعوبهم إلى المنفعة الجامعة في الدنيا ولرجع أهل الرأي منهم إلى المنزلة التي وضعهم فيها القرآن وهي منزلة بعد الله ورسوله مباشرة. وأما دواء هذه العلة فهو معروف من العلة نفسها ومبدؤها من علماء الدين، فالواجب المتعيّن عليهم أن يتداعوا إلى نبذ الخلاف في الدين واللياذ بالمتفق عليه وهو القرآن، ثم يحملوا الحاكمين على إقامته والاهتداء بما أرشد إليه ويحملوا المحكومين على التخلّق بآدابه والوقوف عند حدوده والإذعان لأحكامه.

هل لمن أضاع فلسطين عيد؟

هل لمن أضاع فلسطين عيد؟ * للناس عيد ولي همّان في العيد … فلا يغرنّك تصويبي وتصعيدي همّ التي لبثت في القيد راسفة … قرنًا وعشرين في عسف وتعبيد وهمّ أخت لها بالأمس قد فنيت … حماتها بين تقتيل وتشريد كان القياض لها في صفقة عقدت … من ساسة الشر تعريبًا بتهويد جرحان ما برحا في القلب جسهما … مود وتركهما- لشقوتي- مود ذكرت بيتًا له في المبتدا خبر … في كل حفل من الماضين مشهود إن دام هذا ولم تحدث له غير … لم يبك ميت ولم يفرح بمولود ويح إحياء القلوب وإيقاظ الإحساس ماذا يتجرّعون من جرع الأسى في هذه الأعياد التي يفرح فيها الخليون ويمرحون، أيتكلفون السرور والانبساط قضاء لحق العرف ومجاراة لمن حولهم من أهل وولدان وصحب غافلين وجيران، أم يستجيبون لشعورهم وينزلون على حكمه فلا تفتر لهم شفة عن ثغر ولا تتهلّل لهم سريرة ببشر ولا تشرق لهم صفحة بسرور. ويح النفوس الحزينة من يوم الزينة، إنه يثير كوامنها ويحرّك سواكنها فلا ترى في سرور المسرورين إلا مضاعفة لمعاني الحزن فيها ولا ترى في فرح الفرحين إلا أنه شماتة بها.

_ * مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد الخامس عشر، بغداد، 1 شوال 1372هـ الموافق لـ 12 جوان 1953م، مع التقديم الآتي: ما زال سماحة الحبر الجزائري العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يحلّ بين ظهرانينا، ولما وجد أن رمضان المبارك قد استعدّ للرحيل وأن هلال شوّال أخذ يقترب سريعًا، والعالم الإسلامي لا يزال كما عهده يستقبل عيدًا ويودّع آخر لا يلتفت إلى قلبه الجريح فلسطين الشهيدة وشرفه المثلوم ودينه المضيع، ولما أيقن سماحته أن العالم الإسلامي لا يزال في لهوه وغفلته اعتصره الألم فنفث ذلك القلب الذكي الكبير ما سطره اليراع في هذه الكلمة القيّمة الموجّهة إلى العالم الإسلامي في مناسبة عيد الفطر المبارك، وقد اختصّ بها "الأخوة الإسلامية" فجزاه الله أحسن ما يجزى عامل عالم مؤمن عن عمله.

مرّت عليّ وأنا في الجزائر عدة أعياد من السنوات الأخيرة التي صرح الشر فيها للعرب والمسلمين عن محضه فكنت ألقى تلك الأعياد بغير ما يلقاها به الناس، ألقاها بتجهّم اضطراري وانقباض نفسي وكان الرائي يراني وأنا معه وأراه وكأنه ليس معي، فقد كانت تظللني في العيد سحائب من الكآبة لحال قومي العرب وإخواني المسلمين وأنا كثير التفكير فيهم والاهتمام بهم والاغتمام من أجلهم، فأغبطهم تارةً لأنهم في راحة مما أنا فيه وأزدريهم حينًا لأنهم لم يكونوا عونًا لي على ما أنا فيه، وما أشبههم في الحالتين إلا بالغنم تُساق إلى الذبح وهي لاهية تخطف الكلأ من حافتي الطريق لأنها لا تدري ما يُراد بها. وجاءت نكبة فلسطين فكانت في قلبي جرحًا على جرح وكانت الطامة والصاخة معًا وكانت مشغلة لفكري بأسبابها ومآسيها وعواقبها القريبة والبعيدة، فلا تصوّر لي الخواطر إلّا أشنع ما في تلك العواقب، وكأن أحزان السنة كلها كانت تتجمّع عَلَيّ في يوم العيد وكنت أغطّي باطن أمري بالتجمّل، فإذا عدمت المتنفس من الرجال والأعمال والأحوال رجعتُ إلى العيد الذي هو مثار أشجاني فجرّدت منه شخصًا أخاطبه وأناجيه وأشكوه وأشكو إليه وأسأله وأجيبه وأبثّه الشكاية من قومي غيظًا على القادرين وتأنيبًا للغادرين، حتى اجتمعت لي من ذلك صحائف مدوّنة نشرت القليل منها على الناس وطويت الكثير إلى حين. ثم رحلت عن الجزائر في السنة الماضية فكانت بيني وبين الأعياد هدنة عقد أوّلها العراق ومخايل الرجاء فيه وعقدت آخرها مكة ومخايل الرجاء في الله وهذا هو العيد الثالث يظفي فبماذا أستقبله؟ أنا الآن أشدّ تأثّرًا بنكبة فلسطين مني في الماضي. فقد لمست يدي الجرح وهو بالدم يثعب، ورأت عَيْنايَ العربي وهو على البركان يلعب، وسمعت أذناي غراب البين وهو بالفراق ينعب، ثم سمعت أنين اللاجي وعذر المداجي وتفسير الأحاجي. فيا عيد أقبل غير نحس ولا سعيد، واذهب غير ذميم ولا حميد، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، لك علينا حق التجلّة التي أوجبها الله لك شكرًا على إتمام العبادة لا على مألوف العادة، ودعنا معشر المنتظرين لهلالك المستعدّين لاستقبالك، نتحاسب أو نتعاتب، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، ليس لك ولا لأمثالك من الأيام ذنب إنما أنت وهي قوارير تلوّنها أعمالنا وتلوّثها سيّئاتنا وآثامنا، فإذا لوّناك بالسواد أو لوّثناك بالشر فمعذرة وغفرًا، إن هي إلا مناظر تشهدها كلما أظللت وتراها كلما أطللت. أيها العرب: ها هوذا عيد الفطر قد أقبل وكأني بكم تجرون فيه على عوائدكم وتنفقون المال بلا حساب على الحلل يرتديها أولادكم وعلى الطعام والشراب توفّرون منه حظ بطونكم، وكأني بكم تسيرون فيه على مأثوركم من اللهو واللعب وإرخاء الأعنّة لمطايا

الشهوات من جوارحكم فتركبون منها ما حلّ وما حَرُمَ، كل هذا وأمثاله معه سيقع، فماذا أعددتم للأخرى من الواجبات التي هي أدنى لروح العيد، وأجلب لسرور الرجال في العيد، وأقرب لرضى الله وهي حقوق فلسطين وأهل فلسطين ومشرّدي فلسطين ويتامى فلسطين وأيامى فلسطين والمسجد الأقصى من فلسطين، أم قست قلوبكم فأنتم لها لا تذكرون؟ ويحكم ... إن هذا العيد يغشاكم في نهاية كل عام، فاعتبروه رقيبًا يقدّر الثواب أو مفتّشًا يوقع العقاب أو حسيبًا يصفّي الحساب، فماذا أعددتم له احتياطًا لهذه الافتراضات كلها؟ هبوه رقيبًا- وأيقنوا أنه رقيب عتيد- فهل تداركتم أخطاءكم بالرجوع فيها إلى الصواب، وتداركتم خطاياكم بالتوبة منها والإقلاع عنها، أو تداركتم تضييعكم لفلسطين بالاستعداد الصادق لاسترجاعها أو تداركتم تعريضكم يتامى القدس للتنصّر بالنظر لهم والسعي لإنقاذهم، أو تداركتم إعراضكم عن اللاجئين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بالمساعي الجدية لإرجاعهم، أو تداركتم إهمالكم للمسجد الأقصى الذي أصبح تحت رحمة صهيون بالحفاظ في حمايته وإعداد وسائل تلك الحماية، وهيهات هيهات ... ضاع المسجد الأقصى يوم ضاعت فلسطين ولا مطمع في إنقاذه إلا بإنقاذ فلسطين كلها. وهبوه مفتّشًا- واعتقدوا أنه مفتّش لا تجوز عليه المغالطة- فهل أعددتم له شيئًا على قياس مما تعرفون في هذا الباب وأيسره: جواب محرّر لكل سؤال مقدّر؟ وهبوه حسيبًا- واعلموا أنه حسيب يناقش حتى في ذرة جرت ذرة- فهل استعرضتم جداول أعمالكم في السنة كلها وضبطتم ما لكم وما عليكم؟ ليس هذا ولا ذاك ولا ذلك بواقع منكم، وسيغشاكم فيجد السفينة غارقة في أوحالها ودار ابن لقمان باقية على حالها. لقد عوّدتموه ذلك وعوّدكم تضييق المسالك وحلول المهالك (وأول راضٍ سيرة من سيرها). أيها العرب: إن الواحد منكم يموت له الطفل الصغير فيلتزم الحداد ويتدثّر السواد ويمر عليه العيد فلا تزدهيه ملابسه ولا تستهويه مجالسه، ولا ينزع لباس الحزن إلى وفاء السنة، يتحدّى بذلك نصوص الدين المنصوصة وأحوال الدنيا المخصوصة وقد ماتت فلسطين وهي أعزّ شهيد وأحقّه بالحزن عليه فويحكم أهي أهون مفقود عليكم؟ أم أن نخوتكم ماتت معها، إنها والله لأولى بالحزن عليها من كل محزون عليه وإنها والله لأولى بعدم الصبر ممن قال فيه القائل: والصبر يحمد في المواطن كلها … إلا عليك فإنه مذموم

وإن مما يذكي نخوتكم ويزيدكم حرارة حزن على القتيل، وخفة طيرة للأخذ بثأره خسة القاتل فأين أنتم يا هداكم الله؟ أيها العرب: إن الذنب في نفسه ذنب، وإن عدم الاعتراف به يصيّره ذنبين، ولكن التوبة الصادقة المصحوبة بالعمل تمحوهما معًا، فتعالوا نعترف بما يعلمه الله منّا فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. ألستم أنتم الذين أضعتم فلسطين، بجهلكم وتجاهلكم مرة، وخذلكم وتخاذلكم ثانية، وباغتراركم وتغافلكم ثالثة، وبقبولكم للهدنة رابعة، وباختلاف ساستكم وقادتكم خامسة، وبعدم الاستعداد سادسة، وبخيانة بعضكم سابعة، وبما عدوّكم أعلم به منكم ثامنة؟ وفي أثناء ذلك كتب الحفيظان عليكم من الموبقات ما يملأ السجلّات. كانت نتيجة النتائج لذلك كله أن أضعتم فلسطين وأضعتم معها شرفكم ودفنتم في أرضها مجد العرب وعزّ الإسلام وميراث الإسلام وضاعفتم البلاء على نصف العرب في المغرب العربي كانوا ينتظرون انتصارهم في المعترك السياسي على إثر انتصاركم في المعترك الحربي، ولكنهم باؤوا من عاقبة خذلانكم بشد الخناق وشدة الإرهاق وكان من النتائج المخقلة تشريد مليون عربي عن ديارهم، ولو أن عشرهم كان مسلّحًا لما ضاع شبر من فلسطين، ولو أن العشر وجد السلاح اليوم لاسترجع فلسطين، وها هم أولاء يتردّدون على حافات فلسطين تتقاذفهم المصائب ويتخطفهم الموت من كل جانب ولكنه موت الجوع والعري والحر والبرد لا موت الذياد والشرف. وكان من النتائج المحزنة أن وضع صهيون رجله في ماء العقبة. أتدرون موقع الحزن من ذلك؟ إنه قطع لأوداجكم إذ لم يبق لكم بعد العقبة شبر من اليابسة تتواصلون عليه أو تمدّون فوقه سكة حديدية تصل أجزاءكم أو طريقًا للسيارات أو سلكًا للمخاطبات، وإنه بعد ذلك إيذان بغزوه لمكة والمدينة وتهديد صارخ لمواني الحجاز. وكان من النتائج الفرعية أن عشرات الآلاف من يتامى المجاهدين دفعهم الجوع إلى التنصر في مدينة القدس تحت سمع وبصر بقية المسلمين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلًا. وكانت خاتمة النتائج أننا قرّبنا من صهيون ما كان بعيدًا وأدنينا منه أمانيه، فالقدس محطة الإسراء وموطئ أقدام محمد - صلى الله عليه وسلم - وفتح عمر، أصبح لقمة متردّدة بين لهواته والمسجد الأقصى كاثرته البيع والكنائس وتعاونت على إخفاء مآذنه وإسكات أذانه. ويل للعرب من شر قد حلّ ولا أقول قد اقترب.

حالة المسلمين

حالة المسلمين * تتردّد على أقلام الكتّاب العرب وعلى ألسنة خطبائهم منذ عهد قريب كلمات: الوعي، اليقظة، النهضة، منسوبة إلى الإسلام أو مضافة إلى المسلمين، والكلمة الأولى منهن حديثة الاستعمال في المعنى الاصطلاحي المراد منها وإن كانت عريقة النسبة في معناها الوضعي، والوعي في معناه الاجتماعى الذي يعنيه هؤلاء الكتّاب والخطباء إدراك بعد جهل، واليقظة في قصدهم تنبّه بعد غفلة، والنهضة معناها حركة بعد ركود. فهل هذه الأقلام والألسنة متهافتة على هذه الكلمات تصف حقيقة أم تصوّر خيالًا؟ فإن الصفات لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج وبشهادة الواقع الذي لا يمارى فيه لها، والوعي الحقيقي يصحبه رعي ويعقبه سعي واليقظة الحقيقية يصحبها علم لا هوينا فيه ويتبعها عمل لا تردّد فيه. والنهضة الحقيقية يصحبها حزم لا هوينا فيه ويتبعها عزم ويسوقها إقدام لا إحجام فيه إلى غاية لا اشتباه فيها. وهل هذه الآثار وهذه الدوال موجودة حقيقة في المجتمعات الإسلامية؟ لا نثبت فنكون متفائلين في موضوع لا ينفع فيه التفاؤل، ولا ننكر فنكون مثبطين في مقام ينفر فيه التثبيط، إنما نقول مقرّرين للواقع إن شاء الله، إن المعاني الحقيقية للألفاظ الثلاثة لا تظهر إلا إذا سبقتها إرهاصات أو أمارات كما يسبق الفجر طلوع الشمس وأدلّها تقارب القلوب وتعارف الشخوص أو تجاوب الشعور وتجانس الأفكار وتعاطف الأرواح وتهيؤ الطباع إلى الاستحالة من صبغة إلى صبغة، وإلى الانسلاخ من جلدة إلى جلدة، وصدق التوجيهات من النتائج إلى المقدمات ومن الوسائل إلى الغايات، وسهولة التغلّب على

_ * مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد السابع عشر، بغداد، 28 شوال 1372هـ الموافق لـ 10 يوليو 1953م.

المضائق وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعيَ إليه، وخفّة الإقدام إلى الأمام وتلمّس القيادة الرشيدة والشعور بالحاجة إلى توحيدها وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟ نعم يوجد بعضها القليل ولكن آفته الكبرى أنه متّجه إلى غير القبلة المشروعة وإن الرياح تسوق سحبه إلى غير أرضنا. لنخرج من النفاق الغرار الخادع إلى الصدق والصراحة فنقول: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو الأسماء مفسّرة في الغالب بغير معانيها مصوّرة بغير صورها الحقيقية، وإذا فسد التصوّر فسد التصوير، لأننا ما زلنا نبني تصوراتنا على أُسس من الأماني ونزجّها بالفال ومعاني الفال، فلا تنتهي بنا إلى الأعمال وإنما تنتهي إلى الخيال ثم إلى الخبال، وما زلنا على بقية من الافتتان بالتفسيرات القاموسية التي تقول لنا مثلًا ان اليقظة هي الصحو من النوم ولو أن نائمًا صحا من نومه صحوًا كاملًا ولم يبق في أجفانه فتور ولا ترفيف ولكنه بقي في مضجعه لم يعمل عملًا ولم يأت شيئًا من مستلزمات الصحو ونواقض النوم لكان هذا كافيًا في تحقيق المعنى القاموسي، ولكنه لا يفيد المعنى الاجتماعي بل يعد كما لو كان يغط في نومه، وكذلك تقول في معنى اليقظة ومعنى النهضة. تصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحًا شاملًا للمفاسد النفسية ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها فيطهّرها ليبني العلاج على أصل صحيح وإلى عروق الشرّ منها فيمتلخها ليأمن النكسة، ومردّ ذلك كله إلى الأخلاق فهي أول ما فسد بيننا فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء. فلتكن هي أول ما نصلح إن كنّا جادّين في تثبيت الوعي واليقظة والنهضة ... لأن الأخلاق إذا استقامت تفتّحت البصائر للوعي وتهيّأت الشواعر لليقظة وانبعثت القوى للنهضة. فكان الوعي بصيرًا وكانت اليقظة عامّة وكانت النهضة شاملة وكانت الحياة لذلك كله كاملة. نعترف أن نومنا كان ثقيلًا وبأن عمر أمراضنا كان طويلاً. نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوت يصخّ أو بضرب يصكّ وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم ومما كانوا به مثلًا في الآخرين. ولكننا لم نصح من نوم إلا لنستغرق في نوم ولم ننفلت من قبضة منوّم؛ إلا لنقع في قبضة منوّم. صحونا من نوم الاتكال فنقلنا إلى نوم التواكل. وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود إلى طفرة تدقّ الأعناق وانفلتنا من تنويم تجّار الدين فوقعنا في تنويم تجّار السياسة. أولئك يمنوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يغنون لنا ... بسعادة الدنيا دون أن يدلّونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كلّه ما نرى وما نحسّ وما نشكو. وما أضلّنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرّقوه إلى مذاهب

وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشون الذين بدّلوا المشرب الواحد فجعلوه مشارب ... فهل هبة من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة وأيديهم على بناء حصن الحق على الأُسس التي وضعها محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا مطمع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع فلا يرى إلا أخًا يشارك في الآلام والآمال ... فهو حقيق أن يشاركه في العمل. إن الوسائل إلى هذه الغاية كثيرة وأقربها نفعًا وأجداها أثرًا أن تربى الأحداث من الصبا على غير ما ربّانا آباؤنا وأن نحجب عليهم نقائصنا، فإن اطّلعوا عليها سمّيناها باسمها وأنها نقائص وأنها سبب هلاكنا وحذّرناهم من التقليد لنا فيها. فإذا شبّوا على هذه الهداية سلكنا بهم سبيل الحق الواحدة ووجّهناهم بتلك القابلية إلى وجهة واحدة وحميناهم من هذه التيارات الفكرية التي تتجاذبهم ومن الذئاب الغربية التي تتخطفهم. إن شبابنا اليوم يتخبّط في ظلمات من الأفكار المتضاربة والسبل المضلّة، تتنازعه الدعايات المختلفة التي يقرأها في الجريدة والكتاب ويسمعها في الشارع وفي المدرسة ويرى مظاهرها في البيت وفي المسجد. وكل داع إلى ضلالة فكرية أو إلى نحلة دينية مفرّقة يرفع صوته ويجهر ويزين ويغري ويعد ويمني ونحن ساكتون. كأن أمر هؤلاء الشبّان لا يعنينا وكأنهم ليسوا منّا ولسنا منهم، ولا عاصم من تربية صالحة موحّدة يعصمهم من التأثّر بهذه الدعايات ولا حامي من مذكّر أو معلّم أو مدرسة أو قانون يحميهم من الوقوع في هذه الأشراك. إن شبابنا هم هدف هذه الدعايات وهم ميدان الصراع وموضوع النزاع بين دعاة الفكرة الجامعة وصوتهم ضعيف وعملهم ضئيل، وبين دعاة الشيوعية والإلحاد والوطنيات الضيّقة والعنصريات المحدودة وأصواتهم عالية وأسنادهم قوية ومحرّكهم الأول واحد، وإن لم يشعروا به أو غالطوا أنفسهم وغالطونا فيه وما هم إلا أسلحة في يده موجّهة إلى شبابنا، إن لم يصب بواحد منها أصاب بالآخر، وهو الظافر على كل حال، إن لم تعالجه بما يبطل كيده ويفل أسلحته كلها. وهو حماية هذا الشباب وتحصينه بالمعوذات من فضائل الإسلام وأخلاقه وروحانيته وإن فيه العوض المضاعف عن كل ما تمنيه به الدعايات الخارجية. إذا كان الشباب لا يفهم الدين من البيت ولا من المسجد ولا من المدرسة ولا من المجتمعات فإن فهم شيئًا منه في شيء منها فهمه خلافًا وشعوذة وتخريفًا، ففي أي موضع يفهم الإسلام على حقيقته طهارة وسموًا واتحادًا وقوة وعزّة وسيادة؟ إن عاملناه بالإنصاف نقول انه معذور إن زلّ وضلّ بالانسياق مع هذه التيارات الخاطئة التي تختلف بالأسماء والمبادئ وتتفق في الغاية وهي حرب الإسلام في أبنائه لتحاربه بعد ذلك بأبنائه ...

وإذا كان الشاب يجلس إلى أبويه وذويه فلا يسمع إلا المذهب والخلاف ولمز المخالفين بالمذهب قبل المخالفين بالدين ثم يجلس إلى العالم الديني فلا يسمع إلا "عندنا وعندهم"، ثم يجلس في المدرسة فلا يسمع ذكرًا للإسلام ولا تمجيدًا لمبادئه وعظمائه وتاريخه، ولا يرى فيها شيئًا من مظاهره بل لا يسمع إلا تحقيرًا لماضيه وغضًا من أمجاده. إذا كان لا يسمع في مضطربه إلا هذا ولا يرى إلا هذا فكيف نطمع أن ينتصر مع هذه الدعايات الجارفة؟ إننا حين نطمع في هذا لفي غيّ بعيد ... إن شبابنا لجهلهم بالإسلام أصبحوا لا يثقون بماضيه، وكيف يثقون بماض مجهول وهذا حاضره؟ أم كيف يدافعون عن هذا الماضي المجهول إذا عرض لهم الطعن فيه في الكتاب الطاعن؟ أم سمعوا اللعن له من الأستاذ اللاعن؟ أم كيف يفخرون بالمجهول إذا جليت المفاخر الأجنبية في كتاب يقرّره قانون ويزكيه أستاذ؟ اعذروا الشبّان ولا تبكوا على ضياعهم فأنتم الذين أضعتموهم ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم. أهملتموهم فذوقوا وبال الإهمال وأنزلتموهم إلى اللجة وقلتم لهم إياكم أن تغرقوا ... ثم استرعيتم عليهم الذئاب ومن استرعى الذئب ظلم ... لا أحمق منا: نلقّن أبناءنا الخلاف في الدين والدنيا بأعمالنا ونقول لهم بألسنتنا اتّحدوا، وإن صالحة يأخذها الابن عن أبيه بطريق القدوة خير من ألف نصيحة باللسان. النهضات الصادقة تبدأ من الأخلاق وتنتهي إلى الأخلاق، وما زادت بحوث الفلسفة ماضيها وحاضرها في الأخلاق شيئًا على ما جاء به الإسلام وأقرّته الفطر السليمة، ويزيد الإسلام على هذه الفلسفات ويشقّ بقوة العرض للفضيلة والتشويق لها وشرح آثارها في الفرد والجماعة وبيان صلتها الوثيقة بالأقانيم الثلاثة الحق والخير والجمال، وإن شعراء العرب الفطريين لأدق تصويرًا للفضائل وأصدق تعبيرًا عليها وتفسيرًا لآثارها وحثًا على التحلّي بها من جميع الفلاسفة النظريين، وقد أثرت الماديات في هذا العصر على عقول فلاسفته ورانت عليها العصبيات الجنسية والإقليمية حتى انعكس نظرهم في فهم الفضيلة فسمّوها بغير اسمها فأصبحت القوة فضيلة يدعى إليها بدل الرحمة، والظلم فضيلة يتمجد بها بدل العدل، والاستعباد فضيلة يتغنّى بها بدل الحرية، وكل هذا يدلّ على أن الفضيلة في نظر الفلسفة العملية الجديدة هي لباس للعقل لا نبع منه وأنها خاضعة للحكم لا للحكمة، أما الفضائل في نظر الإسلام وحكمه فإنها صبغة لا تتحوّل وحقيقة لا تتغيّر ولا تتبدّل، فالصدق في معناه الإسلامي هو الصدق لا تتصرّف في معناه المصالح والمنافع ولا تتلاعب به الأهواء والمطامع والوفاء هو الوفاء، والعدل والإحسان والرفق والعفو عند القادر، كل أولئك من الفضائل الثابتة ثبوت الحقائق لا تنال منها تصاريف الأيام ولا يتصوّر أن يأتي على الناس يوم تجمع فيه عقول العقلاء على أن الصدق مثلًا رذيلة تصِمُ صاحبها بالذم إلا إذا جوزنا مجيء يوم يخرج

فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان ويكون أفضل الذكر فيه أن يقال كلما ذكر الشيطان: رضي الله عنه. فالموازين القرآنية للفضائل هي التي يجب أن تحكم في العقول حتى تأمن على الفضيلة ما يجري بيننا على "الأوراق النقدية". ونحن أهل القرآن أحق الناس بالدعوة إلى هذا وتبيّنه ونشره في هذا العالم المضطرب الذي فقد الفضائل الإنسانية فانحدر إلى حيوانية عارمة توشك أن تفضي به إلى الفناء. نحن أهل القرآن- الذي وضع الموازين القسط للفضائل وحثّ عليها وجعلها أساسًا للسعادة وسلّمًا للسيادة- أولى الناس بأن نزن النهضات بحظوظها من الفضائل وأن نبني بأيدينا أساس نهضتنا على صخرة الفضائل طبقًا عن طبق، ونحن- لو أجلنا بصائرنا في القرآن- أبعد الناس عن فساد التصوّر في تسمية هذه الحركات المتهافتة في المجتمعات الإسلامية نهضة.

في مجمع اللغة العربية بدمشق

في مجمع اللغة العربية بدمشق * أيها الإخوان الأصفياء: لي من الصلات الطبيعية بهذا المجمع العتيد أنّني واحد من هذه العصابة الحاملة لتراث الإسلام العلمي، ولتراث العرب الأدبي، ولخصائص الشرق الروحية، وأنّني أحد الغالين المتشدّدين في المحافظة على علوم الإسلام وآداب العرب وخصائص الشرق، المؤمنين بأنّها كانتْ في فترة من التاريخ منبع إسعاد وإعزاز وقوّة، فإذا كانتْ قد نضبت في فترة أخرى فَبِما كسبتْ أيدي أهلها من تفريط وإضاعة، وهي بعد ذلك أهلٌ أن تدِر حلائبها، وتثر سحائبها، حين يعود الإحساس ويجود الإبْساس. وإنني واحد من هذا الصنف الجديد الذي لا يرى العلم علمًا حتّى يكون مفيدًا، ولا يرى الرأي رأيًا حتّى يكون سديدًا، ولا يرى الكتاب وسيلةً للعلم حتّى يظهرَ عليه أثر العقل المستقلّ، ويلوحَ عليه ميسم الفكر الولود، وينفض عليه صبغ القريحة الحيّة. وإنّني واحد ممن لا يرى الخلَف برًّا بسلفه حتى يكون برًّا بزمنه وحتّى يزيد في بناء السلف سافا، وفي تاريخهم صحيفة، وفي عددهم رقمًا، وفي متحفهم تحفة، وحتّى يغمر نقصهم بتمامه، ويُقَوِّمَ فوضاهم بنظامه، ويُجمِّلَ بَدْأَهم بختامه. وأنا- بعد ذلك كلّه- واحد من هذه العصبة التي تتخذ من القلم أداة جهاد، حين فاتها أن تتّخذ السيف من أدوات الجهاد، وفاتها أن تصطنع الحديد ذا البأس الشديد، فاصطنعت اليراع للقراع، واكتفتْ من أعمال الإيمان بأضعف الإيمان، عقوقًا لسيّدنا إبراهيم الذي راغ على أصنام الكلدانيين ضربًا باليمين، في هذا الزمن الذي أصبحت لغة بَنِيهِ مشتقّة من قعقعة الكتائب لا من جعجعة الكتب ولا من عجعجة الألسنة.

_ * فقرات من الكلمة التي أُلقيت في مجمع اللغة العربية بدمشق ارتجالًا، يونيو 1953.

ولي- أيها الإخوان الكرام- من الصلات المكتسبة بهذا المجمع أن أكثر الأعضاء الذين هم عُمَدُه ودعائمه من أصدقائي الذين أعْتزُّ بصداقتهم، وأعتدّ بعلمهم وإدراكهم لحقائقه، فأستاذنا المرحوم محمد كرد علي، وأستاذنا الشيخ الإمام عبد القادر المغربي، والأستاذ الشاعر خليل مردم بك، وصديقنا العالم الشيخ محمد بهجت البيطار، والأستاذ الدكتور جميل صليبا، وغيرهم، كلّهم من الجواهر التي عرفت قِيَمها، وكلّهم من الدوائح التي استمطرتُ دِيَمها، بل كلهم من السلائل التي عرفت خيمها قبل أن أعرف خِيمَها. ولم لا، وأنا مجنون هذه الأمّة العربية، المفتون بماضيها وحاضرها، فإذا كنت أفخر بأنّني أعرف من قبائلها الغابرة حتّى السكوف والسكاسك، وأعرف من منازلها الدائرة حتّى اللّوى والدكادك، فكيف لا تزدهيني معرفة رجالها الحاضرين الحاملين لراياتها ورواياتها، وكيف لا أفخر بصداقة أعلامها في الوقت الحاضر، وما منهم إلّا مَن نظم فيها ونثر، وما كبا في ميادينها ولا عثر، وأَحْيَا مِن معالمها ما اندثر، وانبط العين بعد أن خص الأثر. لو سألتموني- أيها الإخوان- ماذا أحبْبتُ من الأمّة العربية ولماذا أحببتُها هذا الحبّ الذي بلغ درجة الافتتان، وأوّلها جاهلي وآخرها جاهلي، لَأَجبتُ جوابًا يأكل الأجوبة كلّها ويُسكت الشقاشق الهادرة، وهو أنني أحببت منها ما أحبَّ الله منها يوم أنزل وَحْيَه الكامل بلسانها، واختار رسوله الخاتم من أبنائها، وحسبي شرفًا وتوفيقًا أن أحبّ ما أحبّ الله، وإذا كانتْ في أوّلها ضالّة فقد هداها القرآن يوم عرفته، وإذا رجَعتْ إلى ضلالها القديم فسيرجع القرآن بها يوم تعرفه إلى الهداية، رغم أنف أوروبا وتلامذتها المغرورين بها، ورغم أسواقها العامرة بكل شيء إلّا الهدى، وأبواقها الفارغة من كل شيء إلّا الصدى. أيها الإخوان: إنّ العلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتلاقوا على صلة تلك الرحم، وأن يتعاونوا على البر بها، وأن يتعاهدوها بالإشاعة بعد الإضاعة، وأن يتنازعوا أمر العلم بينهم، فينفوا عنه تحريف الجاهلية وانتحال المبطلين.

دولة القرآن

دولة القرآن * القرآن كتاب الكون، لا تفسّره حق التفسير إلا حوادث الكون. والقرآن كتاب الدعوة، لا تكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر. والقرآن كتاب الهداية الإلهية العامة، فلا يفهمه إلا المستعدّون لها. والقرآن «لا يبلى جديده، ولا تنقضي عجائبه». ــــــــــــــــــــــــــــــ جاء القرآن لهداية البشر وإسعادهم، والاهتداء به متوقف على فهمه فهمًا صحيحًا، وفهمه الصحيح متوقف على أمور: منها فقه أسرار اللسان العربي فقهًا ينتهي إلى ما يسمّى ملكة وذوقًا، ومنها الاطّلاع الواسع على السنة القولية والعملية التي هي شرح وبيان للقرآن، ومنها استعراض القرآن كله عند التوجّه إلى فهم آية منه أو إلى درسها، لأن القرآن كل لا يختلف أجزاؤه، ولا يزيغ نظمه، ولا تتعاند حججه، ولا تتناقض بيّناته، ومن ثم قيل: إن القرآن يفسّر بعضه بعضًا، بمعنى أن مبيّنه يشرح مجمله، ومقيده يبيّن المراد من مطلقه، إلى آخر الأنحاء التي جاء عليها القرآن في نظمه البديع، وترتيبه المعجز، ومنها الرجوع في مناحيه الخصوصية إلى مقاصده العامة، لأن خصوصيات القرآن وعمومياته متساوقة يشهد بعضها لبعضها، وكل هذه الأمور لا تتهيأ إلا لصاحب الفطرة السليمة، والتدبّر العميق، والقريحة اليقظة، والذهن الصافي، والذكاء الوهّاج. والقرآن حجة على غيره، وليس غيره حجة عليه، فبئس ما تفعله بعض الطوائف الخاضعة للتمذهب من تحكيم الاصطلاحات المذهبية، والآراء الفقهية، أو العقلية فيه، وإرجاعه بالتأويل إليها إذا خالفته. ومن الخطل، بل من الخذلان المفضي بصاحبه إلى ما يستعاذ منه أن يجعل الرأي الاجتهادي غير المعصوم أصلًا، ويجعل القرآن المعصوم فرعًا، وأن يعقد التوازن بين كلام المخلوق وكلام الخالق، إن هذا لهو الضلال البعيد. ما أضاع المسلمين ومزّق جامعتهم ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عضين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها،

_ * مجلة "المسلمون"، السنة الثانية، العدد العاشر، ذو الحجة 1372هـ / أغسطس 1953م. كما نشرت هذه الكلمة كمقدمة لكتاب الأستاذ عبد العزيز العلي المطوع في "تفسير سورة العصر".

وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شرتها، وفي مفارق سبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميّز حقّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وان ذلك كله لموجود في القرآن بالنص أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تعجز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كل حكم بحكمة، وكل أمر بما يثبته في النفس، وكل نهي بما ينفر عنه، لأن القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطًا بين عالمين: أحدهما خير محض والآخر شر محض، فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيًا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أي الطريقين يختار، كل ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلك عن بيّنة، أو يحيا عن بينة. ... ما كان الصدر الأول من سلفنا صالحًا بالجبلة والطبع، فالرعيل الأول منهم وهم الصحابة كانوا في جاهلية جهلاء كبقية العرب، وإنما أصْلَحَهم القرآن لما استمسكوا بعروته واهتدوا بهديه، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في أنفسهم، وجعلوا منه ميزانًا لأهوائهم وميولهم، وأقاموا شعائره المزكية، وشرائعه العادلة في أنفسهم، وفيمن يليهم، كما أمر الله أن تقام، فبذلك أصبحوا صالحين مصلحين، سادة في غير جبرية، قادة في غير عنف، ولا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن يلتمسون فيه الاشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدى بها أسلافهم. وإذا كان العقلاء كلهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن، لأنه الشيء الجديد الذي حوّل أذهانهم، وهذّب طباعهم، وثبّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك ينتج لنا أن سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته، وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غناء ما لم يفهم، ثم يعمل به. وهجر المسلمين للقرآن يرد إلى أسباب، بعضها آتٍ من نفوسهم، وبعضها آتٍ من خارجها. فمن الأول افتتانهم بآراء الناس، وبالمصطلحات التي تتجدد بتجدد الزمان، ومع طول الأمد رانت الغفلة، وقست القلوب وطغت فتنة التقليد، وتقديس الأئمة والمشايخ، والعصبية للآباء والأجداد، وغلت طوائف منهم في التعبّد فنجمت ناجمة التصوّف والاستغراق

فاختلّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح، وغلت طوائف أخرى في تمجيد العقل فاستشرف إلى ما وراء الحدود المحددة له، وتسامى إلى الحظائر الغيبية فتشعبت به السبل إلى الحق في معرفة الله وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين لكثرة هذه الطوائف، فكان هذا التفرّق الشنيع في الدين أصوله وفروعه. وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين ضاع سلطانهم الديني على الأمة، فاستبدّ بها الملوك وساقوها في طريق شهواتهم فأفسدوا دينها ودنياها وكان ما كان من هذه العواقب المحزنة. ومن الثاني تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات الوضع للأحاديث، إلى هجوم الآراء والمعتقدات المنافية للقرآن، إلى ما ادّخر لزماننا من إلقاء المبشّرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد ليصدّوا المسلمين عن هديه، وان خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوّره علماؤنا، ويقدّره أولياء أمورنا. هذه العوامل مجتمعة ومفترقة، وما تبعها أو لازمها من عوامل فرعية هي التي باعدت بين المسلمين وبين قرآنهم، فباعدت بينهم وبين الخير والسعادة والعزة، وأصبحوا- كما يرى الرائي- أذلة مستعبدين، ولا يزالون كذلك ما داموا مجانبين لسنن القرآن، معرضين عن آياته وإرشاداته، غافلين عما أرشد إليه من السنن الكونية. ولو أنهم تواردوا على الاستمساك به في هذه القرون الأربعة عشر لكانوا هم السابقين بإرشاده إلى اكتشاف أسرار الكون، واختراع هذه العجائب الآلية، ولم يكن موقفهم منها موقف المكذب أولًا، المندهش آخرًا. ففي القرآن آيات للمتوسمين، وإرشاد للعقل البشري يتدرّج مع استعداده، وفيه من الكشف عن غرائب النفوس وألوانها، وعن حقائق الكون وأسرار مواليده ما يسير بمتدبّره رويدًا رويدًا حتى يضع يده على الحقيقة، ويكشف له عن وجهها، ويكاد يكون من البديهيات فيه ما يقرره في أطوار الأجنة، وتزاوج النبات، وتكوّن المطر، وتصاريف الرياح، وتكوير الليل على النهار، وإثبات الصلة بين علويات هذا الكون وسفلياته، ولكن المسلمين ظلّوا غافلين حتى عن هذه البديهيات، إلى أن جاءتهم من غير طريق قرآنهم، ثم دلّهم القرآن على نفسه فلاذوا بالفخر الكاذب، وربّما دلّهم على مواقع هذه الأشياء في القرآن مَن ليس من أهل القرآن، وأن هذا لهو الخذلان المبين. وما زاد المسلمين ضلالًا عن منبع الهداية وعماية عنها إلا فريق من العلماء وضعوا أنفسهم في موضع القدوة والتعليم، وطوائف من غلاة المتصوّفة انتحلوا وظيفة التربية والتقريب من الله. فهم الذين أبعدوهم عن القرآن، وأضلوهم عن سبيله بما زّينوا لهم من اتباع غير سبيله، وبما أوهموهم أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن من لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأنى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه-

يصفه بأنه عربي مبين، وأنه غير ذي عوج، وأنه ميسر للذكر، وينعته بأنه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يفهم؟ ومن عجيب أمر هؤلاء وهؤلاء أنهم يصدرون في شأن القرآن عن هوى لا عن بصيرة، فبينما يسدّون على الناس باب الاهتداء به في الأخلاق التي تزكي النفس، والعقائد التي تقوّي الإرادات، والعبادات التي تغذي الإيمان، والأحكام التي تحفظ الحقوق، وكل هذا داخل في عالم التكليف، وكله من عالم الشهادة، بينما يصدّون عن الاهتداء في ذلك بالقرآن نراهم يتعلّقون بالجوانب الغيبية منه، وهي التي استأثر الله بعلمها، فيخوضون في الروح والملائكة والجن وما بعد الموت، ويتوسّعون في الحديث عن الجنة والنار، حتى ليكادون يضعون لهما خرائط مجسّمة، وسبيل المؤمن القرآني العاقل في هذه الغيبيات أن يؤمن بها كما وردت، وأن يكل علم حقيقتها إلى الله، ليتفرّغ لعالم الشهادة الذي هو عالم التكليف. ... وما زلنا نرى من آيات حفظ الله لدينه أن يقوم في كل عصر داعٍ أو دعاة إلى القرآن، وإمام أو أئمة يوجّهون الأمة الإسلامية إليه، ومفسّر أو مفسّرون يشرحون للأمة مراد الله منه، ويتناولون تفسيره بالأدوات التي ذكرناها في أول هذه الكلمة، ويجعلونه حجة على المذاهب والاصطلاحات ومنازع الرأي والعقل، وحكمًا بينها، وأصلًا ترجع إليه ولا يرجع إليها، ومن المبشّرات بالخير ورجوع دولة القرآن أن الدعوة إليه قد تجددت في هذا الزمان على صورة لم يسبق لها مثيل، وأن أصوات الدعاة المصلحين قد تعالت بذلك وتجاوبت وتلاقت على هدى، تدعو إلى دراسته واستخراج ذخائره وإحياء دعوته إلى الفضيلة والخير والمحبة وأخذ العقائد والعبادات وأحكام المعاملات منه، والاستعانة على ذلك بمفهوم السلف الصالح وتطبيقاتهم، وتحكيمه في كل ما يشجر من خلاف في الدين والدنيا، وكان من آثار ذلك أن أصبح العلماء المستعدّون للعمل، والعوام المتهيّئون للعلم يردّدون الجمل الآتية، وتجول في نفوسهم معانيها، وهي: "لماذا نهجر دستور القرآن وهو من عند الله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتبذل ولا يتغيّر، ثم نلتجئ إلى دساتير الغرب وقوانينه وهي من أوضاع البشر القاصرة، يظهر في كل حين تناقضها ومنافاتها للمصلحة، فتبدل وتغيّر، ولا تزال تبدّل وتغيّر، مع أن واضعيها والموضوعة لهم من جنس واحد، وعلى طبيعة واحدة ومصلحة واحدة؟ لقد بؤنا بالصفقة الخاسرة مرتين. إن هذا الغليان في أفكار المسلمين وكثرة حديثهم عن القرآن، وإقبالهم على دعاته ومدارسه، وتحدّي أساليبه في الوعظ وفي الكتابة، كل ذلك بشائر برجوع دولته وإصلاح البشرية به من جديد، واتخاذه مرجعًا وملاذًا للأمم الأجنبية التي لم يستقرّ لدساتيرها

الوضعية قرار، فاضطربت حياتها، واستشرفت نفوسها إلى قانون سماوي يحفظ حقوقها، ويحدّد للفرد حقّه، وللجماعة حقّها. ولعمري ان هذه المطالب كلها لفي القرآن، لو وجد القرآن من أهله من يقيمه ويبلغ دعوته وينشر هدايته. ... ثم ما هذه النغمات الناشزة عن هذا الايقاع اللذيذ، إيقاع الدعوة إلى إقامة الدستور القرآني؟ ما هذه النغمات الممجوجة المترددة التي تصور أن الدستور القرآني يتحيف حقوق الأقليات المساكنة للمسلمين أو يجحف بها؟ ... إنها نغمات صادرة عن مصدرين: أعداء القرآن ينصبون بها العواثير في طريق الدعوة إليه، وضعفاء الصلة بالقرآن الجاهلين آثاره وتاريخه في إصلاح الكون كله، فليقل لنا الفريقان: متى ظلم القرآن غير المؤمنين به؟ ومتى أضاع لهم حقًا، أو استباح لهم مالًا، أو انتهك لهم عرضًا، أو هدم لهم معبدًا، أو حملهم على مكروه في دينهم، أو أكرههم على تغيير عقيدة من عقائدهم، أو حمّلهم في أمور دنياهم ما لا يطيقون؟ ... بلى، إنه عاملهم في كل ذلك بما لم يطمع في معشاره الأقليات ولا الأكثريات من شعوب اليوم الواقعة تحت حكم الدول العالمة المتحضرة الخاطئة الكاذبة التي تزعم لنفسها الفضائل كلها ولا تتخلق بواحدة منها. من أصول الإسلام أنه لا إكراه في الدين، وأين موضع هذا عند هذه الدول الباغية؟ ومن أصول الإسلام الوفاء بالعهد في السلم والحرب، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الطاغية؟ ومن أصول الإسلام أن لا يكلف من دخل في ذمته بالدفاع الحربي، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الظالمة التي تجند المحكومين بالإكراه ليموتوا في سبيلها من دون جزاء ولا شكر؟ ومن أصول الإسلام أن لا يقتل في الحرب إلّا المقاتل، وأن لا يقتل الأعزل المعتزل والشيخ الكبير والمرأة والطفل والمنقطع للعبادة، وهذه الأصناف هي ثلثا الأمم المحاربة، فأين هذا مما ترتكبه الأمم المتمدنة في حروبها اليوم من الإبادة للكبير والصغير والمرأة والرجل والطفل والجنين، وما تتفنن فيه من وسائل الاستئصال؟ وكفى بواقعة "هيروشيما" اليابانية شاهدًا لا يكذب. إن الإسلام يعامل المخالفين بالرحمة، لأن قرآنه هو دستور الرحمة، ويضعهم في أربع مراتب، لكل مرتبة حكمها العادل: الذمي المقيم في وطن الإسلام له كل ما للمسلم، وليس عليه كل ما على المسلم، فهو محمي النفس والمال والعرض، حر في التصرفات المالية، آمن في الظعن والإقامة، وليس عليه ما على المسلم من أعباء القتال والدفاع، والمستأمن آمن على حقوقه حتى يبلغ مأمنه، والمعاهد موفى له بعهده من غير ختر ولا غدر، والحربي يعامل

بما رضيه لنفسه من غير أن يجاوزه إلى غيره من أهله أو بني ملته، فإذا شذ أمير مسلم أو قائد عن هذه القواعد الأساسية في الإسلام وظلم طائفة من هذه الطوائف أو فردًا من أفرادها فقد خرج عن حكم الإسلام، وإذا حكى التاريخ عن ملوك مسلمين ظلمة فهؤلاء بطبيعة حالهم يظلمون المسلمين قبل أن يظلموا المخالفين، وليست أعمالهم حجة على القرآن، بل للقرآن الحجة عليهم، وأيسر أحكام الإسلام فيهم أن يعزلوا وأعلاها أن يقتلوا. أين هذا من قوانين اليوم ومعاملة اليوم أيها الناطقون بغير علم، الصادرون عن غير فهم؟ وأين عدل القرآن من جوركم أيها الجائرون في الحكم، المحاربون للحقيقة في الحرب والسلم، البانون لحياتهم في الظلام على الظلم؟ وأين تجدون الرحمة والعدالة إذا لم تجدوها في ظلال القرآن، أيتها الأقليات غير الوفية، المدفوعة من الخلف بالأيدي الخفية؟ ... أثمرت الحركات الإصلاحية منذ أكثر من مائة سنة ثمرات زكية، وفتحت الأذهان لحقيقة، وهي أن القرآن يفهم، وأنه ميسر للفهم، فانفتحت للدارسين أبواب كانت مقفلة، وكثر جريانه على ألسنة الخطباء والمرشدين منزلة آياته في منازلها من الأحداث الطارئة متجاوبة مع العلم، مقسمة على المواضيع المتجددة، وكثر جريانه على أقلام الكتاب في المباحث الدينية والأخلاقية والاجتماعية والكونية، يقيمون منه شواهد على كل حقيقة، وأدلاء على كل طريق، وأعلامًا هادية إلى كل غاية، فإذا هو يفسر نفسه بنفسه وتتسابق معانيه الواضحة إلى الأذهان، وأعان على ذلك هذه النهضة الأدبية التي لم ترَ العربية أعمق منها غورًا، ولا أوسع منها دائرة، فأصبح بها القرآن قريبًا إلى الأفهام، مؤثرًا في العقول، وأصبحنا نسمع من تلامذتنا الذين ربيناهم على القرآن حفظًا وفهمًا وعملًا، ورضناهم على الغوص وراء معانيه- آراء في الاجتماع الإنساني سندها القرآن ما كانت تزيغها أفكار الشيوخ، وآراء في الدستور القرآني وتطبيقه على زماننا ومكاننا ومصالحنا، ما كانت تسيغها عقول الأجيال الماضية. وهؤلاء التلامذة لم يزالوا بعد في المراحل العلمية المتوسطة، فكيف بهم إذا أمدتهم الحياة بتجاربها، وأمدهم العلم باختباراته؟ لعمر أبيك انه القرآن حين تتجلى عجائبه على الفطر السليمة، والعقول الصافية. ... وولدنا المسلم القرآني الشيخ عبد العزيز العلي المطوع القناعي الكويتي رجل مسلم، سليم الفطرة، متين التدين، صحيح العقيدة، صليب العروبة، نعده من مفاخر هذا الجيل

وأثبتهم صبغة في التمسك بدينه والغيرة عليه والوفاء للقرآن تلاوة لِلَفظِهِ، وتدبرًا لمعانيه، والدعوة إلى الحق به، والعمل على نشره، والتشجيع على فهمه، والصلة بعلمائه، والشدة على خصومه والمنافرين له، وهو مع ذلك رحيب أفق التفكير، سديد النظرة، حاضر الذهن، صافي القريحة، وقد تضافرت هذه العوامل على توفير حظه من فهم القرآن وعلى تزويده بملكة أهلته لأن يطارح العلماء فهمه، فيسبقهم في بعض الأحيان إلى اكتشاف نكته وغرائبه، وقد عرض علينا طائفة من فهومه لآيات متفرقة، فرأينا فهمًا سديدًا واتجاهًا حميدًا، وتفطنا للدقائق الكامنة في الألفاظ والآيات، بصرًا بما بين الآي والسور في ترتيبها التوقيفي من المناسبات والصلات. رأينا في هذا الرجل مجموعة من المؤهلات الكسبية، والمواهب الفطرية، هي النموذج الصحيح للعقل الذي يفهم القرآن على أنه هداية عامة للبشر، وأنه كتاب الكون، وأنه الدستور الكامل لإصلاح الأفراد والجماعات، وأنه صالح لكل زمان ومكان بمجاراته للعقل، ودعوته إلى العلم، وجمعه بين مطالب الروح والجسم. وقد قدم لنا في اجتماعنا الأخير بالقاهرة قطعًا من خواطره المتفرقة في معاني سورة "العصر" وغيرها، ونظرنا فيها فاقترحنا عليه أن لا يضيع أمثال هذه الفوائد، وأن يجمعها في كراريس ويحفظها بالطبع، لتكون في جملة ما يقدم لهذه الأجيال السائرة إلى القرآن على شعاع القرآن، وقد استجاب- حفظه الله- لرأينا، وقدم للطبع هذه القطعة الصغيرة من خواطره في سورة "العصر" وصدرناها نحن بهذه الكلمة المقتضبة في الدعوة إلى القرآن، وعسى أن تكون مشجعة له على مواصلة السير في هذا النهج القويم مع ترديد النظر، وتمحيص الفكر، وتقليبه على وجوهه، وإحسان التأليف بين أطرافه وعدم الاقتناع بأول خاطر، وأوصيه بأن يعرض كل خاطرة تخطر له على القرآن كله ثم على الآيات الخاصة بموضوع الخاطرة، مع خلوص النية وصدق المعاملة مع الله في كتابه، وتوخي نفع المسلمين بدلالتهم على طرق الانتفاع بهذا الكنز الثمين، وأوصيه ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وتوقي مساخطه التي تطفئ نور البصيرة، وتردي مجترحها في المهلكات. ونحن معشر الدعاة إلى هداية الكتاب والسنة نستبشر بهذه المقدمات، ونتمنى أن تكون مؤدية إلى نتائجها الجليلة، ونرحب بهذه الطلائع الفكرية، ونرتقب ما وراءها من كتائب أنصار القرآن.

في مصر

في مصر (من أغسطس إلى ديسمبر 1953) ــــــــــــــــــــــــــــــ

برقيات احتجاج

برقيات احتجاج على خلع الملك محمد الخامس وعلى المعاهدة الليبية البريطانية * ــــــــــــــــــــــــــــــ تلقّى مركز جمعية العلماء في الجزائر من مكتب الجمعية بالقاهرة نص البرقيات الآتية التي كان أبرق بها إلى الجهات المختصّة بها وهذه نصوصها: 1 - السيد رئيس الجمهورية الفرنسية (باريس)، السيد رئيس الوزارة الفرنسية (باريس)، السيد رئيس مجلس النواب الفرنسي (باريس). أعمال حكومتكم الاستعمارية في المغرب الأقصى أثارت غضب العالم الإسلامي كله على فرنسا وحرّكت فيهم روح الانتقام لأن كل ما تفعله حكومتكم ضد جلالة السلطان يعد تعديًا شنيعًا على سلطة دينية شرعية، ونقضًا حتى لاتفاقات الحماية المفروضة الجائرة. كل عقلاء العالم يعتقدون أن هذه الأساليب الاستعمارية المفضوحة ليست في مصلحة فرنسا بل هي هدم لسمعتها في العالم. إلى متى تعمل فرنسا لصالح شرذمة من الاستعماريين الذين لا تهمّهم إلا مصالحهم الشخصية؟ الخير كل الخير لكم في تقديركم للعواقب الوخيمة وللظروف العالمية الخطيرة. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني

_ * «البصائر»، العدد 240، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 سبتمبر 1953.

2 - جلالة الملك مولاي محمد بن يوسف (الرباط). حيّاكم الله ونصركم وثبّت أقدامكم على الحق. المسلمون كلهم معكم بأرواحهم وعقولهم في موقفكم الشريف أمام الاستعمار الباغي وأساليبه المفضوحة، فاثبتوا ينصركم الله. إن أمانة الله في أعناقكم لا ينزعها منكم إلا ظالم ولا يؤدي الأمانة إلا أمثالكم من المؤمنين الثابتين. وأنتم تعلمون أن التفريط فيها خيانة لله وللوطن والتاريخ، أعانكم الله وأيّدكم بروح منه. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني 3 - جلالة الملك ادريس السنوسي (بنغازي). الشعوب العربية والإسلامية كلها ساخطة على المعاهدة التي يُراد عقدها بين الانكليز وبين الحكومة الليبية، ويعدّونها أشأم على الوطن من كل استعمار مضى. وإخوانكم في المغرب العربي يحتجّون بشدّة على هذا الارتباط المشؤوم لأنه قاطع لأوصال الوطن العربي وقاضٍ على ما يعلّقونه من آمال على استقلال ليبيا. فباسم الجزائريين كلهم نطالبكم باستخدام نفوذكم لإبطال هذه المعاهدة المخزية أعانكم الله. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني 4 - حضرة السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية (القاهرة). العالمان العربي والإسلامي في هذه اللحظة تشتعل أطرافهما وينصبّ عليهما البلاء من كل جانب، فمن المعاهدة الليبية- الانكليزية المكبّلة إلى الخطوة المجرمة التي تريد أن تخطوها فرنسا في المغرب العربي ضد جلالة السلطان وشعبه.

نرى أن هذه اللحظة هي أحرج اللحظات في تاريخ العروبة وفي حياة الإسلام، ونعتقد أن أول واجب تفرضه عليكم مسؤولياتكم الجسيمة هو دعوة اللجنة السياسية للجامعة العربية لاجتماع سريع حازم واتخاذ موقف أسرع وأجرأ وأحزم قبل فوات الأوان وحصول قاصمة الظهر بالأمة العربية. أنتم أول من يفهم أن هذا الأسلوب الجديد من فرنسا هو القضاء على أماني المغرب العربي كله، وأن مغزى الأسلوب الانكليزي في ليبيا هو قطع أوداج الأمة العربية، وأن الأسلويين مدبّران يلتقيان على عاقبة فظيعة لمصر أولًا بالتطويق، وللعالم العربي ثانيًا بالتعويق. نسألكم بشرف العروبة أن تبلغوا صورة هذه البرقية إلى الحكومات العربية كلها. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني

كلمة إلى الشعب الليبي

كلمة إلى الشعب الليبي * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان الليبيون الكرام: حيّاكم الله وبصّركم بالعواقب، وجعل لكم في الماضي عبرة للحاضر وعظة للمستقبل، ونصركم في معارك الرأي كما نصركم في معارك الحرب، وأراكم الخير خيرًا لتتبعوه، والشر شرًا لتتقوه وتجانبوه، ووقاكم شر تحكّم الأفراد وزلل الساسة، وأخرجكم من ظلمات الاستبداد إلى نور الشورى، ووفّق قادتكم إلى التي هي أحسن عاقبة، وجعل لكم في كل مسلك ضيّق فرجًا عاجلًا ومخرجًا حسنًا. وسلام عليكم بما جاهدتم في سبيله، وناضلتم عن دينه، وبما حافظتم على هذه القطعة الثمينة من الوطن العربي العزيز التي هي ميراث مشترك بينكم وبين إخوانكم العرب بالفرض وإخوانكم المسلمين بالتعصيب. أيها الإخوان: لم يعرف العصر الحديث شعبًا غيركم دافع عن حريّته كما دافعتم، ولا شعبًا دفع من أثمان الحرية مثلما دفعتم، فقد قدمتم من دمائكم وأموالكم ما لم يقدّمه غيركم من الأمم التي ابتُليت بتسلّط الأقوياء عليها ... قدمت الأمم شبّانها فداء لأوطانها، أما أنتم فقدمتم الشبّان والكهول والشيوخ، وناهيكم بشيخ المجاهدين وإمام الشهداء عمر المختار، فضربتم الأمثال وملأتم التاريخ بالأعمال، وصبرتم في سبيل وطنكم على الجوع والعطش والعري والتشريد، ولم تهن لكم عزيمة ولا ضعف إيمان ولا تزعزعت عقيدة، ولم تخطئوا كما أخطأ غيركم في فهم الحقيقة الكاملة للحياة، وهي أن يحيا الإنسان كريما أو يموت كريمًا، وان الحياة بلا حرية موت أفظع من الموت.

_ * كلمة أُلقيت بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، 1953.

كذلك لم يبتلِ الله فيمن ابتلى من خلقه بمثل ما ابتلاكم به من استعمار حيواني شرِه أذاقكم لباس الجوع، ولم يستطع أن يذيقكم عذاب الخوف، ولكنكم أذقتموه الهزائم التي سجّلها التاريخ، وقاوم ضعفكم الذي يمدّه الإيمان قوّته التي يمدّها الطغيان، وصدقتم ما عاهدتم الله عليه فمنكم من قضى نحبه ومنكم من ينتظر وما بدّلتم تبديلًا. أيها الإخوان: لم تتفق جمعية الأمم على قضية مثلما اتفقت على استقلالكم، على ما شاب ذلك الاستقلال من شوائب، وعلى ما حفّه من مصائب، وعلى ما سبقه وتبعه من مناورات وألاعيب، فكل ذلك يشفع له أنه مولود، والمولود يولد ضعيفًا ثم تقوّيه العناية والرعاية والحياطة والمحافظة، وكذلك قال الناس عنكم وبذلك استقبلوا استقلالكم مع الرحمة بكم والإشفاق عليكم. أيها الإخوان: فرح إخوانكم العرب والمسلمون باستقلالكم لأنهم يعدّونه جزءًا من استقلالهم أو تثبيتًا له أو وسيلة لاستقلال غير المستقلّ منهم، بل لأنهم يرون فيه تحقيقًا لأكبر حاجة في نفوسهم وهي الاتصال بين شرقهم وغربهم. فقد كانت ليبيا- وما زالت- كما وضعها الله جسرًا بين الشرق والغرب مرّ عليه الفاتحون من أسلافنا يحملون إلينا الهدى ودين الحق، ومرّت عليه مواكب العروبة ممثلة في بني هلال بن عامر بن صعصعة يحملون إلينا الخصائص الجنسية والبيان، ومرّ عليه الدعاة إلى الحق من أئمة الدين، والحاملون للعدل والإحسان من الغزاة المجاهدين، فعلى سهول أرضكم مرّ عقبة فاتحًا وأبو المهاجر منبتًا وحسّان معمرًا ومطهّرًا للبقعة وطارقًا موسّعًا للرقعة، وعليها مرّ إدريس ليغرس في المغرب شجرة النبوّة وعبد الرحمن ليقيم فيه الخلافة المروانية. فكان أول الواجبات على مليككم وحكومتكم أن يحافظوا على هذا الاستقلال وأن يقدّروا الأثمان التي اشتُري بها وأن يسوسوه بالحكمة والحذر، وأن يحفظوا ذمة الشهداء الأبرار من بنيه، وأن يرعوا حرمة ما أريق على جوانبه من دموع ودماء، وأن يديجوه على الذلل السماح من الطرائف، وأن يجنبوه وهو في خطواته الأولى مزالق المعاهدات مع من لا عهد له ولا ميثاق، وأن يربطوا مستقبله بالشرق لا بالغرب، وبالقريب لا بالغريب. ولكنهم- مع الأسف- جاءوه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضوا النوائح في مواكب الفرح، وأرادوا أن يعالجوه من الفقر فعالجوه بالفقر ومعه الذل، وأن يداووه فداووه من الحمّى بالطاعون، وقيّدوه بقيد من حديد مع مستعمر عتيد وجبّار عنيد وعدوّ لدود عرف

بنقض العهود وتجاوز الحدود، ومع مفترس ما زالت أظافره حمراء من دماء المسلمين والعرب، وما زال واضعًا قدميه النجستين على البقاع الطاهرة من أرضنا في "القناة" من مصر وفي "الحبانية" من العراق وفي "المفرق" من الأردن، وما زال ممتدًا كالسرطان على الشواطئ الشرقية لجزيرة العرب، وما زال في السودان يماطل بالوعد الباطل. كل هذه الأوصاف تعبير لجنس اسمه الانكليز، وكل تلك البلايا وأمثالها معها، شرح للمعاهدة التي تريد حكومة ليبيا أن تعقدها مع الانكليز. أيها الإخوان الليبيون: إنها ليست معاهدة ... إنها استعمار جديد أشنع من الاستعمار الإيطالي الذي بلوتم مره وعانيتم شرّه، إنها في مآلها تضييع للوطن واستعباد لبنيه ... إنها تمكين اختياري للعدو من رقابكم. إنكم ستصبحون بسببها غرباء في أوطانكم مستعبدين لأعدائكم ... إنها مكيدة خفيت حتى اتّضحت، واستترت حتى افتضحت، ودبّرت بليل لتغطية ما فيها من الويل. أيها الإخوان: سلوا إخوانكم وجيرانكم في مصر ماذا لقوا من العدو الغادر في مدة سبعين سنة. سلوهم هل صدق له معهم عهد أو بر له يمين. سلوهم هل جلا عن أرضهم في المواعيد الكثيرة التي قطعها على نفسه بالجلاء، وهل وقف عند نصوص المعاهدات التي أبرمها ووقع عليها؟ العاقل من اتّعظ بغيره فاتّعظوا ولا تقدموا على أمر فيه هلاككم وهلاك إخوانكم، فإن معاهدته معكم معناها الكيد لمصر وتطويقها. فبينما تجاهد لإخراجه من القناة الضيّقة إذا به يحادها بكم وبوطنكم الواسع الغني. أيها الإخوان: إذا نفّذت هذه المعاهدة فسترون بأعينكم بعد سنوات قليلة سماءكم وقد ملئت بطيّاراته، وأرضكم وقد غصّت بجنوده ومطاراته، وخيرات أرضكم مما على ظهرها وبطنها، وهي في قبضته يصرفها بمشيئته وفي قبضته، والاتصالات بينكم وبين إخوانكم في الشرق وفي الغرب وقد أصبحت مقطوعة ممنوعة. أيها الإخوان: إننا نخاطب الليبيين، وإن حكّامكم منكم فهم داخلون في الخطاب فليراجعوا بصائرهم، وليرجعوا إلى أمّتهم يستهدونها ويسترشدون بها، وإلى إخوانهم العرب يستعينونهم ويستنجدون بهم، وليخافوا عذاب الله وحساب التاريخ.

أيها الإخوان: إن الضرورة الدافعة إلى هذه الصفقة الخاسرة مليون جنيه، ولكنكم ستبيعون فيها الوطن كله، وشرف الوطن كله، وحرية الوطن كله، وإن هذا الثمن البخس الذي تبيعون به وطنًا كاملًا وشعبًا كاملًا تستطيع كل حكومة عربية أن تسدده عنكم في كل سنة، ومن حدّثكم بغير هذا فهو مخدوع أو خادع. أيها الإخوان: قفوا كلكم صفًا واحدًا في طريق هذه المعاهدة المخسرة حتى تمزّقوها قبل أن تمزّقكم.

تقارب العرب ... بشير اتحادهم

تقارب العرب ... بشير اتحادهم * سماحة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كبير علماء الجزائر ذو قلم ناطق بالصدق قائل بالحق، فضلًا عن فصاحة اللسان وحلو البيان، وقد تفضّل مشكورًا فحلّى جيد هذا الكتاب بالكلمة التالية: ــــــــــــــــــــــــــــــ "لم يمر على العرب عهد كانوا أحوج فيه إلى الاتحاد وجمع الكلمة من هذا العهد، لأن المصائب التي جرّها عليهم التفرّق كانت تأتي متفرقة المواقع متباعدة الأزمنة، بحيث لا يحسّ بوقعها المؤلم جميع العرب إلى أن وقعت واقعة فلسطين، وسود عارها وجوه العرب كلهم، وزاد في افتضاحهم بها أن القارعة حلّت بهم وهم مجتمعون، فكانت صاخة خرقت الآذان ونفذت إلى مواقع الإحساس من العرب جميعًا. ... لا يجمع القلوب شيء كالمصائب ولا يعمّ التنبّه والإحساس إلا بعمومها، ولا أعم ولا أطم في تاريخ العرب من واقعة فلسطين، فهل جمعت قلوب العرب؟ وهل رجعت بعقولهم إلى مستقرّ الإدراك؟ وهل غسلت ما كان فيهم من أنانية وأثرة وما كان بينهم من تنافس لا ينفع إلا عدوّهم؟ إنها إن أثمرت هذه الثمرة ستصبح نعمة علينا، نكافئ عليها صهيون بالشكر الجزيل، فقد ساق إلينا الخير من حيث أراد بنا الشر، وأية نعمة أعظم من نعمة تجمع شمل العرب، وتوحّد كلمتهم بعد هذا التفرّق الذي ترك الجزيرة رقعًا ملوّنة بألوان شتى!

_ * بمناسبة زيارة الأمير عبد الله الجابر الصباح إلى مصر سنة 1953 صدر كتاب "المدينة الفاضلة أو سويسرا الشرق" جمع مواده الأستاذ عبد الكريم محمد الذي طلب من الإمام الإبراهيمي أن يساهم فيه، فكانت هذه الكلمة.

التقارب بريد الاتحاد، والتزاور دليله، والتحاور بشيره، والتشاور مفتاح بابه، وكل هذا يقع في هذه الأيام بين رؤساء العرب وأولي الرأي فيهم ويتكرر وتصحبه مبشرات مؤذنة بقرب تبلّج فجر من الاتحاد تعقبه الوحدة الشاملة التي ترهب أعداء العرب ويقول معها صهيون عن جزيرة العرب: إن فيها قومًا جبّارين. ... كانت زيارة الأمير عبد الله الجابر الصباح رئيس معارف الكويت لمصر حدثًا له آثاره الجلية في تقارب العرب، لأن لبلاده مكانة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، ولبيته مكانة في البيوتات العربية البارزة، ولشخصه منزلة مستمدّة من فطرة العربي وهمّته وشهامته ونبله وبساطته وسماحة نفسه، ومن أدب المسلم وتواضعه وصدقه في القول والفعل والحال، وكان لاحتفاء مصر بزيارته وافتنانها في تكريمه مزاج لطيف من الرسمية والشعبية جمع لأول مرة بين روح الشعب وروح الحكومة، ودلّ لأول مرة على أن حكومة مصر من شعب مصر، وقد كانت أمثال هذه الاحتفالات تقوم على المجاملة والنفاق، لا على الإخلاص والمحبة، وعلى الرهبة والملق، لا على الرغبة والصدق. وأن هذا المزاج اللطيف الذي ظهر على حفاوة مصر برجل عربي له منزلته، لوسط بين الرسمية المتكلفة والشعبية المتخلفة، وهو- في حقيقته- وصل لأرحام كانت مجفوة والرحم إذا تنبهت أسبابها تأتي بكل عجيب وتجرف كل ما كان يحجبها من حجب وما كان يغطّي عليها من عقوق وقطيعة. ... نحن لا نرى في ملوك العرب وأمراء العرب وقادة الرأي في العرب- وإن تعددوا واختلفت مشاربهم وأهواؤهم- إلا أنهم مستحفظون على مجد العرب، وأن عليهم عهدًا أن يعيدوه، ووسائل هذه الإعادة ممكنة لهم، ميسورة عليهم، لا تكلفهم عناء إلا اطّراح الأنانية، وإننا لا نحاسبهم على أسباب الإضاعة، لأنها قديمة، وليسوا مسؤولين عنها، وإنما نطالبهم بإعادة ما ضاع من ذلك المجد. وليس تعددهم بمنافٍ لذلك ولا مانع منه إذا اتحدت الوجهة واتّحد العمل واشتركت الأيدي في البناء على منهاج صحيح. فليتعددوا بالشخص، وليتّحدوا بالمعنى يفوا بحق الله وحق العروبة ويعيدوا المجد الضائع والحق المنهوب. ... ويقولون: إن المال هو الذي وجّه الأفئدة إلى الكويت، وإن الغنى هو الذي صرف الوجوه والآمال إلى البيت الصباحي، وكأنهم يقولون ان احتفاء مصر بالأمير الكويتي هو أثر

من ذلك المعنى، أو شعبة من تأثيره، وأنا أقول إن العرق الكريم كريم في ذاته، وإن الكويت والبيت الصباحي فيه ... اختصّا برأس مال معنوي، وهو الخلال العربية الصميمة ومنها الجد، والآداب الإسلامية القويمة، ومنها حب الخير ثم فعله، وهذا هو الاستعداد الفطري السليم الذي لا يزيد المال فيه، ولا ينقص العدم منه، فهذا هو رأس مال الكويت الحقيقي الذي لم تفسده العوامل الدخيلة ولم تهدمه المعاول المختلفة المتعددة لهدم العرب بهدم أخلاقهم وإفساد أذواقهم، ولو سلمت هذه الأخلاق للعرب وللمسلمين لسلم لهم كل شيء وكانت منبهة لهم إلى تلافي الخلل قبل الفوات، وضمّ الشمل قبل الشتات. هذه الخلال في الكويت وفي غيرها من أمهات القرى العربية السالمة هي التي نعدّها رأس المال، قبل المال، فلما فاض عليها المال فاضت معه تلك الأخلاق وقادته إلى الصالحات ولم يقدها إلى المهلكات ونِعِمّا المال الصالح للعبد الصالح، والمال- منذ كان المال- لا يفسد الصالحين، بل يزيدهم صلاحًا. ولا يصلح الفاسدين بالطبع والجبلة، والمال كالماء إنما يحيي الأرض الخصبة. وأقرب الطبائع من المثل العليا في سياسة المال طبيعة العرب الذين يقول أولهم: إذا حال حول لم يكن في بيوتنا … من المال إلا ذكره وفضائله ... نحن مستنون- إن شاء الله- بسنة القرآن في تنزيله الأحكام على الأعمال لا على العاملين، لأن العاملين يفنون، والأعمال تبقى ببقاء آثارها. ولم نعوّد ألسنتنا ولا أقلامنا مدح شخص لذاته أو للقبه أو لبيته أو لمنصبه، فإذا أثنينا على شخص كان الثناء منصبًا على عمله الصالح النافع وعلى هذا الأصل القرآني، فنحن نثني مسرورين مبتهجين على هذه الأعمال الصالحة التي قامت بها إمارة الكويت على يد أميرها وآل بيته، وإعانة علمائها وسراتها وأهل الرأي فيها، من تشييد المدارس التي هي حصون العلم، ومستشفيات العقول؛ وتجهيز القوافل من شباب العرب إلى مصر ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وليدرسوا الحياة فيأخذوا بأقوى أسبابها إلى أشرف غاياتها، ومن فتح الباب لأبناء العرب من الخليج العربي إلى الجزائر العربية ليقطعوا مرحلة من مراحل التعليم في الكويت، فيتلاقى أبناء العمومة من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق على بساط العلم الجامع وفي ثرى الأخوة الندي، وتتلاقى الأفكار التي شتتها تباعد الديار، وكيد الاستعمار، ومن شحن اللغة العربية إلى أبنائها المغتربين في باكستان والهند لتبقى صلتهم بإخوانهم ووطنهم ممدودة ومن تحقيق أسباب العمران والتمدين في تلك الصحراء الجرداء. وإنها لأعمال جليلة في ذاتها، محمود فاعلها بالتبع لها، ونحمد الله لأمراء الكويت أن وفّقهم إلى أداء زكاة المال بهذه الصورة النافعة وأن وفقهم إلى شكره على النعم بهذه الصيغة العملية البليغة".

افتتاح دار الطلبة بقسنطينة

افتتاح دار الطلبة بقسنطينة * وفاءً بالوعد، يسرّنا أن نحلي جريدة «البصائر» بالكلمة القيّمة التوجيهية، التي سجّلها حضرة الأستاذ الرئيس الجليل بالقاهرة، وأُلقيت في حفلة افتتاح دار الطلبة بقسنطينة. ولهذا الخطاب العظيم الأهمية، مقدّمة للأستاذ الكبير الشيخ الفضيل الورتلاني. ــــــــــــــــــــــــــــــ سجّلت هذه الكلمة للعلّامة الجليل حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي- حفظه الله- بمكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقاهرة في أغسطس 1953، مشاركة من المكتب ورجاله للأمة الجزائرية في أفراحها بفتح "دار الطلبة" التابعة لمعهد خالد الذكر الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رضي الله عنه، أحيا الله الأمة الجزائرية مسلمة عربية مجاهدة وتحية لها عاطرة زكية مباركة طيّبة من ابنها الداعي لها بالتوفيق. الفضيل الورتلاني بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلّا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوان من مشائخ وتلاميذ وأنصار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتحياته الطيبات تغشاكم، وتعطر موقفكم في هذا المشهد الكريم وممشاكم، والدعوات الصالحات ترتفع إلى الله جلّ جلاله، أن يصل توفيقكم، ويجعل السداد رفيقكم، وأن يجعلكم دائمًا بهذه الخطا في الصالحات، سراع الأيدي إلى البذل في الباقيات، مجتمعي الكلمة على الحق والخير والنفع، مسددي الرأي فيما تأتون وما تذرون. أيها الإخوان: ما زالت تلوح في خيالي تلك الصور المشرقة من ماضيكم في الاحتفالات بفتح المدارس فأنتزع منها صورة مكبرة للاحتفال بفتح "دار الطلبة"، وما زلت أنثر الأزهار من ذكركم الطيّب

_ * «البصائر»، العدد 250، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 ديسمبر 1953.

في المجالس والأندية، ومن أعمالكم الجليلة في ميدان العلم، وما زلت أقرن هذه المعجزة بالتحدي، هذه المعجزة التي أظهرها الله على أيديكم، بل هذه المنقبة التي خصّكم الله بها، فما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من الضعف والفقر والجهل والهوان تثب هذه الوثبة، بباعث من إيمانها، وتستيقظ فجأة على صوت الدعاة المخلصين من أبنائها فتبني نهضتها من أول يوم على أساس من الإسلام مكين، وحائط من العروبة متين، وعلى سبب من الحكمة رزين، وسند من العقل رصين، وتطوي العصور طيًا لتتصل بالقرآن فتتخذه دليلًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - فتتخذه إمامًا، وبالشرق في روحانيته النقية فتتخذه موئلًا، وبالتاريخ المحمدي في صحائفه الطاهرة فتتخذ منه مرشدًا. وما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من ظلم الغريب، وجفاء القريب، وإضلال الهادي، وبغي العادي، ثم تُكوِّن في عشرين سنة من الحصا جبلًا شامخًا، ومن الأوشال بحرًا زاخرًا، وتبني بالفلس المقدّر، والعيش المقتّر، هذا العدد العديد من المدارس الضخمة ثم تتوّجها بهذا المعهد الفخم الذي تلوح عليه من مخايل عبد الحميد بن باديس سمات، وتهب عليه من روحه الطاهرة نسمات، ثم تهزّكم أريحية العرب، وسماح الإسلام، ونخوة الأجداد، فتكملون المفخرة بهذه الدار التي تجمع روعة الحرم إلى قوة الهرم. أيها الإخوان الكرام: إن لهذه الدار على قرب العهد من تشييدها لتاريخًا متصل الحلقات، ومن حلقاته التفكير والتقدير والرأي والتدبير، واليد واللسان، وان من عجائب الدهر تتابع هذه الحلقات بسرعة، وان أظهر صنع الله في هذا لباد، ولولا صنعه لما تمّ شيء من هذه الأعجوبة التي لم تستند على شيء من الوسائل المادية يوم تكوينها وإنما صحبها الإيمان والإرادة والعزيمة والحزم والتصميم، وهي وسائل ما اجتمعت في شيء إلا أتت بالعجائب وما تعاونت على شيء إلا أضفت عليه الوجود والخلود. هذه الدار ذات تاريخ، بل أصبحت اليوم فاصلًا بين تاريخ وتاريخ. بين تاريخ مؤلف من حالة الطالب البائسة المضطربة التي كان عليها بالأمس، وبين تاريخه اليوم وقد أصبح شمله جميعًا، وحياته منظّمة، وأحواله مرتّبة، وسكنه نظيفًا، وستصبح هذه الدار تاريخًا قائمًا بنفسه، يوم يؤتي النظام والاطمئنان آثارهما في حياة التلميذ. إن بدايتكم هذه وأنتم الضعفاء، هي نهاية الأقوياء ذوي الطول والحول والدولة والصولة والعراقة والأصالة في العلم وأسبابه، فما بدأوا في التفكير والاهتمام بحال التلميذ وإقراره فيما يناسب شرفه، إلا منذ عقود قليلة من السنين، وإذا كانت الغاية هي راحة طالب العلم، وتسهيل السبيل في طريقه إلى العلم، وتمهيد الوسائل له فإنهم لم يصلوا إلى تحقيق هذه الغاية إلا بعد مرور قرون على نهضتهم العلمية.

أما أنتم فقد حقّقتم شيئًا منها في أوائل النهضة، وان نهضة تقترن مبادئها بتحقيق بعض الغايات منها لنهضة حقيقة بالتمجيد والاحترام. افخروا أيها الإخوان الشاهدون ما شئتم بهذه الدار: فقد بنيتم بأيديكم وبمالكم ولوطنكم، ودينكم، ولغتكم، ولأبنائكم، ونرجو أن يوزعهم الله شكران هذه الأيادي ويجنبهم كفرانها. افخروا فقد حزتم الفخار من أطرافه، انكم لم تبنوا دارًا، وإنما بنيتم أجيالًا، وأقمتم دينًا، وكتبتم تاريخًا وثبتم نهضة، ولا منة عليكم إلا لله. إن النهضات أيها الإخوان، كيفما كان لونها، هي بناء وتعمير، وهذا لعمري هو البناء وهذا هو التعمير، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون، إن نهضة تبتدئ بمثل ما بدأتم لحرية أن تنتهي إلى الأمد الذي تنتهي إليه النهضات الخالدة. هذا هو البناء الذي فيه من كل كبد فلذة، وفيه من كل كيس فلس، وفيه من كل عقل رأي، وفيه من كل فكر شعبة من شعب الفكر، وفيه من كل عزيمة أثر من آثار العزائم. أعيذكم أيها الإخوان الكرام، أن تقنعوا في نهضتكم بغاية، أو تقفوا عند حد. إن القناعة إنما تحصل فيما يقيم الجسم لا فيما يقيم الأمة، وان آية الأمة المهيأة للخير أن لا تفرغ من مأثرة، إلا لتبدأ مأثرة، ولا تنفض أيديها من عمل إلا لتضعها في عمل، فكونوا دائمًا مستعدّين، واجعلوا هدفكم دائمًا العظائم لا الصغائر، وقد جرّبتم الإيمان وماذا يصنع، وجربتم التعاون وأنه ينفع، وجرّبتم الثقة بالله فأتت بالعجائب. شدّوا الحيازيم واعتمدوا على الله وثقوا بعونه وما أنفقتم من خير فهو يخلفه وهو خير الرازقين. الحاجة يا إخواني إلى العلم ملحّة والخصم في القضية لدود، فلا ترهبوا الظالمين ولا تسمعوا للمرجفين ولا تلتفتوا إلى الناعقين، فإن فيهم الحسود وفيهم الحقود وفيهم المسخر وكلهم عدو لكم فأغيظوهم بالعمل الصالح واحذروهم كما تحذرون الشيطان. أيها الإخوان الكرام: عهدتكم مستجيبين لدعوة الحق، لبّيتموها يوم كانت دعوة إلى توحيد الله، ويوم كانت تثويبًا بتوحيد الصفوف في سبيله، ويوم كانت ترغيبًا في العلم ويوم كانت أذانًا بتشييد المدارس، ويوم كانت حداء بالأجيال الناشئة إليه، ويوم أصبحت سباقًا إلى التغالي فيه والتعالي به، ويوم أمست مساعي حثيثة في قطع مراحله وصعود درجاته، إلى هذا اليوم الذي استحالت الدعوة فيه إلى بناء العظائم والآثار وتمهيد العقبات في طريق طلّابه. أيها الإخوان في العلم، اليوم قضيت الحاجة واطمأن المشفقون، فلتهنأ جمعية العلماء بهذا النجاح، وليهنأ المعهد العظيم بهذه التكملة بل بهذا الكمال، ولتهنأ الأمة بهذه

الثمرات لجهودها الخالصة المخلصة وئيَهْنَأ التلاميذ بهذا القرار المكين الذي أعدته لهم الأمة، وليجعلوا حمد الله على هذه النعمة اجتهادًا في العلم وإخلاصًا لله فيه واعترافًا للجمعية بالجميل وموثقًا يعطونه على أنفسهم للأمة، ليخلصن في خدمتها ونفعها ولينصرن دينها وليقيمن عقائده وعباداته وأحكامه وفضائله ولغته وليصدقن الله ما عاهدوه عليه في ذلك كله. أيها الإخوان: يعزّ علي أن أكون غائبًا عنكم بشخصي ويسلّيني أن أشارككم بصوتي فاعجبوا للغائب الحاضر واعجبوا للعلم الذي قرب البعيد، وأتى بالعجيب، ونقل الصوت إليكم في سلك. أما روحي فهي حاضرة معكم في كل حين، وأما سمعي فهو مرهف دائمًا لتلقّف أخباركم حتى كأني معكم أرى وأسمع وما أنا بالنامي ولا أنا بالجاحد. وحيا الله إخواني أعضاء جمعية العلماء وقد وفوا بالعهد وأدّوا الأمانة وأحسنوا المناب، وما كنت يوم كنت بينهم إلا بهم، وما أنا اليوم إلا ناشر فضلهم، ومذيع مفاخرهم. فجزاهم الله عن دينهم وأمّتهم ووطنهم أفضل ما يجزي عاملًا عن عمله. أيها الإخوان: كأني أراكم بعيني كعهدي بكم تتسابقون إلى البذل في سبيل العلم، وتجودون بالغالي في سبيل الأغلى وبالثمين قيمة للأثمن وبعرض الدنيا قيمة لما عند الله من منازل الكرامة، فحقّقوا ظني أيها الإخوان ولا تفترقوا إلا والدار داركم ودار أبنائكم حسًا ومعنى، وقولًا وفعلًا، واعرفوا قيمة صفقةٍ الله فيها هو البائع، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم. أيها الإخوان الشاهدون: عطّروا سمعتكم في الداخل بمثل هذه الأعمال، ومكّنوا صلتكم بجمعية العلماء، بإمدادها بالعون المادي وطاعتها في المعروف والائتمام بها في العلم والدين والفضيلة. أما في الخارج وأعني بالخارج الشرقين: العربي والإسلامي، فالله أرحم بالجزائر من أن يتركها نهبًا للظنون وعرضًا لقالة السوء، فقد رزقها الرحمن الرحيم ابنًا شرّفها بعد الضعة وعرفها من التنكير، وصرفها الجمود وكان عليها عنوانًا مطرزًا ولها رمزًا موشّى وعليها دليلًا هاديًا، ذلكم فاعرفوه هو الأستاذ العبقري الفضيل الورتلاني الذي خدم الجزائر ولم يمنّ عليها وأعطاها من دون أن يأخذ منها والذي عرف الشرق كله عجمه وعربه قيمته وفضله واعترف باستحقاقه للأستاذية واستكماله لشرائط الزعامة؛ ولعمر الحق أنه لأذكى نبات جزائري جنى الشرق ثمراته حينما حرمته الجزائر وانه لأزكى زهر ضوع شذاه في الشرق بعد ما تفتّح في الجزائر، وأن مواهبه وتجاربه تجارتا فيه إلى غاية واحدة فجاء منه رجل، أي رجل وتضافرتا على

إحلاله مقامًا تقصر عنه أعناق المتطاولين للزعامة، وإني حين أهنئ به الجزائر صادقًا مخلصًا أحجم عن تهنئته بالجزائر لأنني أعتقد صادقًا مخلصًا أنها لم تعرف ما عرف الشرقان له من مكانة وتقدير. إنني أحييكم باسمه وباسمي تحية تكافئ ما نكنّه للجزائر معًا من حب وما نحمله معًا لجمعية العلماء من إعظام وأشهد لنفسي وله أننا لم نمن عليها ذكرًا لها رفعناه، ولا فضلًا لها كان كامنًا فأذعناه. وتحيّاتنا العاطرة بأنفاس الريحان تهب على جمعكم هذا ودعواتنا إلى الله في مظان الإجابة تتنزل وتصعد إلى معارج القدس بالتوفيق، وبسلوك أحسن طريق، وننصر دين الله في أرجائها، ولينصرن الله من ينصره والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نصيحة وتحذير

نصيحة وتحذير * رأيت في القاهرة عددًا كثيرًا من شبّان الجزائر، معظمهم وصل إليها في هذه السنة والتي قبلها بوسائل كلها أتعاب ومشاق، والتحقوا كلهم بالقسم العام في الأزهر، وهذا القسم هو الذي يحشر فيه كل مبتدئ كما يدل عليه اسمه، وزارني كثير من هؤلاء الطلبة الجزائريين يطلبون الإعانة المالية مني أو من الأزهر بوساطتي، وسألتهم وتقصيت، فسمعت من أقوالهم، وعلمت من مظاهرهم ما يحزن ويؤسف، وجر شيء إلي شيء، فعلمت بالقرائن القريبة أنهم منحدرون إلى هاوية لا قرار لها من البؤس لا يحصل معها علم، ولا يبقى عليها خلق، ولا تشرف منسوبًا ولا منسوبًا إليه. فحملتني الشفقة عليهم وعلى سمعة الجزائر على أن أكتب هذه الكلمة محذّرًا من لم يقع، لكيلا يقع، فعسى أن تكون تبصرة لمن قرأها أو بلغته ممن قرأها في الجزائر، وعسى أن تكون موعظة للعابثين بهؤلاء الضحايا هنا في مصر، فبعض الناس يكونون عونًا للمصيبة على المصاب، وبعض الناس يكونون لبعض {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِئإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}. كنت أسألهم واحدًا واحدًا: لماذا قدمت من الجزائر؟ فيجيبونني واحدًا واحدًا: جئت لطلب العلم، فأسألهم: وهل استرشدتم برشيد عارف بالأحوال؟ فيقولون: لا. فأعلم أنهم مغرورون بالأوهام الشائعة التي تصوّر أن العلم في مصر مبذول، ولا تصوّر أن الخبز فيها غير مبذول، وأعلم أن لهم قصدًا حسنًا، ولكن حسن القصد لا يشفع لصاحبه ولا يكون عذرًا في المخاطرات التي لا تستند إلى بصيرة. وطلب العلم شيء محمود بل واجب، والرحلة إليه شيء مستحسن، وسنة قديمة سنّها أوائلنا وكانت عندهم شرطًا في كمال العالم، وشهادة خاصة يعطيها المترجمون للرحّالة حين

_ * «البصائر»، العدد 240، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 سبتمبر 1953.

يقولون في ترجمته: رحل ولقي الرجال. ولكن الرحلة في القديم كان لها غرض صحيح وهو استكمال العلم لا بدايته، فبعد أن يحصل الأندلسي- مثلًا- كل ما هو موجود في بلده من أنواع، ويستوعب الأخذ عن جميع علمائه تسمو نفسه إلى بقية من العلم غير موجودة، أو إلى التوسّع في الموجود منها فيرحل لذلك، ثم يرجع إلى وطنه بالمقلد، والعلم الجديد. أما أبناء الجزائر الذين نكتب هذه الكلمة من أجلهم فإنهم يرحلون من الجزائر ويقطعون المراحل مشيًا على الأقدام في بعض الحالات عجزًا عن ثمن الركوب، كل ذلك ليدرسوا (الأجرومية) في الأزهر، ثم إذا وصلوا إلى مصر وضاقت بهم سبل المعيشة انقطعوا حتى عن الاجرومية وطلبوا العمل فلم يجدوه، لأن أهل الوطن أنفسهم يشكون البطالة، أو طلبهم العمل فلم يجدهم، لأنهم لا يحسنون عملًا فنيًا. لا نصف صنيع هؤلاء بأنفسهم إلا بأنه غفلة واغترار وجهل بحقائق الأشياء، والجاهل يجب عليه أن يتعلم طريق العلم ووسائله قبل العلم، وأيسر وسيلة يستطيعها كل أحد هي الاستشارة، فما لهم لا يستشيرون؟ ولو أنهم استشاروا النصحاء العارفين لصدوهم عن هذا النوع من الهجرة، ولنصحوهم بتعلّم المبادئ في الجزائر أو في تونس وهي تكاد تكون قطعة من وطنهم، فإذا حصلوا كل ما في جامع الزيتونة كانت رحلة الراحل منهم إلى مصر أو غيرها معقولة مقبولة، وكانت الإعانة عليها واجبة وذات قيمة. الواجب على أبناء الجزائر أن يتبصّروا في هذه القضية وأن يتدبّروا عواقبها، وأن يعرفوا - قبل كل شيء- أن سماء مصر لا تمطر الذهب والفضة ولا الورق النقدي، وأن مصر قامت بما فوق الواجب مع أبناء الأقطار العربية والإسلامية، وتساهلت حتى أدّاها التساهل إلى الفوضى، وأعانت بالكثير، ولكن فوضى الهجرة صيّره قليلًا غير مفيد، والإعانة التي لا تفيد هي خسارة مرتين. إن قطع آلاف الأميال، وركوب المخاطر والأهوال، في سبيل الدراسة الابتدائية أمر لا يفعله عاقل ولا يجيزه، فهو سفه في الرأي وتبديد للقوة في غير منفعة، وهو سبّة للوطن الذي هاجر منه الطالب، لأنه شهادة على أنه لا علم فيه ولا تعليم، فليتدبّر هذا أبناؤنا المجازفون، فإذا زاد على ذلك تقدّم السن كان من أفحش الخطإ، فقد لاحظنا في جميع من رأينا أنهم جاوزوا العشرين من أعمارهم وفيهم ابن الثلاثين. وأمثال هؤلاء فاتهم وقت التحصيل المنظّم، ومتى يحصلون وهم في هذه السن؟ وكيف يحصلون وهم على هذه الحالة من البؤس؟ وكيف يطمئن الذهن للتحصيل، إذا كان العقل والجنب والبطن كلها غير مطمئنة ولا مستقرّة؟ لعلّ أبناءنا يحتجون اليوم بتلك الفلتات التي يسمعون بها من أن فلانًا هاجر إلى الأزهر وهو لا يملك فتيلًا ثم حصل وأصبح عالمًا، وفاتهم أن تلك فلتات كما سمّيناها فهي شذوذ

فردي جاء من قوة الصبر والاحتمال أو من أسباب أخرى تبنى عليها الشذوذات ولكنها لا تصبح قاعدة عامّة في جميع الناس، ونحن الذين سبقنا هذا الجيل نعرف أفرادًا من هؤلاء، ونعرف أنهم لم يحصلوا التحصيل الحقيقي الذي ينفعون به قومهم إذا رجعوا إليهم، وإنما حصلوا النسبة الأزهرية، وهي في كثير من أصحابها تغرّ ولا تسرّ. ... لا ينفع الجزائر ويشرّفها، ولا يرفع مصر ويعرفها، إلا اثنان: يافع عمره أربعة عشر عامًا يحمل الشهادة الابتدائية من مدارس جمعية العلماء أو الشهادة الابتدائية الفرنسية مع حظ في العربية يكون في قوّتها، ومن ورائه من ينفق عليه انفاقًا منظّمًا، فهذا تؤهله سنّه ومعارفه الضرورية للدخول في المدارس الثانوية المصرية، فيمرّ على مراحل التعليم الثانوي إلى البكالوريا العربية، ثم إلى التعليم الجامعي إلى آخر شهاداته، كما تؤهله شهادته العربية لدخول الأزهر فيبني تعلّمه حجرًا عن حجر إلى تمام البناء، بشرط أن يكون عليه إشراف حكيم ورقابة شديدة تحفظ عليه نظام دروسه ونظام حياته وأخلاقه. وشاب في العشرين أو فوقها بقليل يحمل شهادة التحصيل من جامع الزيتونة أو شهادة المعهد الباديسي في منهاجه الجديد، فهذا تؤهله سنّه ومعارفه الثانوية لدخول عدة معاهد كلها مفيدة، ومنها كلية أصول الدين التابعة للأزهر وكلية دار العلوم وكلية الآداب التابعتان للجامعة المصرية، ويكون من ورائه من ينفق عليه إنفاقًا منظّمًا ومن يشرف عليه كذلك. هذان الصنفان هما اللذان ينفعان الجزائر، ويشرّفان سمعة مصر، وتكون إعانتهما وضعًا للشيء في محله. أما أن يفارق الشاب الجزائري وطنه، وسنّه مرتفعة، وعقله فارغ من العلم وجيبه فارغ من المال، فهذه الحالة هي التي نحذر منها وننصح من لم يقع أن لا يقع فيها، وحسبه أن يتعلّم في وطنه ما يرفع عنه الجهل أو ما ينفع به الناس نفعًا محدودًا وهو لا يعدم ذلك في وطنه. في الجزائر جمعية العلماء وهي تجاهد في هذا السبيل، فتفتح المدارس وتهيّئ البعوث وتشرف عليها، وهي متخصصة في الاطّلاع على وسائل العلم، فما لهؤلاء القوم لا يستشيرونها؟ وما لهم حين يستشيرونها لا يعملون بنصائحها وتوجيهاتها؟ ألا ان جمعية العلماء لا تقرّ هذه الفوضى التي لا تعود على الجزائر إلا بسوء الأحدوثة، وقد بذلت جهودًا في تنظيم بعثاتها والجري بها على الشروط الواجبة، ومع ذلك فما زالت

أمامها أشواط دون الوصول إلى الغاية في كمال النظام، وهي لا تستطيع أن تعين بشيء من جاهها أو من مالها إلا من أعانها على نفسه باستيفاء الشروط والتزام النظام وقبول النصيحة والتوجيه، أما من خالف شيئًا من ذلك، أو انقاد لدعاوى المغررين فلا سبيل له عليها، ولا حجة بينه وبينها. يا أبناءنا: إن جمعية العلماء تريد لكم العلم، وقد عملت ما استطاعت، ولكنها لا ترضى لكم الفوضى والتعب الفارغ والسعي الضائع، ولا ترضى- أبدًا- لابن الجزائر أن يهاجر إلى مصر في سبيل العلم من غير استعداد علمي يؤهل، واستعداد مالي يسهل. إن الرحلة في طلب العلم كالرحلة لأداء الحج، كلتاهما مشروطة بالاستطاعة، وإن شرط الاستطاعة في طلب العلم لأوكد، لأن مناسك الحج تقضى في أيام ومناسك العلم لا تقضى إلا في أعوام. هذه كلمة محذرة، فعلى قرّائها أن يبلغوها حتى يكون الغائب كالشاهد.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين * جمعية العلماء هذه جمعية دينية علمية عملت للعروبة والإسلام ثلاثين سنة أعمالًا عظيمة جليلة فأحيت العربية في الجزائر على صورة قل أن يوجد لها نظير في الأقطار العربية وأحيت الإسلام الصحيح بإحياء علومه فأنقذت بذلك أمّة تعد أحد عشر مليونًا من الكفر والانعجام بعد ما عملت فرنسا مائة سنة كاملة لمحو العربية وطمس الإسلام. المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية: أولًا: مائة وخمسون مدرسة ابتدائية تضمّ خمسين ألفًا من بنين وبنات يدرسون مبادئ العربية وعلوم الدين وعلوم الحياة العامة على أحسن منهاج وأقوى نظام؛ وقد قامت الأمّة الجزائرية بإرشاد جمعية العلماء بتشييد هذه المدارس بأيديها وأموالها التي تقتطعها من القوت الضروري فأصبحت هذه المدارس كلها ملكًا للأمّة وذخيرة لأبنائها ثم قامت بالإنفاق الواجب لتعميرها؛ وليس لها معين على هذا المحمل الثقيل إلا الله وليس لها أوقاف لأن فرنسا استولت من يوم احتلالها للجزائر على جميع الأوقاف الإسلامية ووزعت أراضيها على المعمرين وحوّلت المساجد إلى كنائس وهي اليوم تعاكس حركة جمعية العلماء وتعتبر تعليم الإسلام ولغته جريمة تعاقب من يباشرها أو يعين عليه. ولولا قوة الإيمان وتوفيق الله وما أفرغه على هذه الجمعية من صبر وثبات لم تثبت للفتن يومًا ولم تصنع في هذا السبيل شيئًا. ثانيًا: معهد ثانوي يضم ألفًا وثلاثمائة تلميذ يدرسون علوم اللغة والدين والتاريخ الإسلامي والرياضيات وعلوم الحياة على المناهج الثانوية الواسعة.

_ * تعريف بجمعية العلماء وُزِّع على وسائل الإعلام بالقاهرة.

ثالثًا: خرجت الجمعية من مدارسها الابتدائية نحو مائتين وخمسين ألف تلميذ ولكنها لم تستطع أن تعلمهم التعليم الثانوي الضروري ولا سبب لذلك إلا فقد المال لأن استيعاب هذا العدد يستلزم تشييد سبعين مدرسة ثانوية كبيرة على الأقل كما أنه يوجد من أبناء الأمة مليون ونصف مليون محرومين من التعليم بجميع أنواعه وفرنسا لا تريد أن تعلمهم والجمعية لا تستطيع أن تعلمهم دفعة واحدة أو دفعًا متقاربة لأن القيام بهذا العمل العظيم يستلزم إحضار ألفي مدرس على الأقل ولكن الجمعية سائرة إلى هذه الغاية بالتدريج مستعينة بالله. رابعًا: من أعمال هذه الجمعية مشروع (محو الأمية) وقد أنقذت بأعمالها وإرشادها نحو سبعمائة ألف وخمسين ألفًا من مصيبة الأمية. خامسًا: لهذه الجمعية بعثات إلى جامع الزيتونة في تونس تبلغ في بعض السنين ألفًا وسبعمائة تلميذ ولها في جامع القرويين بمدينة فاس من المغرب الأقصى بعثات تصل في بعض السنين إلى المائتين وتزيد. سادسًا: لهذه الجمعية في الشرق العربي بعثات، فلها في مصر بعثة مركبة من أربعين تلميذًا ولها في العراق بعثة مركبة من أحد عشر تلميذًا ولها في سوريا بعثة مركبة من عشرة تلاميذ. وهي ساعية في إرسال البعثات الأخرى إلى الأقطار العربية والإسلامية. سابعًا: وقد أنشأت هذه الجمعية في القاهرة مكتبًا واسع الأعمال ليشرف على هذه البعثات الحالية وما يتجدد بعدها، وليراقب دراستها وسلوكها وليكون أداة اتصال بين الشرق العربي والمغرب العربي. ثامنًا: كما أنشأت هذه الجمعية من مدة طويلة مكتبًا إسلاميًا في باريس وزوّدته بمعلّمين ليحفظوا على العمّال المسلمين الجزائريين دينهم وعددهم أكثر من خمسمائة ألف، وليحفظوا على أبنائهم المولودين بفرنسا لغتهم وتربيتهم الإسلامية وهؤلاء الأطفال أكثر من ثلاثين ألفًا، وهذا مشروع ضخم لا تقدر عليه إلّا الحكومات، ولكن جمعية العلماء قائمة بما تستطيع من واجب وقد بلغت مراكز التعليم الإسلامي التي أنشأتها جمعية العلماء في فرنسا في بعض الأوقات خمسة وثلاثين مركزًا، منها سبعة عشر في باريس وحدها، وقد زارها كثير من المصريين والسوربين وغيرهم فأُعجبوا بها. تاسعًا: ومن أعمال هذه الجمعية القيام بالوعظ والإرشاد على أكمل وجه ولها جند منظم يشتمل على نحو مائتي واعظ ديني. عاشرًا: أنشأت هذه الجمعية في تاريخها نحو سبعين مسجدًا في المدن والقرى وعمرتها بالأئمة الصالحين والمدرّسين النافعين لأن المساجد العتيقة العظيمة استولت عليها

فرنسا من يوم الاحتلال وما زالت تحت تصرفها حتى الآن، وما زالت هذه الجمعية تطالب بإرجاعها إلى المسلمين. حادي عشر: مشروع النوادي، فقد أنشأت جمعية العلماء في كثير من المدن والقرى نوادي للتهذيب والتربية الإسلامية بلغت في بعض الأحيان ثمانين ناديًا لتبلغ دعوتها بواسطة هذه النوادي إلى الشبّان فتنقذهم من المقاهي وتجرّهم إلى النوادي والمدارس والمساجد. أما مالية جمعية العلماء فكلها من الأمة المؤمنة الفقيرة تحصّله عن طريق الاشتراكات الشهرية الطفيفة. ولجمعية العلماء في الأمور المالية قانون صارم وهو أنها لا تقبض درهمًا إلا بإيصال ولا تخرجه إلا بإيصال وتعلن في جريدتها كل ما يدخل وكل ما يخرج. ثم تذيع حساباتها التفصيلية على رؤوس الأشهاد في اجتماع سنوي عام. ولكل مشترك مهما قلّ شأنه حق المناقشة والاطلاع. وجريدة جمعية العلماء المعبّرة عن مبادئها، القائمة بدعوتها، هي جريدة «البصائر» المعروفة في العالمين العربي والإسلامي وقد عطلت فرنسا قبلها أربع جرائد لهذه الجمعية. هذه الأمة الجزائرية المسلمة العربية الصميمة قامت بواجبها بإيمان وقوة وشجاعة وحافظت للعرب والمسلمين على رأس مال عظيم وهو أحد عشر مليونًا من صميمهم ولكنها وقفت في منتصف الطريق فتوجّهت إلى إخوانها في العروبة ترجو منهم المدد المعنوي والمادي لتواصل سيرها إلى الغاية التي تشرفهم جميعًا ولتؤدي أمانة الله وتقوم بعهده المسؤول. القاهرة، سبتمبر 1953. رئيس جمعية العلماء الجزائريين محمد البشير الإبراهيمي

في صميم القضية الصينية

في صميم القضية الصينية بداية النهاية * ــــــــــــــــــــــــــــــ أيظن الخليون الغافلون من الفريقين أن المعارك بيننا وبين الحكومة الاستعمارية في قضية المساجد والأوقاف انتهت بهذه الطريقة الهازلة الشوهاء التي تمخّض بها المجلس الجزائري ووضعها لأقصى أمد الحمل سقطًا بعد آلام وأوجاع زاد في فظاعتها أن حمله بها كان عن سِفاح؟ ولا عجب إذا حملها كرهًا أن يضعها كرهًا. إنما هذه نهاية طور من أطوارها الغريبة التي صاحبتها العقلية الفرنسية منذ كان الاستعمار في الجزائر، وقد تعوّدنا من هذه العقلية المذبذبة بين الدين والإلحاد، الملفحة بجراثيم اليهودية والمادية أنها كلّما عرضت لقضية الدين الإسلامي في الجزائر جالت بها في مثل هذه المجالات الملتبسة وعالجتها بنصوص لا يعرف فيها عموم من خصوص وتركت القضية دائرة والعقول معها حائرة، ولكنها لم تحشد لها في مرة من المرات مثل هذا الحشد. كنا نقدّر هذه النهاية ونحن في مراحل العراك ونصوّرها بقريب مما وقعت عليه مما دلّتنا عليه التجارب ومما استقيناه من مقاصد هذه الحكومة وأنها نذرت على نفسها فوفت بالنذر أن تكون عدوًا للإسلام ما دام لها وجود، وخصمًا للمسلمين ما امتدّت بها الحياة، وحربًا على الحق في أي ميدان ظهر، ومن عجيب صنع الشيطان في هذه الحكومة أنها كلما ضعفت فيها النزعة الدينية بكثرة المذاهب العقلية وتيار الحضارة المادية أمدّها الشيطان بلقاح من اليهودية المعادية للإسلام والنصرانية معًا فأذكت فيها ما برد، وضربت منهما ما

_ * كتبت هذه الكلمة في القاهرة في أغسطس 1933 بعد اطلاع الشيخ على موقف المجلس الجزائري من قضية فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية، وعلى البرقية التي أرسلتها جمعية العلماء في الجزائر للحكومة الفرنسية بباريس والمنشورة في «البصائر»، العدد 235، 3 يوليو 1953، وهي كلمة غير منشورة، ويمكن إضافتها إلى سلسلة المقالات التي نشرت في الجزء الثالث من الآثار تحت عنوان: "فصل الدين عن الحكومة".

ضعف بما قوي وشفت غيظها من الفريقين. أليس حاكم فرنسا اليوم والمتحكّم في مصائرها يهوديًا ومن ورائه يهود العالم؟ كنا نعلم هذه النهاية لقضية الإسلام في الجزائر من يوم عرفنا اليمين من الشمال، وبلونا أحزاب اليمين في فرنسا وأحزاب الشمال، لأننا عاصرناهم جميعًا وعاشرناهم قائلًا وسميعًا فما وجدنا منهم في جانبنا منصفًا، ووجدناهم يختلفون إلى درجة الشقاق ويشتجرون إلى نهاية اللجاج، حتى إذا لاح شبح من أشباحنا لعيونهم وعرضت قضية من قضايانا تحت أيديهم تألفت الأحزاب وتآلفت الآراء وتألبت الجموع لأننا نحن وديننا عدو مشترك في نظرهم، وكأن منافرة الضاد للهواتهم مستلزمة لمنافرة أهله لهم ومنافرة دينه لأذواقهم، واللهاة هي نهاية المقاطع الحرفية كما أنها نهاية الحاسّة الذائقة. ... جاهدنا في سبيل هذه القضية عشرين سنة أو تزيد لم يفل لنا فيها رأي ولم تفل عزيمة، ولم يكل لنا فيها قلم ولا لسان ووقفنا فيها مواقف صادقة خالصة لله ولدينه ولهذه الأمة التي كتب الله عليها أن يكون بعض أبنائها وبالًا عليها وعلى دينها وأعوانًا عليها مع الغاصب، وألجأنا الاستعمار مرات إلى إبرازها بعد أن كان حريصًا على إضمارها، وإلى الحديث عنها بعد أن كان الحديث عنها محرّمًا، وإلى نقلها من ميدان إلى ميدان، ومن وراء البحر إلى ما دون البحر، وشغلناه بها عن كثير من مهماته، ونقضنا شبهاته فيها بالحجج والبيّنات وأفادنا الاشتغال بها والاهتمام بالبحث فيها فوائد أقلّها الاطّلاع على الوثائق الأصلية التي أملاها التعصب الديني والحقد الصليبي، وأجلها افتضاح المارقين منّا الذين باعوا جوهر الدين بعرض الدنيا، وظنّ الاستعمار أنه يغالبنا بهم وبأسمائهم وألقابهم فخذله الله بهم وفضح بعضهم ببعض، وحصلنا من ذلك كله على ذخيرة مادية وأخرى معنوية، وسنترك القضية للأعقاب المجاهدين واضحة المعالم كاملة الوثائق، ناطقة بالحق على الأعوان والخوان، وكأن هذا الدور أخير- وما هو بالأخير- ولكنه انفرد بمظاهر هي التصميم والحزم منّا، والعناد والكيد من خصمنا. فقد بالغنا في التحدي فبالغ في التداهي والتحايل فلفّ القضية بلفافتين من الدستور الجزائري والمجلس الجزائري ونقلها ملفوفة بهما من فرنسا إلى الجزائر وحملت المجلس الجزائري على أن يحمل هذا الحل الأخير نَتْنًا ويضعه يَتْنًا. وكان في هذا المجلس كثير ممن اسمه محمد وهو عدو لمحمد ودين محمد، وإننا لنجزم بأن هذا الحل المشوّه موضوع مع الدستور الجزائري في آن واحد، وإنما أخّروه

ليخرجوه إلى الناس باسم مجلس يجمع المذبح والمسبح، ويجمع السيد والعبد والزبد بلا زبد، وفيه جماعة ينطقون بالعين من مخرجها- مع علمنا بالنتائج قبل سوق مقدماتها-. دعانا إلى خوض تلك المعارك وإلى إثارة ذلك النزاع المحتدم، عهد الله في نصرة دينه يجب أن نفي به، وعهد من محمد - صلى الله عليه وسلم - في الجهر بكلمة الحق في وجه من يثقل عليه سماعها، وقد جمجم بها الجبناء من أسلافنا فأضاعوا الحق وبَاءُوا بإثم الإضاعة، والجبناء من معاصرينا فكانوا حجة الباطل علينا ولله الحجة البالغة، وشيءآخر جعلنا نلج في خصومة الاستعمار وهو أنه يعد سكوت الساكت رضى بالمسكوت عليه، فيصبح حقًا مكتسبًا ثلاث مرات: مرة بالقوة التي يملك أسبابها، ومرة بالحيلة التي يفتح أبوابها، ومرة بسكوت أهل الحق على حقّهم. فأردنا أن لا يسجّل التاريخ علينا ما سجّله على الأقدمين من سلفنا من مهانة السكوت بعد الإضاعة أو السكوت الذي سبب الإضاعة، ومن وقاحة الاستعمار أنه يسمّي الحقوق المغتصبة حقوقًا مكتسبة، وقد أفحمناه مرارًا بأن أملاك الدولة المغلوبة قد تصبح بحكم السيف والمدفع أملاكًا مكتسبة للدولة، ما دام السيف سببًا رابعًا من أسباب الميراث، أما أملاك الله التي هي الأوقاف الدينية، وبيوته التي هي المساجد فهي ميراث للدين وأهله لا تغتصب ولا تكتسب، إلا لعدو لله يحاربه كما يحارب المخلوقين ثم يلجّ في طغيانه فيعتقد أنه انتصر عليه. ... أما جمعية العلماء فلم يجدّ عليها جديد وما رأت من نتائج جهادها إلا أنها كشفت الستر عن حقيقة الاستعمار للمغرورين فيه، وجرأت المكافحين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان على الأخذ بتلابيبه حتى لا يستريح ولا يهدأ له بال، وعلى زعزعة أركانه إن لم يقدروا على إتيانها من القواعد. ولا ترى جمعية العلماء إلا أن المسألة ما زالت في النقطة التي منها بدأت وأن هذه الأصباغ الحائلة لم تنقل خطأ إلى صواب ولم تقر حقيقة في نصاب. ولا نقول ربحنا أو خسرنا، فالربح والخسارة من مفردات قاموس التجّار، أما الجهاد الذي غايته تثبيت الحقائق الإلهية في الأرض وغرس البذور الروحية في الوجود فلغته سماوية لا تحمل معاني التراب، متسامية لا تسفّ إلى ما تحت السحاب، وأما المجاهدون في ذلك السبيل، فلا يعدون الربح والخسارة في آرابهم، ولا يدخلون الوقت- طال أم قصر- في حسابهم. ولو كانت فرنسا تتقايض مع الناس بالضمائر والعقول والقيم والمثل والغايات لقلنا إنها - بتصرفها في القضية الإسلامية- خسرت تاريخها ومبادئها ومقوّماتها ودعاويها التي تذيعها في الناس وبضائعها المزوّرة التي تعرضها على العالم، ولكنها لا تتقايض- فيما تكشفت عنه

في العهد الأخير- إلا بالتنمّر للضعفاء والتذلل للأقوياء، والكيد فيما بين ذلك، ووالله لو أنها تركت في قلوبنا مكانًا للشفقة لأشفقنا عليها من هذا التخبّط الذي تعانيه، ومن هذا الإفلاس الذي أصابها في الرأي والرجال حتى أصبح أعداؤها هم الذين يسيرونها، والموثورون لها هم الذين يتحكمون في مصائرها. إن فرنسا اليوم تتحرّك في سياستها معنا بطريقة الاحتراق الداخلي، ووقود ذلك الاحتراق هو الحقد، فهل ينفعها هذا الوقود؟ أم يعود فيحرق المحرِّك والمحرَّك، وهل تحفظ لها الحياة هذه الحركة؟ أم هي ذاهبة بها إلى الزوال؟ الحكم لله العلي الكبير. ... وما ظن الاستعمار بجمعية العلماء؟ أيظن أنها تمل وتكل فتضعف فتستكين؟ لا والله، ولقد خاب ظنّه وطاش سهمه، إنما يكل من كان في ريب من أمره وفي عماية من عمله، أما من كان من أمره على بيّنة ومن عمله على بصيرة، ومن ربه على عهد فهيهات لما يظنّه به الظانون، وان جمعية العلماء لفي موقعها الثابت، وعلى عقيدتها الراسخة، وفي ميدانها الفسيح من الكفاح، ولقد جاهرنا هذه الحكومة مرارًا بأن هذه القضية دينية محضة فلتنفض يدها منها ولتبقِ المجل خالصًا لسياستها معنا ولنا مع سياستها، فأما إذا أبت إلا أن تجعل ديننا جزءًا من سياستها، فسننتقل معها إلى الميدان الذي أرادته واختارته لنفسها ولنا، وسنقود كتائب السياسة في أضيق موالجها جالبة علينا ما جلبت، وسوف تجدنا- إن شاء الله- عند سوء ظنّها، وسوف تجدنا- كما عرفتنا- حيث تكره لا حيث تحب، وسوف نعلمها فقهًا جديدًا وهو أن أرض الجزائر حتى سجونها مساجد لإقامة الصلوات، وأن كل عود فيها حتى المشانق منابر خطبة ومطية خطيب، وأن كل صخرة فيها مئذنة ينبعث منها "الله أكبر"، وسوف يريه بنا أن عاقبة المعتدي على الإسلام وخيمة. 1 - نحن سياسيون منذ خلقنا، لأننا مسلمون منذ نشأنا، وما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره إلا السياسة في أشرف مظاهرها، وما المسلم الصحيح إلا المرشح الإلهي لتسيير دفّتها أو لترجيح كفّتها، فإذا نام النائمون منا حتى سلبت منهم القيادة ثم نزعت منهم السيادة، فنحن- إن شاء الله- كفّارة الذنب، وحبل الطُّنْب. 2 - نحن سياسيون طبعًا وجبلة، ونحن الذين أيقظنا الشعور بهذا الحق الإلهي المسلوب، فما سار سائر في السياسة إلا على هدانا، وما ارتفعت فيها صيحة إلا وكانت صدى مرددًا لصيحاتنا، ولكننا كنّا لا نريد أن نخلط شيئًا كل وسائله حق، بشيء بعض وسائله باطل، وأن نميّز بين ما لا جدال فيه ممّا فيه جدال، وكنّا نريد أن نبدأ بأصل

السياسات كلّها وهو الدين لنبني عليه كل ما يأتي بعده، فنسالم ونحن مسلمون ونخاصم ونحن مسلمون ونصادق أو نعادي ونحن مسلمون، فيكون في إسلامنا ضمان للمعدلة حتى مع خصومنا، فمن كان من أبنائنا في ريب من الحكمة في سلوكنا فلينظر تشدد الاستعمار معنا، وشدة "تمسّكه"، إنه لا يعاديكم فيسرف في العداوة، ويظلمنا فيمعن في الظلم إلا لأنكم مسلمون، ولأن هذا الإسلام منبع قوة تقتل الضعف، ومبعث روحانية تقهر المادة، فهل لكم أن تقابلوا "تمسّكه" بالمعنى الذي يريده، بتمسّك من جهتكم بالمعنى الذي يريده الله؟ 3 - نحن سياسيون لأن ديننا يعد السياسة جزءًا من العقيدة، ولأن زمننا يعتبر السياسة هي الحياة، ولأنها آية البطولة، ولأن وضعها يصير السياسة ألزم للحياة من الماء والهواء، ولأن السياسة نوع من الجهاد ونحن مجاهدون بالطبيعة فنحن سياسيون بالطبيعة، ولأن الاستعمار الفرنسي بظلمه وعسفه لم يغرس في الجزائر إلا ثمرتين: بغض كل جزائري لفرنسا حتى الأطفال، وصيرورة كل جزائري سياسيًا حتى الأئمة. ليت الاستعمار يأخذ من هذه الصراحة ما يغريه بزيادة التشدّد ظنًا منه أنه يشغلنا بجانب عن جانب ويلهينا بديننا عن دنيانا، حتى يعلم أننا أصبحنا- والفضل له- لا يلهينا شيء عن شيء، وأننا إذا لم نستطع شيئًا استطعنا أشياء، وأننا إذا لم نستطع أن نكون عطشًا لخصمنا كنا كدرًا في الماء، وأننا إذا حرمنا قمح الأرض زرعناها أشواكًا، وأنه لم يبقَ قلب في الجزائر يتّسع لذرة من حب فرنسا، أو يتّسع لخيط أمل فيها، وليعلم أخيرًا أن الله للظالمين بالمرصاد. ... إن كانت مهزلة المجلس الجزائري وقراراته في قضيتنا هي نهاية البداية في ظنّه، فإنها بداية النهاية في يقيننا، وان درسها الأول كلمتان: شحذ الرأي وتصميمه ومواصلة الكفاح وتعميمه ... إن الاستعمار الفرنسي استعمار صليبي بنى أمره من أول يوم على ابتلاع الأوقاف الإسلامية ليجرّد الإسلام من السلاح المادي فيتسلّط على معابده ورجاله ويقودهم بزمام الحاجة إلى حيث يريد، ولولا فهمنا لهذه الحقائق لما تشددنا كل هذا التشدّد في قضية الأوقاف.

المرأة المسلمة في الجزائر

المرأة المسلمة في الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان المسلمون، أيتها الأخوات المسلمات: مواضيع الحديث عن المسلمين كثيرة لأن أمراضهم كثيرة، ومن قضى الله عليه بأن يتحدث في شؤون المسلمين اليوم أو يكتب عنهم، فقد ساق له نوعًا من الغنى لا يعرفه الناس ولا تعرفه القواميس، أما الناس فإنهم يعدّونه غنى خير منه الافلاس، أما القواميس فإنها لا تعرف من الغنى إلّا ما عرفته العرب، والعرب- وإن اتسعت لغتهم وتشقّقت ألفاظها عن بحر زاخر من المعاني- لم يكونوا مسلمين، وإنما كانوا مسوقين بفطرة الله في أول أمرهم، وبهداية الدين في آخره، وكانوا مخلصين للإثنين كل في دولته، كانوا مشركين فوحّدوا، ومشتّتين فاتحدوا، وكانوا رعاء غنم فأصبحوا رعاة أمم، وكانوا مجدبين فأمرعوا، ومدلجين فأصبحوا، وكانوا شجعانًا فثبّت الإسلام فيهم الشجاعة، وأجوادًا فحثّهم الإسلام على السماحة، وتمّم بنبيّه مكارم الأخلاق فيهم، فرجعت خيالاتهم إلى الحقيقة. أما المسلمون اليوم فليسوا من ذلك في شيء، بل ليسوا من معنى الأمة في شيء إلّا بضرب من التجوز والتساهل، هم جسد يثبت وجود الواسطة بين الموت والحياة كما أثبتها القرآن لأهل جهنّم، هم جسد بعض أجزائه أشل معطل، وبعضه مصاب بعاهة تمنعه العمل فهو كالأشل المعطل، وبعضه مستعمل في غير ما خُلق له فهو كالكلمة المحرفة عن وضعها في اللفظ أو المنحرفة عن موضعها في الجملة، فهي لا تحدث إلّا التشويش والالتباس وفساد المعنى. لذلك كثرت المواضيع أمام المتحدث عليهم أو الكاتب عنهم وتعدّدت إلى غير حدّ، وتكاثرت عليه الضباب حتى لا يدري ما يصيد، ولا يدري بأيها يبدأ ولا بأيها يختم، وهو

_ * من محاضرة عن "المرأة" أُلقيت في "جمعية الشبّان المسلمين" عام 1953م.

لذلك كله لا يطمع في ضبط ولا إحاطة إلّا كما يطمع الغريق في بحر جياش القوارب في الدنو من الساحل. المرأة المسلمة موضوع ذو شعب: جهلها، تربيتها، تعليمها، حجابها، وظيفتها في البيت، والرجل المسلم موضوع أكثر تشعبًا، والشاب المسلم موضوع، والطفل كذلك، والعرب موضوع والعجم موضوع، والمغرب موضوع والمشرق موضوع، والغني موضوع والفقير موضوع، والملوك موضوع، والسوق موضوع، ونسبة الجميع إلى الإسلام هي موضوع المواضيع، وهنالك تتشعّب المذاهب كتشعّب المذاهب، وتنطمس المسالك على السالك، والأمراض إذا كثرت ولدت الضُّعف، وولد الضعف أمراضًا أخرى. وإن مما زاد المواضيع كثرة وتوعّرًا على المتكلم في شؤون المسلمين هذا التفاوت الفاحش بين أطراف الشعب الواحد منهم، فتجد الغني الواسع الغنى والفقير الواسع الفقر وتجد المثقف الواسع الثقافة يقابله الأميّ الجاهل بما تحت مواقع سمعه وبصره، وإن أمم هذا الزمان قد تقاربت خصوصًا في باب الثقافة فنجد جميع الأفراد مشتركين في القراءة والكتابة وفي البدائيات من المعارف العامة، فإذا قفز منهم أفراد إلى ذروة العلم بقي الحبل متصلًا بينهم بمبادئ العلم والمعرفة، خلافًا لما عندنا فإن الحبال مقطوعة بين الطبقات، ولذلك نجد الموضوعات عندهم قليلة ومحصورة، فإذا تحدث المتحدث أو كتب الكاتب فإنما يتحدث أو يكتب عن شيء مضبوط محدود أو عن شيء ناقص يفتقر إلى الكمال. هم لا يتحدثون عن الحرية لأنها حاصلة، ولا عن التعليم لأنه مضمون، ولا عن العمل لأنه مكفول، ولا يتحدثون كثيرًا- إلى ما قبل سنوات- عن الطبقات لأنها متقاربة ولها حدود تقف عندها، ولا عن المرأة لأنها استقرّت في الموضع الذي حدّدته لها حضارتهم. أيها الإخوان: أهمّ الموضوعات- وإن كثرت وتشعبت- ما يتعلق بالأحياء الناطقين، بل هي أصل الموضوعات كلها، وعليها يتوقف كل شيء، وعلى إصلاحها يتوقف كل إصلاح، وإن لهؤلاء الأحياء حدودًا رسمتها الطبيعة والواقع، فمَن تحدث عنها فهو مُتحدث عن أصل الخير والسعادة، أو عن أصل البلاء والشقاء، فالواجب على خطبائنا وشعرائنا وكتّابنا أن يديروا الألسنة والأقلام في هذا المدار الضيّق، وليناولوه بالتحقيق وليعالجوه بالإصلاح، وإن أركانه لأربعة فلا يزيدون الخامس ولا ينقص الرابع: هي الرجل والمرأة والشاب والطفل. كانت المرأة المسلمة في الجزائر إلى عهد قريب، لا يجاوز أربعين سنة، محرومة من كل ما يسمّى تعليمًا إلّا شيئًا من القرآن يؤدي إلى معرفة القراءة والكتابة البسيطة، وهذا النوع على تفاهته خاص ببعض بيوت العلم، ولا يجاوزون بالبنت فيه الثانية عشرة من عمرها.

هذه هي الحالة السائدة في الجزائر منذ قرون وتشاركها فيها جميع الأقطار الإسلامية على تفاوت بسيط بينها، والسبب في هذه الحالة نزعة قديمة خاطئة راجت بين المسلمين وهي أن تعليم البنت مفسدة لها، ويلوك أصحاب هذه النزعة آثارًا مقطوعة الأسانيد، مخالفة لمقاصد الشريعة العامة وتربية محمد - صلى الله عليه وسلم - العملية لنسائه ونساء المسلمين العالمات، ثم يؤيّدون تلك الآثار الضعيفة الإسناد بأقوال الشعراء الذين يستمدّون شعورهم من شريعة العواطف المتباينة، لا من شريعة الله الجامعة، ومتى كان الشعراء مصدر فتوى في الدين؟ هذه هي علة العلل في الحالة التي أفضت بالمرأة المسلمة إلى هذه الدرجة التي ما زالت عقابيلها سارية في المجتمع الإسلامي، وما زالت لطخة عار فيه، وان المرأة إذا تعطلت عطّلت الرجل وإذا تأخرت أخّرته، ولا سبب لانحطاط المرأة عندنا إلا هذا الضلال الذي شوّه الدين وقضى على المرأة بالخمول فقضت على الرجل بالفشل، وكانت نكبة على المسلمين. وما المرأة المسلمة الجزائرية إلا جزءًا من المجموعة الإسلامية. بعد تلك السنوات التي جعلناها حدًا لقديم المرأة الجزائرية، جاء طورها الجديد ويبدأ من نحو أربعين سنة، وقد يستقيم للباحث أن يسمّيه الفجر الكاذب ليوم تعليم المرأة المسلمة الجزائرية، ويصدق هذه التسمية أمران، الأول: أنه بدأ بتعلّم اللغة الفرنسية وهي لغة ليست من روحها ولا من تقاليدها، واللغة الأجنبية إن حسنت فإنما تحسن بعد اللغة المتصلة بالروح والتاريخ والمقوّمات الأصيلة فهي بالنسبة للجزائرية ربح، أما رأس المال فهو اللغة العربية، والثاني: أنها بدأت في المدن الحديثة الحضارة، ونعني المدن التي عمرت في عهد الاستعمار الفرنسي مثل سكيكدة وسطيف وسيدي أبي العبّاس. ونقصد بكونها حديثة الحضارة أن عمارها طارئون وليست فيها بيوتات عريقة تمثّل حضارتها الإسلامية وتحفظ تاريخها العلمي. ثم سرى هذا التعليم الفرنسي بعد سنوات قليلة إلى المدن التاريخية ذات التقاليد الموروثة والماضي العلمي العتيد، وهي تلمسان وبجاية وقسنطينة والجزائر وما هو من نوعها، وانساق أولياء الفتيات المسلمات إلى هذا التعليم الأجنبي انسياقا غريبًا بعد أن كانوا معرضين عنه بضع سنوات حتى إنك لتجد للواحد منهم بنتًا كبيرة حرمها من هذا التعليم وفوّته عليها ثم سمح به طائعًا مختارًا لأختها الصغيرة أو لأخواتها الصغيرات، وما تغيّر الشخص ولكن تغيّرت فكرته وشعوره، وليس هذا من أثر الدعاية للتعليم الفرنسي، فإن الدعاية قديمة العهد وأبو البنت هو أبو الولد، وقد سمح لولده بالتعليم الفرنسي قبل سماحه لبنته بعشرات السنين، وقد رأى في ولده حسنات هذا التعليم وسيئاته، وإنما السبب الأول لهذا الإقبال على تعليم البنت باللغة الفرنسية هو تقليد من أغرب أنواع التقليد (يصح أن نسمّيه تقليد المنافسة) وغرابته أنه تقليد من الأعلى للأدون، وهو في موضوعنا تقليد الحضري العريق للمتحضر الجديد، ومن أمثلته تقليد الغني الأصيل لغني

الحرب، فهو منافسة في صورة تقليد، ومن أمثلته البارزة شعور بعض المسيحيين في الشرق بضرورة وطن قومي مسيحي، فإن هذه الفكرة ما نبتت إلا بعد وجود الوطن القومي اليهودي، والمسيحي أعز من اليهودي نفرًا وأكثر نفيرًا. إذن فإقدام البنت المسلمة على العلم باللغة الفرنسية بدأ من العهد الذي حدّدناه تقريبًا، ونرجّح أن لإقبالها على هذا النوع من التعليم المخالف لبيئتها وتقاليدها سببًا آخر ظاهريًا غير ما ذكرنا من تقليد المنافسة، وهو أنه لا يوجد إذ ذاك تعليم رسمي ولا حر باللغة العربية يسبق هذا التعليم، ولا تنسَ أن للتطوّر الفكري أثره في هذه المسألة. فلننظر الآن ماذا أتى به هذا التعليم من النتائج في أمة تبلغ عشرة ملايين أو تزيد، ونصف هذه الملايين نساء. إنه لم يأتِ بنتيجة تذكر، لأن معظم المتتبعات لهذا التعليم يقفن عند حد الشهادة الابتدائية ثم يلزمن بيوتهن، وفي الغالب يقبلن على الحرَف النسوية اليدوية وقليلات منهن ينتقلن إلى التعليم الثانوي، وأقلّ من القليل يجاوزنه إلى العالي. وكانت النتيجة إلى هذا العهد أن بضعة آلاف لا تجاوز جمع القلة من البنات المسلمات يحملن الشهادة الابتدائية الفرنسية، وعشرات يحملن شهادة الكفاءة للتعليم فهن معلّمات في المدارس الابتدائية الحكومية وعدد قليل منهن- فيما بلغت إليه تحرياتنا- يحملن ليسانس الآداب وإحداهن أستاذة في مدرسة ثانوية هي شريفة قزّال، وتوجد بالجزائر كلها دكتورة واحدة ممتازة في الطب هي علجية نور الدين ولها عيادة ناجحة في عاصمة الجزائر، واثنتان- فيما علمنا- صيدليتان، وواحدة محصلة على شهادة التبريز في الآداب الفرنسية (اقريقاسيون) بأطروحة قدمتها عن الغزالي وهي حليمة بن عابد، وهي الآن تعمل في الرباط أستاذة، والصنف الوحيد من أصناف العلم الذي كثرت حاملات شهادته من الجزائريات هو القبالة. فالقوابل المسلمات كثرن في العهد الأخير ولعلهن جاوزن المئة، وهذا النوع يرضى عنه حتى المحافظون لحاجتهم إليه ولعلاقته بالنساء والبيوت، فهم أكثر اطمئنانًا إليه دون غيره، ولعلّ هذا هو السبب في كثرة القوابل المسلمات وأعان على هذا الميل العام للتطبيب الفنّي. ليست البنت الجزائرية مدفوعة عن الذكاء بل الأمر بالعكس، فقد شهد لها الرجال القائمون على التعليم الفرنسي بالذكاء الخارق، ولكن الذي أخّرها عن السبق عوامل اجتماعية ودينية ما زال لها شأن عظيم في المجتمع الجزائري. هذا هو ما سمّيناه بالفجر الكاذب لتعليم المرأة الجزائرية، وقد أتى رغم ذلك هذه النتائج الطفيفة، ويقيننا أنه يأتي بنتائجه الكاملة بعد أن جاء الفجر الصادق.

أما الفجر الصادق لتعليم الفتاة الجزائرية فهو يبتدئ من سنة 1931، أي منذ اثنتين وعشرين سنة يوم تكوّنت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لإحياء العروبة والإسلام بالقطر الجزائري ومغالبة الاستعمار عليهما، وخطت خطواتها المشكورة في التعليم العربي الإسلامي على نظم عصرية، وكانت خطوتها الأولى تحبيب العلم إلى الجماهير بواسطة الدروس الدينية والمحاضرات الاجتماعية ليساعدهم الجمهور على الغاية المقصودة وهي تعليم الناشئة وإحياء الدين في نفوسها والعربية في ألسنتها، وحارب الاستعمار رجالها فصمدوا له حتى قهروه ولهم اليوم نحو مئة وخمسون مدرسة عربية حرة تحتوي على نحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات، ولهم معهد ثانوي يحتوي على ألف وخمسمئة تلميذ، وقد رأينا نتاجه في القاهرة فرأينا آثار الحزم والجرأة والإخلاص. ...

إلى الشباب

إلى الشباب * أوجّه طلائع الحديث في هذه الليلة إلى الشباب الذين هم الساف الجديد في بناء الأمة، والدم المجدّد لحياتها، والامتداد الطبيعي لتاريخها، وهم الحلقات المحققة لمعنى الخلود الذي ينشده كل حيّ عاقل ويتمناه حتى إذا فاته في نفسه التمسه في نسله، وقربت له الأماني معنى من معنى، فتعلّل بالخيال عن الحقيقة، وتسلّى بشبه الشيء عن الشيء، ودأب جاهدًا في تدنيته وتوفير الراحة والهناء والسعادة له، ويعلّل نفسه بأنه سيرث اسمه وماله وهو لا يعلم أنه سيموت اسمه ويُبدّد ماله، وما زالت التعلات صارفة عن اليأس منذ طبع الله الطباع. وأقول: الشباب. ولستُ أعني بهذا اللفظ معناه المصدري في عرف اللغة، ولا ذلك الطور الثالث من عمر هذا الصنف البشري في مقاييس الأعمار، وإنما أعني بهذا اللفظ طائفة من الأناسي انتهوا في الحياة إلى ذلك الطور الثالث بعد الطفولة واليفاعة، فجمعتهم اللغة على شبيبة وشبّان، ووصفتهم بالمعنى في نحو لطيف من أنحائها فقالت: شباب وشبيبة، كما وصف القرآن محمّدًا بأنه رحمة، وكما وصفت الخنساء الظبية بأنها إقبال وإدبار، ثم جمعتهم سنّة التكامل على القوة والفتوة، وجمعهم اتحاد السنّ أو تقاربه على التعاطف والأخوّة، وجمعهم الدين على التكاليف والواجبات، ووقفت بهم الحياة على جددها، تعرض عليهم السعادة في صور ملتبسة بالشقاء، والشقاء في صور ملتبسة بالسعادة، واكتنفتهم الملائكة والشياطين، أولائك يدعونهم إلى الجنّة محفوفةً بالمكاره، مسوقة بالصبر والألم، وهؤلاء يدعونهم إلى النار ملفوفة بالشهوات، مسوقةً بالإغراء والتزويق والتزيين- ووقفنا نحن معاشر الآباء من ورائهم، نتمنّى لهم ونتجنّى عليهم، ونقترف في حقهم ولا نعترف بظلمنا إياهم، ونُرخي في تربيتهم أو نشدّد، ولكننا لا نقارب ولا نسدّد، ونعطيهم من

_ * محاضرة ألقاها الإمام في أحد أندية الشباب بالقاهرة.

أفعالنا ما نمنعهم منه بأقوالنا: ننهاهم عن الكذب ونكذب أمامهم الكذب الحريت، وننهاهم عن الرذائل جملة وتفصيلًا، ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه، فيأخذون الرذيلة عنا بالقدوة والتأسّي، ويحتقروننا لأننا قبحنا لهم الكذب بالقول ثم أشهدناهم بالعمل على أننا كاذبون. إلى هؤلاء الشباب الوارثين لحسناتنا وسيآتنا، المهيئين لخيرنا وشرنا، الحاملين لخصائصنا وألواننا إلى مَن بعدهم من أبنائهم، المتبرمين هنا بحالة هم مقدمون عليها كرهًا، فقد كنا مثلهم شبابًا وسيصبحون مثلنا شيوخًا، وسيلقون من أبنائهم ما لقينا نحن منهم، وسيلقى منهم أبناؤهم ما لقوه هم منّا، جزاءً وفاقًا وقصاصًا عدلًا، وسنّة أجراها الواحد القهّار، وجرى بها الفلك الدوار- إلى هذا الجيل الذي عودتنا الحياة المدبِرة أن نشفق عليه، وعوّدته الحياة المقبِلة أن يشفق منا، أتوجه وإياه أعني وإليه أسوق الحديث، داعيًا له بما دعا له شوقي في قوله: إن أسأنا لكم أو لم نُسئ … نحن هلكى فلكم طول البقاء متمنيًا له ما تمنّاه له شوقي في قوله: هل يمدّ الله لي العيشَ، عَسَى … أن أراكم في الفريق السعداء لا أخالف شوقي إلّا في التخصيص فقد خاطب بهذا شباب النيل، وأنا أهتف بشباب العرب، وبشباب الإسلام، أهتِفُ بشباب العرب أن يرعوا حق العروبة وأن يكونوا أوفياء لها، وأن يعلموا أنها ليست جنسية تميز، ولا نسبة تعرف، وأنها ليست جلدة تسمّر أو تحمّر، ولا بلدة تعمر وتقفر، وأنها ليست جزيرة يحيط بها البحر ولا قلادة تحيط بالنحر، وأنها ليست متاعًا ممّا يرث الوارثون، ولا أرضًا مما يحرث الحارثون، وإنما هي خلال وخصال، وهمم تتشقّق عن فعال، وإنما هي بناء مآثر، وتشييد أمجاد ومحامد، وإنما هي مساع من الكرام إلى المكارم، ودواع من العظماء إلى العظائم، وإنما هي عزائم، لا تعرف الهزائم، وإنما هي عزّة وكرامة، وشدّة في الحفاظ وصرامة، وإنما هي طموح وجموح: طموح إلى منازل العزّ وجموح عن مواطن الذلّ، وإنما هي رجولة وبطولة، وأصالة وفحولة، وإنما هي طبع أصيل ورأي جليل، ولسان بالبيان بليل، وعقل على الحكمة دليل، فمجموع هؤلاء هو العروبة، وجامع هؤلاء هو العربي، وما عداه فهو تعللّ بباطل، وتعلق بضلال، وتخلق يكذبه الخلق، وخيانة للعروبة في اسمها وفي وسمها، وعقوق للأجداد، كأنما عناهم المعزي بقوله: جَمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهُمْ … بَعْد المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ ثم أهتف بشباب الإسلام ليعلموا أن الإسلام ليس لفظًا تلوكه الألسنة المنفصلة عن القلوب، وتتناوله قوانين التعريف بموازينها الحرفية، وتقلّبه اشتقاقات اللغة على معانيها

الوضعية فينزل به إلى المعاني الوضيعة من السلم إلى الاستسلام ... إلّا أن في الإسلام الشرعي نوعًا من معنى الإسلام اللغوي، ولكنه أرفع تلك المعاني وأعلاها، هو معنى تتقطع دونه الأفهام والأوهام، معنى لو طاف طائفه بعقول العرب أهل اللغة قبل الإسلام لَرفع هممهم عن عبادة الشجر والحجر، ولَسَما بهم حينما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الجدل بالباطل ليدحضوا به الحق: هو إسلام الوجه لله عنوانًا لإسلام القوى الباطنة له، هو المعنى الذي خالطت بشاشته قلب نبي التوحيد إبراهيم فقال: أسلمتُ وجهي، وتذوقته بلقيس حين هداها الله فقالت: وأسلمت، ألا وإن في الاستسلام نوعًا من المعاني لم يتخيله وضع ولا عرف، ولم يتداوله نقل ولا استعمال حتى جاء محمد بالهدى ودين الحق، ونقل اللغة من طور إلى طور، هو استسلام الجوارح- وسلطانها القلب- لله ولعظمته وقدرته وعلمه حتى توحّده وحده، وتعبده وحده، وتدعوه في النائبات وحده، وتنيب إليه وحده، وتذعن إلى سلطانه وحده، وتخشاه وحده، فتستقل عن الأغيار بقدر ذلك الاستسلام إليه، وتتحرّر بقدر العبودية له، وتتوحّد قواها بقدر إفراده بالألوهية، وتعتزّ بقدر التذلّل لعظموته، وتنجح في الحياة بقدر اتباعها لسننه، وتصفو من الكدرات الحيوانية بقدر اتّصالها به، وتتزكى سرائرها بقدر إيمانها به، وتبعد عن الشرور والآثام بقدر قربها منه، ثم تسود الكائنات بأمره، وتخضع الكون لسلطانها بسلطانه، وتكشف أسرار الوجود بصدق التأمّل في آياته والتفكر في بدائع ملكوته. هذه بعض معاني هذا الدين العظيم دين الله السماوي الذي بلّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - وفسّره بأقواله وشرحه بأفعاله، ووسعته لغة العرب، وحمله إلينا الأمناء الهداة، وعصمه القرآن آية الله الكبرى ومعجزة الدهر الخالدة وكتاب الكون الأبدي، وكنز الحكمة المعروض على العقول والأفكار وعلى الأسماع والأنظار لتأخذ منه كل جارحة حظها من الغذاء. أيها الشباب: شاع بين الناس مبدأ فطري توارد عليه المحدثون والقدماء، ونصره الحس، وهو أن الكبير قريب من الموت يغذّ إليه السير مكرهًا كمختار وعجلان كمتريث، ومن ثم فهو قريب من الله، والقرب من الله مدعاة عند العاقل المتأله إلى الاستعداد لِلقائه، والتزوّد للدار الآخرة بأهبها وليوم الفاقة العظمى بالأعمال الصالحة، وقد قال شاعر حكيم يصوّر هذا القرب: وإن امرءًا قد سار خمسين حجّة … إلى منهل من وِرْدِهِ لَقَرِيبُ تواضعوا على هذا وأكثروا فيه القول، وأداروا عليه النصائح والمواعظ للجماعات المتدينة، يزجونها للشيوخ المسرعين إلى الموت، الذين طووا المراحل ودنوا من الساحل- حتى أوهموا الشبّان أن الشباب عصمة لهم من الموت، وأنتج لهم القياس الفاسد أنهم بعيدون عن الله، ولا يبعد في نظر المتوسم في غرائب النفوس أن يكون تخصيص الشيوخ

الهرمين بتلك المواعظ بعض السبب في اغترار الشبّان وانهماكهم في الشهوات واسترسالهم مع النزوات، وبعض السبب في إبعادهم عن الله مضافًا إلى جنون الشباب وسلطان الهوى وتنبه الغرائز الحيوانية. وأنا أرى أن الشبّان أحق الناس بذلك الوعظ وبالتوجيه إلى الله والتقريب منه، وبالتعهّد المنظّم والحراسة اليقظة حتى تكون أقوى الملكات التي تتربّى فيهم ملكة الخوف من الله، في وقت قابلية الملكات للثبوت والاستقرار في النفوس، وفي وقت تنازع الخير والشرّ للنفوس الجديدة، وإنها لكبيرة أن ينشّأ الشاب على الخير والاتصال بالله من الصغر، ولكن جزاءها عند الله أكبر، لما يصحبها من مغالبة للهوى في لجاجه وطغيانه، ومجاهدةٍ للغريزة في عنفوانها وسلطانها، ولهذا السرّ عدّ - صلى الله عليه وسلم - الشاب الذي ينشأ في طاعة الله أحد السبعة الذين يظلّلهم الله بظلّه يوم لا ظلَّ إلّا ظلّه، وعدّ الشيخ الزاني أحد الثلاثة الذين يلعنهم الله واللاعنون من عباده، لأن المعصية من مثله خالصة لوجه الشيطان لم تصحبها داعية ولم يخفّفها عذر، ولم تسبقها مغالبة ولا جهاد. أيها الشباب: ساءَ مَثَلًا من أوهمكم أن بينكم وبين الموت فسحة وإمهالًا، لقد علمتم أن الموت لا يخاف الصغير ولا يعاف الكبير، وأسوأ منه نظرًا من توهّم أنكم لذلك أبعد عن الله من حيث المعاد، فإنكم أقرب إلى الله من حيث المبدأ، وان أثر يد الله فيكم لَأظهر، وان المسحة الإلاهية على شبابكم لأوضح، وان أغصانكمِ الغضّة المورقة لمطلولة بانداء السماء وقد وخزتها خضرته من كل جانب، وان نفحات الله لتشمّ من أعطافكم وشمائلكم، فلئن كنا قريبًا من لقاء الله بالموت فلَأنتم أقرب إليه بالحياة، ولئن صحبكم الاتصال به في جميع المراحل فيا بشراكم، ولئن كنا نقبل عليه كارهين متَسَخِّطين على الموت، فأنتم مقبلون من عنده فرحين بالحياة مستبشرين، فصلوا حبلكم بحبله واحفظوا عهده، وحذار أن تقطعكم عنه القواطع. أيها الشباب: إن الشباب نسب بينكم ورحم وجامعة، ولا مؤثِّر في الشباب إلّا الشباب، فليكن بعضكم لبعض إمامًا، وئيعلّم المهتدون الضُلّال. دينكم- أيها الشباب- لا يفتننكم عنه ناعق بإلحاد، ولا ناع بتنقّص. وربّكم- أيها الشباب- لا يقطعنكم عنه خنّاس من الجنّة والناس. وكتاب ربّكم- أيها الشباب- هو البرهان والنور، وهو الفَلَج والظهور، وهو الحجّة البالغة، والآية الدامغة، فلا يزهّدنكم فيه زنديق يؤول وجاهل يعطل ومستشرق خبيث الدخلة، يتخذه عضين، ليفتن الغافلين، ويلبّس على المستضعفين.

إن دينكم شوّهتْه الأضاليل، وإن سيرة نبيّكم غمرتها الأباطيل، وإن كتابكم ضيّعته التآويل، فهل لكم يا شباب الإسلام أن تمحوا بأيديكم الطاهرة الزيف والزيغ عنها، وتكتبوهُ في نفوس الناس جديدًا كما نزل وكما فهمه أصحاب رسول الله عن رسول الله، إنكم قد اهتديتم إلى سواء الصراط فاهدوا إلى سواء الصراط، إنكم لو عبدتم الله الليل والنهار لكان خيرًا من ذلك كله عند الله وأقرب زلفى إليه أن تجاهدوا في سبيله بهداية خلقه إليه. إن تلك الفئة القليلة من أصحاب محمد ما فتحوا الكون بقوة العَدد والعُدد ولكن بقوة الروح، فانفخوا في هذه الأرواح الضعيفة التي أضعفها الضلال عن طريق الحق تنقلب نارًا متأججة. حيّاكم الله وأحياكم وأبقاكم للإسلام تذودون عن حياضه وترودون في رياضه، وللغة العرب تصلون أسبابها، وتردون عليها نضرتها وشبابها، ولمواطن الإسلام تصونون عرضها وتردون قرضها، وتحفظون سماءها وأرضها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تكريم الأستاذ مسعود الجلالي

تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي * تقديم: أقام مكتب جمعية العلماء بالقاهرة حفلة شاي للأخ الأستاذ مسعود الجلّالي بمناسبة نيله للشهادة العالية من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، وقد حضرها جمع حافل من الشخصيات الإسلامية الكبرى نذكر منهم حضرات السادة: الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، وأحمد حلمي باشا، وعلي المؤيد سفير اليمن بالقاهرة، ونجيب الراوي سفير العراق بالقاهرة، والدكتور منصور فهمي، ومحمد أمين بوغرا حاكم التركستان الشرقية سابقًا، والأستاذ محي الدين القليبي، والأستاذ صالح عشماوي وغيرهم. وكان في استقبال الضيوف الكرام سماحة الشيخ البشير الإبراهيمي والأستاذ الفضيل الورتلاني وطلاب البعثات العلمية لجمعية العلماء بمصر والشرق العربي، وقد كانت فرصة سعيدة جمعتْ بين بعثات جمعية العلماء بمصر وسوريا والكويت بمناسبة مرور الأخيرتين بمصر في طريقهما إلى معاهد سوريا والكويت العلمية، فالتقى فيها شباب آمن بالله، ثم بحياة أمته وتحرير وطنه من كل نير واستعباد، فهاجر يبغي العلم ويطلب الحكمة، وكله غيرة وحماس وتطلع إلى مستقبل سعيد لأمته ووطنه العزيز، وفّقه الله وحقّق آماله. ولما اكتمل عقد الحاضرين وقف سماحة الشيخ البشير الإبراهيمي فألقى خطابًا رائعًا حيّا فيه الضيوف الحاضرين حسب اقتراح سماحة الشيخ، وبعدئذ تطرق الشيخ في الكلام إلى الجزائر فأبان كيف عمل الاستعمار منذ وطئت قدماه أرض الجزائر على محو الشخصية الإسلامية والقضاء على اللغة العربية فيها وأنه بذل أقصى ما يستطيع بذله في هذا الميدان من فرض القوانين الجائرة، وتحريم التعليم باللغة العربية، والاستيلاء على الأوقاف الإسلامية، وتحويل المساجد والمدارس إلى كنائس نصرانية، وتشجيع البعثات التبشيرية ومدّها بالعون المادي والأدبي، مستغلة في ذلك حالة الفقر واليتم والترمل التي تركتها الحروب الطويلة التي خاضها المجاهدون الجزائريون ذودًا عن بلادهم ودفاعًا عن كرامة دينهم وقوميتهم، أمام المستعمر الغاصب، ثم ضربه أخيرًا نطاقًا حديديًا بين الجزائر وشقيقاتها في الشرق حتى لا يعرفوا ما يجري فيها وما يدبره الاستعمار من دسائس ومكائد للإسلام والعروبة حتى يسهل عليه تحطيم كل قواها المعنوية والأدبية بعد ذلك. ت. ر. ع.

_ * «البصائر»، العدد 249، 4 ديسمبر 1953م.

ثم قال: أيها السادة: كانت هذه الأعمال الفظيعة التي صبّها الاستعمار على الجزائر حافزة لنا على مضاعفة العمل، ودافعة لطائفة من العلماء الغيورين على أن يقاوموها بكل ما يستطيعون من قوّة مهما كلفهم ذلك من تضحيات وجهود حتى لا يتركوا للمستعمر أية فرصة ينفذ فيها أغراضه المنكرة للقضاء على شخصية الأمة ومقوماتها- لا قدّر الله-، ويتضح هذا جيدًا في خطاب ألقاه أحد الخطباء في احتفال كبير أقامته فرنسا بمناسبة اكتمال قرن من الزمان لاحتلالها للجزائر، قال بعد أن عدد عظمة فرنسا وقوة جيشها الحربية في ذلك الحين: إننا أيها السادة لم نقم هذا الحفل في الواقع لأجل مرور قرن كامل لاحتلالنا للجزائر فحسب، لأن مائة سنة لا قيمة لها في عمر الأمم، فقد بقي الرومان في هذه البلاد عدّة قرون ثم ذهبوا، وبقي العرب في إسبانيا سبعة قرون ثم ذهبوا أيضًا، ولكننا أقمنا هذا الاحتفال لتشييع جنازة الإسلام في الجزائر، فكانت هذه الكلمة من فم هذا المستعمر الباغي كشعلة من النار في أنفس الوطنيين الأحرار، ألهبت فيهم الحماس ودفعتهم إلى توحيد الصفوف وتكتيل الجهود وتنظيم الأعمال لما يجب أن يعمل، ثم كانت لنا أخيرًا بمثابة النذير القوي لما يراد بالإسلام والعروبة في بلادنا العزيزة إن لم نقابل أعمال المستعمرين ومكرهم بأعمال إيجابية وطنية تحبط كل ما يبيّتون من نيات سيئة لهذا الوطن الإسلامي العزيز، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. فاجتمعت القلوب، وتجاوبت الأرواح، وتلاقت العواطف كلها على العمل والفداء والتضحية، وفي هذا الجوّ - أيها السادة- تكونت جمعية العلماء وبرزت للوجود لتحمل الراية، وتنشر لواء الكفاح الإسلامي بين المواطنين، ثم لِتَقِفَ حجر عثرة في طريق المستعمر، فتكون شجى في حلقه وغصّة في نفسه، وحارسًا قويًا على إسلام الجزائر وعروبتها وتاريخها المجيد من كل سوء وكل مكروه، وعلى ضوء هذا الاتجاه من الاستعمار في محاربة الإسلام في الجزائر، اتجهت أعمال جمعية العلماء إلى تقوية الإسلام في النفوس، وغرسه في القلوب، وطبع حياة الأمة كلها بطابعه، ونشر اللغة العربية بين مختلف طبقات الشعب، وبذلك أحبطنا ما كان يبنيه المستعمرون من آمال في كل من تشييع جنازة الإسلام وقبر اللغة العربية في الجزائر- لا قدّر الله- {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ائكَافِرُونَ}. وقد أصبحت للجمعية الآن عشرات المدارس والنوادي ومراكز الوعظ والإرشاد في كل أنحاء الجزائر، كما أنَّ شُعَبَ الجمعية منتشرة في كامل القطر، وهي تقوم بمهمتها الإسلامية الوطنية بهمّة ونشاط، وللجمعية معهد ثانوي يضم بين جنباته الآن قرابة الألف طالب، يضارع أرقى المعاهد الثانوية المصرية، ومنه ترسل الجمعية بعثاتها إلى الشرق العربي، وإنّ

إقبال الأمّة على بناء هذه المدارس الضخمة- أيها السادة- التي لا تقوم بها إلّا الحكومات، ليس معناه دليلًا على غنائها وسعة ثرائها لأنّ فرنسا لم تترك سبيلًا إلى إفقارها وسلب ثروتها منها إلا سلكته، ولكنه دليل على قوة إيمان هذه الأمّة وصلابة عقيدتها في الله وعظمة روحها المعنوية مما جعل كل المحاولات الاستعمارية الظالمة تتحطم على صخرة إيمانها العتيد، وتبوء بالتالي بالفشل الذريع.

القدس وعمان ودمشق وبغداد ومصر

القدس وعمّان ودمشق وبغداد ومصر (من ديسمبر 1953 إلى أكتوبر 1954) ــــــــــــــــــــــــــــــ

رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي

رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي * الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يوجّه التعليم في خدمة العروبة والإسلام في الجزائر ــــــــــــــــــــــــــــــ كان العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين من كبار المجاهدين الذين عملوا على حماية العروبة والإسلام في الجزائر، وكان له الفضل في تعريف المشرق العربي بكفاح الجزائر من أجل الحرية والاستقلال. كان لي شرف التعرّف عليه لأول مرة في باريس سنة 1951 حيث اجتمعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد وجدت فيه آنذاك ينبوعًا فيّاضًا من ينابيع العلم والإيمان وكان يترجم علمه وإيمانه إلى لغة الجهاد والعمل، وما زلت أتذكّر الخطاب الذي ألقاه في حفل أقمته على شرف نيل ليبيا للاستقلال في باريس في بداية سنة 1952 حيث قال ما مآله ان الجزائر سوف تلحق بجهادها شقيقاتها وسوف تظهر من البطولات وتقدم من التضحيات من أجل حريتها واستقلالها ما سيرفع رأس العروبة والإسلام عاليًا، ومن باريس توطدت بيني وبين العلّامة المجاهد صلة أخوية متينة فكنت أقوم باستقباله والحفاوة به في بغداد كلّما قدم إليها وصار يعتمد عليّ في العراق ويعتبرني كسفير لحركة الكفاح الجزائري لدى الحكومة العراقية، وهذا ما حاولت القيام به بكل همة وأمانة، وقد وجدت بين أوراقي هذه الرسالة الموجّهة إلي والتي تعتبر من جهاد العلّامة في سبيل حماية العروبة والإسلام في الجزائر عن طريق نشر التعليم والثقافة، وها أنا أقدّمها كوثيقة تاريخية تفسّر لنا نهضة الجزائر المباركة اليوم في حماية العروبة والإسلام. الدكتور محمد فاضل الجمالي

_ * مجلة "جوهر الإسلام"، السنة الرابعة، العدد 6، تونس، مارس 1972.

بغداد في 6 كانون الثاني (جانفي) سنة 1954. حضرة صاحب الفخامة الدكتور محمد فاضل الجمالي رئيس الوزارة العراقية ورئيس مجلس الجامعة العربية في دورتها الحالية المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو من فخامتكم أن تقرأوا هذا البيان بإمعان وأن تعرضوه على مجلس الجامعة وأن تتولوا بيانه والدفاع عنه مشكورين. كاتب هذا البيان إلى فخامتكم وإلى مجلس الجامعة الموقّر هو رسول أمة عربية مسلمة في الجزائر تعد أكثر من عشرة ملايين من النفوس وتجاهد الجهاد العنيف في سبيل عروبتها وإسلامها. وهو قائد حركة ثقافية علمية أساسها العروبة والإسلام. وهو رئيس جمعية منظّمة حقّقت في عقدين من السنين أشياء تعد من خوارق العادات في هذا العصر فشيّدت مائة وخمسين مدرسة ابتدائية عربية ومعهدًا ثانويًا فخمًا كامل الأدوات وعلمت مئات الآلاف من مجموع مليوني طفل محرومين من التعليم بجميع أنواعه، كل ذلك بمال طفيف تدفعه أمة فقيرة ولكن مؤمنة بمعاني الجهاد ونتائج الجهاد. رسالتي التي أحملها من الأمة الجزائرية العربية إلى أخواتها العربيات في الشرق العربي هو شرح الحالة على حقيقتها وطلب النجدة السريعة بإعانات مالية تحفظ الموجود في الجزائر وتدفعه خطوات إلى الأمام وتعين هذه الجمعية على إكمال رسالتها التي لا تتم إلا بمئات أخرى من المدارس تستوعب أكبر عدد من الأطفال المحرومين الذين يريد لهم الاستعمار أن يبقوا مشرّدين، وبإيفاد مئات من الطلبة الحاصلين على الشهادة الابتدائية العربية إلى معاهد الشرق العربي ليكملوا دراساتهم فيها على نفقة حكوماتها وليرجعوا إلى أوطانهم معلّمين مجاهدين. بلغت الرسالة على أكمل وجه وأدّيت الأمانة غير منقوصة وكرّرت وأعدت وكانت النتيجة أن استجابت معظم الحكومات العربية فقبلت أعدادًا محدودة من تلاميذ جمعية العلماء في معاهدها وعلى نفقتها. وأنا مع شكري لهذه الحكومات فإنني ما زلت أطلب المزيد. ولو أن حكوماتنا العربية أنفقت على ألف تلميذ جزائري لما كان ذلك كثيرًا عليها ولا على الجزائر، ولو أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية أنفقت على ألف أخرى لما كان ذلك كثيرًا عليها ولا على الجزائر، وبرهان كلامي يتركّب من عدة مقدّمات يقينية يجب على كل عربي في الشرق أن

يفهمها وأن يؤمن بها، لا سيّما الحكومات والساسة وقادة الرأي، وأنا كفيل بشرحها وبيانها لأنه من أصول رسالتي: الأول: إن الشعب الجزائري مؤلف من عشرة ملايين وزيادة كلهم عرب أصلاء، وكلهم مسلمون متصلبون، والاستعمار الفرنسي عامل على مسخهم وإخراجهم من عروبتهم وإسلامهم، ولولا خصال فطرية في التصلّب والاعتزاز بجنسيتهم ودينهم وشرقيتهم، ولولا جمعية العلماء وجهادها عشر سنين في التمهيد وعشرين سنة في العمل لبلغ الاستعمار منهم ما أراده، ولو ضاعوا لكان ضياعهم مصيبة على المجموعة العربية لأنه نقص في رأس مالها من الرجال المتشددين في عروبتهم، والزمان زمان تكتّل وتكاثر في العدد ونحن نرى أقوياءه يتكاثرون بمن ليس منهم ولا تجمعه بهم جامعة، فكيف بالأخ الأقرب المشارك في الدم واللسان والخصائص الجنسية. الثاني: إن جامعة الدول العربية ملزمة بروح ميثاقها العام أن تحرّر كل عربي على وجه الأرض بالمستطاع من وسائلها التدريجية، ولا نشك أن للشعب الجزائري مكانته في نفس الجامعة، وقيمته في تقدير الجامعة و"خانته" في برنامج الجامعة، فإذا كانت الجامعة لا تستطيع أن تحرّر القطر الجزائري كوطن فهي تستطيع أن تحرّر العقول والأفكار بالعلم والمعرفة من الجهل والضلال اللذين هما أساس الاستعمار. والجامعة أول من يعلم أن الشعب الذي لم تتحرّر عقوله وأفكاره من قيود الجهل والوهم يستحيل أن تتحرّر أبدانه أو يعسر أن تتحرّر، وقد هيأت جمعية العلماء هذا الشعب للاستقلال بما لقّنته من معاني الحياة الشريفة وبما بثّت فيه من معاني العروبة والوطنية والحرية وبما ربطته بالشرق ربطًا محكمًا، وهي تُرَبّيهِ لا على المطالبة بحقّه بل أخذ حقّه بيده، كل ذلك بالفعل الذي قامت عليه الشواهد لا بالأقوال الفارغة التي لا عليها شاهد، وان هذه الجمعية تعلم أن ركب العرب لا يُحْدَى إلا بلغة العرب، ولا يطرب إلا على أغاني العروبة، وتعلم أن قافلة الإسلام لا تهدى إلا بدلالة القرآن، وكل هذا فعلته جمعية العلماء وما زالت تفعله، وقد صحّت التجربة وصدقت النتيجة، وعلى هذا فلجامعة الدول العربية من جمعية العلماء الجزائريين سند قويم ودليل هاد ومعين أمين. الثالث: ان الشعب الجزائري العربي غريب في وضعه لا يقاس بشعب ولا يقاس به شعب عربي آخر لأن لكل شعب من الشعوب العربية المستقلّة رأس مال من الحرية والحكم والمال ومواريث الأسلاف من مدارس ومساجد ومعاهد وأوقاف. تونس ومراكش المحيطتان بالجزائر ما يزال فيهما شيء من تلك المواريث، ففيهما المساجد الكثيرة الضخمة، فيهما بقية أوقاف دارة وفيهما صور من الحكم وأنواع من الوظائف العليا، وفي تونس جامعة الزيتونة ثانية الجامعات الإسلامية بعد الأزهر، وفي مراكش جامعة القرويين ثالثة الجامعات الإسلامية بعد الأزهر والزيتونة ولكل واحدة من الجامعتين ميزانية ضخمة من الأوقاف ومن

الخزانة العامة، وكل واحدة منهما محفوظة ومسيّرة بميزانيتها القارة، أما الجزائر فلم يبق فيها أثر ولا عين من تلك المواريث، فالأوقاف الإسلامية العظيمة صادرها الاستعمار في السنة الأولى لاحتلاله والمساجد العظيمة صيّرها كنائس ومرافق عامة في السنوات العشر الأول انتقامًا من المقاومة التي كان يلقاها في الشعب الجزائري، وبقية المساجد هي ووظائفها تحت يده وسلطانه وهي كذلك إلى الآن وصيّر من وظائفها وسائل تجنّد للجوسسة، ومن رجالها ألسنة للتسبيح بحمد فرنسا، حتى يكون المسلمون بعضهم لبعض عدوًا، وهم الآن حرب على التعليم العربي وعلى جميع الحركات المناهضة لفرنسا وفي مقدمتها جمعية العلماء، وفرنسا ترصد مئات الملايين من ميزانيتها لحرب العربية والإسلام في الجزائر، وتجنّد الآلاف من أذنابها لمقاومتها والتزهيد فيها. وفي هذا التصوير، وهو قليل من كثير، تتضح عظمة الأعمال التي قامت بها جمعية العلماء الجزائريين وفي وسط هذه الظلمات المعكرة بالظلم والجهل والفقر، وان جمعية توجد شيئًا من لا شيء لحقيقة بالتقدير والإعانة العملية ... ان جمعية تشيد مائة وخمسين مدرسة ابتدائية وتعمرها بنحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات يدرسون العربية والإسلام ثم تنشئ معهدًا ثانويًا يحتوي على ألف وخمسمائة تلميذ وتشيد سبعين مسجدًا لإقامة الشعائر الإسلامية، وتؤسّس مائة ناد وزيادة للمحاضرات العلمية والاجتماعية، وتنظّم البرامج الفعّالة لمكافحة الأمية ثم تمدّ نظرها إلى ما هو أعظم من ذلك، فهي عازمة مصمّمة إن تيسّرت لها الوسائل المادية أن تشيد ألف مدرسة تستوعب مئات الآلاف من الأطفال المشرّدين، وهذا المقدار من المدارس هو القدر الضروري الذي يفتقر إليه الشعب الجزائري ويستتبع ذلك عدة معاهد ثانوية ينتقل إليها الآلاف من المحصلين على الشهادة الابتدائية وعدة معاهد لتخريج المعلمين لهذا الجيش الجرّار من المتعلمين. كل هذا من الآمال التي تسعى جمعية العلماء لتحقيقها، وان جمعية تعمل مثل تلك الأعمال وتأمل مثل هذه الآمال لحقيقة بأن يؤخذ بيدها وأن تعان على تثبيت أعمالها وتحقيق آمالها. وهذا مجمل من حقيقة هذه الجمعية كنت قدمت تفصيله في مذكّرتين للأمانة العامة لجامعة الدول العربية من نحو سنة مضت، كما بيّنته أبلغ بيان لإخواني العرب شعوبًا وحكومات في هذه الرحلة التي استغرقت من وقتي ما يقرب من السنتين، وقد برأت بهذا التبليغ إلى الله وإلى التاريخ وإلى ضميري وأمانتي، ولم يبق إلا واجب الإخوان لإخوانهم، وقد بدأت بوادره في هذه العشرات من الطلّاب الذين قبلتهم الحكومات العربية في معاهدها على نفقتها وفي مبلغ مائة وعشرين جنيهًا مصريًا قرّرته الأمانة العامة إعانة لمكتب جمعية العلماء في القاهرة، وذلك المكتب الذي أسّسته ليكون واسطة بين الشرق العربي وغربه، وسفيرًا أمينًا بين الجزائر وأخواتها العربيات شعوبًا وحكومات.

