آثار ابن باديس

ابن باديس، عبد الحميد

الطبعة الأولى عام 1388 هـ - 1968 ميلادية ــــــــــــــــــــــــــ يشتمل المجلد الأول من هذه الطبعة على مدخل للحياة العقلية والثقافية للمغرب الإسلامي، وعلى حياة ابن باديس وآثاره المتعلقة بالتفسير، وشرح الحديث، ويشتمل المجلد الثاني على المقالات الإجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية والسياسية التي دبجها يراع الشيخ الإمام الأستاذ عبد الحميد ابن باديس. وقد كلفت دار اليقظة العربية لجنة من كبار علماء دمشق للقيام بتصحيح آثار ابن باديس أثناء طبعها، وذلك حرصا منها على أن يصدر هذا الكتاب الذي له أهمية بالغة في النهضة الإسلامية العربية الحديثة في المغرب الإسلامي سليما من الأخطاء، خاليا من التحريف.

كتاب آثار ابن باديس المجلد الأول تفسير وشرح أحاديث اعداد وتصنيف الأستاذ عمّار طالبي بالإشتراك مع الناشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما الجزائر

طبع هذا الكتاب بموافقة واشراف الناشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما الجزائر ملتزم الطبع والتوزيع في الأقطار العربية والبلاد الأجنبية دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر

دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر كتاب آثار ابن باديس المجلد الأول تفسير وشرح أحاديث إعداد وتصنيف الأستاذ عمّار طالبي بالإشتراك مع دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر الطبعة الأولى 1388 هجرية - 1968 ميلادية

جميع حقوق الترجمة والطبع والنشر والاقتباس محفوظة للناشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر

ـ[صورة]ـ الْعَلاَّمَة ِالثَّائِر ِالإِمَام ِعَبْدُ الْحَمِيدَ بْنُ بَادِيسَ رَائِدُ النَّهْضَةِ الْحَدِيثَةِ بِالْمَغْرِبِ الْعَرَبِيِّ وَقَائِدُ الْحَرَكَةِ الإِصْلاَحِيَّةِ وَمُؤَسِّسُهَا بِالْجَزَائِرِ ــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة بقلم المفكر الجزائري مالك بن نبي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة بقلم المفكر الجزائري مالك بن نبي ... مدير التعليم العالي بالجزائر ... ــــــــــــــــــــــــــ عرفت مؤلف هذا الكتاب إبان دراسته في جامعة القاهرة، وكنت أعتبره في جملة أصدقائي ومستمعي من بين طلاب البلدان الإسلامية المختلفة الذين يزورون الندوة التي تعقد في منزلي يوم الجمعة من كل أسبوع. فحين أقدم هنا لدراسة عن ابن باديس أشعر بلذة مزدوجة. فما كان أشد إغراء مثل هذا الموضوع في بلد ما يزال من شاهد حياة الشيخ وأثره كثيراً عددهم، ولكن ما أصعبه من موضوع إذ الحقيقة أنه لا يمكن أن يخلو حكم معاصر على أحداث عهده ورجاله، من نظرة ذاتية، إلا نادراً. وأنا نفسي أشعر بشيء من الحرج حين أقدِّم كتاباً يحوي - بالضرورة - أفكاراً وأحداثاً كنت نصيراً لها أو معارضاً. غير أن شخصية الشيخ تجمع في طيَّاتها جوانب بلغت من التنوع والغنى مبلغاً يجعل في قدرة الباحث - دوماً - أن يتطرق إلى دراستها من زاوية تحرر الفكر من الظروف العرضية النسبية.

لقد كان ابن باديس مناظراً مفحماً، ومربياً بناَّءً، ومؤمناً متحمساً، وصوفياً والهاً، ومجتهداً يرجع إلى أصول الإيمان المذهبية، ويفكر في التوفيق بين هذه الأصول توفيقاً عزب عن الأنظار، إبان العصور الأخيرة للتفكير الإسلامي. وهو كذلك وطني مؤمن تصدَّى عام 1936 لزعيم سياسي نشر مقالاً عنوانه: "أنا فرنسا"، فردَّ عليه ردّاً حامياً قوياًّ. وعندما انفجرت حوادث قسنطينة الدامية في شهر آب من سنة 1934 وحاولت الإدارة أن تعيد الهدوء والاستقرار كان نصيراً لها، ولكنه لم يقبل هجوماً على الإسلام قام به يهودي منتهكاً حرمة مسجد. والشعور الوطني المتدفق يغدو لديه فيضاً شعرياً عندما ينظم قصائده التي قُدِّر لها أن تعيد إلى الشعب الجزائري أبعاده الحقيقية في التاريخ الإسلامي، في فترة كان أطفال الجزائر يدرَّسون ويعلَّمون تاريخ "أجدادنا الغاليين". وفوق ذلك فقد كان ابن باديس مصلحاً اقترن اسمه وأثره بتاريخ هذا البلد في مرحلة سياسية كانت تعده "للثورة"، وفي هذه الكلمة من المعاني أكثر مما تعودنا أن نفهم. إنه المصلح الذي استعاد موهبة العالم المسلم كما كانت في عصر ابن تومرت بإفريقيا الشمالية. فقد كان المغرب يعيش على صورةٍ ما حياة فترة العصر الذي وضعت له حداًّ نهائيّاً دعوة مهدي الأطلس المغربي، وسيف عبد المؤمن. نحن نعلم أن عصر المرابطين شهد انزلاق الضمير الإسلامي نحو النزعة الفقهية. فجاء ابن تومرت ارتكاساً لروح الفقهاء الضيقة، ووضعت دعوته الضمير الإسلامي في شريعة القرآن وطريق السنة.

أما ابن باديس فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية (المرابطية أو الطرقية) دورة المرابطين. وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية. ولم يستطع المصلح الجزائري أن يطمح إلى تأسيس إمبراطورية تحرر الضمير. لقد تغير الزمان: فالاستعمار والقابلية للاستعمار غيَّرا كل المعطيات في الجزائر كما فعلا ذلك في سائر العالم الإسلامي. كانت الظروف تقتضي الرجوع في الإصلاح إلى السلف أدراجاً: إذ لم يكن القيام بأي عملٍ في النظام السياسي أو الاجتماعي ممكناً قبل تحرير الضمائر. وكل مذهب الإصلاح الجزائري الذي تجده في ابن باديس كان لا بدَّ أن يصدر عن هذه الضرورة أو عن هذه المقتضيات الخاصة. والمبدأ الأساسي القائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الذي كان أول خطوة في الإصلاح؛ يمكن أن يعتبر- من زاوية مَّا - ترجمة لهذه الضرورة في صيغة مذهبية. ومن هنا نرى التقلبات التي كان يمكن أن يتعرض لها مبدأ كهذا المبدأ لدى وضعه موضع التطبيق، عندما يجد المرء نفسه - أو يظن - أنه مضطر إلى أن يتنازل للسياسة على حساب كمال المذهب ومتانته. ونقد الحركة الإصلاحية الجزائرية كله يمكن أن يوجه نحو هذه النقطة. ولنقل - كي نبقى ضمن موضوعنا -: إننا لم نعمد إلى الحكم على أثر ابن باديس بالمتانة العلمية التي تضع النتائج في أعقاب المقدمات، والمقدمات نفسها في مواجهة قوانين التاريخ، وعلم الاجتماع.

على أي حال فإن هذا الأثر نفسه غني في جميع جوانبه، غنى شخصية صاحبه، ويمكن أن يقف القارئ على هذا التنوع الغنيِّ. وهو يقرأ الدِّراسة التي يعرضها عمار الطالبي. ولقد يكفي في هذه المقدمة أن نركِّز اهتمامنا في جانب من أكثر الجوانب تمييزاً لفكر ابن باديس. أريد أن أتكلم عن الافتتاحية التي كانت ترد في مطلع كل عدد من مجلة "الشهاب" تحت عنوان "مجالس التذكير". كان الشيخ يكتب هذه الافتتاحية دائماً: وإنها لأثر العالم الداعية، المصلح الفذ. ولا يفوتني أن أذكر أنه عندما كان ابن باديس يتغيَّب عن قسنطينة لسبب ما، كانت المجلة تظهر بدون هذه الفاتحة التي تكوِّن حقا أمَّ كل عدد من أعدادها. ولقد دامت هذه الفاتحة من عدد كانون الثاني 1929م إلى عدد أيلول من سنة 1939م على أبواب الحرب العالمية الثانية. ولكي نستطيع الحكم على أهميته المذهبية والتعليمية يجب أن نحلل مجلساً من مجالسه. ويجب علينا ألا ننسى بأن الشيخ علاوة على دوره في توجيه الرأي الجزائري العام - كان كذلك المعلم الذي يدرِّس في معهد تكوَّن فيه كلُّ قادة تعليمنا الحر، وحتى شعراؤنا، مثل محمد العيد آل خليفة. بل إن الشيخ نفسه يقدم هذا التحليل في العناوين الفرعية التي كان ينفحها كل مجلس من مجالسه، فتحت العنوان يقدم الموضوعين الأساسيين: الآية - أو الآيات - والحديث موضوعي المجلس، تليهما بعد ذلك العناوين الفرعية الخاصة بكلا الموضوعين، وهكذا نجد

على سبيل المثال - في عدد حزيران 1935م الآية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1). وهي موضوع التفسير، ويستخلص الشيخ من هذه الآية خمسة عشر عنواناً فرعيّاً كما يلي: 1 - أدب واقتداء. 2 - بيانه لهم، حجته عليهم. 3 - تمثيل. 4 - أدب واقتداء. 5 - نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن. 6 - محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن نور وبيان. 7 - استفادة. 8 - اقتداء. 9 - الهداية ونوعها. 10 - بماذا تكون الهداية. 11 - لمن تكون الهداية. 12 - إلى ماذا تكون الهداية. 13 - الإخراج من حالة الحَيْرة إلى حالة الاطمئنان.

_ (1) الآيتان 15، 16 من سورة المائدة.

14 - الإسلام هو السبيل الجامع العام. 15 - الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم. وإذا طبقنا تحليلنا الخاص على هذا الموضوع رأينا أن الشيخ قد أمدَّنا من خلال تفسير هذه الآية، بصورة ما، بطيف ذاته: فالذي يتكلم إنما هو الذابُّ عن الدين، والناقد الاجتماعي، والعالم المحقق، والمصلح، والصوفي، كلٌّ بدوره. ولا يفوتني أن أذكر أن غنى هذه الذات ليس محصوراً كله في فعل واحد من أفعال هذا الفكر وهذه السيرة اللذين بعثا الحياة في فترةٍ ما من تاريخنا الوطني. وعلى القارئ ألا ينسى أن ابن باديس مثقف يعيش في مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة. فعندما قام بطبع كتاب "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي (468 - 543 هـ) على نفقته كانت هذه الطبعة - رغم ثغراتها (1) - تأكيداً لشخصية تعمل على الصعيد التاريخي لحضارة ما. الجزائر 16 ذو الحجة 1385هـ - 8/ 4 /1966م مالك بن نبي

_ (1) أشار محب الدين الخطيب إلى هذه الثغرات في مقدمته لمبحث الصحابة الذي اقتطعه من هذا الكتاب (من الجزء الثاني [ص:98 - 193]) وطبعه بالمطبعة السلفية بالقاهرة سنة1375هـ ولكنه لم يشر إلى المخطوط الذي اعتمد عليه وهذا ما جعل الكتاب أبتر.

مدخل إلى الحياة العقلية والنهضة الحديثة بالجزائر

مدخل إلى الحياة العقلية والنهضة الحديثة بالجزائر -1 - بوادر النهضة لا يمكن أن تدرك أبعاد النهضة الحديثة في الجزائر قبل معرفة الأصول النفسية والإجتماعية للنهضة الحديثة في المغرب الإسلامي بعامة، وفي المغرب الأوسط "الجزائر" بخاصة. لقد كانت أبرز الحركات الإصلاحية والثورية، وأكثرها حيوية وأعمقها جذوراً، وأشدها اتصالاً بالفكر الإسلامي، وبمباديء الإسلام والسلفية. تتسم الحياة الفكرية في المغرب الإسلامي بالتأثر بالأفكار التي تظهر في المشرق الإسلامي عبر التاريخ وهذا دليل على الوحدة الفكرية، والثقافية، واللغوية التي تأصلت جذورها وبقيت حيةً مدى الدهر، بالرغم من عوادي الزمن، وفجائع التاريخ، ومحاولات الفصل، والمحو، وافتعال الفروق. وما زال الفكر الإسلامي في الجزائر يتطلب الدراسة والتنقيب، ولا شك في أن البحث عنه يكشف عن كنوز يمكن الافتخار بها. وتعتبر محاولة الأمير عبد القادر (1) الفكرية من أهم المحاولات

_ (1) ولد في سنة 1222 - 1300هـ (1807 - 1883م).

الجزائرية الحديثة في ميدان النهضة، وهذا ما حمل جرجي زيدان على أن يجعله في كتابه "بناة النهضة العربية" من القادة والساسة، بل كان أول شخصية تحدث عنها في كتابه هذا (1). والواقع أن الأمير عبد القادر أول من أثار الضمير الشعبي الجزائري، وبذر بذوراً بقيت تنمو في القلوب، وتمتد جذورها في الأرض الطيبة التي يجدر بالعالم الإسلامي أن يفخر بها، ويسميها بحق "أرض الشهداء" وبجانب ما للأمير من ثورة سياسية فإنه أضاف إليها ثورة فكرية، تتمثل في تلك الأبحاث الدينية والتاريخية والفلسفية والكلامية (2) والصوفية (3) التي قام بها، وحاول أن يفسر قول الإمام الغزالي (505هـ - 1111م) (ليس في الامكان أبدع مما كان) يقول: "إن الآثار الكونية دلت على المعاني الإلهية، والحقائق الربانية، والمعاني الإلهية دلت على وجود ذات الإله المعبود، فما في العالم حقيقة كونية كلية أو جزئية تقابلها هي مستندها وعمدتها، والحقيقة الكونية هي معينها ومظهرها، فالنسخة الكونية مقابلة للنسخة الإلهية، ولا يلزم من تقابل النسختين واستناد إحداهما إلى الأخرى المساواة في الحقيقة والنسبة، ومن علم هذا علم صحة قول حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه" (4).

_ (1) جرجي زيدان: "بناة النهضة العربية"، دار الهلال، القاهرة (دون تاريخ) [ص:12 - 22]. (2) "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" ألفه في سنة 1271هـ طبع للمرة الأولى بدمشق (وبدون تاريخ) وجاء في 132 صفحة. (3) كتاب "المواقف" في التصوف نحا فيه منحى ابن عربي يقف عند آيات قرآنية- معينة ويفسرها تفسيراً رمزياً صوفياً فيه نزعة افلاطونية محدثة على غرار المواقف للنفري. أنظر تعليق شكيب أرسلان على حاضر العالم الإسلامي القاهرة 1343هـ، ج1، [ص:73 - 79] (4) حسن صعب، الوعى العقائدي، دار العلم للملايين، بيروت 1959 [ص:102].

وبعد إخفاق الأمير في معاركه ضد المستعمرين وخروجه من الوطن عاد الفكر الجزائري إلى جموده، وتحجر، وتحنطت الأخلاقية الإسلامية، والجهاد، في صورة زوايا وطرق، وأصنام. ورغم بعد الأمير عن الوطن فإنه كان يقوم بنشاط في سبيل الإصلاح والنهضة بدليل انتسابه إلى الجمعية السرية السياسية التي أسسها جمال الدين الأفغاني (1254 - 1314هـ / 1839 - 1897م) والتي تسمى بالعروة الوثقى (1) وهو نفس اسم الجريدة المعبرة عن آرائها. يقول رشيد رضا: (وقد كان من أعضائها الأمير عبد القادر الجزائري ومن اختار من انجاله ورجاله) (2). كما أنه انضم إلى الجمعية الماسونية في الاسكندرية سنة 1864م (3)، وكان جمال الدين الأفغاني نفسه عضواً فيها ثم انسحب منها. ودعا الأمير إلى رفض التقليد واستعمال النظر فقال: (والمتبوعون من الناس على قسمين: قسم عالم مسعد لنفسه، ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد، ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلدوه، وقسم مهلك لنفسه ومهلك لغيره، وهو الذي قلد آباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون وترك النظر بعقله، ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصلح أن يقود العميان، وإذا كان تقليد الرجال مذموماً غير مرضي في الاعتقادات، فتقليد الكتب أولى وأحرى بالذم وإن بهيمة تقاد أفضل من مقلد ينقاد، وأن أقوال العلماء والمتدينين متضادة متخالفة في الأكثر، واختيار

_ (1) صدر العدد الأول منها في 5 جمادى الأولى سنة 1301 - 13 مارس سنة 1884. صدر منها 18 عدداً آخرها صدر في 16 أكتوبر 1884م. (2) تاريخ الأستاذ الإمام مطبعة المنار 1350 - 1931 ج 1 ص 283. (3) جرجى زيدان، بناة النهضة العربية ص 22.

رد الفعل

واحد منها واتباعه بلا دليل باطل، لأنه ترجيح بلا مرجح فيكون معارضاً بمثله) (1). لقد سيطرت الطرق الصوفية على الفكر الإسلامي، والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، سيطرة مذهلة، فبلغ عدد الزوايا في الجزائر 349 زاوية وعدد المريدين أو الإخوان 295000 مريد. والفقهاء الذين عرفوا بمعارضتهم الصوفية أصبحوا بدورهم "طرقيين" فساد الظلام، وخيم الجمود، وكثرت البدع، واستسلم الناس للقدر، وأصبحوا إذا سئل أحدهم عن حاله أجاب: " نَأْكُلْ الْقُوتْ وَنَسْتَنَّى فِي الْمُوتْ " (2) وهذه الظاهرة الإجتماعية أدت إلى تعطيل الفكر وشلِّ جميع الطاقات الإجتماعية الأخرى. رد الفعل: أَدَّى انتشار البدع والاعتقاد بالخرافات، وطغيان الطرقية إلى ارتكاس- رد فعل- من طرف جماعة من الفقهاء المسلمين، والعلماء السنيين السلفيين الذين آلمتهم الحال الراهنة، وأقلق ضميرهم سوء الحياة الإجتماعية، وكثرة الضلال، والانحراف إلى الجاهلية، وهؤلاء كانوا هم الرواد الأوائل لحركة الإصلاح الديني والأخلاقي، والإجتماعي في أرض الشهداء. وهذا الداعي- كما ترى- نبع من صميم المجتمع الجزائري عاملاً مناقضاً للحياة العقلية والإجتماعية المجمدة، وهناك دواعٍ سواه وعوامل أخرى اندفعت من خارج المجتمع وهي النهضة في المشرق وعودة الاتصال الفكري والثقافي بينه وبين الغرب عن طريق الصحافة والكتب والمجلات

_ (1) ذكرى العاقل ص 6 - 7. طبعة قديمة وصفحة 34 - 35 طبعة حديثة. (2) عبارة عامية معناها: نطعم الطعام وننتظر الموت.

والحج الذي تقع فيه مؤتمرات واجتماعات للنظر في أزمة المسلمين (1)، وعن طريق الطلبة الذين يسافرون إلى القرويين والزيتونة ومصر للدراسة ومن أهم العوامل التي أدت إلى وجود حركة أدبية وعلمية إنشاء السيد قدور بن مراد التركي الرودوسي المكتبة الثعالبية سنة 1314هـ - 1896م ثم مطبعته التي طبعت كثيراً من الكتب التاريخية والدينية (2). من العلماء الذين حاربوا البدع، وحاولوا تحريك المجتمع، وبذروا الحركة الإصلاحية: الشيخ صالح بن مهنا (3) فإن مناجاته للضمير كادت توقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة 1898م فعملت الحكومة الفرنسية على إبعاده، وصادرت مكتبته التي لا تقدر بثمن (4) وله مؤلفات كثيرة. والأستاذ الشيخ عبد القادر المجاوي (5) الذي ألف كثيراً من

_ (1) وهو ما كان يخشاه الاستعمار الفرنسي فيراقب الحجاج المسلمين مراقبة شديدة. (2) سعد الدين بن أبي شنب، النهضة العربية في الجزائر في النصف الأول من القرن الرابع عشر للهجرة، مجلة كلية الآداب العدد الأول 1964م ص 41 وما بعدها. (3) توفي في ربيع الأول 1325هـ وقبره معروف بمقبرة قسنطينة. (4) مالك بن نبي، شروط النهضة ومشكلات الحضارة، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر مسقاوي مطبعة دار الجهاد القاهرة: 1957 ص 22. (5) ولد سنة 1266هـ أو 1267هـ (1848) م بتلمسان من أب يدعى محمد بن عبد الكريم وهو من الفقهاء والقضاة قرأ المجاوي في كتاب بتلمسان فحفظ القرآن وأتمه بعد ما ارتحل أبوه إلى طنجة وتطاوين ثم فاس وأكمل دراسته بالقرويين أنظر الحفناوي، تعريف الخلف برجال السلف ج 2 ص 449 والتقويم الجزائري لعمر بن دالي لسنة 1329هـ (1911م) ص 105 - 107 وبحث الأستاذ سعد الدين بن شنب المذكور آنفا ص 51، ونهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة للاستاذ محمد علي دبوز دمشق 1965 ج 1 ص 82 - 105 وشروط النهضة للاستاذ مالك بن نبي ص 23

صورة الشيخ عبد القادر المجاوي هي التي يشير إليها السهم. ــــــــــــــــــــــــــ الكتب المدرسية والتربوية مما يدل على أنه ذو اهتمام بالغ بالتربية وعلى أن الإصلاح في نظره إنما يتم عن طريقها. ألف: "إرشاد المتعلمين" (1) و "المرصاد في مسائل الاقتصاد" (2) وشرح منظومة في إنكار الفساد الاجتماعي (3) وقدم لشرحه بمقدمة ذات أهمية في بيان ضرر البدع، وضرورة النهضة العلمية وقرر أن السبب الرئيسي في النهضة إنما هو العلم وتشتمل المقدمة على مبحث في الحكمة والعلم،

_ (1) طبع مصر. (2) طبع بمطبعة فونتانة الشرقية بالجزائر. (3) منظومة في إنكار البدع ألفها الشيخ المولود بن الموهوب وشرحها المجاوي بشرح أسماه "اللمع على نظم البدع" مطلعها: صعود الاسفلين به دهينا ... لانا للمعارف ما هدينا طبع بالجزائر سنة 1330هـ (1912م) به 198 ص قرظها محمود كحول وأحمد بن الشيخ باش عدل محكمة سيدي عقبة.

ومبحث في التربية يقول فيه "وما كثر الفساد في أمة إلا بعدم تربية الأولاد فإننا نرى الأولاد مهملين يتعلمون الفساد ... وإننا نرى الأمم الحية إنما حصل لها الرقي بتربية أولادهم وتعليمهم العلوم النافعة، والمعرفة المفيدة، فيجب التبصر لمثل هذا، وفي الغالب أن إهمال الأولاد من الأمهات الجاهلات أو المتعلمات تعلماً ناقصاً" (1) وتحدث الشيخ عن تعليم المرأة وضرورته (2) لأنه أساس التربية، ووضع أصلاً في هذا الشأن يعتبر من الأصول العلمية في مناهج التربية والتعليم وهو مبدأ دراسة الأخلاق وعلم النفس: (لا بد من دراسة علم الأخلاق وعلم النفس) (3) وتعرض لنقد طرق التعليم في ذلك العهد فقال: (التعليم القديم غير نافع في زماننا لنقصانه إذ تعليم القرآن وحده على الكيفية المألوفة عندنا بهذه الأقطار لا يفيد المتعلم ولا أباه، فلا بد من معرفة العلوم النافعة في الدين والدنيا، أما إذا اقتصرنا على أحد العلمين ضاع ما يفتقر لذلك العلم المجهول، ولكن أهل زماننا تركوا العلمين معاً ولا حول ولا قوة إلا بالله نعم إنه يوجد بعض العلماء ولكن صاروا لقلتهم كالعدم) (4). ولنترك للقارىء أن يستنتج الحياة الثقافية في ذلك العهد من هذا النص. ولم يغفل المصلح عن جانب مهم من الحياة الإجتماعية وهو خطبة الجمعة فدعا لإصلاحها (5) وأشار إلى الحضارة الإسلامية وتاريخها واستشهد بأقوال الأجانب (6) مما يدل على اطلاعه على دراساتهم.

_ (1) اللمع في نظم البدع ص 27. (2) اللمع في نظم البدع ص 28 - 29. (3) ص 30. (4) ص 30. (5) ص 173. (6) ص 171.

ومن أهم رسائله رسالة في علم الكلام (القواعد الكلامية) (1) فيها مقدمة وعشرة فصول وخاتمة جعلها على حد قوله: نموذجاً كفيلاً (باستفادة القارىء السبيل الذي تتلقى به أصول الدين على الوجه الملائم لروح الوقت، والمساعد لملكات تلامذة هذا الزمن) (2) وهو يرجو بعمله هذا أن ينخرط في "صف السلف" وهذا يبين لنا نزعته السلفية الصافية، وإدراكه روح عصره، ومحاولته تغيير مناهج التأليف تبعاً لمقتضيات نفسية الطلاب من جهة، ولمقتضيات التطور من جهة أخرى، ومن أهم آرائه في نشأة علم الكلام أنه علم قرآني، لأن القرآن ذكر العقائد الأساسية مع أدلتها كالأدلة على وجود الصانع، من خلق السموات والأرض والنفوس وغيرها كما أشار القرآن إلى مذاهب المبطلين، والطبائعيين وإلى الأجوبة عن شبه المبطلين وأول من ألف فيه الإمام مالك ثم توسع فيه أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي (3) ويرى أن العقل والدين متفقان (4) وفي كلامه عن تاريخ علم الكلام (5) ما يشير إلى أنه تأثر بابن خلدون في مقدمته وتعرض لنظرية المعرفة (6) ويرى بطلان القول بالحلول والاتحاد (7) اللذين يقول بهما بعض المتصوفين ومما يبين أن له اطلاعاً على كتب الفلاسفة والمتصوفة أنه يستشهد بأقوالهم، استشهد بقول الفارابي في "فصوص

_ (1) طبعة فونتانة- الجزائر سنة 1329هـ (1911) بها 157 ص، قرظها الشيخ محمود كحول. (2) القواعد الكلامية ص 3. (3) ص 7. (4) ص 28 - 29. (5) ص 13 - 19. (6) ص 19 - 28،22. (7) ص 33.

الحكم": "الذات الأحدية لا سبيل إلى إدراكها" (1) كما أنه استشهد بابن تيمية (3) وهذا له أهمية من حيث النزعة السلفية التي يمثلها محمد بن عبد الوهاب النجدي أول الثائرين المصلحين في العصر الحديث كما يذكر محيي الدين بن العربي (3) ويسميه إمام الصوفية. وقد بين لنا آراء الفلاسفة المختلفة في نظرية المعرفة (4) وتحدث عن مناهج المتكلمين والفلاسفة (5) وعن الحرية أو خلق الأفعال (6) وعن الكسب (7) وما إلى ذلك من المشكلات الميتافيزيقية والكلامية. وإلى جانب أفكاره النظرية قام عملياً بتطبيق ما يراه من مناهج الإصلاح وطرق التربية فابتدأ التدريس بقسنطينة منذ أن حَلَّ بها سنة 1286هـ (1869م) (8) مدرساً حراً ثم عين مدرساً بجامع سيدي الكتاني بقسنطينة سنة 1290هـ (1873م) (9) وبعد ذلك تولى التدريس بالمدرسة الكتانية سنة 1295هـ (1877م) ثم نقلته الحكومة

_ (1) ص 34. (2) ص 34. (3) ص 37. (4) ص 78. (5) ص 83. (6) ص 86. (7) ص 90. (8) أنظر اللمع على نظر البدع ص 4 ويوجد بهذا الكتاب ترجمته وصورته ص 2، 3. (9) ويروى أن ذلك كان في سنة 1287هـ (1870م) أنظر تعريف الخلف ج 2، ص 449 ونهضة الجزائر ج 1 ص 96 ويقول ابن شنب أنه رجع من فاس في سنة 1292هـ (1876م) ولا ندري من أين أخذ هذا أنظر بحثه ص 51.

الفرنسية إلى عاصمة الجزائر في سنة 1898م فدرس في المدرسة الثعالبية (1) التي تم بناؤها سنة 1903 وابتدأت فيها الدراسة سنة 1905 وقد أعجب الناس بطريقته في التدريس وأشربوا حبه لصدق لهجته، وصفاء سريرته، ولوقع تعاليمه في القلوب التي يخاطبها ويربيها واستطاع بذلك أن ينفذ إلى أرواح الطلبة وأن يؤثر فيهم. توفي بمدينة قسنطينة (2) في شهر ذي القعدة سنة 1332هـ (1913م) ولقد ترك الشيخ عبد القادر المجاوي من يواصل الرسالة الإصلاحية من بعده ممن أخذ عنه وتتلمذ عليه أمثال الشيخ حمدان لونيسي نزيل المدينة المنورة ودفينها وهو أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس المصلح الكبير، والشيخ أحمد لحبيباتي، والشيخ المولود بن الموهوب مفتي قسنطينة المالكي. ومن غريب المصادفات أنه في السنة نفسها التي توفي فيها عبد القادر المجاوي ابتدأ عبد الحميد بن باديس حركته التعليمية بمدينة قسنطينة، فاتصلت حلقات الإصلاح متطورةً إلى مرحلة القوة والنضج. كان عبد القادر المجاوي مصلحاً تقليدياً سلفياً، لم يأت بجديد سوى مقاومة البدع، وإشعار المجتمع بساعة الخطر، وقد لاقى في

_ (1) التقويم الجزائري السنة الأولى (1911م) ص 4 ونهضة الجزائر ج 1 ص 96 وابن شنب كتب أن ذلك كان بتاريخ 1295هـ (1879م) وفي تعريف الخلف أنه كان في سنة 1292هـ (1876م) (2) كتب سعد الدين بن أبي شنب أنه توفي في سنة 1350هـ (1931م) والواقع أن هذا التاريخ هو تاريخ وفاة ابنه مصطفى كما هو مكتوب على قبره بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي وهو كما يلي:- هذا قبر المرحوم المجاوي مصطفى بن المرحوم العلامة سيدي عبد القادر ابن عبد الله المتوفى يوم السبت 11 جمادى 2 - 1350هـ- 24 أكتوبر (1931م) ودفنت هناك أيضاً ابنة مصطفى المجاوي زليخة المتوفاة في 3 أفريل سنة 1951م وعمرها سبعون عاما أنظر بحث ابن شنب ص 51.

سبيل ذلك إهانات من بعض الناس كما لقي مقاومات وصعاباًمن السلطة الاستعمارية التي طفقت تنقله من مكان إلى آخر، حتى قيل أنه مات مسموما (1). وإلى القارىء الكريم صورة من خطه يرد فيها على من أهانه وهو في غاية الغيظ والألم (2). ويكفي أنه بث روح الإصلاح، وبذر بذرة النقد الاجتماعي. ومما اشتهر به: الدقة العلمية في الإسناد، والشغف بالعربية وبأصولها، وقوانينها النحوية، يدل هذا على ما قاله فيه الأستاذ المجاهد سليمان الباروني باشا (1359هـ - 1940م) حين التقيا في قسنطينة: سيبويه العصر من هذبه ... أدب العلم فأروى من وَرَدْ ذاك عبد القادر الطود الذي ... لا يقول القول إلا بسند (3) وتدلنا الوثيقة التي عثرنا عليها أنه كان يبغض إليهود، ويقاوم العنصر الصهيوني وقد شعر بخطره على المسلمين. ومن الدوافع التي أدت إلى الإصلاح كذلك وساعدت عليه- إلى جانب المجلات والجرائد والكتب التي كانت تصل إلى الجزائر- زيارة الأستاذ محمد عبده (1905) إلى تونس والجزائر سنة 1321هـ (1903) في الصيف وقد مهد لتأثير هذه الزيارة، مجلة المنار، ومن

_ (1) في رواية الشيخ المرحوم إبراهيم أطفيش وهو من تلامذته كما أنه صديق الشيخ محمد أطفيش. أنظر نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة للشيخ محمد علي دبوز ج 1 ص 105. (2) عثرت على ذلك في ورقة من أوائل رسالة الأمير عبد القادر "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" في مخطوط استعرته من الفاضل الشيخ علي بن طبال الإمام بمسجد بو رواقية. (3) المصدر السابق ص 95.

قبلها العروة الوثقى، فكان الطلبة والشيوخ يطالعون هذه الصحف ويتداولونها. ففي الجنوب الجزائري عرف الشيخ إبراهيم مكي بقيمة كتب ابن تيمية، وكانت أعداد العروة الوثقى تصل الشيخ علي بن ... صورة من خط الشيخ عبد القادر المجاوي ...

ناجي الزاهري، والسيد علي بن العابد السنوسي الزاهري يتداولها الطلبة- في عهد صدورها بباريس من منطقة بسكرة على الزاب الغربي (طولقة) إلى الزاب الشرقي (الخنقة واليانة). والشيخ المولود الزريبي (1). العالم الأزهري كان من رواد الإصلاح في منطقة أوراس وقد التجأ إلى حيلة طريفة، حين دوَّن آراءه الإصلاحية في شرحه على عقائد "المرشد المعين" المشهور عند العامة والخاصة ولما له من تأثير ودراسة الناس له لتتسرب أفكاره إليهم عن طريقه وكان له زميل أزهري جزائري هو الشيخ عسول العبيدي يعارضه في فكرته الإصلاحية مما أدى إلى وقوع مناظرات بينهما أمام الشيخ علي بن فاجي وجماعة من طلبة "اليانة" وكان موضوعها "محدثات الأمور في الدين" ولما جاء الشيخ الطيب العقبي إلى الجزائر وقعت بينه وبين المولود الزريبي خصومات وشرح وجهة نظره في الجريدة التي كان يحررها "جريدة الصديق" بينما لم يجد العقبي مجالاً ينازل فيه خصمه (2). إن زيارة الأستاذ الإمام محمد عبده أكدت الاتصال الفكري السابق لها وزادته رسوخاً وسيأتي الكلام عليها بالتفصيل.

_ (1) هو المولود بن محمد بن عمر الزريبي نسبة إلى زريبة الوادي وهي قرية تبعد عن بسكرة 82 ميلا. بعد حفظه القرآن ودراسته على الشيخ حامد العبيدي سافر إلى مصر ودرس على الشيخ محمد بخيت ثم رجع إلى الجزائر وعلم في مسقط رأسه. ثم انتقل إلى أوراس ثم إلى العاصمة حيث تولى تحرير جريدة "الصديق" التي يديرها محمد بن بكير الميزابي، تولى التدريس في الجامع الأعظم بالعاصمة ثم التحق ببو فاريك حيث توفي سنة 1925 وله من المؤلفات: كتاب الأخلاق لم يتمه، وشرح على المرشد المعين، وشرح على قدسية الأخضري، وشرح على كتاب البيوع من مختصر خليل. أنظر شعراء الجزائر في العصر الحاضر لمؤلفه الهادي السنوسي الزاهري مطبعة النهضة تونس 1346هـ 1927م ج 2 ص 99 - 104. (2) حدثني بهذا الأستاذ الهادي السنوسي.

ولا يمكن بهذا الصدد ان ننسى الحركة الصوفية الإصلاحية الثورية وهي حركة محمد بن علي السنوسي (1843) التي اعتقد صاحبها أن الدعوة الأخلاقية والتجديد الروحي هما الأساس للتحرر من السلطة الأجنبية (1) فلقد تركت أثراً بعيد المدى في المغرب الإسلامي، وهي حركة متصلة بالثورة الوهابية (3) وبتعاليمها رغم أن مؤسسها صوفي، ولكنه ليس كالصوفية الآخرين الذين وجدوا في عصره. ومن الشيوخ الذين كوَّنوا هذه المدرسة الرائدة في الإصلاح الأستاذ عبد الحليم بن سماية (3) حفظ القرآن ومختلف المتون معتمداً على نفسه وبمساعدة والده وتتلمذ على شيوخ كبار أمثال الشيخ بن عيسى الجزائري، والمكي بن عزوز وأبي القاسم الحفناوي والسعيد بن زكري، وعلم في المدرسة الكائنة بشارع السفراء، بباب الوادي في سنة 1896م مع الشيخ عبد القادر المجاوي وهي مدرسة خاصة بتعليم اللغة العربية (4). كما أنه علَّم جيلاً من الطلاب في المدرسة الثعالبية حفظوا العربية

_ (1) لثروب ستودارد حاضر العالم الإسلامي ج 2 ص 105. (2) أخذ محمد بن علي السنوسي عن الشيوخ الوهابيين حينما حج بيت الله الحرام وهناك في مكة وضع خطة الإصلاح. المرجع السابق 105 (3) هو عبد الحليم بن علي بن سماية ولد بالجزائر سنة 1242هـ (1866م) هاجر أبوه مع جده لأمه الشيخ الكبابطي إلى مصر في عهد محمد علي وهناك تكون وأصبح ذا ثقافة واسعة ثم عاد إلى الجزائر مدرساً في الجامع الجديد بالعاصمة. أنظر نهضة الجزائر الحديثة ج 1 ص 118 حفظ عبد الحليم القرآن على الشيخ حسين أبي شاشية وأخذ العربية والفقه والتوحيد عن والده، والمنطق والبلاغة عن الشيخ طاهر تيطوس، والحساب والفرائض عن صهره علي بن حمودة، أنطر مجلة التلميذ العدد 3 - 4 سنة 1351هـ (1933م) ص 10 - 13 (4) المصدر السابق ص 108 وبحث ابن أبي شنب (سعد الدين) المشار إليه سابقا ص 46 ومجلة التلميذ العدد 3 سنة 1933م.

- صورة - الشيخ عبد الحليم بن سماية المتوفى سنة 1351هـ ــــــــــــــــــــــــــ في العاصمة الجزائرية فترة من الزمن وتمسكوا بعقائد الإسلام، وكان متصلاً بالحركة السلفية الإصلاحية في العالم الإسلامي، مراقباً الأحداث في الصحف العربية والفرنسية، كان يعتمد الكتب الأصيلة في الدين والعربية في تدريسه، يقريء رسالة التوحيد لمحمد عبده، وهو أول من درس كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز (1) لعبد القاهر الجرجاني،

_ (1) طبع الأول سنة 1320هـ والثاني في 1321هـ وحققه الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد محمود التركزي "الشنقيطي".

وهذان الكتابان اهتم بهما محمد عبده، لأنهما يمثلان الدراسات الأدبية النقدية التي من شأنها تربية الملكات، وتكوين الأذواق لطلاب الفصحى، في الأزهر وغيره. ولا شك أن الشيخ عبد الحليم الذي درس الموسيقى، وتعلم الضرب على العود، ووعت ذاكرته حظاً وافراً من التوشيحات الجزائرية، لا يفوته أن يختار لطلابه كتب الأدب الرفيع، وأصول النقد العربي وأن يبعد عنهم البلاغة المنطقية الباردة، التي يمثلها السكاكي ..... - صورة - يرى الشيخ عبد الحليم بن سماية مع الشيخ محمد عبده حين زيارته للجزائر وما ذكره أحمد أمين في كتابه "زعماء الإصلاح" من أن هذه الصورة مأخوذة من تونس غير صحيح .....

وأضرابه، ممن أفسدوا البلاغة العربية والأساليب الأدبية فذهب ماؤها، وفقدت جمالها وروعتها. كان يدرِّس في القسم الرابع من المدرسة الثعالبية ألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل أو شرح الأشموني، والعقد الفريد أو نهج البلاغة وديوان الحماسة، وفي القسم الخامس المفصل للزمخشري، وشيئاً من السلّم في المنطق، وأحيانا يدرس التلخيص وقد يستعيض عنه بدلائل الإعجاز أو أسرار البلاغة، كما يستعيض عن "السلّم" بكتاب التهذيب أو البصائر النصيرية، وهما كتابان درَّسهما محمد عبده في الأزهر وعلّق على الثاني منهما ولما أسند إليه تدريس التفسير والتوحيد، كان يدرس كتاب "الإقتصاد في الاعتقاد" للإمام الغزالي و "رسالة التوحيد" لمحمد عبده وكان طلاب الفلسفة أو طلاب المدرسة الثعالبية الذين يحضرون دروسا في الفلسفة بكلية الآداب في جامعة الجزائر، يعرضون عليه بعض الشُبَه بوحي من بعض مدرِّسي الفلسفة، فكان يرد عليها ويدحضها، وهذا ما أدى به إلى تأليف رسالة مهمة في التوحيد والردّ على شبه المبطلين والملحدين (1) - وتوفي الشيخ عبد الحليم في 7 رمضان (1351هـ 4 جانفي 1933م) (2) وكان قد مرض مرضاً عقلياً لشدة

_ (1) كتب أحد تلاميذه من غير أن يذكر اسمه في مجلة التلميذ العدد 3، 4 السنة الثانية من شهر رمضان- شوال 1351هـ جانفي- فيفري 1933 ص 10 - 13 مقالا أخذت منه هذه المعلومات والجدير بالذكر أنه ذكر في المقال أن للشيخ ابن سماية رسائل جليلة كما وعد بنشر رسالة التوحيد وهذه المجلة مجلة شهرية انتقادية أخلاقية لسان حال الطلبة المسلمين بالجزائر. إدارتها كانت بنادي الترقي كما كتب أحد تلامذته أبو العباس التجاني مقالاً في هذا العدد بعث به من المغرب يرثي به شيخه الراحل. (2) كتب على قبره الموجود بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي العبارة التالية: (ضريح المرحوم العلامة سيدي عبد الحليم بن سيدي >>>

ويلات الاستعمار واضطهاده إياه، كما كانت له نوادر يتناقلها الناس إلى اليوم. والواقع أنه ألف بعض الكتب منها كتاب "فلسفة الإسلام" وقد قرأ الفصل الأول منه في مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع عشر الذي انعقد في الجزائر 1905 وحضره عبد العزيز جاويش ومحمد بن أبي شنب والمستشرق الألماني كارل فولرس (1) وله عدة مقالات كتبها في الصحافة العربية الجزائرية خصوصاً جريدة كوكب إفريقيا للشيخ محمود كحول (1936). ولما زار ملك المغرب عبد العزيز الجزائر سنة 1319هـ استدعى الشيخ عبد الحليم بن سماية للغذاء مع الوفد وهو حين ذلك مدرس بالجامع الجديد، وأستاذ بالمدرسة الثعالبية فاعتذر وكتب أبياتاً من الشعر بعث بها للسلطان منها: أمولاي شمس الفضل والعلم والنهى ... واجدر من يجري اللبيب ثناءه سلام عليكم عاطر متضرع ... كمسك ذكا بل لايكون بواءه وأفضل تكريم وأزكى تحية ... يقيمان للقدر العظيم وفاءه ويرأب كل منهما نأي عبدكم ... بغيبته عما إليه دعاءه علمت بأن المشي عن جفني واجب ... إليكم ولكن لي اعتذار وراءه (2) وأغلب الظن أنه لم يرد أن ينضم للسلطة الفرنسية التي كانت تمثل الجزائر وأن يحضر معهم في موقف رسمي.

_ <<< علي بن اسماعيل المتوفي في 7 رمضان 1351هـ الموافق 4 جانفي سنة 1933 م) وقد أرَّخ الأستاذ محمد علي دبوز وفاته سنة 1931 أنظر نهضة الجزائرج 1 ص 126. (1) أنظر ابن شنب ص 44 - 45. (2) وهي 24 بيتا مثبتة في رسالة "عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر" التي طبعت سنة 1319هـ (1902م) بمطبعة فونتان الجزائر وبها 16 ص.

كما نظَّم قصيدة بمناسبة زيارة محمد عبده للجزائر (1321هـ) 1903م منها: وتلوي إلى تلك المجالس (1) فكرتي ... فتترك قلبي بالخيال ممتعا محافل كان العلم فيها مجالسي ... أسامر بدراً بالجلال تقنعا فأسمع فصلا من حكيم وحكمة ... إذا ما بدت خرت ذرى الزور ركَّعا ... لسان متى يوماً تألق برقه ... يسبِّح رعد السامعين لما دعا ... أتى بكتاب في الكلام (2) بيانه ... يغادر من صم الجنادل خشَّعا براهينه في النفس والكون والحجى ... وليست لرسطاليس أو من تصنَّعا يقودك للبرهان غير مقيد ... يريك حدود العقل مهما تطلعا (3) ومجلة المنار (4) تعتبر عند ابن سماية ومحمد بن مصطفى بن الخوجة

_ (1) مجالس محمد عبده أثناء إقامته في الجزائر. (2) يقصد رسالة التوحيد لمحمد عبده وهى رسالة أُعجب بها الشيخ عبد الحليم فكان يدرسها في المدرسة الثعالبية وهو هنا يبين مزايا هذه الرسالة التي يأخذ المؤلف براهينها من النفس والكون والعقل غير مقيد بآراء اليونان (ارسطو) بل كان حراً في عقله وبرهنته. (3) نهضة الجزائر المباركة ج 1 ص 125 نقلا عن المنار مج 6 ص 917. (4) صدر العدد الأول من المنار كصحيفة أسبوعية ذات ثماني صفحات في 22 شوال سنة 1315هـ/17 مارس 1898 وآخر ما طبع منها ج 2 من م 35 في 29 ربيع الثانى 1354هـ/1935 وغرضها نشر الإصلاحات الإجتماعية والدينية والاقتصادية وإقامة الحجة على أن الإسلام باعتباره نظاماً دينياً لا يتنافى مع العصر الحالي ويعتبر المنار خلفاً للعروة الوثقى أنظر كتاب عدد 33 من سلسلة أعلام العرب ص 135 وهو كتاب للدكتور إبراهيم أحمد العدوي طبع سنة 1964م بالقاهرة.

" مَدَد الحياة " وكان بينه وبين الشيخ محمد عبده مراسلات يقول رشيد رضا (1): (ومن خيار العلماء الشيخ محمد بن الخوجة صاحب المصنفات والشيخ عبد الحليم بن سماية وقد عهد هؤلاء الفضلاء إلى الشيخ محمد عبده أن يوصي صاحب المنار بأن لا يذكر في مجلته دولة فرنسا بما يسوؤها لئلا تمنع المنار من الجزائر وقالوا له: ((إننا نعده مَدَد الحياة لنا فإذا انقطع انقطعت الحياة عنا)) (2). وأما محمد بن مصطفى بن الخوجة (3) فهو أكثر الأساتذة حرصاً على مطالعة كل ما يرد من المشرق من الكتب والجرائد والمجلات (4) وخاصة كتب محمد عبده ورسائله أخذ عليه محمد عبده لبَّه واستولى مذهبه في الإصلاح على نفسه، يطالع العروة الوثقى والمنار وغيرهما، كما يقرأ للشيخ رشيد رضا مقالاته في المجالس ويشرحها. ولما وصله تفسير سورة (والعصر) درسه عشر مرات وشرحه لمن يتتبعون حركات الإصلاح في الجزائر من العلماء والطلبة والأعيان فاستحسنها هؤلاء وأثنوا عليها وكتب بهذا إلى الشيخ محمد عبده يخبره به (5)، ولما عزل

_ (1) ولد رشيد رضا في قرية القلمون بطرابلس الشام 27 جمادى الأولى سنة 1282هـ/1865م وتوفي في 22 أغسطس سنة 1935م. (2) تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 871. (3) ولد بعاصمة الجزائر في سنة 1281هـ 1865م وتوفي في 7 شوال 1333هـ سبتمبر 1917 كتب في جريدة "المبشر" من سنة 1304 إلى 1319هـ (1886 إلى 1901) درس في مسجد سفير ابتداء من سنة 1312هـ 1895م كما اشتغل وكيلاً لمقام سيدي عبد الرحمن الثعالبى سنة 1332هـ (1919) أنظر بحث سعد الدين بن أبي شنب المذكور سابقاً ص 52 وكتاب صفحات في تاريخ مدينة الجزائر تأليف نور الدين عبد القادر قسنطينة 1965 ص 174. (4) المصدر السابق. (5) المنار مج 6 ص 917.

من عمله لصلته بمحمد عبده وبمحمد فريد أخذ يلقي الدروس في جامع حي بلكور، قال المرحوم عمر راسم: "الشيخ محمد بن مصطفى شاعر الجزائر في وقته وأفصح علمائها وأعلمهم بتراجم علماء الجزائر كثير الاطلاع وَلُوعٌ بالكتب العصرية شَغُوفٌ بمحبة الشيخ عبده وهو الذي أدخل مذهبه إلى الجزائر وعرف الناس به وبجمال الدين الأفغاني وأصحابهما يعرف الشرق كأنه عاشره مائة سنة، حُلْوُ الكلام، كان إذا خطب يستدل بالآيات والأحاديث كأن القرآن وكتب الآثار مرآة أمام عينيه" (1) إنه شاعر وكاتب وصاحب تجديد ولقد خسر الأدب الجزائري أثراً فنياً رائعاً من آثاره، وهو ديوانه الذي فقد مع مقدمة له، كما أن له رسالة في تراجم علماء جزائريين (2). اهتم بالحياة الإجتماعية والأخلاقية وبوضع المرأة المسلمة الجزائرية فكتب كتاب "الإكتراث في حقوق الإناث" (3) وكتاب "اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب" (4) وكتاب "إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني في الإسلام" (5)، كما حقق ونشر تفسير عبد الرحمن الثعالبي من أهل القرن التاسع المسمى بالجواهر الحسان مقابلاً له على سبع نسخ (6) وله رسائل أخرى مفيدة في مختلف الموضوعات الإجتماعية والصحية. وأهم ما يسترعي الإنتباه أنه عمل على نشر

_ (1) محمد علي دبوز المصدر السابق ص 132 نقلاً عن مخطوط، في تراجم علماء الجزائر للشيخ عمر راسم موجود عند الشيخ النعيمى بقسنطينة. (2) المصدر السابق ص 132. (3) طبعة سنة 1313هـ/1895 (4) طبع سنة 1325هـ/1907 في الجزائر بمطبعة فونتانا. (5) طبع سنة 1319هـ/1902 بمطبعة فونتانا بالجزائر (6) أنظر ابن ابي شنب في بحثه المذكور ص 42.