أنا راجع إلى الجزائر بعد مدة تطول أو تقصر ... راجع إلى ميدان جهادي وأعمالي وهو الميدان الذي يعزّ علي أن أفارقه، وأتمنّى أن أموت فيه إن شاء الله مقبلًا غير مدبر ... وآكد أمل يعمر خاطري أن يفهم إخواننا العرب شعوبًا وحكومات حقيقتنا كما هي كأنهم يرونها بأعينهم، وأن يتبيّنوا أعمالنا وآمالنا، فيكون سرورهم بالأعمال مدعاة لإعانتنا على تحقيق الآمال، فإذا فهمونا على حقيقتنا علموا أن هذا الشعب المجاهد لا زال في حاجة إلى مئات من المدارس الابتدائية تنقذ ذلك العدد المعرض للكفر والاستعجام من أبنائه، وما زال مفتقرًا إلى عدد من المدارس الثانوية ترضي رغبات الآلاف من الحاملين للشهادة الابتدائية، وما زال في حاجة إلى عدة معاهد من صنف دور المعلمين. وليس كثيرًا على جامعة الدول العربية أن تبني باسمها وبمالها دارًا للمعلّمين وأخرى للمعلّمات في الجزائر ومعهدًا ثانويًا أو معهدين تخفيفًا للعبء الثقيل الذي تحمله جمعية العلماء والأمة من ورائها. وليس كثيرًا على الحكومات العربية أن تعلم في معاهدها وعلى نفقتها بضع مئات من أبناء الجزائر ليصبحوا معلّمين لأبناء شعبهم ورسل ثقافة بين المشرق العربي والمغرب العربي. إن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة هو جمعية العلماء ممثلة في القاهرة، فهو لسانها الناطق بأعمالها، المصوّر لحقيقتها وأمانيها، وهو السفير الأمين بين الشعب الجزائري وبين الشرق العربي كله، وهو المبلغ الصادق بين الطرفين، وهو الذي يشرف على هذه البعثات الرسمية المنظّمة مهما كثر عددها، وهو متحمّل في هذا السبيل لأعباء لا قبل له بها ولكنها واجبات، وهو في هذا اليوم مسؤول عن نفقات عشرات من الطلّاب لم يلتحقوا بالهيئات الرسمية، وهو كأصله لا ينفق فلسًا من المال ولا دقيقة من الوقت في الشخصيات، وانه منفق كل جهوده في نفع المجموع الجزائري، وهو يمد رجله على قدر الكساء فإن وجد السعة توسّع في البعوث. أيها الإخوان: إنني أعتقد أنني لا أملك إلا التبليغ وقد بلّغت، ولا أستطيع إلا الإفهام وقد أفهمت، ولي من خصائص العروبة حظ في البيان وقد بيّنت، ولي من حقيقة العالم المسلم النصح وقد نصحت، فاللهمّ اشهد. محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين

أضعنا فلسطين

أضعنا فلسطين * دعاة الحركة الإسلامية يقولون: ____ دعت جمعية الأخوة الإسلامية الشعب العراقي الكريم إلى الحفلة الخطابية التي أقامتها في جامع الإمام الأعظم احتفاءً بضيوف العراق الكرام سماحة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس علماء الجزائر، وفضيلة المجاهد الكبير الأستاذ الفضيل الورتلاني وفضيلة الأستاذ السيد مجتى نواب صفوي زعيم جمعية فدائيان إسلام، وما إن أزفت الساعة السابعة من مساء الخميس 7 - 1 حتى غصّ الجامع والفناء على سعتهما بالحاضرين وأعلن عن ابتداء الحفلة فافتتحت بخير ما يفتتح اجتماع مبارك بآيات من الذكر الحكيم، ثم نهض فضيلة الأستاذ محمد محمود الصوّاف وألقى كلمة ترحيبية بالضيوف المجاهدين وقال: وما هذا الاجتماع المبارك إلا ثمرة من ثمرات المؤتمر الإسلامي، وكانت كلمة بليغة عبّر فيها عن مشاعر المسلمين الذين يتحرّقون أسى على ما وصلت إليه حالة العالم الإسلامي وخاصة فلسطين. ثم قدّم سماحة الحبر الجزائري العلّامة محمد البشير الإبراهيمي فألقى كلمة بليغة استهلّها بحمد الله والشكر ثم حيّا المسلمين جميعًا وقال: ــــــــــــــــــــــــــــــ إن معرفة كارثة فلسطين لا تعدو أن تكون أسئلة وأجوبة، فإن استطعنا أن نعرف الأجوبة استطعنا أن نعرف الداء ثم نعالجه ... أما السؤال الأول فهو: هل أضعنا فلسطين؟ الجواب: نعم. السؤال الثاني: هل أعطيناها أم أخذوها منّا؟ الجواب: أعطيناها نحن ...

_ * مجلة "الأخوة الإسلامية"، السنة الثانية، العدد الرابع، بغداد، 30 جمادى الأولى 1373هـ الموافق لـ 5 فيفرى 1954م.

السؤال الثالث: هل يمكن استرجاعها؟ الجواب: يمكن استرجاعها ... ثم قال: بماذا أضعنا فلسطين؟ الجواب: أضعناها بالكلام. فقد كان الشعراء ينظمون القصائد الطويلة العريضة في مديح العرب وتسفيل اليهود، والكتّاب يكتبون والساسة يصرّحون. فبين النظم والتصريح والكتابة والخطابة ضاعت فلسطين ... ثم قال: الرجل البطل يعمل كثيرًا ولا يقول شيئًا ...

الصراع بين الإسلام وأعدائه

الصراع بين الإسلام وأعدائه * الصراع بين الحق والباطل قديم، كان منذ خلق الله البشر وجعل للأهواء حظًا من السلطان على نفوسهم. ومن فروع هذا الصراع، الصراع بين الإسلام والكفر، فقد صرع الإسلام في عنفوان قوّته السماوية الأولى كل ما كان قائمًا من الأديان والنحل الباطلة ومزّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطّية على العقول حتى استقرّ في قراره من النفوس والأقطار وضرب بجرّانه في القطعة العامرة من أرض الله. وأصبح برهانه لائحًا وبيّناته واضحة وقوّته غالبة فإما مسلم وإما ملق بالسلم، ومن كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمة باقية في أهله تتوجّه إلى الضال ليهتدي وإلى المهتدي كي لا يضل. فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال وما خالط عزائمهم من وهن، ثم تلاشت بتفرّقهم فيه واشتغالهم بالجدل الداخلي وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم وبعدهم عن منبع هدايته الأولى هاجت عليهم دعايات الأديان الأخرى وما تفرّع عنها من مذاهب مادية تغري بالمادة وتؤلّهها ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمروق من الدين وخلع ربقته ثم تشعّبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين: واحدة تسعى سعيها وتبذل وسائلها لفتنة المسلم عن دينه وإدخاله في دين آخر، وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها، وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين لما يصحب الشباب من قوّة الإحساس وسرعة التأثّر وتأجّج العاطفة والميل إلى الانطلاق.

_ * مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد العاشر، السنة الثانية، بغداد، 1 شوّال 1373هـ الموافق 2 جوان 1954م.

والشعبتان معًا تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين وهم قوة في العدد عن دينهم وهو مناط قوّتهم الروحية ليتم للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين واستغلال خيرات أوطانهم. ومن ظن من عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليستْ مدبرة وليست منظّمة وليست متعاونة متساندة وليست مرصدة لوقتها ورامية إلى هذا الهدف، من ظنّ هذا فأقل درجته أنه مغفل جاهل مغرور. ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم وكانت لهم دعاية منظمة يمدّها الأغنياء بالمال والعقلاء بالرأي والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية وبالتوجيه لغاية الغايات فيه وهي إسعاد الانسانية وتحقيق السلام بين البشر والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم، وإقامة العدل بين الناس ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن لكانوا اليوم فيصلًا بين الكتلتين المتطاحنتين وحاجزًا حصينًا بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة التي لا تبقي على بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر، بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا انه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام محسنون للإبانة عنها ولعرضها على العقول لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر، الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية ولم تقم الموازين القسط بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون متطلعون إلى حال تغيّر هذه الأحوال، وفي الإسلام ما يقوم بذلك كله ويرجع بالناس إليه وإلى اختياره حكمًا ترضى حكومته لو وجد من يدعو إليه على بصيرة ويبيّن حقائقه ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول. لم يمضِ على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم. فمن سننه أن من لم يدافع دوفع وأن من لم يهاجم هوجم وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل، ولم يَمْضِ عليهم زمن تألّبت فيه قوى الشرّ عليهم وتألّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات كما تألّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية والبوذية والوثنية بجميع ألوانها والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت أَئبًا على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق صادرة في ذلك عن عهد وميثاق يسند بعضها بعضًا ويقرض بعضها بعضًا العون والتأييد، وأن العقلاء من هذه الأمم المتعاونة على حرب الإسلام مسوقون بأيدي الساسة الطامعين والقساوسة المتعصّبين والملاحدة المستهترين حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره وهو أنهم قوة متحدة لحرب الإسلام

يشارك فيها ذو الدين بدينه وذو المال بماله وذو العقل بعقله. ويشارك فيها الساكت بسكوته ... لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرون من عداوة الإسلام وما يعلنون ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللوم برادّهم على ما هم ماضون فيه بعد أن ابتلوا سرائرنا وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عورات ومنافذ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنّا، ومن المناعة التي يتوقّعونها منَّا فسدّدوا الغارة على ديارنا فاكتسحوها، وشدّدوا الحملة على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثم شنّوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها، إذ بذلك وحده يضمنون التمتعّ بخيراتنا والتلذذ باستعبادنا. لا نلومهم على ذلك، فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه وأحد أطوار تاريخه فهو حاقد عليه يتخيّل في شبحه مفوّتًا للعز والسلطان، ومقيّدًا للشهوات في اتّباع الشيطان، أو مانعًا من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيّد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلّط والشهوة ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفق أسمى، وهم بعد ذلك عمون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع، ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عز بالله وعدل في أحكامه بين عباده رحمة بهم وإحسانًا وإلى ما فيه من انطلاق ولكن إلى الآفاق العليا الملكية. إنما نلوم أنفسنا ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة وعلى إهمال الدعوة لدينهم والعرض لجماله ومحاسنه وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عونًا لها على هدم ديننا ومحو فضائلنا والقضاء على مقوّماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم، وكأن الأمر لا يعنيهم وكأن الدين ليس دينهم، وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمرّ لا يبقي لهم عرضًا ولا مالًا ولا متاعًا، وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يعين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله وكأنه يقلّد عدوّه سلاحًا قتّالًا يقتل به دينه وقومه، ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوّه اقتلنى به. إننا لا نكون مسلمين حقًا ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا تارة باسم العلم وتارة باسم الخير والإحسان وأخرى باسم الرحمة بالإنسان إلا إذا علمنا ما يراد بنا وفقهنا الغايات لهذه الغارات وتحديناها بجميع قوانا المعنوية والمادية وحشدها في ميدان واحد هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتم لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله وإلى دينه الإسلام على أساس قوي من أحجار العالم الربّاني والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجّهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضالّ قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين وأرجعتهم إلى ربّهم فاتصلوا به فتمسّكوا بكتابه وهدي نبيّه وتمجّدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه كنا قلّدناهم سلاحًا لا

يفلّ وأسبغنا عليهم حصانة روحية لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة وحصانة أخرى مادية ملازمة لها لا تهزمها الجموع المجمعة ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا. المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية تهدي ضالهم وتصلح فاسدهم تبتدئ من البيت وتجاوزه إلى الجار والقرية حتى تنتظم المجتمع كله. فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة أعطت ثمراتها الصحيحة وجاء نصر الله والفتح ربطًا للوعد بالإنجاز ووصولًا إلى الحقيقة على المجاز، ويومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها، فلا مذهب إلا مذهب الحق ولا طريقة إلا طريق القرآن ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو ولا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب. لا يأس من روح الله ... فهذه مخايل نصر وهذه مبشرات القطر وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية، وهؤلاء عصب من علماء الإسلام قائمون بإحياء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام تفتّحت بصائرهم على نوره يحملون ألسنة قوّالة للحق وعقولًا جوّالة في ميدان الحق وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد، وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد، فما على القاعدين إلا أن ينضمُّوا وما على الغافين إلا أن يهتموا ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيّدوا وما على الغافلين عن ذاك الشر المستطير إلا أن ينتبهوا إلى هذا الخير فيعملوا على نمائه وبقائه، وإن أثمن هدية يقدّمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق والاقتداء بأهل الحق.

معنى الصوم

معنى الصوم * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للإسلام في كل عبادة من عباداته حكم تستجليها العقول على قدر استعدادها، فمنها حكم ظاهرة يدركها العقل الواعي بسهولة، ومنها حكم خفية، يفتقر العقل في اجتلائها إلى فضل تأمل وجولان فكر. ولكلّ عبادة في الإسلام تؤدّى على وجهها المشروع وبمعناها الحقيقي آثار في النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجّه واستجماع الخواطر واستحضار العلاقة بالمعبود، والغرض الأخصّ للإسلام في عباداته التي شرعها، وهو تزكية النفس وتصفيتها من شوائب الحيوانية الملازمة لها من أصل الجبلة وترقيتها للمنازل الإنسانية الكاملة، وتغذيتها بالمعاني السماوية الطاهرة، وفتح الطريق أمامها للملإ الأعلى، لأن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كائن وسط ذو قابلية للصفاء الملكي والكدر الحيواني، وذو تركيب يجمع حمأ الأرض وإشراق السماء، وقد أوتي العقل والإرادة والتمييز ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة، أو يشقى فيهما، امتحانًا للعقل من خالق العقل والمنعم به، ليظهر مزية العاقل على غير العاقل من المخلوقات. والعبادات إذا لم تعط آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة، فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح. والصوم في الإسلام عبادة سلبية، بمعنى أنها إمساك مطلق عن عدة شهوات نفسية في اليوم كله لمدة شهر معيّن، فليس فيها عمل ظاهر للجوارح كأعمال الصلاة وأعمال الحج مثلًا، ولكن آثار الصوم في النفوس جليلة، وفيه من الحكم أنه قمع للقوى الشهوانية في الإنسان، وأنه تنمية للإرادة وتدريب على التحكم في نوازع النفس، وهو في جملته امتحان سنوي يؤدّيه المسلم بين يدي ربّه، والنجاح في هذا الامتحان يكون بأداء الصوم على وجهه

_ * حديث في إذاعة بغداد، ماي 1954.

الكامل المشروع، ولكن درجة النجاح لا يعلمها إلا الله لتوقف الأمر فيه على أشياء خفية لا تظهر للناس، ومنها الإخلاص، ولذا ورد في النصوص الدينية: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية، وحكمته فيها واحدة، ولكن هيئاته وكيفياته تختلف، واختلاف المظاهر في العبادة الواحدة لا يقدح في اتحاد حقيقتها ولا في اتحاد حكمها، لأن المظاهر قشور والحقائق هي اللباب. وهذا الإمساك يشمل في اعتبار الدين الكامل عدة أشياء جوهرية تمسك المسلمون بالظواهر منها كالإمساك عن شهوة البطن، وغفلوا عن غيرها وهي سر الصوم وجوهره وغايته المقصودة في تزكية النفس، وأهمّها الإمساك عن شهوة اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة، ومنها اطمئنان النفس وفرحها بالاتصال بالله، ومنها تعمير النهار كله بالأعمال الصالحة، ومنها الحرص على أداء العبادات الأخرى كالصلاة في مواقيتها، ومنها كثرة الإحسان إلى الفقراء والبائسين وإدخال السرور عليهم بجميع الوسائل، حتى يشترك الناس كلهم في الخير فتتقارب قلوبهم وتتعاون أنواع البر على تهذيب نفوسهم وتصفية صدورهم من عوامل الغل والبغضاء، وتثبيت ملكات الخير فيهم. ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم أنه تجويع إلزامي، يذوق فيه ألم الجوع من لم يذقه طول عمره من المنعمين الواجدين، وفي ذلك من سر التربية ما هو معروف في أخذ الطفل بالشدة في بعض الأوقات، ومن لوازم هذا التجويع ترقيق العواطف وتهيئة صاحبها للإحسان إلى الفقراء المحرومين، فإن مَن لم يذق طعم الجوع لا يعرف حقيقة الجوع ولا يحسّ آثاره ولا يتصوّره تصوّرًا حقيقيًا، ولا يهزّه إذا ذكّر به، فالغي الذي لم يذق آلام الجوع طول عمره لا يتأثر إذا وقف أمامه سائل محروم يشكو الجوع ويصف آلامه ويطلب الإحسان بما يخفّف تلك الآلام، فيخاطبه وكأنما يخاطب صخرة صمّاء، لأنه يحدّثه بلغة الجوع، ولغة الجوع لا يفهمها المترفون المنعّمون وإنما يفهمها الجياع، فكيف نرجو من هذا الغي أن يتأثر وأن يهتزّ للإحسان، وهو لم يَجُع مرة واحدة في عمره، فهو لا يتصوّر ألم الجوع، ومن لم يتصوّر لم يصدق، ومن لم يحسّ بالألم لم يحسن إلى المتألمين. ولو أن المسلمين أقاموا سنة الإحسان التي أرشدهم إليها الصوم لم ينبت في أرضهم مبدأ من هذه المبادئ التي كفرت بالله وكانت شرًّا على الإنسانية. وأنا فقد عافاني الله من وجع الأضراس طول عمري فانعدم إحساسي به، فكلما وصف لي الناس وجع الأضراس وشكوا آلامه المبرحة سخرت منهم وعددت الشكوى من ذلك نقيصة فيهم هلعًا أو خورًا أو ما شئت، وفي هذه الأيام غمزني ضرس من أضراسي غمزة

مؤلمة أطارت صوابي، وأصبحت أؤمن بأن وجع الأضراس حق، وأنه فوق ما سمعت عنه، وأن شاكيه معذور جدير بالرثاء والتخفيف بكلّ ما يستطاع. هذه هي القاعدة العامة في طبائع الناس، فأما الذي يحسن لأن الإحسان طبيعة قارة فيه، أو يحسن لأن الإحسان فضيلة وكفى، فهؤلاء شذوذ في القاعدة العامة. وشهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زماني تعالج فيه النفوس من النقائص التي تراكمت عليها في جميع الشهور من السنة، ومكّن لها الاسترسال في الشهوات التي يغري بها الإمكان والوُجْد، فيداويها هذا الشهر بالفطام والحِمْية والحيلولة بين الصائم وبين المراتع البهيمية، ولكن هذه الأشفية كلها لا تنفع إلا بالقصد والاعتدال. لو اتّبع الناس أوامر ربّهم ووقفوا عند حدوده لصلحت الأرض وسعد من عليها، ولكنهم اتبعوا أهواءهم ففسدوا وأفسدوا في الأرض وشقوا وأشقوا الناس. والسلام عليكم أيها الصائمون ورحمة الله وبركاته.

أعيادنا بين العادة والعبادة

أعيادنا بين العادة والعبادة * كلمتا العادة والعيد تجتمعان في أصل الاشتقاق اللفظي وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بين بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن الموقّت لتلك المعاني كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفية والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس ويبقي لها جزءًا من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أي اتصال أو يكون جزءًا منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغًا إلى معنى جديد شحن به شحنًا. وما كاد الإسلام يظلّل العرب بلوائه حتى كانت للألفاظ التي تصرف في معانيها الوضعية بالتخصيص أو التعميم أو غيرها من وجوه التصرّف مفهومة لا يلتوي فيها ذهن ولا يجافيها إدراك، وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين كأنما أعدّت له إعدادًا ووضعت وضعًا أوليًا خاصًا لمعانيه الدينية الجديدة، وكانت بذلك أحسن مؤد لحقائقه وأعظم حامل لأسراره، ويتلطف علماء البيان حينما يسمّون هذا النوع من التصرّف "الحقائق الشرعية"، يقابلون به الحقائق الوضعية. وهنا يتجلّى لطف الله وسماحة دينه إذ لم يجعل للدين لغة خاصة وللدنيا أخرى، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين مع أن لغة الدنيا لا تتسع- في العادة- لحمل الحقائق العليا كصفات الله ولا لوصف الغيبيات المطلقة كالعوالم الروحانية وما بعد الموت ودار الجزاء. لم يبقَ من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمن مقدّر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معانٍ دينية مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من

_ * مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد الحادي عشر، السنة الثانية، بغداد، 17 شوّال 1373هـ الموافق لـ 18 جوان 1954م.

ورائها حكم تغذّي العقل، من تحتها أسرار تصفي النفس، من بين يديها ذكريات تثمر التأسي، في الحق والخير، وفي أطوائها عِبَر تجلي الحقائق وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته وقواعد متينة في التربية الفاضلة وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة وإصلاح الشأن ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار والرحمة والمحبة، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات ومنافسة في المكرمات. قرن الإسلام كل واحد من العيدين بشعيرة من شعائره العامة لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات ولها ريحها الهابّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة أمة صالحة للوجود نافعة في الوجود إلا بها. هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام. وإنهما مظهر الامتحان الذي هو أساس التكليف وان كليهما سوق امتيار يمتار منه الموفقون طرائف الخير والعاملون لله فيه بالصدق والوفاء، وما كل تاجر رابح، وما كل متجر ربيح وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، وان شر ما باء به تاجر في تجارة أن يجتمع عليه التعب والخسارة. هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين وهو في ظاهر أمره دنيوي كالتجمّل والتحلّي والتعطّر والتوسعة على العيال وإلطاف الضيوف والمرح واختيار المناعم والأطايب واللهو، مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم. فمن تحرّر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية وأريد بها تحقيق حكمة الله أو شكر نعمته انقلبت قربات، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ». كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع فوخزته الخضرة. فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء لكان مقصّرًا عن الغاية مما وصفه الإسلام به ولكان نازلًا عن المنزلة التي وضعه فيها، وليس السر في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس وينتهي بغروبها، وإنما السرّ فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وافضال، وما يغشى النفوس المستعدّة للخير فيه من سموّ وكمال.

العيد في نظرة الإسلام ملتقى عواطف تتقارب، بين طوائف كانت في أمسه تتحارب، ففيه يتنزل الغني المترف ويصعد الفقير المترب فيلتقيان في عالم من عوالم المثال كما يقول الصوفية، هو خير ما ظلّت الإنسانية تنشده فلا تجده، يتجلّى العيد بجلاله على الغني فينسى تألهه بالمال، ويذكر أن كل من حوله إخوانه أولًا وأعوانه ثانيًا فيمحو إساءة عام بإحسان يوم، ويتجلّى على الفقير بجماله فينسى متاعب العام ومكاره العام وتمحو بشاشة العيد من نفسه آثار الحقد والتبرّم والضيق ولا تتفتح أمام عينيه إلا الطريق الواصلة بالله المؤدية إلى الخير وتنهزم في نفسه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء ... هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام وكما حقّقها المسلمون الصادقون يوم كانوا، فكان هذا اليوم من العام زاد الرحلة بآثاره ثم بانتظاره للعام كله، وكانت آثاره في النفوس كآثار الحمّام في الأبدان رحضًا للأبدان وبعثًا للنشاط. فأين نحن اليوم من هذه الأعياد، وأين هذه الأعياد منّا؟ وأين آثار العبادة فيها من آثار العادة؟ ... آفة محاسن الإسلام- وما محاسن شيء كله حسن- هذه الظواهر المتقلبة التي يسمّون مجموعها عادة، فهي التي تتسلّط على تلك المحاسن بالطمس والتشويه حتى تمسخ الجمال ثم تنسخ التأثير ثم تفسخ العقد، فلا يبقى للجمال استهواء للنفوس ولا تأثير فيها ولا سلطان عليها، وقد تبدأ بالإلف يعقبه أنس، يعقبه تأثر، يعقبه اعتبار، يعقبه تحكّم، يعقبه تحكيم ثم ينتهي بأسوإ ما ينتهي إليه تعاقب الأطوار، وهو النزول عن حكم الدين في ثبوته والعقل في تقبيحه وتحسينه والفكر في تأنيه ووزنه وقياسه وترتيبه وتقديره لحكم العادة المضطربة المتقلبة، فتصبح هي الحاكمة المقبحة المحسنة المقدرة وهي صاحبة الاعتبار الأول في تقدير الحياة، ثم تتسامى إلى المسلّمات اليقينية فتمسّها بالتشكيك ثم إلى الحقائق الدينية فتبتليها بالتزهيد فيها أو بالتبغيض، وهذا هو شرّ ما وصل إليه المسلمون بالنسبة إلى شعائر دينهم: تهجر بين أقوام فيصبح هجرها عادة تخشى مخالفتها والخروج عنها، ويقيمها أقوام بحكم العادة لا بحكم الدين، وآية ذلك أن فاعلها يأتي بها متبرّمًا متثاقلًا مقدّرًا لعتاب الناس لا لعذاب الله، وهذا التناقض في آثار العادة واقع بين المسلمين مشهود مشهور ... ونحن لا ننكر أن عوائد الناس تابعة لأحوال الناس رقيًّا وانحطاطًا. فالأمة الراقية ترقى عاداتها في الغالب لأن عاداتها تتشعّب من مقوّماتها، والأمة المنحطة تنحط عاداتها، والمسلمون اليوم في أحط دركات الانحطاط، فلا عجب إذا كانت عاداتهم المتحكّمة فيهم من نوع حالتهم العامة. فمناشئ العادات فيهم هي أخصّ أحوالهم من الجهل والأمية والفقر والذلة والهوان وموت الشعور بالكرامة والشرف، ويقظة الشعور بالمهانة والنقص في النفس

وفي الجنس والنفور من القريب والخضوع لحكم الغريب، فقل ما شئت في عادات تتكوّن من هذه الأمشاج الخبيثة، ثم حدث ولا حرج عن الآثار السيئة لتحكّم هذه العادات في حياة المسلمين، ثم ابكهم مع الباكين، حينما تمدّ هذه العادات السخيفة مدّها فتنصبّ على الدين، فتصبح موازينه مأخوذة بالاعتبارات العادية، وأحكامه خاضعة للاعتبارات العادية، وأعماله تابعة للاعتبارات العادية، وواقعنا اليوم هو هذا. فليسلّم العقلاء منا بهذا الدافع وليعالجوا الحالة على ضوئه، وحذار من المكابرة فيه، فشرّ الخلال أن نركب الكبيرة ثم نكابر فيها فنصيرها كبيرتين وتحجبنا المكابرة عن العلاج فنكون من الهالكين. ... بلونا أمر المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر وتلقّفًا لأخبار الغائب، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أَنَّا ما أوتينا إلا من ضعف سلطان الدين على نفوسنا، ووزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط. هذه شعيرة الحج على جلالتها أصبحت متآثرة بالعوائد، فلا يحفز معظم المسلمين إليها ذلك الحافز الديني ولا تدفعهم إلى تحمّل لأوائها تلك الغاية السامية التي شرع الحج لتحقيقها، وإنما يحفز معظم الناس إليها الافتتان الشائع بالتلقيب، كأنهم يتبرمون بأسمائهم المجرّدة من كثرة التبذّل والاستعمال، فيسعون في إضافة لقب أو وصف كما يتهالك الخليون الفارغون على الألقاب الحكومية الزائفة ويبذلون فيها الجعائل، وإن ذلك لمن هذا، وفي الأمم إذا تداعت للسقوط مشابه من البناء إذا تداعى للانهيار. وهذه شعيرة الصوم خلت بين المسلمين من روحها التي تزكي وتجلب الروْح والاطمئنان، وأصبحت وظيفة عادية يقوم بها القائمون تأثّرًا بالعادة لا انسياقًا للدين، ويتركها المنتهكون لحرمات الله فيشيع الترك فيكون هو العادة الجارية ويكون الصوم شذوذًا خارقًا للعادة، وكلا الأمرين واقع في الأقطار الإسلامية، فالمحافظة على الصوم تغلب في الجزائر مثلًا اتّباعًا لعادة المجتمع المتشدد مع المفطرين، وهذا المجتمع المتشدّد في الصوم متساهل إلى أقصى الحدود مع تاركي الصلاة، فلو كان للشعائر سلطانها الديني على النفوس لما أفطر في رمضان أحد، ولما ترك الصلاة أحد، ولما كان للعادة دخل في هذا المجال، ولو كان المتشددون مدفوعين بدافع ديني لكان تشدّدهم مع تاركي الصلاة أقوى وأشد وأولى وأوكد. ... وعمود هذه الكلمة هو الأعياد ولكن ضرورة التمثيل خرجت بنا عن الجدد إلى الحيد بعض الشيء، فلنعد إلى العيد، ولنقل ان المسلمين جرّدوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطّلوها من تلك المعاني الروحية الفوّارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة مع تجهّم

الأحداث وبالبشر مع عبوس الزمن، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة وحس بليد وشعور بارد وأَسِرَّة عابسة وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، لا صبغة روحية ذاتية تؤثر ولا تتأثر. ولولا نفحات فطرية تهب على نفوس الصغار القريبين من الفطرة فتتجلى فيها بعض معاني العيد فتطفح بشرًا على وجوههم وتنبعث فرحًا في شمائلهم ونشاطًا في حركاتهم واجتماعًا على المحبّة في زمرهم واتجاهًا إلى المبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدلّ على الحياة من أعيادنا. ... العادات محكمة ... كلمة يقولها فلاسفة الاجتماع وفقهاء التشريع، ويريدون فيها أن للعادات الثابتة الصالحة دخلًا في تكييف أحكام المعاملات وقوانين الاجتماع البشري بحيث تبلغ من القوة والاستمرار أن تصبح مرجعًا للقضاة في أحكامهم على ما يشجر بين الناس من خلاف في أسباب معايشهم، ومرجعًا للباحثين في أحكامهم على الظواهر الاجتماعية في الشعوب، ويقيّد الفقهاء إطلاق العادة بأن تكون محققة لمصلحة أو دافعة لمفسدة وبأن لا تنقض نصًا شرعيًا ولا تعاند حكمًا إجماعيًا، فإن لم تكن كذلك كانت باطلة مردودة ونحن نقول: إن عاداتنا مع سخافتها، أصبحت حاكمة يرجع الناس إليها عن عقولهم وأفكارهم ومصالحهم وعن دينهم أيضًا. لو أوتينا الرشد لكان لنا من أعيادنا الدينية الجليلة مواقف لتصحيح الانتساب، ومواقيت لتصفية الحساب، ولعلمنا أن نفس المؤمن تتّسع للدين والدنيا، وأن وجودها مرتبط بعضه ببعضه، وأن وجود أحدهما رهن بوجود الآخر، وأن كمال أحدهما كفيل بكمال الآخر، وأن طروق الضعف لأحدهما مؤذن بطروقه للآخر. ويوم كان الدين كاملًا في النفوس كانت الدنيا مملوكة لتلك النفوس، ويوم أضعنا الدين أضعنا الدنيا. فلا يذهب الخرّاصون مذاهبهم في العلل والأسباب؛ فهم بعض تلك الأسباب، ولا يتعبوا أنفسهم في "الوصفات" لدواء أمراضنا فهم بعض أمراضنا، ونحن أعرف بدائنا ودوائنا. ومن آداب النبوّة فينا "ائحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ" فأنجع الأدوية لأدوائنا الحمية ... الحمية من المطامع والشهوات فهي التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، وإذا فعلت هذه الحمية فعلها خفّت الأخلاط فخفّت الأغلاط، فتجدد النشاط، فهدينا إلى سواء الصراط. الحمية رأس الدواء والحمية لا تفتقر إلى إرشاد طبيب. فلنخرس هذه الببغاوات المرددة لفرية أعداء الإسلام بأن الداء آتٍ من الإسلام وأن الدواء في التحلّل منه، وليربع كل ناعق من هؤلاء على خلعه، وليعلم أنه فينا كالضرس المؤوف كل الخير في قلعه.

متى يبلغ البنيان

متى يبلغ البنيان * كان العقلاء منّا يظنّون أن المؤتمر الإسلامي الأخير الذي انعقد بالقدس في 3 ديسمبر 1953 لبحث قضية فلسطين نجاد الساعين بالرأي والنفوذ والمال لتحريرها ولإيقاظ الشعور الإسلامي والعربي فيها من جديد، كانوا يظنون أنه سيكون أقوى المؤتمرات الإسلامية التي سبقته في هذه القضية وغيرها، لا لأنه متعلّق بقضية لها في قلب كل مسلم جرح، ولها في قلب كل مسلم غمة، ولها في ضمير كل عربي وخزة، ولها في وجهه وسمة عار ولها في عرضه وصمة نبز، لا لذلك فإننا معشر العرب بمواقفنا في قضية فلسطين وسكوتنا على حكوماتنا المتخاذلة في قضيتها ومُمَالَأَةِ بعضنا لليهود إلى الآن بالتهريب والتجسس، بذلك كله أقمنا الدليل الذي لا يكذب على أننا لم نرث من قبيلة امرئ القيس التي هي إحدى أصولنا إلا الخلق الذي مدحها به الشاعر إذ قال: فأمْثُلُ أخلاق امرئ القيس أنها … صلاب على طول الهوان جلودها كلا ما كان هذا هو الذي يطمع العقلاء في أن يكون لهذا المؤتمر شأن وقيمة غير شأن وقيمة المؤتمرات القديمة، ولكن الذي يطمعهم في ذلك خصال أخرى من أنه جاء بعد تجلّي جميع الحقائق، وبعد تصفية الحساب الذي ظهرت فيه خسارة العرب والمسلمين، وبعد أن صدق المفتري، وافتضح المجتري، وبعد أن أيقن كل شاك أن دويلة كانت لا تعد في الأرض غلبت ست دول، وإن زهاء مليون عربي نبتوا في فلسطين كتينها وزيتونها اقتلعتهم شراذم اليهود بأيسر محاولة، فأخرجوهم من ديارهم وذادتهم كالأغنام الضالة عن المدن والأرياف إلى حواشي الصحراء، وأستغفر الله ألف مرة من قولي "أخرجهم اليهود"، فإن

_ * مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد الحادي عشر، السنة الثانية، بغداد، 17 شوّال 1373هـ الموافق لـ 18 جوان 1954م.

حكوماتنا هي التي أخرجتهم وظاهرت اليهود على إخراجهم، و {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}. ... كنّا نظنّ هذا مع العقلاء أيام الدعوات إلى المؤتمر وأيام التحضيرات ويوم تراءت الوجوه في المسجد الأقصى فإذا هي أحق بقول المتنبي ممن قال فيهم: فَمَا تُفْهِمُ ائحُدَّاثَ إِلَّا التَّرَاجِمُ ولكنهم كانوا على قلب رجل واحد إيمانًا ويقينًا وصدق قصد وقوة عزيمة. وهنا بدأت المخايل تكذب ذلك الظن وواأسفاه. فما كاد المؤتمر ينظّم اجتماعاته ويقسم الأعمال على شُعبه حتى بدأت الدسائس تدسّ لإحباطه، وكان الدسّاسون منا بالطبع لا من اليهود ولا من النصارى، وكانوا من أهل فلسطين ومن مرعيهم لا من الهمل، ومن وجوههم- شاهت الوجوه- التي جفت من الحياء، وأقبح القبح أن يرتكب المأثم أصحاب المأتم، وأحسّ المؤتمرون بالدسائس فوقف المسؤولون فيه منها موقف الحزم، وألقموا كل أفّاك حجرًا، وكان أصحاب هذه الوجوه ممن يحضرون بعض جلسات المؤتمر في بعض لجانه، فلحظ المراقبون عنهم أنه كلّما جدّ جِدّ المؤتمر رموا في نفسه قذاة وشغلوه بالنافلة عن الفرض، فذكروا مسجد الصخرة وهوّلوا من تداعيه للسقوط ما هوّلوا حتى كأن القدس - وهي في لهوات الضيغم العادي- لا تستحق في نظرهم من العناية بإنقاذها عشر ما يستحقّه هذا المسجد من العناية بترميمه وتزويقه، وهم يرون بأعينهم أن القنبلة اليهودية التي رمت المسجد ما زالت آلتها مسدّدة، وأنها كانت واحدة فأصبحت معددة، وكانت قديمة فاصبحت مجددة، ويرون بأعينهم استعدادات اليهود لا تزال قاصمة الظهر بنا، ويعتقدون بأنهم فاعلون، وكان خطباء المؤتمر يتألفون الشارد ويقولون لهؤلاء الوجوه: يا إخواننا نحن أعوانكم فكونوا أعواننا، نحن مجتمعون لإقامة فرض فلا تشغلونا عنه بنافلة، ونحن نريد للإسلام العالية فلا تنزلوا به إلى السافلة؛ نحن معكم في احترام المسجد ولزوم ترميمه وإن سقوطه إضاعة مضاعفة للمال وخسارة خاسرة للفن، ولكننا في حالة توجب علينا أن نستعمل النظر البعيد، وان السقوط أخف وقعًا على نفس الحر من عار الإسقاط، لأن اليهود مصمّمون على احتلال القدس وهدم الأقصى لإعادة هيكل سليمان وعلى هدم مسجد الصخرة ونسف الصخرة. أفتمارون في هذا؟! إن اليهود بنوا أمرهم على كلمة وهم واصلون إلى تطبيقها ما دمنا على هذه الحالة، فلنبنِ نحن أمرنا على عكسها إن كنّا رجالًا ونعمل على تحقيقها متساندين. هم يقولون: لا

معنى لفلسطين بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل المطمور تحت الأقصى، فلنعكس نحن لهم القضية ما دامت الأقدار قد أوقفتنا منهم هذا الموقف، ولنقلها صريحة مجلجلة يفسّرها العمل: لا فائدة لنا في الصخرة والأقصى بدون القدس، ولا فائدة لنا من القدس بدون فلسطين، فالثلاثة واحد وليس الواحد ثلاثة، فإذا قبلنا هذا وقرنّاه بالتصميم وعرف اليهود تصميمنا أقلعوا عن غيّهم وقالوا ما قال أسلافهم: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}، أما إذا علموا عنّا هذه الأنظار القصيرة- وقد علموا وسيعلمون- فإنهم لا يزيدون منّا إلا احتقارًا ولا يزدادون بنا إلا تمرّسًا، وأي عقل يستسيغ التفكير في الترميم والإصلاح لمسجد معرّض لخطر النسف في كل حين وبينه وبين العدو رمية سهم مسترخي الوتر، واذكر حق الذكر أن المجاملة لإخواننا أصحاب هذه الوجوه زادت فوق هذا الحدّ، فوعدهم المسؤولون عن المؤتمر وكنت أحد المصرّحين بهذا الوعد بأنه سيكون لمسجد الصخرة حظ مما يجمعه المؤتمر من المال لإجراء الترميم الضروري الذي يحفظه إلى حين، وتفرّق المؤتمرون على هذا بعد أن قلّدوا طائفة منهم أعمالًا أثقلها جمع المال لفلسطين ... هذه الكلمة التي اصبحت تقابل بالوجوم والإطراق لكثرة ما لابسها من الشكوك وأحاط بها من التهم. ما كاد المكتب الدائم الذي انتخبه المؤتمر يباشر أعماله واللجنة المالية تنظّم وفودها للطواف على العالم الإسلامي حتى أعلنت الجرائد تشكيل لجنة من أصحابنا أنفسهم أعينهم لجمع الأموال لترميم مسجد الصخرة ... وكان ظهور هذه اللجنة في الميدان مقرونًا بالحزم والإصرار والعجلة وتأييد الحكومة الأردنية برصد المال اللازم لتطوافها وبالتوصيات الرسمية، وكشفت الحقيقة المخبوءة عن نفسها وهي أننا قوم لا نصلح لصالحة، وأننا هازلون على جد الحوادث، لا نأتي في أعمالنا وتصرفاتنا إلا ما يقرّ أعين أعدائنا ويجرئهم علينا ويقلّل معانينا في صدورهم. فبينما فريق منفعل مثلًا يبكي على فلسطين ويحترق حسرة عليها ويقول: أضاع الله من أضاعها، ويوقف أوقاته وجهوده على تحريرها وينعش ولو بالقول آمال البائسين منها، إذا فريق منا يتباكون على مسجد متداع إن لم يُنقض اليوم نُسف غدًا بالمدافع المنصوبة والقنابل المصبوبة، ثم يهتمون به إلى حد أن يجمعوا أموال المسلمين ليرمّموه ويزخرفوه حتى إذا نسف نسفت معه تلك الأموال التي أبت أن تنفق في الدفاع عن فلسطين والقدس وفي طيّه الدافع عن مسجد الصخرة، فتذهب هي ومسجد الصخرة هباء منثورًا نتيجة الطيش وقصر النظر. وكنّا يوم إعلان الخبر عن هذه اللجنة وعملها في القدس في اجتماع رسمي لمكتب المؤتمر، فهالنا الأمر وقصدنا رئيس هذا الوفد في داره في جماعة من أعضاء مكتب المؤتمر، وقلنا له كلمة الحق في وفد الضرار هذا وفي نتائجه وآثاره في عقول الأعداء والأصدقاء. قلنا له إن العالم حكم علينا بالسفه والخطل في نكبة فلسطين، وأقام على حكمه البيّنات والشواهد فما بالنا نقيم له كل يوم دليلًا جديدًا على عدالة هذا الحكم

علينا، من يقيم للعالم المتفرّج علينا حجة على أن ترميم مسجد الصخرة في هذا الوقت وعلى هذا الحال مصلحة راجحة، ومن يقنعه بأن هذا العمل مقدّم على الدفاع عن فلسطين، ومن يقنعه بأن ترميم مسجد أجدى على فلسطين ومدينة القدس من شراء دبّابات ومدافع؟ وقلنا له ان الناس رجلان: رجل يائس من فلسطين والقدس، فهذا لا يجيز له يأسه أن ينفق فلسًا واحدًا على شيء ميؤوس منه، ورجل راجٍ لتحرير القدس وفلسطين من ورائها فهذا لا يبيح له رجاؤه أن يبدأ بما بعد الأخير، وأن يبدأ بزخرفة الدار قبل تحرير الدار، بل يبدأ بالاستعداد ثم بالإعداد لطرد العدو الغاصب. وللترميم وقت معروف عند جميع الناس وهو انتهاء المعركة واندمال جراحها، وكلا الرجلين لا يفكّر فيما فكّرتم فيه ولم يشغل فكره فيما شغلتم أفكاركم به ولم يضع برنامج الإصلاح والترميم والزخرفة في مكان برنامج الاستعداد والدفاع عمّا يريد أن يصلحه ... فأي الرجلين أنتم؟ أم أنتم قسم ثالث مما لا يعرفه العقلاء، أم أنتم قسم رابع ممن يعرفون بسيماهم وأعمالهم؟ وهم سخنة أعين العرب والمسلمين وقرة أعين اليهود والمستعمرين يعاونونهم بأعمالهم الطائشة أكثر مما تعاونهم انكلترا بالرأي وأمريكا بالمال، وأي عون أعون لليهود على احتلال القدس والنكاية في المسلمين بهدم مقدساتهم ممن يزهد المسلمين في الدفاع، وينزل في نفوسهم الأمن والطمأنينة على القدس ومقدساته، فلا يشك عاقل أن هذا الوفد الصخري سيطوف بالمسلمين طالبًا المال لترميم المسجد الفلاني بالقدس وسيخطب ويتحدث عن ذلك فيكون من آثار الخطب والأحاديث في نفوس المسلمين ان القدس لا خوف عليها ما دامت همة العلماء حملة العمائم منصرفة إلى ترميم المسجد وفي ضمن الترميم إعادته إلى سابق جماله من زخرفة بالفسيفساء والأصباغ، وهذه مظاهر عرس لا مظاهر مأتم. هذا هو الذي يقع في أذهان الناس حين تهدر شقاشق الخطباء بالترهيب من سقوط المسجد والترغيب في إقامته وبماذا؟ بالمال ... ؟ وأين المال ... ؟ هاتوا ... وكم؟ ها هي الخرائط تنطق والأرقام تصدق أنها بعض مئات من آلاف الجنيهات ... أيها السادة الوافدون، أيها المسلمون السامعون: إن النغمة العبقرية المقدّسة التي يجب أن تتفجّر بها كل حنجرة وتهدر بها كل شقشقة ويتحرّك بها كل لسان هي أن فلسطين ضاعت بالبخل والتخاذل والمطامع السخيفة في المغانم السخيفة، وأن السرائر بليت والدفائن نبشت وصحائف المجرمين نضرت فلم تبق منها خافية، وسينصب ميزان حسابهم في الدنيا قبل الآخرة، ومن أنقذه الموت من حساب الدنيا فحساب الآخرة أشقّ، وأن عذاب الآخرة أشدّ وان استرجاع فلسطين ممكن وميسور بالبذل والاتحاد والتعفّف عن المطامع، فإذا ظاهر الرأي الرأي في المعقول وشاركت اليد اليد في البذل وطهّر المجتمع العربي والمجتمع الإسلامي من المخذلين والمعذلين ومن الذين يتناولون الأمور الكبيرة بالعقول الصغيرة

والأنظار القصيرة ويعارضون تشييد الحصون بتزويق المساجد، إذا وقع هذا فأبشروا باسترجاع فلسطين ومحو العار. وإلّا فإن فلسطين ضاعت ضياع الأبد بقدسها وأقصاها وصخرتها وكأنكم بأرض العرب كلها قد ضاعت وبهؤلاء القادة وقد أصبحوا عبيدًا لليهود وبهؤلاء الطاعمين الكاسين النائمين وقد أيقظتهم الأحداث على الدواهي الدهياء، وكأنكم بأصحابنا الصخريين قد أصبحوا لاجئين لا في عين السلطان بل في عين الشيطان. ... من ذا الذي لا يعتقد أن إثارة فكرة وفد الصخرة في هذا الوقت بالذات هي معاكسة للمؤتمر وضرار له وتعطيل لسيره وإبطاء لنتائجه، ولو كانت طفيفة، ومجموعها الدفاع العملي عن فلسطين، ومن ذا الذي لا يعتقد أن هذا في صالح اليهود لا في صالح المسلمين؟ وأنه زيادة في يقينهم بأننا قوم نلهو ونلعب، ومن الذي لا يستخرج من اشتمال وفد الصخرة على العمائم الكبيرة، ان علماء الدين هم الذين تولّوا كبر هذه الزلة؟ ومهما تكن لحكومة الأردن من يد بالنيابة في تنشيطه وتمويله فإن ذلك لا يدفع الغضاضة عن علماء الدين والسخرية بهم من الناس أجمعين، وهل يعتقد أعضاء الوفد الصخري أن المسلمين بلغوا في البذل والتضحية أن يبذلوا لوفد المؤتمر ولوفد الصخرة؟ كلا، إن المسلمين لَيعجبون- ولهم الحق- بوفدين في وقت معًا، هذا يجمع لتحرير فلسطين وهذا يجمع لترميم مسجد في القدس، ويقولون: هل اتحد الوفدان وسيّرا لغرض واحد أو في الحساب أول وأخير؟ وفي الأشياء ضروري وكمالي، وفي المقاصد مهم وأهم، وفي القضايا جزئيات وكليات. أَفلم يكن في المؤتمرين وإخوانهم الصخريين من يفرّق بين قضيتين ويعطي لكل واحدة مكانها ومكانتها وظرفها واعتبارها؟ هذا ما يتصوّره المسلمون ما داموا على التكريب العقلي الانساني ثم يختمونه بحكم القرائن القريبة والبعيدة بأن وراء الأكمة شيئًا أو أشياء، ووراء هذه النفوس نوازع تختلج وأهواء تعتلج، ومتى تطرق الشك في البعض سرى إلى الكل، نعم وهذا منطق سليم. أليست هذه الأعمال التي تزيد النفوس المضطربة بالشكوك اضطرابًا، أليست هذه جريمة؟ أيها الإخوان الصخريون ... إنكم ومن أعانكم على مشروع الصخرة بالمال أو نشطكم عليه بالرأي لم تزيدوا على أن أحييتم في الإسلام سنّة من سنن المصريين القدماء في قصة عروس النيل: كانوا يزيّنون فتاة للموت وأنتم تزيّنون مسجدًا للهدم.

اتحاد المغرب العربي الكبير

اتحاد المغرب العربي الكبير * مرّ الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي في هذه الأيام الأخيرة ببغداد حيث اجتمع بالطلبة الجزائريين هناك، وقد اغتنم مراسلنا ببغداد هذه الفرصة فطلب من الشيخ البشير الإبراهيمي هذا الحديث الذي ننشره اليوم شاكرين ومؤملين أن يجد فيه قرّاؤنا الأفاضل دليلًا آخر لا على ضرورة الاتحاد فحسب بل على إمكانية تحقيق هذا الاتحاد بالفعل. ــــــــــــــــــــــــــــــ المغرب العربي وحدة لا تتجزّأ، جمعها الإسلام على تعاليمه الروحية السامية وجمعتها العروبة على بيانها وآدابها وجمعها الشرق على النور الذي بعثه مع كتائب الفتح الأول ومع اللغة التي وجّهها مع قوافل بني هلال. المغرب العربي جمعته يد الله وربطته برباط واحد هو الإسلام والعروبة ومع الإسلام القوة ومع العروبة الإباء والشمم فلا تفرّقه يد الشيطان، وكل من سعى في التفرقة بين أبنائه - ولو من أبنائه- فهو شيطان لا يدفع باللعن والاستعاذة كما يدفع شيطان الجن وإنما يدفع بالطرد من الحظيرة فإن لم يندفع فبإعدامه من الوجود. من العجز والإضاعة أن نردّ كل لومنا على الاستعمار ومن الخور والضعف أن نتراد الملامة وأن نتعلّل في كل واجب ندعى إلى إقامته وفي كل مكروه ندعى إلى دفعه، بالاستعمار وآثار الاستعمار وما الاستعمار إلا كالشيطان فيما أنبأنا الله من أخباره {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُئطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. إن تعلّلنا بالاستعمار هو خدمة للاستعمار وتعظيم لشأن الاستعمار إلى هذا الحدّ الذي صيّرنا نذكره مئات المرّات في اليوم وهو نوع من التأليه له والتفخيم لشأنه والعدو لا يغلب بكثرة ذكره مقرونًا باللعن والتأفف وإنما يطرد بالتفكير في التخلص منه ثم طرده ولو لم تذكره مرّة في العمر. الواجب كله مقصور على أبناء المغرب العربي فهم مطالبون به مطالبة لا يمنعها عنهم إلا القيام بهذا الواجب ففي أيديهم السلاح الذي يستطيعون به التخلص من الاستعمار لو أحسنوا استعماله ففي إمكانهم أن يتحدوا فلماذا لم يتّحدوا؟ وفي إمكانهم أن يصلحوا

_ * جريدة "صوت الجزائر"، عدد 7، 13 فبراير 1954، تحت عنوان "الشيخ البشير الإبراهيمي يتحدّث عن الاتحاد".

مفاسدهم الداخلية وأكثرها نفسية فلماذا لم يصلحوها؟ وفي إمكانهم أن يستغلوا ما أفاء الله به عليهم من دين وفضائل فلماذا لم يستغلوها؟ محال أن يستقل جزء من المغرب العربي وحده ولتكن لنا في هذا عظة ألقاها علينا الاستعمار لو فقهناها وهو أنه يوم احتلّ الجزائر كان يضمر احتلال تونس ثم مراكش، ومن يوم احتلّ الجزائر وهو يستعد للخطوة الثانية فلما رأى الفرصة ممكنة خطا خطوته ونحن في غفلة ساهون، ويوم رأى إمكان الخطوة الثالثة لم يقصر وقد بلغ في الخطوة الثالثة من استخفافه بنا واستهتاره بشأننا ان سخّر الجزائري ليقتل أخاه المراكشي. ولو كان أجدادنا على شيء من فهم معنى التضامن الإسلامي لما ترك المراكشي والتونسي الجزائر تتخبط وحدها في المقاومة ولنبّهتهم ضمائرهم أن هذا الغول ان تغذّى بالجزائر فسيتعشى بتونس ومراكش، ولكنه كان مستيقظًا وكانوا نائمين حتى انتهى الأمر إلى الغاية المحزنة. صيحتي إلى أبناء المغرب العربي أن لا يضيّعوا الوقت في التلاوم والتعلات الفارغة، فإن الزمن سائر وإن الفلك دائر وإن الوقت أضيق من أن نقضيه في مثل هذه التوافه، فإذا لم يزعنا دين فلتزعنا المروءة، وإذا خلونا منهما معًا فلتكن الثالثة المرعية بالعين وهي هذه الذلة التي غمرتنا وهذا الاسترقاق الذي أوصلنا إلى سوء غاياته وهي أننا أصبحنا في درجة نخجل أن نسمّيها عبودية ... وإذا كان الاستعمار قويًا كما نتخيّل فإننا نزيده قوة بتخاذلنا وتفرّقنا وتطاحن هيئاتنا وإضاعة أوقاتنا الثمينة في الجهل الفارغ والانسياق مع الأهواء المضلّلة التي أضاعت علينا استغلال الكفاءات الموجودة، وهيهات أن يحيا وطن أو يستقل بالهتافات المتردّدة من الحناجر بين يحيا فلان ويسقط فلان. إن عدوّنا واحد فلنلقه في ميدان واحد برأي واحد وصف واحد، ولو فعلنا وأخلصنا لسعت إلينا الحرية ركضًا، ولكن عدوّنا أعلم بهذه النقائص فينا منا فهو نائم ملء عينيه ما دام يرانا على هذه الحالة. أزعجوه وأقضوا مضاجعه باتحاد لا يتزعزع وعزائم لا تتزلزل وأخلاق يذعن لها الجبابرة، ويومئذ تجدون الاستعمار وقوّته وأساليبه وتخيلاتكم فيه كلها باطلًا في باطلٍ وتجدون منها جميعًا ما يجدع الخائف من الغول الذي لا حقيقة له. إن العقلاء ليعجبون منا كيف نرضى الهوان من المستعمر وهو هوان حقيقي من عدوّ حقيقي ثم لا نرضى بعشر معشاره من الأخ المشارك في السرّاء والضرّاء.

أيها المغاربة، إن عدوّكم عرف من دينكم أكثر مما تعرفون بل عرف منه ما لا تعرفون وهو أنه منتج للقوّة والفضائل فلذلك حاربه عالمًا به وكنتم عونًا له على حربه جاهلين بما يعلمه منه، فهل لكم أن تراجعوا بصائركم في هذه النقطة على الخصوص فتعلمون أي ذخائر من القوّة أضعتم وأي كنز فرطتم فيه واستغله عدوّكم. أفما آن لكم أن تتوبوا إلى بارئكم وتثوبوا إلى المراشد التي تركها لكم محمد بن عبد الله؟ إنكم إن فعلتم فضضتم المعركة بينكم وبين عدوّكم بضربة وكنتم المنتصرين.

رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك

رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك * حضرة معالي الوزير شيخ أدباء هذا العصر الأستاذ الكبير خليل مردم بك المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بلغتني رسالتكم البرّة فدلتني على موطن مأهول من مواطن كرمكم وفضلكم، وما هو بالمجهول عندي ولكنه كان مغمورًا في نفسي بأشياء من جنسه، وإنما نقلتني هذه اللفتة الكريمة منكم من الشك إلى اليقين بأنه ما زال من أئمة الأدب من يكرم الأدب، ومن أساطين العلم من يُجلّ العلم بعدما كنت على شفا يأس من ذلك. أنا أعدّ نفسي طبيعيًا في مجمعكم العلمي الموقّر والطبيعيات في غنى عن الرسميات، وقد كنت أتغطى وأتوارى في ذلك خجلًا من نفسي ألّا أستطيع الوفاء بحقوق المجمع عليّ لا لعجزي فأنا بحمد الله بقية من بقايا حرّاس لغة العرب، بل لكثرة أشغالي وتنوّع ميادين جهادي، أما إذا أبى فضلكم إلا أن أكون عضوًا رسميًا فأنا نازل عند رغبتكم، سعيد بعطف إخواني واهتمامهم بي، مقدّر للمنزلة التي تجمعني بإخواني شيوخ الأدب وتلامذتي الأعزة من أعضاء المجمع، بل أنا أرى أن للفتتكم هذه من الآثار الجليلة ما إن أيسره وصل رحم بيني وبين إخوان أجلّاء وتلامذة أعزاء كانت شبه مجفوّة، وصلكم الله به وأحاطكم برعايته وأجرى على أيديكم كل خير للعربية وتاريخها وعلومها. أما ما طلبتموه من ترجمة حياتي وصورتي فسيأتيكم بعد أيام، وسلامي إلى أستاذنا الجليل الشيخ عبد القادر المغربي وإلى جميع الإخوان. واسلموا جميعًا لأخكيم المعتزّ بكم: محمد البشير الإبراهيمي

_ * أُرسلت هذه الرسالة من القاهرة بتاريخ 17 يوليو 1954.

حديث رمضان

حديث رمضان تصحيح الجهاد * ــــــــــــــــــــــــــــــ لم تبتذل كلمة عربية مثل ما ابتذلت كلمة "الجهاد" على ألسنة هذا الجيل في الشرق الإسلامي، فلعلّها أصبحت أكثر الكلمات دورانًّا على الألسنة، وسيرورة في الأفواه، ووصفًا بها لكل غاد ورائح، ومع هذا الدوران الكثير لا توجد كلمة أفرغ من معناها منها. والكلمات الفارغة من المعاني كالأجساد الفارغة من الأرواح: تلك كلمات ميتة وهذه أجساد ميتة، وما كانت الأجساد نافعة إلا بالأرواح، ولا تكون الكلمات صادقة إلا بتحقيق معانيها في الخارج، والأرواح في الأجساد، والمعاني للألفاظ هما معنى الحياة وما تستتبعه من آثار. تساهلنا في هذه الكلمة ومشتقاتها حتى أصبحنا نطلقها على كل عمل سخيف، ونصف بها كل عامل ضعيف، واستطابها العجزة القاعدون منّا فأصبحوا يطربون لوصفهم بها، ويبذلون الكرائم لتحليتهم بوصفها، وملك التساهل على الألسنة والأقلام أمرها فأصبحت تضع هذه الكلمة وغيرها في غير موضعها وتجود بها على غير مستحقّيها. أتدرون لماذا يغضب الناس من وصفهم بالمكروهات ولو كانت موجودة فيهم، ولا يغضبون لوصفهم بالمحبوبات إذا كانت مفقودة منهم؟ فالبخيل المسيك يأنف أن يوصف بالبخل ويطرب إذا وصفته بالكرم، والجبان الرعديد يغضب أن يوسم بالجبن، ويرتاح إذا وصفته بالشجاعة. علّة العلل في ذلك هي ضعف التربية الأخلاقية فينا معشر الشرقيين، وبعد المسافة بين القول والعمل عندنا، واختلال الموازين العقلية في تقديرنا، ونسياننا للواقع حين نتناول

_ * مجلة "المسلمون" السنة الثالثة، العدد السابع، رمضان 1373هـ / ماي 1954م.

الأشياء بالوزن والمقارنة. إن هذه النقائص تبتدئ في الفرد فلا يظهر أثرها، ثم تنتقل إلى المجموعات فتبرز آثارها السيّئة، فتكون بلاء وشرًا وخضوعًا واستسلامًا. ولقد مرّت من تاريخ الإسلام حقب صالحة كان السلطان فيها للفضيلة، فصحّت الموازين، وعرفت القيم، فكان الواحد من أولئك القوم يرى من أبلغ السب أن تمدحه بما ليس فيه، ثم هجمت علينا الرذائل يقودها الغرور والأنانية والمبالغة فأفسدت علينا تربيتنا النفسية، وجرّ شيء إلى أشياء حتى انتهينا إلى هذا الانحطاط الخلقي الذي نرى آثاره، ونتجرعّ مرارته. الجهاد- أيها المسلمون- لفظ قليل، تحته معنى جليل. هو صرف القوى الروحية والعقلية والفكرية، تظاهرها القوى المادية، إلى تحقيق غرض مما ينفع الناس؛ ويتفاوت شرف الجهاد بتفاوت ذلك الغرض في النفع، فإذا لم يكن للجهاد غاية ولم يكن فيه نفع كان جهدًا ضائعًا وسعيًا عقيمًا، أما إذا كان وصفًا تطلقه الألسنة كما هو واقع في زماننا هذا فهو نفاق يصطنعه الطامعون، وتزوير يتعلل به الفارغون. وشوقي يقول: إذا كثر الشعراء قلّ الشعر، ونقول على وزنه: إذا كثر المجاهدون قل الجهاد. تكررت في النصوص القرآنية كلمة "الجهاد بالنفس" في معرض الأوامر التكليفية. والأوامر الدينية بمعانيها الكاملة إنما تتوجّه إلى أصحاب النفوس الكاملة التي اطمأنت للإيمان بالله، والإيقان بالحق الذي يدعو إليه، والرضا بأحكامه الدينية والقدرية. وجعل الحياة المحدودة مطية للحياة الخالدة. وما وصل أصحاب هذه النفوس إلى هذه الدرجة من الكمال إلا بعد جهاد في النفس، هيّأها للجهاد بالنفس ثم دفعها إليه. فأعلى مراتب الجهاد وأصله الذي تتفرّع منه فروعه هو الجهاد في النفس حتى تستقيم على صراط الحق والفضيلة، وتستعدّ لما بعد ذلك من أنواع الجهاد الخارج عن النفس. والنفس البشرية كسائر الكائنات الحية يجب أن تتعاهد بالتربية الصالحة، وتراض على الفضائل والكمالات وإن شقّت، حتى ترجح قابليتها للخير على قابلية الشر، وكل هذا يفتقر إلى جهود، فهو جهاد فيه كل خصائص الجهاد بمعناه الخاص الضيّق، ويزيد عليه بأنه أصله وأساسه، وقد وردت الآثار بتسميته "الجهاد الأكبر". والمعلم والمربي لا يغنيان في هذا الباب ما يغني صاحب النفس، فهو أقدر على كبح جماحها، ومراقبة دخائلها، وضبط أنفاسها، وتنظيم خواطرها، وقمع نزعاتها الباطلة وحظوظها السافلة ونزواتها الشهوانية، وإفاضة النور المبدّد للظلام في جوانبها.

أيها المسلمون: إننا لا نصدق الجهاد في عدوّنا الخارجي إلا إذا صدقنا- قبل ذلك وتوطئة لذلك- الجهاد في نفوسنا التي بين جنوبنا، جهادًا يصفي أكدارها، ويطهّرها من المطامع الدنية والأغراض السخيفة، والشهوات الحيوانية، حتى إذا لقينا العدو الخارجي لقيناه بنفوس مطمئنة، وبصائر مستنيرة، وعزائم مصمّمة، وقلوب متّحدة على غاية واحدة يسوقها سائق نفساني واحد قبل سائق العلم والنظام، وتدفعها قوة نفسية واحدة قبل دافع المادة والآلة. إن النظام والآلة والعلم كلها مكملات تأتي بعد إعداد النفوس. وإننا لا ننتصر على العدو الخارجي حتى ننتصر على العدو الداخلي وهو نفوسنا، فلنبدأ بها، فمن سنّة القتال {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ}. الطمع وحب الجاه والغرور والحسد والأنانية والبغضاء والحقد والبخل ... كلها نقائص في نفوسنا يجب أن نطهرها منها، وكلها مداخل لعدوّنا يأتينا منها، فيجب أن نسدّها عليه، ولهي- والله- أضرّ علينا من ثغورنا المفتوحة في وجه العدو. إن أعداءنا الذين ملكوا رقابنا واحتلّوا أوطاننا وسامونا الذلة والهوان واستعبدونا شر استعباد، إنما استعلوا بأخلاقهم القوية على أخلاقنا الضعيفة، ثم استعانوا بنا علينا، فمتى طلبوا خائنًا لوطنه منا وجدوا العشرات، ومتى التمسوا جاسوسًا يكشف لهم عن أسرارنا ويدلهم على عوراتنا وجدوا المئات، ومتى التمسوا ناعقًا بالفرقة فينا أو ناشرًا للخلاف بيننا وجدوا الآلاف، ومتى أرادوا حاكمًا منّا على أن يسمع لهم ويطيع ويبيعهم مصالح بلاده وجدوه فوق ما يريدون، وما ذلك إلا لأن نفوسنا أنهكتها الرذائل وتحيفتها النقائص. أيها المسلمون: هذا شهر رمضان وهو المدرسة الإلهية التي تعلم الجهاد في النفس، وهو الميدان الذي تجري فيه التمرينات القاسية والإعداد الكامل والامتحان الشامل، فإما نجاح في جهاد النفس يخرج صاحبه بشهادة "قوة الإرادة" و "صدق العزيمة"، وإما إخفاق يحمل صاحبه شارة العبودية والهزيمة. إن قوة الإرادة هي التي ملكت زمام العالم فيما ترون وتسمعون، وإن قوي الإرادة هو الذي لا يدع المجال لشهوات النفس وملذاتها الزائلة أن تنزل به عن مقامات العزة والسيادة والشرف، إلى مواطن الذل والعبودية والضعة. وإن صوم رمضان جهاد أي جهاد في النفس التي هي مصدر الملكات كلها، لأنه هجر للشهوات المستولية على البطون والفروج والألسنة، وقمع لأضرى الغرائز الحيوانية، وترويض على الإحسان والبر والرحمة، واشتراكية سلبية بين الأغنياء والفقراء في أخصّ

خصائص الفقر وهو الجوع، وتجويع جبري يذوق به الناعم طعم الخشونة، والواجد طعم العدم، والمبطان ألم الجوع، ليعرف من هذا الدرس العملي السنوي ما يقاسيه الجياع الطاوون. ولو أن مواعظ الوغاظ كلها سكبت في أذن الغني المنعم الذي لم يجع في حياته، واصفة له الجوع وآلامه وما يلقاه الجائع المحروم من ذلك، لما بلغت من نفسه عشر ما تبلغه جوعة يوم طويل، لأن كلام الوغاظ مهما يبلغ من التأثير لا يَعْدُ أن يكون تصويرًا ينتج التصوّر، أما الجوع الحقيقي فإنه تطبيق وتصديق، ومن لم يذق لم يعرف. ليس لله حاجة في أن ندع الطعام والشراب في هذا الشهر وإنما له في ذلك حكمة عالية، وهي أن نجاهد أنفسنا ونروّضها على تحمّل المكاره، ونرغمها بهجر شهواتها المألوفة وقمع نزواتها الطاغية لترقى من كثافة المادة إلى لطافة الروح، وأن نقوّي بذلك إرادتنا في شهر لنستعملها قوية في جميع الشهور. إن الصوم يقوّي الروحانية ويغذّي الفضائل ويشدّ العزائم، ويغري الفكر بالسداد والإصابة، ويربّي الإرادات على الحزم والتصميم. وإن حياتكم اليوم حرب لا تنتصر فيها إلا الأخلاق المتينة، فاجعلوا من رمضان ميدانًا زمنيًا للتدريب على المغالبة بالأخلاق تنتصروا على عدوّكم، فتخرجوا هيبته من قلوبكم، ووسوسته من صدوركم، وجيوشه من بلادكم. إن عدوّكم يعتمد على متانة الأخلاق قبل اعتماده على الحديد والنار، فأعدّوا له أخلاقًا أمتن تفلوا حديده وتطفئوا ناره. إن عبيد الشهوات لا يتحررون أبدًا، فلا تصدّقوا أن من تغلبه شهواته يستطيع أن يغلب عدوًا في موقف. ابدأوا بتحرير أنفسكم من نفوسكم وشهواتها ورذائلها، فإذا انتصرتم في هذا الميدان فأنتم منتصرون في كل ميدان.

داء المسلمين ودواؤهم

داء المسلمين ودواؤهم * الباحث في أحوال المسلمين بحث تقصٍ واستقراء رجل من اثنين، رجل من أنفسهم ورجل من غيرهم، وكلا الرجلين يجتمع بصاحبه في نقطة تبعث الحيرة وهي: كيف يسقط المسلمون هذا السقوط المريع وفيهم كل أسباب الصعود وبين أيديهم كل ما ارتقى به أسلافهم، فأصول الدين من كتاب وسنّة محفوظة لم يضع منها شيء، وأسباب التاريخ واصلة لم ينقطع منها شيء، واللغة إن لم ترتق لم تنحدر، والعرب الذين هم جذم الإسلام ما زالوا يحتفظون بكثير من الخصائص الجنسية ومعظمها من المكارم والفضائل، والأرحام العربية ما زالت تجد من بين العرب من يبلها ببلالها، فلم تجف الجفاء كله وإن لم توصل الوصل كله، والتجاوب الروحاني الذي تردّد صداه كلمة الشهادة في نفوس المسلمين وكلمة التلبية في جنبات عرفات لم يتلاشَ تمامًا، والأرحام المتشابكة بين المسلمين لم تجف الجفاف الذي يقطع الصلة، ومن السنن الكونية المقرّرة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أوّلها فينقطع التيّار الدافع فيتعطّل التقدّم. والمسلمون لم ينسوا مآثر سلفهم، بل هي بينهم مدوّنة محفوظة مقطوع بها بالتواتر، بل هم أكثر الأمم احتفاظًا بمآثر السلف وتدوينًا لها، ولا يعرف بين أمم الأرض أمة كتب علماؤها فيما يسمّونه الطبقات والسير مثل ما كتب المسلمون في ذلك. والباحث الأجنبي معذور إذا تحيّر، وقد يخفّف عنه ألم الحيرة ابتهاجه بهذا السقوط، وان بحثه عن الداء ليس بقصد الدواء، فقد عوّدنا كثير من هؤلاء الباحثين الأجانب أنهم لا يبحثون لذات البحث ولا يدرسون هذه المواضيع لوجه التاريخ الخالص، فضلًا عن أن نجد عندهم ما يطلب من العالم المخلص، وهو أن يرمي ببحثه وبإعلان نتائج بحثه إلى تنبيه الضال ليهتدي والمريض ليسعى في الاستشفاء والساقط ليأخذ بأسباب الصعود والنهوض،

_ * مجلة "المسلمون "، السنة الثالثة، العدد 9، ذو القعدة 1373هـ / يوليو 1954 م.

وإفهامه أن الأيام دول وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمّد إضلالنا في تعليل الأشياء، كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغترًا، أو يعالج داءه بداء أضرّ، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه ... وأن من يستطب لدائه بإشارة عدوّه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة ... أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين- بعد اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال- فريق منهم هدي إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلا إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه، وذلك أنه أقام الدين فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله فانقاد له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة، فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين، وأرشده إلى أن سعادة الدنيا عز وسلطان، وعدل وإحسان، وأن سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبر. وفريق ضلّ عن الحق في الدواء، لأنه ضلّ قبل ذلك في تشخيص الداء، وضلّ من قبل ذلك في طريقة البحث فتلقّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلّ من قبل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكّر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمدّة من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلا القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئًا. وقد علمنا من سنن الحب أن أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوّتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل، أما هؤلاء العشاق المتيّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق وتحفظ لصاحبها خط الرجوع. هذا الفريق المزوّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه، يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم، والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تحفظ، وهو يعمل لهذا جاهدًا، يُسِرُّهُ المسر كيدًا، ويعلنه المعلن وقاحة، وانك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم، فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأن القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وان

الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأن الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفع، ولكن هذه الطائفة منا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو، لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر لأن لها بريقًا هو حظ العين وان لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق. هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهم أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحًا ووجهًا لوجه، صراعًا في الحرب، وحكمًا في السلم، فيمارسون منها خصمًا شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق، فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلّط على الماديات، أما القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلا لأن هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية وبقيت هي عليها محافظة، ولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إن وراء هذه المدنية علمًا هو أساسها، وأن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبوابًا أمامية يدخلون منها، وأبوابًا خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي، وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضًا، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار، وما زدنا بسفهنا على أن جهّزنا له جيشًا من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا، وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمّم العزم على التمكين له، وقد كنّا لا نحترمه ولا نصادقه ولا نصافيه ولا ندمث له موضع الإقامة. ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ انهم بتعلّمهم في الغرب، بلغة الغرب وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنّوا انهم أصبحوا كالغربيين، فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئًا، إذن لم يقع في تقديرهم ان جلّ الأحوال التي قلّدوا فيها الأوروبي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزّه وقوّته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلا ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنّوا غلطًا في الفهم أن هذه الحضارة غربية، وأخطأوا فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة فتبقى شاهدة له حتى تضمحلّ.

إن جلّ أبنائنا الذين التقطتهم أوربا لتعلّمهم عكسوا آية فرعون مع موسى. ففرعون التقط موسى لينفعه ويتّخذه ولدًا وربّاه صغيرًا وأحسن إليه، فكان موسى له عدوًا وحزنًا وسخنة عين، أما أبناؤنا فقد التقطتهم أوربا وعلّمتهم وربّتهم فكانوا عدوًا لدينهم، وحزنًا لأهله، وسخنة عين لأهليهم وأوطانهم، إلا قليلًا منهم دخل النار فما احترق، وغشي اللج فأمن الغرق. والسبب في هذا البلاء هو استعداد فينا كاستعداد المريض للموت، وشعور بالنقص في أنفسنا، لبعد عهدنا بالعزّة والكرامة، ولموت أشياء فينا تصاحب موتها في العادة يقظة أشياء، ففقد الإحساس بالواجب تصحبه يقظة الشهوات الجسدية، وقوة الإحساس بالواجب هي التي أملت على بعض خلفائنا أن يعتزل النساء كلما هم بالغزو، وهي التي حملت كثيرًا من قضاة سلفنا على أن يقمعوا شهوتهم الجسدية بالحلال قبل أن يجلسوا للخصوم في مجالس الحكم، وموت النخوة تصحبه سرعة التقليد وعادة الخضوع للغالب وسرعة التحلّل والذوبان. إن الغرب لا يعطينا إلا جزءًا مما يأخذه منّا، ولا يعطينا إلا ما يعود علينا بالوبال، وقد أعنّاه على أنفسنا فأصبح المهاجر منّا إلى العلم يذهب بعقله الشرقي فينبذه هناك كأنه عقال على رأسه لا عقل في دماغه، ثم يأتيتا يوم يأتي بعقل غربي، ومنهم من يأتي بعقل غربي، ومعه امرأة تحرسه أن يزيغ ...

مساعي جمعية العلماء في قضية الزعيم الحبيب بورقيبة

مساعي جمعية العلماء في قضية الزعيم الحبيب بورقيبة * ___ ننشر فيما يلي برقيتي الأستاذ الرئيس والأستاذ الفضيل الورتلاني، في الاحتجاج والاستنكار لما يعانيه الزعيم الحبيب بورقيبة في معتقله من معاملة قاسية وعذاب مهين. ــــــــــــــــــــــــــــــ السيد سفير فرنسا بالقاهرة "باسم الشعوب التي تجمعها العروبة ويظلّلها الإسلام في المغرب العربي وتوحّد بين قلوبها المظالم المنصبّة عليها من حكومتكم، نرفع احتجاجنا الصارخ واستنكارنا العميق للمعاملة القاسية التي يعامل بها الزعيم الحبيب بورقيبة لا لشيء إلا لأنه يطالب بحقوق بلاده، ونعدّ هذه المعاملة قتلًا بطيئًا، إن أباحته قوانينكم الجائرة فستعاقبكم عليه قوانين الله العادلة". محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني وأرسل المكتب أيضًا برقية الشكر التالية إلى أمانة الجامعة العربية: "سيادة الأمين العام لجامعة الدول العربية- القاهرة، علمنا الحالة السيئة التي وصل إليها الزعيم الحبيب بورقيبة في معتقله فحزنا الحزن العميق لما يلقاه هذا المجاهد من عذاب الاستعمار الفرنسي الوحشي على سمع العرب

_ * «البصائر»، العدد 279، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 16 جويليه 1954.

وبصرهم، ثم قرأنا عن مساعي الجامعة العربية وخطواتها في أداء الواجب نحو هذا المكافح فكان هذا السعي تخفيفًا لحزننا وسلوى وعزاء لنا. إننا حين نضيف صوتنا إلى أصواتكم في الاحتجاج والاستنكار لتعذيب هذا الزعيم، نقدم لكم شكرنا بلسان المغرب العربي كله، معلنين للعالم أن هذا العمل من الجامعة زيادة عن كونه واجبًا هو منّة طوّقتم بها رقاب ثلاثين مليون عربي كلهم مستنكر ومتألم للمعاملة التي يعامل بها الظالمون هذا المجاهد". محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني

من عاذري؟

من عاذري؟ * يعز علي أن أنقطع عن الكتابة في «البصائر» هذه المدة الطويلة وأن أهجر أحبّ ميدان من ميادين العمل إلى نفسي وهو صفحات «البصائر»، فلقد كنت أجد من اللذة في ذلك العمل ما لا أجده في غيره من أعمالي العمومية وأحسّ للكلمة أكتبها في «البصائر» من حسن الوقع والارتياح ما لا أجده للمحاضرة تهزّ الجمهور وتصيب مواقع التأثير منه، وكأن الاتصال الروحاني بيني وبين القارئين أوثق وأعمق منه بيني وبين السامعين. ويعزّ علي- أكثر من ذلك- أن أتلقّى سهام العتب من قرّاء «البصائر» في الشرق والغرب على هذا الهجر الطويل، فلقد لقيت في مطار القاهرة، قبيل رمضان الماضي، أخوين فاضلين من شيوخ جامع الزيتونة متوجّهين إلى المدينة المنوّرة، وكانا لا يعرفانني إلّا من طريق قراءة «البصائر»، ففرحا بلقائي وفرحت بلقائهما، وما كاد ينتهي تنازع التحية بيننا حتى وجّها لي العتاب الشديد على حرمان القرّاء من مقالاتي في «البصائر» ووصفاها بما هما أهله من كرم النفس. ورجعت من المطار إلى القاهرة فتلقّيت في بريد ذلك اليوم عدة رسائل تَنْعَى علي هذا الهجر وهي في ذلك بين مخفف ومشدّد، ثم تلقّيت في الأسبوع الأول من رمضان عدة رسائل لم تخل واحدة منها من عتاب ومن بينها رسالة من الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني، شاب فيها العتاب بالمطالبة بالحق المدني، وصنع معنى بمعنى، فكانت حجّته داحضة لأنه سدّ عليّ أبواب المعاذير. ثم سافرت في سابع رمضان إلى بيروت وسمر حولي جماعة من الأصدقاء فكدروا عليّ صفو السمر بالعتاب، وسافرت بعد يومين إلى دمشق، فسمعت العتاب المر من جماعة من الأصحاب، ثم وردت بغداد في صبح ثالثة فلقيني بعض المستقبلين وفي يده العددان الأخيران من «البصائر» - وكنت لم أرهما بعد- ووجّه إلي على خلاف عادته أقسى ما سمعته من اللوم بأسلوب شعري وكأنه عاذل يعذل على الهجر، والعذال إنما يعذلون على الوصل.

_ * «البصائر»، العدد 278، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 9 جويليه 1954.

وقع هذا كله في أسبوعين وكأن القوم كانوا فيه على تواطؤ مع تباعد الديار، فقلت: أتواصوا به أم هم قوم مخلصون؟ جمع بينهم التقدير لهذه الصحيفة المجاهدة فعز عليهم أن تخلو من قلم عرف بها وعرفت به، ولم يزل اسم صاحبه في صدرها يلوح للأعين كباقي الوشم في ظاهر اليد. إن هذا الإجماع العجيب على لومي ألجأني إلى كثرة المعاذير، والمعاذير إذا كثرت أصبحت كبعض هذه الأدوية الكيماوية التي تبطل خاصيتها بالتعوّد، وقد أصبحت لكثرة ما اعتذرت أشعر كأن أعذاري منتحلة، وإن كانت قائمة بي وقائمة حولي، وأهمها عجزي عن الكتابة بمعناها الصناعي، أعني تحريك اليد بالقلم على القرطاس، فقد أصبح هذا أشق شيء أعانيه بسبب هبوط عام في قواي الجسمية، والبصر إلى كلال، والهمة إلى خمود، وتلك الذاكرة الواعية الصيود أضحت (كشنة خرقاء واهية الكلى) تضيع أكثر مما تمسك، ولم أتعوّد الإملاء فأملي، وطالما حاولت فلم آت بشيء، والعادة التي ملكتني هي أن قريحتي لا تجود بشيء إلا إذا وضعت سن القلم على القرطاس، فهنالك تنثال شآبيب القول ولكل امرئ ما تعوّد. طال هذا الهجر مني لـ «البصائر» ولكنه لم يثمر ثمرة الهجر الطويل وهي النسيان، فلا أنا نسيت «البصائر»، وإن بي من الحنين إليها ما لا أجده لأقرب الأشياء إلى قلبي، ولا القرّاء نسوني، وإنني لألقى من عتابهم البَرْح الذي لم تلطف منه المعاذير، وإن كانت حقًا وكانت واقعًا وكانت حرية بالقبول. ... إن إخوان العشرة والنشأة والعمل والتجربة يسرفون في اللوم إلى حد التجنّي، لأنهم يعتقدون أن الكتابة لا تسهل لأحد مثل ما تسهل لي ولا تؤاتي أحدًا مؤاتاتها لي والمادة من اللغة والفكر والطبع والمواضيع في نظرهم موفّرة لدي، وأكثرهم يستدلّ على هذا بسهولة الكلام علي وتأتيه وانقياده في المحاضرات الطويلة المرتجلة والدروس العلمية، ويقولون ان تلك المحاضرات والدروس لو وجدت من يكتبها كما تلقى لكانت مقالات أو كتبًا لا تحتاج إلى تنقيح ولا إلى إعادة نظر، وهم مخطئون في هذا الحكم لأنهم يتناولونه بميزان غير قار، فإن الحالات التي يكون معها التأتى والانقياد والاسلاس هي حالات نفسية وأصباغ وجدانية تخصّ الكاتب أو الخطيب وليس الناس فيها بمتساوين ولا القياس فيها بمطرد، وعن نفسي أتحدث، فإنني أجد من السهولة ومؤاتاة الكلام في مواقف الخطابة ما لا أجده في مواضيع الكتابة، ثم جاءت العادة والمران فأحكما ذلك في طبعي، ومردّ ذلك في نفسي وفي حكمي

إلى أنني أجدني في الخطابة مأخوذا بالمغافصة وهي لا تدع المجال للروية والتحكيك وعرض الأساليب واختيار أحسنها، وقد يعين المرتجل على الارتجال شعوره بأن الارتجال مصحوب بالعذر، وأن صور الكلام وألفاظه أعراض تنقضي فلا يستطيع السامع أن يحاسب على دقائقها، ولا تبقى من المحاضرة إلا الصورة الكلية المجملة، وليست الكتابة كذلك. ومن عيوبي التي لازمتني من الصغر أنني حين أكتب تحفل شعاب فكري بمعان في الموضوع الواحد، وأريد تصويرها فتنثال على القلم صور متعددة من التراكيب والألفاظ ويحملني الافتتان بالكثير منها على تدوينه، وأجد نفسي بين صور كثيرة للمعنى الواحد أو للمعاني المتقاربة، ويوزّع إعجابي بها ما يوزّع الحنان على الأبناء المتعددين، وألقى العناء في ترجيح واحد منها. ثم أرجح بدافع يخضع للقواعد المحكمة بين الناس، وقد يكون في الصور التي أطرحها ما هو أبلغ وأوعب للموضوع وأرضى للقرّاء ولكن هذا عيبي، وقد اعترفت به وهو بعض السر في التفاوت الذي يدركه القرّاء في أسلوبي، وما أريد أن أخرج من هذا بعذر وإنما أريد أن أردّ به زعم الزاعمين أن الكتابة ميسّرة لقلمي، وأقول ان الكتابة أصعب علي بكثير، وإذا كانت الركية البكية متعبة للماتح بنزورها، فالجزور متعبة له بثرورها. أيها اللائمون: لا هجر ولا قلى قبل اليوم، ولا لوم ولا عتاب- إن شاء الله- بعد اليوم، فإن كان ثمة هجر فهو هجر بلا سلو، وكيف أسلو «البصائر»، وقد كانت سلواي في المحن، وميداني في قراع المستعمرين والمتّجرين بالدين. وكانت سلاحي في الحملة على من أضاعوا فلسطين، وكانت مجلى حجّتي في جدال الظالمين للعربية والدين، وكانت مشرق النور الذي فجّرته من النصائح على أبنائي الطلبة والمعلّمين، وكانت الحلبة التي سبقت فيها الكتاب في قضايا العرب أجمعين. وبعد، فإنني أشكر لإخواني العاتبين أن عتبهم كان سببًا في أوبة من جوبة، وتوبة من حوبة، وكم جرّ العتاب إلى متاب، وحسن مآب.

رسالة الأستاذ الورتلاني

رسالة الأستاذ الورتلاني في الدستور الإسلامي المنشود * ــــــــــــــــــــــــــــــ الأستاذ الفضيل الورتلاني رجل وهبه الله أوفر الحظوظ من قوة العقل وبراعة الذهن، وصفاء القريحة، وسداد الفهم، وعمق التأمّل، ودقة الملاحظة، ومتانة العقيدة، وطهارة الضمير، وبُعد النظر، ونصاعة البيان وجراءة اللسان، ثم وفّقه إلى البحث الممحص في حقائق الإسلام وتاريخه، ثم في دقائق شؤون المسلمين ثم في الفروق بين تلك الحقائق وبين واقع المسلمين، ثم يسّره للعمل في هذا الميدان، فخطب وكتب في هذه المواضيع المتشعّبة الأطراف، وانتهى به الرأي إلى غايات أصبحت عنده جزءًا من عقيدة الحق، ثم طلبت تلك المواهب كمالاتها فيه بالاختلاط بجميع الطوائف من المسلمين وغيرهم، فهو مع غير المسلمين حرب على ظلمهم وظلامهم، ودحض لدعاويهم وأوهامهم، ونقض لحججهم وتوهين، وهو مع المسلمين غير ذلك: يشجّع عاملهم، ويحرّك خاملهم، وينصح ملوكهم وأمراءهم ورؤساءهم وقادة الرأي والسياسة والاقتصاد فيهم، يعرض على كل واحد منهم الرأي صريحًا غير مجمجم، واضحًا غير مبهم، جريئًا غير متردّد، خالصًا غير مشوب، وله مع كل طبقة من طبقات المسلمين موقف وأسلوب، ومن عجيب أمره أنه يتّسع للعامي بما يناسب طبقته، ثم يتدرّج مع الطبقات واحدة واحدة إلى أكبرها شأنًا أو أرقاها علمًا، وأعلاها درجة في أوضاع المجتمع، فتجده مع كل طبقة وكأنه لا يحسن إلا سياستها، ولا يجيد إلا أسلوبها، فإذا وصلت معه إلى الطبقات العليا تجلّت لك براعته في الأسلوب الخاص بها بيانًا وإقناعًا ومتانة حجة ولطف مدخل إلى النفوس، وتستند تلك القوة فيه إلى ملكات ثانوية من صلابة لا تلين، وذاكرة لا تخون وعزة لا تهون؛ وقد يشتدّ لموجب، وقد يغلو في رأيه وقد يتعصّب فتخال ذلك منه شدة وغلوًا وتعصّبًا مما يعرف الناس، فإذا بلوته واستقرأت سوابق الرأي ولواحقه، واستبرأت علله وغاياته حكمت بأنها

_ * «البصائر»، العدد 282، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 27 أوت 1954.

شدة المؤمن الموقن وغلو الجاد المتقصي، وتعصّب الدارس الذي يقطع أقصى مراحل التفكير وأقساها، حتى إذا خلصت له الفكرة من شوائب الشك قذف بها في الناس وحامى دونها وتعصّب لها، ليكون التعصّب نصيرًا وشاهدًا عليها، فالتعصّب للفكرة عند هذا الصنف من المفكرين ليس تعصّبًا إلا في مظهره، أما حقيقته فهو توكيد معنوي للفكرة وذود عنها وتمكين لها، وما أكثر جنايات الأسماء على الحقائق. ومعرفة الأستاذ الورتلاني لا تتم إلا بمعرفة نشأته وتربيته الأولى، فقد نشأ على مقربة من الفطرة السليمة وتربّى تربية دينية يتعاهدها المربي من والدين ومعلّمين بالمحاسبة على الصغيرة والكبيرة والمناقشة في الجليلة والحقيرة، فأيفع وشبّ مرتاض الطبع على المحاسبة والمناقشة والاهتمام والجد مع توهّج الإحساس وإشراق الروح وسموّ الغاية، يعاون ذلك كله ذكاء متوقّد وبديهة مطاوعة في مجالات القول ولسان كالسيف المأثور إذا لاقى الضريبة صمم، وما زالت تلوح على تفكيره ورأيه آثار من تلك التربية يعرفها من يعرفها وينكرها من يجهلها. والأستاذ الورتلاني إنساني النزعة ثم إسلاميها، ثم عربيها، ثم جزائريها، تتزاوج هذه النزعات في نفسه من غير أن تتغاير ولا أن تتضارر، وهو يحسن التأليف بينها ويلبس كل واحدة لبوسها ويبرزها في زمانها ومكانها فلا تتناقض ولا تتعاند، ولكن أبينها سمة هي النزعة الإسلامية، فهي التي تستبدّ بمعظم تفكيره ثم تأتي النزعة العربية، فله في كل قضية من قضايا المسلمين رأي، وله في كل حدث من أحداث العرب حكم، وله في كل جو من أجواء زمنه متنفّس، ولكن آفاته التي أضاعت على الجمهور القارئ الاستفادة من آرائه وأحكامه أنه لم يدوّنها خصوصًا في هذه الحقبة التي اختلّ فيها استقراره وامتحن فيها بما يمتحن به الأحرار، وقد وقَفْتُ بحكم الصلة الطبيعية الوثيقة بيني وبينه على عدة آراء له مدوّنة في قضايا العرب الخاصة وقضايا المسلمين العامة أصاب في معظمها وقرطس وربط المعلولات بعللها وكشف عن خبايا لا يتأتى الكشف عنها إلا للأقل من القليل من رجالنا، فألححت عليه أن ينشرها على الناس، مع توسّع في بعضها بالشرح والتحليل، ما دام للتاريخ عند كل مفكّر ذمام، وقد وعد بنشر ما تسمح الظروف العامة بنشره ويسمح له وقته الخاص بإعادة النظر فيه وتقويم كل أسلوبه، أما مذكراته في الأحداث العربية فهو يتربّص بها ساحل الأمان واعتدال الزمان ... ... من أمتع ما كتب الأستاذ الورتلاني رسالة وجّهها إلى حكومتي باكستان وأندونيسيا يحثهما على إقامة الدستور الإسلامي ويشرح لهما أصوله واضطلاعه بالحياة السعيدة لتكونا

قدوة لغيرهما فيه. ويبيّن لهما ما يجب عليهما من حقوق للشعوب الإسلامية الضعيفة أو المستعمرة، وكان السبب المباشر لكتابة هذه الرسالة أن حزب الرابطة الإسلامية الذي سعى في تكوين باكستان وفصلها عن الهند، أرسل وفدًا من أعضائه إلى الأقطار الإسلامية لأوائل العهد بنشأة باكستان يستطلع آراء أهل الرأي فيما يجب أن تقوم عليه هذه الدولة الناشئة، وفيما يحسن أن يكون بينها وبين الحكومات الإسلامية من الصلات وفيما يجب أن تقدّمه لتلك الحكومات أو تتقاضاه منها من العون، واتصل الوفد بالأستاذ الورتلاني في إحدى مدن لبنان فأفضى إليه برأيه الكامل في تلك النقط فطلب منه الوفد أن يكتب خلاصة تلك الآراء التي سمعها وآمن بها ليقدموها إلى حكومتهم بعد ترجمتها إلى الانكليزية أو الأوردية ففعل، فجاءت هذه الرسالة المفيدة التي نقرضها اليوم، وقد قدم الأستاذ نسخة منها في ذلك الحين إلى حكومة أندونيسيا بواسطة أحد سفرائها، لاشتراكها مع حكومة باكستان في الافتقار إلى تلك الآراء الصائبة وفي جدة النشأة وفي اتساع الرقعة وفي النزعة الإسلامية العميقة وفي الغنى بالعدد والموارد الطبيعية، وإنهما أقرب الدول الإسلامية إلى الاتحاد الذي يعمل له العاملون المخلصون وهما- مع ذلك كله- تظللان ثلث المسلمين المنتشرين في العالم، وإنها تميّزات تجعلهما محط أنظار المفكّرين الإسلاميين كما جعلتهما هوى أفئدة الطامعين المادينين. ... حثّ الأستاذ الورتلاني الحكومتين في آخر الرسالة على لزوم الاتصال الوثيق بالهيئات الإسلامية الحرة العاملة لإحياء الروح الإسلامية وإثارة النخوة الإسلامية وبيان الحقائق الإسلامية العليا بالتربية والتعليم وبعث المجد الإسلامي من جديد، وسمّى الموجود الصالح من تلك الهيئات، ومنها جمعية العلماء الجزائريين وجمعية الإخوان المسلمين، وأن ما ذكره الأستاذ في هذا الصدد هو محض النصيحة للحكومتين، فإن استعانتهما بالهيئات المذكورة في تحقيق المعاني الإسلامية تجلب لهما الخير وتخفّف عنهما العناء وتهديهما للتي هي أقوم، لأن هذه الجمعيات تعمل في خدمة الإسلام بنية صادقة وقصد صالح، وهي على بيّنة من أمرها، وعلى بصيرة في دعوتها بعيدة عن تلوّنات السياسة لا تدفعها رغبة في جاه أو منصب ولا تثنيها رهبة من ظالم أو قوي لأن مبنى أمرها على أن القوة لله، والله أكبر. ومن مزايا هذه الهيئات أنها غربلت المعاني الإسلامية ونخلتها علمًا وعملًا، فهي بمثابة المواد المحضرة لمن يريد الخير من الحكومات الإسلامية، وهي نعم العون لها إذا استعانت بها أو استرشدتها. ولم يوصِ الأستاذ تينك الحكومتين الناشئتين بالاستعانة بالحكومات الإسلامية الموجودة قبلهما، وهو مصيب شاكلة الحقيقة في ذلك، فإن معظم تلك الحكومات إسلامي في اسمه

ومظهره فقط، أما في حقيقتها فهي متنكرة للإسلام مجاهرة بمنابذته عاملة على إزهاق روحه في مدارسها وعلى إشاعة الإلحاد بجميع الوسائل، وإني لأعجب لهذه الحكومات المتنكّرة للإسلام ولتناقض أعمالها، فبينما هي تجهد في حرب الشيوعية وتمعن في عداوتها وترصد للقضاء عليها المقادير الوفيرة من أموال المسلمين، إذا بها تقف موقف العداوة والخصومة من أكبر عدو للشيوعية وهو الإسلام. ولو أن هذه الحكومات عمدت إلى تقوية المعاني الإسلامية الصحيحة في النفوس بواسطة المدارس والدعاة والوعّاظ والجرائد لسدّت جميع المنافذ على الشيوعية ولضمنت لنفسها النتيجة الصالحة من أقرب الطرق، ولوفّرت جهدًا ومالًا ووقتًا هي في حاجة إليها، ولو أن هذه الحكومات فهمت حقيقة الإسلام وحقيقة الشيوعية لآمنت بأن القلوب العامرة بمعاني الإسلام لا تجد الشيوعية فيها مكانًا، وما هو إلا أن يدخل الإيمان الكامل بالله فتخرج الشيوعية ... يدخل الإسلام بعدله وإحسانه ورحمته واطمئنانه فتخرج الخيالات والأماني الباطلة والاضطرابات النفسية مذمومة مدحورة، ولو علمت حكوماتنا الإسلامية ذلك لعلمت أن الشيوعية لا تدفع بسد منافذ الحدود، وإنما تدفع بسد منافذ النفوس. ولكن من مصائبنا وبلايانا أن وراء كل حكومة من حكوماتنا شيطانًا من الأجانب يغري ويوسوس، وإرادة منهم تحرّك وتسكن، ولسانًا يملي ويلقّن، ويدًا تقيم وتقعد، وخيالًا يرغب ويرهب، ونفوذًا يرجى ويخاف، وإن افتتان حكّامنا بالكراسي، صيّر الجاري منهم كالراسي، وإننا سمحنا للأجنبي بالوقوف في الفناء فاقتحم الدار ثم أخرجنا منها ... وضربنا لهم الأمثال بالواقع الملموس فلم يعقلوا ... قلنا لهم: هذه حكومة الهند لم تبنِ أمرها الجديد على التنكّر للبرهمية ولا على التنصّل من الدين، بل بنت دولة تجمع مئات الملايين على دين أساسه الوثنية وعبادة البقر، وقد أصبحت- مع هذا- دولة مرهوبة السطوة عزيزة الجانب، تخطب ودّها أعظم دول العالم بأسًا وعلمًا، فما بالكم لا تبنون دولكم الضعيفة على دين التوحيد وعبادة الواحد وعلى تاريخ مشرق كفلق الصبح مملوء بالمآثر والمفاخر وعلى سلف لهم في كل صالحة أثر واضح ولهم إلى كل موقف عزّة خطى حثيثة، وعلى قرآن وصل بين السماء والأرض، وآخى بين الروح والمادة، وحرّر الفكر والعقل، وحلّ المشكلات الاجتماعية بالعدل والإحسان، أم أنتم لا تعقلون؟ وقلنا لهم: هؤلاء اليهود الذين ظهروا عليكم وقهرت قلتهم كثرتكم وأخرجوكم من دياركم صاغرين، بنوا دولة في أرضكم على الدين، وأذكوا الحماس لها باسم الدين، ولفتوا العالم إليها باسم الدين، وزعموا أنها حق لهم بشواهد الدين، وسمّوها باسم ديني تبجحًا وافتخارًا برغم أنف العالم الملحد. فنسبوها إلى إسرائيل بذرة نُجارِهِم، ومعقد فخارهم، فويحكم ... إن كلمة "دولة اسرائيل" هي كلمة اليهود وان كلمتكم العبقرية التي تساويها- لو

وجدت منكم ناطقًا- هي "دولة محمد" وأنه لا نسبة بينهما في عين ولا أثر، ولكن أصحاب تلك الكلمة قالوها عقيدة وتحديًا وإصرارًا فانتصروا، وسكتم أنتم عن كلمتكم جبنًا وتنكّرًا وعقوقًا فانكسرتم وتعالوا نتكاشف ... أيستطيع أحدكم أن يقولها؟ لا ... وان أكثركم ليخجل من ذكرها، ويتأفّف من سماعها، ولولا شعوبكم المرزوءة فيكم المغلوبة على أمرها بكم، ولولا بقية خشية منها فيكم لأنها سلعة التجارة ومادة المساومة فإذا لم تكن لم تكونوا. لولا ذلك لخشينا أن تطمسوا تاريخ الإسلام ومعالمه الباقية طمسًا حتى لا يذكره ذاكر ولا ينظر إليها ناظر. ... وفي العالم الإسلامي اليوم رجال أولو رأي وإيمان وعقيدة، وفيه هيئات منظمة تلتقي على مبادئه الرشيدة، وترمي إلى غاياته السديدة، ولكن أولئك الرجال وتلك الهيئات مشتتة ليس لها مساك، وهي شاعرة بلزوم التلاقي والتعارف والتعاون، عاملة لها، لتكون أقوى على حمل الأمانة، وأسرع في الوصول إلى الغاية، ولو تيسّرت لها وسائل التلاقي والتعاون لكانت أعمالها في خدمة الإسلام أوسع وأنفع، ولا يتيسّر لها ذلك إلا إذا أسندتها حكومة من هذه الحكومات المنسوبة إلى الإسلام وآوتها ونصرتها فنفعتها وانتفعت بها، ثم عاد ذلك النفع على المسلمين حكومات وشعوبًا، وان من بلايانا أن الحكومات الاستعمارية التي تملك أمر جمهرة المسلمين تنصب العواثير في طريق هذا التلاقي، وأن الحكومات الإسلامية تقلّد الحكومات الأجنبية في هذا المذهب فتتنكّر لهؤلاء الرجال وهذه الهيئات العاملة لخير المسلمين، وتطاردهم، وتعطّل وسائلهم، ولو أنها فتحت صدرها واحتضنت العاملين وأعمالهم لكان ذلك مزيدًا في قوّتها وعزّتها، ولو أن هذه الحكومات اجتمعن تحت الكلمة الجامعة "دولة محمد" لكانت بذلك أرهب لعدوهنّ وأجلب لعزتهنّ وأدوم لسلطانهن. توسّع الأستاذ الورتلاني في هذه النقطة من رسالته، وضرب لها الأمثال وأقام الشواهد من الواقع ونصب الميزان بين الدستور الإسلامي والدساتير الوضعية الرائجة، ووضع اليد على الرجال الذين يعوّل عليهم في تنظيم الدستور الإسلامي الكافل لمصالح البشر كلهم لا المسلمين وحدهم، ولو أن حكومة باكستان وحكومة أندونيسيا عملتا بهذه الجزئية التي شرحتها الرسالة لكوّنتا أعوانًا على تثبيت دعائمهما، وعلماء استدلاليين يهدونها سواء السبيل في نظم الدستور الإسلامي الذي هو أسمى مطلب للشعب الباكستاني العريق في إسلامه، والشعب الأندونيسي المخلص لإسلامه المعتزّ به، ولكنهما غفلتا عن هذه النصيحة، وتركتا القوانين الكافرة تتحكّم في الأمة المسلمة، فطغت عليهما الأمواج ولفتهما الأعاصير، بعد خمس سنوات من هذا النذير فتلك حكومة باكستان تصاممت حتى أسمعتها الحوادث،

فهبّت تداوي الحمى بالطاعون وتحاول أن تخرس ألسنة الحق، وأن تقتل أعلى العلماء المسلمين صيتًا، وأنداهم صوتًا، أبا الأعلى المودودي. وحكومة أندونيسيا تسبح إلى الآن في بحر لجي من الأحزاب والنزعات المناهضة للإسلام، ونسأل الله أن يرزقهما توفيقًا إلى سبل النجاة، وأن يبعد عنهما شياطين الشر التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وأن يفتح آذانهما لمثل النصائح التي تضمنتها هذه الرسالة. هذه كلمتنا في الرسالة وصاحبها، فإذا كانا غنيين عنها فإننا قلناها للحق الذي هو فوقنا جميعًا، ويوم تطبع الرسالة نزفّها إلى القرّاء بقلادة وقرط، وجرة ومِرْط، وجواب للشرط.

المطبعة والمدفع!

المطبعة والمدفع! * "إذا كان المدفع قد انتزع من سيف البطل صولته، فإن المطبعة قد انتزعت من قلم الورّاق دولته". ــــــــــــــــــــــــــــــ لو عاش ذلك النوع اللطيف من أنواع الأدب وهو عقد المناظرات والمفاخرات بين الصوامت المتضادة أو المتقابلة أو المتقاربة الأثر كالليل والنهار والسيف والقلم، لكان هذا أوان ازدهاره، ولأتى فيه أدباء العصر بالغرائب في مفاخرات بين مبتكرات هذا العصر، وأثرها في حضارة العصر، وبين أشباهها من أدوات الحضارة في الماضي، كالمدفع والسيف، والقنبلة الذرية مع المدفع، وكالمطبعة مع القلم، وإذا لكان الفَلْج للمدفع على السيف، وللمطبعة على القلم. ... المطبعة هي الغرة الشادخة في مخترعات هذا العصر وعجائبه، بل هي أشرف المخترعات قدرًا وأوسعها أثرًا، يُستغنى عن غيرها في بعض الأوقات وعند طوائف من الناس، ولا يُستغنى عنها في وقت من الأوقات، ولا في حالة من الحالات، ولا عند أحد من الناس، فإذا قورنت بالمدفع في عموم النفع بزّته، لأن المدفع أداة حرب، والحرب دمار، والمطبعة أداة علم، والعلم عمار، ولولا المطبعة ما ارتقى علم ولا فن ولا صناعة ولا تجارة ولا عمران، ولولا المطبعة ما تمّ للنهضات العقلية والفكرية والفنية تمام، ولولا المطبعة لما أحيا الخلف مآثر السلف فوصلوا بها حلقات التاريخ العلمي. والمطبعة- اليوم- ضرورة من ضرورات الحياة في كل فرع من فروعها، تقرّب البعيد من رغائبها، وتيسّر العسير من مطالبها، تسرع بالبطاء إلى غاياتها ولو أن نهضة كنهضة جمعية العلماء صاحبتها مطبعة راقية كاملة الأدوات لتقدّمت بها خطوات فساحًا، ولكانت أعود عليها بالنفع والخير من عشرات المدارس.

_ * «البصائر»، العدد 283، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 3 سبتمبر 1954.

وما زالت جريدة «البصائر» منذ نشأت تتطلب من قرّائها وأنصارها أن ينشئوا لها العنصر الضروري الذي لا تعيش ولا تنمو إلا به وهو مطبعة كاملة تتلاءم مع سمعتها ومنزلتها في نفوسهم، ومع كرامة اللغة التي هي حارسة بيانها، ورافعة بنيانها، وما زالت مطبعة «البصائر» دَيْنًا في ذمة الأمة الجزائرية العربية وفي ذمة كل من يعرف لـ «البصائر» قيمتها ويربأ بها أن تكون كابن السبيل: له في كل ليلة مأوى. وما زالت قضية المطبعة شغلنا الشاغل منذ نشأت «البصائر»: كانت أمنية، فأصبحت فكرة، فأضحت عقيدة، فأمست شيئًا ضرورًيا لا بدّ منه، وطالما قلبنا وجوه الرأي في إبرازها إلى حيّز التنفيذ، وافترصنا المناسبات الصالحة لذلك، وأشهد- وأنا أول المهتمّين بهذه القضية- أن ضعف الرأي أضاع علينا فرصتين في وقتين مناسبين، واننا لو ركبنا الحزم ونبذنا الآراء المثبطة لكانت المطبعة اليوم قد آتت ثمراتها كاملة وولدت عدة مشاريع نافعة. ولو أن مدوّنًا دوّن المحاولات التي حاولناها لتحقيق هذه الفكرة لكانت تاريخًا قائمًا ذا فصول وأبواب ومراحل، ويوم تصبح مطبعة «البصائر» في منزلة تستحقّ التأريخ لها، يصبح شرح هذه المحاولات أساسًا لذلك التأريخ، وسنشرحها في فرصة أخرى ليكون ذلك نورًا يسعى بين يدي ذلك المؤرّخ الذي لا ندري من هو ولا متى يكون. ... ما الذي يدفع «البصائر» عن المنزلة التي تستحق بها أن تكون لها مطبعة مستقلّة؟ لقد شهد لها الموافق والمخالف أنها أعظم جريدة ظهرت في المغرب العربي، وأنها أرقى أسلوبًا وأسمى بيانًا من كثير من جرائد الشرق العربي، وحسبها شرفًا في الموضوع أنها أحيت العروبة والتمجّد بها في النفوس، وأحيت العربية وبيانها في الألسنة والأقلام، وأنها تناضل عن أشرف مبدإٍ وهو الإصلاح بقسميه الديني والدنيوي، ووجّهت المسلم إلى أعظم هداية نزل بها كتاب وجاء بها رسول وهي هداية القرآن، وحاربت أخبث عدوّ طرق البشرية، وهو الاستعمار، فكيف لا تستحق مع هذا كله- ومثله معه- أن تقدم لها الأداة التي تتوقف عليها حياتها، وأن تقلّد السلاح الذي يضمن لها النصر في المعترك الذي تقتحمه، وأن يدفع عنها أنصارها غضاضة الإيجار عند الغريب أو عند الجار، وهجنة الانتقال من دار إلى دار، فيتألف من ذلك برهان على أن الجزائر أصبحت تقيم الموازين القسط لما ينفعها فتنشطه ولما يضرّها فتثبطه. هذه الكلمات مقدّمة بين يدي نجوى ... أناجي بها إخواني في الجزائر وأوجّهها إلى جميع أنصار «البصائر» في العالم العربي، ان المطبعة أصبحت واقعًا، فيجب أن يكون العمل لها جدًا، فقد أقدم إخواني وشركائي في الاهتمام بهذه القضية على شراء أكبر آلة في جهاز

المطبعة، وهي آلة التصفيف من نوع "أنترتيب" وما هي- على عظمتها وقيمتها بين آلات المطبعة- إلا جزء من أجزاء، وما غناء الجزء الواحد إذا لم تتلاحق الأجزاء المكمّلة للهيكل؟ ... أنا- على بعد الدار- أدعو الأمة الجزائرية إلى القيام بهذا الواجب المشرف، وهو أن تنشئ لـ «البصائر» مطبعة كاملة تتلاءم مع منزلة الجريدة في الجهاد، ومنزلة الأمة في التعاون وعرفان الواجب والقيام بالعظائم. أدعو إلى اكتتاب عام يشترك فيه كل جزائري وجزائرية لقضاء دين طال أمده في عنق كل جزائري وجزائرية، وأن يبذل كل واحد منهم ما تسعه طاقته في هذا المشروع العظيم، ومتى عظم المشروع وجب أن تكون الهمم أعظم. وأنا شهيد على الأمة الجزائرية أنها أمة كريمة، دعوناها إلى تشييد المدارس العلمية فلبّت، وأيقظناها على صوت العلم فهبّت، وسرنا بها إلى الحياة السعيدة فأوضعت وخبت، أفندعوها بعد هذا إلى واجب له خطره، وله قيمته في نهضتها فلا تجيب؟ الظن بها، بل اليقين فيها أنها تستجيب لداعيه وأنها تتسابق إلى تحقيقه بأسرع مما نتوقع وأكمل مما نتخيّل. إن الأمم الجادة في نهضاتها لا تقف عند حد، فلا تنتهي من عمل عظيم إلا وتبدأ فيما هو أعظم، وإذا وزنا الأمة الجزائرية بهذا الميزان رأينا ما يبشّر بأنها سائرة وأنها لن تقف لأنها شيّدت في مبدإ هذه النهضة عشرات من المدارس الفخمة، ثم شيّدت المعهد الباديسي الثانوي وملحقاته، ثم دار التلميذ العظيمة، وهي أعظم مفاخر الأمة حتى الآن، وبقي عليها من العظائم أن تنشئ لـ «البصائر» مطبعة كاملة فإذا أنجزتها انتقلت إلى تكميل المعهد بإنشاء قسمين لسنتيه الأوليين بتلمسان أو وهران لتخفيف العناء على تلامذة المقاطعة الوهرانية في السنتين، وإنشاء سنتين خامسة وسادسة في الجزائر العاصمة، وبهاتين السنتين يصير المعهد ثانوية حقيقية ذات ستة أقسام، وكل هذا- إن شاء الله- تمهيد لإنشاء معهد ثانوي كامل بتلمسان، وآخر بالبليدة، وثالث للبنات بإحدى مدن القطر ودار لتخريج المعلّمين وأخرى لتخريج المعلّمات، ومدرسة خاصة لتخريج الوعّاظ والدعاة، فإذا تمّت هذه المشاريع على ترتيبها كانت الأمة قد بنت بيدها وبمالها ما يضمن لها الحياة العلمية الكاملة الأجزاء والأدوات. ... لا أختم هذه الكلمة حتى أبعث تحية خالصة إلى إخواني أعضاء المكتب الدائم الذين سبقوني إلى الاكتتاب لمشروع مطبعة «البصائر» وفتحوا بابه، وإنني أتشرّف بأن أكون آخرهم في العمل إذا كنت أوّلهم في البذل، فأعلن أنني أتبرعّ لمشروع المطبعة بثلاثين ألف فرنك.

النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام

النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام * الابتعاث عمل جديد من أعمال جمعية العلماء، وهو- في ظاهره الذي يراه الناس- نتيجة لازمة لتقدم الحركة التعليمية التي تديرها الجمعية، وتشبعها واتساعها واحتياجها إلى كفاءات علمية تباشرها، وكفاءات فنية تديرها، أما في واقعه وحقيقته المستمدة من روح جمعية العلماء ومبادئها- فهو تفسير عملي لقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. جمعية العلماء ليست حكومة تبعث البعثات لتسد بهم- بعد الرجوع- حاجتها فى الوظائف التي يقوم عليها الجهاز الحكومي الآلي، فلا تشترط على تلميذ صناعة ما إلا أن يرجع إليها بشهادة في تلك الصناعة، وإنما جمعية العلماء جمعية دينية قبل كل شيء، وبعد كل شيء، تبتديء بالدين وتنتهي إلى الدين، وتنقلب بين البداية والنهاية في الدين، حتى لو كان الدين حرفة ووظيفة لقلنا وقال الناس: إن حرفتها ووظيفتها الدين، آية ذلك وصفها: (جمعية العلماء المسلمين) فهذا الوصف هو الجزء الذاتي الأكبر من حقيقتها، وليس قيدا لاخراج العلماء غير المسلمين، والجزآن معاهما حقيقتها الكاملة، وآية أخرى أربعح وزنا وأعدل شهادة على أن الجمعية جمعية دينية، هي أن الدافع الوحيد لنشأتها هو تصميم الاستعمار الفرنسي على محو الإسلام من الجزائر، فكان من خيرة الله لدينه وغيرته عليه أن حرك لحمايته عقولا سددها وعزائم شددها، ونفوسا ملأها خشية منه، وغيرة على حرماته واستقامة على سننه في الدين والكون، وأرواحا أشرق عليها بنوره، أولئك هم رجال جمعية العلماء الذين رفعوا منارها، وأعلوا على صخرة الدين جدارها، وأولئك الذين تقاسموا على إحياء الإسلام أو الموت دونه، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

_ * «البصائر»: العدد 284 - السنة السابعة من السلسلة الثانية- 10 سبتمبر 1954.

غير أن هذا الوصف الذاتي لجمعية العلماء اشتهر حتى خفي، وعلم حتى كاد يُجهل، وبدأ بعض أبناء هذا الجيل المرشّح للوراثة يغفل عنه أو يتغافل، كما يغفل الانسان عن كونه انسانًا فيتردّى في الحيوانية، ويكون سبب الغفلة عن الحقيقة هو الحقيقة نفسها، ومكّن لغفلة هؤلاء أو تغافلهم عدة عوارض زمنية، منها أنهم من جيل مخضرم لم يتخرّج كله في تربيته وسلوكه وعلمه على أيدي رجال جمعية العلماء، ومنها افتتان هذا الجيل من أبناء الأمة العربية بكلمات: العلم، والتعليم، والثقافة، والعرب والعروبة، والوطن، والوطنية، وهي كلمات تشعّ شعاعات تخطف البصر، وتنفض على النفس أصباغًا ذات أثر، وهي- على عمومها- سمات هذا العصر المتحلّل، ومواد الفصل الأول من قاموسه، يستعملها الأقوياء تعاليًا واجتهادًا، ويستعملها الضعفاء تعلّلًا وتقليدًا؛ ولما كانت معانيها عند الأولين مادية جافّة منقطعة الصلة بالروح، فمن الطبيعي أن ينقلها المقلّدون بجفافها وانقطاعها عن الروح. بدت آثار هذه الغفلة من سنوات مضت، وبدأت ضعيفة خفية لم يدركها إلا قادة الجمعية الأيقاظ، ولكن السكوت عن الخطر هو أقوى أسباب استفحاله، لذلك وجب علينا أن نحارب هذا الخطر الجديد في بعض أبنائنا قبل أن يسري إلى جميعهم، وأن نكفكف من غلوائهم فيه بحزم لا تشموبه هوينا، وأن نأخذ بحجزهم عن التهوّر فيما يخالف مبدأ جمعيتهم، وأن نفهمهم أن المادة نافعة ولكن الروح التي تصرفها وتتصرف فيها أنفع، وأن العلم جميل، ولكنه مع الدين أجمل، وأن الثقافة كمال، ولكنها مع الفضيلة أكمل، وأن العروبة شرف، ولكنها زادت بالإسلام شرفًا على شرف، وأن الوطنية مكرمة، ولكن وطنية الإسلام اأكرم وميدانها أوسع، وصاحبها أعزّ نفرًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر عديدًا. وطاف طائف هذا الخطر بالشرق العربي، وزيّنه دعاة ينطوون للإسلام على حقد دفين، فهم ينتقمون منه بإفساد أجياله، والشرق العربي هو مسرح آمالنا، ومنتج طلّابنا وروّادنا، وسوق امتيارنا، فماذا يكون موقفنا منه، وهل نغض عن الشر لأنه نبت في الشرق، وان إخواننا المصلحين حرّاس الإسلام في الشرق يحاربون هذه المعاني العدوّة للإسلام حربًا لا هدنة فيها، فلننجدهم في حربها لئلا تطغى فتفسد عليهم وعلينا كل تدبير، وهبهم سكتوا عنه، أفنقلدهم في السكوت ونفتح الباب لأبنائنا أن يجنوا عواقب هذا السكوت؟ إن من أصول الفطرة أن نقلّد في الخير ولا نقلّد في الشر، ونأتمّ في الكمال ولا نأتم في النقص، وليس من كرامة الشرق علينا أن نقلّده في حرفين من اسمه. ... جمعية العلماء حقيقة جلية، والسابقون الأولون من علماء الجمعية هم حرّاس هذه الحقيقة ووظيفتهم الأولى إبراز هذه الحقيقة إلى الوجود، والصورة المشخّصة لها هي إحياء

الإسلام بمعناه الكامل في النفوس، ومعناه الكامل هو عقائده النقية، وعباداته المأثورة، وفضائله المصلحة للبشر، وآدابه المقوّمة للنفس، وأحكامه الحافظة للحقوق حين يقدر على ذلك، ويكمل ذلك كله معرفة بسيَر رجاله تصحّح القدوة، ودرس لتاريخه يصوّر المجد. ومن عهود جمعية العلماء مع الله أن تنشئ مجتمعًا إسلاميًا يشارف السلف في عقائده وعباداته وأخلاقه وصلته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقربه من الله، وأن تسلك لذلك طريق التربية قبل طريق التعليم، لأنها تعلم أن العلم المجرد من التربية الصالحة لا ينفع، وقد يكون بلاء على صاحبه ووبالًا على الناس، كما هو مشهود في آثار العلوم الغربية في أصحابها وفي مقلديهم منّا. وصفوة التفسير لمبدإ جمعية العلماء أن العلم وسيلة من وسائل الدين، وحسبه شرفًا أن الإسلام دعا إليه، ونوّه به، وحضّ عليه، وأن العربية لسان الدين المترجم من حقائقه، وحسبها شرفًا أن الله اختارها لغة لقرآنه، فلم تبقَ بعد ذلك لغة للعرب، ونحن نحبّها لأن الله أحبّها، وأن العرب قوم محمد والمجلي الأول لدعوته ولولا محمد لم يكونوا شيئًا مذكورًا، ولا نزيد على ذلك، وإذا كنا منهم اتصالاً في الأنساب، وتحدّرًا من الأصلاب، فما ذلك من كسبنا حتى يكون قربة تجر الأجر، أو مفخرة ترفع الذكر، وإنما يثاب العامل على كسبه ويفخر الفاخر بعمله. هذا هو المنهج الذي نسير عليه، وهذا هو الغرض الذي نرمي إليه، لا غالين ولا مقصّرين، وإجماله- للتوضيح- أننا نطلب العلم لإحياء الإسلام، ونقرأ العربية لفهم الإسلام، ونلوذ بأكناف الشرق العربي لأنه مطلع النبوّة ومنبت الإسلام، ولأنه القطعة المتّصلة من الأرض بالسماء، فالبدء- كما ترى- من الإسلام، والانتهاء إلى الإسلام، وبين البدء والنهاية مجالات لنفوس عامرة بالإيمان وآثار الإيمان. أما المفردات التي أصبح أبناؤنا يلوكونها مجردة من الإضافة إليه، من علم، وثقافة، وعروبة، ووطن، فنحن نعدّها وقوفًا على "ويل للمصلّين". وأما النتائج المحققة- التي نكاد نراها بالعين ونلمسها باليد- لهذا السلوك الذي وفّقنا الله إليه، فقد تضمّنها الوعد الكريم في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}. ... يحزننا أن ينحرف الفهم عن الإصابة فينحرف العمل عن الإفادة، ويحزننا- أكثر من ذلك- أن يبدأ الانحراف من هذا الجيل الذي كوّناه بأيدينا وصنعناه على أعيننا، ورجونا أن

يرثنا فيزيد في التراث، ويخلفنا فيحسن الخلافة، ويتعلم فيكون أوسع منا علمًا، ويعمل فيكون أضخم منّا أعمالًا، ويحامي عن الإسلام وفضائله فيكون بعمله وقوله أصدق منّا محاماة، فإذا تهاونّا في شأنه وغلبتنا عليه العوامل الدخيلة، جنينا جناية نبوء بخزيها في الدنيا قبل الآخرة، وخنّا الأمانة التي استحفظنا عليها وحملناها طائعين، وأعطينا للأمة عليها صفقة أَيْماننا مختارين، لأننا حرّكنا القافلة إلى السير، ولم نوجّهها في الطريق القاصد إلى الغرض السديد، فلجت في بيداء طامسة فكانت غنيمة باردة للصوص العقول والأفكار. أما بعد، فنحن في أشد الحاجة إلى الاتصال بإخواننا في الشرق لأن بيننا وبينهم أرحامًا يجب أن تتعاطف، وأسبابًا يجب أن تتلاقى، وحبالًا من التاريخ رمتها الأيدي العادية بالوهن والارتخاء حتى أوشكت أن تتقطع، ونحن في حاجة شديدة إلى إمدادهم إيانا بما نحن أفقر فيه منهم، وهم في حاجة إلى التنبيه على موقعهم منّا وموقعنا منهم، وإلى معرفة أحوالنا، حتى نتعارف على بصيرة، وقد فعلنا كل هذا وأربينا فيه على الغاية والحمد لله. وان أوثق أسباب هذا الاتصال هو هذه البعثات العلمية التي نجهزها للشرق العربي كما نجهز البعوث ليمتزج أفرادها بإخوانهم فتتقارب الأمزجة، ويتحد الشعور، وتنمو الفضائل الأصلية في الفريقين وهي فضائل الإسلام، وتمحى الرذائل الدخيلة التي ابتلانا بها الغرب ليهلكنا ويملكنا، وليقول أحدهما للآخر: أنت أخي في الإسلام والعروبة فهلمّ نطر إلى المجد بجناحين، ولا يقول له: أنت أخي في العروبة فقط، فكأنما يقول له: هلم نطر بجناح واحد ... فيكونان كالقاضيين الأعورين في شعر الشاعر البغدادي ... أكبر جوالب الامتزاج من جهتنا أن يكون العنوان الذي يقرأه إخواننا من صحيفتنا دالًا دلالة صادقة على حقيقة ما وراءه، وأن تكون الطلائع الأولى من طلّابنا هي ذلك العنوان، وأن يكون صورة مصغرة من جمعية العلماء في إيمانها وجهادها وثباتها وصبرها وصلاحها وإصلاحها، وصورة أخرى من الأمة الجزائرية في جدّها وسلامة فطرتها، وتصلبها في إسلامها وعروبتها وصبرها على المكاره في سبيلهما، وفي شجاعتها وكرم شمائلها والمحافظة على مقوّماتها وخصائصها، وتشوّفها لحياة سعيدة تبنيها بأيديها على منوالها، بأحجارها، على هدى تاريخها. كل ذلك ليرجعوا يوم يرجعون بإيمان أقوى وإسلام أكمل وعقيدة في الله أثبت، وإرادة في العمل أصلب، ونزعة في الأخوة أعرق، وعزيمة في التعاون أصدق ... ومع ذلك كله شيء من العلم مهما يقل فإنه أنفع. إن مجتمعنا- كغيره من المجتمعات- فيه الصالح والطالح، والطيّب والخبيث، وهذا شيء نعلمه عن إخواننا كما يعلمونه عنّا، لأنه قدر مشترك بين الجماعات البشرية، ولكن الذي يندب إليه الدين، وتقتضيه المصلحة ويستحليه الذوق السليم في مثل هذه القضايا التى

تجمع معاني السفارة والدعاية أن يختار لها الأصلح، فالصالح فالقابل للإصلاح بالسمع والطاعة لأوامر الجمعية واحترام نظمها والتأثّر بنصائحها وأن يطرح ما عدا هذه الأصناف ويبقى في بلاده مستورًا لأن الناقص الفاسد عورة في المجتمع، وعورات المجتمع أحق بالستر من عورات الأفراد. وجمعية العلماء لم تغفل ذلك، ولم تنسَ أن حسن الاختيار مفتاح السداد، وأن ميزان الكمال دائمًا هو الدين، وأن الجانب الديني والخلقي له الاعتبار الأول في تلميذ البعثة لأنه سفير أمة، فهو إما رافع لقدرها وإما خافض؛ وهو شاهدها، فإما لها وإما عليها، وهو وجهها فإما شائه مشوّه، وإما جميل مجمّل. ولكن احتياط جمعية العلماء في هذا الباب لم يخلُ من ثُغر سببها حسن الظن وإنها خطوة بداية مصحوبة بالتعجّل، وتجربة لم يسبق لها مثال، فلذلك وقع من بعض تلامذة البعثات إخلال متفاوت، وظهرت على بعضهم أمراض خلقية وفكرية، منها الشديد ومنها الخفيف وأشدها وأبعدها ما يمسّ الدين، وأشدّ الشديد منها ما يرجع إلى صميم الدين كالعقائد والشعائر، فوجب عليها أمران اثنان لمعالجة هذه الحالة ومعاجلتها بما يمنع استشراءها ويقطع دابرها: أحدهما أن تبالغ في الاحتياط وتتشدّد في حسن الاختيار، وأن تجعل التقدير الأول للدين والأخلاق والسلوك الاجتماعي، لا للذكاء والحرص على التحصيل، والأمر الثاني الفصل الناجز لكل تلميذ يخرج عن سنن الجمعية ويشوّه سمعتها ويصوّرها بقوله أو بفعله بغير صورتها، ولا يحقّق غاياتها التي وضحناها وقرّرناها في هذه الكلمة. أما الأمر الأول فإنه موكول إلى المكتب الدائم بالجزائر وإلى من يستعين بهم من اللجان والأشخاص، وأما الأمر الثاني فقد تولّاه كاتب هذه السطور بما له من حق الرياسة المسؤولة المؤتمنة، وبما عليه من واجب المحافظة على مبادئ الجمعية وصيانة شرفها، وعلى سمعة الأمة الجزائرية وكرامتها وثقة الشرق بها، وعلى حق الله قبل ذلك كله في استرعاء بعض عباده على بعض. ... إنني فصلت طائفة من أفراد البعثات بعد أن تعاهدتهم أنا وغيري من عباد الله الصالحين بالنصائح المتنوّعة، فلم ينتفعوا بها، وبالإنذارات المتكررة فلم يرتدعوا عنها، وأصبح السكوت عليهم إقرارًا للشرّ، واعترافًا بالمنكر، وغبنًا لذوي الاستقامة منهم حينما يرون أنه لا فضل لمستقيم على معوجّ، وغشا للأمة بهم إذا رجعوا إليها بعقول مريضة وأخلاق شاذة وأفكار ملحدة عن صراط الله ناكبة عن مبادئ جمعية العلماء ثم تولّوا تعليم أبنائها فبثّوا فيهم

تلك السموم من الأفكار الزائفة والآراء الضالّة والأخلاق الفاسدة. انه لغش ما بعده من غش، وتغرير بالأجيال التي ستأخذ عن مثل هؤلاء. والله يعلم أننا بذلنا الجهد في تقويم أخلاق هؤلاء الشواذ من التلامذة بالنصح والموعظة الحسنة اللطيفة، ثم بالخُشْنَة الشديدة وبتفهيمهم الغاية التي جاؤوا من أجلها، وذكرناهم بحق الله عليهم، وبحق الأمة التي أوفدتهم وحاطتهم بالعطف وعلّقت آمالها بمستقبلهم وبحق الجمعية التي هيّأت لهم طريق العلم وسخّرت لخدمتهم الشعوب والحكومات ... توليت ذلك بنفسي، ثم طلبت من الأستاذ الفضيل الورتلاني أن يتولّاه عنّي، وعنده من لطف التوصّل إلى مسالك النفوس وجرّها إلى الخير إن كان فيها استعداد له طرائق عجيبة، فتولّى- حفظه الله- ذلك عني بعزيمة صادقة وضحّى في سبيله بمصالح عامّة من هذا النوع كانت أنفع وأشمل، وعقد لبعثة مصر مجالس وعظ وإرشاد وحكمة دامت أشهرًا وسمعوا منه في باب التذكير الديني المتّصل بالأرواح ما لم يسمعوه من أحد، ثم سافر لأجل ذلك إلى الكويت وإلى بغداد وإلى دمشق في الشتاء الأخير، وعقد للبعثات المجالس المتعددة، فأما الصالحون والمستعدّون للصلاح فزادتهم تلك المجالس صلاحًا، وكانت لأرواحهم غذاء، وأما هؤلاء الشواذ الذين فصلتهم أخيرًا فلم تؤثر فيهم فتيلًا، وما زادهم ذلك إلا مرضًا وكفرًا بأنعم الله ثم بأنعم الجمعية والأمة عليهم وحرصًا على إفساد الصالحين. ... هذا التصرّف بسيط وواجب وحكيم، أما بساطته فهو أنه تصرّف رئيس مسؤول لله فيما استرعاه عنه، ومسؤول للأمة التي اختارته لقيادة هذه الحركة وائتمنته عليها، وأما وجوبه فهو أنه قيام بحق الله الذي أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، وأما حكمته فهو أنه تأديب بعد أن لم تنفع النصيحة والاعذار والإنذار، وإصلاح للتلميذ المفصول إن كانت فيه بقية استعداد للصلاح وإصلاح لبقية التلامذة الذين بدأت عدوى المرض تسري إليهم وإفهام لهم أنه لا يستوي المحسن والمسيء في الجزاء، فربّما سرى إلى أذهانهم أنه لا فضيلة للمحسن على المسيء ما دام لم يمسّه التأديب، وأنه بعد ذلك إرضاء للأمة الجزائرية التي تحرص على الفضيلة، وتعاون الجمعية على إقرارها وقمع عوامل الفساد حماية للصالحين من أبنائها، وحكمته الأخيرة أنه إنذار معجّل لتلامذة البعثات المقبلة. ما كانت هذه القضية البسيطة تحتاج إلى هذا التبسّط في الحديث عنها على المتعارف في أوضاع الجمعيات، ولكن وقوعها لأول مرة في تاريخ الجمعية سوّغ هذا البيان والتحليل

ليكون دستورًا للمستقبل وبلاغًا عامًا للطلبة وأوليائهم ومعلّميهم، وزيادة في الاستبصار وقطعًا للألسنة التي تسدي في الباطل وتلحم وقمعًا للنزعات العاطفية التي تغشى القضية. ... والكلمة الأخيرة من هذا الفصل الطويل أوجّهها إلى أولياء التلامذة المفصولين، لأنني أعلم أن فصل أبنائهم سيقع منهم موقعًا سيئًا وأعلم من تربيتنا العامة أننا ما زلنا نُحكّم العواطف الدنيا حتى في المقاصد العليا، وتعمينا عن النظر إلى المصلحة العامة. فليعلموا- أرشدهم الله- أن هؤلاء المفصولين هم أبناء الأمة لا أبناؤهم، وقد فارقوهم يوم اختاروا لهم هذا المسلك، فكأنهم حكموا عليهم "بالتأميم" وأسلموهم إلى أيدٍ أمينة تتعب ليستريح الآباء والأبناء، وتسهر ليناموا جميعًا، وتقضي بالنظر البعيد على أنظارهم القصيرة، وتزنهم ضررًا ونفعًا بميزان المجتمع لا بميزان الفرد، فالمجتمع هو الذي يتلقّى خيرهم أو شرّهم يوم يرجعون إليه، وما الآباء إلا جزء من الشعب يجب أن يذوّب مصلحته الشخصية في مصلحة مجتمعه، فالمجتمع أولى بهؤلاء الأبناء، ومحال أن يرضى مجتمع صالح بمن يشوّه سمعته أو يلوّث شرفه، فإذا رضيت لهؤلاء الأولياء مذهب الأنانية، فهل يرضون مني أن ينقلب إليهم أبناؤهم ملاحدة أو فجّارًا أو فسقة أو حملة أفكار هدّامة للدين والدنيا؟ إنهم سيحملونني تبعة التفريط الذي أدّى إلى ذلك، وسيحاسبونني حسابًا عسيرًا أنا حقيق به، زيادة على حساب الله وتسجيل التاريخ. وليعلم هؤلاء الأولياء- كتبهم الله في أوليائه- أني أرحم منهم بأبنائهم وأكثر شفقة عليهم من الأم على ولدها، ولكنني أنظر منهم إلى غير ما ينظرون، ومن الرحمة بهم وبأوليائهم وبالأمة أنني فصلتهم فأحسنت إلى الجميع، والغصن الأعوج الذي لا يقوّمه الثقاف يقومه الفصل من الشجرة. وإن في الأقطار العربية إخوانًا لنا في الصلاح والإصلاح يفرحون لفرحنا ويستاءون لمساءتنا ويغضبون لسمعة الجزائر أن تشوّه من قريب أو من غريب، وقد اعتمدت في كل قطر عربي لنا فيه بعثة طائفة من هؤلاء الإخوان يتعاهدون أبناءنا ويرشدونهم إلى التي هي أقوم ويراقبونهم في السر والعلن، احتياطًا مني لدفع الشرور المتربّصة بأبنائنا، وأعطيتهم من الحق أن يأمروا وينهوا وأن يشيروا علي فأنفّذ إشارتهم مشكورين، فالواجب على أفراد بعثاتنا السابقة واللاحقة أن ينزلوا هؤلاء الإخوان الأفاضل منزلة المسيّرين للجمعية وأن يحترموهم احترامًا قلبيًا وأن يعتبروهم أساتذتهم الحقيقيين، وأن يقفوا عند أمرهم ونهيهم فيما يرجع إلى التديّن والتخلّق وحسن السلوك، ويعلموا أن جمعية العلماء ذات مبدإٍ جليل، فالأقربون إليها

في كل قطر إسلامي هم أصحاب مبدئها قبل غيرهم فلا ترضى لأبنائها المبعوثين إلا أن يحذوا حذوها في هذا الباب، وتوجب عليهم أن يتّصلوا بمن هو على شاكلتهم. والله سبحانه وتعالى يتولانا جميعًا بهداه وتوفيقه، ويجنبنا فتن الغرور والزيغ والضلال، ويقينا شرور أنفسنا، ويعصمنا من الآراء المضلّة، ويثبّتنا على الحق والهداية حتى نلقاه لا وانين ولا مقصّرين، ولا مبدلين ولا مغيرين.

تعليق على كلمة الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف دراز

تعليق على كلمة الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف دراز * - 1 - الأستاذ الكبير محمد عبد اللطيف دراز عالم من غير الطراز المعروف، يمتاز بدقة الملاحظة، وسعة الأفق، وسداد التفكير، وتبرز فيه خلة من خلال أماثل العلماء وهي الوفاء مقرونًا بالنجدة، والشجاعة مصحوبة بالأناة، وينفرد بخصوصية يندر جدًا أن نراها على أكملها في عالم من علمائنا الدينيين، وهي العناية بدراسة أحوال المسلمين في جميع الأقطار، والافتتان بالبحث عن حركاتهم ونهضاتهم وعلائق بعضهم بالبعض، بحيث تحادثه في هذا الباب فتشرف منه على بحر متلاطم بالمعلومات الصحيحة المدققة عن المسلمين وحكوماتهم وجمعياتهم، ولا تجد له ثانيًا من صنفه في الحرص على الاتصال بكل من يزور مصر من رجال الإسلام وأقطابه في العلم والسياسة، وعلى التبسّط معهم في السؤال والتقصّي في البحث والمدارسة. ولهذه الميزات في أستاذنا الكبير تتّجه إليه الأنظار دائمًا لرئاسة الجمعيات الإسلامية الكبيرة في مصر، وتتوارد عليه الطلبات لعضوية هذا النوع من الجمعيات خارج مصر، وهو اليوم رئيس جمعية الكفاح لتحرير الشعوب الإسلامية وعضو في الكثير من الجمعيات والمؤتمرات الإسلامية، وقضى من عمره سنوات في إدارة الأزهر ثم في الوكالة، فكان في إدارته حازمًا وكان في وكالته أحزم. بحكم هذه الخصائص التي أصبحت له ملكات تصدر عنها أعماله نجده أعرف إخواننا العلماء الشرقيين بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يعرف عنها وعن رجالها- وهو في مصر- ما لا يكاد يعرفه الجزائري إلا بالدراسة والاتصال والعناية المقصودة، وزاده الاتصال بالأستاذ الورتلاني- خمسة عشر عامًا- اطّلاعًا على حقائقها وفقهًا في دقائقها.

_ * «البصائر»، العدد 288، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 8 أكتوبر 1954.

وكما يعرف الأستاذ دراز عن جمعية العلماء كثيرًا تعرف هي عنه أكثر، وليست معرفة جمعية العلماء به جديدة بل ترجع إلى تاريخ نشأتها، فالسابقون الأولون من رجالها يعرفون مواقفه في الثورة المصرية 1919 ويعرفون شذوذه عن صنفه في اقتحام السياسة واصطلاء نارها ومزاحمة رجالها بمنكب قوي، على حين كان ذلك معدودًا عند علماء الدين نوعًا من الابتداع أو الابتذال، وقد انتخبه المجلس الإداري لجمعية العلماء الجزائريين بالإجماع رئيسًا شرفيًا لها منذ سنوات مع من انتخب لذلك من علماء الإسلام، فإذا تكلم عن جزئية دقيقة من الجزئيات الخاصّة بجمعية العلماء وعلاقاتها الداخلية فكما يتكلّم صاحب الدار عن داره أو كما يتكلم الشريك في علائقه مع شركائه. ... وأبدأ ... فأشكر للأستاذ الجليل تفضّله بهذه الملاحظات الخالصة، وأؤكد له أن موقعها مني بالخصوص كان موقع صدقة المؤمن الكريم من الفقير إليها، كما أحمده بقلبي ولساني وكل جوارحي على هذا التقدير الجميل لرجل من رجال جمعية العلماء ومفخرة من مفاخرها، تعده- وان قصرت في حقّه- جيشًا لا رجلًا، وعقيدة مجسّمة لا شخصًا، وأَعتبر أن هذا التقدير مصروف لجمعية العلماء في شخص قطب من أقطابها وسابق من سباقها. وأشكره شكرًا مكرّرًا على هذا النوع اللطيف من العناية بجمعية العلماء في معرض يتراءى بلونين، عتاب وتقرير، وبأسلوب يبدو بصبغتين، نصح وتقدير، وهذه طريقة لا يحسن مثلها إلا أمثال الأستاذ حفظه الله. أما ما نعاه الأستاذ الكبير علينا متفضلًا فهو حق لا شك فيه، وأنا المسؤول الأول عنه بحكم رئاستي لهذه الحركة التي وجّه الأستاذ إليها لومه وعتابه، فكما أتحمّل على إخواني واجباتها بقدر استطاعتي أتحمّل مسؤولياتها بما فوق استطاعتي، وقد أوقعنا الشاعر- سامحه الله- في الحرج بقوله: وإن رئاسة الأقوام فاعلم … لها صعداء مطلعها طويل أقدّم بين يدي تعليقاتي الاعتراف بالتقصير في الاهتمام بالأستاذ الفضيل وأقرّر للحق والإنصاف أنه طالما وخزني ضميري حينما أشعر بهذا التقصير في المواقف التي يجب فيها الاهتمام به كأيام محنته، فأبثّ مَن حولي من الإخوان هذا الشعور فأجد شعورهم مساوقًا لشعوري. وكل ما أذكره الآن من المعاذير- على ضعفها- هو الغفلة والتواكل والاعتماد على ما في القلوب والاطمئنان إلى أن الفضيل غني بالقلوب المحيطة به وبالنفوس المهتمّة بشأنه، وربّما خطر في بال أحدنا أننا أحوج إلى اهتمامه بنا منه إلى اهتمامنا به.

هذه أعذار أؤكد أنها واقعة وأعتقد أنها واهية، فالغفلة نقيصة وإن لم يبرأ منها أحد فلا تنهض عذرًا عن الحقوق الأدبية ذات الأثر النفسي العميق وبقية الأعذار تتفاوت في وجاهتها ووزنها وقبول العقول لها. وإذا قصر إخوان الفضيل في جنبه أو قصرت الجزائر كلها، فما ذلك بالذي يضير الفضيل أو ينقص من قيمته شيئًا وإنما يضير المقصّرين، لأنهم يحرمون من ثمرات الاتصال الممتع به، وما هي بالقليلة. ففي الاتصال الكتابي وقوف على الحقائق ومثارات للبحث والسؤال والجواب والاستفتاء والعرض والكشف عن الغوامض، وفيه أبواب من القول تفتح أبوابًا، وأسباب تستتبع أسبابًّا، وما انتقلت العلوم من قطر إلى قطر إلا بذلك الأسلوب الذي كانوا يدعونه المراجعات، إذ كانت تغني كثيرًا عن المثافنة والتلقّي والتلقين. وكثيرًا ما أطفأ الاتصال الكتابي نائرة وسفر بالرحمة بين قلبين وصدّ نفسًا عن هواها وجلا عن وجه رأي، وعن نفسي أتحدّث، فقد اكتنفتني- وأنا بالجزائر- في حدود سنة 1949 أحوال ضاق بها صدري وصبري فهممت أن ألقي حبل الجمعية على غاربها وأهجر الإخوان والأعوان وأنقطع للتأليف، ووافق طفح النفس بالاغتمام أن كان بين يديّ كتاب من الفضيل يتقاضى جوابه فكتبت الجواب وأنا في تلك الحالة، وشرحت له في الأسطر الأخيرة من الرسالة بعض الأسباب التي أدّت بي إلى تلك الحالة وذكرت له ما عقدت عليه العزم من التخلّي لا على وجه المشورة بل على وجه الإخبار بشيء مفروغ منه، فجاءني جواب الأستاذ يثنيني عن تلك العزيمة بأسلوب من الرأي أخذ نفسي أخذة السحر ومسح منها تلك العزيمة المصمّمة مسح السوافي للرسوم، وبتّ وفي النفس هم يعتلج، فأصبحت بفعل تلك الرسالة أو بفضلها صاحي القلب من تلك الدواعي كلها، ولقد قرأت كثيرًا للأدباء القدماء في باب سل السخائم ونقض العزائم، وفيه العجب العاجب من الافتنان في ضروب الاقتدار على ثني أعنّة النفس وصرف أهوائها من جو إلى جو بسحر البيان، ومن ألطف ما قرأت تأثيرًا وأدقّه تعبيرًا قول أديب أندلسي يثني عزيمة عالم عن الرحلة إلى الشرق: أشمس الغرب حق ما سمعنا … بأنك قد سئمت من الإقامه وأنك قد عزمت على رحيل … بحق الله لا تقم القيامه ونفثة السحر والتأثير أنه هيّأ لمراده بقوله: "أشمس الغرب" ثم ختم بقوله: "لا تقم القيامة" إشارة إلى أن طلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة. قرأت كثيرًا من هذا النوع ومثّلت نفسي معنيًا به فما وجدت له من التأثير ما وجدت لرسالة الفضيل إلي، وليس مرجع التأثير إلى البلاغة التي يتأثر بها أمثالي بل قوة الرأي وسداد الحجة، ولا أذكر أن كلمة ثنت عزيمتي عن يشيء هممت به إلا كلمة الفضيل هذه، وكلمة

قبلها لأخينا الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فقد وقعت مرة في هم برّح بي فصمّمت على الخروج من الجزائر، وزارني بمدينة تلمسان وأنا مصمّم فكشفت له عن ذات صدري، فارتاع ورأى أن إقناعي بالكلام المعتاد لا يثني عزمي فسكت قليلًا وقال: إن خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارًا من الزحف. فوالذي وهب له العلم والبيان لقد كانت كلمته تلك شؤبوبًا من الماء صبّ على لهب.

- 2 -

- 2 * - ونعود إلى إخواننا في الجزائر فنشهد لهم جميعًا أنهم يحملون للفضيل من الإكبار والتقدير ما هو أهله وما ينتهي أحيانًا إلى المبالغة، ونشهد عليهم أنهم مقصّرون في شيء ينفعهم لو قاموا به ولا يضرّه تقصيرهم فيه، وأنهم حرموا لذلك من فوائد وثمرات أهمّها عدم اطّلاعهم على جهوده وأعماله التي يعدّ كل واحد منها موضع قدوة، والكمال وليد القدوة، وعدم الاتصال بالكاملين مع القدرة عليه نقص، والاكتفاء بالسماع عن النوابغ يفضي في الغالب إلى تصوّرات خاطئة في حقّهم تعلو إلى الغلو أو تسف إلى التفريط، وسير النوابغ كالنصوص يجب أن تؤخذ كما هي وإلا أفسدت القدوة. والإخوان بالجزائر- في نظرتهم إلى الفضيل- قسمان خاصة وعامة، مع إجماعهم على إكباره وتقديره، فالخاصة يزنون قيمته بالميزان القسط، ويعرفون عن أحواله الخاصّة والعامة ما هو واقع أو قريب من الواقع، أما العامة فيتوهّمون فيه أشياء ينتزعونها من شهرته ومقامه بين الشرقيين وما يتطاير من أخباره ويجسّمها لهم الخيال فتنطوي نفوسهم عليها كأنها حقائق ثم يتناجون بها في المجالس على أنها حقائق. ... وأنا ... فمن مقاصدي في هذه الرحلة أن أدرس- عن عيان- المهم من القضايا الإسلامية، وأدرس العاملين من رجال الإسلام لآخذ عنهم القدوة الحسنة لنفسي أولًا، ولقومي يوم تنشر مذكراتي عن هذه الرحلة ثانيًا، وأشهد الله أنني استفدت من هذه الدراسة كثيرًا وأكملت جوانب من نقصي، ولا أكذب على الحقيقة فقد كنت ناقصًا وما زلت ناقصًا

_ * «البصائر»، العدد 289، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 15 أكتوبر 1954.

ولكنني أعد من دواعي الكمال، السعي في التكميل، ومن أشنع النقص ادّعاء الكمال، ومن أراد أن يعرف نفسه فليضعها أمام كامل، فكأنما يقابل منه مرآة مجلوة، وقد كنت أحفظ اللزوميات ثم أنسيتها وبقي في نفسي شيء من الاعتزاز بذلك بعد النسيان، مثل اعتزاز الفقير بغناه الزائل، فلما لقيت من حفظ اللزوميات في مثل سنّي ولم ينسها احتقرت نفسي وبرئت من الاعتزاز الزائف. درست أبا الأعلى المودودي وسليمان الندوي وعبد الغفار خان من باكستان وكتبت عنهم مذكّرات ودرست جماعة من العلماء العاملين في العراق والشام ومصر من الأحياء وممن تأخر موتهم، ودرست أمين الحسيني وحسن البنا والفضيل الورتلاني عيانًا في الحيين وشبه عيان في الميت لاستفاضة شهرته في جميع الأوطان التي زرتها ولخلود الأهرامات التي بناها من النفوس لا من الحجر، ودرست بعض رجال الثورات المادية، وكل ما كتبته من مذكرات عن هذه الدراسات ستنتفع به الأجيال يوم ينشر إن شاء الله، ومفتاح دراساتي هو عمل الرجل وغايته وجهاده، وتفسير العمل عندي ما يبنى على عقيدة لئلا يتناقض، وما تدفعه إرادة لئلا يتراجع، وما يحثّه جهاد لئلا يقف، وما يصحبه تجرّد لئلا يتّهم، وما ينتشر لئلا يضيق فيضيع، وما تكون غايته الخير لئلا يكون فسادًا في الأرض. وبهذا المقياس درست الأعمال والعاملين ومنهم الورتلاني، ولم يزد الورتلاني عليهم بسابق معرفتي له ولا بكونه خريج المدرسة الإصلاحية التي شاركت في بنائها ولا بالعشرة الملازمة بيننا، فقد تجردت في دراستى له عن كل ما أعرفه عنه من أول النشأة إلى الآن، حتى كأن الفضيل الذي أدرسه غير الفضيل الذي أعرفه، وقد كانت هذه الدراسة وهو في المرحلة الوسطى من عمره وعمله، وهي مرحلة يغلب أن تثبت ولا تحول، وتتمادى ولا تتغيّر، ومن الخطإ أن يبنى تاريخ الرجال على الحقبة الأولى من حياتهم كالذين أرّخوا لحياة ابن خلدون العلمية بما قبل تأليفه للمقدمة، وللرجال مراحل يطولون فيها ويقصرون ويزيدون وينقصون، لذلك كان أصدق تواريخ الرجال ما يكتبه الدارسون المتقصون عنهم بعد موتهم لأن الموت ختم على صحائف الأحياء. والدراسة المستوعبة للفضيل ليس محلها الجرائد المعدودة الأيام والمقالات المعدودة السطور، وإنما ميدانها الكتب والمذكرات، ولكنني رأيت من الإحسان إلى الجزائر والبر بها بل من حقوقها علي أن أدفع عنها وصمة التقصير بالاعتراف به، والاعتراف بالحق أم الفضائل، وأن أحمل عنها تبعة التقصير، وأن أمسح بهذا الحمل عنها وقع العتاب من رجل تحبّه ويحبّها وهو الأستاذ الجليل محمد عبد اللطيف دراز، وقد تلمحت في ملاحظاته لحظة علوية ومن يدري فلعلّها هي التي حرّكتني إلى أداء واجب مزدوج فيه بر وفيه وفاء وفيه إحسان، وفيه خير- إن شاء الله- لقومي كلهم.

لذلك كان من الخير الذي تسبّب فيه الأستاذ الجليل أن أتعجّل لإخوان الجزائر الكشف عن بعض جهات الفضيل في هذه المرحلة الثانية من عمره العملي، وهي الجهات التي قد يخطئ فيها وهم الواهمين في أدنى مراتب الوهم وتصوّرات الغالين في أقصى مراتب الإفراط، من أن ملابسته للطبقات العالية أَعْدَتْه بالتعالي، وأن الثروة وخفض العيش أنسياه بلاده، وأن كثرة المحيطين به أنسته أهله، وحديث الثروة حديث مستفيض في المغرب وبعض المشرق، كحديث خرافة، وله دافع طبيعي وهو تعلّق النفوس بالغنى، ولا أقل من الحديث عنه، ويذكي هذا الدافع الطبيعي فينا- معشر الشرقيين- طبيعة المبالغة من غير تحفّظ وأنا من أكثر الناس امتزاجًا بالطبقات كلها في الجزائر لأنها ميدان عملي، فأنا- لذلك- من أكثر الناس فهمًا لنفسياتها، وقد تجد في الطبقات الوسطى من ينطوي لك على تعظيم لا يحد، يجاوره في نفسه وهن يناقض ذلك التعظيم، لو وزن بالميزان العلمي، ولكن هذا التناقض واقع في هذه النفوس لا ينكر ولا يدفع، فإذا عثر عنه العامي أخرجه في معرض متردّد بين الدلال والعتب مثلًا فغطّى عليه، وفي الذين يجلّون الفضيل ويحبّونه نفوس تجمع مع حبّه اعتقادًا أنه ألهاه التكاثر وأنسته الجماعات الحافة به أهله، وهل تجمع المحبّة والإجلال مع هاتين النقيصتين؟ إنهما مما يرمي به العدو عدوّه ولكن ما ذكرته واقع مشهور، وفي النفوس غرائب تجليها التجارب، وان لم يستطع علم النفس تعليلها.

مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية

مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى حضرات أعضاء مجلس الجامعة العربية المحترمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... إن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة يتشرّف بأن يعرض على حضراتكم المعلومات والرغبات الآتية، راجيًا أن تنال من مجلسكم الموقر كل اهتمام. الشعب الجزائري: إن الشعب الجزائري جزء ثمين من الأمة العربية الماجدة ما زال محتفظًا بخصائص العروبة كأقوى ما يكون الاحتفاظ، ومن ثم فهو رأس مال العرب يجب أن يحافظوا عليه. وهو كذلك جزء له قيمته من الأمة الإسلامية العظيمة، ما زال محتفظًا بشعائره، متصلّبًا في عقائده الكريمة السمحة، ومن ثم فهو رأس مال عظيم للمسلمين يجب عليهم- حيثما كانوا- أن ينظروا إليه نظرة الأخوة المقتضية للنجدة والنصر. فإذا تمّ للاستعمار الفرنسي ما يريده به من فرنسة واستعجام، فمعنى ذلك أنه ضاع على العرب والمسلمين- كل باعتباره الخاص- رأس مال عظيم، يقوم في العدد بأحد عشر مليونًا، وفي المعنى بذخيرة غالية من ذخائر الإنسانية وفضائلها: من الشجاعة والكرم، والصبر على مكاره الحياة، والثبات على الخصائص الأصلية، وقوة المقاومة الروحية، والوفاء للأصول التاريخية، والاعتزاز بالمقوّمات من لغة وجنس ودين.

_ * صحيفة "منبر الشرق" وصحيفة "الدعوة "، أوت 1954، القاهرة.

أشنع أعمال فرنسا في الجزائر

وإذا ضاعت الجزائر، ضاعت معها تونس ومراكش، فضاع على العرب ما يقرب من نصف عددهم، في وقت تتكثّر فيه الأمم القوية بمن ليس من دينها ولا من جنسها. أشنع أعمال فرنسا في الجزائر: كانت الجزائر قبل احتلال الفرنسيين لها في سنة 1830 دولة مستقلّة غنية، تملك خصائص الدولة في ذلك العصر، وأهمّها العلم بالدين والدنيا، وفيها من الأوقاف الإسلامية الدارّة على العلم والدين ووجوه البر ما لا يوجد مثله في قطر إسلامي آخر، ومنذ تغلّب عليها الاستعمار الفريد في الخبث، وهو يعمل جاهدًا على قتل شخصيتها بالقضاء على الدين واللغة العربية، وكان أول عمل قام به هو مصادرة الأوقاف الإسلامية والمعاهد التابعة لها من مساجد ومدارس وزوايا، وتحويلها إلى كنائس وثكنات واصطبلات وميادين ومرافق عامّة، ثم أصدر قانونًا لا نعرف له نظيرًا في تاريخ البشرية العاقلة يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في وطنها وبين أهلها، يتوقّف تعليمها على إذن خاص وشروط ثقيلة، وزادت تلك الشروط على الأيام ثقلًا وعنتًا حتى أصبحت في السنوات الأخيرة لا تطاق، وأصبح معلّم العربية يقف في قفص الاتهام مع اللصوص والسافكين، وتجري عليه العقوبات مثلهم بالسجن والتغريم والتعذيب. ثم دأب الاستعمار (من مائة ونيّف وعشرين سنة) على طمس كل أثر للإسلام والعربية، وقطع كل صلة بينهما وبين الشرق، ليتمّ له مسخ الأمة الجزائرية وإدماجها في الأمة الفرنسية، ولكن المناعة الطبيعية في هذه الأمة وتصلّبها في المحافظة على التراث الإسلامي المقدس وعلى خصائصها الشريفة دفع عنها ذلك البلاء وأنقذها من ذلك المصير. لمن يرجع الفضل؟ يرجع الفضل الأكبر في تسطير تاريخ جديد للجزائر بإحياء الدين وما يتبعه من لغة وتاريخ وآداب إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست رسميًا سنة 1931، فقد استطاعت بفضل الله وعونه أن تقضي على فكرة الاندماج وغيرها من مقاصد الاستعمار، وأن تضع أساسًا متينًا للثقافة الإسلامية العربية في تلك الديار المعزولة، رغم استماتة الفرنسيين في محاربتها، واستطاعت بجهودها الخاصة أن تعمل الأعمال العظيمة الآتي بيانها. مبدأ جمعية العلماء وغاياتها: مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان،

أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار

والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرّر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذّرًا أو متعسّرًا،. حتى إذا تمّ منه شيء اليوم، ضاع غدًا، لأنه بناء على غير أساس، والمتوهّم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل. لذلك بدأت جمعية العلماء- من أول يوم نشأتها- بتحرير العقول والأرواح، تمهيدًا للتحرير النهائي، فوضعت برنامجًا محكمًا لوعظ الكبار وإرشادهم بالدروس والمحاضرات، حتى بلغت من ذلك أقصى غاية من الجهد وأقصى غاية في النتائج، وأصبح الشعب- في جملته- صافي الفكر، مستقلّ العقل، متوهّج الشعور، مشرق الروح، فاهمًا للحياة، واسع الأمل فيها، عاملًا للحرية والاستقلال، مؤمنًا بماضيه، عاملًا على ربط الحاضر ووصله بالوطن العربي الأكبر، متبصّرًا في وزن رجاله، لا ينطلي عليه غش الغشّاشين ولا تدجيل الدجّالين، ومعلوم أن هذه المعاني لا تدخل النفوس دفعة واحدة، وإنما تكمل بالتدرّج، والذي وصل إليه الشعب الجزائري من هذا هو نتيجة نيف وعشرين سنة في أعمال جدية متواصلة، ولكنه لا يتم عادة في أقلّ من خمسين سنة. أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار: أولًا: زادت الجمعية على هذا العمل العام آخر خاصًا، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقّى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسّست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيّدتها بمال الأمة، وصيّرتها ملكًا للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، من حملة الشهادات الابتدائية في مدارس الجمعية. ثانيًا: بما أن المساجد، التي هي تراث الأجداد، صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيرًا منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجرّ أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت إلى الآن هي التي تعين الأئمة والخطباء والمؤذنين والقومة، ولكنها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية وشيّدت بمال الأمة نحو سبعين مسجدًا في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلّحة. ثالثًا: في الجزائر مئات الآلاف من الشبّان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت

لهم الجمعية عشرات من النوادي المنظمة الجذابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية، وأدّت هذه النوادي أكثر مما تؤذيه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه. رابعًا: أنشأت الجمعية للعمّال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي وزوّدتها بطائفة من الوعّاظ والمعلّمين من رجالها، يتعلّم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلّم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلّما وكتابة، ويتربّون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي وآتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثم قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعف واحدها إلى الآلاف، فكان ذلك وحده سببًا للعجز. خامسًا: أنقذت الجمعية عشرات الآلاف من أبناء الجزائر من الأمية، بوسائل دبّرتها ونجحت فيها نجاحًا عجيبًا، وإن هذا العمل من غرر أعمالها لأن الأمية شلل الشعوب. سادسًا: بعد هذه الجهود كلها، بقي من أبناء الجزائر مليونان من الأطفال محرومين من التعليم بجميع أنواعه، بشهادة الحكومة وإحصاءاتها الرسمية، فلا هي علّمتهم لأن سياسة التجهيل تأبى عليها ذلك، ولا جمعية العلماء استطاعت أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذين المليونين، لأن مواردها المالية محدودة، تأتي من اشتراكات قليلة منظمة، ولأن الأغنياء والموظفين لا يجودون عليها بشيء، خوفًا من انتقام فرنسا، ومعلوم أن هذين المليونين، إذا لم يتعلّموا أو يتعلّم معظمهم، كانوا جنودًا للشرّ وأعداءً للإسلام والعروبة، فإذا تعلّم معظمهم غلب الخير فيهم على الشر وأصبحوا جنودًا للعروبة والإسلام والإنسانية. سابعًا: بعد مساعٍ طويلة مرهقة، دامت سنوات لدى الحكومات العربية، تمّ لجمعية العلماء إرسال بعثات إلى الشرق العربي، من تلامذة معهدها ومدارسها، تدرس في الجملة على نفقة هذه الحكومات، ولكن القدْر الذي تمّ لم يزل قليلًا جدًا لا يحقّق الغرض من المقصود، ولا ما يقاربه، لأنه عبارة عن بعثة في مصر تتكوّن من عشرين تلميذًا، وأخرى في العراق تتكوّن من خمسة عشر تلميذًا، ومثلها في الكويت، وأخرى في سوريا تتكوّن من عشرة، وبعض هؤلاء لا تزال الجمعية هي التي تنفق عليهم، أو تساعدهم لعدم كفاية عون الحكومة لهم. رغبات جمعية العلماء وآمالها في الحكومات العربية: تقوم جمعية العلماء بهذه الأعمال الجبّارة التي تفوق قدرتها المالية، وقد تفوق قدرة الأمة أيضًا، وهي- بعد- لم تزل في حاجة ملحّة إلى إكمال وتثبيت ما بنته، ثم إلى إعلاء ذلك البناء والزيادة فيه.

بادروا لنجدة إخوانكم ...