مخطوط نادر يدعو فيه صاحبه إلى الاجتهاد وهو كتاب: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" للشيخ السيوطي. وهذا ينم عن نزعته الاجتهادية ومعارضته التقليد الأعمى. ومما يؤكد هذا الاتجاه لديه أنه كتب لكتاب "مجموع مشتمل على قوانين مفيدة وتنظيمات سديدة " (1) مقدمة في الشريعة وملاءمتها لكل زمان ومكان ومن جملة الآراء التي يؤيدها ما أورده من قوله: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأيام" (2) ويدعو في هذه المقدمة المهمة إلى الاستفادة من تجارب الآخرين ولو لم يكونوا مسلمين (3). ويضرب لذلك أمثلة تاريخية مستمدة من تفاعل الحضارات فذكر الغزالي الذي أخذ المنطق اليوناني وأدخله في تيار الفكر الإسلامي (4) ونصح في هذه المقدمة بالرجوع إلى كتاب "أقوم المسالك" لخير الدين التونسي المتوفى في سنة 1307هـ وكتاب "السياسة الشرعية" لجمال الدين قاضي مصر، وكتاب "نهاية الايجاز" للشيخ رفاعة، وكتاب "علم الدين" للشيخ علي باشا مبارك. ولما اطلع ملك المغرب عبد العزيز حين جاء على رأس الوفد المرافق له- في زيارةٍ للجزائر (5) - على كتب محمد بن مصطفى بن الخوجة

_ (1) كتبه لجلالة عبد العزيز ملك المغرب مترجماً له عن التراتيب الإدارية والعسكرية الفرنسية بطلب منه. (2) ص 8 ينسب هذا القول لغيره. وقد وردت هذه الجملة في مقدمة مجلة الأحكام العدلية كأصل من الأصول العامة وقاعدة من القواعد الكلية. (3) ص 9. (4) ص 10. (5) كانت زيارة عبد العزيز العلوي الحسني سلطان مراكش يوم الثلاثاء22 شعبان 1319هـ في باخرة حربية فرنسية قدمت من طنجة >>>

أهدى إليه ساعة ذهبية فكتب رسالة: "عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر" (1). وحين قضى الإمام محمد عبده رثاه ابن الخوجة بقصيدة رائعة تعتبر نموذجاً جيداً لشعره جاء فيها: مصاب جسيم عمَّ كلَّ العشائر ... وأسلمنا قهراً لحكم المقادر رمينا بخطب لا يقاس بغيره ... فجئنا برزء ما له من مناظر وأكبادنا ذابت أسى وكآبة ... وأعيننا مثل العيون الهوامر على موت مفتي المسلمين وفخرهم ... ومن كان للإسلام نور البصائر بكت مصر والدنيا جميعاً لفقده ... وأبناؤها من كل بادٍ وحاضر وأبدى جميع الناس حزناً وحسرة ... وأجروا دموعاً كالغيوث المواطر ... مميزات تآليفه: تآليفه تنسيك ما حيك قبلها ... وتغنيك عن جلِّ الطروس الكبائر أفادت من التحقيق كل يتيمة ... تقاصر عنها كابر إثر كابر وحلت بتدقيق عويصاً ومشكلاً ... بحيث غدا كالبدر يبدو لناظر عليك بها إن رمت تجني هدايةً ... وتصبح أستاذ العلوم الغزائر

_ <<< إلى مرسى الجزائر يتكون هذا الوفد من القباصي وابنه محمد والشيخ محمد بن عبد الواحد والسيد محمد الهواري والزبير اسكرج وأحمد الجبلي وعبد القادر بن غبريط مترجم السفارة الفرنسية بالمغرب وبهذه المناسبة خطب الشيخ عبد القادر المجاوي مساء الثلاثاء29 شعبان سنة 1319هـ وأقرأ أحد التلاميذ الجزائريين درساً في القرآن وهو عبد العزيز الزناقي وحضر الوفد ختم محمد السعيد الزواوي لصغرى السنوسي بجامع سيدي رمضان. (1) بتاريخ 18 رمضان 1319هـ ونشرها في 17 شوال سنة 1319هـ قرظها عبد القادر المجاوي وحمو بن احمد الدراجي قاضي الحنفية بالجزائر.

كتابته: وانشاؤه قد زاد حسنا وبهجة ... على الدر بل زهر الدراري السوافر إذا خط أعيا الكاتبين وكم أتى ... بسحر بيان في معان زواهر "فعروته الوثقى" تريك بلاغة ... يدين لها قس وعبد لقاهر آهاته عليه: فواها على شمس المعارف والتقى ... وواها على التذكير فوق المنابر وواها على التدريس في كل مذهب ... وواها على الأقلام بعد المحابر وواها على التوحيد والفقه واللغى ... وواها على التفسير أصل العناصر وواها وواها ألف ألفٍ ولن أفي ... ولو أنني نمَّقت كل الدفاتر وأنى لنا الصبر الجميل وقد هوى ... منار الهدى واندك طود المفاخر ورضى الأماني والمكارم قد زوى ... وقد كان للعافين إحدى الذخائر وغيض عباب العلم والجود في الثرى ... كذا فليكن غيض البحور الزواخر أعماله: فمن لكتاب الله يكشف سره ... ويشرحه وفق الفنون الحواضر فقدنا إماماً كان حجة عصره ... وقدوة أرباب النهى والمظاهر حكيما سما فوق السماك بهمة ... هماماً جليل القدر حر الضمائر فيأمر بالمشروع في كل محفل ... وينهى عن المحظور طبق الأوامر ويصدع بالقول الصحيحِ نصيحة ... ولا يرهبنَّ في الحق أقسى الجبابر وكم ذب عن دين النبي محمد، ... ودافع عنه بالردود البواتر فضائله سارت إلى كل وجهة ... وأخلاقه مثل الرياض النواظر وما دأبه إلا اتخاذ صنيعة ... وكسب معال وابتناء مآثر وانفاق مال في سبيل مبرة ... واسداء معروف لبرِّ وفاجر وإرشاد ضلِّيل وإصلاح فاسد ... وابداء مستورٍ وإحياء داثر وتقويم منآد وتوضيح منهجٍ ... موارده مأمونة كالمصادر

مناقب لم يبلغ مداهن ناثر ... فصيح ولم يستوفها نظم شاعر عليه سلام الله ما عبرة همت، ... وما فاه بالتأبين عبد جزائري (1) ..... الخ. إن هذه المرثية تعبر عن معرفة صاحبها بمحمد عبده وخبرته به خبرة مَن لازَمه، ودرس آثاره وكتبه، وتتبع نشاطه، تتبع المعجب بمن أعجب في خصائص فن الكتابة، ومعالجة القضايا العقلية والشرعية وحل المشكلات وطريقة التدريس والتفسيير وفقاً للحياة العلمية والثقافية المعاصرة: فمن لكتاب الله يكشف سره ... ويشرحه وفق الفنون الحواضر كما أن هذه القصيدة تدل على أن الشاعر درس العروة الوثقى: فعروته الوثقى تريك بلاغة ... يدين لها قس وعبد لقاهر وعلى أنه اطلع على رسالة التوحيد وعلى ما كتبه محمد عبده في اللغة والفقه والتفسير: وواهاً على التوحيد والفقه واللغى ... وواهاً على التفسير أصل العناصر وقرأ أيضاً رده على هانوتو وزير الخارجية الفرنسية الذي طعن في الإسلام: وكم ذب عن دين النبي محمد ... ودافع عنه بالردود البواتر. والحقيقة أن هذه القصيدة أكبر برهان على أن محمد عبده له مدرسة في الجزائر وعلى رأسها محمد بن مصطفى بن الخوجة وهذا عنصر من أهم العناصر في النهضة الإسلامية الحديثة في الجزائر.

_ (1) رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام ط 2 (دار المنار) القاهرة 1367هـ ج 3 ص 349 - 351 تحت عنوان: مرثية الجزائر: من نظم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة المدرس بجامع سفير بمدينة الجزائر وصاحب التصانيف المشهورة.

ومن أعضاء هذه المدرسة الشيخ محمد بن القائد علي الذي كان إماماً بالجامع الجديد وقصيدته التي بكى بها محمد عبده تشير إلى أنه اطلع على تفسيره وعلى كتابه في التوحيد وعبر فيها أيضاً عن تأثير زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر في نفسه وإخوانه الذين كانوا معه. يقول: غاض بحر العلوم أين العزاء ... وعيون الأنام سحب دماء فبكى المسلمون حزناً عليه ... وبكى الدين والتقى والحياء ... عبده الفيلسوف أحيا قلوباً ... ميتات أماتها العلماء حجة الله والرسول بعصر ... جاء يهدي أقوامه فأساؤوا فسَّر الذكر الحكيم بفهم ... عجزت عن أدائه البلغاء وكتاب التوحيد فهو لدينا ... مغنطيس القلوب بل كهرباء ... ومنها: عبده كنت بالجميل تربي ... صبية العلم والعلوم غذاء عبده كانت المحافل تزهو ... والنوادي وأنت فيها سماء عبده أين من يروم صلاحاً ... لأناس غووا وعزَّ الدواء قال مشيراً إلى زيارة محمد عبده للجزائر: قد سعدنا بزورة منه جاءت ... بسعود يفر منها الشقاء كم سهرنا ومنه نلنا علوماً ... ما سمعنا بها ولا الآباء (1) فمحمد عبده عنده فيلسوف، محي القلوب الميتة، وحجة العصر،

_ (1) المصدر السابق ج 3 ص 304 تحت عنوان: وقال معدن الإخلاص والفضل الأستاذ الشيخ محمد ابن القائد علي الإمام بالجامع الجديد في مدينة الجزائر.

ومفسر القرآن بما يعجز عنه البلغاء، ومربي الشبان، وزينة المحافل، وسماء النوادي، وكتابه التوحيد مغنطيس القلوب وكهرباؤها وأنه سهر معه الليالي ونال منه علوماً ما كان يسمع بها وهذا أكبر برهان على مدى تأثير محمد عبده في الحياة العلمية والعقلية بالجزائر والغريب أن إمام مسجد يعبر عن محمد عبده بأنه فيلسوف كما وصفه محمد بن مصطفى ابن الخوجة بالحكيم. وهذا الوصف كان يعتبر- عند الفقهاء مرادفاً للالحاد والكفر. والظاهرة التي تلفت النظر أن الشاعر الجزائري ينسب موت القلوب للعلماء باعتبارهم مسؤولين عن خمودها وموتها وبذلك أشار إلى محور مذهب محمد عبده في الإصلاح وهو "النفس". ورثاه أحد الجزائريين نثراً ولكنه لم يصرح باسمه وإنما رمز له بـ (ع. ز) وصفه بأنه فيلسوف الإسلام ومما جاء فيها: "وها نحن حامدون الله حمداً لا غاية لحدِّه، ولا حصر لعدِّه على أن منَّ الله علينا برؤية حضرته الغراء وطلعته الزهراء في السنة الماضية في أيام الراحة في فصل الصيف ومكث عندنا عشرة أيام وحاضرناه وشافهناه وظللنا معه في تلك الأيام كل يوم، وسامرناه ومسارح الأشباح نابغة بالفرح والسرور، ومخاوف القلوب يانعة بالابتهاج والحبور، ونلنا منه في تلك الأيام القلائل ما شاء الله أن ننال، وخاطبنا بخطاب أشهى من طعم الضَرَب بأفصح كلام العرب، ترى الدر يقطر من عذوبة لسانه فيبريء الإنسان من أحزانه، وكشف لنا عن دقائق المسائل والناس من حوله بين مصغ وسائل" (1) وتعرض لأثر موت محمد عبده في الجزائر فوصفه قائلاً: "حتى كاد يقع لبعض الجزائريين ما وقع لسيدنا عمر بن الخطاب في موت خير الأنام حيث قال للناس: " مَن قال منكم مات محمد أضرب عنقه" (2).

_ (1) تاريخ الأستاذ الإمام ج 3 ص 297 - 298. (2) ن. م. ص 298.

وذكر أن بعض العلماء الجزائريين ينكر موته لغاية إرسال التعزية وفي آخر الرسالة اقترح: "أن تنشر محرراته وجميع ما فَاهَ به في حياته لتتم فائدة الجميع" (1) ولم يكن تأثير محمد عبده مقتصراً على الجزائر من بين أقطار المغرب الإسلامي بل ربما كان تأثيره على تونس أكثر، ويعتبر الشيخ محمد النخلي القيرواني رائد النهضة الثقافية وأحد مدرسي جامع الزيتونة الناقذ الذكي المتوفى في رجب من سنة 1342هـ والشيخ الطاهر بن عاشور من أبرز ممثلي آرائه في الإصلاح. ولما توفي محمد عبده رثته صحافة تونس ومن بينها جريدة "الحاضرة" (2) للسيد علي بوشوشة كتب فيها محمد بن الخوجة المتوفى 1325هـ مقالاً يرثيه وما ورد في هذا المقال يدل على وجود صلات شخصية بينه وبين أتباعه في تونس قال: "كنا على وجل الإشفاق من أخبار صحته التي أخذت في الانحطاط من أربعة أشهر فارطة واضطرته للاتتقال من القاهرة للإسكندرية بنية السفر لتغيير الهواء خارج القطر المصري فكنا نستطلع أحواله آناً فآناً ونجدد معه عهود المودة الوثيقة ونستمد من أنوار علومه على بعد الدار فكان الرشيد المرشد لمن قرب أو نأى، وآخر العهد به ورود مكتوب منه على أحد أصحابنا ممن لهم معه علقة علمية ورابطة وداد" (3) ويقول صاحب المقال: "ولدينا في الحوادث العرابية رسالة من إنشائه كنا أخذناها منه عند زيارته الأولى لتونس" (4) ومحمد عبده زار تونس وألقى بها محاضرة في التربية والتعليم كان لها

_ (1) ن. م. ن. ص. (2) تأسست تحت إشراف سالم بو حاجب في ذي القعده سنة 1305 - 1888م وهي أول جريدة عربية غير رسمية بتونس أنظر كتاب أركان النهضة الأدبية بتونس للأستاذ الفاضل بن عاشور ص 036 (3) رشيد رضا تاريخ الأستاذ الإمام ج 3 ص 120. (4) ن. م.

أثرها البالغ. ورثته صحيفة أخرى تونسية تدعى "الصواب" يصدرها السيد محمد الجعايبي (1) وكتب أحد أساطين الزيتونة الشيخ الأكبر الأستاذ الطاهر بن عاشور تعزية إلى الشيخ رشيد رضا (2) يقول فيها: "عرفت الأستاذ الإمام معرفة شهود بتونس في سنة 1321هـ فعرفت من ملاقاته الأولى رجل العزم والإرادة والفكر وبلاغة القول وشدة الفراسة وتكافئى القوى العملية والفكرية حتى لقد كان من سكون نفسي إليه والفتها به واعتلاق صداقته في أمدٍ وجيز ما يكون مثله في السنين الطوال فصارت ذكراه تفعل في نفسي فعل ذكرى والد رحيم ... يقابلني تمثال الأستاذ في منزلي مرات وأذكر كلماته وتفسيره مهما قرأت سورة في صلاتي" (3) واقترح فيها على الأستاذ رشيد رضا أن يجمع آثار محمد عبده ويطبع جميع تآليفه ورسائله الأدبية والعمرانية، كما سأله عن وجود أعداد جريدة العروة الوثقى في مصر لأنه لا يملك إلاَّ عدداً واحداً منها ويود جمع بقية الأعداد. وطلب منه أن يخبره هل كتب الشيخ محمد عبده شيئاً عن رحلته إلى الجزائر وتونس والآستانة وغيرها من البلاد (4). وأرسل الشيخ محمد شاكر من صفاقس إلى الشيخ رشيد رضا رسالة تعزية أخرى وصف فيها محمد عبده بالحكيم، والمصلح وأنه هو الذي "زحف بجيش اقدامه على البدع والأوهام" (5). والواقع أن الأستاذ الإمام زار تونس مرتين الأولى كانت سنة 1300هـ ودامت أربعين يوما، والثانية كانت سنة 1321هـ. ومن الذين عرفوا

_ (1) العدد 61 الصادر في 25 جمادى الأولى 1323هـ 1905م (2) مؤرخة في 23 جمادى الأولى سنة 1323هـ 1905م أنظر تاريخ الأستاذ الإمام ج 3 ص 294. (3) المصدر السابق ج 3 ص 294 - 295. (4) ن. م. ص 295 - 296. (5) ن. م. ص 296.

الأستاذ محمد عبده البشير صفر والشيخ سالم بو حاجب (1243 - 1342) والشيخ محمد بيرم 1342م يعتبر من أعضاء الجمعية السرية الإسلامية العالمية التي أسسها جمال الدين الأفغاني وهي جمعية العروة الوثقى (1) وكتب الشيخ سالم بوحاجب تقريظاً لرسالة التوحيد أرسله إلى محمد عبده بتاريخ 7 شوال 1317هـ (2). وأما المغرب الأقصى، فإنه وجدت فيه بذور الإصلاح منذ محمد بن كنون (1302هـ -1884م). وتأثر أيضاً بالحركة الإصلاحية العبدوية. ذكر لنا شكيب أرسلان أن الشيخ إبراهيم التادلي من أكابر علماء المغرب حينما أدى فريضة الحج مر على بيروت والأستاذ الإمام بها فذهب شكيب ومحمد عبده والشرتوني (3) لزيارته والسلام عليه، ومن بين الأسئلة التي وجهها إليه محمد عبده: هل في المغرب اليوم مؤلفون في أصناف العلوم المختلفة؟ فأجابه التادلي: نعم يوجد مؤلفون في المغرب إلا أن العلم لا ينتشر بقوة التأليف وإنما ينتشر بقوة التدريس وكثرة المذاكرة الشفوية. وعلق الأستاذ الإمام على قوله: بأنه أحسن ما سمعه من كلامه. ولكن يبدو أن الشيخ التادلي عالم تقليدي لم يكن مطلعاً على أحوال عصره لأنه- فيما يقص شكيب أرسلان ألقى درساً في الجامع العمري الكبير في البسملة وما تتضمنه من العلوم والمعارف والفنون (4) وكان الناس ينتظرون منه أن يلقي محاضرة في أمراض العالم الإسلامي ووسائل علاجه.

_ (1) الفاضل بن عاشور، أركان النهضة الأدبية بتونس، مطبعة النجاح، بتونس (دون تاريخ) ص 24. (2) تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 784. (3) هو سعيد الخوري الشرتوني لبناني مسيحي قرظ رسالة التوحيد لمحمد عبده وكتب إليه في ذلك بتاريخ 6 ربيع الأول سنة 1316هـ. (4) تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 411 - 412

ولا شك أن المنار أثر في الحياة الثقافية في المغرب الأقصى مما جعل بعض وزراء مولاي عبد العزيز سلطان المغرب يكتبون إلى السيد رشيد رضا طالبين منه أن يرسل إليهم رجلاً مصلحاً يجمع بين الشريعة والسياسة ويعرف شؤون الإدارة ليكون وسيلة لإقناع السلطان بضرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني الذي يدعو إليه المنار. وأخبر رشيد رضا أستاذه محمد عبده بالأمر فمال إلى السفر بنفسه ولكنه عرف الصعوبات التي تحول بينه وبين الاتصال بالسلطان لأن الإنكليز والفرنسيين والأوربيين بصفة عامة يعارضون ذلك ويتربصون الدوائر بالمغرب الأقصى وهم قد شرطوا أن يكون الأمر سراً فقرر السيد رشيد رضا إرسال السيد عبد الحميد الزهراوي ولكن لم ينفذ شيء من ذلك (1). ومن المغاربة الذين لهم صلة بالشيخ محمد عبده: الشيخ إدريس بن عبد الهادي، والمهدي الوزاني وأكثرهم تأثراً بمحمد عبده إنما هو الشيخ شعيب الدكالي الذي زار الشرق ورجع لقيادة الشبان نحو الدعوة الإصلاحية سنة 1325هـ (2) وواصل العمل الإصلاحي من بعده الشيخ المجاهد محمد بن العربي العلوي (1964م) الممثل الحي للسلفية في المغرب الأقصى. وهناك نوع آخر من خدمة المجتمع يعتبر من عوامل الإصلاح الثقافي ونشر الوعي بماضي الأمة وهو يتمثل في عمل أبي القاسم الحفناوي (3) الذي قام بتأليف كتاب يحوي تراجم العلماء الجزائريين

_ (1) م. س. ص 870. (2) أنظر "التعاشيب" لعبد الله كنون. (3) ولد سنة 1269هـ (1852) كان من محرري الجريدة الحكومية الرسمية (المبشر) ومدرساً بالجامع الأعظم بالجزائر كما تولى منصب الإفتاء توفى 1361هـ (1942) أنظر بحث بن شنب ص 48 نقلاً عن التقويم الجزائري لسنة 1330هـ (1912) ص 169 - 170

فرغم أن هذا الكتاب ليست له صبغة علمية فإنه مفيد لأنه جمع مادة غزيرة يمكن للباحث أن يدرسها دراسة علمية. وأهم شخصية خدمت اللغة العربية والثقافة الإسلامية وتاريخ الحضارة الإسلامية في المغرب الأوسط إنما هو العلامة الدكتور محمد بن أبي شنب (1) وعمله يتسم بطابع علمي مما جعله ينتخب للتدريس بكلية الآداب بجامعة الجزائر ولعضوية المجتمع العلمي العربي بدمشق ويمتاز بمعرفته عدة لغات حية وميتة من لاتينية وألمانية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وفارسية وتركية (2). من الكتب التاريخية التي حققها ونشرها كتاب "الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية" لأبي العباس أحمد الغبريني (3). وكتاب "البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان"، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الملقب بابن مريم الشريف المليتي المديوني التلمساني (4) ومن أهم الآثار التي أخرجها الأستاذ ابن أبي شنب كتاب "طبقات علماء إفريقيا" لأبي العرب التميمي (5) مع كتاب "طبقات علماء تونس" لمحمد الخشني (6) كل ذلك في مجلد واحد. ومنها

_ (1) ولد سنة 1286هـ بمدينة المدينة كان مدرساً بالمدرسة الثانوي بقسنطينة وبالمدرسة الثعالبية. (2) سعد الدين ابن ابي شنب بحثه المذكور سابق ص 55 وأنظر "ذكرى الدكتور محمد ابن أبي شنب" تأليف عبد الرحمن الجيلالي. (3) توفي في 12 ذي القعدة سنة 714هـ. (4) لا نعرف تاريخ وفاته وإنما نعلم أنه اتم كتابه المذكور سنة 1014هـ أنظر شجرة النور الزكية في طبقات المالكية تأليف محمد بن محمد مخلوف طبع القاهرة 1350 - ص 296. (5) توفي بالقيروان سنة 333هـ (945م) (6) توفي 360هـ (981م).

الحياة الإجتماعية والدينية

كتاب "الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية" لمجهول. وغير هذا كثير مما يتعلق باللغة والأدب والتراجم والرحلات. وقد كتب في مجلة "الشهاب" لابن باديس بحثاً ولما توفي (1) قال فيه: "لما عرفناه فقدناه". ومن الذين شاركوا في هذه الحركة التاريخية الشيخ مبارك الميلي الذي ألف كتابه تاريخ الجزائر في القديم والحديث في سنة 1347هـ (1929) وقرظه الشيخ عبد الحميد بن باديس برسالة مؤرخة بـ (15 - 1 - 1347هـ) (2) والشيخ أحمد توفيق المدني الذي ألف كتاب الجزائر في سنة 1350هـ (1931) وكتاب "محمد عثمان باشا" الذي أهداه (3) إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس وكتب الأخير تقريظاً له في مجلة الشهاب (4) أيضاً. -2 - والحياة الإجتماعية والدينية كانت في تدهور وخمود مما دعا إلى رد الفعل ونشوء الحركات الإصلاحية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين. يقول المؤرخ الجزائري إسماعيل حامت: "كان للإلحاد الغربي مبلغ كبير من التأثير في جمهورٍ ليس بالقليل من مسلمي الجزائر الذين وإن كانوا ما برحوا مسلمين في الظاهر

_ (1) توفي بالجزائر في 24 شعبان سنة 1347هـ (1929م) وقبره معروف بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي. (2) نشرت في ج 2 ص 7 طبعة بيروت 1963م. (3) الإهداء مؤرخ 15 محرم 1356هـ ص 2 من الكتاب المذكور. (4) ش: ج 7 م 23 ص 319 - 321 شعبان 1356 سبتمبر 1937م.

فهم يجهلون حدَّ ما وصلت إليه روحهم الدينية من الثلاشي. إن هؤلاء لا ينكرون الإسلام دينهم ومعتقدهم غير أنهم قد أضحوا من فتور الغيرة الدينية في نفوسهم بحيث غدوا لا يبالون البتة بنشره في الناس وبالدعوة إليه في غير المسلمين فالإسلام عندهم إنما هو مقصور على من يأتي بعدهم من الأولاد والأحفاد فحسب وليس يتناول أحداً سواهم من الخلق أجمعين. فالحق أن الإسلام لبراء ممَّا هم فاعلون. وليس ذلك هو الحرية الفكرية على ما يزعمون بل إنما هو الفتور فالتلاشي (1) " هذا ضمير جزائري يأسى ويأسف للحالة التي أصبح عليها المسلمون الجزائريون من الاتجاه الإلحادي ومن القعود عن الدعوة الإسلامية. وهذا رحالة بلجيكي يصف الجزائر قبيل الحرب العالمية مشيراً إلى الأفكار الغربية التي أخذت تتسرب إلى الجزائريين وخصوصاً طبقة العمال: ((إن الإسلام ليرى متمزقاً تمزق"الثوب البالي" على أرصفة الجزائر، فعمّال المرفأ ونقلة الفحم وساقة الآلات البخارية على اختلاف جنسيتهم عادوا لا يبالون بالإسلام، بل ترى فيهم صبغة آداب العمال الأوربيين راسخة وهم يشتركون مع زملائهم العمال الغربيين في السعي وراء الغرض ونيل الغاية اشتراكاً قائماً على أساس واحد هو وجوب مقاومة أرباب رؤوس الأموال ونزاعهم نزاعاً إقتصادياً، فلو كان في الجزائر معامل مثل تلك التي في أوروبا لاختفى الإسلام السني من تلك الديار

_ (1) لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي القاهرة ج 1 ص 54 نقلاً عن كتاب: ,1906 Ismail Hamet -les musulmans du Nord de l'Afrique Paris والمؤلف (اسماعيل حامت) وهو صاحب تلك الكلمة القيمة: "لا تقاس حضارة أمة بما في كتبها الدينية من السطور والعبارات بل بما تقوم به تلك الأمة من الأعمال" وهو رأي استشهد به لوثروب الأمريكي في كتابه المذكور ووصفه بأنه مصلح مسلم جزائري ووصف له قوله بالسداد ج 1 ص 48.

المغربية اختفاء الكاثوليكية القديمة من ديارنا أمام تيار الصناعة وثورتها الكبرى)) (1) ولا يخفى على القاريء كيف حاول هذا السائح الأوروبي تصوير الجزائر تصويراً متأثراً فيه بتاريخ المسيحية في بلاده وبالصراع الطبقي الذي نشأ فيها لوجود التقدم الصناعي، وعمَّم ما رآه في مرسى الجزائر على المجتمع الإسلامي الجزائري كله. ومهما يكن من أمر فإن المسألة لا تعدو أن تكون شهادة عابرة لسائح ابن سبيل. والواقع أن السياسة الاستعمارية الفرنسية فيما يتعلق بالناحية التربوية التعلمية كانت ترمي إلى تكوين جماعات منفصلة عن مقومات الشخصية الإسلامية العربية وإلى تحويل الشعب الجزائري كله وإدماجه في الحضارة الأوروبية والثقافة الفرنسية عن طريق نشر اللغة الفرنسية، ومقاومة الشريعة الإسلامية التي ترى أنها هي العقبة الوحيدة التي تحول دون الإندماج ولذلك فإنها تشترط فيمن يتمتع بالحقوق الفرنسية أن يتجنس. ويتضمن التجنيس عدم الارتباط بالقانون الإسلامي، بل أكثر من ذلك فإن كثيراً من الحقوق لا ينالها إلا النصراني، فأصبح التنصر بذلك طريقاً إلى التمتع ببعض الحقوق، ولم يَرْقَ الجنرال يوسف رتبة جنرال إلا على هذا الشرط (2). ورسمت السياسة الفرنسية وسيلة أخرى تعتقد أنها ستربح بها اللعبة وهي بَثُّ الخلاف بين عناصر المجتمع الجزائري، بين العرب والبربر. وحاولوا أن يقنعوا البربر بأنهم من سلالة أورويية وأن لهم لغة خاصة لا ينبغي التفريط فيها، وأن يمنعوا تعليم العربية للبربر.

_ (1) المصدر السابق ج 2 ص 299. (2) تعليق الأمير شكيب أرسلان على "حاضر العالم الإسلامي" ج 1 ص 86.

يقول أحد المختصين (1) بهذه المسألة: "إن العالم المختص في أمور البربر المسيو دوتيه" الذي جال بين قبائل البربر نوَّه بمحاسن سجايا هذا الشعب البربري وقال: إن به مناط الآمال في إفريقيا ... إنه شعب يظهر عليه الميل من نفسه إلى المدنية الفرنسية (2) لذلك يجب علينا قبل كل شيء أن لا نعرِّبه أكثر ممَّا هو ولأجل بلوغ هذه الغاية يجب أن يحمل البربر على الثقافة الفرنسية أو أن يتكلموا بالفرنساوي قبل وصول الثقافة العربية واللسان العربي إليهم، وعلى هذا الشكل يتحقق بلا ريب- أكثر ممّا هو مظنون- خيالنا العظيم بمراكش فرنسية ... وفي النية تأسيس مكاتب فرنسوية بربرية في الجهات التي لم تستعرب من بلاد البربر، وهذا تصور حسن جداً ... فإذا كانت بلاد القبائل من الجزائر ليس فيها إلا بعض أقوام من البربر، فإن قسماً عظيماً من أهل المغرب الأقصى، لا يعرفون العربية، أو يتكلمون اللغتين البربرية والعربية، وليس لنا أدنى مصلحة أن ننشر بينهم اللغة العربية، لغة الجامعة الإسلامية، بل بالعكس" (3) وقصة الظهير البربري (4) أشهر من أن نفصل القول عنها بالإضافة إلى مئات الكتب باللغة البربرية بجميع لهجاتها. والمستشرق الفرنسي ماسيينون نفسه ألقى محاضرة في سنة 1927م بمعهد كوليج دي فرانس: تحت عنوان "الوحدة البربرية" (5).

_ (1) هو فيكتور بيكي Victor Piquet مستشهدا برأي مختص آخر هو (دوته Douté) (2) أنظر هذا الزعم العلمي! (3) أنظر ترجمة هذا النص في حاضر العالم الإسلامي ج 1 ص87 302. Victor Piquet - Le Maroc - Paris 1818 P (4) صدر في16 مايو سنة 1930. (5) عثمان الكعاك، البربر، تونس1956 ص 129

الإتجاهات الإصلاحية

وأسس الفرنسيون بالمغرب الأقصى، معهد البحوث العليا المغربية، للدراسات البربرية وخصصوا لذلك مجلة "هيبريس" والواقع أن هذه المحاولات لتمزيق الشعب الواحد لم تقتصر على المغرب الأقصى، بل شملت الجزائر وتونس وطرابلس من طرف ايطاليا- واكتست المحاولات طابعاً علمياً في ظاهرها. ففي تونس قام طبيبان بتأليف كتاب ضخم في مقاييس جماجم البربر وأوصافهم وسماتهم العضوية العرقية، مع مقارنة بسِمات ومقاييس جماجم الغاليين (1) وفرض الإستعمار على أبناء المدارس المسلمين الجزائريين أن ينشدوا: "كان أجدادنا من الغاليين وكانت بلادنا في القديم تسمى غاليا"، وأن يتشرفوا بالإنتساب إليهم! والغرض من هذه المحاولات إنما هو الإدماج، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وفعلاً فقد نبتت طائفة من هذه المدارس تدعو إليه، وتتحمس له بالرغم من معارضة الغلاة من الإستعماريين لهذا الإدماج الذي يجعل المسلمين متساويين في الحقوق مع الفرنسيبن، وهذا ما لا يمكن أن يتصوروه في عقولهم. في الربع الأول من القرن العشرين تطورت ردود الأفعال على الأوضاع الإجتماعية والأخلاقية والسياسية التي تحياها الجزائر. الإتجاهات الإصلاحية: ظهرت جماعة صغيرة لائيكية "علمانية" مفرنسة بصحافتها وجمعياتها وصداقاتها وبمطالبها التي تعتبرها "تقدمية" واعتمد هؤلاء الشبان الجزائريون على بعض الأحرار من الفرنسيين أمثال بول بورد: Paul Bourde والبان روزي Albin rozet (2) وكانت هذه الفئة لا تطالب

_ (1) ن. م. ص 134. (2) CH. Robert Ageron, Histoire de l'Algérie Contemporaine, Presses Universitaires de France. Paris, 1964 P. 71 et la Naissance du Nationalisme .20.Algérien, par André Nousalle P

بمجرد المساواة مع الفرنسيين بل وبالإندماج التام (1) ثم انقسمت هذه الفئة إلى قسمين: قسم يطالب بالمواطنية الفرنسية دون الإرتباط بالقوانين الإسلامية الشخصية، وقسم يطالب بالمساواة السياسية مع بقاء التعامل بالقانون الإسلامي. ويمثل القسم الأخير حفيد الأمير عبد القادر الأمير خالد بن الهاشمي (2) الذي عرض برنامجه في جريدة "الإقدام" وبصفة عامة، فإن هذه النزعة تهدف إلى فصل الدين عن الدولة مقلدة في ذلك تركيا الفتاة التي كان لثورتها صدى في الجزائر، ويقود هذه الحركة ويمثل هذه النزعة معلمون في المدارس الابتدائية وطلبة في المدارس الفرنسية وموظفون لدى الحكومة الفرنسية ومن النواب وغيرهم ممن يجيدون اللغة الفرنسية ويستعملونها وسيلة لصحافتهم. وأشهر الصحف التي تعبر عن أفكارهم هي: 1 - الصوت الأهلي تصدر في قسنطينة ويديرها ربيع الزناتي: La Voix Indigène. 2- صوت المتواضعين تصدر في الجزائر العاصمة ويديرها عمر قندوز (3). La voix des humbles ويحلو للمستشرق ماسينيون أن يذكر لنا أن اللغة الفرنسية أصبحت أداة للفكر الإسلامي لا في الناحية السياسية فحسب بل وفي الناحية

_ (1) هذه جملة من الكتاب الأخير تصور مطلبهم: L'assimilation la plus complète, c'est - à - dire l'entrée dans la cité française (2) توفي 9 يناير سنة 1936م- 1354هـ بدمشق بعد محاكمته في باريس وخروجه منها رثاه أحمد توفيق المدني وكتب عنه في مجلة الشهاب ج11، م11، ص630 كتب الأمير خالد مقالاً في جريدة النجاح تحت عنوان: مسألة الخلافة في المؤتمر الإسلامي العام عدد 28184 نوفمبر 1924م. (3) وجهة الإسلام (إفريقيا لماسينيون) القاهرة ص 60

الدينية. ويضرب لنا مثلاً بما قام به الأستاذ أحمد ليميش من ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ترجمة يحوطها التقديس والشعور الإسلامي الصادق رغم أنها لم تبلغ غايتها من الجودة كأنه يعد هذا انتصاراً للحضارة الأوروبية. ومنهم من كتب قائلاً: "الجزائر أرض فرنسية. نحن فرنسيون مع الإحتفاظ بقانون الأحوال الشخصية الإسلامي ... لا يوجد في الكتاب المقدس ما يمنع جزائرياً مسلماً من أن تكون جنسيته- فرنسية- .. الخ (2) بل إنه عبر عن الوحدة الوجودية بينه وبين فرنسا فقال: "أنا فرنسا"! كما كان هناك أتباع الطرق الصوفية وترجع في أغلبها إلى طوائف ثلاث (3): أ- الطائفة العليوية التي يرأسها الشيخ أحمد بن عليوه في مستغانم. وهي طائفة متشعبة عن الطريقة الدرقاوية، ولهذه الحركة الصوفية صحيفة تعبر عن أفكارها المعارضة للحركة الإصلاحية التي يمثلها الشيخ عبد الحميد بن باديس وهي جريدة "البلاغ". ب- طائفة درقاوية أخرى يرأسها غلام الله في مدينة تيارت يدعو صاحبها إلى سياسة الإتفاق الديني بين الإسلام وفرنسا (4).

_ (1) م. ن. (2) هو السيد فرحات عباس الذي كتب، "الشباب الجزائري": " L'Algérie est terre française. Nous sommes des français avec le Statut Personnel musulman (......) Il n'y a rien dans le Livre Saint qui puisse empêcher un algérien musulman d'être nationellements un français, aux bras forts, à l'intelligence éveillée, au coeur loyal conscient de la solidarité nationale. Il n'y a rien, sinon la colonisation.» voir Ia Naissance du Nationalisme algérien, P.63 (3) وجهة الإسلام ص 61. (4) وضع "الاتفاق الديني"، سنة 1930

جـ- طائفة التيجانية تتكون من كبار الموظفين والأغنياء والتجار وقامت بدعاية بلغ نشاطها باريس وأقامت هناك مسجداً، والواقع أن هذا الفرع قوي في مراكش أكثر من الجزائر. وأما الطريقة السنوسية (1) فقد أضعفتها المجازر التي سلطتها عليها إيطاليا وكادت أن تودي بها. والحقيقة أن الحركة الأساسية التي تمثل آمال الشعب الجزائري وتعبر عن شخصيته هي الحركة السلفية. التي يمثلها ابن باديس وزملاؤه ويصفها المستشرق ماسينيون بأنها حركة متشددة نصف وهابية ويعتبرها فرعاً أو شعبة من الحركة التي تمثلها "المنار" في القاهرة. ويذكر أن ابن باديس وثيق الصلة بالحركة في مصر مترسم لخطاها ويعترف بأن لهذه الحركة السلفية تأثيراً لما ينطوي عليه برنامجها من الرجوع إلى تعاليم القرآن بالرغم من أنه يقلل من شأنها من ناحية أخرى فيقول: "إن هذا الحزب لا ينتمي إليه حتى الآن إلا شرذمة قليلة في مدن المغرب" والظاهرة التي تلفت النظر أنه يذكر لنا وهو المتتبع لحركات المسلمين وسكناتهم أن حركة ابن باديس لها أتباع في الرباط من أعمال مراكش فيقول: (ومن أتباع هذا الحزب جرثومة صغيرة ولكنها مترعرعة في رباط من أعمال مراكش) (2) ولسان حال هذا الحزب أو هذه الحركة هو مجلة "الشهاب" الصادرة بقسنطينة ويديرها الشيخ عبد الحميد بن باديس. وسيأتي تفصيل القول في ذلك.

_ (1) وكان للسنوسية في الجزائر ألف تابع. وأكبر الطرق عدداً هي الطريقة الرحمانية التي أسسها سيدي محمد بن عبد الرحمن واتباعها 156 ألف رجل و13 ألف امرأة. وأتباع التيجانية التي يقيم شيخها في عين ماضي 26 الف. والطريقة الدرقاوية المشهورة بالشدة والإشتراك في جميع الثورات التي ثارت على الفرنسيين لها 9 آلاف. والشيخية أولاد سيدي الشيخ 10 آلاف. (2) وجهة الإسلام ص 60 - 61.

دور الصحافة العربية

دور الصحافة العربية: وبهذا نرى أن الصحافة لعبت دوراً كبيراً في النهضة فلا بد من أن نقول عنها كلمة: أن أول جريدة عربية صدرت لا عن مصدر حكومي (1) بل بمجهود صحافي جزائري حر هي جريدة "الجزائر" التي أصدرها الفنان الأستاذ عمر راسم سنة 1908 وصدرت جريدة "الحق" سنة 1911م في وهران وهي أول جريدة فتحت الاكتتاب للهلال الأحمر العثماني أيام حرب طرابلس (2) ثم "الفاروق" وصدرت في سنة 1331هـ (1913م) أسسها عمر بن قدور وهو مؤدب يقرىء القرآن الكريم، ويعتبر هذا الرجل من المدرسة الإصلاحية المتأثرة بمحمد عبده وبالمنار، فعزم على مقاومة الخرافات والبدع واستعمل هذه الصحيفة للقيام بمهمته وشعار صحيفته: " قَلَمِي لِسَانِي ثَلَاثَةٌ بِفُؤَادِي ... دِينِي وَوُجْدَانِي وَحُبُّ بِلَادِي " ويستعين بما تنشره مجلة المنار فينقل بعض مقالاتها في هذه

_ (1) أول جريدة عربية صدرت عن الولاية العامة هي المبشر وكانت تنشر باللسانين الأوامر الإدارية والتشريعات وتحاول أن تبث الدعاية ضد الوطنيين الذين هم في نظرها شياطين مشوشون. صدرت في سبتمبر 1847 (5 شوال 1262هـ) ثم ملحق جريدة الأخبار الفرنسية 1903م (1320هـ) وكانت قبل ذلك تصدر بالفرنسية فقط ابتداء من 1839م (1255هـ) ويتولى ذلك فيكتور باروكان. ثم جريدة المغرب أصدرها مدير مطبعة فونتانا وهي راجعة إلى مصدر حكومي صدرت 1321هـ - (1903م) وجريدة كوكب إفريقيا أصدرها محمود كحول ومصدرها حكومي صدرت سنة 1903 وأصدر كذلك التقويم الجزائري مدة ثلاثة سنوات من 1329هـ (1911م) إلى 1331هـ (1913م) فيها آثار أدبية جزائرية لتلك الفترة. (2) أحمد توفيق المدني كتاب الجزائر ص 369.

الجريدة ويهتم بأخبار العالم الإسلامي. ولم تعش هذه طويلاً (1) وأبعد صاحبها إلى الأغواط سنة 1915م كتب فيها أحمد توفيق المدني مقالاً تحت عنوان: "القرآن الشريف وكيف يجب أن نتعلمه" سنة 1914م وهو أول مقال يكتبه في حياته. ثم عاد الأستاذ الفنان عمر راسم وأصدر جريدة أخرى تحت إسم مستعار وهي "ذو الفقار" (2) وأسمى نفسه ابن المنصور الصنهاجي ووسم صحيفته المصورة بأنها "عمومية اشتراكية انتقادية " ونشر في هذه الصحيفة (في عددها الثالث) -صورة الأستاذ الشيخ محمد عبده وكتب عمر راسم تعليقاً عليها وهو أن الشيخ محمد عبده "مدير الجريدة الديني" (3). والغريب أن مؤسسها هو الذي يحررها ويكتبها بخطه، ويرسم صورها الرمزية ويطبعها طبعاً حجرياً وحده، فمن صورها الرمزية في العدد الثالث فارس عربي على باب مدينة الجزائر وشمس مرسلة أشعتها مكتوب في وسط قرصها: "الإصلاح" وهذا يرمز إلى العودة إلى الدين والشخصية الجزائرية العربية، كما نشر في هذا العدد قصيدة حماسية لعنترة بن شداد ومقالاً بعنوان "الإسلام والمسلمون" مفاده أن سبب تأخر المسلمين يعود إلى انفصالهم عن الشريعة الإسلامية ومقالاً آخر نقله عن المنار يعالج مشكلة المقلدين للإفرنج وفسادهم الأخلاقي، ورسم صورة ترمز إلى رجل مقلد للغرب يطلب من زوجه أن تخلع

_ (1) لم تزد على عام وبضعة أشهر. (2) صدر أول عدد منها في ربيع الثاني (1331هـ) أفريل (1913) (3) سعد الدين ابن أبي شنب (النهضة العربية بالجزائر في النصف الأول من القرن الرابع عشر للهجرة) مجلة كلية الآداب العدد الأول 1964 ص 62 - 63 صورة الغلاف والتعليق عليها كانا في يوم الاحد 20 رجب 1332هـ 14جوان1914م، ص 8.

لباسها العربي لتتعلم الرقص ولتتمدن فأجابته بأن لباسها القومي لا يكون عائقاً لها عن التمدن (1). وبما أن اليوم الذي صدرت فيه الجريدة كان يوم 14 جوان فإنه كتب عن الحوادث المحلية: "في هذا اليوم نزل الجيش الفرنسي في شبه جزيرة سيدي فرج وفي هذه السنة (1914م) تشكلت جمعيات لإحياء هذا اليوم والإحتفال باستيلاء فرنسا على أكبر وأغنى مستعمراتها: الجزائر. سنذكر في العدد الآتي الأسباب التي أدت إلى الحرب وكيفية دخول الفرنسيس إلى عاصمة الجزائر" (2) وكانت هذه الصحيفة أول من نبه الناس إلى الخطر الصهيوني، وأول من اكتشفه (3) ولما جاءت الحرب العالمية الأولى، ألقي القبض على مديرها عمر راسم (4) بتهمة الإتصال بالعدو والإتفاق معه فحوكم عسكرياً وصدر ضده حكم بالأشغال الشاقة ثم بعد الحرب صدر العفو عنه (5). وفي سنة 1919 أصدر الأمير خالد صحيفة "الإقدام" باللغتين كما أصدر الحزب المعارض له صحيفة "النصيح". وفي السنة نفسها أصدر الشيخ عبد الحفيظ الهاشمي جريدة "النجاح" التي كانت حرة واشترك عبد الحميد بن باديس في تأسيسها ثم انفصل عنها، ثم انحرفت هذه الجريدة وارتبطت بالحكومة الفرنسية وأصبحت في سنة 1930 جريدة يومية يطبع منها 5000 نسخة في اليوم. وفي سنة 1924 أصدر عمر بن قدور الجزائري جريدة "الفاروق" من جديد وكانت أسبوعية ثم اشترك مع محمد بن بكير في إصدار

_ (1) المصدر نفسه ص 63. (2) المصدر نفسه ص 64. (3) أحمد توفيق المدني كتاب الجزائر ص369. (4) توفي سنة 1379هـ وعمره 79 عاماً حافظ للقرآن مجود له. (5) المصدر السابق ص369.

المطبعة الجزائرية الإسلامية التي كانت تطبع جريدة ومجلة الشهاب، تأسست هذه المطبعة سنة 1343 - 1925 في نفس التاريخ الذي صدر فيه الشهاب. وتقع في نهج عبد الحميد بن باديس- قسنطينة. ــــــــــــــــــــــــــ جريدة "الصديق". وصدر "لسان الدين" جريدة أسبوعية دينية سياسية سنة 1923 أصدرها مصطفى حافظ وابن عبد العزيز حسن. وفي سنة 1925 صدر "المنتقد" (1) فتوقف بعد صدور ثمانية عشر عدداً منه، ثم خلفه "الشهاب" في نفس السنة وكان أسبوعياً ثم انتقل في سنة 1929 إلى مجلة شهرية (2) ومؤسسها معاً هو الأستاذ

(1) جريدة تمثل لسان نخبة الشباب صدرت في يوم الخميس 11 ذي الحجة 1343هـ (2 جويلية 1925م). وقد نقلت هذا من العدد الأول من المنتقد ولم تصدر في سنة 1924 ولا في سنة 1926 كما يذهب إلى ذلك البعض. أنظر كتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى ص 370 فإنه جعلها صادرة في سنة 1926م وتاريخ الجزائر المعاصر لروبير اجيرون ص 88 حيث جعل صدور الشهاب سنة 1924م. (2) بتاريخ رمضان 1347هـ فيفري 1929م.

عبد الحميد بن باديس واستمرت الشهاب في أداء رسالتها إلى الحرب العالمية الثانية فتوقفت في سبتمبر 1939 (1). وفي نفس السنة أصدر الشيخ محمد السعيد الزاهري جريدة "الجزائر" وعطلتها الحكومة. وأصدر الشيخ العقبي والشيخ أحمد العابد جريدة "صدى الصحراء" ثم صدرت جريدة "البرق" سنة 1937 وأصدر العقبي أيضاً جريدة "الحق" في بسكرة سنة 1936م. كما أصدر الشيخ العلامة الصحفي أبو اليقظان جريدة "وادي ميزاب" في سنة 1926 فعطلتها الحكومة بعد نحو عامين ونصف ثم أصدر بعدها جريدة "ميزاب" فصودرت، فأصدر من بعدها "المغرب" ثم "النور" ثم "النبراس" وأسس الشيخ العقبي كذلك جريدة "الإصلاح" (2) وفي هذه الأثناء أصدرت الزاوية العليوية جريدة "البلاغ الجزائري" معارضة بها حركات الإصلاح، ورغم كونها تقاوم بعض عادات المتصوفة، فإنها تدافع عن التصوف ولها مطبعة خاصة. ولم يكن في الجزائر قبل الحرب العالمية الأولى من المطابع إلا مطبعة رودوسي مراد، ثم وجدت فيها أربع مطابع أخرى: الطبعة الإسلامية وهي مطبعة الشهاب ومطبعة النجاح بقسنطينة، والمطبعة العربية لأبي اليقظان بالعاصمة، ومطبعة البلاغ الجزائري بعاصمة الجزائر أيضاً (3). والواقع أنه توجد هناك مطابع أخرى لكنها تابعة للفرنسيين كمطبعة فونتانا الشرقية (5) مثلاً.

_ (1) العدد الأخير الذي هو عدد سبتمبر لم نجد منه إلا ملزمة واحدة كتب فيها عبد الحميد مقالاً عنوانه (أولو الأمر) تعليقاً على مقال كتبه الشيخ الخضر الحسين شيخ الأزهر وصاحب مجلة الهداية الإسلامية. (2) أنظر أحمد توفيق المدني في كتاب الجزائر ص 371. (3) المصدر السابق ص 273. (4) تطبع باللسانين العربي والفرنسي.

- صورة - إدارة الشهاب سابقاً واقعة في نهج الشيخ عبد الحميد بن باديس ــــــــــــــــــــــــــ وهذه الصحافة كلها تدل على النشاط الفكري، وعلى ظاهرة القلق التي هي علامة على اليقظة والوعي بالمسؤولية، وخطوة في سبيل تغيير المظاهر الإجتماعية، ومحاولة لإعادة المجتمع إلى أداء وظيفته التاريخية وإدراكه نفسه التي نسيت التاريخ أو نسيها التاريخ!!