أما التثبيت والإكمال فبإنشاء عشرات من المدارس الثانوية لتستوعب ما تخرّجه المدارس الابتدائية الحاضرة، وإنشاء عشرات من مدارس المعلّمين والمعلّمات، لأن مدارسها الابتدائية استنفدت كل ما عندها من المعلّمين، وإذا كثرت المدارس الجديدة احتاجت إلى معلّمين جدد، وعليه فإنشاء هذا النوع من المدارس ضروري لنمو هذه الحركة وتقدّم هذه النهضة، وإلا تعطّلت وانهارت، ولا واسطة بين الطرفين. وأما إعلاء البناء والزيادة فيه فبمضاعفة عدد المدارس الابتدائية إلى المئات. واجب جمعية العلماء هو التبليغ الصادق للحكومات العربية، الممثّلة في جامعة دولها، وواجب الحكومات الإسراع بالنجدة، بالكيفية التي تراها، بعد أن تؤمن بما شرحناه لها من حالة الجزائر، في المذكّرات المتتابعة للحكومات وللجامعة، والله يعلم أن ما شرحناه ووصفناه قليل من كثير، ولا يقف في طريقها احتمال اعتراض فرنسا على هذه النجدة، فالوقت والضرورة والواجب لا يتسع لهذا الاحتمال، فقد آن لحكوماتنا العربية أن تقف موقف الحزم والصلابة من فرنسا المتعنتة التي تحارب الثقافة والإنسانية- فضلًا عن العربية والإسلام- في المغرب العربي، ولا تتساهل كما تساهلت في قضية المعهد الثقافي بالجزائر، وفي المعهد الثقافي في طنجة، وفي قضية احداث قنصليات في عواصم المغرب ولو لتأشيرة الحجاج، وفي قضية الباخرة فوزية وغيرها. ونحن نؤكّد لرجال حكوماتنا العربية بالصدق والشرف، أن تساهلهم في تلك القضايا زاد من جرأة فرنسا علينا وعليهم، وحكوماتنا تعلم كما نعلم أن بيدها أسلحة قوية، تستطيع أن تحارب بها فرنسا ولكنها لا تستعملها، ومن تلك الأسلحة إقفال المدارس والقنصليات الفرنسية حقًا وعدلًا ومقابلة بالمثل. إن فرنسا لا تفهم إلا هذه اللغة ولا ترجع عن غيّها إلا باستعمال هذا السلاح. بادروا لنجدة إخوانكم ... على حكوماتنا العربية أن تبادر بهذه النجدة، ما دام في الرمق بقية، ولها في تحويل الأموال اللازمة عدة طرائق هي أعلم الناس بها، فلها أن ترسل مشرفًا من جهتها يقوم بالصرف على بناء المدارس والمعاهد اللازمة، وجمعية العلماء ترحّب بهذا لأنها تفخر بأنها أدقّ الجمعيات الإسلامية نظامًا، وأقواها أمانة وثقة في المال، وأحرصها على المحاسبة التي تقوّي الأمانة، ولها أن تسلّم المال إلى الجمعية وتلزمها بالمحاسبة الدقيقة على كل فلس تدفعه، والجمعية تقوم بذلك حامدة شاكرة. ولتعلم حكوماتنا الموقّرة أن كل جنيه تدفعه للأمة الجزائرية بواسطة جمعية العلماء، لينفق في هذا السبيل، يقع موقع الغيث على النبات، لأنه ينقذ طفلًا عربيًا حرًّا مسلمًا من

الشر، ويحرّر عقلًا من الوهم، ولتعلم كذلك أنه ليس علينا تحديد المبلغ وإنما علينا أن نصوّر الحالة ونبلغ الأمانة التي كلفتنا الأمة الجزائرية بتبليغها إلى الحكومات العربية، وقد بلغنا، وطال الأمد، وهي تنتظر، ونكل الأمر بعد ذلك إلى هيئة حكوماتنا، مبلغ تقديرها لحرمة الرحم، وإذا كانت لا تستطيع تحرير الجزائر تحريرًا عسكريًا لاستحالة ذلك في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن تعاوننا بالحظ الأوفر على تحرير العقول، فهو واجب يهوّن القيام بالواجب العسكري أو السياسي. قد تعتذر بعض الحكومات العربية- وهي صادقة- بأنه ما زال في شعوبها ملايين من الأطفال محرومون من التعليم، ونحن نلاحظ على هذا العذر بأنه يوجد بإزاء الملايين المحرومة ملايين أخرى متعلمة، بخلاف الجزائر فليس فيها إلا المحروم، وليس هناك خير يسلي عن الشر. وفي هذا المقام يجب أن نذكر حضراتكم بنسبة المتعلمين من أبنائنا في المدارس الفرنسية مؤيدة بالأرقام المأخوذة من أدق المصادر الرسمية الحديثة لسنة 1951، فقد وقعت مناقشة في المجلس الجزائري، في قضية تعليم الجزائريين، وتقدّمت المعارضة بتقارير مدروسة رسمية فضحت بها الحكومة، ومن تلك التقارير الدامغة نقتطف هذه الأرقام. قال التقرير المفحم الذي لم تستطع الحكومة له ردًا ما ترجمته بالحرف: بلغ عدد التلامذة الأوربيين سنة 1950 في مدارس الجزائر 97400، بينما لم يتجاوز عدد التلامذة المسلمين 82864 تلميذًا. ولما كانت الأغلبية الساحقة من سكّان الجزائر مسلمة فتكون إذن نسبة التلاميذ الأوربيين إلى التلامذة المسلمين كنسبة 4%، وهذا الفرق يرتفع كثيرًا في المدارس الثانوية، فبينما يبلغ عدد الطلبة المسلمين في هذه المدارس 3214 تلميذًا والافرنسيين 5177، نرى أن الطلبة الأوربيين يفوقونهم بمقدار 500 ضعفًا (156 أوربي في مقابل مسلم واحد) وباقي المسلمين لا يحق لهم الدخول في هذا النوع من المدارس. وفي عام 1951 بلغ عدد التلاميذ من المسلمين الجزائريين الذين وجدوا أمكنة في التعليم الابتدائي 198678 تلميذًا في وطن مسلم يبلغ عدد سكّانه أكثر من عشرة ملايين نسمة، بينما يبلغ عدد التلامذة من الأوربيين في هذه المدارس 111402 تلميذ من جالية أوربية لا تزيد عن المليون نسمة في الجزائر. هذه فقرات مترجمة حرفيًا عن تقرير المعارضة، ومقدمه فرنسي، وقد نقص من تعداد المسلمين الجزائريين ولكنه أحسن في تسميته للأوربيين بالجالية. ثامنًا: سبق لجمعية العلماء أن جلبت عشرات من تلامذتها للدراسة بمعاهد الشرق العربي على نفقة حكوماته، ولكنه عدد قليل بالنسبة لحاجة الجزائر ولقدرة الحكومات

الجزائر تعتز بعقيدتها وعروبتها

العربية، فالشعب الجزائري يعتقد ويأمل في آن واحد أن حكومات العرب تستطيع أن تعلم من أبناء الجزائر آلافًا وتؤثرهم على أبنائها، حتى تحفظ التوازن بين أجنحة العروبة. وعليه، فمن رغبات الشعب القوية، ومن آماله الواسعة، أن ترتفع نسبة هذه البعثات إلى المئات حتى تصل إلى الآلاف بالتدريج، كل ذلك لتسد جمعية العلماء في سنين عوز الجزائر إلى المعلمين في مدارسها. تاسعًا: جمعية العلماء في حاجة شديدة إلى الكتب المدرسية المتنوّعة لتلامذتها الابتدائيين، وهي تجري في تعليمها على المنهاج المصري، لقربها من مصر ولسهولة جلب هذه الكتب، فمن حقّها أو من دلالها على جامعة الدول العربية ووزارة المعارف المصرية أن تقدم لها هدايا سنوية سخية من هذه الكتب لتوزعها بالمجان على فقراء التلاميذ. عاشرًا: لجمعية العلماء مكتب في القاهرة يشرف على هذه البعثات، يجلبها ويقوم عنها بالإجراءات القانونية، ويسدّ خللها، ويوزّعها على الأقطار العربية، ويراقبها، ويكمل نقائصها في التربية والمال ويعين المحاويج منها، ويقوم بنفقات المنتظرين وإسكانهم، وقد بلغت نفقاته الشهرية في هذه السنة ثلاثمائة جنيه، وكلّما زادت البعثات زادت نفقاته، ونتوقع أن تبلغ نفقاته الشهرية في السنة الدراسية المقبلة 500 جنيه مصري، فمن العدل أن تعتبره الحكومات العربية مؤسسة من مؤسسات الجمعية يجب الالتفات إليه والعناية به، وهو زيادة على ذلك همزة وصل بين شرق العرب وغربهم، بل نقطة اتصال بين أجزاء العالم الإسلامي كلها، ومن التواضع أن ننسبه إلى الجزائر، بل هو للعرب كلهم، وطالما خدم- على حداثته- قضايا العرب، ولا منة. والمكتب يعلن شكره لجامعة الدول العربية، فقد عرفت قيمته، فقررت إعانته منذ أكثر من سنة بمبلغ مائة وعشرين جنيهًا مصريًا في كل شهر، ثم عرفت توسّعه في الصالحات، فرفعت هذا المبلغ إلى مائتين ابتداء من هذا الشهر، وان الخجل لا يمنعنا أن نقول: إن رجال هذا المكتب محتسبون بأعمالهم لأنهم لا يعملون لأنفسهم وإنما يعملون لرفع شأن العروبة والإسلام. الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها: يبقى شيءآخر قد يخفى على كثير من الناس، فوجب علينا أن ننبّه حضراتكم إليه، وهو أن الجزائر لا تقاس بأختها مراكش في هذا الباب، فكل من تونس ومراكش ما زالت لها شخصية معترف بها في الآفاق الدولية، ولها حكومة كيفما كان حالها، وما زالت العربية في كليهما رسمية، ولها كثير من الشأن في الوظائف وما زالت أوقافها

وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية

قائمة، وما زال في تونس جامع الزيتونة ثاني الأزهر يضمّ هو وفروعه آلافًا من طلّاب العربية والدين، وفي فاس جامع القرويين يتلو الزيتونة في الدرجة، أما الجزائر البائسة فلم يبق فيها من هذا أثر ولا عين كما أسلفنا في المقدمة، وإنما هي تعتزّ بعقيدتها وعروبتها، وتعيش بهما وتعيش لهما. إننا لا نبعد إذا قلنا إن الجزائر أتعس حالًا من فلسطين، فمن وراء فلسطين دول وشعوب عربية وأمم إسلامية، وذكر لها في المحافل الدولية، وجدل عنيف في قضيتها يشترك القريب والأجنبي فيه، أما الجزائر المسكينة فليس لها شيء من هذا، ونعيذ أبناء العمومة أن ينسوها، وأن لا يقوموا ببعض حقها، وأن لا يستغلوا هذه القوة الكامنة في أبنائها. وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية: لقد كنا حينما نتكلم مع إخواننا في الشرق عن المحن القاسية التي تتخبّط فيها الجزائر منذ قرن وربع، ونصوّر لهم شناعة الاستعمار الفرنسي، وتجر الأحاديث إلى الأرقام التي تضمنتها هذه المذكّرة، كنا نحسّ بشيء غير قليل من الخجل، خشية أن يحمل كلامنا على شيء من المبالغة والتهويل، حتى أراد الله أن يؤيد الحق بشهادة من فرنسي مسؤول، سبق له أن ولي الوزارة في بعض الحكومات الفرنسية، وشأنه كشأن سائر زملائه أن يحطب في حبل أمته، ولكنه رأى في هذه المرة من مصلحة دولته أن تقلع عن هذا التهوّر، وتجاهل العواقب الوخيمة وهاله هذا التخبّط الذي ترتكس فيه السياسة الفرنسية، نتيجة للحقد العنصري، والغرور والكبرياء اللاتينيين، فزار الجزائر على رأس وفد للبحث والدراسة، فبحث فعلًا ولقي قادة الحركات الجزائرية، وجاء بفكر مبني على السماع والظن، ورجع بفكر مبني على المشاهدة واليقين. ويظهر أن حضرة الوزير الفرنسي يحمل روحًا متألمة من حال دولته وأمته، فخشي عليها من العواقب التي تنتج عن الاستعمار في التهوّر، والإمعان في المطامع المهلكة، وعقد ندوة صحافية في باريس حضرها الكثير من المسؤولين، وألقى عليهم بيانًا شاملًا لكثير من الحقائق الواقعية، وتناول الأركان الثلاثة التي تبنى عليها السياسة الفرنسية التي ترمي إلى إذلال الجزائريين ثم إلى إفنائهم، وهي السياسة والاقتصاد والثقافة، ففضح بيانه الحكومة الاستعمارية للشعب الفرنسي وللرأي العام العالمي. نقتصر من بيانه على النقطة الأساسية التي تهمّنا وهي الثقافة، لأن شهادته فيها مطابقة للواقع الذي كنا نتحدث به، ومؤيّدة للأرقام التي كانت تجري في أحاديثنا مع إخواننا، والصفات الوحشية التي كنا نصف بها أعمال الفرنسيين في الجزائر، وما كابدته الأمة الجزائرية- وجمعية العلماء خاصة- من العنت والإرهاق، وقد ترجمت معظم الجرائد العربية هذا البيان، نقلًا عن الجرائد الباريسية، فرأينا أن نقتطف منه ما يتعلق بجمعية العلماء

الجزائر محرومة من كل شيء

وأعمالها- والحق ما شهدت به الأعداء- وهذا هو نص ما به الحاجة من بيان الوزير الفرنسي المذكور، زيادة في تنوير أذهان حضراتكم. قال الوزير ما ترجمته: وأخيرًا أحدّثكم بإجمال عن المشكل الثقافي: الجزائر محرومة من كل شيء: "لقد رأينا رأي العين كيف أن مليونين من أبناء المسلمين لا يتلقّون أي علم على أي مقعد مدرسي، وذلك بعد أن بسط عليهم النظام الاستعماري رحمته طيلة 125 عام. رأينا المسلمين لا يشاركون في التعليم الابتدائي إلا على نسبة 10 بالمائة، وليس لهم في التعليم العالي إلا نحو ثلاثمائة طالب. رأينا الأبواب العلمية كلها موصدة في وجه المسلمين، وخرجنا من كل ذلك بنتيجة عظيمة وهي أننا إذا كنّا في فرنسا نجهل معنى العنصرية، فإن العنصرية في القطر الجزائري هي القانون الرسمي المعمول به. رأينا التعليم الحر الذي تقوم بنشره جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعلمنا أن هذه الجمعية تشرف على ما يزيد عن مائة وخمسين مدرسة، وأنها تعلم قرابة 45 ألفًا من البنين والبنات تنتشلهم من بين أيدي الجهل والإهمال، فنحن لا يسعنا إلا أن نثني الثناء الحار على هذا المجهود الصالح الذي تقوم به هذه الجمعية، وإننا لنشجّعها على الاستمرار فيه، ونشيد بمجهودها وأعمالها، كما أننا نعلمكم بأننا سنشهر بهذه العقبات التي تلقاها في طريقها، وهذه المثبطات التي يريدون بها الفتّ في عضدها، فقد رأينا المدارس التي أقفلت بأمر الحكومة، ورأينا المدارس التي بنتها الأمة وأنفقت فيها الأموال الغزيرة ولم تأذن الإدارة بفتحها، وعلمنا أن عددًا كثيرًا من المعلمين يضطهدون وينالون نصيبًا من أعمال الزجر، ورأينا في قسنطينة معهد عبد الحميد بن باديس وأعجبنا به ولكننا علمنا بعد ذلك أن الإدارة لا تعتبر لشهاداته أدنى قيمة ولا تعترف بها، في الوقت الذي لم تستطع فيه هي نفسها أن تحدث مثل ذلك أو ما يشابه ذلك. ثم رأينا مشكل فصل الدين عن الدولة، واطّلعنا على حال المسلمين وأوقافهم تجاه الحكومة: إنها حقيقة لمأساة من أفظع ما يمكن أن يتصوّره الناس، فقانون 1905 لم ينفّذ، وبينما تحرّرت بقية الأديان من ربقة الحكومة نرى الدين الإسلامي يومًا فيومًا سقوطًا بين أيدي الإدارة المباشرة الحكومية، فالحكومة هي التي تدير ما جلّ وما قلّ من أمور المسجد والدين، ورأينا أن المدير إذا أراد مكافأة أحد فرّاشيه عيّنه إمامًا أو مفتيًا. لقد خرجنا بحقيقة لا غبار عليها ألا وهي أن الدولة تعمل على قتل اللغة العربية وعلى تحطيم الدين الإسلامي وعلى تجهيل الأمة، والعلماء يعملون على خط مصادم للخط الحكومي، فهم يقومون

بالجهود المحمودة لإحياء الإسلام وتطهيره من الخرافات ونشر اللغة العربية ورفع الأمية عن الأمة، غير مبالين بالعقبات ووسائل الزجر والتنكيل. وختامًا أيها السادة أؤكد لكم أننا لم نتعب كثيرًا في البحث عن الثعبان الاستعماري في هذه البلاد، بل ان هذا الثعبان نفسه قد أخرج لنا رأسه منذ اللحظة الأولى، فعرفناه بكل ما انطوى عليه من سوء ولؤم، ولقد تأكّد لنا أن الدستور الجزائري الذي خلناه حقيقة واقعة، ما هو إلا تدليس وتلبيس وأنه أصبح صورة مشوّهة لنظام ديمقراطي مبني على السرقة الانتخابية والغش. سنقول لفرنسا كل هذا، وسنشرح لها كل ذلك، وما قلناه لكم إنما هو قطرة من بحر. سنقول لفرنسا بصراحة وشدة: حذار، فإذا لم يقع الاستماع لصوت الحق، وإذا لم تسد في هذه الأقطار سياسة العدل، فإن الجزائر سوف تغدو قريبًا مثل مراكش ومثل تونس، فإذا لم يقع عمل بات وسريع لفائدة الجزائريين فإنه لا لوم عليهم ولا تثريب إذا ما ركبوا المراكب التي تدعو إليها اليأس. لا ريب أننا سنجد من يقول لنا عندما نصيح صيحة الخطر وننادي بوجوب السرعة في عمليات الإنقاذ: انكم لستم من الفرنسيين الصالحين. سنقول لهم في قوة وجرأة: كلا، بل إننا نحن الصالحون من الفرنسيين، لأن الفرنسي الصالح هو الذي يقول لأمّته كلمة الحق ولا يخفي عنها شيئًا، ولا يرتكب جريمة السكوت، وسنكون أيها السادة- ونعدكم بهذا- من أحسن الفرنسيين." هذه هي شهادة الوزير الفرنسي للجزائر على دولته- والفضل ما شهدت به الأعداء- وبها نختم هذه المذكّرة والسلام. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني

«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية

«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية * موقع زاب افريقية في جنوب مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، وهو اسم لإقليم يضيقه الاستعمال العرفي ويوسّعه، فقد كان في القرون الهجرية الأولى إلى القرن الثامن يطلق إطلاقًا واسعًا حتى يشمل سهول الحضنة ومدنها الواقعة في سفوح الأطلس الجنوبية وهي المسيلة ومقرة وطبنة الرومانية وتعرف اليوم باسم "بريكه". والمسيلة هي التي كانت تعرف قبل الإسلام باسم زابي، ثم سمّيت بعد الفتح الإسلامي بالمحمدية؛ والمسيلة، وهي التي ولد فيها الشاعر ابن رشيق القيرواني، واستقرّ فيها الشاعر ابن هاني الأندلسي لأن ممدوحه جعفر بن فلاح كان أميرًا عليها، وانتظمت إمارته إقليم الزاب كله، فلذلك اتّسع مسمّى الزاب عند مؤرّخي ذلك العصر، لأن الاسم كان لكل ما شملته الإمارة، واسم الزاب متردّد كثيرًا في شعر ابن هاني قبل أن يتصل بالفاطميين. و"مقرة" تقع شرقي المسيلة بنحو مائة ميل، و"طبنه" تقع شرقي "مقرة" بنحو ثلاثين ميلا، ومن مقرة خرجت أسرة المقري صاحب كتاب نفح الطيب وهو الذي يقول: أصل سلفنا من "مقرة" إحدى قرى زاب افريقية، انتقلوا في المائة السادسة إلى تلمسان، الخ، ومن طبنة خرجت أسرة أبي مضر الطبني إلى الأندلس وهي أسرة أخرجت أعلامًا في الأدب والشعر والعلم. وهذه المدن يذكرها الرحّالون من المشارقة والمغاربة، ذكرها ابن حوقل الرحّالة البغدادي وذكرها البكري صاحب المسالك والممالك وغيرهما وقد دخلوها كلهم ووصفوها وصف المعاين.

_ * كلمة مخطوطة لم نعثر على ما يدل أنها نُشرت.

ومن العجيب أنكم تنقلون (1) كلام البكري مترجمًا مع أن القطعة المتعلقة بشمال أفريقيا من كتابه "المسالك والممالك" مطبوعة في الجزائر من عشرات السنين. أما الزاب اليوم فهو يطلق على قطعة صغيرة في سفوح الجبال الفاصلة بين سهول الحضنة والصحراء. وعاصمة الزاب الإدارية والتجارية في يومنا هذا هي مدينة بسكرة. والزاب مقسّم إلى ثلاثة أقسام متصلة متقاربة: الزاب الظهراوي، ومن قراه طولقة وليشانه وبوشقرون وفرفار وفوغاله والعامري، وجميع هذه القرى تعتمد على زراعة النخيل وتنتج أجود أنواع التمر في العالم، وتسقى بالآبار الارتوازية الغزيرة، ثم الزاب الغربي ويشمل قرى ليوه والصحيرة والمخادمة وبنطيوس وأورلال وأوماش، واعتمادها على زرع النخيل أيضًا، ثم الزاب الشرقي ومن قراه سيدي عقبة (مدفن عقبة بن نافع الفهري فاتح أفريقية) وشتمة، والدروع وتهوده، وقرى الزاب الشرقي تسقى من ماء الأنهار المتحدرة من جبال أوراس. أما الدوسن وأولاد جلال فهما خارجان عن الزاب وتقعان غربيه. وقول المؤرخين "زاب أفريقية" يحترزون به عن زاب الموصل أو العراق، فهناك واديان ينبعان من جبال الأكراد أحدهما الزاب الأصغر بين الموصل وأرييل، والثاني الزاب الأكبر بين أربيل وكركوك وكلاهما من روافد دجلة، وما زالا معروفين بهذا الاسم إلى اليوم. أرى أن زاب العراق يجب أن يعرّف في هذه المادة من دائرة المعارف الإسلامية.

_ 1) يبدو أن الشيخ ارسل هذه الملاحظة إلى المشرفين على الطبعة العربية لدائرة المعارف الإسلامية.

الرق في الإسلام

الرق في الإسلام * تمهيد: يرى كثير من الباحثين الغربيين في شرائع الإسلام أنه شرع الاسترقاق ومكّن له وحماه، وجعله كلمة باقية في أتباعه، وأبقاه سمة مميزة له، حتى إنه كلما ذكروا الإسلام ذكروا معه الاسترقاق كنقيصة اختصّ بها، ويذكرون معه تعدّد الزوجات، ونقص ميراث المرأة، وضرب الحجاب عليها، واستبداد الرجل بالعصمة والطلاق، وينتزعون من إباحة التسرّي بالإماء في الإسلام بلا حد دليلًا- في زعمهم- على أنه هو المقصود من شرعية الاسترقاق، ويعمون عن جميع حكم الإسلام وأحكامه في هذه القضية، ولا يرون إلا أنه دين اتباع للأهواء واسترسال في الشهوات، كل ذلك لينفروا قومهم ويصدّوهم عن سبيله، ولينفسوا عن أنفسهم ذلك الحقد المتأجج على الإسلام والمسلمين. وهذا الصنف من الباحثين المسيحيين في شؤون الإسلام لا يصدرون في أبحاثهم عن أذهان صافية ومنطق مستقيم وفهم صحيح لأصول الإسلام وحقائقه، ولا يستندون إلى اطلاع واسع على كتبه وتاريخه ولا يبحثون بحثًا مجردًا عن الهوى والغرض، ولا يحبسون أفكارهم عند الحقيقة ليَحْمِلوها لمن يقرأ كلامهم، ولا تذهب بهم هممهم إلى الماضي البعيد من تاريخ الإسلام وأسباب امتداد سلطانه وانتظامه بالمشارق والمغارب، وآثاره في أتباعه الأولين وسير رجاله البارزين في العلم والحكم، والحرب والسلم، والاجتماع والتشريع ... لا شيء من هذا فيما بلونا من أمرهم، وإنما يصدرون عن أهواء غالبة، وأحقاد دفينة وتعصّب موروث، يرثون كل ذلك عن سلفهم من رجال الكنيسة وفلول الحروب الصليبية، وعن التصويرات التبشيرية العصرية التي يخطّطها أئمة الكهنوت، وينفق عليها المهوسون من أتباعهم، وتحميها الدول الاستعمارية بالجيوش والأساطيل.

_ * محاضرة لم نعثر على تاريخ ومكان إلقائها.

وخصلة أخرى ذميمة ركبت كل الكاتبين الغربيين حين يكتبون عن الشرق عمومًا، وعن الإسلام والمسلمين خصوصًا، وهي القصور في الاستقراء، والعقم في الاستنتاج والسطحية في التفكير، فنراهم يقفون على الجزئيات فيجعلون منها كليات، ويبنون عليها أحكامهم، ويوهمون قرّاءهم من بني جلدتهم ومن تلاميذهم منا أنهم استقرأوا ذلك الموضوع استقراءً تامًا، وخرجوا منه بحكم لا ينقض، وعلى هذه الطريقة الخاطئة والمنهاج الأعوج درج أولهم وآخرهم، ومن كتب منهم في التشريع الإسلامي، ومن كتب في تاريخ الإسلام، وكل من كتب في فروع الشرقيات، وان لهم لخطيئة أخرى علتها الغرض والهوى والجهل مجتمعات، - وهذا الثالوث إن اجتمع كان آفة الفكر وجائحة التاريخ- وهي أنهم يحكمون على الإسلام بأعمال المسلمين وأحوالهم المخالفة له، ليتوصلوا إلى غرضهم في تنقص الإسلام والازراء عليه والحط منه، ولا يريدون أن يفهموا أن الإسلام شيء وأن المسلمين شيء آخر، ولو فهموا هذا لفهموا معه أن المسلمين لو أقاموا دينهم ومشوا على صراطه السوي لما طمع الغربيون من أوطانهم في قلامة ظفر، ولما ظفر هؤلاء الباحثون الحاقدون بثغرة يدخلون إليهم أو ينفذون إلى دينهم منها، ولو جارينا هؤلاء الباحثين المسيحيين في منطقهم هذا وكايلناهم صاعًا بصاع لقلنا لهم: ان الاستعمار الذي هو رجس من عمل الشيطان محسوب على المسيح، وان محاكم التفتيش نسخة من أعمال المسيح، ولكننا لا نجاريهم، لأننا نعلم من كمالات المسيح وتعاليم المسيح ما لا يعلمون. ثم دخل عامل جديد على مباحث الغربيين المتعلقة بالإسلام، وهو السياسة الاستعمارية المبنية على إذلال المسلمين وابتزاز أموالهم واحتجاز خيرات أوطانهم، فكان من أسلحة هذه السياسة، بعد الحديد والنار وتشويه الإسلام وتقبيحه في نفوس أبنائه الجاهلين به، وتشجيع الخرافات لإفساد عقائده، وإلقاء الشبهات في كثير من حقائقه، وتزهيدهم بكل الوسائل في أحكامه حتى يهجروها، وإذا زاغت العقائد وهجرت الأحكام وسادت الخرافات فأي سلطان مادي أو معنوي يبقى للدين على نفوس معتنقيه؟ وهذا هو الذي يرمي إليه الاستعمار في كل ما يكتب عن الإسلام وفي كل ما يعامل به المسلمين، وقد بلغ مراده منا لولا هذه الهبّة الأخيرة التي لاحت تباشيرها ونرجو أن يتم تمامها، ويحسن ختامها. كان طبيعيًا للدول المسيحية المستعمرة أن تجنّد جنودًا لفتح الأوطان، وتجنّد جنودًا أخرى لفتح الأذهان، فكان الجند الثاني مؤلفًا من هؤلاء الباحثين الذين يكتبون في شؤون الإسلام، فتصدّى فريق منهم لتشويه التاريخ الإسلامي، وفريق للطعن في أحكامه، والقدح في فضائله، وفريق لفتنة الأجيال الناشئة من أبنائه ببريق الحضارة الغربية، ويصحب ذلك كله تحقير الشرق وحضارته وعلومه، وفي مقدّمتها حضارة الإسلام وعلومه، وان هدفهم في كل أعمالهم هو الدعائم التي تبنى عليها الأسرة الإسلامية، ينالونها بالتوهين ثم بالهدم، لعلمهم

أن الأسرة هي أساس الأمة، فإذا صحّ بناء الأسرة صحّ بناء الأمة، والعكس بالعكس، ونحن لا نعلم دينًا سماويًا ولا قانونًا وضعيًا بنى الأسرة على صخرة ثابتة، مثل الدين الإسلامي، ولكن أهله- هداهم الله- فرطوا في التليد، ثم أفرطوا في التقليد، فكانت عاقبة أمرهم خسرًا، ولو أنهم عادوا إلى الله وإلى تعاليم دينه لعادت عليهم عوائد بره ورحمته. ويزيد السر في هذه الحملات القلمية على الإسلام انكشافًا واتضاحًا أن هؤلاء القوم ينقمون من الإسلام كدين أنه زكّى نفوس أبنائه حتى حقّقوا المثل العليا للإنسانية، وهؤلاء القوم يحاولون أن لا يسجّل التاريخ مثلًا أعلى للإنسانية غيرهم، وأنّى يكونون كذلك والمثل العليا لا تتحقق إلا بالعنصر الروحي وهم مفلسون منه، وينقمون منه كنظام اجتماعي سياسي انه ساد نصف المعمورة قرونًا، فهم يخشون أن تتهيّأ له الوسائل فتعود له تلك السيادة كرة أخرى، لذلك نجدهم يكتبون عنه كتابة الحاقد الموتور، فلا يبالون بحقيقة تاريخية يشوّهونها، ولا بحق ثابت ينكرونه، ولا بحسنة بارزة يطمسونها، وأعانهم على ذلك سوء حال المسلمين في القرون الأخيرة، وانحلال عرى جامعتهم، وانحطاط مستوى تربيتهم، واستغراق جمهرة فقهائهم في التقليد للأشخاص والعادات، تقليدًا يكاد يكون تأليهًا، وهجرهم للينابيع الصافية لشريعتهم، وانقطاع الصلة الوثيقة بينهم وبين سلفهم وهي التاريخ المتسلسل، وجهلهم بكل ما يدور حولهم، وهل أتاك أن كثيرًا من فقهائنا لا يعلمون شيئًا عن هذه المطاعن الموجّهة للإسلام، ولو علموا لما استطاعوا لها دفعًا، وأنى يعلمون وهم غير متصلين بزمنهم؟ إن لميدان الكلام والأقلام رجالًا، وان لميدان الصدام والحسام رجالًا، وقد خلا الميدانان منا، فلا نلم المتطاول علينا بقلمه أو بسيفه، ولْنلمْ أنفسنا، فالدهر دول والضعفاء للأقوياء خول. على أننا لا ننكر أن في أولئك الباحثين نفرًا يتحرّون الحقائق، ويتّسمون بسمات العلماء من الإنصاف والتمحيص وخدمة العلم لذات العلم، وقد انتهى البحث بهؤلاء إلى الاعتراف بمحاسن الإسلام دينًا ونظامًا اجتماعيًا تحوطه أحكام عادلة حكيمة، وإلى الاعتراف بمعجزات القرآن في العلوم الكونية، ولكن هذه الفئة قليلة وليس في قدرتنا أن نحجر على الباحثين والكاتبين أن يكتبوا في أحوالنا، وأقلّ الواجب أن نرد الفرية، وأن نكشف المرية، وأن نحمد لمن ينتقدنا بانصاف ولمن ينبّهنا على عيوبنا. ونعود إلى موضوعنا وهو "الرق في الإسلام". تحرّرت أمريكا من استعمار أوربا لها، والاستعمار استعباد، وتحرّرت بعد ذلك دول أوربا من استبداد ملوكها، والاستبداد استعباد، وتحرّر كثير منهم من طغيان الكنيسة وهو

دين التحرير

أشنع أنواع الاستعباد، فرسخت أصول الحرية في هذه الأمم، واستمرأوا طعمها، وجنوا ثمراتها، وتنوّعت مناحيها من حرية الرأي والمعتقد إلى حرية الاجتماع والقول، فأرادوا أن يخرجوا على العالم بشيء جديد، فتداعوا إلى مؤتمر، وأسفر المؤتمر عن قانون سمّوه "قانون إلغاء الرق" يحرّم ملك الرقيق والاتّجار به، وعرضوه على حكومات العالم فوافق عليه الكثير منها، ومنها الدولة العثمانية، وكانت دولة الخلافة الإسلامية إذ ذاك، ولكنها كانت من الضعف بحيث لا تستطيع أن تخالف لأوربا رأيًا وإن كان سخيفًا أو مرادًا به غير ظاهره، ولا تستطيع أن تمنع النخاسة في ممالكها الواسعة الممتدة الأطراف، ولما كان مما ورثه الأوربيون عن أسلافهم وعن الكنيسة عداوة الإسلام، وكان من أعمال الكنيسة تعهّد تلك الشجرة الخبيثة، شجرة الحقد على الإسلام وأهله، بالسقيا والتنمية، كان من ثمرة ذلك الحمل على الإسلام وإلصاق النقائص كلها به كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فقد اتّفقت حكومات أوربا وأمريكا على تحريم الاسترقاق وتضييق الخناق على المتّجرين بالرقيق، وبقيت بعض الحكومات الإسلامية متساهلة في ذلك- صدقت الحملة من الحكومات المسيحية وكتابها على الإسلام من هذه الثغرة وهي الاسترقاق- فعابوه بأنه دين استرقاق لا دين حرية، وفهموا أن الاسترقاق أصل من أصوله كالصلاة والحج وحكم من أحكامه لا يجوز للحاكم المسلم أن يلغيه ولا أن يهدمه، وقد تكشفت الحكومات الأوربية والكتاب الأوربيون في هذه القضية عن جهل فاضح بمقاصد الإسلام وسياسته في تنظيم الاجتماع الإنساني، وهذا هو ما نحاول توضيحه في هذه الكلمة. دين التحرير: استشرف العالم الإنساني قبيل البعثة المحمدية إلى دين سماوي عام، يحرّر الإنسانية تحريرًا كاملًا في جميع جوانب الحياة، ويبتدئ بتحرير العقل الذي هو القوة الروحية المصرفة للإنسان، والمميزة بين الخير والشر، وكان ذلك الاستشراف بعد أن عجزت نبوّة الأنبياء وحكمة الحكماء عن تحريره، فجاء الله بالإسلام دينا سماويًا عامًا كاملًا ليحقق للإنسانية آمالها في التحرير العام، فكان الإسلام هو دين التحرير، وهو النبأ الذي كان أصحاب الأرواح الصافية يترقبونه، وهو الأمنية التي كانت تملأ نفوس المصطفين الأخيار من عباد الله ثم ماتوا قبل أن تتحقق. نقول: إن الإسلام هو "دين التحرير العام"، فنرسل هذا الوصف إرسالًا بدون تحفّظ ولا استثناء، لأنه الحق الذي قامت شواهده وتواترت بيّناته، ومن شواهده وشهوده تلك الأجيال التي صحبت محمدًا وآمنت به واتّبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتّبعوهم بإحسان، ونحمد الله على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها لم تنقطع عند جميع

العقلاء من أجناس البشر، والعقلاء هم حجة الله على من سواهم، وما زال الخير يسمّى خيرًا، والشرّ يسمّى شرًا، والفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة. فالسارق يسرق وهو يعتقد أنه متعد على مال الغير، والمتبع لخطوات الشيطان لا يقول رضي الله عن إبليس، وإنما يقول- لعنه الله- وإن هذه لمن أسرار فطرة الله التي فطر خلقه عليها يواقعون الشر ولا يسمّونه خيرًا، فيسجّلون بذلك الشهادة على أنفسهم، إلا المطبوع على قلوبهم، الفاقدين للشعور، كالذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، وكصرعى التقليد للحضارة الغربية الذين استرقتهم الشهوات فاستباحوا المحرمات باسم الحرية. وكالمسيرين للدول الغربية، أسكرتهم القوة فبغوا على الضعفاء وسلبوا أوطانهم، وسمّوا بغيهم استعمارًا. إن من الظلم والحيف والغش والفساد في الأرض تسمية الأشياء بغير أسمائها، لأنه قطع للأسباب عن مسبباتها، وقد قيل في قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، إن منه قطع الدوال عن مَدلولاتِها، وان أعظم شرور هذه الحضارة الغربية أنها فتحت الباب لهذا النوع من المسخ وشجّعت عليه، فأفسدت الفطرة، والضمير الذي سمّاه محمد - صلى الله عليه وسلم - "وازع الله في نفس المؤمن". والتحرير الذي جاء به الإسلام شامل لكل ما تقوم به الحياة وتصلح عليه المعاني والأشخاص، والدين الإسلامي لا يفهم التحرير بالمعنى الضيّق، وإنما يفهمه على أنه كل إطلاق من تقييد، أو تعديل لوضع منحرف، أو إنصاف لضعيف من قوي، أو نقل شيء من غير نصابه إلى نصابه. قالت أسماء بنت أبي بكر حينما بعث لها أبوها بجارية تقوم لها بعلف الفرس: فكأنما أعتقني. حرّر الإسلام العقل وجميع القوى التابعة له في النفس البشرية، والعقل هو القوة المميزة للمتضادات والمتنافرات التي بني عليها هذا العالم، كالصلاح والفساد، والخير والشر، والنفع والضر، ولذلك جعل مناطًا للتكاليف الدينية والدنيوية، وقد يطرأ عليه ما يطرأ على الموازين المادية من الاختلال فيتعطل أو ينعكس إدراكه، والإسلام يعلو بتقدير العقل والفكر إلى أعلى درجة، ويقرّر أن إدراك الحقائق العليا في الدين والكون إنما هو حظ العقول الراجحة والأفكار المسددة، وأن العقول المريضة والأفكار العقيمة تنزل بصاحبها إلى الحيوانية بل إلى أحط من الحيوانية، ففي القرآن العظيم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. ولهذه المنزلة التي وضع الإسلام العقل فيها حماه من المؤثرات والأمراض والعوائق، وأحط دركة يرتكس فيها العقل هي الوثنية، فهي أكبر معطل له عن أداء وظيفته حين لا يسمو إلى الجولان في العوالم الروحية وحين تفتنه الماديات بظواهرها من طريق الجوارح الحسية.

أعلن الإسلام من أول يوم حربًا شعواء على الوثنية بجميع أنواعها، وهي أشدّ ما كانت سلطانًا على النفوس، وتغلغلًا فيها، وإفسادًا لفطرة الخير وإطفاء لنورها، حتى اجتثّها ومحا آثارها من النفوس ومن الآفاق، وعمر مكانها بالتوحيد. أتدرون السر في تلك الحملات على الوثنية؟ هو تحرير العقل من نفوذها وسلطانها حتى يواجه أمانة الدين الجديد صحيحًا معافى، ويؤدي الوظيفة التي خلق لأدائها؛ وما هدم أصحاب محمد الأصنام بأيديهم إلا بعد أن هدم محمد الوثنية في نفوسهم، وبعد أن بنى عقولهم من جديد على صخرة التوحيد، ولولا ذلك لما أقدم خالد على هدم طاغية ثقيف. وحزر الخلطاء بعضهم ببعض بما شرعه من أحكام عادلة تقوم بالقسط، وترفع الحيف والظلم، ووقف بكل واحد عند حدّه، وحفظ له حقوقه. فحد الحدود بين المرأة والرجل وبين المحكوم والحاكم وبين الفقير والغني وبين العبيد والسادة وبين العمّال وأصحاب المال، وهذه الأنواع من التحرير تناولتها النصوص القطعية من القرآن والأحاديث، واكتنفتها في صلب النصوص مؤثرات من الترغيب والترهيب تزيدها قوة ورسوخًا في النفس، فأما تحرير المحكومين من الحاكمين فلا مطمع أن يأتي فيه على وجه الدهر ما جاء به الإسلام من شرائع العدل والإحسان والشورى والرفق والرحمة وعدم المحاباة حتى في النظرة والكلمة والمجلس. وأول ما يسترعي النظر من ذلك سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقضيته في حياته وما أدبه به ربّه من مثل قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، ثم سيرة الخلفاء الراشدين في الحكم فإنها كانت مثالًا من أحكام النبوّة التي هي وحي يوحى، وإن الأمثلة التي ضربها عمر في إقامة العدل وقوة الاضطلاع، لأمثلة خالدة على الدهر، فاق بها من قبله، وأعجز من بعده، وما أروع قوله: "من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقوّمه"، وأروع منه قول مجيب من أفراد الرعية: "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناه بسيوفنا"، وأبلغ منهما في الروعة أن يحمد عمر ربّه على أن يكون في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يقوّم عمر بسيفه. والتشريع الإسلامي تشريع متّصل الحلقات من العقائد والعبادات إلى الآداب والمعاملات. وكلّه يرمي إلى غاية واحدة، وهي إنشاء أمة متّحدة المبادئ والغايات، متناسقة ما بينهما، لتحمل الأمانة كاملة صحيحة إلى الأجيال اللاحقة، وقد تمّ للإسلام ما أراد عدة قرون، وما زلنا- بحمد الله- نحمل بقايا من ذلك، ولولاها لكنّا في الغابرين. وحرّر الإسلام الفقير من الغني، فجعل للفقراء حقًا معلومًا في أموال الأغنياء، ووجه التحرير هنا أن الفقير كان يسأل الغني فيعطيه أو يحرمه تبعًا لخلقه من تسهل أو كزازة، فإذا

أعطاه شيئًا أخذه على أنه مكرمة ممنونة، تجرح نفسه، وان أشبعت بطنه، ولكن الإسلام ألزم الغني بدفع الزكاة للفقير وسمّاها حقًا معلومًا، وتسمية هذا المال حقًا لله تشعر الغني بالرضا والتسليم والاطمئنان إلى إخلافه ومضاعفته، وترفع عن الفقير غضاضة الاستجداء ومهانة السؤال، وتطهّر نفسه مع ذلك من رذيلة الحقد على الغني، وهذا الحقد هو أساس الشيوعية ومن عجائب الإسلام في إدخال التربية النفسية في الأحكام، أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء من العمليات إلا بعد أن يمهّد للنفس ويعمرها بخوف الله وحده، ويقنعها بالآثار التي تترتب على المأمور به أو المنهى عنه، فإذا جاء دور العمل كانت النفس مطمئنة بالعلم وراضية بالعمل مهما شق، ولهذا كانت عقائد الإسلام وعباداته وأحكامه وآدابه كلها مترابطة وكلها متعاونة على تهذيب المسلم، ولهذا السر أيضًا صلح شأن المسلمين الأولين، لأنهم أقاموا الدين كله، عينيًا في العينيات، وكفائيًا في الكفائيات، وكانوا لا يتهاونون في الصغيرة، احتياطًا للكبيرة، ومن أوامر القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. وحرّر الإسلام الحيوان الأعجم من الإنسان، وحرّم عليه أن يحمله ما لا يطيق من الأحمال والأعمال، وأن يجيعه أو يعطشه، فإذا فعل به شيئًا من ذلك بيع عليه جبرًا بحكم الحاكم، وأوصى في الرفق بالحيوان وصايا زاجرة، وفي حديث نبوي أن امرأة دخلت النار بسبب هرة أمسكتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل خشاش الأرض، وأن امرأة عاصية لله دخلت الجنة بسبب كلب وجدته يلهث عطشًا على حف بئر فأدلت خفها وسقته، وما من شيء تفعله جمعيات الرفق بالحيوان في هذا العصر إلا وقد سبق الإسلام إلى أكمل منه. وحرّر الإسلام المرأة من ظلم الرجال وتحكّمهم، فقد كانت المرأة في العالم كله في منزلة بين الحيوانية والانسانية بل هي إلى الحيوانية أقرب، تتحكّم فيها أهواء الرجال وتتصرف فيها الاعتبارات العادية المجرّدة من العقل، فهي حينًا متاع يتخطّف، وهي تارة كرة تتلقف، تعتبر أداة للنسل أو مطية للشهوات، وربّما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملًا من عوامل ترقيق العواطف وإرهاف النفس، ودواء لكثافة الطبع وبلادة الحسن، ويجدون فيها معاني جليلة من السمو الإنساني، وأشعارهم- على كثرتها- عامرة بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها، ولا عبرة بما شاع عنهم من وأد البنات، فإنه لم يكن عامًا فاشيًا فيهم، وتعليله عند فاعليه يشعر أنه نتيجة حب طغى حتى انحرف، وأثر عقل أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهية لنوع الأنثى، وعلى كل حال فالوأد خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارج عن نطاق الانسانية، وحسبه تسفيه قوْلِه تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. وجاء الإسلام فنبّه على منزلتها وشرفها وكرم جنسها، وأعطاها كل ما يناسب قوّتها العقلية وتركيبها الجسمي وسوّى بينها وبين الرجل في التكاليف الدينية، وخاطبها بذلك

استقلالًا تشريفًا لها، وإبرازًا لشخصيتها، ولم يجعل للرجل عليها سبيلًا في كل ما يرجع إلى دينها وفضائلها، وراعى ضعفها البدني بالنسبة للرجل، فأراحها من التكاليف المادية في مراحل حياتها الثلاث، من يوم تولد إلى يوم تموت، بنتًا وزوجًا وأمًا، فأوجب على أبيها الإنفاق عليها وتأديبها ما دامت في حجره إلى أن تتزوّج، وهذا حق تنفرد به البنت على الابن الذي يسقط الإنفاق عليه ببلوغه قادرًا على الكسب، فإذا تزوّجت انتقل كل ما لها من حق أدبي أو مادي من ذمة الأب إلى ذمة الزوج، فتأخذ منه الصداق فريضة لازمة، ونحلة مسوّغة وتستحق عليه نفقتها ونفقة أولادها منه بالمعروف، فإذا خلت من الزوج ولها أولاد مكتسبون وجبت الحقوق على أولادها، ولا تنفق شيئًا من مالها إلا باختيارها، ووصايا القرآن والسنّة وأحكامها في بر الأمهات معروفة، وهي أظهر من الشمس، فالإسلام أعطى المرأة وأولادها من الإعزاز والتكريم ما لم يعطها إياه دين آخر ولا قانون وضعي وأعطاها حق التصرّف في أموالها، وحق التملّك من دون أن يجعل للزوج عليها من سبيل، وأحاطها بالقلوب الرحيمة المتنوّعة النوازع، المتلوّنة العواطف: قلب الأب وما يحمل من حنان، إلى قلب الزوج وما يحمل من حب، إلى قلب الولد وما يحمل من بر ورحمة، فهي لا تزال تنتقل من حضن كرامة وبر إلى حضن كرامة وبر، إلى أن تفارق الدنيا، وبين المهد واللحد تتبوّأ المراتب الكاملة في الانسانية. نرى من هذه المعاملة الصريحة للمرأة في الإسلام أنه سلّحها بأحكام قطعية، وحماها بتشريع سماوي عادل ولم يكلها إلى طبائع الآباء الذين يلينون ويقسون، ولا إلى أهواء الأزواج الذين يرضون ويغضبون، ولا إلى نزعات الأبناء الذين يبرّون ويعقون، وإنما هي أحكام إلهية واجبة التنفيذ، لا تدور مع الأهواء والعواطف والنزعات وجودًا وعدمًا. ولا ينقض علينا هذه الأصول شذاذ العصور المتجاوزون لحدود الله الخارجون عن الفطرة الصحيحة كمسلمي زماننا الذين منعوا المرأة المسلمة كل أو جل حقوقها، وحسب هؤلاء أنهم ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا المرأة، وأنهم هدموها فهدمتهم عن غير قصد، في أبنائهم، وأفسدوا كونها، فحرموا عونها. وفي موضوع "المرأة في الإسلام" يتدخّل علماء الغرب ملاحدة ومتألهين، ويتعاطون ما لا يحسنون من القول في هذا الموضوع. ويجعلون منه ذريعة للنيل من الإسلام، ولقد ناظرنا جماعة منهم في الموضوع فأفحمناهم وألقمناهم حجرًا، قلنا لهم: هاتوا مثالًا نتناقش فيه، فقالوا: الميراث، قلنا: من أي جهة؟ فإن المرأة ترث بعدة أسباب، فنظر بعضهم إلى بعض، هل يراكم من أحد، وكادوا يتسلّلون، وكأنهم كانوا لا يعرفون إلا أن المرأة مظلومة في القرآن الذي يقول: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فقال لنا أحدهم: نعني ميراث البنت مع أخيها، فقلت: أنتم قوم تبنون الحياة كلها على الحساب، فهلم "نتحاسب"، ولنفرض أن

الاسترقاق في التاريخ

مورثًا مسلمًا مات وترك ابنًا وبنتًا وثلاثمائة نقدًا، قال الإسلام: للإبن مئتان، وللبنت مائة، فقلتم، هذا ظلم ... هذا غبن ... هذا إجحاف ... ولم تفهموا أن الإسلام نظر إلى المرأة ككل، ونظر إلى مراحل حياتها الثلاث كمنظومة متناسقة، فإذا نقص لها في جزئية، جبر لها في جزئية أخرى، ولنجرِ معكم على مثالنا ولا نخرج عنه، ولنفرض أن الأخوين الذكر والأنثى تزوّجا في يوم واحد، وليس لهما من المال إلا ذلك الميراث، فالذكر يدفع لزوجته مائة صداقًا، فيُمسي بمائة واحدة وأخته تأخذ من زوجها مائة صداقًا فتصبح ذات مائتين، والذكر مطلوب بالإنفاق على نفسه وزوجته وأولاده إن ولد، وأخته لا تنفق شيثًا على نفسها ولا على أولادها. فهذا هو الميزان العادل في الإسلام يتجلى من هذا المثال، وتتجلى منه رحمة الله في هذا المخلوق الذي ركبه الله على ضعف، ورشّحه لحمل أعظم أمانة، وهي تربية الناشئة وإعدادها للحياة. هذه أنواع قليلة من التحرير العام الذي جاء به الإسلام، ألمعنا إلى بعضها الماعًا وأطلنا في تحرير المرأة قليلًا، لأن خصوم الإسلام يتخذون منها نقطة الهجوم عليه، وحديثهم في موضوع المرأة أكثر من حديثهم في الاسترقاق، لأن مركز المرأة في المجتمع ممتاز، ولأن الحياة كلها تتوقف عليها، ولأن جوانب الحديث عنها متعددة، فالحجاب والطلاق والوظيفة والعمل والتعلّم والاختلاط والميراث، والانتخاب أخيرًا ... كلها جوانب للحديث عنها هجومًا ودفاعًا. أفمن حرّر المعاني والقوى والأجناس والأصناف والأشخاص، ثم حرّر الحيوان الأعجم، لا يحرّر الأرقاء من بني آدم؟ ... وهات الحديث عن الرقيق وقل … ان الحديث عن الرقيق رقيق الاسترقاق في التاريخ: الاسترقاق قديم ممتد مع تاريخ البشر، وأصله الظلم المتأصل في الغرائز، فكانت القبائل في أطوار البداوة يغزو قويّها ضعيفها فيأسر الرجال ويسبي النساء والذراري، ويتبع السبي الاسترقاق. وجاءت الحضارات فلم تنسخ هذه السنّة، وإنما وضعت لها حدودًا وقوانين، صيرتها شرًا منظّمًا. وشأن الحضارات قديمها وحديثها أنها لا تهذّب الغرائز الحيوانية في الإنسان، وإنما تموّهها بطلاء ظاهر وتخترع لها من حيل العقل والعلم ما يزيدها ضراوة بالشر واحتيالًا لارتكابه وتبصيرًا بطرقه، فالحضارة القائمة الآن لا تسبي النساء والأطفال في حروبها،

عمل الإسلام في الرق

ولكنها ترتكب ما هو شر من السبي، وهو القتل الذريع الشنيع للضعيفين المرأة والطفل، وتأسر المقاتل، والأسر استرقاق في أبشع صوره، ولا تزال الألوف المؤلفة من أسارى الحرب الأخيرة تحت أيدي الغالبين يسخّرونهم في أشقّ الأعمال. وجاءت النبوّات الخاصة فلم تفعل شيئًا في إصلاح هذه المفسدة، بل سايرت فيها مذاهب العامّة، وفيها ما أباح الاسترقاق لغير الأمم المفضلة بالنبوّة، إلى أن جاءت النبوّة المحمدية العامة بالتشريع التام الكامل، والإصلاح العام الشامل، فكان لها تدبير حكيم لعلاج هذه المشكلة التي لم تحلها الحضارات ولا النبوات. عمل الإسلام في الرق: أول ما بدأ به الإسلام في إصلاح قضية الاسترقاق التضييق في أسبابها فحصرها في سبب واحد وهو الكفر، الموجب للجهاد الديني في أهله ثم يورث من جهة الأمَة فقط، فابن الأمَة رقيق. والقتال بين البشر بحسب أسبابه يرجع إلى نوعين: الأول وهو المتعارف بين الناس منذ صاروا شعوبًا وقبائل إلى الآن، هو القتال للتسلّط أو للغنيمة أو للتشفّي أو توسيع رقعة المملكة واستغلال الغالب لوطن المغلوب، وهذه هي حرب البغي والعدوان، وليست لها غايات إنسانية، ولا بواعث شريفة، وحروب هذه العصور كلها من هذا القبيل، وغاياتها كلها شر، وقد أيّدتها الحضارة الحاضرة بعلومها وصنائعها فزادتها شرًا على شر وفظاعة وفتكًا على فتك، والتاريخ يحمّل علماء هذه الحضارة تبعات هذه الشرور كلها بما يخترعون من وسائل التدمير، وكان واجب الأمانة أن يوجّهوا علومهم لحياة البشر لا لموتهم، وهذا النوع من القتال لا يبيحه الإسلام ولا يبيح استرقاق من يسبى فيه. النوع الثاني: هو ما جاء به الإسلام وسمّاه جهادًا وهو قتال المعارضين لدعوته، الواقفين في سبيلها، بعد تبليغهم الدعوة، وتمكينهم من النظر فيها بالعقل والروية وانظارهم إلى المدة الكافية لذلك، فإن لم يقبلوها بعد ذلك ولم يقفوا في طريقها تركوا وشأنهم، ولا إكراه في دين الإسلام بالنص القرآني القاطع، وإنما الواجب في الإسلام التبليغ والبيان، وإن لم يقبلوا دعوة الإسلام ووقفوا في طريقها يصدّون الناس عنها بالكلام أو بالتحريض وجب في حكم الإسلام قتالهم وقتل المقاتلة منهم فقط أو أسرهم، وسبي النساء والذراري واسترقاقهم، فهذا هو شرط الاسترقاق في الإسلام، وفيه- كما ترى- تضييق لدائرته الواسعة المتعارفة في البشر قبل الإسلام، وتخصيص لعمومها، واستقراء ما أدخله الإسلام على هذه القضية من إصلاح يكاد يمحو آثارها من الوجود. وفي الحديث النبوي تقسيم بديع لأنواع القتال وفيه

المقاصد العامة في التشريع الإسلامي

أن المشروع منه أنواع، وهو أن يكون لإعلاء كلمة الله، وكلمة الله في جملتها هي توحيده الخالص والإذعان للأحكام التي جاء بها كتابه وبيّنها نبيّه، ومنها جمع البشر على ما يسعدهم ويرفع من بينهم أسباب الشرور والعداوات. إن رأي الإسلام في الحرب أنها مفسدة لا ترتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها، وأعظم مفسدة هي الوثنية التي تعطّل العقول وجميع المواهب التابعة لها المتصرفة بأمرها، وإذا تعطل العقل تعطّلت ثمراته وفوائده وأصبح الناس في حكم المجانين، وتسلطت عليهم الأوهام، وأصبح نظرهم إلى الحقائق زائغًا منحرفًا، وحسبهم نتيجة لذلك أنهم يؤلهون أشياء كلها أحط من الإنسان، ومنها ما هو من صنعه، وقد بينّا سابقًا كيف حرّر الإسلام العقل منها لأنها بخس له ولقيمته. المقاصد العامة في التشريع الإسلامي: وللتشريع الإسلامي في كل قضية عامة تدعو حاجة الناس إليها وتدخل صميم حياتهم، مقاصد بعيدة المدى، شديدة المواقع، واضحة الآثار في المجتمع الإسلامي، وعلى هذه المقاصد بنيت الأحكام الفرعية، والذي يغفل عن هذه المقاصد لا يسلم من الخطإ في النظر إلى الجزئيات، ولا يضمن الإصابة في ترجيح دليل على دليل عند التعارض. وباعتبار هذه المقاصد العامة في التشريع الإسلامي كانت الشريعة الإسلامية نظامًا اجتماعيًا كاملًا كافلًا لمصالح الجمهور ضابطًا لها، صالحًا لكل زمان ولكل مكان ولكل جنس. وكل من يستقرئ أحكام الشريعة الإسلامية المنصوصة في المعاملات العامة، ثم يعمل نظره في استخراج هذه المقاصد، يخرج بحقيقة- ترمي إليها جميع النصوص-، وهي أن من مقاصد الإسلام إبطال الاسترقاق بالتدريج، لأن غضاضته لا تدفع إلا بإبطاله، وإذا كانت إباحته بحكمة فليكن إبطاله بحكمة. ذلك أن الإسلام جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا وجدت قضية عامة يتجاذبها الصلاح والفساد- وهما ضدّان- فهنا تأتي حكمة الإسلام وبعد نظره ودقته في الترجيح، والإسلام لم يخترع الاسترقاق ولم ينشئه، وإنما وجده فاشيًا في العالم، درجت عليه الأمم كلها من أحقاب قديمة متطاولة، ودخل في حياتهم وتمكّن، ونزل منها منزلة الضرورات الحيوية، وتعوده الفريقان السادة والعبيد، وبنى كل واحد منهما أمره على ما قسم له من الأعمال، ورأى ان الخير فيه، وأن خروجه منه مضيعة له وقضاء على حياته، واطمأن إلى هذا كله من يوم أدرك وعقل، وقد فصلت الحياة وقوانينها والمواضعات العرفية وظائف

الفريقين في عشرات القرون، فأصبح الخروج عنها كالخروج من الحياة، ولكل من السيادة والعبودية آثار متطرفة في نفوس أصحابها لا يجمعها وسط، فالسادة تعوّدوا الاعتماد على العبيد في تصريف مصالحهم الحيوية المتنوّعة شريفها وخسيسها من منزلية وفلاحية، فإذا فارقهم العبيد ضاعت تلك المصالح كلها إذ لا يستطيع القيام بها بنفسه، فضاعت المصالح فاختلّ التوازن الاجتماعي، والعبيد تعوّدوا الاعتماد على السادة في معاشهم وكسوتهم وتدبير ضرورياتهم كلها فإذا فارقوهم وتحرّروا دفعة واحدة لم يستطيعوا الاستقلال بالحياة، واختلّ التوازن الاجتماعي أيضًا. فجاء الإسلام بعلاج المعضلة، وهو أنه حرّم من أول يوم معاملة العبيد بالقسوة التي كانت مألوفة يرتكبها المالك لأنها شيء معتاد، ويتحمّلها العبد لأنها شيء معتاد فأوجب معاملتهم بالإحسان والرفق والرحمة، وبالغ نبي الإسلام في التلطّف والحنو على هذا الصنف حفظًا للكرامة الإنسانية، فسمّاهم إخوانًا للمالكين وفرض لهم المساواة معهم من المأكل والملبس وحدّد لهم مقدار العمل، فقال في حديثه المشهور الذي هو دستور كامل لهذه القضية في جمل قصيرة، ولفظه في حديث أبي ذر: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللهُ تَحْتَ يَدِهِ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ». ومن عرف مقدار تأثّر الصحابة بالدين ومبالغتهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ومسارعتهم في تنفيذها، عرف أنهم نفّذوا هذا الدستور بمجرد سماعه كما وقع لأبي ذر راوي الحديث، فإنه كان لا يستأثر بأكلة دون غلامه ولا يلبس حلة إلا ألبس غلامه مثلها. من لي بالباحث الغربي المنصف المُبَرَّإِ من وصمة الغرض والحقد والهوى ليعلم مواقع الإنسانية في دين الإسلام- وما أكثرها- ثم يعلنها في قومه، وإذًا لأعلن كثير منهم إسلامه بإعلانها. ومن مواقع الإنسانية في الإسلام ما شرعه هذا الحديث العظيم في معاملة العبيد، فليعلم هؤلاء الباحثون الجاهلون لمحاسن الإسلام، أو المتجاهلون لها، وليعلم من بعدهم الواضعون للقوانين من بني جلدتهم، والمسيّرون لشعوبهم من الحكام ليعلموا جميعًا- فيما يعلمون- أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سبقهم من أربعة عشر قرنًا إلى إعلان حقوق الإنسان التي ما زالوا يتخبطون فيها بين السلب والإيجاب، وما زالوا ينقضون بالفعل ما أبرموه فيها بالقول، وليعلموا جميعًا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سبقهم كذلك إلى إعلان حقوق العبيد وإقرار الكرامة الإنسانية لأول مرة في تاريخ العالم- بل نقولها جهيرة مدوية لا تتوارى بحجاب ولا تستتر بجلباب، أنه أعلن بحديثه السابق ولأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية إلغاء الرق الذي يتبجحون بابتكاره، ولكن بمعنى حكيم غير الذي يفهمونه من الإلغاء المسطّر على الأوراق في قوانينهم: أنه محا آثار الرق في نفوس الأرقاء، وآثار الاسترقاق في نفوس السادة، وأي

معنى يبقى للرق بعد هذا؟ أي معنى يبقى لهذه الكلمة بعد أن فقدت معناها أو تصافت نفوس الفريقين وتلاقت على الأخوة والمساواة، واستشعر كل فريق منهما عزة النفس، وحظّه من تلك العزّة، وكرامة الإنسان ونصيبه من تلك الكرامة؟ إن كلمة العبقرية في ذلك الحديث هي كلمة "إخوانكم" وقد جاءت في أول الجملة لتكون أول ما يقرع الأسماع فتفعل فعلها في النفوس، وخصوصًا في ذلك الزمان. فالعبد حين يسمع تلك الكلمة يحسّ كأن نفسه الذليلة انتقلت في رحلة روحية من عالم إلى عالم، وكأنه استلم صك التحرير فجأة بيده وأنه أصبح أخًا لسيّده لا عبدًا له، وهذا ما لم تسمعه أذن في أطوار الحضارات التي من شأنها أن ترقي العقول، ولا في أطوار النبوّات التي من شأنها أن ترقي الأرواح، والسيد المالك حين يسمعها تتطامن نفسه الشرهة وأخلاقه الشرسة وغرائزه المتشبعة بحب التملّك والتسلّط ويتنزّل من عالم الاستعلاء إلى عالم الاستواء، فيرى ببصيرته أن هذا المخلوق أخ، وليس من الرجولة ولا من الإنسانية أن يمتهن الأخ أخاه. وأي معنى يبقى للرق بعد هذا؟ على أن التشريع الإسلامي عند تكامله انتهى إلى تشريع أحكام كثيرة كلها في مصلحة الرقيق وترجيح جانبه وإعلاء كلمته، وكلها ترمي إلى بطلان الرق من ذاته تدريجيًا، والتدرّج سمة واضحة الحكمة من سمات التشريع الإسلامي تظهر في التفاوت الزمني بين العبادات، فقد شرعت الصلاة بمكة ولم تشرع بقيتها إلا بعد الهجرة، وفي أزمنة متفاوتة أيضًا، وتظهر في تحريم الخمر وتحريم الربا، وتظهر في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن وأوصاه بعرض شرائع الإسلام عليهم واحدة واحدة وأن لا يعرض عليهم الثانية حتى يتقبّلوا الأولى. وهذه التشريعات المنصوصة وما تفرّع عنها بالاجتهاد أو القياس هي الدليل القاطع على ان إبطال الاسترقاق وقطع دابره كانا من مقاصد الإسلام، ولكن بطريقته التدريجية الحكيمة كما وقع في تحريم الخمر، ولو أن المسلمين بعد خلافة عمر نفّذوا تلك التشريعات بحزم لما بقي للاسترقاق بينهم أثر. رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن إبطال الرق دفعة واحدة يفضي إلى مفاسد اجتماعية وإلى شلل محقق في المرافق الحيوية كما أسلفنا القول فيه، فجاء بذلك الدستور الذي أزهق روحه، بحيث أصبح رقيق ذلك الزمن أسعد حالًا وأوفر كرامة بآلاف المرات من أحرار هذا الزمن الذين يسامون سوء العذاب من الأقوياء المتحضرة، بدأ محمد - صلى الله عليه وسلم - الحملة على الاسترقاق بالترغيب في العتق، وأحاديثه في ذلك لا تكاد تحصر، حتى أنه جعل العتق أصلًا يقاس عليه جميع القربات، فكثيرًا ما كان يقول: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة، فكأن الإسلام يعد عتق العبيد أشرف أعمال الخير، يقدّر ثوابها بثوابه، ولا دليل أدلّ من هذا

حكم التسري وحكمته في الإسلام

على رغبة الإسلام في تحرير الرقيق، وقطع دابر الاسترقاق، وقد كان المسلمون الأولون يتبارون في العتق، ويبعثون في الأسواق حاشرين لشراء العبيد بنيّة العتق اغتنامًا لأجره، وتحقيقًا لحكمته. ثم جعل عتق الرقاب عقابًا دنيويًا على كثير من المخالفات وكفّارة لها عند الله، فقتل الخطإ يكفر بعتق رقبة بعد الدية، ومن مكفرات الحنث في اليمين عتق رقبة، وفي الظهار الذي لم يبلغ أن يكون طلاقًا عتق رقبة، وجعل العتق عقوبة دنيوية على الذنوب، واعتباره ماحيًا لها عند الله، هو طريق إلى التقليل من عدد الأرقاء والتقليل من الشيء مدرجة لزواله. وهنالك كثير من الأحكام في التشريع الإسلامي توجب العتق إيجابًا وتفضي إلى التقليل. فمنها أن السيد إذا ضرب عبده أو أمته ضربًا يجاوز حد التأديب أو الكي بالنار فإنه يعتق عليه جبرًا بحكم الحاكم. ومنها أن الجارية إذا ولدت من سيّدها فإنها تحرّر من أعمال الإماء، وتزول عنها هجنة الرقيق، وتحرّر بموت سيّدها وتسمّى أم ولد في الاصطلاح الفقهي. ومنها أن العبد إذا كان يملكه أشخاص اشتكوا في قيمته فعتق أحد الشركاء نصيبه الذي يملكه فإن الحاكم يعتق بقية الأجزاء على أصحابها جبرًا، ويصبح حرًا مهما كان الجزء الذي بُني عليه العتق قليلاً. ومنها أن العبد إذا ادّعى أن سيّده عتقه وأنكر السيد ذلك فإن قول العبد يرجح على قول سيّده بيمين. وهناك أحكام كثيرة من هذا الباب كلها تحقق ذلك المقصد العام وهو الغاء الرق، وللفقهاء كلمة متداولة في تعليل هذه الأحكام وهي قولهم: "لتشوف الشارع للحرية" وهي كلمة صريحة الدلالة على أن هؤلاء الفقهاء يفهمون أن الإسلام أحكام مبنية على حِكَم، وأن الحكمة في ترجيح جانب العبيد هي التقليل من عددهم، وأن التقليل يفضي بطبيعته إلى الزوال. حكم التسرّي وحكمته في الإسلام: أما التسرّي الذي يعيبه الحاقدون على الإسلام، وهو وطء الجواري بملك اليمين، فحكمه الإباحة بالنص القاطع من القرآن وهو النوع الثاني من النوعين الجائزين في قرب النساء، وأولهما التزوّج بالحرائر بشروطه المعروفة، وما عدا هذين النوعين حرام ومجاوزة لحدود الله، وليس في الإسلام حكم بلا حكمة في جميع علائق البشر بعضهم ببعض، فإن وجد حكم بلا حكمة، ولو دقيقة، فهو إما توسّع في الاجتهاد، وإما خطأ من العباد،

الاسترقاق عند المسلمين اليوم

والحكمة الواضحة في التسري تتألف من عدة عناصر، فهو تأليف بين العنصرين المتفاوتين وهم السادة والعبيد بعلاقة نفسية جسمية، وتقريب بينهما، وتنقيص من النفور الطبيعي بملابسة طبيعية، ولا يخفى ما في هذا من طي المسافة بين السيادة والعبودية، ومن الحكم الظاهرة فيه أنه خطوة واسعة إلى التحرير ووسيلة قوية من وسائله، فإن الأمة إذا ولدت من سيّدها ترتفع درجة عن العبودية حتى في الاسم فتسمّى أم ولد، وترتفع إذًا بطريق شرعية إلى التحرير، فهي من الذرائع المحققة لحكمة الإسلام في العتق ولمقصده في التشوّف للتحرير، وكل هذا زيادة على ما تحصل عليه أم الولد من سيّدها من الاستيلاء على قلبه والحظوة عنده، ولقد وصل كثير من أمهات الأولاد من طريق هذه الحظوة إلى درجات رفيعة لم تبلغها الحرائر. وأما المبالغة في الإكثار منهن إلى درجة مستهجنة بناء على عدم تحديد الشرع لعدد خاص- فهذا من سوء تصرّف المسلمين- لا من حسن تصريف الإسلام. الاسترقاق عند المسلمين اليوم: ترك المسلمون منذ قرون صفة الجهاد في سبيل نشر دعوتهم الدينية، فلم يبق سبب للاسترقاق الحقيقي، والموجود عند بعضهم اليوم من الرقيق إنما هو متوارث أو مجلوب من الشعوب الوثنية في افريقيا، أو مجلب عليه بالقوة من غير الوثنيين، وهذان النوعان الأخيران قد يدخلهما التزوير من الجانبين، وحكم إباحة الاسترقاق في الإسلام قائم لا تنسخه هذه القوانين الوضعية، وغلبة الظن مُحكمة في الإسلام ولكن الأحوط في مسألة الاسترقاق هو اليقين، فإذا غلب الظن في صحة الرق رجعنا إلى القاعدة العامّة، والمقصد الأمين وهو تشوّف الشارع للحرية، وغلبنا جانبها على جانب الاسترقاق، فإذا كان المالك من المتأدبين بأدب الإسلام ومنها إكرام الانسانية في شخص الرقيق، والإحسان إليه، ومعاملته على أساس الأخوة لا العبودية، فهنا يسوغ له الإقدام على ملك الرقيق المشبوه بغلبة الظن ما دام الملك ينقله من حالة سيئة إلى حالة حسنة، وعلى الجملة فالقضية في هذا الزمان من المتشابه الذي تعتوره أحكام الحظر والإباحة، والمبالغة في الاحتراز أقرب إلى رضى الله وإلى قصد الشريعة. ونقول إنه إذا كان الاسترقاق مباحًا بشروطه فإن باب العتق مفتوح على مصراعيه، فإذا ملك بنيّة العتق فإن عمله أعرق في الإنسانية وأدنى إلى مراضي الله. إذا تقرر في الذهن ما أصلناه في هذه الفصول القصيرة لم يبقَ معنى لهذه الضجة التي يتردد صداها حينًا بعد حين في ما وراء البحار من أوربا وأمريكا في التشنيع على الإسلام بأنه يبيح الاسترقاق، وعلى المسلمين وحكوماتهم بأنهم يزاولون شراء الرقيق ويبيحون الاتّجار

فيه، وما لهؤلاء القوم المشنعين على الإسلام لا يمنعون تجارة (الرقيق الأبيض) المتفشية بينهم، والمسجّلة عليهم وعلى حضارتهم عارًا لا يمحى؟ وما بالهم يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة المركوزة في أعينهم؟ وما بال إنسانيتهم انحصرت في الإشفاق على عشرات أو مئات أو آلاف من العبيد يملكهم المسلمون بإحسان، ولم تتسع رحمتهم وإشفاقهم لمئات الملايين من الشعوب التي استعبدوها في أفريقيا وآسيا، فأذلوا رقابهم، ومسخوا معنوياتهم، وجرّدوها من كل أسباب الحياة؟ ثم ان لنا موقفًا نصفّي فيه الحساب مع هؤلاء الكتّاب الناعقين، ومن وراءهم من الحكومات المتفقة على إبطال الاسترقاق، ونردّ عليهم دعواهم وزعمهم أن ذلك القانون هو أشرف عمل إنساني تمّ على أيديهم وسبقوا إليه كل من مضى ومن حضر من الدول والأديان، وأنه هو الغرة اللائحة في جبين هذه الحضارة، والصفحة المشرقة في تاريخها، إلى آخر ما يفيضونه من النعوت على هذه (العملية). نقول لهم أولًا: أمن الإنسانية ما تفعله أمريكا مع الزنوج إلى اليوم، وما تفعله جنوب أفريقيا مع الزنوج فيها؟ ونقول لهم ثانيًا: أمن الإنسانية والتحرير، استعماركم لأفريقيا وآسيا؟ وما فعلتموه من الفضائح في فتحهما، وما تفعلونه من الموبقات إلى اليوم في استعباد أهلها؟ قد يكون كلامكم في إلغاء الاسترقاق صحيحًا ومعقولًا عند الناس لو لم تقرنوه بجريمة الاستعمار في آن واحد، فلم تزيدوا على أن سفهتم أنفسكم، ونقضتم قولكم بفعلكم، وصيّرتم تلك الغرة المزعومة، عرّة معلومة، من الذي يصدقكم في تحرير الآلاف من العبيد، بعد أن استعبدتم مكانهم مئات الملايين؟ فكأنكم ما وضعتم ذلك القانون إلا تلهية للعالم، وتغطية عن الجريمة التي ارتكبتموها، وكأنكم ما رضيتم للشعوب الضعيفة أن تسترق أفرادًا، فألغيتم ذلك النوع الفردي، وأبدلتموه بالاسترقاق الجماعي (وبالجملة) على لغة التجّار. فكان حقًا عليكم- لولا النفاق- أن تزيدوا كلمة في عنوان ذلك القانون فيصير (إلغاء الاسترقاق الفردي) ولو فعلتم لكنتم صادقين في الواقع، وإن كذبتم على الحقيقة والتاريخ، والكذب في الشر يصيّره شرّين. إن هؤلاء القوم لم يزيدوا على أن حرّروا العبد زعمًا، واستعبدوا الأحرار فعلًا، ثم لجوا في الزعم سترًا للشناعة وتغطية عن الشر، وإلهاء للأغرار، وهيهات أن تغطى الشمس بالغرابيل. وإذا كان إلغاء الرقيق عملًا إنسانيًا، فاستعباد الأحرار بماذا يسمّى؟ وأنهار الدماء التي سالت بالأمس القريب في الهند الصينية وفي كوريا، والتي تسيل اليوم في شمال أفريقيا وشرقها ... تسيل، في أي سبيل؟

أيها القوم العائبون على الإسلام ... لا تنهوا عن المنكر الجزئي حتى تنتهوا عن المنكر الكلي ... واذكروا ما هو محسوب عليكم وعلى حضارتكم من المتناقضات الشنيعة، وأشنعها أنكم استعبدتم شعوب أفريقيا كلهم نساءها ورجالها وأطفالها أبشع استعباد وقع في التاريخ، ثم جئتم تتباكون على مئات منهم نقلوا من الاستعباد الغاشم إلى الاستعباد الراحم، ومن الاستعباد الذي يجيع البطون، ويعري الظهور، ويخرج من البيوت- إلى الاستعباد الذي يشبع ويكسو ويؤوي، وبعبارة أجمع ... من الاستعباد الذي يميت إلى الاستعباد الذي يحصي ... ومن استعباد لا ضمير له، ولا إنسانية فيه، ولا رحمة معه، إلى استعباد كله ضمير وإنسانية ورحمة ... ومن استعباد حقيقي إلى شيء ليس فيه من الاستعباد إلا اسمه. لقد فضحكم الله بشيء أعماكم الغرور عن التبصّر فيه، فكانت افريقيا هي الفاضحة. إن قانونكم الذي تتبجّحون به كان منصبًا على افريقيا، وكانت هي المعنية به، إذ كانت سوقًا لتجارة الرقيق ... ثم كانت هي هدفكم ومزدحمكم في الاستعمار فلم يبقَ منها شبر ولا شخص إلا وهو خاضع لسلطانكم الظالم الغاشم. أما أن هؤلاء الأفريقيين لو فرّوا من وجوهكم- إذ لم يستطيعوا صفعها- ليكونوا عبيدًا للمسلمين لكانوا أعقل العقلاء، لأن ما يلقاه العبد في الشرق الإسلامي من سيد عات عنيف جبّار، لا يساوي عشر معشار الشعوب المستعبدة من حكوماتكم المتحضرة وظلم السيد المسلم العاتي لعبده يعد رحمة في جنب الظلم الاستعماري، على أن ظلم السيد المسلم لعبده يعد جريمة توجب عتقه رغمًا عليه في حكم الإسلام، أما المظالم المسلطة منكم على هذه الشعوب فهي جرائم جماعية، تتفق عليها حكومات متحضرة، وتسنّ لها القوانين من البرلمانات، ويزيّنها الفلاسفة والعلماء، ويحثّ عليها الخطباء، ويتغنّى بها الشعراء، وتجبى لها الأموال من الخاصة والعامة عن طوع واختيار، كما تجبى لسبل الخير العام. أيها القوم: إنكم بهذا التجنّي على الإسلام تريدون أن تشغلوا المسلمين بالباطل عن الحق، وتسكتوهم بالاستعباد الموهوم عن الاستعباد المحقق، وبقضية الآحاد عن قضية مئات الملايين ولكنهم لا يسكتون ... سمعنا كثيرًا عن غرائب التطورات، ولكننا لم نسمع أن إبليس أصبح واعظًا مذكرًا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حتى رأيناه رأي العين، ولكن هل يصدق العقل ما تراه العين وتسمعه الأذن من هذا؟ يتلخّص هذا العرض المختصر في نقط: أولأ: أن الإسلام لم ينشئ الاسترقاق ولم يشرّعه.

ثانيًا: أنه وجده عادة راسخة في الأمم وضرورة من ضرورات حياتها. ثالثًا: أن روح الإسلام تستهجنه وتعتبره نقيصة إنسانية. رابعًا: أنه بادر بإصلاحه وإزهاق روحه بحيث لم يبق منه إلا اسمه. خامسًا: أنه رأى أن إبطاله دفعة واحدة يؤدي إلى مفسدة اجتماعية هي أعظم ضررًا من إبقائه، فسنّ له من الآداب والأحكام ما جعله يتلاشى من تلقاء نفسه بالتدريج. سادسًا: أبرز نقطة في هذا الإصلاح، اعتماده على النفوس والضمائر، باعتبار العبد أخًا لسيّده، ليستشعر الكرامة والعزة، فترتفع معنوياته، فيصبح إنسانًا في المجتمع لا بهيمة كما كان، ثم سوّى بينه وبين سيّده في مظاهر الحياة لتزول الفوارق الحسيّة، كما زالت الفوارق النفسية، ثم ألزم المالكين بحدود لا يتجاوزونها في الاستغلال المادي، وأوصاهم بالرفق والإحسان إلى إخوانهم، حتى كان آخر ما أوصى به في مرض الموت قوله - صلى الله عليه وسلم -: «استوصوا بالضعيفين خيرًا: المرأة والرقيق»، وأنه رغب في العتق ووعد عليه الثواب الجزيل في الحياة الباقية- والإيمان بالحياة الباقية هو أساس عقيدة المؤمن- حتى جعل العتق أصلًا لأعمال البر كلها، وأنه قرّر عتق الرقاب عقوبة على عدة مخالفات يرتكبها المسلم وكفارة عنها عند الله، وأنه شرع من أسباب التحرير أشياء كثيرة، منها ما هو بسيط، ومنها ما هو مخالف في ظاهره لقواعد المعاملة، كل ذلك لتشوّفه للحرية، وللتقليل من عدد الأرقاء حتى يزول مع الزمن.

كلمة لصحيفة "الأهرام"

كلمة لصحيفة "الأهرام" * أنا مدمن قراءة من عهد الصغر، فقد بدأت قراءة الكتب وعمري تسع سنوات في السنة التي فرغت فيها من حفظ القرآن، وكان أستاذي- وهو عمّي شقيق والدي الأصغر- يتولّى تربيتي وتوجيهي، ويأخذني- مع حفظ القرآن- بحفظ مختارات من الشعر العربي البليغ في معانيه، الفصيح في ألفاظه، الغريب في فهمه؛ فما حفظت القرآن حتى كنت أحفظ معه بضعة الألف بيت من الشعر ما بين أبيات مفردة ومقطع مع فهم المفردات، وأعانني على الفهم ما صحب حفظي للقرآن من حفظ الكثير من الألفاظ اللغوية الفصيحة من كتاب "كفاية المتحفّظ" للأجدابي، و "الفصيح" لثعلب و "الألفاظ الكتابية" للهمداني. من ذلك الحين شغفت بالقراءة، وكان عمي ينير لي الطريق ويسايرني من إرشاده في كل داجية كوكب وفي كل معضلة تعترضني شعاع هاد فيختار لي ما أقرأ لتستقيم ملكتي من الصغر، وقد وجّهني أول ما وجّهني إلى رسائل بلغاء الأندلس وأشعار شعرائها، فعكفت- زيادة على دروس الدين والقواعد- على قراءة الموجود من رسائل أبي عامر بن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف بن عميرة، ولسان الدين بن الخطيب من كتابه ريحانة الكتاب، والموجود من أشعار ابن زيدون وابن عمّار وابن شهيد وابن دراج القسطلي، وابن خفاجة، وبعض هذه الرسائل كانت مخطوطة في مكتبة أسلافي، وبعضها نجده في الكتب المؤلفة في تاريخ العلماء والأدباء بالأندلس مثل نفح الطيب، وقد كررت تلك الرسائل والدواوين مرات متعددة كدت أحفظ معظمها، وكان عمّي يتعصّب للأدب الأندلسي ويبدي ويعيد في استحسانه ويعدّه أقرب لمزاجنا وأكثر ملاءمة مع روحانيتنا وعواطفنا. ولما بلغت من العمر أربع عشرة سنة لحق عمّي بربّه وكان قبل وفاته بسنتين أو ثلاث وجّهني لقراءة كتب المشارقة التي تجمع بين جزالة التركيب ووضوح المعاني، كالبيان

_ * كلمة نُشرت في صحيفة "الأهرام" بالقاهرة، في أوائل الخمسينات.

والتبيين والبخلاء والحيوان للجاحظ والأغاني للأصفهاني والكامل للمبرد وحثّني على قراءة مقدمة ابن خلدون والعقد الفريد لابن عبد ربّه وبهجة المجالس لابن عبد البر، فقرأت عليه بعضها في حياته وقرأت جميع ما أوصاني به بعد وفاته. ازداد شغفي بالقراءة من ذلك الحين، وقد أصبحت في درجة من الفهم والإدراك أفرّق فيها بين الغث من الكتب والسمين، وانصرفت إلى شعراء الشرق البارزين فقرأت المئات من دواوينهم ودرستها وقرأت كثيرًا من الكتب المؤلفة في موضوع الأدب كالعمدة لابن رشيق وكتب العسكري والجرجاني والآمدي وقدامة بن جعفر. كررت قراءة بعض الكتب التي قرأتها مرات ودرستها، فما أبقى كتاب فيها في نفسي أثرًا يحملني على معاودة قراءته في كل سنة أو في كل فسحة تأتي من وقتي ولا وجدت في نفسي لقراءته ما يجده الجائع لالتهام الطعام إلا بضعة وعشرين من الكتب ودواوين الشعر فإنها استولت على شعوري، وأصبحت جزءًا من إحساسي، وبلغ شغفي بقراءتها مبلغ الافتتان. ولنقتصر هنا على كتب الأدب من نظم ونثر فإن السرد لجميع الكتب ذات التأثير في نفسي يطول. من الشعر الذي كان له الأثر الذي لا ينصل صبغه من نفسي شعر المتنبي لما فيه من فحولة وقوة أسر، وسداد حكمة وسيرورة أمثال، وإصابة أهداف، وتخطيط لدساتير البطولة، وتحديد لمواقع الكرم وتلقين لمعاني الذياد والحفاظ وتمثيل لبعد الهمم، وان المتنبى في بعض ما يصف من الذين يقولون ما لا يفعلون. وشعر أبي فراس الحمداني لما يشيع في جوانبه من الانتخاء بالعروبة، والتنويه بشعائر العرب وأخلاقهم ومآثرهم وأمجادهم، ولأنه أصدق من المتنبي في كثير مما يدّعيه المتنبي. وشعر البحتري لحلاوته وانسياغه في اللهوات، وسلامته من المعاضلة والتعقيد وجميع العيوب التي وصم بها أستاذه أبو تمّام. وشعر الشريف الرضي لرقّته وانطباعه وبراعته في الوصف وصدقه في الفخر حين يفخر بأصوله الغر الميامين ... والفخر بأولئك الأصول هو الينبوع الثر من ينابيع شعره. وشعر المعري في اللزوميات لدقته في وصف الدخائل النفسية، وتدسّسه إلى المكامن الروحية وتغلغله إلى مدب السرائر الخفية وسعة رحمته بالحيوان، وتنويهه بالفضائل والمكارم والكمالات وتمجيده للعقل الذي هو ميزان لا يخيس ومعيار لا يخس. وشعر ابن خميس التلمساني لبراعته المدهشة في المزاوجة بين المعاني الحضرية الرقيقة، وبين التراكيب البدوية الجزلة، حتى كأنه بقية من طبقة عدي بن زيد العبادي.

وشعر أبي اسحاق بن خفاجة الذي لو كتب عنوانه "روضة وغدير" لكان أصدق عنوان. وشعر شوقي في الآخرين لما فيه من سمات التجديد، ومنازع التوليد، وصدق التمثيل لعصرنا هذا بما فيه من عظمة المادة، وسموّ الإدراك وتقدّم العلم والمعرفة والوفاء للأسلاف الذين أصلوا الحضارة، وخلّدوا المؤثرات التي طاولت الدهر ولاتساع جوانبه للانسانية كلها. هذا كله في أحد ركني الأدب وهو الشعر، وأما النثر فأهم الكتب التي تركت في نفسي وفي ملكتي آثارًا لا تمحى- كتاب البخلاء للجاحظ لإبداعه في تصوير نقيصة البخل ولنفسية البخلاء وجمعه لنوادرهم في البخل، وانقياد اللغة له في الحديث عن الغرائز والأخلاق، وتعمّقه في فهم طبقات الناس، ثم كتاب الحيوان له لجمعه بين العلم والأدب، وإحاطته بكل ما يتعلق بالحيوان من طباع وغرائز مختلفة وأقوال الحكماء والشعراء فيه، ثم كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ولا تسألني عن خصائصه التي أثرت في نفسي وجلبت قيادي إليه حتى تركتني أجدّد قراءته من أوله إلى آخره في كل عقد من سني عمري وكلما قرأته تجددت آثاره في نفسي وتجاوبت أصداؤه بين جوانبي فبعث فيّ روحًا جديدة- لا تسألني عن ذلك فكل أديب قرأه وكرّر قراءته وجد في نفسه من التأثّر مثل ما أجد، أو فوق ما أجد، وتجددت عنده صوره من روعة الأدب العربي وجلاله. هذه هي أمهات الكتب الأدبية التي أثّرت في نفسي بعد تأثّري بأمهات الكتب الدينية الصحيحة، وأصلها كلها كتاب الله. إن الكتاب الذي يقرأ كالطعام الذي يؤكل، فطعام يعطي آكله القوة والفراهة، وطعام يعطي آكله الضعف والهزال، وان المتبحّر في قراءة الأصول الأدبية في أدبنا العربي بمعناه الواسع العام لا يعرف في أدبائنا الناشئين أثر الكتب التي قرأوا وما قرأوا إلا النزر اليسير. نصيحتي الخالصة للأدباء الناشئين أن يوفوا حظّهم من قراءة الكتب العامرة التي تقوى بها الملكة، ويفحل الطبع وتزكو الثمرة، فإني أرى في كثير مما أقرأ هذه الأيام من الآثار الأدبية لناشئتنا أعراضًا تشبه أعراض فقر الدم في الأجسام: نحول واصفرار.

كلمة لـ"مجلة الإذاعة المصرية"

كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية" * "ودّعنا عامًا فطوينا صفحة من تاريخنا، وبدأنا عامًا جديدًا وصفحة جديدة، فماذا حقّقت بلادنا من ناحية، ومن ناحية أخرى ماذا حقّقت بلادنا العربية من أمانيها في هذا العام الفائت، وماذا نأمل من عامنا الجديد؟ ". ــــــــــــــــــــــــــــــ هذه الجملة بألفاظها وجّهتها إليَّ "مجلة الإذاعة المصرية" الغرّاء، طالبة رأي فيما تضمنته جملتها الأخيرة وهي تعني (ببلادنا) بلاد المجيب الخاصة. والرأي المجمل في القضية أن أماني البلاد العربية كلها ترجع إلى واحدة يتدرّج إليها من الاستقلال إلى الاستقرار، إلى الاتحاد، إلى الوحدة، وهي النقطة التي تنتهي إليها الآمال، وهي مناط العزة والقوة والسعادة وكل المعاني التي تطلبها العروبة الصحيحة من العرب وتحثّهم على سلوك سبلها. وتتفاوت الشعوب العربية بعد الأمنية العامة في الأماني الخاصة المحققة لها، فالمغرب العربي أمنيته الخاصة هي الاستقلال، وأمنية سوريا هي الاستقرار، وأمنية اليمن انتشار التعليم وإفاضة العدل. أما الواقع الذي تفتح عليه العين، وتوضع عليه اليد فهو أن كل الشعوب العربية لم تتحقق لها أمنية واحدة من الأماني الكثيرة، ومضى العام المودع وأعوام قبله متشابهة المبادئ والخواتم، ولم تلمع فيها بارقة أمل في بلوغ أمنية من الأماني المرجوّة، وليس في الأفق بشائر تدل على قرب تحققها إلا هذا الوعي المتأجج الذي يزداد على الأيام، وتزيد في تأججه الحوادث المتتالية، وإلا هذه الفورات المتجددة في المغارب الثلاثة: تونس والجزائر ومراكش، وإلا هذه القلوب التي أصبحت تتواصل بعد انقطاع، وتتألّف بعد انصداع، وتتعارف بعد تناكر طال أمده، وإلا هذه المظاهر المتمثلة في المؤتمرات المتلاحقة من علماء الشعوب العربية وساستهم وأولي الأمر فيهم، وليقل الناس في هذه المؤتمرات ما شاءوا، فرأينا فيها أنها ارهاصات لأمر خطير.

_ * جرى هذا الحديث في أكتوبر 1954.

يجب أن تتضافر الشعوب العربية على إلحاق آخر قافلتهم بأولها، فإن بين الطرفين بعدًا بعيدًا في الثقافة والتفكير والاتصال بالعصر وأسباب الثروة وفهم الحياة وأوضاع الاجتماع، وان هذا التباعد هو أقوى أسباب التنافر بينهم. ويجب عليهم أن يجتهدوا في تكوين رأي عام في كل شعب عربي ليسهل عليهم تكوين رأي أعمّ يوجّه ويرشد وينشئ ويخاف ويرجى، فإن بعض الشعوب العربية لم يتكوّن فيها رأي عام إلى الآن، وما زالت تسيطر عليها النزعات الفردية التي هي علامة التفكّك، وأساس التخاذل، وبعض شعوبهم وجد فيها رأي عام ولكنه لم ينضج. والرأي العام لا ينضج إلا في ظل الاستقرار والثقافة الهادئة الموحّدة، وسدّ الأبواب عن التيارات الأجنبية الهادمة مثل الشيوعية، والمذاهب الفكرية الأوربية التي تبلبل الأفكار. ... نعم ودّعنا عامًا. ولكننا ودّعنا هذا العام غير مأسوف عليه لأنه لم يأتنا بشيء جديد ولم يطلع علينا شموس أيامه وأقمار لياليه بمفيد، ورمتنا أحداثه بما يؤخر ولا يقدم، ويبعد الآمال ولا يقربها، ولم يرنا في أعدائنا المستعمرين ما يسرّ، فلا يزالون متنمّرين علينا ممعنين في استعبادنا، وأضعفهم- وهي فرنسا- لا تزيد على الضعف إلا فتكًا بنا واستعبادًا لنا، وخنقًا لحريتنا الشخصية، فضلًا عن الحرية العامة، وتصاممًا عن طلباتنا، نسالمها حينًا عسى أن نصل إلى حقوقنا الطبيعية بالسلم والعقل فتقتلنا باسم المدنية والتمدين، ونثور عليها فتقتلنا باسم الثورة والخروج عن السيادة، ولم يبق لنا بعد أن سدّت علينا منافذ الحياة إلا أن نموت شرفاء، وإن لنا معها ليومًا، وان ساعة الحساب لقريبة إن شاء الله. نعم ... وطوينا صفحة من حياتنا، ولكننا لم نسجّل فيها كلمة شرف ولا جملة فخر. ان الأمة المستعدة للحياة هي التي تكتب تاريخها بيدها كلمة كلمة وسطرًا سطرًا وصحيفة صحيفة، من مقدمته إلى خاتمته، كما كتب أجدادنا العرب وأسلافنا المسلمون. ان التاريخ شهيد فإما لنا وإما علينا، ومن المحزن أنه شهيد علينا بالتخاذل والتفكك والركون إلى لغو القول وصغائر العمل وهو لا يسجّل إلا جلائل الأعمال. هذا بالنسبة إلى أوطاننا الخاصة، أما وطننا العام فهو كلّ والكل بأجزائه، وهذه الأجزاء كلها جمعتها الآلام، فجمعتها الآمال، ويسرّنا أن هذه الآمال قويت في النفوس وتجاوزت الخاصة إلى الجماهير الشعبية وهي مناط الرجاء، فإذا عمّ هذا وتغلغل وصحبه من الأعمال ما يقوّيه تحققت الأماني، أما الآمال من غير أعمال فإن الأعوام تمرّ عليها وهي مُعرضة، وكما مرّ علينا هذا العام ولم نسطر في صحائفه سطرًا، ولم نسجّل في أيامه عملًا، يمر ثان

وثالث ورابع، ولا يقف لنا واحد منها في محطة لعرض ولا لطلب، أقولها كلمة صريحة أحكمتها التجربة والاختبار: إن آمال العرب خاصة والمسلمين عامة كانت وما زالت معلّقة بمصر، متّجهة إلى مصر، يقلّدونها الزعامة ويبايعونها بالإمامة، وهم يعتقدون بحق أنها أهل لقيادة هذه المجموعة وجمع شتاتها. وأنا منزعج من هذا التفاوت بين أجزاء العروبة في الثقافة والقوة والغنى النسبي، لأنه يصير بقية الأجزاء الضعيفة كَلًّا على الجزء القوي، فإذا أراد العرب أن يسعدوا فليقوِّ كل شعب منهم نفسه بنفسه، ليصبح في يوم قريب نافعًا منتفعًا، معينًا معانًا، آخذًا معطيًا، وبهذا نخرج من مرحلة الإعانة والاستعانة إلى ثمرتهما وهي التعاون، وحينئذٍ نحمل التاريخ على التسجيل والإعجاب والأعوام على الائتمار، أما الآن فليس لنا على الأيام نهي ولا أمر، وليس لنا في التاريخ خل ولا خمر. يعلم الله أني غير متشائم، ولكن هذا بعض رأيي.

الجزائر وطن

الجزائر وطن * هذا الاسم أصبح علمًا تاريخيًا وجغرافيًا على هذه القطعة الثمينة الواسعة من شمال إفريقيا، مشخصًا لها تشخيصًا واقعيًا لا ينصرف الذهن إلى غيرها عند إطلاق الاسم ولا يتردد سامع في مسماه. وهذه القطعة ذات خصائص طبيعية وخصائص مكتسبة، اجتمعت كلها في نقطة واحدة تصدق رواد الحق وأنصار الحقائق، وتكذب المبطلين من أصحاب الفكر الزائغ والرأي الضال والهوى الأعمى. هذه النقطة التي تعرب عن نفسها وتسفه كل من يريد تغطيتها هي أن الجزائر وطن بربري قبل الإسلام يضم جماهر القبائل البربرية وأصولها الأولى، ووطن عربي إسلامي منذ دخله الإسلام يصحب ترجمانه الأصيل وهو اللسان العربي، فمنذ ثلاثة عشر قرنًا انتقل هذا الوطن من صبغة إلى صبغة، من صبغة جنسية ليس معها ما يعصمها من الألوان الروحية إلى صبغة جنسية معها ما يحميها من الانحلال والتقلب وهي العروبة المعتصمة بالإسلام، وليس لها في النظر التاريخي الصحيح إلّا هذان الطوران وهاتان الصبغتان، ومن السفه لو ادعى الرومان الذين ملكوها قرونًا أنها صارت بذلك رومانية إلا بضرب من التوسع في التعبير والتساهل في الإطلاق الاصطلاحي، وقد لبثوا فيها قرونًا ثم خرجوا منها مدحورين لأنها ليست رومانية بالطبع، ولو كانت كذلك لما صحّ أن يقال إنهم خرجوا منها إلا إذا صحّ أن الإنسان يخرج من جلده، ومن أسفه السفه دعوى مجانين السياسة من الفرنسيين أنها قطعة من فرنسا. واذا حكم الواقع بأن دعوى الرومان سفيهة ودعوى الفرنسيين مجنونة، حكم بما هو فوق السفه والجنون على فكرة ثالثة خاطئة كاذبة راجت في السنين الأخيرة على ألسنة

_ * كلمة وُجدت في أوراق الإمام، ولا نعلم إن كانت نشرت أم لم تنشر.

قوم يحاولون أن يغيّروا أوضاع الله وأوضاع خلقه بكلام يقولونه. هذه الفكرة هي أن الجزائر ليست وطنًا موجودًا، وإنما هي وطن يتكوّن (1) ... كأنهم يفسرون الأوطان القائمة على خصائصها الطبيعية ومدلولاتها العرقية بالمعاني الجيولوجية، فهي تتكون على نحو مما تتكون المعادن في مئات السنين أو في آلافها، ولو صحّ رأيهم هذا لما صحّ أن يوجد وطن على ظهر الأرض، وليت شعري ماذا تكون الجزائر إن لم تكن وطنًا. وماذا تراهم يقدرون من الزمن لتمام تكوينه بعد أن لم تكف لتكوينه ثلاثة عشر قرنا في نظرهم؟ إن هؤلاء القوم دلّوا بكلمتهم هذه على حقيقتهم الكاملة، وهي أنهم يكفرون بالحقائق والسنن وأنهم لو انبسطت أيديهم في الكون لمسخوا محسوساته كما مسخت حقائقه في عقولهم. إن معنى قولهم أن الجزائر وطن يتكون وليس وطنًا سويًا أنه لا وطن في أذهانهم، ولكنهم خافوا الجبه بالتكذيب فنزلوا درجة وأبقوا للوطن شيئًا من معناه تعمية وسترًا على شيء في أذهانِهِم، ومن عاش خمسين سنة آتية وسألهم هل تم التكوين؟ يجيبونه بأنه في طور التكوين ما دام لم ينته إلى معنى الذي يريدونه لكلمة وطن.

_ 1) صاحب هذه الفكرة هو موريس طوريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي في الثلاثينيات والأربعينيات، وقد أخذ عنه هذه النظرية الشيوعيون الجزائريون.

الإستعمار

الإستعمار * كلمة "الاستعمار" إحدى الكلمات المظلومة باستعمالها في ضدّ معناها الوضعي، مع خُلُوِّها من النكتة التي يلمحها العرب في مثل هذا النوع من الاستعمال، حين سموا البيداء المهلكة مفازة، واللديغ سليمًا، والغادية قافلة، والنكتة الغالبة في تسمية الشيء باسم ضده هي التفاؤل أو التفريج أو حسن الأدب في الخطاب أو عدم صكّ الأسماع بسوء القول. وكلمة "الاستعمار" آتية من "عمر" ضدّ "خرب" مع أن التفسير العملي لهذه الكلمة هو الخراب والتخريب، وليس فيها شيء من معنى الإعمار والتعمير، ولا أدري أي صارف صرف الجيل الذي مضى قبلنا من الكتّاب والمترجمين عن ترجمة هذه الكلمة من لغاتها الأصلية بمعناها الحقيقي وهو التخريب والظلم والتسلط والقهر، إذا لم تكن الغفلة والتقليد للغالب والدهشة من أعماله واستعظامها في النفوس الدليلة، فإذا كان المستعمر هو الذي حملهم على هذا الاستعمال وهذه التسمية- وهوَّنَها عليهم- بالترغيب أو الترهيب أو الاستغفال، فهذا أكبر قادح في موازينهم العقلية والفكرية، فإن الاستهانة بالألفاظ تفضي إلى الاستهانة بالمعاني، والأسماء الجميلة لا تستر المعميات القبيحة إلّا عند الصبيان وأشباه الصبيان من أمثالنا وأمثال الجيل السابق من أسلافنا الذين أقرّوا هذا الاستعمال. ولسنا نعني من الاستعمار مظاهره المادية التي تقع عليها العين والتي ليس وراءها قلب يقظ، فإن هذه المظاهر التي تراها الأعين قد تشهد بصحّة الاستعمال من غرس الجنات وإجراء المياه إليها وتمهيد الطرق وعقد الجسور، فإنّ العين لو نطقتْ لقالت هذا تعمير، ولكننا نعني الاستعمار بمعناه التام من أسبابه إلى أعقابه، ومن أسراره المطوية إلى آثاره المرئية. ...

_ * كلمة عن معنى "الاستعمار" وُجدت في أوراق الشيخ.

إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني

إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني * أنا أحمل لأخي الفاضل العلّامة الشيخ عبد العزيز الميمني من الإكبار لقدره بعد الاجتماع به أضعاف ما كنتُ أحمل من الشوق إليه قبل رؤيته، ذلك أنني كنت أعرف من آثاره المكتوبة، وآثار المرء هي بعضه لا كلّه، هي أجزاء من نفسه تمليها قريحة ويعبّر عنها لسان ويسطّرها قلم، أما الآن فقد عرفت الميمني كلّه، عرفت منه ما وراء القريحة واللسان والقلم، عرفته وعرفني فكانت معرفته بي مكمّلة لمعرفتي به، لأن مناقلة الحديث ومنازعة الرأي وإدارة البحث على فكرة تجلي الجوانب النفسية التي لا يصوّرها القلم ولا تسجّلها الصحيفة ولا يقعقع بها البريد، وتفضي إلى اشتراكية روحية جميلة أين منها هذه الاشتراكية المادية التي تلوكها الألسنة لفظًا وترشح بها الأقلام كتابةً. ما زلتُ منذ قرأت آثار أخي الميمني واطلعت على أعماله الجليلة لتاريخنا العلمي، أشهد أنه منقطع النظير في سعة الاطلاع على تراثنا الذي تشتت ومزقته الأحداث، فلم تبق منه إلّا صبابة، ولم يبق من العارفين بها إلا عصابة، ولم يبق من وسائل إحيائها وربط أجزائها إلّا ما يكثر فيه الخطأ وتقل الإصابة. وأخي الميمني- ولا أحابيه- يرجع مع سعة الاطلاع إلى ذهن مشرق، ورأي في تصحيح النصوص سديد، وحافظة هي رأس المال لمن يتعاطى هذه الصناعة، وحظ من العرب مفرداتها وأساليبها يندر أن يتاح لمن نشأ مثل نشأته، فهذه هي الأصول التي بوأته علمائنا المنزلة التي اعترت بها كل منصف، والمنصفون هم الناس وإن قلّوا. وأصل الأصول في نفس أخينا الميمني إخلاص في خدمة العلم عامة، وافتنان بلغ حدّ التتيم بما أثل علماء الإسلام للحضارة الانسانية، وغيرة بلغت أقصى حدّها على بقايا هذا التراث، أن

_ * وجدنا هذه الكلمة في أوراق الإمام، ولا ندري هل أرسلت إلى الأستاذ الميمني (رحمهما الله).

يضيعها الورّاث، كما أضاعت ما قبلها الأحداث، ثم حرص شديد- ولا حرص الفقير الحانق، في المحل الخانق، على الفلس والدانق- على وصل ما انقطع وربط ما انتشر من هذا التراث النفيس الذي كان أهله عونًا مع الزمان عليه، فكان من آثار هذه الخلال فيه أن رأيناه يطوف الآفاق وينقّب المكاتب للحصول على كتاب عربي غفل الزمان عن نسخة يتيمة منه ليولد منها ثانية يردّ بها غربة الكتاب إلى تأهيل وغرابته إلى تأنيس ولبسه إلى توضيح، وله في هذا الباب المناقب الكبر التي عجز عن تحصيلها غيره، فهو يشبه محمد بن اسماعيل البخاري حين تفرقت الأحاديث في الأمصار فرحل إليها كلها، ليجمع منها ما شت، ويصل من حبالها ما انبت. وهذا الفن الذي أصبح أخونا الميمني إمامًا فيه وعلَمًا من أعلامه فن قديم، وضع أصوله الأولى أسلافنا فيما كانوا يحرصون عليه من معارضة نسخهم من الكتاب بنسخته الأصلية، وبما كانوا يلتزمونه من كتابة الساعات وإن كثرت على نسخهم مع شهادة مؤلف الكتاب بخطه أو بخط مَن يرويه عنه مباشرة، ومن دقّتهم في باب المعارضة أنهم يكتبون عن الكلمة التي انتهى بها المجلس هذه الجملة (بلغ مقابلة أو سماعًا)، وكانوا لا يجيزون الأخذ من كتاب ليس عليه هذه الشهادات، كما كانوا يرجعون في الخلاف إلى الأصول القديمة، وحكاية المعرّي مع شيوخ بغداد معروفة، حينما روى كلمة يوم بالياء وعارضوه بروايتها بالباء واستظهروا بنسخ جديدة من كتاب للسكيت أو لغيره، فقال لهم هذه نسخ جديدة رواها أشياخكم على الغلط فارجعوا بنا إلى النسخ القديمة بدار العلم فوجدوها كما قال. وهذا أصل له فروع منها عنايتهم بتصحيح التصحيف وتأليفهم المؤلّفات الخاصة فيه، ولو أن باحثًا تتبّع هذه الأصول واستقصاها في كتاب لكان ذلك إسكاتًا لهؤلاء المتبجّحين من الغربيين الذين يزعمون أن هذا الفن الذي يطلقون عليه (فن خدمة النصوص) هو من مبتكراتهم ومن خصائص حضارتهم العلمية الحاضرة، وأنا فما انطوت نفسي على ثقة بهؤلاء المستشرقين حين يتكلمون عن كتبنا ولغتنا وآثار أسلافنا، ولعلنا نتفق جميعًا على عدم الثقة بهم حين يحكمون آراءهم في ديننا وتاريخنا وآدابنا وشؤوننا الاجتماعية، وإن كنت لا أنكر أن لبعضهم جهودًا مشكورة في إحياء بعض كتبنا، وهذا أيضًا ليس له كبير شأن، فإن القوم متعاونون كل شيء ميسر لهم، وكل شيء يطلبونه من المراجع يجدونه منهم على طرف الثمام، ومن ورائهم جمعيات ومجامع تمدّ وتسعف، ولو كنا نجد عشر العون الذي يجدونه وعشر التسهيلات التي تهيّأ لهم من المال والمكاتب الزاخرة الميسرة الأسباب، لصنعنا العجائب في هذا الباب. ومن التحذلق الغالب على معظمهم أنهم يعدون من أمانة النقل إبقاء الخطأ الصريح على حاله، فكلمة "غير" مثلًا لا تحتمل غير معناها في مقامات الاستثناء مثل استعمالها في جملة:

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}، وقد يسهو ناسخ فيترك الغين بلا نقط، فيجدها جرمقاني من هؤلاء الجرامقة فيكتب في التعليق عليها (في نسخة أخرى: عير)، ويعدّ هذا من الفنّ، ولا يكون هذا من الفن إلّا إذا كان الخطأ من الفن وكان الجهل من الفن، وما أُتي هؤلاء إلا من سطحيتهم في العربية وقلّة محصولهم منها، أما العربي فلا يحكم على كلمة (عير) في مثالنا إلّا أنها خطأ يصحّح، لا احتمال يضعف أو يرجح. وعلى ذكر حظ هؤلاء الجرامقة من العربية أقول إنني تقصّيت أخبار الكثير من مشهوريهم فلم أجد واحدًا منهم برع في العربية كما يبرع العربي في لغات الغرب نطقًا وكتابة، بل جميعهم لُكْنُ الألسنة والأقلام، وإنما ينْبُه شأنهم عند أقوامهم وحكوماتهم لأنّ لهم فيهم مآرب أخرى، ولا أعتقد أن مستشرقًا غربيًا ينبغ في العربية ولو ركب الصعب، وشرب في القعب، وادّعى الولاء في بني كعب. وقد وُجد في عصرنا هذا جماعةٌ من أبناء العرب والإسلام اشتغلوا بهذا الفن وكانت لهم فيه مقامات محمودة، ونشروا كتبًا لأسلافنا على طريقة العرض والمقابلة بين النسخ والمراجع، فاستولى بعضهم على الأمد الأقصى من الدقّة والضبط، ولكن هذه الطبقة قليلة العدد، وسدّد بعضهم في الإحسان وقارب، وتطفلتْ جماعات على هذه المائدة فلم يأتوا بسديد ولا بمفيد، ولم يزيدوا على أن زاحموا التجّار الجاهلين، ونراهم يقلّدون سخفاء المستشرقين في طريقة (غير وعير)، ويسترون نقصهم بهذا التقليد الذي لا يصلح مواتًا من الكتب، ولا يحصي أمواتًا من المؤلفين. ونشر الكتب كنشر الأموات، يجب أن يكون إشاعة للحياة في جميع أجزاء الكتاب، ومن المحزن أن الظروف وفساد الأخلاق ساعدت على ظهور طائفة جمعتْ ضيقَ الذرع إلى جفاف الضرع، ولم يكتف أحدهم بطبع الكتاب حتى يعلق عليه افتتانًا بهذا اللقب الجديد الذي يفيده قولهم: (نشره فلان وعلّق حواشيه)، وقرأنا فوجدنا التعليق، أصعب على القارئ المغرور من التحليق، ووجدناهم في تلك الحواشي، أشبه بحالة الطواشي، ذكر ولا آلة، وعائل وهم عالة، ومن عجيب أمر بعضهم أنهم يبنون آراءهم في الحق على أسس من الباطل، ويبنون استنتاجات سخيفة على تناسب الألفاظ وتجانسها في الحروف والأوزان، ولو أن نسّابة زعم أن الأقباط من الأسباط لِتَشابُهِ اللفظين، وان ذارعين من نصر بن قعين لِتجانس الفقرتين، لما كان أسخف مما تبض به هذه الأذهان العقيمة القاحلة، ومن غريب أمر بعضهم أنهم يخوضون في تعليقاتهم في الأنساب- أنساب الأشخاص وأنساب الآراء وأنساب الأبيات- فيقعون في تخليط يلحق البيتَ بغير قائله، والابن بغير ناجله، كل ذلك لأنهم أتوا هذا الأمر من غير استعداد له ولا استكمال لأدواته، ومن أيسر أدواته معرفة المظان والصبر على مكاره التنقيب والبحث عنها، ونراهم حين يرمون بنسخ الكتاب الذي ينشرونه إلى السوق يروّجون له بالدعاية والإعلان، وأنه بتحقيق فلان،

فيكون حظ الناشر من الدعاية أكبر من حظ المنشور، والبضاعة الثمينة لا تباع بالمناداة، وسيان عندي في السخافة والضعة مَن نشر من هؤلاء كتابًا وسمّى عمله فيه تحقيقًا ومَن طبع كتابًا من كتب المعرّي وكتب على ظهره (حقوق الطبع محفوظة لذرية المؤلف من صُلبه). ... وأخي الأستاذ الميمني من أعرف الناس بذلك النوع الذي كان يجري بين العلماء والأدباء من أسلافنا وخصوصًا بالأندلس من تردّد الرسائل بينهم في موضوع علمي أو أدبي، ويطلقون عليه اسم (المراجعة)، وقد شاع هذا النوع واختص بمبادئ وخواتيم وملامح كادت تفرده عن بقية الأنواع كالأخوانيات وغيرها، ومن أمثلته بين علماء الشرق ما وقع من مراجعات بين المعرّي وداعي الدعاة، ورسالتي هذه إلى أخي الأستاذ هي احتذاء لذلك النوع وإحياء له وفتح لبابه، فليحملها على محمله، وليسمها باسمه، وليضع اللبنة الثانية في بنائه، ويقيني أن لأخي الأستاذ من سعة الصدر ما ينقل هذه المراجعة من باب التنبيه إلى باب التنويه، وأن له من حرية الرأي ما جعله يقول كلمة الحق في سيبويه وأنصاره المؤولين لخطأه في تلفيق بيت "فلسنا بالجبال ولا الحديدا"، فأتى بها شاهدًا مجروح الشهادة، وكلمة الحق في العلم ككلمة الحق في الدين، كلتاهما سابغة الأثواب، مرجوة الثواب. ... جرى على لساني في أول اجتماع سعدتُ فيه بلقائكم إنشاد بيت مشهور لسحيم عبد بني الحسحاس وهو: أشْعارُ عَبْدِ بني الحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ … يومَ الفَخار مقام الأصْل والوَرقِ ورويتُ (الورَق) بفتح الراء، لا لأنني أحفظه هكذا بل لأنني أفهمه هكذا، وعادتي أنني أحكّم الفهم في الحفظ لا العكس، ولست أنكر كسر الراء ولا أجهل معناه، وقد سمعتُ مئات من الأدباء ينشدونه بالكسر وكنت أناقشهم فيه برأي الذي سأبيّنه في هذه الكلمة فيرجعون إلى الحق. بادرتم أيها الأخ الفاضل إلى رواية البيت بكسر الراء، وفسرتم الورِق بمعناه المعروف وهو الفضة وزدتم عليه الرقة، وكأنكم توهمتم أنني لا أعرف الورِق بالكسر ولا أعرف معناه، فقرأت عليكم آية الكهف دفعًا لذلك التوهم ولكنكم لم تسمعوني، كما أنشدتكم قسمًا من الرجز شاهدًا على المعنى الذي قصدته، وهو قول الراجز: اغفر خطاياي وثمر ورَقي.

وهو يعني المال بجميع أنواعه، وراجعتكم في ذلك المجلس بأن الورَق وهو المال عامة أنسب بقصد الشاعر من الورِق الذي هو مال خاص، ولكن حرصكم على رواية الكسر أضاع صدى تلك المراجعة، ثم سافرتُ إلى دواخل باكستان ونسيت هذه القضية، ولما رجعت من جولتي وشرفتموني بالزيارة للمرة الثالثة ذكرتم لي آية الكهف على أنكم تذكرتموها بعد انفضاض المجلس الأول، فتنبه في خاطري أمران، الأول توهمكم أنني لا أعرت الورق بالكسر ومعناه، ولقد عرفتُ هذه الكلمة ومعناها وأنا ابن سبع سنين حينما مررت بموضعها في سورة الكهف في طريقي إلى البقرة، ولقد حفظت القرآن وأنا ابن تسع وكان عمّي رحمه الله يفسّر لي كل كلمة من غريب القرآن أثناء الحفظ. والثاني أنكم أردتم بذكرآية الكهف الاستشهاد لقصد سحيم كأنّ وجود لفظ الورق في القرآن دليل على أنه هو المقصود لسحيم، وهذا لا يستقيم، ولو ذُكرتْ لفظة الورق في القرآن أكثر مما ذكرت كلمة الصبر لم تكن دليلًا على ذلك، وإنما يكون الذكر في القرآن دليلًا على أن اللفظة عربية، أما استعمالات البلغاء فهي راجعة إلى مقاصدهم، وليس نزاعنا في وجود لفظ الورق في لغة العرب ولا في معناه عندهم وهو الفضة، وإنما نزاعنا في شيء آخر وهو حمل كلام سحيم على هذا المحمل، وهل هذا المحمل يشبه مقاصد البلغاء في مقامات الفخر ومقامات ذوي الهمم من غيرهم. لهذا أردتُ أن أراجع أخي الفاضل بهذه الرسالة متطارحًا على فضله، ناشرًا للمعنى الذي أراه أرجح ولدليلي على الأرجحية، وقد أملى هذه الكلمات خاطر كليل، يجول في جسم عليل، ورشح بها فكر حائر، بين باكستان والجزائر، والفضل لسيدي الأخ في إثارتها في نفسي، فقد بَعُد عهدي بتذكر الأسماء والأبيات، فضلًا عن المباحث والموضوعات، فإنْ حرّكتْ هذه الكلمة في نفس الأستاذ كامنًا أو أثارت كمينًا، فكتب من معلوماته الواسعة ما يوجه الوجيه عنده كنت سعيدًا مرّتين: مرّة بما كتبت ومرّة بما كتب، ولعلّ ذلك يحفزه ويحفزني إلى مراجعات أخرى في موضوعات أوسع. ... يا سيدي الفاضل: إن التصميم على رواية في الشعر يحتمل المعنى غيرها لا يُقْبَلُ إلّا من رجل يستطيع أن يأتي بإسناد متصل بالثقات إلى الشاعر، فيقول أنشدني فلان قال أنشدنى فلان وهكذا صاعدًا إلى أن يقول الأخير أنشدني عبد بني الحسحاس لنفسه قوله: أشْعارُ عَبْدِ بني الحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ … يومَ الفَخار مقام الأصْل والوَرِقِ

هكذا بكسر الراء، وينقلها لأهل عصره بشهادة السماع المتصل المنصوص فيه على كسر الراء، فيصبحون كلّهم وكأنّهم سمعوها من فم سحيم، كما نرى في أسانيد الحديث واللغة والشعر والخبر عند القدماء، فكانوا يحافظون في الرواية حتى على الخطأ ثم يصحّحونه، كما رووا عن ابن دريد إنشاده لبيت: أنكحها فقدها الأراقم مِن جنـ … ـبِ وكان الحباء من أدمِ بالخاء المعجمة، ثم صحّحوا له هذا الخطأ، وانه الحباء بالحاء المهملة. وأعتقد أن أخي الأستاذ يوافقني على أن هذه السلسلة انقطعت من قرون ولا طمع لنا في معرفة ما نطق به سحيم في بيته: هل هو فتح الراء أو كسرها؟ فلم يبق لنا- بعد فقدان الرواية- في ترجيح أحد المعنيين المحتملين إلّا تحكيم قوانين البلاغة وأساليبها، ومقاصد البلغاء ومنازلهم في الفصاحة والبلاغة، فهلم نتبيّن منزلة سحيم فيهما من غير التفات إلى الموضع الذي وضعه علماء الطبقات فيه، ثم هلم نوازن بين الكلمتين المتماثلتين، وأيتهما أقرب إلى قصد الشاعر، وأيتهما تؤدّي غرضه كاملًا، وأيتهما يتساوق معناها مع الفخر، وأيتهما أشبه بمنزله في الفصاحة والبلاغة، فإذا اتفقنا على أن سحيمًا لا يزل عن درجة البلاغة ولا يدفع عن منزلة البلغاء في عصره، فالورَق ألْيقُ بقصده وأشبه بمعرِض كلامه وأنسب لمنزلته وأكمل أداء لغرضه، لأن الورِق بالكسر مال خاص وليس بالثمين ولا مما يتسلح به المتفاخرون في مقامات الفخر، والورَق بالفتح هو المال الشامل للفضة وغيرها، وهو يريد أن أشعاره تقوم له مقام الأصل الذي فاته، ومقام المال الذي حُرمه، فإذا فاخره الناس بالأصول الجليلة والأموال المتنوعة فاخرهم بشعره ففخرهم، لا مقام مال مخصوص محتقر، لا يفاخر به الناس، ولو نزلتْ به همته دون بلاغته لذكر الذهب لأنه أغلى وأثمن عند جميع الناس، ولم يعجزه أن يأتي في روي البيت الثاني بالباء، والشعراء بطبيعة الشعر فيهم يؤثرون المبالغة والتسامي في مقامات الفخر لا التنزل والإسفاف، فكيف نرضى لسحيم وهو مَن هو في البلاغة وعلو الهمة أن يحبس قصده وغرضه عند هذا المعنى القاصر المنحط، وأين الفضّة من الذهب؟ وأين هما من حمر النعم؟ وأين هما من النجائب والجنائب؟ إنكم يا سيدي الفاضل بتصميمكم على كسر الراء وضعتم صاحبكم سحيمًا- الذي خدمتموه بطبع ديوانه- في منزلة من سقوط الهمة لا يحسد عليها، ورجعتم به إلى طينته التي يريد أن ينسلخ منها، وصورتموه للناس رجلًا لا يعرف من المال غير أحط أنواعه وهو الفضة، ولا تسمو همته حتى في التخيلات الشعرية إلى أكثر من الفضّة التي كان يباع بها ويشترى، فهو عبد في الخيال كما هو عبد في الحقيقة، وأية قيمة لشعر قوّمه صاحبه بالفضة وقنع بهذه القيمة حتى في أوسع مجالات الفخر؟ إذن فهو شعرٌ عبدٌ لأنه شعرُ عبدٍ، فإذا أتيتم له هذا القصد فإن النقاد يحملونه على المبالغة أيضًا كما هو طبع الشعر والشعراء، وانظر- يا رعاك الله- ماذا

يبقى من الوزن لهذه القيمة إذا جردت من المبالغة الشعرية؟ لا شك أنه لم يبق إلّا أن يقوم بنسال الشعر وفتات البعر، وإذن يصدق فيه قول زميل له حرّ: وشرّ الشعر ما قال العبيد، وقد انتقدوا شاعرًا أندلسيًا ضاق عطنه حتى في باب الأماني التي هي أوسع مجال تسرح فيه أخيلة البائسين والكسالى فقال أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال، فقصر أمنيته على ألف مثقال من أمير عُرف عنه أنه يهب آلاف المثاقيل. وليتكم يا سيدي صيرتم كسر الراء معنى يحتمله اللفظ أو أسبغتم عليه وصف الأرجحية، كل ذلك كان يُقبل منكم ويناسب فضلكم وتحريكم المعروف، وفي وجوه الاحتمال منادح ومخارج، ولكنكم صممتم على الكسر وعلى الفضّة، كأنه المعنى الذي لا يحتمل اللفظ غيره، حتى بعد أن أنشدتكم الشاهد على الورَق بمعنى المال، وهو: اغفر خطاياي وثمر ورقي. فإذا كان لأخي الفاضل مستند في تصميمه فلا جائز أن يكون رواية مسلسلة إلى سحيم تثبت أنه كان ينطق هذا اللفظ بالخصوص بالكسر، وإنما يجوز أن يكون مستنده ضبطًا لقلم بعض الثقات أو بقول بعضهم (بكسر الراء) كما هو معتاد، وهذا كله لا حجّة فيه ما دامت البلاغة تنافيه، وسمو المقصد يجافيه، ولو أني سمعتُ بأذني سحيمًا ينشد بيته ويكسر الراء لما حكمت عليه بالخطأ ولكني أحكم عليه بالإسفاف وسقوط الهمة أوّلًا وبانحطاط ذوقه البياني ثانيًا، ولو أن بليغًا من بلغاء العرب سمع سحيمًا ينشد هذه اللفظة بالكسر وهو لا يعرفه، لَحكم عليه بأنه عبد النفس إن لم يكن عبد البدن. هذا وقد تناولتُ- عند وصولي في الكتابة إلى هذا المحل- نسخة ديوان سحيم التي تفضلتم بإهدائها إليّ وكشفت عن محل البيتين فوجدت الشارح يقول: الورِق الدراهم والورِق المال، ووجدتُ الناسخ ضبط الكلمتين بكسر الراء ضبط قلم، فلاح لي أمران: الأول أن ضبط الكلمة الثانية بالكسر غير صحيح، وأن الشارح أراد أن الورِق بالكسر الدراهم والورَق بالفتح المال، لأن هذا هو مشهور اللغة، ولو كان يريد أنهما من المشترك اللفظي الذي يدلّ بصورة واحدة على معنيين لقال: والورِق المال أيضًا، فزاد كلمة (أيضًا) كما هو المعتاد في الأساليب القاموسية عند ذكرهم لمعاني المشترك اللفظي. والأمر الثاني أن هذه العبارة ذكرتني بأن استعمال الورِق بالكسر اسمًا للمال منقول وإنْ لم يكن مشهورًا، وذكرت ذكرًا غامضًا أن هذا مرّ بي ولكني نسيته لطول العهد وليس معي ما أراجعه لأنني على جناح سفر، فإذا ثبت هذا اغتفر تصميمكم على الكسر ولم يغتفر تصميمكم على تفسيره بالفضّة. وعلى هذا الاحتمال- إن صحّ- فلنقرأ الورِق في بيت سحيم بالكسر ولنفسره بالمال عامة، لأن حرصنا ليس على اللفظ وإنما هو على المعنى الذي يشرّف سحيمًا ويبيّض وجهه.

وليسمح لي أخي الأستاذ أن أسلك مسلكًا آخر في الاحتجاج لسحيم وأنه لم يقصد إلا الورَق بالفتح لأنه يشمل جميع المتمولات، ولأنه سالم من الاشتراك اللفظي الذي هو عرضة للاحتمالات، وذلك أنني لا أشك أن سحيمًا سمع القرآن إنْ لم يكن حفظه أو حفظ شيئًا منه، والقرآن هو المثل الأعلى للبلاغة، كما أنه الحجّة في تقرير المقاصد الإنسانية العالية، وإذا تأملنا القرآن واستعرضنا نظمه الكريم وجدناه يذكر الذهب والفضّة في معارض خاصة ويذكر المال أو الأموال في معارض أخرى تخالفها ... يذكر الذهب والفضّة غالبًا في مقامين من مقام الافتتان بالزائف وجزائه في الآخرة، وفي مقام الترغيب فى الجنّة بذكر أنواع النعيم الباقي الذي ألف الناس نوعه في الحياة الدنيا، فيذكر الذهب والفضّة فيما زيّن حبه من متاع الدنيا {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ}، {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}، ويذكرهما في التذكير بسوء عقبى الافتتان بهما وكنزهما وعدم تصريفهما في النفع والخير {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، كما يذكرهما في أصناف النعيم الأخروي الباقي ترغيبًا للناس في العمل الذي يفضي بهم إلى الجنّة كما هي سنّة القرآن في أسلوب الترغيب بالميول النفسية، ووصف نعيم الجنّة الباقي بما يماثله من نعيم الدنيا الفانية {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}. أما المال والأموال فإنما يذكرهما في المعارض الفطرية الثابتة والسنن النفسية الراسخة، مثل {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، من آيات كثيرة كلها تدخل في باب تقرير السنن الكونية وآيات الله في الأنفس والآفاق. وانظر- أعزك الله- لو قال قائل في غير القرآن: الورق والبنون زينة الحياة الدنيا، أكان كلامه يعدّ إلّا من أسخف السخف؟ أو قال: إنما ورقكم وأولادكم فتنة، أكان هذا الكلام يحسب إلّا من حكمة الزط في غرائز البط؟ أو قال: جاهدوا في سبيل الله بورقكم وأنفسكم، أكان ينظم إلّا في عداد القَعَدة المثبطين عن الجهاد؟ ومن بلاغة القرآن المعجزة أن يستعمل المال في مقام والأموال في مقام أعلى منه كالجهاد، لأنّ الجمع فيه قصد الشمول من المال الذي هو اسم جنس، واسم الجنس شامل كاسم الجمع ولكن الجمع أشمل منهما، ولما كان الجهاد يحتاج إلى النبال والقسي، والحبال والعصيّ، والرحال والرواحل، والأقتاب والأحلاس، والوص، والزاد والعلوفة، وكلها متمولات، حَسُنَ في قانون البلاغة وأسلوب الترغيب أن يعبر في آيات الجهاد بالأموال.

وصاحبنا سحيم، الشاعر الرقيق، الذي أدرك النبوة وأظلته دولة الخلفاء الراشدين، لا يحمل كلامه إلا على الاعتبارات الفطرية التي قررها كتاب الفطرة، وما سحيم إلّا من ناشئة الصحراء العربية، وما مقاصده إلّا من نوع مقاصد العرب، وما أخيلته وأمانيه إلّا من نوع أخيلة شعراء العرب وأمانيهم، يرمون فيها المرامي القصية وبركبون فيها من المبالغة والإغراق ما يخرجهم عن أفق الحقائق، وحسبك شهادة الله لهم بأنهم في كل واد يهيمون. وقولهم "المرء ابن بلدته لا ابن جلدته" كلمة أصيلة في الحكمة الاجتماعية، فإن المرء إذا نشأ في قوم لا يجمعهم به عرق نسب، ينشأ كواحد منهم، ولو باعدت بينهم وبينه الخصائص الجنسية والدموية، ومن أبين ما يجتمع معهم فيه اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها وأسرارها، وسحيم لم يخرج عن هذه القاعدة، فهو مع سواد الجلدة وجامعة النسب، عربي اللغة والأدب، أما الشعر فهو قابلية خاصة بحيث لو تفتّق لسانه على لغة قومه لكان شاعرًا في لغتهم، على نسبة تلك اللغة في الضيق والاتساع. ويؤيّد ما حملنا عليه كلام صاحبنا سحيم- وهو الأولى بل المتعين- أن العرب ما كانت تعد الفضّة بل ولا الذهب مالًا يزين صاحبه ولا متاعًا مما يفتخر به جامعه، وإنما يعدونهما قيمًا للأشياء وكما هو الاعتبار الصحيح الذي جاء به الإسلام بعد ذلك، فهما وسيلة لا مقصد، وهما معبر لا مستقر، وإنما المال عندهم الثاغية والراغية وضربهم المثل بحمر النعم معروف، وإضافتهم ربيعة إلى الفرس مشهور، ووصفهم مضر بالحمراء معلوم، وهي ألقاب تمدّح وإعظام، ومن كلام رجل منهم- لم أذكر اسمه الآن- وقد سُئل عن أفضل المال فقال: مهرة مأمورة وسكة مأبورة، قيل ثم ماذا؟ قال: عين فوارة في أرض خوارة، قيل فأين أنت من الذهب والفضّة؟ قال: حجران تصطكان، إنْ أنفقتهما فقدا وإنْ تركتهما لم تزيدا. هذه- أبقى الله سيدي الأخ- بعض اعتبارات العرب للمال يجب أن يحمل كلام صاحبنا سحيم عليها، لأنه شاعر عربي ولشعراء العرب في التصور والتصوير موازين كموازين شعرهم تختل بحركة اختلاس، ويدركها الزحاف بحرف يزيد أو ينقص، وقد قرأ أخوكم هذا من صغره ما تفرق من شعر هذا العبد في الكتب، ووقف على شعره الفاحش في مجموعة من نوعه يملكها أحد الأصدقاء بالمغرب الأقصى، فوجدته حرّ الأخيلة عميقها، صادق التصورات، عربي النزعات، بدوي الخصائص الشعرية، جاريًا ملء عنانه في الميادين التي جرى فيها الشعراء، ومنها ميدان الفخر، فلذلك تراني لا أجيز لنفسي أن تحمل ألفاظه المحتملة إلّا على الأسمى من معانيها والأرفع من أغراضها، ومنها لفظ الورق. ويا سيدي: إن في معاني الألفاظ العربية عمومًا وخصوصًا، وإن للخصوص مواضعه في التراكيب تبعًا للمقاصد، وللعموم مواضعه فيها كذلك، والمقاصد والأغراض هي المتحكمة

في تتريل الألفاظ منازلها، فهل ترضى لصاحبك الذي أحييته أن تُميته فتجعل أشعاره البليغة قائمة مقام الفضّة لا الذهب ولا غيره من الأموال لا سيما مع وجود معنى للورق يفي بالغرض الأشرف، وتسمية العرب للمال بمعناه العام وَرَقًا تسمية عريقة النسب في البلاغة، قريعة لتسميتهم إياه بالريش، وقد استعاروا الاسم الأول من ورق الشجر لأنه يظلّل ويحمي ويثمر، كما استعاروا الاسم الثاني من ريش الطائر لأنه يكسو ويحمل ويعلو بصاحبه، ولكن الاسمين اشتهرا حتى استغنيا عن القرائن، وللعرب تخيلات صادقة دقيقة في معاني الألفاظ المشتقة والمنقولة تدلّ على سداد تصرفاتهم الذهنية. ... ثم إن لكل زمن موازينه للأشياء واعتباراته إياها، وموازين الأزمنة هي قوانين التطور، ولا تفلت منها الطبقات العليا في المجتمعات البشرية كالشعراء والعلماء والملوك، ولا معنى للتطور إلا اختلاف الاعتبارات حتى يصبح القبيح حسنًا والحسن قبيحًا، ولهذا نرى أن معروف البداوة منكر في الحضارة وحسن الحضارة قبيح في البداوة، وإذا خرجنا من باب القبح والحسن والعرفان والنكر إلى باب السمات والألوان نجد القياس مطردًا، وكذلك يقال في أساليب الكلام من شعر وخطب وأحاديث عادية، فنجد النقاد يفرقون بين شعر البادية وشعر الحاضرة بسمات ثابتة يدركها كل دارس باحث، ولكل تطور أسباب طبيعية آتية من تحرك الاجتماع البشري وعدم استقراره على حال، وقد رأوا في شعر عدي بن زيد العبادي رقة ليست من سمات الشعر الجاهلي فحكموا بأن مأتى ذلك إنما هو لنشأته في ريف العراق، وغشيانه للحيرة وتردده على ملوكها، وصوغه الشعر فيهم، والحيرة هي حاضرة العرب في الجاهلية، ومن هنا كانت الفروق واضحة بين الشعر الجاهلي وبين شعر الخضرمة والإسلام، وبين هذه الأنواع كلها وما جاء بعدها في مراحل الحضارة الإسلامية. فلننظر- على هداية قانون التطور وآثاره- إلى العصر الذي كان فيه سحيم وإلى مفهوم المال عندهم وإلى منزلة الفضّة من بين أنواع المال بينهم، نتبيّن أن الفضّة ليست بشيء في اعتبار ذلك العصر وعند أهله، وأن الفضّة لم تخطر على بال سحيم حينما قذف بيتيه في وجوه المفاخرين، وإذا كان أثر الشعر في نفس سامعه متصلًا بأثره في نفس قائله، فكيف يتصور أن يقوم شعره بشيء لا قيمة له في نفوس سامعيه ومفاخريه، أو له قيمة نازلة، والمعروف أن الشعراء ليس لهم باب يدخل عليهم منه المال إلّا جوائز وصلات الأمراء والرؤساء ثمنًا لما يمدحونهم به، والجوائز والصلات في ذلك العصر وبعده بقليل لم تكن بالفضّة ولا بالذهب، وإنما كانت في الأعم الأغلب بكرائم النعم والخلع والطرائف، لذلك لا نسمع في شعرهم إلّا ذكر الذود والعكره والهنيدة والجامل العكنان، وقد دامت هذه

الحال إلى عهد الخلفاء الأُول من بني مروان، وحكاية جرير مع عبد الملك معروفة حينما مدحه بقصيدته الحائية وذكر فيها ابنته أم حزرة وقوله: ثقي بالله ليس له شريك … ومن عند الخليفة بالنجاح فقال عبد الملك: وما يرضي أم حرزة؟ فقال كذا من الإبل، فأمر له بها. وكما كانت الجوائز بهذا الصنف من المال كانت شرائع المكارم وشعائر المروءة تؤدى بها أيضا لأنها مال ذلك العصر، وإذن فسحيم كان في دولة الإنعام بالأنعام- وإنْ لم يكن مدّاحًا بحكم عبوديته- لا في دولة الصفراء والبيضاء، وكان من جيل لا يفهم من الصفراء والبيضاء إلا أنهما أداتان للمال وليستا المال نفسه، ناهيك بجيل يفرض أهل الرأي فيه لخليفتهم عمر نصف شاة في اليوم لا دنانير ودراهم، فكيف يخطر ببال شاعر عبد أن يفاخر الأحرار بشعره ويقومه بما عندهم من الفضّة، وهو يعرف أنها ليست من أموالهم ولا مما يفاخرون به، وإنما يفاخر المرء بما تجرى به المفاخرة عند أهل زمنه، وقد تطورت الحالة بعد سحيم بزمن وأصبح الممدوحون يجيزون مادحيهم بالذهب والفضّة لكثرتهما وبناء الحضارة المادية عليهما، فأصبحت نفوس الشعراء تتطلع إلى هذين الحجرين. وأين زمن سحيم وجيل سحيم من الزمن الذي يقول أحد شعرائه لرئيس: إني حلفت لئنْ لقيتك سالمًا … بِقُرى العراق وأنتَ ذُو وَفْرِ لَتُصَلِّيَنَّ على النبيّ محمّدٍ … وَلَتَمْلأَنَّ دراهِمًا حِجْرِي والذي يقول فيه أبو دلامة: إذا جئتَ الأميرَ فَقُلْ سلامٌ … عليكَ ورحمةُ الله الرحيمِ وأما بعد ذاك فلِي غريمٌ … من الأعراب قُبِّحَ من غريمِ له مائةٌ عليَّ ونصفُ أخرى … ونصف النصف في صَكٍّ قديمِ دراهمُ ما انتفعتُ بها ولكنْ … وصلتُ بها شيوخَ بني تَميمِ ... ولله ذلك الطراز العالي من البلاغة العربية، وتلك الصفوة الممتازة من شعراء العربية، وتلك الطائفة المختارة من المدونين والرواة الذين جمعوا لنا ففرقنا، وحفظوا لنا فأضعنا، ورووا لنا شعر العبيد والنساء والنساك والفتاك والعدائين وعوران قيس وأغربة العرب، رحمهم الله وروح أرواحهم وهدانا إلى حفظ ما بقي من تلك الذخائر.

ولله هذه اللغة الشريفة التي بلغ من ديموقراطيتها أن تسعى هرولةً إلى كل مَن يسعى إليها حبوًا، والتي أضفتْ ظلها وأفاضت نهلها وعلّها حتى على الإماء والعبيد، وأكلة الكباث والهبيد، ثم تبنت القرائح والألسنة من جميع الأجناس، واذكر في الكتاب هذه الأسماء اللامعة في شعراء العربية من غير العرب، اذكر سابقًا البربري، وأبا عطاء السندي، وعلي بن العبّاس الرومي، ومهيارًا الديلمي، واذكرْ إبراهيم بن سهل الإشبيلي لأنه يهودي تعرّب ولا تذكرْ السموأل بن عاديا لأنه عربي تهوّد. وأختم القول بما بدأته به وهو أنني أحمل لأخي العلّامة الميمني كل إجلال وتقدير، وأغالي بقيمته في علمائنا العاملين، وله منّي تحيات تلمع مع البروق، وتتجدد في كل غروب وشروق.

فلسطين واليهود

فلسطين واليهود * كتبتُ قبل ست سنوات مجموعة مقالات في جريدة البصائر كانت طلائعها مبشرات تحتوي على تحميس للعرب في حرب اليهود، وبيان حقوق العرب وأحكام الاستدلال عليها من التاريخ. وكشف الأخلاق والطبائع اليهودية وبثهم للدسائس والمكائد في كل حركة يأتونها، ولا عجب في استرسالي في تلك المقالات، فنحن الجزائريين بلونا من تلك المكائد ما جعلنا أفقه الناس في تلك المخزيات التي يأتيها اليهود في العالم، وتلك الطرائق في امتصاص أموالهم وتسخيرهم بالمال، وبراعتهم في الدعاية والتضليل وإنفاقهم الملايين في بث الفتن وإفساد الأخلاق. نحن أفقه الناس في الطبيعة اليهودية لأن يهود الجزائر من بقايا الجالية اليهودية التي هاجرت مع العرب عند الجلاء عن الأندلس. وقد عاشوا مع العرب المسلمين في الأندلس قرونًا فرأوا فيها من حسن الرعاية ومن صنوف البر والتكريم ما وصلوا به إلى مراتب الكرامة وولاية الوزارة. وعاملهم المسلمون في أيام ملكهم معاملة الأخوة فلم يُمْنَعوا عن مال ولا جاه، فلما جاء طور الانتقام نالهم منه ما نال المسلمين، وكانت النزعة المسيحية في عداوة أعداء المسيح الأُوَل على أشدّها. ... كارثة فلسطين من أعمق الكوارث أثرًا في نفوس المسلمين الصادقين، وجميع الكوارث التي حلّت بالمسلمين عدل من الله تخفى على البسطاء أسراره، وتظهر للمتوسمين أسبابه، إلا قضية فلسطين فإن وجه العدل الإلهي فيها واضح مسفر، ذلك أن العرب ومن

_ * مقال وُجد في أوراق الشيخ، كتبه بالقاهرة في أوائل 1954.

ورائهم المسلمون لم يُؤْخذوا فيها على غرة. بل كانوا يحيطون علمًا بنيّات اليهود ومطامعهم في إقامة دولة في أرض الميعاد، وتحقيق حلمهم القديم الذي تزوّدوا به من يوم خرجوا من فلسطين أذلة صاغرين في سبي بابل، وما زالوا يغذون أبناءهم جيلًا بعد جيل بعودة ملك إسرائيل إلى بنيه، ويسندون أوهامهم فيه إلى نصوص دينية ووعود إلهية على لسان بعض أنبيائهم افتراها أحبارهم، وأيّدوها بتلك الوعود المصطنعة لترسخ في مستقر العقائد من أبنائهم ويتوارثونها فيما يتوارثون. ... إن أجدادنا لم يأخذوا فلسطين من يد اليهود وإنما أخذوها غلابًا من أيدي الروم وحرّروها من استعمارهم، وفي تحريرها تحرير لليهود أنفسهم، فماذا ينقم اليهود منا؟ ولماذا ينتقمون منا؟، ولماذا يجزون إحساننا لهم بالإساءة، ولماذا يستعينون علينا بأعدائنا وأعدائهم. إنه اللؤم المتأصل، والأنانية المركبة في الطباع المريضة، إن اللؤم قرين الضعف ودليله، فحيث ترى ضعف الطباع ترى لؤم الطباع، وقد جرت الدول الإسلامية في تاريخها الطويل على معاملة اليهود بالحسنى، معاملة إلّا تكن معاملة عُمَرية فهي بمقربة منها إلا في الفرط والندرة حينما ينقض اليهود عهدًا أو يظاهرون عدوًا، وما أكثر ما يقع منهم ذلك لأنه طبيعي فيهم لا يكادون يصبرون عليه. ولقد كانوا يعيشون عند الاحتلال الفرنسي للجزائر مع العرب المسلمين معززين مكرمين ويزيدون عليهم باحتكار التجارة وبعض الصنائع وبالبراعة في طرق الاقتصاد، وكثير منهم دخل الجزائر مع الجاليات الأندلسية التي اختارت الجزائر وطنًا لها. ولم يلقوا من الحكم الإسلامي إلّا الرفق والإحسان، ولكنهم ما كادوا يخالطون الفرنسيين حتّى تنكّروا للمسلمين فقبلوا الجنسية الفرنسية دفعة واحدة بقانون كريميو ( CREMIEUX) الوزير اليهودي المشهور، ومنذ أصبحوا يتمتعون بالجنسية الفرنسية ازداد تنكرهم للمسلمين وتفاقم شرّهم، وازدادوا جرأة على سلب أموال المسلمين وتفقيرهم تحت حماية القانون الفرنسي، وما ضمتهم فرنسا إلى جنسيتها إلّا لتحقيق الغرض الاستعماري الذي لا يقدر أحد قدرتهم عليه. ... التاريخ في سلسلته الزمنية الطويلة يشهد أن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك مادي في فلسطين ولا في غيرها كالذي تتأثله الأمم بالقوة والغلبة، وإنما كان لهم في فلسطين وما حولها من أرض الكنعانيين سلطان ديني أساسه النبوات، تسانده من القوة المادية ما تحتاج إليه الدعوات الدينية عادة، وما يظهر به ذلك السلطان الديني من مظاهر الملك المادية،

ولكن ذلك الملك وذلك المظهر لا يخرج عن نطاق الدين المؤيد بالعلم والحكمة، كما وقع لداود وسليمان فمُلكهما كان دينيًا محضًا، وهل يحتاج بناء الملك المادي في مألوف العادة إلى تسخير الجند والطير والريح؟ وقد انقضى ذلك النوع من الملك بانقضاء زمنه، ولم تَجْرِ به سنة الله في الأمم والملوك، وكل ما يذكر عن ملوك بني إسرائيل فهو متأثر بذلك النوع أو مصبوغ بصبغته، وفيما عدا تلك الفترات الدينية التي كان يقوم فيها الملك على الدين، أو يؤيد فيها الملك بالخوارق، أو يعضد بالعلم والحكمة، فإن بني إسرائيل لم يظهروا في التاريخ كأمة مدنية تستطيع بمؤهلاتها البشرية ومواهبها الفطرية المشاعة بين الأمم أن تقيم دولة أو تؤسس حضارة ذات خصائص جنسية منتزعة من الطبيعة الإسرائيلية من غير اعتماد على عامل خارجي عَبْر الخوارق، وقد دعاهم موسى إلى الملك وأكّد لهم ذلك بوعد الله بعد أن يقوموا بالأسباب العادية التي لا يقوم الملك إلا عليها، وأهمها الغلاب والقتال في سبيله فأبوا عليه وعَنَّتوه جريًا على الطبيعة المتأصلة فيهم من الجبن والمذلة وحب المكسب المادي الميسَّر الهنيء، وقالوا له تارة: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} وقالوا له مرة أخرى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}. وقد لقي موسى الْأَلَاقِيَ في سبيل دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة وإعدادهم للملك وفَهْم سنن الله فلم يفلح. واليهود في أخلاقهم النفسية وطبعهم الأصيل شعب أنانيٌّ يُحِبُّ الاستئثار بالفضائل الإنسانية من دون أن يعمل لها أو يضحي في سبيلها، ليذهب به الغرور كل مذهب في تمجيد الجنس اليهودي واصطفاء الله له على الشعوب إلى درجة أن دماء الأمم الأخرى وأموالها كلها مباحة له، لأنها مخلوقة لأجله، وتَملُّك الغير لها إنّما هو اعتداء وغصب، فسرقة أموال الناس في نظرهم ليست سرقة وإنما هي استرجاع لِحَق كان مغصوبًا، وهم ينتحلون لذلك نصوصًا من وضع أحبارهم ولكنهم يُسْندونها إلى الله، ويسوقونها في صورة تدليل من الله بجنسهم ويجادلون الله فيها كما يجادل الكفء الكفء، حتى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، والأحباء هم قرابة الملك أو المقربون منه. وقد مرّت بهم في تاريخهم فترات ترتفع فيها يد الله عنهم ويوكلون إلى أنفسهم فيضيع تدبيرهم ويتكشفون عن جهل بتدبير البيوت فضلًا عن تدبير الممالك والدول، ويتناهبهم الأقوياء من الفرس والرومان فيبيدون خضراءهم ويستبيحون حرماتهم ويتقاسمهم السيف والتشريد والسبي، فلا يذهبون في ذلك إلى تعليله بعلله المعقولة، ولا يرجعون فيه إلى موازين صحيحة من أحوال الأمم، ولا يفقهون أن سنن الله تنالهم كما تنال غيرهم، وإنما يقولون: ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. كلمة يقولونها كلما أحاطت بهم خطيآتهم والتحمتهم الأمم وذاقوا عواقب الأنانية والكيد والاغترار واحتقار الأمم وعدم الاعتبار للسنن الإلهية، ولاعتبارهم الملك وعزة الحياة

استحقاقًا إلهيًا لا نتيجة للجهاد والقراع. لم يشهد لهم التاريخ موقف دفاع عن حوزة، ولا سجَّل لهم صفحة واحدة في حماية حمى أو ذود عن حرمة وطن حازوه في ظل النبوّة، ذلك أن اليهود لا وطن لهم ولا وطنية في طباعهم بمعناها المعروف عند الأمم، فادعاءهم للوطن القومي تدجيل وتضليل، وإنما الوطن القومي حلم دعا إليه منهم المهووسون جرْيًا وراء أَخْيلةٍ من الماضي العريق من غير تبصّر في طبائع الأشياء، وأَلْهِيَةٍ ابتكروها لهم ليسلوهم بها عن المصائب التي جَرَّتها عليهم أنانيتهم، وشيء زيّنته لهم التطورات المتلاحقة في العالم، والداعي الأصيل إلى ذلك في نفوسهم هو حب المال، إذ كل شيء عند هؤلاء القوم ما عدا المال هو وسيلة لا مقصد في الفلسفة اليهودية، وقد كذبوا وعد الله لهم على لسان موسى من أن الأرض المقدسة كتبها الله لهم، وكتب لهم فيها التمكين إذا أخذوا بأسبابه وأهمّها القتال، وهم لا يحبّون القتال لأنه يؤدّي إلى القتل وهم أحرص الناس على الحياة. ولو أن أمة غير الأمة الإسرائيلية كانت سليمة الفطرة، وكانت سليمة النفوذ من آثار الاستعمار الفرعوني الطويل سمعت من نبي كموسى عُشُرَ ما سمعه بنو إسرائيل من موسى من وعد الله إياهم بالملك والتمكين إذا أخذوا بأبسط الأسباب لذلك لأقبلوا على الموت مستبشرين، ولكن بني إسرائيل كذَّبوا وعد الله ولم تفدهم مواعظ موسى في تلك القلوب الغُلْف وفي تلك النفوس التي قتل الذل منها كل عرق يخفق بالعِزّة، وما هو إلا أن جاوزوا البحر وأهلك الله عدوّهم وهم ينظرون، حتى حنوا إلى ما كانوا عليه من ذل واستعباد ووثنية هي من آثار الذل والاستعباد الطويل، فأَغْواهم السامري واتَّخذوا عجلًا من ذهب وعَكَفوا عليه وقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، وقالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وإنك لا ترى في تاريخ الأمم النفسي أخلاقًا أفسدها الاستعباد ولم ينجح فيها علاج الأنبياء ولا معجزاتهم، وهم أطباء الأرواح المريضة، كما ترى في أخلاق هذه الأمة المتبجحة باصطفاء الله لها دون الأمم. سقنا هذه الكلمة القصيرة المجردة من التنسيق التاريخي لنرى أن هذه الأمة ليست أمة مُلْك في تاريخها الطويل، وأنها لا تملك وسائله التي يملكها غيرها، فإذا قام لها ملك ففي ظل النُبُوَّة والخوارق وهي وسائل غير كسبية، وإذا تقلص عليها ذلك الظل تداعت عليها الأمم وأوْسعتها قتلًا وسبيًا وتحيفًا، ولم يزل هذا دأبهم إلى أن جاء الإسلام. جاء الإسلام وكان من مقاصده الأولى بناء المملكة الإسلامية على صخرة السنن الإلهية والأسباب والمسببات لا على الخوارق، وكان من مقاصده نشر هدايته وفضائله في أرض النبوات الأولى بعد تطهيرها من الجبروت الروماني ومن الاستخذاء اليهودي، وإنا لنتلمح في قصة الإسراء والمعراج- وهما من صنع الله- ثم من اتجاهات نبي الإسلام وتوجيهاته ما يشعر بأن فتح الإسلام لمواطن الأنبياء ومدافنهم كان هو المقصد الأول للإسلام، وكأن

خروج النبي بنفسه إلى تبوك من طريق الشام رمز إلى ذلك وإيحاء به وإنذار للرومان، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش مُؤْتَة لقتال الروم ومن يُواليهم من العرب والأنباط في مشارف الشام أنه خطوة ثانية ثم نتلمح في تجهيزه لجيش أسامة وهو في مرض موته تأييدًا لتلك المرحلة، وكلّها إنذارات للروم حقّقها ما بعدها. تمّ فتح المسلمين لفلسطين في أيام عمر، وكان هذا الفتح كسائر الفتوحات الإسلامية يحمل الهدى والسلام ويفتح الأذهان قبل البلدان، وكان ينطوي على معنى الثأر لموسى ودينه وقومه اليهود لو كانوا يعقلون، فقد قطع دابر الرومان ودولتهم من فلسطين، وطهّرها من ظلمهم واستعبادهم لليهود، فلم يروا ناصرًا قويًا مثلما رأوا في الإسلام لو كانوا يقدّرون النعمة ويشكرونها، وبفتح المسلمين لفلسطين وفيها بيت المقدس رجع إرث النبوّة إلى النبوّة واجتمعت مساجد الإسلام الثلاثة في يد واحدة قوية قادرة على حمايتها، وعادت القبلة الأولى إلى الوجوه التي كانت تستقبلها وإلى النفوس المطمئنة لعبادة الله وحده فيها، وإلى الأيدي القادرة على حملها، وإلى أبناء العم لو كان اليهود يرعون للأرحام حرمة، وفي فتح أصحاب محمد لبيت المقدس تتجلى الفروق بين الطبيعتين العربية واليهودية، وشتان ما بين من يبذل مهجته في سبيل الله وتثبيت دينه الحق في الأرض، وبين من يكذب وعده ويشترط على رسوله، ويتألَّى عليه أن يؤتيه الملك والعز وهو نائم ناعم ويستعلي على خلقه. ... قضية فلسطين في جوهرها وحقيقتها واعتبارها التاريخي قضية إسلامية من حيث إن فيها المسجد الأقصى ثالث المساجد المقدسة في حكم الإسلام، وهو أول قبلة صلى إليها المسلمون قبل الكعبة، ولئن نسخ هذا المعنى فإن الخصائص الأخرى من الاحترام الديني وشد الرحال إليه لم تنسخ، وان المتوسمين في آيات الله المستخرجين لدقائق الحكم منها يتلمحون من الأسرار في اختيارها قبلة أولى وفي كونها كانت نهاية للإسراء وبداية للعروج ما يضعها في موضع من الاحترام يوجب الدفاع عن مشاعرها، ودفع كل معتدٍ على حرماتها أن تدنس بوثنية، وتطهيرها من كل من يريد بها شرًا أو يريد فيها بإِلْحاد وإنها ميراث النبوّة وضعه الله في أيدٍ قادرة على حمايتها، وقد دافعت عنها بالفعل، وأقامت البرهان على اضطلاعها بحمايتها مدة أربعة عشر قرنًا كاملة، وحاربت عليها أمم الأرض، وما سلبها الله من اليهود وأورثها المسلمين إلا لأن اليهود كانوا أعجز الناس عن حمايتها. ومن حيث أن فيها الصخرة التي هي أول محطة لاتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي كان سببًا فيما فاض على الأرض من بركات السماء، ولو شاء الله لكان المعراج بعبده

محمد من مكة التي هي موطنه ولكن كانت له في هذه الرحلة الأرضية حِكَم ولنا فيها عبر، فقد كانت رمزًا إلى أنَّ مُلْكَ الإسلام سيتسع حتى يبلغ في مرحلته الأولى ممالك النبوّة قبله ومواطنهم ومواطئ أقدامهم ومدافنهم، وسينشر فيها هدايته وسَيَبْسُطُ عليها حمايته وكذلك وقع، ومواريث النبوّة لا يستحقّها إلا الأنبياء والمضطلعون بها من أممهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «زُوِيَتْ لِيَ مِنَ الْأَرْضِ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا». ... من التزوير على التاريخ أن يقال إن اليهود احتلّوا فلسطين بالقوة العسكرية كما يحتل القوي الغالب أرض عدوّه الضعيف المغلوب، ألَا إن كلمة الحق التي يقف الواقع بجنبها شاهدًا لا يكذب هي أن ملوك العرب وزُعَماءَهُم المتحكمين في مصائرهم المنفّذين لإرادة المستعمر هم الذين سلّموا فلسطين لليهود سائغة هنية وحقّقوا للإنجليز غايتهم وما شرطه اليهود عليهم من تسليم فلسطين فارغة من العرب كما تسلم الدار المبيعة فارغة من الساكن، فاصطنعوا لذلك التسليم المقرّر وسائل وأعذارًا من التخاذل والمشاكسات بين القادة العسكريين حتى تمّ الأمر بذلك التسليم المهين، وكلّ ذلك تمَّ وفق خطة مدبرة متصلة الحلقات من الانجليز وأعوانهم منا في مقابلة نفع مادي شخصي زائل ومناصب مضمونة لعدة رجال من العبيد باعوا قومهم بتلك الوظائف، وما زلنا نراهم رأي العين يتقلبون في تلك الوظائف الذليلة وينفّذون أغراض الاستعمار ويدافعون عنها، وقد حنّ لهم الدهر فنالوا ما نالوا. فيا ويحهم ان عَقَّهم الدهر وصحا من تلك اللوثة، وما صحوه منها ببعيد، وما مصرع فاروق وعبد الله ببعيد من الذين باعوا فلسطين بالثمن الزهيد، ومهما تكن تلك الوظائف مضمونة من الانجليز فإن وراءها الموت والعار والسبّة الخالدة ووراءها هبة الشعوب وثورات المكبوتين. أما الصهيونية فهي قديمة ولقد كانت في مرحلتها الأولى نسيجًا من أحلام وخيالات وأماني، ولكن كثرة ملابسات القائمين بها للدول الاستعمارية نقلتها من طور إلى طور حين وجد كل من الاستعمار الأوروبي والصهيونية في صاحبه عونًا ومساعدًا على أغراضه، ولم تزل المصالح المادية تقرب بينهما حتى اجتمعا في بعض النقط فتعاهدا على تقارض العون والمساعدة إلى نهاية الشوط، وصاحب ذلك ضعف الشعوب العربية وإحباطها وجهلها، فكان ذلك كله معينًا على تنمية الفكرة، وجاءت الحرب العالمية الأولى والعرب على تلك الحالة فاتفقت دول الاستعمار على تشتيت العرب وتمزيق أوطانهم واستغلال الكنوز التي يجهلونها في أرضهم وأهمها البترول، ولما كان نظر الاستعمار بعيدًا وعلم أن انتصاره في تلك الحرب يضمن له تشتيت العرب وتمزيق بلادهم ولكنه لا يضمن له بقاءهم على تلك الحالة طويلًا فرأى أن يرميهم بالداهية الدهياء وهي تحقيق الوطن القومي لليهود.

مداعبات إخوانية

مداعبات إخوانية

إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي

إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي * كنتَ أهديتَني زجاجةَ عطر … يبعث النشوتين تِيهًا وفخرا أَبِأَنفاس جِلِّقٍ مَزَجُوهُ … فأتى بالعبير يزخر زخرا أم ربى النَيْرَبَين قد علمته … كيف يحيى الجماد إنْ مسّ صخرا ولو اني إذْ ذاك أوتيتُ رشدي … صنته في خزائن الصون ذخرا ولَحرَّمتُ أن يمس أُنُوفًا … أو ثغورًا سُودَ الطواحن بُخْرا غير أني فعلتُ ما يفعل العا … صف يذرو بنات مَخرِ وَمَخرا (1) نازعتْنيه بالأكف رجال … ليس يألون للنفائس دَخرا (2) تركوا الظرف كالخلية هفا (3) … وألّحوا فعاد كالعظم نخرا وجزاء الجميل ذكر وشكر … فاغنَمِ الحسنيين وابعثْ بأخرى

_ * باكستان، ماي 1952. 1) بنات مَخر: سحائب بيض رقاق تأتي في قُبُل الصيف، ولكن الرياح تمزّقها بسرعة، ومَخر أبوهنّ على التوهم، كما يتوهم الشعراء في بنات نعش أنّ لها أبًا هو نعش، ويصفونه بأوصاف متخيلة منتزعة من أوصاف الأبوة الشائعة في عالم الحيوان، قال ابن هانئ في فائيته التي تساوي ديوانه كله: كَأَنَّ بَني نَعْشٍ وَنَعْشًا مَطافِلٌ … بِوَجْرَةَ قد أَضْلَلْنَ في مَهْمَهٍ خَشْفَا 2) دخرا: إهانة وإذلال، وفي القرآن الكريم: {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}. 3) الهف: خلية الشهد بلا عسل وسنبلة الزرع بلا حبّ والسحابة من غير ماء.

"كلية" الأعظمي

"كليّة" الأعظمي * غيري تراه قانعًا غير ظمي … للعمل المرتّب المنظّم أما أنا فلو هشمت أعظُمي … لم أستسغ صنع أخينا الأعظمي … ومن يسيغ خردلًا بالخلّ؟ … يا عبرة غطت على كل العبر … المبتدأ من فعله صار الخبر ولو جرت أحكامه على الإبَر … صيرها مثل الصواري في الكبر … وقال للناس اقعدوا في الظل … مدرسة حبتْ خطًى وما مشت … صورها كلية فانتفشت ولو دعاها معهدًا لانتعشت … وانصرفت لها العيون وعَشَت … وأصبحت أهلًا لحمل الكَلّ … لا تعظم الأشياء بالأسماء … ولا يقاس النور بالظلماء إن سراب البيد غير الماء … وإن دعوت النهر بالدأماء … جعلت كل عائب في حِل … فكن حكيمًا صادقًا في الوصفِ … وكن صناعًا ماهرًا في الرصف ولا تسوّ ثمرًا بالعصف … فالحكم للشيء بحكم النصف … كالحكم للجزء بحكم الكلِّ … كلاهما غشّ وأيّ غشّ … ينفح أهليه بريح الحُشّ ويورد الظمآن رشحَ النشّ … يا مَنْ وصفت جلمدًا بالهشّ … اِنطحه يشهدْ عمرك المُوَلِّي …

_ * باكستان، ماي 1952، وقد أشار الشيخ إلى هذه "الكلية" في هذا الجزء من آثاره، [ص:52].

إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري

إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري * لك الخير، إني عن "كراتشي" لَراحل … على غير ما كانت تشد الرَّواحلُ ستحملني في الجوّ مرتاعة الحشا … يَدين لها القاصي وتطوى المراحل ... أدرتُ المنى عن مستهل من الحيا … يُغاث به قَحْط ويخضرّ قاحل ويسقى به غرس ذَوَى بين أمة … يمسّكها سلك من الدين ناحل ولكن زوى عني الأماني أنها … بلاد بها ربع العروبة ماحِلُ تَقاسَمها الأعجام بعد ابن قاسم … فذاب بها الضاري وغاب الحلاحل وقام بحمل الدين فيها عصابة … "مكاحلهم" يوم اللقاء المكاحل ... سأذكركم والشوق يزداد وَقْده … إذا ما دَنَتْ من "أندونيسيا" السواحل

_ * بعث الإمام بهذه الأبيات يوم مغادرته باكستان، 11 جوان 1952.

إلى الدكتور فاضل الجمالي

إلى الدكتور فاضل الجمالي * تضمنت برقية الجمالي … لفظًا خلا من رونق الجمال إذْ ليس من مراتب الكمال … وليس من محاسن الخصال أن تدعو الضيف ولا تبالي … رفيقه الحقيق بالإجلال تعدني إنْ زرتُ باحتفال … متوج بالبشر والإقبال بشرط أن أزور كالمحتال … وآمن من تابع أو تال تحسبني طفلًا من الأطفال … يصاد باللطف وبالدلال يخدع في الموجود بالمحال … ويؤثر النفس على العيال يا حضرة الدكتور ذي الأفضال … مالَكَ لا تعبأ بالرجال ولا تجيل الرأي في مجال … من قبل إقدام على الأفعال هذا الذي ترميه بالإهمال … أحق بالتعظيم والإجلال هذا فتى أضحى من الأبطال … وزاد في الفضل على الرجال رأي رَمَى الآراء بالإبطال … وعزمة كالنار في اشتعال وجرأة كالليث في الصيال … وهمة كالنجم في التعالي ما زال مذْ شبّ على الفصال … وعرف اليُمنَى من الشِّمال حربًا على الطغيان والضلال … سلمًا على الإصلاح والإجمال سهمًا مصيبًا في حشا الأنذال … مثل شهاب الرجم في الثلالي يقذف كل خادع محتال … ولم يزل يخطُر كالرئبال ماضي الشبا محدّد النصال … مهيأ للذود والنضال أترتضي وأنتَ ذُو الأعمال … لقومك العرب وذُو الآمال

_ * مداعبة من الإمام إلى صديقه الدكتور محمد فاضل الجمالي بعد دعوة وجّهها إليه ببغداد، دون إشراك الأستاذ الفضيل الورتلاني.

بأن يروك ماضيًا في الحال … وواقفًا تندب في الأطلال وعاكفًا في الدِّمن البوالي … تبكي على عمارها الخوالي منتصرًا لعصبة جهّال … صيرها الظلم إلى الزوال يا سوءَ حظ اليمن المحلال … وشؤمَها إن انبرت للفال وبخسها في الوزن والمكيال … وغبنَها في الحال والمآل أن كان مثل فاضل الجمالي … في علمه وعقله الصوّال وروحه وفكره الجوّال … يأسى على طاغوتها المزال من شدّها بأوثق الأحبال … وسامها بالقهر والإذلال وسامها بالفقر والإقلال … وراضها بالسجن والأغلال وعهدها وهو عليها الوالي … أدهى من الطاعون والزلزال فكم رأت فيه من الأهوال … والنُّوَب الفظيعة الثقال والكُرَب الكثيرة الأشكال … والعُقَد العويصة الإشكال ومن وباء سيط بالوبال … ومن خباء نيط بالخبال وعاد من فظاعة الأحوال … عهد "سَبَا" في سالف الأحوال أضحت بنوه من فساد الحال … والظلم من إمامها الدجّال عطشى وماء النهر كالجريال … منهمر بعذبه السلسال جائعةً والقوت كالرمال … فقيرةً وهي ركاز المال عاريةً حتى من الأسمال … والحوكُ في جدودها الأوالي قد كان فيهم مضرب الأمثال … عزلاء حتى من عصيّ الضال والسيف فيها أحد الأنجال … شقيةً بالظلم والنكال والسعد قد كان على الأجيال … وسْمًا لَها وشارة احتيال وتُربُها قد ثار عن غلال … وعن جنًى غض وعن ظلال وماؤها ينساب كالصلال … بين الصخور الشم والتلال من هم غيوث البذل في النوال … وهم ليوث الغاب في الصيال في النسب العد الصميم العالي … والحسب العريق في الجلال ما لكِ يا مُنْبِتة اللآلي … والحجر الحرّ الكريم الغالي ما لك يا منتجة الأبطال … ذوي الحفاظ المر والفعال ما لك يا مزرعة الغوالي … عزت عن الأشباه والأمثال ما لك يا منبتة العوالي … من الرماح الذبل الطوال أصبحت فى جدب وفي امحال … جرداء مثل الغادة المعطال وصرت بعد الحسن والجمال … شَوْهاء مثل البائر المتفال

ما لبنيك النجب الأبطال … أضحوا على الأيام والليالي بعد الهدى في التيه والضلال … وبعد وَسْمِ المجد في الأغفال شِدتِ لنا في الأعصر الخوالي … حضارة مَدَّت على الأجيال رِواق عزّ بحلاها حالي … وخُلِّدَتْ آثارُها الغوالي صحائف في الكتب والرمال … بدائع المفتنِّ والمثّال لم يجر منشيها على مثال … ولم تزل آياتها في الحال سحر النهى وفتنة الخيال … وعقلة العقل وشغل البال حتى أتت حثالة الأنسال … وعصبةُ الفسَّاق والأنذال رهط الخنا والغيّ والمِحال … من كل عيّ مائق تنبال لم يجر لولا شخصه بالبال … محارب لله لا يبالي مستقذر الإزار والسربال … مستقبح العثنون والسبال كأنما صيغ من الأوحال … أو من رجيع الحمر والبغال أسيمر الجلدة ذو اختيال … متصل المنكب بالقذال وإن عددته من الجهّال … فالجهل لا يرضى به بحال عاثت عياث القرد والثعالي … وداستْ الأحرار بالنعال وحكمت أهواءها في المال … والعرض والابشار والأحوال أَنَرْتَجي العدل من العذال … ونَطْلُبُ النصر من الخذال؟

جمعية

جمعية جمعية تداعتْ … بقوة الإيمانِ لردّ ما أضاعت … من هديها الروحاني وهدم ما أشاعت … عصائب الشيطان وكفّ ما أذاعت … بالإفك والبهتان تُحيي لنا ما اسطاعت … هداية القرآن قد أدبرت وارتاعت … كتائب الطغيان وأقبلت وانصاعت … طوائف البرهان فَلْيَهْنِها ما ابتاعت … من تُحف الرضوان إذا العقول جاعت … حامت على الأوثان أو النفوس الْتاعت … هامت بدين ثاني وخسرت إذ باعت … بَاقِيَها بالفاني ... القلب لا ينساها … في سائر الأحيان ولم تزل ذكراها … وظيفة اللسان لعلّ أو عساها … ترقى إلى كيوان بالغة مناها … في المال والسلطان

الطائرة

الطائرة دعا بي الشوق إلى الترحالِ … والشوق إنْ يدعُ غرلم كالِي فلم أودّع طلّتي وآلي … حتى امتطيت جمة التصهال بهيمة صيغت على منوال … واجتمعت والطير في مثال تدين بالإسراع والإعجال … لا تقتضي بالريث والإمهال طعامها النار ولا تبالي … تحيا على الإحراق والإشعال فاعجب لها مشدودة الرحال … بالليل والإبكار والآصال سمينة في الخصب والإمحال … وثيقة الأضلاع والأوصال لم تَشْكُ من أين ولا كلال … قد جمعت غرائب الأشكال طيارة تهزأ بالجبال … وبالشعاب الخضر والأوحال وبالروابي الغبر والتلال … ما وطئت قط على الرمال إلّا بقدر الرفع والإنزال … إن حركت زفت زفيف الرال وزأرت في الجو كالرئبال … كأنها سفينة في الآل وآية العلم بكل حال … مبصرة جلت عن الجدال وتقطع الألف من الأميال … في مثل عمر ساعة الوصال بالطير لا بالوخد والأرقال … يا حسنها قريبة المنال لو لم تكن مدنية الآجال … أن بليت بالنقض والإخلال لم تعتمد إلّا على عز وآل … يا سعد دالت دولة الجمال فاسعد إذا ما شئت باشتمال … لا تخش من ملامة العذال بما جرى ذكرك في الأمثال … عوذتها بكلمة الجلال وبالحواميم وبالأنفال … وما أتى فى سبعه الطوال نؤم نجدًا برزة المجالي … ذات الرّبى والأكم الحوالي

بالنور والحصباء كاللآلي … سحر النهى وفتنة الخيال ومبعث الشعر الرصين الغالي … ومرتمى شوارد الأمثال ومنبت الأمجاد والأبطال … مجلى البيان الحر والأمثال فاض على الملوك والأقيال … والحق النساء بالأطفال وفار من نميره السلسال … فجال بين جالها والجال ... زرنا سعودًا كعبة الآمال … وواحد الآحاد في الرجال ومورد القصّاد والحلَّال … ومصدر النزاع والنزال شب مع التوحيد والكمال … على التُّقَى وصالح الأعمال مملكة مشدودة الأوصال … بالعلم والعقل وبالرجال محمية الغابات بالأشبال … محبوكة الأطراف بالعمّال موزونة الأبعاد والأطوال … محدودة بالسيف من أوال إلى حدود الشام والعوالي … محفوفة بالسعد والإقبال

إن أردت

إنْ أردتَ إنْ أردتَ الدهرَ تغدو … كاتبًا يعلو ويُعْلَى ثم تغدو صحفيًا … من ذَوِي "الأهرام" أعلى لاتَخَفْ فالأمر سهلٌ … ممكنٌ صنعًا وجَعلا قم فدجّل ثم ضلّل … واجعل المرأة بعلا واجعل الكنية صونًا … لا مرئي قد ساءَ فعلا فلكم غطت سخيفًا … ولو ان الاسم يعلى وامنح الطاج أجرًا … وامنح الكاتب جعلا واجعل العنوان تاجًا … واجعل الامضاء نعلا واملإ الجسمَ هواءً … وفقاقيعَ وسعلا واجعل الخادع برا … واجعل الاسفل أعلى وادْعُ بالخير لحيّ … ضم دكوان ورِعلا فإذا أنتَ بهذا … كاتب قولًا وفعلا وإذا بحّ حمار … دع نعم دأبًا ودع لا ... إنْ أردتَ الدهر تغدو … شاعرًا يَرْعَى وُيرْعَى فاجعل الألفاظ أصلًا … والمعاني الغرّ فرعا واجعل السخف مجنا … والخنا ترسًا ودرعا وإذا نابك نَقد … لا تضق بالنقد ذرعا إنما الناس سَوَامٌ … في مراعي الجهل صرعى

إلى الأستاذ صالح الأشتر

إلى الأستاذ صالح الأشتر شائنك الأبتر … يا صالح الأشترْ إن كان من لحم … فأنت كالنشتر نثرك قد جارى … نظم أخي ششتر الناس أسقاط … فَبِعْ ولا تشتر والأصل ختار … وفرعه أختر والدهر ذو هُتر … وأهله أهتر كلهم دونًا … عمّم ولاتختر إيّاك أن تعيا … في النص أو تفتر إن ضاقت الأرض … فبطنها أستر والعرب في مصر … كالعجم في تستر أنثاهم زن … وبنتهم دختر ويومهم جورٌ … وقلبهم أفتر وأمسهم كَلّ … وبيتهم دفتر سوآتهم كثر … ماضمّها دفتر من مان في شفع … كذبْه إن أوتر حسامه أمضى … وقوسَه وتر في شرّه أعطى … عن خيره قتّر قد ساءت الحال … ورثنا يستر

غار على أحسابه

غار على أحسابه غار على أحسابه أن تُمتهنْ … حرّ على مجد الجدود مؤتمنْ فما ونى في حفظه ولا وهن … سيف من الرحمن مطرور الشبا ... بيضتَ وجه العرب في المجامع … أبلغتَ صوتهم إلى المسامع فخاب كل طامح وطامع … وغض من سَوْرته واكتأبا ... أوقرتَ سمع المبطلين حججا … فاعترضوا بحرًا يمور لججا ومخطئ في رأيه من هجهجا … بالليث جوعان الحشا ملهبا ... جئناك في وفد وأي وفْدِ … ما منه إلّا بالعزيز يفدي جئناك للأرفاد لا للرفد … وللثنا نسوقه لا للحِبا ... جئناك في الإخوان نزجي التهنيه … لا زلتَ من عيشك في بُلهنيه ودمتَ في خفض وفي رُفهنيه … وكل من جاراك في الفضل كبا ... أبوك في أفق المعالي أسعد … في رتبة علياؤها لا تُصعد لو أن متن كوكب يقتعَد … لما امتطى أبوك إلّا كوكبا ***

كأنه قد سخر البيانا … فانكشف الغيب له عيانا أو أنه قد جاور الريّانا … وحاور الغر الفصاح العربا ... سمعته يخطب في المدينه … شيحان يحمي عرضه ودينه في موقف يُنسي الفتى خدينه … فكان سهمًا للعدى مصوَّبا ... لست إذا أرسلتها يمينا … بخائف في القول أن أمينا لَمن دعاك الحارس الأمينا … ما حاد عن حاق الهدى ولا نبا ***

عبد العزيز العلي المطوع

عبد العزيز العلي المطوع عبدَ العزيز العليا … نلتَ المقام العليَا فالدين كنز ثمين … أصبحت منه مليّا والكف ينهلُّ جودًا … وسميّه والوليّا من يرجُ عندك خيرًا … لم يلق مطلا ولِيّا ان ريع للحق سرب … كنتَ النصيرَ الوليّا رأي وعقل وفهم … يتلو جلي جليّا لو ينشر الله عبسًا … ومازنًا وبليّا الفوك صغت حلاهم … لأصبعيك حليّا قد أورثتك قريش … فخارها النوفليا وقلّدتك تميم … لواءها النهشبيّا إرث العروبة محضًا … مؤثلًا أزليّا حويتَه مُضَريًا … وحُزْتَه وائليّا إن المعاليَ هم … ما بتَّ منه خليّا

الجزء الخامس

ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. الجزء الخامس 1954 - 1964 الناشر: دار الغرب الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــــــ

دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى

آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي

ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ تونس 1961 ــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة - 1 - * لم تفاجئني هذه المجموعة من الوثائق والنصوص التي تحمل اسمين عزيزين على نفسي، أولهما اسم الثورة الجزائرية، وثانيهما اسم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ولا أعتقد أنني الوحيد الذي لا تفاجئه هذه الوثائق، لأن كل عارف بالتطور التاريخي وكل متحل بالإنصاف يعرف علاقة الشيخ الإبراهيمي بالثورة من دون أن تزيده المجموعة التي بين أيدينا إلا قناعة وتأكيدًا، ولذلك قلت إنني شخصيًّا لم أفاجأ عندما اطلعت على ما ترك الشيخ الإبراهيمي من وثائق حول الثورة من بيان أول نوفمبر 1954 إلى بيان أبريل سنة 1964 الشهير، أي سنة واحدة قبل رجوع الشيخ إلى ربه. فقد عشت شخصيًّا تلك الأيام التي ترويها هذه الوثائق رغم أنني كنت ما أزال في سن مبكرة وكنت أتتبع مواقف جمعية العلماء منذ 1947. ومن ثمة لم تفاجئني البيانات والبرقيات والتصريحات والخطب والأحاديث والنداءات التي حررها أو ألقاها الشيخ الإبراهيمي باسم جمعية العلماء وجبهة التحرير الوطني، وإذا شئت باسم الشعب الجزائري، بين 1954 و 1964. ان الذين يعرفون الظروف التي ولدت فيها الثورة، سيما منذ سنة 1945، يدركون أن هناك رجالًا كانوا يُعِدُّون لها بطرق مختلفة، وليس بطريق واحد، فمنهم من كان يعدّ لها بتوفير الأسلحة والتدريب العسكري، ومنهم من كان يحضر لها بتدبير المال والوسائل المادية، ومنهم من كان يخطط لها بالتكوين المعنوي وتربية النفوس على حب الوطن والجهاد في سبيله، ولكنهم كانوا جميعًا يعتقدون ان "دروسهم" لاعداد الثورة تكمل بعضها البعض، وأنه من الخطإ إعطاء الأولوية لهذا المدرس أو ذاك. ولكن بعض المتحزبين

_ * هذه المقدمة كتبها الدكتور أبو القاسم سعد الله لقسم من هذا الجزء صدر تحت عنوان "في قلب المعركة"، الجزائر، دار الأمة، 1994.

المتأخرين لم يرقهم هذا التحليل، ورأوا أن من الوطنية عدم التسامح مع خصومهم الحزبيين، واعتقدوا أن الثورة إنما هي وليدة حزب وليست وليدة شعب، بل هي في نظرهم وليدة جماعة صغيرة كانت تعمل في الخفاء وليست وليدة قيادة وطنية مؤمنة وعريضة كانت تعمل سرًا وعلانية. والواقع أن هؤلاء الحزبيين هم الذين ستفاجئهم الوثائق التي تضمنتها مجموعة الشيخ الإبراهيمي اليوم، لأنهم لم يكونوا منصفين عندما لم يقرأوا تاريخ الثورة في كل منعطفاته، أو عندما حصروا الثورة في حزب أو جماعة. ولعلهم كانوا يظنون أن التاريخ لن يبوح بوثائق الإبراهيمي وأمثاله ولن يكشف عن آراء ومواقف جزائريين آخرين لا يقلون إيمانًا (ولا نقول يتفوقون) بالثورة عن الذين أصبحوا معروفين أنهم صانعوها. ولعل من سلبيات الكتابة عن الثورة الجزائرية حتى الآن هو عدم تحديد معانيها ومدلولاتها. فهل الثورة عندنا هي حمل السلاح فقط؟ إن كان الأمر كذلك فإن هناك العديد من الثوريين الذين لم يحملوا السلاح وإنما كانوا اللسان الناطق باسم الذين حملوه، ولولاهم لبقى الثوار في حصار مادي وسياسي ومعنوي قاتل، كما حصل لثوار الجزائر الذين خاضوا الحرب ضد العدو منذ هزيمة الأمير عبد القادر سنة 1847 من دون أن يسمع بهم أحد، مما ساهم في إفشال ثوراتهم، أو هل الثورة هي فكرة تختمر وتنضج حتى تصبح مشروعًا حضاريًّا كبيرًا وعملًا مباشرًا قابلًا للإنجاز؟ أو هي شرارة بندقية ولعلعة رصاص ينطلق من كل صوب لإجبار العدو على التخلي عما اغتصبه اغتصابًا؟ إن الجواب على مثل هذه التساؤلات هو الذي سيُعفي الكثيرين من الكتاب من الخوض في موضوعات أصبحت بلا طائل مثل: من أعد للثورة؟ وما منطلقها؟ وما أهدافها القريبة والبعيدة؟ وما علاقتها بالتراث الوطني؟ وما انتماؤها الفكري؟ كما أنه هو الجواب الذي سيعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وبه ينتهي الجدل العقيم الذي يدور حول دور كل من جمعية العلماء وحزب الشعب في تفجير الثورة، وهو الجدل الذي حاول البعض المزايدة فيه بتقديم أحدهما على الآخر بدون دراية ولا دراسة موضوعية. ونعتقد ان نَشْرَ الوثائق والنصوص التي نحن بصددها سيساعد على وقف ذلك الجدل العقيم، فهي وثائق ونصوص تبرهن على أن جمعية العلماء كانت في الطليعة الثورية وأن رئيسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كان لسانها البليغ المعبر عن توجهاتها وعقيدتها في وقت كانت فيه الأحزاب وقادتها تشهد تحجرًا بل تراجعًا، مما جعلها تواجه أزمات حادة بعثرت كثيرًا من الآمال والعقائد في استراتيجية التنظيم نفسه وفي زعمائه.

إن التفسير الحزبي لتاريخ الثورة قد أساء إلى الثورة نفسها حتى الآن. فمن جهة ندعي أنها ثورة شعبية وتلقائية ومن جهة أخرى ندعي- باسم حزب كذا- أنه لولا الزعيم الفلاني ولولا التنظيم الخلّاني لما كانت الثورة أصلًا، وهذا افتئات على الواقع وعلى حق الشعب في الانتماء والاختيار، ومع ذلك فإننا نذكر، للمقارنة والتوضيح، أن زعماء الحركة الوطنية ليسوا سواء في الثبات على المبدإ، وفي الالتزام بحق الشعب في الحرية والذاتية السياسية، ويبدو لنا أن الشيخ الإبراهيمي، كزعيم وطني، كان الوحيد الذي لم ينحرف عن الخط الذي رسمته الجمعية، كما انحرف غيره من الزعماء عن الخط الذي رسمه تنظيمهم. فقد واصل الشيخ الإبراهيمي الدفاع عن مبادئ الجمعية وحق الشعب الجزائري في التمتع بشخصيته السياسية والحضارية خارج البوتقة الاستعمارية الفرنسية، وقد وقف الشيخ الإبراهيمي مع هذا المبدإ سواء كان في الجزائر أو في الخارج، وعندما أعلن الشعب ثورته كان الشيخ الإبراهيمي أول من احتضنها من الزعماء (نقصد بالخصوص مصالي وعباس) رغم أنه كان في المشرق بعيدًا عن الوطن. وستكشف الوثائق التي نقدمها أن الإعلان عن ذلك الاحتضان والدعوة إلى الالتحام بالثورة كان منذ الأيام الأولى لشهر نوفمبر 1954. ومن الإنصاف أن نقول إن هناك فرقًا بين تبنّي الثورة والدعوة لها وبين الانضمام لجبهة التحرير والالتزام بشرعيتها. والذي يدرس تطور الأحداث خلال خريف وشتاء 1954 يدرك أن اللجنة التي كونت جبهة التحرير وأعلنت الثورة لم تكن معروفة حتى لزعماء الحزب الذي خرجت منه، فما بالك بقادة التنظيمات الأخرى، ولا سيما من كان منهم بالخارج مثل الشيخ الإبراهيمي. ومن الطبيعي أن يبادر الشيخ الإبراهيمي إلى تأييد الثورة والدعوة لها دون التسرع في الانضمام للهيكل الذي يقود الثورة، وهو جبهة التحرير، وإذا كانت جبهة التحرير غير معروفة في أول الأمر حتى لأقرب الناس في الحزب الذي خرجت منه فمن باب أولى وأحرى ألا تكون معروفة للشيخ الإبراهيمي وغيره من الجزائريين. حقيقة أن الجبهة قد عينت ممثلين منها في الخارج، وكان مقر هؤلاء بالقاهرة أيضًا، ولا شك أن الاتصالات قد وقعت بين هؤلاء وبين الشيخ الإبراهيمي، ولكن هؤلاء الأعضاء كانوا أيضًا مجهولين لدى الشيخ الإبراهيمي، وكانوا قبل الثورة مجرد ممثلين لحزب له زعيم معروف للشيخ الإبراهيمي، فإذا بهم يصبحون ممثلين لتنظيم آخر ليس له زعيم معروف. إضافة إلى ذلك فإن الصلة الوطيدة التي كانت بين بعض أعضاء مكتب المغرب العربي وبين السلطات المصرية كانت لا تساعد الشيخ الإبراهيمي على إعلان تأييده السريع لجبهة التحرير من أول وهلة، مكتفيًا بتبني الثورة باعتبارها حدثًا شعبيًّا وتاريخيًّا، في انتظار انجلاء الوضع عن هيكلة الثورة وقيادتها الجديدة.

وأن من يطالع (بيان أول نوفمبر) سنة 1954 يلاحظ، بدون شك، أن هناك غيابًا لمبادئ جمعية العلماء التي رسمتها للجزائر ماضيًا ومستقبلًا، كما يلاحظ أن البيان لا يجيب على بعض النقاط بوضوح كالهوية والإسلام والعروبة، وأنه ليس ميثاقًا أو عريضة مرجعية ذات فلسفة وتصورات حضارية، وإنما هو وثيقة سياسية- صحفية- كتبت فيما يبدو على عجل وصيغت في عبارات بسيطة وعملية. فكيف نتوقع أن يتبنى الشيخ الإبراهيمي ذلك البيان على علاته، وهو الأديب النابغ والممثل الرمز لجمعية أخذت على عاتقها استرجاع الشخصية العربية- الإسلامية للجزائر؟ نقول هذا لكي يكون مفهومًا عند من لم يفهم بعد لماذا احتضن الشيخ الإبراهيمي الثورة من أول وهلة ولم يفعل ذلك مع جبهة التحرير، ولكي يكون مفهومًا أيضا أن بضعة أسابيع، وربما بضعة أشهر، قد مرت خلال سنة 1954، دون أن يربط كل الجزائريين اسمَ الثورة باسم جبهة التحرير، والمعروف أن المسألة ظلت في الخارج بدون حل إلى مارس 1955، عندما تكونت في القاهرة جبهة أخرى سمّيت "جبهة تحرير الجزائر" حضرها ممثلون عن كل الاتجاهات الوطنية، بما فيها وفد جبهة التحرير الوطني. وببدو أن الشيخ الإبراهيمي قد لعب دورًا أساسيًّا في تكوين جبهة تحرير الجزائر المذكورة وفي لملمة أطراف كانت متباعدة مثل ممثلي مصالي وممثلي مكتب المغرب العربي. وقد جاء في البيان الصحفي الصادر عن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة (21 مارس 1955) بعد إعطاء تفصيل عن الوضع العسكري والسياسي في الجزائر ما يلي: "من أجل ذلك اتحدنا نحن الجزائريين المسؤولين المقيمين بالقاهرة، في جبهة واحدة، هي (جبهة تحرير الجزائر) عاملين على مساندة الشعب الجزائري في كفاحه القومي من أجل الحرية والاستقلال". ونود أن نبدي ملاحظة هامة هنا، وهي أن رأي الشيخ الإبراهيمي عندئذ لم يكن مجرد رأي سياسي يعبر عن قبول كذا أو رفضه، مثل بقية الزعماء، وسواء تعلق الأمر بممثلي جبهة التحرير الوطني أو تعلق الأمر بالسلطات المصرية، فإن رأي الشيخ الإبراهيمي كان عبارة عن (فتوى) تقول للشعب الجزائري إن الجهاد قد حق عليك وإن السلطات الفرنسية في الجزائر إنما هي سلطات كافرة يجب مكافحتها شرعًا. بالإضافة إلى الوزن السياسي لهذه الفتوى، فالشيخ الإبراهيمي كان من رجال الدين البارزين وكان مشهودًا له بالتعمق في الفقه والأصول وأحكام الشريعة الإسلامية، وكان زعيمًا لهيئة تجمع إلى الدفاع عن الدين الإسلامي حرية التعليم العربي، وإحياء الشخصية العربية- الإسلامية، ولذلك قلنا إن رأيه ليس في وزن رأي زعيم آخر في بلاده أو في خارجها، فقد كان ينظر إليه على أنه يمثل فتوى شرعية للجهاد والتحرير، وستلاحظ أن العناوين وروح المقالات التي ستقرأها مليئة بالعبارات الدينية والجهادية، مثل (الرضى بسلب الدين كف)، ومثل (موالاة المستعمر خروج عن الإسلام)، كما أنها مليئة بقوة البيان وبلاغة الأسلوب، وهو أمر قامت عليه شهرة الشيخ الإبراهيمي أيضا كحافظ وأديب ولغوي.

وتضم مجموعة الوثائق قضايا أخرى عديدة لا سبيل لذكرها جميعًا، وإنما نكتفي بالإشارة إلى بعضها مصنّفة هكذا: 1 - العروبة والإسلام، وهو الموضوع العزيز على الشيخ الإبراهيمي الذي جعل منه شعار جريدة «البصائر» عند توليه تحريرها. 2 - اللغة العربية والتعريب في الجزائر، وقد عالج هذا الموضوع في عدة مناسبات منها الرسالة التي بعث بها إلى مؤتمر التعريب في الرباط، ومداخلته في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 3 - تاريخ الجزائر عمومًا ولا سيما منذ الاحتلال، فقد خصص لذلك مقالات منها (صفحات مشرقة في تاريخ الجزائر)، و (يوم الجزائر الثائرة)، و (الإسلام في الجزائر)، إلخ. 4 - الربط بين التاريخ الإسلامي وثورة الجزائر، وقد تمثل ذلك في مقالاته (عبرة من ذكرى بدر)، و (نفحات من فتح مكة)، و (شرعة الحرب في الإسلام) و (من وحي العيد). 5 - الصلة بين قضية الجزائر والدول الإسلامية مثل دور الدول الإسلامية في المؤتمر الآسيوي- الافريقي (باندونغ)، وأسبوع الجزائر بالعراق، و (يوم الجزائر)، وغيرها من الكلمات التي ألقاها في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، والبرقيات التي وجهها إلى بعض الملوك والرؤساء العرب والمسلمين. 6 - الأدب والثقافة، وفي هذا النطاق نجد الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الثالث للأدباء العرب، وهي عن حرية الأديب، ثم النهضة العربية في الجزائر، ثم حياته هو الشخصية "أنا" ... وقد شاء القدر أن يكون آخر عمل في المجموعة وفي عهد الاستقلال هو: خطبة الشيخ الإبراهيمي في أول جمعة صليت في مسجد كتشاوة بعد إعادته لحظيرة الإسلام إثر غياب دام قرنا وثلاثين سنة، وكانت الخطبة رمزية فقط فهي لا تمثل حدثًا أدبيًا بارزًا. كما كان الشيخ الإبراهيمي مشهورًا بذلك في الأربعينات والخمسينات في مثل تلك المناسبات. كما يشاء القدر أن تجمع المجموعة أيضا بيانًا أعلنه الشيخ حول تجربة الجزائر المستقلة على قصرها، وبداية انحراف الثورة عن مسارها. فقد لاحظ الشيخ الإبراهيمي بنظرته الثاقبة أن الثورة التي دعا إليها في نوفمبر 1954 قد حادت عن طريقها منذ برنامج طرابلس والممارسات العشوائية التي تلت الاستقلال وبداية الدخول في متاهة الغموض الفكري والتقليد الأعمى لتجارب

الدول الأخرى والابتعاد عن تجربة الجزائر والمبادئ التي وضعها الشيخ عبد الحميد بن باديس وحافظ عليها الشيخ الإبراهيمي باسم جمعية العلماء. وبذلك يكون الإبراهيمي قد دق ناقوس الخطر في الوقت المناسب، ولكن الآذان كانت صماء فلم تفق إلّا بعد فوات الأوان، أي بعد أحداث أكتوبر 1988 وما تلاها من اهتزازات وتداعيات ما نزال نتجرع علقمها وصابها إلى اليوم. ولكن حسب الشيخ الإبراهيمي أنه أعد جيلًا ثوريًّا ودعا إلى الثورة منذ بدايتها، يوم أن كانت حركة شعبية وجهادية، وأنه حذّر قومه من العواقب الوخيمة يوم أن أصبحت الثورة شعارات وخطبًا ومناصب وأفكارًا مستوردة من كل الأسواق العالمية. ولا حرج عليه بعد ذلك. فكم من نبي أضاعه قومه. مينيابوليس، 18/ 8/ 1993 أبو القاسم سعد الله

- 2 -

- 2 - منذ سنوات قليلة صدَّرت قسمًا من هذا الكتاب حين طبع تحت عنوان "في قلب المعركة". وقد ضمّ عندئذ حوالى أربعين موضوعًا كلها تتناول الثورة الجزائرية من قريب أو من بعيد. ثم بدا للمشرفين على تراث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أن يجمعوا ما نشر في كتاب "في قلب المعركة" مع ما عثروا عليه للشيخ من موضوعات جديدة، أو موضوعات قديمة ولكنها كانت مبتورة وأصبحت الآن مستكملة، وأدخلوها ضمن السلسلة التي تحمل عنوان "آثار الإمام الإبراهيمي". فنتج عن ذلك هذا الجزء الخامس الذي نقدّمه. وهو جزء جمع حوالي خمسة عشر عنوانًا جديدًا، وإذا كان الكتاب الأخير يكاد يكون مقصورًا على الثورة الجزائرية وسيرة الشيخ، فإن الموضوعات المضافة تُوسّع من نطاق معرفتنا لآثار الشيخ الإبراهيمي الأخرى. ففيها موضوعات ذات أهمية، لها علاقة بالأدب والتاريخ وحياة بعض الأدباء والشعراء والمفكرين. إن الطابع المشترك بين موضوعات هذا الكتاب هو تحريرها خلال عشر سنوات (1954 - 1964)، أي مرحلة الثورة والسنتين الأوليين للاستقلال. وهي المرحلة التي عاش الشيخ معظمها في المشرق العربي الإسلامي (1954 - 1962). وعاش أقلها في الجزائر. وسيلاحظ القارئ أن كل الموضوعات تحمل بصمات هذه المرحلة، من تقلبات سياسية وقيادية في المشرق، وتطورات للثورة نفسها، والأحداث الأولى لاستقلال الجزائر. وقد حاولت أن أصنف المواد الجديدة التي لم يضمها كتاب "في قلب المعركة"، فكانت كما يلي:

أ) ـ[الجزائر وفرنسا]ـ: وهي التي لها علاقة وطيدة بالثورة الجزائرية، وتشمل: 1 - اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر (1). 2 - التكالب الاستعماري على الجزائر، وهو موضوع جيد، غير أنه مبتور، تعرض فيه الشيخ للاستعمار، والمقال لا يحمل تاريخًا أيضًا. 3 - الاستعمار والشيطان، مقالة أرسلها الشيخ إلى جريدة الجمهورية المصرية، في مايو 1955، ولا نعرف الآن هل نشرتها أم لا. 4 - الاستعمار الفرنسي في الجزائر، من أهم الموضوعات الجديدة. (انظر لاحقًا). 5 - جهاد الجزائر وطغيان فرنسا، مقالة كتبها بمناسبة يوم التضامن مع الشعب الجزائري في مصر، 15 مارس، 1958. 6 - في الذكرى الأولى للثورة، مقالة نشرت في مجلة "العرفان"، في شهر ديسمبر 1955. 7 - حديث لمجلة جمعية الشبان المسلمين، وفيه إنارات تعبر عن فكر الشيخ وبعض الخلفيات عن حياته. ب) ـ[شخصيات]ـ: ويتضمن مقالات الشيخ عن كامل كيلاني، والدين في شعر شوقي، وفي مهرجان أحمد شوقي، وجمال الدين الأفغاني. ج) ـ[الرسائل]ـ: وهي في الجملة قصيرة عدا تلك الموجهة إلى بعض علماء المملكة السعودية. وتشمل رسالة إلى أبي الأعلى المودودي، وإلى عبد الله كنّون، وإلى جمال عبد الناصر وشكرى القوتلي (رسالة واحدة موجهة للاثنين معًا)، وإلى مفتي السعودية، وإلى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية أيضًا. د) ـ[متفرقات]ـ: وتتضمن مقدمة كتاب العقائد الاسلامية لابن باديس الذي نشره محمد الصالح رمضان، واقتراحًا بتوسيع لجنة الفتوى، وإجازة إلى الشيخ محمد الفاسي. حقيقة أن الموضوع الرئيسي في هذه الآثار هو: الجزائر وثورتها وتاريخها مع الاستعمار الفرنسي وموقف الشيخ من ذلك. وقد نوهنا بذلك في التصدير الذي كتبناه لكتاب "في قلب

_ 1) وهي منشورة أيضا في كتاب فتحي الذيب "جمال عبد الناصر وثورة الجزائر"، دار المستقبل العربي، القاهرة،1984. وسبق لكتاب "في قلب المعركة" أن نشر عن فتحي الذيب أيضًا نص "ميثاق جبهة تحرير الجزائر"، وبين النصين يوم واحد، إذ صدر الميثاق 17 فبراير 1955 واللائحة يوم 18 منه. ونجد نصًا آخر أيضًا بعنوان "بيان من جبهة تحرير الجزائر) فهذه النصوص الثلاثة ليست في الواقع للشيخ الإبراهيمي وحده، ولا تحمل أسلوبه الشخصي وإن كان هو من الموقعين عليها .. ولا تزيد في نظرنا من ارتباطه بالثورة إذ يكفيه النداء الذي وجهه في نوفمبر 1954، وغيره. وكانت تكفي الإشارة إلى مشاركته في إعداد وتوقيع النصوص المذكورة. أما "البيان" فليس من الواضح ما دور الشيح فيه، لأنه قد يكون من إعداد محمد خيضر الناطق- عندئذ- باسم جبهة التحرير في مصر.

المعركة". ونودّ أن ننوه الآن بأمور أخرى. من بين الموضوعات الجديدة والمطولة موضوع "الاستعمار الفرنسي في الجزائر"، وهو حوصلة أربع محاضرات كان الشيخ قد ألقاها على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة. لقد ابتعد فيها الشيخ عن موضوع الأدب والسياسة المباشرة، وعالج فيها تاريخ الجزائر بطريقة تلفت النظر. فكيف عثر الشيخ على المصادر؟ هل اعتمد على حافظته القوية فقط؟ والواقع أنه لم يستعمل الهوامش والتوثيق، ولم يلق المحاضرات من صفحات مكتوبة، وإنما ارتجلها كما هي عادته، ثم كتبها بعد الأسابيع الأربعة المحدّدة. وقد تصرّف في ذلك دون الارتباط بما ألقاه على الطلبة. ولكنه كان موفقًا غاية التوفيق في المنهج. فقسم تاريخ الجزائر إلى مراحل وانتهى به إلى عهد الاحتلال الفرنسي، وتحدث عن دور الأحزاب وجمعية العلماء، ونحن نجد آراء جديدة في هذه الدراسة حول القضايا المعاصرة من وجهة نظر دارس ومحلل ومعاصر، وليس كاتبًا لمقالة أو خاطرة سريعة. وكان الأجدر أن تطبع هذه المحاضرات- رغم أنها غير كاملة- في كراسة وحدها لتعميم فائدتها على الجيل الحاضر. وقد وصف الإبراهيمي منهجه في الدراسة فقال: "وألممت فيما كتبت بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمت، ومن يوم تعربت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي، وهو أطول العهود فيها، مرورًا أهدأَ مما سمعه الطلاب مني وأبطأ" أي أنه توسع في العهد التركي (العثماني) أكثر من غيره، ولم يتوسّع الشيخ في تناوله للاحتلال، وما صاحبه من تطورات سياسية وثقافية واجتماعية، رغم أنه عالج ذلك بتوسع، كما ذكرنا، ونفهم من المدخل الذي كتبه الشيخ لمحاضراته أنه قدمها بعد كتابتها، إلى إدارة المعهد لتطبعها وتوزعها على الطلاب. فهل طبعت المحاضرات فعلًا عندئذٍ؟ إننا لم نجد تعليقًا يفيدنا ذلك (2). ولعل من أفضل ما كتب الشيخ الإبراهيمي في هذه الدراسة هو وصفه للأحداث والشخصيات التي عاصرها أي منذ العشرينات، فقد ألقى أضواء كاشفة على قيادات ذلك الوقت، سيما الأمير خالد، والحاج محمد بن رحال، والدكتور موسى، والدكتور ابن جلول، وهي القيادات التي سماها "سياسية" فقط. كما تحدث عن الحركات الأخرى التي سماها "الوطنية" والتي منها جمعية العلماء وحزب الشعب وحزب البيان. ومن الأسف أن حديثه عن هذه "الهيئات" كما يسميها لم يغط سوى جمعية العلماء، وانقطع النص بعد ذلك. فلم نعرف هل أكمل الحديث عن الحِزْبَيْن المذكورين أو لم يكمله.

_ 2) الجواب عن هذا التساؤل في هامش الصفحة 147 من هذا الجزء (المصحح).

ومن الموضوعات الجديدة التي تلفت النظر أيضا كلمة الشيخ عن المفكر الثائر جمال الدين الأفغاني. فلأول مرة نطلع على تقدير الشيخ للأفغاني في عبارات قوية عرّض فيها "بعلماء القشور والرسوم" الذين ينظرون إلى الأفغاني على أنه "ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين" لأن العالم الديني عندهم هو "حاكي أقوال وحافظ اصطلحات وراوي حكايات". وقال ان "أصحاب العقول المدبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون الأفغاني عالمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعادها سيرتها الأولى، وأنعش جَدَّها العاثر، وجدّد رسمها الداثر". وكانت علاقة الشيخ الإبراهيمي تاريخيًا بفكر الشيخ محمد عبده ورشيد رضا أوضح من علاقته بفكر الأفغاني لأنه كتب بنفسه عن ذلك في عدة مناسبات، وكانت جمعية العلماء تعتمد في ظاهر الأمر مذهب الشيخ عبده وتفضله على مذهب الأفغاني، ولكن الإبراهيمي في كلمته الجديدة ظهر منتصرًا للأفغاني انتصارًا كبيرًا. ومع ذلك فقد كنا نتمنى أن لو تعرض الإبراهيمي إلى صلة مذهب الأفغاني بالفكر السياسي والإصلاحي في الجزائر. ذلك أن كلمته اقتصرت على الحديث عن شخصية وحكمة ودور الأفغاني كوجه من وجوه الشرق والإسلام. تمنى الإبراهيمي في مقالته "فرنسا وثورة الجزائر"- وهي مقالة قديمة أضيف إليها ذيل- أن يقيّض الله لثورة الجزائر مؤرخًا من أبنائها "مستنير البصيرة" مسدد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات" ليكتب "تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات ... بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية وإلى العوامل التي تدفع المقاتلين (الجزائريين) إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول ... " وأضاف "لا نخطط الخطوط لذلك المؤرخ المرتقب، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ، ولا نقدم له صورة هينة، فذلك المؤرخ الذي أعدَّه الله لهذه المنقبة لعله لم يولد بعد، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريًّا". إن هذا الرأي يضع مواصفات المؤرخ الذي سيكتب تاريخ الثورة، كما يضع أيضًا مواصفات للمؤرخ عمومًا، كالثقافة المتينة، وقوّة الاستنباط، والبحث عن العلل والأسباب والغوص وراء الظواهر، ومعرفة الدوافع الباطنية. أتينا بهذه العينات من كتابات الشيخ الإبراهيمي في الموضوعات الجديدة ليعرف القارئ أننا أمام مادة غزيرة أخرى تكشف عن هوية الشيخ المتمثلة في الوطنية والعروبة والإسلام. وعلينا أن نضيف إلى ذلك كتاباته المجهولة عن شوقي في المقالتين المذكورتين إذ يقدم الشيخ فيهما خلاصة رأيه في هذا الشاعر الذي أحبَّ الإبراهيمي شعره حتى كان يحفظ الكثير منه منذ كان في العشرين من عمره. وقد روى في مكان آخر أنه عند توقفه بمصر ممنة 1911 ذهب إلى

منزل شوقي (كرمة ابن هانئ) وقرأ على الشاعر جملة من أشعاره التي وصلت إلى الجزائر، وطالما كان الإبراهيمي يحدثني عن قيمة شعر شوقي ويرويه ويضعه في مصاف أعاظم الشعراء. وأعرف شخصيًّا مدى المودة التي كانت تربط بين الشيخ الإبراهيمي وكامل كيلاني الذي كنت أراه يتردد على مركز جمعية العلماء بالقاهرة حيث مكتب الإبراهيمي وغرفة نومه. ولكني لم أكن أعرف أن الشيخ قد كتب منوهًا بمجموعة من كتب كيلاني، حتى اطلعت على مقالته في هذه الآثار. ويتصل بذلك رسائله إلى كل من المشائخ أي الأعلى المودودي وعبد الله كنون. أما رسائله إلى مفتي المملكة العريية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وإلى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بها، الشيخ عمر بن حسن. وإلى الرئيسين عبد الناصر وشكري القوتلي، فموضوعها مختلف. فالرسائل الأولى تتعلق بالثورة الجزائرية ودور رجال الدين في المملكة وحثهم على دعوة أهل البلاد للتبرع بالمال للثورة كما تقتضيه الأصول الإسلامية والأخوة العربية. وهي رسائل جمعت بين لغة الإبراهيمي البيانية وثقافته الدينية العميقة ومهارته الدبلوماسية أيضا. ويكفي أن نعرف أن هذه الرسائل قد حملها وفد جزائري رسمي كان متوجهًا إلى السعودية. وفي رسالته إلى الرئيسين، ناصر والقوتلي، تهنئة لهما بوحدة مصر وسورية وميلاد الجمهورية العربية المتحدة، وتحذير من المتخاذلين والمثبطين. وقد عشنا معًا هذا الحدث التاريخي، ولكني كنت في أمريكا عندما انهارت تلك الوحدة، فلم أدر كيف كان شعور الشيخ الإبراهيمي عندئذٍ. ولا شكّ أنه قد أصيب بالحسرة والأسى أيضًا، غير أن عزاءه كان في ثورة الجزائر فهي التي كانت تبشر بمستقبل عربي زاهر. وتكشف هذه الآثار أيضًا عن زيارة الشيخ الإبراهيمي إلى الشاعر حافظ إبراهيم سنة 1911، وبعض التفاصيل عن خط سفره من القاهرة إلى الحجاز (بور سعيد، حيفا، تبوك، المدينة المنورة)، وعن دروسه في الأزهر وغيره ثلاثة أشهر على: يوسف الدجوي، والحسين عبد الغي محمود، ونجيب شيخ الرواق العباسي، وسعيد الموجي. وقد ذكر الشيخ الإبراهيمي أن ابن باديس قد تلقاه في تونس سنة 1920 أثناء رجوعه من الشام، وهي معلومة جديدة تدل على التواصل بين الشيخين منذ لقائهما في المدينة المنورة سنة 1913. كما تدل على أن ابن باديس لم يقطع صلته بتونس، فلعله كان يذهب إليها من حين إلى آخر، حتى قبل أن تثير الصحف الاستعمارية الضجة حول زيارته لها خلال الثلاثينات عند ما جاء للترحيب بعودة صديقه عبد العزيز الثعالبي، 1937. وفي إجازة الشيخ الإبراهيمي لمحمد الفاسي لقطة قديمة- جديدة في آنٍ واحد. وهذه الإجازة هي من آخر ما كتب الشيخ (1964) إذ كان عندها على فراش المرض. وهي لا تضيف جديدًا لأسانيد الإبراهيمي العلمية التي نعرفها، ولكن الرجوع إلى أسلوب الإجازات الذي طالما انتقد الإبراهيمي القدماء على تساهلهم فيها أمر يلفت النظر أيضًا.

ان آثار الإبراهيمي ما تزال في نظرنا متفرقة ولم تجمع كلها. ومن الذين نظن أنهم كانوا يملكون منها ويعرفون عنها الكثير أو القليل، كاتبه السيد عبد الرحمن الذي كان المتكفل برقن ما يكتبه الشيخ أو يمليه عليه اختزالًا، والذي كان يقُومُ له بتنظيم كل المواعيد والاتصالات مع الجامعة العربية والسلطات المصرية والجهات والهيئات والشخصيات المختلفة. فهو الذي كان يعرف "أسرار" الإبراهيمي، وقد بقى معه عدة سنوات، بعضها قبل وصولي شخصيًّا إلى القاهرة، خريف 1955. كما أن الشيخ أحمد الشرباصي كان موضع ثقة الإبراهيمي ومحل سره في أمور كثيرة. وكان الشرباصي عندئذٍ شيخًا في مقتبل العمر، نشيطًا في الأزهر وفي جمعية الشبان المسلمين، وفي الهيئات العربية والإسلامية. وكان الإبراهيمي يعامله معاملة خاصة، ويخاطبه بعبارة "ولدنا" ونعتقد أن أوراق عبد اللطيف دراز، والحاج أمين الحسيني، والأمير الخطابي، ومحمد علي الحوماني، وأحمد الشقيري، وشخصيات أخرى مصرية وسعودية وسورية ... تتضمن مجموعة من رسائل الشيخ الإبراهيمي وآثاره المكتوبة الأخرى وعلى الباحثين المهتمين أن يواصلوا البحث عنها. وعندئذٍ لن يكون هذا الجزء الخامس من آثار الشيخ سوى جزء من أجزاء أو حلقة من سلسلة طويلة. 18 رمضان 1417هـ / 27 يناير 1997م. أبو القاسم سعد الله جامعة آل البيت (الأردن)

السياق التاريخي (1954 - 1965)

السياق التاريخي (1954 - 1965) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن إيمان الإمام محمد البشير الإبراهيمي بالجهاد وسيلة لتحرير الوطن من الاستعمار هو من إيمانه بربه الذي أنزل في كتابه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، وأنزل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، ومن اقتناعه بأن الفرنسيين لا يخضعون إلّا للقوّة، حيث كتب سنة 1950 يخاطب الشعب الجزائري ويغرس في قلبه هذه الحقيقة: "إن القوم- الفرنسيين- لا يدينون إلّا بالقوّة، فاطلُبها بأسبابها، وَأْتها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخُذْهُما بقوّة تَعِشْ حميدًا وتمُتْ شهيدًا" (1)، ويضاف إلى ما سبق معرفة الإمام بنفسية الشعب الجزائري الذي فُطر على حُبّ الجهاد، دفاعًا عن دينه، وعرضه، وأَرضِه التي سُمّيت في فترة من تاريخه: "أرض الجهاد"، وسُمّي أحدُ أبواب عاصمته "باب الجهاد" (2). فمسألة تحرير الجزائر عن طريق الجهاد مسألة مفروغ منها بالنسبة للإمام الإبراهيمي، وإن تقول المتقولون، وأَرْجَف المرجفون. بيد أن الإمام كان مقتنعًا أن إعلان الجهاد من غير إعداد للشعب هو إلقاءٌ به إلى التهلكة، وتضحية بأبنائه من غير جدوى، وكان يؤمن أن أهم إعداد لذلك الجهاد هو تحرير عقول الجزائريين ونفسياتهم، لأنه "محال أن يتحرر بَدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا" (3). ولا شك أن

_ 1) انظر مقال: "ويحهم .. أهي حملة حربية؟ " في الجزء الثالث من هذه الآثار. 2) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب 1992، الجزء 1، القسم 1، [ص:64]. وبعد الاحتلال سمته السلطات الفرنسية، "باب فرنسا"، وقد سُمِّيَ أخيرًا باسم المجاهِدَيْن عروج وخير الدين بَرْبَرُوس. 3) انظر مقال: "جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها- 1" في الجزء الثالث من هذه الآثار.

تحرير العقول أصعب وأشق من تحرير الحقول، ذلك أن تحرير الحقول يستطيع أن يقوم به كل شخص، أما تحرير العقول فلا يقدر عليه إلّا راسخ في العلم عميق في الفهم، صادق في العزم، مخلص في القصد. من أجل ذلك قضى الإمام الإبراهيمي أزهر مراحل عمره في تحرير عقول الجزائريين وتغيير ما بأنفسهم، وقد عمل في سبيل هذا الهدف في عدّة جبهات: 1) جبهة الطرقية المنحرفة وعلماء الدين الرسميين، الذين ضلّ سعيهم، واتخذوا الفرنسيين أولياء لهم، ورضُوا بالدنية في دينهم، وأوحوا إلى الشعب الجزائري أن الاستعمار قضاء وقدر لا مرَدَّ له، وأن رفضه ومقاومته محادة لله. وكذبوا، وصدق الله القائل عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}. وهل يوجد من هو أفحش من الاستعمار الفرنسي الذي اغتصب البلاد، واستعبد العباد، وأهان الدين، وانتهك الأعراض، ونشر الجهل، وحرَّم العلم، وأمر بالمنكر ونَهَى عن المعروف؟ 2) جبهة المستَلَبِين، الذين نالوا نصيبًا من الثقافة الفرنسية، فانسلخوا من دينهم، واحتقروا لغتهم، وسخروا من تاريخهم، وكان أكبر همهم أن ترضى عنهم فرنسا، فدعوا إلى إدماج الجزائر فيها طوعًا أو كرهًا. وقد كان الإمام الإبراهيمي يعتبرهم ضحايا يجب إنقاذهم، ومرضى يجب إسعافهم. وقد أرجع الإمام سبب ضلالهم إلى الطرقيين الذين أشاعوا الخرافات، ونسبوها إلى الإسلام، وإلى المستشرقين الذين شوهوا صورة الإسلام، وعرضوه في أبشع الصور تنفيرًا منه. وقد استطاع الإمام أن ينقذ كثيرًا من هؤلاء المستلبين، وأن يعيدهم في ملتهم، بعد أن عرَّفهم بحقيقة الإسلام، وبأمجاد المسلمين التاريخية، ومنجزاتهم العلمية، وقد استفادت الثورة- فيما بعد- مِنْ خدمات طيبة قدَّمها هؤلاء. 3) جبهة "الطرقية السياسية" (4)، وهم الذين أبدلوا الجزائريين "الزعيم" بشيخ الطريقة، وحصروا القضية الوطنية في شخص، وهذا ما سماه بيان أول نوفمبر 1954 "التوجيه المنحرف" للحركة الوطنية، وما ندَّد به مؤتمر الصومام في وثيقته سنة 1956. وقد أشار الشاعر مفدي زكريا إلى هذه الفكرة بقوله: وتأبى الزعامات كبح الطموح، … فتصنع للخُلف شكلًا جديدًا. وتغزو السياسة فكر الزعيم … فيصبح فكر الزعيم بليدًا كأن الزعامة إعصار جان … ولم أر للجان عقلًا رشيدًا (5).

_ 4) نفس المرجع. 5) مفدي زكرياء: إلياذة الجزائر. نشر وزارة الشؤون الدينية، الجزائر 1986، [ص:63]، وانظر مقال: "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

4) الجبهة الفرنسية، فقد عمل على نزع هيبة الفرنسيين ورهبتهم من صدور الجزائريين، وكان يردّد في مقالاته وخطبه أن قوّة الفرنسيين من ضعف الجزائريين، الناشئ عن التفرّق، والجهل، والكسل، ويوحي إليهم بعدم الاستسلام "فلا أظلم من الظالم إلّا من يخضع لظلمه ويحترم قوانينه الظالمة"، و"لا تستيئسوا، إن لم يكن لكم بعض ما لديهم من القوّة المادية، فعندكم من القوّة المعنوية ما لو أحسنتم تصريفه واستغلاله لغلب ضعفكم قوّتهم" (6). وكان يُشيع لفظ الحرية حتى تألفه الأُذُن، ويهفو إليها القلب، وتسعى إلى نيلها اليد، وفي هذا الإطار يدخل وصفُ مؤسسات الجمعية والمنتسبين إليها بالحرية، فمدارسها حرّة، وتعليمها حر، ومعلموها أحرار، ومساجدها حرّة، وصحافتها حرّة .. وقد أشار المسؤولون الفرنسيون إلى بعض أعمال الإمام الإبراهيمي في هذا الشأن، حيث جاء في تقرير والي وهران إلى الوالي العام الفرنسي "إن الإبراهيمي ليس فقط محركًا للضمير العام، ولكنه أصبح المحرك لكل الأنشطة السياسية المحلية الأهلية ذات الطموح المضاد لفرنسا" (7). ومن وسائله في ذلك ما حدّثني به الأستاذ أحمد بن ذياب- في أفريل 1986 - من أن الإمام الإبراهيمي كان ينظم الأزجال باللهجة العامية يندّد فيها بفرنسا، ويدعو إلى عدم رهبتها، والاستعداد لطردها من الجزائر، ويسرب تلك الأزجال إلى المدَّاحين لإنشادها في الأسواق، والمناسبات الاجتماعية والأعياد الدينية. حقق الإمام- وجمعية العلماء- نجاحًا كبيرًا في تحرير عقول الجزائريين، فنبذ أغلبهم الطرقية، ولم يعودوا "فقراء" (8) إلى شيوخها، وتبرأوا من الاندماجيين الذين أصرُّوا على موقفهم، وتخلصوا من ظاهرة تقديس الزعيم وعبادة الشخص، وأخرَجُوا الاستعمار من صدورهم فخرج- بعد حين- من أرضهم. ولاحظ الإمام في جولاته عبر التراب الوطني، وفي اتصالاته بمختلف فئات الشعب أن الوعي قد انتشر، وأن تحرير العقول والنفوس قد تمّ أو يكاد يكتمل، فأيقن أن ساعة فرنسا في الجزائر قد اقْتَرَبَتْ، وأنها آتية لا رِيْبَ فيها، وأدرك أن هذه "الظواهر الهادئة، ما هي إلّا أواخر فورة وأوائل ثورة" (9) و "ليُوشكنَّ أن يغير الله ما بنا بعد أن غيرنا ما بأنفسنا" (10).

_ 6) انظر مقال "دعوة صارخة إلى اتحاد الأحزاب والهيئات" في الجزء الثالث من هذه الآثار. 7) أبو القاسم سعد الله: الشيخ الإبراهيمي في تلمسان، مجلة الثقافة، عدد 101، الجزائر (1988) [ص:87]. 8) يسمِّي شيوخ الطرقيين فى الجزائر أتباعهم "فقراء"، وأنساهم الشيطان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}. 9) انظر مقال: "حقائق" في الجزء الثالث من هذه الآثار، والمقصود بالفورة حوادث 8 مايو 1945. 10) انظر مقال: "فتح جامع الحنايا ومدرستها" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

عند ذلك انتقل الإمام إلى مرحلة جديدة وهي بداية "تدويل القضية الجزائرية"، فسافر إلى باريس مبشرًا ونذيرًا: التقى الإمام وفود الدول العربية والإسلامية إلى مؤتمر الأمم المتحدة، فحياها "باسم الجزائر العربية المسلمة المجاهدة"، وبشر تلك الوفود بقوله: "إن الجزائر ستقوم قريبًا بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربية الإسلامية" (11)، وأنذر فرنسا بأن مرحلة الكلام قد انتهت و"أن بعد اللسان لَخَطيبًا صامتًا هو السنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال ... وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدخرة سيُجَلِّيها الله إلى حين" (12). ثم سافر الإمام إلى المشرق، ليهيئ شعوبه وحكوماته ودوله لمساعدة الجزائر، وقد نجح الإمام نجاحًا كبيرًا في هذه المهمة، دل على هذا النجاح سرعة تجاوب الدول العربية شعوبًا وحكومات مع الشعب الجزائري، واحتضان جهاده، وإمداده بمختلف أنواع المساعدات المالية والعسكرية والدبلوماسية، حيث تكفلت المملكة العربية السعودية بعرض قضية الجزائر في هيئة الأمم المتحدة (13)، وذلك في شهر ديسمبر سنة 1954. وأخذت الصيحة- في أول نوفمبر 1954 - الذين ظلموا، حين أعلن الشعب الجزائري جهاده، فعَقَدت الدهشة ألسِنَة بعض السياسيين الجزائريين، وانطلقت ألْسِنَة "التقدميين" تندد "بالإرهاب"، وتشجب "العنف"، ولكن شخصية واحدة كانت يقظة مع خيوط فجر ذلك اليوم، وعرفت أن الفجر صادق، وأن المؤذن حقيقي، فاستجابت للنداء. إنها شخصية الإمام محمد البشير الإبراهيمي. إن أول مؤيد للجهاد الجزائري هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فقد أصدر مكتب جمعية العلماء بالقاهرة يوم 2 نوفمبر 1954 بيانًا (14)، حَمَل فيه على فرنسا، وحمَّلَها عاقبة ما ارتكبته في الجزائر، وأكَّد لها أننا "سنكون سبب موتها"، ثم ذكَّر حكومات المشرق العربي بواجبها في "إمداد وتشجيع" هذه الحركات المتأججة في المغرب العربي. ثم أكّد ذلك البيان ببيان آخر يوم 3 نوفمبر 1954، حَيَّى فيه الثائرين الأبطال الذين سفَّهوا زعْمَ فرنسا أن الجزائر راضية بها مطمئنة إليها، والذين شدوا عضد إخوانهم في تونس

_ 11) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر مايو - يونيو 1985، [ص:123]. 12) انظر "خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية في الأمم المتحدة" في الجزء الثاني من هذه الآثار. 13) مولود قاسم نايت بلقاسم: ردود الفعل الأولية داخلًا وخارجًا على غرة نوفمبر، قسنطينة، دار البعث، 1984، [ص:203]. 14) انظر مقال: "مبادئ الثورة في الجزائر: بيان مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة" في هذا الجزء من الآثار.

والمغرب، والذين وصَلُوا حلقات الجهاد الذي هو طبيعة ذاتية في الجزائري، ثم ذكَّرهم بجرائم فرنسا في حق دينهم ودنياهم، وأنه ليس أمامنا إلّا "بقاء كريم أو فناء شريف" (15). ثُمَّ عزَّز الإمام ذانيك البيانين بثالث وجَّهه إلى الشعب الجزائري المجاهد، حياه فيه، وذكَّره بغدر فرنسا، وأياديه البيضاء عليها، ونكرانها لجميله، "فلم تُبْقِ لكم دينًا ولا دنيا". وحذَّر فيه الجزائريين من النكوص والتراجع، وأكَّد لهم أن فرنسا "تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة، وهي أنها عدو لكم، وأنكم عدٌّ لها، ووالله لو سألتموها ألف سنة لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم ومحو دينكم وعروبتكم وجميع مقوماتكم". ثم يدعوهم جميعًا "إلى الكفاح المسلح ... فهو الذي يسقط علينا الواجب، ويدفع عنا وعن ديننا العار" (16). لقد كانت هذه البيانات الصادرة كلها في العَشْر الأوائل من نوفمبر 1934، عن أهم شخصية دينية وسياسية جزائرية- من غير أن يطلب منه طالب، أو يضغط عليه ضاغط- كانت تلك البيانات ضربة قاضية على كل مناورة يمكن أن تلجأ إليها فرنسا في حال سكوته. كما قدَّمت تلك البيانات دعمًا قويًا للمجاهدين، ونفخت في الثورة روحًا وهي في أوهن مراحلها، حيث أخرجت الشعب الجزائري من التردد والحيرة اللذين كان يمكن أن يُصَابَ بهما، لجهله بمصدر الثورة، وتوجُّهِها، فبيانات الإمام الإبراهيمي شهادة للشعب الجزائري على شرعية المولود- الثورة- وصحته ... وكما أدّت هذه البيانات دورًا هامًا في تقبل الشعب بسرعة للثورة، كانت بمثابة جواز مرور للمسؤولين عنها- الثورة- إلى قادة جل الدول العربية والإسلامية، الذين لم يكونوا يعرفون مسؤولًا واحدًا من مسؤولي الثورة، وزاد من تقبل قادة تلك الدول للثورة ومسؤوليها طلب الإمام الإبراهيمي من شيخ الجامع الأزهر يوم 12 نوفمبر 1954 أن يدعوَ المسلمين إلى الجهاد ضد فرنسا (17)، الأمر الذي جعل الضابط الفرنسي سِرْفْييِ، المتخصص في علم الاجتماع، يكتب في جريدة لُومُوند ( Le Monde) " ان جمعية العلماء هي المسؤولة عن هذه الحوادث" (18). ولا شك أن هذا الضابط يعلم أن الجمعية ليست هي التي أطلقت

_ 15) انظر مقال: "إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب" في هذا الجزء من الآثار. 16) انظر مقال: "نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد" في هذا الجزء من الآثار. 17) Jacques Carret: l'Association des Oulamas d'Algérie. (S.E.) (S.D.), p. 27 والمعلوم أن جاك كاري من ضباط الاستخبارات الفرنسية. 18) مولود قاصم نايت بلقاصم: مرجع سابق، [ص:67].

الرصاصات، ولكنها هي التي حررت عقول من أطلقوا تلك الرصاصات وأنفسهم، "فثورة الفاتح من نوفمبر كانت ترجمة عملية لفكرة العلماء العربية الإسلامية" (19)، حيث "لم تنجح حركة سلفية في بلد عربي أو إسلامي وتأخذ طريقها إلى الحياة العملية لتكون أساس النضال كما نجحت في الجزائر" (20). لقد أزعجت هذه البيانات الذين في صدورهم مرض، وفي قلولهم غل لجمعية العلماء ولرئيسها الإمام محمد البشير الإبراهيمي، لأنهم كانوا يتمنون أن لا تؤيد الجمعية جهادَ شعبٍ علمته معنى الجهاد، ووجوبه، أو أن يتأخر تأييدها، فيصبح لا قيمة له، كإيمان فرعون الذي لم يعلنه إلّا بعد أن أدركه الغرق، فرُدَّ عليه. لذلك، فإن بعض من كتبوا عن ثورة الشعب الجزائري أهملوا الإشارة إلى هذه البيانات وموقف الإمام محمد البشير الإبراهيمي من جهاد شعبه، ومنهم من أشار إلى تلك البيانات وإلى ذلك الموقف على استحياء، ومنهم من فرّق بين موقف الإمام الإبراهيمي وبياناته وبين موقف الجمعية، فقالوا إن هذه البيانات تعبير عن موقف شخصي للإمام الإبراهيمي الذي كان بالقاهرة، وبالتالي فهي لا تعبر عن موقف الجمعية. ولنسأل هؤلاء الجناة على الحقيقية التاريخية: إذا كان الإمام يتكلم باسمه الشخصي، ولس باسم جمعية العلماء، فلماذا يوقع تلك البيانات بصفته رئيس جمعية العلماء؟ ولماذا يصر على ذكر مصدر تلك البيانات، وهو مكتب جمعية العلماء بالقاهرة؟ ولنسألهم مرة أخرى: لو لم تكن تلك البيانات باسم جمعية العلماء، فلماذا سكت عنها هؤلاء العلماء؟ ولماذا لم يستنكروها؟ أو يتبرأوا منها؟ أو يشجبوا موقف الإمام؟ إن الحقيقة التي يؤمن بها هؤلاء المزوِّرُون للتاريخ، وتستيقنها أنفسهم، ولا تنطلق بها ألسنتهم ولا تسطرها أقْلامُهُم، هي أنه كَبُر عليهم أن تُغَبِّر الجمعية ورئيسها في وجوههم، وتحوز الجمعية ورئيسها بالسَّبْق تفضيلًا، فتحتضن جهاد الشعب الجزائري، وتتركهم في ضلال مبين، رغم ادعائهم التحليل العميق والتنبؤ الدقيق. لقد كان في إمكان الإمام الإبراهيمي أن يلتزم الصمت وينتظر تطور الأوضاع كما فعل بعض السياسيين المحترفين، أو أن يندد "بالإرهاب" ويستنكر "العنف " كما فعل الشيوعيون،

_ 19) د. نبيل أحمد بلاسي: الاتجاه العربي والإسلامي ودوره في تحرير الجزائر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995، [ص:128]. 20) محمد المبارك: جمعية العلماء ومكانها في تاريخ الجزائر الحديث، مجلة حضارة الإسلام، العدد 2، السنة 6، دمشق، آب 1965.

أدعياء الثورية، أو أن يصدر البيانات باسمه الشخصي ليجنِّبَ الجمعية التي يرأسها ويقودها السُّوءَ، ولكنه أدرك بحسه العميق وتحليله الدقيق أن هذا الذي وقع في أول نوفمبر بالجزائر هو "ثورة" وليس "فورة"، وأن هذه الثورة تتميز "بحسن التدبير والنظام والإحكام، وأن الثورة شعبية غير متأثرة بالتأثرات الحزبية، وأن طابعها عسكري، حازم، عارف بمواقع التأثير" (1). من أجل ذلك، فهذه الثورة في أمسِّ الحاجة إلى مساندة هيئة ذات مصداقية لدى الشعب الجزائري، وتزكية شخصية موثوق بها لديه، ليحتضن الثورة ويُمِدَّها بأمواله وبنيه. ولم يكن في الجزائر آنذاك هيئة موثوق بها وبرئيسها وأعضائها إلّا جمعية العلماء، فالشيوعيون لا تأثير لهم على الشعب الجزائري، لا قبل الثورة ولا في أثنائها ولا بعدها، فإدارتهم "إدارة مكتبية- بِرُوقراطية- لا صلة لها بالشعب، ولم تكن قادرة على تحليل الحالة الثورية تحليلًا صحيحًا .. (و) كان خضوع الحزب الشيوعي الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي خضوع بني وِي- وِي" (22)، وكانوا أسارى نظريتهم الخيالية القائلة "بأنه من المحال تحرير الوطن الجزائري قبل انتصار طبقة العمال في فرنسا" (23)، والقائلة بنفي "صفة الثورة على طبقة الفلاحين عامة والفلاحين الجزائريين منهم خاصة" (24)، وأعضاء حزب أحباب البيان كانوا محدودي التأثير على الشعب الجزائري بسبب منطلقاتهم الفكرية التغريبية، وإيمانهم بإمكانية الوصول إلى نوع من الكيان السياسي المشترك بين الجزائريين والفرنسيين تحت السيادة الفرنسية. وأما أعضاء حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فقد كان بأسهم بينهم شديدًا، فقد انقسموا على أنفسهم، وصار يلعن بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا من أجل الزعامة والنفوذ الشخصي. إن بيانات الإمام الإبراهيمي المتتالية المؤيدة للثورة، الداعية إلى تأييدها كانت مَدَدًا إلهيًا لها في أول عهدها، وفي مرحلة ضعفها، لأنها جعلت الشعب الجزائري يطمئن إليها ويثق بها، ويقبل عليها من غير تردد، ومن غير ضغط أو إكراه، "فدَفْع الجماهير إلى الثورة ضد المستعمر يكون دائمًا باسم الدين، لأن العربي في الجزائر- الذي لا يملك شيئًا يقتات به- ليس لديه إمكانية أخرى للتعبير عما يريده وما يرفضه في المجال السياسي سوى السير

_ 21) انظر مقال: "أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر" في هذا الجزء مِن الآثار. 22) انظر "بيان الصومام" في ملفات وثائقية رقم 24، وزارة الإعلام والثقافة، الجزائر 1976، وكلمة "وِي- وِي" بالفرنسية معناها "نعم، نعم"، ويطلقها الجزائريون على الموالين لفرنسا، احتقارًا لهم. 23) نفس المرجع، وتحرير الوطن في مفهوم الشيوعيين الجزائريين ليس معناه الانفصال عن فرنسا، وإنما معناه القبول بسيادة فرنسا "البروليتارية" على الجزائر. 24) نفس المرجع.

وراء ما يعتقد أنه طبقًا لعقيدته الإسلامية، ومن هنا كانت استجابته لتوجيه العلماء. (و) يلعب هؤلاء العلماء دورًا كبيرًا في إشعال الروح الدينية لدى الشعب، وفي دفعه من الناحية الدينية إلى الثورة ضد المستعمرين" (23). ولم يمض إلّا ثلاثة أشهر منذ إعلان الجهاد حتى تداعى أبناء الجزائر المقيمون في القاهرة، وفي مقدمتهم الإمام الإبراهيمي، وحرَّروا ميثاقًا، وأسسوا تنظيمًا سُمِّيَ "جبهة تحرير الجزائر"، "لخدمة الجزائر، والكفاح في سبيل تحريرها واستقلالها، مساندين بذلك جيش التحرير". إن أثر الإمام الإبراهيمي في ذلك الميثاق ليظهر جليًا، وإن حقيقة الجزائر لتبرز فيه بروزًا قويًا، حيث وُصِفتْ بـ "العربية المسلمة"، ونصَّ البند الرابع على أن "الجزائر عربية الجنس، مسلمة العقيدة، فهي بالإسلام والعروبة كانت، وعلى الإسلام والعروبة تعيش" (26)، وإن المرء ليتساءل عن تغييب هذا الميثاق عن أدبيات الثورة الجزائرية ووثائقها ونصوصها. وراح الإمام الإبراهيمي- وقد أنقضت السنون ظهره، وأوهنت السبعون عظمه- يتنقل بين البلدان العربية ليحث مسؤوليها على تقديم المساعدات للجهاد الجزائري، ويدعوهم إلى الضغط على فرنسا، ويطالبهم بمقاطعتها اقتصاديًا، ومن هذا القبيل ما شهد به أحد المسؤولين العرب آنذاك، حيث قال: "كان- الإبراهيمي- يلتقي بصاحب العرش وولي العهد، كما كان يلتقي برئيس الوزراء ووزير الخارجية، حاثا إياهم على نصرة الجزائر سياسيًا وعسكريًا وماديًا" (27)، و"لا شك في أن للشيخ البشير تأثيره الأكبر على الوفد العراقي- في الأمم المتحدة- في اندفاعه دفاعًا عن الجزائر" (28)، كما "كانت له جهود موجهة إلى رجال الفكر القومي والصحافة وعلماء الدين .. يذكي فيهم الحماس والغيرة دفاعًا عن الجزائر" (29)، "ففي كل الأحوال كان الشيخ البشير- رحمه الله- محفزًا للحكومة العراقية ومتتبعًا ما يجري في العراق من أجل الجزائر المجاهدة" (30). وقد سجَّل الشعراء بعض نشاط الإمام الإبراهيمي الذي لم تقعده الأمراض والسن عن السعي الحثيث لحشد التأييد الشعبي والرسمي لقضية وطنه، ومن ذلك ما جاء في "ملحمة العروبة" للشاعر العراقي مصطفى نعمان البدري:

_ 25) باول شميتز: الإسلام قوّة الغد العالمية، تعريب محمد شامة، القاهرة، مكتبة وهبة، 1974، [ص:145] 26) انظر مقال: "ميثاق جبهة تحرير الجزائر" في هذا الجزء من الآثار. 27) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر مايو- يونيو 1985، [ص:124 - 126]. 28) المرجع نفسه. 29) المرجع نفسه. 30) المرجع نفسه.

فإذا "البشير" يجوب آفاق البلاد بقلب كابر ويحاضر العربان في تاريخ أمجاد غوابر ويحشِّد الرأي العميم لنصرة البلد المصابر فيمد فيهم نخوة الشجعان تثأر للعوائر (31) وكان الإمام الإبراهيمي- عندما لا تسمح له ظروفه الصحية أو التزاماته بالتنقل- يزوِّدُ مبعوثي الثورة إلى بعض البلدان العربية برسائل إلى علمائها من ذوي التأثير المعنوي والكلمة المسموعة، ليسهِّلوا لدى سلطات بلدانهم مهمة أولئك المبعوثين (32) .. وقد بلغ اندفاع الإمام الإبراهيمي في الدعوة إلى مساندة وطنه، والعمل على دعم جهاده إلى درجة قد يعتبرها بعض الناس تجاوزًا للحدود، وعدم مراعاة اللِّيَاقاتِ، حيث بعث برقية إلى الملك سعود يقترح عليه تكليف الأستاذين أحمد الشقيري وعبد الرحمن عزام، أو أحدهما "بالاستعداد لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها" (33). وقد قدَّم الإمام الإبراهيمي للثورة الجزائرية خدمات كبيرة في الميدان الإعلامي بأحاديثه التي ألقاها في الإذاعات العربية، وخاصة في إذاعة "صوت العرب" سنة 1955، حيث لم يكن للثورة آنذاك جهاز إعلامي منظم، فكان لتلك الأحاديث دورها الكبير في تحسيس الشعوب العربية بالقضية الجزائرية، والمسارعة إلى دعمها، كما كان لها تأثير بالغ على الجزائريين للالتفات حول الثورة، وتأييدهم لها، ومساعدة أُسَر المجاهدين والشهداء. وقد استغل الإمام الإبراهيمي حدثًا سياسيًا هامًا، هو انعقاد المؤتمر الإفريقي- الآسيوي بباندونغ في شهر مايو 1955، فوجه رسالة صوتية إلى الدول الإسلامية المشاركة فيه، وعددها أربع عشرة دولة، وهي رسالة تتماشى مع ما أشرنا إليه في السياق التاريخي للجزء الرابع من هذه الآثار، وهو سعيه إلى إحياء فكرة الجامعة الإسلامية، وإخراجها من مرحلة الآمال إلى مرحلة الأعمال. لقد ذكَّر الإمام تلك الدول بما يجب أن يُذَكِّر به عالِمٌ مسلم حر، وعرَّف بما يجب أن يعرفه المسؤولون المسلمون، ودَلَّهم على ما تمتلكه الأمة الإسلامية من أنواع القُوَى،

_ 31) عثمان سعدي: الثورة الجزائرية في الشعر العراقي، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1985، ج2، [ص:403]. 32) انظر رسالتيه إلى الشيخ محمد بن إبراهيمي آل الشيخ وإلى الشيخ عمر بن حسن في هذا الجزء من الآثار. 33) انظر الرسالة في هذا الجزء من الآثار، وقد عيّن الملك سعود الأستاذ أحمد الشقيري مندوبًا للسعودية في الأمم المتحدة، وألقى خطبًا رائعة في الدفاع عن القضية الجزائرية، وقد جُمِعت تلك الخطب ونشرتها دار العودة ببيروت تحت عنوان: "قصة الثورة الجزائرية".

ونبَّهَهُم إلى حسن استغلال تلك القُوَى لتحقيق أهداف أمتهم البعيدة والقريبة، ومنها تحرير فلسطين- قلب العالم الإسلامي- والمغرب العربي- الجناح الغربي للأمة الإسلامية (34). إن الإمام الإبراهيمي عندما يخاطب المسؤولين ويستنصرهم، ويستعديهم على الاستعمار لا يفعل ذلك انطلاقًا من اعتبارات سياسية أو مصلحية فقط، ولكنه يستند إلى مبادئ الإسلام وأصول الدين التي تفرض عداوة الظالم، وتوجب مقاومته بجميع أنواع القوى، وتحرِّم موالاة ذلك الظالم، لأن تلك الموالاة في حقيقتها "خروج عن الإسلام"، ولا يشفع لأولئك الموالين أعذار يعتذرون بها، أو معاذير يلقونها فـ "الموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك- المداراة، وطلب المصلحة- بقدره، وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات" (35). وهناك ميدان آخر ملأه الإمام الإبراهيمي باسم الجزائر، وكان فيه فارس المنابر، إنه ميدان المؤتمرات الأدبية، والمنتديات الفكرية، واللقاءات العلمية، ولولا الإمام الإبراهيمي لما علا للجزائر في ذلك الميدان صوت ولما ذُكِر لها اسم، مثل المؤتمر الثالث للأدباء العرب، ومؤتمر التعريب بالرباط، وندوة الأصفياء، وقد كان الإمام في تلك المؤتمرات والندوات واللقاءات أحرص على استقلال الأمة العربية أدبيًا وفكريًا ولغويًا من حرصه على الجوانب السياسية والاقتصادية التي لا تبرز- بما فيه الكفاية- خصائص الأمم ومميزات الشعوب؛ وإنما الذي يبرز تلك الخصائص ويجليها هو آدابها وأفكارها ولغاتها، "فيجب أن يظل أدبنا عربيًا في أصوله وقواعده، لا شرقيًا ولا غربيًا، يجب أن يظل أدبنا عربيًا يستمد شخصيته وأهدافه من حاجاتنا الواقعية لا المفتعلة ولا المزيفة" (36)، ولذلك ينذر ويحذر من الآثار السيئة والعواقب الوخيمة التي تصيبنا من مخلفات الاستعمار الفكرية واللغوية في بلداننا المغاربية "التجارب تدل على أنها ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل أَلْسِنَة تَحِنُّ إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية (37) على مخرج الراء العدنانية، وأفئدة "هواء" تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحن إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة

_ 34) تجدر المقارنة هنا بين فكرة الإمام الإبراهيمي الداعية إلى تكتل إسلامي إفريقي- آسيوي، على أساس ديني بالدرجة الأولى، وبين فكرة الأستاذ مالك بن نبي الداعية إلى تكتّل إفريقي- آسيوي، يعتمد على المصالح السياسية والاقتصادية، وقد تراجع الأستاذ مالك بن نبي- فيما بعد- عن فكرته، لما فيها من مثالية، وتبنى فكرة الإمام الإبراهيمي الأكثر واقعية- وإن لم يصرح بذلك- حيث كتب رسالته "فكرة كُومَنْوِلث إسلامي". انظر رسالة الإمام الإبراهيمي في هذا الجزء من الآثار وعنوانها "دور الدول الإسلامية في المؤتمر الآسيوي- الإفريقي". 35) انظر مقال: "موالاة المستعمر خروج عن الإسلام" في هذا الجزء من الآثار. 36) انظر مقال: "حرية الأديب وحمايتها" في هذا الجزء من الآثار. 37) ينطق الباريسيون الراء غينًا.

تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس، وهمم دنية تحنُّ إلى حمايتها ... وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبَدٌ للغة أجنبية، أو يتحرر شعب متنكر للسانه، فاستقلال العرب لا يتم تمامه إلّا بتعريب ألسنتهم، وأفكارهم، وهممهم، وذممهم" (38). ومن حرصه على هذا الاستقلال اللغوي، وغيرته على اللغة العربية لم يتردد في أن يصدع بالنقد اللاذع لأكبر مؤسسة لغوية في العالم العربي، وهي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، حيث قال في كلمته التي ألقاها باسم الأعضاء الجُدد في ذلك المجمع: " .. وأشد ما كنا ننكر من أعماله- المجمع- استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشِئٌ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان واستحكام التجارب، ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوِّمُ السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟ على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع كانوا مستشارين في وزارات الخارجية من بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية" (39). وجاء نصر الله، وحطَّم الهلالُ الصليبَ (40)، وأرغم الشعبُ الجزائريُّ المجاهدُ فرنسا على تسفيه نفسها، ونَسْخِ أكذوبتها القائلة إن الجزائر فرنسية، وأجبرها بالقوّة على الاعتراف بـ "أن هذه الأمة الجزائرية المسلمة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود معيَّن، هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة" (41).

_ 38) انظر مقال: "إلى مؤتمر التعريب بالرباط" في هذا الجزء من الآثار. 39) انظر مقال "كلمة في مجمع اللغة العربية" في هذا الجزء من الآثار. 40) كان جورج بِيدُو- رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها- يُكَرِّرُ في تصريحاته: "إن الصليب سَيُحَطِّمُ الهلآل " ( La Croix ecrasera le Croissant). انظر: Henri Alleg: La guerre d'Algèrie. Paris, Temps actuels, 1981, T1, p.454 ولكن الله خيّب ظنّه، ونصر الجزائر. 41) الإمام عبد الحميد بن باديس، كلمة صريحة، مجلة الشهاب، ج 1، م 12، قسنطينة، أبريل 1936.

وعاد الإمام إلى الجزائر التي أحبَّها حبًا جمًّا، وأعطاها سواده وبياضه، وخدَمَها دون مَنٍّ، ولا انتظار جزاء ولا شكور، ولم ينغص عليه فرحته باستعادة الجزائر استقلالها، وبعودته إليها إلّا ما وجد فيها من شنآن بين المسؤولين بسبب السلطة التي كان أكثرهم يعتبرونها تشريفًا لا تكليفًا، ويرونها امتيازات لا أمانات يجب أن تؤَدَّى. ولم تسمح له سنه والأمراض التي أنهكت جسمه أن يقوم بنشاط كبير في هذه الفترة. ومن أهمّ أنشطته ذات المغزى التاريخي إمامته المسلمين في أول صلاة جمعة في جامع كتشاوة الذي أعاده الله سيرته الأولى، بعد أن حوَّلته فرنسا إلى كاتدرائية. ومن أهم ما جاء في خطبته تحذيره الجزائريين من مخلفات فرنسا- المادية واللغوية والبشرية- في الجزائر، وخطورة هذه المخلفات على مستقبلها، فالاستعمار "قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضْطرِرْتُم إليه " (42). وإن الذي تعانيه الجزائر اليوم هو بسبب ما جَناهُ عليها هؤلاء الذين لم تخرج فرنسا من ألسنتهم، وأفكارهم وقلوبهم. ورأى الإمام ببصره الانحرافَ الذي وقع فيه من قُدِّرَ له أن يكون على رأس القيادة في الجزائر في هذه الفترة، وأدرك ببصيرته عواقب ذلك الانحراف وخطره على مستقبل الجزائر، فصدع بكلمة الحق بحكمة، وهدوء، ونصح ذلك المسؤولَ أن يرجع إلى الجادَّة، ويفيء إلى الصواب (43). ولكنه- بدلًا من ذلك- ضاق صدره، وأخذته العزة فمدَّ يده إلى الإمام، الذي يمثل نصف قرن من الجهاد، وكنزًا من العلم والمعرفة، وذخيرة من التجارب ورَمْزًا للشعب الجزائري، فآذاه، فكانت عاقبة ذلك المسؤول خسرًا. وقد اعترف أخيرًا أنه يتحمل نصيبًا كبيرًا من مسؤولية الأزمة التي تتخبط فيها الجزائر اليوم. وجاء أجَلُ الإمام الإبراهيمي، يوم 20 مايو 1965، فَرَجَعَتْ نفْسُه المطمئنة إلى ربِّها راضية مرضية، بعد أن أكرم الله صاحبها بالجهاد في سبيل دينه، ولغة كتابه، ودارٍ من ديار الإسلام، وحاز- كما تمنّى- في ثَراها قبرًا وإن لم يملك منه شبرًا. وقد تلقّى العلماء والمفكرون في العالم العربي والإسلامي خبر موت الإمام بحزن عميق، ولوعة كبيرة، لمعرفتهم بمقدار الخسارة التي أصابت الأمة، وعظمة الثغرة التي كان يسدّها، فعثروا عن ذلك بكلمات صادقة، وعبارات مؤثرة، ومنها هذه القصيدة للشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، التي تطفح بالصدق، وتلخص بعض جهاد الإمام، وتُكْبِرُ عِلْمَه:

_ 42) انظر "الخطبة" في هذا الجزء من الآثار. 43) انظر "بيان 16 أفريل 1964" في هذا الجزء من الآثار.

جَلَّ المصاب، وَمُجْتُ في أحزانه … وعجزت عن كظم الأسى وبيانه فوَجَمْتُ والقلب الرؤوم جَوٍ على … فَقْدِ "البشير" يغذ في خفقانه والدمع رغم رُجُولتي وتجلدي … بح الزفير وبُلَّ من تهتانه قالوا: أتبكي؟ كيف لا أبكي أبًا … وأخًا وأستاذًا فريد زمانه أبكي المودة والوفاء سجية … والنُّبْل، كان يشعّ من أردانه أبكي الفضيلة والمروءة والنَّدَى … والمكرمات تسير في ركبانه أبكي الثقافة والحصافة والحِجا … والذوق وازَى العلم في ميزانه أبكي أبيا عبقريا ماجِدًا … أبكي إمامًا جل في أقْرانِه أبكي بصيرته وحِكْمَةَ فَصْلِهِ … أبكي سَدادَ الرأي في إبَّانِه أبكي امتدادًا لابن باديس الذي … للدين جَدَّدَ ما مضى من شانه أبكي، أَجَلْ أبكي وليس بضائري … دَمْعُ الأبي الحر فيض حَنانِه ... قد كان- رغم السن- منذ لقيته … خِلِّي الأثير، وكنت مِنْ خِلّانِه حُدِّثْتُ في باريس أيام الصبا … عن فضله، وقرأْتُ دُرَّ بيانه فقدرت فيه مَحامدًا ومَحاتِدًا … وتَطلَّعَت نفسي إلى أَكْوانِه ولقيته فازْدَدْتُ في إكباره … وأحَبَّ وجداني سَنا وِجْدانه كان "الفضيل" (44) ورهْطُه طلابه … عِرْفانُهُم كالفيض من عِرْفانِه كان "التبسي" (43) و"المبارك" (46) صحبه، … لكنه المرموق في إخوانه حتى إذا خرج الجهاد بعزمه … عن داره للرحب من أوطانه ألفيته بطلًا يشد على العدا … وأبًا رحيم القلب في أعوانه في عالَم الإسلام يخفق دائبًا … من "مصره" يسعى إلى "بغدانه" من "قدسه" لـ "حجازه " لـ "شآمه" … ويلم، لا ليجم في "لبنانه" لكنه يجري وراء طماحه … وكفاحه حتى لـ "باكستانه"

_ 44) هو الأستاذ الفضيل الورتلاني، توفي سنة 1959 بتركيا. 43) هو الشيخ العربي التبسي، نائب الإمام الإبراهيمي في رئاسة الجمعية، ومدير معهد الإمام ابن باديس، استُشهد سنة 1957. 46) هو الشيخ مبارك الميلى، أمين مال جمعية العلماء (فترة من الزمن) ومدير «البصائر» في سلسلتها الأولى بعد الشيخ العقبي، ثم نائب الإمام الإبراهيمي في رئاسة الجمعية قبل الشيخ التبسّي، توفي سنة 1943.

ما كان يومًا رهن أرض أو سما … بل كان للإسلام في أركانه يعلي لأمته تواعد مجدها … أفقًا وعمقًا في امتداد زمانه ... طُوبى لمن عمر الحياة بوَعْيه … وبسعيه والموت في حسبانه طُوبَى لِمُدَّخِر ليوم حسابه … ما قَدْ ينال به ندى رحمانه طُوبَى لمن زكى معارج نفسه … بِتُقَى الإله وعاش من عبدانه ومضى إلى دار البقاء يحفه … من ربِّه المنان فيض حنانه طُوبَى "بشير" الخير لُقِّيتَ الْمُنى … بجوار رَبِّك في رِحاب جِنانِه في مقعد الصدق المرجى ناعِمًا … بكنوز ما يحبوه من رضوانه (47) ... اشتملت الأجزاء الأول والثاني والرابع والخامس على بعض المقالات قد يراها الناس دون مستوى مقالات الجزء الثالث، ولكننا حرصنا على إثباتها لما لها من قيمة تاريخية، حيث تعتبر شهادات حية، ومواقف هامة ومعبّرة عن حوادث وقضايا. رحم الله الإمام الإبراهيمي وإخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يبدلوا تبديلًا، وأنزلهم منازل المُكْرَمينَ من عباده في مقعد الصدق، مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ونسأله تعالى أن يُعينَنا للحفاظ على ما ورثناه عن الإمام الإبراهيمي من مبادئ وقيم ومثل، التي يجمعها شعارُ جمعية العلماء الخالد: "الإسلام ديننا؛ العربية لغتنا؛ الجزائر وطننا". محمد الهادي الحسني البليدة (الجزائر)، 6 نوفمبر 1996

في مصر

في مصر (نوفمبر 1954 - مارس 1956) ــــــــــــــــــــــــــــــ

نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد:

نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد: * نعيدكم بالله أن تتراجعوا ... ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المسلمون الجزائريون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورًا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت الذي يُسمع الآذان الصم، وهذا هو الدواء الذي يفتح الأعين المغمضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطلق الذي يقوم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الذي يخترق الحجب والأوهام. كان العالم يسمع ببلايا الاستعمار الفرنسي لدياركم، فيعجب كيف لم تثوروا، وكان يسمع أنينكم وتوجعكم منه، فيعجب كيف تؤثرون هذا الموت البطيء على الموت العاجل المريح، وكانت فرنسا تسوق شبابكم إلى المجازر البشرية، في الحروب الاستعمارية، فتموت عشرات الآلاف منكم في غير شرف ولا محمدة، بل في سبيل فرنسا، وتوسيع ممالكها، وحماية ديارها، ولو أن تلك العشرات من الآلاف من أبنائنا ماتوا في سبيل الجزائر، لماتوا شهداء وكنتم بهم سعداء. أيها الإخوة الجزائريون: اذكروا غدر الاستعمار ومماطلته. احتلت فرنسا وطنكم منذ قرن وربع قرن، وشهد لكم التاريخ بأنكم قاومتموها مقاومة الأبطال، وثرتم عليها مجتمعين ومتفرقين، نصف هذه المدة.

_ * بيان نشر ووجه من القاهرة في 15 نوفمبر 1934، وهو منشور في كتاب (الجزائر الثائرة) للمرحوم الأستاذ الفضيل الورتلاني الذي طبع بلبنان في الخمسينات. وذكر الشيخ محمد خير الدين في مذكراته أن نسخة من هذا النداء تحت يده. مذكرات، ج 1، [ص:384].

فما رعت في حربها لكم دينًا ولا عهدًا، ولا قانونًا ولا إنسانية، بل ارتكبت كل أساليب الوحشية، من تقتيل النساء والأطفال والمرضى، وتحريق القبائل كاملة، بديارها وحيواناتها وأقواتها. ثم حاربتم معها وفي صفها، وفي سبيل بقائها نصف هذه المدة، ففتحت بأبنائكم الأوطان وقهرت بهم أعداءها، ورحمت بهم وطنها الأصلي، فما رعت لكم جميلًا، ولا كافأتكم بجميل، بل كانت تنتصر بكم، ثم تخذلكم، وتحيا بأبنائكم، ثم تقتلكم، كما وقع لكم معها في شهر مايو سنة 1945، وما كانت قيمة أبنائكم الذين ماتوا في سبيلها، وجلبوا لها النصر، إلّا أنها نقشت أسماء بعضهم في الأنصاب التذكارية، فهل هذا هو الجزاء؟ طالبتموها بلسان الحق، والعدل، والقانون، والإنسانية، من أربعين سنة، بأن ترفق بكم، وتنفس عنكم الخناق قليلًا، فما استجابت. ثم طالبتموها بأن ترد عليكم بعض حقوقكم الآدمية، فما رضيت. ثم طالبتموها بحقكم الطبيعي، يقركم عليه كل إنسان، وهو إرجاع أوقافكم ومعابدكم وجميع متعلقات دينكم، فأغلقت آذانها في إصرار وعتوّ. ثم ساومتموها على حقوقكم السياسية بدماء أبنائكم الغالية التي سالت في سبيل نصرها، فعميت عيونها عن هذا الحق الذي يقرره حتى دستورها، ثم هي في هذه المراحل كلها، سائرة في معاملتكم من فظيع إلى أفظع. أيها الإخوة الجزائريون الأبطال: لم تبقِ لكم فرنسا شيئًا تخافون عليه، أو تدارونها لأجله، ولم تبقِ لكم خيطًا من الأمل تتعللون به. أتخافون على أعراضكم وقد انتهكتها؟ أم تخافون على الحرمة وقد استباحتها. لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه؟ أم تخافون على الأرض وخيراتها، وقد أصبحتم فيها غرباء حفاة عراة جياعًا، أسْعَدُكُم من يعمل فيها رقيقًا زراعيًّا يباع معها ويُشْتَرى، وحظكم من خيرات بلادكم النظر بالعين والحسرة في النفس؟ أم تخافون على القصور، وتسعة أعشاركم يأوون إلى الغيران كالحشرات والزواحف؟ أم تخافون على الدين؟ ويا ويلكم من الدين الذي لم تجاهدوا في سبيله، ويا ويل فرنسا من الإسلام: ابتلعت أوقافه وهدمت مساجده، وأذلت رجاله، واستعبدت أهله، ومحت آثاره من الأرض، وهي تجهد في محو آثاره من النفوس. أيها الإخوة المسلمون: إن التراجع معناه الفناء. إن فرنسا لم تبقِ لكم دينًا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها.

وإنها سارت بكم من دركة إلى دركة، حتى أصبحت تتحكم في عقائدكم وشعائركم وضمائركم، فالصلاة على هواها لا على هواكم، والحج بيدها لا بأيديكم، والصوم برؤيتها لا برؤيتكم، وقد قرأتم وسمعتم من رجالها المسؤولين عزمها على إحداث (إسلام جزائري) ومعناه إسلام ممسوخ، مقطوع الصلة بمنبعه في الشرق وبأهله من الشرقيين. إن الرضى بسلب الأموال قد ينافي الهمة والرجولة، أما الرضى بسلب الدين والاعتداء عليه فإنه يخالف الدين، والرضى به كفر بالله وتعطيل للقرآن. إنكم في نظر العالم العاقل المنصف لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعُتُوِّها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنًا وربع قرن، وامتهانها لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم. إن أقل القليل مما وقع على رؤوسكم من بلاء الاستعمار الفرنسي يوجب عليكم الثورة عليه، من زمان بعيد، ولكنكم صبرتم، ورجوتم من الصخرة أن تلين، فطمعتم في المحال، وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي فنعيذكم بالله وبالإسلام أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم. إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي. إن شريعة فرنسا أنها تأخذ البريء بذنب المجرم، وأنها تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة، وهي أنها عدو لكم وأنكم عدو لها. ووالله لو سألتموها ألف سنة، لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم، ومحو دينكم وعروبتكم، وجميع مقوماتكم. إنكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت. إنكم كتبتم البسملة بالدماء، في صفحة الجهاد الطويلة العريضة، فاملأوها بآيات البطولة التي هي شعاركم في التاريخ، وهي إرث العروبة والإسلام فيكم. ما كان للمسلم أن يخاف الموت، وهو يعلم أنها كتاب مؤجل، وما كان للمسلم أن يبخل بماله أو بمهجته، في سبيل الله، والانتصار لدينه، وهو يعلم أنها قربة إلى الله وما كان له أن يرضى الدنية في دينه، إذا رضيها في دنياه. أخلصوا العمل وأخلصوا بصائركم في الله واذكروا دائمًا، وفي جميع أعمالكم، ما دعاكم إليه القرآن من الصبر في سبيل الحق، ومن بذل المهج والأموال في سبيل الدين، واذكروا قبل ذلك كله قول الله {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقول الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

أيها الإخوة الأحرار: هلموا إلى الكفاح المسلح. إننا كلما ذكرنا ما فعلت فرنسا بالدين الإسلامي في الجزائر، وذكرنا فظائعها في معاملة المسلمين، لا لشيء إلّا لأنهم مسلمون، كلما ذكرنا ذلك احتقرنا أنفسنا واحتقرنا المسلمين، وخجلنا من الله أن يرانا ويراهم مقصرين في الجهاد لإعلاء كلمته، وكلما استعرضنا الواجبات وجدنا أوجبها وألزمها في أعناقنا، إنما هو الكفاح المسلح فهو الذي يسقط علينا الواجب، ويدفع عنا وعن ديننا العار، فسيروا على بركة الله، وبعونه وتوفيقه، إلى ميدان الكفاح المسلح، فهو السبيل الواحد إلى إحدى الحسنيين: إما موت وراءه الجنة، وإما حياة وراءها العزة والكرامة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني القاهرة 15 نوفمبر 1954

مبادئ الثورة في الجزائر

مبادئ الثورة في الجزائر بيان من مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة * ــــــــــــــــــــــــــــــ أذاعت عدة محطات عالمية في الليلة البارحة أن لهيب ثورة اندلع في عدة جهات من القطر الجزائري، وَسَمَّتْ عدة بلدان من وطننا العزيز بعضها صحيح اللفظ، وبعضها محرف، ولكننا عرفناها ولو من لحن القول، لأنها أفلاذ من ذلك الوطن العزيز الذي لا نسلوه ولو سلا المجنون ليلاه، لأننا درجنا على ثراه من نوط التمائم، إلى لوث العمائم، وستختلط مع ثراه أعظمنا الرمائم. ثم قرأنا في جرائد اليوم بعض تفصيل لما أجملته الإذاعات، فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الذي لو قسمت فرائضه لكان للجزائر منه حظان بالفرض والتعصيب، واهتزت النفوس طربًا لهذه البداية التي سيكون لها ما بعدها، ثم طرقنا طارق الأسى لأن تكون تلك الشجاعة التي هي مضرب المثل لا يظاهرها سلاح، وتلك الجموع التي هي روق الأمل لا يقودها سلاح. إن اللحن الذي يشجي الجزائري هو قعقعة الحديد في معمعة الوغى، وإن الرائحة التي تعطر مشامه هي رائحة هذه المادة التي يسمونها البارود. أما نحن المغتربين عن الجزائر فوالله لكأنما حملت إلينا الرياح الغربية- حين سمعنا الخبر- روائح الدم زكية، فشارك الشم الذي نشق السمع الذي سمع والبصر الذي قرأ، فيتألق من ذلك إحساس مشبوب يصيّرنا- ونحن في القاهرة- وكأننا في مواقع النار من خنشلة وباتنة. هذه بوادر الانفجار الذي يؤدي إليه الضغط، على كلّ واع في الأرض إلّا فرنسا، وهذا هو الحرف الأول من أبجدية أطول من الأبجدية الصينية مما تنطوي عليه نفس الجزائري

_ * بيان أصدره مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة يوم 2 نوفمبر 1954 ووزع على الصحافة المصرية ووكالات الأنباء العالمية. ونشر في كتاب "الجزائر الثائرة" للفضيل الورتلاني.

لفرنسا من غل وحقد وبغضاء، ومَنْ غرس الحنظل جنى المر، فقد غرست فرنسا أسباب هذه المعاني في نفسه، ثم عاملته معاملة لا يعامل الحيوان الأعجم بعشر معشارها، في حقبة من الزمن تمتد إلى مائة وأربع وعشرين سنة. وهذه عواقب السياسة البليدة التي تسوس بها فرنسا شمال أفريقيا في هذا الزمن الذي تحرك ما فيه حتى الحجر، وثارت فيه كل الشعوب المظلومة تنتصر لنفسها من ظلم الطغاة، فلم تتعظ فرنسا بشيء من ذلك، ولم توقظها النذر المتلاحقة والحروب الماحقة، ولا ذكرت أمسها القريب حين أحاطت بها خطيئاتها وأوبقتها جرائرها فسقطت فريسة تحت أرجل عدوها في مثل فواق الحالب. ووالله لو أن فرنسا أبقت في قلوبنا مثقال ذرة من الرحمة لها، لأشفقنا عليها من هذا الإفلاس الذي أصابها في رأس مالِها من مال ورجال ورأي وفكر، حتى لو أن قائلًا قال لها: إن اليوم غير الأمس، لحاولت من عنادها أن ترد الشمس. تأجج اللهيب بتونس فقلنا: هذا نذير من النذر الأولى، وعسى أن تكون لفرنسا فيه عبرة، وتأجج في مراكش، فقلنا: عسى أن يكون لها فيه مزدجر، وها هو ذا يتأجج في الجزائر، ولو كانت فرنسا على بقية من كياس وعقل لجارت تيار الزمن ولم تعاكسه ولضمنت لنفسها البقاء مع الناس، ولو بضع سنين، فأما الدوام مع الظلم فلا مطمع فيه، وإن كانت في ريب من تحول الأحوال فلتسأل رفات أمها روما .... ولكن الذي علمناه من احتكاكنا بهذه المخلوقة العجيبة ودرسناه من أهوائها وطبائعها أنها لا تصدر عن عقل، ولا تَرِدُ على بصيرة، وأنها لا ترضى المشاركة في الحياة وأن القاعدة التي تبني عليها أمرها هي: إما ربح كامل، وإما خسار شامل، وأن حياتها مشروطة بموت غيرها، وعليه فلماذا تلوم الناس إذا اعتقدوا أن حياتهم مشروطة بموتها؟ الشمال الأفريقي قطع متجاورات من إرث العروبة والإسلام، اجتمعت في كل شيء وهو من صنع الله، واجتمعت في شيء واحد من عقل الشيطان وهو الاستعمار الفرنسي، فإذا اجتمعت اليوم في الثورة على ظلم فرنسا وطغيانها، فلعل هذا هو آخر الجوامع الإلهية التي تغض بها إلى أولها، كما تغض الحلقة الأخيرة من السلسلة المفصومة إلى الحلقة فإذا هي دائرة ... ومن صنع الله للأمم الضعيفة حينما يهيّئُها لأن تكون من الأئمة الوارثين أن يخلف فيها من الاستعدادات ما لم يكن فهو كائن، فكيف بالأمة التي أعطاها كل شيء، فملكت بالعدل وساست بالإحسان، وسارت على نور الحق، ثم زاغت عن صراطه قليلًا فتخلى عنها قليلًا، وها هي ترجع إليه قليلًا، وتسير إلى مرضاته دبيبًا، وتغيّر ما بنفسها عسى أن يغير حكمه عليها.

إن أعداءنا الأقوياء بالأمس هم اليوم ضعفاء، وقد أصبحوا يلوذون بأكناف الأقوياء لذلك نراهم في هلع دائم يحسبون كل صيحة عليهم، يتقاوون وهم يتهاوون، وعلامة ضعف الضعيف أن يكثر الحديث عن قوته وَيُدِلّ بها على الضعفاء وأن يكثر اهتمامه بما يقوله الناس فيه، وأن يغضب للهمة واللحظة لا غضب الكبرياء المقرون بالتحدي، ولكن غضب الضعف المقرون بالشكوى، وهكذا يفعل الفرنسيون اليوم. ولقد صاح الرئيس جمال عبد الناصر بالأمس صيحة وهتف بالجزائر التي هي قطعة ثمينة من وطنه العربي الأكبر، فثارت ثائرة الفرنسيين ولم يجدوا منطقًا تؤيده الحجة ولا حجة يثبتها المنطق إلّا قولهم إن الجزائر قطعة من فرنسا، وهي أغنية بلهاء ليس فيها ذوق ولا انسجام. تعوز هذه الحركات المتأججة في المغرب العربي- وهي سائرة إلى الالتحام والانسجام- لفتات صادقة من حكومات الشرق العربي بالإمداد والتشجيع، فإن أخشى ما نخشاه على هذه الحركات أن تشتعل ثم تنطفئ لعدم الوقود. ولو أن أغنياءنا في هذا الشرق - ممن ينفقون الملايين على شهواتهم الشخصية- أنفقوا بعض ذلك في سبيل إخوانهم المعذبين لتحررت أرض المغرب كلها ومعها فلسطين. إن هذه البوارق التي لاحت في جو مصر من تصريحات الرئيس جمال عبد الناصر ومن رجال الثورة ستتبعها صواعق تنقض على الاستعمار الفرنسي، فتدكه دكّا، وإننا واثقون بأنها لا تضيع هباء في الهواء، معتقدون أن لكل كلمة من تلك الكلمات موقعًا مكينًا من كل نفس من إخوانهم في المغرب العربي. إن فرنسا ابتلعت أجزاء الوطن الواحد على ثلاث لقم، ثم أوهمتنا وأوهمت العالم أن هذه العملية لا تسمى ابتلاعًا، وإنما هي تكييف كيماوي تصبح به أمة متمدنة، وكذبها الله وكذبها طبع السوء فيها فكنا في حشاها أشواكا تخزّ وأوجاعًا تؤلم، فإذا هدأ الوخز والإيلام فإنما هي هدأة عارضة ثم تعود وستلفظنا مكرهة عند الحشرجة الأخيرة من حياتها، وسنكون سبب موتها. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني

أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر

أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر * بيان مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة ــــــــــــــــــــــــــــــ انفجر بركان الثورة المباركة في الجزائر ليلة اليوم الأول من نوفمبر الحالي وقد كنا نحن الجزائريين الموجودين خارج الجزائر نترقب هذه الثورة ونتوقعها، نترقبها لأنها الأمل الوحيد في تحريرنا من العسف الفرنسي الذي لا يعرفه إلّا من ابتلي به، ونتوقعها لأن هذا هو وقتها، ولأن فرنسا لا تفهم إلّا هذه اللغة ولا يفتح آذانها إلّا هذا الصوت. ومضى على الثورة عشرة أيام ونحن نحترق شوقًا إلى الاطلاع على حقيقة ما يجري هناك، وكيف ابتدأت الثورة؟ وما هي العناصر التي قامت بها؟ وبأية صبغة تصطبغ؟ وإلى أي اتجاه تتجه؟ وهل انتشرت؟ حتى نبني على مقدماتها الصحيحة نتائج صحيحة. ونستطيع أن نتحدث عليها بالصدق ونصفها لإخواننا الذين لا يعرفون الجزائر، ونصورها بصورتها الحقيقية من غير مبالغة نغرهم بها، ولا تقصير يثبط العزائم، وحتى نغذيها بما نستطيع من وقود روحي أو مادي، إذ لا يستطيع العاقل أن يتحدث عن شيء يجهل تفاصيله وإن كان يعرف أسبابه. لبثنا هذه المدة نتلقى الأخبار من محطات الإذاعات العالمية، ومن الجرائد المحلية المستقية من وكالات الأنباء، ولكنها لا تشفي غليلًا في هذا الباب، وقد توقعنا في الضليل حينما تذكر أسماء القرى والأماكن محرفة بسبب الترجمة، وأن استنتاجنا نحن الجزائريين العارفين بأجزاء وطننا لا يكون صحيحًا مفيدًا إلّا إذا عرفنا أسماء الأماكن والقرى صحيحة الألفاظ لنستخرج الفائدة من شلل المواقع والمسافات بينهما من التشابه في الخصائص، بحيث تكون طبائعها التكوينية تتعاضد على ما ينفع الثورة، ويدفعها إلى الدوام والانتشار.

_ * بيان صدر عن مكتب الجمعية بالقاهرة يوم 11 نوفمبر 1954 ووزع على وسائل الإعلام المصرية ووكالات الأنباء. ونشر في كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.

واليوم وصلنا العدد رقم 292 من جريدة «البصائر» لسان حال جمعية العلماء الجزائريين المؤرخ بيوم الجمعة 9 ربيع الأول سنة 1374 الموافق 5 نوفمبر سنة 1954 وهو أول عدد يصلنا بعد الثورة. وفي افتتاحيته سرد مرتب للحوادث التي حدثت في ساعة واحدة من الليلة الأولى للثورة، ففهمنا من هذا السرد المجرد من التعاليق أشياء كثيرة منها أن وقوع عدة حوادث في لحظة واحدة يشهد بحسن التدبير والنظام والإحكام، ومنها أن الثورة شعبية غير متأثرة بالتأثرات الحزبية، ومنها أن طابعها عسكري حازم، عارف بمواقع التأثير. وها نحن أولاء ننشر جدول الحوادث التي وقعت في ظرف ست ساعات من ليلة واحدة، نقلًا عن العدد المذكور من «البصائر»، وقد استندت فيه إلى شهادة المعاينة، وإلى الرسميات: ـ[حوادث الليلة الليلاء]ـ ... ليلة 1 نوفمبرسنة 1954 ما نصّه بالحرف: "فوجئت البلاد الجزائرية بعدد عظيم من الحوادث المزعجة، وقعت كلها ما بين الساعة الواحدة والساعة الخامسة من صبيحة الاثنين غرة نوفمبر، وهو عيد ذكرى الأموات (عند المسيحيين) ولقد بلغ عدد تلك الحوادث ما يزيد عن الثلاثين، ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة وهران، إلّا أن عمالة قسنطينة وخاصة جهاتها الجنويية كانت صاحبة المقام الأول فيها وكادت تتركز الحوادث في جهات جبال أوراس، في خط يسير من باتنة إلى خنشلة، ثم يشمل الجنوب. وتلي عمالة قسنطينة بعض جهات العمالة الجزائرية، كبلاد القبائل والعاصمة الجزائرية وبوفاريك. إننا إلى حدّ هذه الساعة لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث وأسبابها، وليس بين أيدينا إلّا ما تناقلته الصحف وشركات الأخبار (1)، فلا نستطيع أن نعلق عليها أدنى تعليق، إلى أن تتبين لنا طريق الصواب، فليس من شأن «البصائر» أن تتسرع في مثل هذه المواطن. لكننا، من جهة أخرى، رأينا أنه لا يمكن أن يخلو هذا العدد من جريدتنا من ذكر هذه الحوادث التي تناقلت صحف العالم بأسره تفاصيلها، فقررنا الاكتفاء بذكر أهمها، تاركين للزمن كشف الحقائق عن أسرارها، ولسوف نتتبع ذلك بغاية الدقة والاهتمام.

_ 1) شركات الأخبار: وكالات الأخبار.

مدينة الجزائر: انفجرت قنبلة من الصنع المحلي أمام بوابة راديو "الجزائر" فاحدثت به أضرارًا، وقد وجدت قنبلتان لم تنفجرا. ووقعت محاولات إحراق مستودع زيت الوقود الذي يملكه مسيو موري، والذي يخزن ثمانية أطنان من البترول في شارع دينا، ولقد تنبه الحرس وأطفئت النيران ولم تقع الكارثة. في مدينة بوفاريك: انفجرت قنبلة في مستودع خزن الفواكه، فاحترق المستودع الذي تبلغ قيمته خمسة ملايين وأحرقت الصناديق الخشبية المعدة للتصدير، وقيمتها 25 مليونًا. في بابا علي: وقع إحراق معمل الورق وتمكنت فرق المطافئ بعد جهد جهيد من إخماد النيران. في مدينة العزازقة: وقعت مهاجمة دار الجندرمة (2) ورميت بسبع وأربعين رصاصة تبين أنها من رصاص البنادق الطليانية صنع سنة 1946. وفي الوقت نفسه وقع إشعال النار في مستودع البهش (3) (قشر الفرنان) الذي تملكه إدارة الغابات والمياه، فكانت الخسائر به عظيمة جدًا، والتهمته النيران، وبلغت قيمة الخسائر نحو الخمسين مليونًا. ولقد حطمت في ذلك الوقت أعمدة الأسلاك التابعة لإدارة البريد فأصبحت المدينة في عزلة تامة. في بقية بلاد القبائل الكبرى، وحول مدن وقرى: بوغني- دلس- بوبراق- برج منايل- وغيرها وقع تحطيم وإتلاف أعمدة الأسلاك التليفونية. في ذراع الميزان: وقع التحام قتل فيه أحد حراس الغابة. في تيزي نتليته قتل أحد حراس الغابة أيضا. إلى غير ذلك من مثل هذه الحوادث في عدة قرى ببلاد القبائل. في عمالة وهران: وقعت محاولة تحطيم المولد الكهربائي في وليس، لكن العملية لم تسفر عن خسائر. في جهة كسان: وقعت مهاجمة ضيعة أحد المستعمرين، وجرح أحد الحراس، والتجأ أحد أصحاب الضيعة إلى دار الجندرمة، لكنه لم يكد يصلها حتى أصابته رصاصة أردته قتيلًا. ووقعت مهاجمة دار الجندرمة فجرح أحد حراسها الليليين. في عمالة قسنطينة: كانت الحوادث كثيرة، وخاصة في شرقها وجنوبها.

_ 2) الجندرمة: الدرك. 3) البهش: الفلّين.

وفي خنشلة: وقعت مهاجمة إدارة الحوز الممتزج (4)، وكوميسارية (3) البوليس كما وقعت مهاجمة رجال العسكرية، ووقع تحطيم الخزان الكهربائي، وقتل ثلاثة من رجال الجيش. وسحبت السلطة من المنطقة حراس الغابة والسواحين، ثم احتلت فرقتان عسكريتان أريس ورفعت عنها الحصار. وأعلنت حالة الحصار في كامل تلك الجهة وباتنة وبسكرة وخنشلة، ومنع التجول إبتداء من الساعة الثامنة. وقطعت الأسلاك البرقية على طريق أريس. في بسكرة: وقع تفجير قنبلة أمام المعمل الكهربائي، كما انفجرت قنابل أخرى أمام الثكنة العسكرية، وأمام الكوميسارية، وفي محطة السكة الحديدية، ولقد جرح أحد رجال البوليس كما جرح أحد الحراس. أما الطريق بين بسكرة وأريس فقد منع التجول بها، وأخذت طائرة عسكرية تحوم حول كامل تلك الجهات. ولقد أرغم رجال مسلحون عربة نقل كبيرة على الوقوف وأنزلوا ركابها واختاروا منهم ثلاثة ثم أمروا الباقين بالرجوع إلى مقاعدهم. أما الثلاثة فهم قائد مْشُونَشْ، ومعلم فرنسي وزوجته- لم يمضى على زواجهما أكثر من شهرين- فقد أطلقوا عليهم الرصاص، فمات القائد والمعلم وجرحت زوجته جراحًا خطيرة، وهي الآن في مستشفى أرّيسْ. في الأوراس: وهي المنطقة الجبلية الوعرة الشاسعة، وقعت عدة حوادث في شتى الجهات، وكان الرجال المسلحون يباشرون العمليات ثم ينسحبون إلى الجبال ويدمرون وراءهم الجسور، ولقد قتل واحد منهم وجرح آخرون، وحاولوا الاستيلاء على منجم ايشمول، لكنهم انسحبوا بعد معركة عنيفة أطلقت خلالها ستمائة طلقة نارية. وحوصرت مدينة (أرّيسْ) المركزلة في الأوراس من طرف الرجال المسلحين. في باتنة: وقع إطلاق الرصاص بقوة مدى ساعة من الزمن، كان يسمع على مسافة كيلومترين من المدينة، وهوجمت ثكنة فرقة الشاسور (6) فقتل بها جنديان، واكتشفت قنبلة في مستودع التنكات، لكنها لم تنفجر.

_ 4) الحوز الممتزج: وحدة إدارية يسكنها الجزائريون والفرنسيون. 5) كوميسارية: محافظة الشرطة، وهي كلمة فرنسبة. 6) الشاسور: القنَّاصَة، وهي كلمة فرنسية.

في الخروب: وقع إطلاق القذائف النارية على حارس مستودع الوقود العسكري، لكنه لم يصب بسوء. في السمندو: وقعت مهاجمة دار الجندرمة وكسر بابها الخارجي، وأطلق الرصاص على من بداخلها. واسفرت كامل هذه الحوادث عن سبعة من القتلى، وعدد من الجرحى لم يعرف بعد. هذه خلاصة وجيزة عن الأعمال التي وقعت يوم الاثنين، لخصناها بغاية الدقة عن الصحف الفرنسية، ولربما عدنا إليها في مستقبل الأيام بشيء من الإطناب، إن اقتضى الحال ذلك. ولقد قابلت الحكومة (7) هذه الحوادث بتجهيز كامل قواها العسكرية، واستنجدت بفرنسا فأمدتها سريعًا بثلاث من فرق المظلات، وسلحت البوليس وشددت الحراسة في المدن والقرى حول الإدارات والجسور وغيرها، ثم ألقت القبض، يومي الإثنين والثلاثاء، على جماعات مختلفة في عدة مدن. ولقد عقد الوالي العام ندوة صحفية تكلم فيها عن هذه الحوادث، فقال إنها حوادث أمليت إملاء من الخارج، واستشهد طويلًا بأقوال مذياع "صوت العرب" من القاهرة، وقال إن الذين دبّروا هذه الحوادث ونفذوها، يريدون أن يتخذوا منها حجة لدى هيئة الأمم المتحدة لتفنيد ما تقوله فرنسا من أن الأمن مستتب بالقطر الجزائري. أما الصحف الفرنسية فقد انقسمت إلى قسمين، سواء بالجزائر أو بالبلاد الفرنسية، فالقسم الملي المتطرف ينادي بوجوب الزجر والبطش واستعمال الشدة لاستئصال جذور هذه الحركات، أما الصحافة الحرة والتقدمية والمنصفة، فتنادي بوجوب استئصال الداء بواسطة دراسة عادلة للوضعية الجزائرية وتحقيق العدل والإنصاف في سائر الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالمشاكل الكبرى لا تحل بالعنف والبطش والإرهاب، إنما تحل بالدراسة والمفاهمة الصريحة والرجوع إلى الحق". عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني

_ 7) الحكومة: هي الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.

حول ثورة الجزائر والمغرب العربي

حول ثورة الجزائر والمغرب العربي * ثلاث صرخات ... ـ[الصرخة الأولى]ـ: موجّهة إلى ذات الآذان الصمّاء عن الحق، وعن عويل الباكين، فرنسا التي تتمارى بالنذر وتعمى عن الحقائق، وتكفر بسنن الله في أمثالها من الظالمين، وتسجد للأقوياء، وتتألّه على الضعفاء. هذه نتيجة سياستك البليدة، وهذا جني غرسك الخبيث. زرعت الحنظل فتجرعي مرارته، وحاربت الله في دينه، ومحارب الله محروب، فأخزاك في جميع المواقف، ورماك بالإفلاس في المال والرجال والرأي والسياسة. حاولت أن تقطعي ما وصل الله من أجزاء الشمال الافريقي، وأن لا تجمعيها إلا في بلاياك ومصائبك، فكان ظلمك أكبر جامع لشملها، وأعظم موحّد لها في بغضك، ثم في الثورة عليك، ويا ويحك إذا انفجرت عليك موجات الغضب من القلوب المملوءة حقدًا عليك، والصدور التي ضاقت بظلمك وطغيانك، وقد رأيت وسترين ما يقضّ مضجعك. ابتلعت المغرب العربي قطعة قطعة، وستخرجين منه دفعة واحدة بإذن الله. وـ[الصرخة الثانية]ـ: موجّهة إلى أبناء المغرب العربي كلهم: اعلموا أيها المواطنون الأحرار، أن مهر الحرية غال، وأنه لا ينقد إلا دماء تراق، ونفوسًا تزهق، فوطّنوا أنفسكم على تحمّل الشدائد والمكاره، وإن وطنكم عزيز فادفعوا في تحريره الثمن الباهظ. إنكم قمتم بواجب لا يقبل منكم أداؤه إلا بالمحبة وطهارة القلوب، واقتحمتم ميدانًا لا تنتصرون فيه إلا بالاتحاد وجمع الكلمة، وتسوية الصفوف، وتنظيم الخطط، والصبر على

_ * من كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.

البلاء في الأنفس والأموال، لأن كل بلاء يصيبكم في هذا السبيل فبلاء الاستعمار البغيض أشدّ منه وأنكى. أيها الأحرار: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وـ[الصرخة الثالثة]ـ: موجّهة إلى الشعوب العربية وحكوماتها: يا أبناء العمومة: إن هذه الشعوب الثائرة في تونس والجزائر ومراكش، هم إخوانكم، وأجزاء من جسمكم، ونصف عددكم، والقطع الخصيبة من وطنكم، والسهام الرابحة من رأس مالكم، وقد ابتلاهم الله باستعمار منهوم، لم يترك لهم درهمًا في جيب، ولا ريشة في جناح، ولا عقلًا في دماغ، فإذا ثاروا اليوم فإنما يثورون لشرف هو شرفكم، وكرامة هي كرامتكم، فالآن وجب حق الأخ على أخيه، من إسعاف يشدّ العزيمة ونجدة تقوّي الأمل، وأن عدوّهم هو عدوّكم، لم تجدوه دائمًا إلا في مواطن الخذلان لكم، وجلب الشر إليكم، وكفى بموقفه منكم في قضية فلسطين. إن المجاملات لا تنفع مع هؤلاء المتألّهين، فأروهم من أنفسكم القوة والمعاملة بالمثل يحترموكم. أنتم قادرون إن شاء الله على نجدة إخوانكم في موقفهم الفاصل، الذين هم فيه، وعارفون بوجوه النجدة، ولا تحتاجون- بحمد الله- إلى من يعرفكم بواجب، أو يدلّكم على كيفية أدائه، وإنما نحن مذكرون متألمون، وذكرى المتألم تنفع المؤمنين.

إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب العربي

إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب العربي * اليوم حياة أو موت: بقاء أو فناء ــــــــــــــــــــــــــــــ حيّاكم الله أيها الثائرون الأبطال وبارك في جهادكم وأمدكم بنصره وتوفيقه وكتب ميتكم في الشهداء الأبرار وحيّكم في عباده الأحرار. لقد أثبتم بثورتكم المقدسة هذه عدة حقائق: الأولى: أنكم سفهتم دعوى فرنسا المفترية التي تزعم أن الجزائر راضية مطمئنة فأريتموها أن الرضى بالاستعمار كفر وأن الاطمئنان لحكمها ذل، وأن الثورة على ظلمها فرض. الثانية: أنكم شددتم عضد إخوانكم المجاهدين في تونس ومراكش، وقويتم آمالهم في النصر، وثبتم عزائمهم في النضال، وقد كان من حقهم الثابت أن ينتظروا هذه النجدة منكم فجئتم بها في وقتها وكفَّرْتُم عن التقصير بهذه المباغتة المفزعة لعدوّكم. الثالثة: أنكم وصلتم بثورتكم هذه حلقات الجهاد ضد المعتدين الظالمين، الذي كان طبيعة ذاتية في الجزائري منذ كان، وكشفتم عن حقيقته الرائعة في إباء الضيم والموت في سبيل العزة وجلوتم عن نفسيته الجبارة ما علق بها في السنين الأخيرة من صدإ الفتور. الرابعة: أنكم بيّضتم وجوهًا وأقررتم عيونًا، وسررتم نفوسًا، مملوءة بحبكم معجبة بصفاتكم القديمة في الجهاد، راثية لحالتكم الغابرة. أيها المجاهدون الأحرار: إن فرنسا لم تترك لكم دينًا ولا دنيا: فأوقافكم مصادرة لم يبق منها أثر ولا عين، ومساجدكم حولت إلى كنائس ومرافق عامة، وأرضكم الغنية مغصوبة، وأعراضكم

_ * من كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.

مستباحة، وكرامتكم مهدورة، وقد أراقت فرنسا من دماء أبنائكم أنهرًا في الحروب الاستعمارية والإجرامية، ولا تزال حتى الآن تطمع في تسخير الملايين منكم لإذلال الأحرار من أمثالكم، كما فعلت في مدغشقر والهند الصينية، ولا تزال تساوم بكم وبخيرات أرضكم الدول الكبرى لمصالحها، كأنكم ضرب من البضاعة، ولقد عرفنا من خبث فرنسا ما يحملنا على الاعتقاد بأن ما تنويه من غدر وما تخفيه من حقد أعظم من أن يوصف فانتبهوا أشدّ الانتباه. أيها الأحرار الجزائريون، أيها المكافحون في جميع أقطار المغرب العربي: اعلموا أن الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليوم واجبًا عامًا مقدّسًا، فرضه عليكم دينكم وفرضته قوميتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخيرًا مصلحة بقائكم لأنكم اليوم أمام أمرين: إما حياة أو موت، إما بقاء كريم أو فناء شريف.

إلى القائدين عبد الناصر والسادات

من جمعية العلماء الجزائريين إلى القائدين عبد الناصر والسادات * ___ السيد الرئيس جمال عبد الناصر والسيد الوزير أنور السادات ــــــــــــــــــــــــــــــ بمناسبه الجهاد الذي يقوم به إخواننا الجزائريون ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، دلّل رجال الثورة في مصر من جديد على مروءتهم الكاملة، وعلى وفائهم الدائم لإخوانهم الأحرار المكافحين في المغرب العربي، فلقد كان أول صوت ارتفع عاليًا مُدوّيًا بعد اندلاع الثورة الجزائرية هو صوت الرئيس جمال عبد الناصر في تصريحاته القوية المتزنة لجريدة "كارفور" الاستعمارية. والصوت الثاني هو صوت السيد القائم مقام أنور السادات وزير الدولة وسكرتير المؤتمر الإسلامي العام. وبهذه المناسبة أرسل السيدان البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني يشكران القائدين العظيمين بالبرقيتين التاليتين: السيد الرئيس جمال عبد الناصر: شكرًا عميقًا لا نهاية لأثره، على تصريحاتكم العبقرية لجريدة "كارفور" الاستعمارية، وإن الجزائر والمغرب العربي في كفاحهم المرير ليحيون في سيادتكم مثال البطولة الفذّة ويأملون رعايتكم الكريمة، أبقاكم الله سندًا للمجاهدين الأحرار ومخيفًا للظالمين الأشرار. أما تهجمات فرنسا على مقامكم الكريم فقد أكسبتكم قلوب ثلاثين مليونًا من المغاربة ومئات الملايين من العرب والمسلمين، بل حتى الأوربيين المنصفين. السيد القائم مقام أنور السادات سكرتير المؤتمر الإسلامي العام بالقاهرة: شكرًا جزيلًا على كلمتكم العبقرية لجريدة "الجمهورية" عن شقيقتكم المكافحة وعن فرنسا أخبث شيطان.

_ * نشرت البرقيتان في الصحف المصرية (نوفمبر 1954) بالقاهرة.

حيّاكم الله وزملاءكم القادة الأبرار وقوّى بكم جهاد الأحرار وأخاف بكم الظالمين الأشرار وبارك رعايتكم لإخوانكم باستمرار. عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني

برقية إلى الملك سعود

برقية إلى الملك سعود * حضرة صاحب الجلالة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية- الرياض. يا صاحب الجلالة: ما زلنا نعتقد أن جلالتكم أعلم الناس بالحركتين الإصلاحية السلفية، والثقافية العلمية العربية بالجزائر، وأعلم الناس بآثارهما الطيبة في الأمّة الجزائرية، وإنكم أكبر أنصارهما والمقدّرين لثمراتهما والعاملين على تغذيتهما والمرجوّين لاحتضانهما. ما زلنا نعتقد ذلك وندين لله به فصدّق الله ذلك بخطوتكم الجريئة في توصية مندوبكم في مجلس الجامعة العربية بإثارة القضية الثقافية العربية الإسلامية بالجزائر، ثم بأمركم الكريم له بعرض قضية الجزائر السياسية على مجلس الجامعة أيضًا ليقرّر عرضها على جمعية الأمم المتحدة باسم حكومة جلالتكم. تتبعنا هذه الأطوار باهتمام مصحوب بالاغتباط والسرور والدعاء لجلالتكم إلى أن قرأنا أن سفيركم بواشنطن تكلّم باسم جلالتكم في قضايا الجزائر الدينية والثقافية والسياسية كلامًا رسميًّا قوّيًا واضحًا جريئًا، عليه نور إيمانكم وعزيمتكم، وعليه سيماء انتصاركم للإسلام والعروبة. نحن على يقين من أنكم ما بدأتم إلا لتتمّوا، فاسمحوا لنا- يا صاحب الجلالة- أن نلفت نظر جلالتكم إلى أن من بين رجالات العرب رجلين متخصصين في الإلمام التام بشؤون الجزائر من جميع نواحيها مع الإخلاص والغيرة والجراءة، ومع الصدق في خدمة جلالتكم، وهما الأستاذ أحمد بك الشقيري والأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، فإذا وافق نظركم السامي على أن تكلفوهما أو أحدهما بالاستعداد من الآن لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها باسم

_ * أُرسلت هذه البرقية يوم 9 يناير 1955.

جلالتكم كعون وتعزيز لسفارتكم بواشنطن، إن رأيتم هذا ووافقتم عليه كنتم قد وضعتم القضية في يد محام بارع عالم بأدلتها وبراهينها، محيط بجزئياتها وكلياتها. ولكم النظر العالي في تفاصيل الموضوع وكيفياته. ونحن- على كل حال- نشكر جلالتكم باسم الأمّة الجزائرية السلفية المجاهدة، ونهنئها بما هيّأ الله لها من اهتمام جلالتكم بها وبقضاياها، ونعدّ هذا الاهتمام مفتاح سعادتها وخيرها، وآية عناية الله بها، وأولى الخطوات العملية لتحريرها. أيّدكم الله بنصره وتولّاكم برعايته، ونصر بكم الحق كما نصر بكم التوحيد، وجعلنا من جنوده في الحق. محمد البشير الإبراهيمي

ميثاق جبهة تحرير الجزائر

ميثاق جبهة تحرير الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تداعى أبناء الجزائر المسؤولون المقيمون في مصر إلى مدارسة كل ما جرى ويجري في بلادهم من عدوان وتنكيل وتقتيل وتشريد، من جانب استعمار غاشم حقود. ولقد استقرّ رأيهم على الوثيقة التالية والتي وقّعها السادة: محمد البشير الإبراهيمي، أحمد مَزْغَنَّه، أحمد بيوض، محمد خيضر، الشاذلي مكي، الفضيل الورتلاني، حسين الأحول، أحمد بن بلّة، حسين آيت أحمد، محمد يزيد. في الجزائر العربية المسلمة، اليوم، كفاح مسلّح خطير، لأجل استرجاع سيادتها واستقلالها، دفعها إليه استعمار بغيض، تسلّط عليها بقوة الحديد والنار، واسترق خيراتها، وحاول طمس معالمها، وتحطيم كيانها، وجرّدها من كل حق في الحياة الحرّة العزيزة الكريمة، ضاربًا صفحًا عن تطور الزمن، وعن أن الاستعمار لم يعد في القرن العشرين أسلوبًا صالحًا للبقاء. ولقد كان من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتوحّد جهود المسؤولين الجزائريين الموجودين في القاهرة الموقعين أسفله، وأن يكونوا يدًا واحدة في خدمة الجزائر، والكفاح في سبيل تحريرها واستقلالها مساندين بذلك جيش التحرير، وعاملين على إنجاح الحركة الثورية القومية القائمة الآن في الجزائر. ولقد اقتنع الجميع بما تضمنته هذه الديباجة، وقرّروا بالإجماع ما يأتي: 1 - يعتبر الشعب الجزائري، على اختلاف أفراده وهيئاته- فيما يختص بالكفاح الرهيب- كتلة واحدة هي الأمّة الجزائرية. ومن شذّ شذّ في النار.

_ * فتحي الديب، عبد الناصر وثورة الجزائر، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1984، [ص:644 - 645].

2 - تسمّى الهيئة المنضوي تحت لوائها أبناء الجزائر المسؤولون المقيمون في القاهرة "جبهة تحرير الجزائر". 3 - تعمل الجبهة لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي ومن كل سيطرة أجنبية، مستعملة كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها. 4 - الجزائر عربية الجنس، مسلمة العقيدة، فهي بالإسلام والعروبة كانت، وعلى الإسلام والعروبة تعيش. وهي في ذلك تحترم سائر الأديان، والمعتقدات والأجناس، وتشهّر بسائر النظم العنصرية الاستعمارية. 5 - الجزائر جزء لا يتجزّأ من المغرب العربي، الذي هو جزء من العالم العربي الكبير، وان اتجاهها إلى العروبة، وتعاونها مع الشعوب، والحكومات، والجامعة العربية أمر طبيعي. 6 - الإيمان بوجوب توحيد الكفاح بين أقطار المغرب العربي الثلاثة: تونس، الجزائر، مراكش. 7 - جبهة تحرير الجزائر مستعدة من الآن لتندمج في هيئة أجمع وأشمل للأقطار المغربية الثلاثة بنظام يوضع، ومسؤوليات تحدّد. وتهيب بالقائمين على الحركات التحريرية في كل من تونس ومراكش أن يضعوا أيديهم في يدها، وأن يعملوا معها على تأسيس هيئة تنتظم الجميع. 8 - تنتهز الجبهة هذه الفرصة لتبعث بتحياتها الأخوية إلى سائر المكافحين في الجزائر، سواء منهم من حمل السلاح، أم من كان عاملًا وراء الميدان؛ وإلى المساجين والمعتقلين السياسيين ضحايا القمع والإرهاب، مترحّمة على الشهداء. 9 - وتهيب جبهة تحرير الجزائر في القاهرة بإخوانها في العالميْن: العربي والإسلامي، وبأحرار الدنيا جميعهم، ليناصروا الجزائر في كفاحها من أجل حرّيتها واستقلالها، فهم بذلك يناصرون الديمقراطية الحقّة، والإنسانية المعذبة، والمبادئ السامية. لقاهرة في 24 جمادى الثانية 1374هـ / 17 فبراير 1955م. إمضاءات الأعضاء المؤسّسين

اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر

اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الفصل الأول ـ[المادة الأولى]ـ: 1 - تعمل جبهة تحرير الجزائر في مصر لتنسيق أعمالها مع جبهة التحرير في الجزائر تنسيقًا وثيقًا، وتسعى عاملة جهدها لحثّ الشعب الجزائري بهيئاته وأفراده على تأييد حركة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال. 2 - ومن مهام الجبهة مراقبة التطوّر السياسي في الداخل والخارج، ودرس الحالة، وتعبئة جهودها للدعاية لصالح القضية الجزائرية بكل الوسائل الممكنة. ـ[المادة الثانية]ـ: ولتحقيق المهام شكّلت الجبهة لجنتين، ومكتبًا إداريًا: أ) لجنة المساعدة للعمل الإيجابي في الداخل، ومهمتها تدبير حاجيات جيش التحرير. ب) لجنة الاتصالات، ومهمتها العمل على إثارة الرأي العام الدولي فيما يتعلق بالقضية الجزائرية، واتخاذ كل الإجراءات والأسباب للحصول على العون الأدبي والسياسي والمادي من الشعوب والحكومات لصالح القضية الجزائرية. ج) المكتب الإداري ويتكوّن من سكرتارية، وأمانة للصندوق، ومهمته تسيير الإدارة، وإعداد جدول الأعمال، والمحافظة على أموال الجبهة، وعلى أوراقها، ووثائقها. 3 - تسيّر اللجنتان والمكتب الإداري وفق ما تسطره الجبهة. 4 - يجوز للجبهة أن تنشئ ما تراه ضرورة من اللجان والمكاتب في مصر وغيرها. 5 - لا يحضر جلسات الجبهة، ولا يشارك في مناقشاتها غير الأعضاء المؤسسين الذين أمضوا الميثاق أو الذين يتفق الأعضاء على حضورهم.

_ * فتحي الديب، عبد الناصر وثورة الجزائر، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1984، [ص:646].

6 - لا يكون اجتماع الجبهة صحيحًا إلا إذا حضره ثلثا الأعضاء الموجودين في القاهرة ساعة انعقاد الاجتماع. 7 - تجتمع الجبهة مرة في الأسبوع على الأقل. 8 - كل المراسلات والاتصالات تكون وتتمّ باسم الجبهة، وعلى الصورة والكيفية اللتين تحددهما الجبهة. 9 - يمكن للأعضاء أن يقوموا بأعمال خارج نطاق الجبهة على شرط أن لا تكون متنافية مع هذه اللائحة، أو مع الميثاق. 10 - لا يقصد من هذه اللائحة حصر أوجه نشاط الجبهة، وإنما المقصود منها وضع النقط الرئيسية لحسن سير العمل. 11 - هذه اللائحة قابلة للتعديل استجابة للمصلحة العامة وبموافقة جميع الأعضاء. القاهرة في: 25 جمادى الثانية 1374هـ / 18 فبراير 1955م. إمضاءات الأعضاء المؤسسين

بيان من جبهة تحرير الجزائر

بيان من جبهة تحرير الجزائر عن عزم الحكومة الفرنسية إعلان حالة الطوارئ في الجزائر * ــــــــــــــــــــــــــــــ عرضت الحكومة الفرنسية على البرلمان الفرنسي مشروعًا بقانون إعلان حالة الطوارئ في الجزائر، ويرمي القانون المقترح إلى قيام حالة حرب حقيقية تتجمّع فيها السلطات المدنية والعسكرية في يد واحدة، ويسمح فيها بإجراء الاعتقالات وتفتيش البيوت ليلًا ونهارًا وإغلاق المحال العامة وإلغاء حرية التنقل. وتفيد البيانات التي أدلى بها وزير الداخلية الفرنسية أمام البرلمان الفرنسي عند تقديم مشروعه بأن الأمر لا ينحصر في تعزيز العمليات العسكرية ضد جيش التحرير الوطني الجزائري فحسب، بل يرمي إلى جعل الاضطهاد المسلّط على الشعب الأعزل أشد وأنكى، وإيجاد حالة استثنائية لإخماد صوت الشعب الجزائري بالقوة العسكرية. ونرى من واجبنا إزاء خطورة التدابير التي طلبت الحكومة الفرنسية استصدارها من البرلمان الفرنسي- وتوقع تفاقم العمليات العسكرية ضد الوطنيين الجزائريين إثر صدورها- أن نُشَهِّر بالجراثم الجديدة التي تحاك حيالها ونكشف النقاب عن ألاعيب الدعاية الاستعمارية الفرنسية التي تزعم أن الأمن مستقرّ في الجزائر حيث لا يوجد في زعمها إلا حفنة من المشاغبين. في الوقت الذي تعد فيه الحكومة الفرنسية تدابير تعلن بها حالة الحرب ضد شعب كامل وتهيّئ بها حملة قمع عسكرية وبوليسية شاملة، سوف تفوق جميع ما اقترفه الاستعمار الفرنسي من فظائع في شمال أفريقيا إلى يومنا هذا. لقد اختارت الحكومة الفرنسية سياسة الإرهاب التي لا مراعاة فيها للسكان العزّل، وتقصد بها القضاء على جيش التحرير الوطني الجزائري، وأن تغرق في بحر من الدماء رغائب الشعب الجزائري الوطنية.

_ * وُجد هذا البيان في أوراق الإمام بخطه.

إن الحكومة الفرنسية لتضلّ السبيل إذا كانت تعتقد أن الإرهاب وقوّة جيوشها وبوليسها تمكّنها من إقرار السيطرة الفرنسية والاستغلال الاستعماري بالجزائر. لقد أثبتت الحوادث منذ أول نوفمبر 1954 أن شعبًا كاملًا متحدًا وعازمًا على الدفاع عن حقوقه يقاوم الاستعمار الفرنسي، وأن الاضطهاد مهما يكن وحشيًّا وشديدًا لن يؤدّي إلا إلى إذكاء روح المقاومة في الجماهير الجزائرية. لذلك فإن جبهة تحرير الجزائر توجّه نداء للشعب الجزائري حتى يقضي على التدابير الجهنمية التي ينوي الاستعماريون اتخاذها ضده وذلك بتعزيز وحدته في العمل، فإن تلك الوحدة كفيلة بتحطيم القوّة الاستعمارية، وهي الردّ الوحيد على سياسة الإرهاب والدم المراق التي تنتهجها الحكومة الفرنسية. وتتّجه جبهة تحرير الجزائر إلى جميع الديمقراطيين في العالم وإلى كل المنظمات الدولية والحكومات الحرّة للمساهمة في وقف الجرائم الجديدة التي يعدّها الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وإن جبهة تحرير الجزائر تتجه إلى الشعب الفرنسي ورجاله الديمقراطيين لمقاومة التدابير الجديدة التي ستتخذ باسمه.

بيان من جبهة تحرير الجزائر

بيان من جبهة تحرير الجزائر * حضرات السادة: إن الجزائر تجتاز أزمة شديدة الخطورة من يوم انفجار الحوادث الدامية في فاتح نوفمبر سنة 1954، وإن الحالة السائدة من ذلك اليوم إلى الآن لا تزداد إلا سوءًا واشتدادًا يومًا فيومًا، وهي- لذلك- حقيقة بأن تثير اهتمامكم واهتمام العالم كله. الشعب الجزائري طلب حقوقه المشروعة بالوسائل السياسية، وقدّم من البراهين على استحقاقه لذلك ما فيه الكفاية والإقناع، فلما أعياه الأمر لجأ إلى الموت فشهر السلاح، وعقد العزم على التحرّر والخلاص وحمل المستعمر الظالم على احترام حقوقه بهذه الوسيلة التي لم يبقَ له سواها، وهو ماض في سبيل التحرير مهما كلّفه ذلك. ولقد لجأ الاستعمار الفرنسي مصدر هذه الحوادث الدامية مرّة أخرى إلى وسائله القديمة الرجعية، أي إلى القمع بمختلف أنواعه، ليحلّ المشكلة بهذه الطريقة التي لا تزيد المشكلة إلا تعقيدًا. إن الصراع القائم الآن في الجزائر ليس نتيجة لعلّة طارئة أو لطفرة عارضة، وإنما مصدره الأصيل وعلّته الأساسية هو الاستعمار وآثاره الطبيعية فيه من استعباد وإذلال وقضاء على الحريات وامتهان للكرامة الإنسانية، وزاد نار الصراع لهيبًا تلك الخرافة التي لفّقتها الأوهام الاستعمارية وهي (أن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية). هذه الفرية التي أراد الاستعمار الفرنسي أن يضلّل بها الرأي العام العالمي فرية مفضوحة واضحة البطلان، والحقيقة أن الجزائر كانت دولة مستقلة قبل سنة 1830، والشعب

_ * في المؤتمر الصحفي الذي عقدته بالقاهرة يوم الإثنين الحادي والعشرين من شهر مارس 1933، الساعة الخامسة مساءً.

الجزائري بارز الخصائص والمقوّمات، لم يعترف ولن يعترف بالواقع الاستعماري، وقد قاومه مقاومة مسلحة متواصلة عشرات السنين في سلسلة طويلة من الثورات من سواحل البحر الأبيض إلى تخوم الصحراء الكبرى، وإن أسماء الأمير عبد القادر بن محيي الدين والحاج أحمد المقراني وبو عمامة وغيرهم من أبطال الثورات وقادتها ما زالت خالدة مجيدة، عامرة بصفحات البطولة، وما خفتت المقاومة المسلّحة حتى انتقل الشعب الجزائري إلى ميدان السياسة والمطالبة بحريّته واستقلاله من طريقها، ولم يسكت يومًا واحدًا، ولم يرض دقيقة واحدة بالوضع الاستعماري: فكيف يكون وطنه قطعة من فرنسا؟ وها هو اليوم يحمل السلاح ليكذب تلك الفرية وليحصل على الحياة الحرّة الكريمة. ولكن فرنسا بمحاولتها بسط سلطانها الاستعماري، وإنكارها كل حق في الحياة للشعب الجزائري، كانت دائمًا تجيب بسلاح القوّة على مطالب الشعب الجزائري ومطامحه المعقولة المشروعة، وفي الأيام الأخيرة تجرّأت حكومة فرنسا غير متردّدة وحدّدت موقفها الإجرامي بلسان أحد وزرائها المسؤولين، عندما صرّح بأن المفاوضة الوحيدة التي يمكن أن تجريها فرنسا في الجزائر هي الحرب ... وما دَرَى أن هذا التصريح هو التكذيب القاطع لدعوى دولته أن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية. إن النظم الاستعمارية التي أكره عليها الشعب الجزائري تستمد براهينها من تلك القاعدة الحيوانية وهي أن الحق للأقوى، ومن هنا يتضح أن الادّعاء الاستعماري بأن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية هو ضرب من الغش والتضليل والبهتان، ذلك بأن الوقائع والحقائق والقوانين الفرنسية نفسها تدحضه وتسفهه، فإن ما يطبّق من التشريعات الفرنسية بالجزائر رسميًّا مبني على أساس عنصري بغيض من وجود طبقتين: سادة ومسودين، ونوعين من المواطنين: أعلى وأدنى، ومكتبين انتخابيين لا يمتزجان: مسلم وأوروبي، وإنها لنظم تشهد بتكذيب تلك الدعوى، ويزيد في شناعتها ما ترتكبه الإدارة الاستعمارية من سوء التطبيق، وأشنعه التزوير العلني في انتخابات المجلس الأهلي. على أن وجود مجلس جزائري خاص، واستقلال مالية الجزائر، وإدارة شؤون الدين الإسلامي من طرف الإدارة الفرنسية، وبسط السلطة العسكرية على نصف القطر الجنوبي، ووجود حواجز جمركية بين الجزائر وفرنسا، كل أولئك أدلة ووقائع لا تنكر، تدحض تلك الدعوى المضلّلة. ومن هنا كانت النتيجة الحتمية الطبيعية للسياسة الفرنسية، المشبعة بروح الاحتقار والاستفزاز والعداء، أن يحمل الشعب الجزائري السلاح ليدافع عن حرّيته وحقوقه في الحياة الإنسانية، حين لم يجد سبيلًا آخر للمفاهمة.

إن الدماء- يا حضرات السادة- تسيل اليوم أودية في الجزائر، ومنذ فاتح شهر نوفمبر سنة 1954 تنقل فرنسا عشرات الآلاف من جنودها للجزائر من وطنها ومن ألمانيا ومن الهند الصينية، ليقاتلوا المجاهدين الجزائريين، ويقوموا بعمليات قمع شنيعة وحشية رهيبة، تساندهم فيها القوات المصفحة وقوات الطيران، ولم تقتصر هذه القوات على قتال المقاتلين، بل معظم فتكها موجّه إلى النساء والأطفال والشيوخ والعزّل، وإن ما يرتكبه الجيش الفرنسي اليوم في الجزائر من مآسٍ وفظائع يفوق حدّ التصوّر، وما يجري في محاكمها من أحكام السجن والتغريم أكثر من ذلك، والجرائد الفرنسية ناطقة بالكثير من ذلك، ولنضرب لكم قليلًا من الأمثلة دليلًا على ما يقاسيه الشعب الجزائري من أهوال وويلات على يد الجيش الفرنسي. ففي ناحية قرية "فم الطوب" في جبال أوراس زجّ بالشيوخ والنساء والأطفال في كهوف أحد المناجم المهجورة وأضرمت فيها النيران حتى ماتوا اختناقًا بالمادة التي في الدخان، وفي قرى "زلاطو" و "أشمول" و "يابوس" امتدّت أيدي الجنود الآثمين إلى العذارى فانتهكوا حرماتهن، وجرّدوهنّ من الثياب، ثم قتلن شرّ قتلة ببقر بطونهن بالخناجر والحراب أمام ذويهن. وفي قرية "أريس" هاجمت دبابة عسكرية يوم 23 فبراير الأخير طفلًا لم يجاوز السابعة من العمر فخلطت أجزاءه بالتراب نكاية في الشعب وتفننًا في إلقاء الرعب في القلوب. وفي يوم 18 يناير الماضي من هذه السنة أخذت يد العدوان نحو مائة وخمسين ما بين سيدة وشيخ كرهائن، ثم عادت فقتلتهم في فجر اليوم الثاني ذبحًا. وهناك كثير من المساجين السياسيين اختطفوا من السجون ليصرعوا غيلة في الفيافي والقفار، إن هذه الفظائع لتذكرنا بأمثالها مما كان الجيش الفرنسي يرتكبه في الجزائر في حملته الأولى عليها سنة 1830 وما تلاحق من سنيّ المقاومة الشعبية، حتى تنتهي بنا إلى مذابح شهر ماي سنة 1945 التي أباد فيها الفرنسيون من مدنيين وعسكريين أكثر من خمسة وأربعين ألف مسلم عربي جزائري، وإلى الحملات الإرهابية في جبال القبائل سنة 1947 وإلى ما جرى من مثل ذلك في قريتي "دعشمية" و "شامبلان" سنة 1948، وتذكّرنا في الأخير بما جرى من عمليات الإبادة في "دوار سيدي علي بوناب" سنة 1949، وبما جرى في مذبحة جبل الأوراس سنة 1952، ومقتلة "بلدة الأصنام" في السنة نفسها، ومؤامرة باريس سنة 1953. ولا نندفع في ضرب الأمثلة بعد هذا فإنه شيء طويل. وسط هذه الأحداث الدامية تبلورت مقاومة الشعب الجزائري وتطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وهي تكاد تنتظم الشعب كله، ولا عجب إذا عمّ الظلم أن تعمّ الثورة

عليه، وإن عمليات التخريب والهجمات القوية الخاطفة على الأعداء جارية متواصلة، بحيث لا يكاد يمضي يوم إلا ويسجّل للفدائيين الوطنيين عملًا أو أعمالًا من هذا القبيل، ففي القطاع الشرقي من الجزائر وفي جبل أوراس على الخصوص يصطبغ الكفاح القومي بلون الحرب السافرة المدوية، حيث يلحق المجاهدون الخسائر ذات البال بالقوات الاستعمارية، أما في وسط القطر وفي بلاد القبائل فالهجمات الخفيفة المتكرّرة من الفدائيين تزعج القوّات الفرنسية دائمًا وتسبّب لها أضرارًا مختلفة، وأما في الناحية الغربية من القطر فعمليات التخريب هي السائدة، وهي تتزايد حتى أصبح أثرها ملموسًا في الأوساط التجارية، مما جعل النشاط الاقتصادي في البلاد في حكم المشلول. إن الحالة الراهنة في الجزائر، والتي تزداد وتشتدّ على مرّ الأيام، هي الظاهرة البيّنة على أن الشعب الجزائري مصمّم على تحرير نفسه من السلطان الاستعماري، وعلى أن يجعل بيده حدًّا لنظام مبناه على القوّة والبطش، وإذلال أحد عشر مليون عربي، وإخضاعهم لحياة الذل السياسي والاستغلال الاقتصادي. وإن هذا الاستعمار الفرنسي، بمعارضته العنيفة للرغائب القومية المشروعة للشعب الجزائري، ويرفضه لجميع الوسائل المعبّرة عن أماني الشعب القومية، وبازدرائه للكفاح السياسي السلبي، لذلك كله فهذا الاستعمار هو الذي يتحمل وحده مغبّة هذه الدماء المراقة في الجزائر، ويتحمل وحده عواقب هذا الانفجار، لأنه- هو وحده- كان السبب فيه. وإذا كان الشعب الجزائري قد التجأ إلى السلاح، فإنما فعل ذلك لإنهاء الوضع الاستعماري؛ أما المشكلة الجزائرية فهي فى حقيقتها مشكلة سياسية قبل كل شيء، وبعد كل شيء. ومن القواعد المقرّرة في عالمنا الحديث أن الحق المطلق في التقرير النهائي لمصائر الشعوب هو أساس لكل تشريع وطني أو دولي، وعلى ذلك الأساس فالشعب الجزائري هو صاحب الحق في تقرير مصيره والتمتعّ بكامل سيادته، وليس لغيره الحق في أن ينصب نفسه نائبًا عنه في تقرير مصيره. إننا من أجل أن نحمل أولئك الذين ينكرون على الأمّة الجزائرية حياة العزّ والكرامة على أن يحترموا حقوقها التي كفلتها لها الطبيعة والقوانين الإنسانية، ثم ينكرون عليها جهادها في سبيل تلك الحياة، من أجل ذلك اتحدنا نحن الجزائريين المسؤولين المقيمين بالقاهرة، في جبهة واحدة، هي (جبهة تحرير الجزائر)، عاملين على مساندة الشعب الجزائري في كفاحه القومي من أجل الحرية والاستقلال، وإننا لنعرب عن رغبتنا الملحّة في أن نرى اتحادنا هذا يتّسع حتى ينتظم سائر الحركات الاستقلالية الوطنية في كل من تونس ومراكش.

ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشكر سائر الشعوب والحكومات العربية والإسلامية والأسيوية على عواطفها وميولها الفعّالة التي ما برحت تبديها نحو المشكلة الجزائرية، كما نوجّه نداءنا الحار إلى كل الديمقراطيين الأحرار في سائر أنحاء العالم ليشاركونا في العمل للإسراع والتعجيل بتحقيق الأماني الديمقراطية المشروعة للشعب الجزائري ولشعوب المغرب العربي كله، خدمة للحق وإنقاذًا للسلام، وضمانًا للأمن في هذه الناحية من العالم.

كيف تنجح الثورة في الجزائر؟

كيف تنجح الثورة في الجزائر؟ * الثورة القائمة في الجزائر، يتوقف نجاحها على تحقيق ثلاثة أشياء: الإطالة، والتعميم، والسلاح، وبهذه الثلاثة نجحت كل الثورات التي وقعت في العصور القريبة على الاستعمار، فثورة ليبيا على الاستعمار الإيطالي دامت عشرات السنين، حتى أقضت مضاجع الطليان من عسكريين وسياسيين، وثورة الهند الصينية على الفرنسيين الغاصبين دامت ثماني سنوات. وإذا كان من سرّ نجاح ثورة الشهيد عمر المختار اعتصامه بالجبل الأخضر، فإن في الجزائر عشرات من الجبال تفوق الجبل الأخضر في الارتفاع ووعورة المسالك وكثافة الغابات الطبيعية، وليس جبل أوراس بأولها ولا بآخرها، وهي ممتدة على طول القطر الجزائري من حدود تونس إلى حدود مراكش، وتوازيها سلسلة الأطلس الصغرى على طول سواحل مقاطعة قسنطينة وثلثي مقاطعة الجزائر، وفيها من القمم الصخرية الوعرة والغابات ما لا يقلّ عن قمم وغابات الأطلس الأكبر. فالجزائر مسلّحة بهذا السلاح الطبيعي، الذي لا يوجد في غيرها إلا قليلًا، غير أنه لا يحسن الاعتماد عليها كثيرًا في هذا العصر الذي من أسلحته الطائرات والقنابل الثقيلة وأسلوب التطويق والحصار الذي يقطع الإمداد على المعتصمين بالجبال، ثم هذا الأسلوب الذي اهتدت إليه إيطاليا في أخريات ثورة عمر المختار، وهي ترحيل سكان القرى بالجبل وفي سفوحه وإبعادهم عن المجاهدين، ثم وضعهم الأسلاك الشائكة المكهربة على ما يقرب من مئتي كيلومتر على الحدود المصرية، وهذا الصنيع نفسه قد بدأت فرنسا في سلوكه بجبل أوراس، فقد أفادت وكالات الأنباء أنها أمرت سكان القرى الآمنة بالنزوح عنها كيدًا لهم ومكرًا بهم، حتى تنزل النكال بالثائرين ولو بتسليط النار على الغابات كلها.

_ * وُجدت هذه الكلمة في أوراق الإمام بخطه.

وأما تعميمها فهو شرط أساسي لنجاحها لأنه يوزّع القوى الفرنسية، ويقوّي تأثير الرعب في نفوس المعمّرين أصحاب المزارع والضياع، وهذا التعميم متوقف على الأسلوب الذي يجري عليه الثائرون في جبل أوراس، وعلى التوجيه السرّي الذي يباشره الدعاة إلى الثورة، والمغذّون لها بالرأي والإمدادات المادية. وأما التسليح فهو أصعب الأشياء، لأن الجزائر محاطة بمراكش وتونس ولا يمكن التسليح إلا منهما، وفرنسا محتاطة من عشرات السنين لهذه القضية بخصوصها، وما احتلّت فزان إلا لهذا، وما بادرت بمفاوضة التونسيين وإسكات الفدائيين في تونس إلا لهذا. فعلى الرجال والهيئات العاملة لخير الجزائر خاصة والمغرب العربي عامة حصر أعمالهم واهتمامهم في هذه النقطة، ومع الجدّ والعزيمة والصدق والصبر وحسن التدبير، يهون كل عسير.

التكالب الاستعماري على الجزائر

التكالب الاستعماري على الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوة: لا تعجبوا من هذا التهافت الشنيع من فرنسا على الجزائر، ومن هذا التكالب الفظيع على بقاء سلطانها الممقوت فيها، وبقاء ظلها البغيض ممدودًا عليها، ولا تعجبوا من تخاذل حُججها ومنطقها في الميدان السياسي كلّما عرضت القضية الجزائرية. لا تعجبوا من هذا كله، فإن الاستعمار مرض عضال في أهله، لا يزال بهم حتى يقضي عليهم، ومن أعراض هذا المرض ما ترون وما تسمعون من هذيان ونباح. وإن هذا المرض لم يسلم منه ساسة الإنكليز مع وفور حظهم من اعتبار الواقع. ومن عقابيل هذا المرض فيهم ما ترونه من تخبّط في الأردن واليمن. ولا تعجبوا من سقوط أمريكا حامية الاستعمار، ومن ممالأتها العالمية له حتى أصبحت شريكة في اجتراح كل ما أصاب الجزائريين من بلايا. لا تعجبوا فالاستعمار ملة واحدة، وكله رجس من عمل الشيطان وقد وَجَد في أمريكا رائده الأول هدفه، وهو الطمع والاستغلال والأنانية مجموعًا بعضها مع بعض، ولكن هذه الأقانيم الثلاثة وجدت في أمريكا على الطريقة اليهودية التي عنوانها: "غنم بلا غرم"، فما زالت بها سياسة الإنكليز تجرّها جرًّا في الحروب الأخيرة إلى أن أغرقتها فاضطرّ الأمريكان إلى تبديل ذلك العنوان من مقت وخسران. لقد يئس الاستعمار من القارة الآسيوية حينما أفاقت من نومتها الطويلة على قعقعة الأحداث، بعد أن وجد فيها رجال استطاعوا أن يجعلوا من القوة المعنوية في شعوبهم أسلحة تفلّ الحديد وتطفئ النار، وأن يجعلوا من الفطام على الشهوات ما يقتل الشهوات في أوكارها.

_ * لعلّ هذه الكلمة أُلقيت في إحدى إذاعات القاهرة، وهي ضمن أوراقه.

يئس الاستعمار من آسيا ويئس شيطانه أن يعبد في أرضها فقنع منها بما دون ذلك، وهو بث البغضاء بين شعوبها، وإثارة الشقاق والنزاع بينهم على صغائِرَ هُنَّ من صنع يده، فكرَّ على إفريقيا ذات الشمس الضاحية، والسماء الصاحية، والقرب القريب من منابعه، والنفوس المتطوعة لتحريك أصابعه، ليتخذ من أهلها وقودًا بشر للحرب، ومن سوائلها المكنوزة وقودًا لآلاتها. وباب افريقيا ومدخلها الموطأ الأكناف بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا معًا هو الجزائر، فمن هنا نشأ التهافت الذي نراه من فرنسا على هذه القطعة من إفريقيا، بحيث لو استطاعت أن تردم البحر المتوسط لتصبح الجزائر قطعة بر متصلة بفرنسا فتصحح دعواها فيها، فإذ لم تستطع، فلا أقل من أن تكون بوّابًا لهذا الباب، وحارسًا لهذا المدخل، لتنال من دهاقنة المال الأمريكيين والإنكليز أجر الحراسة على الأقل، وللأمريكيين حاسة سادسة للشم، ولكنها لا تشم إلّا رائحة الذهب والنفط، فهم يجرون مع كل خيال يخيل لهم وجود الذهب والزيت، والجزائر وصحراؤها غنيّة بهذين النوعين، فكيف لا تكون مهوى أفئدتهم، وكيف لا يسيل لعابهم إذا ذكروا أن الجزائر مفتاح إفريقيا كلها. أما إخوانكم المجاهدون الجزائريون فقد عقدوا النية وصمّموا وعاهدوا الله على أن لا يكون للاستعمار من ظاهر أرضهم موضع بيت، ولا من باطنها دانق ذهب، ولا قطرة زيت.

موالاة المستعمر خروج عن الإسلام

موالاة المستعمر خروج عن الإسلام * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المستمعون الكرام ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إذا قلنا إن موالاة المستعمر خروج عن الإسلام فهذا حكم مجمل، تفصيله أن الموالاة مفاعلة أصلها الولاء أو الولاية، وتمسّها في معناها مادة التولّي والألفاظ الثلاثة واردة على لسان الشرع، منوط بها الحكم الذي حكمنا به وهو الخروج عن الإسلام، وهي في الاستعمال الشرعي جارية على استعمالها اللغوي وهو- في جملته- ضدّ العداوة، لأن العرب تقول وَالَيْتُ أو عاديت، وفلان ولي أو عدوّ، وبنو فلان أولياء أو أعداء، وعلى هذا المعنى تدور تصرفات الكلمة في الاستعمالين الشرعي واللغوي. وماذا بين الاستعمار والإسلام من جوامع أو فوارق حتى يكون ذلك الحكم الذي قلناه صحيحًا أو فاسدًا؟ إن الإسلام والاستعمار ضدّان لا يلتقيان في مبدإٍ ولا في غاية. فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قوامه على الشدّة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها، ويقرّ ما فيها من خير ويحرّم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلًا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصًا الإسلام ونبيّه وقرآنه ومعتنقيه. نستنتج من كل ذلك أن الاستعمار عدوّ لدود للإسلام وأهله، فوجب في حكم الإسلام اعتبار الاستعمار أعدى أعدائه، ووجب على المسلمين أن يطبّقوا هذا الحكم الإسلامي وهو معاداة الاستعمار لا موالاته.

_ * كلمة أُلقيت بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، عام 1955.

الاستعمار الغربي- وكل استعمار في الوجود غربي- يزيد على مقاصده الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال، مقصدًا آخر أصيلًا وهو محو الإسلام من الكرة الأرضية خوفًا من قوّته الكامنة، وخشية منه أن يعيد سيرته الأولى كرة أخرى. وجميع أعمال الاستعمار ترمي إلى تحقيق هذا المقصد، فاحتضانه للحركات التبشيرية وحمايته لها وسيلة من وسائل حربه للإسلام. وتشجيعه للضالين المضلّين من المسلمين غايته تجريد الإسلام من روحانيته وسلطانه على النفوس، ثم محوه بالتدريج. ونشره للإلحاد بين المسلمين وسيلة من وسائل محو الإسلام، وحمايته للآفات الاجتماعية التي يحرمها الإسلام ويحاربها كالخمر والبغاء والقمار، ترمي إلى تلك الغاية. ففي الجزائر- مثلًا- يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح المواخير لإفساد مجتمعهم، ولا يبيح فتح مدرسة عربية تحيي لغتهم أو فتح مدرسة دينية تحفظ عليهم دينهم. ويأتي في آخر قائمة الأسلحة التي يستعملها الاستعمار الغربي لحرب الإسلام اتفاقه بالإجماع على خلق دولة إسرائيل في صميم الوطن العربي، وانتزاع قطعة مقدّسة من وطن الإسلام وإعطائها لليهود الذين يدينون بكذب المسيح وصلبه، وبالطعن في أمه الطاهرة. فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أن من كان عدوّا لهم فأقلّ درجات الإنصاف أن يكونوا أعداء له، وأن موالاته بأي نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام، لأن معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك وعلى دينك وعلى قومك وعلى وطنك. والمعاذير التي يعتذر بها الموالون للاستعمار كالمداراة وطلب المصلحة، يجب أن تدخل في الموازين الإسلامية، والموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك بقدره وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات. وموالاة المستعمر أقبح وأشنع ما تكون من الحكومات، وأقبح أنواعها أن يحالف، حيث يجب أن يخالف، وأن يعاهد، حيث يجب أن يجاهد، وأقبح ما فيها من القبح أن يحالف استعمار على حرب استعمار. وقد كانت الحروب قبل اليوم لمعانٍ بعضها شريف، وقد يكون أحد الجانبين فيها على حق. أما هذه الحروب التي لا تنتهي الواحدة منها إلا وهي حامل مُقْرب بأخرى أشدّ منها

هولًا، وأشنع عاقبة، فلم يبق فيها شيء من معاني الشرف ولا من معاني الرحمة ولا من معاني الكرامة الإنسانية، وإنما هي حرب مجنونة يبعثها حب الاستعلاء والتسلّط على الضعفاء، والاستئثار بخيرات أرضهم، والضعفاء دائمًا هم الأدوات التي تقع بها الحرب، وتقع عليها الحرب، فهم في السلم محل النزاع، وفي الحرب ميدان الصراع. لا مثال للبلاهة والبلادة أوضح من محالفة الضعيف للقوي إلا إذا صحّ في الواقع وفي حكم العقل أن يحالف الديك النسر، أو تحالف الشاة الذئب. كيف نحالف الأقوياء وقد دلّت التجارب أنهم إنما يحالفوننا ليتخذوا من أبنائنا وقودًا للحرب، ومن أرضنا ميدانًا لها، ومن خيرات أرضنا أزوادًا للقائمين بها، ثم تنتهي الحرب ونحن المغلوبون الخاسرون على كل حال، وقد تكرّرت النذر فهل من مُدَّكِر؟ أيها المسلمون أفرادًا وهيئات وحكومات: لا توالوا الاستعمار فإن موالاته عداوة لله وخروج عن دينه. ولا تتولّوه في سلم ولا حرب فإن مصلحته في السلم قبل مصالحكم، وغنيمته في الحرب هي أوطانكم. ولا تعاهدوه فإنه لا عهد له. ولا تأمنوه فإنه لا أمان له ولا إيمان. إن الاستعمار يلفظ أنفاسه الأخيرة فلا يكتب عليكم التاريخ أنكم زدتم في عمره يومًا بموالاتكم له. ولا تحالفوه فإن من طبعه الحيواني أن يأكل حليفه قبل عدوّه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإسلام في الجزائر

الإسلام في الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وضع الجزائر اليوم من حيث التخطيط الجغرافي والتحديد الإداري وضع جديد بدأ في العهد العثماني وتمّ في عهد الاحتلال الفرنسي، أما في القديم فكانت قطعة من المملكة العربية الإسلامية التي شادها الفاتحون في القرن الأول للهجرة وجعلوا عاصمتها القيروان. فالقيروان هي التي كانت تتحكم في تونس والجزائر ومراكش، وفي الأندلس بعد فتحها، بدليل أن العمال لهذه الأقطار كلها كانوا يستعملون من قبل والي القيروان لا من مركز الخلافة في الشرق، فلما ظهرت الدعوة الأموية في الأندلس على يد عبد الرحمان بن معاوية انفصلت الأندلس عن القيروان، ولما ظهرت الدعوة العلوية في مراكش على يد إدريس بن عبد الله انفصلت مراكش عن القيروان، وليس بين مراكش والجزائر حدود طبيعية تفصل إحداهما عن الأخرى، ولا بين الجزائر وتونس، فالدم واحد والعنصر (جاهلية وإسلامًا) واحد، والأطلس الأشم آية من الله شاهدة على هذه الأقطار بالوحدة، والإسلام الذي طوى هذه الأقطار في ملاءته زادها وحدة وارتباطًا. والإسلام في الجزائر كالإسلام في غيرها من أوطانه، فإذا اختلفت على هذه الأوطان ألوان من الإدارة والحكم، أو تعاورتها أطوار من الفساد والصلاح، فالإسلام في جميعها واحد، يعلو اسمه بعلو المسلمين وينحط بانحطاطهم وتقوى آثاره بقوّة فهم المسلمين له وإقامتهم لشعائره ووقوفهم عند حدوده، وتضعف حين يبعدون عن هدايته. أما حقائقه العليا فهي قائمة بقيام القرآن، ثابتة بثبوته، موجودة بوجوده، وإنما قصرنا العنوان على الجزائر استجابة لمقترح خاص بعنوان معيّن، ويتضح المراد منه بزيادة كلمة "اليوم" والأمس فيصير العنوان الكامل: الإسلام في الجزائر ماضيه وحاضره.

_ * حديث أُلقي من إذاعة "صوت العرب"، القاهرة، 1955.