المستشرق الفرنسي ماسينيون

-3 - يلاحظ المستشرق الفرنسي ماسينيون على الإتجاه الفكري في المغرب الإسلامي أنه مصطبغ بالصبغة العملية وأن الناحية العقيدية محتفظة بصلابتها الموروثة عن صدر الإسلام (1) وأن أصحابه من أنصار الخوارج وأتباع مذهب الإمام مالك، كما وصف المغاربة من الناحية العقلية بأنهم ذوو عزيمة وجدٍّ، وهو يحاول بهذا أن يجعلهم أقرب ما يكونون إلى الأوروبيين يقول: "إن لمسلمي المغرب عقولاً عملية من الطراز الأوروبي" (2) ويجعل ذلك سبباً في عدم وجود شخصيات بارزة كثيرة على حد تعبيره أو رجالات نابغة كالذين نجدهم في المشرق، وهو بذلك يجعل فوارق بين مسلمي المغرب ومسلمي المشرق فيقول: "وإذا قارنا هذه البيئة الإجتماعية الإسلامية في المغرب، بنظيرتها في المشرق وجدنا فوارق ليست ظاهرية فحسب ولكنها تتغلغل في الصميم" (3)، وهو بهذا يحاول أن يفرق أبناء مجتمع واحد واتجاه عقيدي واحد كما يحلو له أن يفعل ذلك في كل مناسبة، ولكن نجد للمستشرق ملاحظة دقيقة وصحيحة في آن واحد، وهي أنه يسود الشعورَ الإسلامي- في الجزائر بصفة خاصة- عاطفة غريبة جداًّ، وهي طموح المسلمين لأن يدخلوا الإسلام ويشقوا له طريقاً في عقول الفرنسيين وأرواحهم أنفسهم. ويضيف إلى ذلك ملاحظة أخرى تشير إلى أن في الجزائر كُتّاباً مسلمين يجيدون الفرنسية أيما إجادة، ويستخدمونها في بث الدعاية في فرنسا (4)

_ (1) وجهة الإسلام ص 57. (2) المصدر نفسه ن. ص. (3) ن. م. ن. ص. (4) ربما يشير بهذا إلى الأستاذ مالك بن نبي وجماعة أخرى معه خصوصاً كتابه "الظاهرة القرآنية" الذي ألفه بالفرنسية ثم ترجم فيما بعد إلى العربية.

ولا يقتصرون في هذه الدعاية على الجالية الإسلامية المقيمة في فرنسا التي ربما تتعرض لخطر الخروج عن أصول الدين، وإنما يطمحون إلى أبعد من ذلك مما أدَّى فعلاً إلى إسلام بعض الفرنسيين من الرجال والنساء (1). ومن ناحية أخرى يزعم أن "هناك حقيقة لا يمكن انكارها وهي أن بين فرنسا والمغرب اتصالاً روحياً يتمثل في أذهان بعض المفكرين ضرباً من التجاذب العقلي يشبه ما نشأ بين انجلترا والهند" (2) والواقع أن هذا لا يصدق إلا على شرذمة قليلة تفسخت، وذابت في شخصية الغالب وانفصلت عن صف الشعب المغربي الإسلامي. ويرى أن روح "المحافظة الصلبة" التي تسيطر على الفكر الإسلامي المغربي لا تجيز لأحد أن يفكر في تحقيق الهدف الإستعماري ألا وهو استعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية، كما أن السلفيين "المتشددين" لايقبلون استعمال اللهجة العامية التي يروج لها المستشرقون، في الوقت الذي نجد فيه المشارقة يقبلون فيهما النظر (3). والواقع أن هذا يعود إلى وجود عناصر مسيحية عربية في المشرق، بخلاف المغرب فإنه يخلو من العرب المسيحيين الذين يرتبطون بالثقافة اللاتينية من حيث المعتقد والوجدان، وبالرغم من اعتراف ماسينيون بتأثير المغاربة بالمشارقة فيما يختص بالجامعة الإسلامية والعربية تلك الجامعة التي يدعو لها شكيب أرسلان وفريد وجدي، فإنه يقرر أن "تيار التطوُّر يزداد انحرافاً نحو باريس وإليها لا إلى المشرق، نجد جمهور أهل المغرب يولون وجوههم نحوها" (4) يريد أن يثبت أن باريس أصبحت قبلة المغاربة المسلمين. والغريب أنه جعل الجمهور هو الذي انحرف نحو باريس، فلو اقتصر

_ (1) م. س. ص 59. (2) ن. م. ن. ص. (3) ن. م. ص 66. (4) ن. م. ص 67

على ذكر طائفة قليلة لصدَّقناه، ولكنه جازف في القول ولم يزنه. وإني أشكره (1) من ناحية أخرى حيث عبر عن ذلك بكلمة "انحراف" فهذا هو التعبير الطبيعي في مثل هذا المقام. ولم يعالج أحد من المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين - فيما أعلم- مشكلة الفكر الإصلاحي في المغرب الأوسط إلا استاذنا مالك بن نبي، فإنه تناول هذه النهضة الحديثة وحللها تحليلاً علمياً نقدياً، ودرسها دراسة إجتماعية تكتسي طابعاً موضوعياً مع أنها أشد ما تكون امتزاجاً بذاتيته، وبالرغم من المراقبة الشديدة التي مارسها الإستعمار على مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي فإنه تمكن في ظروف قاسية من إصدار كتابه "شروط النهضة ومشكلات الحضارة " (2) فالإصلاح قد شغل اهتمامه منذ طفولته كما يحدثنا في كتابه الأخير: "مذكرات شاهد القرن". كما شغله منظر ابن باديس وهو يمر أمام مقهى "ابن يمينة" ذاهباً إلى مكتبه في "نهج الأربعين شريف" (3) وهو أول من أدخل العدد الأول من جريدة الشهاب إلى آفلو (4) جنوب

_ (1) أو أشكر المترجم لأني لا أملك النص الإنجليزي الذي ترجم إلى العربية. (2) صدر في سنة 1948 وقدم له الدكتور عبد العزيز خالدي بمقدمة حلل فيها الكتاب ووصف المؤلف بأنه "رجل شعر في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والإجتماعية" وترجم الكتاب وطبع بالقاهرة أثناء الثورة سنة 1957 وصف المترجم الكتاب بأنه "في فلسفة الحضارة وفن التوجيه". (3) يسمى الآن بنهج عبد الحميد بن باديس وهو النهج الذي توجد فيه مطبعة الشهاب ومدرسة التربية والتعليم وإدارة الشهاب ومدرسة سيدي بومعزة أنظر مذكرات شاهد القرن ص 158. (4) مذكرات شاهد القرن لمالك بن نبي طبع في المطابع الوطنية الجزائرية (فونتانا سابقا) الجزائر 1965، القسم الأول ص 221

- صورة - صومعة ومسجد الأربعين شريف ــــــــــــــــــــــــــ وهران حيث يقوي نفوذ الطرقيين، واتصل بالشيخ عبد الحميد في مكتبه ليبثه ما يجده في نفسه من بعض الأفكار المتصلة بالمجتمع في قرية آفلو خصوصاً ما يتعلق بمشكلة الأرض بجبل لعمور (1). والفكرة الأساسية في كتابه "شروط النهضة ومشكلات الحضارة" تتلخص فيما يلي: "إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة

_ (1) ن. م. ص 226

- صورة - مسجد سيدي بومعزه أول مدرسة أسسها للتعليم تحت اسم "المكتب"، وهو بمثابة مدرسة ابتدائية، وقد اشترى هذا العمل الفاضلان: العربي وعمر بن مفسولة ــــــــــــــــــــــــــ حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته أو يحلها ما لم يرتفع بفكرته إلى مستوى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها" (1) فالإصلاح والنهضة في

_ (1) شروط النهضة ص 178

- صورة - مدخل جامع أربعبن شريفاً، وهو الآن مقر المحكمة المالكية، ويسمى مسجد سيدي علي مخلوف، وهو واقع بنهج عبد الحميد بن باديس ــــــــــــــــــــــــــ نظره إنما يُدْرَكان في إطار فكرة شاملة وجوهرية هي فكرة الحضارة التي تعتبر من أهم المشكلات التي تتناولها الآن الدراسات الفلسفية والتاريخية وخاصة الدراسات الإجتماعية، في شتى المدارس العلمية في الشرق والغرب، ولكن ينفرد من بين المفكرين المسلمين بهذه الفكرة التي طالما نبه إليها أذهان الشبان المسلمين، وتفكيرهم فيها على غير نمط

الغربيين والشرقيين لأنه ينظر إليها بمنظار آخر مستمداً شواهده من المجتمعات المتخلفة الممتدة على خط طنجة- جاكارتا. يقسم الأستاذ مالك بن نبي الفترة الحديثة إلى قسمين ما قبل 1925 وما بعدها. أما الفترة الأولى فتتمثل فيها البطولات الجزائرية في صورة أفراد، وفي قوة رجال يمرون كأطياف أحلام في نوم تاريخي عميق. وأما الفترة الثانية فتتمثل في حركة مجتمع، وتصارع أفكار، ومحاولة تغيير للحياة الأخلاقية والعقلية والإجتماعية والسياسية والدينية، وبعبارة أخرى فإن الشعب في هذه الفترة إستأنف رسالته، وبدأ تاريخه الجديد "أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل لا في تكاتف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخاً بل كانت قصصاً ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى فيوقظها من نومها العميق" (1) ويعتبر أنه كان صوت جمال الدين الأفغاني أثر في انبلاج فجر النهضة الجزائرية، ومعجزة الحياة في الجزائر بدأت بصوت الشيخ عبد الحميد بن باديس وندائه فأيقظ المعنى الجماعي، وحول مناجاة الفرد إلى حديث الشعب (2) ويصور لنا حركة الأفكار وانتشار النظريات الإجتماعية في أوساط الشباب فيقول: "فهذا يرنو إلى المذهب الكمالي، وذاك يأخذ بالمذهب الوهابي، وذلك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر بفكره إلى مذهب المادة ... ونرى من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط" (3) ويجعل حركة العلماء

_ (1) ن. م. ص 22. (2) ن. م. ص 23 (3) ن. م. ص 24

المسلمين أقرب الحركات والقيادات إلى النفوس، ولكنها ما لبثت أن انحرفت منهجياً عن أهدافها، وأعطت القيادة للإنتهازيين السياسيين في سنة 1936 في المؤتمر الجزائري الإسلامي (1) فأخفق المؤتمر ودب الشقاق في صفوف الجمعية كأن مركب النقص هو الذي جعلهم يسلمون الزعامة لرجل اللغة الأجنبية فسايروا قادة السياسة (2)، في تلك الفترة ظناً منهم أنهم سيحمونهم ويدفعون عنهم شر الحكومة الفرنسية، باعتبار أن التغيير الإجتماعي الذي يبدأ في تغيير النفس هو الأساس في المشكلة، لا الذهاب إلى باريس والتعلق بسراب وعود الجبهة الشعبية، وهذا ما تأكد لهم فيما بعد حيث عبر ابن باديس عن ذلك بوجوب "الاعتماد على أنفسنا والإتكال على الله"، (3). ويوجه من ناحية أخرى نقداً للحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي التي وإن أخذت بفكرة الإصلاح الديني الذي يعتبر نقطة انطلاق في كل تغيير اجتماعي (4) إلا أنها ابتدأت بمرحلة علم الكلام التي هي المرحلة الفكرية أو العقلية، وتخطت المرحلة الأخلاقية الروحية التي تؤدي إلى أول تغيير للقيم الإجتماعية فهذا يعتبر "مزلقة لا تؤدي إلى الوعي بقدر ما تؤدي إلى تعلم جدليات الكلام". إنه خطأ منهجي أدى إلى عدم تسجيل هذا الإصلاح في نسق الأحداث التاريخية التي تقرر مصير الجماعات الإنسانية (5) ولكنه يستثني حركة الإصلاح في الجزائر، ويعود الفضل في ذلك في

_ (1) وقع في 17 جوان 1936 بنادي الترقي بالجزائر العاصمة. (2) ن. م. ص 26 - 29. (3) وذلك في سنة 1937. (4) وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبي ط. القاهرة 1959 الترجمة العربية ص 174. (5) ن. م. ن. ص

رأيه إلى شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس العظيمة، لأنه استطاع أن يجعل اشعاعه ينفذ إلى أعماق الضمير الشعبي، هذا في بداية الأمر حيث كانت الحركة تنطوي على جذوة روحية، وروح صوفية. ولكن ما لبثت- كما أشرنا من قبل- أن أضحت تكون متخصصين بارعين أكثر مما تعمل على تكوين دعاة مخلصين (1)! ويقول بهذا الصدد: إن مخلفات إنسان ما بعد الموحدين، وما تنطوي عليه من أعباء وتقاليد من ذرِّبة في التفكير، وتزمت ونزوع إلى المدح، والجدل والحرفية والتحليق في الخيال، هذا كله يحتاج إلى فكر ثوري كفكر جمال الدين يهدم ويبني على أساس منهج مرسوم. ويرى أستاذنا مالك بن نبي أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد قام بتلك الثورة الفكرية على أحسن وجه، وبدَّد ما كان مخيماً على الجزائر من تقاليد ثقيلة تتمثل في تلك الطرق الجامدة المخدرة للشعب (2). ومن الملاحظات الدقيقة التي سجلها على الحياة العلمية والفكرية في الجزائر أنها تعتبر بمثابة الزينة والترف، ومن ثمَّ فإن الفكر لم يكن إيجابياً ذا فعالية وحركة (3) وفكرة الفعالية من الأفكار الأساسية في فلسفة مالك بن نبي الإجتماعية. وهناك أمراض نفسية أصيبت بها النخبة في شمال إفريقيا، منها مرضان أساسيان وهما: إما النظر إلى الأشياء على أساس أنها في غاية "السهولة" وإما النظر إليها على أنها "مستحيلة" وكلا النظرتين تؤدي إلى نتيجة خطيرة هي إما الشلل وإما السلوك الأعمى (4).

_ (1) ن. م. ص 175 (2) ن. م. ص 59. (3) ن. م. ص 93. (4) ن. م. ص 94

لم يغفل المستشرق الإنجليزي جيب في كتابه "الإتجاهات الحديثة في الإسلام" الحركة السلفية الإصلاحية في الجزائر فتحدث عنها، وجعلها بمثابة التابعة لمباديء أصحاب مجلة المنار العاملة على نشرها، وعلى معارضة أصحاب الطرق، ويقول بصفة خاصة: "وذهب الجزائريون إلى أبعد مما ذهبت إليه جماعة المنار لأنهم بدأوا بالإضافة لدعايتهم المطبوعة والشفوية، في إحياء المدارس القرآنية "البدائية" في جميع أنحاء البلاد للتأثير على الجيل الصاعد، وقد تكلَّلت مساعيهم بالنجاح الكبير، إذا أخذنا بعين الإعتبار الحواجز التي صادفوها في طريقهم (1) ولكن جيب يلاحظ بهذا الصدد أن "مستقبل الجمعية (2) أصبح مظلماً بعد وفاة عبد الحميد بن باديس عام 1940" (3). والعملية النقدية ضرورية في أية حركة تقوم على منهج ونظام، يهدف إلى تحقيق أهداف معينة، وإلى تسجيل غايات في الواقع التاريخي، وهذا ما عمل أستاذنا لتنبيه الأذهان إليه، لأنه اكتشف عيوباً منهجية في داخل الحركات الإسلامية الحديثة، أدت في كثير من الأحيان إلى الفشل. فرغم توفر الطاقات والإمكانيات النفسية والعقلية، إلا أنها تسطو عليها عملية التبديد، لعدم وجود عنصر التوجيه والضبط الذي يتيح لها ويضمن بلوغ الغاية المرسومة. وأغلب من يكتب عن تاريخ الحركات الإصلاحية أو عن تاريخنا الحديث لا يحاول أبداً أن يوجه نقداً وإنما يسلك مسلكاً أقل ما يقال

_ (1) هـ. أ. جيب، الإتجاهات الحديثة في الإسلام بيروت 1961 ص 64 من الترجمة العربية. (2) جمعية العلماء المسلمين التي تأسست 5 ماي 1931 في نادي الترقي بعاصمة الجزائر واتفق المجتمعون على أن يتولى عبد الحميد بن باديس رئاستها وهو غائب عن ذلك الاجتماع. (3) ن. م. ص. ن. ص

المحاولات التي سبقت الشيخ ابن باديس

فيه أنه عاطفي ساذج وهذا ما يزيد في الطين بلة. وإخفاء الداء يزيده تمكناً وانتشاراً دون شك. لأن جوهر التغيير الإجتماعي أو الإصلاح النفسي والخلقي، يقوم على أساس النقد. والحركة الإصلاحية في الجزائر قامت على الصراع بين ظاهرتين: ظاهرة النقائص والعيوب التي تتمثل في الطرقية، وظاهرة الفضائل والإستعداد النفسي لتقبل الحقيقة (1)، وللتغير الذي يوجد في الشعب. ولا بد من وجود عامل من نوع عقلي تنظيمي، يجعل إحدى الظاهرتين تتغلب على الأخرى، وفعلاً فإنه قام صراع بين مخطط الإستعمار الذي يهدف إلى تغليب ظاهرة الخمود، وبين المنظمات الإصلاحية التي تبذل جهدها للقضاء على هذه الظاهرة وإيجاد نوع من الحركة الإجتماعية التي تهدم الفاسد وتنمي الصالح، وهكذا يقوم في داخل المجتمع نوع من الجدل بين السكون والحركة، ولكن المهم في المشكلة هو أنه إذا وجدت الحركة فكيف نعمل على ضمان استمرارها من ناحية وما هي الشروط اللازم توفرها لتصيب الهدف من جهة أخرى -4 - إن المحاولات التي سبقت الشيخ ابن باديس كلها جزئية فردية غير شاملة للوطن كله كما أشرنا من قبل، وتاريخ الثورات في الجزائر كان على هذا النحو حتى جاءت ثورة نوفمبر 1954 فعمت، والثورة الفكرية إنما حاولت أن تكتسب الصبغة العامة في عهد ابن باديس، ففترته فترة ذهبية خصبة من فترات الصراع الفكري، والعمل على تغيير المجتمع في تاريخ الجزائر المعاصر، فابن باديس هو الذي أدخل الجزائر في حركة النهضة الإسلامية العامة.

_ (1) هذه الفكرة سجلتها في الندوة التي يعقدها الأستاذ في محله مساء السبت من كل أسبوع بتاريخ 12/ 3/1966 بالجزائر.

ابن باديس

ابن باديس ألقينا بعض الأضواء على العناصر الأساسية للحياة العقلية والإجتماعية في الفترة السابقة لعهد ابن باديس وأشرنا إليها أيضاً في عهده، ومن ثم فإن تلك اللحظات التاريخية كانت تنتظر شخصية كشخصية ابن باديس تقوم بدور ثوري، يعبر عما يختلج في النفوس من قلق وأمل، ويضيء الطريق أمام الحائرين، ويجمع الشتات، ويوجه الطاقات، ويحيي الشخصية الإسلامية التي أتاها البلاء من كل مكان، وأصابها القرح، وتكالبت عليها ذئاب الغرب، وهكذا جاءت الأيام بالمولود الجديد، منقذ الأمة وقائدها لصنع مصيرها، وخلق تاريخها. ترجمته: ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في سنة 1308هـ (ديسمبر 1889) (1) فكان الولد البكر لأبويه، وأسرته أسرة قسنطينية مشهورة بالعلم والثراء والجاه، وكانت منذ القدم ذات نفوذ، ومسيرة للسياسة والحكم في المغرب الإسلامي، ونبغ من هذه الأسرة شخصيات تاريخية لامعة منها بلكين بن زيري والمعز بن باديس (2) الذي كان يفتخر به الشيخ عبد الحميد ولا عجب في ذلك فهو بمثابة خليفة له في مقاومة البدع والضلال إذ كان جده يناضل الاسماعيلية الباطنية، وبدع الشيعة في إفريقية، ومن أسلافه المتأخرين

_ (1) ورد في الإعلام للزركلي ج 4 ص 60 أنه ولد في سنة 1305 - 1887 وهو غير صحيح وهذا نفسه ورد في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ج 5 ص 105. (2) لقبه المعز لدين الله بأبي الفتوح، وسيف العزيز بالله وسماه يوسف توفي في 21 ذي الحجة سنة 373هـ (984 م) وكانت ولايته من سنة 362 - 373هـ (972 - 984)

قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس أحميده بن باديس ومكي بن باديس القاضي بها أيضاً. وأمه من أسرة مشهورة في قسنطينة كذلك هي أسرة "عبد الجليل" تدعى "زهيرة " بن جلول (لقب) بنت علي بن جلول. وأبوه عضو في المجلس الجزائري الأعلى والمجلس العام (1) كما هو عضو في المجلس ..... منزل الشيخ عبد الحميد بن باديس، ويقع في زنقة جورج كنستن رقم 8، بنهج السادس والعشرين دولينيو- قسنطينة .....

_ (1) 406 - 453 أو 454هـ واستقبل بالأمر سنة 417هـ

العمالي. وعرف دائماً بدفاعه عن مطالب السكان المسلمين بالعمالة القسنطينة (1) وأسرته كانت تنتمي إلى الطريقة القادرية. حفظ ابن باديس القرآن على الشيخ محمد المداسي، وأتم حفظه في السنة الثالثة عشرة من عمره، ومن شدة إعجاب المؤدب بذكائه وسيرته الطيبة قدمه ليصلِّي بالناس صلاة التراويح ثلاث سنوات متتابعة في الجامع الكبير (2) وفي سنة 1903 أدخل الشاب في طور جديد من أطوار دراسته فخيره والده بين أن يسلك طريق أجداده أو طريقاً آخر، فاختار طريق سلفه وهو طريق العلم والجهاد فانتخب له أبوه أحد الشيوخ الصالحين من دوي المعارف الإسلامية والعربية وهو الشيخ أحمد أبو حمدان لونيسي الذي كان منتمياً إلى الطريقة التيجانية سالكاً منهجهاً فأخذ يعلمه بجامع سيدي محمد النجار (3) مبادىء العربية والمعارف الإسلامية ويوجهه وجهة علمية أخلاقية. وكان ابن باديس يعترف له بالفضل، وبما كان له من تأثير في نفسه، ثم هاجر حمدان لونيسي إلى المدينة المنورة متبرماً من الاستعمار الفرنسي، وسلطته، مجاوراً، بها، مدرساً للحديث إلى أن توفاه الله. وحين عزم على الهجرة تعلل لدى السلطات الإستعمارية بأنه يسافر لمعالجة بصره، رغب ابن باديس أن يسافر معه ولكن أباه منعه وصرفه عن ذلك. وحين بلغ الخامسة عشر من عمره (1904) زوَّجه والده وأنجب ولداً اسماه عبده اسماعيل توفي وعمره سبعة عشر

_ (1) Conseil supérieur de l'Algérie et Conseil général, voir La Naissance du Nationalisme Algérien,, Par André Nouchi, P. 64. (2) ن. م. ن. ص. مجلة إفريقيا الشمالية (نشأه ابن باديس لمحمد الصالح رمضان العدد 4 السنة الأولى ماي 1949 ص43). (3) واقع بجنب جامع سيدي عبد المؤمن بقسطنطينة.

عاماً (1) وهذا الإسم له دلاله، لأن هذا الإبن ولد تقريباً في السنة التي توفي فيها محمد عبده، أو في التي بعدها، والشيخ محمد عبده زار الجزائر العاصمة ومدينة قسنطينة سنة 1903 وعمر ابن باديس أربعة عشر عاماً فمن الممكن أن يكون قد اتصل به أو سمع عنه، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار تردد ابن باديس الشاب على الجامع الكبير، وإمامته بالناس في صلاة التراويح، وهو المسجد الذي زاره محمد عبده في قسنطينة. ثم جاء دور الرحلة في حياة الشاب فسافر إلى مدينة تونس في سنة 1908 وسنه إذ ذاك تسعة عشر عاماً وانتسب إلى جامع الزيتونة، وعرف في دراسته بالجد والنشاط، فأخذ يتلقى الثقافة الإسلامية العربية، ويأخذ عن جماعة من أكابر علماء الزيتونة أمثال العلامة المفكر الصدر محمد النخلي القيرواني المتوفى في رجب سنة 1342هـ (1924م) وكان قد قرظ الرسالة التي ألفها عبد الحميد بن باديس في الرد على بن عليوة الصوفي (2) والشيخ محمد الطاهر بن عاشور (3) الذي كان له تأثير

_ (1) مدفون بجوار أبيه توفي في 15رمضان 1337هـ كما هو مكتوب على قبره. (2) إسم الرسالة: جواب سؤال عن سوء مقال أتم تأليفها في 27 ذي الحجة عام 1340 بها 20ص طبعت بالمطبعة الإسلامية الجزائرية بقسنطينة دون تاريخ. تقريظ النخلي يوجد في ص21 وهو أول تقريظ ورد إليه مؤرخ ب 5 صفر سنة 1334هـ. (3) ولد بتونس سنة 1296 هـ (1879) تولى منصب قاضي القضاة سنة 1351هـ (1931م) ومشيخة الجامع الأعظم فرفع من شأن الجامعة الزيتونية وأقام بها نهضة علمية استفادت منها كثير من البلدان الإفريقية وهو عضو بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وبالمجمع العلمي بدمشق أنظر كتابه: "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية سنة 1964 طي الغلاف الداخلي له كثير من المؤلفات والدراسات العربية والإسلامية.

كبير في تكوين عبد الحميد بن باديس اللغوي وفي الشغف بالأدب العربي والإعتزاز به. وقرظ بدوره رسالته المذكورة (1) ومن أساتذته الشيخ الخضر بن الحسين الجزائري الأصل (2) الذي درس بجامع الزيتونة وحضر عليه عبد الحميد دروساً في المنطق من كتاب "التهذيب" للسعد بجامع الزيتونة، كما أخذ عنه دروساً في التفسير في أوائل كتاب البيضاوي بدار الأستاذ: شارع باب منارة تونس (3) ومنهم أبو محمد بلحسن إبن الشيخ المفتي محمد النجار الذي تولى الإفتاء سنة 1342هـ (4) وهو من بين الذين قرظوا رسالته أيضاً، ومنهم محمد الصادق النيفر وسعد العياض السطايفي المصلح المجدد، ومحمد بن القاضي، والبشير صفر المؤرخ المجدد، وغيرهم كثير. وتخرج بشهادة التطويع في سنة 1911 - 1912 وعمره ثلاث وعشرون سنة وعلم سنة واحدة في جامع الزيتونة على عادة المتخرجين في ذلك الوقت. ولا شك فإن البيئة الثقافية والإجتماعية التي احتك بها، والعلاقات التي كانت له مع بعض العلماء أثرت في تكوينه وشخصيته، واتجاهه العقلي، وأكثر ما كان اتصاله قوياً وعميقاً ومؤثراً إنما كان بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النخلي، اللذين يعتبران زعيمي النهضة الفكرية والعلمية والإصلاحية في الحاضرة التونسية لأنهما كانا من أنصار أفكار جمال الدين ومحمد عبده الإصلاحية، ويذكر لنا الشيخ عبد الحميد بن باديس، أن الشيوخ الجامدين كانوا ينفرونه من الاتصال بهما، وبقي

_ (1) أنظر الرسالة ص 23 وهي ضمن الجزء الثاني من هذا الكتاب في قسم "الإصلاح والثورة ضد البدع". (2) أصله من طولقة جنوب الجزائر بعد مدينة بسكرة. (3) أنظر مقال "أولو الأمر" لعبد الحميد ج 8 م 15 ص 2. (4) شجرة النور الزكية ص 429.