ونعني باليوم الحقبة المشؤومة التي ابتُليت فيها الجزائر بالاستعمار الفرنسي، لأن هذه الحقبة هي التي أصبح للإسلام فيها وضع شاذ على بقية الأقطار الإسلامية شرقها وغربها، وبهذا التحديد يستطيع المتحدّث أن يأتي بكلام مفيد في الدقائق المحدودة في "صوت العرب" المجلجل. الجزائر- أيها المستمعون الكرام- من أزكى المغارس التي غرست فيها شجرة الإسلام فنمت وترعرعت ثم آتت أكلها طيبًا مباركًا فيه من القرن الأول للهجرة: فقد حمل الفاتحون وفيهم أولو بقية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعاليم الإسلام إلى شمال أفريقيا، وقلب هذا الشمال هو ما نسمّيه اليوم الجزائر، فنشروها بالإقناع وثبتوها بالشواهد العملية بعد أن اجتثوا من الشمال وثنية البربر وبقايا العتو الروماني، نشروا عقائد الإسلام حتى استقرّت في النفوس، وعباداته حتى اطمأنت إليها النفوس، وأحكامه حتى حقّقت العدل، وحفظت الحقوق، وصانت المصالح، وضمنت المساواة، وأخلاقه حتى تعايش الناس على المحبة وتعاونوا على البر والتقوى. والفتح الإسلامي بعيد عن معنى الفتح المتعارف عند المؤرخين والحربيين، المبني على القسوة والقهر، المثمر للتمكن والسلطان، إنما الفتح الإسلامي فتح للقلوب الغلف عن الهداية، والعيون العمي عن الحق، والآذان الصم عن دعوة الحق، والأذهان الغافلة عن الله، والعقول المحجوية بالظواهر عن حقائق الكون والحياة، والنفوس المفرغة عن الشر لتعمر بالخير والمحبة وصدق المعاملة مع الله ومع عباده، حتى إذا استقامت هذه القوّة كلها على طريقة الحق وأشرق عليها الإيمان بنوره، كملت إنسانية الإنسان وصلح الفرد، فصلحت الجماعة المؤلّفة من الأفراد، فصلحت الدولة المركبة من الجماعات. وانحدر الإسلام في شمال افريقيا- والجزائر هي قلبه دائمًا- مع تاريخه مرّة يضعف ومرّات يقوى، ولكنه محتفظ دائمًا بسلطانه على النفوس، ومن آثار ذلك السلطان القاهر ما نراه من آثار العقول في ازدهار العلوم والآداب وكثرة التآليف وظهور النوابغ فيهما، خصوصًا في ما قبل الألف، وما نراه من آثار الأيدي المفتنّة في المساجد والمدارس والحصون والقصور، وما نراه من أثر الهمم في الأوقاف الدارة على تلك المساجد والمدارس، وعلى وجوه الخير وسبله المتنوعة من تنشيط العلم وتعميمه، وتخفيف البؤس عن البائسين، وتسليح المرابطين وتزويدهم، وصيانة اليتامى ورعاية المنقطعين، ومعالجة المرضى، بحيث لم تبق حاجة من حاجات المجتمع لم تتناولها همم المحسنين بالسد والكفاية من هذه الأوقاف، وكانوا أذكى المنتبهين لخطر الآفات الثلاث المبيدة للشعوب: الجهل، والفقر، والمرض، فوضعوا للوقاية منها أسدادًا من الأوقاف، ومن اطلع على رواية المؤرخين وترجماتهم ورأى بقايا الوثائق الوقفية المسجونة في مكاتب الاستعمار بالجزائر، عجب لما

فعل الإسلام في نفوس أسلافنا: ومن قرأ تاريخ المدن الجزائرية العلمية التي كانت لها في الحضارة أوفر نصيب: تلمسان وبجاية وتيهرت وقلعة بني حماد والمسيلة وطبنة وبسكرة، من قرأ هذه التواريخ علم أية سمات خالدة وسم بها الإسلام هذا القطر. على هذا النحو من القوة والسموّ والإنتاج والحضارة والعلم والأدب والفن كان الإسلام في الجزائر، له في كل جو متنفس، وفي كل واد أثر، وفي كل علم أعلام، وكانت الحكومات المتعاقبة إما أن تزيد في ذلك البناء الشامخ، وإما أن لا تنقص، إما أن تجلو آثار الإسلام في الأنفس والآفاق وإما أن لا تطمس، ومهما يبلغ الحاكم المسلم من استبداد وفساد وجرأة على المخلوقين فإنه لا يحارب الله في دينه لإخراب بيوته أو منعها أن يذكر فيها اسم الله، أو بتعطيل شعائره، أو باحتجان أوقافه وصرفها إلى غير مقاصدها، وأعتبر هذا التاريخ على طوله وامتداده في قريب من اثني عشر قرنًا طورًا واحدًا للإسلام في الجزائر، هو ماضي الإسلام. ... أما يومه فها هو: احتلت فرنسا الجزائر المسلمة العربية احتلالًا مدبّرًا مبيتًا على برنامج واسع يدور كله على محور واحد، ويرمي إلى غاية واحدة وهي إذلال المسلمين ومحو الإسلام في الشمال الافريقي كله، واحتلال الجزائر إنما هو بداية بالقلب مطوية من أول يوم على احتلال تونس غدًا ومراكش بعد غد، وبعد ذلك احتلال ليبيا، وكان الإسلام في الجزائر يوم الاحتلال قويًّا بمعنوياته ومادياته، مكينًا في النفوس، متمكنًا في الأرض بمقوّماته من معابد لإقامته ومدارس لعلومه وأوقاف دارة الريع للقيام به وحمايته والمحافظة عليه، وتشترك في ذلك الحكومة والأمّة معًا، وقد يتطرق إليهما الخلاف في كل شيء من أسباب الدنيا إلا في الدين وأسبابه، بل كانوا يختلفون في شؤون الدنيا فيكون الدين بسلطانه على النفوس هو الحامل لهم على إصلاح ذات البين وإرجاع الحاكم إلى إقامة العدل، وإرجاع المحكوم إلى التزام الطاعة وإقامة الحدود التي تحفظ الأمن والرسوم التي تضمن الوحدة، وكان الحاكم المسلم هو الذي يرقم الأئمة والخطباء للمساجد، ويختارهم من أهل العلم والفضل، ويجري عليهم أرزاقهم من الأوقاف على الشروط المقرّرة في الإسلام لتكون عبادات المسلمين صحيحة، ثم يقيم القضاة والموثقين ليحكموا بين المسلمين بأحكام الإسلام، وينفّذوها فيهم باسم الإسلام، لتكون أنكحتهم ومعاملتهم صحيحة. فكان الإسلام في الجزائر بذلك كله هو المرجع في التشريع والتنفيذ، وهو المهيمن على العبادات والعادات، وهو المسيطر على الروحيات والماديات، وهو الموجّه لكل ما يصدر

عن الأفراد والجماعات من أعمال، وكان من وراء الجهاز الحكومي طوائف من الفقهاء الشعبيين المتضلعين في فقه الأحكام أصولًا وفروعًا، الآخذين من فضائل علماء السلف بالنصيب الأوفى، فكان هؤلاء العلماء هم حراس الإسلام وأحكامه، يقوّمون بنفوذهم العلمي كل من زاغ عن سبيله من حاكم ومحكوم، وكانوا من استقامتهم بحيث لا يغضبون إلا لله ولا يرضون إلا لله، وكانوا من سعة السلطان على الجماهير بحيث يخشى غضبهم ويرجى رضاهم، وكانوا بوحدة المذهب السائد في الفروع- وهو مذهب مالك- في مأمن من اختلاف الرأي أو الاختلاف في الحكم، وهي خصوصية قلّ أن توجد في غير شمال إفريقيا، وبالجملة فقد كان هذا الطراز من العلماء الشعبيين هو ميزان الاعتدال في الجزائر وهو المسير الحقيقي للدولاب الحكومي والاجتماعي. فماذا صنع الاحتلال الفرنسي من أول يوم؟ بدأ بخطة كانت مرسومة من قبل وكشف عن مقاصده المبيّتة للإسلام بعد أسابيع من احتلال الجزائر العاصمة، ولم ينتظر انتهاء الحركات العسكرية التي طالت عشرات السنين، كأن به شوقًا مبرحًا إلى الانتقام من الإسلام وإطفاء ما يكنّه من حقد عليه: بدأ بمصادرة الأوقاف الإسلامية بجميع أنواعها في العاصمة وإلحاقها بأملاك الدولة المحتلّة، وأصدر قانونًا بتعميم المصادرة في كل شبر يحتلّه، ثم عمد إلى المساجد فأحال بعضها كنائس، وبعضها مرافق دنيوية عامة، وهدم بعضها لإنشاء الشوارع والميادين. بدأ بهذا في العاصمة ثم عمّمه بعد استقرار الأمر له في جميع القطر، ثم عمد إلى المساجد الباقية فاحتكر التصرّف فيها لنفسه واستأثر بتعيين الأئمة والخطباء والمؤذّنين والمفتين، وأجرى عليهم الأرزاق من خزينته العامة ليبقوا دائمًا تحت رحمته، فلا يقدم لوظيفة من هذه الوظائف إلا من يجري في عنانه ويتوخّى رضاه ويخدم مصالحه ولو خرب الدين وكان أجهل بالإسلام من إنسان المجاهل. وأمر الاستعمار الفرنسي على هذا إلى هذا اليوم، وله أعمال من دون ذلك هو لها عامل وكلها تتلاقى عند غاية قدّرها، وهي محو الإسلام من الجزائر حتى تصفو له، فتنسى دينها ولغتها وتاريخها وأمجادها وعروبتها وشرقيتها، وتصبح فرنسية الهوى والعاطفة والفكر واللسان والاتجاه، فيتخذ منها امتدادًا لوطنه وأمدادًا لتوسعه. ومن مكائده الخفية لمحو الإسلام تشجيعه للخرافات والبدع والضلالات الشائعة بين مسلمي الجزائر لعلمه أنها تفسد عقائد الإسلام الصحيحة، وتحبط عباداته، وتبطل آثارها، وتخلط الموازين، فتلتبس السنّة بالبدعة والفضيلة بالرذيلة والحق بالباطل، وعقيدة الحق إذا شابها ثوب الباطل أبطل أثرها في صفاء الأرواح، وعبادة الحق إذا لبسها الضلال بطل تأثيرها في تصفية النفوس، والفضيلة إذا مازجتها الرذيلة بطلت خاصيتها في تكوين الجماعات الفاضلة.

خبّ الاستعمار وأولع في هذا المضمار وجمع على حرب الإسلام كل ضال من أبنائه وكل دجّال وكل مبتدع وكل متّجر بالدين، يشجعهم ويرعاهم ويكرّمهم ليحاربوا الدين الحق بالدين الباطل، وظاهرهم بجيش آخر من المبشّرين يحميهم ويمهّد لهم الطريق، وبجيش آخر من الملاحدة الذين أنشأتهم مدارسه على درجات تبدأ بالزهد في الإسلام ثم بالتنكّر له والازدراء، ثم بالمروق منه. هذا بعض ما فعله الاستعمار الفرنسي من موبقات نحو الإسلام، وما جنّده من جنود لحرب الإسلام في الجزائر، لعلمه أنه لا بقاء لسلطانه وجبروته ما دام القرآن محفوظًا، والعقائد الصحيحة ثابتة، والشعائر المرفوعة مقامة والسنن المأثورة مشهودة، ولغة القرآن مالكة للألسنة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الجزائر المجاهدة

الجزائر المجاهدة * لو قسمت حظوظ الجهاد بين الأمم لحازت الجزائر قصبات السبق، ونطلق الجهاد على معناه الواسع الذي يقتضيه اشتقاقه من الجهد، ولنبدأ بمعناه الخاص وهو جهاد العدوّ الأجنبي المغير على الوطن، وقد وضع الله الجزائر في موضع يدعو إلى الجهاد وعلى وضع يدعو إلى الجهاد، فموضعها الضفة اليسرى للبحر الأبيض للمتّجه إلى المغرب، ووضع الأمم اللاتينية على الضفة اليمنى والبحر بينهما يضيق إلى عشرات الأميال كما بين صقلية وبنزرت في تونس، ويتسع إلى مئات الأميال كما بين مدينتَي الجزائر ومرسيليا، والأمم اللاتينية أمم مطامع وفتوح وكبرياء ودماء منذ كانوا، لم يزدها الدين المسيحي السامي الروح إلا ضراوة بذلك لأن طبيعتها المادية المتكالبة غلبت طبيعته الروحية المتسامحة وبذلك أصبح دينًا رومانيًا لا شرقيًا. والأمّة الجزائرية هي بعض جزء من البربر في القديم وبعض جزء من العرب في الحديث، وكلتا الأمّتين لها خصائص متقاربة في الإباء والحفاظ والأنفة واعتبار الحمى عرضًا تجب الموت دونه، وفي معنى السخاء الذي يبتدئ بالمال ويعلو فينتهي بالروح، والجود بالروح أقصى غاية الجود. وجاء الإسلام فأخرج من المزاج المشترك بين العنصرين مزاجًا ثالثًا وقوّى معى الحمى والعرض والحفاظ وهي المعاني التي كان يتهالك العرب ويتفانون لأجل حمايتها إلى معنى روحاني أعلى وأسمى وهو الجهاد دفاعًا وهجومًا لإعلاء كلمة الله. وكلمة الله هي نشر العدل والإحسان في الأرض ونشر الخير والمحبة في نفوس أهل الأرض. هذا المزاج المتحدّر من الخصائص الفطرية التي زادها الإسلام تثبيتًا وأولاها عناية وغربلة، هو الذي ترك الأمّة الجزائرية أمّة جهاد بجميع معانيه، وعلى هذا المعنى يجب أن يبني المؤرّخ تاريخ الجهاد النفسي في هذه الأمّة.

_ * حديث أُلقي بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، عام 1955.

لم تخلُ العصور الإسلامية من الجهاد بالنفس في الجزائر لأن الجارين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض أصبح كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل لبّ الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان، فبعد أن كان صراعًا على العيش أو التوسّع في العيش أو صراعًا على الزيت والقمح وهما المادتان اللتان جلبتا الفتح الروماني على افريقيا الشمالية، صار صراعًا على الدين زاد في شدّته أن العرب بدينهم خلفوا الرومان على حضارتهم في افريقيا ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيّروا بها وطاروا فزعًا وظنّوا أنها القاضية على روما وديانتها وحضارتها وشرائعها، وهذا الميدان الذي انتقل إليه الصراع أعمق أثرًا في النفوس ويزيد في عمقه أن حامليه العرب قوم لا تلين لهم قناة ولا يصطلى بنارهم. ندع الفترة الرومانية الضعيفة التي سبقت الفتح الإسلامي وبدأت من يوم انقسام روما إلى شرقية وغربية وصاحبته، فهي فترة سلم اضطراري. ومضى الرومان فغاضوا وقوي العرب ففاضوا، ونتحدّر مع التاريخ إلى ضعف الأندلس وملوك الطوائف وتداعي اللاتين إلى إحياء روح الثأر والانتقام وشنّ الغارات على سواحل المغرب من سواحل تونس الشرقية إلى السواحل المراكشية على المحيط، فالجزائر كان لها القدح المعلى في الجهاد، تارة منظّمًا على أيدي الدول والاستنفار، وتارة- وهو الدائم الذي لا ينقطع- بالوازع النفساني الفردي وهو الرباط الذي يشبه في جهته الفردية حرب العصابات اليوم. فكانت الثغور الجزائرية المشهورة والمهجورة التي يتطرق منها العدو عامرة دائمًا وأبدًا بالمرابطين، وهم قوم نذروا أنفسهم لله ولحماية دينه يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، لا يرزؤون الحكومات شيئًا من سلاح ولا زاد، وإنما يتسلحون ويتزوّدون من أموالهم ليجمعوا بين الحسنيين، الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، وسلسلة الرباط لم تنقطع إلا بعد استقرار الأمر لفرنسا. وإنما كانت تشتدّ وتخفّ تبعًا لما يبدو على الضفة الأخرى من نشاط وخمود، وكانت على أشدّها في المائة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة، في الوقت الذي عادت فيه الكرة للإسبان على المسلمين في الأندلس واغتنمها الإسبان فرصة لاحتلال ثغور البحر المتوسط الافريقية ومعظمها في جزائر اليوم. احتلّت فرنسا الجزائر سنة 1830 تنفيذًا لخطة مرسومة تقتضي إعادة شمال افريقيا لاتينيًا كما كان قبل الإسلام، وإذا كان قديمًا على يد الرومان وكان اليوم على يد الفرنسيين فإنما ذلك توارث بين ابن العم وابن عمه، والخطة تقتضي احتلال الجزائر اليوم، واحتلال جناحيها يوم يجيء الوقت، ومعاونة من يريد احتلال جزء آخر من التراب الإسلامي. وسكت العرب عن هذه الفاجعة التي حلّت بقطعة جليلة من وطنهم الأكبر، وسكت المسلمون من ورائهم كأن الأمر لا يعنيهم، وما دروا أن ضياع الجزائر مؤذن بضياع غيرها

وأن موت البعض من بعض قريب، كما يقول الشاعر، وانخنست تركيا قانعة بالموجود وما درت أن الموجود اليوم مفقود غدًا، ولكن الجزائريين لم يسكتوا، وبدأت المقاومة لأول أمرها قريبة من نظام المرابطة، ثم نظمت على يد الأمير عبد القادر بن محيي الدين وبقيادته، وبلغت الأوج في سنواتها الأولى وأصبحت مرهوبة يخشى بأسها في سنواتها الوسطى، وذاق الفرنسي الوبال، وتجلّى الجزائري عن بطولة كاملة يرفدها الروح المركب بيد الإسلام من حقيقة العربي والبربري التي أصبحت بفضله حقيقة واحدة، وبقي الحفاظ متأجّجًا سبع عشرة سنة تعاونت العوامل في آخرها على القائد عبد القادر فاستسلم مكرهًا وتحطمت المقاومة الجماعية المنظمة بتسليم الأمير. ولكن هل تحطمت المقاومة بتسليم الأمير؟ لم تتحطم المقاومة إلا في السهول التي مهّد سبلها وفعل فيها الجيش الفرنسي الأفاعيل الوحشية التي يعترف بها القادة مثل القائد سانت أرنو في كتابه المعروف برسائل سانت أرنو، فمن أراد أن يعرف ما تصنعه الوحشية العاقلة، وما صنعته فرنسا في الجزائر من تقتيل وتحريق للجماعة الكاملة بنسائها ورجالها وأطفالها فليقرأ ذلك الكتاب، ولو اشتراه باحث بوزنه ذهبًا لما كان مغبونًا، لأنه يضع يده على الفظائع التي ارتكبها أجداد هؤلاء الكاذبين المتبجحين المستطيلين على العالم بالدعاوى الزائفة في العلم والمدنية. أما في الجبال فبقيت المقاومة على أشدّها في شكل تمرّد شامل وفي ثورات متتالية في جهات متباعدة لا تدلّ على قوّة وإنما تدلّ على حمية وأنفة، إلى أن كانت أكبرها وخاتمتها ثورة الحاج أحمد المقراني سنة 1871، في أثناء اشتغال فرنسا بحربها السبعينية مع الألمان، في مقاطعة قسنطينة التي تشكّل نصف القطر الجزائري تقريبًا في عدد السكان ورقعة الأرض، وكانت ثورة المقراني بعد واحد وأربعين سنة من الاحتلال مرّت كلها في المقاومات والثورات المسلّحة ولم تسترح فيها فرنسا، ولا اطمأن لها جنب، فمدة المقاومة المتصلة إذن هي أربعون سنة وهي من أطول المقاومات أمدًا في التاريخ. ولو طالت الحرب السبعينية بين فرنسا والألمان سنتين أو ثلاثة لباءت ثورة المقراني بالنصر والنجاح، ولكن فرنسا انهزمت ودفعت الجزية للألمان عن يد وهي صاغرة، ودفعت ببقايا جيشها إلى الجزائر لتحطيم ثورة المقراني. فهذه هي نهاية الجهاد المسلّح، أما أنواع الجهاد الأخرى ففيها تظهر قوّة الجزائر وإيمانها وصلابتها، ولا يعرف قيمة هذا النوع من الجهاد إلا من عرف "فرنسا في الجزائر" وما سلّطت فرنسا على الجزائر وما ساقت إليها من شرور وبلايا. إن فرنسا بعد التمهيدات العسكرية الأولى رأت أن عمل الحديد والنار لا ينفع ولا يدوم، لأنه يمنع القرار والاستغلال، وهي ما جاءت إلا لتستقر وتستغل، ورأت أن ملك

القلوب بالإحسان ليس من طبعها ولا من سيرتها، وأن تحطيم المقاومة المادية لا يغني ما لم تحطم المقاومة الروحية، فعمدت إلى وضع برنامج واسع طويل عريض لضمان بقائها في الجزائر يجمعه مع طوله وتشعّب فروعه قولك: "إفساد معنويات الشعب" ومن أقوى المعنويات الدين، فبدأت بالاستيلاء على الأوقاف الإسلامية وأحالت كثيرًا من المساجد إلى كنائس، ثم شرعت في تنفيذ برنامجها البطيء، فضيّقت على دروس الدين، ودروس العربية لأنهما حافظا المقوّمات الروحية حتى ينسى الناس دينهم ولغتهم بالتدريج وتسلّطت على بقية المساجد تتصرف فيها تصرفًا مطلقًا. فهي التي تعيّن المفتين والأئمة والمؤذّنين والقَوَمة وكل من له تعلّق بالمسجد، فتوصلت بذلك إلى إفساد هذه الطائفة الدينية بالرغبة في الوظيفة والتعلّق بها، حتى أصبح رجال الدين كلهم جواسيس لها ومخبرين وحالتهم اليوم أتعس حالة، وأقبح مثال من مخالفة الوظيفة لمعناها، فالإمامة في الإسلام منصب جليل وصاحبه قائد روحاني يقلب قلوب الناس بخطبه الدينية في بيوت الله، والمساجد أجواء روحانية يعطرها الإمام الصالح العارف بما يخرج من فيه، بل من روحه ويتصل بنفوس، فإذا هي تفعل فيها فعل المطهر الكيميائي الذي يبيد الحشرات والجراثيم. كان من وسائل فرنسا لإفساد المعنويات هذه الأعمال التي نذكرها مسرودة، وكل واحد منها موضوع بالقصد لغاية، أو لغايات ينتهي إليها بالطبيعة إذا لم يجد في طريقه مقاومة طبيعية أو صناعية: 1 - حماية الدجّالين والمضلّلين باسم الدين من شيوخ الطرق الصوفية، وقد جنت فرنسا من هؤلاء كل خير لنفسها، فقد كانوا مطاياها وجنودها الروحيين في احتلال الأوطان الإسلامية، ويقول بعض المغفلين إنهم هم الذين نشروا الإسلام في أواسط افريقيا وفي السودان، وهذا تخليط. فإن الذين نشروا الإسلام في تلك الأصقاع هم طائفة من أجدادهم الصالحين بمعونة التجّار، أما هؤلاء الأحفاد فما نشروا إلا الاستعمار الفرنسي. 2 - نشر الفجور وحمايته. 3 - نشر الخمر لإتلاف الأموال وإفساد العقول، وكم خربت معها الرذيلة من بيوت، وكم أتت على ثروات، وكم نقلت من مئات آلاف الفدادين من الأراضي الخصبة من يد أصحابها المسلمين إلى أيدي اليهود، ثم إلى أيدي أوزاع أوربية يسمونها المعمّرين.

دور الدول الإسلامية في المؤتمر الأسيوي - الأفريقي

دور الدول الإسلامية في المؤتمر الأسيوي - الأفريقي * أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يحسن في الذوق الاجتماعي اللطيف الذي يستحلي السرى والسلامة للإنسانية كلها أن يسمى المؤتمر الافريقي- الأسيوي جنة لأنه لم يحضره شيطان، وشياطين هذا العصر هم دعاة الاستعمار، وأحق الناس بدخول هذه الجنة هم قادة المسلمين ورجال حكوماتهم، ويزيد استحقاق المسلمين بدخول هذه الجنة تأكدًا أن المؤتمر خاص بأفريقيا وآسيا، والإسلام متأصل فيهما وجميع المسلمين مستقرين في هاتين القارتين، ونتمنى أن يكون شهود هذا المؤتمر هم العوذة من الشيطان حتى لا يوسوس بخلاف وهو خارج الدار، ولا ينفث الشر وهو وراء الأسوار، فإنه كأخيه شيطان الجن قادر على ذلك، وكما أن شيطان الجن يَعِدُ الإنسان ويمنيه ولا يمنيه إلّا غرورًا، كذلك شيطان الاستعمار شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وللافريقيين والأسيويين موعظة بالغة في العرب، فقد وعدهم الاستعمار الغربي في الحرب الأولى بوحدة تجمع شملهم، ومنّاهم بخلافة تعيد مجدهم، وملك طويل عريض يظللهم لواؤه على أن يكونوا معه في الحرب وقودًا لها، فلما انتصر وقضى الوطر مزقهم قطعًا وقطعهم في أرضهم أممًا، وضرب بعضهم ببعضهم ليستذلهم جميعًا ويستغلهم جميعًا ويكون سيدهم جميعًا، وأصبح العرب الطامعون في الغنيمة هم الغنيمة، وجاءت الحرب الثانية متصلة الأسباب بالأولى فجدد الوعد بلون آخر، وأكد العهد بيمين أخرى، وتجدد منهم الانخداع مع الأسف، لأنه هيأهم لذلك في فترة ما بين الحربين، فلما انتصر ثانية كان جزاؤهم أن نزع منهم فلسطين وأعطاها لليهود علانية، ووضع في جنوبهم شوكة لا يقر لهم معها قرار ولا يهدأ مضجع، إن تركت أهلكت وإن نكست آلمت، أما استنزاع هذه الشوكة فلا يتم إلّا

_ * حديث أُلقي في إذاعة صوت العرب بمناسبة انعقاد المؤتمر الافريقي- الاسيوي الأول في مدينة باندونغ بأندونيسيا، القاهرة، ماي 1955.

بقطع اليد التي غرزتها، وليت شعري بماذا يعد هذا الشيطان العرب في الحرب الثالثة ونذرها تتوالى؟ إنه سيغير الأسلوب، ويأتيهم كطالب الغيث بالرداء المقلوب، فهل يلدغ العرب من جحر واحد ثلاث مرات؟ هذا المؤتمر هو الأول من نوعه في عالم المؤتمرات، فليكن هو الأول من نوعه في عالم الآراء الحكيمة والقرارات العملية الحازمة، وهو أكبر مؤتمر يجمع القلوب التي جرحها الاستعمار الغربي والرقاب التي استذلها والأوطان التي ابتلع خيراتها، فسمن على هزالها، وقوي على ضعفها، وحي على موتها، فليكن دور الدول الإسلامية فيه كما يريد منهم الإسلام، وكما تملي عليهم روحانيته السماوية وعظمته التاريخية دورًا قويًا شجاعًا واضحًا في صداقته لمن يصادق صريحًا في عداوته لمن يعادي، ليكن دور الدول الإسلامية في هذا المؤتمر دور الإمام الموجه لا دور التابع المقلد، لأن الإسلام هو الذي عرف هذا الشرق كما يجب أن تكون المعرفة، ثم عرَّفه كما يجب أن يكون التعريف، والإسلام هو الذي هذب الروحانية الشرقية: كانت خمولًا فصيرها نشاطًا، وكانت ضعفًا فنفخ فيها قوّة واعتزازًا، وكانت منفصلة عن الحياة فوصلها بالحياة، والمسلمون هم الذين تغلغلوا في أحشاء هاتين القارتين فاتحين رحماء ومعلمين حكماء وحكامًا عاملين، وتجارًا صادقين، وهم الذين حافظوا على حضارات الشرق وكملوها ونشروها في العالم خيرًا وعمارة وسعادة. دور الدول الإسلامية في هذا المؤتمر أن تتذكر قبل كل شيء أن دينها دين يدعو إلى الحرية بجميع أنواعها، ويحارب الاستعباد بجميع أصنافه وأنه لا يدعو إلى شيء حتى يفعله، فهذا هو المعنى الذي يجب أن يستوحيه ممثلو الدول الإسلامية من هذه النسبة فيجتمعوا عليها ويكونوا قلبًا واحدًا ويدًا واحدة وكلمة واحدة وصفًا واحدًا، ثم يتوجهون متعاونين مع إخوانهم المؤتمرين وجهة واحدة هي رأس المال وما سواها ربح، وهي الفريضة وما عداها نافلة. هذه الوجهة الصادقة هي العمل على قتل الاستعمار الغربي ومحوه من أفريقيا وآسيا حتى لا يبقى له فيها أصل ولا فرع، ومن أدوار الدول الإسلامية في هذا المؤتمر أن توجه اهتمامها إلى فصل الشرق عن الغرب في الحرب المقبلة، والتزام الحياد التام فيها حتى يحترق بالنار موقدها وحده، وإلا يكرروا معه التجربة، فحسبهم ما مر عليهم منها، وألا يرتبطوا معه بمحالفات، فقد عرفوا أنه لا عهد له ولا ميثاق، وأنه يتعرف إلى الشرق في الشدة ويتنكر له في الرخاء. ومن عجيب أمر الشرقيين أنهم يقولون بألسنتهم إن الاستعمار هو أعدى عدو لهم، ثم يرضون بمحالفته، ومتى صح في عقل العقلاء أن يحالف العدو القوي عدوه الضعيف، إلّا إذا كان معنى الحلف أكل القوي للضعيف، وإن هذا لهو الواقع في هذه الأحلاف التي يعقدها الغرب مع الشرق. ان الغرب كلما دهمته أزمة يخاف منها على كيانه أوهم الدول الشرقية أنها قوية وأنها أهل لمحالفته على الدفاع المشترك فتتوهم تلك الدول

أنها محالفة الند للند، فتعادي من يعاديه الحليف بغير حكمة، وتصادق من يصادقه بغير فائدة، وقد تعادي جارها أو أخاها على غير بصيرة، ثم يعطيها ذلك الحليف إن أعطاها بحساب، ويأخذ منها دائمًا بغير حساب، فيكون له الغنم دائمًا وعليها الغرم أبدًا. وعلى الدول الإسلامية التي تشهد هذا المؤتمر ووراءها أكثر من خمسمائة مليون مسلم أن تعرف كيف تستغل هذه القوّة الهائلة وكيف تلوح بها في وجه الاستعمار، وكيف تخوفه بها، وكيف تثيرها في وجهه، وأن هذه المئات من الملايين تعمر قطعًا متجاورات من الأرض فائضة بالخيرات على وجه الأرض وفي بطنها، تبتدئ من أندونيسيا وتنتهي إلى مراكش، وتعد بعشرات الملايين من الأميال المربعة، وفيها كل خصائص القوة من منابع البنزين ومضائق البحار، هل تفكر الدول الإسلامية تفكيرًا جديًّا في استغلالها لصالحها؟ وأن تجعل منها أدوات خير لرفاهية العالم، وحبال خنق وخيوط شنق للاستعمار؟ وعلى الدول الإسلامية الحاضرة في المؤتمر- وشعوبها قد اكتوت بنار الاستعمار- أن تجعل من المؤتمر مادة لإطفاء نار الاستعمار وهدم جداره وتحطيم أنيابه وتقليم أظفاره، وانها لقادرة على ذلك إن صحت عزائمها وصدقت نياتها واجتمعت كلمتها. وعليها متضافرة متحدة أن تولي قضية فلسطين العناية كلها لا بالكلام الأجوف بل بالعمل العامر، وأن لا تترك العبء على كاهل مصر وحدها، فقضية فلسطين قضية العالم الإسلامي كله، وعليها متضافرة متحدة أن تذكر جناح الإسلام المهيض وهو المغرب العربي، وأنه لا يمكن للطائر الإسلامي أن يطير بدون هذا الجناح. وعليها أخيرًا أن تتقن أدوارها في المؤتمر وأن ترفع صوتها بالحق فيه، وعلى المؤتمرين جميعًا أن يجعلوا بدأهم حرب الاستعمار، وختامهم حرب الاستعمار. إن آسيا وأفريقيا كثيرة بأرضها وسكانها، فليحرص المؤتمر على أن يجعلها كثيرة برأيها وتصميمها على التحرر من الاستعمار الغربي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عبرة من ذكرى بدر

عبرة من ذكرى بدر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقعة بدر هي أم الوقائع في تاريخ الإسلام الحربي لأنها أول غزوة شهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، بعد غزوات الاستطلاع. ويوم بدر هو يوم الفرقان لأنه أول يوم انتقلت فيه الدعوة الإسلامية من اللسان والحجة والنظر إلى السيف والدم. وهي أول وقعة تقررت فيها قواعد الحرب وأحكامه وآدابه، وللحرب في الإسلام معنى غير المعنى الذي يعرفه الناس، وأحكام لم تحد عن العدل وآداب لم تخرج عن الرحمة، فالحرب في نظر الإسلام مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأكبر المفاسد هي الوثنية التي هي آفة العقل والفكر وحجر العثرة في سبيلهما، ويليهما في الفساد والضرر الوقوف في وجه دعوة الحق وسد سبيلها إلى العقول والأفكار. وكلتا المفسدتين أتتهما قريش إذ ذاك بحماقتها وغرورها، وكانت قدوة سيئة للعرب فيهما، فكان من رحمة الله بالحق وأهله، ومن تدبيره للدعوة أن أذن لرسوله بإراقة الدماء على جوانبها حتى تسلم وتتغلب على العوائق وحتى تسير في طريقها. وإذا كان رسول الله قد أمضى خمسة عشر عامًا في الدعوة باللسان الذي ينفذ الحكمة ويمد الرحمة، ويخاطب من الإنسان أشرف ما فيه وهو العقل، فلا عجب بعد ذلك إذا التجأ إلى السيف الذي ينطف بالدم ويخطف الأرواح ويخاطب الأعناق والهامات. وفي غزوة بدر مواقع للعبر، ومكامن للعظات، ومآخذ للتشريع الحربي ومجالي لسنن الله في الأسباب، ومن المؤسف أن المسلمين افتتنوا بالمظاهر عن استجلاء الحقائق واستنباط

_ * كلمة ألقاها الإمام من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، 15 ماي 1955.

العبر والحكم، ودراسة الأسباب اللازمة لمسبباتها، فلا يلهج قديمهم ولا حديثهم إلّا بالنصر والخوارق المصاحبة للنصر، وكثيرًا ما يكون الافتتان بالنتائج مشغلة عن الحقائق والأسباب التي هي محل القدوة، وكأنهم بهذا الافتتان يعتقدون أن انتصار الإسلام على الوثنية يوم بدر من الخوارق الخارجة عن نطاق الأسباب، وهذا إبطال لآثار التشريع الإلهي في النفوس. فإن الخوارق ليست محلًا للأسوة، ولا أساسًا للتشريع، والإسلام لم يبن قواعده وأحكامه على الخوارق، وإنما بناها على الأسباب والمسببات، وعلى السنن الثابتة التي يتعايش بها البشر وتدخل في إمكانهم، ولو بناه على الخوارق لبطل العقل، وشلت الإرادات، وفلت العزائم، هذه الثلاثة هي التي يجعلها الإسلام أدوات لفهمه وتثبيته. ولو شاء الله لهدى الناس جميعًا لسائق وجداني من غير احتياج إلى رسول ولا دعوة، ولو شاء لنصر عبده محمدًا يوم كان وحده، ولوم كان معه عدد قليل، وجماعة مستضعفة، لو شاء فعل ذلك ولم يلحق نبيه أذى بدني ولا ألم نفساني. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}. وكل ما يعج به الكون من يوم خلقه الله إلى يوم يفنيه هو سنن للكون والفساد تصطرع في ميدان النزال فتكون الغلبة لأقواها حسًّا أو لأقواها معنى، فإذا اتصلت بالعالم الإنساني، كان الآخذ بالأسباب، المحسن لاستعمالها، المقدر لمقاديرها وظروفها هو الناجح. نعم، في غزوة بدر مواقف للاعتبار والاذكار، ومواطن للتأمل والاستبصار، وقد تتجلى العبرة في بعض الأزمنة دون بعض، فإذا وجدت من يستشفها كانت له واعظًا فانتفع بها ونفع، وقد تمر بالغافل أو يمر بها معرضًا فيكون من الذين قال فيهم القرآن: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} والعبرة البليغة لقومنا العرب في زماننا هذا من وقعة بدر هي نصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة فلا يقول المتوسمون في آيات الله وسننه: إن النصر كان خارقة غيبية وإن كانوا يعتقدون أن النصر من عند الله يهبه لمن شاء، ولكنه لا يهبه إلّا بأسبابه وأحكم ما قال الحكماء الربانيون: إذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه. إن انتصار نيف وثلاثمائة على ثلاثة أضعافهم ليس خارقة غيبية الأسباب، وإنما هو جار على السنن المعتادة. وما أُتِيَ من يعتقد خلاف هذا إلّا من الغفلة عن سنن الله، أو من التقصير في استقرائها، وكلنا نعلم ونشاهد أن الفئة القليلة تنتصر على الكثيرة إذا كانت الأولى مسلحة والثانية عزلاء، أو كانت القليلة أزود سلاحًا من الكثيرة. هذا في الماديات ومثله في المعنويات، علمنا بانتصار الفئة القليلة على الكثيرة بإحسان التدبير، وإحكام الرأي، ولطف التحيل، فلماذا نغفل عن الإيمان والعقيدة، وأثرهما في انتصار أصحاب بدر على ثلاثة أضعافهم؟ إن المسلمين انتصروا يوم بدر بالإيمان الصحيح

القوي الذي ثبت العقائد فثبتت الإرادات فاندفعوا اندفاع من يريد أن يموت ليحيا دينه وقومه وبلاده. كانوا يعتقدون أن ما يقاتلون عليه هو الحق من ربهم، وأن محمدا الداعية إلى هذا رسول الله الصادق الأمين، وأن موتهم في سبيل دعوته طريق إلى الجنة التي وعدوها، فتصوروا خلودها كرأي العين، ووعد الله بها كقبض اليد، وأنه ليس بينهم وبين دخولها إلّا فراق الروح للجسد، وأن الموت لا فرار منه، وأنه ملاقيهم ولا بد، وأن هذه الأرواح ودائع أو بضائع، والودائع مسترجعة، والبضائع لها سوق ولها قيم، فاختاروا السوق ميدان الجهاد، والبيع لله، والقيمة رضاه وجواره. هذه هي الروح التي لبست تلك الفئة القليلة حين تراءت الفئتان، فئة الله وفئة اللات في شعب بدر، وهذه هي القوّة التي تتضاءل أمامها كل الدنيا، ومحال أن ينهزم حامل هذه الروح. أما الفئة الكثيرة فقد خرجت تداني عن العرض الزائل فلما سلم دفعتها الخيلاء والغرور الباطل إلى أن تدافع عن السمعة والأحدوثة. ذلك اللقاء يوم بدر لم يكن بين طائفتين قليلة وكثيرة، وإنما كان بين عقيدتين حق وباطل، وإرادتين مصممة وواهنة، وحسب الحق في عالم الظهور أن يجد من يمثله، فإذا وجد سقطت معه مقاييس اللغة والكثرة والقلة من الحساب والاعتبار، ومثاله في عالم الشهود قطعة من الحديد توازن بأضعاف حجمها من القطن، ولما ظهرت هذه السنة عمليًّا في بدر، جاء القرآن بتقريرها علميًّا في سورة الأنفال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}. والسنة المستسرة هي وصفه طائفة بأنهم قوم لا يفقهون، وطائفة بأنها صابرة، وأصحاب محمد يوم بدر كانوا مؤمنين صابرين على الموت، والمؤمن الصابر لا يرى الموت كما يراه الناس هادمًا للذات وقاطعًا للشهوات، وإنما يراه بابًا للَّذَّات الخالدة الباقية. أسوق هذه العبرة إلى إخواني المسلمين عمومًا وإلى قومي العرب خصوصًا، ليعلموا بماذا انتصرت الفئة القليلة يوم بدر، فيعلموا لماذا انكسرت فئتهم الكثيرة يوم فلسطين، وان في اليومين لآيات لقوم يعقلون وأين من يعقل أو من يعي؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نفحات من ذكرى فتح مكة

نفحات من ذكرى فتح مكة * أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نفحات مسكية، من الآفاق المكية، ما زالت تخترق المناهل، وتستقري المعالم والمجاهل، كلما أطلنا هذا الشهر المبارك الذي تتفتح فيه أبواب السماء بالخير والرحمة، ومن الخير للإسلام والرحمة به فتح مكة على حبيب الله ومصطفاه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في العام الثامن للهجرة. لا، بل نفحات عنبرية، من شمائل خير البرية، ما زال يطوف طائفها على قلوبنا المكلومة ونفوسنا المريضة وأرواحنا المتألمة، فينضحها بالروح والريحان ويطربها من سورة الفتح بأرق الألحان، ويفضها بنعمة العافية، ويمسح عليها باليد الشافية، ويفرغ عليها من القوّة ما يعيد إليها الشباب. لا، بل ذكريات من ذلك الفتح الأغر المحجل، بذلك النصر العزيز المعجل، يعيدها علينا شهر رمضان كلما أقبلت مواكبه، وأشرقت في أفق الدهر العاتم كواكبه، وعادت بحسن الإياب، بعد طول الغياب، سفنه غانمة ومراكبه. لا، بل صفحات مجلوة، وأخبار متلوة، وحقائق عن الإسلام وحماته الاعلام شهد لها القرآن، فأصبحت بحياطته يخص بها بريد الزمن، وسائقه المؤتمن، إلى القلوب الجريحة فتقر، وإلى العيون الطريحة فتقر، وإلى الجنوب النابية فتستقر. ما صبا نجد أطفأ الوجد حين خلص نسيمه، وما عراره راق الشم شذاه والنظر اخضراره حتى عد من المتاع شميمه بأطيب عند المسلم من هذه النفحات، ولا ذكريات الشباب واجتماع الشمل بالأحباب بأوقع في نفسه من هذه الذكريات، ولا الحقائق تدرجت

_ * حديث ألقي من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، في شهر رمضان 1374هـ، 1955م.

مختالة فطردت الوهم، والمعاني تواردت منسالة فصقلت الفهم، بأمكن في ذهنه وأصدق بفكره مما سطر في صحائف فتح مكة. ما يزال المسلمون بعون من الله، ما داموا يبتلجون من لفحات الدهر بهذه النفحات، وما زالوا مذكورين بلسان الصدق في الآخرين، ما دامت تجول في خواطرهم هذه الذكريات، وما زالوا مستمسكين بالحبال الواصلة لسلفهم ما داموا يتدارسون من تاريخهم الأول أمثال هذه الصفحات. إنهم حين يجيلون في خواطرهم هذه الذكريات، يذكرون كيف نصر الله عبده، وكيف أعز جنده، وكيف هزم الأحزاب وحده، فتنقلهم الذكرى من عالم المسببات إلى عالم الأسباب، فتنصرف خواطرهم إلى البحث في سبب انتصار الحق على الباطل يوم الفتح الأكبر، وانتصار الخير فيه على الشر، وانتصار التوحيد على الشرك، فلا يجدونه إلّا في إخلاص التوحيد لله، وصدق العبودية له، ونذر الجندية في سبيله، وتلك هي الغايات التي أشار إليها من لا ينطق عن الهوى في استهلال خطبته يوم فتح مكة. يذكرون فتح مكة، فيذكرون بذكره ما يصنع الإيمان المتين إذا آزره اليقين، فإسلام قريش كان الأمنية الأولى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من يوم بعث، فهم عشيرته الأقربون، وأول من يؤثرهم أصحاب النفوس الكبيرة بالخير هم الأقارب قرابة النسب أو قرابة الجوار، وقريش من محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمكان المكين من الجوارين، ويزيد هذه الأمنية في نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - ثبوتًا واستقرارًا أن العرب كلها كانت تنتظر بإسلامها- بعد تعميم الدعوة- إسلام قريش، لذلك بدأ بدعوتهم إلى الهدى الذي جاء به، ولبث ثلاث عشرة سنة لا يبيت فيهم إلّا داعيًا، ولا يصبح فيهم إلّا داعيًا، وفتح مكة كان الأمنية الثانية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من يوم هاجر إلى يثرب، فمكة دار ميلاده ومطلع بعثته وميدان دعوته، وقبلة صلاته، ومجلى مناسكه ومجمع مآثر قومه، ومتبوأ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلما اضطر إلى الخروج كان خروجه منها وسيلة إلى الرجوع إليها، ولولا أمر ربه المنطوي على حكم كشف عنها الزمان بعد، لما فارقها ولما رضي بغيرها بديلًا، فقد كان يحبها حبين: حب الفطرة والنشأة وحب الدين والإرث، فلما حم الواقع واقتضت الحكمة الإلهية الخروج منها كان دائم الحنين إليها، دائم التشوق إلى غزوها، وتمكين الدين فيها، وجر قومه قريش إلى الجنة ولو بالسلاسل، منتظرًا إيذان ربه بذلك، وما تلك السرايا التي كان يبعث بها إلى جهات مكة بعد الاذن له بالقتال إلّا إرهاصات لفتح مكة والرجوع إلى موطن الميلاد والبعثة، وما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى القبلة التي يرضاها محمد وهي مكة إلّا خطوة في سبيل الفتح، وما غزوة بدر إلّا مقدمة للفتح، وما عمرة الحديبية وما تبعها من صلح إلّا تدبير إلهي للفتح، وما عمرة القضاء إلّا سبيل لذلك.

يذكر المسلمون ذلك ويرافقونه - صلى الله عليه وسلم - بأفكارهم من خروجه من المدينة إلى بَرّ الظهران في الليلة التي أسفر صباحها عن الفتح، فيرون كيف أذعنت مكة في ساعة من نهار إلى حق قضت في معارضته وحربه نيفًا وعشرين سنة، ويذكرون ذلك الحلم النبوي الذي فعل في نفوس قريش ما لم يفعله الجيش بكتائبه وأسلحته، يذكرون معاملته لأبي سفيان وهو في قبضته ببَرّ الظهران، وإكرامه لمثواه وجعله لبيته مثابة وأمنا، وأبو سفيان هو جامع الناس لحرب محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ومحزّب الأحزاب لحربه يوم الخندق، وأحد المدبرين لصده عن البيت يوم الحديبية، ويذكرون عفوه بعد القدرة على هند بنت عتبة، وإن في صدره منها لأشياء من يوم أحد، وتأمينه لعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وإجارته لمن أجارت أم هانئ بنت أبي طالب. كل تلك الخلال النبوية الجليلة مما تهب به هذه النفحات وتثيره هذه الذكريات، وتأتي المكرمة التي غطت على جميع المكارم، وهي منه على قريش كلها بعد أن أظهره الله عليهم وقوله لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»، وهذه هي التي تحقق شهادتهم فيه بأنه أخ كريم وابن أخ كريم، كلمة جبر بها كسر قريش، وكسر بها حدة الذين لا يشفي غيظهم على قريش إلّا ضرب يزيل الهام عن مطيله. وَلَوَ اَنَّ انْتِقَامَهُ لِهَوَى النَّفسِ … لَدَامَتْ قَطِيعَةٌ وَجَفَاءُ أما نفحة النفحات التي ما زالت تنعش المسلمين إلى قيام الساعة ويرفعون بها رؤوسهم فخرًا وتيهًا، فهي وضع قاعدة المساواة التي مات الأنبياء والحكماء وفي نفوسهم حسرة من عدم تحقيقها في العالم الإنساني، إلى أن جاء بها الإسلام وأعلنها محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ». أما تحطيم الأصنام التي حول الكعبة فقد حطم مثلها أبوه إبراهيم الخليل، ولكن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - طهر النفوس من الوثنية قبل أن يطهر وجه الأرض من الأوثان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من وحي العيد

من وحي العيد * أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بأية حال عدت يا عيد؟ أبالجد العاثر، أم بالجد السعيد؟ وهل أنت بشير لهذه الأمم التي تحتفل باستهلالك، وتبتهج باستقبالك، لما ترجوه من حسن الفال وتحقيق الحرية والاستقلال، أم أنت لها نذير بدوام الشقاء واستمرار البلاء، أم أنت كما أنت في حكم الواقع ظرف تتكيف بما لابست، فتدور على السعداء بالسعادة وهو من كسبهم لا من كسبك، وعلى الأشقياء بالشقاء وهو من عملهم لا من عملك؟ أنت يا عيد ختم سنة، ورقيب أعمال سيئة وحسنة، فقل لنا بمن أطلع هلالك، وسن في الاسلام انزالك، ماذا حملت حقيبة العام الماضي من أعمال المسلمين وأحوالهم؟ ويمينًا لو أنطقك الله الذي أنطق كل شيء لأديت شهادة الحق فيهم بنصها، ولدللت حقيقة أمرهم على فصلها، ولقلت غير كاذب إن العام الماضي أظلَّهُم وهم ساهون، وفارقهم بالأمس وهم لاهون، فلا رأيًا نافعًا قرروا، ولا وطنًا مغصوبًا حرروا، وكل ما قطعوا فيه أنّات أحاديث لم يُملها العقل، وأقوال لم يصححها النقل، ونزاع بينهم وجدال، وغلو وتقصير ليس بينهما اعتدال، شقاق مع القريب، ووفاق مع الغريب، وكفر بالاتحاد، وإيمان بالإلحاد، لايَنُوا الأجنبيّ أكثر مما كانوا، ودانوا بطاعته أعظم مما دانوا، وأضاعوا من مصالحهم وأوطانهم وحرماتهم أضعاف ما صانوا، ولولا أربع هن في أعمالهم لمع، وفي عامهم جمع، لكانت صحائفهم في هذا العام كصحائف الفجار ليس فيها حسنة. الأولى: معجزة حققتها مصر الفتية الثائرة بعد سبعة عقود من السنين بإجلاء العدو الجاثم، الجاني للمآثم، عن القناة التي هي وريد من أوردة الحياة في جسمنا، وطريق من

_ * حديث لإذاعة صوت العرب، القاهرة في 21 ماي 1955.

طرق القوّة في مستقبلنا، وباب من أبواب الحماية لأوطاننا، وحصن مُهَيَّأً من حصون الماء يوم تفضي إلينا دولة ما. والثانية: تنقيح لأوضاع الجامعة العربية، عن حاملي دماء العروبة النقية، القاهرة الجميلة بجمالها ومكة السعيدة بسعودها، ودمشق العظيمة بعظمها. والثالثة: هذه الصيحة التي تجاوبت أصداؤها في أندونيسيا فجاوبتها بقول لبيك، واخترقت آذان النائمين في آسيا وأفريقيا، فأفاقوا عليها لأول مرة في تاريخ القارتين مهطعين إلى مؤتمر أثبتوا فيه وجودهم، وأزعجوا به عدوهم، وجمعوا فيه شملهم، وسجلوا فيه أخوتهم، وأثبتوا للكتلتين المتصارعتين على ملك العالم أن في الميدان كتلة ثالثة يجب أن يقرأ لها الحساب، وأن يدرأ عنها العذاب، وكان للإسلام في مقاعد هذا المؤتمر الصدارة، وعلى منبره القول المسموع. الرابعة: هذه الثورة المتأججة في الجزائر على الاستعمار الفرنسي، أفظع استعمار على وجه الأرض، بل السبّة المسجلة على العالم المتمدن، ذلك الاستعمار الذي امتص دم الجزائر وحط ريشها وهاض جناحها وأذل أبناءها، فلما أعياهم الأمر في دفاعه بالمنطق الذي لم يفهمه وبالحكمة التي لم يفقهها هبوا يشترون الحياة بالموت ويتحدون القوّة المادية بالإيمان، ويلقون الألف بالواحد ويعودون به في آخر أمره معهم إلى أول أمرهم معه، ويعيدون إلى ذهنه ذكريات إن نسيها أحفاده فطالما نغصت العيش على الأجداد. هبوا يحكمون السيف وهو أعدل الحاكمين، وقد كانت أعمالهم غرة هذا العام، وستكون للعام الآتي غرة وتحجيلًا، وسيقيمون الدليل الذي لا ينقض على أن الجزائر جزء من أرض العرب لا قطعة من أرض فرنسا. يا عيد: يصفك المسلمون بالسعيد والمبارك، ويستقبلونك بالبشر والطلاقة، ويتبادلون فيك التهاني والأدعية بطول الأعمار وبلوغ الآمال، فهل شاموا في مخائلك ما كان لهم حقيقة في أوائلك؟ أم هو تقليد وتصور بليد وضلال بعيد، أم هو استرسال مع الفال، واتباع عكسي للأبطال؟ ولو عقلوا لعقدوا فيك المناحات على سوء حالهم وفقد استقلالهم، أأعراس في المآتم وقربات في المآثم؟ فمعذرة يا عيد إذا خرجنا عن مألوفهم، وتنكرنا لمعروفهم، وقابلناك بالتجهم والعبوس، فرأينا فيك أنك قطعة من الزمن تمر، لا تنفع ولا تضر، ولا تحزن ولا تسرّ، وإنما عظم الله من قدرك وأوجب علينا من حقك، لعظم أعمالنا فيك وفي الشهر الذي قبلك وفي جميع الشهور التي سبقتكما، حتى إذا حللت جميلا بالطيبات تجمل بك الطيبون والطيبات، ورأينا أن العمل في اليوم هو بعض معناه .. ؟

فإذا خلا من العمل خلا من المعنى وما أخليت نفسك يا عيد ولكننا أخليناك، وما ظلمتنا ولكننا ظلمناك، وما عبتنا ولكننا عبناك، ولكأن القائل عنانا وعناك: نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبِ فِينَا … وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا ومعذرة مكررة يا عيد، فلو حللت بوادينا والنفوس مطمئنة، والإسلام الذي أعلى يومك وأغلى سومك مرفوع الرأس، والعروبة التي كانت تفهم معناك وتعمر مغناك شديدة البأس، والمسلمون كلمتهم مسموعة ومجموعة، وقد تعارفوا فتآلفوا فتحالفوا على الصالحات، وفلسطين التي كانت تستجلي محياك وتنتعش برياك موصولة الأسباب بأوطانك، ومصر قد بلغت الأرب في زعامة العرب فقادتهم إلى السعادة والسيادة، والأزهر أصبح منبع هداية كما كان في البداية، والجزائر وتونس ومراكش قد استقلت، وفرنسا قد ألقت ما فيهنّ وتخلت، وأفغان وباكستان متآخيتان لم تنجم بينهما ناجمة الشر، ولم يلزمهما من شيطان الاستعمار نزر، واليمن قد جمعت سواحلها وانهضت إلى العلم والعدل رواحلها، والعراق قد راجع البصيرة فرجع إلى الحظيرة. لو حللت بنا يا عيد ونحن على هذه الحالة لكنت لنا جمالًا، ولكنا فيك كمالا. ايه يا عيد انّ الوهم ليخيل إلي حتى كأن الوهم حقيقة أنك توحي إلينا العظات وتملي علينا المثلات: وقد تنطق الأشياء وهي صوامت … وما كل نطق المخبرين كلام كأنك تقول:- لو أحسنا الاصغاء- لا أملك لكم نفعًا ولا ضرًا، ولا خيرًا ولا شرًا، ولا أسوق إليكم نحسًا ولا سعدًا، ولا برقًا ولا رعدًا، فاصلحوا أنفسكم واتقوا ربكم واعملوا صالحًا، واجمعوا كلمتكم، وصححوا عقائدكم وعزائمكم، وتحابوا في الله، وتآخوا على الحق، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شرعة الحرب في الإسلام

شرعة الحرب في الإسلام * أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من لوازم الحرب سفك الدماء، والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلّا بحقها، وليست عصمة الدماء خاصة بالمسلمين في حكم الإسلام بل مثلهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته، والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل، والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل، فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين، ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلّا بحقه، وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه، أو الذمي ومن معه من الأصناف المذكورة هو عصمة دمه وماله، فإذا سفك دم غيره عَدْوًا بغير حق، استبيح دمه، ورفعت العصمة عنه بما كسبت يداه، وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أخذ من ماله بقدره من غير زيادة ولا إجحاف ولا ظلم. فالحرب في الإسلام لا تكون إلّا لمن آذنه بالحرب، أو وقف في وجه دعوته، يصدّ عنه المستعدين لتلقيها، والإسلام في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأول مفسدة شرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية، ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوّة، ولو أن قريشًا لم يقفوا في طريق الدعوة المحمدية، وتركوها تجري إلى غايتها بالاقناع لما قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم بدأوها بالعدوان والتقبيح، والحيلولة بينها وبين بقية العرب، والقعود بكل صراط لصد الناس عنها. ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع أو وجب أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في

_ * كلمة ألقاها الشيخ من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، 5 جوان 1955.

الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيرًا محضًا ولا صلاحًا سرمدًا، وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًا آخر. ومما وقر في نفوس البشر أن بعض الشرور لا تدفع بالخير ولا تنقصم إلّا بشر آخر. وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها فإن الشر الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيرًا كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن، وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين كما يؤثر عن الإمام مالك، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ}. ففي قوله تعالى: "يُقَاتَلُونَ" وفي قوله: "بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" وفي قوله: "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ" بيان للشروط المسوغة للحرب في الإسلام تحمل عليها نظائرها في كل زمان. شرعت الحرب في الإسلام أي أذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها وتحدد أولها وآخرها، وتخفف من شرورها، وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال وتعدي الحدود. وإذا كان الإسلام الذي هو آخر الأديان السماوية إصلاحًا عامًا لأوضاع البشر فإن أحكام القتال فيه إصلاح وتهذيب لمسألة طبيعية فيهم وهي الحرب. ان أحكام الحرب في الإسلام مثال غريب في تاريخ العالم: ماضيه وحاضره يصور الحرب عذابًا تحفّه الرحمة من جميع جهاته ويتخلله الإحسان في جميع أجزائه، ولو وازناها بالقوانين المتبعة في الحروب إلى يومنا هذا، وقارنا أسبابها في الإسلام ببواعثها اليوم لوجدنا الفروق أجلى من الشمس. ولو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلّا قوانينه الحربية لكان فيها مقنع للمنصفين باعتناقه، ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالح المادية، والعداوة من عمل الشيطان، يوريها بين أبناء آدم ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها، ولا رحمة فيها، ولا عدل معها، فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذبة للفطرة المشذبة للحيوانية فحددت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا، وحرمت البغي والعدوان، وقيدتها بقوانين هي خلاصة العدل ولبابه حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق لتترك الراحة والاطمئنان العمر كله. حرم الإسلام التعذيب والتشويه والمثلة في الحرب، أوصى بالأسرى خيرًا حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله، أمر بألّا يقتل إلّا المقاتل أو المحرض على القتال، أو

المظاهر على المسلمين، نهى وتوعد عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهرمى والقعدة والرهبان المنقطعين في الصوامع. نهى عن عقر الحيوان المنتفع به، نهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها، وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة، لا تشريع عام للتشفي والانتقام، ووصية أبي بكر- رضي الله عنه- للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب، وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة. وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرنًا إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يدعونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية إلّا كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل. أين ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء وبقر بطونهن على الأجنة، ومن قتل الصبيان والعجزة، وهدم البيوت بالقنابل الجوية والمدافع الأرضية على من فيها، ومن هدم المعابد، ومن تسميم المياه والأجواء، وإحراق الناس أحياء، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلّا جعلته كالرميم؟ أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام، والإسلام يعتبر السلم هو القاعدة، والحرب شذوذ في القاعدة، لأن الإسلام دين عدل ورحمة وعمران وعصمة في ما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين والعقل، والعرض والمال والنسب. والدين هو ملاك التهذيب النفسي، والعقل هو قسطاس الآراء التي تقوم عليها الحياة، والعرض هو مقياس الشرف الإنساني، والمال هو قوام الحياة، والنسب هو مناط الفخر، وملاك القوميات والنظام التفاضلي والتنافس المحمود، فإذا انهارت هذه الكليات ارتكست الإنسانية وتردت إلى الحيوانية، فحاطها الإسلام بحصون من الأحكام المنيعة. ولحرص الإسلام على السلم جاءت آية الانفال آمرةً بالجنوح له كلما جنح له العدو حتى لا يسبق المسلمون إلى فضيلة. والإسلام يأمر بالوفاء لذاته، ويجعله من آيات الإيمان، وينهى عن الغدر، ويجعله شعبة من النفاق، يأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق، والتساهل في الفضائل، يقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}. ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، ويقول: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}. هذه هي آداب الحرب في الإسلام وأعماله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإستعمار والشيطان

الإستعمار والشيطان * أصبح الاستعمار كالشيطان ملعونًا بكل لسان، ممجوجًا اسمه في كل سمع، ممقوتًا في كل نفس، مستنكرًا من كل عقل، ومن ذا يرضى عن الطاعون الذي يبقي من السبعين سبعة، أو على السل الذي يختزل الآجال من التسعين إلى تسعة؟ ولكن الذي يحزن الاستعمار انه لم يضمن البقاء كالشيطان فيكون من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فقد أحاطت به خطيئاته، وريعت بالصيحة الكبرى حجراته، وأمسى في حالة احتضار وسيفارق هذه الدنيا غير مأسوف عليه، فلا تبكي عليه سماء ولا أرض، وسيستريح العالم الإنساني من شر كان مصدر الشرور، وكان مثار النزاع ومؤرث الحروب. يظن الناس الذين ينظرون إلى الأشياء من جهة واحدة أن الاستعمار مصيبة على الأمم الضعيفة التي ابتليت به، ولا يقلدون على ذلك في فهمه وتحليله، ولو تجاوزوا التفكير السطحي لعلموا أنه مصيبة على أصحابه المتمتعين بفوائده المادية من مال وسلطان وقوّة، لأنه لم يزل- منذ نشأ فيهم وتكون، إلى أن تطور بهم وتلون- شرًّا يلد شرورًا، وعتوًّا ينتج غرورًا، إلى أن أمسى في يومنا مرضًا مزمنًا في أهله، غير أنهم لم يستطبوا له كما يستطب المريض لدائه، ويمنعهم من ذلك أنه زاد على معاني المرض المعروفة بمعنى يشبه أثر الحشيش في نفس الحشاش، وصاحب الحشيش يوقن بأنه سائر في طريق الموت إذا أدمن، ولكنه لا يقوى على الإقلاع، والمستعمرون يعلمون- في هذا الزمن على الخصوص- أن الاستعمار في طريق الزوال، لأنه لصوصية، واللصوصية لا تدوم إلّا بمقدار قوّة اللص، أو بمقدار ضعف الفريسة أو غفلتها، فإذا انهارت القوّة من جانب، أو انجابت الغفلة من الجانب الآخر، بطل الاستعمار ورجع كل شيء إلى أصله، ومع هذا الايقان لا يستطيعون

_ * مسودة مقال وجدت في أوراق الشيخ مؤرخة في ماي 1955.

التغلب على نزعة الاستعمار والإقلاع عنه، لأنها أصبحت مرضًا في نفوسهم، مسلطًا على مراكز تفكيرهم، مالكًا عليهم آفاقها. وعلى هذا فكل ما يبذله العالم الواعي في سبيل القضاء على الاستعمار هو سعي ضائع، ووضع للهناء في غير موضع النقب، ما لم توجه الجهود الصادقة إلى علاج المرض في نفوس المستعمرين، فقد رأيناهم لتحكم هذا المرض فيهم لا تستنفد منهم فريسة حتى ينشبوا أظفارهم في فريسة، حتى كأنهم الطائر الذي وصفه الشاعر بأنه "لا يرسل الساق إلّا ممسكًا ساقًا" فالانكليز- مثلًا- أكرهوا على الجلاء عن القنال، فغرسوا أذنابهم كالجراد في شرق الأردن وفي ليبيا، وقد أصبح كل مستعمر يزعم أنه لا حياة له بدون المستعمرة الفلانية، فإذا أزيح عنها- بعامل من العوامل- اعتدى على غيرها ممن هي أضعف ناصرًا وأقل عددًا. فمَنْ أوتي الحكمة، واستغشى الإحسان والرحمة، فليبدأ بعلاج صرعى الاستعمار، ليشفيهم من الصرع فينقذ العالم من الصراع. ... إن انكلترا وهي نبية الاستعمار، الآتية بصحفه الأولى، المدونة لشرائعه، المتلقية لوحيه - من الشيطان- أحست بخطر هذا المرض الوبيل، وأنه قاض عليها إن لم تقض عليه، فعالجته بعدة أشفية سطحية، وغالطت نفسها والناس بتغيير اسمه، وتشويش حده ورسمه، وإعطاء شيء من الخبرة لمن أعان على إحضارها، فكانت أعقل من غيرها، وأبعد نظرًا في الجملة، ولكنها لعراقتها في الاستعمار، وتمكن مرضه منها، لم تزل مملوءة الجوانح بالحنين إليه، والشوق إلى وصاله، والتعلل ولو بطيف خياله، ومن آيات ذلك الحنين تأييدها لكل مستعمر في كل قضية استعمارية، فكأنها تلك الأعرابية صاحبة الحكاية المشهورة. والمستعمرون اليوم أقوى الناس شعورًا بمصاعب الاستعمار ومتاعبه وما يجره عليهم من الويلات، وأيسرها عليهم حقد المظلومين، وتربص الموتورين، وتألب المغلوبين، وحدوث مذاهب لا خير لهم في حدوثها، وهم لذلك أعلم الناس بأنه صائر إلى الفناء، ولعله لا يفنى حتى يفنيهم معه، ولكنهم مع ذلك كله لا يصبرون على فراقه. ولقد حدثني الثقة قال: حدثني مسؤول من رجال العرب يشغل كرسي رئاسة حكومة عربية، قال: زارني بحكم وظيفتي جنرال فرنسي عائد من الهند الصينية في أيام اشتعال الحرب فيها، فسألته عن حالة الحرب الناشبة بين دولته وبين الأمة الصينية الهندية، فقال ما معناه: إنها "زفت" على دولته، فقلت له: إنني أخشى أن تتحرك الصين الشعبية ومن ورائها

روسيا فتقذفكم في البحر، فقال مبادرًا: يا ليتهم فعلوا، إنهم كانوا يريحوننا من حرب نحن موقنون بالهزيمة في آخرها، فقلت له: وما دمتم على هذه الأمنية وعلى فقد الأمل في النصر، فلماذا لا تنزلون على حكم الواقع، وتعاجلون الهزيمة بما هو أشرف؟ ولماذا لا تخرجون مختارين، وتربحون معاهدة بدل احتلال وحليفًا بدل عدوّ؟ إنكم في هذا تخرجون مشيعين بالرضا والإكبار، وتحفظون كثيرًا من مصالحكم المادية التي هي أساس احتلالكم لذلك الوطن البعيد الذي جلب لكم المتاعب وأثار عليكم وطنيّين متحمسين، تمدهم دولتان قويتان مجاورتان بالرأي والمال والسلاح، وتشاركهم إحداهما في الدم والعقيدة، أفتكون الزبّاء أعقل وأحكم من فرنسا حينما قالت: بيدي لا بيد عمرو؟ قال الرجل المسؤول: وكنت أظن أنني أمحضت النصيحة، وأوثقت صاحبي شدًّا بالحجة، ولكن صاحبي وصل جوابه بآخر كلمة لي، وقال لي في شيء من الحدّة: اسمع يا حضرة الرئيس، إن الفرنسوي الذي يمضي مثل هذه المعاهدة المهينة لشرف فرنسا لم تلده الفرنسية بعد ... قال الرجل المسؤول: فدهشت لتناقض أول الكلام مع آخره.

الاستعمار الفرنسي في الجزائر

الاستعمار الفرنسي في الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دعاني مجلس إدارة "معهد الدراسات العربية العليا" إلى المساهمة في نشاطه العلمي بإلقاء أربع محاضرات على طلّابه من شبّان العرب الذين أحبّهم، وأتمنّى لهم الخير، وأعلّق عليهم الآمال في إحياء البيان العربي، وإعادة مجد العرب ومفاخرهم، وتجديد تاريخهم وروحانيتهم وأخلاقهم، والتكفير عما اقترفته أجيالنا السابقة من مآثم فرّقت الكلمة وشتّتت الجمع، وباعدت بين القلوب حتى مكّنت فينا للغرب ولغاته ومادياته، فأخذنا بقشورها من غير أن نشاركهم في لبابها، وأنست الماضي المشرق فانفصل عنه الحاضر فأظلم واختلّ، فلم نستطع أن نبني عليه مستقبلًا باسمًا عن حياة تخزّها خضرة ذلك الماضي ونضرته، فتثمر السعادة والسيادة والعزّة والكرامة، وتعود إليها تلك الخصائص الأصيلة في الدم العربي كلّما صفا ورقّ. حدّدت لي إدارة المعهد موضوع المحاضرات الأربع، وهو الاستعمار الفرنسي في الجزائر فيما بعد الحرب العالمية الأولى وآثار الحركات الوطنية فيها في هذه الحقبة من الزمن، والموضوع طويل عريض عميق، لا توفيه حقّه أربع محاضرات محدودة الدقائق، ولا عشر محاضرات، وإن كان الظرف الزمني لهذا الموضوع قصيرًا، لأن هذا الظرف- مع قصره- مملوء بالحوادث والتيّارات مرتبط بأمثالها في العالم، متأثّر بالدعايات العامة للحرية والتحرير، مصاحب للتغيّرات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، والفورات الوطنية المتأججة، وقد انتقل فيه الاستعمار من المدّ إلى الجزر في حقيقته، ومن الجزر إلى المد في ظاهره، لأنه بلغ أرذل العمر، وبدت عليه آثار الهرم، فسترها بتبديل الأسماء والألقاب، من الحماية والوصاية إلى الانتداب، كما يستر الشيخ شيبه بالخضاب، وابتليت فيه المذاهب الاجتماعية بالتقلّب والإيهام والإبهام، وتنبّهت فيه أمريكا إلى عزلتها فلمست أوربا في سبيل

_ * محاضرات في معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة، أُلقيت في مايو 1955.

المصلحة لمسة ذاقت فيها حلاوة السلطة، فقالت بلسانها ما ليس في قلبها: دعت إلى تحرير الشعوب بلسانها وأضمرت لهم استعبادًا من نوع جديد يصحّ أن نسمّيه استعمار الاستعمار. كل هذه العوامل صيّرت هذا الظرف القصير طويل الذيول، لا تقوم به أربع محاضرات. ألقيت هذه المحاضرات ارتجالًا في أيامها المحدودة في أربعة أسابيع، على تلامذة قسم التاريخ في المعهد، وسرّني أن كان فيهم المصري والسوري والعراقي والفلسطيني والتونسي والمراكشي، وكلهم من المتقدمين في الثقافة، ومن عمار الصفوف النهائية في الدراسات العليا، وكانت إدارة المعهد- جريًا على أصولها- أشارت في رسالتها إليّ بكتابة المحاضرات، لتطبعها وتوزعها على الطلّاب، وليس من عادتي أن أكتب وألقي من المكتوب، ولكنني- نزولًا عند إشارتها واقتناعًا بسداد هذه الإشارة- كتبت بعد إتمام المحاضرات ما يحاذي معانيها، وما بقي في الذاكرة من بعض ألفاظها، ولم أقف عند حدود تلك المعاني فتوسّعت فيها وزدت عليها ما هو أصل لها أو متفرّع عنها، لأن الكتابة تبقى وتعمّ فائدتها، بخلاف الكلام فإنه أعراض سائلة زائلة، وألممت فيما كتبت بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمت، ومن يوم تعرّبت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي وهو أطول العهود فيها، مرورًا أهدأ مما سمعه الطلّاب منّي وأبطأ. وأنا أرجو لهؤلاء الشبّان ولجيلهم أن يوفّقوا في وصل ما انقطع من روابط العروبة وأرحامها، وسبيلهم المهيع إلى ذلك أن يتعارفوا على أساس الأخوة والمحبّة، وأن يعرفوا هذه القطع المتجاورات التي وصلها الله وقطعناها، على أنها وطن العروبة الأكبر، ولئن فعلوا ليعودن للأمة العربية مجدها وسؤددها على أيديهم وليكونن بذلك أسعد الناس. محمد البشير الإبراهيمي

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع ____ الجزائر- أيها الشباب- قطعة ثمينة من وطنكم العربي الأكبر وجزء قيّم من تلك المملكة العزيزة التي شادها أسلافكم على الإيمان، وساسوها بالإنصاف، وحاطوها بالعدل، وعمروها بالعلم والخلق، ولم يكن فتحهم لها فتحًا ممّا يعرفه العسكريون في جميع الأزمنة، ولا استعمارًا يسود فريق على فريق، ويذلّ فيه صاحب الدار لعزة الفاتح، وإنما كان فتحًا للأذهان، وغرسًا للدين والإيمان، ونشرًا للعدل والإحسان، وإعزازًا للسكّان، وإنقاذًا لهم من عتو الرومان. ولكن هذه القطعة وجارتيها تونس ومراكش مجهولات عندكم، لم يعرفكم بهن الآباء ولا المدارس ولا الكتب ولا الكتاب، فإذا أسمعوكم عنهن شيئًا فالشيء الذي ينفر ولا يحبّب، ويزهد ولا يغري، أو الكلام الذي يردّده عنها الاستعمار، يخدّر به الشواعر، ويبعد به الأخ عن أخيه، وليس الذنب في جهلكم بها ذنبكم، وإنما هو ذنب محيطكم العام، وقد عدت على هذه القطعة من وطنكم العوادي، منذ قرن وربع، فما تحرّك لنصرتها ساكن في هذا الشرق، ولا فهم أبناء العمومة فيه أن احتلال الجزائر من دولة أجنبية نذير من النذر بانتثار السلك، وضياع الملك، لأن الأحوال السيّئة التي جرت ذلك الاحتلال كانت متشابهة والسلطة العثمانية الجافية الغليظة كانت تشمل شرق العرب وغربهم. والجزائريون إخوانكم الأقربون فكلّهم عرب وكلّهم مسلمون، والأخوة في حقيقتها العليا نصرة وتعاون، لا غفلة وتهاون، فأين نحن من ثمرات هذه الأخوة؟ ... قد ذللنا حتى ذلّت العقائد في نفوسنا، والكلمات في ألسنتنا، فلم تبق للعقائد في نفوسنا تلك القوّة التي تتصرّف في الإرادات، ولم تبق للكلمات في ألسنتنا تلك الحرارة التي كانت تحرّك الأعمال. فتن الاستعمار الغربي بعضنا عن بعض ثم فتننا عن أنفسنا، ورمانا بمقوّماته ومنوّماته فأصمانا ... رمانا بمقوّماته من قوة وعلم وصناعة، وبمنوّماته من كل ما يضعنا ويرفعه، ويضرّنا وينفعه، وراضنا على هذا جيلًا بعد جيل، حتى ماتت فينا نزعة السيادة والقيادة، وأصبحنا نعتقد أننا خلقنا من طينة غير طينته، وأن عقولنا صيغت من جوهر غير جوهره، فاستخفّ بنا كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه، وأمكناه من نفوسنا فقادها بخطام الشهوات كما يحب إلى حيث يحب، ومن عقولنا فاستهواها، ومن رقابنا فاستذلّها، ومن أوطاننا فاستغلّها، ومن وحدتنا فمزّقها، ولم نصحُ من ذلك التنويم - إن صحّ أننا صحونا- إلا والأخ متنكّر لأخيه، والحكومات متعددة متنافرة، والشعوب كثرة، ولكنها كغثاء السيل،

تعبد أصنام البشر، بعد أن أنقذها الإسلام من أصنام الحجر، ملك الجهل عليها أمرها، فهي لا تذكر ماضيها، ولا تحفل بحاضرها ولا تفكّر في مستقبلها، فهي تعيش بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، وهي لذلك تصحب الدنيا بلا أمل في المستقبل، ولا صلة بالماضي. أما حاضرها فهو كحاضر الغنم، يطرقها الذئب فترتاع ويغيب عنها فترتع. الجزائر- يا شباب العرب- عربية الأنساب واللسان، شرقية النزعات والنفحات، مسلمة الدين والآداب، كانت وما زالت كذلك من يوم طلعت عليها خيول عقبة والغزاة الفاتحين من أجدادكم، ومن يوم غطّت سهولها أبناء هلال بن عامر بن صعصعة، آتية من صعيد مصر، في أواسط المائة الخامسة، وكان لبني هلال في تلك الإغارة الكبرى قصد، وكان لله من ورائها حكمة. كان بنو هلال يريدون من تلك الإغارة على افريقيا الشمالية مراعي واسعة لإبلهم وشائهم، وسهولًا خصبة لتنقلهم وانتجاعهم، وكان لله في تلك الغارة حكمة وهي تعريب هذه الأقاليم التي استقامت على الإسلام أفئدتها، ولم تستقم على العربيه ألسنتها، والفاتحون الأولون فتحوا الأذهان لتعاليم الإسلام، والإسلام يستتبع لغته، فحيثما كان كانت، ولكنهم- لقلّتهم- لم يستطيعوا تعريب هذه الأوطان الواسعة، ولا كان زمانهم يتّسع لذلك، وإنما يتّسع لنشر الإسلام وإقامة حدوده، وكتابة علومه، فبهذه اللغة ازدهرت العلوم الإسلامية في حواضر المغرب وأمصاره، وبها دوّنت أصولها، أما جماهير العامة فلم يعلقوا منها إلا بما تؤدى به شعائر الإسلام، فلما جاءت الغارة الهلالية كانت هي المعرّبة الحقيقية للشمال الأفريقي وجباله وقراه وخيامه. فمن حق الجزائر عليكم أن تعرفوها وتصلوا رحمها وأن تدرسوا تاريخها الذي هو جزء من تاريخكم، وأن تعدوا محنتها محنتكم، وقضيتها جزءًا من قضيتكم، وإذا كانت قضايا بلدانكم الخاصة عقدًا تحتاج إلى الحل، فمن الخطإ أن تعتقدوا أن كل قضية تحلّ وحدها، فهذا طمع في محال، وتعلّق بخيال، فاجعلوها قضية واحدة تسهل عليكم تصفية الحساب، والقوا عدوّكم جميعًا، تلقوا أصمّهم سميعًا. خدرنا الغرب بالوطنيات الضيّقة فأصبح كل فريق منا قانعًا بجحر الضب يناضل عنه بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزّقت الأطراف أن يحفظ القلب. أصبحنا والمصري يتغنّى بمصر، واللبناني لا يرى إلا جبله، ودمشق تفخر بالمجد الغابر الذي شاده فيها مروان وعبد الملك، وبغداد مزهوّة بعهد الرشيد، من غير أن تطمح إلى أعمال الرشيد. خدّرنا الغرب بهذا ليقسم الخبزة إلى لقم فيسهل عليه مضغها وازدرادها ثم هضمها، وقد حقّق غايته في الأولى والثانية ونحن معه في عملية الهضم، فإما أن نكون مغصًا في أمعائه، وعلة لموته، وإما أن يهضمنا فنستحيل غذاء له ومزيدًا في قوّته.

فتح العرب لأفريقيا الشمالية

أغرانا الغرب بنبذ الجنسيات واعتناق المبادئ في الوقت الذي يدين فيه هو بالجنسيات ويكفر بالمبادئ. فصهيون قائمة على العنصرية الإسرائيلية، والهتلرية بالأمس قائمة على العنصرية الجرمانية، وروسيا اليوم رغمًا عما تزعمه من النزعة العالمية قائمة على العنصرية السلافية، والانكليز على السكسونية، وأمريكا كشكول جمعته القوانين المصلحية والاجتماع المادي، وسيأتي يوم ينتشر فيه الحقد، فينتثر ذلك العقد. وليس العرب دون هذه الأجناس استعدادًا ولا عددًا لو دانوا بهذه العقيدة، ودعوا إلى هذه الدعوة، وأنا بصفتي عالمًا مُسْلِمًا لا أقول بالعصبيات الجنسية، والوطنيات الضيّقة، وإنما أدعو إلى الوطنية الواسعة، والعقيدة الروحية الجامعة، فإذا تمّت ورسخت أصولها في النفوس فإنها لا تنافي التمسّك بالجنسيات من غير تعصّب، وذلك هو التحقيق لسنّة الله الذي جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا. أيها الشباب: نقتصد في الوقت لنوفّر للموضوع المطلوب بعض حقّه وحقّكم فيه، ومن الخير- قبل مسّ صميمه- أن نعرّفكم بالجزائر منذ ظلّلها الإسلام برحمته، ونعرض عليكم- في إيجاز- التقلبات السياسية والاجتماعية التي عرضت لها من لدن الفتح، ونلمح إلى الدول التي نشأت فيها ومن صميمها، وإلى صلتها بجارتيها تونس ومراكش، وإلى عواصم الحكم والعلم فيها، وإلى أقسامها الطبيعية، وإلى تحديداتها الإدارية في العهدين التركي والفرنسي، وإلى ما يفيدكم ويقوّي معلوماتكم عنها مما يجرّه الحديث المرتجل، ثم نمرّ بكم على تاريخ الاحتلال الفرنسي حتى نخرج إلى صميم الموضوع. كانت كلمة الجزائر التي تطلق اليوم على عاصمة القطر، ثم على القطر كله تستعمل في أوائل ما أطلقت- مضافة، فيُقال "جزائر بني مزغنان"، وبنو مزغنان قبيلة بربرية تعمر ساحل البحر، حيث المدينة الآن، وكانت في هذا الموضع من شواطئ البحر الأبيض صخور بارزة في الماء يصطنعها الصيّادون لصيد السمك، ولسكناهم في السنة أو في معظمها، فيطلق عليها الناس لفظ "جزائر" لتعدّدها وتقاربها وإحاطة الماء بها، ثم هجر المضاف إليه تخفيفًا في الاستعمال، وشاعت كلمة الجزائر المجرّدة علمًا على المدينة التي غطّت الساحل الجميل، واتّسع عمرانها حتى غطّى الجبل الذي تستند إليه. وهي تقع بموضع مدينة قديمة اسمها "إكوسيوم"، ولم تتخذ الجزائر عاصمة لهذا القطر الواسع إلا في العهد التركي. فتح العرب لأفريقيا الشمالية: كانت كلمة "إفريقية" تطلق لأوائل الفتح الإسلامي العربي على قطعة صغيرة من هذه القارة العظيمة، هي موقع المملكة التونسية اليوم تقريبًا، أما إطلاقها على القارة كلها فهو

استعمال حدث بعد ذلك. ولما شاع هذا الاستعمال الشامل احتيج إلى تميّز الأجزاء بالنسبة إلى الجهات فقيل شمال أفريقيا، كما قيل جنوب أفريقيا، فكانت الجزائر جزءًا من هذا الشمال، ويطلق إخواننا في الشرق على هذا اسم المغرب، ويقسمونه إلى ثلاثة أقاليم: المغرب الأدنى وهو تونس، والمغرب الأوسط وهو الجزائر، والمغرب الأقصى وهو مراكش. وقد فتح العرب مصر ونشروا فيها الإسلام، وكانت مصر هي قاعدة الفتح لأفريقيا الشمالية، وكان فتح مصر في خلافة عمر بن الخطّاب، ولكن لم يجاوز الفتح مصر إلى المغرب إلا في خلافة عثمان بن عفّان. ففي سنة سبعة وعشرين للهجرة أمر عثمان واليه على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بغزو أفريقية للمعنى الذي يريده الإسلام من الغزو، وهو نشر الدعوة الإسلامية، فغزاها ابن أبي سرح في عشرين ألفًا، فيهم جماعة من وجوه الصحابة، وفتح في هذه الغزوة مدينة "سبيطلة" الرومانية، والبسائط المحيطة بها، وما زالت هذه المدينة معروفة باسمها وآثارها إلى الآن، وهي واقعة في الجنوب المائل إلى الشرق من المملكة التونسية، وكانت هي المعتصم الباقي لسلطان الرومان، وهي المأوى المنيع لبقايا الرومانيين. وبعد سنة ونيّف من الفتح رجع ابن أبي سرح إلى مصر بعد عقد صلح مع السبيطليين لمصلحة راجحة رآها. وفي خلافة معاوية وجّه جيشًا على طريق مصر ففتح افريقية من جديد بقيادة معاوية بن حديج الكندي، والي مصر، ففتح سبيطلة للمرة الثانية، ووسّع رقعة الفتح إلى أبعد مما كان في الفتح الأول، وغزا صقلية من طريق البحر ومكّن للإسلام ولنفوذه في القطعة المفتوحة من افريقية، ثم ولى الخليفة على فتوح افريقية عقبة ابن نافع الفهري الفاتح العظيم، وأمره أن يتوسّع في الفتوحات وفي نشر الإسلام وتثبيت سلطانه، فرأى هذا القائد الموفّق أن يختط مدينة مستقلّة تكون عاصمة للمسلمين، وعاصمة لافريقيا الإسلامية، ومركز قوة للفتوحات المستأنفة، فأسّس مدينة القيروان الشهيرة الباقية إلى الآن، وكان تأسيسها عام خمسين للهجرة، المقارنة لسنة ستمائة وسبعين للميلاد، وجاء بعد عقبة مسلمة بن مخلد والي مصر إذ ذاك، فاستعمل على افريقية مولاه أبا المهاجر دينارًا فتوغّل في الفتوحات ونشر الإسلام إلى أن بلغ تلمسان، وهي آخر حدود القطر الجزائري اليوم مما يلي المغرب الأقصى، فالإسلام إنما انتشر في الجزائر على يد أبي المهاجر دينار، وتمّ تمامه في ولاية عقبة بن نافع الثانية، التي جاس فيها أقطار المغرب إلى أن بلغ طنجة، وقال كلمته المعروفة. ولما رجع من هذه المغزاة البعيدة المدى والأثر قدر له أن يموت شهيدًا في معركة بينه وبين البربر المرتدين

بجبل أوراس، فتعرّضوا له في السفوح الصحراوية لهذا الجبل، واستشهد هو وأصحابه ودفن في محل معروف باسمه إلى الآن، وأراد الله لثرى الجزائر أن يضمّ رفات هذا الفاتح الكبير، ليبقى اسمه منارًا يسترشد بنوره أبناء هذا الوطن كلما دجت الأحداث فيه. وإلى هؤلاء الأبطال العظماء الذين جمعوا بين قيادة الكتائب وقيادة الأرواح، يرجع الفضل في تثبيت الإسلام وإرساء قواعده بافريقيا الشمالية، فلم تتزعزع له قاعدة، ولم ينقض له جدار من ذلك اليوم إلى الآن، على رغم الفورات المعادية له، المنبعثة من الضفة الشمالية للبحر الأبيض. وشأن الفتح الإسلامي لأفريقية على يد هؤلاء الأبطال كله عجيب يشبه الخوارق، فقد تمّ في ثلاث سنوات تقريبًا وبسط الإسلام ظلّه على تلك الأقطار الواسعة ذات الأمم التي لا يحصيها إلا الله، من حدود ليبيا إلى السوس الأقصى على شواطئ المحيط الأطلسي، مع بعد الشقة ووعورة المسالك وقلة عدد المسلمين، وكثرة أعداء دعوتهم، وجهل الغزاة بمعالم الوطن ومجاهله، وبعادات أهله ولغاتهم، ولكنه الإيمان والإخلاص فيه وصدق العزيمة، وإيثار الحق، ولم تزل هذه الغرائب التي صاحبت الفتح الإسلامي في الشرق والغرب مثارًا لدهشة المؤرّخين من المسلمين وغيرهم، وهم مجمعون على أنها حق وواقع، وإن كانوا يختلفون في تعليلها. وجاء بعد عقبة نفر يعدّون من بناة التاريخ الإسلامي بالشمال الافريقي: زهير بن قيس البلوي، وحسّان بن النعمان الغسّاني الذي تمّ على يديه فتح البلدان وفتح العقول، وجمع بين المقدرة الحربية والدهاء السياسي والملكة الإدارية، فكان هو الممهّد لهذه المملكة الواسعة التي كانت قاعدتها القيروان، وهو الذي خطا الخطوة الثانية التي تكون بعد الفتوحات الحربية فأقرّ الأمن، ومكّن للعمران والاستثمار، فنشط الصنائع والعلوم، وأفاض عدل الإسلام وإحسانه، فنقل الناس في إقبالهم على هذا الدين من عامل الرهبة إلى عامل الرغبة، إذ رأى البربر أن ثمرات هذا الفتح عائدة عليهم، ورمى ببصره إلى ما وراء البحر فنبتت في أيامه فكرة غزو الأندلس الذي حققه بعده موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد الليثي، عام اثنين وتسعين للهجرة. والجزائر لم يتبدّل موضعها الجغرافي من الشمال الأفريقي، وإنما تبدّلت أوضاعها السياسية، والحق أنه ليس للجزائر بحدودها الحاضرة وحدة جغرافية، وإنما هي جزء من وحدة جغرافية كبرى، هي مجموع أقطار الشمال الأفريقي، فهذه الأقطار- وإن اتسعت آفاقها- مكوّنة تكوينًا جغرافيًا متّحد الخصائص الطبيعية، فالأطلس يربطها ربطًا محكمًا من مبدئه على تخوم ليبيا شرقًا إلى منقطعه في المحيط الأطلسى غربًا، والصحراء من ورائه خط

حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش

واحد مسامت لسلاسل الأطلس متشابه السمات والنبات والحيوان، وسواحل البحر الأبيض متّحدة الخصائص إلى مضيق طارق، يُضاف إلى ذلك اتحاد سحن الأناسي ولهجاتهم وعواطفهم وعاداتهم، وإنما ينفرد الجزء الغربي وهو معظم مراكش بوقوع سواحله على المحيط مغربة أولًا، وذاهبة إلى الجنوب آخرًا. وكانت هذه الأجزاء كلها تابعة في إدارتها للقيروان، خاضعة لسلطان الخلافة الأموية، ثم لسلطان الخلافة العبّاسية، إلى أن قامت الدعوة الإدريسية العلوية مناهضة للخلافة العبّاسية، فاقتطعت مراكش من هذا الوطن الواسع الموحّد. وبقيت القيروان تتلفى الولاة من الخلفاء بالشرق، إلى أن وُلّيها ابراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي، فبدأت العلائق تتراخى بين القيروان وبين دار الخلافة في بغداد، وكانت ولايته في حدود مائة وأربع وثمانين للهجرة. كانت الجزائر بحدودها الحالية تابعة للقيروان في هذه المدة كلها إلا ما كان من اقتطاع سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر لتلمسان وأعمالها، وهو مناهض للخلافة العبّاسية، لأنه- كأخيه إدريس - قائم بالدعوة العلوية، والعلويون شرقيون فلم تخرج الإمارات التي أقاموها عن كونها عربية، وكذلك الأغالبة الذين توارثوا إمرة القيروان، لم تخرج إمارتهم عن كونها شرقية عربية. حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش: أول عاصمة للمملكة العربية الإسلامية التابعة للدولتين الأموية والعبّاسية هي مدينة القيروان، وهي واقعة في القطر التونسي، أو ما يسمّى "المغرب الأدنى"، ثم خلفتها مدينة تونس بعد قيامها في ولاية عبد الله بن الحبحاب، في العشر الأول من القرن الثاني، ثم نشأت عاصمة أخرى وهي مدينة فاس التي اختطها إدريس الأصغر، وموقعها في القطر المراكشي الذي اقتطعه إدريس الأكبر من الممالك العبّاسية، وأقام فيه الدعوة العلوية المضادة للعبّاسيين، وقد رسخت شهرة هاتين العاصمتين في الأذهان، مقرونة بذكريات مكينة محترمة. فالقيروان أثر من آثار الفاتح العظيم عقبة بن نافع الفهري الصحابي الجليل، وهي مركز الفتوحات الإسلامية التي انتهت إلى الأندلس، فاحترامها في النفوس شعبة من احترام الدين، ولا تزال في نفوس الناس بقايا من ذلك الاحترام، وفاس مختط إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، فاحترامها في النفوس شعبة من احترام آل البيت وسلالة الزهراء، ولما انقرضت دولة الأدارسة خلفت فاسًا مدينة مراكش اللمتونية، فكانت الدول المحدثة بعد ذلك تتعاقب على العاصمتين.

الدولة الرستمية

لذلك كان اتجاه العصبيات التي تقيم الدول وتقعدها مصولًا دائمًا إلى هاتين العاصمتين التاريخيتين: القيروان وفاس وإلى موقعهما. ولهذا السبب كان القطر الجزائري، (وهو المغرب الأوسط) في أغلب عهوده الإسلامية، موزّعًا بين مراكش وبين تونس، فكان قسمه الغربي جزءًا من مملكة مراكش، في أيام المرابطين اللمتونيين، وفي أيام الموحّدين، وفي بعض أيام المرينيين، وقد تقوى بعض هذه الدول التي ذكرناها فتضمّ القطر الجزائري كله أو معظمه إلى مراكش، وقد تضم معه تونس، كما وقع في أيام يوسف بن تاشفين مؤسس الدولة اللمتونية، وفي أيام عبد المؤمن بن علي مؤسّس الدولة الموحّدية، وهو بالاعتبار الجغرافي جزائري الأصل والمولد، وفي أيام السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، موسع المملكة المرينية إلى حدود طرابلس. وكان القسم الشرقي من الجزائر يتبع- في بعض الفترات التاريخية- المملكة التونسية، كما وقع في عهد الأغالبة، وفي صدر الدولة الفاطمية، ثم في أيام الدولة الحفصية التي هي فرع من الدولة الموحّدية، استقلّت عن أصلها بتونس، ولما انقرض ذلك الأصل عاشت بعده إلى العهد التركي. أما البربر سكّان الوطن الأصليون بالجزائر فكانوا خاضعين للحكم الإسلامي والسلطان العربي خضوعًا دينيًا، كأنهم يرون أن الإسلام علم وعمل، والعرب أساتذته ومعلّموه، والخضوع الديني يقتضي السمع والطاعة، ويقضي على النزوات النفسية والأهواء والشهوات والعصبية والفوضى. ولكن تلك النزوات تحرّكت فيهم بعد قليل. وراجعتهم طباعهم الأصلية في الفوضى والعصبيات القبلية، فانتقضوا على الولاة والدول، وأعانهم على ذلك اضطراب حبالها في الداخل والخارج، وتعاقب المجاعات وفساد الولاة، وأعذهم ذلك كله إلى إنشاء إمارات صغيرة ودول كبيرة، يقتطعونها من هذا الجسم الكبير، وكانت دولهم لا تقتصر عما أسّسه إخوانهم برابرة المغرب الأقصى في تناهي الحضارة واستبحار العمران وازدهار العلوم والفنون والصنائع، والبراعة في تخطيط المدن وتمصير الأمصار. ويحسن أن نمرّ بكم قبل الدخول في الموضوع بالدول التي قامت في جهات من صميم القطر الجزائري حتى تتلاقى وتتّصل حلقات تاريخه. الدولة الرستمية: نشأت هذه الدولة عام 144 هجرية، وانقرضت عام 296 فكان عمرها 150 عامًا، وهي أول دولة جزائرية قامت في صميم القطر الجزائري من أهله، بالمعنى الجغرافي العصري للجزائر، وقد قامت على نزعة مذهبية انتقلت من المشرق إلى المغرب، وانتشرت أول ما انتشرت في القبائل ذات الشوكة، حوالي طنجة البعيدة عن منال ولاة

الدولة الصنهاجية بجبل تيطري

القيروان، ثم انتشرت في المغارب الثلاثة على أيدي دعاة متشددين، وهذا المذهب لا يرى الخضوع لسلطة عباسية ولا علوية، ولا يرى صحة الإرث لبيت ولا لقبيل في الخلافة الإسلامية، بل يرى الخلافة للأصلح، ويرى استعمال السيف لإقرار هذا المبدإ الذي هو جزء من العقيدة فيه، فاغتنم دعاة هذا المذهب ومعتنقوه فرصة اضطراب الأمر في القيروان، واختلاف الولاة عليه وتوارث آل عقبة بن نافع للإمارة وانهماكهم في حروب صقلية- فلم يضيعوا هذه الفرصة- واستولى أبو الخطاب بن السمح على القيروان، وهو أحد دعاتهم في السلم وقادتهم في الحرب، وهو داعية عربي لمذهب الخوارج، ومعه قائدان مشهوران من قوادهم: أبو حاتم يعقوب بن حبيب وعبد الرحمن ابن رستم، ثم رجعوا عن القيروان إلى حيث الشوكة والعصبية لنحلتهم في صميم الجزائر، واختاروا بقعة في أحضان سلسلة الأطلس لتشييد عاصمة لمملكتهم الجديدة فأنشأوا مدينة (تيهرت) في القسم الجنوبي الغربي للجزائر، ولا تزال بعض آثار هذه المدينة باقية إلى الآن، وقد أنشأ الاستعمار الفرنسي مدينة بالقرب منها وسمّاها باسمها مع تحريف قليل في النطق والكتابة، فهم يكتبونها Tiaret وينطقونها كذلك. وعبد الرحمن بن رستم الذي نسبت إليه الدولة وتسلسلت إمارتها في أعقابه رجل فارسي الأصل، ولكن المذهب هو الذي هيأ له مبايعة البربر على السمع والطاعة بعد كفاءته الشخصية وشواهد أعماله، ولا ندري كيف خالفوا أصلهم في استخلاف الأصلح، فأورثوا الإمارة بني عبد الرحمن بن رستم، وإن عرف كثير منهم بصدق التدين وإفاضة العدل في الأحكام، وإقامة الحدود الشرعية، وتشجيع الفنون والعلوم والآداب، والمحافظة على الفضائل الإسلامية. واتسعت رقعة هذه الدولة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث مدينة (تنس) وهي الثغر الذي يصلها بالأندلس، إلى الصحراء حيث مدينة وارجلان في جنوب مقاطعة قسنطينة، ولعلهم كانوا يتصلون من طريق هذه الصحراء بأتباع مذهبهم في طرابلس، ولا تزال بقايا المذهب الأباضي إلى الآن في جنوب مقاطعة الجزائر، وفي جبل نفوسة بطرابلس. الدولة الصنهاجية بجبل تيطري: وهذه الدولة أيضًا جزائرية صميمة، نشأت عام 324 هجرية، وانقرضت عام 547 على يد الموحدين، ومؤسّسها زيري بن مناد الصنهاجي أحد فروع الأسرة الباديسية الصنهاجية التي استخلفها الفاطميون على مملكة القيروان حينما فتحوا مصر ونقلوا كرسي خلافتهم إليها، ثم استقل الباديسيون بعد ذلك بالقيروان عندما آنسوا ضعف الدولة الفاطمية في الشرق.

رأى زيري أن ينتبذ مكانًا قصيًا عن القيروان لأوائل قيام الدولة الفاطمية ورسوخ دعوتها وكثرة أنصارها واستقرارها بالمهدية العاصمة التي أسسها المهدي أول الخلفاء الفاطميين على ساحل تونس الجنوبي، وأن يعتصم بالعصبية الصنهاجية ضد قبائل زناتة أحد أعداء صنهاجة الألداء، فاختار جبل أشير إحدى قمم الأطلس على نحو مائتي ميل في جنوبي مدينة الجزائر وأسّس فيه مدينة أشير، وشرع في بنائها عام 324 الذي جعلناه مبدأ لنشأة هذه الدولة، وقد أخذ زيري بدعوة الفاطميين ليزداد قوّة، فاستبحرت بذلك مدينته، وجمعت أسباب الحضارة كلها من علم وفن وصناعة وتجارة، وقصدها الناس من كل قطر، ورحل إليها التجّار وأصحاب الصنائع من الأندلس وغيرها، ولكن عمرها لم يطل، فقد زاحمتها (قلعة حماد) التي أسّسها حفيد زيري حماد بن بلقين بن زيري في جبل كيانة إحدى قمم الأطلس الشامخة شرقي جبل أشير، وجبل كيانة تتفرّع منه عدّة فروع ملاصقة، وفي بعضها منازل قبيلتي ومسقط رأسي، ولم تزل آثار قلعة حماد ماثلة إلى يومنا هذا، ولا يوجد لموقعها نظير في المناعة الطبيعية، وإن آثارها لتنطق بالقوة والاتساع مع وعورة المسالك المؤدّية إليها. وقد احتوت عاصمة حماد على كل ما احتوت عليه عاصمة جده زيري وهي مدينة أشير من حضارة وصناعة وفن، وأريت عليها في كل ذلك وفي ارتقاء العلوم الإسلامية بها وبكثرة المساجد وهجرة العلماء إليها حتى كوّنت مدرسة من المدارس الإسلامية بالشمال الإفريقي، ولكنها باجتذابها للعلماء وأصحاب الفنون والصناعات كانت سببًا في خراب العاصمة الصنهاجية الأولى (أشير)، وبقي عمرانها في ازدياد وحضارتها في اتساع واطراد، إلى أن طرقها الدهر بالغارة الهلالية المعروفة في أواسط المائة الخامسة، فاحتلّت قبائل بني هلال بن عامر المتدفقين من صعيد مصر على شمال إفريقيا البسائط المحيطة بها من الشمال والجنوب، وضايقوا قبائل البربر فيها، ومدينة القلعة متصلة من جنوبها بسهل واسع كان فيه لبني هلال مجالات، فأحسّ ملوك القلعة الحماديون بأنه لا قبل لهم بصدّ هذه القبائل العربية المغيرة، فعزموا على إنشاء عاصمة جديدة، فاختاروا موقع بجاية على خليج من أمنع خلجان البحر الأبيض، وهو موقع حصن فينيقي قديم يسمّى "صلداي"، واقع على مصبّ وادي الساحل في البحر، وتحيط به جبال شاهقة، هي شناخيب الأطلس الأصغر، فاختط بها الناصر أحد الملوك الحماديين، عام 460 هجرية، مدينة ونقل إليها دار الملك فأصبحت عاصمة ثالثة للدولة الحمادية، وكانت أضخمهن وأعمرهن وأجمعهن لأسباب الحضارة، وزادت على سابقتيها بازدهار العلوم الإسلامية وكثرة من أخرجت من الأئمة في تلك العلوم، وكانت ممرًّا لكل قادم من الأندلس إلى الشرق حاجًّا أو طالبًا للعلم، وكانت تحتبس كل عالم أندلسي يردُ عليها سنتين أو ثلاثًا حتى يأخذوا عنه كل ما عنده من علم وأدب، وكما أصبحت بجاية دار علم أصبحت ميناءً تجارًيا وحربيًا لا نظير له في شمال افريقيا، وكان خليجها غاصًّا دائمًا بالسفن التجارية من الأندلس إلى الشام ومن ثغور الفرنجة على الضفة الأوربية، وبالأسطول الحربي الحمادي الذي أنشأ له الحماديون دور صناعة كانت مضرب المثل في زمنها.

الدولة الفاطمية

الدولة الفاطمية: وعلاقة هذه الدولة بالجزائر أن الدعوة إليها بدأت في جبال كتامة، بين قبائلها البربرية، وأن داعيتها أو داهيتها الأول أبا عبد الله الشيعي، أقام في هذه الجبال سنوات يدعو إلى المذهب الإسماعيلي الباطني حتى انتشر في قبائل كتامة الشديدة المراس، ثم انتقل بهم إلى إقامة دولة ومبايعة رجل من آل البيت بالخلافة، فكان ذلك الرجل هو عبد الله المهدي أول الخلفاء الفاطميين، وجبال كتامة هي بعض الأطلس الأصغر المحاذي للبحر الأبيض وموقعها قريب من مدينة قسنطينة في الغرب منها، ومدينة "ايكجان" التي أسّسها أبو عبد الله الشيعي وسمّاها دار الهجرة وجعلها مبعث دعوته، ما زالت معروفة بهذا الاسم إلى الآن وهي قريبة من بلدنا بنحو مائة ميل، فنشأة الدولة الفاطمية كانت في الجزائر، وإن انتقلت بعد ذلك إلى القيروان والمهدية، وقد بسطت سلطانها لأول نشأتها على القسم الشرقي من القطر الجزائري، أعني ما يشمل مقاطعة قسنطينة. فهذه كما ترون علاقة قوية بالجزائر وهي علاقة النشأة، وكانت نشأة هذه الدولة بالجزائر ثم استقرارها بالقيروان أقوى أطوارها، وخلفاؤها الأربعة بالقيروان أجلّ قدرًا من خلفائهم العشرة بمصر. كانت نشأة هذه الدولة عام 297 هجرية، وانقطاع دعوتها من القيروان عام 341 باستقلال الدولة الباديسية الصنهاجية أيام الخليفة معد المستنصر بن الظاهر رابع خلفائهم بمصر، وانقرضت على يد صلاح الدين الأيولي عام 567. الدولة الزيانية بتلمسان: وهذه الدولة أيضًا نشأت في صميم الجزائر من صميم أهل الجزائر، ومن أوسط قبائل زناتة نسبًا، وهم بنو عبد الواد، وكانت قاعدة مملكتهم مدينة تلمسان القريبة من الحدود المراكشية، والواقعة في الجنوب الغربي لمدينة وهران عاصمة المقاطعة الوهرانية، وتلمسان مؤسسة من قبل الفتح الإسلامي، وكانت تسمّى (أقادير) واتخذها سليمان بن عبد الله الكامل أخو إدريس الأكبر قاعدة لمملكته التي اقتسمها بنوه من بعده، أسوة بما فعل أبناء عمومتهم الأدارسة فيما جاور تلمسان من المغرب الأقصى، ثم كانت من بعدهم كرة لصوالجة الدول المجاورة من الشرق والغرب، إلى أن اقتطعها بنو عبد الواد من زناتة فاتخذوها قاعدة للمملكة التي شادوها بسيوفهم، وانتزعوها انتزاعًا من جسم الدولة الموحدية، وكان ابتداء هذه الدولة عام 633 هجرية وانقراضها عام 957، باستيلاء الأتراك عليها، وانتظمت هذه الدولة النصف الغربي من الجزائر الحديثة، وانتهت حدودها في بعض الفترات إلى مدينة

الجزائر، واستشرف بعض ملوكهم إلى انتزاع بجاية من يد الحفصيين ملوك تونس، وهذا أعظم توسّع لهذه الدولة. لم تلقَ دولة من الدول المغربية من المحن والحروب ما لقيته هذه الدولة، ولم تلق مدينة من المدن المغربية ما لقيته تلمسان في أيام بني زيان من تكرّر الحصار ومعاناة بلائه، ولم تعرف الأسر التي طلبت الملك بالمغرب من بأس الحروب والكرّ والفرّ وتعاقب الجلاء عن دار الملك ثم استرجاعها بالسيف مثل ما عرف ملوك بني زيان، وكان ذلك كله مع دولة الموحّدين ودولة المرينيين، وكان سبب هذا الصراع كله هي مدينة تلمسان الجميلة. ومع هذه الوقائع المثيرة التي كانت تدور حول تلمسان، فإنها كانت لا تزيد إلا عمرانا وحضارة، وإنجابًا للأبطال وللعلماء الذين كانوا نجوم الدنيا، ولا توجد مدينة في المغارب الثلاثة ولدت من أئمة الدين والأدب والعلم بجميع أنواعه مثل ما ولدت تلمسان، لا تفوقها في هذا إلا أمصار الأندلس، ومن العجيب أن عصرنا الزياني المضطرب المتقلّب في الحرب هو أزهر عصورها في العلوم والفنون وازدهار الحضارة. ففي هذا العصر نبغ أبو عبد الله بن خميس، شاعر العروبة في المائة السابعة، وفيه نبغ الحافظ الخطيب ابن مرزوق الأكبر، عالم الدنيا وخطيبها وابنه وحفيده، وفيه نبغ أبو سعيد المقري جد صاحب "نفح الطيب"، وفيه نبغ أبو عبد الله الشريف التلمساني وابنا الإمام وسعيد العقباني وقاسم العقباني، وغيرهم ممن لا يعدون كثرة. وكان للمؤرّخ ابن خلدون ملابسات بهذه المدينة وبملوكها الزيانيين، ولأخيه يحيى بن خلدون إقامة فيها وكتابة عن ملوكها، وقد كتب يحيى هذا تاريخًا لدولتهم، اسمه "بغية أو نجعة الرواد في ملوك بني عبد الواد" وهو مطبوع في الجزائر ومترجم إلى الفرنسية. هذه الدول الكبيرة التي قامت في هذه الرقعة من شمال افريقيا التي تُطلق عليها كلمة (الجزائر). وهناك إمارات صغرى قامت في بعض أجزاء من هذا القطر، وهي كثيرة، وأشهرها إمارة بني حمدون بالمحمدية التي تسمّى اليوم (المسيلة) ومنها إمارة بني مزني ببسكرة في أيام ابن خلدون المؤرّخ، وقد استظلّ هذا المؤرّخ بظل هذه الإمارة سنين وأقام ببسكرة تحت إنعامهم ورعايتهم. ومنها إمارات حفصية كان يقتطعها طلاب الملك من الأسر الحفصية كإمارة بعضهم في قسنطينة وآخر في بجاية، وليس لهذه الإمارات شغوف بشيء من علم أو فن يرفع ذكرها. نقف بكم هنا وقفة اعتبار وإعجاب، وهي أن جميع الدول البربرية التي قامت بالشمال الافريقي- وفيهن من بلغت من القوة والصولة مبلغًا لا يقصر بها عن الدول الأعجمية الكبيرة

الدولة التركية

التي قامت- لم تصطنع واحدة منهن اللغة البربرية لغة رسمية في مخاطباتها ومراسيمها وخطبها ومدائحها، وإنما كن جميعًا تصطنعن اللغة العربية، وتتبارين في انتقاء كتابها وخطبائها وتتنافس في إكرام علمائها وشعرائها، وجوائز ملوكها الثمينة هي التي شجّعت على تبريز الشعراء والكتّاب، وإن تعداد أسمائهم يطول، وأين هذا مما فعله الأتراك العثمانيون، أو المغوليون، أو ملوك فارس المسلمون؟ ____ الدولة التركية ____ تاريخ الدولة التركية معروف، وتاريخ احتلالها لمصر وأرض العرب على زمن السلطان سليم مشهور، وكل ذلك لا صلة له بموضوعنا، وإنما يهمّنا احتلال الأتراك للجزائر وإلحاقها بالممالك العثمانية. كانت نكبة الإسلام في الأندلس، وتخاذل المسلمين عن نجدة إخوانهم فيها، مقتضية لنتيجتها الطبيعية، وهي ضراوة الإسبان وتكالبهم على المسلمين أينما كانوا، وأقرب بلاد المسلمين إليهم شمال افريقيا، والقضية من أساسها صليبية سافرة، وأول الانتصار يغري تآخره، وإخراج الإسبان للمسلمين من الأندلس كان شفاءً للنفوس المسيحية الموتورة، ولكن ما رأته الدول المسيحية اللاتينية من موقف الحكومات الإسلامية وشعوبها من عمليات إجلاء المسلمين واكتساح الإسلام، شجّعها على الإمعان في التنكيل بهم وعلى غزوهم في عقر دورهم، واحتلال أوطانهم الواقعة على السواحل الافريقية، وسواء أكانت الخطة قديمة أو أوحت بها نتائج الانتصار والتنصير والإجلاء فهي طبيعية كامنة في النفوس. بدأ الإسبان والبرتغال باحتلال عدة مدن على سواحل مراكش وفي سنة 1509 ميلادية احتلّوا المرسى الكبير ووهران من الثغور الجزائرية، وتداعت القرصنة الاستعمارية من إسبانيا وفرنسا والبرتغال إلى احتلال ما يمكن من الثغور الجزائرية والتونسية، ومطاردة الإسلام بمطاردة أبنائه واستعبادهم، مثل ما تمّ لهم بالأندلس. ولولا أن قيض الله لنجدة المسلمين ونصرة الإسلام القائد التركي البحري العظيم بابا عروج وأخاه وقريعه القائد خير الدين، لتمّ في شمال إفريقيا ما تمّ في الأندلس من استعباد المسلمين وإكراههم على التنصر.

والقائدان الأخوان تركيان، ولدا بجزيرة (ميديللي) وامتهنا البحارة واتخذاها وسيلة للجهاد في سبيل الله. فخاضا لجج البحر الأبيض وتمرّسا به وعرفا أعماقه وشطآنه، وتطوّعا بنقل طوائف من المسلمين الذين أجلاهم الإسبان من شواطئ الأندلس إلى شواطئ شمال افريقيا فأنقذوهم من حكم الرهبان ومحاكم التفتيش ومن التنصر الجبري أو الإحراق. ولما أدرك الأخوان القائدان تداعي الدول المسيحية للإغارة على ثغور المسلمين كلها، وعزمها على استئصال الإسلام منها، اتفقا مع الأمير الحفصي في تونس إذ ذاك، على أن يجعلا من تونس قاعدة لأعمالهما البحرية، ودفاعهما عن المسلمين واسترجاع ما احتلته تلك الدول، وكانت الدولة الحفصية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حتّى أن الإسبان احتلّوا عاصمتها تونس مرّتين، وأفحشوا بالنكاية في المسلمين، واتخذوا من جامع الزيتونة اصطبلًا لدوابهم. كان من نتائج ذلك التداعي اللاتيني الكاثوليكي أن احتلّت دول أجنبية كثيرًا من الثغور الجزائرية، ومنها ثغر بجاية احتلّه الإسبان، وثغر جيجل الواقع شرقي بجاية، احتلّه الجنويون، فبدأ القائدان بإنقاذ بجاية من يد الإسبان، ودحرا الإسبانيين برًّا وبحرًا، ثم استنقذوا ثغر جيجل، وكان ذلك في سنة 1512 ميلادية، فكانت هذه السنة بداية تاريخ العهد التركي بالجزائر، وفي سنة 1516، احتلّ القائدان الأخوان مدينة الجزائر، واتخذا منها قاعدة ثابتة للهجوم والدفاع والعمليات الحربية بريّة وبحرية، وأهمها قمع القرصنة اللاتينية في البحر الأبيض، ومن هذه السنة أصبحت مدينة الجزائر عاصمة إلى الآن. كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سليم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة، وكان رجال أسطول القائدين الذين يدير بهم المعارك البحرية لا يزيدون على ثمانمائة، فعزّزهم بثلاثة آلاف جندي جزائري، وبهذا العدد القليل مع الشجاعة وحسن التدبير، أوقع القائدان بالقرصان اللاتينيين الهزائم المأثورة وطردا حكوماتهم من جميع ما احتلّوه من ثغور تونس والجزائر في مدة قصيرة، وامتدّ ميدان النزال بين الفريقين برًّا وبحرًا من مدينة تلمسان وسواحلها وثغورها إلى تونس وسواحلها وشواطئها، وهو ميدان طوله أكثر من ألف وخمسمائة ميل. من توفيق الله للقائدين التركيين، ومن دلائل إخلاصهما في نصر الإسلام، تسهيله احتلال مدينة الجزائر لهما، وجعلهما إياها قاعدة لأعمالهما، وإدارة حروبهما، ومركزًا لتنظيم الأمور الإدارية والعسكرية، فقد انتقل شأنهما من حال إلى حال تخالفها، وبعد أن كانا رئيسين بحريين يديران حركة غزو ونهب وتعرّض لأمثالهما ممن يحترف حرفتهما، لا يرجعان فيما يصنعان إلى أحد، حتى الدولة العثمانية لم يكونا يأتمران بأمرها ولا يرجعان

إليها، إلا من حيث الجنسية والدين، وإنما كانا يدافعان عنها إن اقتضى الحال، ويجلبان لها الفخر بانتصاراتهما، بعد أن كانا على تلك الحال، أصبحا أميرين مسؤولين عن إنقاذ شعوب إسلامية من الكفر وأوطان إسلامية من احتلال الأجانب. ومدينة الجزائر ذات مزايا لا تُحصى، وأهم مزاياها توسطها للشمال الإفريقي كله، ووقوعها على البحر، وإشرافها على كل ما يجري فيه، فهي قاعدة حرب وسلم، وإدارة وحكم، وقد تعاون موضعها ووضعها على إكسابها هذه المزايا، وما ذكرنا منها إلا القليل، وقد تفطن الاستعمار الفرنسي فيما تفطن إلى هذه المزايا الطبيعية، وأضاف إليها بعض المزايا الصناعية فاستغلها لمصالحه، وإن هذا لهو الذي يحمله على الاستمساك بها حتى انه ليتمنى خروج روحه قبل الخروج منها، وسيكون العكس فيخرج منها قبل أن تخرج روحه من جسده ليذوق طعم الحسرات التي أذاقنا إياها. وكان بابا عروج بعد استقراره بالجزائر مطمئنًا إلى الانتصار على أعدائه، وقد زاد عددهم وتمكّنت عداوتهم له بتمكّنه من هذا المركز الحصين، ومطمئنًا إلى ثقة الشعب الجزائري المسلم به، ولكنه كان ممتعضًا من موقف البقية المهينة من سلالة بني زيان أمراء تلمسان، ومن سلالة بني حفص أمراء تونس، فقد كان كل من هذين الأميرين يصانع الأعداء ويماسهم ليحتفظ بلقب الإمارة ولو تحت حمايتهم. والمتتبع لسيرة القائدين الأخوين حق التتبع لا يستخرج منها أنهما كانا طامحين إلى تأسيس مملكة يستقلان بسلطانها، كما يطمح إلى ذلك من تهيّأت له الأسباب مثلهما، أو يستعملان قوّتهما ضدّ الدولة العثمانية، كما فعل محمد علي حينما ملك مصر، وإنما هما رجلان كانت لهما لذة وذوق في هذا النحو الذي توجّها إليه، وزادت النزعة الإسلامية هذا الذوق فيهما تمكّنًا لأنّ فيه مع اللذة أجر الجهاد وحسن المثوبة عند الله، وإذا كان الجزائريون قد أسندوا إليهما الإمارة عليهم، فإنما ذلك للمصلحة العامة. وعليه فما كانا يمتعضان لسلوك الأمير الزياني والأمير الحفصي في تمكين الأعداء من الوطن الإسلامي، طمعًا في ملكهما، وإنما كانا يمتعضان لاتخاذ العدو لهما مطية تخفف عنه العناء في الاستيلاء على أوطان المسلمين. ولذلك أقدم بابا عروج على حرب صاحب تلمسان فانتصر عليه واستولى على تلمسان، فتكشف الأمير الزياني عن خزية الدهر واستعان بالإسبان على بابا عروج، واستشهد بابا عروج في أثناء حرب تلمسان سنة 1518. وولي الحكم بعده أخوه خير الدّين، فاضطلع بالحكم أقدر ما كان عليه، وبالحرب أقوى ما كان تمرّسًا بها واطلاعًا على أحوال أعدائه فيها. أما اضطلاعه بالحكم فللثقة المتبادلة بينه وبين الجزائريين وسكان الجهات التي انضمت إليهم باختيارها أو تغلّبوا عليها عسكريًا، ولأن

سيرة أخيه بابا عروج الصالحة زرعت لهما المحبة في قلوب الناس، فهيّأت له أسباب الاطمئنان، وأما اضطلاعه بالحرب فإن الولاية لم تلهه عن مواصلة الحرب مع الإسبان وغيرهم هجومًا ودفاعًا، وتوالت انتصاراته عليهم في البرّ والبحر، ومن وقائعه المشهورة فيهم، الوقعة التي انتصر فيها على الجيش الذي قاده شارلكان بنفسه، فكسره خير الدين شرّ كسرة. ولما اشتهر اسمه، وعلا نجمه، واتسقت انتصاراته البحرية في البحر الأبيض، والبرية في سواحله الافريقية التي احتلّها اللاتينيون، وقع ذلك كله موقع الرضى والاغتباط في نفس الخليفة العثماني ورجال حكومته، لأنهم يعدون القائدين الأخوين من رجال دولتهم، ويعدون مفاخرهما الحربية جزءًا من مفاخرهم، وللدولة العثمانية من البحر الأبيض جزء عظيم وهو حوضه الشرقي: سواحل البلقان والأناضول وسوريا ومصر وليبيا، فإذا أضاف هذان القائدان إلى هذا الجزء العظيم سواحل افريقيا الشمالية إلى نهايتها في مضيق طارق، فقد حقّقا لها أغلى ما كانت تطمح إليه الدول العظيمة من آمال في بسط سلطانها على هذا البحر العجيب الذي يقول فيه شوقي: أَيُّ المَمَالِكِ أَيُّهَا … فِي الدَّهْرِ مَا رَفَعَتْ شِرَاعَكَ وما زال هذا البحر مجال غلاب بين الدول الناشئة على ضفتيه، وما زالت الحرب سجالًا بين ضفته الافريقية وبين ضفته الأوربية، ولم تجتمع الضفتان في يد واحدة كاملة لدولة واحدة بل لم تجتمع إحداهما إلا قليلًا، تهيّأ ذلك في بعض أجزائهما للفينيقيين ولليونان وفي معظمها للرومان، ولم تبسط ظلها على معظم سواحله إلا الدولة العربية والدول الإسلامية التي تفرّعت عنها، حتى سمّاه بعض المؤرخين (البحر العربي). ووقائع خير الدين هي التي أيأست الإسبان من بلوغ أملهم في شمال افريقيا وهو أمل طويل عريض يفوق آمالهم في أمريكا الجنوبية، لقرب افريقيا منهم واتصالها بهم، وهي التي أخّرت الاستعمار الأوروبي لافريقيا قرونًا وهذا الشمال هو مفتاح افريقيا كلها ومن ملك المفتاح سهل عليه دخول الدار. وافتقرت الدولة العثمانية إلى كفاءة خير الدين الحربية والبحرية، التي قامت الشواهد عليها من وقائعه وانتصاراته، فاستدعته إلى دار الخلافة وأسندت إليه قيادة أسطول الدولة، ليدع عنها العوادي التي بدأت تعدو عليها في هذا البحر. فاعجبوا لثلاثة أشياء تجتمع في ذلك الوقت، واذكروا ماذا يكون من آثار اجتماعها: أسطول دولة كامل، بقيادة خير الدين في البحر الأبيض، ونسبة البحر الأبيض من خير الدين نسبة عرين الأسد من الأسد، والأسطول أنيابه وأظفاره. وتولّى ولاية الجزائر في غيبة خير الدين حسن آغا، من سنة 1533 ميلادية إلى سنة 1544. وفي أيام ولايته استولى خير الدين على تونس وألحقها بممالك الدولة العثمانية،

ومحا الدولة الحفصية من الوجود وقطع طمع الطامعين في إرثها، وانتظمت هذه الشطوط التي تبتدئ من القسطنطينية في مملك واحد. وتولّى ولاية الجزائر- بعد موت حسن آغا- حسن باشا بن خير الدين، من سنة 1544 ميلادية إلى سنة 1552 ولم تزل من آثاره في مدينة الجزائر قلعة تُعرف (بحصن الآمبرور) (1)، ثم استدعي إلى دار الخلافة بأمر الدولة. فتولّى ولاية الجزائر بعده صالح رايس من سنة 1552 ميلادية إلى سنة 1556، فزاد في رقعة الولاية قطعًا ثمينة اتسعت بها: أضاف إليها صحراء المقاطعة القسنطينية، ومدنها التي كانت مراكز إمارات صغيرة من بقايا المرينيين وغيرهم، وهي: تقرت وورقلة (وارجلان) المذكورة في حديث الدولة الرستمية، وهذا الوالي هو الذي قضى على بقايا الزيانيين ودولتهم بتلمسان، وضمّها إلى الجزائر، وهو أول من غزا المملكة المراكشية من الولاة الأتراك، في عهد ملوكها السعديين، فهاجمهم برًّا وبحرًا، ونصب في فاس ملكًا من أعقاب المرينيين، وما هذه المحاولة إلا تحقيق لأمنية كانت تنطوي عليها نفسا القائد الأكبر بابا عروج وأخيه خير الدين، وقربها ما تسنّى لهما من الفتوحات المظفّرة. هذه الأمنية هي أن يضما المملكة المراكشية إلى ممالك الشمال الافريقي التي أنقذوها من الاستعمار اللاتيني، وهما يرميان بذلك إلى غرضين: الأول إلحاقها بالدولة العثمانية دولة الخلافة، والثاني قطع أطماع الإسبان فيها، ولعلّ لهما غرضًا آخر أشرف، ينتج عن النجاح في هذه المحاولة، وهو إعادة الكرة على الأندلس، والأخذ بثارات الإسلام من الإسبان، وهذه الكرة لا تتصوّر في ذلك الحين إلا باجتماع مراكش والجزائر وتونس في يد كيد بابا عروج وأخيه، وإدارة عسكرية موحّدة كإدارتهما، وقيادة كقيادتهما، ذلك لأن الإسبان تمرّسوا بهذه الدول التي نشأت بالمغرب الإسلامي في جميع عهودها، ونزعت هيبتها من نفوسهم من لدن يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن وأبي الحسن، وما أقدم الإسبان على ضربتهم التاريخية الجريئة لمسلمي الأندلس إلا بعد أن استيقنوا أن هذه الدويلات لم تبق فيها فضلة إنجاد لِمستصرخ. إن ايمان الرجلين مضافًا إليه ما تحدثه الانتصارات المتوالية في نفوس القوّاد الشجعان، لا يبعد بهما عن هذه (التهمة) تهمة العزم على استرجاع الأندلس إلى حظيرة الإسلام، أما كونها كانت أمنية لهما فهذا ما نتحقّقه لأنها كانت أمنية كل مسلم على وجه الأرض. ولقد تجدّدت محاولة إلحاق مراكش بالممالك العثمانية مرّة أخرى من والٍ آخر من ولاة الجزائر، وهو قائد رمضان، بعد هذه المحاولة ببضع وعشرين سنة، ولكنها لم تفلح، ثم لم تتكرّر المحاولات الجدية بعد ذلك.

_ 1) حصن الآمبرور: حصن الامبراطور، ويسمّى قلعة مولاي حسن، وهو ابن خير الدين بربروس. والامبراطور المقصود هو شارل الخامس الذي أغار على الجزائر سنة 1541، وهزم هزيمة ساحقة.

ثم تعاقب الولاة على الجزائر بالتعيين الرسمي من الدولة العثمانية، ولا يتسع الوقت لسرد أسمائهم، وذكر أعمالهم وشرح سياستهم، ولكن واحدًا منهم لا يحسن بنا عدم التنويه باسمه، ولا يحسن بكم جهله، وهو (قلج علي)، تولّى الجزائر من سنة 1568 ميلادية إلى سنة 1571. اشتهر هذا الوالي بالشجاعة والقوّة والحزم والبراعة في قيادة الأساطيل الحربية، وشارك بأسطول الجزائر في الموقعة البحرية الكبرى التي تألبت فيها الأساطيل الأوربية، على الأسطول التركي حتى حطمته، ولم ينجح منه إلا الأسطول الجزائري الذي يقوده قلج علي هذا، ولم يغنم النجاة بأسطوله فقط، بل غنم من أعدائه مغانم أهمها في المغزى، المركب الذي يحمل علم البابا. وكانت من عواقب هذه البطولة أن نقلته الدولة العثمانية من الجزائر إلى دار الخلافة ليقوم بتجديد الأسطول وتنظيمه، وليس في ولاة الجزائر بعده من يحتفظ له التاريخ بمنقبة حربية بكر، وإن كانت لبعضهم مآثر دينية أو عمرانية تستحق التخليد. بفشل المحاولات الرامية إلى الاستيلاء على المملكة المراكشية وإلحاقها بالممالك العثمانية، وبتقسيم الجزائر إلى ثلاثة أقسام مركزها الجزائر العاصمة، وبالاستيلاء على المناطق الصحراوية وضمّها إلى ما يسامتها من تلك الأقسام الثلاثة، بذلك كله تميّزت حدود الجزائر الحالية تقريبًا، ولم تبقَ إلا مواطن للقبائل المتداخلة لم تزل محل نزاع إلى وقت قريب، وطالما اتخذت منها فرنسا ذرائع للشقاق والتحرّش في عهد استعمارها، وهذه الحدود كلها إدارية لا تشهد لها الطبيعة بحق، ولا يهم إنسان بوضع العلامات الفارقة فيها إلا طمستها الجوامع من صنع الله فكان كالراقم على الماء، وأول ما حدّدت هذه الحدود الإدارية في العهد التركي. والعهد التركي هو أطول عهود الحكومات المتعاقبة على الجزائر في تاريخها الإسلامي، ولم تتسع رقعة الجزائر على دولة من الدول التي نشأت مثل ما اتسعت في العهد التركي. فمدة العهد التركي العثماني في الجزائر ثلاثمائة سنة وتسع عشرة سنة، وينقسم إلى خمسة أدوار، بحسب نوع الولاة الذين تعاقبوا على حكم الجزائر. ـ[الدور الأول]ـ: حكم بابا عروج وأخيه خير الدين، من سنة 1512 إلى سنة 1546، فمدّته 34 سنة. ـ[الدور الثاني]ـ: حكم البايلاربايات، من سنة 1546 إلى سنة 1587، فمدّته 41 سنة. ـ[الدور الثالث]ـ: حكم الباشوات الثُّلاثِيني (2) من سنة 1587 إلى سنة 1659، فمدّته 72 سنة.

_ 2) الثلاثيني: كان الحاكم العثماني في الجزائر في هذه الفترة يحكم ثلاث سنوات ثم يخلفه حاكم آخر لنفس المدة ...

ـ[الدور الرابع]ـ: حكم الأغوات من سنة 1659 إلى سنة 1671، فمدّته 12 سنة. ـ[الدور الخامس]ـ: حكم الدايات من سنة 1671 إلى سنة 1830، فمدّته 160 سنة. هذه إلمامة عاجلة بالعهد التركي في الجزائر، وتاريخ هذا العهد حافل بالأحداث، ملوّن بألوان الولاة، إذ كان منهم الظالم لنفسه وللناس، ومنهم المقتصد، ومنهم الصالح، ولكن صلاح الصالح منهم كان من ذلك النوع التركي الذي يظهر في بناء مسجد حيث تكثر المساجد، فلا يكون جامعًا بل مفرّقًا، أو في بناء ميضأة للوضوء أو سبيل للشرب أو إقامة ضريح أو قبّة لولي حقيقي أو وهمي، أو وقف مال على سبيل الخير، وهذا النوع هو أنفع أعمالهم لو دام. أما تاريخهم السياسي والإداري، فصفحاته الأولى كانت مشرقة بأعمال بابا عروج وخير الدين الحربية وانتصاراتهما فيها، وقد غطّت المحاسن فيها على المساوئ، واعتبرهما الناس منقذين للإسلام وأوطانه- وهو الحق- فلم تبقِ عين الرضى لعين السخط مجالًا، وجاء مَن بعدهما فخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، وطال العهد فثقلت الوطأة وساء الجوار، وفشت الرشوة والمصادرات وسفك الدماء ففسدت القلوب والنيّات، واختلّت الأحوال تبعًا لاختلالها في أهل الدولة العثمانية، فعمّ الظلم من الولاة وأتباعهم إلى آخر موظف في الدولة، واستبدّ كل وال بالمقاطعة التي يحكمها من المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، وكانت آثار تلك الحالة في الأمّة شقاقًا وتمرّدًا على النظام وسوء أخلاق، ومع ذلك التناهي في فساد الإدارة وانفصام العلائق بين الحاكم والمحكوم، فإن قوة الجزائر العسكرية كانت مرهوبة عند خصومها اللاتينيين حتى أن بعضهم كان يستعدي الجزائر على بعض، وكان يستنجدها فتنجده عسكريًا، ويستتقرض منها المال فتقرضه، وكان استقلال الجزائر بذلك محفوظًا في الخارج، وإن كان ضائعًا في الداخل، وكان ضياعه في الداخل هو الذي مهّد للطامة الكبرى، وهي احتلال فرنسا للجزائر. وأما الحالة العلمية في ذلك العهد فهي الصفحة المغسولة من ذلك التاريخ، بل هي الصفحة السوداء في تاريخ الجزائر العلمي، فما رأت الجزائر عهدًا من عهودها أجدب من العهد التركي في العلم، ولا أزهد من حكوماته فيه، ويعلّل كثير من الناس ذلك بأن من خصائص الشعب التركي أنه شعب حرب لا علم، وقد يكون هذا التعليل قريبًا من الحق، لأنه اطرد في كثير من الشعوب التي حكموها باسم الخلافة الإسلامية، يعنيه شوقي بقوله فيهم: رفعوا على السيف البناء فلم يدم … ما للبناء على السيوف دوام ومن العجيب أن تكون الدول البربرية التي قامت بالجزائر أحفظ لذمام العلم واللغة العربية من دولة الخلافة الإسلامية، فالدولة الرستمية والدولة الصنهاجية والدولة الزيانية جرت

الإحتلال الفرنسي

في العناية بنشر العلم وتسهيل وسائله وتشجيع أهله شوطًا لم تقصر فيه عن شأو دولة الخلافة بالشرق، وتيهرت وقلعة حماد والمسيلة وبجاية وطبنة وقسنطينة أخرجت للعالم الإسلامي من أئمة العلم في الدين والدنيا، وفحول البلاغة من الشعراء وفرسان المنابر من الخطباء من كان الشرق يقف أمامهم مبهوتًا من العجب، وناهيكم بتلمسان في العهد الزياني فقد سايرت بغداد في عنان واحد في هذا الميدان. ____ الإحتلال الفرنسي ____ احتلّت فرنسا مدينة الجزائر وأطرافها في شهر يوليو من سنة 1830 احتلالًا عسكريًا بعد دفاع عنيف من الحامية التركية ومن الأهالي، فُصّلت أخباره في كتب التاريخ الفرنسية، وفي تلك الكتب شيء من الإنصاف والاعتراف بعنف الدفاع والاستماتة فيه، وفيها كثير من الاعتراف بما فعله الجيش الفرنسي من أعمال وحشية، خصوصًا حينما اشتدّت المقاومة العامة. ومن المحزن أن أخبار ذلك الاحتلال الظالم، وأخبار تلك الحرب وما ارتكبه الجيش الفرنسي فيها من موبقات وأخبار الدفاع الشريف الذي قام به الشعب الجزائري، وما أظهر فيه من بطولة وما ظهر فيه من أبطال، كل ذلك لم يسطر فيه حرف بالعربية من أبناء الجزائر، إلا أن تكون مذكرات خصوصية، ماتت بموت أصحابها، أو تناستها الأجيال اللاحقة لأسباب بعضها يرجع إلى تمكن الاستعمار وحرصه على طمس الحقائق التي لا تجري مع هواه، وعمله على نسيان الشعب الجزائري لأمجاده وعلى تصوّره للحقائق مقلوبة أو مشوّهة، حتى تضعف فيه ملكة التأسي ثم تموت، وقد رأيناه بعد استقرار الأمر يحارب التاريخ الإسلامي والتاريخ العربي والآداب العربية من أساسها، لولا أن أحيتها- على أكمل وجه- الحركة الأخيرة القائمة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما يأتي بيانه، ذلك لما يعلمه من تأثير التاريخ والآداب في إحياء الشعوب، خصوصًا التاريخ العامر بالمفاخر المملوء بالمآثر، كتاريخ الإسلام عمومًا، وتاريخ العرب بوجه خاص. والسبب في إهمال الجزائريين لتدوين وقائع الاحتلال والمقاومة يرجع إلى أمور، منها أن العهد التركي الذي طال أمده ثلاثة قرون وزيادة لم يكن عهد علم ومعرفة وفن، ولا مشجّعًا عليها، فتناسى الجزائري فيه تلك العهود الزاخرة بالمعارف وتدوينها، عهود بجاية وتلمسان وقسنطينة وتيهرت وقلعة حماد وغيرها من عواصم العلم التي اشتمل عليها القطر الجزائري قبل العهد التركي.

والعهد التركي جاء بعد تناقص العمران المستتبع لتقلص العلوم والمعارف في تلك العواصم العلمية، وليس من طبيعة الاحتلال التركي إحياء المفقود من العلوم، ولا تشجيع الموجود، فكان في الجزائر ضغثًا على إبالة، وكل هذا لا يعفي علماء الجزائر في ذلك العصر من تبعة التقصير في تدوين تلك الأحداث العظيمة لهم أو عليهم. وتمّ الاحتلال الفرنسي للجزائر كلها في نحو ثماني عشرة سنة، هي سنوات جهاد الأمير عبد القادر بن محيي الدين المختاري، ومقاومته الرائعة للفرنسيين، وبطولة ذلك الأمير، وصدق جهاده، وقوّة دفاعه عن الجزائر، وعظمته في العلم والرأي والحرب، ووقائعه التي انتصر في كثير منها على الجيش الفرنسي، كل أولئك أمور اشتهرت حتى غنيت عن البرهان، وحتى لقد شهدت بها فرنسا وقادتها قبل غيرهم. وبعد تسليم الأمير عبد القادر خُيّر في محل الإقامة فاختار الشرق وانتقل بأهله وحاشيته إلى اسطمبول، ثم إلى دمشق مشتغلًا ببث العلم والقيام على أسرته وعلى المهاجرين الذين التحق به آلاف منهم، إلى أن مات بدمشق في شهر مايو عام 1883. ولقد قال لي أحد الأصدقاء الأدباء، في هذا الأسبوع، وهو يحاورني في شأن من شؤون الأمير عبد القادر: إنه يعدّ تسليم هذا الأمير ونجاته بنفسه غميزة في قيمته التاريخية بل في دينه، وكان من مقتضيات إمارته وزعامته وبطولته أن يقاتل حتى يموت، وأن لا يختم أعماله بهذه الخاتمة السيّئة التي سن بها لمن بعده سنة التسليم والرضى بالهجرة الاختيارية، ومن معاني هذا الرضى أنه حرص على الحياة. هذا معنى كلامه ببعض ألفاظه، فقلت له: إنه لم يكن بدعًا من قادة الحرب في التسليم فقد اتبع سنة من قبله، أما أسباب تسليمه فنحن نعرف منها أشياء، ونظن به أشياء، هي الأشبه بحاله ومقامه، أما ما نعرفه فهو اختلال صفوفه، وخذلان كثير من المارقين له- ومنهم بعض مشايخ الزوايا الصوفية وبعض الأمراء من الجيران- خذلانًا تكون نتيجته اللازمة الاضطرار إلى قتالهم، ومعنى هذا أنه بين عدوين، ومضطرٌّ إلى الحرب في ميدانين. وأما ما نظنه به فهو أنه كان ينوي إعادة الحرب مع الفرنسيين، بعد اتصاله بمقرّ الخلافة واجتماعه بأهل الحل والعقد فيه، وهذا ما نفسّر به اختياره اسطمبول دار هجرة، ويؤيّد هذا التفسير تلكؤ فرنسا في السماح له بالسفر إليها، كأنما خامرها شيء من هذا المعنى، أو استدلّت بالقرائن عليه. ولم تنقطع المقاومة بتسليم الأمير، بل بقيت المناوشات والثورات المحلية المتكرّرة تقلق الجيش الفرنسي وتقضّ مضجعه وتسلبه القرار إلى أن جاءت حرب السبعين وكان ما يأتي.

حرب السبعين وثورة المقراني

وهنا نقطة يكثر عنها السؤال، وهي: كيف لم يقم بعد الأمير عبد القادر قائد آخر من رجال جيشه يقود المقاومة سنة أو سنوات، مع أنه كان له جيش مدرّب يقوده رجال حربيون من أبناء الجزائر، بل ان الأمير كونّ حكومة أرقى من حكومة الترك التي لم يبقَ لها أثر بعد الاحتلال الفرنسي، وضرب السكة باسمها ونظّم القضاء والإدارة والحرب وجميع مقوّمات الحكومة. والجواب ما قدمنا الإشارة إليه، من اختلاف الكلمة عليه من مشائخ الزوايا ورؤساء القبائل المخذولين الطامعين في الإمارة المنافسين للأمير فيها، وقد تفاقم هذا الشرّ واستحكم، والقطر واسع طويل عريض، والحكم التركي هيّأ النفوس للانتقاض الأرعن على كل حكومة. وأعتقد أن الأمير عبد القادر لو اقتصر على قيادة الثورة وساسها سياسة حربية باسم الجهاد في عدو مجمع على عداوته ولم يكوّن حكومة مدنية منظمة لاستقام له بعض الأمر، ولكنه بتكوينه لحكومة لها كل خصائص الحكومات أثار النزعات الكامنة في النفوس المريضة. حرب السبعين وثورة المقراني: في سنة 1870 أي بعد احتلال فرنسا للجزائر بأربعين سنة قامت الحرب بينها وبين جيرانها الجرمانيين أو البروس كما كانوا يسمّونهم، وكان المسيطر على جرمانيا داهيتها ومكوّن وحدتها "بسمرك"، فاغتنم الحاج أحمد المقراني أحد الرؤساء بمقاطعة قسنطينة فرصة اشتباك فرنسا مع الألمان في تلك الحرب، وأعلن الثورة عليها في الجزائر، وكان يعتقد هو ومؤازروه على تلك الثورة أن فرنسا لا تقوى على القيام بحربين، وأن انشغالها بحرب في أوربا فرصة لا تتكرّر. فهي أصلح الفرص للثورة والانتقاض على الحكم الفرنسي، فثار وكادت ثورته تعمّ المقاطعة القسنطينية، ولو تكرّرت انتصاراتها الأولى لعمّت الجزائر كلها، وأعادت المقاومة أقوى مما كانت، وقسنطينة أوسع المقاطعات الثلاث وأكثرها سكانًا، وأقواها عصبية قبلية ودينية، وكان إعلان هذه الثورة سنة 1871. وشاء الله أن تسقط فرنسا أمام الجيوش الجرمانية، وتهزم شرّ هزيمة، وتفرض عليها تلك الضريبة الثقيلة فتعطيها وهي صاغرة، ثم تجمع فلول جيشها وتجهّزها لتحطيم ثورة المقراني، فتمّ لها ذلك. من يوم فشل ثورة المقراني تحطمت المقاومة الجماعية بالجزائر، وكان لذلك الفشل أثر بليغ في نفوس الأمّة كلها، من الملل واليأس وسوء الظن بالزعماء، وتبارى الطامعون وأصحاب الدخائل السيّئة في الزلفى إلى فرنسا واكتساب رضاها وجرّ المغانم الزائفة إلى ذويهم والظهور على خصومهم، يريدون بذلك كسب المال والجاه وخلق زعامة لأنفسهم ما

كانوا لينالوها لو نجحت الثورة وتخفصت الجزائر من فرنسا، ومن ذلك الحين غابت طبقة من أصحاب البيوتات والمجد التليد، وأنشأت فرنسا طبقة أخرى من هؤلاء المتقرّبين إليها، صنعتها بيدها وعلى عينها، فكانوا هم وذرّيتهم نكبة على الجزائر إلى يومنا هذا، ويسميهم الاستعمار الفرنسي (العائلات الكبيرة). ثورة المقراني هي آخر الثورات الجماعية بالجزائر وقد شهدها جدي ووالدي، وعمره سبع عشرة سنة حاملين للسلاح، واستشهد فيها جماعة من قبيلتنا، وكان المقراني- رحمه الله- يعتمد على قبيلتنا لمكان الجوار والعصبية، وعلى جدي لمكانه في العلم والكلمة النافذة، وكان والدي- رحمه الله- يقص عليّ أخبار الوقائع التي شهدها هو وأبوه، فكنت أفهم إذ ذاك أن الثورة ينقصها التدبير المحكم، وأن في بواعثها عنصرين ضعيفين جدًّا لا يحسن الاعتماد عليهما في الثورات، الأول أن مدبّريها اغتنموا فرصة اشتباك فرنسا مع بروسيا في حرب السبعين فاعتمدوا على هذا وحده من غير أن يقرأوا حسابًا للاستعداد الداخلي العام بقسميه النفسي والمادي، وهذا نوع من الاغترار يقبح بمدبري الثورات، والاعتماد على انهماك العدو في حرب غير موفق دائمًا، لأنه إنما ينجح ما دام الشاغل موجودًا والاشتباك قائمًا، أما على الاحتمالين الآخرين، وهما انتصاره العاجل أو انهزامه السريع، فلا ينفع اعتبارهما في التدبير، لأن العدوّ إذا انتصر على من هو أقوى من الثائرين عليه، فإن نخوة النصر وفراغ الجند يعينانه على قمع الثورة، وإذا انكسر أمام العدو القوي فإنه يأنف أن يجتمع عليه انكساران في آن واحد، فيجمع فلوله ويتصدّى بهم لقمع الثورة، وهذا هو ما وقع من فرنسا في قمع ثورة المقراني، فإن استراحتها من الحرب البروسية ولو كانت مغلوبة، هيّأ لها أن تجمع قوّتها وفلول جيشها المنهزم وتنقلهم إلى الجزائر لتحطيم الثورة القائمة بها. والحاج أحمد المقراني رجل شجاع مؤمن، ولكنه كرجال عصره متوسط الشخصية تنقصه الحنكة والبصيرة، وفت في عضده شيء آخر وهو تخاذل بعض شركائه في تدبير الثورة، وقيام بعض الوجهاء ذوي النفوذ بثورة لا صلة لها بثورته في رأي ولا تدبير ولا قيادة، فكانت هذه المنافسة مفسدة لنيّات كثير من الناس، على أن بعض القبائل لم تشارك في الثورة تربّصًا وانتظارًا، وبعضها- وهي قليلة- تعاونت مع فرنسا، فهذه العوامل مجتمعة أدّت إلى فشل ثورة المقراني. ولم تقع بعد ثورة المقراني ثورة ذات بال، وإنما وقعت انتفاضات محلية مرتجلة من بعض الرؤساء وقبائلهم المحدودة العدّ، ولم تكلّف فرنسا في القضاء عليها إلا أسابيع أو أشهرًا. يصحّ أن نقسم حالة الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي بحسب تأثيره فيهم وتأثرهم به، إلى ثلاث مراحل، تبتدئ المرحلة الأولى منها من سنة 1830، وتنتهي سنة 1871 ومدّتها

أربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثانية من سنة 1871 وتنتهي سنة 1914، ومدّتها ثلاث وأربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثالثة من سنة 1914 وتمتد إلى يومنا هذا، فمدّتها إحدى وأربعون سنة. ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائص وألوان نفسية من التأثّر والتأثير مسبّبة من المعاملات بين الفريقين، تجعل كل مرحلة تمتاز عن الأُخريين وتظهر الفوارق بينهن ظهورًا واضحًا مع اتصال المراحل بعضها ببعض، وسبب وضوح تلك الفوارق عظم أثر الحادثة التي تفصل بين المرحلة والمرحلة، فالفاصل بين المرحلتين الأولى والثانية حرب السبعين وأثرها في الأمّة الفرنسية كأمّة، وثورة المقراني وأثرها المتعاكس في الأمّتين الجزائرية والفرنسية، والفاصل بين المرحلتين الثانية والثالثة، الحرب العالمية الأولى وآثارها الخاصة والعامة. ونحن نمرّ بكم على هذه المراحل ونعدّ لكم آثارها بإجمال، حتى تلموا بأصول الأحكام التي تسمعونها على المرحلة الثالثة وهي المرحلة ذات الموضوع الذي طلب منا الحديث عنه. أما ـ[المرحلة الأولى]ـ: فهي ثورات متصلة الحلقات في أغلب نواحي القطر، تتخلّلها هدن، كلها على دخن، وقد استغرقت حروب الأمير عبد القادر وحدها نصف تلك المرحلة تقريبًا، فالخصائص البارزة لتلك المرحلة هي الحرب والحديد والنار: فرنسا مصمّمة على تثبيت قدمها في الجزائر تطبيقًا لخطة مرسومة لا رجوع فيها ولا هوادة في الوسائل الموصلة إليها، والجزائريون مصمّمون على الدفاع عن وطنهم وإنقاذه من براثن الغاصب، فإذا شذّ عن ذلك جبان، أو استسلم ضعيف إيمان، فذلك ما لا تخلو منه أمّة ولا زمان، وفي فرنسا نفسها كانت توجد طوائف ناقمة على غزو الجزائر غير راضية به. وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة دماء وأشلاء وموت فماذا ننتظر أن تكون الألوان التي تصطبغ بها النفوس في هذا الجو؟ إنه العداوة والبغضاء والحقد والانتقام يتداولها الفريقان، وعلى هذه الصورة مرّت المرحلة كلها، فإذا خفّ القتال في آخرها ورقأت الدماء، فإن العداوة والحقد والتربّص لم تخفّ، بل كانت تزداد شدّة واضطرامًا كلما ازدادت أسبابها، وأسبابها كل يوم تتجدد. ففي هذه المرحلة كانت الأحوال متشابهة الأواخر بالأوائل، ولا علاقة بين الأهلي والمستعمر إلا العداوة وآثارها، وإن كانت هناك ظواهر هدوء في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة فهي إلى حين، والأحكام في الجهات التي اضطرّت إلى الخضوع عسكرية صارمة لا تزيد شقة العداوة إلا اتساعًا، على أن فرنسا لم تنسَ في تلك المرحلة مكايدها من التضريب بين الرؤساء والإغراء بين القبائل، والاستمالة بالمال والوظائف والوعود، وقد أثّر سحرها بين طوائف ما زالت تطلق على أعقابهم (أولاد أحباب فرنسا).

وأما ـ[المرحلة الثانية]ـ: التي تبتدئ من حرب السبعين وثورة المقراني، فإن الأحوال انتقلت فيها من الضدّ إلى الضدّ في الفريقين. فأما الجزائريون فإن فشل الثورة أثّر في معنوياتهم أسوأ الآثار، وجاء احتلال فرنسا لتونس في تلك الظروف جرحًا على جرح، وقرحًا على قرح، وساءت ظنونهم بكل شيء، حتى أوشكوا أن يقنطوا. واستغلّ الدجّالون من المتصوفة والدراويش، الذين اصطنعتهم فرنسا لغاية التخدير، هذه الحالة النفسية في الشعب، فتعاهدوه بمنوّمات ينسبونها إلى الدين وما هي من الدين، وفحوى تلك المنومات أن الرضا بالاستعمار إيمان بالقدر. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. وأما الفرنسيون المستعمرون فقد شعروا لأوائل هذه المرحلة أن أقدامهم ثبتت في أرض الجزائر، وأن المقاومة لم يبقَ لها شأن يخاف منه، وأنه آن للاستعمار أن يبسط ظلّه على الأرض، وسلطانه على الأبدان، ولكنهم أضاعوا الرشد في أول هذه المرحلة، وركبهم الطبع اللاتيني المركّب من الغرور والأنانية، فعموا عن تلك الحقيقة المجرّدة وهي أن القلوب لا تملك بالسيف، وإنما تملك بالإحسان، وخطوا لسياستهم في الجزائر السنن التي هم سائرون عليها إلى الآن، ومبناها على أن الأوربي سيّد، والأهلي عبد، ويتفرّع على هذا أنه لا حق للأهلي في الوظائف كيفما كانت مؤهلاته، ولا نصيب له من خيرات بلاده كيفما كان استعداده، وفروع أخرى كلها خبيث نكد. بدأ الاستعمار على أثر فشل ثورة المقراني بانتزاع الأرض الخصبة في مقاطعة قسنطينة، واتخذ من الثورة ذريعة لذلك، وأقرّ فيها آلاف الأسر من سكان الالزاس واللورين، المقاطعتين اللتين انتزعتهما ألمانيا المنصورة من فرنسا المقهورة، وجاءوا بهم حفاة عراة جياعًا، وأحفادهم الآن هم ملوك الأرض بالجزائر وهم المسيرون لسياستها، لا على رغمنا بل على رغم فرنسا أيضًا، وطالما هدّدوها بالانفصال، وقد أضافت إلى هؤلاء بعد ذلك أخلاطًا من الطليان والإسبان والكورسيكيين، وسلطتهم على الأرض ومن فيها، وأطلقت أيديهم في انتزاعها من الأهلي بكل وسيلة، فهذا سلاح عزّزته بسلاح ثان، وهو قانون الانديجينا ( code de l'indigénat) الخاص بالأهالي وهو يبيح لأصغر حاكم فرنسي أن يسجن الأهلي خمسة أيام ويغرمه خمسة عشر فرنكًا، وله أن يضاعفها عشرات المرّات من غير سؤال ولا جواب ولا استئذان ممن هو أعلى منه، ولا تمكين من دفاع ولو بكلمة، وقد تكون الكلمة الواحدة من فم السجين موجبة لسجنه خمسة أيام، أو عشرة أيام أو ما شاء

حضرة الحاكم، وكانت كلمة واحدة من معمّر أوروبي يلقيها إلى الحاكم بأن فلانًا الأهلي امتنع من أن يبيع لي أرضه كافية في بقائه في السجن أشهرًا مع مضاعفة التغريم حتى يبيع أرضه بالقيمة التي يرضاها المعمّر. لا ريب أن هذا القانون الجائر الذي تضيق العبارات عن وصفه هو أمضى سلاح وأفتك سهم قضى به الاستعمار الفرنسي على البقية الباقية من نخوة الأمّة ورجولتها، وهذه العقوبة التي ذكرناها تترقّى مع رتبة الحاكم، فإذا كانت رتبته أعلى من المتصرف ففي قبضته من هذا القانون أن يسجن الأهلي البريء الماشي في الشارع أو المنعزل في بيته شهرًا كاملًا وله أن يضاعفه قبل نهايته بساعة واحدة، وله أن يغرم بما يناسب عقوبة السجن، حتى ينتهي الأمر إلى الوالي العام الذي هو صاحب أعلى منصب في الجزائر، فمن سلطته التي يخوّلها له هذا القانون أن ينفي أعلى جزائري قدرًا سنة كاملة بلفظة واحدة من غير مدافعة ولا محاكمة. وعزّز السلاحين بسلاح ثالث وهو قانون استثنائي آخر سمّاه "ريبريسّيف" ( Répressif) (3) وهو عبارة عن محاكم زجرية خاصة بالأهالي، وكَّلَ فيها الأمر إلى صغار القضاة الأوربيين للحكم على المسلمين في جنايات تافهة، بأقسى العقوبات التي تستمد قسوتها من الحقد لا من القانون، ولا تقبل هذه الأحكام النقض ولا الاستئناف. ثم عزّز هذه الأسلحة برابع، وهو "الضمان المشترك" وهو من القوانين الوحشية في عصور الظلمات، أحيته فرنسا المتمدنة في عصور المدنية، لتتخذ منه دليلًا على مدنيتها، ومعناه ما قاله زياد ابن أبيه (أخذ البريء بذنب المجرم)، ويقلد عليه بما يتفق مع روح الحضارة الفرنسية، بأنه (أخذ الأبرياء بلا ذنب اقترفوه). وأصل هذا القانون أن الجزائر تكثر فيها الغابات الطبيعية وكلها محتكرة للحكومة، وهي من الموارد الدارّة على خزينتها العامة، ومعظم هذه الغابات شجرة الفلين وهي شجرة سريعة الاحتراق لمجرّد الاحتكاك، وكثيرًا ما تشتعل بهذا السبب (السماوي) مساحات واسعة من الغابات، فكان من عدالة الشرع الاستعماري أنه كلما وقع حريق من هذا الشكل حكم على جميع السكان الأهليين في وسط الغابة وفي أطرافها وقريبًا منها، على مسافة حدّدها، بغرامة تساوي ما يدفعونه جميعًا من الضرائب الاعتيادية لسنة واحدة. والحكمة العليا للاستعمار من القانونين الأولين هي إذلال المسلم العربي الجزائري، والحكمة من القانون الثالث هي إفقاره. والإذلال والإفقار والتجهيل هي الأقانيم الثلاثة في عقيدة الاستعمار التي يتعبّد بها في معاملة المسلمين الجزائريين.

_ 3) Répressif : قَمْعي .. زَجْري.

فاحكموا- رعاكم الله- هل يبقى لأمّة تساس بمثل هذه القوانين شيء من الكرامة الإنسانية، وهل يبقى لحكومة تسوس من أوقعهم القدر في قبضتها بمثل هذه القوانين، شيء من الاعتبار الإنساني؟ ولو كان لأحفاد أولئك الاستعماريين الذين شرعوا تلك القوانين ونفّذوها شيء من عرفان القيمة الشخصية لذابوا خجلًا من أعمال آبائهم وأجدادهم، ولتبرّأوا من الانتساب إليهم، وليعذرونا حين نقول فيهم هذا الكلام، فإن أجدادهم وآباءهم هم الذين سنّوا لنا قانون (الضمان المشترك) فإذا حملناهم ضمان ما اجترح آباؤهم فلنا في آبائهم أسوة سيّئة، والبادي أظلم، على أن أعمال هؤلاء الأحفاد أفظع وأشنع وأسوأ أثرًا، ولكنها بأسماء أخرى، وفي صور أخرى. ثم اعجبوا- أسعدكم الله- لإخوانكم العرب المسلمين الجزائريين كيف احتفظوا بمميزاتهم من جنس ولغة ودين، مع هذا البلاء المبين، لعمركم ... إنهم ما احتفظوا بذلك إلا لخصلتين لا تنعدم الشعوب مع وجودهما: أصالة العرق، ومتانة العقيدة، وأخوكم الجزائري يضيع كل شيء حين يأخذ البلاء منه مأخذه، ولكنه لا يضيع هاتين ولو جهد البلاء جهده، وأصالة العرق هي التي حمته من الذوبان، ومتانة العقيدة هي التي حفظت عليه صلته بالله فلم تنقطع، وصلته بالشرق فلم يتغرّب. ولو أن شعبًا غير الشعب الجزائري أصيب بمثل ما أصيب به من الاستعمار الفرنسي لَلَحِق بطسم وجديس. ـ[المرحلة الثالثة]ـ: كل ما أصاب الأمّة الجزائرية من وهن وفتور واستكانة للعدوّ المستعمر فقد أصابه في المرحلة الثانية، وبسبب السياسة الاستعمارية وقوانينها التي ذكرناها، وجاءت حرب 14 - 18 فنقلت الجزائري من طور إلى طور. فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى، والجزائري على ما أجملنا وصفه، ولكنها انتهت والجزائري على حالة غير التي كان عليها، فكانت تلك الحرب بالنسبة للحالة الفكرية النفسية رحمة عليه، فكأنها مدرسة علّمت وربّت، أو حمّام رَحَضَ وطهَّر، وخرج منها بشعور جديد، وتطوّر غريب، ووجدان صحيح، وعرفان بقيمة نفسه، وما هذا بالشيء القليل على الجزائري الذي كان بالأمس "أنديجانًا" فأصبح بفضل تلك الحرب إنسانًا، ولا يفقه قيمة ما نقول إلا من عرف الجزائري في أمسه، ثم عرفه في يومه، وقارن بين حالين في زمنين. وأسباب هذا التطور ترجع إلى الأشياء الآتية، ومنها ما هو متداخل ولكننا نعددها للتوضيح.

ـ[الأول]ـ: أثر الحرب الذاتي في النفوس، فإن الحرب تترك في النفوس آثارًا متحدة لا فرق فيها بين الجندي الذي خاضها وصارع الموت في ميادينها، وبين من تركه وراءه من بنين وأهل وآباء وأقارب وصحابة، وبين المدني الذي مسّته في حريته أو ماله، وبين الذي فاءت عليه بالخير الكثير، والمال الوفير. كل هؤلاء يشعرون بأن الحرب غير السلم، وأن اسمها مقرون بالموت والدمار والخسارة. ـ[الثاني]ـ: إن الجزائري- بسبب ما أبقته فيه أحداث المرحلة الثانية- كان يستعذب الذل خوفًا من الموت، ولا يفقه أنه من خوف الموت في موت، ذلك لبعد عهده بالثورات والمَقاتل، فأصبح يفرّق بين الموت الذي اسمه الموت وبين الموت الذي اسمه الذل، ويؤثر أولهما على آخرهما، وكل هذا من بركة الحرب. ـ[الثالث]ـ: من بركات الحرب على الجزائري أنه أصبح يحتقر الفرنسي بعد ما رآه جبانًا في الميدان، وذليلًا أمام عدوّه، ومتملّقًا للأهلي في سبيل المصالح التافهة بعد ما كان يحتقره بالأمس، وبذلك ارتفعت هيبته من نفس الجزائري. ـ[الرابع]ـ: ما تحققه الجندي والمدني الجزائريان على السواء من انكسار فرنسا، لولا تدارك أمريكا لها في آخر الأمر. ـ[الخامس]ـ: شعور الجندي الجزائري بالعزة من تنازل الفرنسي أمامه عن كبريائه بعض الشيء خوفًا على نفسه وعلى دولته، ومن سماعه لعبارات الإطراء بالشجاعة من قوّاده الفرنسيين، ومن الحكام المدنيين، ومكافأته بالنياشين العسكرية. ـ[السادس]ـ: اللين الذي ظهر من الحكومة الفرنسية في سياستها المحلية مع الجزائريين، وكثير من حسن المعاملة لهم نظرًا لظروف الحرب، وكانت تصطنع ذلك كيدًا، ولكن الله فضحها بكيدها، فشعر الجزائري بوجوده من جديد، وانتعشت معنوياته وحييت آماله وتجرّأ على الكلام الذي كان محرمًا عليه. ـ[السابع]ـ: تصريحات الرئيس الأمريكي (ولسن) على أثر الحرب، ومنها ذلك الفصل المطرب الذي اهتزّت له الأمم الضعيفة، وهو حق الأمم في تقرير مصيرها، وهذا الفصل وإن لم يتحقق منه شيء، ترك في نفوس الجزائريين أثره الحسن، وفتح عيونهم، وأفاض عليهم شيئًا من الجرأة، وبسط لهم الآمال في الحرية. ـ[الثامن]ـ: إن فرنسا ألغت تلك الأحكام الاستثناثية الزاجرة في أثناء الحرب إلغاءً سكوتيًا، ثم ألغتها على أثر الحرب قانونيًا وعمليًا، ولم تبق منها إلا بقايا في يد الوالي العام، مصحوبة بتنفيس عظيم، وهو أن الحكم لا يصدره إلا مجلس الولاية، وأن يعطى

للمتهم حق الدفاع، وقد أُلغيت تلك البقايا بعد ذلك، وقارن إلغاء تلك القوانين الاستثنائية بعض تعديلات في قوانين الانتخاب للمجالس النيابية، فأشربت شيئًا قليلًا من الإنصاف للجزائري، خوّله أن يمارس بعض حقّه مُنتخِبًا ومُنتخَبًا. بدأت آثار هذا التطور الفكري تظهر بجلاء على أثر انتهاء الحرب ورجوع المجنّدين الجزائريين إلى ديارهم، وكثير منهم يحمل الأوسمة العسكرية وشهادات البطولة ويتقاضى المرتبات الوافرة طول عمره، وأهم من هذا كله أنه يحمل فكرة جديدة عن نفسه وعن الفرنسي زميله في الحرب وجاره في السلم، وسيّده الموهوم بالأمس، وكأن لسان حال الجندي الجزائري يقول لزميله الفرنسي: قد عرفناكم ... فلا سيادة بعد اليوم ... وكان من آثار هذه الروح الجديدة أن ارتفعت أصوات فردية تطالب بحق الجزائري في الحياة السياسية، وتسويته بالأوربيين في الحقوق، بعد أن سوّت بينهما الحرب في الواجبات. ولو أن المجنّدين الجزائريين كانوا على حظ من الثقافة العامة، لكانوا قوة في هذه المطالبة، وعضدًا للمطالبين بالحقوق السياسية وهم أصحاب الحجة الناهضة لاستحقاق هذا الحق، ولكن من حسن حظ فرنسا بل من صنع يدها أن معظمهم كانوا أميين أدركوا ما أدركوه من فهم للحقائق وشعور بالوجود واستحقاق للحياة، بالفطرة: والأمية جند من جنود الله يصرفه الأقوياء والعالمون دائمًا فيما ينفعهم ولمثل هذه العواقب كانت فرنسا تمكن للأمية في الجزائر وتسدّ منافذ العلم والتثقيف في وجه الجزائري. ارتفعت أصوات المطالبة بالحقوق السياسية، وتردّدت أصداؤها حتى في الأوساط العامة، وأصبح كل صاحب صوت سياسي يجد له أنصارًا يلتفون حوله ويتعصبون له ويتفننون في الدعاية لمذهبه السياسي، ولانتخابه نائبًا إذا رشّح نفسه لذلك، وكانت أنواع المجالس النيابية المفتوحة في وجه الجزائري إذ ذاك ثلاثة: المجالس البلدية في الدوائر التي يسمّيها الفرنسيون: الدوائر التامة التهذيب، والمجالس العَمَالِية في المقاطعات الثلاث (4)، والمجلس المالي بالعاصمة، وهو الذي يتحكم إذ ذاك في مالية الجزائر لأنها مستقلة عن مالية فرنسا، وهذا المجلس هو أعلى المجالس وأقواها نفوذًا وللعضو فيه قيمته وسمعته، غير أن النسبة العددية فيه مجحفة، فالثلثان من أعضائه أوربيون وإن كانوا لا يمثّلون إلا عشر السكان، وثلث الأعضاء من الجزائريين، مع أنهم يمثّلون تسعة أعشار السكان. وهذه النقطة هي إحدى مظاهر الأنانية الفرنسية.

_ 4) المقاطعات الثلاث: هي مقاطعة وهران، والجزائر، وقسنطينة.

اشتهر من الأفراد الذين رفعوا أصواتهم بالمطالبة بحق الجزائري في السنوات الأولى لما بعد الحرب، الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر الكبير، وهو رجل شجاع جريء رجع أبوه الهاشمي من دمشق إلى الجزائر في حياة أبيه مغاضبًا له، واستوطن قرية صحراوية من الجنوب الشرقي لمقاطعة الجزائر تسمّى (بو سعادة) وسهّلت فرنسا لولده خالد الدخول في أشهر كلية حربية بفرنسا، وهي كلية (سانسير)، فتخرج منها برتبة ضابط (قبطان) (5) وانخرط في كتيبة الخيّالة الجزائرية بتلك الرتبة، واشتهرت عنه صفات عسكرية ممتازة. فلما أحيل على المعاش في أواخر الحرب الأولى كان من أول من رفع صوته مطالبًا- في جرأة وإلحاح- بحقوق الجزائريين، وكان الظرف كما وصفنا مناسبًا، وأعانه على ذلك سمعته النَّسَبية وسمعته العسكرية، واقتحم المعارك الانتخابية للنيابة لأول ظهورها في الجزائر ففاز في جميعها، لما رأى المنتخبون فيه من الإقدام على فتح باب كان محرّمًا عليهم دخوله، وكانت فيه صفات أخرى يزنها العامة بالوزن الثقيل، وهي التي أحلته من نفوسهم في موضع الإكبار، منها أنه محافظ على الدين قولًا وعملًا، ومنها أنه شعبي في مظهره ومخبره، ومنها أنه خطيب مبين قوي الحجة، قوي التأثير، فخم المنطق باللغتين العربية العامية والفرنسية، وقد انضم إليه أفراد من كاملي الثقافة الفرنسية، ثم انقطعوا عنه لاستبداد كان فيه واعتداد بالرأي، وأنانية فظّة، وتهم أخرى يصح بعضها ولا يصح أكثرها، ومنها ما صدقتها خواتمه، وناوأه آخرون، فكان أولئك وهؤلاء مزيدًا في قوّته والتعصّب له، وطار ذكره وكثر الحديث عليه، فكان ذلك كله موثّرًا في طبقات الشعب تأثيره الحسن. أحدث خالد حركة قوية كانت هي الحركة الأولى أو النواة لما تطورت إليه الحركة السياسية الوطنية في الجزائر، إلى درجة أن ضاقت به فرنسا ذرعًا، وعرضت عليه أثمانًا مما تشتري به الأحرار فأباها، فألزمته بالخروج من الجزائر إلى حيث يشاء، فارتحل بأهله إلى الاسكندرية، ثم انتقل منها إلى دمشق حيث تقطن البقية من أعمامه وبنو أعمامه، وكان فقيرًا لا يملك إلا مرتّبه العسكري من الخزينة الفرنسية، لأن أباه لم يرث شيئًا من تركة الأمير عبد القادر الواسعة، ولعلّ بعض أقاربه كانوا يعينونه على الحياة، ولكن مذهبه القديم في عداوة فرنسا قد تغيّر في أخريات أيامه، وكثرت فيه أقاويل سهل مداخلها إلى النفوس أن فرنسا كانت محتلة للشام إذ ذاك، فمن القريب أن ارتداد خالد عن وطنيته غير صحيح، أما في الجزائر فقد ترعرعت الوطنية بعده وقطعت المطالبة السياسية مراحل فغطت على اسمه وسمعته ومذهبه، وأي ذكر يبقى لمثل خالد مع ضحايا الوطنية وشهدائها؟ الأمير خالد هو أول سياسي في الجزائر اصطنع جريدة لخدمة سياسته، وقد سبقت جريدته جريدتان فتحتا الباب لنقد الإدارة ورجالها ولم تخدما سياسة مرسومة، أما خالد فقد أنشأ جريدة

_ 5) قبطان: كلمة فرنسية، يقابلها رتبة نقيب.

"الإقدام" باللسانين العربي والفرنسي لتكون سلاحه في السياسة الوطنية، وكانت هي الجريدة الجزائرية السياسية في السنين الأولى لبدء الحركة، وكانت لها مواقف في التشهير بالإدارة الحكومية الاستعمارية، وآثار في تنبيه الأذهان، والتخطيط الأول لمنهاج التربية السياسية، وكانت خطب خالد وجريدة خالد هما الصوت السياسي المردّد المحكي في ذلك الحين. ولكن معاني تلك الخطب والمقالات أصبحت اليوم عبث لاعب بعد أن انتشر الوعي السياسي واستحكمت الآراء الوطنية، وصهرتها التضحيات وأريقت على جوانبها الدماء، وبرز فرسان الخطابة والكتابة في ميدانها. وعلى هذا كله، فهل يحسن بالجزائر أن تنسى فضل خالد؟ إن نسيته فإن التاريخ لا ينسى فضل البادئ، ولا يطمس المبادئ بالخواتم. وظهر في أيام خالد رجلان كان لهما صوت مؤثّر في التكوين السياسي بالجزائر، كل في الإقليم الذي نشأ فيه، ولكن لم تكن لهما مشايعة لخالد تقوّيه أو تظهره بمظهر زعيم سياسي لمبدإ أو لطائفة، أو تظهرهم جميعًا كبداية لحزب ذي نهج معروف. أحد الرجلين هو الشيخ الحاج محمد بن رحّال، من ذوي البيوتات العريقة في بلدة "ندرومة" بالشمال الغربي لمقاطعة وهران، وندرومة هي القرية التي خرج من أحوازها عبد المؤمن بن علي الكومي خليفة المهدي بن تومرت ومؤسّس دولة المُوحّدِين العظيمة وأحد الذين نظموا الشمال الأفريقي ومعه الأندلس، في مملكة واحدة. والشيخ الحاج محمد بن رحّال كان زميلًا للأمير خالد في النيابة بالمجلس المالي الجزائري، وكان أقرب الناس إلى تأييده، ولكنه كان رجلًا بعيد النظر واقعيًا ينظر إلى الأشياء بعين الحكيم لا بعين السياسي، وينظر إلى الجزائريين بعين المسلم فيرى أنهم بلاء على أنفسهم قبل بلاء الاستعمار، وأن الواجب أن يصلحوا أنفسهم بجمع الكلمة والمحافظة على الدين، إلى غير ذلك من أنواع الإصلاح الداخلي الممكن، وكان- رحمه الله- محترمًا من جميع العناصر، يتمتعّ بجلال البيت، وجلال السن، وجلال الدين، وجلال العلم، وكان وقور الطلعة، نيّر الشيبة، محافظًا على تقاليد البيوتات في اللباس العربي والعمامة وجميع طرز الحياة، وكان خطيبًا مفوّهًا باللغة الفرنسية، جهيرًا بكلمة الحق، مسدّد الرأي، ولم تزل خطبه الفرنسية محفوظة كنماذج عالية من الأدب وأنماط غالية في الرأي. ولقد سمعته في حدود سنة 1921 ميلادية يخطب في المجلس المالي الجزائري بالفرنسية، وأنا لا أفقه كلمة منها، فرأيت السامعين خاشعين منصتين، من نوّاب مسلمين وأوربيين وصحافيين ونظارة، كأنما على رؤوسهم الطير، مع أن حديثه كان شرحًا ودفاعًا في نقطة مالية، في ضرائب حظ الأهالي منها وافر، ومصالح حظهم فيها مغبون، وقال لي أحد الحاضرين من أبناء ذلك اللسان وممن يحسن العربية: ان هذا الرجل يسحر ببيانه ويؤثّر به

في خصومه، وكانت تحفه في موقفه ذلك هالة من الجلال، يبدو كأنه قطعة من الثلج: وجه جميل ولحية بيضاء وألبسة صوفية وطنية بيضاء. ويجتمع ابن رحّال والأمير خالد في عدة خلال، منها علو الهمّة الموروث عن البيت، والصدق الموروث من الدين، وإن كان وزن ابن رحّال في هذا أرجح، ومنها الشعبية الصميمة البارزة في كل مخبر منهما وكل مظهر، ومنها البيان وقوّة الحجة والاقتدار على الإقناع وامتلاك ناصية اللسان الفرنسي. ويفترق الرجلان في خصال: فابن رحّال هيّن لين هشّ يجمع الصفات التي وردت في المؤمن، ما لم يصل الأمر إلى الدين، فإذا مسّ الدين استحال ذلك الهدوء إلى غضبة لا يقوم لها شيء؛ والأمير يمتاز بالصلابة، ولا يخلو من الاعتداد بنفسه وبنسبه إلى الأمير عبد القادر، وقد يبدو من بعض بداوته أن نفسه تنطوي على مطمع بعيد وهو أن يصبح ملكًا على الجزائر، وهذه إحدى الثغر التي نفذ منها خصومه إلى الطعن في صدق وطنيته. ولعلّه لو طالت حياته السياسية، ولم تفسدها عليه التطورات الوطنية الجارفة، وانتهت به إلى المساومة والمفاوضة، لرضي بلقب ملك ولو تحت حماية فرنسا، فإن أصحاب النزعات الملكية، المفتونين بالألقاب الموروثة، أقرب الناس إلى الزلل. ويمتاز الشيخ ابن رحّال بالحكمة والأناة وبُعد النظر وحسن التقدير للأشياء والتزام الصدق مع العدو والصديق، وعدم الاغرار بالبيت والجاه والمنصب. وثاني الرجلين المشاركين للأمير خالد في بدء الحركة السياسية هو الدكتور موسى، وهو دكتور في الطب بمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الكبرى المنسوبة إليها، ولم تكن للدكتور موسى شهرة الأمير خالد، ولا سمعة ابن رحّال، ولا بيت كبيتهما، ولكنه كان جريئًا مقدامًا، فجرّأ الألسنة على النطق، وساهم في نزع هيبة الاستعمار ورهبته من النفوس، أما الشعبية والتديّن والبيت والنسب وهي الخلال التي اشترك فيها الرجلان فإن الدكتور خالٍ منها، وإنما اشتهر بشجاعته ورفع صوته مطالبًا بحقوق الجزائر السياسية، فتعلّق به بعض شباب ذلك العهد وأصبحوا تلامذة له وأنصارًا لمذهبه وأتباعًا. ولتعلّق الشباب به، وهو لِدَتُهُم- أو قريب منهم في السن- كوّن شبه مدرسة سياسية بقيت بعد موته إلى أن اتصلت بمبدإ الحركة السياسية المنظّمة وكانت إحدى قواعدها. أما طريقة ابن رحّال والأمير خالد فلم تتكوّن لها مدرسة للتخريج السياسي أو الوطني، فماتت طريقة ابن رحّال بموته، وخمدت حركة الأمير خالد بإخراجه من الجزائر، ولم يرث أحد عنهما مشربهما في السياسة، وإن بقي اسمهما عامرًا لحقبة من أوائل التاريخ السياسي الحديث في الجزائر. وبالجملة فلا يستطيع المؤرّخ المنصف أن يغفل هذه الأسماء الثلاثة اللامعة، لأن إغفالها طي لعدة صحائف من هذا التاريخ، وإنما يجب على المؤرّخ أن يعطي كل واحد

منهم حقّه بالقسط، فإن لا يكونوا سواء في أشياء، فهم سواء في فتح الباب وإحياء الشعور، وتنبيه النزعة الوطنية، رحمهم الله جميعًا. كان هذا كله في أوائل العقد الثالث من هذا القرن، وكان هذا البذر مسايرًا في نموّه لنمو الشعور العام في الشعب، وقد يحار المفكّر لأول وهلة في نقطة تبدو غامضة وهي: أيّهما كان المؤثر في الآخر والمغذّي له؟ هل شعور الشعب هو الذي كان يحرّك السياسيين، أم أن أصوات السياسيين هي التي كانت تحرّك الشعب وتهزّه فتثير إحساسه وتنبّه شعوره؟ والحق أن الشعوب التي كمل نضجها أو قارب، يتفاعل فيها إحساس الساسة بإحساسها ويتجاوبان، وقد يطغى أحدهما على الآخر حينما يندفع الشعب إلى مهواة على غير هدى فيردّه الساسة الصالحون إلى الجادة، أو ينزلق الساسة في عمايتهم وضلالهم فتردّهم صيحات الشعب إلى الصواب. وإنما نقول هذا في الساسة الناضجين الذين لا تختلف بهم السبل ولا تعمى عليهم وجوه الرأي والمصلحة إلا قليلًا وعن اجتهاد، وفي الشعوب الرشيدة أو المراهقة للرشد، أما شعبنا وأمثاله من الشعوب البدائية التي هي في عقابيل من أمراض اجتماعية، ولم يتمّ صحوها من سكر الجهل وسكر الغفلة وسكر التقليد، فإن هذا التفاعل والتجاوب بينها وبين قادتها السياسيين يكون مفقودًا في هذه الفترة، وليست هذه الفترة فصل نباته، والغالب على الشعوب البدائية في السياسة أن تكون على بقية من وثنية، أصنامها الشخصيات، فيكون إحساسها تابعًا لإحساسهم وحركاتهم منوطة بتحريكهم ولو إلى الضياع والشر، وهذه هي الحالة السائدة في شرقنا، وقد تفطن الغربيون لهذه النقيصة فينا، بل إلى هذه الثغرة الواسعة في نفوسنا، فأصبحوا ينصبون لنا التماثيل من الرجال ويحكموننا بها ويصرفون حياتنا من ورائها لمصلحتهم. لذلك يكون من الطبيعي أن الشعب مع شعوره العام بوجوده وبتبدّل الحالة ولزوم تغيير الأوضاع، بدأ يتحرّك بنفاذ ما يصل إليه من إجراءات أولئك الأفراد الذين ذكرنا أسماءهم وبمن أتى بعدهم، لأن هذه الفترة التي نتحدّث عليها لم تنته بانتهاء حياة أولئك الأشخاص، وإنما تطوّرت واستحكمت وانتقلت من نطاق الشخصيات إلى نطاق المبادئ، ومن حركة سياسية كلامية إلى حركة وطنية عملية تعتمد على الضحايا والدماء، ومن أسماء الأشخاص إلى أسماء الأحزاب المنظّمة، وكان تطوّرها سريعًا مدهشًا للاستعمار نفسه. وظهر في الميدان السياسي لأوائل هذه الفترة رجل غريب الأطوار وهو الدكتور صالح ابن جلّول، من البيوتات المتوسطة الشهرة بمدينة قسنطينة وله عرق من جهة الأمومة يتصل بأحد بايات قسنطينة الأتراك، لعلّه هو الذي نقل بيته من الخمول إلى شيء من النباهة، فظهر وارثًا لحركة الدكتور موسى ومتوسّعًا فيها بما يقتضيه الحال وتمليه التأثّرات المتزايدة، وابتدأ جريئًا مدوي الصوت، واقتحم معارك الانتخابات النيابية ففاز فيها بقوة الشعب، واكتسح هو وأصحابه بقايا النوّاب الذين كانت تعيّنهم فرنسا تعيينًا، وكان اقتحامه مع أصحابه لمجالس

النيابات فتحًا جديدًا في النيابة الأهلية أفشى فيها الحركة والحياة، وأشعرها بشيء من الاعتبار والاعتزاز، وبدأت الموضوعات الأهلية الحسّاسة تطرق على منابر النيابة العَمَالية وتثار ويدافع عنها فتحرج فيها الحكومة أحيانًا، بعد أن كانت تلك الموضوعات كقبر المسلم لا ينبش ولا يمشى عليه ... وبالجملة فقد كانت نيابة الدكتور ابن جلّول إنشاء للمعارضة البرلمانية في مجالس النيابات الجزائرية، ويصحّ للمؤرّخ المنصف أن يقول: ان ابن جلول قاد السياسة الجزائرية في السنوات الأولى بقوة وجرأة ارتاعت لها فرنسا، وخرج بها من الميدان الفردي، فانضمّ إليه- لأول مرة- في تاريخ الاستعمار بالجزائر، جماعة من النوّاب الأحرار الذين ظهروا في فجر اليقظة، وغالبهم دكاترة وحقوقيون فتكوّنت منهم هيئة تشبه الحزب السياسي تحت اسم "اتحاد النوّاب"، وكان هذا الاتحاد خاصًّا بعمالة قسنطينة، ولكنه كان في طريقه إلى التعميم في الجزائر ووهران، لأن اسم ابن جلول وزعامته السياسية تجاوزتا مقاطعة قسنطينة إلى المقاطعتين الأخريين، ولكن الرجل تملّكه الغرور وتذبذبت سياسته بين الفردية والأنانية، وبين الوطنية التي تذوب فيها الفردية والأنانية، وتكشف عن خلال كلها غميزة في وطنية السياسي، وظهر بعده سياسيون أصدق منه وطنية، وأثبت فيها لونًا، وإن كانوا أقل منه ثقافة وعلمًا، فضاق بهم ذرعًا، ولم تتّسع أنانيته للتعاون معهم كما هو الواجب على السياسي المخلص، وكان أقوى الأسباب في سقوطه اصطدامه بجمعية العلماء وهي التي كوّنته وأذاعت اسمه وعبّدت له الطريق إلى النيابات، فأرادت الجمعية أن تستصلحه فلم يصلح، فنبذت إليه على سواء، ورأت أن سكوتها عليه غش للأمة به فأشعرتها بذلك فانفضّت الأمة من حوله، وهو الآن عضو في البرلمان الفرنسي يقارض فرنسا تأييدًا بتأييد، تشدّ أزره في الانتخابات، ويشدّ أزرها بأن صوته دائمًا معها، فهي حين تشتريه إنما تشتري صوتًا لا شخصًا، ونعوذ بالله من مصارع السوء. وفي هذا الرجل خصلة لا نعرفها إلا نحن الذين لابسناه مؤيدين وناصحين ومستصلحين ومنابذين، وهي أنه شجاع اللسان جبان القلب، مذبذب الرأي بين ذلك، وانه قبل ذلك رجل سياسة لا وطنية، ونصفه بالسياسي تجاوزًا، لأن سياسته من النوع النيابي الذي يعتمد على الخطابة والمعارضة وإثارة المناقشات العقيمة. قلنا انه في أوائل عهد الدكتور ابن جلّول ارتفع شأن النيابة الأهلية، ونقول إن ميدانها اتّسع قليلًا، وكأن الحكومة الاستعمارية التي تدرس نفسية الشعوب قبل كل شيء لتبني معاملتها لها على أساس نفسي، كأنها درست النفسية الجزائرية العامة وعرفت مواطن الضعف ومداخل الشر إليها، فرأت أن الانتخابات النيابية هي الفتنة الكبرى للزعماء وأتباعهم معًا، ومدعاة لتنافسهم، ومجلبة للحزازات بينهم، فنصبتها صنمًا يصطرعون حوله، ويتعصّب كل فريق منهم لصاحبه، فتشتدّ المصارعة وتضيع الأموال والعلائق، وتنشأ العداوة بين الأُسر

والقبائل والمجموعات الحزبية تبقى على الدهر، وفي هذا من الفوائد للاستعمار إلهاء الأمة بغير المفيد عن المفيد، وغرس لأسباب العداوة بينها حتى يشتغل بعض أبنائها ببعض ويستريح الاستعمار، وما رأينا سببًا من أسباب العداوة يدوم وتبقى آثاره- حتى القتل- مثل ما تبقى آثار العداوات الناشئة عن الانتخابات النيابية بالجزائر. تفطن الاستعمار المتدسّس في خبايا النفوس إلى هذه النقطة وعلم خيرها له، فاتّخذ منها أداة جديدة للتفريق والتمزيق، حينما علم أن الذهن الجزائري تطوّر، وأن النزعة الوطنية بدأت في الظهور، وأنه سيعقبها تيّار وطني جارف، وأن الأمر سيؤول إلى اتحاد سياسي يقتضيه اتحاد المقوّمات من جنس ولغة ودين، فرمى الجزائر بهذه النكبة المفرقة المشتتة للشمل، وهو على بيّنة من أمرها وعلى يقين من آثارها السيّئة في الأمم الضعيفة، وزاد في ضرر هذه النكبة أنه لا يشترط في المرشّح الأهلي للنيابة أن يكون عارفًا للقراءة والكتابة، وأن الحكومة الاستعمارية تتدخّل بالترغيب والترهيب، لفوز أتباعها وأنصارها، وقد تتدخل أحيانًا بقوة البوليس والسلاح، وقد أدّى هذا التدخّل مرّات إلى سفك الدماء، وقد تتعمّد كثيرًا تزوير الانتخابات، بل لم تخلُ من التزوير ولا مرة، فإذا اتفق فوز واحد أو اثنين من خصومها البارزين فذلك لتدفع عن نفسها العين، وتذرّ الرماد في الأعين، ولتتخذ من ذلك دليلًا على حرية الانتخابات، وأن عدد النوّاب الأهليين لا يزيد عن الثلث في جميع المجالس، في جنب ثلثين من الأوربيين الأحرار القارئين الكاتبين، وأكثرهم من المثقفين ثقافة عالية، العارفين بوجوه المصالح، وقد عدّل في السنوات الأخيرة قانون التحديد بالثلث، فارتفع إلى الخمسين في جنب ثلاثة أخماس من الأوربيين، ثم جاء الدستور الجزائري الأعرج الذي سنتحدّث عنه فساوى في العدد بين أعضاء المجلس الجزائري من العنصرين، لا إنصافًا للعنصر الأهلي، ولكن اعتمادًا على حكومة الجزائر (6) التي برعت في تزوير الانتخابات الأهلية حتى أصبحت تضرب بها الأمثال في ذلك، خصوصًا وأسلحة الترغيب والترهيب كلها في يدها، والعارف بدخائل الحكومة الجزائرية يعلم أنه لا معنى لتنصيص الدستور الجزائري على العدد، ما دام العدد لا مفهوم له في أصول تلك الحكومة، حتى لو أن القانون أعطى للجزائريين تسعة أعشار الكراسي النيابية وأعطى للأوربيين العشر لكان التسعون كلهم من أنصار الحكومة، وقد يكونون أجدى عليها بفضل تلك البراعة في التزوير، وبفضل حسن اختيارها للأنصار، ومع إخلاص من تختارهم لها فإنها تبالغ في الاستيثاق منهم فتشترط عليهم قبل الترشيح أن يمضوا نسخة استعفاء بخطوطهم من غير تاريخ، فإذا نطق أحدهم بما يخالف مصلحة الحكومة ولو غلطًا، أو تظاهر بمؤازرة النوّاب الأحرار ولو بإشارة، أو سكت حيث يجب أن يتكلم في تأييدها أو تغيّب عن جلسة مما يحتشد فيه أنصارها- أَرَّخَتْ تلك النسخة ونشرتها- فيصبح

_ 6) حكومة الجزائر / الحكومة الجزائرية: الولاية العامة الفرنسية.

صاحبها مستعفيًا بإكراه في صورة اختيار، ولا تكتفي بهذا في عقابه، بل تسجّل عليه سخطها وغضبها، حتى يتوب ويسعى في استرضائها من جديد. كل هذا التفاوت بين عدد النوّاب يقابله تفاوت عكسي في عدد المنتخبين (بالكسر) فهذه الأقلية من النوّاب تمثّل عشرة ملايين جزائريين، وهذه الأكثرية الساحقة منهم تمثّل أقلية من الأورييين لم تجاوز المليون إلا في السنوات الأخيرة، ولكنه العدل الفرنسي، والمدنية الفرنسية، والحرية الفرنسية التي ملأت العالم. واحكموا أنتم في تلخيص القضية على هذه الصورة ... إذا كان عدد النوّاب الأهليين في المجالس النيابية بالجزائر لا يساوي عدد النوّاب الأوربيين كمًا ولا كيفًا ولا حرية، فأي خير يكون للجزائريين أو يرجى لهم من هذه الانتخابات؟ أوَلا يكون صحيحًا ما وصفتها به من أنها نكبة مدبّرة متعمّدة من الاستعمار لما يعلم من آثارها في مصلحته؟ مثله أن تقول لعبدك: أنت حر في تصرفاتك، ولكن يجب عليك أن لا تفعل شيئًا ولا تتحرّك ولا تسكن إلا بإذني. النظام الانتخابي في النيابات إنما يكون مفيدًا ونافعًا ودليلًا على الحكم الشوروي وإثبات سلطة الأمة في الأمم التي استوفى أفرادها حريتهم، وتقاربت ثقافتهم باشتراكهم في المعارف العامّة، واتّحدت مصالحهم، وكان لكل واحد منهم حظ ثابت في تلك المصالح، وسوّت الحرية بينهم في طرد الانتخاب وعكسه، فكل من ينتخب ينتخب، أما فيما عدا هذا كما هي حال الجزائر مع فرنسا، فإن الانتخاب والنيابة وما أشبههما من هذه الألفاظ التي ليس لها مدلول إنما هي خداع من القوي للضعيف ليأكله بفتوى، ويقتله بحجة، ويستعبده إذا استبقاه بحكم. وإذا كان الشر ينطوي على شيء من الخير، أو يكون في بعض الأوقات أو بعض الجوانب خيرًا، فإن من جهات الخير في هذه الانتخابات التي يمنّ بها الاستعمار على الجزائريين أنها تدريب لهم وشحذ لأذهانهم، ونوع من الارتياض على المقاومة، وكشف صريح عن مساوئ الاستعمار ونيّاته، وتمرّس عملي برجاله، وتمرين على أساليب الدعاية، وقد أصبح الجزائريون اليوم من أحذق الناس بتسيير الانتخابات وحيلها والدعاية لها، وهو في جملته خطوة أولى عرجاء سيقوّمها استمرار الزمان وتزايد الشعور وإلحاح المطالبة ويسدّدها، وقد يقول الراضون عنها: ما دمنا في الجهاد والمغالبة مع خصم عنيد فهذه إحدى وسائله، والحق لا يؤخذ دفعة واحدة، ولا بدّ من المصابرة، ولكن الشر المحض فيه أنه أصبح فتنة للزعماء السياسيين وللأحزاب التي يقودونها، فصاروا يتهافتون عليه ويحتربون كاحتراب الأحزاب الفرنسية أو أشدّ، والأحزاب الفرنسية إنما تختلف في وجوه المصلحة لا في المصلحة نفسها، فهي محل اتفاق بينهم، على تباعد الطرفين، أما أحزابنا التي ليس في مصلحة الوطن أن تتعدد فإن تهافتها على الانتخابات مشغلة لها عن السياسة والاهتمام بها،

على أنهم بإعطائهم هذه العناية للانتخابات توهّموا وأوهموا أن النيابة هي السياسة أو هي غاية السياسة قياسًا لشعبهم على الشعب الفرنسي، وعلّتهم في ذلك أنهم يفهمون النيابة فهمًا جمهوريًا ممّا يقرأونه في الكتب، لا فهمًا استعمارًيا مما يقرأونه في كتاب الواقع. والنائب بالمعنى الجمهوري يمثّل الشعب الحرّ الذي انتخبه انتخابًا حرًا ليحرس حقوقه ومصالحه من الحكومة، ويحامي عنها، فصوته هو صوت ذلك الشعب، أما النائب بالمعنى الاستعماري، فهو عامر (خانة) كما يقولون، وانتخابه صوري، وهو نائب الحكومة لا نائب الشعب، وقصارى أمره إن كان شعبيًا، وكان انتخابه شعبيًا، أن يساوم بصوته حينما تحتاج الحكومة إلى صوته، وقلّما يكون هذا. زعماؤنا السياسيون بالجزائر- سامحهم الله- تهوّروا في الانتخابات وفتنتها وعداوتها، نتيجة لذلك الفهم الخاطئ فتهوّروا- تبعًا لذلك- في النيابات العرجاء الناقصة، وعلم الاستعمار منهم ذلك فزادهم إغراء بها، وتشويقًا إليها، وكلّما رأى منهم افتتانًا بها زاد إمعانًا في تزويرها ومسخها، وقد ظهرت الحقائق لعقلاء الأمة، فظهر لهم معها أن هؤلاء الزعماء متهافتون على كراسي النيابة طمعًا في مرتباتها الضخمة وامتيازاتها الشخصية، من ركوب مجاني ومقابلات رسمية وما أشبه هذا من هذه التوافه التي يترفع عنها ذوو الهمم، فضلًا عن رجال السياسة، الذين ينظر إليهم الناس نظرة الإمامة والقدوة الصالحة، وهذه النظرة الناقصة من عقلاء الأمة لرجال السياسة هي بعض مقاصد الاستعمار وغاياته، فإن مما يفيده ارتفاع الثقة بين الساسة وأتباع مبادئهم. ويدخل النائب ذو المبدإ السياسي هذه المجالس فيضيع صوته الوطني في ضجيج أصوات الأكثرية المناوئة له، ويضيع تمثيله للشعب بين من يسمّيهم العرف الوطني في الجزائر (بني وي وي) (7) فكلما ارتفع صوت من نائب حر عارضه الاستعمار بعشرات الأصوات من زملائه وبني جلدته بدعوى أنهم ممثّلون للشعب أيضًا، وهم جماعة وهو واحد، (ويد الاستعمار مع الجماعة). وهكذا أصبحت الانتخابات والنيابات في الجزائر مهزلة مضحكة مبكية، وأصبح النوّاب الأحرار أصحاب المبادئ الحزبية صورًا لا قيمة لها إلا في تكميل النصاب في الكراسي. ولو أن رجالنا السياسيين، ورؤساء الأحزاب بصفة خاصة، والمثقفين منهم ثقافة عالية بصفة أخصّ، صرفوا عنايتهم إلى تربية الأمة تربية سياسية وطنية صحيحة عملية لكانت أعمالهم أعود بالخير والنفع على الأمة الجزائرية من جميع الانتخابات والنيابات. ورأي في الزعيم السياسي المثقف في أمة كأممنا الشرقية- ولا أحاشي الأمة المصرية- أنه يجب عليه أن يترفّع عن الميادين التي تشغله عن المهم، وتلهيه بالصغائر،

_ 7) بني وِي وِي: أبناء "نعم .. نعم " لأنهم كانوا ينفذون ويطبّقون ويساندون كل ما تأمرهم به السلطات الفرنسية.

وتفتنه بالمحقرات، وتخلق له الخصوم من الأمة التي يعمل لها ولخيرها، وأن يصرف همّه كله إلى تربية الأمة وجمع صفوفها على حقّها الوطني وتحريك الساكن منها، وإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وتأليف الشارد، فإذا تمّ له ذلك أصبح مرهوبًا من الحكومة، وأصبح محبوبًا عند الأمة، قليل الخصوم، وبذلك يصبح متحكّمًا في عدة ميادين ... متحكمًا في الانتخابات الأهلية يسيّرها في المصلحة الوطنية ويقدّم لها من يقدّم على أساس الكفاءة، لا على الاعتبارات الحزبية والشخصية، وبتحكّمه في الانتخابات يكثر النوّاب الصالحون، وبهيمنته على النوّاب يوحّد كلمتهم ويوجّههم إلى التي هي أنفع فيصبحون قوة ذات بال. وعندي أن إمام الزعماء السياسيين في الشرق سعد زغلول نقصت قيمة زعامته السياسية بنزوله لميدان النيابة والحكم بشخصه، ولو أنه تعالى عنها وترفّع، وبقي في أفق الزعامة مشرفًا على تربية الأمة تربية سياسية كاملة، لحطّم في الاستعمار حطمة تقصر عمره. أطلت فضل إطالة في الحديث عن الانتخابات النيابية وآثارها السيّئة في الجزائر معتمدًا على ما رأيت بعيني وبلوت بنفسي، ولو عممت الحكم عليها في جميع شعوبنا الشرقية لما كنت بعيدًا عن الحقيقة، فإن الانتخابات اختيار للمصلحة العامة، وشعوبنا ما زالت مضللة مسخّرة، ومخدوعة مسحرة، لا تفقه للمصلحة العامة معنى، فضلًا عن اعتبارها، فضلًا عن حسن الاختيار لها، فما أحوجها في هذه الفترة المضطربة إلى مستبد عادل، ومن لها بالمستبد العادل؟ ولنرجع لفصل كلامنا على بدء الحركات السياسية الوطنية بما يتمّمه. كانت الحركة التي بدأت كلامًا من الشيخ الحاج محمد بن رحّال والأمير خالد والدكتور موسى، وانتهت بظهور الدكتور صالح بن جلول في الميدان، حركة ضعيفة، شأن بدايات الأشياء، وكانت حركة الدكتور بن جلول على نشاطها واتّساع دائرتها بالنسبة إلى سابقتها حركة سياسية تدور على محور مخصوص، لا وطنية تدور على مبدإٍ وطني عام. ومن وصفها بأنها وطنية فهو متجوز أو هو لا يحسن تصوير الأشياء على حقائقها. أما الحركة الوطنية، بمعناها الصحيح المنطبق على لفظها، فقد قامت بها في الجزائر ثلاث هيئات، تتفاوت في القوة والضعف، وفي الشدة والتسامح وفي التسرّع والأناة، وفي وضوح المبدإ وغموضه، وفي استقامة الاتجاه والتوائه، ولكنها لا تختلف في الغاية وهي العمل والإعداد لاستقلال الجزائر وإنقاذها من الاستعمار الفرنسي، ولا تختلف في صدق التوجّه إلى هذه الغاية. أما الهيئة الأولى فهي ـ[جمعية العلماء المسلمين الجزائريين]ـ. وأما الهيئة الثانية فهي ـ[حزب الشعب الجزائري]ـ. وأما الهيئة الثالثة فهي ـ[حزب البيان الجزائري]ـ.

جمعية العلماء

سنحدّتكم عن الهيئات الثلاث حديثًا يعرّفكم بها، وبطبيعة كل واحدة منها، وبالفروق والجوامع بين مبادئها وأعمالها، ولا يتأتى لنا أن نصل في حديثنا إلى ما يصل إليه التاريخ المدقق الغائص على الدقيقة والجليلة، ذلك أن هذه الجماعات الثلاث حديثة العهد، لم تجاوز أطولهن عمرًا عقدين ونصفًا من السنين، ولم يدوّن الزمن إلا الصفحة الأولى من تاريخها بما فيه من نقص وكمال، ونظم واختلال، وإنما الممكن المتأتي لي أن أحدّثكم عنها حديث المعرّف بها، المصاحب لها من يوم نشأتها إلى الآن، المشارك فيها بالرأي والعمل، المتّصل الأسباب برجالها وأحداثها، فقد قدِّر لي أن أشهد ميلاد الجماعات الثلاث، وأن تكون لي يد في إنشاء أكبرها وهي جمعية العلماء التي أتشرّف برئاستها الآن، وأن ألابس الجماعتين الأخريين ملابسة الإرشاد والنصح والمشاركة في الرأي والعمل أحيانًا، بحكم وظيفتي الدينية والثقافية في المجتمع، ولا تطمعوا أن تسمعوا الكلام المبوّب، في الأسلوب المرتّب، وإنما املاءات يمليها الخاطر، وصبابة مما وعته الذاكرة التي أجهدها الحمل، ورماها السن بالنسيان والإضاعة، ومن سمت به همّته منكم إلى التوسّع في العلم بحال إخوانه في الجزائر، فعليه بمراجعة مجلدات «البصائر» خصوصًا فيما يتعلق بجمعية العلماء وحملاتها على الاستعمار ووقائعها معه. ____ جمعية العلماء ____ الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، والشهادة التي يؤدّيها لوجه الحق حتى رجال الاستعمار، هي أن أول صيحة ارتفعت بحريّة الجزائر كانت من لهاة عبد الحميد بن باديس ولسانه، وأن أول صخرة وضعت في أساس نهضة الجزائر بجميع فروعها من علمية وسياسية واجتماعية وأخلاقية إنما وضعتها يداه. وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرّب جيوشها عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللمّاح، والفهم الغوّاص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطّلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر مع التمييز بين ضارّها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير

العربية، وكان مع التضلّع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها إمامًا في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها. وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بالمعزّ بن باديس- مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية- إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدّثناكم عن دولها وآثارها بالجزائر، والمعز بن باديس هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال أفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين. والدولة الباديسية هي التي خلفت الفاطميين على مملكة القيروان، حينما انتقلوا منها إلى مصر، وجعلوا كرسيّهم القاهرة التي شيّدها لهم قائدهم جوهر الصقلي فاتح مصر وباني الأزهر، واسم القاهرة وسِيماها ونسبتها إلى المعز الفاطمي الذي هو أول خليفة تديّرها من خلفائهم، كل ذلك من وضع جوهر القائد. والأسرة الباديسية نابت عن الفاطميين أولًا في إمارة القيروان ثم استقلّت بها دونهم يوم آنس أمراؤهم ضعف الفاطميين في الشرق. ولهذه الأسرة بعد انقراض ممالكها وانقطاع سند الإمارة منها ذِكرٌ نابِه في العلم، فقد نبغ في كل قرن من قرون الهجرة منها علم من أعلام الفتيا والإمامة في العلوم الإسلامية، وتوارثت ذلك، منهم هذا الفرع الذي استوطن مدينة قسنطينة: إلى أن كان آخرهم الإمام عبد الحميد بن باديس الذي توفي في اليوم السادس عشر من شهر أبريل سنة 1940 ميلادية. هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدر للتعليم حوالي سنة 1914 ببلدة قسنطينة التي هي مستقرّ أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبّان المستعدّين فعلمهم وربّاهم وطبعهم على قالبه ونفخ فيهم من روحه وبيانه، تطوّعًا واحتسابًا لا يرجو إلا جزاء ربّه ولا يقصد غير نفع وطنه. وكان- رحمه الله- يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافّة في أدمغتهم، ويدرّبهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرج على يده وعلى طريقته جيل

من الشبّان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل وصحة التفكير والانقطاع للجهاد، وكان من طريقته في التربية أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسًا في التربية والأخلاق، فمن القواعد الاصطلاحية المعروفة قولهم- مثلًا- الفاعل مرفوع، والعامل يتقدم، فمن أمثال هذه الجمل المبتذلة الدائرة على الألسن في دراسة العلوم كان يستخرج من معانيها اللغوية نظرات اجتماعية طبيعية ككون الفاعل العامل مرفوع القدر عند الناس، وككون العامل يجب تقديمه على الكسلان العاطل في جميع المقامات، وقد ذكر لي بعض من حضر درسه في قول صاحب الألفية "كلامنا لفظ مفيد كاستقم". قال: سمعته يقرّر القاعدة النحوية التي أرادها ابن مالك فسمعت ما أدهشني من التحقيق الذي لم يعهد من علماء عصرنا، بالأسلوب الذي لم يعهد من شراح الألفية سابقهم ولاحقهم ما عدا أبا اسحاق الشاطبي، ثم انتقل إلى شيء آخر نقلني إلى شيءآخر وسما بي من الدهشة التي ما فوقها ممّا لا أجد له اسمًا، فكان درسًا اجتماعيًا، أخلاقيًا، على ما يجب أن يكون عليه الحديث الدائر بين الناس، وأنه إذا لم يكن مفيدًا في المعاش والمعاد كان لغوًا وثرثرة وتخليط مجانين، وإن سمته القواعد كلامًا، ثم أفاض في الاستقامة الدينية والدنيوية وأثرها في المجتمع، فعلمت أن الرجل يعمل على أن يخرج من تلامذته رجالًا، وأنه يجري بهم على هذه الطرائق ليجمع لهم بين التربية والتعليم، وكأنه يتعجّل لهم الفوائد، ويسابق بهم الزمن، ما دامت الأمم قد سبقتنا بالزمن. وهكذا كان الأمر، فإنه أخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلًا يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة ويتدرعّ إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدرّبهم على الأعمال النافعة، كما يدرّب القائد المخلص جنوده ويعدهم لفتح مصر أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الاصلاحية التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته، وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة التي نقلت الجزائر من حال إلى حال، وقد كان تعليمه والآفاق التي فتحها ذهنه الجبّار وأسلوبه في الدروس والمحاضرات، كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بلدنا حيث ابتدأ التعلّم وتوسّط فيه وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين، المحدودة بسنوات معدودة وكتب مقروءة على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غواص إلى نهاياتها، كما وصفناه في أول الحديث. وحج في سنة 1913 ميلادية ومرّ بالقاهرة ذاهبًا وبدمشق آيبًا وجاور بالمدينة ثلاثة أشهر بعد هجرتي إليها بسنتين، وكنّا نجتمع في أاغلب الليالي اجتماعًا خاصًا لا نتحدّث فيه إلا عن

القطر الذي يجمعنا وهو الجزائر، والبلد الذي يضمّنا وهو قسنطينة، والآمال التي تملأ نفوسنا، في ترقيته وإعداده للتحرير، فكنّا نجمع على أن لا وسيلة لذلك إلا العلم تنتشر أعلامه، والجهل ينقشع ظلامه، ثم تصوّر الخواطر لي وله مدارس تشاد للنشء وألسنة تتفتق على العربية، وأقلامًا تتشقق على الكتابة، فتصوّر لنا قوة الأمل ذلك كله كأنه واقع نراه رأي العين، فإذا انتهينا من التصوّرات أخذني بالحجة وألزمني بالرجوع إلى الجزائر لنشترك في العمل، المحقق للأمل، وأقام لي الدليل من الدين على أن هذا العمل أشرف وأقرب إلى رضى الله من الهجرة، ولم أكن أنكر عليه هذا، ولكن والدي- رحمه الله- كان يأبى عليّ ذلك، فكنت أتخلّص بالوعد بالرجوع عند سنوح الفرصة، ورجع هو من عامه فابتدأ التعليم، وانثال عليه الطلبة من المقاطعات الثلاث، وقدر الله فرجعت بعد سبع سنوات من افتراقنا فوجدت عمله قد أثمر، وأملنا قد بدأ يتحقق، ووجدت الحرب قد فعلت فعلها في نفوس أمتي، فكان من آثارها حياة الاستعداد الفطري، الذي أماته الاستعمار في تلك المرحلة التي عددنا لكم ما غرسته أيامها في نفوس الجزائريين من بذور خبيثة كان من ثمراتها تخدير الشعور وإضعاف المعنويات، وكان لرجوعي إلى الجزائر في نفس الشيخ عبد الحميد بن باديس ما يكون في نفس القائد اتّسعت عليه الميادين وعجز عن اقتحامها كلها فجاءه المدد لوقته، وتلقّاني- رحمه الله- بمدينة تونس مهنئًا لي ولنفسه وللوطن ومذكّرًا بعهود المدينة المنوّرة ومبشّرًا بمواتاة الأحوال، وتحقق الآمال، فكانت مشاركتي له بالرأي والتفكير والتقدير والدعاية أكثر مما هي بالتعليم والتدريب، لما كان يحول بيني وبين الانقطاع إلى ذلك من عوائق، وإن كنت شاركت في تحضير أذهان العامة للنهضة الكبرى بسهم وافر، بواسطة دروس ومحاضرات، ورجع أفراد من الإخوان الذين كانوا بالشرق مهاجرين أو طلّابًا للعلم، وجماعة من تلامذة الأستاذ ابن باديس الذين أكملوا معلوماتهم بجامع الزيتونة، تنطوي نفوسهم من أستاذهم على فكره وروحه، ومن جامع الزيتونة على متونه وشروحه، فاستقام الصدد، وانفتح السدد، وتلاحق المدد، وكانت من أصواتنا مسموعة ما يكون من الصيحة رجت النائم، ومن أعمالنا مجموعة ما يكون من الروافد انصبّت في النهر فجاشت غواربه، وكانت تلك بداية النهضة بجميع فروعها، والثورة الفكرية بتمام معانيها. لم يكن الاستعمار الفرنسي غافلًا عن عمل ابن باديس، ولا جاهلًا بآثاره، ولكن من حسن حظ الأمة الجزائرية أن بداية الحركة العلمية الباديسية قارنت اشتعال الحرب العالمية الأولى على حين غفلة، فأصيب الاستعمار بسكتة وقتية استئلافًا للجزائريين، وهو في حاجة إليهم، فاتّسع بفضل تلك السكتة أفق الحركة، ونمت بذورها، ورسخت جذورها، وما انتهت الحرب إلا وإيمان الأمة بنفعها قد كمل، وحمايتهم لها قد تأصّلت، وأمدادها من الشرق قد ترادفت، والفكر العام والخاص قد تطوّر، فلم يسع الاستعمار إلا الاستمرار على

السكوت، فاستمرّت الحركة تنمو وتطرد، والأمة حولها تلتفّ وتحتشد، إلى أن جاءت سنة 1930 وهي السنة التي تمّ فيها لاحتلال الجزائر قرن كامل. كانت تلك السنوات العشر التي هي أوائل المرحلة الثالثة في تقسيمنا كلها إرهاصات بتكوين جمعية العلماء، وكانت كلمات الوطنية والإسلام وتاريخه والحرية والاستقلال قد وجدت مساغها في النفوس، وممرها إلى العقول، لأنها كانت تخرج من لسان ابن باديس وصحبه العلماء الشجعان الموثوق بعلمهم ودينهم وأمانتهم، فيرن رنينها في الآذان، ويجاوز صداها إلى الأذهان، بعد أن كانت هذه الكلمات محرّمة في فقه الاستعمار ومهجورة في فقه الفقهاء الذين نشأوا تحت رهبة الاستعمار، ومجهولة عند بقية الأمة، فكان أول من نطق بها على أنها لغة حية صحيحة الاستعمال، هو عبد الحميد بن باديس العالم الديني واثنان أو ثلاثة من طرازه، ولكن ابن باديس كان يقولها لتلامذته في حلق الدرس ليطبعهم عليها، فلما أحسّ بالنجدة من إخوانه أصبحت هذه "العملة" مطروحة للاستعمال في السوق العامة، ولذلك ارتاع لها الاستعمار وقدّر عواقبها الوخيمة عليه فاحتاط لها بما نشرحه لكم في الفصل الثاني وهو أعمال الاستعمار في هذه المرحلة. وكنت على أثر رجوعي واجتماعي بهذا الأخ نتداول الرأي في هذا الموضوع ونضع مناهجه ونخطط خططه، ومعنا بعض الإخوان، فأجمعنا في معرض الرأي الفاصل على أننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية، أحدهما استعمار روحاني داخلي يقوم به جماعة من إخواننا الذين يصلون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صد الأمة عن العلم، حتى يستمرّ لهم استغلالها، وهؤلاء هم مشائخ الطرق الصوفية التي شوّهت محاسن الإسلام، والثاني استعمار مادي تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها، والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها. كنا نتّفق على هذا، ولكننا نجمل الرأي في أي الاستعمارين، يجب أن نبدأ بالهجوم عليه، ولم يكن من الصعب علينا الاتفاق على الهدف الأول للهجوم، فاتفقنا على أن نبدأ بالهجوم على الاستعمار الأول وهو الطرق الصوفية، لأنها هي مطايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولولاها لم يتم له تمام. والصوفية، أو الطرقية كما نسمّيها نحن في مواقفنا معها، هي نزعة مستحدثة في الإسلام لا تخلو من بذور فارسية قديمة، بما أن نشأة هذه النزعة كانت ببغداد في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، واصطباغ بغداد بالألوان الفارسية في الدين والدنيا معروف،

وتدسس بعض المتنطعين من الفرس إلى مكامن العقائد الإسلامية لإفسادها، لا يقلّ عن تدسّس بعضهم إلى مجامع السياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإفسادها، ومبنى هذه النحلة في ظاهر أمرها التبتّل والانقطاع للعبادات التي جاء بها الإسلام، ومجاهدة النفس من طريق الرياضة بفطمها عن الشهوات حتى تصفو الروح وتشف وترق وتتأهل لمشارفة المَلإ الأعلى، وتكون بمقربة من أفق النبوّة، وتتذوّق لذة العبادة الروحية، وقد افترق النازعون إلى هذه النزعة من أول خطوة فرقًا. وذهبوا فيها مذاهب، من القصد الذي يمثّله أبو القاسم الجنيد، إلى الغلو الذي يمثّله أبو منصور الحلّاج، إلى ما بين هذين الطرفين، وكانت لأئمة السنّة وحماتها- الواقفين عند حدودها ومقاصدها ومأثوراتها- مواقف مع الحاملين لهذه النزعة، وموازين يزنون بها أعمالهم وآراءهم وما يبدر على ألسنتهم من القول فيها، ولسان هذه الموازين هو صريح الكتاب وصحيح السنّة، وكانت في أول ظهورها بسيطة تنحصر في الخلوة للعبادة أو الجلوس لإرشاد وتربية من يشهد مجالسهم، ثم استفحل أمرها فاستحالت علمًا مستقلًا، يشكّل معجمًا كاملًا للاصطلاحات، ودوّنت فيها الدواوين التي تحلّل وتشرح، وتصف الألوان الباطنية للنفس، وتبيّن الطريق الموصل إلى الله والوسيلة المؤدية للسعادة وكيفية الخلاص من مضائق هذه الطريق وأوعارها، ثم انتقلت في القرون الوسطى من تلك الأعمال التي تستر أصحابها، إلى الأقوال التي تفضحهم، فخاضوا في شرح مغيبات، وأفاضوا في جدال مكشوف بينهم وبين خصومهم، وكانوا سببًا من الأسباب الأصيلة في شق الأمة شقّين: أنصارًا ومنكرين، وضاعت في هذا الضجيج ثمرة هذه النحلة وهي رياضة النفس اللجوج على العبادة وقمع نزواتها البدنية وأصبحت هذه النحلة أقوالًا تدافع، يقولها من لا يفقه لها معنى، فضلًا عن أن تصطبغ بها نفسه، والحق في هذه النزعة أنها صبغة روحية مرجوحة في ميزان الشرع وأحكامه، وإنما يقبل منها ما يساير المأثور، ولا يجافي المعروف من هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإن الدين قد تكامل بختام الوحي، والزيادة فيه بعد ذلك كالنقص منه كلاهما منكر، وكلاهما مرفوض، وما لم يكن يومئذٍ دينا فليس بدين بعد ذلك. ولكن تلك النزعة التي عفا رسمها، بقي اسمها، ولم يبقَ بقاءً تاريخيًا للعظة والاعتبار، وإنما بقي فتنة بين المسلمين، وميدانا لعلمائهم يتراشقون فيه ويتنازعون، ولعامتهم يلهون فيه ويلعبون، ويضلون بسببه عن حقائق دينهم ودنياهم. وانتهى بها الأمر في القرون الأخيرة إلى نسبة مجردة من جميع المعاني، ينتسب إليها - تقحمًا- كل من هبّ ودبّ، لا يطلبها من طريق علم ولا تربية، ولكن من طريق الشعوذة والحيلة، ثم تدلّت دركة أخرى فأصبحت وسيلة معاش ومصيدة لابتزاز أموال العامة وانتهاكًا لأعراضهم، وهناك التقت مع الاستعمار في طريق واحد، فتعارفا وتعاهدا على الولاء.

اِبحثوا في تاريخ الاستعمار العام، واستقصوا أنواع الأسلحة التي فتك بها في الشعوب، تجدوا فتكها في استعمال هذا النوع الذي يسمّى "الطرق الصوفية"، وإذا خفي هذا في الشرق، أو لم تظهر آثاره جلية في الاستعمار الانكليزي، فإن الاستعمار الفرنسي ما رست قواعده في الجزائر وفي شمال أفريقيا على العموم وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى إلا على الطرق الصوفية وبواسطتها، ولقد قال قائد عسكري فرنسي معروف، كلمة أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه قال: "إن كسب شيخ طريقة صوفية أنفع لنا من تجهيز جيش كامل، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إخضاعهم على الأموال والجيوش لما أفادتنا ما تفيده تلك الكلمة الواحدة من الشيخ، على أن الخضوع لقوّتنا لا تؤمن عواقبه لأنه ليس من القلب، أما كلمة الشيخ فإنها تجلب لنا القلوب والأبدان والأموال أيضًا". هذا معنى كلمة القائد الفرنسي وشرحها، ولعمري إنها لكلمة تكشف الغطاء عن حقيقة ما زال كثير من إخواننا الشرقيين منها في شك مريب، وهم لا يدرون أن أول من خرج عن جماعة الأمير عبد القادر الجزائري في أيام جهاده شيخ طريقة معروف، وأن من أكبر أسباب هزيمته استعانة فرنسا عليه بمشائخ الطرق الصوفية، وإعلان كثير من أتباعهم الخضوع لفرنسا، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل؟ وان تاريخ تلك الوقائع لم يزل مداده طريًا، وما زال الاستعمار بالجزائر يسمّي هؤلاء المشائخ "أحباب فرنسا". وإني أتعجّل لكم البشرى بأن أحفاد أولئك المشائخ- إلا ما قلّ- أصبحوا من أكبر الناقمين على الاستعمار، بل أصبح بعضهم من الغلاة في الوطنية، وفي الصفوف الأولى من أنصار العلم والتعليم، والداعين إليهما، والعاملين على نشرهما بالجاه والمال، ولا تكاد توجد مدرسة من مدارس جمعية العلماء خالية من عدد من أولادهم متعلمين أو معلّمين، ومنهم كثير في الجامعات الإسلامية: القرويين والزيتونة والأزهر. اتفقنا على البدء بالاستعمار الروحي الداخلي، ونحن نعلم قوّته والتفاف 70 بالمائة من الأمة على الأقل حوله، ومعه الحول والطول. فالأموال وفيرة، والجاه عريض، والحكومة تقارضه تأييدًا بتأييد، وذلك العدد العديد من الأمة يسبح بحمده، ويعتقد أن تلك الطرق كلها طريق إلى الجنة، وأن تلك البدع والضلالات هي الدين، بل هي صميم الدين، وأن كلمة نقد في أولئك المشائخ ولو عصوا الله وفعلوا المنكرات قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر، والخسار الدنيوي والأخروي وحلول النقم السماوية، ونعلم- كذلك- ضعفنا إلا بالإيمان وقلة عددنا، فنحن طائفة تعد على أصابع اليد الواحدة، والاستعمار لنا بالمرصاد، يرقب حركاتنا ويحسب أنفاسنا، ويعتبر أننا عنصر خطر عليه، نريد أن نحصي ما أمات، ونهدم ما بنى، ونبني ما هدم، كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأول للهجوم، أن موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع

الاستعمار أن ينتصر لأوليائه في نزاع ديني انتصارًا سافرًا، وإنما ينتصر لهم بوسائل أخرى لا تؤثر في هدفنا الذي نرمي إليه، وهو انتزاع الأمة من هؤلاء المستغلّين لها باسم الدين، وإنقاذها من جبروتهم، وأننا إذا جرّدناهم من سلطانهم الوهمي، كانت معنا على الاستعمار الخارجي الحقيقي، ومن لم يكن الشعب معه كان مخذولًا في كل ميدان. بدأنا هذه الحركات بجنب حركة التعليم الديني العربي، وأطلقنا عليها اسمها الحقيقي وهو "الإصلاح الديني"، وهو اسم يهيّج أصحاب البدع والضلالات من المسلمين في الدرجة الأولى، ويهيّج الاستعمار الخارجي في الدرجة الثانية، فكان من تفاوت التهيّج فسحة سرنا فيها خطوات إلى النجاح، وكانت أعمالنا تسير في دائرة ضيّقة، لأن الاستعداد لظهور جمعية العلماء لم يتم إذ ذاك، وكان مبدأ "العمليات" بدروس دينية ومحاضرات. ورأى المرحوم عبد الحميد بن باديس أنه لا بدّ من جريدة تظاهر الفكرة وتخدمها، فأنشأ جريدة "المنتقد" وهي أول جريدة إصلاحية بالشمال الأفريقي، فكانت أرفع صوت وأفعل وسيلة لنشر الإصلاح الديني، فارتاع لها الاستعمار الفرنسي وعطّلها في مدة قريبة بما يملك من قوانين، فأصدر المرحوم جريدة أخرى باسم "الشهاب" كانت أسدّ رماية، وأوسع خطى من سابقتها، وسكت عنها الاستعمار فنقلها صاحبها من جريدة إلى مجلة، طال عمرها بضع عشرة سنة ورافقت سنوات الإرهاص بجمعية العلماء، فسجّلت خطوات الحركة، وكانت لها مواقف رائعة في عدة ميادين، فخدمت العلم والدين والسياسة، وتردّد صداها في المغارب الثلاثة، فتركت في كل قطر أثرًا حميدًا في النفوس، وفضحت الاستعمار الفرنسي فضائح لا ينسى خزيها، وبدروس الأستاذ عبد الحميد بن باديس، ومجلته "الشهاب"، استحقّ لقب "باني النهضة الجزائرية بجميع فروعها"، وأنشأ بعض الإخوان جريدة سمّاها "الإصلاح" كانت لها جولات في حرب البدع ولكنها لم تعمر إلا قليلًا. تساوقت الآثار المختلفة إلى غرض واحد، آثار دروس الإسلام الحية من ابن باديس في نفوس تلاميذه، وقد أصبحوا آلافًا، وآثار دروسه العامة في التفسير والأخلاق والاجتماع، وقد أصبح سامعوها المتأثّرون بها عشرات الآلاف، وأكثرهم من العامة، وآثار الحرب في الأمة كلها، وآثار العلماء المصلحين بعد أن تكاثر عددهم وتلاحق مددهم، وتعاونوا على تنوير الأفكار وتوجيه الأذهان لفهم حقائق الدين والدنيا، وهداية النفوس الضالّة بإرشاد القرآن وسيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتجلية التاريخ الإسلامي. وتألف من ذلك كله حداء قوي مطرب سارت عليه الأمة الجزائرية عقدًا من السنين، من سنة 1920 إلى سنة 1930 ميلادية، واستوى في التأثّر الموافق منها والمخالف، وأوائل نهضات الأمم تفتقر دائمًا إلى المخض العنيف بالكلام والرأي

عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر

والجدال والوفاق والخلاف، وذلك المخض هو الذي ينشئ فيها الحياة ثم يصفيها، وهو دليل حياة الشعور فيها، وقد سكتت الأمة الجزائرية قبل ذلك أكثر من أربعين سنة ... سكتت ألسنتها وسيوفها في آن واحد فما زادها طول السكوت إلا جمودًا وخمودًا وقربًا من الموت، واستمرّت الإرهاصات تتوالى، وأصوات الإصلاح تتعالى، والأذهان تستشرف وتستعدّ، والقوى النفسية كلها تتقارب وتحتشد، إلى أن احتفلت فرنسا بعيدها المئوي لاحتلال الجزائر سنة 1930. عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر: وشمّرت حكومة الجزائر الاستعمارية عن ساعدها لتحتفل بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر، وبكّرت في أخذ الأهبة والاستعداد بشهور قبل حلول اليوم الموافق ليوم بدء الاحتلال وبثّت له الدعاية بجميع وسائلها في العالمين وقدّرت لبرنامج المهرجانات ستة أشهر، وصوّر لها غرورها أنها تخرج من هذا العيد بفوائد مادية جسيمة مما تسيل به جيوب الملايين من أطراف العالم، وممن تجلبهم الدعاية لهذا العيد، وفوائد معنوية عظيمة، منها شهادة العالم لها بما نشرت من مدنية، في حين أنها لم تنشر في الجزائر شيئًا من المدنية، وإنما نشرت الأخلاق الدنية. أما الطرق التي عبّدتها فإنما هي لتمكين أبنائها من الاستغلال، وعلى قدر ذلك الاستغلال، أما الأهلي صاحب الدار فحظه منها أن لا يمشي على رجليه فيها إلا بالإيجار الباهظ وهو ما يدفعه من الضرائب باسم الطرقات، وأراد الله أن لا يصحب تصوّر حكومة الجزائر تصديق، فلم يفد على الجزائر من الأجانب عشر ما كانت تتصوّره، وخسرت التقديرين. أما نحن- وأعني تلك الفئة القليلة ومن التفّ بنا من تلاميذنا- فقد بكّرنا أيضًا بدعوة مضادة لهذا العيد، وبثثنا عليه في الأمة كل مكروه، وكان كلامنا مع الأمة كله يدور على معنى هذه الجملة: "أيها الجزائريون: إن هذا العيد هو عرس فرنسا في مأتمكم، وهو تذكير بقتلهم لآبائكم، وبكل ما صاحب الاحتلال من انتزاع أرضكم وانتهاك عرضكم، وهو إشهاد للأمم على قهركم وإذلالكم وتسجيل عليكم بذلك". كنا ندير هذه المعاني ونكرّرها لتنفذ إلى مواقع التأثير من نفوس إخواننا، ونعزّزها بكل ما يثير النخوة والحفيظة ويحيي العزة والكرامة، فامتلأت النفوس غضبًا وحقدًا، وبلغنا نحن غايتنا في تذكير من طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، ولا غاية أكمل من ذلك في ذلك الوقت، وكان من آثار عملنا أنه لم يشارك فرنسا في عيدها من الجزائريين إلاّ الموظفون والمخذولون وأصحاب المصالح المادية، وحتى النظارة (المتفرجون) لم يكن لهم أرب في النظر إلا تصديق المعاني التي أثبتناها لهم في دعايتنا المضادة للعيد، وقاطعنا نحن مدينة

الجزائر مركز تلك المهرجانات، فلم ندخلها حتى انصرمت شهور المهرجانات، وكان من الخزي لحكومة الجزائر أنه لم يستجب لدعوتها إلا الذين التزمت هي نفقاتهم، كالصحافيين والعلماء الذين خصصتهم بالدعوة لحضور المؤتمرات التي تضمنتها برامج العيد، وأراد الله أن يؤيّد عملنا في إيقاظ الشعور الجزائري بصوت فرنسي تدفعه حماقة فرنسية من خطيب استعماري، في مؤتمر من تلك المؤتمرات. قال الخطيب في بعض تلك المؤتمرات ما معناه: ليس الداعي الأكبر لهذه المهرجانات هو الاحتفال بمرور مائة سنة على احتلالنا للجزائر، فهذا أمر بسيط وله عواقب معروفة، فقد لبث الرومان هنا ثلاثمائة سنة ثم أخرجوا، ولبث العرب بالأندلس ثمانمائة سنة ثم أخرجوا، ولكن الباعث الأعظم على هذا هو أننا دعوناكم لتمشوا معنا في جنازة الإسلام بالجزائر ... واتخذنا نحن من هذه الكلمة مادة جديدة حارة لإثارة الغيرة الدينية، وكان من صنع الله أن اندفعت الجماعات من الجزائريين في أخريات تلك السنة إلى تشييد المساجد في القرى الاستعمارية الصميمة التي لم تكن فيها إلا الكنائس الضخمة، وليس فيها من المسلمين إلا الطبقات العاملة عند المعمّرين، وبهذه النفحة الإلهية شيّدت عشرات المساجد الجميلة في قرى استعمارية، وتمّت كلها في خلال السنة الموالية للعيد المئوي التي قيلت فيه تلك الكلمة المنكرة، وعلت مناراتها على الكنائس والمباني، وأصبح الأذان عليها يصخ آذان أولئك الجبابرة المستعلين في الأرض. وكانت هذه النفحة الغريبة التي لم تتسبّب لها الأسباب صاعقة عليهم وعلى حكومتهم، وأشهد أننا ما دعونا إلى هذا، وإنما شجّعنا عليه بعد وقوع بواكيره، وكانت هذه المساجد بعد بدء حركة جمعية العلماء وإلى الآن نعم العون لنا على نشر الإصلاح الديني والثقافة العربية كما يأتي، وقد كانت الفائدة المعجلة من حركة المساجد هذه أنها أحيت خلقًا إسلاميًا عظيمًا كاد يموت بين المسلمين، وهو خلق البذل في سبيل الله، والتعاون على البر والتقوى، والتنافس في بناء المكارم والمآثر، فقد رأينا الغرائب من تسابق المسلمين أغنيائهم وفقرائهم، نسائهم ورجالهم، في البذل للمساجد، وتنبّه هذا الخلق الأصيل فيهم لبناء المساجد كان هو السابقة المباركة لما تجلى بعد ذلك على أكمله في تشييد المدارس حينما دعوناهم إليها، على ما يأتي تفصيله. وفي الملاحظات التي تهمّكم على العيد المئوي لاحتلال فرنسا للجزائر، أن حكومة الجزائر لم تستدع لحضوره عالمًا ولا كبيرًا شرقيًا، من العرب المسلمين ولا من غيرهم، إلا عالمًا تونسيًا متخصصًا في الأبحاث التاريخية.

ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: كانت الأحاديث تجري بيننا وفي مجالسنا العلمية مع تلامذتنا وأتباعنا من العامة، بلزوم تكوين جمعية من العلماء تجري على القانون العام للجمعيات، فيكون ظهورها القانوني أقوى لها وأعون وأدفع للتهم التي تعلق بالعاملين فرادى، وكانت الأفكار تجول في هذا، والدواعي إليه تتوفّر، والدوافع ... (8) وبالًا عليه، وإننا سنقصي عنها العناصر المذبذبة والضعيفة بالحكمة أو القوة، فما جاء الاجتماع العام الثاني في السنة الثانية، حتى أحسسنا أصابع الاستعمار تتدسس بقوة لإخراج الجمعية من أيدينا وتسييرها بأيدي أعوانه من علماء السوء، فاستعملنا القوة والحكمة معًا في إقصائهم وتطهير الجمعية منهم، واستأثرنا بتسييرها كما نريد إلى حيث نريد، وتبينّا إعانة الله وتوفيقه لنا من أول يوم فكنّا نسير من نجاح إلى نجاح، ونقتحم الميادين الضنكة فيتيسّر المخرج منها من حيث لا نحتسب، وطمس الله على قلوب الاستعمار وأعوانه فلم يحاربونا بالأسلحة القاتلة من القوانين، وكانت منها بقية في أيديهم إذ ذاك، وإنما عمدوا في حربنا إلى وسائل كانت كلها جارية في مصلحتنا وقاضية عليهم، فقد رأوا أن يقيموا جمعية ضرارًا لجمعيتنا (9). ...

_ 8) هنا صفحة ناقصة من المخطوطة، كما لم نعثر على بقية المحاضرات لا مكتوبة ولا مسجلة ... 9) هي "جمعية علماء السنّة" التي أوحت فرنسا بتأسيسها لتناهض جمعية العلماء.

مشكلة العروبة في الجزائر

مشكلة العروبة في الجزائر * طلب إليَّ أخي الأستاذ محمد علي الحوماني مقرر ندوة الأصفياء (1) إلقاء كلمة في الندوة. عن مشكلة العروبة في الجزائر، فالقيتها ارتجالًا، لأن موضوع العروبة أو العربية في الجزائر هو الموضوع الذي قسمه الله لي، وجعله ميدان أعمالي وأحاديثي، ومجال قلمي عشرات السنين، وقد توسعت في الكلمة الارتجالية وجر شيء إلى أشياء لما تقتضيه طبيعة الارتجال من عدم الضبط وصعوبة الحصر، ثم كلفني الأخ الحوماني تلخيصًا لمعاني تلك الكلمة بالكتابة لأن الندوة عاملة على إخراج هذه الكلمات التي تلقى فيها- في كتاب- وأن هذا لبناء جليل، تتقاضانا الغيرة أن نعين القائمين عليه ولو بلبنة. وهذا المركب الإضافي (مشكلة العروبة) هو العنوان الذي اختاره رجال الندوة لهذه الكلمات التي يلقيها الاخوان الأعضاء في اجتماعاتهم المنظمة. ولعمري لقد سددوا وقاربوا في اختيار هذا العنوان، وفي قصر أحاديثهم على موضوعه، فإن قومنا العرب انعكست معهم القاعدة، فبعد أن كانوا يذودون عن حقيقتهم بمعناها المعروف عندهم، أصبحوا يذودون عن حقائقهم الواقعية، ويصرفون حتى عن التفكير فيها، فتراهم يهتمّون بشؤون غيرهم حديثًا عنها وجدالًا فيها، وعملًا لها ويعرضون عن شؤونهم إعراض الخلي الفارغ، مما لا ينقضي منه العجب من خصائص قومنا العرب، ومن ورائهم المسلمون كلهم. ان معظم مشكلاتهم الدينية والاجتماعية قديمة العهد، مرت على بعضها القرون بل مر على بعضها تاريخ الإسلام

_ * محاضرة أُلقيت في منزل الأستاذ محمد مفيد الشوباشي أحد الأصفياء بضاحية المعادي بالقاهرة، يوم 5 جوان 1955. 1) الأصفياء: مجموعة أصدقاء من العلماء والأدباء والمفكرين يجتمعون دوريًّا في ندوة يتولى خلالها أحدهم إلقاء محاضرة حول موضوع معين يتبعها تعقيب ومناقشة، وقد طبعت هذه المحاضرات في كتاب "الأصفياء"، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1955.

كله، وهي على حالها من الاشكال، وشأن القدم أنه يعفي الآثار وينسي الأخبار، ويميت الادِّكار، ولكن مشكلاتنا غالبت الدهر كما غالبت عقولنا، فلم يستطع مر الزمن انساءها، ولم تستطع عقولنا حلها، وما زالت فرعيات الاحكام مشكلات قائمة بين علماء الدين في كل مطلع شمس تحدث مشكلات اجتماعية وسياسية جديدة تضاف إلى تلك المشكلات القديمة، ومنها ما يحتاج إلى الحل السريع الحاسم، فلا تجد المشكلات الجديدة حلًا من عقولهم وأفكارهم لاشتغالها بالمشكلات القديمة. كأنّ عقولنا ألفت الاشكال فاطمأنت إليه فأصبحت لا تستطيع حل إشكال، وكأن الاشكال أصبح لنا عادة فأصبح هو القاعدة، وأصبح حله هو الشذوذ، والعقول كهذه الآلات المعروفة، إذا لم تتصرف أصابها الصدأ ثم الكلول ثم التلف. وأضرب لنا مثلًا قضية اللحية وإعفاءها أو إحفاءها، وقضية الصوم والإفطار، وهل يناطان برؤية العين أو بالحساب، وأمثالًا أخرى كثيرة مما يتعاقب على حياتنا الدينية والدنيوية ويدخل في تصرفاتنا اليومية، وقد مر عليها بضعة عشر قرنًا وهي مشكلات قائمة تناولتها ملايين الأقلام بالكتابة، وملايين الألسنة بالكلام، وملايين العقول بالبحث، وانظر، فإذا كنا لم نستطع حل مشكلة الصوم والإفطار مثلًا- في أربعة عشر قرنًا ونحن وحدنا في الميدان لم يدخل معنا في الجدال يهودي ولا نصراني ولا وثني- فكم تقدر من القرون لحل مشاكلنا العصرية الدنيوية التي يجاذبنا حبلها اليهودي والنصراني، الخ. وأين تقديرك على اعتبار السرعة (بأربعة عشر قرنًا في اللحية)؟ أما الأمم الجارية مع الحياة فإنها تحل مشكلاتها القديمة، لتتفرغ للمشكلات الجديدة، ومن سلك هذا السبيل لم تبقَ له مشكلة، لأن المشكلات إذا وجدت العقول متهيئة لحلها قادرة عليه، متفرغة له- لم تعد مشكلة، وما صير قضايا العروبة مشكلات إلّا العرب وعقول العرب، فهم فيها بين حالات ثلاث: إما أن يسكتوا فتبقى إشكالًا، وإما أن يعتمدوا في حلها على غيرهم فيزيدها تعقيدًا أو يحلها لصالحه لا لصالحهم، وإما أن يعالجوها بأنفسهم ولكن بنيات مدخولة وضمائر مريضة وعقول ناقصة وغايات متباينة وإرادات مستعبدة، ومقاصد تافهة، فلا يكون العلاج علاجًا، وإنما يكون بلاء مضاعفًا. ومشكلات العروبة صار لها هذا الإهمال الذي وصفناه لقاحًا، فصيّرها ولودًا، فكل مشكلة منها تلد مشاكل، ومن شاء أن يردّ كل مشكلة منها إلى أصلها، وينسب كل بنت إلى أمها، تهيأ له ذلك بأيسر تناول. كل شؤوننا مشاكل، وكل شعب من شعوبنا مشكلة في نفسه، ومشكلة مع جاره وكل حكومة من حكوماتنا مشكلة في نفسها، ومشكلة مع جيرانها، وكل رئيس حكومة مشكلة،

وكل زعيم ديني مشكلة، وكل زعيم سياسي مشكلة. الأمية مشكلة، والثقافة مشكلة، والمرأة مشكلة، والزواج مشكلة، والطلاق مشكلة، والعلم عندنا مشكلة، والجهل مشكلة، وما لا إشكال فيه عند جميع الناس، يصبح مشكلة حين يتصل بنا أو نتصل به، والعروبة نفسها مشكلة تنحل إلى مشكلات، فهي- جنسية- هدف لكل رام، وغرض لكل طاعن، ومدرجة لكل عاق من أبنائها العائشين على درتها يتسللون منها إلى فرعون أو فينيق أو بربر، ويتخذ بعضهم من شقرة شعره أو زرقة عينيه شهادة على نفسه، بأنه منها لغية، وأن هذه وما أشبهها لمشكلات ذات آثار سيئة عميقة في المجتمع العربي، وقد بزتها الجنسيات التي شرفها أبناؤها بالعلم والعمل والصناعة والحضارة، وأصبح أبناء العروبة يتضاءلون ويتصاغرون إذا جمعتهم الحياة بأبناء الجنسيات الأخرى، حتى ليكادون يتبرأون من العروبة. والعروبة- لغة- غمرتها الرطانات الأعجمية، واللهجات العامية، واللغات الأجنبية، والرطانات الأعجمية أخذت منها ثم تعالت عنها، واللهجات العامية مزقتها، وأصبحت حجة عليها ومداخل ضيم لها، واللغات الأجنبية زاحمتها في ضعفاء الهمم والعزائم من أبنائها، وهذه كلها مشكلات ذات أثر سيئ وعميق في المجتمع العربي. ... ومشكلة العروبة في الجزائر تتنوع وتتفرع، ولكنها في مجموعها أيسر حلا وأسهل علاجًا منها في بعض الأقطار العربية، لخلوها من كثير من عناصر الإشكال في الأقطار العربية الأخرى، ذلك أن مشكلات العروبة في غير الجزائر يصاحبها من الأوضاع ما يقلدها تعقيدًا وإشكالًا من تعدد الحكومات وتنوعها، واختلاف الأحكام وتضادها، ومن اختلاف الاتجاه السياسي لتلك الحكومات، ومن عدم وجود ما يسمى الرأي العام في معظم الشعوب العربية، وعدم نضج الموجود منه في بعضها، ومن التفاوت العظيم في الثقافة بين شعوب العرب، ومن اختلاف الثقافة الأجنبية على الجيل الجديد من العرب. أما في الجزائر فإن مشكلة العروبة أساسها وسببها الاستعمار الفرنسي، وهو عدو سافر للعرب وعروبتهم ولغتهم ودينهم الإسلام، ووجود المشكلة منوط بوجوده، فإذا زال زال العنصر الأكبر منها، والسبب الأعظم فيها، وإذا بقي- ولو إلى حين- فمشكلة العروبة في الجزائر سائرة إلى واحد من اثنين: إما أن نغلب الاستعمار على عروبتنا ونعالج مشكلتنا بأيدينا - وهذا ما تفعله جمعية العلماء منذ قامت- ثم لا نجد عائقًا بعد الاستعمار الفرنسي لخلو الجزائر من العناصر العائقة كما ذكرنا، وإما أن يغلبنا الاستعمار على عروبتنا فتتطور المشكلة إلى شيءآخر وهو ما يقضّ مضاجعنا.

وبيان ذلك- مع الإيجاز- أن الاستعمار الفرنسي صليبي النزعة فهو- منذ احتل الجزائر- عامل على محو الإسلام لأنه الدين السماوي الذي فيه من القوّة ما يستطيع به أن يسود العالم، وعلى محو اللغة العربية لأنها لسان الإسلام، وعلى محو العروبة لأنها دعامة الإسلام، وقد استعمل جميع الوسائل المؤدية إلى ذلك ظاهرة وخفية، سريعة ومتأنية، وأوشك أن يبلغ غايته بعد قرن من الزمن متصل الأيام والليالي في أعمال المحو، لولا أن عاجلته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على رأس القرن بالمقاومة لأعماله، والعمل على تخييب آماله. وما قامت هذه الجمعية إلا لإحياء الإسلام والعروبة والعربية التي صمم الاستعمار على محوها، وما نصرها الله في الجولات الأولى أضعف ما كانت، وأقوى ما كان خصومها، إلّا لأنها نصرت دينه وأحيت لغة كتابه، وما اشتد الاستعمار في مقاومة هذه الجمعية إلى يومنا هذا إلّا لعلمه بمقاصدها هذه، وأنها على النقيض من مقاصده. فإذا قدر لهذا الاستعمار أن يبقى في الجزائر فإنه لا ينسى ما له من التِّرات عند جمعية العلماء، وسيوجه كل جهوده لمحوها من الوجود، وهو قادر على ذلك من الآن ولكنه يتربص بها الدوائر، ويتمنى أن تسقط وحدها، بسبب من الأسباب كالعجز المالي، حتى لا يبوء بجريمة أخرى يضيفها إلى جرائمه الكثيرة في حرب الإسلام والعربية والعلم، والجمعية تعمل لهذه الثلاث، وتتحصن بها، وتشنع على الاستعمار وتقيم الحجج الدامغة على أنه عدو للإسلام، عدو للعربية، عدو للعلم. وفي ظل هذا التشنيع الذي تنشره، وتحت النقع الذي تثيره على الاستعمار- متظلمة مستعدية صارخة بالحجج مهددة بإثارة المسلمين- تعمل جمعية العلماء أعمالها المدهشة في بناء العقول وفي بناء المدارس، وفي إثارة الأفكار. والاستعمار الذي حاربته الجمعية وحاربها يعلم قوتها ورسوخ قدمها والتفاف الأمة حولها، ولكنه يعلم- أيضًا- أن قوتها المالية محدودة، وقوّة الأمة التي تسندها محدودة كذلك، وما دامت حركتها التعليمية في ازدياد، فحاجتها إلى المال في ازدياد وسيأتي يوم تقف فيه الحالة المالية، فينهار هذا البنيان الشامخ من المدارس والمعاهد. هذا هو اليوم الذي يترقبه الاستعمار للعروبة في الجزائر، وهذه هي المشكلة الحقيقية للعروبة في الجزائر، وهذه هي العقبة القائمة في طريق جمعية العلماء الجزائريين حامية العروبة في الجزائر، وإذا كان الاستعمار يتوقع حل المشكلة على تلك الصورة التي يتمناها، فإن جمعية العلماء تتوقعها أيضًا وتخشاها. وما زالت الجمعية تفكر في تلك العاقبة وتقدّر لها من الحلول كل ما يجول في الخاطر حتى رأت أخيرًا أن تتوجه إلى إخوانها العرب في الشرق شعوبًا وحكومات وأشخاصًا وهيئات، ليأخذوا بيدها ما دام في الأمر فسحة.

من أجل ذلك كانت وفادتي إلى هذا الشرق بقسميه العربي والإسلامي، فما هو موضوع هذه الوفادة؟ وماذا كانت نتائجها؟ يحسن، قبل شرح موضوع الوفادة ونتائجها، أن نعرفكم بهذه الجمعية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) تعريفًا موجزًا، وأن نبين لكم بعض أعمالها ومقاصدها، فلعل في الاخوان الحاضرين من يعرفها معرفة مجملة أو لا يعرف عنها شيئًا: اسم الجمعية يفصح عن حقيقتها، فهي جمعية علماء، يخدمون الإسلام بتبيين حقائقه ونشر علومه بالجزائر، ومن كان له إلمام بحالة الجزائر، وما صنعه الاستعمار الفرنسي بها، يستشعر عند سماع اسمها كل ما رآه أو سمعه من آثار الاستعمار، ويستشعر مع ذلك أن طريق هذه الجمعية شاق، وأن أعمالها صعبة، وأن تبعاتها ثقيلة، والأمر في حقيقته كذلك. تكونت هذه الجمعية سنة 1931 ميلادية، أي في السنة الأولى من القرن الثاني لوجود فرنسا في الجزائر، هذا القرن الذي كانت تعتقد فرنسا أنه قرن الاطمئنان والراحة والنعيم والاستغلال الهنيء لخيرات الجزائر، بما مهد له القرن الأول من أكنافها بالحديد والنار. فأراد الله لها غير ذلك، وطاش فألها، فلم تسترح يومًا واحدًا من بدء هذا القرن الجديد. كان الداعي إلى تأسيسها عوامل الهية، هي سننه في التطورات البشرية، وفي مجيء نصره للصادقين حين يستيئسون منه، وفي إملائه للظالمين حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ولكن الظاهر من أمرها، الذي يكتب وتناله القوانين هو أنها جمعية إصلاح ديني تحارب ضلالات العقائد، وبدع العبادات، ومفسدات الأخلاق، وترجع بالمسلمين إلى ينبوع الدين، ومطلع هدايته من الكتاب والسنة. إن هذه الكلمات لأثقل شيء على سمع فرنسا ورجالها الاستعماريين في ذلك الحين وهي كلمات، فكيف بها إذا صارت أعمالًا ودعوة إلى الحق! إن الاستعمار في الجزائر كان ينفر ويُنَفِّرُ من كلمات إصلاح، وفضيلة وهداية، وكتاب، وسنة، وتاريخ سلف، ويتخيل من كل واحدة منها: عمر وعليًّا، خالدًا وعقبة وطارقًا وصلاح الدين إلى جمال الدين ومحمد عبده، لا سيما وهو يعلم أن هذه الفئة التي جهرت بهذه الكلمات ليست من طراز العلماء الذين راضهم على الخنوع له والرضى بوظائفه والجري في عنانه. إنها فئة تجمع مع قوّة العلم قوّة الإيمان، ومع قوّة الحجة قوة البيان، ومع صلابة الإرادة صلابة العزيمة، ومع علمه بهذا كله فقد تظاهر بإرخاء العنان لها، وأعدّ لها من المكائد السرية ما لا يعلمه إلّا الشيطان. والاستعمار يرى في مبدإ جمعية العلماء- الذي أعلنته في جمل قليلة متواضعة هينة لينة- خطرًا كل الخطر على سلطانه، لأنه ما ثبت أقدامه في الجزائر إلّا بتخدير العقول بواسطة

المبتدعين والدجالين والمتجرين باسم الدين، وقد كان لهم سلطان على النفوس فإذا زال سلطانهم زال سلطانه. بدأت جمعية العلماء أعمالها بالاتصال بالأمة عن طريق الدروس الدينية، والمحاضرات الاجتماعية والتاريخية، مبينة لها حقائقه وما جاء به من العزة والكرامة والشرف والمجد والسيادة، وكانت الحملة شديدة، وكان التأثير بليغًا، وكان التأثر عظيمًا، فكان فزع الاستعمار- تبعًا لذلك- شديدًا، ودام هذا الدور سبع سنوات تقريبًا توثق فيها الاتصال بين الجمعية والأمة، وتغلغل الإصلاح الديني في جميع الطبقات، وتفتح الشعور إلى ما وراء الإصلاح الدينى من إصلاح دنيوي، وانتقلت أحاديث الناس في ذلك من السرار إلى العلان، ومن الخبر إلى المطالبة، ومن ثم عمت المطالبة بالحقوق السياسية، ورأت فرنسا ورجالها بعينها ما كانت تحذر، فماذا صنعت؟ إنها صنعت كل شيء، ولم تصنع شيئًا، كادت ومكرت وسلطت جيوشًا من أئمة الابتداع والمرتزقة باسم الدين على الجمعية يحاربونها ويصدون الناس عنها، فلم يجدوا لكلامهم مساغًا، بل قابلوهم بالمقت والغضب، وخسروا المقام الذي كان لهم في الأمة وخسر الاستعمار عونهم وتأييدهم لأن الأمة انفضت من حولهم، وما انتهى الدور الأول بانتهاء سبع السنوات، حتى انهدم ركن من الأركان التي كان يعتمد عليها الاستعمار، وهو هذه الطائفة التي شهد عليها التاريخ بأنها "مطايا الاستعمار". جاء الدور الثاني لجمعية العلماء، وهو دور التربية الإسلامية والتعليم العربي الابتدائي الحر، المشتمل على مبادئ العربية وآدابها ومبادئ التاريخ الإسلامي، والتربية الإسلامية الصالحة، وجاء معه الصراع العنيف مع السلطة الاستعمارية وقوانينها الجائرة، استعدت الجمعية بالإيمان والعزيمة وتجاهل القوانين الاستعمارية، وتوطين النفوس على المكروه الذي يصيبها في سبيل تعليم الدين والعربية، وآزرتها الأمة في ذلك، لأنها أدركت بواسطة تلك الدروس والمحاضرات ما يبيته الاستعمار لدينها ولغتها، وما كان يغالطها به أولئك الدجّالون المتجرون بالدين. صممت الجمعية على تشييد مدارس فخمة بمال الأمة، لتحيي سنة البذل في سبيل العلم، وهي منقبة في المسلم نسيها بفعل التخدير الاستعماري فأحيتها جمعية العلماء في نفوس الجزائريين، فتباروا في البذل وتنافسوا في بناء المدارس، وقابلت الجمعية هذا الاتجاه بما يكمله من برامج وكتب ومدرسين، وارتاع الاستعمار لهذه النهضة التعليمية الخطيرة، وتربص بها اشتعال الحرب الأخيرة وقضى على معظمها- بالتعطيل والاستيلاء على كثير من المدارس لاستعمالها في المصالح الحربية- واعتقل كثيرًا من العلماء ورجال التعليم، ونفى قادتهم إلى الصحراء، منهم كاتب هذه السطور، فقد قضى ثلاثة السنوات الأولى للحرب منفيًا في صحراء وهران.

ولكن الجذوة لم تخمد في النفوس، بل زادت التهابًا ظهر أثره في أخريات الحرب وعند انتهائها، فقد اندفعت الأمة إلى تشييد المدارس، وأتت من ضروب التنافس ما بعد العهد بمثله، وما ذكرنا بما كان يأتيه السلف الكرام. وللجمعية الآن- بل للأمة الجزائرية- أكثر من مائة وخمسين مدرسة ابتدائية حرة رغم الاستعمار الفرنسي، يتردد عليها أكثر من خمسين ألف تلميذ من أبناء الأمة الجزائرية، بنين وبنات، يدرسون مبادئ لغتهم وآدابها، وأصول دينهم وتاريخ قومهم على برنامج يجمع ضروريات العلم وإيجابيات التربية الإسلامية القومية الوطنية الصحيحة، وقد تخرج منها في هذه المدة عشرات الآلاف، يحملون علمًا قليلًا ومعه فكر صحيح، وعقيدة قومية، ونظرة إلى الحياة سديدة، وكل هذه المدارس على طراز ونظام عصريين، ومعظمها رائع فخم، وكلها ملك للأمة وبمال الأمة، وكل هذه المعاني مما يبعث القوة ويرغم الاستعمار الذي لا يحترم إلّا القوة. ثم شيدت الجمعية معهدًا ثانويًا كخطوة أولى للتعليم الثانوي، أنفقت عليه ستين ألف جنيه مصري وعمرته بألف تلميذ وعشرين أستاذًا، وهنا تبرز مشكلة العروبة الكبرى في الجزائر متجلية في ناحيتين: الأولى: كيف نحافظ على الموجود من هذه المدارس، وليس لنا مورد مالي قار نعتمد عليه، والموارد الحالية لا يعتمد عليها، إذ هي عبارة عن اشتراكات شهرية بسيطة من طبقات الأمة الفقيرة المؤمنة، ورسوم تعليم شهرية من آباء التلاميذ، وتبرعات غير مضبوطة، ومقادير من الزكوات الشرعية غير مضبوطة أيضًا. فهذه الأنواع من الموارد هي التي يقوم عليها هذا الجهاز العتيد من المدارس ومئات المعلمين فيها، وكلها موارد معرضة للانقطاع، والحكومة تحارب منذ السنوات الأولى لاختِلالِه، فكيف نرجو منها أن تعين، والأوقاف الإسلامية مفقودة في الجزائر لأن الاستعمار الفرنسي صادرها ولم يفرق بين أموال الله وأموال الحكومة التركية المغلوبة. وقد كانت الجزائر أغنى الأوطان الإسلامية بالأوقاف، وكان في مدينة الجزائر وحدها ثمانية آلاف عقار لم يبق منها ولا واحد. الناحية الثانية للمشكلة: كيف نستطيع الاستمرار في إنشاء المدارس الجديدة مسايرة لرغبة الأمة، ومراغمة لسياسة الاستعمار، وانقاذًا لما يمكن انقاذه من مليوني طفل عربي مسلم، لا يجدون مكانًا في المدارس الحكومية ولا في مدارس جمعية العلماء، فهم مشردون في الحاضر، بلاء على الأمة في المستقبل، والحكومة لا تعلمهم لأن تعليمهم مناف لمصلحتها، وجمعية العلماء عاجزة عن تعليمهم لقصر مواردها. وهذا العدد الهائل من

الأطفال الضائعين تعترف الحكومة بوجوده وتسجله إحصاءاتها الرسمية، ولا تريد له أن يتعلم، لأنها تكتفي بإقناع الشرقيين بأنها "معلمة العالم" وأنها "قبلة العلم". نقول الآن هذه هي مشكلة العروبة في الجزائر على الحقيقة، ويزيدها إشكالًا أن الحكومة الاستعمارية الفرنسية لا تريد حلها بعد أن كانت هي التي عقدتها، أتسفه نفسها؟ أتنسلخ عن طبيعتها؟ أيصبح إبليس ناهيًا عن المنكر يومًا ما؟ وإن جمعية العلماء لا تستطيع حلها، وإن كانت تريده، وتتمناه، لأنها لا تملك الوسائل اللازمة لحلها، وأم الوسائل المال. ... فكر قادة جمعية العلماء في هذه النقطة وقدروا عواقبها، وأتبعوا الأيام نظرهم، وليسوا مدفوعين عن حسن النظر وبُعْده وصدقه، ووضعوا أيديهم على موضعها من سجل التفكير، وموقعها من جدول التقدير، وقالوا: "هنا المشكلة"، هنا المشكلة عند مَن يزن الأشياء بموازينها الصحيحة، لا ما سبق الحديث فيه، ولعب الخيال في مقارنته بمشكلات العروبة في الشرق، فخرج من المقارنة بأنّ مشكلتنا في الجزائر أيسر حلًّا وأسهل علاجًا، ولكن الدور الآن دور الحقائق والأرقام. من الجائز أن تنضب الموارد الحالية بفعل الأحداث، ومن الأحداث ذهاب هذا الجيل المخضرم الذي يعتقد أن تعليم الولد كفارة ما فات أباه من العلم، ومنها توالي القحوط في أمة تعتمد في معيشتها على الزراعة، وقد شاهدنا أثرًا من ذلك في بعض الجهات. فإذا وقع ذلك، وهو جائز قريب، كان من نتائجه سقوط المدارس، وضياع هذه الجهود. وإذا أسقطت المدارس القديمة فكيف نطمع في اطّراد النهضة واستكمال الجهاز الكافل لتعليم مليوني طفل؟ وكانت نتيجة ذلك التفكير الطويل، والتقدير العميق اتفاق الكلمة على توجيه الوجه إلى الشرق العربي، وتنبيه الإخوان فيه- بعد تعريفهم بالحقيقة- على أنه قد وجب حق الأخ على أخيه. اختارت جمعية العلماء للسفارة بينها وبين الشرق العربي رئيسها محمد البشير الإبراهيمي، كاتب هذه السطور، فطاف العراق والحجاز وسوريا والأردن ومصر ولبنان، وتردد على هذه الأقطار مرات في ثلاث سنوات، ولقي ملوك العرب ورؤساء حكوماتهم ووزراء معارفهم وجميع أهل الرأي فيهم، وأدى رسالته الخاصة والعامة أكمل تأدية.

أما ـ[الرسالة العامة]ـ فهي: تعريف الشرق العربي بالغرب العربي تعريفًا تاريخيًّا شاملًا وبيان أنه قطع متجاورات متصلة الأجزاء بالشرق، وأن سكان هذا القطع يشكلون نصف العرب تقريبًا، فإذا تمادت القطيعة وعدم التعاون بين شرق العرب وغربهم- كما هو واقع - التهمت أوروبا شمال أفريقيا العربي وهضمته إلى الأبد وضاع على العرب نصف عددهم، والأمم في هذا الزمان تتكتل وتتكاثر حتى بمن ليس منها في عرق ولا دين ولا صلة، فكيف لا يتكتل العرب ويتكثرون بمن هو من صميمهم في النسب واللغة والخصائص؟ ففي سبيل أداء هذه الرسالة العامة وشرحها قضى كاتب هذه السطور ثلاث سنوات، وألقى مئات الأحاديث والمحاضرات، واستصرخ واستنجد، ونصح ووعظ وسمى الأشياء بأسمائها، وقال كلمة الحق جهيرة، وشرح وعلل وانتقد، وصاحبه توفيق الله في أداء هذه الأمانة. وأما ـ[الرسالة الخاصة]ـ، فهي استنجاد جمعية العلماء الجزائريين بالحكومات والهيئات العربية وطلب العون المادي والمعنوي منها، حتى تستطيع الجمعية الاستمرار في عملها العظيم وهو إنقاذ الجزائر العربية من البربرة والاستعجام، وقطع الطريق على الاستعمار الفرنسي ومقاصده السيئة التي بيّتها للجزائر، وقد أعلنها وأصبح يعمل لها في وضح النهار، بعد ما استيقن أن الهيكل العربي تقطعت أوصاله، وبعد ما سحر طائفة من إخواننا العرب الشرقيين بلغته وحضارته وتهاويله فأصبحوا يسبحون بحمده، وفي آذانهم وقر عن استغاثتنا، ومن بيننا وبينهم حجاب. والعون الذي تريده جمعية العلماء الجزائريين من حكومات العرب وهيئاتهم نوعان: ـ[النوع الأول]ـ: قبول طوائف من أبناء الجزائر ترسلهم الجمعية ليدرسوا في المعاهد العربية على اختلاف أصنافها، ثم يرجعون إلى وطنهم الجزائر، فيقومون بالتعليم في مدارس الجمعية الابتدائية والثانوية ويسدّون فراغًا بدأت الجمعية تشعر به من الآن، ويسيّر النوابغ منهم فروع الأعمال الأخرى للجمعية وهي كثيرة مقسمة على لجان منظمة، ولكنها تفتقر إلى رجال ذوي كفاءات. فهذا إجمال النوع الأول. أما ـ[النوع الثاني]ـ من العون الذي تطلبه جمعية العلماء الجزائريين من الحكومات والهيئات العربية والشعوب العربية أيضًا، فهو: أن يمدوها بمبالغ من المال ناجزة أو مقسمة على السنين، لتستعين ببعضها على حفظ القديم من مدارسها ومشاريعها، ولننشئ ببعضها مدارس جديدة للمشردين من أبناء الأمة المحرومين من التعليم بجميع أصنافه. فكيف كانت سفارتي؟ وماذا كانت نتائج سفارتي؟ أسلك الآن سبيل الالتفات، فأتحدث بضمير المتكلم، لأنني أنا الذي عرضت هذه المشكلة (مشكلة العروبة في الجزائر)

- بل مشكلة المشكلات في نهضة الجزائر الإصلاحية العلمية العربية- على الحكومات العربية، منفردة في عواصمها مجتمعة في مجلس الجامعة العربية، وممثلة في أمين الجامعة العام، وأنا الذي قدمت المذكرات المتتابعة في هذه المشكلة موضحًا شارحًا منذرًا بالعواقب، محذرًا من الإهمال والتقصير. بيّنت ذلك لجلالة الملك سعود، وولي عهده بجدة، ولحكومة العراق ببغداد مرات، ولحكومة سوريا ممثلة في الشيشكلي وفي وزارة المعارف بعده بدمشق، ولحكومة مصر في العهدين، ومعظم المسؤولين فيها، ولوزارة الأوقاف المصرية، ولحكومة الأردن بعمان، ولعدة سيوف من أمراء اليمن بالقاهرة، ووجهت عدة مذكرات إيضاحية عن هذه المشكلة لجميع الحكومات العربية بواسطة سفرائها في القاهرة، والمحور الذي تدور عليه تلك الأحاديث والمذكرات، بالنسبة إلى النوع الثاني، يدور على النقط الآتية: أولًا: النهضة التعليمية العربية التي تضطلع بها جمعية العلماء الجزائريين معرضة لأخطار مالية تؤدي إلى انهيارها. ثانيًا: هذه النهضة العلمية أصبحت حقيقة قوية يعترف بقوّتها وخطرها الإستعمار قبل غيره، والحق ما شهدت به الأعداء. ثالثًا: النهضة العلمية يجب أن تكون مقدمة في الاعتبار على جميع أنواع النهضات، مقدمة في العون المالي لأنها هي الأصل وهي الطريق إلى الحرية والاستقلال، وما تحررت أمة أمية. رابعًا: لم تستطع هذه النهضة بعد جهاد عشرين سنة أن تعلم أكثر من عشرات الآلاف، من مليوني طفل محرومين من التعليم. خامسًا: جمعية العلماء متدرجة في الانقاذ حسب استطاعتها، وهذه الاستطاعة محدودة لأن قدرة الأمة المالية محدودة. سادسًا: جمعية العلماء في حاجة ملحة إلى الأنواع الآتية من المدارس: (أ) مائة وخمسون مدرسة ابتدائية على الأقل في كل خمس سنين حتى ينتهي عدد المدارس إلى ألف مدرسة. (ب) ثلاثة معاهد ثانوية على الأقل للذكور وإثنان للبنات في ظرف خمس سنوات، لترضي بها جزءًا من هذا الجيش المتكاثر من حَملة الشهادة الابتدائية. (ج) معهدان كبيران على الأقل للمعلمين، ومعهد على الأقل للمعلمات، في أقرب زمن، لتسد بمن يتخرّج منها حاجة المدارس الابتدائية الجديدة إلى المعلمين. أما رجال التعليم العالي فالجمعية معتمدة في تخريجهم على الكليات العربية والجامعات في الشرق العربي كما بيناه في النوع الأول.

والمعنى الصريح لهذا كله أننا نطلب من الحكومات العربية أن تبني للأمة الجزائرية، التي هي جزء منها، هذه الأنواع من المدارس كما تبني في أوطانها لشعوبها، ولها أن تباشر ذلك بنفسها إن سمحت لها الأوضاع السياسية، ولها أن توكل جمعية العلماء وتحاسبها الجمعية على الفلس، كما هو ديدنها في الماليات. إن في هذه "العملية" التي دعوت إليها الحكومات العربية معان جليلة من ملك القلوب وتمتين الروابط وتثبيت الأخوة ومراغمة العدو الذي صمم على فصلنا وجعلنا شيعًا يلعن بعضها بعضًا، فأعنّاه على ذلك بسوء تدبيرنا. ومن المحزن أن هذه المعاني الجليلة يدركها عدونا ولا ندركها. ... وبقي الآن أن أحدث إخواني الأصفياء عن نتائج هذه السفارة التي طالت ثلاث سنوات، وهجرت لأجلها وطني وداري وعائلتي الصغرى وعائلتي الكبرى التي هي الأمة الجزائرية، وضحيت لأجلها بمصالح جمعيتي في الداخل، وقد كانت تستغرق أوقاتي كلها. تم في النوع الأول ما يأتي: أولًا: قررت حكومة مصر الملكية قبول عشرة طلاب بعثة من جمعية العلماء في معاهدها على حسب استعدادهم، وخصصت للواحد منهم خمسة جنيهات مصرية للشهر، وتتقاضى من كل واحد منهم في أول كل سنة دراسية رسومًا ذات أنواع تتحيف المخصص الشهري إلى أربع جنيهات وأقل في بعض الأوقات. وقررت حكومة الثورة لأول عهدها قبول أربعين طالبًا على نفقتها، عشرين على المعارف وعشرين على الأزهر، فثبت نصيب المعارف بكل سهولة وحزم، ولم يثبت شيء من نصيب الأزهر، وأعياني التردد سنتين فسكتّ. وفي السنة الماضية صرح لنا الرئيس جمال عبد الناصر بقبول مائة طالب جزائري بعثة لجمعية العلماء وتمت الإجراءات، ولكن قيام الثورة في الجزائر عطل البعثة عن السفر، وما زلنا متمسكين بوعد الرئيس، فإذا تم الأمر من جهتنا يكون لنا بمصر مائة وخمسون طالبًا يدرسون على نفقة الحكومة المصرية، ولكن النقص في القضية أن المخصصات لا تكفي للضروريات، واستلزم ذلك أن نقوم لطلبة البعثة بالبقية وهي لا تقل عن مبلغ ما تدفعه الحكومة المصرية وقد تقلد في كثير من الأوقات. ثانيًا: قررت حكومة سوريا قبول بعثة جمعية العلماء من عشرة تلاميذ لسنة 1953 - 1954، وعشرة لسنة 1954 - 1955.

ثالثًا: قررت حكومة العراق قبول عشرة طلاب لسنة 1952 - 1953، وقبول خمسة آخرين في سنة 1953 - 1954. رابعًا: قررت حكومة الكويت قبول خمسة عشر طالبًا لجمعية العلماء الجزائريين من سنة 1953. خامسًا: قرر إمام اليمن ببرقية رسمية الانفاق على طالبين من بعثة جمعية العلماء الجزائريين في مصر، من شهر مارس سنة 1953، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك إلّا منذ ثلاثة أشهر. سادسًا: قررت الحكومة السعودية من يناير الماضي قبول خمسة طلاب في المعهد العلمي بالرياض، على نية الزيادة في العام الدراسي الآتي. فنتيجة هذه المساعي الجدية مني في ثلاث سنوات متوالية مع الحكومات العربية، باسم الأمة الجزائرية، أن أصبح لجمعية العلماء في الشرق العربي مائة تلميذ أنفق عليهم آلاف الجنيهات في السنة زيادة على ما تنفقه الحكومات. أما أحوال هذه البعثات في كفاية المخصصات الحكومية وعدم كفايتها، فبعثة الرياض موسع عليها إلى ما فوق الكفاية، وتليها بعثة الكويت في التوسعة، وتليهما بعثة العراق، أما بعثة مصر وبعثة سوريا فأنا منهما في عذاب أليم، لعدم كفاية المخصصات الرسمية. هذه هي نتيجة الناحية الأولى، وهي لا تحل شيئًا من مشكلة العروبة في الجزائر بل ربما تزيد المشكلة إشكالًا ببعض الآثار التي تترتب على الابتعاث، والأحوال التي تنشأ في المبعوثين، واختلاف المناهج في المدارس العربية، والاتجاهات واللهجات المختلفة في الأقطار العربية، وسيرجع إلينا أبناؤنا- يوم يرجعون- خليطًا من اللهجات والعوائد والتأثرات، وسيكون لهذا أسوأ الأثر في الجيل الذي يتولون تربيته وتعليمه، كما ظهرت آثار اختلاف الثقافات في الشرقيين الذين تعلم بعضهم في ألمانيا وبعضهم في انجلترا مثلًا. وأما النتيجة التي حصلت عليها في الناحية الثانية، فهي بضعة عشر ألف جنيه مصري أرسلت من أقطار عربية مختلفة، وفي أزمنة متفاوتة إلى مركز جمعية العلماء بالجزائر، وأرسلت الإيصالات إلى أصحابها مقرونة بالشكر ومجموعها لا يبني للجزائر مدرسة ابتدائية ذات عشرة فصول، وعلى هذا فهي لا تحل "مشكلة العروبة في الجزائر". وبقيت المشكلة بحالها بل ربما ازدادت إشكالًا بآثار الخيبة وقطع الرجاء، الذي تتركه هذه الأحوال في النفوس. ولقد قال لي كبير عربي مسؤول وأنا أحاوره في كثرة المحرومين من التعليم في الجزائر، قال لي: إن مثل هذا العدد موجود حتى في الحكومات العربية المستقلة، فقلت له:

نعم، أعرف هذا، ولكن بإزائهم ملايين المتعلمين، فأعينونا على أن نصل بالجزائر إلى مستواكم في التعليم، وعلينا الباقي، ولا تذكر اليمن، فإن لها حكومة وميزانية وأوضاعًا مما لا يوجد في الجزائر، فإذا لم تتعلم فهي حجة على نفسها لا على غيرها. ... يا حضرات الأصفياء: أنا لم أصحح مرادكم بهذه الأحاديث في هذا الموضوع بالذات، هل أنتم تريدون تصوير المشكلات فقط؟ أم تريدون مع تصويرها تحليلها؟ أم تريدون مع ذلك بعض الوصفات لعلاجها؟ ولم أدرِ غايتكم من هذا الأحاديث: هل هي الاقتصار على جمعها، في كتاب؟ أم لكم قصد أعلى وأنفع؟ وهو أن تسعوا مجتمعين في علاجها مجتمعة. إن كان الأول فما زدتم على أن تداعيتم واحتشدتم لعمل يضطلع به الفرد وإن كان الثاني وهو اعتقادي فيكم- فجندون، ولا تفندون. وكيفما كنتم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رسالة إلى المودودي

رسالة إلى المودودي القاهرة في 28 يوليو سنة 1955 حضرة الأخ الأسعد العلامة الناصر لدين الله الأستاذ الكبير أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية- لاهور بباكستان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلتني رسالتكم الكريمة تهب بنفحات من تلك النفس الزكية التي صفت كما يمفو الذهب على السبك، وابتلاها الله بأقسى ما يبتلي به عباده المؤمنين فصبرت وحققت أن صاحبها ممن وصفهم القرآن بأنهم أحسن عملًا، ومحصها بأصناف من التمحيص فخلصت متلألئة مشرقة سامية عن المعاني الترابية التي ارتكس فيها كثير من هذا الصنف العلي ووا أسفاه. الإسلام- أيها الأخ الجليل- في حاجة اليوم إلى ذلك الطراز السامي الذي قام عليه عموده في الأرض يوم نزل فيها على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، محتاج إلى تلك الأمثلة العالية من الصبر على الحق والموت في سبيله، ولقاء المنايا كالحات في ميدان نصرته، وإعزاز قبيله، وتمهيد سبيله، وقطع البراري والبحار لنشره وغرسه وتثبيت عقائده في النفوس وقواعد ملكه في الأرض، وما انحصر الإسلام إلى هذه الدركة- التي تشكوها ويشكوها أخوك والنفر القليل من العلماء الربانيين- إلّا يوم أهان علماء الدين أنفسهم، فهانوا على الله، فهانوا على الناس، وأصبحوا صورًا مزورة على الحقائق، وأصبح الإسلام في نفوسهم وألسنتهم وأحوالهم وأعمالهم صورًا مزورة عن حقائقها أيضًا، ويا شؤمهم على الإسلام. وصلتني رسالتكم فوردت على قلب مفعم بحبكم في الله، وعلى نفس مملوءة بعرفان قدركم والتغالي في قيمتكم، وذهن عامر بأعمالكم للإسلام وتفانيكم في تجلية حقائقه والذود عن حياضه في وقت قل فيه الذادة عنه، والقادة إليه، والسادة به، فما منا إلّا المذود المقود المسود.

لم تذكِّر رسالتكم مني ناسيًا، وهيهات أن أنساكم، بل ما زال لساني رطبًا بذكركم ومجالسي معطرة بالثناء عليكم وعلى أعمالكم، متصلًا ذلك أوله بآخره، وأوله منذ قرأت أول كتاب لكم من إهداء أخي العربي البليغ المأسوف على بيانه وجهاده الأستاذ مسعود عالم الندوي، وآخره منذ شرفني الله باللقاء بكم في منزلكم العامر بلاهور، وجاءت المحنة التي جعلها الله لكم رفعة قدر ومنبع فخر، وحسن ذكر، فضيقت على لساني مجال القول إلّا فيكم، والحديث إلّا عنكم، وطالما أرسلت البرقيات صارخة بالاحتجاج القوي المنطق، وكنت على يقين كرأي العين بأن الله جاعل لكم من أمركم مخرجًا، وأنه لا يخذل عباده المؤمنين به، الذابين عن دينه، حتى هتفت الأنباء بالفرج وتناقلت الصحف البشائر، وتبين ما كنت أعتقده من اللطائف، وهو أن لله فيكم سرًّا هو مجلّيه لوقته، وأنه مستبقيكم لأداء أمانة وإظهار خارقة لخير الإسلام قد أظلّ زمانها، وأن قلبي ليحدثني بها حتى كأني أراها، ذلك أنني عميق التأمل في تاريخ الإسلام ومراحله المتدرجة في الكون مع الدهر، وطالما وقف هذا التأمل بي على أن البدء تتبعه إعادة، وأن هذا الانحطاط قد بلغ غايته ولم يبق إلّا الارتقاء، سنة الله في الأديان وحامليها، وإذا كانت الإرهاصات مقدمات للنبوة والدين، فإنها كذلك مقدمات لتجديد شباب الدين، ويقيني أن هذه البوارق ستتبعها صواعق، وأن هذه الرعود سيتبعها غيث مدرار، وأن وجودكم ووجود عصبة من أمثالكم- متفرقة في الأقطار الإسلامية- لإيذان من الله جلت قدرته بقرب تبلج الفجر الصادق المرتقب بعد هذا الليل الطويل الحالك. أما ما أشرتم إليه من عدّي في زمرة المنتصرين لقضيتكم الساعين في خلاصكم من المحنة، فأنا فخور بهذا، متحدث بتوفيق الله إياي لرفع صوتي بكلمة الحق فيه، ولكني مع ذلك أكاد أتوارى خجلًا من ذكره، فضلًا عن شكره، لأنني قمت بأيسر اليسير من واجب تبذل فيه المهج، وبقي عليّ آخر شيء في جدول الواجبات، وهو المبادرة بتهنئتكم ببرقية على المألوف بين الناس، ولكنني فكرت في غمرة من الفرح، ونشوة من الاغتباط للإفراج عنكم، فصورت لي الخواطر الممثالة على مشاعري أنني "صاحب الدار" وأنني أحق الناس بأن اأكون المهنأ لا المهنئ، وفي لجة هذا الخيال الشعري الغامر- الذي لا يصح عذرًا إلّا عند الشعراء الهائمين في آفاق الخيال- ذهبت الأيام والأسابيع حتى أيقظتني رسالتكم الكريمة، فعلمت أن الله أبى إلا أن تكونوا البادئين بالفضل، السابقين إليه. نرجو أن تتصل الرسائل بيننا والكتب والنشريات المتعلقة بالإسلام وحقائقه، فإن في ذلك صلة بين الأجزاء، وقوة للعاملين، وعونًا على وعورة الطريق. وسلام الله عليكم، ورحمته تغشاكم، وبركاته تراوحكم وتفاديكم، من أخيكم المشتاق إليكم، المعتز بكم. محمد البشير الابراهيمي

من أنا؟

من أنا؟ * أنا محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر بن محمد السعدي بن عبد الله بن عمر الإبراهيمي نسبة إلى قبيلة عربية ذات أفخاذ وبطون تعرف بـ "أولاد ابراهم"، وهي إحدى قبائل سبع متجاورة في سفوح الأطلس الأكبر الشمالية المتصلة بقمم جبال أوراس من الجهة الغربية، وكل ذلك واقع في مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، وتجتمع قبيلتنا مع هذه القبائل السبع في يحيي بن مساهل ذي النسب الشريف المتواتر بالسماع الفاشي، والثابت عند أئمة النسّابين أمثال الإمام عبد الرحمن الصبّاغ البجاوي صاحب كتاب الفصول المهمة، ويقع في عمود نسبنا خمسة من العلماء الاجلّاء، عاشوا في ما بين المائة التاسعة والمائة الثالثة عشرة للهجرة، وكلهم كتب عن هذا النسب وأثبته بالأدلة التاريخية الممكنة، وآخرهم جدّي الأدنى الشيخ عمر الإبراهيمي وله فيه كتاب قرأته وأنا صغير. ومهما يكن من أمر هذا الشرف النسبي الذي ورثتُ عدم الاهتمام به من عمّي الذي ربّاني وعلّمني، فممّا لا شك فيه أن نسبنا عربي صميم، إن لم يكن في قريش فهو في هلال بن عامر، لأن موطننا الحاضر من المجالات الأولى التي كان لبني هلال فيها مضطرب واسع لأول هجرتهم من صعيد مصر في أواسط المائة الخامسة. مولدي: ولدت عند طلوع الشمس من يوم الخميس الرابع عشر من شوال عام 1306 هجرية الموافق للثالث عشر جوان 1889 ميلادية، سمعت ذلك من عمّي الآتي ذكره وقرأته بخط جدّي الأدنى على ظهر كتاب من كتبه سجل فيه مواليد الأسرة ووفياتها، وفيها مواليد أخواتي اللاتي ولدن قبلي، ولم يعش لوالدي من الذكور غيري

_ * هذا حديث كتبه الشيخ جوابًا عن أسئلة مجلة "المصور" المصرية، ونشر في سنة 1955.

نشأتي وتعلمي

نشأتي وتعلّمي: نشأت على ما نشأ عليه أبناء البيوتات العلمية الريفية من طرائق الحياة، وهي تقوم دائمًا على البساطة في المعيشة والطهارة في السلوك والمتانة في الأخلاق، والاعتدال في الصحة البدنية، كل ذلك لبعد أريافنا في ذلك العهد عن الحضارة الجليبة ومواقعها من المدن، فلما بلغت التاسعة أصيبت رجلي اليسرى بمرض، وكان للإهمال والبعد عن التطبيب المنظم أثر كبير في إصابتي بعاهة العرج في رجلي، وقد أنساني ألمها والحزن عليها ما كنت منكبًّا عليه من التهام كتب كاملة بالحفظ، فكان لي بذلك أعظم سلوى عن تلك العاهة، وفي ما عدا تلك العاهة فأنا مدين لتربيتي الريفية في كل ما أتمتع به إلى الآن من قوى بدنية وفكرية وخلقية. قام على تربيتي وتعليمي من يوم درجت عمّي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكّي الإبراهيمي عالم إقليمنا المعروف بوطن "ريغة" وفريد عصره في إتقان علوم اللسان العربي، وكانت الأسر العلمية بوطننا قائمة على تقليد قديم متوارث وهو أنها تقوم بوظيفة المدرسة المعروفة، فيأوي إليها المنقطعون لطلب العلم عشرات ومئات، وتتكفل الأسرة بإطعام الغرباء منهم مهما كان عددهم احتسابًا، ويقوم عالم الأسرة أو علماؤها بتعليمهم دروسًا منظمة على ساعات اليوم، لكتب غالبها مما يدرس في الأزهر إلى عهد قريب وإلى الآن، ومن هذه الأسر أسرتنا التي توارثت العلم من خمسة قرون مضت في ما هو معروف، ومن نوابغها المعروفين الذين ما زالت أسماؤهم دائرة على الألسنة، المعدودين من أعلام الفتيا والتدريس والانقطاع للنفع ابتغاء مرضاة الله: الشيخ محمد الشريف العمري الإبراهيمي والشيخ المبارك الإبراهيمي، والشيخ القريشي الإبراهيمي، وكل هؤلاء وغيرهم عاشوا في القرون الثلاثة الأخيرة. تعلمي: لم أفارق في تعلمي بيت أسرتي، فهي مدرستي التي تعلمتُ فيها وعلمت، أخذني عمّي بالتربية والتعليم منذ أكملتُ السنة الثالثة، وكنت ملازمًا له حتى في النوم والطعام، فكان لا يخليني دقيقة واحدة من فائدة علمية، وكانت له طريقة عجيبة في تنويع المواضيع والمحفوظات حتى لا أملّ، واختصصت بذاكرة وحافظة خارقتين للعادة، وعرف رحمه الله كيف يصرفهما فيّ، فحفظت القرآن حفظًا متقنًا في آخر الثامنة من عمري، وحفظت معه- وأنا في تلك السنّ، نتيجة للتنويع الذي ذكرته- ألفية ابن مالك وتلخيص المفتاح، وما بلغت العاشرة حتى كنت أحفظ عدّة متون علمية مطولة، وما بلغت الرابعة عشرة حتى كنت أحفظ أَلْفِيَتي العراقي في الأثر والسير، ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة

رحلتي إلى الشرق

في كتابه ريحانة الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من شعر الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهرت كثيرًا من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظت كثيرًا من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظت وأنا في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيرًا من أشعارهم، إذ كان كتاب نفح الطيب- طبعة بولاق- هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عينيّ على الكتب، وما زلتُ أذكر إلى الآن مواقع الكلمات من الصفحات وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة، وكنتُ أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد مما يحقق ما نقرأه عن سلفنا من غرائب الحفظ. وكان عمّي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت فيطرب لصحة فهمي، فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه- وكان وسطًا- أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرني وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بذلك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعاني الشعرية، ثم يأمرني بالنوم رحمه الله. مات عمّي سنة 1903 ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه، وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرني بأن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصًا على نفعهم، ففعلت ووفّق الله وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدّر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخًا في سن الصبا، وما أشرفت على الشباب حتى أصبت بشر آفة يُصاب بها مثلي وهي آفة الغرور والإعجاب بالنفس، فكنت لا أرى نفسي تقصر عن غاية حفّاظ اللغة وغريبها وحفاظ الأنساب والشعر، وكدت أهلك بهذه الآفة لولا طبع أدبي مرح كريم، ورحلة إلى الشرق كان فيها شفائي من تلك الآفة. رحلتي إلى الشرق: رحلت من الجزائر إلى الحجاز سنة 1911 وعمري إحدى وعشرون سنة ملتحقًا بوالدي الذي اتخذ المدينة قرارًا له وأمرني بالالتحاق به، فمررت على القاهرة وأقمت بها ثلاثة أشهر، طفت فيها بحلق الدروس في الأزهر، وزرت شوقي الذي كنت راوية لشعره، وحافظ إبراهيم في مقهى من مقاهي القاهرة، والشيخ رشيد رضا في دار الدعوة والإرشاد، وجماعة

انتقالي إلى دمشق

من علماء الأزهر، ثم ألقيت الرحال بالمدينة حيث استقر والدي، وعكفت على القراءة والإقراء، فكنت ألقي عدّة دروس متطوعًا وأتلقى عدّة دروس في التفسير والحديث، وأعانتني تلك الحافظة على استيعاب أسماء الرجال وحفظ كتب كاملة في الحديث، وكنت أغشى ثلاث مكتبات جامعة غنية بعشرات الآلاف من المخطوطات النادرة: مكتبة شيخ الإسلام ومكتبة السلطان محمود ومكتبة شيخنا الشيخ الوزير التونسي مع مكتبات أخرى شخصية، فبلغت منها غايتي حفظًا واطلاعًا مدّة خمس سنوات وشهور. هذا الطور من حياتي هو الذي تفتح فيه ذهني للأعمال العامة، فشاركت برأيي في الآراء المتعلقة بالسياسة العامة للدولة العثمانية، وفي علاقة العرب بها، وفي الإصلاح العلمي بالحرم المدني، وبإشرت هذا الأخير بنفسي مع ثلة من شباب الطلبة المتنورين، وقد كاد ينجح ويؤتي ثمراته لولا أن فاجأتني الحرب العالمية الأولى ثم ثورة الشريف حسين بن علي التي كنت من المقاومين لها بقلمي ولساني، ثم كانت هي السبب في إجلاء سكان المدينة عنها. إلى الشام والاناضول. انتقالي إلى دمشق: كنت أنا ووالدي من المرحّلين من المدينة إلى الشام في النصف الأخير من سنة 1916، فاستقررت بدمشق في حالة يرثى لها، واتصل بي إثر وصولي جماعة من أهل العلم والفضل، واتصل بي جمال باشا بواسطة عون من أعوانه هو نقيب الأشراف السابق يريدني على أن أخدم سياسته بقلمي ولساني، فتجافيت عن ذلك بتحايل لطيف، واتصل بي كثير من أصحاب المدارس الأهلية العربية، فقبلت التعليم عندهم لأقوم بحاجتي وحاجة والدي وأتباعنا، ثم حملني جمال على أن أكون أستاذًا للعربية في "السلطاني" وهو المدرسة الثانوية الأولى بدمشق، وما كدت أباشر عملي فيها حتى ذهب جمال باشا ثم ذهب السلطان التركي بعده بقليل، وأصبح التعليم الرسمي كله عربيًا، فأصبحت بذلك أستاذًا للآداب العربية وتاريخ اللغة وأطوارها وفلسفتها بالمدرسة السلطانية الأولى، واطمأنت بي الدار إذ وقعت على وظيفتي الطبيعية، وتخرج على يدي في ظرف سنة واحدة جماعة من الصفوف الأولى هم اليوم في طليعة الصفوف العاملة في حقل العروبة. رجوعي إلى الجزائر: كان الأمير فيصل بن الحسين حينما دخل دمشق يريدني على الرجوع إلى الحجاز لأتولى إدارة التعليم فيه، وكان يلح عليّ في ذلك كلما لقيته، وهو صديق لي منذ كنا نجتمع بالمدينة في حضرة أخيه الأمير علي، وأنا غير راض عن سياسة أبيه وغير مطمئن إلى حكمه

تأسيس جمعية العلماء الجزائريين

وإدارته، فكنت أطاوله في ذلك وأعلله، ثم اضطربت أحوال سوريا في النصف الأخير من 1919 وتبين لي مصير فيصل ومصير سوريا فقلبت الرأي على وجوهه وعواقبه، وجاءتني من الجزائر أخبار متواترة تفيد أن الجو فيها أصبح صالحًا للعمل المثمر في العلم وفي السياسة، فعقدت العزم على الرجوع إلى الجزائر، وقد كنت تزوجت في تلك المدّة بدمشق ومات والدي وولدي بها. رجعت إلى الجزائر في أوائل سنة 1920 على نية القيام بعمل علمي عام يعقبه عمل سياسي، فوجدت الجو أصلح مما تركته سنة 1911 بسبب تأثير الحرب وويلاتها في النفوس، ولكن الاستعداد في الأمة لم يكن كافيًا للقيام بعمل يعتمد عليها، فاتفقت أنا وجماعة من إخواني العلماء الأحرار على أن نبتدئ بإكمال الاستعداد في الأمة وقررنا الوسائل المؤدية إلى ذلك، وكان الجهد شاقًا والنتائج بطيئة، ولكننا صبرنا عشر سنوات مع مواصلة ذلك الجهد الشاق، وجاءت سنة 1930 حدًا فاصلًا بين الماضي والحاضر، ففيها تم للاحتلال الفرنسي من العمر مائة سنة، وأقامت فرنسا المهرجانات ابتهاجًا بذلك، وسخطت الأمة العربية الإسلامية على ذلك، ورأت في بعض مواد المهرجان إهانة سافرة لها وامتهانًا لِمَجْدِها وجرحًا لكرامتها وافتراءً على تاريخها، واستغللنا نحن ذلك كله في إثارة نخوتها وإيقاظ إحساسها وإكمال استعدادها للعمل، وفشلت تلك المهرجانات بأعمالنا وبعوامل أخرى خارجية، وخسرت فرنسا آمالها المرجوة منها كما خسرت الأموال الطائلة التي أنفقتها عليها. تأسيس جمعية العلماء الجزائريين: تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931، وكانت عوامل تكوينها طبيعية بسيطة عن قصد، لئلا تثير من الاهتمام ما يدعو إلى مقاومتها قبل أن تستوي على سوقها فتكون الضربة القاضية عليها، ولو قضي عليها إذ ذاك لما استطعنا تجديدها في عشرات السنين، وعشنا في ظل تلك البساطة سنة ثبتنا فيها قواعد العمل، واتّصلنا بطبقات الأمة ووثقنا فيها العلائق بها، وما جاءت السنة الثانية حتّى بدأت الأيدي المتدسسة تعمل عملها، ولكنها لم تؤثر شيئًا لأن مبادئ الجمعية تغلغلت في ذلك الزمن القصير إلى مستقر العقيدة من نفوس من كمل استعدادهم من الأمة. عملي في الجمعية: أخجل حين أتحدث عن عملي في الجمعية، فلأترك الشهادة للواقع الذي عرفه من عرفه، وسيعرفه كل من بحث عنه، وإنما أنا معتز بالثقة التي أولانيها إخوان من يوم تكونت هذه الجمعية، فلم أزل وكيلها من يومئذ نائبًا عن الرئيس الإمام عبد الحميد بن باديس باني

موقف الاستعمار مني

نهضة الجزائر بجميع فروعها، وكنت أقوم عليه بكثير من الأعمال إلى أن توفاه الله في السادس عشر أبريل سنة 1940 وأنا في الاعتقال، فانتخبني إخواني رئيسًا للجمعية، وما زلت متشرفًا بهذه الرئاسة إلى الآن، وكان من أعمالي بعد خروجي من الاعتقال ثلاث سنوات أن أسّست في سنة وبعض السنة نحو سبعين مدرسة عربية حرّة متفرقة في جهات القطر بمال الأمّة، وقد وصل عدد المدارس الابتدائية الحرّة التي أسستها الجمعية بسعيي وإشرافي وبمال الأمة الخالص نحو مائة وخمسين مدرسة منها الضخم الفخم ومنها دون ذلك، وتحتوي هذه المدارس على نحو خمسين ألف تلميذ، وعلى نحو أربعمائة معلم، يتوّجها معهد ثانوي فخم يأوي نحو ألف تلميذ، وهو بجميع مرافقه ملك للأمّة. موقف الاستعمار منّي: يقبح بالمجاهد أن يذكر للناس ما أصابه في سبيل الله من بلاء، ولكنني مطلوب بهذا كجزء من تاريخ حياتي، فلأذكر- استحياءً- لقراء "المصوّ" بعض ذلك. لا أذكر الملاحقات الجزئية والمضايقات فتلك طبيعة الاستعمار مع كل عامل على غير هواه، وإنما أذكر الكليات الكبرى، فقد أصدرت الحكومة الفرنسية أمرًا باعتقالي في أوائل الحرب العالمية الثانية بدعوى أن وجودي خطر على الأمن العام، وتم نفيي عسكرّيًا يوم 10 أفريل سنة 1940 إلى قرية نائية في الجنوب الوهراني، ودام ذلك النفي ثلاث سنوات إلّا قليلًا، ولما أطلق سراحي وُضِعت تحت المراقبة الإدارية سنوات إلى أن انتهت الحرب، وفي يوم انتهاء الحرب دبّر المعمرون مذابح 8 ماي 1945، وفي ليلة 27 منه كبست داري بقوّة عسكرية، ففتشوا منزلي وساقوني إلى السجن العسكري بالعاصمة، في غسق الليل وبصورة مزعجة محاطًا بقوات أخرى من داري إلى السجن وبينهما نحو 8 كيلومترات، ولبثت في زنزانة ضيقة تحت الأرض لا آرى الضوء ولا استنشق هواء الحياة نحو سبعين يومًا، وكانوا لا يخرجونني منها إلّا ربع ساعة في 24 ساعة مع حراسة مشدّدة، فلما انهارت صحتي نقلوني إلى حجرة منفردة على وجه الأرض وفيها بعض وسائل الحياة، ولما أكملت مائة يوم نقلوني ليلًا في طائرة خاصة مخفورًا إلى السجن العسكري بمدينة قسنطينة حيث كان مسرح الحوادث الدامية الفظيعة التي ارتكبتها عصابات المعمرين ضد الأهالي الآمنين، وكان هذا النقل تمهيدًا لمحاكمتي في محكمة عسكرية على الحوادث التي دبّرها الاستعمار وأهله، وكنت إذا اشتدّ علي المرض نقلوني إلى المستشفى العسكري تحت الحراسة الشديدة في حجرة منفردة، ولبثت في السجن العسكري ومستشفاه أحد عشر شهرًا، ولبث في المعتقلات عشرات الآلاف من رجال الجمعية وأنصارها وأتباع الحركات الوطنية مثل تلك المدة، ثم بدا للاستعمار فأطلق سبيل الجميع باسم العفو العام لا باسم الرجوع إلى الحق.

رحلتي إلى الشرق

وبعد خروجنا من السجون والمعتقلات، وبعد فتح المدارس التي عطلوها نتيجة لتلك الحكاية المدبرة، رجعت إلى عملي من تعمير المدارس القديمة وتأسيس مدارس جديدة، حتى بلغت العدد الذي ذكرناه، ونجحت في إحياء اللغة العربية نجاحًا منقطع النظير. رحلتي إلى الشرق: في يوم 7 مارس سنة 1952 خرجت من الجزائر إلى الشرق في رحلة منظمة البرنامج واضحة القصد، وأقمت في القاهرة أسبوعًا ثم سافرت إلى باكستان فأقمت بها قريبًا من ثلاثة أشهر استوعبت فيها زيارة المدن الباكستانية من كراتشي إلى كشمير وما بينهما، وألقيت في هذه المدن نحو سبعين محاضرة في الدين والاجتماع والتاريح وأمراض الشرق وعلاجها، ثم رحلت عنها إلى العراق، فاستوعبت مدنها من البصرة إلى حدود تركيا وإيران من جبال الأكراد، وألقيت فيها عشرات المحاضرات الاجتماعية والدروس الدينية، ثم رحلت عنها بعد نحو ثلاثة أشهر إلى الحجاز في حج سنة 1952 نفسها، وألقيت كثيرًا من المحاضرات والأحاديث، ثم رجعت إلى القاهرة يوم 24 أكتوبر من تلك السنة، ثم ترددت منها على العراق والحجاز وسوريا والأردن والقدس مرات متعددة وألقيت في جميعها كثيرًا من المحاضرات. الغرض من هذه الرحلات أمران رئيسيان: الأول مشاركة دعاة الخير في هذا الشرق في ما يدعون إليه، وأنا أرى أن هذا فرض عليّ يجب أن أؤديه، والثاني التعريف بالجزائر المنسية من إخوانها، ودعوة الحكومات الإسلامية والعربية على الخصوص إلى إعانتها في نهضتها الثقافية. أما الغرض الأول فقد حققته بنفسي لأنني أملكه، وأما الغرض الثاني فقد تحقق جزء يسير منه، وأنا ساع في تحقيقه على صورة أكمل، والجزء الذي تحقق هو أن كثيرًا من الحكومات العربية قررت قبول بعثات من تلامذة جمعية علماء الجزائر يدرسون في معاهدها على نفقتها، ولنا اليوم بفضل هذه المساعي خمسة عشر طالبًا في العراق وخمسة عشر طالبًا في الكويت وثلاثون طالبًا في سوريا ونحو خمسين طالبًا في مصر. وقد كونت في القاهرة مكتبًا باسم الجمعية ليشرف على هذه البعثات، وستتسع أعماله باتساع البعثات وتزايد أعدادها، ولي مع الحكومات العربية وعود، إن تمت فسيبلغ عدد الطلاب إلى مئات، وتسدد جامعة الدول العربية بعض نفقات المكتب.

أولادي

أولادي: أسرتي الخاصة لم تزل بالجزائر، وقد عاش لي من الأولاد ابنان وبنتان، وأكبر الولدين محمّد يباشر أعمالًا طفيفة من التجارة يستعين بها على حاجيات الأسرة، وقد قطعته عن الدراسة- بعد أن وصل إلى سنة البكالوريا- عوائق منها مرض خطير معطل ألمّ به، ومنها اضطراره إلى القيام بالعائلة في سنوات اعتقالي، ونصيبه في الدراسات العربية والفرنسية قوي وافر، وأما أصغر الولدين أحمد فقد درس الطب في جامعة الجزائر ودرس العربية في البيت، وحظه منها لا يقل عن حظه من الفرنسية، وهو في هذه السنة يكمل السنة الخامسة للطب في جامعة باريز، ويحضر الأطروحة في السنة الآتية، ويستعدّ للتخصّص، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وسيكون من الأوائل الذين تخرجهم جامعة الجزائر في هذه السن. حالتي المادية: ليس لي مال موروث ولا مكتسب، وأهلي يعيشون في الجزائر على مرتب شهري من صندوق الجمعية، تضايقهم فيها نفقات الولد الذي يدرس في باريس، أما أنا فلا أدري الحكمة التي بنى عليها محرر "المصور" هذا السؤال المحرج، ولا أدري أأجيبه بالواقع؟ أم أجيبه بظن الناس وتقوّلهم؟ فَلْأُجِبْهُ بالاثنين: فالناس يظنون أنني أتقاضى مرتبًا من الحكومة السعودية أو من غيرها من الحكومات العربية. وليس لهذه الظنون حقيقة ولا ظلّ من الحقيقة، أما الواقع- وسامح الله الأخ الذي أدمج هذا السؤال في الأسئلة فأحرجني بالسؤال، وأحوجني إلى الإجابة ... - الواقع يا سيّدي السائل أنني أعيش بالدين (بفتح الدال)، ولي في خلاص هذا الدين طريقة وهي قضاء الدين بالدين، كما قالوا في من يغسل الدم بالدم، ولا أدري أيؤاخذ القانون على هذا؟ وما دخل القانون إذا لم تقع مطالبة؟ على أن إقامتي بمصر مؤقتة، وقد دخلتُها شريفًا وسأخرج منها إن شاء الله أشرف مما دخلتُها.

في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية

في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية * إنه لمن السنن المقدّسة أن نحتفل بمرور عام على ظهور هذا المولود إلى عالم الوجود، وإنه لمن دواعي فخرنا أن نحتفل بذلك، فسلام على هذا المولود، وسلام على الأم الولود، وسلام على الحافظ لمهده، وسلام على الحارسين لهذا المهد، وسلام على المربّي إلى أن ينشأ نشأته الحرة إلى أن يصبح مستقلّا، فيبلغ ما يبلغه الرجال، بل سلام عليه وهو يمرّ بما تفرضه السُّنَن الإلهية في المواليد فيدبّ ثم يشبّ. هذا المولود الذي ستكون نتيجته أو ثمرته أو بلوغه الأَشُدّ أن تبلغ الجزائر كل استقلالها، هذا المولود الذي هو تلك الثورة العارمة التي شَنَنّاها على الاستعمار الغاشم ولن تكون نتيجتها إلا التحرير إلّا بلوغ الحرية التامّة للوطن الجزائري بل المغربي كله، هذا الوطن الذي اصطبغ بدم أبنائه وسيظلّ هكذا إلى أن ينتصر الحق. هذا الوطن الذي يهبّ أبناؤه الآن هبّة رجل واحد لنصرة العروبة والإسلام، فلا نرى منهم إلّا الثائر أو المهيّأ للثورة على الأقلّ والدافع إليها والممهّد لها، هؤلاء هم إخوانكم العرب المسلمون الذين يطلبون قلوبكم ويأملون بعواطفكم، وتلك هي الجزائر العربية المسلمة التي تخصّكم كما تخصّهم منذ ثلاثة عشر قرنًا. فالإسلام قد دخل الجزائر ونبت في قلوب الجزائريين منذ عهد عقبة بن نافع وحسّان بن النعمان، وهذا التاريخ المجيد للعروبة والإسلام في الجزائر يعرفه الفرنسيون حق المعرفة، هؤلاء الذين يَدّعون بكل وقاحة أن الجزائر قطعة من فرنسا دون أن يلحظوا الأدلّة ضدّهم في اختلاف اللغة والعادات والدين، وذلك البحر الذي يفصلنا عنهم يشهد بالوقائع التاريخية بيننا وبينهم منذ أن كنّا بَرْبَرًا إلى أن صرنا عربًا ومسلمين. فأين العقل النيّر في العالم الذي

_ * مجلة "العرفان"، لبنان، المجلد 43، الجزء3، كانون الأول (ديسمبر) 1955.

يُميّز الحق من الباطل؟ وأين الضمير الحي الذي يعترف بهذه الحقيقة؟ فإن من المؤسف أن لا نرى أثرًا لشيء من هذا، وأن العالَم لا يدين إلّا للقوّة، وأن أقوال فرنسا الباغية وإذعاءاتِها لَتجد أذنًا صاغية في هذا العالَم الضالّ الذي يتجاهل الحقيقة الباهرة في إسلام الجزائر وعروبتها، بل وصمودها على العروبة والإسلام برغم فتوحات غير المسلمين لها الذين لم يستطيعوا أن يحوّلوا فيها رجلًا عن دينه بينما استطاع هذا التحويل مَنْ فتح الأندلس العربية المسلمة. إلى هذا الحدّ تعمى فرنسا عن الحقائق، وإلى هذا الحدّ تتجاهل الحرية والعدل والمساواة التي تسمّي نفسها بها، بينما الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أن هذه المعاني السامية لا بدّ أن يوجد أحدها في أية أمّة من الأمم، وقد توجد كلها مجتمعة في شعب من الشعوب إلّا فرنسا هذه التي برهنتْ على أنها لا تحوي معنًى واحدًا منها. وهذا قول خبير بفرنسا أقوله عن علم ودراية، وأنا الجزائري الذي عرف فرنسا في بلده المستعمَر من قبلها، المظلوم بحكمها، الملتاع بقسوتها، وأؤكّد لكم أنه لا يستطيع إنسان أن يعرف فرنسا على حقيقتها إلّا أن يراها في الجزائر، فهناك يرى فيها الأنانية المجسّمة والوحشية القصوى. نعم فالجزائري هناك لا يمكن أن يبصر نور الحرية والحياة لأنهما وقف على فرنسا، وفرنسا وحدها. نعم أيها الإخوان العرب، لِنُمجِّدْ ثورة الجزائر المقدّسة، لنمجّد هذه الثورة التي تحمي الوطن العربي الجزائري المسلم، لنمجّدها فتمجيدنا لها هو تمجيد للنبل والشهامة، للحمى والذمار، وستنتصر هذه المثل العليا، وسَيَحيا هؤلاء الأبطال الذين سينصرونها، هؤلاء الذين يجاهدون جهاد شخص واحد فلا يعترفون بكلمة أنت أو هو أو أنا أو أنتما أو أنتم، فكلها ضمائر في بطون الكتب ليس لها شأن في جهادهم الموحّد وقلبهم الواحد الفرد.

في السعودية وباكستان والعراق وسوريا

في السعودية وباكستان والعراق وسوريا (مارس 1956 - أغسطس 1957) ــــــــــــــــــــــــــــــ

كامل كيلاني: باني الأجيال

كامل كيلاني: باني الأجيال * من الكتب ما يقرؤه القارئ فيجد فيه نفسه، حتى لكأنه منه أمام مرآة صقيلة، ومنها ما يقرؤه فتضيع فيه حقيقته ومعالمه، فكأنه فيه خلق آخر،: أزيد أو أنقص أو مشوّه. وكُتُب شيخ أدباء العصر الأستاذ الكبير كامل كيلاني، التي نسقها على أعمار الأطفال والشبّان حتى وصلهم بالرجولة، هي من الصنف الذي يجد فيه كل طفل- وكل شاب- نفسه، لا يعدوها ولا يضيعها، بل يكفيه أن يقرأ الكتاب- من المجموعة- فيجد فيه مع حقيقة نفسه مبلغ عمره. قرأتُ هذه المجموعة الممتعة من كتب كامل كيلاني، فوجدتُها كأنما صيغتْ من الصورة الكاملة لعقلية الطفل- أو الشاب- كما يجب أن تكون في الذهن والتصوّر ... فخرجت قوالب تصبّ عليها عقول الأطفال والشبّان، كاملة بالفعل والتصديق: يستقيم فيها الزائغ، ويصحّ عليها المئوف. فلا يقطع الطفل مراحله إلى الشباب، ولا الشاب مراحله إلى الرجولة، إلّا وهو مستقيم الملَكات، مصقول المواهب، سديد الاتجاه في الحياة، مرتاض اللسان على البيان العربي ... ولا يصل واحد منهما إلى ذلك الحدّ حتى تكون هذه الكتب قد خزنتْ فيه ثروة من فصيح اللغة العربية: مصفّاة من الحشو، منَقّاة من الدخيل، سمتْ عن الساقط المبتذل، وجانبت الغريب الوحشي، ووقفت عند المأنوس السهل، الذي لا يتعثر فيه لسان، ولا يتعسر معه فهم، ولا تنفر منه أذن، ولا ينطوي من معناه على عوراء، ولا يتنافر نظمه، ولا يتعسر هضمه. وتكون هذه الكتب العجيبة قد تدرّجت معه، وتدرّج هو بها- في مراحله العقلية والذهنية والبيانية، وفي أطوار نموّه الجسماني- تدرّجًا طبيعيًا هادئًا، متناسقًا مقدرًا، كنقل الأقدام في المشي الوئيد، حتى كأنها نسخة مقدودة من وجوده، أو مثال مفصّل على أقطاره وحدوده.

_ * "الأيام"، دمشق، حزيران (يوليو) 1956.

وكُتُب كامل كيلاني نفحة من نفحات الفطرة الأولى للأطفال، تحبّب إليهم القراءة، وتجذبهم إليها، وتقرّب ميولهم ... يقرؤها الذكر والأنثى، فلا يشعر واحد منهما بإيثار ولا استيثار. وكُتُب كامل كيلاني، لطفل العجم تعريب، ولطفل العرب تدريب، ولهما معًا تسهيل للتلاقي وتقريب! وأكبر حسناتها أنها ترقّي الذوق، وتنبّه الإحساس، وشرّ آثار التربية السيئة في الطفل عثر الذوق وبلادة الإحساس! قرأت هذه الكتب وأنا شيخ كبير، فنقلتني إلى ذلك العالَم الجميل الذي يتمنّى كل شيخ مثلي أن يعود إليه: عالم السذاجة والغرارة، والبراءة والطهارة ... ورجعت بي إلى فصل افترار الحياة عن مباسمها، وإقبال الآمال على مواسمها، فوددتُ لو انحدرت- في سلّم الحياة- إلى ذلك العهد، ثم صعدتُ بإرشاد كتب كيلاني إلى رأس السلّم، حتى أقضي ما بقي لي من العمر في الصعود والانحدار، ليبنى عقلي بتلك اللبنات الثمينة، ويتجدّد طبعي منقّحًا- في كل مرّة- تنقيحًا "كيلانيًا" عبقريًا. كان هذا النمط العالي من كتب التربية دَيْنًا واجب الوفاء من ذمم علمائنا، فقضاه عنهم هذا المربّي الصامت الصابر الذي اقتحم الميدان وحده، ونصب حيث لا مُعين، وظمئ حيث لا مَعين. فإذا جحدتْه الأجيال التي بَنَى فيها، فحسبُه سلوى أن ستحمده الأجيال التي بنى لها. ... للأستاذ كامل كيلاني منزلته الرفيعة في الأدب، وله وزنه الراجح في العلم، وهو- في ذلك كله- رجل كالرجال، يصطرع حوله النقد، ويتطاير عليه شرر الحسد والحقد ... ولكنه- بما جوّد وأتقن وابتكر من هذه الكتب بل من هذه الطرائف في التربية- أصبح مَبْدَأً لا رجلًا. والمبادئ الصالحة حظها الخلود، ومن شأنها أن تستمدّ معاني الخلود من جحد الجاحدين وحمد الحامدين على السواء. ... أبقى الله شيخ أدباء العصر، كاملًا للنفع، وعاملًا للرفع، وهَدَى أنصار العروبة وقادة أجيالها إلى الانتفاع بهذه الكنوز التي أثارها، والاندفاع في هذه السبل التي أنارها.

رسالة شكر لباكستان

رسالة شكر لباكستان * على أثر مغادرته كراتشي بعد إبْلَالِه من مرضه وبعد تأدية مهمته التي وفد إليها على رأس الوفد الجزائري أدلى فضيلة الشيخ البشير الإبراهيمي بكلمة إلى الصحافيين الباكستانيين الذين جاءُوا لتوديعه في أفريل 1957. وفي ما يلي خلاصة تلك الكلمة: ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى الأمام أيها الإخوة الباكستانيون. (1) لقد قدر لي أن أزور باكستان قبل بضعة أشهر رئيسًا لوفد جبهة التحرير الجزائرية وبعد إنجاز المهمة التي من أجلها انتجعنا هذه الديار الشقيقة اضطرتني أسباب صحية لم يكن إلى دفعها من سبيل للبقاء في كراتشي مدة غير يسيرة قضيت أكثرها في مستشفى جناح، وإني لأشكر لباكتسان حكومة وشعبًا موقفها من الوفد الجزائري وما اسبغت علي شخصيًّا طيلة مدة مرضي من عنايتها، وما لقيت من سهرها على صحتي حتى أذن الله بالشفاء. (2) إن زيارتي هذه هي الزيارة الثانية التي أتشرف فيها بلقاء إخواني الباكستانيين، وقد كانت الأولى سنة 1952 حين مثلت بلادي في مؤتمر شعوب العالم الإسلامي. وفي أثناء هاتين الزيارتين أُتيح لي أن أتجول في مختلف نواحي باكستان الغربية، وأن أتغلغل في داخل البلاد حتى بلغت كشمير شمالًا وكويتا شرقًا والتقيت طبقات الشعب وألقيت عشرات المحاضرات في المعاهد والجامعات وكثيرًا من الخطب في الاجتماعات الشعبية التي انعقدت لاستقبال وفد الجزائر في المدن والقرى كي تستمع منه إلى صوت الجزائر المجاهدة، كما أنني ألقيت خطبًا جمعية كثيرة واستمعت إلى خطباء كثيرين واجتمعت بسروات البلاد وعلمائها وتجّارها، مما هيأ لي من الخبرة بشؤون هذه الدولة الإسلامية الناشئة ما ملأني أملًا بالمستقبل الزاهر الذي ستحظى به، وبالدور العظيم الذي ستمثله في خدمة الإسلام والإنسانية. والحق ان الهمم التي جاهدت حتى نالت الحرية، وكافحت حتى انشأت هذه

_ * أثناء زيارة الشيخ لباكستان في مهمة من أجل ثورة الجزائر على رأس وفد من جبهة التحرير الوطني عام 1956 أصيب بحادث أدى إلى كسر في عموده الفقري، مما استدعى إجراء عملية خطيرة له في ظهره وتطويقه بالجبس وملازمة السرير بالمستشفى عدة شهور، وبقيت آثار هذا المرض لديه حتى وفاته.

الجمهورية الإسلامية الشابة لجديرة بأن تمثل ذلك الدور فتحقق مبادئ قائدها العظيم محمد علي جناح وتعاليم فيلسوفها إقبال وما أناط بها العالم الإسلامي من آمال. الأمر الذي يكاد يلمسه كل زائر متفحص لباكستان هو أنها- بلا شك- في مقدمة الأقطار الإسلامية التي لم يأنس أهلها بعد بأي مبدإٍ سياسي أو مذهب اجتماعي غير الإسلام، فهم في الحقيقة مستغنون به عن القوميات والوطنيات وأشباهها من المبادئ التي لا يعدو أن يكون ما فيها من فضائل ومميزات الأشياء يسيرًا بالقياس إلى فضائل الإسلام ومميزاته العظيمة. ومعنى ذلك أن باكستان لم تَعْشُ ولن تعشو بحول الله عن سواء السبيل وما عليها إلّا أن تمعن في سلوكه، وقد عرفته بحزم وبصيرة، حتى يقتدي بها العالم الإسلامي، ويهتدي بسلوكها العالم الإنساني، وتكون هادية الركب وحادية القافلة إلى صراط العزيز الحميد. (3) إن نشوء باكستان على أساس الدين كان معجزة من معجزات هذا العصر اضطرت الكثيرين من علماء الاجتماع وفحول القانون الدولي إلى إعادة النظر في النظريات التي كانت عندهم كالحقائق المسلمة والتي تؤكد أن العصر الذي كانت تقوم فيه الدول على أساس الدين قد انقضى، ولئن كانت باكستان معجزة العصر في نشأتها فلتكن كذلك في بقائها الخالد، وأرجو أن يذكر كل باكستاني وكل باكستانية أن من المصلحة بل من الواجب عمل المستحيل لحماية باكستان مما عساه أن ينحرف بها عن المبادئ التي وجدت على أساسها. فلينسَ إخواننا الباكستانيون كل شيء ... وليذكروا باكستان، وليضعوا مصلحتها فوق كل اعتبارآخر، وهذا ما هم فاعلوه- بلا شك- إن شاء الله. (4) أتمنى من أعماق نفسي لباكستان قوّة ونجاحًا وازدهارًا، كفاء ما انطوت عليه نفوس أبنائها من الاستعداد الصحيح للتفوق في معترك الحياة، وما امتلأت به قلوبهم من حب الإسلام والمسلمين والرغبة في سعادة الإنسانية قاطبة. وأرجو أن يأخذ الله بيدهم حتى يحققوا في كل يوم نصرًا وتقدمًا جديدين في كل ميدان من ميادين الحياة لكي يكون على الدوام يومهم خيرًا من أمسهم ومستقبلهم أفضل من حاضرهم. وإلى الأمام أيها الإخوان الأعزاء!

أسبوع الجزائر في العراق

أسبوع الجزائر في العراق * مستمعينا الأفاضل: يسعدنا أن نقدّم إليكم في برنامج صوت الجزائر اليوم، هذا الحديث القيّم الذي ارتجله فضيلة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي نيابة عن جبهة التحرير الوطني الجزائري، في المهرجان الوطني الرائع الذي أُقيم أثناء الشهر المنصرم، بمناسبة افتتاح أسبوع الجزائر، في العراق الشقيق. قال الأستاذ: ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضرة صاحب الجلالة الملك العظيم، حضرة صاحب الفخامة رئيس لجنة أسبوع الجزائر، حضرات السادة أعضاء لجنة أسبوع الجزائر، حضرات الإخوان الأفاضل المستجيبين لدعوة الحق والخير. أيها الملأ الكريم، هذه الكلمة القصيرة التي ستسمعونها من أخيكم، ليست محاضرة للتعريف بالثورة الجزائرية وأبطالها، ولا خطبة تمجيد لزعمائها، أو تأبين لشهدائها. لا هذا ولا ذاك، لأن الوقت والمناسبة يأبيان ذلك، وإنما هي صوت من الجزائر يجب أن يسمع في هذا الوقت والجمع حافل، فعزيز على الجزائر أن يقام لها في العراق الشقيق أسبوع، ثم لا يكون لها فيه صوت مرفوع. إن ثورة الجزائر شبّت عن طوق الأقوال، وأصبحت في مرحلة لا غناء فيها للخطب وإن طالت، ولا للأقلام وإن صالت وجالت، وإنما الغناء فيها للإيمان الثابت، يظاهره العمل الصامت، ولزكاة الأخوّة، يؤدّيها عربي الشرق، حقّا، ويأخذها عربيّ الغرب مستحقًّا، فتنقلب في يده سلاحًا يقتل به عدوّ الفريقين. وقد أعربت هذه الثورة عن نفسها وفرضت على العالم أن يسمع صداها ويتعرّف مداها ويلمس آثارها، ويتتبع أخبارها باهتمام وعناية. لأن الدم الباقي من جسم الاستعمار، يتردّد اليوم في لهوات الجزائر. وأعداء الاستعمار يتمنّون أن تكون الجزائر له مقبرة، وأنصاره يعلّلون نفوسهم بالأباطيل، ويتمنون أن تكون الجزائر له دار نقاهة وموطن استجمام، يعاود منه الكرّة على الفرص المتخلّفة في هذا الشرق. ولقد كان

_ * كتبت هذه الكلمة نقلًا عن إذاعة تطوان بالمغرب، في شهر ماي 1957.

هذا الاستعمار في أول أمره استغلالًا ومصلحة، وتسلّطًا وقهرًا، فأصبح في آخر أمره وعمره مرضًا وسعارًا، نهايته أن يقتل ويقتل. وما دامت الأقوال لا غناء فيها للثورة الجزائرية، فليرح خطباء العربية وشعراؤها وكتّابها ألسنتهم وأقلامهم من التغني بالثورة الجزائرية وأبطالها، وليوجّهوا عنايتهم إلى التي هي أوفى بذمام الأخوّة، وهي مدّ الأيدي لإعانة أولئك الأبطال المجاهدين، في سبيل العروبة التي هي أم الجميع، والإسلام الذي هو دين الجميع، وإنما تكافأ الأعمال بالأعمال، لا بالأقوال، فإن قالوا ففي فتح الأبصار والبصائر على ما جرى وما يجري في أرض الجزائر، على أيدي الفرنسيين من أعمال وحشية، وفي التحذير مما وراءها من عواقب مخيفة. إن إخوانكم المجاهدين الجزائريين، ومن ورائهم الشعب الجزائري كله، قد وقفوا في مرحلتهم الأخيرة، المتصلة بيومكم هذا عند دستور شوقي، الذي سنّه فقال: في الأمر ما فيه من جدّ فلا تقفوا … من واقع جزعًا أو طائرٍ طرِبَا ضُمُّوا الجهود وخلوها منكرة … لا تملأوا الشدق من تعريفها عجبا أفي الوغى ورحى الهيجاء دائرة … تحصون من مات أو تحصون ما سلبا وآية تطبيقهم لهذا الدستور، أن الجيش الفرنسي يعجز عن قتل المحاربين الجزائريين، فيعمد إلى القرى العامرة بالمستضعفين من النساء والولدان والشيوخ، فيهدمها عليهم، فلا يكاد ينجو من الموت أحد منهم. ولا ينزعج الأحياء من هذه المناظر المذهلة، بل يفرّ من استطاع منهم إلى مجالات الثورة، مبشّرًا بما وقع، مخبرًا بما يهمّ من اتجاه العدوّ وحركاته. أيها الإخوة الكرام: إن إخوانكم ما ثاروا إلا بعد أن آمنوا بأن الموت المعجّل، ومعه الشهادة، أشرف من الموت البطيء يصحبه الذلّ والهوان. وأن الموت الشريف أكرم عند الله والناس من الحياة المهينة. وأن هذه الحالة إذا طالت أكثر مما طالت، بردت العزائم، وماتت الهمم العربية، والحمية الإسلامية. فهم حين يقاتلون الاستعمار، ويقتلون أهله، إنما يقاتلون معه هذه المعاني الخبيثة التي ابتلاهم بها وشرّها ضعف الأخلاق، وخور العزائم، وما كادوا يقتلون طائفة من عدوهم، وتقتل منهم طائفة، حتى تنَبّهت فيهم طبائع الآباء والأجداد، ودبّت فيهم الحمية التي نشرت دين الله في أرضه، وهانت عليهم الحياة الذميمة، في طلب الحياة الكريمة. أيها الإخوة الكرام: إن الشعب الجزائري قد جمع الفضائل من أطرافها، بهذه الثورة، فهو يجاهد منذ شبّت لظاها بالعزيزين النفس والمال، وهو مصمّم على هذه التضحية الثقيلة، إلى أن يفنى، أو

يحكم الله له بالنصر، وقد اطردت معه سنّة الله في نصرة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، بما آمن وصبر وضحّى، ولقد أصبح يناجز عدوّه فيجرّعه الغصص ويكايده فيفوّت عليه الفرص، غير أن الزمن طويل، والحرب ليست مركب كل يوم، فإذا كانت ذخيرة الشعب الجزائري من الإيمان لا حدّ لها، ورصيده من الشجاعة والصبر لا ينفد، فإن طاقته المادية معرّضة للنفاد، والعدوّ لدود لئيم، وله أعوان على الشر، وصريخ قريب في البرّ والبحر. وإخوانكم الجزائريون مفصولون عن بني العمومة في هذا الشرق، باللجج الخضر، والفلوات الغبر، لا يجتمعون بهم في صعيد، ولا يأوون منهم إلى ركن شديد، ولا يعتضدون منهم بباع مديد، أو برأي سديد، أو بعون مفيد. وإخوانكم الجزائريون ينطوون على اعتبارات موروثة، تحُلّ في مستقر العقيدة من نفوسهم، منها أنهم إخوانكم في الدين، تجمعهم بكم عقائده وشعائره وآدابه، وتجمعهم بكم هذه اللغة التي غيّرت التاريخ، وبنت الحضارة الإنسانية طبقًا عن طبق، وكانت لسانها المعبّر أحقابًا مديدة. وتجمعهم بكم خصائص العروبة، وشمائل العرب، الذين انحدرتم جميعًا من أصلابهم، واتصلتم جميعًا بأنسابهم، فهم حين يستصرخونكم، إنما يستصرخون فيكم هذه الوشائج والعروق والدماء والأرحام. وتالله لو أن ذاهبًا ذهب من العراق، على هذه الصحارى المتصلة، فانتهى به المطاف إلى مخارم الأطلس الأشم، ثم أرهف سمعه لما يحمله الأثير من قمم جبال الأوراس لسمع جميع الأصوات، إلا صوتين لم يركّبا في طبع الجزائريين، هما صوت البكاء، وصوت المكاء، بكاء الهالع، ومكاء الخالع. ولكنه يسمع الحنين، حنين الأبطال، إلى النزال، ويسمع الأنين، أنين العاجزين لخلوّ الراحة، لا لألم الجراحة. ويسمع هينمة التكبير، عند النفير، ويسمع صوت الاستصراخ لبني العمومة في هذا الشرق. ولعمر العروبة وما أنجبت! إنها لكلمات، تنطوي على ذكريات. فلقد كان يستغيث بها الطفل العربي فتعقد لها المحافل، وتجهّز الجحافل. وتقولها المرأة العربية فيهيج لها العرق الحرّ، ويتأجج الحفاظ المرّ. أيها الإخوة الكرام: إن ثورة الجزائر في حقيقتها العليا صفحة ذهبية في تاريخ العروبة الطويل، وقبسة نورانية من مشرق الإسلام، ونفحة علوية من أرواح الفاتحين الأولين: عقبة، وأي المهاجر، وحسّان، وموسى، وطارق، وإن أعمال إخوانكم المجاهدين الجزائريين أعمال وصلت أمجاد العرب في الآخرين بأمجادهم في الأولين، وإن مواقف الشعب الجزائري في هذه الثورة كلها حسنات ذهبت بسيئات العرب، وكفرت عن جميع ما اجترموه من ذنوب في جنب الإسلام والعروبة.

وإن التعاون الذي ظهر بين أفراد الشعب الجزائري، في هذه الثورة، هو التفسير الصحيح لكلمة الأخوّة الإسلامية. وجملة القول، من غير محاباة ولا غلوّ، أن الثورة الجزائرية فصل غريب في تاريخ الإنسانية، قرئ قبل أن يكتب، وفهم قبل أن يتمّ. وسيكون بعد أن يكتب بابًا ممتازًا في تاريخ الثورات التحريرية، يجد فيه الدارسون شذوذًا في كل قاعدة من قواعد الثورات، وهدمًا لكثير من النظريات الثورية السالفة في حياة الشعوب. أيها الإخوة الكرام: إننا لا نعلّمكم شيئًا جديدًا عن الثورات، فقد سبقتمونا إليها، وكنتم أئمتنا فيها، ونلتم استقلالكم بالضحايا والدماء والأشلاء، وما من قطر عربي أو إسلامي استقلّ بدون ثورة، وإنما هي بثّ من متعب إلى مستريح، وشكوى خابط في الدياجي، طال ليله، فطال ويله، إلى أخ كريم له، قد أطلق سراحه، وتبلّج على نور الحرية صباحه. فاعذروا إخوانكم الجزائريين إذا ألحّوا، واعذلوا إخوانكم العراقيين إذا هم بالنجدة شحّوا. إنكم لم تجتمعوا في هذا المكان والزمان لبناء بيت أو تكفين ميت، وإنما اجتمعتم لإحياء شعب من بني أبيكم، حياته حياتكم، وعزّه عزّكم، وفي انتصاره انتصاركم، وفي اندحاره اندحاركم. وقد أحالكم على الأنساب، وهي أرحام، وعلى اللغة وهي قوام، وعلى الخصائص وهي ذمام، وعلى الدين وهو عروة اعتصام؛ إنكم أسميتم هذا الأسبوع أسبوع الجزائر، وجعلتم براعة استهلاله هذا اليوم، وهذا الاجتماع الذي زاده حضور جلالة الملك الشاب بهاءً وإشراقًا، فأصبحت هذه الإضافات عقودًا في أعناقكم، يجب الوفاء بها على أكمل وجه، يشرّف العراق والجزائر، ويقوم بحق صاحب الجلالة، الذي لم يكفه أن حضر حتى تكلّم، ولم يكفه أن تكلّم حتى افتتح الاكتتاب. اجعلوا هذا الأسبوع كالينبوع، يفور ولا يغور، وكماء دجلة يفيض ولا يغيض. وكيوم الجمعة عند القانت الأوّاب، تقلّ حركاته، وتكثر بركاته، وسلام عليكم في المؤمنين الصادقين، وسلام عليكم في الباذرين للخير والباذلين. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في مصر

في مصر (أغسطس 1957 - سبتمبر 1962) ــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزائر

الجزائر * في الجزائر مواريث ثمينة، ومعادن دفينة، وخصائص مكينة من فضائل جذمين عريقين هما يعرب ومازيغ، ومن مآثر أمّتين عظيمتين هما العرب والبربر، فكل ما عرفه التاريخ عن الأمّتين من الأخلاق الكريمة والفضائل، وشهد به وسجّل، هو متماثل متقارب فيهما كالشجاعة والشهامة والإباء والحفاظ وحماية الحقيقة، والكرم والصدق في القول والفعل، والوفاء بالعهد والوعد، والمحافظة على الجار إلى حدّ الموت في سبيله، والانتصار للضعيف، والإحسان في محلّه، وإغاثة الملهوف، يصرف ذلك كله فيهم قلوب ذكية ومعاطس حمية، وكل ذلك ظاهر المخايل والمشابه في أخلافهم الجزائريين المتحدرين من تلك السلائل الكريمة. وقد تماسّت الأمّتان في عصور عريقة في القدم وتنَفّست الجزيرة العربية بعدة موجات من الهجرة إلى الشمال الإفريقي يشير التاريخ إلى بعضها، وتشهد السمات والسحن والشمائل بالباقي، وان تلك القبائل المهاجرة اندمجت في البربر وامتزج القليل في الكثير فتكون مزاج من التأثّر والتأثير بينهما، وتجاوبت تلك الخصائص، وتقاربت المنازع في الأمّتين، وما تمّ الامتزاج إلا لأن الخصائص الجنسية فيهما كانت متقاربة متجانسة تسهّل الامتزاج وتمهّد للفعل والانفعال. ووصل الإسلام إلى الجزائر قلب الشمال الإفريقي في بضع عشرات من السنين من شروق شمسه يحمل الخير والسلام والهداية ومكارم الأخلاق، فشدّ ما وجد من تلك الخلال الكريمة وأحكم، وطابع الإسلام المعروف هو تقريب المتباعدين وتوحيد المتنافرين، فكانت الطبيعة البربرية أسرع إلى تقبل تعاليمه مما كان ينتظر، وإذا شوهد بعض تلكؤ عن الإذعان فذلك من آثار اليهودية التي طاف طائفها ببعض القبائل قبل الإسلام كرهط الكاهنة

_ * هذا جزء مكتوب عثرنا عليه من محاضرة ألقاها الشيخ في مركز الشبان المسلمين بالقاهرة، سنة 1957، ونشرت في مجلة "لواء الإسلام"، العدد 12، يناير 1961.

بجبل أوراس، ولقد أعان الإسلام على سرعة الانتشار يُسْر مدخله إلى النفوس، ومساوقة بساطته للبساطة التي تتسم بها الطبيعة البربرية إذ ذاك. ثم جاءت موجة الغارة الهلالية في أواسط المائة الخامسة للهجرة فغمرت سهول الجزائر بعد سهول تونس، وكان من آثارها الصالحة في الجزائر- على كثرة الأضرار والمفاسد التي تصحب التغلب عادة- أن عرّبتها ومكّنت لِلِّسان العربي فيها، وما صحا الفريقان من غمرة الانتصار والانكسار، حتى ذكروا أن الإسلام يجمعهم ففاءوا إلى السكينة وركنوا إلى السلم، وأووا إلى كنف الأخوّة الإسلامية فتصاهروا وتجاوروا وتناصروا وتقاسموا رقاع الأرض فوسعتهم جميعًا، وبسطت اللغة العربية سلطانها على ألسنتهم وأخيلتهم وأفكارهم فأهلتهم إلى العلم الصحيح والأدب والفن واصطنعوها ترجمانًا لأفكارهم، ولم يشهد تاريخ الإسلام أمّة من الأمم الأعجمية التي دانت به وخضعت أرواحها لسلطانه تنازلت عن لسانها للّسان العربي عن طوع واختيار، وتنازلت عن روحانياتها لدين الإسلام إلا أمّة البربر، فقد نزلت عن لغتها ومقوّماتها كلها إلى الإسلام ولغته، وبذلك أصبحت الأمّة البربرية كلها أمة عربية، ويشهد لذلك أنه قامت في الشمال الافريقي دول بربرية الاسم والعصبية لأول العهد الإسلامي ووسطه يرأسها ملوك عظام من صميم البربر، وخدمهم بالشعر شعراء فحول في الأغراض الملوكية بالمدح والتمجيد وكافأوهم بسنيّ الصلات والجوائز، وما علمنا قط أن شاعرًا خدمهم بالشعر البربري إلا في الفرط والندرة، ولو كان لنقل إلينا خبره لتوفّر الدواعي على نقله. الأمة الجزائرية اليوم لم تزل على عهد أولئك الأسلاف الذين ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية وشادوا لها من صروح العلم ما بقيت آثاره مشهودة إلى اليوم في قلعة بني حماد، وتيهرت، وبجاية، وتلمسان، وأنجبوا لها أئمة أعلامًا في التشريع والتاريخ والأدب والفن وعلوم اللسان العربي، فالأخلاف اليوم على عهد أولئك الأسلاف، لم يتنكروا للإسلام، ولم يجفوا العروبة على كثرة ما ابتلاهم به الدهر من صروفه ومصائبه، ودهاهم فتنه وويلاته، من شمال الأبيض المتوسط من حروب، وعلى كثرة ما صبّ عليهم جار السوء من العرق اللاتيني من غارات، وهبّ عليهم من تِلْقائِه من أعاصير مكتسحة، فقد كانوا يخرجون من تلك الأعاصير الجارفة أصفى ما يكونون جوهرًا، وأثبت مِمَّا كانوا عزائم وبصائر. أحفاد أولئك الأجداد، وفروع تلك الأصول هم الذين يُحْيُون اليوم في الجزائر مآثر الأسلاف، ويقيمون الشواهد الحية على بطولتهم واستماتتهم في الذياد عن حرية وطنهم، فيشنونها ثورة شعواء أطارت ألباب طغاة الاستعمار وأوليائه في كل ركن من أركان المعمورة، ويقاتلون جيشًا وفير العدد متكامل العُدد، ولكنه مستعار الأسلحة والقلوب. يقاتلون أدعياء العلم والمدنية وحُثالة العنصر اللاتيني، وبقية السيوف الجرمانية من حربين لم يفصل بينهما من الزمن إلّا حاجز يسير.

يقاتلون جيشًا استعمارًيا يظاهره جميع أنصار الاستعمار وقوى الشر المنتشرة في العالم، ومن ورائه ملايين من الشعب الفرنسي وقد تمالأوا على العدوان وتراضوا بالظلم والتجرّد من الإنسانية، يحملون قلوبًا تلتذ بمنظر الدماء والأشلاء وتفور بالحقد والبغضاء للإسلام والعروبة والشرق حتى للمسيح وتعاليمه، ومن وراء الجميع رئيس مفتون بالرئاسة أعماه الغرور عن رؤية الحقيقة، وأصمّته العنجهية عن سماع صوت الحق، فهو يتخبّط في ليل داج من الشبهات والأضاليل، وفي مجهل طامس من الدعاوى والأكاذيب، وكلما قلب الرأي وأداره هجم به على نتيجة تناقض رأيه، وكأن الله- جلّت قدرته- نصبه نذير شؤم لقومه بسوء العاقبة ووبال الأمر، وويل لهذا الشعب المضلّل الذي أفلس في الرجال أكثر من إفلاسه في المال، وربّاه الإلحاد وفساد الأخلاق ونقصان العقل إن تمادى في اتّباع خطوات هذا الرئيس المغرور. الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، ويمتاز الاستعمار الفرنسي بأن آثار الشيطان فيه واضحة، ومخايل الشيطان عليه لائحة، فهو لا يقنع بالسيطرة على الظواهر بل يتدسس إلى مكامن السرائر ليفسدها أو يبتليها بالوهن والانحراف عن سبيل الفطرة، فهو لا يهدأ له بال حتى يدخل شيطانه في العلاقة بين الناس وبين خالقهم ... يدخل في العقائد الدينية فيشوبها بشوب الشرك والضلال، ويدخل في العبادات البدنية فينصب للناس أئمة للصلاة وهم يتجسسون عليهم، ويمنع صومهم، ويجعل من الولد جاسوسًا على شريكه، ومن الجار جاسوسًا على جاره، كل ذلك ليقضي على وشائج القربى بين الناس ويفسد وسائل المحبة والثقة بين أفراد المجتمع، ويقضي على أسباب التماسك بين أفراد الأسرة، ويسري منهم إلى أجزاء الأمة، ويدخل في التعليم فيحرم تعليم العربية ويعاقب عليه كما يعاقب على الجرائم. وفي جنب ذلك يفتح الباب على مصراعيه للرذائل ومفسدات الأخلاق؛ فالخمر والزنا وغيرهما من الموبقات حلال في شريعة هذا الاستعمار باسم الحرية، وكل ما يحفظ الأسرة والأمة والأخلاق من عوامل التفتت والانحلال حرام في تلك الشريعة.