عوامل تكون شخصيته

بعيداً عنهما تحت تأثير التقليد إلى أن أتيحت فرصة الإتصال بمحمد الطاهر بن عاشور أولاً، ثم مهَّد له فتعرف على محمد النخلي وتأثر به، وذلك في الفترة الأخيرة من دراسته العليا (1). عوامل تكون شخصيته: مما تقدم تبين لنا العناصر الأساسية التي أدت إلى تكوين شخصية عبد الحميد بن باديس وقد أكد لنا في كلمة قالها بمناسبة ختمه القرآن (2) هذه العوامل: العامل الأول في تكوينه من الناحية العملية والعلمية وتوجيهه ذاك التوجيه يعود إلى أسرته، وخصوصاً أباه الذي رباه ووجهه وجهة أخلاقية وعلمية وحماه من المكاره صغيراً وكبيراً على حدِّ تعبيره، وكان أبوه من ذوي الفضل والخلق الإسلامي ومن حملة القرآن الكريم ولا يخفى ما لتأثير الأسرة في شخصية الطفل من أهمية بالغة. والعامل الثاني يرجع إلى بيئة الدراسة وتأثير المربين من المعلمين والشيوخ الذين نموا إستعداده وتعهدوه بالتوجيه والتكوين، وابن باديس يطيب له أن يذكر لنا فضل أساتذته عليه، في تخطيط مناهج العمل في الحياة قال: "وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العملية ... حمدان لونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور رحمهما الله (3).

_ (1) اتصل بالشيخ الطاهر بن عاشور مدة ثلاث سنوات وبالشيخ محمد النخلي مدة سنتين دراسة عليهما. (2) يجدها القارىء في آخر تفسيره بهذ الكتاب ج 1. (3) ج 4 م 14 ص 288 - 291 غرة جمادى الأولى- وربيع الثاني 1357هـ جوان- جويلية 1937 والنص قد أشرنا إلى موضع وجوده آنفاً في هذا السفر.

وله مع كل من هذين المربيين واقعة هي التي جعلته يتجه اتجاهاً معيناً سواء من الناحية العملية أو النظرية وهذا حديثه عن تينك الواقعتين قال: "وإني لأذكر للأول (حمدان لونيسي) وصية أوصاني بها، وعهداً عهد به إليَّ. وأذكر أثر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله، فأجدني مديناً لهذا الرجل بمنَّة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد عليَّ أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت، ولا أتخذ علمي مطية لها، كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت. وأذكر للثاني (محمد النخلي) كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية، وذلك أني كنت متبرماً بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله فذاكرت يوماً الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: "إجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الأراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح، وتستريح .. فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد له بها" (1) فهذا النص في غاية الأهمية من حيث دلالته على مدى تأثره في تكوينه بهذين الأستاذين، ومن الأساتذة الذين أثروا فيه وكونوا جانباً من أهم جوانبه، وهو جانب الأدب وتذوق الآثار الفنية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور زميل الأستاذ النخلي في نسبتهما إلى البدعة والضلال اللذين كانا يوصفان بهما لأنهما يناضلان عن آراء محمد عبده وينشرانها في صفوف طلابهم، يقول ابن باديس "وإن أنس فلا أنسى دروساً قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور

_ (1) ن. م.

وكانت أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب وبثت فيَّ روحاً جديداً في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعزِّ العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام" (1). ولم ينس الشيخ عبد الحميد رحمه الله أن يبين لنا عاملاً آخر من أهم العوامل وهو الشعب الجزائري، وما ينطوي عليه من أصول الكمال، واستعدادات عظيمة للخير، وهو ما عمل على تنميته والنضال من أجل تغليبه على جوانب النقص وعوامل السكون، كما سبق أن لوحنا إلى ذلك. ويصف الأمة الجزائرية بأنها أمة معوانة على الخير منطوية على استعدادات الكمال وأنها ذات نسب عريق في المحامد والفضائل (2) ثم يبين عاملاً آخر وهم زملاؤه من العلماء الأفاضل الذين ساعدوه منذ فجر النهضة وشدوا ساعده فورى بهم زناده، وسطع نجمه أمثال الشهيد الشيخ العربي التبسي (3) والشيخ البشير الإبراهيمي (4) والشيخ العقبي في أول أمره والشيخ مبارك الميلي وغيرهم. والعامل الأخير الذي يفوق جميع العوامل الأخرى والذي كرَّس له ربع قرن من حياته، هو القرآن الكريم الذي صاغ نفسه، وهزَّ كيانه، واستولى على قلبه فاستوحاه في منهجه طوال حياته، وترسم خطاه في دعوته، وناجاه ليله ونهاره يستلهمه ويسترشده، ويتأمله فيعبُّ منه ويستمدُّ علاج أمراض القلوب، وأدواء النفوس، ويذيب نفسه،

_ (1) البصائر السنة الأولى العدد 16 الجزائر الجمعة 2 صفر 1355 - 24 افريل 1936. (2) ن. م. (3) اختطفه المستعمرون الفرنسيون في مارس 1957 أثناء الثورة وغاب عن الوجود من ذلك التاريخ رحمه الله. (4) توفي في 19 ماي 1965م.

ويبيد جسمه الهزيل في سبيل إرجاع الأمة الجزائرية إلى الحقيقة القرآنية ومنبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري. وكان همه أن يكوِّن رجالاً قرآنيين يوجهون التاريخ ويغيرون الأمة، ولذلك فإنه جعل القرآن قاعدة أساسية ترتكز عليها تربيته وتعليمه للجيل قال: "فإننا - والحمد لله- نربِّي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم ... " (1). ولما رجع الشيخ من تونس عاد شعلة من الحماسة وشهاباً وارياً من الدين، فقصد الجامع الكبير وأخذ في إلقاء الدروس وابتدأ بتدريس كتاب الشفاء للقاضي عياض، ولكن المكائد حيكت له، فعمل أعداؤه على إقلاقه ومنعه وأطفأوا عليه الضوء وهو في الدرس فقرر السفر للحج إلى بيت الله الحرام وللقاء شيخه حمدان لونيسي، فاستأذن أباه وسافر وأتيح له أن يتصل في رحلته هذه بأطراف من العالم الإسلامي في المشرق وبجماعة من المفكرين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ومن الأعمال التي سجلها في الأراضي المقدسة أنه قام بإلقاء درس في الحرم النبوي على مشهد كثير من المسلمين وبحضور شيخه حمدان لونيسي، وعند رجوعه من مهبط الوحي، سلم له حمدان لونيسي رسالة إلى الشيخ بخيت (2) العالم الأزهري المصري زميل الشيخ محمد عبده والمدافع عنه، فاتصل به في منزله بحلوان، ولما بين له أنه مرسل من طرف أستاذه قال له معظماً إياه: "ذاك رجل عظيم! " وحينما توفي ترجم له

_ (1) ن. م. (2) ولد بقرية المطايعة بمحافظة أسيوط بعد أن حفظ القرآن أرسل إلى الأزهر سنة 1282هـ فدرس الفقه الحنفي والفلسفة على الشيخ حسن الطويل وعلى جمال الدين الأفغانى، نال شهادة العالمية سنة 1292 وتقلب في مناصب كبيرة إلى أن عين مفتياً للديار المصرية في 31 دسمبر 1914 له مكتبة عظيمة (8000 مجلد) توفي في سنة 1935.

عبد الحميد بن باديس في مجلة الشهاب (1) وكان قد أجازه. ومرَّ كذلك على الشام (دمشق ولبنان) وهكذا فإن ابن باديس أتم دراسته بالرحلة في البلاد الإسلامية ومحادثة العلماء وهو ما يعتبر من شروط العالم المتمكن من التقاليد العلمية، والمناهج التربوية الإسلامية، وبالطبع فإن هذه الرحلة أطلعته على الأوضاع الإجتماعية والسياسية والثقافية، وفيها خبر أحوال الناس مما وسع أفقه وبصَّره بطريق الخلاص والثورة الفكرية التي تعتمد على التربية في تكوين القادة من النخبة أو الصفوة المبدعة. ولما نزل قسنطينة سنة 1332هـ (1913) شرع في العمل التربوي (2) وأخذ يعلم صغار الصبيان الذين يقرأون القرآن في الكتاتيب وخصوصاً كتاب سيدي فتح الله. وحوالي سنة 1922م تبلورت في الأوساط الإصلاحية فكرتان تختلفان في المنهج، وتتفقان في الهدف، الفكرة الأولى ترى أن السبيل هو توجيه الطاقات والجهود نحو ناحية التربية والتعليم وتكوين نخبة من الدعاة مدربة على مناهج الدعوة، مسلحة بالعلم والمعرفة، مطلعة على أصول الدين وعقائده، وكان من أصحاب هذه الفكرة في ذلك الوقت الشيخ البشير الإبراهيمي (3) وكان الرأي الثاني يقوم على أساس

_ (1) ش: ج 11 م 11 ص 606 - 607 غرة ذي القعدة 1354هـ - فيفري 1936م. (2) قمت بمحاضرة عالجت فيها عمله التربوي بقاعة المحاضرات الجامعية في 16 أفريل 1966 بالجزائر. (3) مقال للشيخ البشير الإبراهيمي في"سجل مؤتمر جمعية العلماء قسنطينة (1935) ص 43 رجع الإبراهيمي إلى الجزائر من الحجاز حوالي 1920 بعد ما مكث فيه سنوات فدرس في المدينة المنورة على الشيخ حسين بن أحمد الفيض آبادي الهندي صحيح مسلم ودرس >>>

ثوري عنيف يزلزل سلطان البدع المستحكمة، ويهدم العادات المتمكنة، وهذا الرأي يمثله الشيخ عبد الحميد بن باديس ونخبة من الشبان وهكذا رجح الرأي الثاني ودخل في مرحلة التطبيق العملي، فأسس عبد الحميد جريدة "المنتقد" التي يبين اسمها عن معنى النقد الذي كانت تخشاه أرباب الطرقية وتقاومه في مناهج تربيتها للمريدين وللجمهور بتلك العبارة المعروفة "إعتقد ولا تنتقد" وأول مقال في الصفحة الأولى عنوانه: خطتنا: مبادئنا وغايتنا وشعارنا "افتتح بهذه العبارة": " باسم الله ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون ... " (1). ثم تأتي ثلاثة عناوين أخرى: 1 - مبدؤنا السياسي. 2 - مبدؤنا التهذيبي. 3 - مبدؤنا الانتقادي. ومما جاء في مبدأ النقد أنه لا يتعرض للأشخاص، فيما يختص بأحوالهم الشخصية وإنما يتوجه إلى سلوكهم، الذي يمس شؤون الأمة وعدَّد مَن يتعرض للنقد، وبين أصنافه من الطبقات الإجتماعية فقال: " فننقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من

_ <<< على الشيخ الوزير التونسي كتاب الموطأ للإمام مالك كما درس في مصر لمدة ثلاثة أشهر وجالس العلماء والأدباء والشعراء أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ يوسف الدجوى، والشيخ سليم البشري وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ... أنظر مقال "محمد البشير الإبراهيمي في ذمة الله" في المجلة: سجل الثقافة الرفيعة، السنة التاسعة العدد 106 اكتوبر 1965 ص 94. (1) المنتقد العدد الأول ص 1

يتولى شأناً عاماً من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين، وننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه، والتنديد بظالمه كائناً من كان، لأننا ننظر من الناس إلى أعمالهم، لا إلى أقدارهم، فإذا قمنا بالواجب فلأشخاصهم منَّا كل احترام" (1) والتزم صاحب المقال بأن يكون النقد هادفاً إلى الحقيقة المجردة، صادقاً، مخلصاً، نزيهاً وبأن يكون الكلام الذي يؤديه نظيفاً. وشعار هذه الجريدة شعار جريء خصوصاً في تلك الفترة العسيرة التي أبغض ما كان فيها للإستعمار الفرنسي كلمة "الحق" وكلمة "الوطن" وهما الكلمتان الأساسيتان في الشعار: "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء" والحقيقة أن صدور مثل هذه الصحيفة في مثل تلك اللهجة الصريحة الصادقة العنيفة لتعتبر مغامرة في ذلك العهد القاسي المظلم. والطريف أنه مهَّد لهذا الشعار بعبارة غير رسمية عنده وهي: "سعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديمقراطية" وجاء بعدها مباشرة ما يلي: "صارخين دائماً بشعارنا الرسمي" ثم ذكر الشعار المتقدم فالعبارات دقيقة في هذا المقال دقة متناهية. ولما كان هذا العدد صادراً في وقت كانت فيه الثورة الريفية التي قام بها الأمير عبد الكريم الخطابي على قدم وساق فإننا وجدنا كلمة في الصفحة الثانية تحت عنوان: "الحرب الريفية" ومما جاء فيها: "وهو (عبد الكريم) في الحقيقة صاحب الحق الشرعي، في أرض الريف" (2)، وكتب الشيخ محمد النجار الحركاتي مقالاً في الصفحة الثانية تحت عنوان "حسن التعليم على أساس كل تقدم" (3) كما نقل فيه مقالاً لمنصور فهمي المصري

_ (1) ن. م. ن. ص. (2) ن. م. ص 2 ع 2. (3) ن. م. ن. ص. ع. ع.

عنوانه "الكرامة" (1) وبه قصيدة بعنوان: "حديث الأدب وروضة الشعر، من المنتقد إلى الشعب المقدس" مطلعها: أتيتك بالبشرى تهيا لاقبال ... وكبر على التشريق تكبير إجلال بإمضاء: "شاعر المنتقد" (2) ويحمل هذا العدد إعلاناً بإنشاء مطبعة جزائرية إسلامية للشعب الجزائري وأن المؤسس لها نخبة من الشبيبة الجزائرية لنشر العلم والعربية وفن الطباعة بين أبناء الوطن (3) ولكن "المنتقد" لسان الفكر الثوري المعبر عن إرادة التغيبر، لم يلبث أن توقف (4) ومنعته الحكومة الفرنسية. ومن الإتفاقات الغربية أنه صودر بعد ثمانية عشر عدداً منه كما وقع ذلك للعروة الوثقى التي صودرت بعد صدور ثمانية عشر عدداً أيضاً. والواقع أن الجريدتين تتشابهان في اللهجة الثورية، وتوجيه النقد للأوضاع الإجتماعية والسياسية ويصدران عن روح واحدة وإرادة قوية، وحماسة يقظة تؤدي رسالة اليقظة والوعي، ولا نستطيع أن نقارن بينهما مقارنة كاملة لأننا لا نملك جميع أعداد "المنتقد" ولم نطلع إلا على بعضها. ولم تتوقف الحركة باستشهاد "المتنقد" بل استمرت وأصدر الشيخ جريدة "الشهاب" التي تعتبر خلفاً له، وجاء في العدد الواحد والثلاثين (5) مقال للشيخ الشهيد العربي التبسي عنوانه: "أزفت

_ (1) ن. م. ص 3 ع 1 و2 و3. (2) وهو الشاعر العربي الأصيل الهادي السنوسي الزاهري نظمها بطلب من الشيخ عبد الحميد يبين فيها برنامج المنتقد ومنهجه. (3) ن. م. ص4 ومديرها ابن القشي خليل بن محمد وشعارها النظام والإتقان. (4) يبدو أنه توقف في شهر نوفمبر 1925. (5) بتاريخ الخميس 6 ذي القعدة 1344هـ 17 جوان 1926م.

ساعة الجماعة وتصرم عصر الفرد" وذُكِر فيه أنه آخر الأعداد للسنة الأولى منه وأنه "والمنتقد" (صنوان أنشئا على مبدأ واحد، ولغاية واحدة، قضت طوارق الزمن على أحدهما فخلفه الآخر) (1) وفي العدد 75 منه مقدمة للتفسير الذي كتبه المرحوم عمر راسم الصنهاجي يوم كان في السجن سنة 1916 (2) وفي العدد 128 مسابقة في كتابة مقال في موضوع "كيف يكون إصلاحنا"، دعا إليها الكاتب السيد شلابي عبد القادر من مدينة تلمسان وكانت الجائزة المخصصة للفائز مبلغ مائتي ألف فرنك (200000ف) أو (2000 د) ونال الجائزة كاتب اسمه (ابن آدم) من أبناء حواء بلا شك!! (3) ونشر هذا المقال الذي نال الجائزة بالعدد الموالي (4) وبالعدد الأربعين مقال عن الوهابية (5) وفي العدد 164 (6) مقال عنوانه: "الدعوة الإصلاحية هنا وهناك" يتحدث فيه صاحبه عن الدعوة الوهابية ونقل فيه أيضاً مقال عن مجلة المنار، ورسالة عبد الوهاب النجدي إلى عبد الله الصنعاني. وبصفة عامة فإن "الشهاب" ومن قبله "المنتقد" يمثلان لسان الشباب الناهض بالوطن الجزائري واستمر "الشهاب" في صورة جريدة إلى غاية رمضان 1347 هـ فيفري 1929م وفي هذه السنة تحول إلى مجلة شهرية علمية تبحث في كل ما من شأنه أن "يرقي المسلم الجزائري" ومبدؤها في الإصلاح

_ (1) ص 5 ع 2. (2) ص 7. (3) صدر العدد 128 في 5 رجب 1346هـ 29 ديسمبر 1927م (4) عدد 129 صدر في 12 رجب 1346 هـ 5 جانفى 1928م (5) صدر العدد 4 الخميس 12 محرم 1345 - 22 جويلية 1926 والمقال المذكور في ص 2، ع،32 (6) صدر في 6 ربيع الثاني 1347هـ 20 سبتمبر 1928.

الديني والدنيوي هو: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) (1) و: (الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات) وكُتِب هذا على غلاف المجلة، كما كتب على أركانها الأربعة أربع كلمات: (الحرية، العدالة، الأخوة، السلام)، وكُتِب في أعلى الصفحة الأولى آيتان قرآنيتان هما: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) وَ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3). ورد في أول مقال له (تستطيع الظروف تكييفنا ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا) ونلاحظ أن هناك مبدأ من هذه المبادىء طرأ عليه تغيير وتطور بسبب المؤتمر الإسلامي الجزائري، واليأس من وعود فرنسا والجبهة الشعبية بصفة خاصة وهو "الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات" فأصبح مكانه شعار آخر يؤمن بأن الحقوق لا تعطى وإنما تؤخذ غلاباً: "لنعول على أنفسنا ولنتكل على الله (4) وكان هذا التغيير في سنة 1356هـ 1937م (5) وصمدت المجلة تؤدي رسالتها مصدرة في الغالب بتفسير آيات من

_ (1) قول ينسب إلى الإمام مالك أنظر كتابه الموطأ. (2) 12/ 108 يوسف. (3) 16/ 125 النحل. أنظر مثلا ج 11 م 6. (4) جاء في ج 9 م 13 ص 406 (فإزاء هذا رأينا أن من الواجب علينا أن نعلن لشعبنا أن لا نعتمد إلا على أنفسنا ونتكل على الله). (5) أنظر ج8 م13

القرآن الكريم، وبشرح بعض الأحاديث إلى آخر عدد منها الصادر في شعبان 1358هـ سبتمبر 1939م (1). وخلال هذه المدة التي كانت تصدر فيها مجلة "الشهاب" كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (2) تقوم بنشاط صحفي، يتمثل في جرائد أسبوعية فتأسست صحيفة: "السنة" في يوم الاثنين 8 ذي الحجة 1351هـ (1933 م) ثم منعتها الحكومة الفرنسية، وآخر عدد منها صدر في 10 ربيع الأول 1352هـ 3 جويلية 1933م فخلفتها جريدة "الشريعة" بتاريخ 24 ربيع الأول 1352هـ 17 جويلية 1933م ولم تلبث أن صودرت وصدر آخر عدد منها في 7 جمادى الأولى 1352هـ 28 أوت 1933م وخلفتها صحيفة أخرى سميت بـ: "الصراط" الصادرة بتاريخ يوم الإثنين 21 جمادى الأولى 1352هـ 11 سبتمبر 1933م فأصابها بعد مدة ما أصاب أخواتها من قبل، فلقيت حتفها. وصدر العدد الأخير منها في 22 رمضان 1352هـ جانفي 1934م وبعد هذا أسست جمعية العلماء جريدة أخرى تسمى: "البصائر" وصدر أول أعدادها في يوم الجمعة 1 شوال 1354هـ 27 ديسمبر 1935م ثم انقطعت سلسلتها الأولى عند اقتراب الحرب العالمية الثانية وظهرت سلسة ثانية بتاريخ يوم الجمعة 7 رمضان 1366هـ 25 جويلية 1947م (3) واستمرت إلى أن توقفت أثناء الثورة الكبرى ثورة أول

_ (1) لم نعثر منه إلا على الملزمة الأولى أثناء زيارتنا لقسنطينة سنة 1386هـ 1966م ويبدو أنه لم يطبع من العدد الأخير إلا ملزمة واحدة ولم تكن مجلة الشهاب تابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. (2) تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين 5 ماي 1932 برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس. (3) بالعدد الأول مقال للأستاذ الإبراهيمي عنوانه "استهلال" وقصيدة للشيخ أحمد بن سحنون بعنوان: "البصائر تتكلم" مطلعه: >>>

نوفمبر سنة 1954م وذلك في 6 افريل سنة 1956م. ومن هنا تتبين لنا حقيقة من الضروري أن نصرح بها وهي أن الشيخ عبد الحميد بن باديس يجمع بين النهضة الثقافية الإجتماعية، وبين النهضة السياسية، بين التربية الإسلامية وبين الصحافة، ومما يؤكد لنا هذه الحقيقة أنه صرح في محاضرة ألقاها في تونس في ذكرى البشير صفر فقال: "لا بدَّ لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بحق" (1). فاتخذ النشاط الصحفي وسيلة للسياسة وللتهذيب، كما اتخذ المؤسسات التربوية للتعليم والتربية، وتكوين القادة، وبث الوعي، والواقع أننا لا نستطيع أن نفصل بين نشاطه العلمي والسياسي فهما متداخلان متكاملان في نظره وعمله. وفكرة المؤتمر الإسلامي الجزائري هو الذي دعا إليها واقترحها وبثها على صفحات جريدة "الدفاع" La Défense التي كان يصدرها الأمين العمودي باللغة الفرنسية (2) وفي أوائل سنة 1940م قبل وفاته كان قد صرح في اجتماع خاص مقسماً فقال: (والله لو وجدت عشرة

_ <<< طال صمتي تحت أعباء ثقال ... وعوادٍ أخرست كلَّ مقال ويلاحظ أنه حذفت الآية التي كانت في السلسلة الأولى شعاراً لها وهى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) 104/ 6 (الانعام) وحذفها كان في أواخر السلسلة الأولى. (1) أنظر البصائر ع 71 من السنة الثانية من السلسلة الأولى الصادر في 9 ربيع الثاني 1356هـ- 18 جوان 1937 م ص 4. (2) جريدة الدفاع La Défense العدد الثاني جانفي 1936 أنظر مقال (مع عبد الحميد بن باديس في ذكراه للأستاذ حمزة بوكوشة في مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة الأوقاف الجزائرية العدد 20 ذو الحجة 1383 أفريل 1964 ص 18 ثم تغير إسم هذه المجلة وأصبحت تسمى "القبس" صدر العدد الأول منها في ذي القعدة 1385 ومارس 1966م

من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها) (1) وكان يرمي من وراء ثورته وعمله إلى تحقيق الإستقلال فبمناسبة رجوع رئيس حزب الشعب "مصالي" من باريس وإعلانه طلب الإستقلال التام سنة 1936م كان جماعة من أنصار حركته جالسين معه فقال: (وهل يمكن لمن شرع في تشييد منزل أن يتركه بدون سقف، وما غايتنا من عملنا إلا تحقيق الإستقلال) (3) وحينما حمي وطيس الحرب العالمية الثانية إجتمع به جماعة من أنصار حركته ومريديه فقال: "عاهدوني". فلما أعطي له العهد بالمصافحة قال: "إني سأعلن الثورة على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا الحرب" (3) وروى تلميذ آخر من تلامذته أنه كان يريد الخروج على فرنسا إلى جبال أوراس ليعلنها ثورة على فرنسا لو وجد رجالاً يساعدونه (4) وأكثر من ذلك فإنه أعلن رأيه في الإستقلال وتنبأ به في رده على أحد "الزعماء" الذين تنكروا لوجود الأمة الجزائرية والوطن الجزائري وتاريخه، واختاروا لأنفسهم الوطنية الفرنسية واتحدوا مع الوجود الفرنسي، ولم يتحرج ولم يخش الحديث عن الإستقلال فقال: "إن الإستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم، والمنعة والحضارة، ولسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله، ويقولون إن حالة الجزائر