يوم الجزائر

يوم الجزائر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: يسعدني أن أقف على منبر جمعية الشبان المسلمين فأرسلها باسم الجزائر تحية خالصة مضمخة بدماء الشهداء إلى جميع الشعوب التي هزّتها الحوادث المروعة التي تتكرّر مع كل شارقة في أرض الجزائر ... أحيي فيهم هذه الروح الإنسانية التي حرّكتهم إلى الانتصار لإخوانهم الذين يخوضون معركة يشهد التاريخ المنصف أنها أعظم معركة سجّلها بين الحق والباطل، وبين الحرية والاستعباد، وبين المظلوم والظالم، وبين الخير والشر، وبين الضعف والقوّة، ويشهد التاريخ كذلك أنه لم يشهد بعد عصر النبوّة معركة تنتصر فيها الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، ويتجلّى فيها سرّ الإيمان وسرّ الروح مثل هذه المعارك الدائرة في الجزائر، حيث تنازل فيها قُوَى الخير، قليلة العدد معدومة المدد، قوى من الشرّ كثيرة الأعداد، موفورة الامداد، متصلة الإسناد، كاملة الاستعداد، فتدحرها وتنتصر عليها ... لم يشهد التاريخ شعبًا ثار لحرماته المنتهكة فهزّ العالم من أطرافه وانتصر له سكان القارّتين مثلما شهد من الشعب الجزائري وشعوب آسيا وافريقيا، تداعت هذه الشعوب لميقات يوم معلوم دعوه يوم الجزائر يعقدون فيه الاجتماعات لإعلان السخط وإقامة النكير على الاستعمار عمومًا وعلى الاستعمار الفرنسي في شمال افريقيا خصوصًا ... ولجمع الإعانات المالية لينتعش بها إخوانهم الجزائريون وتتجدّد بها قواهم في قتال عدوّهم ... إن أيام الجزائر هي جميع الأيام التي يتألف منها عمر الثورة، فكل يوم أغرّ محجل واضح الشيات مملوء من أبنائها بالفعال والمآثر، ولكن لتخصيص هذا اليوم بالنسبة للجزائر بتواطؤ وإجماع من هذه الشعوب الهائلة التي يزيد عددها على نصف سكان المعمورة، سرّ

_ * نُظّم في كل البلدان العربية والآسيوية والافريقية يوم خاص سُمّي "يوم الجزائر" لتأييد الثورة الجزائرية ودعمها، وهذه الكلمة أُلقيت في الاحتفال الذي أُقيم بهذه المناسبة بالقاهرة، عام 1957.

عميق، ففي توقيت الوقت وتحديده بيوم استحضار إجماعي لبلايا الاستعمار في العصور المتعاقبة واستجماع للذكريات والأحاسيس التي تختلج في نفوس هذه الشعوب، وما منها إلا من اكتوى بنار الاستعمار، على تفاوت حظوظها من شرّه، وتفاوت أنصبتها من الشعور به. ومن أسرار هذا التوقيت أنه يكون ملتقى للعواطف، وحافزًا للهمم، ومثيرًا للعزائم، ومذكرًا بحقوق الجار على جاره والأخ على أخيه، وحقوق المشتركين في البلاء بعضهم على البعض، في هذا اليوم يتوافى نصف شعوب الأرض على داع مسمع من الحق يدعو إلى نجدة الجزائر في محنتها وإلى إعلان السخط على الاستعمار الفرنسي. أما نحن معشر الجزائريين فنرى في إقامة هذا اليوم بهذه الصورة نصرًا معجّلًا لنا ونجاحًا موفّقًا لثورتنا، ومددًا من العناية الإلهية مهيّأ لنصرتنا وضربة قاصمة للاستعمار كنا نحن السبب فيها. ونحن جازمون بأن الاستعمار الفرنسي المتداعي الأركان يرمي من هذا الإجماع بما يفسخ عقده ويوهن كيده ويجعله يؤمن بعد ذلك العناد والإصرار على الشرّ والفساد بأن قوى الشعوب من قوّة الله، وأن أنصاره وأعوانه لا يغنون عنه فتيلًا، فيا ويح العاملين في الظلام إذا تبلج الفجر في وجوههم، وويل لمستعبدي الشعوب من يقظة الشعوب، وويلهم إذا اجتمعت تلك الشعوب وتقاسمت بشرف الحرية لتنتقمنّ من المستعمرين ولتقضينّ على الاستعباد. ولله درّ شوقي إذ يقول: صَوْتُ الشُّعُوبِ مِنَ الزَّئِيرِ مُجَمَّعاً … فَإِذَا تَفَرَّقَ كَانَ بَعْضَ نُبَاحِ أيها الإخوان: إن هذه الدعاية الواسعة التي أحاطت بهذا اليوم ونبّهت عنه ودلّت عليه وأثمرت هذا اليوم العظيم، لتنويه بالثورة الجزائرية، وتعظيم لشأنها، وحسن ابتكار لوسائل النصر فيها، وأذان جهر من الحق، يسمع الصمّ عن هذه الثورة القاعدين الساكتين عن كلمة الحق فيها، وعن إيقاف فرنسا عند حدّ، وتوبيخ ضمني للحكومات والشعوب التي تمدّ هذا الغي وتقدّم لها العون على الشرّ والفساد، وسخرية حارّة بأولئك الشواذ الذين فسد ذوقهم الإنساني فولولوا وصاحوا وتظاهروا بالرحمة والإشفاق على كلبة فارقت الأرض وعوت منذرة لذلك الفريق المشفق بسوء المصير ثم ماتت، ولم يشفقوا على هذه الملايين المعذّبة في الأرض التي تموت بالآلاف في أرض الجزائر، إلا أن كل جنس يرحم جنسه ويشفق عليه، فهنيئًا لهم ما اختاروا وفي سبيل الكلاب ما صاحوا وولولوا وأرسلوا من عبرات. أيها الإخوان: من حسنات هذا اليوم وآثاره الجليلة أنه يجمع قلوب الشعوب الآسيوية والافريقية على ذكر الجزائر والجزائريين بأشرف ما يذكر به إنسان، فيذكرون أنواع البلاء التي يصبّها عليهم

الاستعمار الفرنسي، ويذكرون أمثلة البطولة التي تتسم بها أعمالهم، ويذكرون الدماء التي تسيل والأرواح التي تزهق وكل الجرائم الوحشية التي يرتكبها الجيش الفرنسي باسم الحضارة الأوروبية، وفي أثناء العمل الذهني في هذه الذكريات ينكشف الحق عن مصاصه وهو إكبار المجاهدين الجزائريين وإجلال مقصدهم وغايتهم من هذه الثورة، وهو الحرية والاستقلال، واحتقار فرنسا وجيشها وحضارتها وعلمها الذي غرّت به العالم حينًا من الدهر، وفي هذا اليوم الذي نسب إلى الجزائر ستلتقي همم مئات الملايين من شعوب آسيا وإفريقيا على خاطر واحد في ساعة من نهار، وهو بغض الاستعمار والحنق عليه، ووجوب الإجهاز عليه والإجماع على زواله والراحة منه، واحتقار فرنسا التي افتضحت أمام العالم وانكشف ثوب الزور الذي كانت تلبسه، وهدمت بأعمالها الشنيعة المجرّدة من الإنسانية كل ما بنته لها دعايتها من محاسن، ولا يقصر هذا السخط على الحكومة الفرنسية وحدها بل يتجاوزها إلى الأمّة الفرنسية نفسها، لأنها متواطئة مع حكوماتها على إبادة الجزائريين بسكوتها على ما تفعله هي وجيشها، فلم يسمع العالم نأمة في استنكار تلك الأعمال التي تسوّد تاريخ فرنسا وتقضي على سمعتها. أيها الإخوان: هل أتاكم أن الجيش الفرنسي يأتي في الجزائر أنواعًا من الفظائع ينكرها حتى الشيطان من تقتيل جماعي؟ لا أشك أن أخبار هذه الفظائع وصلتكم ووصلتم من علمها إلى عين اليقين، وكيف لا تصلكم وأنتم منها قاب قوسين، ولو أن مستشرفًا أرهف السمع لسمع من مخارم الأطلس الأشمّ حيث يتطامن على حدود ليبيا، لسمع تكبير المجاهدين ممزوجًا بمعمعة النيران في منازلهم وفيها أولادهم والمستضعفون من ذويهم، ممزوجة بصراخ الاستغاثة من الأطفال والنساء والشيوخ حيث لا مغيث، ولرأى منظرًا يذهل النفوس ويدمي العيون ويذهب الرشد، فإذا رجع هذا المستشرف إلى رشده حكم بمبلغ تأثير الإنسانية في أفراد الجيش الفرنسي وقادته ومبلغ حظهم من هذه الحضارة التي تزعمها أمّتهم، وعلم بالمشاهدة أن ذلك الجيش الوحشي عجز عن قتل المجاهدين بما حشد من أسلحة فتّاكة فانقلب إلى هذه الأصناف العاجزة عن الدفاع من أطفال ونساء وشيوخ ليطفئ بقتلهم غيظه ويشفي بتعذيبهم صدره. أيها الإخوان: إن المفروض في الحضارة أنها تهذّب الأخلاق وتلطّف الحيوانية فتدنيها من الرحمة وتشيع الفضائل في النفوس، وإن الجندي هو أولى الناس بالتربية الفاضلة والأخلاق الحميدة. فما لهذا الجيش الذي لم تترك أمّته فضيلة إلا انتحلتها لنفسها، ولا حضارة للأقدمين إلا ادّعت أنها وارثتها بالفرض والتّعْصِيب، يفضح أمّته هذه الفضيحة الشنعاء ويعقّها هذا العقوق الأطلح ويسجّل عليها خزي التاريخ ولعنة الأجيال.

كلا، فحرام أن نظلم الجندي الفرنسي وحده، فلو زكا الأصل لزكا الفرع، ولو طاب المولد لطاب المحتد، ولكنها أصول مظلمة ومن ثم كانت ظالمة، وشعب مطبوع على الاستطالة واحتقار الشعوب الأخرى، يعتقد أن وجوده في عدم غيره وحياته في موت الشعوب الضعيفة، فهو جار في الشرّ على عُرف أصيل. ويقول المغرورون بالظواهر المفتونون بالألوان السطحية الذاهبون إلى عامل التأويل، إن الذين يقومون بتلك الموبقات في الجزائر إنما هم أجانب عن فرنسا من السنغال أو جنود اللفيف الأجنبي، وأين الرئيس الفرنسي الصميم الذي لا يتمّ أمر في نظام الجند الفرنسي إلا بعلمه واطّلاعه ورضاه وأمره؟ وفات هؤلاء أن السنغاليين وفرقة اللفيف إنما هي موضوعة بالقصد الأول في الجيش الفرنسي لمثل هذه المنكرات من هتك الأعراض واستباحة الحرمات علانية، والرئيس إذا لم ينهَ عن المنكر فهو آمر به. أيها الإخوان: أين هذا من حضارة الإسلام في طوره الأول التي يتفننون في رميها بكل نقيصة، وأين آداب القتال التي شرعها الإسلام من آداب القتال في هذا العصر المتحضر؟ أين هذه الأعمال الوحشية من رحمة الإسلام التي أمر بها الخليفة الأول في وصيته المشهورة لجيش متوجه للغزو ومنها: لا تقتلوا إلا من قاتلكم ولا تقتلوا طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا ضعيفًا. إننا معشر الجزائريين نعلم عن فرنسا، بحكم المجاورة بيننا وبينها، ما لا يعمله غيرنا. وقد مسّنا من عذاب باستعمارها لنا ما لم يمسس غيرنا من غيرها، فإذا حكينا عنها فإنما نحكي عن عيان، ويعلم الله أننا في ما نحكيه عنها غير متجنّين ولا مفترين ولا متأثرين بالعداوة. أيها الإخوان: إني أرجو أكيد الرجاء أن تكون أيام العرب والمسلمين جميعًا يوم الجزائر حتى تنتصر الجزائر وتنتصر العروبة والإسلام في الجزائر ... وفّقنا الله جميعًا وسدّد خطانا، وأنجح مسعانا ونصرنا على القوم الظالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني

الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني * ولدنا الأبرّ الأستاذ الجليل الشيخ أحمد الشرباصي- أبقاه الله-. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: يعز عليّ أن لا أشارككم في هذه الحفلة التي تحيون بها رجلًا نعده سلفًا لنا في الشجاعة وعدم الرضى بالضيم، وفي الجهر بقول الحق، وفي كثير من الخلال الصالحة. ويعزّ على هذا اللسان أن تجيء ذكرى الأفغاني ولا يتحرك فيها بكلمة، وأن يُدْعَى من جمعية الشبّان فلا يستجيب، وجمعية الشبّان هي منتجع هواه، ومنبرها هو أول منبر ارتفع عليه صوته، وقاعتها هي التي تجاوبت أرجاؤها برجع كلامه. ويعزّ عليّ أن أحرم من الاستفادة من آراء إخواني الخطباء الذين يسعدون في هذه الليلة بالحديث عن جمال الدين، وإنّني لفقير إلى الاستفادة منهم. ولكن المرض الذي تعرفه برح بي وأقعدني عن الحضور، وتسلّط على فكري فما يبضّ بكلمة، وعلى لساني فما ينطق إلا بصعوبة، إنني عاجز عن القعود على الكرسي ولو دقيقة واحدة، وعلى عذري لكم وللإخوان الحاضرين فإنني أمليت بصعوبة على الكاتب كلمة في آخر لحظة أملاها خاطر كليل، ولسان غير بَليل، فجاءت خَشِبَة لم يهذبها انتقاد، ولم يعمل فيها نظر معاد، وأنتم أولى من يقوم بالاعتذار عنّي عند إخواني. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الإبراهيمي ...

_ * كلمة عن جمال الدين الأفغاني أُلقيتْ نيابة عن الإمام في مركز جمعية الشبّان المسلمين بالقاهرة في 21 أكتوبر 1957م، ومعها رسالة للأستاذ أحمد الشرباصي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: أحيي هذه الذكرى الجميلة، ذكرى جمال الدين الأفغاني، تحية فيها معنى الإجلال والإكبار، ومعنى الاعتزاز والافتخار للمقيمين لذكراه. أحيي الذين فكّروا فيها، والذين أقاموها وأحيوها، والذين سعوا لها وحضروها، والذين تكلموا فيها وشرحوها، فجلوا جوانب سيرة هذا العبقري، وكشفوا عن مكامن العِبَر وعن وجوه التأسي فيها. إن هذه الذكريات التي تُقيمها الأمم لعظمائها لا تنفع الأموات، لأنهم قد خرجوا من الدنيا وفرغوا من تبعاتها وتكاليفها، وتركوا لمن بعدهم من أعمالهم ما ينير لهم سبل الحياة، بعد أن أدّوا واجبهم لأممهم خيرًا ونفعًا وجمالًا، وقاموا لعقائدهم ومباديهم ما يجب لها من إبانة وتثبيت وتمكين في الأرض، وإنما تنفع الأحياء لأنها تجعلهم متصلين دائمًا بعظمائهم وسلفهم الصالح حتى كأنهم بينهم أحياء يأمرون وينهون، ويعظون ويرشدون ويردون الضالّ عن ضلالته، ويوقظون الغافل من غفلته، ولو أننا عرفنا كيف نستفيد من حفلات المولد النبوي التي تقام آلاف المرات في كل سنة، وطهرناها من المجانة واللهو والعبث والمنكرات، التي تبعدنا عن الله وتحجبنا عن حقائق الدين التي جاء بها صاحب الذكرى، ووجّهناها إلى تلك المعاني السامية المطربة في سيرته العملية، ورمينا بها إلى الغايات التي هي حقيقة الإسلام وأخلاق المسلم- لو فعلنا ذلك- لنقلناها من باب البدع المنكرة إلى باب السنن الاجتماعية الصالحة المحمودة، ولكان منها في كل مظلمة شعاع هاد، وفي كل معضلة نور نمشي به في الظلمات فلا نخاف ضلالًا ولا زيغًا. إن من البر بأنفسنا أن نذكر- مع كل شارقة- عظماءنا ومصلحينا الذين كان لهم أثر مشرق في تاريخنا، وأن نحيي ذكرياتهم لنحيا بها ونأخذ العبر منها ونجعلها دليلنا إذا أظلمت علينا السبل، وقدوتنا إذا أعوزنا الإمام القائد. العلماء الربّانيون في هذه الأمة ثلّة من الأولين، وقليل من الآخرين، والحكماء في هذه القلة قلة أخرى، لا تلد القرون منهم إلا الواحد بعد الواحد، ولا يجيء الواحد إلى الوجود إلا بعد فترة من تحكّم الأهواء واستيلاء الخمول، وسفه القيادة، والبعد عن هداية الدين، والجهل بأمور الدنيا وبالصلة الوثيقة بينها وبين الدين، وانطماس المعالم المنصوبة والأعلام الهادية فيهما، فيكون ظهوره تجديدًا للدين والدنيا معًا، ودعوة للعزة فيهما معًا، وإصلاحًا لما أفسدته الغفلة منهما معًا، ورمًّا لما تشعث من بنائهما معًا. ومن هذا القليل جمال الدين الأفغاني.

والأفغاني ينظر إليه الخليون الفارغون من علماء القشور والرسوم على أنه ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين ومن العالم الديني الذي هو عندهم حاكي أقوال وحافظ اصطلاحات وراوي حكايات، يجلس في حلقته فيفيض في الحلال والحرام وفي الزهد والرقائق بكلام مقطوع الصلة بالقلب، مقصور على اللسان، فهو لا يؤثر، ومن ثم فهو مقصور على سمع السامع فهو لا يتأثر، وليس فيه إلا قال فلان، وقال فلان، وليس منه قلت، ولا ارتأيت، ولا فكرت، حتى إذا فرغ من الكلام فرغ كل شيء منه، وخرج من الدرس فوجد البدع والمنكرات بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يهتز لها هزة الغضب، ولا يتأثر لها تأثّر المنكر، بل يجاري البدع والمبتدعين ويكثر سوادهم، ويكون حجة على الدين لا حجة له. أما أصحاب العقول المُتَدَبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيّرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون في الأفغاني عالِمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعاد سيرتها الأولى، وأنعش جدها العاثر، وجدّد رسمها الداثر. كان العالم الديني في نَأْنَأَة الإسلام أقوى نفوذًا وأوسع سلطة من الخليفة والملك والأمير، وكان الأمراء القاسطون يخشون ذلك النفوذ الواسع ويضيقون به ويتبرمون منه. كان القاسطون من الخلفاء والأمراء بعد دولة الراشدين يخشون سلطة العلماء ونفوذهم الروحي، لأن في ذلك النفوذ حدًا من استبدادهم ووقوفًا في طريق شهواتهم الحيوانية، فعمدوا إلى حيلة تتابع فيها أولهم وآخرهم وهي: إلصاق الحاجة بالعلماء، أو تحنيكهم بحلاوة الشهوات حتى يتخذوا منها مقادة لهم يجرونهم بها إلى مجالسهم وغشيان قصورهم، والحضور في محافلهم، فوقع الكثير في هذه الحبالة، ونجا من عصمه الله من هذه المكيدة، ونقرأ في تراجم الكثير من الزهّاد المتورعين أنهم كانوا يمتنعون من وطء بساط السلطان، وأكل طعامه، وأخذ جوائزه والولاية له، لأنهم كانوا يرون أن ذلك كله ترويض على ما بعده من إذلال وامتهان، وذريعة إليه، ولكن تلك الحيلة أخذت مأخذها من النفوس مع تطاول الزمن وإلحاح الإغراء حتى ضاع ذلك النفوذ الواسع، الذي كان يمسك الأرض أن تميد ويحرس الإسلام من طرق هذه المعاني الخبيثة من الداخل ومن الخارج، إلى أن اختلّ أمر الدين والدنيا معًا بين المسلمين، وكانت الخاتمة ما نراه اليوم في المجتمع الإسلامي من تخاذل وتفكك وانحلال، وهذه هي عواقب بُعْد العلماء عن الرأي وعدم تدخلهم في الشؤون العامة، وهكذا كان علماء عصر جمال الدين يريدون لجمال الدين أن يكون.

والعلماء المصلحون متفاوتون في الاستعداد بالميادين التي جلوا فيها بمقتضيات الضرورة والزمان والمكان، فأحمد بن حنبل رأى أن العقيدة التي يريد الخليفة أن يغرسها بالقوة هي عبث بعقائد الحق كلّها، وأنها ستسري- إن سكت عنها- لبقية العقائد، لا سيّما والذي يرعاها خليفة، وتربتها التي نبتت فيها بغداد، وبغداد عاصمة الإسلام إذ ذاك، فالآراء التي تؤمر منها تنتشر في العالم الإسلامي كله، فوقف أحمد فيها المواقف المشهورة، ولاذ بقية العلماء وهم أئمة الدين وقادة المسلمين بسلاح الضعفاء المترددين، بعضهم بالتقية وبعضهم بغيرها من ذرائع سلامة البدن، والعز بن عبد السلام رأى أن طغيان المماليك في مصر واستهتارهم يؤديان إلى ضياع المصالح، واختلال السابلة، فوقف منهم موقفه الذي خلّد اسمه، وأحمد بن تيمية رأى أن ضلال العقائد واستفحال البدع وتسلط المبتدعين على عقول العامة قد طغت بحارها، فوقف منهم طول عمره موقف الخصم اللدود حتى خضد شكوتهم وفل شباتهم، ومحمد بن تومرت رأى اقتناع علماء الدين في تغيير المنكر بالمرتبة الأخيرة التي لا بلاء فيها ولا جهاد، وهي التغيير بالقلب، فانتقل إلى أعلى رتبها وهي التغيير باليد، فكان يغير المنكرات بيده، ولولا مخرقة شابت أفكاره لكان في عداد المصلحين العظام، وجمال الدين رأى أن أنكر المنكر في زمنه هو عبث الأمراء المستبدين أو الأمراء الضعفاء بمصالح المسلمين، وأنهم أضاعوها في سبيل شهواتهم الشخصية، وأنه لولا سكوت العلماء وقعودهم مع الخوالف لما تمادى أولئك الأمراء في غيّهم، فوجّه جهوده ووقف مواهبه على هذا الميدان السياسي، والسياسة في نظر الإسلام هي من لباب الدين، لأنها حامية لشرائعه وشعائره وحدوده، وموقف الأفغاني من شاه إيران وسلطان العثمانيين وخديوي مصر مشهورة، فالأفغاني باتّساع معلوماته، وباستعداده الفطري، وبِبُعد نظره، وبصراحته وشجاعته، وبحسن فهمه لأمراض المسلمين، ومعرفته بأصناف عِلاجها، مصلح سياسي، اجتماعي مستكمل الأدوات لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار. ولم يتخذ الأفغاني وطنه الذي ينتسب إليه مركزًا لحركاته وأعماله، لأَنَّ ذلك الوطن لا يصلح مركزًا لانبعاث حركة فكرية شاملة، لبعده وانقطاعه عن بقية الأوطان الإسلامية، واختار مصر قاعدة للحملات الصادقة التي حملها على استبداد الأمراء وخمول العلماء، وغفلة العامة، وشيء آخر من بواعثه على اختيار مصر واتخاذها قاعدة لحركاته، وهو أن مصر لم تزل حاضنة العروبة، وحافظة عهودها من لدن الفتح الإسلامي، ولم تزل كعبة العرب ومهوى أفئدتهم منذ قرون، وكل مبدإٍ يتعلّق بإصلاح شؤون المسلمين العامة، فمن دواعي نجاحه أن يكون منبعثًا من أرض العرب لمكانهم من النبوة ومنزلتهم من القرآن.

أيها الإخوان: الذكرى من الذكر، فماذا تذكرون في هذه الليلة عن جمال الدين الأفغاني، وماذا تدّخرون من آثارها في نفوسكم لليالي المقبلة من أعمالكم؟ اذكروا أنه كان عالمًا شجاعًا، قوّالًا للحق جريئًا فيه، واذكروا أنه كان لا يخشى في كلمة الحق يقولها ولا في الحق يدعو إليه لومة لائم، واذكروا أن جميع الثغر التي أُتينا منها فعِلّةُ العلل فيها آتية من سكوت علماء الدين وبعدهم عن شؤون المسلمين العامة. وقد جزاه الله في الدنيا جزاءً عاجلًا فرزقه طرازًا من التلامذة المستعدين، نفخ فيهم من روحه، وربّاهم على مباديه، وكانوا من بعده حمَلَة فكرته، الشارحين لها بالعمل، وحسبكم بالأستاذ الإمام محمد عبده. وإن جمال الدين اقتحم هذا الميدان فكان حجة لبعض العلماء، وحجة على بعضهم. رحمة الله على جمال الدين جزاء ما قدّمه للإسلام والمسلمين، وكفاء ما سنّه للعلماء من أسى حسنة لم نزل نتقلّب في أعطافها، وندين له بالفضل فيها. والسلام عليكم ورحمة الله.

الذكرى الثالثة لثورة نوفمبر

الذكرى الثالثة لثورة نوفمبر * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: هذه ذكرى ثلاثة أحوال مرّت على جهاد إخوانكم الجزائريين، وثورتهم على العتوّ الفرنسي ثورة قوّضت أركانه، وأتت بنيانه من القواعد، وجلبت عليه الوبال والخبال، وستنتهي- في رجاء كرأي العين- بتحرير دينهم، وعروبتهم، وأعراضهم ورقابهم من قبضته، فبهذا اليوم سلخت الثورة ثلاث سنوات كل أيامها غرّ محجلة، وكل لياليها كليلة القدر مقدسة مبجّلة، وكل وقائعها انتصارات للفئة القليلة على الفئة الكثيرة مسجّلة، وكل نتائجها ثمرات من الوعد بنصر الله معجلة. فتعالوا بنا في هذا المشهد، وأخبار النصر متوالية، وأصوات البشائر بقرب ساعة الفتح العزيز متعالية، نرسل إلى أولئك المجاهدين الأبطال تحيات زكية، تخالطها نفحات مسكية، تحملها عنا أمواج الأثير لا نسمات الصبا، ودعوات للولي الحميد بالنصر والتأييد، تطير بها أجنحة الإنابة، إلى مشارف الإجابة، نزجيها إمدادًا كالغيث في وقت الحاجة إليه، ونعدها إن لم تسعد الحال إسعادًا بالقلوب، إلى أولئك الأبطال الذين كتبوا بدمائهم الصفحات الأخيرة من تاريخ ذلك الشمال الملتحم الأجزاء، كما كتب أسلافهم الأولون أمثال عقبة والمهاجر وطارق الصفحات الأولى منه، ولا عجب فهؤلاء الأبطال متصلون بتلك الأنساب، متحدرون من تلك الأصلاب، ففيهم من الخصائص النفسية الموروثة ما ترون من آثار، وتسمعون من أخبار، ولا ترتابوا في أن هذا من ذاك. ...

_ * كلمة الشيخ في إذاعة القاهرة يوم 1 نوفمبر 1957، بمناسبة الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة التحريرية.

نحييكم- أيها المجاهدون الأبطال- عنا وعن جميع إخوانكم الذين أظلهم الإسلام معكم بلوائه، ولفّتهم العروبة معكم في ملاءتها، تحية المعجب بمشاهدكم في سبيل الله وفي سبيل نصرة دينه، وبمواقفكم التي بيضتم بها وجه كل مسلم وكل عربي، وبالأمثال الشوارد التي ضربتموها في البطولة والشجاعة، وبالسُّنَن التي سننتموها للمسلمين والعرب في الاستخفاف بالموت في سبيل الحياة، وفي الصبر والثبات والثقة بالله ثم بالنفس، وبالأعمال الخارقة التي ظهرت على أيديكم مقرونة بالتحدي للظلم وأشياعه، والطغيان وأتباعه، فليت شعري هل تدرون أنكم أحييتم بأعمالكم طارقًا في الأولين، وصلاح الدين في الآخرين، بعد أن لم يبق لنا منهما إلا الاسم ... نلوكه بألسنتنا ونتيمّن بإطلاقه على أبنائنا. من كان يظن أن ثورتكم تبلغ إلى هذا الحدّ من القوّة والصولة، ومن الجلالة والروعة، لو جرت الأمور على قواعد مذهب عبّاد المادة: شعب مفكّك الأوصال، مجرّد- إلى درجة العري- من كل ما يسمّى نظامًا وقوّة، وقد سلبه اللصوص كل شيء من أسباب القوّة المادية، يثور في وجه دولة من أقوى دول العالم بجيوشها وأسلحتها، ومصانعها، ووسائل القوّة فيها، ثورة تذهلها عن نفسها، وتذهب بصوابها، وتبتليها بحالة من الفوضى والاضطراب لا يوجد لها نظير بين المغلوبين في الحروب ذات القوى المتكافئة، ثم تنتهي بعد ثلاث سنوات إلى إفلاسها في الرأي والمال معًا، وإن الإفلاس في الرأي لشر من الإفلاس في المال. إن هذا لغريب في أذواق المفتونين بالقوة المادية، أما المجاهدون من عرب الجزائر فإنهم يبنون أمرهم على غير هذا الأساس، يبنون أمرهم على سموّ المعاني التي يقاتلون من أجلها، وأنهم على الحق، وأن عدوّهم على الباطل، ذلك لأنهم قوم جدّدوا صلتهم بالله ناصر المستضعفين، وقامع العتاة، فجدّد الله معهم عوائد نصره، وغيّروا ما بأنفسهم من استكانة ورضى بالدون والدنية، فغيّر الله ما بهم تثبيتًا لعهده، وإنجازًا لوعده، وقد وخزتْهم عقيدة الإيمان والحق من كل جانب، فقارعوا عدوّهم بهما، فأوبقته جَرائِرُه وخذلته قواه، ولم تغنِ عنه آماله الغرّارة ولا جيوشه الجرّارة شيئًا، فهو يتخبّط في حِبالةٍ يتعذّر الخلاص منها. أيها الإخوان: إن الفرنسيين- ومن ورائهم الدول الغربية المستعمرة كلها- ليعلمون هذا كله، يعلمون منزلتنا في الروحيات، ومدى تأثير الروحيات فينا، ويعلمون أننا قوم نُصِرَ أوائلنا بالقوّة الروحية، وما تستتبعه من عقيدة وإيمان، فملكوا الدنيا، وسادوا الكون، وأن أواخرنا سيجرون على ذلك العرق، فلم يزالوا بنا حتى أزاغونا عن ذلك الأصل، فتمارينا وتشككنا، ثم ضعفنا وتفكّكنا، فوكلنا الله إلى أنفسنا، فما يبالي في أي واد هلكنا، وبهذه السياسة ساستنا فرنسا من يوم احتلت أرضنا إلى الآن. فبعد أن جرّدتنا من الدنيا وأسباب القوّة فيها،

تدسست إلى مكامن الإيمان والعقيدة من نفوسنا لتطفئ تلك الشعلة الإلهية فيها، وتجتث أصل الإيمان منها، ولكن الأعراق الأصيلة في الإيمان تظاهرها الأعراق الأصيلة في العروبة والصلابة الفطرية، هتفت بأولئك الدساسين: أن قفوا مكانكم ولا كرامة ... وقد يئسوا بعد قرن وربع قرن من تأثير تلك الدسائس، وكانت العاقبة أن وقع ما كانوا يتوقعونه، وها هي ذي الثورة المضطرمة في الجزائر تبيد خضراءهم، ويأكل ضعفها قوّتهم، وتجيئهم كل يوم بما لا يحتسبون، وتستنزف من مواردهم ما يعجز العادّون عن عدّه ... أيها الإخوان: أُخِذَ هذا الشرق المسكين أخذة السحر بعلوم فرنسا وفنونها، وقوّتها وحضارتها، وجمال أرضها حتى أصبح يفتخر بلغتها وآدابها، وينعتها بأنها أم الحرية، ومنارة العرفان، وحارسة العدل الإنساني. أما الجزائري فإن هذه الرقى لم تستهوه مهما جوّدت أبواق الدعاية نغماتها، وما أفاق بعض الشرقيين من ذلك التخدير إلا عند احتلال فرنسا لسوريا وارتكابها الموبقات التي لا يهتدي إليها الشيطان، ثم انكشف الغطاء، وظهرت فرنسا على حقيقتها الكاملة في الاعتداء الثلاثي على مصر، وما عهده ببعيد، فإذا هي مجموعة فضائح عريانة لا تتستّر بجلباب، ولا تتوارى بحجاب. أيها الإخوان: إن فرنسا لم تزل في المنزلة التي خلقها الله عليها، وهي دركة الإنسانية القريبة من الحيوانية في الحد الفاصل بينهما، وآية ذلك أننا نقرأ في تاريخ الاحتلال الفرنسي لأرضنا تفاصيل الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجيش الفرنسي مع الشعب الجزائري وصنوف التعذيب والتحريق للأحياء، وكيف كان أولئك المساكين يأوون إلى الكهوف الجبلية يعتصمون بها من الموت هم وأطفالهم ونساؤهم وما يملكون من حيوانات فيأتي الجنود الفرنسيون بأوامر من قادتهم فيسدّون منافذ الكهوف بالحطب ويضرمون فيها النار حتى يموت كل حي في الكهف احتراقًا أو اختناقًا، موتًا قاسيًا بطيئًا يذوقون في كل دقيقة لونًا منه، ويحرمونهم من الموت الوحيّ المريح، ونراهم يفتخرون بهذه الأعمال، ويسجّلونها في كتبهم ورسائلهم، وها هم أولاء بعد قرن ورُبُع قرن، وبعد أن تبدلت العقول، وفعل الزمان فعله في النفوس فبدل الشراسة لينًا والقسوة رحمة، ها هم أولاء يتفننون في أساليب التعذيب للمدنيين الجزائريين، فيقتلون الأطفال والنساء والعجزة والقعدة وعلماء الدين بأساليب وحشية من سمل للعيون، وامْتِلاخٍ للأظافر، وتمزيق لأوصال الأحياء، وما يخجل الشيطان ويأنف من تسويله والإغراء به، فكأن العالم كله تحوّل، والعقليات كلها تطوّرت، إلا الفرنسي، والعقلية الفرنسية فإنهما متحجران ثابتان في محلهما.

أيها الفرنسيون: ماذا أبقيتم من المخزيات؟ انتهكتم الأعراض، وقتلتم الصبيان والنساء والشيوخ، ورجال الدين حقدًا على الدين، قتلتموهم في المساجد، وفي أوقات الصلوات، وهم بين يدي الله، فهل تطمعون بعد الذي وقع منكم أن يجمعكم مع الجزائريين سقف واحد؟ هيهات لقد وصل الحقد بكم إلى حد يضل معه كل رأي. إنكم لم تتركوا موضعًا للرحمة في قلب المسلم إلا لطختموه بمخزية. هما حالتان:- بعد أن وقع منكم ما وقع - إما أن يفنى الجزائريون عن آخرهم، وإما أن ترتحلوا غير مأسوف عليكم. أما أنتم- أيها الإخوة المستمعون- فخذوا العبر من المبتدإ إلى الخبر من هذه الثورة التي هي الغرّة اللائحة في تاريخ الثورات، ولا تقفوا عند مظاهرها فيكون حظكم من الإعجاب بالبطولة الخارقة لأحكام العادات، والتمدح بالصمود للعدوّ والإنكاء في العدوّ فتضل عنكم وجوه الاعتبار، وكم أضعنا بهذه السطحية فوائد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدين في شعر أحمد شوقي

الدين في شعر أحمد شوقي * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: هاج عليّ عرق النسا، فلم يؤلمني منه إلا أنه فوّت عليّ الحضور بنفسي لإسماع المستجيبين لدعوة شوقي ما أحفظه من شعره في الموضوع الذي خصّصه لي الأخ الكريم الأستاذ الجليل مسجّل الفضائل الإسلامية والأمجاد العربية الشيخ أحمد الشرباصي وهو "الدين في شعر شوقي"، وإذا فاتني ذلك الخير فلا يفوتني أن أبعث إليكم بهذه الكلمة التي كتبتها في اللحظة الأخيرة متلفعة بملاءة من خجل التقصير في حقكم وحق شوقي، وإن لكم عليّ لحقًا أوجبه وفاؤكم لشوقي حين قلّ الأوفياء له حتى كاد ينسى ويُجفى، وإن لشوقي عليّ لحقًّا أوجبته على نفسي حين غاليت بقيمته في شعراء العربية غابرهم وحاضرهم، وسلام عليكم في الأوفياء. الدين في شعر شوقي: ونعني بالدين هنا ما هو أعمّ من الإسلام. فإن شوقي تغنّى بكل دين استحدث خلقًا أو ثبت فضيلة إنسانية أو زرع محبة بين الناس، أو أنشأ حضارة أو زاد فيها أو ولد فنًّا، أو كان إرهاصًا بدين أكمل. لا يبالي أكان ذلك الدين سماويًا أو من مواضعات البشر. وشوقي يرى- في ما يفهم من شعره- أنه ما من نفس منفوسة إلا وهي منطوية على دين يسيرها في الحياة ويحدّد لها نهجها. وأن جميع هذه النفوس مؤمنة بالله طالبة الوصول إليه وإنما اختلفت بها الطرق المؤدّية إليه فتعثّرت، وطلاب الغايات المكانية كثيرًا ما يتعثّرون فتكون العثرات عائقة عن الوصول فكيف بطلاب الغايات الروحية، ولا مفرّ من

_ * كلمة أُلقيت نيابة عن الشيخ في الحفل الذي أُقيم بجمعية الشبّان المسلمين بالقاهرة في فبراير 1955، ونشرت في مجلة "الشبّان المسلمين" عددَي مارس وأفريل 1955.

ضلال في هذه المسالك ما لم يكن لها دليل سماوي، وكذلك لبث البشر أحقابًا يتخبطون إلى أن أذن الله بفتح باب الوحي. وشوقي يلمس في مناحيه الفكرية آراء ومنازع صوفية للقدماء ويكسوها حللًا شعرية تذهل بروعتها عن تعرف حقيقة رأيه ويغطي الافتتان بالصور الشعرية على التفكير في أصل الرأيين فضلًا عن الفروق والجوامع بينهما، ولشعر شوقي في بعض المواقف إشراق كإشراق البرق، يبهر فيخفي فيه ما يكاد يظهر. يقول شوقي في حالة البشر قبل بعثة الأنبياء: رَبِّ شقت العباد أزمانَ لاكُتْـ … ـبٌ بها يُهتدى ولا أنبياءُ ذهبوا في الهوى مذاهب شتّى … جمعتها الحقيقة الزهراء فإذا لقّبوا قوّيًا إلها … فله بالقوى إليك انتهاء وإذا آثروا جميلًا بِتَنْزِيـ … ـهٍ فإن الجمال منك حباء وإذا أنشأوا التماثيل غرًّا … فإليك الرموز والإيماء وإذا قدروا الكواكب أربا … بًا فمنك السنا ومنك السناء وإذا ألهوا النبات فمن آ … ثار نعماك حسنه والنماء وإذا يمّموا الجبال سجودًا … فالمراد الجلالة الشماء وإذا يُعبد الملوك فإن الـ … ـملك فضل تحبو به من تشاء وإذا تعبد البحار مع الأسماك … والعاصفات والأنواء وسباع السماء والأرض والأر … حام والأمهات والآباء لعلاك المذكرات عبيد … خضع والمؤنّثات اماء جمع الخلق والفضيلة سرّ … شفّ عنه الحجاب فهو ضياء ويقول: ربّ هذي عقولنا في صباها … نالها الخوف واستباها الرجاء فعشقناك قبل أن تأتي الرُّسْـ … ـل وقامت بحبك الأعضاء ووصلنا السرى فلولا ظلام الـ … ـجهل لم يخْطنا إليك اهتداء وشوقي يحضّ أهل الأديان جميعًا على التسامح، ويشدّد النكير على من يتخذونها أداة للتنازع والاختلاف، ويقول إنها كلها لله، وإن لم تكن كلها من الله، وما دامت كلها لله فهي رحم جامعة. ومن البرّ بهذه الرحم والرعاية لهذا النسب أن لا نتعادى فيها، ونفس شوقي ينبوع متدفق بالرحمة والحنان قبل أن تكون ينبوعًا متدفّقًا بهذه الروائع من الحكمة والبيان، وإنه لأصدق صادق حين يقول:

خلقت كأنني (عيسى)، حرام … على قلبي الضغينة والشمات وحين يقول: ولا بِتُّ إلا كابن مريم مشفقا … على حُسَّدي مستغفرًا لعداتي ولإغراق شوقي في الدعوة إلى التسامح سبب آخر وهو أن الدعوة العثمانية التي هي ليلاه ومناط هواه، ومَعْقِد رجائه في إعزاز الإسلام كانت راعية للأديان الثلاثة، وتحت لوائها طوائف من اليهود والمسيحيين، فكان يخشى أن تتخذ منهم أوروبا ذريعة للتشويش على هذه الدولة الإسلامية، وكذلك كانت الحال في مصر، فكان يوجّه دعواته البليغة في أسلوبه الشعري المؤثّر للمسلمين والأقباط أن لا يتخذوا من اختلاف الدين سببًا للشقاق فيطمع الذين في قلوبهم مرض في توسيع شقة الخلاف. يقول في مرثية بطرس غالي: نُعلي تعاليم المسيح لأجلهم … ويوقرون لأجلنا الإسلاما الدين للديّان جلَّ جلاله … لو شاء ربّك وحّد الأقواما يا قوم بان الرشد فاقصوا ما جرى … وخذوا الحقيقة وانبذوا الأوهاما هذي ربوعكم وتلك ربوعنا … متقابلين تعالج الأياما هذي قبوركم وتلك قبورنا … متجاورين جماجمًا وعظاما فبحرمة الموتى وواجب حقهم … عيشوا كما يقضي الجوار كراما ويقول: إنما نحن مسلمين وقبطا … أمة وُحِّدَتْ على الأجيال سبق النيل بالأبوّة فينا … فهو أصل وآدم الجَدُّ تَالي ويقول وهو من المبالغات التي لا تخلو من مؤاخذة: جعلنا مصر ملّة ذي الجلال … وآلفنا الصليب على الهلال وأقبلنا كصف من عوال … يَشُدُّ السمهري السمهريا أما تمجيد الإسلام فلا نعرف شاعرًا عربيًّا قبل شوقي مجد الإسلام وجلا فضائله ومحاسنه كما مجّد وجلا شوقي، ولا نعرف شاعرًا بعد شرف الدين البوصيري دافع عن حقيقة الإسلام كما دافع شوقي، وإذا كان البوصيري نظم لامية الإسلام بعد لاميّتيْ العرب والعجم وقال في دين محمد وكتابه: الله أكبر إن دين محمد … وكتابه أقوى وأقوم قيلا

ثم ضرب له ذلك المثال الشرود في قوله: لا تذكر الكتب السوالف عنده … طلع الصباح فأَطْفِئ القنديلا فإن شوقي أتى في مدائحه وسائر شعره بالأعاجيب وضرب العشرات من الأمثال الشوارد، وأعانه على ذلك معارف عصره وعجائب العلم في عصره، وامتداد التاريخ بخيره وشرّه في ما بين عصر البوصيري وعصره، وتداعي الأمم على المسلمين تداعي الأكلة على القصاع، فكل ذلك أرهف إحساس شوقي وهاج شاعريته وأثار أشجانه، فهبّ يدافع عن الإسلام ويجهّز من شعره الكتائب لا الكتب. إن شعر شوقي في الأفق الذي تستقرّ فيه الحكمة مجاورة للبيان، والذي يشارف السدرة التي لا مطمع في الوصول إليها لأحد، ولا يحلق إليها ولو بجناح لبد، فلا يستفيد منه إلا الذي يقرأه بالتدبر والاهتمام وتصفية الذهن، وعند ذلك يعلم أية براعة أوتيها هذا الرجل، وأية قسمة من إشراق الذهن وجبروت العقل رزقها في هذه الحملة التي أعدّه الله لقيادتها في نصرة هذا الدين. وفي أثناء ذلك تجد الغرائب من عرض سماحة الإسلام وخصائصه، وجمعه بين القوة والرحمة، وبنائه على العدل والإحسان وتجاريبه الناجحة في هداية البشر وفي بناء الحضارة وفي إمامة العلم، وفي قيادة العقل، ثم يدسّ في تضاعيف ذلك دعوات عامة إلى التسامح تجري في النفوس جريان الماء، لأنه يعلم أن قومه مغلوبون على أمرهم لا يقدرون على الانتصاف لأنفسهم، فهو يقرعهم على ذلك ويدعوهم إلى الاتحاد ونفض غبار القرون والأخذ بأسباب القوّة، وان لهم في كل مكرمة إمامًا وما عليهم إلا أن يتّحِدُوا، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من هذه الفنون، يخرج إليها من عمود القصيدة ولو كانت في الرثاء أو في الأغراض البعيدة، حتى قال بعض ناقديه: إن شعره خال من وحدة القصيدة. أيها الإخوان: والتديّن أثر الدين في النفس أو ممارسة شعائره بالجوارح وليس من موضوعنا المحدّد البحث عن تديّن شوقي بمعنى إقامته لرسوم الدين وشعائره، لأننا في شغل شاغل عن ذلك بهذا الفيض المدرار الذي يفيض به شعر شوقي في التغالي بالإسلام وتاريخه وأمجاده، وبهذا الإيمان القوي بالله وقضائه، وبهذا التصوير لبدائع مصنوعاته، وبهذا الترديد اللذيذ للقرآن والحضّ على التمّسك به، وبهذا التكرار الحلو للمقدّسات الإسلامية من ملائكة وأنبياء وصحابة وأماكن وأيام، فيغشى في شعره ذكر الله وجبريل ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وعمر وخالد ومكة والمدينة وبدر والقدس، وأسماء كثيرة لبناة المجد الإسلامي والعربي يكرّرها فلا تملّ، ويصفها في أماكنها فلا تختلّ، ويسمها بسيمائها ويصفها بخصائصها،

ويجلّي موضوع العبرة فيها والقدوة بها، فتتألف من ذلك كله في عامة شعره صور بديعة تأخذ النفس أخذة السحر وتفضي به إلى الاعتبار ثم الاقتداء. وشيء آخر يدلّ دلالة واضحة على إيمان شوقي بما يقول في ذلك وهو أن مما يثقل ميزان الممدوح أو المرثي في حكم شوقي أن يكون مقيمًا لدينه كما يريد الله، حتى الدولة العثمانية لم يفرغ عليها تلك الحلل الخالدة إلا لأنها تخدم الإسلام وتؤمّل لإعزازه. يقول شوقي في رثاء حسين شيرين: أبدًا يراه الله في غلس الدجى … في صحن مسجده وحول كتابه ويقول في تعزية لأهل دمياط: بني دمياط ما شيء بباق … سوى الفرد الذي احتكر البقاء تعالى الله لا يبقى سواه … إذا وردت بريته الفناء وأنتم أهل إيمان وتقوى … فهل تلقون بالعتب القضاء ملأتم من بيوت الله أرضا … ومن داعي البكور لها سماء ولا تستقبلون الفجر إلا … على قدم الصلاة إذا أضاء ويقول في وصاياه الخالدة للأجيال: ويا جيل الأمير إذا نشأتا … وشاء الجد أن تعطى وشئتا فخذ سبلًا إلى العلياء شتى … وخلّ دليلك الدين القويما وضِنَّ به فإن الخير فيه … وخذه من الكتاب وما يليه ولا تأخذه من شفتي فقيه … ولا تهجر مع الدين العلوما وصل صلاة من يرجو ويخشى … وقبل الصوم صم عن كل فحشا ولا تحسب بأن الله يُرشى … وأن مزكّيًا أمن الجحيما ويقول في بعض تلك الوصايا: يا مديم الصوم في الشهرالكريم … صم عن الغيبة يومًا والنَّمِيمْ وإذا صلّيت خف مَن تَعْبُدُ … كم مصلّ ضج منه المسجد واجعل الحج إلى أم القرى … غِبَّ حج لبجوت الفقرا وتسمح وتوسع في الزكاة … إنها محبوبة عند الإله فرض البِرَّ بها فَرْضَ حكيمْ … فإذا ما زدت فالله كريم

وفي هذه القطع منازع لطيفة في فقه الدين تدلّ على ما لشوقي- رحمه الله- من رسوخ في فهم حقيقة الدين ومعنى التديّن. ويقول في مناجاة شعرية لربّه هي ثمرة كمال إيمانه وخوفه منه: وياربّ هل تُغني عن العبدحَجَّةٌ … وفي العمر ما فيه من الهفوات وتشهد ما آذيت نفسًا ولم أضر … ولم أبغِ في جهري ولا خطراتي ولا غلبتني شقوة أو سعادة … على حكمة آتيتني وأناةِ ولا جال إلّا الخير بين سرائري … لدى سدّة خيرية الرّغَباتِ ولا بتّ إلا كابن مريم مشفقا … على حُسَّدِي مستغفرًا لعداتي ولا حُمِّلَتْ نَفْسٌ هوى لبلادها … كنفسي في فعلي وفي نَفَثاتي وإني ولا مَنٌّ عليك بطاعة … أجل وأغلي في الفروض زكاتي أبالغ فيها وهي عدل ورحمة … ويتركها النساك في الخلوات وأنت ولي العفو فامْحُ بناصع … من الصفح ما سوَّدْتُ من صفحاتي ويقول في الشيخ جاويش وأعماله للإسلام: يقولون ما لأبي ناصر … وللترك، ما شأنه والهنودْ؟ وفيمَ تحمل هَمَّ القريب … من المسلمين وهم البعيد فقلت وما ضرّكم أن يقوم … من المسلمين إمام رشيد أتستكثرون لهم واحدًا … وليّ القديم نصير الجديد سعى ليؤلف بين القلوب … فلم يَعْدُ هديَ الكتاب المجيد يشدّ عُرَا الدين في داره … ويدعو إلى الله أهل الجحود وللقوم حتى وراء القفار … دعاة تغني ورُسْلٌ تشيد وهو يشير بهذا البيت إلى ما يبذله المبشّرون في سبيل دينهم: ... أما توحيد الله والإيمان بقضائه وقدره وغيبه وبعثه ونشوره فإن دارس شعر شوقي يستفيد منه ما لا يستفيده من كتب الكلام الجافة بأنواع من الاستدلال الوجداني فتدخل النفوس من أيسر طريق وتتغلغل إلى مكامن اليقين فيها، فتنتهي بها إلى غاية الغايات من الإيمان الصحيح. يقول في الروح: الروح للرحمن جلّ جلاله … هي من ضنائن علمه وغيابه

ويقول في مشكلة القضاء: القضاء معضلةٌ … لم يَحُلَّها أَحَدُ كلما نقضْتَ لها … عقدة بدت عقد أتعبت معالجها … واستراح مُعْتَقِد ويقول في تولستوي: طوانا الذي يطوي السموات في غد … وينشر بعد الطي وهو قدير ويقول في رثاء صديق: فَعَليَّ حِفْظُ العهد حتى نلتقي … وعليك أن ترعاه حتى نحشرا ... ومن دلائل إيمانه القوي بالله ورسوله ومحبته لهما محبة ملكت شعوره، تلك المدائح النبوية التي أرى أنّه تفوّق فيها على السابقين الأولين، وبذ فيها السوابق القرح من المجيدين في هذا الباب الذي لم يُجِدْ فيه قبله إلا اثنان أو ثلاثة في تاريخ الملة الإسلامية. وإنّ في مدائح شوقي أنواعًا من الحكم، وأصنافًا من العلم وأمثالًا مضروبة ونصائح ومذكرات لا توجد في مدائح غير شوقي، وبلغ من اعتزاز شوقي بمدائحه أن يقول في قرية صديق له: قد كان شعري شغل نفسك فافترح … من كل جائلة على الأفواهِ فاقرأ على "حسّان" منه لعله … بفتاه في مدح الرسول مُباهِ أيها الإخوان: يؤخذ على شوقي أنه مع جلالته في الإيمان ومتانة العقيدة يطغى عليه الجبروت الشعري فيقع في هفوات تدخل في باب الإغراق والغلوّ أو في باب التساهل والاستخفاف. وقد سبقه إلى الوقوع في أمثالها من فحول الشعراء ابن هانئ الأندلسي والمتنبي والرضي من غير إكثار. ولعمري إن بعض ما وقع لشوقي من ذلك يجاوز حدود التأول، لا لأن موقع هذه الأشياء التي تساهل فيها شوقي في باب التوفيقيات، وللتوفيقيات في الإسلام آداب مخصوصة وموارد منصوصة لا يستمح فيها، ولا يشفع فيها العذر والتأويل. من هذه المبالغات قوله: وجه الكنانة ليس يُغضِب ربَّكم … أن تجعلوه كوجهه معبودا ولّوا إليه في الدروس وجوهكم … وإذا فرغتم واعبدوه هجودا

وقوله: جعلنا مصر ملّة ذي الجلال … وآلفنا الصليب على الهلال وقوله في مهرجان: مهرجان طوّف الهادي به … ومشى بين يديه جبرئيل وقوله لأم الخديوي عباس: وقفي الهودج فينا ساعة نتناوب نحن والروح الأمين وقوله لعباس حلمي: يُحَيّيكَ (طه) في مضاجع طهره … ويعلم ما عالجت من عقبات وقوله في نفس ميتة: نُجِلُّ سِتْرَ نعشها … كالكسوة المسيره وننشق الجنة من … أعواده المُنَضَّره وقوله في جورجي زيدان: ولا يزل في نفوس القارئين له … كرامة الصحف الأولى على التالي وقوله في تلامذة ماتوا في حادث اصطدام: توابيت في الأعناق تترى زكية … كتابوت موسى في مناكب إسْرالِ وقوله في أمين الرافعي: تنشد الناس في القضية لَحْنًا … كالحواري رَتَّلَ الإنجيلا وقوله في مرثية الشريف حسين: اغسلوه بطيب من وَضُوء الرُّ … سلِ كالورد في رباه البواسم وخذوا من وسادهم في المصلّى … رقعةً كفنوا بها فرع هاشم واستعيروا لنعشه من ذُرَى المِنْـ … ـَرِ عُودًا ومن شريف القوائم واحملوه على البراق إن استطعـ … ـتُمْ فقد جَلَّ عن ظهور الرواسم وأديروا إلى العتيق حسينا … يبتهل ركنه وتدع الدعائم وقوله في جرح سعد زغلول: منايا أبى الله إذ ساورتك … فلم يَلْقَ نابيه ثعبانها

لغة الشاعر

حوت دمك الأرض في أنفها … زكيًا كأنك عثمانها ورقت لآثاره في القميص … كأن قميصك قرآنها وغير هذا في شعره كثير، وإنها لهنات، نرجو أن تكون في مقابل إحسان شوقي وفي جانب عفو الله هينات. لغة الشاعر: والذي لا يشك فيه قارئ شوقي أن لغته متأثرة بالدين إلى أبعد غايات التأثّر، صادقة في شعورها بوحدانية الله وعظمته وكماله، وبالافتقار إليه والخوف منه (1).

_ 1) كأنّ الشيخ بدأ فصلًا عن لغة شوقي ولم يكمله.

حرية الأديب وحمايتها

حرية الأديب وحمايتها * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها السادة، يا أدباء العربية، يا أبناء العروبة: أحييكم تحية العروبة المؤمنة المجاهدة، فسلام عليكم ورحمته وبركاته، سلام عليكم في بلدكم وبلدنا وبلد كل عربي وكل مسلم: سلام عليكم في مصر حصن العربية، ومعقل الأدب، ومنتجع الأدباء والشعراء منذ أجيال وأجيال ... وآمل أن يسفر هذا المؤتمر عن نتائج وحقائق وخطط نزكي بها عروبتنا ونعزّز بها وحدتنا، ونُنهض بها أدبنا، ونسمو بها إلى الأفق المرجوّ، ونقرب بها ثمار الغد المأمول ... والأدب أيها السادة هو الوشيجة القوية والوثيقة الباقية التي لم تنقطع طوال القرون وعبر الأزمان ... فهذه هي الأيام تطوي الدول، وتقرب البعيد، أو تبعد القريب، وتقطع هذا السبب أو ذاك من علاقات الأفراد أو روابط الجماعات، ويبقى اللسان العربي والبيان العربي والشعر العربي رسلًا صادقين وروابط قوية بين أبناء العروبة كلهم ... نعم، يبقى الأدب العربي رباطًا يجمع العرب مهما اختلفوا أو تفرّقوا في ميادين أخرى بطارئ من طوارئ الهم، أو لون من ألوان الاختلاف في الهمم ... يبقى الأدب يصوّر الخواطر، ويأسو الجراح، ويؤلّف بين الألسنة والقلوب حتى تتصافح الأيدي، ويعود البناء كما كان، أبيًّا لا ينال، قوّيًا لا يلين. ولربّ خاطرة لكاتب أو همسة لشاعر، أحيت رممًا، وبعثت دارسًا، وردّت ذاهبًا وفجّرت الينابيع في صم الصخور ...

_ * كلمة الشيخ في المؤتمر الثالث للأدباء العرب، 9 - 10 ديسمبر 1957، القاهرة. ونُشرت الكلمة في كتاب "مؤتمر أدباء العرب" (مطبعة مصر، 1958).

والأديب إنما يكون أديبًا بحق حين يكون أمين القلم صادق البيان ينقل إحساسه إلى قارئه في عمق وصدق، فلغة الأدب وحدها هي الترجمان الأمين لعواطف هذه الشعوب، واللسان المبين الذي يعرض خلجاتها، ويفصح عن آمالها وآلامها، والأديب لا يعرف الاقليمية ولا الحدود، ما دام صادقًا في التعبير عن حاجات قارئيه، نابعًا عن بيئتهم، تتمثّل فيه خصائصها الإنسانية، ولا تنكسر أمواجه عند خطوط الوهم الجغرافي، أو رسوم الحد السياسي. إنه كالنسيم يحمل العبير أينما سار، يصعد في ذروة الجبل وينثال إلى عمق الغور، وينساب على صفحات الوادي ... إنه ينطلق أبدًا، ويسعد الناس بشذاه، ولا يبالون من أي روض نشر ولا أي سبيل عبر، ما داموا يعرفون في عطره أشذاء روضهم ويحسون في تياره فوران إحساسهم ويرون فيه أنفسهم جادين أو هازلين، ضاحكين أو واجمين، فنحن نسعد بالعمل الأدبي كما نحسد في أنفسنا من ارتبط به ارتباط المتمني بالأمل الحلو، أو ارتباط الحي بواقعه سعيدًا أو أليمًا، أو ارتباط المرء بماضيه وذكرياته. من أجل ذلك نهتز له ونحسّ دبيب الإعجاب في أعماقنا بالأثر الأدبي الذي يصوّر لنا أملًا مرجوًّا، أو جانبًا من حاضرنا، أو صفحة من ماضينا وأمجادنا ومُثلنا، لأننا جزء من كل ذلك، أو كل ذلك جزء منا. فالأدب هو خلاصة التجارب الإنسانية والثقافة البشرية خلال الأجيال، وهو رباط لا ينفك بين الناطقين بلغته والعارفين بلسانه ... وقضية القومية العربية تستمد أقوى حججها من واقع الأدب العربي وسلطانه، ووحدة الأمّة العربية تتمثّل في وحدة هذا الأدب بصورة عملية ... وقضية القومية العربية ليست ميدان سلاح أو حرب، وإنما هي ميدان عقل وفكر، والأديب في ميدان الفكر كالقائد بين يدي المعركة يوجّهها بخبرته ويديرها بحكمته، ويقودها بمواهبه ومعرفته، إلى النصر المبين. وعندي أن المواهب والإمكانيات المادية عنصران لازمان للنجاح، متلازمان في سبيل النصر، ونحن العرب في نهضتنا الحاضرة لا بدّ لنا من أن نهيّئ للمواهب ما ترتفع بأزره من إمكانيات مادية، وتحمي هذه القوى الدافعة الدافقة في كياننا من الخمود والنضوب. ولقد عرفتم في تراثنا العربي من جاهلية التليد، وإسلامية الوضاء المشرق على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء ومن بعدهم ... عرفتم في كل ذلك دور الأدب بألوانه في توجيه الدولة وبناء المجتمع وتحديد الطابع المميّز له، وتثبيت المُثل التي يحتشد عليها أفراد المجتمع وفصائله ...

فحمل إلينا الأدب صورة المجتمع الجاهلي وضراوته، وصورة العهد الإسلامي وانتفاضته والدولة الأموية وقوميتها، والدولة العباسية ومدنيتها، وهكذا نجد الأدب في كل العصور والدول مشرقية ومغربية ... نجده أداة بنائية، ووسيلة حيوية ضرورية في كيان المجتمعات ... ولقد أدرك هذه الحقيقة السابقون من قومنا فحاطوا الأدب والأديب بالحماية والرعاية ومهّدوا للأديب أن يخلص لفنه ويخلص فنه له ... عرفنا ذلك في أيام دمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة الرشيد والمأمون، والقاهرة عاصمة المعز وصلاح الدين، وفي المغرب على عهد حكوماته العربية الخالصة ... ورثنا نحن كل هذه المآثر التي شهد لها العالمون، ودان لعظمتها الأوائل والأواخر ... وأول ما يجب أن نحمي منه الأديب والأدب هو تلك العواصف التي تطفئ جذوته وتمسخ نوره ورونقه، وتمسّه بالعوز والكدية والصعلكة، فلا بدّ أن نبذل للأديب من رحابة الحياة وشر العيش ما يجعله معتدل الحس رضيّ النفس، صادق التعبير، غير ضجر بضيقه وعسره ... إلى متى تظل تلك الأسطورة المشهورة ملصقة بالأديب والأدباء ... أعني الأسطورة التي تحكي أن الفقر أول سمات الأديب؟ ... إلى متى نظل نؤمن بالفقر الملهم والجوع العبقري، والبؤس الموحي ... إلى آخر ما هناك من رواسم يردّدونها بلا معنى أو ثمرة؟ ... إلى متى يظل الأدباء منكورين في حياتهم، فإذا ماتوا عدنا نذرف عليهم الدموع، وننشر فوقهم العطر السجين والنور المخنوق، ونتذكر- بعد الموت فقط- أن لهم أفضالًا وأمجادًا، وأن علينا حيالهم واجبات ثقالًا؟ ولئن كان في عصرنا أدباء عرف المجد الاجتماعي سبيله إليهم، ونزل الرخاء ببابهم، فعاشوا في مهاد رافه، ونعيم باذخ، إن هؤلاء لا يجاوزون في الشرق العربي أن يكونوا آحادًا لا يشكلون بمكانتهم ولا بعددهم وضعًا عامًّا. ولست أريد بذلك أن نقطع للأدباء الإقطاعيات، أو نقيم لهم التكايا، فقد درست تلك الأساليب وبارت، وإنما يدور حديثي حول تقدير الأثر الأدبي في حياته وتقييم الأدب تقييمًا عمليًّا لا نظريًّا، ولا عاطفيًّا فقط، فلن يقتات الأديب عاطفة مهما سمت ولا مدحًا مهما اتسع. وإذا كنا نريد للأديب الرخاء ورحابة العيش، حتى يفرغ لفنه، فإن الحرية الفكرية للأديب هي مداد قلمه الذي بدونه لا ينتج ولا يثمر ... لا بدّ من حماية الأديب من كل ما يزيّف فنه، ويدفعه إلى التخفي وراء الرمز والغموض ...

ومن حماية حرية الأديب أن نتجه بالنقد وجهة موضوعية فنية، ونبعد به عن تلك المهاترات التي تتأذّى بها العيون والأسماع والقلوب والعقول، فالنقد تابع للإبداع، وليس الإبداع عبدًا للنقد. وإن من حق الأديب أن نترك له الفرصة الملائمة ليجرّب ويجرّب، فالتجربة إن أثمرت كانت فتحًا جديدًا، وإلا فهي دربة وخبرة تصقل الموهبة، وتكشف حقائق الحياة. ومن حق الأديب العربي أن نحميه من تميع الشخصية وتحلّل المقوّمات، فلكل أدب طابعه ولكل أمّة نهجها ومشكلاتها الخاصة وطبيعتها المعيّنة التي تملي حلولًا معيّنة، فلا بدّ من الرجوع إلى بيئتنا وماضينا وتراثنا ومقوّمات جنسيتنا وقوميتنا، قبل أن نحاول جديدًا ... نستهدي كل أولئك، ونتعرّف الطريق من خلال تلك النظرات، حتى تجيء محاولاتنا بيئية واقعية، تتطلّبها ضرورة الحياة، وتستدعيها ظروف لها أصالة في مجتمعنا ووشائج بعروبتنا وماضينا. وأحب أن أحذّر هنا من التقليد للتقليد، ومن التجديد للتجديد، فليس كل واقع صالحًا للبقاء، حتى نقلّده ونتمسّك به؟ وليس كل جديد له هدف، أو يحقق فائدة حتى نسعى إليه ونتهافت عليه. فلتكن في طبيعتنا الإيجابية المبصرة تعرف ما لها وما عليها، وتعتز بالحقائق، وتنثني عن الأوهام. ويحلو لي أن ألمح إلى هدف استعماري خفي، ما زال حتى الآن ينهش في كياننا القومي الأدبي، وهو محاولة تمييع الشخصية العربية في الأدب بحركات تتسمّى بأسماء كثيرة، ومدلولها كلها واحد، وهدفها جميعها التشكيك في مقوّمات الأدب العربي ومحو خصائصه وهدم بنيانه من القواعد. وكما أشرت في أول الحديث: إن الأدب العربي هو الرباط الذي لم تفلح السياسات الإقليمية المفرّقة في حلّ عروته، والذي يبقى على الدهور يجمع العروبة ويوحّد آلامها وآمالها ... فإذا أفلح المستعمرون أو أذنابهم في تشكيكنا في أصالته وتحطيم خصائصه لم يعد لأدبنا هذه الذاتية القوية العارمة، وهذه الخاصية الجامعة التي يرهبها أعداؤنا، ويعملون على سحقها. فيجب أن يظل أدبنا عربيًّا في أصوله وقواعده، لا شرقيًّا ولا غربيًّا ... يجب أن يظل أدبنا عربًّا يستمد شخصيته وأهدافه من حاجاتنا الواقعية لا المفتعلة ولا المزيّفة. ولا بدّ من أن نذكر حماية حقوق الأديب في هذا المجال، فالأديب العربي لعله الوحيد في العالم الذي لا تكفل حقوق له، ولا يُحمى إنتاجه من استغلال المستغلين وسرقات المنتهبين ...

والأديب العربي هو الوحيد بين رجال الفنون من العرب الذي يغفل حقه ويهمل شأنه في الأعمال التي تشترك فيها عدة فنون كالمسرح والسينما والغناء وغيرها، فهو في الغالب أقل مكافأة وأدنى حظًا في الدعاية والإعلان، إن لم يجحد حقه في كل ذلك، مع أنه صاحب الفكرة ومبدع الهيكل الأول للعمل الفني ... ولعلّ من حماية حقوق الأديب حمايته من الدخلاء على فنه الذين يهبطون بالمستوى الرفيع إلى حضيض الابتذال، وربما كان هذا هو السبب في ضياع الأديب الحق الذي يتمسك بفنه، بينما يتاجر غيره بالإسفاف وينجح في ظلّ المعايير المختلفة والمقاييس المضطربة، وربما كان ذلك أيضًا سببًا من أسباب ضياع المكانة الاجتماعية للأدباء، بعد أن كانوا في أيام العباسيين مثلًا وزراء وأمراء لهم الصدارة والحكم بين الناس ... يجب أن نعلم أن خلاصة الثقافة والفكر تتمثّل في الإنتاج الأدبي، فلنحمِ الأديب من نفسه بأن نطالبه بعمل فني يصوّر خلاصة ثقافته وتجاربه، ولنفسح له في حياتنا العامة مكانًا من أماكن الصدارة أو التقدّم فهو بهذا جدير، ولنعلم فوق هذا أن الأدب والأدباء عنوان العصر ومرآة الجيل، وعلى لهواتهم يتردّد تاريخ الأمم والشعوب، ويظلّ وراءهم خالدًا باقيًا، فلنحرص على أن يكون لقب "الأديب" عنوانًا على ذروة الكمال النفسي والفني، ولنرتفع بهذا اللقب عن أن يتسمّى به من لا يرتفع إلى مستواه ... هيّأ الله للأمّة العربية ما تبلغ به الأوج وتحقّق به الأمل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ميلاد الجمهورية العربية المتحدة

ميلاد الجمهورية العربية المتحدة * سيادة الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، فخامة الرئيس شكري القوتلي، دمشق: هذه هي الأيام التي كنا ننتظرها ونستبطئها، وهذا هو الأمل الذي قطعنا أعمارنا فيه؛ أماني بالنهار وأحلامًا بالليل، وهذا هو الحدث الذي كان يترقبه المصلحون والهداة إلى الحق والدعاة إلى الخير، وهذا هو الرجاء الذي بقي مترددًا في لهوات الزمن إلى أن وجد الهمم التي تفلّ الحديد فأصبح حقيقة واقعة، لا يتمارى فيها إلا دخيل العرق في نسب العروبة أو مدخول العقيدة في حقيقة الدين. إن إمام المصلحين محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بدأ بتوحيد العرب على اللسان والمبادئ الخالدة، فوحّد بين جذميهم العريقين قحطان وعدنان، فكان من آثار ذلك أن سعد العرب وأسعدوا، وملكوا الكون وفتحوا العالم بعدل الإسلام، وساسوه بسماحته وبنوا على نوره حضارة لا تطاول وَحَدَوْا بأغانيه ركب الإنسانية قرونًا، إن وحدة العرب هي الأصل والقاعدة وما سواها شذوذ وانحراف، فباسم الإسلام وباسم العروبة أهنيكم بنجاح مساعيكم الصادقة في الخطوة الأولى من توحيد العرب، وإنها لأصعب الخطوات، وبهذه الوحدة التي صفّق لها العرب فجاءت وعليها جلالة الإجماع أن وحدة مصر وسوريا هي كفّارة ماحية لما اقترفه العرب من مآثم التفرّق والاختلاف، وسيكون لحاق المتخلفين بها عملًا صالحًا كله. فيا بشرى للسابقين. ثبت الله على صراط الحق أقدامكم، وأمدكم بجنود من الصبر والتوفيق هي أجدى عليكم من جميع الجنود، وأعاذكم بكلماته من شياطين الإنس والجن. محمد البشير الإبراهيمي

_ * أُرسلت هذه البرقية من القاهرة عند إعلان الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958.

جهاد الجزائر وطغيان فرنسا

جهاد الجزائر وطغيان فرنسا * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: أما الجزائر فقد أعربت عن نفسها بالأعمال الخالدة التي قامت بها ثورتها، وبالبطولات المجيدة التي قام بها شبابها الثائر، وبما أحيت من شرائع الجهاد، وبما سجلت من المواقف الخارقة للعادة من وقوف العدد القليل من أبنائها- بما يملكون من سلاح يدوي قليل لا يغني فتيلًا في مجرى العادة- في وجه جيش يفوقه أضعافًا مضاعفة في العدد والعدة والسلاح والنظام والتدريب، تسانده جميع الأسلحة العصرية الفتاكة من طائرات ودبابات، ومدافع ثقيلة ووسائل مخابرات، وقادة باشروا الحروب الاستعمارية، وقادوها في عدة ميادين في الشرق والغرب، وتمرّنوا على أساليبها ومكائدها، يستمدّون لوازم الحرب من سلاح وعتاد ومال من مصانع بلادهم وخزائنها، فلا يُرَدُّ لهم طلب ولا يتأخر عنهم إمْداد، وتعاونهم دول قوية تشفق على الاستعمار أن يتقلص ظله، كأنّ لها متعة ولذة في إذلال الشعوب الضعيفة واستعبادها، وكأن في نفسها بقية حياء تمنعها من مباشرة ذلك الإذْلال والاستعباد بنفسها، فهي لذلك تعين من يباشره بكل ما تملك من قوة. أعربت الجزائر عن نفسها بذلك كله، وأثبت التاريخ بشواهده أنها لا تحارب فرنسا وحدها، وإنما تحارب كل من يُمِدُّها بتأييد في الرأي والسياسة ويعينها بالمال والسلاح، وكفى الجزائر شرفًا أنها- مع ضعفها- تحارب هؤلاء الأعداء الأقوياء المتظاهرين فتنتصر عليهم أجمعين، وأنها مرّت بها حقبة غير قصيرة وهي تحاربهم بنفس سلاحهم الذي غنمته من الجيوش الفرنسية، وكفى أمريكا وانجلترا خزيًا وعارًا وبُعْدًا عن الإنسانية أنهما تعينان القوي على الضعيف.

_ * كلمة ألقاها الإمام يوم 15 مارس 1958م، ضمن فعاليات يوم تضامني مع الجهاد الجزائري، أقامه لفيف من الأدباء في القاهرة، وقد نشرت ضمن كتاب "مع الجزائر"، دار الهناء للطباعة والنشر، القا هرة 1958.

لم يَحْكِ الإسلام في عصوره المتوسطة والمتأخرة ولا تاريخ الثورات عن قتال كانت فيه ملامح من الجهاد الديني المؤيَّد بروح الله وأثارة من آثاره مثل ما شهد من الثورة الجزائرية، ولا عجب فالاستعمار الفرنسي في الجزائر حارب- أول ما حارب- الإسلام ومقوّماته، فكانت الثورة على الاستعمار تحمل معنى الانتصار للدين ولمساجده التي حطمها المستعمرون، وجرّدوها من معاني الإسلام وعطلوها، ومعنى النكاية في رجال الدين الذين راضهم الاستعمار على السمع والطاعة له حتى أصبحوا جواسيس له، وتنكروا لقومهم وجامعتهم، وخانوا أمانة الإسلام، ومعنى الانتصار لِأَوْقافه التي تقوم عليها شعائر الإسلام، وتتحقق مآثره وخصائصه، وتتجلى بها عدالته وإحسانه. هذا ما قامت به الجزائر وحدها في قسم الجهاد بالنفس، وهو القسم الذي عُلِمَتْ أخبارُه بالتفصيل، واستفاضت في العالمين إلى حد التواتر الذي لا يُماري فيه أحد، وبه دخلت الجزائر التاريخ من بابِه وسجلت اسمها في الخالدين، وأصبح اسمها مقرونًا بالإعجاب والإكبار، وذِكْرُ أبنائها الأبطال مقرونًا بالمدح والثناء، وأصبحت بطولتهم وشجاعتهم مضرب الأمثال وحديث الركبان، بعد أن كان اسمها في التاريخ الحديث خاملًا مغمورًا عند كثير من الشعوب التي تجمعها به كلمة الإسلام، ولقد كنت بباكستان لسِتِّ سنوات خلت، وجُلْتُ في عواصمها متحدثًا عن الجزائر ونهضتها العلمية والسياسية، فكان جمهور الحاضرين لا يعرفون اسم الجزائر فضلًا عن أوضاعها وأصالة الإسلام فيها والعروبة، وقرّاء الانجليزية منهم يعرفون عن طريق كتب الجغرافيا أن في افريقيا بلدًا اسمه "الْجِيرْيَا"، ويلتبس عليهم باسم "نيجيريا"، ويسبق إلى ألسنتهم اسم نيجيريا لخفته في النطق، فكنتُ ألقى العَنَتَ في تفهيمهم أن الجزائر وطن عربي إسلامي واسع مشهور، وأنه يشغل الوسط من شمال افريقيا، وأن جميع سكّانه مسلمون، وأنه فُتح من عهد الصحابة ... الخ. ولما قامت الثورة وطارت أخبارها كل مطار وسافرتُ إلى باكستان داعيًا لها وجدتُ جميع الألسنة الأعجمية قد ارتاضت على النطق باسم الجزائر العربية. وأما النوع الثاني من نوعَي الجهاد المادي، وهو الجهاد بالمال، وهو الدعامة المتينة التي تقوم عليها الثورات، فقد قام الجزائريون وحدهم بما تتطلبه الثورة من أموال باهظة، والثائرون- إلى الآن- إنما يعتمدون على الأموال الجزائرية، وإذا كانت فرنسا تنفق على جيشها العامل في الجزائر تلك المبالغ الخيالية التي لا تقلّ عن مليار فرنك يوميًا، وقد تزيد إلى مليار ونصف مليار من الفرنكات حتى أثقلت ميزانيتها، ووقفت بماليتها على حافّة الإفلاس لولا إعانة أمريكا التي تكشف عن السوءات، وعرف عنها العالم أنها حاضنة الاستعمار ومُرَمِّمة جداره، وطبيبة أنيابه وأظفاره؛ إذا كانت حالة فرنسا هي تلك، فإن الجزائر المجاهدة تعتمد على الله وعلى نفسها وعلى ما أبقاه لها الاستعمار من فتات، لأنها

علمت أن هذه الثورة هي الموقف الأخير مع فرنسا، وهو- كما يقولون- موقف حياة أو موت، فكل عزيز يهون في سبيل الشرف والحرية، وإذا هانت الأرواح في هذا السبيل فالأموال أهون مفقود. الثورة تستدعي نفقات طائلة لتسليح المجاهدين وكسوتهم وإطعامهم وغير ذلك من الأشياء التي كانت كمالية فأصبحت في هذا العصر ضرورية كالدعاية ووسائلها المتنوّعة، ومن ثمّ كان العبء ثقيلًا على الشعب الجزائري، وهو يزداد ثقلًا بطول أمد الثورة، ولكن إيمان الشعب الجزائري وبأسه من رجوع الاستعمار الفرنسي عن غيّه، واعتقاده الجازم بلؤمه وكذبه وإخلافه للوعود المَرَّة بعد المَرَّة وعدم خجله من الخزي والموبقات أوقفه موقف التصميم على الموت، الذي هو خير ألف مرة مما يسومه الاستعمار كل يوم من الموت المُجَزَّإ البطيء، ولذلك فكل ما يلقاه من فنون التعذيب والسجون والتشريد، وهتك الحرمات والترحيل من الديار، والإبادة الجماعية وتقتيل الأطفال والنساء والعجائز- الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً- يجده هينًا حلوًا سائغًا. وعين الاستعمار يَقْظى، فهو ينظر دائمًا إلى النهايات والعواقب ويحتاط لها، ولا يبالي في سبيل الاحتياط بحق يُهدَر، ولا بمَأْثَم يُرتَكب لأن الاستعمار كله مآثم، ولذلك فهو قد بَنَى أمره- من أول يوم احتلّ فيه الجزائر، وبَلَا من الجزائريين المقاومة التي لا تخضع بالسهولة والصلابة التي لا تلين بصَلْي الحرب- على الوسائل التي تضمن له البقاء أو طول البقاء، ورأى أن التجريد من سلاح الحديد والنار لا يضمن العاقبة، فعمد- على مرّ الزمن- إلى محاولة تحطيم الأسلحة المعنوية بوسائل يعجز عنها الشيطان، فحارب الإسلام ومساجده، واغتصب أوقافه، وحارب العربية لأنها تذكي القومية أو تذكر بها على الأقل، وحارب العلم بجميع أنواعه، وسطر سياسته مع الجزائريين في لفظين: "التفقير والتجهيل"، وقد تمّ للاستعمار على طول المدة بعض ما أراد من ذلك، لولا مواريث في فطرة الجزائري سارية في دمه، هي بعض وجوده أو هي سرّ وجوده من حب الإسلام واعتدادٍ به، ومن فخر بالعروبة واعتزازٍ بها، ومن صبر على الضيم يخاله المنقّب في أسرار الطبائع استكانة وما هُوَ بِها، وإنما هو تربّص بالانتقام، وتحفّز للوثبة، فهذه الأخلاق هي التي حفظت الجزائري من التفتّت والذوبان رغم إلحاح البلاء وتفنّن الاستعمار في تلوينه بما يُوهِم أنه نعمته، كمن يَسْقي السمّ ويُقْسِم أنه ماء الحياة. ولم يكف الاستعمار الفرنسي ما سَنَّ من قوانين لتفقير الشعب الجزائري العربي المسلم ليأمن وثْبَتَه يومًا ما، وما خطط من برامج لحرمانه من وسائل الإثراء حتى سلّط عليه من أسباب الإبادة البطيئة ما ينقص من أعداده من أمراض لا تجد العناية للوقاية منها قبل الوقوع، ولا العناية بدفعها بعد الوقوع، ومن مجاعات مصطنعة مقصودة في وطن

يفيض بالخير، وتكفي حاصلاته الزراعية السنوية عشرة أضعاف الشعب الجزائري، ولقد كان الوطن الجزائري قليل المجاعات يوم كانت أطرافه متباعدة ووسائل النقل تعتمد على القوافل الحيوانية، ولكنه في عهد الحضارة الفرنساوية، ووفرة وسائل النقل البخارية والميكانيكية فيه- بحيث تصل النجدة إلى أقاصي أطرافه في يوم أو بعض يوم- أصبحت تتكرّر فيه المجاعات المبيدة للجماعات في كل أربع أو خمس سنوات، وكلما احتاج جيشها إلى بضع مئات من الجنود المأجورين تعزّز بهم مركزًا أو تحارب بهم إخوانهم في المستعمرات، أو احتاج فتورُ التبشير إلى تنشيط ببضعة آلاف من الأطفال؛ دبّرت مجاعة اصطناعية تهيء لها العدد المطلوب وفق المطلوب من الجنود والأطفال، ووسيلتها إلى هذا التبرير الشيطاني أن توعز إلى الشركات الفرنسية الكبرى لتصدير الحبوب في موسم التصدير أن تصدّر أكبر كمية إلى أوربا وغيرها، وتزيل من طريقها كل القيود، وبِيَدِ هذه الشركات رؤوس الأموال الضخمة فيجمعون كل غلة الموسم في الصيف، فإذا جاء وقت البرد والحاجة وجد الأهلي المسكين الأسواق خالية من الحبوب، والأسعار مرتفعة، حتى إذا حلَّت المجاعة واستحكمت حلقاتها، وضاقت به السبل لم يجد إلا سماسرة الجندية يَغْشون الأسواق والمجامع بالطبول والمزامير يدعون الشباب إلى الجندية، ووجد المبشِّرُ الأطفال الذين عجز آباؤهم عن إطعامهم وكسوتهم، وكانوا من قبل عاجزين عن علاجهم ويائسين من تعليمهم، ووجد المُعَمِّر ما يصبو إليه من قطع الأرض التي بقيت بيد الأهلي معروضة للبيع بالثمن البخس، وبهذه الوسيلة الشيطانية خرجت معظم أطيان الفلاحة من يد أهلها، وبهذه الوسيلة دعَّمت فرنسا جيشها بتلك الكتائب من الشباب الجزائري الشجاع الذي ردَّ عليها جحافل الغزاة، وجلب لها النصر في كثير من الوقائع باعتراف الفرنسيين أنفسهم. أما حظ التبشير من هذه الغنيمة فهو أسوأ الحظوظ لأن الحيلة التي نجح بها الكاردينال لا فيجْرِي في عهد الاحتلال الأول في تنصير قبيلة العطّاف لم يَطَّرِد نجاحها في كل وقت ولا في كل قبيلة، وغاية ما حصل عليه التبشير- مع تأييد الاستعمار في مدة قرن كامل، ومع الملايين التي أنفقت- هو بضع عشرات من مجموعة الأمة الجزائرية تنصّروا تنصيرًا سطحيًا، فلم يضرّوا المسلمين ولا نفعوا النصارى، ولا نقصوا من عداد أولئك ولا زادوا في عداد هؤلاء. أيها الإخوة العرب: هذه كلمة طائرة عن ثورة الجزائر، وتصوير مجمل للسياسة الفرنسية ليست من نسق التاريخ المرتب المسرود، ولكنها من نمط الكلام المتفجع، يقفز من فاجعة إلى فاجعة، وفيه كشْفٌ لحقيقة إخوانكم الجزائريين، علمتم منها أن الشعب الجزائري بقضه وقضيضه

ثائر، وأنه مصمّم على الجهاد إلى الموت، وأنه قائم وحده بالعنصر المعتمد في الثورة وهو المال، وأن المال الذي يملكه محدود، وأن ما وصله من إخوانه العرب كله نوافل لا تكفي ولا تغني، وأن بعض إخواننا العرب يملكون من المال ما إنَّ القليل منه لَيَكْفِي لتحرير الجزائر، ولكنهم- مع الأسف الشديد- مقصّرون في أداء هذا الواجب، ولو أنهم جادُوا ببعض ما ينفقون في الكماليات والشهوات لحرّروا الجزائر، وحازوا أحسن الذكر وجزيل الأجر. أيها الإخوة العرب: اذكروا أن إخوانكم في الجزائر إنما يدافعون عن أحساب العرب وعن كرامة العرب. واذكروا أن ثمرة النصر عائدة لكم جميعًا، وأن مرارة الفشل ستتجرعونها جميعًا. وإن الاستعمار مُتَّهِمُكُم جميعًا، فَمُنْتَقِمٌ منكم جميعًا إن انتصر، وانه لا يبعد على لؤم الاستعمار وحقده إذا انتصر أن يقذف بجيشه العامل في الجزائر بأسلحته ومعداته هدية متقبلة إلى اليهود ليذلكم ويخزيكم.

رسالة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

رسالة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حضرة الأخ الأستاذ الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، أطال الله بقاءه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإنني اكتب إليكم (كتب الله لنا ولكم السعادة والتوفيق) وأدام علينا وعليكم نعمة الإيمان وأتمّها، أُذَكِّركم ما لستم عنه غافلين من حال إخوانكم الجزائريين المجاهدين، وما هم فيه من الشدة والحاجة إلى العون والإمداد، وما اصبحت عليه الأمة الجزائرية كلها من ورائهم من البؤس والضيق. أُذَكِّركم أن لكم بالجانب الغربي من وطن العروبة ومنابت الإسلام الأولى ومجرى سوابق المجاهدين الأولين لَإِخوانًا في العروبة وهي رحم قوية، وفي الإسلام وهو سبب مرعي، وفي ذلك المعنى الخاص من الإسلام وهو السلفية التي جاهدتم وجاهد أسلافكم الأبرار في سبيل تثبيتها في أرض الله، وقد لقوا من عنت الاستعمار وجبروته ما أهمّهم وأهمّ كل مسلم حقيقي يعلم أن الإسلام رحم شابكة بين بنيه أينما كانوا، وأن أقل واجباته النجدة في حينها والتناصر لوقته. مضى على ثورة إخوانكم الجزائريين التي انتصروا بها لله ولدينه أربع سنوات، وما فترت لهم عزيمة ولا بردت لهم فيها حمية، وأراهم الله من آيات نصره للفئة القليلة على الفئة الكثيرة ما دل على إخلاصهم له، وصدقهم في معاملته، وقد شهد لهم العالم حتى أعداؤهم فيما أظهروه من ضروب الشجاعة المقرونة بحسن التدبير والتقدير وبالمواقف الجليلة المبيضة لوجه الإسلام التي بَعُد العهد بمثلها، غير أن الحرب كالحبلى لا ندري ما تلد ولا على أية حال تسفر.

أيها الأخ، إن العالِم المسلم (خصوصًا مَن أهَّله الله للقيادة مثلكم) مؤتمَنٌ على دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمّ فهو مسؤول عنه، فإمّا له إن قام بما يجب عليه من التثبيت له وتمكينه في الأرض والدفاع عن حقائقه؛ وإما عليه إن فرط في تلك الأمانة، وإنها لثقيلة. إن الواجب الذي يفرضه الدين على أمثالكم أن تقوموا لله بحملة صادقة أنتم أهل للقيام بها في قضية الجزائر، فتُوجِّهوا نداءً جهيرًا إلى المسلمين الذين يشهدون الموسم ليحملوه إلى مَن خلفهم من المسلمين حين ينقلبون إلى أوطانهم، تحضونهم فيه على مساعدة إخوانهم مجاهدي الجزائر، وتبيّنون لهم ما يترتب على قعود المسلمين عن نصرة إخوانهم الجزائريين من آثار، أيسرها أن الاستعمار المتساند سينتقم، إن انتصر، لنفسه من المسلمين انتقامًا عاجلًا، وإن طرق الانتقام لكثيرة، وإن وسائله جميعها في يده. ثم تُوجِّهوا نداءً خاصًا إلى إخواننا سكان المملكة العربية السعودية تحرضونهم به على الجهاد بالمال، وانه قرين الجهاد بالنفس بل هو مقدم عليه في كتاب الله العزيز، وإنّ المال لهو الركن الركين في نجاح إخوانكم المجاهدين، وقد قام الشعب الجزائري وحده بهذا الواجب في سنوات الثورة كلها، وكل ما وصله من إعانات مالية كان نوافل، أما الآن فإن الشعب مضيق عليه ومحصور، وقد انقطعت به الوسائل المالية، فالتجارة معطلة والفلاحة كذلك والشعب الذي هو تحت قبضة العدو اشتدّ عليه الخناق وأرهقته المظالم والمغارم، وشتّته القتل والتشريد، فقد مات منه نحو مليون شخص كلهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وأُخرج منه نحو ذلك العدد من ديارهم حفاة عراة لا يملكون قوت يومهم، هائمين على وجوههم إلى مراكش غربًا، وإلى تونس شرقًا، كل ذلك انتقام من الجيش الفرنسي الذي عجز عن قمع الثورة والقضاء على جيش التحرير المسلّح، فلجأ إلى هذه الوسائل الوحشية. وبهذه البلايا التي يصبّها الاستعمار على الشعب الجزائري الأعزل بهظت التكاليف المالية على جيش التحرير الجزائري، فأصبح مطالبًا بالإنفاق على نفسه في التسليح وتوابعه، وبالإنفاق على هؤلاء المشرّدين من الشعب، ونبشّركم بأن الجيش والشعب كلاهما محتفظ بمعنوياته على أكمل ما يكون وكلاهما مصمّم على مواصلة الكفاح حتى النصر أو الموت. وقد كان جيش التحرير مؤلفًا في أول أمره من ثلاثة آلاف مقاتل، فأصبح بعد أربع سنوات مؤلفًا من أكثر من مائة ألف مقاتل مسلّح بما يلزم من السلاح على أكمل تنظيم وأحسن تدريب، وهو في كل يوم يذيق عدوّه ألوانا من الهزائم. والحمد لله. نحن نعلم أن المملكة العربية السعودية قامت بواجبها في فترات متباعدة، ولكن ذلك كله كان دون ما يطالبها به الإسلام، لا في المبالغ المالية التي قدمتها، ولا في المواقيت التي كانت تقدم فيها هاتيك المبالغ، وفضيلتكم تعلمون أن المعونة كالغيث إنما تفعل فعلها وتؤتي ثمرتها إذا جاءت في الوقت المناسب.

أيها الأخ الجليل، إن الثورة الجزائرية تعدكم كهفها الأحمى، وإنّ موقفًا منكم في سبيلها كالمَدَد في وقت الحاجة إليه، فهلا صيحة منكم تحرّك النفوس الجامدة إلى البذل في سبيل الله، وتهزّ الهمم الخامدة فتتبارى في سوقٍ بضاعتها شرف الدنيا وعز الآخرة، وقيمتهما مال زائل وحال حائل. أيها الأخ الكريم، هذه رسالتي يحملها إلى سماحتكم وفد جبهة التحرير الجزائرية إلى المملكة العربية السعودية، لمناسبة موسم الحج وللاتصال بالحكومة السعودية الموقّرة في شؤون المجاهدين الجزائريين التي أهمّها تسلّم المبالغ المالية التي تبرّع بها الشعب السعودي الكريم، فالرجاء أن تأخذوا بيد الوفد المذكور وأن تكونوا عونه لدى المراجع الحكومية العليا حتى يقضي حاجته ويؤدي مهمته على أكمل وجه. أيها الأخ، هذا عرض عرضته عليكم وأنتم تعلمون ما أكنّه لسماحتكم من التقدير والاحترام والاعتراف بمكانتكم في الدولة وفي الأمة. وتقبّلوا في ختام حديثي إليكم تحياتي الأخوية الخالصة. القاهرة في 13 يونيو 1958. من أخيكم محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين

رسالة إلى الشيخ عمر بن حسن

رسالة إلى الشيخ عمر بن حسن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عمر بن حسن، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإني أحمد لكم الله الذي لا إله إلا هو، وأرجو أن يوزعني وإياكم شكر نعمائه، وأن ييسّرنا للقيام بما افترض علينا من الجهاد بجميع أنواعه في سبيل ديننا الذي أحاطت به الخرافات والأوهام في الداخل، كما أحاط به الكفر والطواغيت في الخارج، أذكّركم بإخوانكم المجاهدين في الجزائر الذين أحيوا في الزمن الأخير فريضة عفا أثرها وانطمس رسمها في هذه العصور، فنصرهم الله على ضعفهم وقلة عددهم وعُدَدِهم وقوة عدوّهم، وتأييد الطواغيت له. إن إخوانكم في الله وفي الإسلام والعروبة ما زالوا ثابتين كالجبال، ثبات رجال السلف، وانهم إنما يقاتلون قيامًا بواجب مفروض على جميع المسلمين، فبيّنوا بما آتاكم الله وبما تملكون من وسائل لكل من يبلغه صوتكم، ما أوجبه الله على المسلم من عون أخيه المسلم بكل ما يملك. إن إخوانكم يقاتلون لأجلكم ولأجل دينكم، ولئن فشلوا- لا قدّر الله- أمام الكفر فَلَينتقِمَنَّ الاستعمار من المسلمين أجمعين، ولَيُذِلنّهم أجمعين، إن إخوانكم المجاهدين في الجزائر لا يحتاجون إلى الرجال، وإنما يفتقرون إلى المال الذي يشترون به السلاح ويطعمون به الشعب الجائع الذي سلط عليه الاستعمار الأمراض والمجاعات، وقد كان الشعب الجزائري من بداية الثورة إلى الآن هو عماد الثورة يمدّها بالمال والأقوات، كما يمدّها بالرجال، وقام في الميدان المالي بكل ما تتطلبه الثورة، وان الإعانات المالية التي كانت تأتيه من الخارج- وهي في مجموعها قليلة- إنما كانت نوافل، أما الآن وقد طال الأمد

وانصبَّت على الشعب بلايا القتل والتشريد من الديار، فقد تناقص ذلك الإمداد وأصبح الجيش المقاتل مُطالَبًا بالإنفاق على أكثر من مليون مشرّد. إن من الحقائق الثابتة- أيها الأخ- أن القتل في الجزائر أتى على ما يقرب من مليون شخص، معظمهم من الشيوخ والصبيان والنساء، وأن اللاجئين إلى مراكش غربًا وتونس شرقًا يقرب تقديرهم من هذا العدد، وأن الجيش الفرنسي لما عجز عن قتال المجاهدين عمد إلى الفتك بالمصتضعفين من الرجال والنساء والأطفال، شفاءً لغيظه وانتقامًا لشرفه. لهذا أرجو من فضيلتكم أن تقوموا لله قومة يرضى عنها، فتحثّوا الأغنياء الذين فاتتهم فريضة الجهاد بالنفس، أن يجاهدوا بأموالهم، فإن الجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس، ومقدم عليه في كلام الله، وأن القيام بواجب النصح هو مما تقتضيه وظيفة الأمر بالمعروف. أيها الاخ، إننا ننتظر منكم موقفًا من مواقفكم المشهودة؛ تبيّنون فيه للشعب العربي السعودي أن كل ما قدّمه للجزائر قليل بالنسبة لعِظمِ الثورة وأعباء الجهاد وقيمة الشعب والحكومة التي ائتمنها الله على الإسلام ومناسكه، واختارها لحماية بيته والمحافظة على وفوده، ويقينًا إنكم واقفون في ذلك المواقف المحمودة. أيها الاخ الكريم، هذه هي رسالتي يحملها إلى فضيلتكم وفد جبهة التحرير الجزائرية، إلى المملكة العربية السعودية، لمناسبة موسم الحج، وللاتصال بالحكومة السعودية الموقّرة في شؤون المجاهدين الجزائريين، التي أهمّها تسلّم المبالغ المالية التي تبرّع بها الشعب السعودي الكريم. فالرجاء أن تأخذوا بيد الوفد المذكور وأن تكونوا عونه لدى المراجع الحكومية العليا، حتى يقضي حاجته ويؤدي مهمته على أكمل وجه. واقبلوا في الختام تحيات الأخوة الصادقة. القاهرة في 13 يونيو 1958. من أخيكم محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين

أحمد شوقي

أحمد شوقي * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان الأوفياء: حيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تحيون مآثرها وتجدّدون مفاخرها، وللعربية توفون بعهودها، وتقومون بحقوقها، وتعمرون مواتها، وتنشرون أمواتها، فتخطون للباقين طريق الأسوة الحسنة من سير الماضين، وتدلونهم على أقدار الرجال ومواقف الأبطال ... أيها الإخوان: إني مغتبط لإحيائكم لذكرى شوقي شاعر العرب في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى صيحاته التي تحرّك الخامل وتهزّ الجامد، وإلى نغماته التي تنعش العاملين وتنبّه الخاملين، فما رأيت في أكثر ما رأيت في هذه المناسبات التي تقام لأجلها الاحتفالات على كثرتها سببًا أشدّ ملاءمة لسببه من مهرجانكم هذا في ذكرى شوقي شاعر العربية العظيم. ففي هذه الأيام كثر ترداد الساسة والخطباء وحملة الأقلام لكلمة العروبة والقومية العربية وجميع الألفاظ التي اشتقت من كلمة "عرب"، وعسى أن يكون هذا إيذانًا من الله بوحدة العرب فأَلْهَم الألسنة والأقلام ترداد هذه الكلمات كما ألهم أمية بن أبي الصلت وجماعة من زعماء العرب في الجاهلية ترداد الكلمات الدينية قبل البعثة المحمدية إرهاصًا للإسلام وتنبيهًا على إظلال زمانه. وإن في جو الأمة العربية اليوم لوعودًا هذه بوارقها، فمن صنع الله لهذه الأمة، ومن تلقّي الإلهام الإلهي الصادق بإرادة الخير لها، ومن حسن الذوق لكل من يعمل في جمع شملها الشتيت أن تساق الشعوب العربية إلى غاياتها المرجوّة لمثل هذا النوع من التفكير الذي هو الدواء الوحيد لما رماها به الاستعمار من ضروب التخدير.

_ * في مهجان أحمد شوقي بالقاهرة، أكتوبر 1958.

إن هذه الأمة العربية هي هدف الاستعمار قبل كل شعوب الأرض، فهو لذلك لا يزال يعمل على تفريق أجزائها وتطفيف جزائها، وقد بلغ منها ما أراد بكيده وسحره حتى ينسيها ماضيها وأمجادها، فمن فروع التعبئة العامة للوقوف في وجهه والدفع في نحره أن نصرف هذا الجيل الذي فتنه الغرب بقوّته عن طريق هذه الفتنة، وأن نبيّن له ما يجهله من أن هذا الشرق مطلع الأنوار ومعدن الأسرار، وأن نعالجه من هذا الكسل العقلي الذي رماه بالجهل والجمود، وأنه إن أراد أن يبني العلم والبيان والقوة على أسسها الصحيحة فلْيَتَلَمَّسْها من معادنها في أسلافه ولا يأخذها بالتقليد للغرب والاستعارة من الغرب، وأن نهزه بِمِثْل أقوال شوقي في هذا الباب وما أكثر أقواله في ذلك، فهو الذي يخاطب مصطفى كامل بقوله: أتذكر قبل هذا الجيل جيلًا … سهرنا عن معلمهم وناما؟ مِهارُ الحق بغّضنا إليهم … شكيم القيصرية واللجاما لواؤك كان يسقيهم بجام … وكان الشعر بين يدي جاما أيها الأخوان: ليت شعري، هل كان شوقي يدري حين نظم هذا البيت: هل كلام الأنام في الشمس إلا … أنها الشمس، ليس فيها كلام أنه سيصبح أحق به ممن قيلت فيه؟ فقد وصل شوقي بشعره حينما اقتحم به جميع الميادين إلى مرتبة من مراتب الخلد لا يستطيع وصفها إلا هو بمثل هذا البيت. ولقد دأب شوقي بتقليد المتنبي في أول أمره فجاراه، وما كبا وما قصَّر، ثم شآه في التشبيب الصادق والغزل الرقيق، ثم طاوله فطال عليه في وصف الآثار الباقية عن الحضارات الداثرة، وفي التغني بالأمجاد الغابرة لبني جنسه أو بني وطنه أو بني دينه، على حين كانت عبقرية المتنبي لا تتجاوز به مدح شخص يجود، أو شجاعة في وصف حروب وانتصارات قد يكون الغناء فيها لغير الممدوح، ولا تبرز العبقرية إلا في الحِكَم التي سجَّلها والأمثال التي سيّرها، أما الوصف الذي تتبارى فيه قرائح الشعراء، وتتجارى سوابقهم فيه فليس للمتنبي فيه كبير قيمة إذا استثنينا قصيدته في شِعْب بوّان وقصيدتيه في وصف الحمى وفي وصف الأسد وفي قطع قليلة من شعره. ورأيي في شوقي معروف في المشرق والمغرب بين خلصائي من الأدباء وخلطائي من المتأدبين، فلم أزل- منذ كان لي رأي في الأدب- أغالي بقيمة شوقي في الشعراء السابقين واللاحقين، وربّما شاب هذا الرأي مني شيء من الغلو في مقامات الجدل والمفاضلة بين شعراء العربية، وما كنت أتهم نفسي بعصبية لشوقي، ولا كان الناس يتهموني بتحيّز، لأنني كنت قوّامًا على شعر شوقي أستحضره كله وأستظهر جُلّه، حتى ليصدق عليّ

أنني راوية شوقي بالمعنى الذي كان يعرفه أسلافنا في الراوية، ولقد حفظت الشوقيات القديمة قبل هجرتي الأولى إلى الشرق سنة 1911 ميلادية. ثم أحفظ من شعر شوقي ما جدَّ بعد طبع الشوقيات الأولى، واستوعبت شعره في منفاه بالأندلس حفظًا لأول ظهوره في الصحف أو في أجزاء ديوانه بعدما طبعت. وما كادت تلوح النهضة الأدبية في الجزائر بعد الحرب العالمية الأولى، ويُكْتَب لي أن أكون أحد قادتها حتى كنت أول الداعين دعوة جهيرة إلى الائتمام بشوقي وإلى احتذاء طريقته والسير على نهجه في الأدب العربي، وأول الدّالّين على روائع شعره. ولما جدَّ جدُّ تلك النهضة وتعددت المدارس العربية على يد جمعية العلماء الجزائريين، وقُدِّر لي أن أكون المشرف على توجيهها مكَّنْتُ لشعر شوقي في نفوس الآلاف من الناشئة الجزائرِية، فأنْبَتَتْ تلك النهضة من أولها على أدب شوقي وشعره، وفهمته ناشئتنا على وجهه لِحِكمه وأمثاله ولحسن تصويره ودقة وصفه، ولسهولة مدخله على النفوس، وإن آلافًا عديدة ممن ارتقوا ولو قليلًا في سُلَّم الأدب ليحفظون من غرر شعر شوقي وسوائر أمثاله ما يُجَمِّلُون به كتاباتهم وخطبهم ومجالسهم للمذاكرة، وإن كثيرًا من الشعراء الذين أنجبتهم النهضة الجزائرية ليترسّمون خطى شوقي ويسيرون على هداه، وتلوح عليهم مخايله وسماته. وأول ما حبّب شوقي إلى نفوس ناشئتنا- على طراوة عودهم- هو ما يفيض به شعره من تمجيد للإسلام وبيان لآثاره في النفوس وتغنّ بمآثره وأمجاده وافتتان في مُثُله العليا التي قاد بها أتباعه إلى مواطن العزة والسيادة. ولا عجب، فناشئتنا نشأت على الفطرة الإسلامية النقية، وشعر شوقي أبلغ معبّر على تلك المعاني العالية، ونَهْجٌ شارع إلى سبل التأسي والاقتداء. ولقد كان موت شوقي صدمة قوية للأندية الأدبية الناشئة بالجزائر التي كانت تأتَمُّ بشوقي وتسير على هديه وشعاعه مما ظهر أثره في قصيدة الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة التي رثى بها الشاعرين حافظًا وشوقي، حيث يقول: دولة الشعر من الشرق انقضت … وانقضى فيها مراء الأمراء أيها الإخوان: إن الجزائر الفتية مدينة بجميع فروع نهضتها بل في أصول ثورتها لشوقي، فكم حَدَوْنا الشباب بشعره المطرب القوي، ووجَّهنا ذلك الشعر إلى مكامن الإحساس من نفوسهم، فكان ذلك أحد الأسباب فى ثورته الخالدة التي أقضت مضاجع الفرنسيين وأتت بخوارق العادات من الشعب الجزائري.

وإنَّا لنرجو إذا مد مدُّ النهضة الأدبية في الجزائر- بعد أن تؤتي هذه الثورة المباركة ثمراتها- أن سيكون لأدب شوقي أثره الخالد الفعّال في بناء الأدب العربي بالجزائر، كما كان له الأثر اللائح في الثورة نفسها، تأسيًا بما خلّده شوقي من أعمال الثائرين الأبرار في ليبيا وسوريا وتركيا. إن الحكومة الجزائرية المؤقتة الفخورة بعروبتها لسعيدة بأن تُدعى إلى هذا المهرجان وتشارك شاعر العروبة شوقي الذي يقول: رُبَّ جار تلفتت مصر توليـ … ـه سؤال الكريم عن جيرانه بعثتني معزيًا بمآقي … وطني أو مهنئًا بلسانه ومع تأثر الجزائر الشديد بشعر شوقي وعقيدتها التي لا تتخلخل في شاعريته، ومع اعترافها بأنه أول من هزّ هذا الشرق العربي ببدائعه وآياته فإن أدباء الجزائر ما زالوا يعتبون عليه، بل ما زالوا ينقمون عليه مَدْحه لفرنسا وافتتانه بحضارتها المزيفة وتخطيه الأصول التاريخية التي لا تعترف لفرنسا ببعض ما ينوّه به شوقي من فضائلها، فهو يقول: دم الثوّار تعرفه فرنسا … وتعلم أنه نور وحق جرى في أرضها، فيه حياة … كمُنْهَلّ السماء وفيه رزق (وحررت الشعوب على قناها … فكيف على قناها تُسْتَرقُّ؟) سامحك الله يا شوقي، أي شعب تحرّر على قنا فرنسا، فإن كان بعض ذلك فهو من باب الربا الفاحش؛ تأخذ فيه فرنسا أكثر مما تعطي وليس خالصًا لوجه الحرية والتحرير. وبعد، فهل كل الوفاء لشوقي أن نحيي ذكره في كل سنة مرة، وأن تقوم بعض الجمعيات فينا ببعض الواجب من البر بعظمائنا وعباقرتنا الذين هم مناط فخرنا ومعاقد التيجان لمجدنا واعتزازنا؟ إن هذالحق ابعض الواجب، وإن الذي فرّطنا فيه وقصرنا دونه أكثر بكثير مما تقوم به جمعياتنا وهيآتنا الرسمية، فليس من الوفاء لشوقي أن نذكره في السنة مرة، وأن نتبارى في الحديث عن شعره ومنزلته بين الشعراء، ثم يبقى في جميع العام منسيًا لا يذكره إلا المتمثلون بسوائر أمثاله. رحم الله شوقي وأثابه كفاء ما قدّم للعربية من كنوز ثمينة، وما سنَّ للأدب العربي من أساليب بليغة، وما حرّك من همم العرب ونخوتهم. والسلام عليكم ورحمة الله.

الذكرى الرابعة لثورة الجزائر التحريرية

الذكرى الرابعة لثورة الجزائر التحريرية * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوة: إن المعنى الذي أذن فيكم مؤذنه بالاجتماع فاجتمعتم، وحدا بكم حاديه إلى الإسراع فأهطعتم، هو "ثورة الجزائر". هذا المركب الإضافي غير محدود ولا مقيّد، فالأعمال العظيمة كالأشجار، لها موسم واحد يحتفل به الناس وهو موسم إيتاء الثمرات، فيوم الثورة الجزائرية هو يوم النصر الأخير، يوم يفرح المؤمنون بنصر الله. أما هذه القيود التي نضيفها ونجعل منها بواعث للاجتماعات فهي من مواضعاتنا نحن معشر القعدة الخالفين لا تخطر ببال إخوانكم أبطال الجهاد وأحلاف الجلاد الذين انمحت الفوارق عندهم بين الأيام والليالي والشهور والأعوام فكلها عندهم مرحلة واحدة، إلى غاية واحدة، فلنتشبّه بهم إن لم نكن مثلهم، ولنذكرهم في كل يوم وفي كل ليلة، ويا بؤس الثورة الجزائرية إن كنا لا نذكرها إلّا في ليلة من سنة. وعلى ما فينا من نقيصة وافتتان بالعوائد والمصطلحات فإن المعنى الذي حفزكم لهذا الاجتماع هو من أسمى المعاني التي يجتمع لها العقلاء، وتسمو إليها هممهم، وتتطلع إليها نفوسهم، لأنه- على بعد الدار- تكثير روحي لسواد إخوانكم المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله، وأخلصوا النية في الجهاد في سبيله وإعلاء كلمته وتحرير طائفة من عباده أرهقها الاستعمار من أمرها عسرًا وأثقلها حمل القيود عشرات السنين وتقطعت بها الأسباب المعنوية إلّا السبب الواصل بالله وبدينه، والأسباب الحسية إلّا نسبتها للعرب واعتزازها بالعروبة وارتباطها بالشرق، ووفاءها بعهود الثلاثة.

_ * الحفل الذي أقيم بالقاهرة في أول نوفمبر 1958، احتفالًا بالذكرى الرابعة لثورة التحرير.

فاجتماعكم هذا في أسمى معانيه، وأعلى خصائصه هو صلة برحم الإسلام والعروبة، اللذين هما أعز ما يعتز به إخوانكم الجزائريون، ويرفعون به رؤوسهم التي أبت أن تنحني للظالم العاتي، كلما أرادهم على التنكر للإسلام، وتحريف الضاد عن مخرجها في لهواتهم، واجتماعكم هذا مدَد من الأمداد المدخرة لكم في حين حاجتكم إليه- لتذكروا إخوانكم المجاهدين، وتذكروا ما طوّقوكم به من منن- والتفاف منكم حول قضية من قضاياكم، بل هي أصل قضاياكم مع الاستعمار، بل هي أعقد قضاياكم معه. أيها الإخوة: إن لإخوانكم الجزائريين عليكم حقوقًا أدناها أنهم يشركونكم في الدم والجنس وخصائصهما الموروثة، وأعلاها أنهم قائمون عنكم- ولا منّة- بواجب عظيم متكفلون لكم بحل عُقْدةِ العقد مع ألأم استعمار عرفه التاريخ، وبتصفية الحساب عنكم مع أعدى عدو للشرق عامة وللعرب خاصة، فإذا صرعوه- وهو ما نعتقده كرأي العين- فالشرف لكم جميعًا، والراحة الأبدية من دائه العضال تشملكم جميعًا، وإذا جرى القدر بضد ذلك فحسبهم شرفًا أنهم ماتوا في سبيل الشرف، واستبرأوا لدينهم وأمانتهم، وأتوا بها غراء مشهّرة في تاريخ العروبة، ونشروا عليكم صحائف من سيرة السلف تجدد لكم بهم العهود، وخطوها صحائف نادرة من الشجاعة العربية، وضربوها أمثالًا شوارد من البطولة العربية، وشرحوا لكم معنى الحفاظ والذياد وحماية الحقوق، بعد أن كانت تلك الألفاظ، التي تغنى بها شعراء العرب، لا تحمل إلّا صورًا ذهنية لا تثير ولا تخز، ولا تحرك ولا تهز، وسيرى التاريخ هؤلاء البررة ويسجل مواقفهم المشرفة، ولا يَتِرُهُم منها شيئًا، وسيعرض حججه واضحة فإما لكم وإما عليكم. أيها الإخوة: إن ثورة أربع سنوات لا ندري ماذا خبأ لها القدر المحجوب من نهاية، من شعب لا يملك شيئًا من أسباب القوّة وسلاح العصر، مفصول من بني أبيه بفواصل وضعها عدوه عن قصد في غفلة منكم جميعًا، معزول عن معاقل أوليائه وأنصاره، إن ثورة مثل هذه لحقيقة- إن امتد بها الزمن- بأن تثقل ظهور إخوانكم، وقد ترمي حركتهم بالكلال إلّا أن يرحم الله، وتصدقوه في الإمداد بكل ما تستطيعون أفرادًا وجماعات. إن أسوأ ما نسمعه في هذا الشرق بقسميه الإسلامي والعربي الإطراء بإطناب، والمبالغة في الإعجاب، والدعاء غير المستجاب: الإطراء للمجاهدين الجزائريين، والإطراء لا ينكي عدوًا، ولا يضمن رواحًا للنصر ولا غدوًا، والإعجاب بموقف الجزائريين الثابتين في الزعازع، والإعجاب لا يردّ غارة، ولا يحطم طيارة ولا يولد عقيمًا، ولا يبرىء سقيمًا، والدعاء من غير تعاون على الأسباب، كالتوكل كلاهما سخرية بالله وبعباد الله، فلتعلموا أن الدعاء المشروع والتوكل المشروع إنما يأتي في عالم الأسباب بعد عقل الناقة، وبذل الطاقة.

أعيذكم بالله- وأنتم مسلمون، والإسلام عهد وذمة، وعرب، والعروبة وفاء وهمة- أن تركنوا إلى المستفيض عن إخوانكم أنهم شجعان وأنهم صامدون لعدوّهم، وأنهم على قلّتهم ما انفكوا يذيقونه الموت ويجرعونه سكراته، فهذا كله وإن كان حقًا بل دون الحقيقة، لا ينبغي لحازم جاد ممارس لدهره، محنك في معاملات دهره عرف الاستعمار وصلى جحيمه واكتوى بناره، لا ينبغي أن يغتر به أو يدعوه إلى الدعة والتواكل. أيها الإخوة: لا تنتزعوا من استمرار الثورة أربع سنوات وهي في عنفوان شبابها، وقوّة أسبابها، وتصميم رجالها، وانتظام أعمالها، لا تنتزعوا من هذه الحالة التي يبتهج لها كل مسلم وكل عربي، الدليل من جهة واحدة على شجاعة الشعب الجزائري وقوّة إيمانه واتصاله بربه، وصبره في الزعازع، واستهانته بالشدائد، وإقدامه على الموت في سبيل تحرير وطنه، ولكن انتزعوا- مع ذلك- دليلًا آخر ومن جهة أخرى على أن ثورة أربع سنوات قد تحيفت أمواله التي غذى بها الثورة في سنواتها الأربع، وتحيفت أقواته الضرورية، وعطلت مكاسبه الطبيعية، فالفلاحة- وهي عماد حياته- معطلة، والتجارة معطلة، والموارد الحيوية معطلة، ووسائل الارتزاق كلها معطلة، وما كان يقدمه الجزائريون العاملون بفرنسا للثورة عن طوع واختيار تعطل بتضييق فرنسا على أولئك العمال، وبسجن عشرات الألوف منهم وبمنعهم من الاتصال بالجزائر، حتى يمنع إيصال النفقات إلى أهليهم لتضطر الثورة إلى الإنفاق عليهم، فتثقل التبعية ويدبّ الفشل، وهذه كلها وسائل يركبها الاستعمار لِلْفَتّ في أعضاد المجاهدين، وكلها- ومثلها- واقعة بالفعل وكلها ذات أثر فعّال كلما امتد الزمن في قوّة الثورة. أيها الإخوة: العاقل من يفكر في العواقب والمصائر ويُعِدُّ لكل حادثة سلاحها، ولكل مفسدة قبل الوقوع صلاحها، والحازم الأريب من يعتبر ما ليس بواقع واقعًا، وبهيئ أسباب دفعه قبل المفاجأة. أيها الإخوة: إن اخوانكم الجزائريين لو أرادوا وسمحت لهم هممهم وشرفهم ودينهم أن يركبوا مركبًا آخر لا يطوع لساني بذكره؛ ولو سمحت أخلاقهم أن ينكثوا العهد الإلهي الرابط بينكم وبينهم لوجدوا الطريق سهلًا معبدًا ولكانوا أعز الناس في الدنيا، ولحصلوا على الحقوق التي يتمتع بها مرضى الضمائر كاملة غير منقوصة، بل بصورة أكمل، لأنهم أشجع من جميع العناصر التي يتألف منها الهيكل الفرنسي وأقوى عزيمة، وأصلب إرادة، وأمتن طباعًا وأكرم نفسًا ويدًا، ولكن أبى عليهم ذلك ويأبى عليهم أبدًا دينهم وعروبتهم وأبوتهم الذين اعتز بهم الإسلام والعروبة، وكانوا قرّة عين للإسلام والعروبة، فأبت على خلفه الأخلاق الإسلامية والعزة العربية أن يكونوا سخنة عين للإسلام والعروبة، أبت عليهم ذلك أخلاق كريمة وأعراق أصيلة، وصلات بالإسلام وثيقة، فرضوا بالدون، وعيشة الهون، وبما يرضى به كل مغلوب على أمره، كل هذه الحقبة المديدة، ولم يهجس لهم خاطر بقطيعة أصل فضائلهم، ومشرق

دينهم، وإنها ذمة قل من يرعاها وواجبات كثر منتهكوها. وإن الجزائر لتتيه فخرًا واعتزازًا بأن التاريخ سيكتبها من رعاة العهود الأوفياء، على كثرة أسباب القطيعة. أيها الإخوة: إن من حسنات الثورة الجزائرية أنها كانت سببًا في تقريب العرب بعضهم من بعض وجمع قلوبهم حولها ونسخ التجافي بينهم بالتصافي، وانها كشفت الغطاء عن مخازي الاستعمار الفرنسي، وكشفت بالتبع عن حقيقة هذه الدولة التي تملأ ماضغيها فخرًا بأنها أصل المدنيات ومحررة الشعوب ومهذبة العالم، وإن ما تدعيه من الديمقراطية هي دعوى كاذبة خاطئة فاجرة، وقد أضلت بهذه الدعاوى إخوانًا لنا في هذا الشرق يعزّ علينا أن يضلوا ويزلوا، وسحرت أعينهم ببريق حضارتها فأعشتهم عن رؤية حضارتهم وما ترك أسلافهم من أثرها، فبينت الثورة الجزائرية لهم بالبرهان أن الفضائل التي تنتحلها فرنسا فضائل زائفة، لأن مرد الفضائل في شعب هو سمو أخلاقه، وترامي هذه الأخلاق فيه إلى الكمال، بما يكفله استعداده للخير والرحمة وتقوية النوازع الإنسانية الكامنة في طبعه وجبلته، وفرنسا أفسد الاستعمار جبلتها، وطمس الطمع والأنانية- وهما من لوازم الاستعمار- على كل حسنات من أخلاقها، وإنّا لننقض عليها دعاواها الطويلة العريضة في ما تنتحله من الفضائل، ويروجه لها دعاتها وسماسرتها المأجورون وتلامذتها المفتونون في هذا الشرق، ننقض عليها وعليهم تلك الدعاوى كلها بمثال واحد، وهو أن فرنسا احتلت الجزائر منذ مائة وثلاثين سنة تقريبًا، ولم تستطع تحطيم المقاومة الصادقة من أهلها إلّا بارتكاب ما لا تفعله الوحوش الضارية الموكولة إلى غرائزها الحيوانية الدنيا، وفعلت من المنديات ما يسوّد تاريخها الإنساني مما سجله قادتها في ذلك الغزو، لا إنصافًا للتاريخ، ولكن افتخارًا بتلك الأفعال الوحشية، وها هي ذي بعد هذا العصر الطويل الذي يحول الأحوال، وينسخ الطباع، تفعل مع الشعب الجزائري في هذه الثورة ما لم يفعله سلفها في حروب الغزو، وتأتي من الموبقات والتفنن في ضروب التقتيل والتعذيب ما ترتفع عنه طباع الوحوش من قتل الصبيان والنساء والشيوخ والعزل والمرضى زيادة عن اتلاف الأقوات وانتهاك الحرمات، حتى كأن التهذيب الأخلاقي في فرنسا سائر إلى الوراء، وكأن تعاقب أجيال أربعة لم يكف لتحويل الأخلاق من شراسة إلى لين ومن وحشية إلى أنسية. وكأنما أنف أصحاب تلك الطباع الجافية أن تشهر الجزائر المستعبدة في وجههم السلاح وأن تثور بعد هدأة ظنوا أنها القاضية، ولم يستطع أصحاب تلك الطباع أن يقاتلوا المجاهدين في ميادين الحرب فعمدوا إلى ما يعمد إليه كل جبان من الانتقام من الأطفال والنساء والعجزة، ويا ليت القتل كان كافيًا، بل نراهم يتفننون في التعذيب قبل القتل كما يتفنن المترف الشهواني في شهواته حتى جاوزوا الحدود التي يأمر بها الشيطان من الشرور وكبائر الإثم والفواحش.

أيها الإخوة: إن في أطوار الثورة الجزائرية لعبرًا، فقد بدأت على حين يأس من مطالب معقولة، جهر بها الشعب الجزائري وتصاممت عنها فرنسا وأبت أن تستجيب لدعواتها المتكررة، بدأت بثلاثة الآف مقاتل وطنوا أنفسهم على الموت في سبيل الله، وكان سلاحهم الروحي أقوى ما بأيديهم، كان سلاحهم الذي لا يفل الإيمان بالله ناصر المستضعفين وقامع العتاة المتجبرين، وكان مركز الثورة قمم جبال أوراس منبت الأبطال الذين خلفوا عليه الأسود يوم انقطع منها نسل الأسود، وما أتمت سنة حتى انتشرت كالنار على القطر كله وتزايد عدد المجاهدين حملة السلاح إلى الثلاثين ألفًا ... إلى الخمسين حتى أصبح جيش التحرير مائة ألف أو يزيدون يقارع دولة عرفت في العالم بأنها في طليعة الدول الحربية العسكرية، يقارع جيشًا مسلحًا يقارب المليون مجهزًا بما يقوم بهذا العدد الضخم من دبابات وطيارات وأساطيل بحرية، وأجهزة ارتباط ومواصلات تموين تبتدئ من فرنسا وتنتهي في دواخل الجزائر، ومع ذلك فإن اللطيفة الالهية ظهرت للعيان مرة أخرى ونصر الله الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وقام إخوانكم المجاهدون بشرط الله وهو الإيمان والصبر وصدق النية وطهارة القصد، فصدقهم الله وعده. أيها الإخوة: إن الشعب الجزائري سائر في هوى القومية العربية عامل لها لا تثنيه عنها الأعاصير في أي جو عصفت، ولا تردّه عنها التيارات المختلفة ولا الأهواء المتباينة، فالجزائر اليوم مشغولة بهذا الصراع بينها وبين عدوها الذي يمثل الاستعمار في طور النزع والاحتضار. فإذا فرغت منه اتصلت بإخوانها في هذا الشرق اتصال الأخ الذي لم ينس أخاه، ولم تتبدل له عقيدة في أيام الشدة، فالوحدة العربية التي راق الجزائر خيالها، وبرز للوجود في هذه الأيام مثالها، هي نهاية شوط الجزائر في اعتناقها حقيقة بعد أن كانت أمنيتها عقيدة، وستكون الجزائر مزيدًا في قوّة القومية العربية، ولا نغالي إذا قلنا إن الشعب الجزائري سيكون تعديلًا لبعض المتناقضات في الشرق العربي وسيكون تلطيفًا لبعض الشذوذات فيه، وسيكون بما أودع الله فيه من روحانية قوية وجد لا يلم العبث بساحته مثالًا يحتذى في مجموعة إخوانه العرب. إن بعض الأخلاق المنتقدة في إخوانكم الجزائريين مثل الصلابة والخشونة قد تكون ضرورية في مثل هذا الطور من أطوار العرب فينشأ من الصلابة ما يقاوم الارتخاء، ومن الخشونة ما يقاوم ما ابتلتنا به الحضارة الغربية، ومن الجد ما يقاوم الهزل المتفشي في مجموعنا وينشأ من جميع ذلك مزيج عجيب فيه التعديل والتلطيف والعلاج. أيها الإخوة: هذه الكلمات المضطربة كلها ذكرى، وأنتم قد اجتمعتم للذكرى فهل لكم أن تتوجهوا إلى الله بقلوب متعلقة به عامرة بالإيمان به متقلبة في قبضته فتسألوه الرحمة لأولئك الشهداء المستضعفين الذين سالت مهجهم على الشفار، ولأولئك الأقوياء به الذين تمزقت أشلاؤهم في القفار. ترحموا على كل من مات في الجزائر في زمان هذه الثورة، فمن

رحمة الله الغامرة لاخوانكم ان كل من مات منهم فيها بأي سبب من الأسباب فهو شهيد، فإن مات من مرض فسببه الاستعمار الفرنسي، وإن مات من جوع فسببه ذلك الاستعمار، وإن مات من برد فالسبب واحد، وادعوا في الأخير لإخوانكم المقاتلين بالنصر المؤزر والتأييد المسدّد والتوفيق لمراضي الله، والسلام. ـ[اللهم ارحم عبادك الذين ماتوا في سبيلك وفي سبيل دينك ولَقِّهِم النظرة والسرور بلقائك. اللهم إن ما فاتهم من الراحة في هذه الدنيا ففي رضاك الخلف. اللهم اجعل هذا التشريد المريع الذي أصابهم في الحياة جمعًا وسببًا في اجتماعهم في مقر الرضا عندك. اللهم انصر وأيد وآزر وسدد عبادك المجاهدين في سبيلك وتثبيت دينك. اللهم ان تهلك هذه العصابة المجاهدة فلن تعبد في أرض الجزائر التي اخترتها حصنًا للإسلام وملاعب لجياد المجاهدين الأولين؛ اللهم آمين.]ـ

الجزائر الثائرة

الجزائر الثائرة * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: كانت جمعية الشبان المسلمين- كعادتها في كل ما تزاول وتحاول- ملهمة إلهامًا سماويًّا في هذا العنوان الذي أطلقته على يوم الجزائر، وهو: الجزائر الثائرة- لأنه وصف صادق على الجزائر، مطابق لحالتها الذاتية الدائمة بمعنييه اللغويين، فهي ثائرة بالصفة المشتقة من الثورة وهي ثائرة بالفهم المشتق من الثأر، والعرب يقولون لكل خارج على مألوف عرفي هو ثائر، كما يقولون لطالب الثأر وللآخذ به ثائر، مع اختلاف المادتين في أصل المعنى، لأن من بدائع لغتهم تلاقي المادتين المختلفتين على الوصف مثل: سال وسأل يلتقيان في سائل، وثار وثأر يلتقيان في ثائر. والثورة والثأر كما يلتقيان في الوصف يلتقيان في بعض الحقيقة وبعض الأسباب وبعض النتائج وبعض الوسائل، ففي الثأر شيء من معنى الثورة، لأنه جزاء وانتقام، ولأن فيه طلبًا لحق، وفيه إطفاء غيظ وشفاء نفس، وفيه نكاية لعدو وانتصاف من ظالم، وفي الثورة شيء من معنى الثأر لأنها إما سعي في استرجاع حق مغصوب، أو حفاظ على شرف مهدر، أو ذياد عن كرامة مهانة، أو دفاع عن عرض منتهك، أو غيرة على حرية مسلوبة، أو نضال عن وطن مستباح، أو حمية لدين مستضام، والجزائر تجمع هذا كله، وثورتها- حين تثور- تجتمع على هذا كله. الجزائر ثائرة بالمعنى الأول على الاستعمار الفرنسي الذي جثم عليها قرنًا وربع قرن وسامها سوء العذاب ورماها بالمخزيات الثلاث: الجهل والفقر والمرض، واستأثر بخيراتها الوفيرة، وقضى بأساليب يعجز عنها الشيطان على كل أسباب القوّة فيها، وتدسس إلى مكامن الروابط الأخوية بين أبنائها فأفسد الأخوة وقطع حبال الأرحام حتى نصب للأخ عدوًا

_ * كلمة الشيخ في الاحتفال بيوم الجزائر في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، عام 1958.

من أخيه وللجار عدوًا من جاره وللقبيلة عدوًا من القبيلة، وللأمة كلها جواسيس من الأئمة الذين أقامهم للصلاة وإقامة الشعائر، وقبل ذلك كله وضع يده على الأوقاف الإسلامية التي هي ملك الله فتصرف فيها ووزعها على الأوربيين وعلى الهيئات التبشيرية والجمعيات المسيحية، وأحال كثيرًا من المساجد الكبيرة في المدن كنائس ومتاحف ومستشفيات وهدم كثيرًا منها للشوارع والحدائق والميادين، ثم هجم بمبشريه وكتبه وملاهيه ومخامره ومواخيره ومدارسه ومدرسيه على عقيدتها السماوية يريد أن يمحوها، وعلى عقلها العربي يريد أن يزيّفه، وعلى فكرها الإسلامي يريد أن يمسخه، وعلى ضميرها الحي يريد أن يخدره، وعلى روحانيتها الشرقية يريد أن يطفئها، كما جند قوانينه المتلاحقة على اللغة العربية يريد أن يقضي عليها ويرحلها من وطنها، ويغمرها برطانته التي سحر بها ألباب المفتونين في هذا الشرق، ليتخذ منهم أدوات إنسانية تلهج بذكره وتسبح بحمده وشكره، وتحسن مقابحه وتستر سوءاته، وتقطع لأجله ما وصل الله من أسباب الإسلام وأرحام العروبة ووأسفاه! والجزائر ثائرة بالمعنى الثاني، فلها عند فرنسا ثارات تمتد مع القرن سنة سنة، فكم قتلت من أبناء الجزائر مئات وألوفًا وعشرات الألوف. لا نعني من قتلتهم من المجاهدين فيها أو الثائرين عليها من عهد احتلالها لوطننا إلى الآن فأولئك شهداء طلبوا الشهادة من طريقها وسعوا إلى الموت في أشرف ميادينه مختارين، وأولئك لم يموتوا وإنما اتخذوا الموت جسرًا إلى الجنة وممرًا من الحياة إلى الاحياء، وأولئك قوم فهموا الحياة على حقيقتها وعلموا أن أعلى قيمها أن تبذل في ما هو أغلى من كرائم أشياء العرب، وأولئك هم رأس مالنا إذا تغالت الأمم في رؤوس أموالها من المجد والمفاخر، وأولئك لا نعدهم على فرنسا ولا نعدها من قتلتهم لأنها أحقر من ذلك، ولا نعدهم من قتلاها لأنهم أجل من ذلك. وإنما الثارات والترات التي لنا في عنق فرنسا هي دماء أبنائنا التي أريقت في سبيلها في الحروب الاستعمارية التي أذلت بها رقاب الأمم وفي الحروب الأوربية التي حفظت بها وجودها. إنما الثارات التي نطلبها من فرنسا ولا نهدأ حتى نأخدها بها ونشفي صدورنا بالاقتصاص منها هي ثارات من قتلتهم غيلة وخداعًا. إننا نذكر لكم الجديد ولا ننسى القديم فقد قتلت منا بالأمس في الثامن ماي 1945 ما يقارب ستين ألفا في يوم فرح العالم أجمع بإنهاء الحروب، خرجوا يشاركون مشاركة المتفرج عزلًا مستضعفين، فلقي ذلك العدد العديد حتوفهم على غرة بمكيدة مدبرة من حثالات الأوربيين الحاقدين على المسلم لأنه مسلم ومن ورائهم الحكومة وجنودها، وما نقمت منهم فرنسا وأوباشها إلّا لأن أبناءهم ماتوا في سبيل احيائها بعد الموت وانقاذها بعد الانهيار، وكان من لؤم فرنسا ومخازيها أن جرّت الأبناء إلى القتل في ميادين الحروب ثم

قتلت الآباء وهم غارون، وإن فرنسا الوحشية لا ترضى بالخزية المفردة حتى تعززها بما هو أخزى، وأما والله لو أن تاريخ فرنسا كتب بأقلام من نور بمداد من عصارة الشمس في لوح منحوت من صفحة القمر، ثم قرظه عشاقها المتيمون منا باللؤلؤ المنثور بدل القرض المشعور، والشعر المنثور، ثم كتب في آخره هذا الفصل المخزي بعنوان "مذابح سطيف وقالمة وخراطة" لطمس هذا الفصل ذلك التاريخ كله، ولجلّله بمثل ما يجلل الأفق من ليلة محاق ظلماؤها معتكرة ونجومها منكدرة، فكيف وفي تاريخها كثير من هذه الفصول السوداء، وأكثرها مرتبط بتاريخ أفريقيا الشمالية، ومع ذلك فإن هذه المخلوقة العجيبة- التي تسمى فرنسا- تدعي الإنسانية، وتتخايل فتدعي أنها خلاصة الإنسانية، وتدعي العلم، وتتعالى فتزعم أنها معلمة العالم، وتتغنى بالحرية، وتتداهى فتملأ ماضغيها فخرًا بأنها أم الحرية ومربيتها وحاضنتها وموزعتها على العالم، وما هي حين نترجمها بأفعالها إلّا زؤان الإنسانية وسقطها، وما هي عند النسابين الأولين وحين تتشامخ الشعوب بأنسابها إلّا العنصر الهجين بين الغال واللاتين، ولا عند الآخرين إلّا خليط الأوزاع والنزاع من الأسبان والطليان والعبران والسودان، وما هي حين تقسم الطبائع والخصائص على الأمم إلّا العدو المبين للعقل والدين والعلم والتمدين، واللص المغير على الحرية والتحرير، وإن لها منها عليها لشواهد، فكم أغارت على حريات الشعوب الضعيفة الآمنة فسلبتها، وعلى آدابهم وعلومهم ودياناتهم فطمستها، وكم هدمت من مساجد يذكر فيها إسم الله، إن في ما وقع منها في الجزائر من حرب الإسلام واللغة العربية صفحات لا تحتاج لمزيد حتى إن حافظ القرآن في قرية يحرم عليه القانون الفرنسي فتح كتّاب لتعليم القرآن إلّا برخصة لا تعطى. أيها الإخوان: إن الاستعمار الفرنسي في الجزائر هو الذي نوع أسباب الثورة عليه، وكل سبب منها يقضي بثورة مجنونة، فكيف بها حين تجتمع؟ فلو أن أهل الجزائر ثاروا كلهم ثورة رجل واحد، وثأروا لقتلى تلك المذابح التي سمعتم إجمالها بقتل أمثالهم من الأوربيين لما بلغوا إلى ما تقرّ به العين من الثأر المنيم، والثأر المنيم عند أجدادكم العرب هو الثأر الذي يجلب النوم المريح إلى العيون التي قرحها السهر في طلب الثأر شهورًا وأعوامًا حتى إذا أدركته نامت وقرت، ومن خصائص أولئك الأجداد التي فقدناها مع الأسف أنهم كانوا لا ينامون على وتر، يعني أنهم يهجرون النوم حتى يأخذوا بثأرهم حمية وأنفة وعلو همة لأن النوم إنما يطيب للخليين الفارغين. ولو أن الجزائر ثارت كلها ثورة رجل واحد غيرة على ما فعلت فرنسا بدينها وأوقافه ومدارسه ومعابده التي ما زالت تعبث ببقاياها إلى الآن لكانت على حق يقرها عليه كل من له عقل في هذا العالم.

ولو أن الجزائر كلها ثارت ثورة جامحة جارفة تخرب العمران وتطمس المعالم وتذهب بكل ما شيدته فرنسا من هياكل الحضارة في الجزائر غيرة على لغتها وقوميتها التي تعمل فرنسا علانية على محوهما ومسخ أهلها لما كانت ملومة ولا موسومة بالوحشية. كل شيء عاملت به فرنسا إخوانكم العرب المسلمين يدعو إلى الثورة ولو كانت فسادًا في الأرض لأنها ثورة على ما هو أفسد. ألا لا يقولنّ قائل ولا يهمسن في خاطر امرىء سمع كلامي، العجب من عدم قيام الثورة قبل اليوم، ومن ذهاب أبناء الجزائر للدفاع عن فرنسا حتى يسمع الجواب، أما ذهاب الجزائري للدفاع عن فرنسا فهو فيه مضطر أشبه بِمُخَيَّر، أو مُخَيَّر أشبه بمضطر، ومن البلاء ما يجمع بين المتناقضين في رؤية بصر أو رأي بصيرة، ان سياسة فرنسا منذ أربعة عقود من السنين في قضية التجنيد بالجزائر أنها كلما احتاجت إلى عدد عديد من الجنود الأهالي دبرت بوسائلها الشيطانية مجاعة فظيعة للوطن، فتشتت خيراته التي يكفي محصول سنة منها عشر سنوات فتنقلها إلى وطنها أو تحتكرها وترفع قيمتها إلى ما فوق الطاقة وتقطع أسباب العمل في الداخل وتسد أبوابه في الخارج، فإذا استحكمت المجاعة وأخذت مأخذها في الشعب، واعتراه منها ما يذهل المرضعة عن رضيعها بعثت في القرى والأسواق والسهول والجبال حاشرين بطبولهم ومعازفهم يدعون الناس إلى الجندية ويصورونها لهم كما يصور الواعظ الجنة، ويغرونهم بأجور ما كانوا يحلمون باليسير منها، فيندفع الشبان الجائعون المساكين بالعشرات والمئات إلى التجنيد ليسدّوا أرماق أهليهم بما يبيعون به أنفسهم، وليضمنوا لأنفسهم الخبزة التي تحفظ عليهم الحياة، وفي مثل هذه الحالات من المجاعات المصطلية يندفع المبشرون لاصطياد الأطفال المتضورين جوعًا فيؤوونهم إلى حظائر التنصير، وتجتمع على الأمة المسكينة في كل مجاعة مصيبتان في آن واحد وبسبب واحد وهو التجويع المقصود الذي تصطنعه فرنسا وتحكم أسبابه في وطن يفيض بالأرزاق والخيرات. ويا ليت الوقت يتسع لتحليل بعض العمليات التي ترتكبها فرنسا لبلوغ غايتها من هذا التجويع، وهي عمليات يحلف الشيطان أنه عاجز عن اختراعها، وهو إمام المخترعين لأمثالها. وأما النقطة الثانية من مناط العجب، وهي كيف لم تثر الأمة الجزائرية من زمان على الظلم الذي أريناكم لمحات من وصفه، فجوابها عند قرن وربع قرن، سنوات وعقودًا، فهي تشهد أن الجزائر أم الثورة، وأنها قدمت من الضحايا في سبيل استقلالها وحريتها ما لم يقدمه شعب آخر، وأنها لبثت سبعة عشر عامًا في ثورة مسلحة نارية متصلة الأيام والليالي بقيادة الأمير البطل عبد القادر بن محيي الدين المختاري، سجلت فيها من صفحات البطولة والحمية ما شهد به العدو قبل الصديق، وكم أذاقت فرنسا اليَتُوع ممزوجًا بالحرمل لا بَلْ

جرعتها السمّ حدوفًا في الخردل، وكم واقفها أبطال الجزائر فدحروها وألزموا جيوشها الجرارة الاحتماء بالسواحل بضع عشرة سنة، وما زالت فرنسا تعرف من كتبها مواقع السيوف الجزائرية في بني أبيها في وقائع "تافنا" و"سيكاك " من ضواحي تلمسان، وما زالت تفهم معنى الغضبة المضرية والحمية المازيغية من تلك المواقع وعشرات أمثالها مما عناه شاعر الجزائر الحديثة محمد العيد في قوله من قصيدة يخاطب بها تلمسان: "تلمسان" اكشفي عن رائعات … من الآثار جللها الغبار ضعي عن قرنك الضاحي خمارًا … فقرن الشمس ليس له خمار ففي هذا الثرى الزاكي قديمًا … لنا ازدهرت حضارات كبار وفي هذا الثرى الزاكي قديمًا … تفشى العدل وانتشر اليسار وفي هذا الثرى الزاكي قديمًا … سما "مازيغ" واستعلى "نزار" عليك تآخيا أدبًا ودينًا … وحولك ضم شملهما الجوار هما حميا ذمارك بالعوالي … عصورًا فاحتمى بهما الذمار ولما اجتمع على عبد القادر تدبير الأقدار وتخاذل الأنصار وقعود الجار استسلم، ولكن الجزائر لم تستسلم، وبقيت الثورات مشتعلة في جهات القطر، لم تفقد إلّا صبغتها العامة الشاملة لجهاتها الأربع من حدود "وجدة" إلى مخارم "أوراس" في حدود تونس، وكانت فوهة البركان الثائر قمم جبال "زواوة" التي تشكل ثلث الأطلس الأصغر، إلى أن كانت آخر الثورات القوية المسلحة ثورة الحاج أحمد المقراني التي شملت مقاطعة قسنطينة سنة 1871 في أواخر الحرب السبعينية بين فرنسا والألمان، وقد شهدها جدي ووالدي وثلاثة من أعمامه، ورابط رجال قبيلتنا شهورًا في سفوح جبل "عياض" ونازلوا عدة طلائع من الجيش الفرنسي فأبادوها في وقعة "قمور" و"بوتمرة" و"الشانية" وفاز بالشهادة عشرات من ذوي قربانا. وما زالت الثورات المحلية تتعاتب إلى عهد قريب، ففي مقاطعة قسنطينة وحدها يسجل التاريخ ثورة قريبنا الشيخ سعد التباني في جبل "قديشة" احدى قمم الأطلس حيث منازل الأجداد، وثورة العامري، وثورة بوزيان، وثورة الزعاطشة، وثورة بني سليمان، وثورة عموشة، وفي عمالة وهران ثورة بو عمامة وثورة أولاد سيدي الشيخ البكريين بالأبيض وغيرهما، وفي الجزائر ثورة زاغر وثورة العاقلات وغيرهما، حتى ليحسب المؤرخ أن في كل قمة موقعًا لثورة، ولكن تلك الثورات لم تجاوز أخبارها مناطقها المحدودة وغطت عليها صبغة ذلك الوقت وهي الانقطاع التام بين غرب العرب وشرقهم، فلم يعرف عنها شيء ولم ترزق الأقلام المدونة فطاف عليها طائف النسيان حتى عند أحفاد الثائرين وأبنائهم وأنا واحد منهم، ولقد أدركت العجائز لا يؤرخن الزواج والمواليد والوفيات إلّا بتلك الثورات كما كان العرب يفعلون.

أيها الأخوان: إن الجزائر ثائرة بطبيعة وَرِثَتْها وَوَرَّثَتْها، ورثتها من أسلاف لهم في تاريخ الثورات عرق ممتد إلى عصور الجاهلية، والتقت عليه الطبيعتان العربية والبربرية، وورثتها من غاباتها الكثيفة الغبياء وجبالها الصخرية الشم، وأطلسها الذي هو نطاق الله شد به وسطها ووِشاحه وشح به سواحلها، وسلكه الذي نظمها به مع أختيها تونس ومراكش، لا بل آيته القائمة على أن تلك الأقطار دار واحدة لا تتجزأ ولا تقبل القسمة، فإذا حاول تفريقها محاول سفهته السواحل باتحاد أمواجها وصدمته الجبال بتناوح أثباجها، واشتباه فجاجها، وكذبته الصحارى بسرابها وسراجها ومراتع غزلانها ونعاجها، ومراعي أذوادها وأعراجها. ثم ورّثت تلك الطبيعة بَنِيها فكانت صلابة في طباعهم وحميا في أنوفهم وحمية في نفوسهم، وإباء في مغامزهم، ورهبة في سكونهم وسكوتهم. إن السجايا الطبيعية كالحق تظهر من معنى ومن كلم، وإن عرب الجزائر- خصوصًا النابتين في مجالات بني هلال بن عامر- لعراقتهم في الثورة وتمكن الثورة من طباعهم، يستعملون كلمة الثورة بمعنى القيام المعتاد، فيقولون ثار من النوم وثار للصلاة بمعنى قام، ويقولون في الأمر "ثُورْ تْصَلّي" وثوروا للصلاة، وهكذا تدور هذه الكلمة على ألسنتهم مرّات عدّة في اليوم ويتصرفون فيها هذه التصرفات، وهم لا يجهلون معناها الأصلي المحدد بل هم يلمحون إليه ويجعلون الكلمة منبهة عليه، وكأنهم يرون أن أعمال الحياة كلها ثورات، وتلك هي الفلسفة الفطرية في أعمق معانيها، والكلمات إذا دارت على الألسنة ولو مع انحراف عن معناها الأصلي فإنها دائمًا تذكر به وتجعله متصلًا بالأذهان. أيها الإخوان: إن الجزائر ثارت على الحق في أولها فكيف لا تثور على الباطل في آخرها. ثارت على الإسلام وهو دين الحق، فمن عجب أن لا تثور على الاستعمار وهو الدين الباطل، فلما هداها الله للإسلام لجت بها تلك الطبيعة فكان يثور بعضها على بعضها استجابة لداعي تلك الجبلة فيها كما صورها العربي في قومه بقوله: وأحيانًا على بكر أخينا … إذا ما لم نجد إلّا أخانا إن الجزائر قبل أن يلوح عليها بوم الشؤم من الاستعمار الفرنسي، ويبتليها بما قتل معنوياتها، وأضعف فيها روح الرجولة والبطولة والنبوغ والتأثر الصادق بالدين، كانت حلف الجهاد وعدو المهاد، فلم تخل يومًا في عصورها الإسلامية من الجهاد بالمال والنفس كما أمر الله، لأن الجارين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض كان كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل سبب الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان، فبعد أن كان صراعًا على العيش

أو التوسع في العيش، أو صراعًا على الزيت والتين- وهما المادتان اللتان جلبتا الغزو الروماني لافريقيا الشمالية- صار صراعًا على ذلك وعلى الدين، وزاد في شدته أن العرب بدينهم خلفوا الرومان على حضارتهم في افريقيا، ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيروا بها وطاروا فزعًا، وظنوا أنها القاضية على روما وحضارتها وديانتها وشرائعها. ندع الفترة الرومانية الضعيفة التي سبقت الفتح الإسلامي، وبدأت من يوم انقسام روما إلى غربية وشرقية، فهي فترة سلم اضطراري بين سكان الضفتين، وننحدر مع التاريخ إلى ضعف الأندلس بانقسام ملوك الطوائف، وتداعي اللاتين إلى ايقاد نار الثأر والانتقام، وشن الغارات على سواحل المغارب الثلاثة من سواحل تونس الشرقية إلى ما تحميه الدول الإسلامية القوية كاللمتونيين والموحدين والمرينيين، فالجزائر كان لها القدح المعلى في الجهاد، تارة منظمًا على يد الدول وبطريقة الاستنفار، وتارة أخرى- وهو الدائم الذي لا ينقطع- اختياريًا بالدَّافِع النفساني الفردي وهو الرباط الذي يشبه في جهته الفردية حرب العصابات اليوم، فكانت الثغور الجزائرية المشهورة والمهجورة وما يجاورها، وكل موضع يتطرّق منه العدو عامرة أبدًا بالمرابطين، وهم قوم نذروا أنفسهم لله ولحماية دينه يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، لا يرزأون الحكومات شيئًا من سلاح وزاد، وإنما يتسلحون ويتزودون من مالهم ليجمعوا الحسنيين: الجهاد بالمال والنفس، وسلسلة الرباط لم تنقطع إلّا بعد استقرار الأمر لفرنسا، وإنما كانت تشتد وتخف تبعًا لما يبدو على الشاطىء الآخر من نشاط وخمود، وكانت على أشدها في المئة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، وكانت هذه السلسلة منتظمة في مراكش من الريف لسبتة والناظور ومليلية والتكور، ومن سواحل الجزائر للغزوات ورشغون وهنين وبني صاف والمرسى الكبير ووهران وأرزيو ومرسى الحجاج ومستغانم وتنس وشرشال وشنوة، وخليج تيبازة وسيدي فرج والجزائر وتمنتفوست ودلس وأزفون وتاقزيرت وبجاية والمنصورية وجيجل والقل وسكيكدة وعنابة والقالة، ومن تونس مرسى المرجان وبنزرت وغار الملح، والمرسى ورأس أدار وقليبية ونابل والحمامات والمعمورة والأجم وما بينهما، وسوسة وصفاقس وما بينهما، وقابس وجربة وما بينهما، وتقل في سواحل ليبيا لتوغل البحر في الجنوب، وكذلك في سواحل مصر إلّا حيث تدعو الحاجة. أيها الإخوان: إذا كانت الأشجار تسقى بالماء وتؤتي الثمار المختلفة فإن الثورة شجرة تسقى بالدماء فتثمر الحرية. والسلام عليكم ورحمة الله.

فرنسا وثورة الجزائر

فرنسا وثورة الجزائر * إذا كانت النتائج تنتزع من المقدمات فإن النصر محقق للثورة الجزائرية: هذا ما تحكم به العقول الراجحة، وتقتضيه أصول الاجتماع الإنساني وتؤيده العادات الجارية. إنما نحن في عالم أسباب ومسببات تصطرع فيه سنن ثابتة لا تبديل فيها ولا تغيير، والثورة الجزائرية دائرة في هذا المدار من أول يوم، جارية على السنن التي يقتضيها التدافع البشري في الحياة، على مقدار من حالها وظروفها، واعداد ما يطلب مثله من مثلها، وهي تجبر نقصها في الاعداد الحسي الذي تقتضيه السنن باعداد روحاني له أثره في نتائج الصراع بين كل مجموعتين، وله وزنه في ترجيح كفة على كفة، وله قيمته في نصر العدد القليل على العدد الكثير، ذلك كله ثابت بشهادة الدين وشهادة الحس، فالقوّة المادية التي ساقتها فرنسا على المجاهدين الجزائريين في هذه الحرب تفوق قوّة الجزائريين أضعافًا مضاعفة، بل نسبة قوّة الجزائر إلى قوّة فرنسا هي نسبة الصفر ... وأين من لا يملك طائرة واحدة ممن يملك آلاف الطائرات، يزاد عليها وفرة العدد، واتصال المدد، ووفرة الأقوات، وكل ما يعرفه الناس من الأسلحة المعتادة، ولكن الجزائريين يملكون قوّة أخرى لا يملكها الفرنسيون: يملكون القوّة الروحية التي تفل كل سلاح، يملكون قوّة الإيمان الصحيح، وقوّة النفوس الطاهرة، وقوّة العزائم الثابتة، وقوّة التصميم الذي لا يطرقه الوهن، يملكون توحيد القصد وصدق التوجه، وشرف الغاية، بحيث لا يضل بهم فيها سبيل، ولا تختلف لهم فيها وسيلة، ولا يزيغ لهم رأي. ففرنسا تقاتل على باطل وهو الاستعمار، والمجاهدون يقاتلون على حق وهو عزة الحياة وكرامة العروبة ومجد الإسلام، وفرنسا تقاتل في سبيل استعباد الإنسان وامتهان كرامته، وهم يقاتلون في سبيل تحريره وإسعاده وعزته، فهل يستويان مثلًا؟

_ * مسودة لمقال كُتب في القاهرة، سنة 1959.

وفرنسا استعمارية بطبيعتها، ولا تلتذ من ثمرات الاستعمار إلّا باستعباد المستضعفين من خلق الله، وانتهاك حرماتهم، والرقص على جثثهم، والطرب لأنينهم، وعندها أن نهب الأموال وسلب الأرزاق وتجريد الضعفاء من أسباب القوّة، ونشر البؤس والأمراض، كل ذلك يأتي في الدرجة الثانية بعد تعذيب الأبدان وسلب الإرادات وقتل الضمائر وكأنها في القرن الأخير تنبهت إلى أنها وارثة الرومان الأقدمين، فأرادت أن تبلغ مثل ما بلغ الرومان، أو فوق ما بلغ الرومان من اتساع الرقعة وبسط السلطان وسوق العالم بعصا القوّة والبطش، وكان يمكن أن تبلغ هذا في غفلة من الدهر وفي ساعة انكدار النجوم وإدبار الأيام وتسلط النحس على كثير من الشعوب، كما كان يمكن أن تبلغ هذا من طريق الاحسان والعدل ... ولكنها الأعراق المتأصلة في الخبث لم تدع لها منفذا لتصور شيء اسمه العدل، أو شيء اسمه الاحسان. تنتحل فرنسا لنفسها وصف العظمة، والعظمة نوعان: عظمة نفسية طبيعية في الأفراد أو في الشعوب، وعظمة مزورة مصطنعة، ومرجع الأولى إلى سمو الروح الإنساني الذي تنشأ منه الفضائل كلها كالرحمة والمحبة والعدل والاحسان والوفاء والصدق والعفة، وهذه هي أمهات الفضائل في الأفراد وفي الشعوب. ومن فضل الشيطان على فرنسا أنها عارية من هذه الفضائل كلها، وتاريخها الاستعماري المديد كله شهادة ناطقة بهذا، فما رأينا استعمارًا أفجر من الاستعمار الفرنسي ولا أخشن منه مسًا، فهو يتعمد جعل الرذائل أساسًا لحكمه ومعاملته للضعفاء الذين يقعون في قبضته: فمن ظلم لا رحمة معه، إلى استئثار لا عدل فيه، إلى نهم لا قناعة فيها، إلى لصوصية لا حد لها؛ ولو اقتصر بلاؤه على الظواهر المادية لهان الأمر قليلًا، لكنه يجاوزها إلى الدين، وإلى عقائده في النفوس، وإلى مدب السرائر ومعتلج العواطف، وإلى الصلات الروحية بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره. ومن لئيم المكر والكيد والاضلال في هذا الاستعمار أنه يعتمد على القانون، والقانون هو الذي يصنعه، وهو الذي ينفذه وهو الذي يطبقه، كما شاءت أهواؤه في التشريع والتنفيذ، ومن تعمقه في المكر وقلب الحقائق أنه يسخر تلك القوانين لحماية الرذيلة، فالذي يفتح مدرسة لتعليم الأطفال مبادئ دينهم ولغتهم مجرم مخالف للقانون، أما الذي يفتح مخمرة يفسد بها عقول الناس ويتلف أموالهم فهو حر تحميه تلك القوانين، وأمثال هذا كثير. هذه وأمثالها هي الأساطين التي بنيت عليها العظمة الفرنسية التي أثمرت هذا الاستعمار، والتي ما زال يتبجح بها ساسة فرنسا والمغرورون من رجال الاستعمار فيها، ولو أن هذا التبجح ارتفع صوته قبل الحربين العالميتين ويوم كانت تتمتع بسمعة عسكرية ترهب وتخيف، لقلنا: لعل وعسى، فأما بعد تينك الحربين، وبعد ثورة الهند الصينية، وبعد ثورة الجزائر، فقد كشفت المحسوسات عن المدسوسات، وعلى أن تلك العظمة التي لا تعتمد على الأخلاق النفسية ولا تعتمد- أول ما تعتمد- على الروح، هي عظمة زائفة دعية.

إن هيبة الأسد تنبعث من أظافره وأنيابه، فإذا أصبحت أظافره مقلمة، وأنيابه مهشمة، فقد بطل سحره وضاعت هيبته. إن العظمة الحقيقية لا تتحدث عن نفسها بلغة الكلام، وإنما تفصح عنها الحقائق الملموسة من أعمال ومعاملات، وصدق يحوط ذلك كله، ولأمر ما لم تعلُ هذه النغمة بالتحدث عن عظمة فرنسا قديمًا في أيام صعود نجمها وإقبال أيامها، وإنما كثر تردادها ولوكها في هذه السنوات الأخيرة، كأن ذلك مقصود لتغطية الهزائم المتلاحقة على فرنسا في الميدانين السياسي والاجتماعي. ولو كان الساسة الفرنسيون عقلاء لهداهم العقل الرصين الرزين إلى التي هي أقوم، وهي تبديل العقلية العتيقة كما يبدل أحدهم ثوبه إذا اتسخ، ولأرشدهم إلى تطهير الروح المدبرة، واستبدال السيئة بالحسنة، والظلم بالعدل، والاستئثار بالايثار، والانانية بالمساواة، وسوء المعاملة للناس بحسن المعاملة، ولكنهم عموا عن رؤية الحقائق الماثلة، وصَمُّوا عن سماع الكلمة العاقلة، فكأن نظافة البدن عندهم أهم من نظافة النفوس، وكأن تدبير الجسد ألزم في نظرهم من تدبير الممالك. كانت فرنسا وما زالت ثائرة على الشعب الجزائري ثورة متماسكة الحلقات من قرن وربع قرن، يعني من معارك الاحتلال الأول، فلم ينطفئ لها غيظ باستسلام الجزائريين وبالقائهم السلاح، بل بقيت الاحقاد تغلي وتظهر آثارها في كل ما تعاملنا به فرنسا ... تظهر في القوانين المسنونة لحكمنا، وهي قوانين خاصة بنا، وفي التعاليم التي يسير عليها صغار حكامها فينا، وفي استمرار نزع الأرض الصالحة من الأهالي بالقوّة وإعطائها إلى المعمر الأوربي أيًّا كان جنسه، وفي الاستيلاء على جميع معابدنا وأوقافنا وزيادتها في رقعة الاستعمار، ولم يكفها هذا، بل حرمتنا من اختيار أئمتنا، ووضعت جميع المساجد تحت يدها، وأصبحت هي التي تعين الإمام والمؤذن والقيّم، لتسخرهم في أعمال بعيدة عن الدين، امتهانًا لكرامة الدين، ولقد بلغ بها هذا الامتهان حده في المدة الأخيرة فسخرت جميع رجال الدين الموظفين للتجسس على إخوانهم، وأصبح تجسسهم لها شرطًا في الوظيفة الدينية، وحرمت علينا تعلم ديننا إلّا بمقدار لا يغني ولا يفيد، وحرمت علينا تعلم لغة ديننا حتى المبادئ الطفيفة، وحرمت علينا تعلم لغتها إلّا بمقدار ضئيل تهيئنا به لخدمة الحكومة في وظائف الترجمة، ولخدمة السادة المعمرين، ولولا تيار من النهضة طغى منذ ثلاثين سنة تقريبًا فدفع طائفة من شباب الأمة إلى اقتحام أسوار الكليات والجامعات، وعدم الاكتراث بالأشواك والعراقيل المنثورة في طريقهم إليها- لولا ذلك التيار- لما وجدت هذه الطائفة القليلة التي تحمل لواء الثورة اليوم ولما كانت النهضة السياسية التي تقدمت الثورة. وضربت فرنسا بيننا وبين إخواننا في الشرق سدًا منيعًا وستارًا حديديًّا أين منه ستار الروس، ومن فروع هذا السد أنها لا تسمح برخصة الحج الذي هو فرض ديني إلّا لأتباعها

المخلصين، ومع إخلاص هؤلاء الأتباع فإنها تحيطهم بسياج من الجاسوسية ولا تسافر قافلة الحج إلّا تحت رئاسة حاكم إداري استعماري من الطراز الأول يبقى في جدة ويدخل جواسيسه من الحجاج إلى الحرمين وهو متصل بهم في كل دقيقة. هذه جوانب بارزة من ثورة فرنسا المستمرة علينا، وهي حقائق يراها كل جزائري، ولكننا ضربناها أمثلة وأقمناها شواهد، وبعدها فروع تتناول جزئيات حياتنا الفكرية والعقلية والمادية ... فانظروا هداكم الله كيف تحيا أمة على قوانين جائرة يضعها عدوها ولم يشركها في وضعها ولا تنفيذها. ومن أسباب هذه الثورة من فرنسا علينا أننا عرب، وأقوى أسبابها أننا مسلمون، وأننا لم ننس الوشائج المتشابكة بيننا وبين بني أبينا في الشرق العربي، وبيننا وبين إخواننا في الشرق الإسلامي، وأننا نؤمن بالقومية العربية إيمانًا راسخًا ونفخر بها فخرًا طالما أطار صواب رجال الاستعمار، ولحقنا بسببه من الأذى ما لا يعلمه إلّا الله، وأننا نولي وجوهنا شطر البلاد العربية التي هي مشرق ديننا، ومجتمع أنسابنا، والصفحة الأولى التي خط عليها تاريخنا. فما بال فرنسا حاضنة الإنسانية بزعمها، وحامية الحضارة الإنسانية في دعواها، تضيق ذرعًا بثورتنا عليها أربع سنوات، ويطيش صوابها إلى درجة الجنون، فتسوق علينا الجيوش الجرارة بالأسلحة الفتاكة، وتتدلى بأخلاقها إلى الوحشية، فتعذّب الأبرياء فنونًا من العذاب لا تخطر على بال، ثم تقتلهم بطريقة يتبرأ منها الوحش الضاري الموكول إلى غرائزه، ثم تمعن في تقتيل الأمهات الحوامل والأطفال والعجزة الذين تحرم قتلهم قوانين السماء وقوانين الأرض، مما يدل دلالة قاطعة على أنها مصممة على إبادة الجزائريين. من هنا يأخذ العلماء والأخلاقيون الدليل على أن الشر أصيل، وأن حديث الخير والمدنية والعلم في الشعب الذي تنبت فيه هذه الموبقات حديث خرافة. صحيح أن الاستعمار يكون استغلالًا في أول أمره، ثم ينقلب التذاذًا بالتسلط والاستعباد في وسط أمره، فإذا بلغ أشده أصبح سعارًا كالكلب المكلوب، ثم يصبح مرضًا عضالًا في أهله لا ينفع فيه علاج، والحكيم كل الحكيم هو من يكتشف دواء لداء الاستعمار في نفوس الاستعماريين، فهو والله أخطر وأشد فتكًا بالبشرية من داء السل والسرطان، وإنني أتلمح أن داء الاستعمار أيسر علاجًا من السل والسرطان، وانه لو تداعى عقلاء الأمم وأطباؤها الروحانيون وأخلصوا في مكافحته لاجتثوه من أصوله. كانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ليست ثورة على فرنسا من حيث أنها دولة، ولا على الفرنسيين من حيث أنهم أمة، فنحن أعقل من أن نثور ثورة مستميتة على حكومة أو على جنس كيفما كانت تلك الحكومة أو ذلك الجنس، ونحن

قوم أدبنا ديننا بأن الحرب مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأوصانا بأن لا نغمس يدًا في فتنة وأن لا نبدأ أحدًا بالقتال، وأن لا نقاتل إلّا من قاتلنا، وأن لا نركب إلّا أحسن المحامل ما دام جزء في المائة حسنًا، واعلمنا أن الحسنات يذهبن السيئات، ولكن ما ذنبنا إذا بدأنا الاستعمار الفرنسي بالشر وسوء المعاملة، وحرمنا من جميع مقوماتنا، واعتدى على ديننا فتعمده بالمسخ، وعلى شعائرنا فتعمدها بالتعطيل، وعلى مساجدنا فتعمدها بالهدم واتخذ من بعضها كنائس، وعلى لغتنا فتعمدها بالمحو، وعلى فضائلنا فغمرها بالرذائل، حتى أصبح الجو الذي يجمعنا وإياه كله عاتم غائم ليس فيه إشراق ولا صفاء، وقد صبرنا على هذه الحالة التي لا يصبر عليها إنسان ولا حيوان مدة تزيد عن القرن، فهل من عاذر؟ وهل من منصف؟ وهل من عاقل؟ وهل من معين؟ وكانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ثورة على الظلم والجور والاستعباد وتلك الشرور التي ضربنا الأمثلة على سائرها في هذه الكلمة، وكذلك النفوس الحرة إذا بلغ بها الضيم مبلغًا تزنه بالموت فيرجح، وتيأس من خير الحياة وخير الأحياء وتتلمس المخرج إلى نور الحياة من جهاتها الست فلا تجده إلّا ضربًا من المحال، فهي معذورة حين تتلمس الراحة من طريق التعب، والحياة من طريق الموت، وهي معذورة إذا اندفعت في طلب الموت بأكباد حرار إليه، ظماء إلى موارد الردى لا ترهبها قوة عدوها، ولا تخيفها وفرة سلاحه، لأنها وزنت أمسها وغدها بالقسط، فأقدمت وهي على بصيرة من أمرها، وقرأت حسابها لما تجره عليها الحرب من تشتيت شمل وتحيّف مال، وعلمت أنها إن لم تلق الموت مرفوعة الرأس لقيها الموت وهي ذليلة، وهو ميزان- كما ترون- لا يستخدمه ولا يركن إليه إلّا من كان في مثل حالة الشعب الجزائري في الظلم والهضيمة، وهي- كما ترون- مغامرة لا يغامرها إلّا من يؤثر الموت المعجل على الموت البطيء. وإن لم تكن إلّا الأسنة مركبًا … فلا يسع المضطر إلّا ركوبها فهذا شعب حر أصيل وقفت به صروف الدهر على صراط أدق من الشفرة، وحملته على تجرع واحد من اثنين أحلاهما مر، فلا تلوموه إذا حكم السيف وترك للأقدار تقدير العواقب، وقد تولته العناية الالهية، فلم يزل منذ خطا الخطوة الأولى في السبيل الذي رضيه، يستنشق من نفحات النصر الالهي والتأييد الرباني ما ينعشه ويشد من عزيمته، وما زالت تفعمه من روائح النصر في كل خطوة ما يدفعه إلى الخطوة الثانية مسدّد الخطى، وهو إلى هذه الساعة مغتبط بما يقدمه لعدوه من هزائم يزيد في مرارتها في ذوق العدو، وحرارتها في صدره ... أن هؤلاء المجاهدين لا يقاتلونه بالأسلحة التي تعرفها الحرب، وإنما يقاتلونه بسلاح الإيمان والثقة بالله وبالنفس، إنما يقاتلونه بالسلاح الذي يعرفه منهم يوم كانوا معه جنبًا إلى جنب في الحربين الماضيتين، وما ذلك السلاح إلا الشجاعة والاقدام والثبات، وإذا جاء نصر الله بطل كيد الأقوياء.

ليت شعري، أية فائدة حقيقية تجنيها فرنسا من وراء هذه الحرب؟ وأي مغنم تكسبه منها؟ نحن نعرف الجواب الصحيح. إن الفوائد من هذه الحرب لا تعود إلى فرنسا كدولة، وإلى الفرنسيين كأمة، ولا تعود إلى التاريخ الفرنسي بصفحات زاهرة بالفخر، مشرقة بالمجد، وإنما تعود إلى طائفة مخصوصة يسمونها ظلمًا "المعمرين"، وهي التي خربت الجزائر وتوشك أن تخرب فرنسا وتأتي بنيانها من القواعد لجشعها وأنانيتها وحرصها على جمع المادة. هذه الطائفة تعد بضع مئات من الآلاف، منهم سبعون في المائة أجانب عن فرنسا لا يبالون أماتت فرنسا أم عاشت، لأنهم ليسوا منها في الصميم، وإنما هم أوزاع من طليان وأسبان وكورسيين ومالطيين، جاءت فرنسا بأجدادهم من مطارح البؤس والفقر، وغرستهم في أرض الجزائر من حيث اقتلعت الجزائريين، وأفاضت عليهم النعم، وسهلت لهم وسائل الاستثمار، ودللتهم كما يدلل وحيد أبويه، ففي سبيل هؤلاء ونزولًا عند مرضاتهم ومطامعهم التي لا حد لها تسوق فرنسا على الجزائريين الأصلاء مع مطلع كل شمس الجيوش الجرارة وتملأ عليهم البر والبحر والجو، وتنفق المليارات من الفرنكات في كل يوم، وتستجدي المعونة الذليلة من الدول العظيمة، وتعطل الواجبات عليها لحلف الأطلسي وهو السبيل الوحيد لوجودها وبقائها. ولو كانت هذه الحرب لما هو الأصل من مذاهب الاستعمار وهو المحافظة على الأسواق التجارية التي تعود على فرنسا نفسها بالفوائد، لوجدت لنفسها عذرًا في العالم الاستعماري المتهافت المتداعي البناء، ولكن الشعب الجزائري المسلم العربي هو المستهلك وهو العميل الدائم للتجارة الفرنسية، وهو الذي يدفع للخزينة الحكومية أكثر من ثلاثة أرباع ما يعمرها من مال، فإذا كانت فرنسا تعمل على إبادته في سبيل إرضاء هذه الطائفة المستغلة من المعمرين فهذا أكبر دليل على أنها سفيهة لا تعمل لمصلحتها. إن هذه الطائفة- طائفة المعمرين- لا تكنّ لفرنسا أي حب ولا تدين لها بالولاء، ولا تشعر بشيء من الارتباط بها إلّا بورقة الجنسية الفرنسية، فالطلياني يشعر في الصميم أنه غريب عن فرنسا، ويعتز بجنسيته الاصلية، ويتألم لألم أبناء جنسه الأصلي، ويفزع إليهم في الملمات علنًا، لا يكتم عواطفه ولا يتستر بها، وفي الحرب العالمية الأخيرة أعلن الطليان من هذه الطائفة ارتباطهم القلبي بإيطاليا وعواطفهم مع المحور، حتى بعد إعلان إيطاليا الحرب على فرنسا، وكل ما فعلت فرنسا أنها وضعت الجالية الايطالية تحت الحراسة إلى أن انتهت الحرب، وكذلك حال الأسبان المتوطنين بالجزائر في أيام الحرب الأهلية بين فرانكو والجمهوريين، فقد كان المعمرون الأسبان في مقاطعة وهران يعاونون فرانكو جهارا بالمال

والحبوب، وتذهب البواخر مشحونة من ميناء وهران والغزوات بالأقوات والخمور والزيوت، ولا تحرك السلطات الفرنسية ساكنًا. ولقد جمعني القطار في فترة انكسار فرنسا واجتياح الجيوش الألمانية لها بواحد من هؤلاء الفراعنة، وجرني إلى الحديث معه في الحالة الحاضرة إذ ذاك، فسألني رأي عن عواقب انهزام فرنسا أمام الألمان، فقلت ان قوانين الحرب معروفة، فسألني سؤال المستعطف الذي لا يهمه إلّا أمر نفسه: وما يصنع الألمان بنا نحن معشر الأجانب الذين لم ندخل معه في حرب، فقلت له قول الساخر المستهزئ: لعله لا يمسكم بسوء ما دمتم أجانب عن فرنسا، فأجابني وقد لمعت أساريره من الفرح: نحن عند المثل العربي (اللي يتزوج أمنا هو عمنا) وإذا كان الألمان لا ينزعون منا أملاكنا وأراضينا فلا فرق عندنا بين أن تكون الحكومة فرنسية أو ألمانية. هذا نص كلماته باللهجة العربية العامية وكان يحسنها كأهلها، أما أنا فقد أطرقت حصة من الزمن متعجبًا من حال هؤلاء الأجانب المتفرنسين وهذا مبلغ ولائهم لفرنسا وعواطفهم نحوها، يظهره فرد منهم له في الفَرْنَسَة ثلاثة أو أربعة أجداد، وتقلب هو وأجداده في النعيم قرنًا كاملًا، فلم يحمد لفرنسا نعمة واحدة، ولم يتألم للمحنة التي هي فيها، ولم ينحصر تفكيره في وقت شدتها إلّا في ضيعته ومصلحته الخاصة، وحال هذا المتحدث معي هو حال جميع المعمرين الأجانب المتفرنسين لا يشذ أحد منهم عن هذه الحالة .... وعجبت أكثر من ذلك لخذلان فرنسا في تدليلها لهؤلاء الناكرين للجميل وكيف تقدمهم على أبناء الوطن وتحصي هؤلاء الأجانب الكافرين بها بموت الوطنيين، وطالما هددوها بالانفصال وتشكيل حكومة منهم اعتمادًا على أموالهم الوفيرة، وما حادثة إعلان انفصال العسكريين في الجزائر عن الحكومة الفرنسية وإسقاط الجمهورية الرابعة إلّا برهان واضح على ما تنطوي عليه هذه الطائفة الطاغية لفرنسا المغرورة. ومن حجّتنا في هذا الباب- باب انطواء هذه الطائفة على إرادة السوء لفرنسا نفسها- ما وقع منذ بداية عهد "ديجول" ( De Gaulle) في إعلانهم الانفصال عن فرنسا وتهديدهم بغزو باريس ووضع الحكومة كلها في السجون، والقادة العسكريون في الجزائر لا ضمائر لهم ولا ذمم، وهم في قبضة هذه الشرذمة من المعمرين، يكيفون عقولهم بالمال، ويسخّرونهم لمصالحهم الخاصة ولو خربت فرنسا، وما زالوا منذ عهد بعيد يلوحون بالانفصال عن فرنسا كلما هُدِّدت مصالحهم، ولو تركت فرنسا في قلوبنا موضع أنملة للرحمة لرحمناها من هذه المهانة التي تلقاها من هذه الطائفة، وكلنا موقنون بأن فناء فرنسا لا يكون إلّا على يد هذه الطائفة المستغلّة التي استغنت على فقر الشعب الجزائري، وإذا أراد الله هلاك دولة جعل ذلك الهلاك على يد من تصطفيهم.

إن هذه الثورة أثارت كوامن الأحقاد الدفينة في صدور الفريقين، وكلما امتد عمر الثورة يومًا ازدادت نار الحقد اضطرامًا، فلا يبقى في قلب واحد من المتحاربين مكان للصفاء. فالمعمرون والجيش المسخر لخدمة أغراضهم وفرض أنانيتهم، يمعنون في التنكيل بمن أوقعهم القدر في قبضتهم من المستضعفين، وما ينقمون منهم إلّا أنهم حملوا السلاح في وجه أسيادهم، ورجال المقاومة من المجاهدين ممعنون في التنكيل بالجيش الفرنسي وبجميع أفراد هذه الطائفة وإلحاق الهزائم الفاضحة بهم وتلطيخهم بالعار الذي لا يمحوه الدهر، وعذر المجاهدين في هذا أن هذه الطائفة هي أصل البلايا التي أحاطت بالشعب الجزائري، فكيف يمكن، بل كيف يتصور مع هذا كله أن يتناسى الفريقان أيام القتال وما صاحبها من تقتيل وتعذيب وتشريد للجزائريين، وما وقع فيها من انتهاك لحرمة هؤلاء الفراعنة المتألهين، وتحطيم لمزارعهم، وقضاء على سلطانهم، وخرق لحجاب هيبتهم، وتكدير لمعيشتهم، واغتيال لطائفة كبيرة من أعوانهم الذين كانوا يجرون في أعنتهم، وانه لأمر عظيم عندهم؟ والخلاصة أن الحالة بيننا وبينهم وصلت إلى حدّ لا يمكن معه أن نجتمع تحت سقف واحد ولا أن نعيش في وطن واحد. ... ليت شعري هل يقيّض الله لثورة الجزائر، بعد خمود نارها، مؤرّخًا من أبناء الجزائر مستنير البصيرة، مسدّد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات، فيؤرخ لهذه الثورة- التي طال أمدها أربع سنوات وهي تطوي الأشهر من السنة الخامسة- تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات كعدد القتلى من المجاهدين وأعدائهم أو مجاوزة ذلك إلى قتلى المستضعفين والنساء والأطفال والعجزة، فكل ذلك من قشور الثورة، والحرب لا عقل لها ولا ضمير، بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية، وإلى العوامل التي تدفع المتقاتلين إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول وأحد الطرفين فيها محقّ يدافع عن حقّه الذي تشهد السماء والأرض والجنّ والإنس أنه حقّ، والآخر مُبطل يشهد الشرق والغرب والبرّ والبحر أنه مبطل، ثم يُجَلِّي مواقع العبر من هذه الثورة المتأجّجة، فيُجَلِّي كيف قاتل شعب مسلم عربي أعزل دولةً كانت إلى الأمس القريب ترهبها الدول القوية، ويثقل ميزان الاعتبار والعظمة فيها جيشها ووفرة وسائلها، ويُجَلِّي الأسباب الحقيقية الكامنة في نفس المسلم العربي الجزائري التي دفعت إلى هذه الثورة، وهي إسلامه الصحيح وعروبته الصريحة وتاريخه المنطوي على المثل العليا من إباء الضيم وتمجيد الكرامة، وهي خلال حرّة أصيلة في دمه وجِبِلَّتِه، وكيف تعمدها الاستعمار الفرنسي بالمحو والإِنْساء حتى كاد يفقدها بعد أن أفقده وسائلها من مال وعزة وفضائل.

لا نخطط الخطوط لذلك التاريخ المرتقب، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ ولا نقدم له صورة هينة، فذلك المؤرخ الذي أعدّه الله لهذه المنقبة لعلّه لم يولد بَعْدُ، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريًا، فإن كان ممن لفظتهم الأرحام قبيل هذه الثورة فذلك أكمل له، لأنه يكون قد فتح عينيه على ويلات الاستعمار في آخِرِ عمره بالوجود، وذاق- مهما يكن عمره- علقم الاستعمار في طور كلبه وسعاره، والوحش الضاري أشذ ما يكون عرامًا ووحشية وخبثًا حينما يوقن بقرب انتزاع اللقمة من بين شدقيْه. لعمري لَئنْ وُجد هذا الكتاب التاريخي على النحو الذي أتصوره ليكُونَنَّ بدعًا في كتب التاريح كما كانت الثورة التي يؤرّخ لها بدعًا في الثورات، وإن أكبر أمنية من الأماني التي أتصورها أن تؤرخ الثورة الجزائرية على هذا النحو، وإنه لتاريخ لا يستمدّ مصادره الأولى إلّا من نفس الجزائري وعروبته وإسلامه، وشهامته وجدّه وصراحته وبساطته في فهم الحياة والأحياء، (ويا ليتني فيها جذع).

صفحات مشرقة في تاريخ الثورات

صفحات مشرقة في تاريخ الثورات * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: سجلت الجزائر بثورتها التي سلخت فيها أربع سنوات وخمسة أشهر صفحات مشرقة في تاريخ الثورات، وستكون هذه الثورة يوم تنتهي إلى غايتها وهي تحرير الجزائر من دَرَن الاستعمار، ويوم يأذن التاريخ بتنسيق أحداثها وترتيب فصولها مرجعًا للجائرين يأخذون منه الزواجر عن ظلم المستضعفين ويعلمون أن لهم ربًا يبعث فيهم من القوى الروحية ما يفل الحديد ويطفئ النار، ومرجعًا للثائرين بالمعنيين لكلمة ثائر، يتعلم منه الثائرون والطالبون للثأر كيف يكون الثأر المنيم، ويتعلم منه الثائرون على العتوّ والطغيان كيف يرمونه بالمقعد المقيم، وكم للجزائر عند فرنسا الطاغية من ثارات وترات. كانت ثورة الجزائر بدعًا من الثورات منذ كانت تقوم قبل أربع سنوات على ثلاثة آلاف مجاهد، متخذين بالقصد والفعل من جبال أوراس وغاباتها الغبياء وقممها الشوامخ ما يتخذه الأسد منها بالغريزة والإلهام، وكأنهم خلفوا عنها الأسود، يوم غابت عنها الأسود، إلى أن أصبح أولئك المجاهدون ثلاثين ألفًا متفرقين في عدة غابات في الأطلسين الأكبر والأصغر، إلى أن أصبحوا الآن مائة ألف مسلح أو يزيدون، وقد اتصلت أجزاؤها وأصبحت ترتبط بمخابرات آلية يقف المجاهدون بها على حركات الجيش الفرنسي، وبنظام من التجسس يؤدي إليهم نيات ذلك الجيش واتجاهاته وبقيادة منظمة تقوم بها طائفة من أبناء الجزائر الذين أدوا الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، وجلبوا لفرنسا النصر في عدة مواقع، فكافأتهم بالكلام المعسول والوعد المعلول في أيام الحرب، ثم تنكرت لهم بعد خروجها من المأزق.

_ * ملخص لمحاضرة ألقاها الشيخ في آخر الربع الأول من عام 1959، بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.

أيها الإخوان. إن في الثورة الجزائرية المشتعلة نارها اليوم لمشابه من حروب الإسلام في فجر الإسلام، وإن في رجالها لخصائص من رجال تلك الحروب، فكم نصرت فيها الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وكم نصر فيها العشرة على المئتين كما كان فرض القتال في أول الإسلام قبل النسخ، والنسخ ليس نقضًا للجبلة ولا محوًا لأثر الإيمان في القلوب المستعدة، ولا إطفاء لبشاشته حين تخالط النفوس، وإنما هو تخفيف ورحمة وتحديد لقيمة المؤمن في القتال وما يريد به على عدوه في الوزن الحسي، وأنه يساوي اثنين من عدوه، بحيث يحرم عليه الفرار منهما وتوليتهما الأدبار، ومعلوم في رأي العين أن المتقاتلين- وإن كانا يستويان أو يتقاربان في القوة الحسية- يتفاضلان في الدوافع الروحية والمعاني التي يتقاتل عليها الناس كالحمية للدين والدفاع عن الأحساب والأوطان والأعراض والأموال، واشرف هذه الدوافع وأعلاها عند المؤمن هو القتال لاعلاء كلمة الله، وإقامة الحق والعدل في الأرض، ومنذ ضيع المسلمون هذا المقصد الأعلى سلب الله منهم تلك الروح وثمراتها، وبعد أن كان المؤمن يرجو ثواب الله ويخشى عقابه في كل ما يأتي وما يذر وكان يقتحم الموت غير هيّب- اغتنامًا لرضى الله- فسدت فطرته وبعد عن ربه فوكله الله إلى قادة سوء من المسلمين في القرون الأولى وإلى قادة أولئك القادة من المستعمرين في القرون الأخيرة حتى صيروهم إلى ما ترون، وانتهى بهم هؤلاء القادة إلى هذا المسخ الذي تشهدون. قضوا على كل ما زرعه الإسلام فيهم من همم وعادات وحماية للحقائق وحفاظًا على الشرف، بل جردهم من الإدراك من معاني الشرف حتى أصبح الأخ يقاتل أخاه في سبيل عدوه ويمكّن لعدو وطنه في بلاده، ونحمد الله على أنه ابقى في نفس الجزائري لمحات من أخلاق سلفه، نامت طويلًا في نفسه ولكنها لم تمت، واستسرت حينًا ثم استعلنت في هذه الثورة لأمر يريده الله، ونالت الأحداث من جسمه وتحيّفت ماله ووطنه ولكنها لم تفضِ إلى مكمن الإيمان من نفسه. والجزائريون في هذه الثورة يقاتلون الاستعمار، فيقتلون عدوين لدودين، يقتلون المستعمر ويقتلون معه طبع الذل والخنوع والخور والفسولة التي ركبت الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا، ويقتلون- مع ذلك- الخوف والجبن والرهبة وهي الخصال التي أودت بشهامة العربي وعزة المسلم وصلابة الشرقي ومكن كل ذلك للمستعمر أن يستغل عقولنا وأفكارنا وأوطاننا ويصيرنا خولًا خاضعين لسلطانه ولا خضوع البهائم. أيها الإخوان: الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، ولكن الاستعمار الفرنسي هو المثل الأسفل من أعمال الشياطين، وكأن الشيطان استعرض أتباعه وامتحن أشياعه، فوجد الجنس اللاتيني أخلص هؤلاء الأتباع في طاعته، وأطوعهم مقادًا في أمره ونهيه، وما يأمر إلّا بالفحشاء

والمنكر، وما يربي تلاميذه إلّا على الأفحش والأنكر، فكانت فرنسا هي الصفوة المختارة في الشر وإنّي لأَعْلَم ان في الشرقيين من ينكر عليَّ هذا الحكم، ويجادلني فيه بالتي هي أخشن، ولو نضى عن نفسه ثوب الاغترار بمظاهرها، ورأى ما تفعله فرنسا المتمدنة العالمة المعلمة بإخوانه الآدميين في الجزائر لأقلع فورًا عن كل ما كان يعتقده فيها تقليدًا أو افتتانًا بمدنيتها الزائفة، واستغفر سبعين مرة في الدقيقة الواحدة من كل ما كان يضمره من الاحترام لها. إن فرنسا لم تفعل بالجزائريين يوم احتلالها لوطنهم قبل قرن وربع قرن إلّا بعض ما فعلته بهم في هذه الثورة الأخيرة، فقد سجل الجنرال سنتارنو ( Saint-Arnaud) من قادة الاحتلال الفرنسي في رسائله ما كان يرتكبه الجنود الفرنسيون مع الجزائريين من موبقات تقشعر لها الجلود من تقتيل جماعي للأبرياء وإضرام النار في الكهوف التي يأوي إليها أولئك المساكين، حتى يموتوا حرقًا واختناقًا هم وأنعامهم، أما العسكريون الفرنسيون اليوم فإنهم أربوا على سلفهم وتفننوا في ارتكاب الجرائم مع العزل والنساء والأطفال، ما يخطر على قلب بشر، وقد استفاضت أخبار هذه الموبقات في العالم وعلم كل الناس كل حادثة في حينها حتى أصبح من اللغو إعادة الحديث عنها، ويا ليت الجيش الفرنسي العامل في الجزائر حين سلب الرحمة والإنسانية، ولم تبق فيه إلّا لذة القتل والتمتع بمناظر الدماء والأشلاء وتشنيف الأسماع بأنين الجرحى والمعذبين ... ليته إذ كان كذلك قتل القتل الوحيّ لا البطيء، وقتل من يحمل السلاح في وجهه، إذن لكان له بعض العذر، ومع هذه المواقف المخزية المجردة من معاني الإنسانية تقف هناك من وراء المحيط الأطلسي أمريكا تنصر الاستعمار وتؤازره وتقف منه الموقف الحالي، فلا يكاد يهدد الاستعمار الأوربي بالانهيار، وهدم الجدار حتى تهرع أمريكا إلى ترميم جدرانه التي هدمت وتوفير أظافره التي قلمت وعلاج أنيابه التي هتمت، وللشرق مع الاستعمار وأنصاره يوم لا تطلع شمسه. أيها الإخوان: إن إخوانكم يستنصروكم فعليكم النصر، وإنهم يقاتلون لأجلكم فاعرفوا لهم حقهم في هذا القتال، وإن مواقفهم المجيدة في هذه الثورة شرفتكم جميعًا، وإن نصرهم نصر لكم، وإن فشلهم محسوب عليكم، وإن الاستعمار عدو لكم جميعًا، وإنه إن انتصر فسيذيقكم عذاب الهون جميعًا. أيها الإخوان: لا تخطبوا للجزائريين فقد شبوا عن طوق الخطب، ولا تنشدوا لهم القصائد فعندهم ما هو أفصح منها. إن العضيد الطرير في يد الشاب الضرير لأفصح من كل خطيب لقد خطبنا فيهم يوم كانت لهم آذان تسمع للخطب والأشعار، لنغمز إباءهم ونستثير حميتهم فلما تأثروا ثم ثاروا نطقت البنادق وسكت الخطباء والشعراء. إن شعراء الجزائر وخطباءها الذين أفلتوا

من عذاب فرنسا في سجونها ومعتقلاتها كلهم في الجبال قد شغلهم أخذ الثأر عن قول الأشعار. وجهوا خطبكم لهذه الجموع المقصرة، وللجماعات غير السامعة ولا المبصرة، إملأوا أيدي إخوانكم سلاحًا يملأوا تاريخكم محامد ومآثر ويملأوا قلوب أعدائكم رعبًا ورهبة، اكفوهم مؤونة الأيام يكفوكم مؤونة القتال ... إن بقايا الموت من أطفال ونساء وشيوخ عجّز قطع الموت كل ما بينهم من صلات، فهم هائمون مشردون وقد وصلت فلولهم إلى هذا الشرق. إن إخوانكم المجاهدين قد قاموا دونكم بواجب القتال وإنهم لا يحتاجون منكم عونًا من الرجال فقوموا لهم ببقية الواجبات. إن المسألة ليست تكفين ميت وتجهيزه يقوم بها غني واحد، لا بل الأمر أعظم من ذلك: إنها ثورة التهمت الأخضر واليابس من جنود فرنسا وثروتها وأموالها المخزونة وأوقفتها على حافة الإفلاس، كما التهمت ثروة الجزائريين على تفاهتها. فالفلاحة والتجارة وهما كل ما يعتمد عليه الجزائري قد رمتها الجيوش الفرنسية بالنهب والاتلاف، وان أخوف ما نخافه على ثورة الجزائر هو أن يجوع الشعب الجزائري فقفوا عند هذه النقطة واقرأوا لها ألف حساب إنكم أيها العرب والمسلمون من ورائكم تنالون القسط الأوفر من غنم هذه الثورة فما لكم لا تشاركون بكل ما تملكون في غرمها؟ الآن وجب حق الأخ على أخيه ... ان الأرحام تشابكت وتعددت بينكم، فالعربي أخو العربي في الدم والجنس، والمستضعف أخو المستضعف بالذل والاستكانة، والمظلوم أخو المظلوم، والافريقي المضطهد أخو الافريقي المضطهد والشرقي أخو الشرقي، ومن حسنات الاستعمار- ان كان الشر يريد الخير- انه طوانا في ملاءة واحدة، ومسنا بعذاب واحد، وأذاقنا ظلمًا متشابهًا، وإن فينا لقوة، وإن عددنا ليربو على عددهم وقد تلاقينا على ظلمه، فلماذا لا نتلاقى على التخلص منه؟ إن الأمر جد فجدوا، وإن العدو مستعد فاستعدوا. أيها الإخوة: إن إخوانكم الجزائريين لا يعتمدون قليلًا ولا كثيرًا على هذه المؤسسات الكاذبة المتحدة على الضلال، ولا على هذه الألفاظ التي تلوكها الألسنة المقطوعة الصلة بالقلوب من حقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير، فإنّ هذه الألفاظ كلها من أكاذيب الاستعمار لينوِّم بها الشعور ولِيُلْهِيَنَا بها إلى حين. إن الجزائريين يقاتلون فرنسا على ما سامتهم من أنواع العذاب، وسلاحهم الوحيد هو إيمانهم بالله ناصِر المستضعفين وقامِع الطغاة ومُذِلّ الجبابرة. وإنهم إنما يقاتلون لأجلكم، ويضحّون بالأهل والأبناء انتصارًا للعروبة وللإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

محمد العيد

محمد العيد * النهضة العربية في الجزائر بجميع فروعها، وفي مقدّمتها نهضة الأدب العربي، وليدة الخمس الثاني من هذا القرن الميلادي، وقد سبقتها إرهاصات وتباشير كلها لم تسبق ابتداء هذا القرن، وسبقها كذلك تقدّم مشهود في عربية القواعد، اضطلع به نفر استطاعوا بوسائلهم الخاصة أن ينفلتوا من الحواجز التي وضعها الاستعمار الفرنسي عن قصد في سبيل التعليم العربي، فنفرت طائفة قليلة منهم إلى مصر، ورجعت بزاد من القواعد العربية وسعت به مداها في ذلك القطر المرزوء في جميع مقوّماته ومنها اللسان العربي، ونفرت طائفة أخرى كثيرة العدد إلى جامع الزيتونة بتونس وأخذت العلوم العربية على أمثال الشيخ محمد بن يوسف والشيخ النخلي- رحمهما الله- والشيخ محمد الطاهر بن عاشور مدّ الله في حياته، وكانت دروس هذا الأخير هي الإشراقة الأولى في جامع الزيتونة للأدب العربي بمفهومه الصحيح في عصرنا هذا، وتجلّى ذلك في عكوفه على درس ديوان الحماسة بشرح المرزوقي، فقد كانت تلك الدروس منبّهة لطلاب الزيتونة الذين كانوا يفنون أعمارهم في تكرار قواعد النحو والصرف من دون أن يتبّوأ واحد منهم درجة مرموقة في الأدب. وقد عاصر الشيخ بن عاشور عالمًا أزهريًا ندين له بالفضل في إحياء الأدب العربي بالأزهر، وهو الشيخ المرصفي، بدرسه لكتاب الكامل للمبرد، والأزهر والزيتونة متقاربان في مناهج التعليم وأساليب الدراسة، والكتب المقرّرة فيهما تكاد تكون واحدة. ...

_ * تصدير لكتاب أبي القاسم سعد الله، "محمد العيد آل خليفة: رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث"، دار المعارف، القاهرة، 1961.

حمل أولئك النفر من مصر ومن تونس إلى الجزائر قبسًا خافتًا من الأدب العربي، ولكنه كان كافيًا في تحريك القرائح والأذهان، وقارن ذلك أو سبقه بقليل وصول الآثار الأدبية الجديدة من شعراء الشرق المجلّين، وعرفت الجزائر شعر شوقي وحافظ ومطران والرصافي، وما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى كانت تلك الموثّرات المختلفة الموارد قد فعلت فعلها في نفوس الناشئة التي هي طلائع النهضة الأدبية، وشعرت الجزائر بعروبتها الأصيلة التي كانت كامنة كالنار في الحجر، والتمست القائد الملهم الذي ينفخ من روحه القوية في تلك البذرة لتخرج شطأها فتورق فتزهر أو تثمر فوجدته مهيّأ في شخص الأستاذ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-، فاضطلع بقيادة تلك النهضة إلى أن أصبحت كاملة في الأدب والعلم والسياسة، وكانت هذه الفروع سائقًا بعضها إلى بعض، لأن ضرورة الوطن تستدعي سيرها في طريق واحد، وكان مظهرها الأعلى وعنوانها الأجلى جمعية العلماء، فهي التي جمعت الشتات، وأحيت الْمَوَات، وحدّدت المبادئ، ووفّرت الوسائل للقوادم المستعدة أن تطير وتحلّق، وللأفكار المقيّدة أن تبحث وتتعمّق، وبدأت النهضة الأدبية تسابق الإصلاح الديني وتغذّيه، وفي هذا الجو ظهر محمد العيد آل خليفة متأثّرًا بالنهضة ومؤثّرًا فيها. ... محمد العيد آل خليفة أول شاعر تشظت عنه صَدَفَةُ النهضة في الجزائر، وشعره أول شعر حي رافق النهضة العامة وحدا قوافلها المغذة فأَطْرَب، وأول شعر جرى في عنانها وسجّل مراحلها، وهذه الدراسة التي نقدّمها للقرّاء اليوم هي أول دراسة يقدّمها شاب جزائري عن شاعر جزائري. فشعر محمد العيد، وجمعه في ديوان، وطبعه، ودراسته، ونقده كلها بواكير من الأدب العربي في الجزائر ... ونقول إن هذه الأشياء كلها بواكير لننبّه إلى أن مع البواكير عذرها في عدم النضج وعدم الكمال، فنمهّد للاعتذار عما يوجد في بواكيرنا من نقص وعدم شمول في البحث، وعدم تفقّه في الاستدلال. ذلك أن النهضة الجزائرية المتعدّدة النواحي كانت أكبر من القائمين بها، فهي متشعّبة، والقوّامون عليها بجدّ وصدق نفر قليل، وكانت تتقاضاهم أن يهدموا ويرفعوا الأنقاض، ويبنوا ويشيّدوا ويعمروا ويربّوا ويعلّموا، كل ذلك في آن واحد، وأن يحاربوا عدّة أعداء في عدة ميادين: يحاربون الاستعمار، ويحاربون التدجيل في الدين، والضلال في العقائد، ويحاربون الإلحاد، كل ذلك مع قلّة الأنصار وقلّة المال، ولولا فضل الله عليهم ورحمته وصدق وعده معهم، لما جروا في هذه الميادين خطوة.

لهذه الأعباء التي لا يعرفها إلا من حملها، لم يتفرّغوا للكتابة والتدوين، ولا اتسع المجال لتلامذتهم أن يكتبوا ويدوّنوا، فقلّ الإنتاج الأدبي، بقدر ما جلت الآثار الصالحة في نفوس الشعب. ... كاتب هذه الدراسة هو الأستاذ أبو القاسم سعد الله، أحد أبناء الجزائر البررة الناشئين في ظلّ نهضتها الحاضرة، تلقّى العلم بجامع الزيتونة، ثم رحل إلى مصر ضمن البعثات التي تفتّقت عنها النهضة العربية، وأكمل تعليمه في كلية دار العلوم إلى أن حصل على شهادة "الليسانس" في الأدب العربي، ثم رحل في هذه السنة إلى أمريكا ليتخصّص في آداب اللغة الانكليزية الأمريكية، وهو مشغوف إلى حد الافتتان بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور. وهذه الدراسة لشعر محمد العيد محاولة أولى، نلمح فيها آثار الجهد الذي بذله الكاتب في استخراج طبيعة الشاعر ونوازعه النفسية من شعره، والحكم على الشاعر من شعره وعلى العالم من آثاره العلمية، هو أقرب الطرق إلى الصدق والمعدلة، فإذا رزق الدارس حظًّا من دقّة الملاحظة وسداد الاستنباط بلغت دراسته الغاية التي يتوخّاها الدارسون ويرضى عنها المنصفون. وقارئ هذه الدراسة قد يحكم لأول وهلة بأن صاحبها يكتب عن شاعر من الغابرين، والواقع أن محمد العيد وكاتب الدراسة جزائريان متعاصران، بل هما من بلد واحد، وإن كان الشاعر أسن وأسبق في الرحلة لطلب العلم بتونس، فلم يجمعهما زمان طلب العلم ولا مكانه، وإنما اجتمعا اجتماعًا خاطفًا لا يثمر صداقة ولا امتزاجًا، ورحم الله أسلافنا الذين كانوا يحرصون أشدّ الحرص على اللقى والسماع والرواية، ويتلقفون الكتاب والفائدة والنكتة والديوان اوالقصيدة والبيت المفرد بالسماع من المؤلّف أو الشاعر، ويتباهون بذلك ويرحلون لتحصيله من بلد إلى بلد، ولو سلكنا سبيلهم لما تردّد الأستاذ سعد الله في بعض أحكامه، كتردّده في أن الشاعر يحسن لغة أجنبية أو لا ... إن الحكم على شعر شاعر أو له يتوقف على الإحاطة به حتى تكون الصورة كاملة أمام الدارس، وشعر محمد العيد لم يجمع كله، وإنما جمع الشاعر منه جزءًا، وزدنا نحن بمعونة الأستاذ سعد الله عدة قصائد التمسناها في بعض الجرائد والمجلات الجزائرية الموجودة بدار الكتب المصرية، لأن الثورة الجزائرية قد قطعت ما بيننا وبين الجزائر من صلات، وإن شبابنا الواعي الكاتب الدارس المتطلع كان أول مستجيب لداعي الثورة وهجر الأقلام إلى

البنادق، ومات أكثره في وقائعها. ويوم يحيا وطنهم بموتهم ويعيش من قدّرت له الحياة منهم ستتصل هذه الأبحاث الأدبية وتمدّ مدّها، ويومئذ تتعدّد الدراسات لشعر محمد العيد، ويجمع الجمع الشامل، ثم لا يبخس تاريخ الأدب الجزائري الأستاذ سعد الله حظّه من التقدير لدراسته التي خطا بها الخطوة الأولى في هذا الباب في وقت سُدَّت فيه جميع الأبواب، ويومئذ يكمل الأستاذ سعد الله دراسته هذه، ويزيد فيها فصلًا عنوانه "شعره في الثورة". إن لمحمد العيد دعوات صارخة إلى الثورة، في الوقت الذي كانت فيه كلمة الثورة بلفظها المفرد كافية لنزول العقاب الأليم بلافظها قبل أن يتمّ تركيب الجملة، ويقيننا أنه لا يسكت بعد أن رأى بعينه مواقف الأبطال وأسود النزال، وسمع دمدمة البنادق من حماة الحقائق. نحن نهنئ الأستاذ سعد الله بتوفيقه في هذه الدراسة التي سدّد فيها وقارب، ونشكره على خدمته لوطنه بهذه النزعة التي تلحقه بالمجاهدين الأبرار وندعو له بالتوفيق لمواصلة هذه الدراسات النافعة وتقديمها لذلك الشعب المؤمن الصابر الذي ملأ بثورته الدنيا دويًّا، وسلك إلى الحياة طريق الموت فسلك صراطًا سويًّا.

إلى مؤتمر التعريب بالرباط

إلى مؤتمر التعريب بالرباط * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلتني دعوة الأخ العربي المحترم، وزبر التربية الوطنية في المملكة المغربية للحضور في مؤتمر التعريب، ولكن الدعوة لم تصلني إلا يوم 24 مارس بحيث لم يبق على موعد انعقاد المؤتمر إلا نحو أسبوع، وبلغتني الرسالة وأنا ملازم للفراش من مرض أقعدني عن العمل مدة أربع سنوات، فلم أستطع السفر البعيد وأنا على هذه الحالة، ولم أستطع كتابة بحث مفصّل للمؤتمر في بعض ما يتناوله من بحوث في موضوع التعريب، فقلت في نفسي: هلا واللسان بليل والقلم له صليل، والجسم لا واهن ولا كليل، وقلت لنفسي: وما حاجتنا إلى التعريب ونحن عرب؟ فقالت لي: ما أحوجكم إلى من يطبعكم طبعًا عربيًّا منقّحًا مصحّحًا، بعد أن طبعكم الاستعمار هذه الطبعة المشوّهة الزائفة، ولكني تحاملت وكتبت هذه الكلمات المتهافتة، تتضمن ما أبقته الأيام في ذهني من معان متخافتة. والتعريب جعل الشيء عربيًّا سواء كان معنى أو مادة، أو إنسانًا، وقد طمعت فيه مخلوقات كثيرة حتى الاستعمار الذي هو معنى من معاني الوحشية ولكنه لبس لفظًا جميلًا من لغتنا ليغرّنا به، فهي تسمية بالضدّ كما سمّوا المهلكة مفازة، واللديغ سليمًا. ولو كنا ممن يغار على لغته أن يدخلها الدخيل من الألفاظ والمعاني لما تركنا هذه الكلمة تجول في لهواتنا، ولأطلقنا عليه اسمه الحقيقي وهو التخريب، إذ لا يوجد في العربية "استخراب" وهو في حقيقة معناه نظام أملاه الشيطان على أوليائه، وأوحى إليهم تفسيره العلمي منتزعًا من طبيعته التي عاهد ربّه عليها بعد خروجه من الجنة، وحدّد لهم حدوده الستة بعلامات اسمها: الشرّ، والمنكر، والظلم، والعلوّ، والفساد، والفحشاء، والتخريب، والأثرة، والغرور، والفتك، والسفك، والافك، والانتهاك.

_ * رسالة إلى مؤتمر التعرب الذي انعقد بالرباط عام 1961.

ما حلّ الاستعمار بقوم إلا ساء صباحهم وعلا نواحهم، ولا حلّ بأرض إلا أباد خضراءها واحتجن أرزاقها، واحتنك أقواتها، واستعبد أهلها، واستباح حرماتها، وأخنى على مقوّماتها الحسّية والمعنوية، وكل هذا شيء مشهور أصبح الحديث عنه ضربًا من العبث ومضيعة للوقت، خصوصًا بعد أن أدبرت أيامه ونكست أعلامه في أغلب بقاع الأرض التي عاث فيها فسادًا، وملأها فجورًا وفواحش. إن من أخصّ خصائص الاستعمار التي يبني عليها أمره قضاءه على المقوّمات الحيوية للأمم التي يلتهمها، فيبتليها بالضعف والوهن، وأسباب الموت البطيء أو الوحيّ. يريك أنه محافظ على مقوّماتك محترم لها، ويحلف على ذلك مُحرِجات الأيمان في الوقت الذي هو عامل على هدمها، وإتيان بنيانها من القواعد. يبدأ بالوطن فينتزعه من أهله بالقوّة ثم يأتي بفلول من فقراء، أو وحوش وطنه الأصلي فيحلّهم محلّ أصحاب الوطن الأصليين، ويورثهم أرضهم وديارهم ثم يمتص أموال الأغنياء المستعبدين بطرق شتّى آخرها فرض المغارم الثقيلة على كل بالغ وعلى داره التي يسكنها ولو كانت كوخًا، ثم على كل رأس من الحيوانات التي يملكها حتى الكلاب، وعلى كل حرفة يمارسها ويعيش العيش المقتر مما تفيء عليه، ثم ينتقل للجنس الذي يعتزّ المستعمر (بفتح الميم) بالانتساب إليه فيتجاهر بتنقصه واحتقاره وطمس مفاخره بجميع الوسائل، ويتعمّد محو تاريخه المدوّن وتجريح شواهده، وإلصاق جميع النقائص به، ثم ينتقل إلى الدين فيبتليه باحتكار وسائل حياته من أوقاف وغيرها ويضع يده على رجاله ويضيق في إقامة شعائره، ويغزوه بالمبشرين المتعصبين ثم ينتقل إلى اللغة- وهي المقوّم الأعظم للأمم- فيرميها بالتهوين والتوهين، ويحرّم تعليمها إلا بإذنه، ويثقلها بالقرارات والقوانين الجائرة حتى يصير تعليم القدر التافه منها شبه مستحيل، ثم يكاثرها بالرطانات الأوربية الجليبة فيفسح لها المجال ويمنحها العطف والرعاية لأنها لغة "الأسياد" ... هذا إيجاز لوصف الاستعمار على عمومه ولموقفه من مقوّمات الأمم التي تبتلى به. والآن ننفث زفرات حارة من استعمار واحد بلوناه وعرفناه عرفان اليقين وهو الاستعمار الفرنسي، في وطن واحد هو الشمال الافريقي، في مقومّ واحد وهو اللغة العربية. كان للاستعمار الفرنسي عند اللسان العربي تِرَاتٌ وطوائل، فهو لا يزال يجهد جهده في محوه واستئصاله من الألسنة، وقد ارتكب جميع الوسائل الموبقة لمحوه من الجزائر، أما مراكش وتونس فلولا مكان القرويين في الأولى، والزيتونة في الثانية، لفعل بالعربية فيهما كل ما فاته فعله معها في الجزائر، وما فاته إلا القليل، وإن له لبرامج محضّرة يدّخرها لوقت الحاجة، فما فاته في بعض الأوطان، أو كان من المصلحة تنفيذه مطاولة، لا يفوته تنفيذه في

وطن آخر مغافصة وبدون تردّد، وأبرز مثال لذلك: قضية الظهير البربري المشؤوم، فقد كان من المقرّر عنده تنفيذه في الجزائر مطاولة، فلما لم يستطع تنفيذه لأسباب، نفذه في المغرب الأقصى حتى محاه الاستقلال، كما محت قريش صحيفة القطيعة، وقد بلغ غضب الاستعمار الفرنسي على اللسان العربي في الجزائر أن أصدر أحد رؤساء حكومة فرنسا وهو "شوطان" ( Chautemps) قرارين عجيبين في شأنه في يوم واحد: الأول عطّل به جريدة من جرائد جمعية العلماء العربية، وختمه بما معناه: إن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء في الجزائر باللغة العربية في المستقبل فهي معطّلة سلفًا، من دون احتياج إلى إصدار قرار بالتعطيل، والثاني حكم بأن اللغة العربية في الجزائر تعتبر لغة أجنبية لا يجوز تعلّمها ولا تعليمها إلا بإذن خاص من الحكومة الاستعمارية، هذا والشعب الجزائري شعب عربي صميم، ولنترك لرجال القانون الحكم على هذين القرارين. وقد وصلت فرنسا إلى بعض غاياتها في بعض أبنائنا الذين حصلوا حظًا من الفرنسية في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى، فأصبحوا يعتقدون أنها قاصرة عن أداء المعاني العالية في الفلسفة وجميع العلوم العقلية والنفسية والصناعية يلوون ألسنتهم بهذا في مجالسهم الخاصة والعامة، ويلوح لسامعيهم أن أحاديثهم تشفّ عن إعجاب بالفرنسية وتعريض بالعربية، وإن هذا وحده لغميزة في عروبتهم ووطنيتهم ودينهم، وإن هذا لشر آثار الاستعمار في النفوس وأفتك أسلحته في أجيالنا الناشئة في ظل سيطرته منذ طراوة العود، والواقعة تحت وسوسته وسحره، وإن الذنب لذنب المجتمع الذي لم يأخذ بأسباب الحيطة لأبنائه وذنب الحكومتين التونسية والمراكشية اللتين لم تحتاطا للغة الأمّة ودينها، أما الجزائر، فاحمدوا الله على أن وصلتكم منها هذه الأشلاء الممزقة من العربية، وهذه الصورة الجافة من الدين. والآن وقد تقلّص ظلّ الاستعمار الفرنسي أو كاد بعد أن ترك فينا ندوبًا يعسر محوها، فماذا أعددنا لعلاج الندوب التي تركها في مجتمعنا؟ وماذا ادّخرنا لعهد الاستقلال السعيد إذا أردنا أن يكون استقلالًا حقيقيًّا لا شبهة فيه، وماذا هيّأنا من الأشفية للداء العضال الكامن في بعض النفوس، وهو الحنين إلى أبغض العهود إلينا، وهو عهد الاستعمار الفرنسي؟ التجارب تدلّ على أنها ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل ألسنة تحن إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية على مخرج الراء العدنانية، وتتمنّى عاهة واصل بن عطاء لتستريح من النطق بالراء، وأفئدة "هواء" تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحنّ إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس وهمم دنية تحن إلى حمايتها المبسوطة على الرذائل والشهوات الحيوانية والغرائز الدنيا، فقد كان حكمها في الجزائر يحمي السكير بدعوى أنه حرّ، ويعاقب معلم العربية بالسجن والتغريم بدعوى أنه مجرم ثائر على القانون.

أيها الإخوان المؤتمرون: إن مؤتمركم هذا لم يعقد لتضميد جميع الجراح التي أبقاها الاستعمار فينا، فهي كثيرة، وعهدنا بالصحو من خُمار الاستعمار قريب، وقد ترك فينا ما يشبه الشلل في أعضاء العمل وسيضطرنا الحال إلى عقد مؤتمرات عديدة، في فترات متقاربة لمعالجة بقية الجراح، فلنرتّبها بحسب الأهمية، حتى لا يضيع الوقت والجهد والمال، ولعلّ من إلهام الخير وبوادر التوفيق أن نبدأ بمعالجة التعريب الذي هو أكبر شعار للاستقلال، وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبد للغة أجنبية، أو يتحرّر شعب متنكّر للسانه، فاستقلال العرب لا يتمّ تمامه إلا بتعرب ألسنتهم وأفكارهم وهممهم وذممهم، إلى آخر ما للعرب من صفات وأخلاق. أيها الإخوان: التعريب نوعان: نوع جزئي ونوع كلّي، فالتعريب الجزئي هو تعريب الألسنة والأقلام وآثارهما من خطابة وكتابة، ويدخل فيه تعريب الدروس التعليمية، والثاني يشمل هذا، ويشمل التخلّق بأخلاق العرب والتحلّي بكل ما اشتهر عنهم من محامد وفضائل، ويظهر مما وصلني من جدول أعمالكم أنكم تقصدون الأوّل، فلنجرِ معكم في هذا العنان، ولنعرب ما استطعنا من الألفاظ، والمصطلحات، والتعليم، وكتبه، وأساليبه، ولغته، ولننقح على قدر الإمكان، ولنكل بقية التصفية والغربلة للزمن، فإننا اليوم في وقت ضرورة تتقاضانا الاستعجال في كل شيء، وليس المستعجل كالمتأني، ولنطهر لغتنا من أوضار الاستعمار ولغاته، ولا ندع أجيالنا الناشئة تنشأ على اعتقاد ناقص في لغتها، بل نتحيّل لها في جلب معاني الاعتزاز بها، ونغرس فيها معاني التمجيد لها. ولسنا بدعًا في هذا النوع من التعريب، فقد سبقنا إليه إخواننا في الشرق العربي، وكان أسبقهم إليه وأسرعهم خطى فيه إخواننا السوريون، فما خرجوا من التسلط التركي حتى كانت كتب التربية والتعليم على اختلاف فروعه جاهزة باللسان العربي، وكذلك كتب الطب والصيدلة والحقوق ومصطلحاتها، وكانت الجهود التي قامت بذلك جهودًا فردية، وما تمّ أسبوع على الجلاء التركي حتى ظهرت كتب عربية موضوعة ومترجمة في التعليم بجميع مراحله، وللسوريين إلى الآن نشاط محمود في هذا الميدان ولصديقنا الدكتور أحمد حمدي الخياط شيخ المتخصصين في التحليلات الكيماوية طريقة معروفة هو فيها نسيج وحده، فهو يأبى أن يكتب كلمة غير عربية في الفرع الطبّي الذي هو من اختصاصه، وقد سمعت منه مرّات أن العربية تتسع لدقائق الطب الذي برع فيه العرب، إذا استثنينا كلمات قليلة يونانية أو فارسية أدخلها الفارابي وابن سينا من ميراثهما الفارسي. ومصر- وما أدراكم ما مصر- فقد كان لكتابها ولمجمعها اللغوي آثار مشهورة في تعريب الألفاظ والمصطلحات العلمية، وكان لعلمائها البارزين- كثّر الله عددهم- أياد على العربية بما وسّعوا من آفاقها، وما نموا من ثرواتها.

فهؤلاء الإخوان هم السابقون الأولون في هذا الميدان، فلنأخذ عنهم ولنقلّدهم ولنتّبع خطواتهم في التعريب من غير أن نقصر التقصير الشائن، أو نندفع الاندفاع المتهوّر أو نتبعهم في ما أخطأوا فيه، أو نتساهل في ما تساهلوا فيه، فإن المتأخر متعقب، وعسى أن يرزقنا الله صوابًا نكون به قدوة لمن بعدنا، ومرجعًا لمن سبقنا، فإن الحق لا يتقيّد بزمان ولا بوطن. أيها الإخوان المؤتمرون: هذا كله في التعريب المستعجل، كالتهنئة التي تقدّم للضيف قبل حضور القِرَى، أما ما يلزم بعد هذا من إعداد واستعداد، فيلقى كله على كاهل المدرسة الابتدائية وتلامذتها، فالألف المهملة التي يلغو بها صبياننا في كتاتيبهم وأكواخهم وملاعبهم هي مفتاح التعريب الواسع. يجب في هذا المضمار أن تتلاقى الجهود على تعريب المدرسة الابتدائية وتعريب أبنائها، وتعريب التعليم، وتوحيد أساليبه، وكتبه، في جميع المراحل طبقًا للروح العربية، وانتقاء الكتب هو أساس التعريب، وخصوصًا في المرحلة الابتدائية التي هي مرحلة التكوين اللغوي، ويجب إدخال متن اللغة في هذه المرحلة على طريقة ابن سيده في "كتاب المخصّص"، وصوره المصغّرة ككتاب "كفاية المتحفظ" للاجدابي، و"الألفاظ الكتابية" للهمداني، وطريقة ابن سيده هي ترتيب الألفاظ اللغوية على المعاني لا على الحروف الهجائية، وأحسن كتب الدراسة للصغار هما: "كفاية المتحفظ"، و"الألفاظ الكتابية"، يبدأ التلميذ في معرفة أسماء أعضاء جسمه في اللغة الفصيحة ومعرفة ما هو منسوب إليها من الأعمال، وكل ما هو متصل بها، ثم يتدرج إلى معرفة الأشياء المتصلة به مما يقع تحت نظره ويدخل في تصرفاته اليومية، فلا ينتهي من هذه المرحلة إلا وهو حافظ لجزء كبير من اللغة، ومحسن للتصرف فيه من دراسته "للألفاظ الكتابية" للهمداني، وأنا لا أعني الكتابين بعينهما، بل يجب أن تؤلّف لهذه المرحلة كتب لغوية صغيرة، على غرار الكتابين اللذين مثّلت بهما، إذ هما من أثمن ما ترك لنا سلفنا من الكتب الموضوعة لتربية ملكة اللغة العربية في الصغار، وتقرّب انطباعهم على لغتهم من طريق سهل طبيعي لا عوج فيه، ويجب حمل التلامذة على التكلّم بالعربية الفصحى ما داموا في المدرسة، وتدريجهم على الكلمات السهلة، ثم الجمل الفصيحة، ثم التراكيب الجارية على القوانين العربية، فلا يجاوزون مرحلة التعليم الابتدائي إلا وهم عرب "صغار". ومن الحكمة في هذه المرحلة أَلَّا ينطق المعلمون أمامهم بكلمة أعجمية حتى لا تخدش ملكاتهم، فإن كلمة واحدة قد تفسد كل عمل. ومن العجيب أن التعليم الأوربي اليوم يسلك في تعليم اللغات مسلكًا قريبًا من طريقة الاجدابى والهمداني.

ثم تأتي المرحلة الثانوية تتوسّع لهم في القواعد والتراكيب التي تقوّي ملكاتهم وتنفيها، ونتساهل قليلًا في إدخال الألفاظ الأعجمية في علوم الطب والكيمياء وسائر العلوم الكونية الداخلة في منهاج التعليم الثانوي، إن كانت تلك الألفاظ اصطلاحية عامة وضرورية، وليس لها مرادف عربي، أو تفسّر لهم بما يقاربها ولو بجمل، وأن يمرّنوا على الخطابة ويكلّفوا بإلقاء محاضرات قصيرة تنتقَى لها الألفاظ والتراكيب، وأن تفرض عليهم مطالعة كتب مختارة فصيحة، بليغة، سهلة، لترسخ فيهم الملكة العربية، وألا تكثر لهم حصص اللغات الأجنبية حتى لا تتصادم اللغات في أذهانهم فينشأوا ضعافًا في الكل، فيبنغي أن نفهم نحن ويفهم أبناؤنا أن اللغة العربية هي رأس المال الذي تجب المحافظة عليه، وأن اللغات الأجنبية هي ربح فلا تعطى من العناية ولا من الوقت إلا ما لا يزاحم لغتنا الأصيلة، ولا يبتليها بالضعف، ولا يمسّ قدسيتها عندنا. ثم تأتي مرحلة التعليم العالي فتكون الملكة العربية قد استحكمت في التلميذ وتمّ "تعريبه" على أكمل وجه، فإذا توسّع في اللغات الأجنبية فلا يخشى عليه انتكاس ولا تراجع، ولا استعجام، لأن لسانه أصبح عربيًّا، يؤيّده فكر عربي، وعقل عربي، فلا تزاحمه لغة أخرى مهما توسّع في أصولها وفروعها، ولأن أفكاره وتصوّراته الذهنية أصبحت كلها عربية، يملك تصويرها والتعبير عنها باللغة العربية بسهولة. وإن هذا هو موضع الخطر على أبنائنا المتعلمين بلغة أجنبية من غير أن يسبق لهم إلمام بلغتهم. ذلك أنهم يحملون في أنفسهم، ككل البشر، تصوّرات ومعاني كثيرة وحقائق علمية وتخيلات ذهنية، ولا يستطيعون بيانها والتعبير عنها بلغتهم العربية في حال أنهم يستطيعون التعبير عنها باللغة الأجنبية التي يتقنونها، فأدّت بهم هذه الحالة بالتدريج إلى كراهية العربية، وانتهت بهم إلى بغضها، ثم إلى الحقد عليها واتهامها بأنها لغة قاصرة، ضعيفة، أو ميتة، لا تستطيع أن تزاحم اللغات، أو تقوى على حمل الحضارات، ثم تنتهي بهم هذه الحالة إلى الانسلاخ من العروبة، وإلى احتقار الدين الذي تترجم عنه هذه اللغة، وذلك هو الضلال البعيد، وفاتهم أن هذه العيوب التي نحلوها للعربية هي بريئة منها، وأن العيب فيهم وحدهم إذ لم يتعلّموا لغتهم، ولم يفقهوا أسرارها ولم يتذوّقوا بيانها، ومن جهل شيئًا عاداه. وبتعريب المدرسة من الكتّاب إلى الجامعة، وتعريب التعليم من المعلّم إلى الكتاب نكون قد عرّبنا جماعة تقوم بتعريب الجماعات وتعريب الاجتماع وتعريب البيوت، وإن أكبر عقبة تلقانا في هذا الطور هي تعريب المعلم، فيجب أن نحتاط لها وألا نكل تعريب أبنائنا إلى معلم غير معرّب، ونحن نتوقع أن نقع في هذه النقطة في ما يشبه الدَّوَرْ، ولكننا نستطيع الانفكاك عنه بحزم الحكومات، وإدرار النفقات. فعلى الحكومة وعلى وزارة المعارف المختصة أن تبدأ هذه المرحلة بتأليف الكتب الابتدائية ووضعها على ما يوافق مناهج

التعريب، وتطبعها، وتأخذ العهد على معلمي هذا الطور أن يلتزموا ما في تلك الكتب ولا يخرجوا عنها يمينًا ولا شمالًا، فالمعلم مهما كان ناقص التعريب يستطيع الاهتداء بالكتاب الكامل، والصعوبات إنما تعترضنا في تعريب الجيل الأول، فلا بدّ لنا من الصبر الطويل، والحزم الحازم، والحكمة الحكيمة، لنتغلّب على جميع الصعوبات، ونجتاز جميع العقبات، ولا تُبتنى الراحة إلا على التعب. وأما النوع الكلّي من التعريب، هو التعريب الشامل النافع، وهو غاية الغايات لكل عامل مخلص للعروبة. فلا يتمّ تمامه بالعلم وحده، وإن بلغنا فيه عنان السماء، فالعلم وحده لا يفيد إذا لم تصحبه في كل خطوة تربية نفسية على شمائل العرب وهممهم، وبطولتهم، ووفائهم، وصدقهم في القول، والعمل والحال، وتضحيتهم، وإبائهم، وإيثارهم، وكرمهم، وشجاعتهم، واحسابهم، وقد قال تعالى في وظيفة الرسول: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. فقدّم التزكية التي هي التربية على تعليم الكتابة والعلم، وهذا النوع من التعليم الكلّي يجب أن تقوم به جماعات من خطباء المساجد ومن الوعّاظ، ومن حملة الأقلام العربية المسلمة، فيتواطأوا جميعًا على نغمة واحدة وهي أن الإسلام عرّب جميع معتنقيه بالانتساب إليه، وأن كل من تكلّم العربية فهو عربي، وأن العربي لا يكون عربيًّا حتى يكون فيه كل ما أُثِر عن العرب من شمائل وأخلاق. إذا تمّ لنا التعريب بنوعيه الجزئي والكلّي، نكون قد حصلنا على نتيجة عجز عنها من قبلنا من الدعاة المصلحين، وأدّينا حق الله وحق دينه وحق العروبة على أكمل وجه، وقمنا بالأمانة والعهد كما أمر الله، ومهّدنا للقومية العربية الكاملة بإزاحة العقبات من سبيلها، وجمعنا ما فرّقت السياسة والسياسيون منا ومن الأجانب وأنفهم راغم، وأصبحنا بهذا التعريب الشامل إذا طلبنا معلّمًا وجدناه عربي اللسان والشمائل والهمم والأخلاق قبل أن نجد فيه معلّمًا، وإذا طلبنا خطيبًا واعظًا وجدناه كذلك قبل أن نجد فيه الخطيب، وإذا طلبنا طبيبًا أو صيدليًّا أو محاميًا أو فنانًا أو قاضيًا أو جنديًّا أو شرطيًّا أو غيرهم، ممن تقوم بهم مصلحتنا العامة، وجدناهم عربًا بلسانهم، وشمائلهم، وأخلاقهم، وهممهم قبل أن نجد فيهم الموظف الشخص. نحن معشر العرب أصبحنا في حاجة ملحّة إلى التعريب في كل علائقنا بالحياة، فنحن في حاجة إلى تعريب ألسنتنا وأفكارنا وعقولنا وأذهاننا وتصوّراتنا، وأكاد أقول ولباسنا ونعالنا وأساليب معاشنا، وهيئات أكلنا وشربنا ونومنا، وأثاث بيوتنا، فقد عمّ حياتنا كلها المسخ والقلب، ورمانا الاستعمار بالناقرة وهي فساد الأخلاق فينا، فلم يبقَ من سمات العرب شيئًا إلا توافه ودعاوى على الألسنة.

أيها الإخوان المؤتمرون: إنكم بعملكم هذا تقومون بواجب عن جميع أقطار العروبة، فاعملوا وأَتْقِنُوا، واصبروا وشدّوا عزائمكم، واقرنوا الأقوال بالأعمال، فقد مضت أعمارنا في الأقوال بدون أعمال حتى ساورنا القنوط وكدنا نيأس من روح الله، فكم من اجتماعات دُعي إليها من قبلكم وانفضت من غير نتيجة، وكم من أنهار من المداد سالت في هذا السبيل، ولم تنته إلى مفيد، فكفّروا عن سيّئات من قبلكم، بالجد والعزم والحسم والإنجاز. وفّقكم الله وسدّد خطاكم وجعل البركة في أعمالكم وأصحبكم التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة في تونس

كلمة في تونس * في يوم الثلاثاء27 جوان 1961 حلّ فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بتونس قادمًا إليها من القاهرة عن طريق البر. وقد زاره في مقر إقامته فضيلة الشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ الفاضل بن عاشور. وحضر عشية الجمعة 30 جوان 1961 حفل الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بجامع الزيتونة المعمور. وتنادى أحبّاء الشيخ إلى إقامة حفل تكريمي على شرفه، ونشروا يوم الخميس 13 جويلية 1961 ما يلي: "تكريم الشيخ البشير الإبراهيمي" تنظم نخبة من الأدباء التونسيين من أحبّاء "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" حفل تكريم عائلي احتفاءً بالعلّامة الكبير فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي- رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- وأحد جهابذة المغرب العربي في الساعة السادسة من عشية اليوم بدار زورق في سيدي أبي سعيد. وجميع الشخصيات الأدبية والعلمية التي وجّهت إليها الدعوة مدعوّة للحضور في هذا اللقاء السعيد مع مفخرة شمالنا الأفريقي الذي حلّ بتونس منذ أيام. وهذه نسخة من دعوة الحفل: الأديب الفاضل سيدي: يسعد جماعة من أحباب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن تشرّفوهم لحفل الاستقبال المتواضع الذي يقيمونه (بدار زروق) بسيدي أبي سعيد يوم الخميس 13 جويلية على الساعة السادسة مساءً وذلك على شرف العلّامة الإمام الشيخ البشير الإبراهيمي بمناسبة حلوله بالديار التونسية قادمًا من القاهرة. مع الشكر. أحباب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

_ * ألقاها الشيخ في الحفل الذي أُقيم لتكريمه في 13 يوليو 1961.

وقد استهلّ الحفل الشيخ الفاضل بن عاشور، وتلاه المحامي عمّار الدحلاوي، وتلاه الشاعر الجزائري مفدي زكرياء، والشاعر المغري عبد الكرلم ابن ئابت، ومصطفى خريف، والأخضر عبد القادر السايحي، وباجو صالح، وعلي بن ضياف، وكانت مسك الختام كلمة الشيخ الإبراهيمي، التي كانت بحق كلمة رفيعة المبنى والمعنى، تضمنت نصائح غالية للشباب، وتحية للثورة الجزائرية ودعوات لها، وشكر تونس لإيواء الئوّار الجزائرفي ومساعدتها لهم، وكانت كلمة الشيخ غير مرتجلة ولم تنشر في حينها. الحبيب شيبوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوة الأعزّة، أيها الأبناء البررة: حيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة ترفعون منارها، وتورون بالجانب الغربي نارها، وأدامكم للغة العرب تشدّون ذرائعها وتقيمون شرائعها، وأحياكم للأدب العربي تصلون رحمه، كلما رمته الأحداث بالجفاء والعقوق، وتحفظون حقوقه كلما عامله بعض أبنائه بتضييع الحقوق، وللإسلام الذي هو مناط فخاركم وداعية افتخاركم تعلون صرحه، وتحسنون فهمه وشرحه. أيها الإخوة، أيها الأبناء: يعزّ عليّ أن يقول الناس ولا أقول، وأن أسمع الحداء ولا أطرب، وأن تتبارى جياد الرهان في ميدان فاكون فيها السكيت المتخلّف، وأن تتسابق همم إخواني وأبنائي إلى تكريمي والتنويه باسمي، فلا يكون حظي من بينهم إلا الوجوم والإطراق وعدم مكافأة إحسانهم بإحسان، وأن اكون شذوذًا في قاعدة: لكل امرئ من دهره ... أنا عاجز عن شكر ما طوّقتم به عنقي من منن لا ينهض بحملها إلا من أوتي طراوة الشباب ومواتاة الأسباب، وبلاغة الخطاب، ولكن أين مني ذلك كله والعود قد جفّ، والفطين قد ح!، والسن قد نشر من المعايب ما كان الشباب قد لفّ. ولوكنت ما كنت، لأسمعتكم في هذه الليلة ما يجاري هذا الفيض الذي غمرتموني به من القصائد والخطب ويجري معه في عنان، ولكن حال الجريض دون القريض، ووقف إلحاح الأمراض وكلال الذهن وجفاف القريحة دون ذلك، فاعذروا أخًا يتقرّب إليكم برابطة الأخؤة وأبًا يتشفع إليكم بحقوق الأبوّة، وحسبكم منه محبة خالصة لا يشويها شوب من تصنع أو رياء، لكم وللأدب العربي الذي تتحلّون به وتقومون على إحيائه وترقيته، ومن شغفه الأدب حئا أحبّ الأدباء بالضرورة.

أيها الإخوة الأعزّة، أيها الأبناء البررة: أوصيكم يا أبنائي ببعض ما كنت أوصي به إخوانكم ولداتكم من شباب الشرق العربي: أن تضطلعوا بحمل الأمانة التي في أعناقكم للأدب العربي، وأن تجعلوا الأدب مساوقًا للحياة، يفعل فيها وينفعل بها، وأن تعنوا بمحاذاة أساليب البلغاء الفحول في الشعر، وأن تتصرّفوا في المعاني على حسب ما يقتضيه زمانكم، وأن تتجافوا فيها عن الإسفاف والتبذل، وأن توفّروا حظّكم من متون اللغة ليخف عليكم ما تعانون من شعر ونثر. أيا الأبناء البررة: إن اللغة العربية تراث مشاع بين أبناء العروبة في جميع الأقطار، وإن أبناء العروبة- وإن تناءت ديارهم- يشبهون "شركة مساهمة" رأس مالها هذه اللغة الخالدة، ولكنهم متفاوتو الحظوظ والأنصباء فيها. فمنهم المقلّ، ومنهم المكثر، فاحرصوا على أن تكونوا مساهمين في هذه الشركة باستحقاق، وأن تتقدّموا إليها بإنتاجكم، وثمرات عقولكم من شعر مجوّد، ونثر عامر، وكتب مفيدة. أيها الإخوان والأبناء: وهاتوا الحديث عن الحمراء اللعوب، والزهراء الدعبوب، والحسناء التي تبوّأت القلوب ... عن الحرية التي طال شوقنا إليها وطلبناها بالكلام، فلم تزدد إلا إعراضًا وازورارًا، حتى هدينا إلى التي هي أقوم، فطلبناها بالحديد وخضنا دونها الهول الهائل، وبذلنا في سبيلها المهج، وأمهرناها الأرواح، فاسلست وانقادت. وإني لا أبرح مكاني هذا حتى أرسلها تحيات عاطرات الأنفاس، يحملها عني نسيم الصبا وأمواج الأثير، إلى إخواني المجاهدين في الجزائر، أولئك الذين باعوا أنفسهم لله وأشعلوا الثورة وكانوا وقودها في سبيل حرية وطنهم، وهي أقرب السبل إلى الله، وأسأل الله لهم النصر العزيز على عدوّ الله وعدوّهم، وأن يجعل خاتمة جهادهم كبدايتها، نصرًا وظفرًا وفوزًا مبينًا، وأبتهل إليه تعالى، أن ينزل الشهداء منهم منازل الكرامة والرحمة عنده، وأن يفيض على المساجين والمعتقلين والمعذّبين من الشعب الجزائري شآبيب الصبر والرضى، كما أسأل الله لقادة الثورة الجزائرية والمسيّرين لسياستها توفيقًا يقود إلى حسن العاقبة، وعونًا إلهيًا يصاحبهم في الجيئة والذهاب، ويسايرهم منه شعاع هاد في المعضلات، ويواكبهم في السلم والحرب، وتسديدًا ربّانيًّا في كل ما يقولون ويفعلون. وحيّا الله تونس، حكومتها وشعبها، على ما آووا إخوانهم الجزائريين ونصروا، وعلى ما أكرموا وبرّوا وعلى ما وصلوا من رحم الأخوّة، وحقّ الجوار.

وسلام عليكم- أيها الإخوة الأعزّاء والأبناء البررة والإخوان الحاضرون- بما أبدأتم فيه وأعدتم من تكريمي الذي هو في حقيقته تكريم للجزائر بأهلها، وثورتها، وشهدائها، ومساجينها، وبما أعملتم أقدامكم في هذا اليوم القائظ، وبما أقمتم جميعًا من الدليل على رعايتكم لحرمات الأخوة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية

خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية * ____ المرحلة الأولى: ____ أنا محمد البشير الإبراهيمي، ولدت يوم الخميس عند طلوع الشمس في الرابع عشر من شهر شوّال سنة ست وثلاثمائة وألف، ويوافق الثالث عشر من يونيو سنة 1889، كما رأيت ذلك مسجّلًا بخط جدّي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي- رحمه الله- في سجل أعدّه لتسجيل مواليد الأسرة ووفياتها. قبيلتنا تُعرف بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل، وترفع نسبها إلى إدريس بن عبد الله الجذم الأول للأشراف الأدارسة، وإدريس هذا- وُيعرف بإديس الأكبر- هو الذي خلص إلى المغرب الأقصى بعد "وقعة فخ" بين العلويين والعباسيين، وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين: الأقصى والأوسط؛ ونسبنا هذا مستفيض بين سكان الأطلس أوراس وسفوحه الجنوبية إلى الصحارى، والشمالية إلى التلول، ولأجدادنا كتابات متناقلة عن هذا النسب. وموطننا الذي تقلّب فيه أجدادنا في تاريخ ضارب في القدم هو السلاسل الغربية المتفرّعة من جبل أوراس، وهي قمم تفصل بينها مسالك أودية وطرق هابطة من التلول إلى الصحراء، وموقعها الغرب المائل للجنوب لمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الشرقية للقطر الجزائري. وبيتنا إحدى البيوتات التي حفظت رسم العلم وتوارثته قرونًا من لدن خمول بجاية وسقوطها في القرن التاسع الهجري، وقد كانت بجاية دار هجرة للعلم وخصوصًا للأقاليم

_ * كتب الشيخ هذه السيرة بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عندما انتخب عضوًا عاملًا فيه سنة 1961، ونشرتها مجلة "مجمع اللغة العربية"، مجلد 21، القاهرة، 1966.

المتاخمة لها مثل إقليمنا، وقد خرج من عمود نسبنا بالذات في هذه القرون الخمسة علماء في العلوم العربية، ونشروها بهمّة واجتهاد في الأقاليم المجاورة لإقليمنا، ومنهم من هاجر إلى القاهرة في سبيل الاستزادة من العلم والتوسّع فيه- على صعوبة الهجرة إذ ذاك- ومن آثار الاتصال بالقاهرة أنهم بعد رجوعهم سمّوا أبناءهم بأسماء كبار مشايخ الأزهر، وأنا أدركت في فروع بيتنا من تسمّى بالأمير والصاوي والخرشي والسنهوري. نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت في التعلّم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتّبع في بيتنا الشائع في بلدنا، وكان الذي يعلّمنا الكتابة ويلقّننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافًا عاليًا عالم البيت بل الوطن كله في ذلك الزمان، عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي - رحمه الله-، وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع، من نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها، أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا، منهم العلّامة المتقن الشيخ ربيع قري اليعلاوي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو القاسم البُوجْلِيلِي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو جمعة القُلِّي، خاتمة المتبحّرين في العربية والفقه؛ ولم يكن هؤلاء العلماء رحلوا إلى الأمصار الكبرى ذات الجامعات العلمية التاريخية كفاس وتونس والقاهرة، وإنما كانوا يتوارثون العلوم الإسلامية طبقة عن طبقة إلى الأجيال المتخرجة من مدن العلم الموجودة بوطننا كبجاية، وقلعة بني حماد، وكلتاهما قريبة من مواطننا، وكلتاهما كانت منارًا للعلم ومهجرًا لطلابه، ومطلعًا لشموسه، إلى الفترة التي تبدأ بالاحتلال التركي، وكان أئمة العلم لا يعتمدون في تخرّجهم على الشهادات الرسمية، وإنما كانوا يعتمدون على الإجازات من مشايخهم الذين يأخذون عنهم. فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلّي القرآن وتولّى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة حتى في ساعات النوم، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن، فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه، وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني، شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل

المرحلة الثانية

بلغائهم، فحفظت صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية. ولم يزل عمي- رحمه الله- يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني، لأن الله تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة، مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة. ____ المرحلة الثانية: ____ ولما مات عمي، شرعت في تدريس العلوم التي درستها عليه، وأجازني بتدريسها، وعمري أربع عشرة سنة لطلبته الذين كانوا زملائي في الدراسة عليه، وانثال علي طلبة العلم من البلدان القريبة منا، والتزم والدي بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمي، وربما انتقلت في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منا لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة وتيسّر المرافق بها للسكنى، ودمت على تلك الحال إلى أن جاوزت العشرين من عمري، فتاقت نفسي إلى الهجرة إلى الشرق، واخترت المدينة المنوّرة لأن والدي سبقني إليها سنة 1908 فرارًا من ظلم فرنسا، فالتحقت به متخفيًا أواخر سنة 1911 كما خرج هو متخفيًا، ومررت في وجهتي هذه بالقاهرة، فأقمت بها ثلاثة أشهر، وحضرت بعض دروس العلم في الأزهر وعرفت أشهر علمائه، فممن عرفته وحضرت دروسه، الشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت، حضرت درسه في البخاري في رواق العباسي، والشيخ يوسف

الدجوي حضرت درسه في البلاغة، والشيخ عبد الغني محمود، والشيخ السمالوطي، حضرت لكليهما درسًا في المسجد الحسيني، والشيخ سعيد الموجي ذكر لي أن له سندًا عاليًا في رواية الموطأ، فطلبت أن أرويها عنه بذلك السند وحضرت مجالسه بجامع الفاكهاني مع جمهور من الطلبة، وتوليت قراءة بعض الموطأ عليه من حفظي، وحضرت عدة دروس في دار الدعوة والإرشاد التي أسّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة، وزرت شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي وأسمعته عدة قصائد من شعره من حفظي فتهلّل- رحمه الله- واهتزّ، كما اجتمعت بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعته من حفظي شيئًا من شعره كذلك. ____ المرحلة الثالثة: ____ خرجت من القاهرة قاصدًا المدينة المنوّرة، فركبت البحر من بور سعيد إلى حيفا، ومنها ركبت القطار إلى المدينة، وكان وصولي إليها في أواخر سنة 1911، واجتمعت بوالدي- رحمه الله- وطفت بحلق العلم في الحرم النبوي مختبرًا، فلم يرق لي شيء منها، وإنما غثاء يلقيه رهط ليس له من العلم والتحقيق شيء، ولم أجد علمًا صحيحًا إلا عند رجلين هما شيخاي: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، فهما- والحق يقال- عالمان محققان واسعا أفق الإدراك في علوم الحديث وفقه السنة، ولم أكن راغبًا إلا في الاستزادة من علم الحديث، رواية ودراية، ومن علم التفسير، فلازمتهما ملازمة الظلّ، وأخذت عن الأول الموطأ دراية، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت درسه في فقه مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثاني في درسه لصحيح مسلم، وأشهد أني لم أَرَ لهذين الشيخين نظيرًا من علماء الإسلام إلى الآن، وقد علا سني، واستحكمت التجربة، وتكاملت الملكة في بعض العلوم، ولقيت من المشايخ ما شاء الله أن ألقى، ولكنني لم أَرَ مثل الشيخين في فصاحة التعبير ودقة الملاحظة والغوص عن المعاني واستنارة الفكر، والتوضيح للغوامض، والتقريب للمعاني القصية. ولقد كنت لكثرة مطالعاتي لكتب التراجم والطبقات قد كوّنت صورة للعالم المبرز في العلوم الإسلامية، منتزعة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذهنية لم تتحقق في الوجود الخارجي منذ أزمان، ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين، وقد مات الشيخ الوزير بالمدينة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أما الشيخ

حسين أحمد فقد سلّمه الشريف حسين بن علي إلى الإنجليز في أواخر ثورته المشؤومة، فنفوه إلى مالطة، ثم أرجعوه إلى وطنه الأصلي (الهند) وعاش بها سنين وانتهت إليه رئاسة العلماء بمدينة العلم (ديويند)، ولما زرت باكستان للمرّة الأولى سنة 1952 ميلادية كاتبته فاستدعاني بإلحاح إلى زيارة الهند ولم يقدّر لي ذلك، وفي هذه العهود الأخيرة بلغتني وفاته بالهند. وأخذت أيام مجاورتي بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الاسكوبي، وكان ممن يشار إليهم في هذا العلم مع تورّع وتصاون هو فيهما نسيج وحده. وأخذت الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري في داره أيام انقطاعه عن التدريس في الحرم النبوي، وكان من أعلام المحدثين، ومن بقاياهم الصالحة. وأخذت أنساب العرب وأدبهم الجاهلي، والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد الله زيدان الشنقيطي، وهو أعجوبة الزمان في حفظ اللغة العربية وأنساب العرب، وحوادث السيرة. وأتممت معلوماتي في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني بمنزله، وكان رجلًا مسنًّا منقطعًا عن أسباب الدنيا، قرأت عليه الحكمة المشرقية، وكان قيّمًا عليها، بصيرًا بدقائقها. وذاكرت صاحبنا الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي، ومنه المعلّقات العشر، وصاحبنا محمد العمري الجزائري، أمهات الأدب المشهورة خصوصًا الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، فقد ختمناهما مطالعة مشتركة فاحصة متأنية، وكذلك فعلنا بكتاب الأغاني من أوله إلى آخره. وبالجملة فقد كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ، فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة، فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة، وفي مكتبة السلطان محمود، وفي مكتبة شيخنا الوزير، وفي مكتبة بشير آغا، أو في مكتبات الأفراد الغاصة بالمخطوطات، مثل مكتبة آل الصافي، ومكتبة رباط سيدنا عثمان، وفي مكتبة آل المدني وآل هاشم، ومكتبة الشيخ عبد الجليل برادة، ومكتبة الوزير التونسي العربي زروق، كما كنت أستعير كثيرًا من المخطوطات الغريبة من أصدقائي وتلامذتي الشناقطة، أذكر منها ديوان غيلان ذي الرمة، فأقرأها وأحفظ عيونها، وقد حفظت في تلك الفترة معظم ديوان ذي الرمة.

المرحلة الرابعة

كل هذا وأنا لم أنقطع عن إلقاء الدروس، وجاءت الحرب العالمية الأولى فلم أنقطع عن هذا النظام المحكم في حياتي العلمية، ولما جاءت سنة 1917 أمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق بسبب استفحال ثورة الشريف حسين بن علي، وعجز الحكومة عن تموين الجيش الذي بلغ عدده خمسين ألفًا، وتموين المدنيين الذين يبلغ تعدادهم ثمانين ألفًا، فاقتضى تدبير قوّادها العسكريين إذ ذاك أن ينقل سكان المدينة إلى مصدر الأقوات في دمشق، بدل أن تنقل الأقوات منها إليهم، فكنت من أوائل المطيعين لذلك الأمر، وخرجت مع والدي إلى دمشق في شتاء سنة 1917، وكان من أول ما يعنيني لقاء رجال العلم وكانوا أول من بدأ بالفضل فزاروني في منزلي وتعارفنا لأول لقاء، وهدتني المجالس الأولى إلى تمييز مراتبهم فاصطفيت منهم جماعة من أولهم الصديق الحميم الشيخ محمّد بهجت البيطار. ____ المرحلة الرابعة: ____ ما لبثت شهرًا حتى انهالت عليَّ الرغبات في التعليم بالمدارس الأهلية، فاستجبت لبعضها، ثم حملني إخواني على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان فامتثلت وألقيت دروسًا (تحت قبة النصر الشهيرة) على طريقة الأمالي، فكنت أجعل عماد الدرس حديثًا أمليه من حفظي بالإسناد إلى أصوله القديمة، ثم أملي تفسيره بما يوافق روح العصر وأحداثه، فسمع الناس شيئًا لم يألفوه ولم يسمعوه إلا في دروس الشيخ بدر الدين الحَسَنِي، ثم بعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي دعتني الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة إذ ذاك) مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك، فاضطلعت بما حملت من ذلك، وتلقّى عني التلامذة دروسًا في الأدب العربي الصميم، وكانت الصفوف التي أدرس لها الأدب العربي هي الصفوف النهائية المرشّحة للبكالوريا، وقد تخرّج عني جماعة من الطلبة هم اليوم عماد الأدب العربي في سوريا منهم: الدكتور جميل صليبا، والدكتور أديب الروماني، والدكتور المحايري، والدكتور عدنان الأتاسي. ولما دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق اتصل بي وأرادني على أن أبادر بالرجوع إلى المدينة لأتولّى إدارة المعارف بها، ولم يكن ذلك في نيتي وقصدي، لما طرأ على المدينة من تغيّر في الأوضاع المادية والنفسية فأبيت عليه، وما فتئ يلحّ عليّ وآبى إلى أن سنحت الفرصة فكررت راجعًا إلى الجزائر موطن آبائي وعشيرتي.

المرحلة الخامسة

المرحلة الخامسة: ____ أعمالي في الجزائر، بعد رجوعي من الحجاز والشام وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعمالي فيها: كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبّآت الغيوب لها أن يرد عليّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشمال الافريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر. وبيت ابن باديس في قسنطينة بيت عريق في السؤدد والعلم، ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى المعزّ بن باديس، مؤسّس الدولة الصنهاجية الأولى التي خلفت الأغالبة على مملكة القيروان، ومدّت ظلّها على قسنطينة ومقاطعتها حينًا من الدهر، ومع تقارب بلدينا بحيث لا تزيد المسافة بيننا على مائة وخمسين كيلومترًا، ومع أننا لِدَتانِ في السن يكبرني الشيخ بنحو سنة وبضعة أشهر، رغم ذلك كله، فإننا لم نجتمع قبل الهجرة إلى المدينة، ولم نتعارف إلا بالسماع، لأنني كنت عاكفًا في بيت والدي على التعلّم، ثم على التعليم، وهو كان يأخذ العلم عن علماء قسنطينة متبعًا لتقاليد البيت، لا يكاد يخرج من قسنطينة، ثم بعد بلوغ الرشد ارتحل إلى تونس، فأتمّ في جامع الزيتونة تحصيل علومها. كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة. كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931. ورجع الشيخ إلى الجزائر من سنته تلك بعد أن أقنعته بأني لاحق به بعد أن أقنع والدي أن رجوعي إلى الجزائر يترتّب عليه إحياء للدين والعربية، وقمع للابتداع والضلال، وإنكاء للاستعمار الفرنسي، وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أدخل منه على نفس والدي ليسمح لي بالرجوع إلى الجزائر.

وشرع الشيخ بعد رجوعه من أول يوم في تنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفقنا عليه، ففتح صفوفًا لتعليم العلم، واحتكر مسجدًا جامعًا من مساجد قسنطينة لإلقاء دروس التفسير، وكان إمامًا فيه، دقيق الفهم لأسرار كتاب الله، فما كاد يشرع في ذلك ويتسامع الناس به حتى انهال عليه طلاب العلم من الجبال والسهول إلى أن ضاقت بهم المدينة، وأعانه على تنظيمهم وإيوائهم وإطعام المحاويج منهم جماعة من أهل الخير ومحبّي العلم، فقويت بهم عزيمته وسار لا يلوي على صائح، واشتعلت الحرب العالمية الأولى وهو في مبدإ الطريق، فاعتصم بالله فكفاه شرّ الاستعمار، وكان له من وجود والده درع وقاية من بطش فرنسا التي لا تصبر على أقلّ من هذه الحركات، وكان لوالده مقام محترم عند حكومة الجزائر، فسكتت عن الابن احترامًا لشخصية الوالد، وظهرت النتائج المرجوّة لحركته في السنة الأولى، وكانت في السنة الثانية وما بعدها أكبر وعدد الطلبة أوفر، إلى أن انتهت الحرب، ورجعت أنا إلى الجزائر فلقيني بتونس، وابتهج لمقدمي أكثر من كل أحد لتحقيق أمله المعلّق عليّ، وزرته بقسنطينة قبل أن أنقلب إلى أهلي، ورأيت بعيني النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنوات من تعليم ابن باديس، واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها، وأن هذه الخطوة المسدّدة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة عربية في الجزائر، وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر، ولمست بيدي آثار الإخلاص في أعمال الرجال، ورأيت شبانًا ممن تخرّجوا على يد هذا الرجل وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة وتركيب عربي حرّ، ومعان بليغة، وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمّة، وأوصاف رائعة في المجتمع الجزائري، وتشريح لأدوائه، ورأيت جماعة أخرى من أولئك التلامذة وقد أصبحوا يحبرون المقالات البديعة في الصحف، فلا يقصرون عن أمثالهم من إخوانهم في الشرق العربي، وآخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية، فيرتجلون القول المؤثّر، والوصف الجامع، ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ. وحللت بلدي وبدأت من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخي ابن باديس ... بدأت أولًا بعقد الندوات العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، فلما تهيّأت الفرصة انتقلت إلى إلقاء الدروس المنظّمة للتلامذة الملازمين، ثم تدرّجت لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الآهلة، وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد، ثم لما تمّ استعداد الجمهور الذي هزّته صيحاتي إلى العلم، أسّست مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم، وكانت أعمالي هذه في التعليم الذي وقفت عنايتي عليه فاترة أحيانًا لخوفي من مكائد

الحكومة الاستعمارية، إذ ليس لي سند آوي إليه كما لأخي ابن باديس، وكانت حركاتي منذ حللت بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك، حتى صلاتي وخطبي الجمعية، فكنت أتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أني تظاهرت لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من أعولهم من أفراد أسرتي، ولكنها لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركتي، فكان بوليسها يلاحقني بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزورني من تونس أو الحجاز، كل هذا وأنا لم أنقطع عن الدروس لطلاب العلم بالليل. في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920 و 1930 كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية وكنا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في بلدي (سطيف) أو أزوره في قسنطينة، فنزن أعمالنا بالقسط ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبدًا، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين. كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات كانت كلها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم وهو إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وأصبح لنا جيش من التلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكتّاب والشعراء، يلتفّ به مئات الآلاف من أنصار الفكرة وحملة العقيدة يجمعهم كلهم إيمان واحد، وفكرة واحدة، وحماس متأجج، وغضب حادّ على الاستعمار. كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا. كانت سنة 1930 هي السنة التي تمّ بتمامها قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر، فاحتفلت بتلك المناسبة احتفالًا قدّرت له ستة أشهر ببرنامج حافل مملوء بالمهرجانات ودعت إليه الدنيا كلها، فاستطعنا بدعايتنا السرّية أن نفسد عليها كثيرًا من برامجها، فلم تدم الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا ونلفت أنظاره إلينا. تكامل العدد وتلاحق المدد ... العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد من إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم، فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931 بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا من وضعي أدرته على قواعد من العلم والدين لا تثير شكًا ولا تخيف، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة فخيّبنا ظنها والحمد لله.

دعونا فقهاء الوطن كلهم، وكانت الدعوة التي وجّهناها إليهم صادرة باسم الأمّة كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جمودهم، ووصفنا إياهم بأنهم بلاء على الأمّة وعلى الدين لسكوتهم على المنكرات الدينية، وبأنهم مطايا للاستعمار، يذلّ الأمّة ويستعبدها باسمهم، فاستجابوا جميعًا للدعوة، واجتمعوا في يومها المقرّر، ودام اجتماعنا في نادي الترقّي بالجزائر أربعة أيام كانت من الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر، ولما تراءت الوجوه وتعالت أصوات الحق أيقن أولئك الفقهاء أنهم ما زالوا في دور التلمذة، وخضعوا خضوع المسلم للحق، فأسلموا القيادة لنا، فانتخب المجلس الإداري من رجال أكفاء جمعتهم وحدة المشرب، ووحدة الفكرة ووحدة المنازع الاجتماعية والسياسية، ووحدة المناهضة للاستعمار، وقد وكل المجتمعون ترشيحهم إلينا فانتخبوهم بالإجماع، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا، وكاتب هذه الأسطر وكيلًا نائبًا عنه، وأصبحت الجمعية حقيقة واقعة قانونية ... وجاء دور العمل. ... هذه المرحلة من حياتي هي مناط فخري وتاج أعمالي العلمية والاجتماعية، والأفق المشرق من حياتي، وهذه هي المرحلة التي عملت فيها لديني ولغتي ووطني أعمالًا أرجو أن تكون بمقربة من رضى الله، وهذه هي المواقف التي أشعر فيها كلما وقفت أردّ ضلالات المبتدعة في الدين، أو أكاذيب الاستعمار، أشعر كأن كلامي امتزج بزجل الملائكة بتسبيح الله. كلّفني إخواني أعضاء المجلس الإداري في أول جلسة أن أضع للجمعية لائحة داخلية نشرح أعمالها كما هي في أذهاننا لا كما تتصوّرها الحكومة وأعوانها المضلّلون منا، فانتبذت ناحية ووصلت طرفي ليلة في سبكها وترتيبها، فجاءت في مائة وسبع وأربعين مادة، وتلوتها على المجلس لمناقشتها في ثماني جلسات من أربعة أيام، وكان يحضر الجلسات طائفة كبيرة من المحامين والصحافيين العرب المثقفين بالفرنسية، فأعلنوا في نهاية عرض اللائحة إيمانهم بأن العربية أوسع اللغات، وأنها أصلح لغة لصوغ القوانين ومرافعات المحامين، وكأنما دخلوا في الإسلام من ذلك اليوم، وخطب الرئيس عند تمام مناقشة اللائحة وإقرارها بالإجماع خطبة مؤثّرة أطراني فيها بما أبكاني من الخجل، وكان مما قال: عجبت لشعب أنجب مثل فلان أن يضلّ في دين أو يخزى في دنيا، أو يذلّ لاستعمار. ثم خاطبني بقوله: وري بك زناد هذه الجمعية. ***

كان من نتائج الدراسات المتكرّرة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا في المدينة المنوّرة، أن البلاء المنصبّ على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه، ويفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار، واستعمار روحاني يمثّله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب والمتغلغلون في جميع أوساطه، المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضى وطواعية، وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد، خوفًا من الله بزعمه، والاستعماران متعاضدان يؤيّد أحدهما الآخر بكل قوّته، ومظهرهما معًا تجهيل الأمّة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة. فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني لأنه أهون، وكذلك فعلنا، ووجد المجلس الإداري نظامًا محكمًا فاتبعه، لذلك كانت أعمال الجمعية متشعبة وكان الطريق أمام المجلس الإداري شاقًّا ولكنه يرجع إلى الأصول الآتية: 1 - تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد في المساجد والأندية والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية. 2 - الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار في ما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس. 3 - تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب. 4 - العمل على تعميم التعليم العربي للشبان على النمط الذي بدأ به ابن باديس. 5 - مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمّة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم. 6 - مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزّعتها على معمّريها، لتصرف في مصارفها التي وقفت عليها (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة). 7 - مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية مبدئيًّا. 8 - مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.

هذه معظم الأمهات التي تدخل في صميم أعمال الجمعية، منها ما بدأناه بالفعل ولاقينا فيه الأذى، فصبرنا حتى كانت العاقبة لنا، ومنها ما طالبنا به حتى أقمنا حق الأمّة فيه، وفضحنا الاستعمار شرّ فضيحة، ومجموع هذه المطالب في ظاهرها دينية، ولكنها في معناها وفي نظر الاستعمار هي نصف الاستقلال. كانت السنة الأولى من عمر الجمعية سنة غليان: من جهتنا في تكوين الشُّعَب في كل مدينة وكل قرية لتنفيذ مقاصد الجمعية، وغليان السخط علينا من الاستعمار لأننا فاجأناه بما تركه مشدوهًا حائرًا لا يدري ما يفعل ولا من أين يبدأ في مقاومة حركتنا، وتفرّق أعضاء الجمعية على القطر كله يرشدون ويعظون ويزرعون الوعي، ويراقبون حركة التعليم ويحضرون أماكنه. وعقدنا الاجتماع العام في السنة الثانية، فكانت النتيجة باهرة، والعزائم أقوى والأمّة إلينا أميل. وخرج المتردّدون عن تردّدهم فانضموا إلينا، وأعيد انتخاب المجلس فأسفر عن بقاء القديم وزيادة أعضاء ظهرت مواهبهم في العلم، وكشّر الاستعمار عن أنيابه، فبدأ يمنعنا من إلقاء الدروس في المساجد الواقعة في قبضته، وثارت نخوة الأمّة فأنشأت بمالِها بضعة وتسعين مسجدًا حرًّا في سنة واحدة في أمهات القرى. ... في هذه السنة قررت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث ليكون كل واحد منهم مشرفًا على الحركة الاصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها، فأبقينا الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة وحملناه مؤونة الإشراف على الحركة في جميع المقاطعة، وخصصنا الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها، وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان، وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية التي أخنى عليها الدهر فانتقلت إليها بأهلي، وأحييت بها رسوم العلم، ونظمت دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثت إلّا قليلًا حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث، وتبارى كرام التلمسانيين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي، وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات، وأقسام لطلبة العلم، واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار، وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي، فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدإ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات.

وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، وأتفقد شُعَبَها ومدارسها، وكانت أيام جولتي كلها أيام أعراس عند الشعب، يتلقونني على عدة أميال من المدينة أو القرية، وينتقل بعضهم معي إلى عدة مدن وقرى، فكان ذلك في نظر الاستعمار تحديًّا له ولسلطته، وفي نظر الشعب تمجيدًا للعلم والدين وإغاظة للاستعمار، فإذا انقضت العطلة اجتمعنا في الجزائر العاصمة وعقدنا الاجتماع العام وفي أثره الاجتماع الإداري وقدم كل منا حسابه، ونظمنا شؤون السنة الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا. بلغت إدارة الجمعية وهي في مستهل حياتها من النظام والقوة مبلغًا قويًّا بديعًا فأصبحنا لا نتعب إلّا في التنقل والحديث، أما الحكومة الاستعمارية فإننا بنينا أمرنا من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها، وقد كنا نعلن في جرائدنا كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار، ونحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت، وكان هذا الكلام ومثله أنكى عليها من وقع السهام لأنها لم تألف سماعه، وقد اطمأنت إلى أن الشعب الجزائري قد مات كما صرح بذلك أحد ساستها الكبار في خطبة ألقاها على ممثلي الأمم في المهرجان الذي أقامته في عيدها المئوي لاحتلال الجزائر، وكان مما قال: "لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار". وكانت أعمال الإخوان في المقاطعتين الأخريين مشابهة لأعمالي بمقاطعة وهران لأننا نجري على منهاج واحد، ونسير على برنامج واحد عاهدنا الله على تنفيذه. ولما ضاقت فرنسا ذرعًا بأعمالي ونفد صبرها على التحديات الصارخة لها، وأيقنت أن عاقبة سكوتها عنا هو زوال نفوذها وخاتمة استعمارها، اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية، وأصدر رئيس وزرائها إذ ذاك "دالاديى" ( Daladier) قرارًا يقضي بإبعادي إلى الصحراء الوهرانية إبعادًا عسكريًا لا هوادة فيه، لأن في بقائي طليقًا حرًا خطرًا على الدولة، كما هي عبارته في حيثيات القرار، ووكل تنفيذ قراره للسلطة العسكرية فنقلوني للمنفى في عاشر أفريل سنة 1940، وبعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه، وقد شيع جنازته عشرات الألوف من الأمة رغمًا عن قسوة الأحكام العسكرية وقت الحرب، واجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعَب يوم موته وانتخبوني رئيسًا لجمعية العلماء بالاجماع، وأبلغوني الخبر وأنا في المنفى فأصبحت أدير الجمعية وأصرف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بيني وبين

اخواني بواسطة رسل ثقات، وكنت حين بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا فقبضه الله إليه. بقيت في المنفى ثلاث سنين تقريبًا، ولما أطلق سراحي من المنفى أول سنة ثلاث وأربعين كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأت في سنة واحدة ثلاثًا وسبعين مدرسة في مدن وقرى القطر كله، كلها بأموال الأمة وأيديها، واخترت لتصميمها مهندسًا عربيّا مسلمًا فجاءت كلها على طراز واحد لتشهد للأجيال القادمة أنها نتاج فكرة واحدة. وتهافتت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على الأربعمائة مدرسة، ولم أتخل بعد رئاستي للجمعية وخروجي من المنفى عن دروسي العلمية للطلبة وللعامة، ولما رأت فرنسا أن عقابها لي بالتغريب ثلاث سنوات لم يكف لكسر شوكتي، وأنني عدت من المنفى أمضى لسانًا وقلبًا وعزيمة مما كنت، وأن الحركة التي أقودها لم تزدد إلّا اتساعًا ورسوخًا، انتهزت فرصة نهاية الحرب ودبرت للجزائر ثورة مفتعلة فقتلت من الشعب الجزائري المسلم ستين ألفًا، وساقت إلى المعتقلات سبعين ألفًا معظمهم من أتباع جمعية العلماء، وألقت بي في السجن العسكري المضيق تمهيدًا لمحاكمتي بتهمة التدبير لتلك الثورة، فلبثت في السجن سنة إلّا قليل، ثم أخرجوني بدعوى صدور عفو عام على مدبري الثورة ومجرميها وكان من "زملائي" في السجن الدكتور شريف سعدان- رحمه الله-، والصيدلي فرحات عبّاس والمحامي شريف حاج سعيد وغيرهم. ولما خرجت من السجن عدت إلى أعمالي أقوى عزيمة مما كنت، وأصلب عودًا وأقوى عنادًا، وعادت المدارس التي عطلتها الحكومة زمن الحرب، وأحييت جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب، ومنها الاجتماع السنوي العام، وأحييت جريدة «البصائر» التي عطلناها من أول الحرب باختيارنا باتفاق بيني وبين ابن باديس لحكمة، وهي أننا لا نستطيع تحت القوانين الحربية أن نكتب ما نريد، ولا يرضى لنا ديننا، وهمتنا، وشرف العلم، وسمعة الجمعية في العالم، أن نكتب حرفًا مما يراد منا، فحكمنا عليها بالتعطيل وقلنا: بيدي لا بيد عمرو، وحسنًا فعلنا، كذلك عطلنا مجلة "الشهاب" الناشرة لأفكار الجمعية. ولما قررنا إحياء جريدة «البصائر» ألزمني إخواني أن أتولى إدارتها ورئاسة تحريرها فقبلت مكرهًا، وتضاعفت المسؤوليات، وثقلت الأعباء، فرئاسة الجمعية وما تستلزم من رحلات وما يتبع الرحلات من دروس ومحاضرات، كل ذلك كان يستنزف جهدي، فكيف إذا زادت عليها أعباء الجريدة وتحريرها؟ ولكن عون الله إذا صاحب امْرأً خفت عليه الأثقال.

ضرورة الانتقال إلى التعليم الثانوي

كنت أقوم للجمعية بكل واجباتها، وأقوم للجريدة بكل شيء حتى تصحيح النماذج، وأكتب الافتتاحيات بقلمي، وقد تمر الليالي ذوات العدد من غير أن أطعم النوم، وقد أقطع الألف ميل بالسيارة في الليلة الواحدة، وما من مدرسة تفتح إلّا وأحضر افتتاحها وأخطب فيه، وما من عداوة تقع بين قبيلتين أو فردين إلّا وأحضر بنفسي وأبرم الصلح بينهما، وأرغم الاستعمار الذي من همه بث الفتن، وإغراء العداوة والبغضاء بين الناس، فكنت معطلًا لتدبيراته في جميع الميادين. ____ ضرورة الانتقال إلى التعليم الثانوي: ____ بلغ عدد المدارس الابتدائية العربية أربعمائة وزيادة، وبلغ عدد تلامذتها إلى اليوم الذي سافرت فيه إلى الشرق مئات الآلاف بين بنين وبنات، وبلغ عدد معلميها ألفًا وبضع مئات، وبلغت ميزانيتها الخاصة (وهي فرع من الميزانية العامة لجمعية العلماء) مائة مليون فرنك وزيادة إلى نهاية خروجي من الجزائر سنة 1952. ولما بلغ عدد المتخرجين من مدارسنا بالشهادة الابتدائية عشرات الآلاف، وجدت نفسي أمام معضلة يتعسر حلها، ذلك أن حاملي هذه الشهادة ذاقوا حلاوة العلم فطلبوا المزيد، وأرهقوني من أمري عسرًا، وألحوا عليَّ أن أتقدم بهم خطوة إلى الأمام، وحرام علي- على حد تعبيرهم- أن أقف بهم دون غاياته، فكان واجبًا علي أن أخطو بهم إلى التعليم الثانوي، وأهبت بالأمة أن تعينني بقوة أبلغ بها غرض أبنائها، فاستجابت فكان ذلك مشجعًا على إنشاء معهد ثانوي بمدينة قسنطينة نسبناه إلى إمام النهضة ابن باديس، تخليدًا لذكره، واعترافًا بفضله على الشعب، فاشترينا دارًا عظيمة واسعة من دور عظماء البلدة، وجعلنا منها معهدًا ثانويًا، وهيأنا له من سنته الأساتذة والتلامذة والكتب والمال، فكان التعليم فيه بالمعنى الكامل عند غيرنا من الأمم ببرامجه وكتبه وأدواته، وكان هذا المعهد تاجًا لمدارس جمعية العلماء وغرة في أعمالها، وكانت نيتي معقودة على إنشاء معهدين ثانويين آخرين، أحدهما بمدينة الجزائر، والثاني بمدينة تلمسان، وقد بلغ تلامذة المعهد الباديسي في السنة الأولى ألفًا أو يزيدون، وكلهم منتخبون من مدارسنا الابتدائية من جميع القطر، ثم اشترينا من مال الأمة دارًا أخرى تتسع لسكنى سبعمائة طالب، وبعد خروجي لهذه الرحلة افتتحها إخواني من بعدي بعد أن قسموها إلى قاعات نوم فسيحة بأسرتها، ودواليب الثياب، وكتب المطالعة، على ترتيب بديع، وفي الدار ما يريح الطالب من مغتسلات، وحمامات، ومطابخ، وغرف طعام.

مالية جمعية العلماء

مالية جمعية العلماء: ____ مالية جمعية العلماء تأتيها من موردين: إشتراكات الشعب الشهرية والتبرعات غير المحدودة، وميزانيتها في السنوات الأخيرة أصبحت ضخمة وقد قسمتها إلى أقسام، فمالية بناء المدارس لا تدخل خزينة الجمعية، بل تقبضها الجمعية المحلية وتنفقها على البناء، فإذا تم البناء جرى الحساب علنًا على رؤوس الأشهاد بحضرتي وسُدَّ بابها، والمالية الخاصة بأجور المعلمين والقَوَمة على المدرسة تؤخذ من آباء التلاميذ بواسطة أمين مال الجمعية المحلية في مقابل إيصالات رسمية مختومة بختمها، ولكل مدرسة جمعية محلية قانونية تنتخبها جمعية العلماء من أعيان المدينة أو القرية، ولا تحاسب جمعية العلماء إلّا في آخر السنة في الاجتماع العام، والمال الذي يتحصل من الاشتراك العام في جمعية العلماء هو الذي يدخل إلى خزانتها، ويحاسب عليها أمين مالها في التقرير المالي الذي يتقدم به إلى الاجتماع العام، ويضاف إليه ما يتحصل من التبرعات غير المحدودة. أما الجريدة فإنها قائمة بنفسها من أثمان الاشتراك فيها، وقد قررت في كل اجتماع عام أن تعرض على المجلس الإداري جميع المداخيل المذكورة من أجور التعليم، والاشتراكات العامة والتبرعات، كل ميزانية على حدة، وكل مدرسة يفيض دخلها على خرجها يدخل المبلغ الفائض في الخزينة العامة، وكل مدرسة ينقص دخلها عن خرجها يعتمد لها من الخزينة العامة ما يسدد عجز ميزانيتها، وكل هذا على نظام بديع يؤدي إلى اشتراكية بين المدارس مع بعضها، وبين الشعب والجمعية المحلية. ____ أثر أعمالي وأعمال إخواني في الشعب: ____ أثر أعمالنا في الشعب بارز لا ينكره حتى أعداؤنا من الاستعماريين، وخصومنا من إخواننا السياسيين، فمن آثارنا بث الوعي واليقظة في الشعب حتى أصبح يعرف ما له وما عليه، ومنها إحياء تاريخ الإسلام وأمجاد العرب التي كان الاستعمار يسد عليه منافذ شعاعها، حتى لا يتسرب إليه شيء من ذلك الشعاع، ومنها تطهير عقائد الإسلام وعباداته من أوضار الضلال والابتداع، وإبراز فضائل الإسلام، وأولها الاعتماد على النفس، وإيثار العزة والكرامة، والنفور من الذلة والاستكانة والاستسلام، ومنها أخذ كل شيء بالقوّة، ومنها

مؤلفاتي

العلم، هذه الكلمة الصغيرة التي تنطوي تحتها جميع الفضائل، ومنها بذل المال والنفس في سبيل الدين والوطن، ومنها نشر التحابب والتآخي بين أفراد المجتمع، ومنها التمسك بالحقائق لا بالخيالات والأوهام، فكل هذه الفضائل كان الاستعمار يغطيها عن قصد لينساها المسلمون على مر الزمان، بواسطة التجهيل وانزواء العقل والفكر، وقد وصل الشعب الجزائري إلى ما وصل إليه، بفضل جمعية العلماء، وما بذلناه من جهود في محو الرذائل التي مكن لها الاستعمار، وتثبيت الفضائل التي جاء بها الإسلام، ولو تأخر وجود الجمعية عشرين سنة أخرى لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا، ولو سلكنا سبيلًا غير الذي سلكناه في إيقاظ الأمة وتوجيهها في السبيل السوي لما قامت هذه الثورة الجارفة في الجزائر، التي بيضت وجه العرب والمسلمين، ولو نشاء لقلنا إننا أحيينا اللسان العربي، والنخوة العربية، وأحيينا دين الإسلام وتاريخه المشرق، وأعدنا لهما سلطانهما على النفوس وتأثيرهما في العقول والأرواح، وشأنهما الأول في الاتعاظ والأسوة، فاحيينا بذلك كله الشعب الجزائري فعرف نفسه، فاندفع إلى الثورة يحطم الأغلال ويطلب بدمه الحياة السعيدة والعيشة الكريمة، ويسعى إلى وصل تاريخه الحاضر بتاريخه الغابر. ... ____ مؤلفاتي: ____ لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلًا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالًا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلمًا عربيًا، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا، وحسبي هذا مقربًا من رضى الرب ورضى الشعب. ومع ذلك فقد ساهمت بالكتابة في موضوعات مفيدة، ولكن لم يساعدني الفراغ ولا وجود المطابع على طبعها، وقد بقيت كلها مسودات في مكتبتي بالجزائر. فمن أجل ما كتبت: ـ[عيون البصائر]ـ: وهي من المقالات التي كتبتها بقلمي في جريدة «البصائر» في سلسلتها الثانية. كتاب ـ[بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر]ـ، (والتزمت فيها اللهجة السائدة اليوم في مواطن هلال بن عامر).

كتاب ـ[النقايات والنفايات في لغة العرب]ـ: جمعت فيه كل ما جاء على وزن فعالة (من مختار الشيء أو مرذوله). كتاب ـ[أسرار الضمائر في العربية]ـ. كتاب ـ[التسمية بالمصدر]ـ. كتاب ـ[الصفات التي جاءت على وزن فعل]ـ بفتح العين. كتاب ـ[نظام العربية في موازين كلماتها]ـ. كتاب ـ[الاطراد والشذوذ في العربية]ـ: (رسالة في الفرق بين لفظ المطرد والكثير عند ابن مالك). كتاب ـ[ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة]ـ. ـ[رسالة في ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان]ـ. رواية: ـ[كاهنة أوراس]ـ بأسلوب مبتكر يجمع بين الحقيقة والخيال. ـ[رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية]ـ. كتاب ـ[حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام]ـ بدأت فيه من أيام إقامتي في دمشق بعد الحرب الأولى، وأتممته بعد ذلك في فترات، وبحثت فيه ينابيع المال في الإسلام، واستخرجت ينابيع أخرى غير منصوصة يلتجئ إليها جماعات المسلمين إذا حَزَبَهم أمر، أو فاجأتهم حادثة. كتاب ـ[شُعَب الإيمان]ـ: جمعت فيه الأخلاق والفضائل الإسلامية. وهناك محاضرات وأبحاث كتبها عني التلامذة في حين القائها، وهناك فتاوى متناثرة. ولكن أعظم ما دونت، ملحمة رجزية نظمتها في السنين التي كنت فيها مبعدًا في الصحراء الوهرانية، وهي تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي في كل بيت منه، وقد تضمنت فنونًا من المواضيع: تاريخ الإسلام ووصف لكثير من الفرق التي حدثت في عصرنا هذا، وللمجتمع الجزائري بجميع فرقه ونحله، ولأفانين في الهزل للمذاهب الاجتماعية والفكرية والسياسية المستجدة، والإنحاء على الابتداع في الدين، وتصوير لأولياء الشيطان، ومحاورات أدبية رائعة بينهم وبين الشيطان، ووصف للاستعمار ومكائده ودسائسه وحيله وتخديراته للشعوب للقضاء على مقوماتها. ولم أقرأ للرجاز رجزًا سلسًا يلتحق بالشعر الفني مثل هذه الملحمة إلّا لابن الخطيب في نظم الدول، ولشوقي في رجز دول العرب وعظماء الإسلام، ولبعض الشناقطة، وكان الرجز موقوفًا على نظم المتون العلمية، وهي مقيدة بالاصطلاح العلمي، لذلك كان باردًا بعيدًا عن الفن، خاليًا من الإشراق والروعة حتى عده المعري من سفساف القريض وتخيل للرجاز جنة حقيرة، وأنا أعتبره بحرًا كبقية بحور الشعر العربي يرتفع فيه أقوام وينخفض آخرون، ولمهيار

خلاصة الخلاصة

الديلمي قصائد كثيرة من مسلسلاته من وزن هذا البحر، ولم يقعد بها عن الإجادة أنها من الرجز، وشوقي إمام الشعر في وقتنا هذا يقول في شأن الغاضّين من الرجز، الظانّين بأنه مركب لمن عجز. يرون رأيًا وأرى خلافه … الكأس لا تُقوِّم السلافه ____ خلاصة الخلاصة: ____ 1 - ولدت عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306هـ، الموافق للرابع عشر من شهر يونيو سنة 1889م. 2 - حفظت القرآن ومتون العلم الكبيرة وأنا ابن تسع سنين، وتلقيت علوم الدين والعربية في بيت أسرتي على عمي القائم بتربيتي الشيخ محمد المكي الإبراهيمي وكان علّامة زمانه في العلوم العربية. 3 - مات عمي وأنا ابن أربع عشرة سنة، بعد أن أجازني في العلوم التي تلقيتها عليه. 4 - وهبني الله حافظة خارقة، وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف وكانتا معينتين لي في تحصيل العلم في هذا السن. 5 - بعد موت عمي خلفته في إلقاء الدروس على تلامذته وغيرهم إلى أن جاوزت العشرين سنة. 6 - بيتنا عريق في العلم خرج منه جماعة أفذاذ في علوم الدين والعربية في الخمسة قرون الأخيرة، بعد انحطاط عواصم العلم الشهيرة في المغرب. 7 - رحلت إلى المدينة أنا ووالدي مهاجرين، فرارًا من الاستعمار الفرنسي، فكنت من مدرسي الحرم النبوي الشريف، وتلقيت فيها علم التفسير، وعلم الحديث، رواية ودراية، وعلم الرجال وأنساب العرب، ومكثت في المدينة المنورة قريبًا من ست سنين، ثم انتقلنا إلى دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى فكنت من أساتذة العربية في المدرسة السلطانية بها مدة سنتين، في عهد حكومة الاستقلال العربي. 8 - بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجعت إلى بلدي بالجزائر، وبقيت بها أنشر العلم في فترات متقطعة إلى سنة 1931 ميلادية، وكنت أحد اثنين يرجع لهما الفضل في تكوين

جمعية العلماء أنا وعبد الحميد بن باديس، وكنت في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية بالجزائر من الابتدائية إلى العالية، وكنت أبرز المشيدين لأربعمائة مدرسة في مدن القطر الجزائري وقراه، وفي طليعة المجاهدين في سبيل الإصلاح الديني وحرب التدجيل والابتداع في الدين وبث الوعي الوطني، وتصحيح الموازين الفكرية والعقلية في نفوس أفراد الشعب الجزائري. 9 - بعد ظهور جمعية العلماء للوجود انغمست في أعمالها وتشكيلاتها وانقطعت إلى العلم وتأسيس مدارسه ووضع برامجه، وكيلًا لها في حياة ابن باديس ورئيسًا لها بعد موته على ما هو مفصل في الخلاصة، وفي سنة 1952 ميلادية رحلت إلى الشرق بتكليف من جمعيتي، وكان الباعث على هذ الرحلة أمرين: الأول: السعي لدى الحكومات العربية لتقبل لنا بعثات من أبناء الجزائر. الثاني: مخاطبة حكومات العرب والمسلمين في إعانتنا ماليًّا حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة، لأن الميدان اتسع أمامها، والشعب الجزائري محدود القوّة المالية، إذا لم يعنّا إخواننا فربما تنتكس حركتنا، وهذا ما ينتظره الاستعمار لنا. وقد قدمت مصر ثم زرت باكستان والعراق وسوريا والحجاز. فأما قبول البعثات فقد حصلت فيه على الغرض، وأما الإعانة بالمال فقد كانت طفيفة، وقامت الثورة الجزائرية المباركة سنة 1954، واستفحل أمرها فانقطعت مكرهًا عن زيارة الجزائر. 10 - تركت مسودات مؤلفاتي كلها بالجزائر ولم أصحبها معي لتطبع أو يطبع بعضها هنا كما كنت آمل، لأني لم أشأ أن أخلط عملًا عموميًّا للجزائر بعمل شخصي لنفسي. وأنا أرجو للثورة الجزائرية التي شاركت في التمهيد لها وتهيئة أسبابها ختامًا جميلًا تنال به الجزائر حريتها واستقلالها. نفعنا الله بما علَّمَنا وبما علَّمْنا إنه مجازي العاملين المخلصين.

كلمة في مجمع اللغة العربية

كلمة في مجمع اللغة العربية باسم الأعضاء الجدد * ــــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوة الكرام: حياكم الله وبياكم، وأدامكم وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصونون عرضها، وتستردون قرضها، وللغة العرب تجمعون شتاتها، وتحيون مواتها، وترعون- على تجهم الأحداث، وسفه الوراث- متاتها، ولهذا المجمع تعلون بنيانه وترفعون على العمل النافع أركانه. أيها الإخوة: إن هذه اللغة العربية الشريفة التي طرقنا خيالها المؤوب، ثم أسمعنا داعيها المثوب، فاجتمعنا على بساطها اليوم من جميع أقطار العروبة، هي الرحم الواصلة بيننا وهي اللحمة الجامعة لخصائصنا وآدابنا، فمن بعض حقها علينا أن نبلها ببلالها، وأن نرعى حقها في كل منسوب إليها، كما أن من بعض حقها علينا أن نخف لنجدتها، كلما مسها ضر أو حَزَبَها أمر، وإن ما قمتم به اليوم من هذا الاستقبال المتهلل، واللقاء المرحب المؤهل، بإخوانكم أعضاء المجمع الجدد، هو فن جميل من البر بالعربية في أبنائها، يرضي الله الذي اصطفاها ترجمانًا لوحيه، ويرضي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الذي أدى بها أمانة الله، وبلغ بها رسالته إلى خلقه، ويرضي يعرب ونزارًا اللذين سكبا بها التغاريد العذبة الجميلة في آذان الأجيال، وتركاها كلمة باقية في الأعقاب، ويرضي أسلافكم الذين ساسوا بها العقول، وصقلوا بها الأذهان والقرائح وراضوا على بيانها الألسنة، ودونوا بها العلم والحكمة، وخطوا بها التاريخ، وشادوا بها الحضارة الشماء التي لا تطاول، ووسعوا بها آفاق الخيال العربي، ورققوا ببيانها العواطف الكثيفة، وحدوا بها ركب الإنسانية حينًا فأطربوا.

_ * كلمة الإمام في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في حفل تنصيب أحد عشر عضوًا من مختلف أقطار العروبة بتاريخ 12 مارس 1962، وهي منشورة في المجلد الرابع من البحوث والمحاضرات (مؤتمر 1961 - 1962) الصادر عن المجمع، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، جانفي 1963.

أيها الإخوة: لقد كانت العربية قبل اليوم وإن رباعها لمجفوّة، وإن قصاعها لمكفوة وإن رقاعها لغير ملتامة ولا مرفوة. لقد كانت تلقى الأذى من الغريب المتنمر، ومن القريب المتنكر، فيخف لنصرتها أفذاذ من أبنائها الأوفياء، وجنودها المجهولين، ولكن لا يسمع لهم صوت لتفرقهم في أقطار العروبة المتباعدة، حتى ظهر هذا المجمع، فسعى في إعادة شبابها وتجديد معالمها، وجمع أنصارها، على تعثر خطواته في السنوات الأولى لإنشائه، كشأن كل ناشئ، ثم ما زال يقوى ويشتد، وكلما انضمت إليه طائفة من رجال العربية وفرسان بيانها انتعش وشاعت فيه الحياة، ووخزته الخضرة من جوانبه، ثم ما زال المدد يتلاحق، والعدد يتكامل، حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها اليوم، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، وإن هذا المجمع إذا اطَّرَدَ سيره، وتم إتمامه ليكونَنَّ أداة فعالة في وحدة العرب، ولا عجب فأقوى جامع لكلمة العرب كلام العرب، ولئن تم ذلك لتكونن هذه الأسرة أعز رهط في العرب. أيها الأخوة: لقد كنا معشر المشغوفين باللغة العربية، الهائمين بحبها في كل واد، نتتبع أعمال هذا المجمع باهتمام، ونتلقف كل ما يقوله أو يقال عنه، فنبحثه في مجتمعاتنا الخاصة بإنصاف، ونستعرضه فصلًا فصلًا، وكلمة كلمة، وكنا نعرف منه وننكر؛ نعرف تلك الآراء القيمة التي يعلنها بعض أعضائه، وتلك المباحث الجليلة التي يقدمها بعضهم، ونستحسن تلك الأفكار الجريئة في توسيع دائرة النحت والقياس والاشتقاق، التي كان المجمع يتناولها بالتمحيص إلى كثير من حسناته ومزاياه، وننكر منه هنات لا تحط من قيمته في أنفسنا، ولا تقدح في ما نضمر له من إجلال وإكبار. ننكر عليه البطء والتثاقل في السير، وعدم التعجيل بتقديم ثمراته إلى الأمة في مجلته ونشراته، وتقصيره في ما يجب الإسراع فيه، وأشد ما كنا ننكر من أعماله استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشئ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان، واستحكام التجارب ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوم السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة، مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! .... ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟ ... على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع، كانوا مستشارين في وزارات الخارجية في بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية. أيها الإخوة: إن مواطن العروبة متفرقة متباعدة، وإن الرابط الطبيعي بينها هو هذه اللغة، وقد ألم بها من أحداث الدهر ما أضعف تلك الرابطة حتى رثت حبالها، وغالبتها العامية في

كثير من أحكامها وكثير من مفرداتها. ولكنها لم تبتل بداء مثل هذا الداء العقام الذي نسميه الاستعمار، ولو أنصفنا لسميناه الطاعون، فهو الذي ألح عليها عن قصد وتعمد حتى كاد يزهق روحها، لإيقانه بمبلغ تأثيرها في تثبيت الروابط بيننا. ومن بلاء العربية أن هذا الداء تسلط على جميع أقطار العروبة فتمكن من حرب العربية في جميعها بوسائل شيطانية لولا عناية الله وما أودعه فيها من القوّة والمناعة لقضى عليها، ولقد حاربنا على أرضنا وأقواتنا وكل وسائل الحياة عندنا فأفلح، ولكنه حينما حارب لغتنا وتدسس إلى مدب السرائر ومكامن العقائد من نفوسنا باء بالهزيمة، فلا خوف بعد اليوم وقد تنبه رب البيت فخاب اللص، وباء بالفشل والخيبة، وأبرز الأمثلة لحرب الاستعمار للعربية منعه لتعلمها في الجزائر، وحكمه بأنها لغة أجنبية في بلدها، ومنعه للكتب العربية التي تطبع في الشرق العربي من الدخول إلى الجزائر، ما ذلك كله إلّا لغاية واحدة هي إضعافها ثم الإجهاز عليها، وما جرى في الجزائر جرى في غيرها من أقطار العروبة على اختلاف في الشكل، والاستعمار كله ملة واحدة، وأنا ما زلت أتلمح العامل الإلهي لحفظ هذه اللغة، وحفظ الإسلام الذي يحميها وتحميه- أتلمح هذا العامل- في هذه المذاييع التي ينفق عليها الاستعمار أموالًا طائلة لتذيع القرآن بلغته في العواصم الكبرى فتبلغ أطراف العالم في كل ليلة. انه لعمركم انتصار للعربية، وإن كان للاستعمار فيه مآرب أخرى يقصدها أولًا وبالذات، ولكن الدعاية للعربية بعمله هذا حاصل غير مقصود، بل مناقض لقصده. أيها الإخوة: إن أسرة المجمع أصبحت أسرة عربية لا تخالطها عجمة، ولا يطرق ساحتها دخيل، ولا يداخل نسبتها إقراف ولا هجنة، فلنعمل للغتنا بأنفسنا، ولنسكب عليها عصارة أرواحنا ولنضاعف جهودنا، ولنشدد حيازيمنا، ولنشحذ عزائمنا، ولنوجه كل قوانا لخدمتها والذب عن حرماتها، ولنعلم أنه إن أصابها سوء ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون، ولسنا لعدنان ولا لقحطان إن سيمت العربية ضيمًا ونحن حماة ثغورها، ولعل إخواني الأعضاء الجدد يشاركونني في اليقين بأنكم ما أوليتمونا شرف العضوية بهذا المجمع للراحة ولين المهاد، وإنما لنتحمل بهذه العضوية أعباء تستدعي سهر العيون وإنضاء العقول والقرائح ومتاعب التنقيب على ما أودع الأسلاف في هذه الأسفار من كنوز، فلنوطن أنفسنا على ذلك كله برضى واطمئنان، وإنها لصفقة رابحة. أيها الإخوة: إن اللغة العربية كالدين يحملها من كل خلف عدوله، لينفوا عنها تحريف الغالين، وزيغ المبطلين، وانتحال المؤولين، وأنتم أولئك العدول، فانفوا بجد وإخلاص عن هذه اللغة زيغ المبطلين من هذا الجيل الذين أصبحوا يتنكرون لهذه اللغة ويعفرون في وجهها، وقد فاتهم أن يحصلوا منها على طائل، فأصبحوا يرمونها بالعقم والجمود، وعدم المسايرة لركب الحضارة، ويرتضخون لكنة، لا هي بالعربية ولا هي بالصالحة لأن تخلف

العربية ويتمردون على البيان العربي، وعلى مناحي الشعر العربي، وعروضه وقافيته ورويه، ويلوون ألسنتهم بالسوء في ذلك كله. أيها الإخوة: أعيذكم بشرف العروبة أن تكونوا كأعضاء المجمع الفرنسي: دعوا بالخالدين فأوهمهم هذا الوصف أنهم خالدون حقّا فركنوا إلى الكسل وأصبحوا سخرية الساخر. أيها الإخوة: أنا وإخواني الأعضاء الجدد الذين أتكلم باسمهم نتقدم أولًا بالحمد لله على أن شرّفنا بالانتساب إلى هذه الأمة الجليلة، وعلى أن فتق ألسنتنا على لغتها الحرة الأصيلة، وعلى أن رزقنا من بيانها ما نستطيع به أن نعلق بغبار جياد السبق في ميادينها. ثم نتقدم بالثناء العاطر على إخواننا السابقين الأولين من أعضاء المجمع على ما أنفقوا في سبيله من وقت وجهد، وأفاضوا عليه من معنويات راسخة، ونفضوا عليه من ألوان ثابتة جميلة، على ما وسعوا من آفاقه وميادينه، وعلى ما سعوا فيه من إلحاق إخوان لهم من أقطار العروبة تكثرًا بهم، والعزة للكاثر، وتعاونًا على هذ الأم البرة، والتعاون على البر (بفتح الباء) كالتعاون على البر (بكسر الباء) كلاهما منقبة وقربة وحسن أحدوثة، وقالة خير فاشية. ثم نتقدم بالشكر لشعب الجمهورية العربية المتحدة وحكومتها ورئيسها على احتضانهم للقومية العربية التي هي مدد هذا المجمع، وحسن رعايتهم للغة العربية التي هي وظيفة هذا المجمع، بل على إمدادهم لهذا المجمع بوسائل الحياة. أيها الإخوة: أنا سعيد بأن أتكلم في هذا اليوم، وفي هذا المحفل ووطني الجزائر مقبل على استقلاله الذي اشتراه بالثمن الغالي، وستلتحق الجزائر بالركب العربي عن قريب، وسيخرج من أجيال المغرب العربي عُفارٌ لهذا المجمع، وحماة لهذه اللغة الشريفة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رسالة إلى الأستاذ عبد الله كنون

رسالة إلى الأستاذ عبد الله كنون * حضرة الأخ الصديق العلامة الأستاذ عبد الله كنون حفظه الله وأبقاه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلتني رسالتكم البرة الكريمة في التهنئة بأعجوبة الزمن ومعجزة الدهر: استقلال الجزائر، وما أدراكم ما استقلال الجزائر، الحدث الذي هز العالم كله فابتهج له أقوام وامتعض آخرون، وما امتعض له إلّا الشيطان وحزبه، والاستعمار وأولياؤه، ولا سروا ولا فرحوا. إن استقلال الجزائر- أيها الأخ الأستاذ- قدر مشترك بين جميع العرب وجميع المسلمين، فليس واحد منا بأحق في باب التهنئة من صاحبه، ولكنكم سبقتم فلكم فضل السبق ومزية البدار إلى الواجب، ولقد كانت تهنئتكم كبيرة في معناها مضاعفة في مغزاها، فهي كبيرة إذ كانت منكم، ولحضرتكم عندي المكانة التي لا تطاول، والمنزلة التي لا تسامى، والقيمة التي لا تكاثر، وهي مضاعفة بكونها باسم رابطة العلماء، وما أعز هذا الإسم عليّ وما أكثر غرامي به وافتتاني، ولقد كنت سعيت للعهد الأول من نشأة جمعية العلماء في أن تنشأ لها أخت برة في تلك القطعة العزيزة من الوطن حتى تشد أزرها وتقوي أمرها، ولكن لكل شيء أوان، وستعود جمعية العلماء سيرتها الأولى وتخب مع الرابطة في الميدانين الإسلامي والعربي عنقًا فسيحًا إن شاء الله. أيها الأخ: أنا مريض منذ فارقتموني، ولولا أن استقلال الجزائر أنعشني ومست روحي منه ما يشبه الكهرباء لما كانت فيّ قوّة على إملاء كلمة وكتابة حرف، ولقد كنت إلى عهد قريب أخشى أن تخترمني الموت قبل أن أملأ أذنيّ بأخبار استقلال الجزائر، ولكن الله منّ عليّ - تفضلًا منه ورحمة- بالحياة حتى تمت الفرحة الكبرى فقلت: الآن ألقى الله مطمئنًا،

_ * أُرسلت من القاهرة يوم 9 أغسطس 1962.

واذهب إلى الآخرة بزاد لنفسي وببشرى لإخواني الماضين في دار الخلود، الذين ماتوا بحسرة في النفس وحزّة في الصدر، إذ لم ينعموا ولو في حشرجة الموت بخبر منعش مثل هذا. أخي: إني راجع إلى الجزائر بعد أيام قليلة لِأُطفئ الشوق إلى بقية الموت من إخواني الأخيار، وأبنائي الأطهار، ونتنادم على بساط الصفاء والأنس حتى نتذوق النعمة كاملة، وسأرجع إن شاء الله في الشهر الثاني من الخريف ونبقى حتى نجتمع بكم في مجمع اللغة العربية. وتقبلوا فائق التحيات من أخيكم: محمد البشير الإبراهيمي

لقاء مع "مجلة الشبان المسلمين"

لقاء مع "مجلة الشبّان المسلمين" * فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، شيخ علماء الجزائر، رجل من رجال الدعوة الإسلامية والجهاد العربي، جعل من أيام حياته سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح والنضال، اليوم يهب حياته- مدّ الله في عمره- لدينه الحنيف ووطنه العربي الكبير، وقد التقينا بالمجاهد العربي الكبير ودار بيننا ويينه هذا الحديث: ــــــــــــــــــــــــــــــ قلت لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: هل لنا أن نعرف قصة حياتكم ليستفيد شبابنا بما فيها من دروس رائعة؟ وأجاب فضيلته قائلًا: لقد ولدت في الجرائر في مقاطعة قسنطينة. وأصل عائلتي ومنازلها في الفروع المتمّمة لجبال أوراس من جهته الغربية، وفي السفوح المواجهة للتلول، وهي فروع لجبال الأطلس الكبير الذي تبتدئ مخارمه من ليبيا ويمتد غربًا إلى المحيط الأطلسي بمراكش، وسلاسله من أطول سلاسل الدنيا، وقد أقام أجدادي بهذه الجبال حقبة طويلة في التاريخ. وكانوا كبقية قبائل الأطلس يحترفون الفلاحة وتربية الماشية، وكان لأجدادي تاريخ قديم في العلم يرجع إلى قرون، وكانوا مرجعًا في الفتيا الدينية، والصلح بين العشائر مهما شجر بينهم من خلاف. وكانوا ملاذًا لطلبة العلم لا تخلو بيوتهم من عشرات طالبي العلم يرحلون إليهم من أقاصي البلاد، فيقومون بإطعامهم وتعليمهم، ومنهم من لا يخرج من بيتهم إلّا عالمًا. وفي هذه البيئة ولدت عام 1306 هجرية عند طلوع الشمس من يوم الخميس في الثالث عشر من شهر شوّال ويوافق سنة 1889 ميلادية.

_ * مجلة "الشبّان المسلمين"، العدد 66، القاهرة، أوت (أغسطس) 1962.

وأدركت من علماء بيتنا جدي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي وعمّي شقيق أبي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي، وهو الذي تولى تربيتي وتعليمي على طريقة خاصة له في ذلك. ورزقت حافظة عجيبة وذاكرة قوية، فاستغلها عمي في تعليمي؛ فكان يملي عليّ من شعر العرب القدماء والمحدثين، وحفظت القرآن الكريم مع معالم مفرداته وأنا ابن تسع سنين، وحفظت مع ذلك في أثناء هذه المدة المتون المهمة في العلم، وتفقهت وأنا في هذه السن في قواعد النحو والفقه والبلاغة. وتابع فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حديثه قائلًا: ولما بلغت العشرين سنة من عمري هاجرت إلى المدينة المنوّرة سنة 1911م ملتحقًا بوالدي الذي سبقني بالهجرة سنة 1908م، ومررت بالقاهرة فلبثت فيها ثلاثة أشهر أقضي غالب نهاري في التردد على حلقات الدرس بالجامع الأزهر. وحضرت دروس الشيخ عبد الغني محمود في جامع سيدنا الحسين، ودروس الشيخ يوسف الدجوي في الأزهر في البلاغة، ودروس الشيخ نجيب في الرواق العباسي، ودروس الشيخ سعيد الموجي في الموطأ بجامع الفاكهاني. وزرت أمير الشعراء أحمد شوقي وقرأت عليه قصائد كثيرة من شعره الذي وصل إلينا، كما زرت حافظًا وقرأت عليه بعض ما أحفظه من قصائده، أذكر منها قصيدته اليائية في رثاء مصطفى كامل رحمهم الله أجمعين. ثم سافرت إلى المدينة عن طريق بورسعيد- حيفا- تبوك- المدينة المنورة، واجتمعت بوالدي. واخترت من مشايخ الحرم النبوي أبرعهم في العلم وأعلاهم كَعْبًا فيه، فلزمت واحدًا منهم وهو أستاذي الشيخ محمد العزيز الوزير التونسي، وأخذت عنه الحديث وبعض أمهات النحو وفقه مالك، ولازمته ما يقرب من ست سنوات. وكنت أتردّد على دروس المحدثين مثل الشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي والشيخ أحمد البرزنجي وغيرهما وكنت في مدة الطلب ألقي دروسًا منظمة في الأدب واللغة في الحرم النبوي الشريف. وقال لنا فضيلة العالم الكبير: ولما قامت الحرب الأولى الكبرى وقامت في أثنائها ثورة الشريف حسين المعروفة أرغمتنا الدولة العثمانية نحن معشر سكان المدينة جميعًا بالخروج إلى دمشق، فانتقلت مع والدي إلى الشام واستوطنت دمشق، واشتغلت بالتعليم الحر في المدارس الحرة، ثم عيّنت رسميًا أستاذًا للآداب العربية في المدرسة السلطانية الأولى وهي أعلى مدرسة في دمشق إذ ذاك. إلى أن انتهت الحرب بقلب الأوضاع وخيبة الآمال واخترت الرجوع إلى الجزائر. واشتغلت بإلقاء دروس متنوعة في العربية والأدب العربي والفقه والحديث والتفسير والتاريخ على طلّاب وجدتهم مستعدين لذلك.

وهناك، وعلى تربة الوطن، كنت أجتمع كل أسبوع أو كل شهر على الأكثر بإمام النهضات الجزائرية من دينية وسياسية واجتماعية الشيخ عبد الحميد بن باديس. وتلاقى فكرانا على هدف واحد وهو قيامنا بنهضة شاملة نُحيي بها ما انْدَرَس من معالم العربية والإسلام بالوطن الجزائري. وشرعنا نخطط خططًا لذلك وكيف نحارب الاستعمارين الروحي والبدني في الجزائر، فهما اللذان تواطآ على تجهيل الجزائر وتفقيرها بإبعادها عن الإسلام وعن العروبة وعن تاريخ الإسلام والعروبة وعن أمجاد الإسلام والعروبة. ولبثنا نفكّر ونقدر عشر سنوات مع توسيع دائرة تعليمنا الخاص إلى أن جاءت سنة 1930، وتمّت لفرنسا مئة سنة على احتلالها للجزائر، فاحتفلت بذلك احتفالًا عالميًا، وأعلن كثير من خطباء ذلك الاحتفال من الفرنسيين فقالوا: إن معنى هذا الاحتفال الحقيقي هو تشييع المسيحيين لجنازة الإسلام. وقد خيّب الله ظنهم ورماهم بما كذب فألهم، فبرزت جمعية العلماء للوجود سنة 1931 وكان من أعمالها في إحياء الإسلام الصحيح وإحياء لسانه العربي المبين ما هو مشهور مسجل في جرائدها الكثيرة. وقلت لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: كيف نقوّي الرابطة بين الشباب المسلم؟ فقال: معظم الشباب المسلم اليوم مفكك الأجزاء لا تربطه رابطة دينية ولا دنيوية، وهذا أمر يؤسف له ... وسألت: ما هي الأسباب؟ فأجاب قائلًا: أهم الأسباب لذلك يرجع إلى تنشئته، فالكثير من هؤلاء الشباب لم ينشأ دينيًا، لا في البيت الذي هو أول مدرسة في حياته، ولا في المدرسة التي هي آلة التقويم الخلقي لتلامذتها، ولا في المجتمع. لذلك نشأ رخو الطباع، والعهدة في هذا ترجع إلى الأبوين، وبيئة الأهل والأقارب الذين يتقلب الشباب بينهم ويقضي زهرة شبابه في مخالطتهم صباحًا ومساءً، ثم على المدرسة التي تعلّم والتي ما تزال في معظم الأحيان غير مجتهدة بحق في العناية بتربية الأخلاق الفاضلة وغرسها في نفس الشاب، وما دام هذان العاملان مشتركين بين الشباب فلا نطمع أن تسري هدى الصلاح والفضيلة من فريق منهم إلى فريق، ولا نطمع أن يعدي الصحيح الأجرب، بل الواقع أن الطالح يعدي الصالح. وسألت: ما هو العلاج؟

فأجاب: إن الأمر لم يخرج من أيدي دعاة الإصلاح بالمرة، ففي أيدي هؤلاء الدعاة إذا تضافرت جهودهم أن يتقدموا إلى مدرّسي المساجد وخطباء الجُمَع ومحاضري المجامع والنوادي بأن يركبوا طريقة غير الطريقة المعهودة عندهم في الدروس والخطب والمحاضرات، ويتفقوا على أسلوب واحد في تربية الشبيبة الإسلامية على الدين والفضيلة والتقوى، فهذه هي الباقيات الصالحات التي ينبغي على المدرّس والخطيب أو المحاضر أن يغرسها في نفوس الشباب ويجتثّ منها أضدادها. فإذا نشأ الشباب على التديّن أحبّ الدين، وإذا أحبّ ما فيه وأحث ما يستتبعه من فضائل وأخلاق حميدة، عمل على غرسها في نفوس غيره من الأجيال اللاحقة. والشباب أمة مستقلة، والشباب يؤثر في الشباب، وإذا أحبّ الشاب دينه وفضائل دينه، ولغته وأسرار لغته أحبّ العرب جميعًا، وأصبح في نفسه دافع إلى الاجتماع بإخوانه في الدين والعروبة. يغذي هذا الدافع وينمّيه في نفسه بما يحضّ عليه الإسلام من الضرب في الأرض والسير في مناكبها والحقّ على التعارف بين المسلمين، وذلك كله مما يقوي الرغبة في الأسفار وحب الرحلة والاستطلاع والاستفادة. فإذا كانت الحكومات رشيدة أعانت على ذلك وساهمت فيه بالسهم الوافر بعقد الرحلات السنوية أو الشهرية من بعض أقطار الإسلام إلى البعض الآخر. وقال فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: وأنا أرى أن الأزهر وسائر معاهدنا مثل جامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين بفاس، يجب أن تتحمّل القسط الأوفر من العمل على تقوية الروابط بين الإخوة المسلمين، والأزهر جامعة جامعة لجميع الأمم الإسلامية: ففيه المسلم الشرقي والغربي، وفيه الجنوبي والشمالي، فهو قادر على أن يلقّنهم ويجعل من ضمن دروسه المفروضة عليهم دروسًا خاصة للتحبيب في السفر والضرب في مناكب الأرض للتحصيل على فوائد جمّة أهمها التعارف بين شباب الإسلام لأنهم حَمَلة الإسلام في المستقبل، والمؤتمنُون على الدعوة إليه. وكيف نطمع في التبشير بالإسلام في الأقطار الوثنية إذا لم نجهّز جيشًا من الشباب ونسلّحهم بالسلاح اللازم لذلك من أخلاق أقواها العزيمة والتضحية والصبر على المكاره وتحمّل المشاق، فلم ينتشر الدين في أول أمره إلّا برجال من هذا الطراز العالي. وقد لاحت لنا بوارق من تحقيق الأمل في هذه المسألة في السنوات الأخيرة وذلك بكثرة المؤتمرات التي تعقد بالقاهرة ويشارك فيها أبناء أفريقيا وآسيا وشبابها بصورة واسعة. لكننا كنا عزلًا من سلاح هذه المؤتمرات، ولذلك حُرمنا من ثمرات اجتماع الشباب في صعيد واحد بتفريطنا الماضي وتقصيرنا في تهيئة الشباب المسلم المهتدي المجهّز لميادين الدعوة.

يلي هذا العامل عامل آخر فعّال، وهو الجرائد والمجلات المصرية الإسلامية التي تُعْرَض على الشباب في جميع أوقاته، فيأخذ منها ما ينَبِّهُ إحساسه ويثير عزيمته إلى التعارف بإخوانه من شبيبة الإسلام في جميع الأقطار. ولكن المجلات الإسلامية عندنا لا تزال قليلة وسبل نشرها في العالم الإسلامي متعذرة. ومن أدوات التعارف الفعّالة في هذا البلد- وهو تعارف الشباب وترابطه- أداة لو رزقت الاتجاه الصحيح لأتت بالعجائب، إنها الإذاعة، فلو تنبّه العاملون لربط الشباب العالمي إلى الشباب الإسلامي وتعارفه روحيًا قبل كل شيء لأتى ذلك الجهد بأطيب الثمرات. وهذا يتوقف على تكاتف المرشدين والمربّين لينظموا محاضرات ودروسًا خاصة بهذا المعنى، ويحدّدُوا لها ساعات متفرقة من الليل والنهار، لتذاع وتوجّه خاصة إلى الشبّان المسلمين في جميع أقطار الأرض، وتخصهم بالخطاب تنويهًا بالموضوع وتمجيدًا للشبّان. فلعمري إن هذه الدعوة لو تكررت وتجاوب في الدعوة إليها والحضّ عليها جميع الإذاعات في الأقطار الإسلامية لأتت بخوارق العادات في هذا الباب. والله الموفق إلى الخير، والله الهادي إلى السبيل.

الشيخ الإبراهيمي يعلن

الشيخ الإبراهيمي يعلن: سأذهب إلى الجزائر حتى لا يتمزق وطني! * ــــــــــــــــــــــــــــــ كتب جمال سليم: " ... إذا استمر الخلاف .. فسوف أذهب إلى هناك .. إلى الجزائر .. وأقابلهم واحدًا واحدًا .. إنهم أبنائي .. وهم لا يريدون بالطبع لوطنهم أن يتمزّق .. إني سأذهب .. لن أتوانى .. لن أتردّد .. إنني أحبّهم جميعًا". إن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي "73 سنة" رئيس جمعية العلماء الجزائريين وأحد الشيوخ المكافحين من أجل استقلال الجزائر منذ عام 1930 ... تعرّض للسجن والنفي والعذاب .. تعصف به عدة أمراض حادة منها السكر والأعصاب والروماتيزم والعيون .. ترك الجزائر في يناير عام 1952 وبها 400 مدرسة عربية و700 معلم، و 96 ألف طالب وطالبة .. يمقتون اللغة الفرنسية المفروضة .. ويتكلمون العربية بطلاقة .. إنه يسير دقيقة ليستريح دقيقة أخرى .. وكان يتحدث معي ويده على مفتاح الراديو .. يتحسس صوت الرئيس جمال عبد الناصر .. وهو يناشد الزعماء الجزائريين أن يصنعوا المعجزة .. ويدق جرس التليفون ويرفع السماعة وأسمع صوته: "أمشي لهم .. بيش أمش لهم .. هناك". وأفهم أن الجزائريين في القاهرة يطلبون منه أن يوجّه كلمة بالإذاعة إليهم .. إلى بن خده .. وبن بيلا .. وبومدين .. والآخرين، ولكنه لا يريد إلا أن يمشي إليهم .. ان الأمر لا يحتمل الانتظار .. إن الشيخ الإبراهيمي لم يبدأ كفاحه في الجزائر سنة 1930 من الفراغ .. انه من مواليد سطيف سنة 1889 وتلقّى تعليمه الديني على يد علماء الدين .. وتأثر بالأمير عبد القادر الجزائري .. وفي سنوات الهجرة التي كانت نتيجة لأعمال القمع الوحشية التي قامت بها السلطات الفرنسية في الجزائر .. سافر إلى القاهرة .. ومنها إلى الحجاز .. واستقر بالمدينة المنورة .. وأخذ يدرس العلوم والنحو والبلاغة .. وكان يهدف إلى تنقية الدين من الخرافات

_ * التصريح الذي أدلى به الإمام الإبراهيمي إلى جريدة "الجمهورية" القاهرية في 5 يوليو 1962.

التي أحاطت به وشوّهته .. وعاصر ثورة الشريف حسين .. واضطر إلى ترك المدينة إلى الشام .. فوصلها سنة 1916 .. وهناك أصبح أستاذًا للأدب العربي في المدرسة السلطانية في الفترة من 1917 إلى 1920، واشترك في الحركات الوطنية الأولى في الشام .. * ما رأيك في هذه الفترة .. إنها قطعة من ماضينا أيضًا؟ - كل ما أذكره .. هو 70 ألف جندي عربي ذهبوا ضحية .. للشريف حسين .. وكانت أطماعه تتفق مع مطامع الانجليز .. وكان هذا المخلوق يفتقر إلى النظر البعيد .. ومن هنا .. كانت هذه الإمارة المسماة شرق الأردن. * كيف قلت كلمتك في هذه العلاقة .. لماذا لم تقلها سنة 1916؟ - قلتها .. وحاصرتني الشرطة .. وكانت الكلاب تحوم حول بيتي تبحث عن فريسة .. ولكن أي حركة وطنية لم تنفذ على الإطلاق من إعطاء قطع اللحم للكلاب .. ومن هنا عدت إلى بلدي .. إلى الجزائر .. كانت المعركة هناك عنيفة .. وكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين .. قد نشأت، كنت أنا وزميلي الشيخ عبد الحميد بن باديس .. نتولى أمرها. وكنا نجد في الدين الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك .. فحاربنا السلطات الفرنسية باسم الدين .. ونظمنا أنفسنا باسم الدين .. وأصبح لجمعية العلماء600 شعبة في أنحاء المغرب العربي تحت ستار الدين. * الدين كان ستارًا .. ؟ - لا .. ولكن ماذا تفعل عندما تجد قانونًا مفروضًا عليك بقوة السلاح .. يقول "اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر .. والفرنسية هي اللغة الرسمية .. " وماذا تفعل عندما يحرّمون عليك دخول المسجد .. ويعينون الأئمة من "المطايا" .. وماذا تفعل عندما تجد ثروات بلدك نهبًا للأجنبي .. وتجد دارك مباحًا لهم .. ليس هناك دين من الأديان يأمرك بالخضوع .. الهوان أمر غير معروف في ديننا .. وهنا كان يجب أن نلتمس في نصوص الدين مبررًا للوقوف ضد كل هذا .. وكان الدين يعطينا كل شيء .. ويمنحنا كل شيء .. حتى إذا ما قتلنا في هذه الحرب .. فنحن شهداء .. وكنا نعطي للفرنسيين كل هذا في صورة دينية بحتة .. فنحن نجتمع للصلاة .. ونحن نعلم الناس الدين .. ونحن ندرس القواعد .. والنحو .. ويكفي أن يعرف الشعب نفسه .. كيف يقوم بمهمّة التحرير؟ ان تدعه يتكلم لغته .. ودينه .. وتراثه فيكتشف نفسه .. ويقوم بالمعجزة. * هل تذهب إلى الجزائر .. بسبب الخلاف القائم الآن .. لقد سمعت ذلك .. ؟ - نعم .. لن أتردّد .. ولكن أعتقد أنه سيزول سريعًا .. إن هذا الخلاف ضروري وحتمي، ويحدث دائمًا .. ولكن لا يجب أن تتسع هوّته .. ويجب أن يتوقف .. وإلا أصبحت قضية الوطن .. في خطر.

خطبة الأستاذ الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

خطبة الأستاذ الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يوم صلاة الجمعة الأولى في مسجد "كتشاوا" بالجزائر العاصمة ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله ثم الحمد لله تعالت أسماؤه وتمت كلماته صدقًا وعدلًا، لا مبدل لكلماته، جعل النصر يتنزل من عنده على من يشاء من عباده حيث يبتليهم فيعلم المصلح من المفسد، ويعلم صدق يقينهم وإخلاص نياتهم، وصفاء سرائرهم، وطهارة ضمائرهم. سبحانه وتعالى جعل السيف فرقانًا بين الحق والباطل، وأنتج من المتضادات أضدادها، فأخرج القوّة من الضعف، وولد الحرية من العبودية، وجعل الموت طريقًا إلى الحياة، وما أعذب الموت إذا كان للحياة طريقًا، وبايعه عباده المؤمنون الصادقون على الموت، فباءوا بالصفقة الرابحة، و {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ... سبحانه تعالى جده، تجلى على بعض عباده بالغضب والسخط فأحال مساجد التوحيد بين أيديهم إلى كنائس للتثليث، وتجلى برحمته ورضاه على آخرين فأحال فيهم كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد، وما ظلم الأولين ولا حابى الآخرين، ولكنها سنته في الكون وآياته في الآفاق يتبعها قوم فيفلحون، ويعرض عنها قوم فيخسرون. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله شرع الجهاد في سبيل الله، وقاتل لإعلاء كلمة الله حتى استقام دين الحق في نصابه، وأدبر الباطل على كثرة أنصاره وأحزابه، وجعل نصر الفئة

_ * ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة 5 جمادى الثانية، 1382 هجرية الموافق للثاني من نوفمبر 1962 ميلادية، بحضور أركان الدولة ووفود غفيرة من مختلف الدول الإسلامية.

القليلة على الفئة الكثيرة منوطًا بالإيمان والصبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل متبع لهداه، داع بدعوته إلى يوم الدين. ونستنزل من رحمات الله الصَّيّبة، وصلواته الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزة الإسلام وكرامة الإنسان وحقوق الوطن. وأستمد من الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوا في هذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم. وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوّة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصًا يهون العسير، وتوفيقًا ينير السبيل، وتسديدًا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض. ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد. ونحيي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلها أوذينا. أحييك يا مغنى الكمال بواجب … وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرر من كتابها. وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابًا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد إليه التوحيد فالتقيتم جميعًا على قدر. إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح، ويطفح على وجوهها البشر لتجسيم لذلك المعنى الجليل، وتعبير فصيح عنه، وهو أن المسجد عاد إلى الساجدين الركع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلّا الله عادت لمستقرها منه كأن معناها دام مستقرًّا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلّا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارق العادات في هذه الثورة.

وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوًا من غير تعب، وفيئة منه إلى الحق من دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال. يا معشر الجزائريين: إذا عُدَّت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدًا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين، ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا، وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا نملك إلّا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذلك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب، وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق. أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون ذلك غريبًا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبًا لأن في الإنسان عرقًا نزاعًا إلى الحيوانية وشيطانًا نَزَّاغًا بالظلم، وطبعًا من الجبلة الأولى ميالًا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معًا، والمؤلم المحزن معًا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشّر به عيسى روح الله وكلمته. يا معشر المؤمنين: إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية. فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة. أيها المسلمون: إن الله ذم قومًا فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، ومدح قومًا فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. يا معشر الجزائريين: إن الاستعماركالشيطان الذي قال فيه نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ"، فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. يا معشر الجزائريين، إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبًا لا تندمل إلّا بعد عشرات السنين، وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل، فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليُتْمِ، وتنسى الأيم

حرارة الثكل، وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم. يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديمًا ولا حديثًا، وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة. إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوّة، وانصحوها في ما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذًا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلًا. وفقكم الله جميعًا، وأجرى الخير على أيديكم جميعًا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.

توسيع لجنة الفتوى

توسيع لجنة الفتوى * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رأى محمد البشير الإبراهيمي رئيس لجنة الإفتاء الشرعي توسيع دائرة تلك اللجنة بزيادة أعضائها، فزاد خمسة من العلماء المشهود لهم بسعة الاطلاع وحسن الإدراك لحوادث هذا العصر وهم المشائخ: - أحمد سحنون: خطيب الجامع الكبير بالعاصمة. - عبد اللطيف القنطري: خطيب جامع كيتشاوة بالعاصمة. - نعيم النعيمي: مفتش الأوقاف بمدينة قسنطينة وأحوازها. - مصطفى الفخّار: مفتي مدينة المَدِيَّة في العهد الحاضر. - الفضيل اسكندر: الإمام والمدرّس بمدينة المَدِيَّة. وكل منهم مشهور بالذكاء واستحضار النوازل، وبالبراعة في تنزيل الأحكام الشرعية على النوازل الفقهية. وهو عازم على أن يزوّد مجلس الإفتاء بمكتبة جامعة لكتب الفتاوى والنوازل ككتاب المعيار للونشرسي، والتبصرة لابن فرحون، وفتاوى الشيخ عليش، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت، ونوازل البرزلي، ونوازل ابن سلمون، ونوازل ابن سهل، ونوازل المتيطي، ونوازل مازونة، وغيرها ككتب العمل المطلق والعمل الفاسي. وستكون الخطوة الإيجابية النافعة لهذا المجلس تهيئة كتاب "المعيار" والقيام بطبعه بالحروف الحديدية، مع الاستعانة بإخواننا فقهاء المغرب الأقصى، فهذا الكتاب كتاريخ ابن خلدون لا يتم طبعهما ما لم تكن لإخواننا علماء المغرب الأقصى يد في تصحيحهما لأنهم أفقه بهما وأقوم عليهما، ولتوفّر المراجع التي تخدم الكتابين في خزائن المغرب.

_ * الجزائر، ديسمبر 1962.

وإذا وفقنا الله لخدمة هذا الكتاب الجليل وطبعه على الصورة التي نريدها، فإننا سنتبعها بخطوة ثانية بطبع كتاب "المدارك" للقاضي عياض، إنْ مدّ إلينا إخواننا الأفاضل علماء تونس يد المعونة لأنّ تحت أيديهم النسخ المتعددة من الكتاب. وفّقنا الله لخدمة العلم والدين، إنّه سميع مجيب (1).

_ 1) شاءت الأقدار أن في نفس السنة التي توفي فيها الإمام (1965)، أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية الجزء الأول من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض بتحقيق العلّامة المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، وتلته الأجزاء الأخرى حتى صدور الجزء الثامن والأخير سنة 1983. وفي سنة 1976 صدرت طبعة أخرى للكتاب ببيروت بتحقيق الدكتور أحمد بكير التونسي، وهي في أربعة أجزاء. أما كتاب "المعيار" للونشريسي فقد صدر سنة 1980 في ثلاثة عشر جزءًا عن دار الغرب الإسلامي بتحقيق جماعة من العلماء المغاربة، تحت إشراف الأستاذ محمد حجي.

إجازة للأستاذ محمد الفاسي

إجازة للأستاذ محمد الفاسي * الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد، فقد سألني أخونا في الله العالم الحافظ الواسع الاطلاع السيّد محمّد الفاسي الفهري، ذو النسب الواضح المرفوع إلى أبي بكر ابن الجدّ الفهري، ذو البيت الرفيع العماد في التاريخ العلمي بالأندلس والمغرب، الذي لا يحصى عدد المتخرّجين في العلوم الإسلامية منه، وناهيك بالإمام أبي المحاسن الفاسي حسبما قلتُ في أرجوزة المثلثات: والجَدّ جدّ أسرة شهيرة سيماؤها التعظيم والإجلال ومن بقايا نسلها علّال ووسمها الأوضاح لا الأغفال سألني أن أجيزه إجازةً عامة في رواية وتدريس ما أخذتُه ورويتُه عن مشائخي من علوم عقلية ونقلية، وهو أهل لجميع ذلك، ولو تحلّينا بحلية الإنصاف، وجرينا على جميل الأوصاف، لكان هو المجيز وأنا طالب الإجازة. ولكنني أجبته إلى مرامه، وأجزتُه بكل ما حصّلته عن مشائخي في الشرق والغرب رحمهم الله وجازاهم عنّي خيرًا، وقلتُ بعد حمد الله والاستعانة بحوله وقوّته: أجزتُ أخانا الشيخ محمد الفاسي برواية كتب الحديث (الصحيحين ومسند أحمد والموطأ)، وكتب الرجال والجرح والتعديل، وجميع متون العلم وأمهاته، وكذلك أجزته بأن يروي عنّي جميع

_ * زار الأستاذ محمد الفاسي الشيخ الإمام في منزله بالجزائر في بداية سنة 1964، وهو طريح الفراش، وطلب منه أن يجيزه فأملى على ولده أحمد هذه الإجازة.

ما في الأثبات المعروفة من أمّهات الفقه والحديث، وكذلك جميع ما احتوت عليه هذه الأثبات من المسلسلات، كالمسلسل بالأولية وبالمصافحة، وسأكتبها له بالتفصيل في فرصة أخرى، وأهمّها ثبت الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وثبت الملّا إبراهيم الكوراني، وثبت الشيخ صالح الفلّاني، وثبت الشيخ فالح الظاهري المهناوي الكبير والصغير عن الشيخ محمد بن علي الخطابي السنوسي. وغالب هذه الأثبات أرويها عن جماعة من مشائخي منهم الشيخ أحمد البرزنجي، والشيخ حسين أحمد الفيض آبادي الهندي، والشيخ محمد العزيز الوزير التونسي، والشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، والشيخ سعيد الردّاد المصري، وإجازتهم لي جامعة لجميع الأثبات المذكورة، وتلتقي وتفترق حتّى إن الكثير منها يتّصل بأئمة المغرب كالقاضي عياض، والإمام أبي الوليد الباجي شارح الموطأ، والحافظ أبي عمرو يوسف بن عبد البرّ، بحيث لا يذكر الذاكر كتابًا معروفًا إلا ووجد نفسه متصلًا بالرواية إلى مؤلّفه. وأوصي أخانا الشيخ محمدًا الفاسي بما أوصي به نفسي، وبما أوصاني به مشائخي، بتقوى الله في السرّ والعلانية، وبتقدير شرف العلم وتعظيم رجاله، مدرّسًا أو راويًا، وبالدعاء بالخير للعلماء الذين هم سبب ارتباط آخر هذه الأمّة بأوّلها، والله تعالى ينفعني وينفعه بأسرارهم وبركاتهم، إنّه سميع مجيب. محمد البشير الإبراهيمي

مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية» للإمام عبد الحميد بن باديس

مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية» للإمام عبد الحميد بن باديس * بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وعضو المجمع اللغوي بالقاهرة والمجمع اللغوي بدمشق ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله حق حمده. وصلى الله على سيدنا محمد رسوله وعبده، وعلى آله وأصحابه الجارين على سنته من بعده. هذه عدة دروس دينية، مما كان يلقيه أخونا الإمام المبرور الشيخ عبد الحميد بن باديس- إمام النهضة الدينية والعربية والسياسية في الجزائر غير مدافع- على تلامذته في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن، على الطريقة السلفية التي اتخذتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منهاجًا لها بعد ذلك. وبنت عليها جميع مبادئها ومناهجها في الإصلاح الديني، مسترشدة بتلك الأصول التي كان الإمام رحمه الله يأخذ بها تلامذته قبل تأسيس الجمعية، وإن كانت الجمعية قد توسعت في ذلك. فالفكرة التي بنى عليها الإمام دروسه وأماليه كانت تصحبها فكرة أخرى أشمل منها وهي فكرة جمعية العلماء. فالفكرتان كانتا مختزنتين في تلك النفس الكبيرة. وكان رحمه الله يديرهما بذلك النظر البعيد، ويهيء لهما من الوسائل ما يبرزهما في الحين المقدر لهما. وكان يمهد في نفوس تلامذته والمستمعين لدروسه، ليكونوا في يوم ما قادتها وأعوانها، وحاملي ألويتها ومنفذي مبادئها، وناشري الطريقة السلفية الشاملة في العلم والعمل وسائر فروع الإصلاح الديني. كان الإمام المبرور يصرف تلامذته من جميع الطبقات على تلك الطريقة السلفية. ومعلوم أن الإصلاح الإسلامي الذي قامت به جمعية العلماء بعد ذلك لا تقوم أصوله إلا

_ * رواها وعلّق عليها الأستاذ محمد الصالح رمضان، وطبع الكتاب سنة 1964.

على ذلك، وأن هذا الإمام رفع قواعده وثبت أصوله وهيأ له جيشًا من تلامذته وحاضري دروسه. والإمام رضي الله عنه كان منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك- وهو في مقتبل الشباب- ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشائخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلمًا. وقد بلغه الله أمنيته فأخرج للأمة الجزائرية أجيالاً على هذه الطريقة السلفية، قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم أجيال أخرى من العوام الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية. وقد تربت هذه الأجيال على هداية القرآن فهجرت ضلال العقائد وبدع العبادات، فطهرت نفوسها من بقايا الجاهلية التي هي من آثار الطرائق القديمة في التعليم، وقضت الطريقة القرآنية على العادات والتقاليد المستحكمة في النفوس، وأتت على سلطانها. وقد راجت هذه الطريقة وشاعت حتى بين العوام، وإن كانوا لا يحسنون الاستدلال بالقرآن، وإن كان الاستعداد الكامن في الأمة للإصلاح الديني، وكثرة حفاظ القرآن فيها أعانا على تثبيت هذا الميل القرآني فيها، فأصبح العامي إذا سمع الاستدلال بالقرآن أو الحديث اهتز وشاعت في شمائله علامة الاقتناع والقبول!! وهذه أمارة دالة على عودة سلطان القرآن على النفوس يرجى منها كل خير. ختم الإمام ابن باديس القرآن كله درسًا على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة، ولو أنه رزق تلامذة حراسًا على تلقف كل ما كان يقوله وينزل عليه الآيات من المعاني .. لوصل إلى الأمة علم كثير كما وصلت هذه الأمالي بعناية الأستاذ الموفق محمد الصالح رمضان القنطري، فإنه تلقى هذه الدروس ونقلها من إلقاء الإمام واستأذنه في التعليق عليها ونشرها للانتفاع بها. فجزاه الله خير الجزاء. لم ينقل لنا تاريخ العلماء بهذا الوطن أن عالمًا ختم تفسير القرآن كله درسًا إلا ما جاء فيه عن الشريف التلمساني، أنه ختم تفسير القرآن كله في المائة التاسعة، والشريف حقيق بذلك، ولكن لم ينقل لنا منه شيء، لأن تلامذته كانوا في التقصير كتلامذة ابن باديس. ولو كانوا على درجة من الحرص والاحتياط لوصل إلينا شيء من ذلك. وقد كتب الإمام ابن باديس بقلمه البليغ مجالس التذكير، وهي تفسير لآيات ولأَحاديث جامعة كانت تعرض له في تفسير القرآن أو في شرح الموطأ التي أقرأها درسًا حتى النهاية، ونشر ذلك كله في مجلة الشهاب، ثم فسر سورتي المعوذتين يوم الختم تفسيرًا عجيبًا! ونقلها من إلقائه كاتب هذه السطور نقلًا مستوعبًا بحيث لم تفلت منه كلمة ونشره في عدد خاص من مجلة الشهاب، وقدم له كاتب هذه السطور أيضًا.

وهذا درس من دروسه ينشره اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة تلميذه: الصالح كاسمه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي، موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقده في ربه بآية من كلام ربه، لا بقول السنوسي في عقيدته الصغرى: "أما برهان وجوده تعالى فحدوث العالم"! كان علماء السلف يرجعون في كل شأن من شؤون الدين إلى القرآن، بل كان خلقهم القرآن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ». وكانوا يحكمون القرآن في كل شيء، حتى في الخطرات العارضة، والسرائر الخفية، حتى تمكن سلطانه من نفوسهم وأصبحت لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره ونهيه. وأصبحوا يقودون حتى الخلفاء والأمراء بذلك السلطان. وذلك هو السر في علوّ كلمة الإسلام وسرعة انتشاره في المشارق والمغارب. فلما تفرقت المذاهب الفقهية ونشأ علم الكلام، وتفرقت منازعه بين الأشاعرة والمعتزلة، وطما علم الجدل، وتفرق المسلمون شيعًا حتى أصبح كل رأي في علم الكلام أو الفقه يتحزب له جماعة، فيصبح مذهبًا فقهيًا أو كلاميًا يلتف حوله جماعة ويجادلون. فضعف سلطان القرآن على النفوس، وأصبح العلماء لا يلتزمون في الاستدلال بآياته، ولا ينتزعون الأحكام منها إلا قليلاً: فعلماء الكلام صاروا يستدلون بالعقل، والفقهاء أصبحوا يستدلون بكلام أئمتهم أو قدماء أتباعهم. ومن هنا نشأ علم الكلام وعلم الفقه. وعلى هذه الطريقة ألفت المؤلفات التي لا تحصى في العلمين وانتشرت في الأمة وطارت كل مطار. أما أئمة الفقه ومؤلفاتهم فلا يحصون كثرة. وأما أئمة الكلام: فالذي توسع في الطريقة العقلية ووسع دائرتها فهم جماعة معروفون كفخر الدين الرازي، والقاضي أبي بكر بن الطيب، وأبي بكر الباقلاني والبيضاوي، وإمام الحرمين، وسعد الدين التفتزاني، والقاضي عضد الدين الإيجي، وهؤلاء هم الذين ثبتوا القواعد الكلامية والاستدلال على التوحيد بالعقل. ومؤلفاتهم ما زالت إلى يومنا هذا مرجعًا للمتمسكين بهذه الطريقة، وإن كانت لا تدرس في المدارس إلا قليلاً. وكلها جارية على الأصول التي أصَّلها أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، وآراؤه هي التي يقلدها جمهرة المسلمين اليوم، وهذا كله في الشرق الإسلامي. وأما مغربنا هذا مع الأندلس فلم يتسع فيه علم الكلام إلى هذا الحد وإن كانوا يدرسونه على هذه الطريقة ويقلدونه، ويدينون باتباع رأي الأشعري ولم يؤلفوا فيه كتابًا له بال إلا الإمام محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، فإنه ألف فيه على طريقة المشارقة عدة كتب شاعت وانتشرت في الشرق والغرب، وقررت في أكبر المعاهد الإسلامية كالأزهر.

حتى جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيا بها طريق السلف في دروسه- ومنها هذه الدروس- وأكملتها جمعية العلماء. فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله، فإن الطريقة المثلى للاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلِى الغيبيات لا يكون إلا بالقرآن، لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونَفْي ما انتفى عنه لا يكون إلا بآية قرآنية محكمة، فالمؤمن إذا سولت له نفسه المخالفة في شأن من أمور الآخرة، أو صفات الله فإنها لا تسول له مخالفة القرآن. وقد سلك علماء جمعية العلماء في دروسهم الدينية كلها وخطبهم الجمعية طريقة الإمام ابن باديس فرجع سلطان القرآن على النفوس. فجزى الله أخانا ابن باديس عن الإسلام خير الجزاء، فإن من أحيا القرآن فقد أحيا الدين كله. وجزى الله إخوانه الذين اتبعوا طريقته توفيقًا للعمل يساوي توفيقهم في العلم، وجزى الله تلامذته الذين قاموا بحمل الأمانة من بعده. وهذه دروس من دروسه ينشرها اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة الأستاذ محمد الصالح رمضان، أحد طلابه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقده في ربه بآية من كلام ربه. فنحث القائمين على تعليم ناشئتنا في المدارس الحرة أو الحكومية في الجزائر وغيرها من الأقطار الإسلامية، على اتخاذها أساسًا في تربيتهم على التوحيد الصحيح، بل نحث كل أب مسلم أن يقتنيها لأولاده، ويحثهم على تعلمها وتفهمها، وأن يشترك أهل البيت كلهم في ذلك فكلهم في حاجة إليها. وفقنا إلله جميعًا لاتباع كتابه، وسنة نبيه، والرجوع إليهما، وإلى هدي السلف الصالح في تبيين معانيهما.

بيان 16 أفريل 1964

بيان 16 أفريل 1964 * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر، ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق، والنهوض باللغة العربية- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله- إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قررت أن ألتزم الصمت. غير أني أشعر أمام خطورة الساعة، وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-، أنه يجب علي أن أقطع ذلك الصمت، ان وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل. ولكن المسؤولين- في ما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم، يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية. لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنًا إلّا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم، وقد آن أن يرجع لكلمة الاخوة- التي ابتذلت- معناها الحق، وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعًا "مدينة" تسودها العدالة والحرية، "مدينة" تقوم على تقوى من الله ورضوان. محمد البشير الإبراهيمي

_ * بيان أصدره الشيخ في 16 أفريل 1964، ضد الانحراف العقائدي والسياسي في الجزائر.

§1/1