_ (1) في سهرة في بيته بمبنى جمعية التربية والتعليم الإسلامية بحضور الأستاذ علي مرحوم وعبد الحفيظ جنان. (2) روى هذه الكلمة الأستاذ المعاصر للحركة: علي مرحوم. (3) اجتمع به الأستاذ محمد الصادق الجندلي إمام ووكيل ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر والشيخ حمزة بوكوشة أنظر مقال الأخير في المعرفة المصدر السابق ذكره. (4) قال ذلك في محاضرة بمناسبة ذكرى الشيخ عبد الحميد بن باديس (25) بقاعة ابن خلدون سنة 1385 - 1965م والمحاضر هو الشيخ أحمد حماني

جوانب شخصية ابن باديس

الحاضرة ستدوم إلى الأبد، فكلما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنها تزداد تقلباً مع التاريخ، وليس من العسير بل إنه من الممكن، أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي، وتتغير فيه السياسة الإستعمارية عامة والفرنسية خاصة ... وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة إستقلالاً واسعاً، تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحرِّ على الحر" (1). والواقع أن هذا المقال الذي عنوانه: "حول كلمتنا الصريحة" بمثابة التراجع عن موقفه إزاء من أنكر الكيان الوطني، والوجود الذاتي للشعب الجزائري، في مقال له عنوانه: "كلمة صريحة" وهذه غلطة تاريخية سياسية تعود لأسباب نفسية وشخصية معينة، ولتأثير الشيطان السياسي الذي يستغل طيبة الرجل وأخلاقه، وتسامحه، لأن المؤتمر قد قرب، وحكم الأمة سيصدر، وشهادة الشعب ستؤدى ولكن تمخضت الأيام بمؤتمر خيب الظن، وأفسد المسعى، وتنازل عن رئاسته من أجمعت عليه الأمة، وألح عليه المؤتمرون فكان ما كان، وهذه تضاف إلى تلك والمعصوم من عصم الله. -5 - جوانب شخصية ابن باديس إن شخصية الأستاذ عبد الحميد غنيَّة ومعبرة عن أزمة المجتمع الإسلامي لا تماثلها إلا شخصية جمال الدين الأفغاني في ثرائها، وشمولها، وجرأتها، وتعبيرها عن جميع جوانب المشكلات الإجتماعية، والأخلاقية، والدينية، والعلمية، والسياسية التي يتخبظ فيها العالم

_ (1) ش: ج 3، م 12 ص 145 - 146 ربيع الأول 1355 هـ - جوان 1936

الإسلامي. فعبد الحميد بن باديس مفسر للقرآن تفسيراً سلفياً يراعي فيه مقتضيات العصر معتمداً على بيان القرآن للقرآن، وبيان السنة له، وعلى أصول البيان العربي وسننه، والنفاذ إلى لغة العرب وآدابها، وقوانين النفس البشرية وسنن المجتمع الإنساني، وتطور التاريخ والأمم وهو محدِّث من الطراز العالي لا يستشهد إلا بالأحاديث الصحيحة المسندة إلى الصحاح الست، إلى البخاري أو مسلم أو الموطأ الذي اهتم به واعتبر منهجه في الاستدلال خير المناهج، فدرسه وختمه كما ختم القرآن في ربع قرن. والظاهرة الواضحة في الحياة العلمية التي نهض بها هي: الناحية النقدية المنهجية التي تردُّ الفروع لأصولها، والأصول لمستنداتها، فأذهب ذلك الجوَّ القاتم الساكن المستسلم الذي يسمع فيه الطالب ويسلِّم معتقداً أن "سلِّم تسلم" وأن "سلِّم للرجال على كل حال" مبدأ لا ينبغي تحديه، ولا تجاوزه، وهو ما كان سائداً قبل حركته. وهو كاتب ذو سلاسة وعذوبة وسهولة، وأسلوبه أسلوب سهل ممتنع لا يستعمل السجع، ولا يتكلفه، كيف لا، وهو الدارس لكتاب الأمالي وديوان الحماسة، وديوان المتنبي، ومقدمة ابن خلدون، والعواصم من القواصم، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، ومن قبل ذلك كله، معجزة الأدب العربي، وآية روعته: القرآن، وجمال حديث صاحب جوامع الكلم، وأفصح من نطق من بني يعرب؟ وهو شاعر يفيض الشعر من قلبه، وخطيب ينسيك سحبان وقس، لا يتلعثم ولا يتردد، يستولي على النفوس ويملك العقول. وهو فقيه مطلع على مدارك المذاهب، وخاصة مذهب الإمام مالك، جامع بين الأصول والفروع، وبين المآخذ الكلية وجزئيَّاتها، يفتي ويربط الحوادث بأحكامها، وهو مصلح ديني واجتماعي يحارب التقليد والبدع، ويدعو للنهضة والحضارة، ويغرس الحب وأصول الأخلاق التي هي جوهر المدنية. يقول: "أنا زارع محبة ولكن على أساس من العدل والإنصاف

والإحترام مع كل أحد من أي جنس كان، ومن أي دين كان، فاعملوا للأخوَّة ولكن مع كل من يعمل للأخوَّة، فبذلك تكون الأخوَّة صادقة" (1). وهو صحفي قدير يقضي ليله في إعداد المقالات وقراءة الجرائد والمجلات العربية الآتية من جميع البلاد العربية والإسلامية، والأجنبية المكتوبة باللغة الفرنسية (2) ويعلق عليها ويرد، ويناقش ويكتب في أصول السياسة الإسلامية. وهو مؤرخ يحلل الحضارة، وينقد مقدمة ابن خلدون، ويدرس آيات القرآن وما تنطوي عليه من الدعوة إلى النظر في تجارب الأمم وتطورات الأحداث، وما تخضع له من سنن وقوانين لا تبديل لها ولا تحويل، وهو صوفي زاهد لا كمتصوفة أهل زمانه وزهادهم، متأثر بالغزالي ويسمى كتابه "إحياء علوم الدين" بكتاب الفقه النفسي وبأبي بكر بن العربي الذي نبهه إلى كتابه "العواصم من القواصم" شيخه اللامع محمد النخلي القيرواني فاستنسخه وحققه وطبعه. ويظهر تأثير أبي بكر بن العربي في كتابه "العقائد الإسلامية" الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة ولا منهج المتكلمين وإنما نهج طريق القرآن في الإستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن. يعتقد أن المدارك الإنسانية التي تمتاز بقوة التحليل والتركيب هي التي تجعلها تتغلب على الطبيعة

_ (1) كلمات قالها في حفل اختتام تفسير القرآن للشباب الفتي ولكشافة الرجاء ولجماعة التربية والتعليم الإسلامية في كلية الشعب بقسنطينة مساء الثلاثاء13 ربيع الثاني 1357هـ 1938م أنظر ج7 م 15، ص 346. (2) كان يطالع الصحافة الفرنسية روى الأستاذ محمد الصالح رمضان أنه كان يشتري جريدة لاديبيش دي قسطنطين وقيدت عنه هذا في محاضرة ألقاها في نادي اتحاد الطلبة الجزائريين إحياء لذكراه بتاريخ 24 ذي الحجة 1385 - 16 أفريل 1966 ومع ذلك فإنه لا يتحدث بها

قبره مع صورتي السيدين مرازقة وعمار الطالبي، وهو يقع في حي الشهداء في الروضة الخاصة بأسرته، قرب مقبرة قسنطينة. ــــــــــــــــــــــــــ وتسخرها، وأن الظواهر الإجتماعية تخضع لمبدأ الأسباب والمسببات، وأنه لا ينبغي الوقوف عند مجرد المحسوسات، قال: "وعلَّمنا (الله) ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل من حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل

عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير (1) والجمع بين المشاهدة والعقل هو المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة. إنه شخصية عجيبة، مجدد للنفوس البالية وباعث للضمائر الخامدة، والقلوب الهامدة، باث للعلم، محرك للعقول، مرجع الثقة للناس، زارع بذور الثورة، مشيع فكرة الحرية، مبين المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، فاتكشفت به الغياهب الدكناء وانجابت الغيوم الكثيفة، والضباب العاتم من سماء الجزائر. واستمر يواصل النضال العلمي والإجتماعي والسياسي يعلم، ويرشد ويعظ ويحرر ويتنقل ويتعبد ويتأمل ويحقِّق، لا يهدأ له بال لا بالليل ولا بالنهار، لم يشفق على ..... - صورة - منظر لروضة أسرة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهي واقعة في حي الشهداء (قسنطينة)

_ (1) أنظر تفسير آية 7/ 25 (الفرقان) أنظر مجلة "التهذيب الإسلامى" الصادرة بالجزائر محرم 1385هـ ماي 1965م السنة الأولى العددان 3 و 4 مقال للمؤلف ص 11 - 14 والعددان 9 و 10 ص 75 - 81.

نفسه ولا على جسمه، ولم يبال بصحته في سبيل مبدأ أعظم، وأمة يسوءه حالها، ويدمي نفسه إحتلالها ويدفعه للبذل والسهر مآلها، وآماله وآمالها، أفنى ذاته في سبيل عقيدة، وقضى من أجل رسالة، فجاءه الأجل المحتوم وانتقل للرفيق الأعلى في مساء الثلاثاء 8 ربيع الأول 1359هـ 16 افريل 1940م فتحركت قسنطينة بأكملها لتشييع جنازته، وكان يوماً مشهوداً في ظروف قاسية وأزمة عالمية تمثلها حرب طاحنة ودفن (1) في روضة أسرته بحي الشهداء قرب مقبرة قسنطينة.

_ (1) كتب على قبره ما يلي: س 1 الله اكبر. س 2 هنا يرقد العلامة الجليل الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد. س 3 ابن باديس باعث النهضة العربية في الجزائر وزعيمها المقدام توفي. س 4 مساء الثلاثاء8 ربيع الأول، 16 أفريل سنة 1359هـ/1940م رحمه الله ورضي عنه. شعر يا قبر طبت وطاب فيك عبير ... هل أنت بالضيف العزيز خبير هذا ابن باديسى الإمام المرتضى ... عبد الحميد إلى حماك يصير العالم الفذ الذي لعلومه ... صيت بأطراف البلاد كبير بعث الجزائر بعد طول سباتها ... فالشعب فيها بالحياة بصير وقضى بها خمسين عاما كلها ... خير لكل المسلمين وخير ومضى إليك تحضه بثنائها ... وإليه من بين الرجال تشير عبد الحميد لعل ذكرك خالد ... ولعل نزلك الجنة حرير ولعل غرسك في القرائح ... مثمر ولعل وريك للعقول منير لا ينقضي حزن عليك مجدد ... وأسن له بين الضلوع سعير نم هادئا فالشعب بك راشد ... يختط لهجك في الهدى ويسير لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى ... فالوارثون لما تركت كثير نفحتك من نفحات ربك نفحة ... وسقاك غيث من رضاه عزيز 1959هـ.

مشهد جنازته ــــــــــــــــــــــــــ وبعد: فإني قضيت ما يزيد على ثلاث سنوات في جمع وترتيب آثار ابن باديس مما جعلني أسافر إلى بعض البلاد العربية للعثور على ما لا يوجد في الجزائر مما أتى عليه تخريب القوات الاستعمارية واحراقها لكنوز الفكر الإنساني. حاولت أن أصنِّف هذه الآثار إلى أقسام حسب موضوعاتها، وأغراضها، وإن كان هذا التصنيف غير دقيق لتداخل الموضوعات، والأغراض ومن ثم جاء تصنيفاً تقريبياً. كما أني لا أزعم أنه قد أتيح لي أن أعثر على جميع آثار ابن باديس، لأنه قد أملى إملاءات كثيرة على طلابه، وما تزال مخطوطة أو مبعثرة أو مفقودة وحتى المطبوع من آثاره لم أجمعه كله فإن أغلب أعداد جريدة المنتقد لم أعثر عليها ما عدا ثلاثة أعداد (1، 2، 7)

والظاهرة التي ينبغي التنبيه عليها هي أن الشيخ لا يمضي جميع ما يكتب، ولهذا فإن الباحث يضطر للإجتهاد إعتماداً على أسلوب المؤلف وروحه. وقد أتيح لي أن أطلع على جميع أعداد جريدة "السنة" و "الشريعة" و "الصراط" و "البصائر" وجميع أعداد مجلة "الشهاب" إبتداء من سنة 1929 وعلى أغلب أعداد جريدة الشهاب قبل تحويلها إلى مجلة وكان لا يكتب فيها إلا نادراً. ..... -صورة- من اليسار إلى اليمين: الأستاذ الإبراهيمي، الأستاذ ابن باديس، الأستاذ العقبي ..... وفيما يتعلق بمجلة الشهاب فإني لم أترك في أغلب الظن إلا بعض ما يكتبه في السياسة والتعليق على الأحداث اليومية لصعوبة الإهتداء إلى التفريق بين مقالاته، وبين مقالات غيره، وقد تعرضت لهذا حفاظاً على الأمانة العلمية، كما أني قد تعمدت نقل بعض المقالات التي ليست

لابن باديس وإنما نقلها هو واختارها للنشر، وعلق عليها، فنظراً لتعليقه عليها اخترت ضمها إلى تعليقه ذاك. وتصنيف آثاره وضعناه كما يلي: الجزء الأول يشتمل على قسمين: 1 - تفسير القرآن. 2 - شرح الحديث. والجزء الثاني يشتمل على خمسة عشر قسماً: 1 - إصلاح وثورة ضد البدع. 2 - تربية وتعليم. 3 - سياسة. 4 - إحتجاجات وبرقيات. 5 - إجتماعيات. 6 - خطب. 7 - شعر. 8 - تاريخ. 9 - العرب في القرآن. 10 - تراجم. 11 - القصص الديني والتاريخي. 12 - رحلات. 13 - تطور الشهاب. 14 - الصلاة على النبي. 15 - فقه وفتاوى. وفي الختام نوجه شكرنا لجميع الذين وفروا لنا بعض المصادر، ولم يبخلوا علينا بما لديهم من الوثائق وخاصة فضيلة الشيخ خياري الدراجي والشيخ الفاضل علي شنتير وأخاه فضيلة الشيخ محمد الطاهر شنتير، والله الموفق. الجزائر في يوم الخميس: 9 ربيع الثاني 1386هـ 28 جويلية 1966م عمار الطالبي الأستاذ المساعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة الجزائر

عمل ابن باديس التربوي

عمل ابن باديس التربوي (1) إن شخصية ابن باديس ثرية متعددة الجوانب لا يمكن لنا أن نتناولها من جميع جوانبها في مثل هذا الوقت القصير لذا رأينا أن نتحدث عن جانب واحد من جوانبه وهو ابن باديس المربي. أيها السادة: يمكن القول بأن ابن باديس إتخذ التربية وسيلة للإصلاح الثقافي والإجتماعي والسياسي لأن الأهداف التربوية عنده تشمل ذلك كله وهو ما سنتحدث عنه فيما بعد. لقد عالج المصلحون في أوروبا خلال القرن التاسع عشر مشكلة الإصلاح الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، فذهب بعضهم إلى أن السبب في التدهور يرجع إلى فقدان الحرية السياسية، وانعدام حق التصويت وهم البرلمانيون. وذهبت طائفة أخرى إلى أنه يرجع إلى العوامل الإقتصادية واستغلال الإنسان للإنسان وهم الماركسيون. ورأى المفكرون أمثال تولستوي وبركهارت أن السبب في تدهور الرجل الغربي يعود إلى الفقر الروحي والخلقي، وفرويد كان يعتقد أن المشكلة تعود إلى المبالغة في كبت الغريزة مما ينتج عنه مظاهر شاذة. وكل هؤلاء نظروا للمشكلة من جانب واحد، لأن التعليلات الإجتماعية متشابكة متداخلة، ولا ترجع إلى عامل واحد.

_ (1) محاضرة ألقاها المؤلف مساء السبت 16 أفريل 1966 تحت إشراف وزير التربية الوطنية ومدير التعليم العالي في قاعة المحاضرات الجامعية بالجزائر وقد حذف من هذه المحاضرة الجزء الخاص بترجمته

إن النظرية الجزئية تكون دائماً عقبة في سبيل الإصلاح، وما يصدق على الأسباب يصدق على أنواع العلاج التي يمكن لنا أن نعالج بها أمراض الإنسان الحديث، فإذا قررنا أن سبب المرض عامل إقتصادي، أو روحي، أو نفسي، فإن العلاج ينحصر في تلك الناحية المعينة، وأما إذا نظرنا نظرة متكاملة، وقررنا أن للظواهر المرضية نواحي متعددة، وأسباباً متنوعة، فإن الإصلاح يتناول ميادين التوجيه الأخلاقي، والإقتصادي، والثقافي، والسياسي، والصناعي، أما الإنصراف إلى إصلاح حالة واحدة فإنه لا يؤدي إلى نتيجة، بل يؤدي إلى الهدم والتخريب، فالإصلاح الإقتصادي دون تكوين الضمير الديني والخلقي، يؤدي إلى كوارث، وقد ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ "أريك فروم" في كتابه المجتمع السليم (1). وأما فيما يتعلق بالمصلحين المسلمين المحدثين والمعاصرين، أمثال محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده- ومحمد إقبال وابن باديس فإنهم رأوا أن التدهور الإجتماعي راجع إلى عدم تطبيق الإسلام، وإلى انفصال الإنسان المسلم عن الحقيقة القرآنية، ومعنى ذلك أن السبب ليس واحداً بل هو مجموعة عوامل وأسباب، لأن الحقيقة القرآنية، حقيقة متكاملة تشمل الحياة الأخلاقية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية أو ما يعبر عنه بالدين والدولة أو الدنيا، وليس الإسلام كالمسيحية التي اهتمت اهتماماً بالغاً بالإصلاح الروحي، وأهملت النظام الإجتماعي، وهو ما أراد بعض الناس أن يطبقه على الإسلام أيضاً. والشيخ ابن باديس من المدرسة التي ترى أن الإصلاح الاجتماعي يقوم على أساس أن الأخلاق تنبع من الداخل، وأن الوسيلة هي تطهير

_ (1) ترجمة محمود محمود القاهرة 1960 ص 181

القلوب، وتغيير النفوس، وهذا يؤدي إلى تغيير المؤسسات الإجتماعية. يقول ابن باديس: (إن الذي نوجه إليه الإهتمام الأعظم في تربية أنفسنا، وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر) (1). وهو يعتبر أن العناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس، وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، مستشهداً بقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وهو على خلاف المدرسة الإصلاحية التي ترى أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بتغيير المؤسسات الإجتماعية، باعتبار أن الإنسان صار إلى ما صار إليه، نتيجة للعوامل البيئية، المختلفة. وهو لا يتطرف في هذا، ويرى أن إصلاح المؤسسات الإجتماعية لا بدَّ أن يتساوق وإصلاح النفس وتغييرها، ولكن ينبغي البدء بالإنسان، الأمر الذي تجعله المدرسة الأخرى متأخراً عن المسائل المادية. والوسيلة إلى تغيير الذات الإنسانية وتوجيهها، وإلى تحويل الباطن البشري، الذي هو العامل الأخلاقي الأساسي في كل إصلاح عند ابن باديس، إنما هي التربية. لقد كتب مقالاً تحت عنوان: "صَلاَحُ التَّعْلِيمِ أَسَاسُ الإِصْلَاحِ" يقرر فيه هذه الحقيقة فيقول: "لن يصلح المسلمون إلا إذا صلح علماؤهم، لأنهم بمثابة القلب للأمة، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم "فالتعليم في نظره هو الذي: يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه، ولغيره، ولن يصلح التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله، وموضوعه، في مادته وصورته، فقد صحَّ عن النبي فيما رواه مسلم: "إنما بعثت معلماً" وليس المقصود بالتغيير

_ (1) تفسير آية 84 - 85 من سورة الإسراء.

أهداف التربية عند ابن باديس

الداخلي، وكون النفس هي أساس الإصلاح ذلك التأمل الباطني، والإنقطاع عن الحياة، الأمر الذي يسخر منه الفيلسوف المربي "جون ديوي" في كتابه "تجديد في الفلسفة" فيقول: "وهكذا فبينما كان القديسون مشغولين بالتأمل فيما يجري في نفوسهم، كان الخاطئون المستهترون يتولون تدبير شؤون العالم" (1) لأن طبيعة الفكر الباديسي أو ميزته العقلية أنه يجمع بين الفكر والعمل، بين النظر والتطبيق، وهي ميزة النفوس القوية، وطبيعة المفكرين المؤمنين. وحياته كلها مصْطبغة بهذا الطابع، ونموذج حي له، وقد عبر لنا عن هذه الحقيقة الحية بقوله: "العلم قبل العمل ومن دخل العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال" (2) ويعتبر أنه لا سبيل إلى محو البدع والضلالات إلا بالعلم والعمل، وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة، أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح، ويرى أن المنهج الذي نجح به المسلمون الأولون في تغيير العالم، إنما هو سلوكهم وتطبيقهم الإسلام على أنفسهم وغيرهم في الحياة" (3) وأكثر من ذلك فإنه أدخل الصناعات التطبيقية في منهاج التعليم، وخصوصاً الصناعة اليدوية. والإنقلاب الأساسي الذي حدث في التربية الحديثة هو التوحيد بين التعليم النظري والعمل اليدوي أو التطبيقي، باعتبار أن العمل نشاط قائم على أساس المعرفة وعلى أساس إدراك المرء لما سيعمله (4). أهداف التربية عند ابن باديس: إن أهداف أيِّ تربية تشتق من المجتمع، أعني من فلسفته،

_ (1) ص 317. (2) ج 12 م 8 ص 616 - 618 شعبان 1351 - ديسمبر 1932م (3) ج 7 م 15 ص 332/ 334. (4) أنظر المجتمع السليم ص 232.

ونظرته للحياة، لذا فإن التربية فن يرمي إلى تحقيق القيم التي تعينها فلسفة مجتمع ما من المجتمعات، والتربية من جهة أخرى تعتمد على العلم لاختراع أحسن الوسائل لتحقيق هدفها، فالتربية باعتبارها فلسفة عملية تتصل بالفلسفة وبالعلم في آن واحد، فالفلسفة تحدد الغرض، والعلم يحدد الوسيلة، وهذا العلم هو علم النفس أو علم الطبيعة البشرية (1) وبهذا الاعتبار فإن لكل نظام تربوي مباديء ميتافيزيقية، وأسساً فلسفية يعتمد عليها، وربما تكون الصلة بين فلسفةٍ مَّا ونظامٍ مَّا للتربية غير واضحة، ولكنها موجودة، وبما أن التربية تهدف إلى تكوين مواطنين نافعين في أهداف الجهاز الإجتماعي، وإلى نموِّ الأطفال نمواً إنسانياً كاملاً، كما تهدف إلى مساعدة الطفل، والمراهق، والبالغ، على تكوين شخصيتهم وتكاملها، وتعين الإنسان بما هو إنسان على أن يتسم بما يحقق فيه الطبيعة البشرية في أسمى معانيها، فإن المشكلة الأساسية التي تثار في هذا المجال هي ماذا ينبغي أن يتعلم المرء كي تكتمل شخصيته من النواحي الأخلاقية، والعاطفية، والعقلية، والذوقية الجمالية، والإجتماعية، ثم كيف ينبغي أن نعلِّم أو نتعلم؟ قد يكون هدف التربية قائماً على أساس قيم دينية وأخلاقية أو جمالية ذوقية أو إجتماعية أو مادية. إن ابن باديس يعتبر من المربين الإسلاميين، وهو يستمد أهدافه من أهداف التربية الإسلامية من ناحية، ومن الحالة الإجتماعية التي عليها المجتمع الجزائري من ناحية أخرى، ولذا فإننا نجده أقرب ما يكون إتصالاً بالنظريات التربوية التي وجدت في الحضارة الإسلامية المغربية والمشرقية. فما هي أهداف التربية الإسلامية على العموم؟

_ (1) دراسات في التكامل النفيس للدكتور يوسف مراد القاهرة 1958 ص 257.

يحدِّد بعض الباحثين (1) أهداف التربية الإسلامية في أربعة أغراض: الغرض الديني، والإجتماعي، والإلتذاذ العقلي، والغرض المادي. أو الغرض الديني، والعقلي، والثقافي، والنفعي، على نحو ما تذهب إليه الباحثة أسماء فهمي بالإستناد إلى المصادر الإسلامية في التربية. من أهداف التربية عند ابن باديس كمال الحياة الفردية والإجتماعية فهذا الهدف مزدوج فردي- إجتماعي معاً يقول بهذا الصدد: "إن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علماً وعملاً فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والإجتماعية، والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-، في سيرته الطيبة" (2) ومعنى هذا أنه يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة، والشخصية المتكاملة عنده هي ما اكتملت فيها جوانبها المختلفة: الجانب الأخلاقي والعقلي والعملي والعضوي وهذا ما يذهب إليه المربون المعاصرون. ولا بأس من أن نستشهد بنصٍ له في هذا الصدد يقول: "إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم، وقوة الإرادة، وقوة العمل، فهي أسس الخلق الكريم والسلوك الحميد" (3) "وحياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث: الإرادة، والفكر، والعمل ... وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بدَّ للإنسبان منها، فالعمل متوقف على البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، .. فلهذا كان الإنسان مأموراً

_ (1) خليل طوطم، أنظر التربية في الإسلام لأستاذنا الدكتور أحمد فؤاد الاهوانى القاهرة 1955 م ص 87 - 90 وكتاب التربية والتعليم في الإسلام للدكتور محمد اسعد طلس بيروت 1957 م ص 142. (2) ج 7 م 15 ص 344 رجب 1358 - أوت 1939. (3) ج 6 م 22 ص 346.

بالمحافظة على هذه الثلاثة: عقله وخلقه ودينه، ودفع المضار عنها، فيُثقِّف عقله بالعلم، ويُقوِّم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويُقوِّي بدنه بتنظيم الغذاء، وتَوَقِّي الأذى، والتَّرَيُّض على العمل" (1). ومن هنا فإنه لا يقصد من بناء الفرد الإسلامي والشخصية الإسلامية الناحية الأخلاقية فقط، ولا الناحية المعرفية وحدها، وإنما يرمي إلى بناء الشخصية البشرية في شمولها وكليتها، ووحدتها، من حيث طرق الفكر، والشعور، والعمل، وهذا ما انتهى إليه المربون المعاصرون كما أشرت إلى ذلك، ومن الأهداف إعداد الفرد للحياة بمختلف ميادينها، وهذا متضمن فيما سبق، وإنما نجد ابن باديس يصرح به بوضوح كامل فيقول: "على المربين لأبنائنا وبناتنا، أن يعلموهم ويعلموهن هذه الحقائق الشرعية ليتزودوا وليتزودن بها، وبما يطبعونهم ويطبعونهن عليه من التربية الإسلامية العالية، لميادين الحياة " (2). ومن أهدافه العليا في التربية خدمة الإنسانية، ومساعدة الفرد على النمو في هذا الإتجاه الذي يخترم الإنسانية باختلاف مذاهبها ونزعاتها: "إن خدمة الإنسانية في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه" (3). وبما أنه يتسم بالواقعية فإنه يذكر لنا الوسيلة التي يحقق بها هذا الغرض وذلك أن هذه الخدمة تكون بواسطة لا مباشرة، تكون بواسطة الإسلام أولاً، وبخدمة الوطن ثانياً، لأن الإسلام يحترم الإنسانية في جميع أجناسها، ويقرر المساواة والتراحم والتعاطف بين الناس جميعاً،

_ (1) تفسير آية 62 من سورة الفرقان. (2) ج 1 م 13 ص 5 - 8 - 1352 - 1937م (3) ج 10 م 12 ص 424 - 428 والضمير في "عليه" يعود على خدمة الإنسانية.

ويعتقد أن خدمة الوطن تأتي في الدرجة الأولى، ثم تأتي خدمة الوطن المغربي ثم العربي الإسلامي ثم وطن الإنسانية العام، ولا نستطيع أن نؤدي أية خدمة مثمرة لهذه الأوطان كلها، إلا إذا خدمنا الجزائر ويشبه هذا ببيوت في قرية فبخدمة كل واحد لبيته تصبح القرية سعيدة راقية ومن ضيغ بيته فهو لما سواها أضيع. يقول: "وأنا أشعر بأن كلَّ مقوِّماتي الشخصية مستمدة منه (الوطن) مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة لأنني كلما أردت عملاً وجدتني في حاجة إليه إلى رجاله وماله، وحاله، وآماله، وآلامه" (1). الواقع أن الأهداف التربوية التي يرمي إليها ابن باديس تتفق مع مذهبه في الإصلاح ومع الواقع الإجتماعي، والحضاري للشعب الجزائري، وهذا ما يفسر لنا تعدد الأهداف التربوية عنده، وتنوع المناشط التي يحقق بها هذه الأهداف، التي يمكن أن نحصرها جميعاً، وأن ترتد كلها إلى هدف واحد أساسي وهو النهضة التي تؤدي إلى الحضارة، وأول خطوة في طريق الحضارة إنما هي تكوين الإنسان وربط أفراد المجتمع في شبكة من العلاقات الإجتماعية لتحقيق هدف مشترك (2) وهذا هو عمل التربية الإجتماعية التي خصص لها حياته كلها، والدليل على ذلك هذا النص: "إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله، إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر" (3). فشرط النهضة عنده إنما هو إيجاد هذه الجماعة القائدة المفكرة التي

_ (1) ج 10 م 12 ص 424 - 428 شوال 1355هـ جانفى 1937م. (2) أنظر كتاب "ميلاد مجتمع" لمالك بن نبي. (3) تفسير آية 62 - 63 من سورة النور.

الوسائل- نقده للمناهج التربوية لعهده

تقود المجتمع إلى الحضارة، وعمله التربوي يهدف إلى إعداد هؤلاء الرجال يقول: "فإننا نربي- والحمد لله- تلامذتنا على القرآن، ونوجِّه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوِّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤالاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها" (1). وغرض التربية الوطنية عنده، هو المحافظة على الشخصية الإسلامية العربية بكل مقوماتها بل إثراؤها وتجديدها، ولذا فإننا نجد في القانون الأساسي لجمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أسسها سنة 1349هـ 1930م: إن غرضها من الوجهة التربوية هو تربية أبناء المسلمين وبناتهم تربية إسلامية بالمحافظة على دينهم، ولغتهم، وشخصيتهم، ومن الوجهة التعليمية تثقيف أفكارهم بالعلم، وتعليمهم الصنائع، ومن الوجهة المالية تعويد للأمة على التبرع المنظم، وتوسيع نطاق الجمعية بجعل قيمة الإشتراك فرنكين (2) وهذا مستمد من الحياة الإجتماعية لأنه رأى أن الشخصية الإسلامية مهددة بخطر الذوبان والإنحلال، وبخطر الإنكار والجحود، وعندما اجتمع بجماعة الشباب المتعلمين تعليماً أوروبياً نصحهم بما يلي: "عليكم أن تلتفتوا إلى أمتكم فتنتشلوها ممَّا هي فيه، بما عندكم من علم، وبما اكتسبتم من خبرة، محافظين لها على مقوِّماتها سائرين بها في موكب المدنية " (3). الوسائل- نقده للمناهج التربوية لعهده: تعرض لنقد طرق التدريس في جامع الزيتونة وبين أنها ليست وسيلة

_ (1) ج 4 م 10 ص 352 ربيع الأول 1353هـ جويلية 1934م. (2) نشرة جمعية التربية 1354هـ 1936 م ص1 - 4. (3) ج 8 م 11 ص444، 1354هـ 1935م.

تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره، بل إنما تكوِّن ثقافة لفظية، يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سني الدراسة، ويذكر أن الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنما يغرق في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يظن الطالب أنه فرغ منها، ويتخرج الطالب دون أن يعرف من حقيقة التفسير شيئاً، وذلك بدعوى أنهم يطبقون القواعد على الآيات، كأنما التفسير يدرس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشرائع والأحكام. وهذا يعتبره ابن باديس هجراً للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم يخدمون القرآن" (1). وهذا كما ترون أيها السادة: يتعارض مع الهدف التربوي الإصلاحي الذي هو إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنية، كأنه أنزل على قلبه، واتصاله به من جديد اتصالاً حياً دافعاً للعمل. ومن وجوه النقد التي يوجهها إلى طرق التدريس في المغرب الإسلامي الإقتصار على دراسة الفروع الفقهية دون الرجوع إلى الأصول، ودون الإعتماد على الإستدلال والتعليل والقياس، بل إنه يعتبر هذا بُعداً عن القرآن وهجراً آخر له يقول: "واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاط المختصرة، تفنى الأعمار قبل الوصول إليها" (2) وهذا هو نفس النقد الذي وجهه ابن تومرت للفقهاء في عهد المرابطين، وأبو بكر ابن العربي، ومن قبلهما ابن عبد البر الذي نقد طرائق التعليم في الأندلس، والمغرب على هذا النحو نفسه، الذي سار

_ (1) تفسير آية 30 من سوره الفرقان. (2) ج 12 م 10 ص 518 - 521 شعبان هـ نوفمبر 1934م.

فيه ابن باديس، مما يجعلنا نعتقد أنه متأثر بهم، وخصوصاً أبا بكر بن العربي الذي اهتم به وبكتابه "العواصم من القواصم" الذي حققه وطبعه سنة 1347هـ 1928 وكذلك ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" والدليل على ذلك أنه استشهد بكلامهما في هذا المجال النقدي وذكر أن هذا الإعراض عن ربط الفروع بأصولها، ومعرفة مآخذها، هو داء قديم في هذا المغرب من أقصاه إلى أدناه بل كان داء عضالاً فيما هو أرقى من المغارب الثلاث وهو الأندلس (1). وذلك لأن ابن عبد البر (493) يتعرض في كتابه المذكور للتعليم، ويذكر أن الغرض من المناظرات التي تقع بين جماعة السلف إنما هو فهم وجه الصواب والحقيقة، فيصار إليها، ومعرفة أصل القول وعليته فتقاس عليه نظائره وأمثلته، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجهاً، وحسب أحدهم أن يقول: فيها رواية لفلان ورواية لفلان. ومن خالف الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها، فكأنه خالف نص الكتاب وثابت السنة، وقد نصح الطالب بالرجوع إلى الأصول والعناية بها، والإعتماد على النظر والبحث والإجتهاد والإطلاع على مختلف المذاهب والآراء والإستعانة بها (2). وأما أبو بكر بن العربي فقد وجه بدوره نقداً لاذعاً لحركة التعليم، ومناهج العلم، ورمى الأندلسيين بالتقليد، وبين الأسباب السياسية والإجتماعية التي جعلتهم ينحدرون إلى الفروع دون ربطها بأصولها، مما أدّى بهم إلى الجمود، والتقليد، وهذا ما جعل ابن باديس يقرر

_ (1) ج 12 م 10 ص 518 - 521 شعبان هـ نوفمبر،1934م. (2) ص 170.

المنهج الذي يراه صالحا

أن اقتلاع هذه العادة عسير، وأن الرجوع إلى التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالمآخذ والأدلة أعسر (1). المنهج الذي يراه صالحاً: بعد أن استعرض ابن باديس بإيجاز تاريخ التربية الإسلامية، فضل الرجوع إلى الطريقة النبوية، وطريقة السلف من الصحابة والتابعين، ويرى أن مبنى التعلم، والتعليم في القرون الأولى على التفقه في القرآن والسنة، ويضرب لنا مثلاً بطريقة الإمام مالك الذي اعتمد في بيان الدين على الآيات القرآنية وما صح عنده من أقوال النبي وأفعاله، وما كان من عمل الصحابة، ولكي يتسق مع نظرته الواسعة، وأُفُقه البعيد، ضرب لنا مثلاً آخر بالإمام الشافعي، وطريقته في كتاب الأم (2) ويعتقد أنه من المحال ضبط الفروع دون معرفة أصولها، والقوانين العامة التي تنضوي تحتها، وهكذا فإنه يتفق مع ابن عبد البر، وأبي بكر بن العربي، وابن تومرت، في المنهج التربوي الصحيح. وابن باديس من ناحية أخرى يبني منهجه على أساس علم النفس ومعلوم أن التربية تطبيق لنظريات علم النفس، كما أن الزراعة تطبيق لعلم النبات، ويبين لنا أن المعلم يحتاج إلى معرفة نفسية المتعلمين وفهمها والتنزل لهم، والأخذ بأفهامهم إلى الهدف الذي يرمي إليه، حسب درجاتهم واستعدادهم (3) كما يحتاج إلى معرفة أساليب التفهيم، وإلى التوسع في العلوم التي تصدى لتعليمها، مع التمرين على التعليم بالفعل، ودراسة كتب فن التعليم (4).

_ (1) ج 12 م 10 ص 518 شعبان 1352 - نوفمبر 1934م. (2) ج 11 م 10 ص 478 - 481 رجب 1353هـ اكتوبر 1934م (3) ج 10 م 7 ص 601 جمادى الثانية 1350هـ اكتوبر 1931م (4) ن. ص.

شارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وبعث باقتراح إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكلها الباي لسنة 1931م ويتضمن هذا الإقتراح خلاصة آرائه في التربية والتعليم. فقسم إتجاه التعليم إلى قسمين: قسم المشاركة ومدته 8 سنوات وقسم التخصص ويشمل: فرغ القضاء والفتوى، وفرع الخطابة والوعظ والإرشاد، وفرع تخريج الأساتذة ومدته سنتان. ويبين في هذا الإقتراح منهاج التعليم وطريقة تدريسه كما يلي: 1 - اللغة والنحو والصرف والبيان ويشترط في تدريسها تطبيق قواعدها على الكلام الفصيح، لتحصيل الملكة ويعتبر دراستها بلا تطبيق كما هو المعتاد في ذلك العهد تضييعاً للوقت، وتعطيلاً، وقلة تحصيل. 2 - تاريخ الأدب العربي والإنشاء. 3 - حسن الأداء في القراءة والإلقاء. 4 - العقائد وينبغي أن تؤخذ هي وأدلتها من آيات القرآن وهو يعارض الذهاب مع أدلة المتكلمين، ومصطلحاتهم الجافة، ويعتبر ذلك من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وقد طبق هذا بالفعل في تدريسه، وفي كتابه "العقائد الإسلامية" الذي نشره الأستاذ الفاضل محمد الصالح رمضان (1). 5 - الفقه بحيث تقرر فيه المسائل مع أصولها دون التعرض لتشعباتها. 6 - أصول الفقه تؤخذ كمسائل مجردة، ثم تطبق على المشكلات الفقهية لتحصل للطلاب ملكة الإستدلال والنظر. 7 - التفسير ويكون حسب رأيه بسرد الجلالين على المتعلم، مع

_ (1) مطابع الكيلاني بالقاهرة دون تاريخ.

بيان الأستاذ ما يحتاج للبيان، بحيث يطلع الطالب على التفسير بفهم المفردات، والمعاني الأصلية بطريق إجمالي، وكان محمد عبده يقريء الجلالين على هذه الطريقة. 8 - الحديث وطريقة تدريسه هي نفس طريقة تدريس التفسير ويبدو هنا أن ابن باديس متأثر بطريقة محمد عبده الذي كان يستعرض النص ثم يحلِّله بخلاف جمال الدين الأفغاني فإنه يتحدث في الموضوع ثم يستعرض النص في النهاية لتلاوته كتلخيص مفهوم لذلك الموضوع ويؤيد هذا تلميذه الشيخ الجيلاني محمد، الذي يرى أن أسلوبه في التفسير والحديث بأسلوب الأستاذ الإمام أشبه وإليه أقرب، وأبرز مميزاتهما فيه التطبيق والتحقيق وسوق العبر وصوغ العظات (1) كما أن ابن باديس يستعمل طريقة الحوار والإستفهام (2). 9 - التربية الأخلاقية ويعتمد فيها على آيات وأحاديث السلف الصالح وهذا يتفق مع ما ورد في برنامج وزارة التربية الوطنية الجزائرية الحالي (3) في هذه المادة ولا شك في وجود تأثيره فيه. 10 - التاريخ الإسلامي ويؤكد عليه لأن معرفة التاريخ عنده ضرورية للنهضة. 11 - الجغرافية. 12 - مبادىء الطبيعة. 13 - الفلك. 14 - الهندسة.

_ (1) ج 7 م 15 ص 328. (2) ج 7 م 15 ص 327. (3) المواقيت والبرامج توجيهات تربوية (المعهد التربوي الجزائر 1964 م ص 32 - 33)

وهنا يلاحظ ملاحظة طريفة وهي أنه إذا لم يكن في الشيوخ المُعَمَّمِين من يقوم ببعض هذه العلوم فلنأت بإخواننا المُطَرْبِشِين من تونس أو من مصر. وأما منهاج قسم التخصص في القضاء والفتوى فإنه يحتوي على التوسع في فقه المذهب ثم الفقه العام، ودراسة آيات وأحاديث الأحكام، وعلم التوثيق، والتوسع في علم الحساب وعلم الفرائض، والإطلاع على مدارك المذاهب، حتى يكون الطلبة فقهاء إسلاميين ينظرون- على حدِّ تعبيره- إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذاهب الضيقة، وهذه هي نفس النزعة التي يذهب إليها ابن عبد البر وأبو بكر بن العربي. ومن الكتب التي أوصى بتدريسها على الخصوص كتاب بداية المجتهد لابن رشد. ومنهج التخصص في الخطابة والوعظ يحتوي على دراسة آيات المواعظ والآداب وأحاديثها، والتوسع في السيرة النبوية وتاريخ نشر الدعوة الإسلامية مع التمرين على إلقاء الخطب الإرتجالية. وأخيراً فإن منهج التخصص في فن التعليم يشتمل على التوسع في العلوم التي سيعلمها المترشحون ويتخصصون فيها، وعلى الدراسة لكتب التربية وفن التعليم، والتمرين على التعليم بالقيام به فعلاً (1) ولتحسين مناهج التعليم وتقويمها وتوحيدها دعا إلى عقد مؤتمر المعلمين الأحرار في سبتمبر سنة 1356هـ 1937م ومن المشكلات التي عرضت في جدول الأعمال مسألة تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه، كما عقد مؤتمر آخر سنة 1354 - 1935 كلف فيه بعض أعضاء الجمعية بكتابة تقارير عن مشكلات التعليم في مختلف أنحاء الجزائر، وعرضت هذه التقارير وسجلت في "سجل مؤتمر العلماء المسلمين الجزائريين"، وألقى هو نفسه تقريراً في التعليم المسجدي دعا فيه إلى تأسيس كلية إسلامية.

_ (1) ج 10 م 7 ص 601.

المؤسسات التربوية

المؤسسات التربوية: علم الأستاذ الإمام في المسجد الكبير وفي سيدي قموش وسيدي عبد المؤمن وسيدي بو معزة ومدرسة جمعية التربية والتعليم والجامع الأخضر وسيدي فتح الله وهذه المؤسسات كلها ما زالت إلى اليوم. كان التعليم في مساجد قسنطينة لا يشمل إلا الكبار، وأما الصغار فإنهم يتعلمون القرآن فقط في الكتاتيب على طريقة المغاربة التي يذكرها ابن خلدون في مقدمته، وأول عمل تربوي تعليمي سجله ابن باديس في قسنطينة كان في سنة 1332هـ فكان يعلم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها صباحاً وعشية ثم بعد بضع سنوات أسس مع جماعة من الفضلاء المتصلين به، مكتباً للتعليم الإبتدائي وذلك في مسجد سيدي بو معزة ثم انتقل إلى بناية الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة 1917م وفي سنة 1349هـ 1930م تطور مكتب الجماعة إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، حيث حرر ابن باديس القانون الأساسي وقدمه باسم الجمعية إلى الحكومة فصادقت عليه دون أن ترى نتائجه بتاريخ رمضان 1349هـ مارس 1931م واعترفت بالجمعية في الجريدة الرسمية وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس وجاء في القانون: إن مقصود الجمعية نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية، والعربية، والصنائع اليدوية، بين أبناء وبنات المسلمين، وبينت المادة الثالثة الوسائل: 1 - تأسيس مكتب للتعليم. 2 - ملجأ للأيتام. 3 - نادٍ للمحاضرات. 4 - معمل للصنائع. 5 - إرسال التلامذة على نفقتها إلى الكليات، والمعامل الكبرى. ومكتب الجمعية كان موجوداً في بناية الجمعية الخيرية الإسلامية والجدير

بالملاحظة أن القانون ينص على أن البنين يدفع القادرون منهم واجب التعليم، وأما البنات فيتعلمن كلهن مجاناً، وهذا لا يحتاج إلى تعليق. وقد شرع ابن باديس من ناحية أخرى في إلقاء دروس على الكبار أول الأمر في الجامع الكبير، حيث كان يدرس فيه الشفاء للقاضي عياض ولكن ما لبث أن منعه مفتي قسنطينة المولود بن الوهوب. وكوَّن جماعة من الشبان تابعة للجمعية واهتم بتهذيبهم، وتربيتهم، فجعل لهم درساً يوم الأحد من كل أسبوع يعلم جماعة منهم على الساعة 10 صباحاً والأخرى على الساعة 8 مساء حسبب أوقات فراغهم وذلك في أفريل سنة 1933م. هناك من المربين من يذهب إلى أن المجتمعات تحس بالمسؤولية عن ترببة الأطفال فقط ولا تحس بهذه المسؤولية عن تربية جميع البالغين مهما بلغت سنهم ويعتبر أنه ليست سن 16 - 18 خير فترات العمر للتعلم كما نظن وإنما هي أنسب سن لتعلم أوليات القراءة والكتابة، والحساب، واللغات، ولكن إدراك مغزى التاريخ، والفلسفة، والدين، والأدب، وعلم النفس، محدود جداً في هذه السن المبكرة بل إن سن العشرين التي نعلم فيها هذه المواد في الكليات الجامعية ليست السن المثالية، ولكي يدرك المرء المشكلات المعقدة في هذه الميادين إدراكاً حقيقياً ينبغي أن يتوفر لديه قدر من الخبرة في الحياة أكبر مما يتوفر له وهو في سن التعليم الجامعي، وقد تكون سن الأربعين أو الثلاثين لكثير من الناس أنسب الأسنان لإدراك هذه المواد، وفهمها لا مجرد حفظها، وقد أخذت بعض الدول بهذا المبدأ فضاعفت فرص الدراسة للكبار ونوَّعتها (1). ولذلك كان ابن باديس يعمل في واجهتين واجهة للكبار وواجهة للصغار وكان مصيباً في ذلك إصابة بالغة.

_ (1) المجتمع السليم ص 233.

لجنة الطلبة

ومن أهم المؤسسات التربوية الجامع الأخضر الذي أسسه حسين باي للصلاة والتعليم كما هو مكتوب عليه (1) وقد تم بناؤه سنة 1156هـ: لجنة الطلبة: كون ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية يبلغ أعضاوها 18 عضواً مهمتها العناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، كما تتولى الإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانة الطلبة، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس أمثال هذه الجيمعية، أو تأسيس فروع لها في جميع أنحاء القطر، ويعلل ذلك بأنه لا بقاء لهم إلا بالإسلام ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم (2) وكان من عادة الأستاذ أن يصدر في كل سنة تقريباً بياناً يبين فيه المواد والكتب التي تدرس، أصدر بيانا بتاريخ 2 رجب 1352هـ 21 اكتوبر 1932م بين فيه المنهاج الذي يشتمل عليه التفسير والتجويد والحديث والفقه والعقائد الدينية والأخلاق والآداب الإسلامية واللغة العربية بفنونها: نحو وصرف وبيان وأدب، والفنون العقلية من منطق وحساب وغيرهما وورد في البيان أن الطلبة المحتاجين تعطى لهم إعانة من الخبز ويسكنون في بعض المساجد. وفي سنة 1355هـ - 1936م صدر بيان آخر يبين تطور التعليم

_ (1) كتب عليه ما يلي: السطر الأول: أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم. س2: وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم. س3: ذو القدر العلي، والتدبير الكامل، وحسن الرأي أميرنا. س4: وسيدنا حسين باي أدام الله أيامه وكان تمام بنائه س5: أواخر شعبان سنة ست وخمسين ومائة والف. (2) نشرة جمعية التربية 1354 - 1936 ص 1 - 4.

تنظيم الطلبة

بالجامع الأخضر فبالنسبة لعدد الطلبة الذي كان في سنة 1933م 100 طالب وفي سنة 1935م 200 طالب أصبح في سنة 1936م 300 طالب بالإضافة إلى الذين سافروا إلى جامع الزيتونة لإتمام دراستهم ويبلغ عددهم نحو 300 أيضاً، كما تطور المنهاج فأصبح يشمل بالإضافة إلى ما سبق ذكره، على الفرائض والجغرافيا والتاريخ والأصول والمواعظ وبين لنا فيه الكتب التي تدرس وهي: الموطأ، وأقرب المسالك، والرسالة، وابن عاشر، والمفتاح، والزنديوي، والتنقيح، والسلم، والمكودي، والقطر، والآجرومية، والزنجاني، واللامية، والسعد، والجوهر المكنون، ومن ديوان الحماسة، ومن ديوان المتنبي، والأمالي، ومن مقدمة ابن خلدون. والشيء المهم في هذا الطور هو دراسة مقدمة ابن خلدون، والواقع أن هذه الكتب مقسمة على طبقات الطلبة ودرجاتهم الثقافية التي نص على أن عددها أربع طبقات كما تعرض للقائمين بالتعليم وهم الشيخ ابن باديس والشيخ عبد المجيد حيرش، والشيخ حمزة بوكوشة المتخرجان من جامع الزيتونة وبعض العرفاء وكبار تلامذة الشيخ ابن باديس أمثال الشيخ عمر دردور والشيخ بلقاسم الزغداني. تنظيم الطلبة: إن الطلبة الذين يدرسون بقسنطينة يمثلون جميع أنحاء الجزائر وفي سنة 1353 - 1934 جاء بعض الطلبة من العمالة الوهرانية فكمل بهم تمثيل الجزائر كلها ويعتبر ابن باديس هؤلاء الطلبة نواة للغاية الكبرى التي يسعى إليها وهي إنشاء جامعة إسلامية أو كلية للعلوم الإسلامية. قسم ابن باديس الطلبة إلى جماعات وجعل على كل جماعة عريفاً منهم يضبط أمورهم ويراقب سيرتهم، وتوجد لدينا قائمة لهؤلاء العرفاء،

رأي ابن باديس في تعليم المرأة

موزعين حسب المناطق الجزائرية المختلفة، والعريف معروف في تاريخ التربية الإسلامية وهو الطالب البارز في العلم، قال الإمام سحنون: "أحب للمعلم أن يجعل لهم عريفاً منهم" (1). واهتم ابن باديس من جهة أخرى بصحة الطلاب فجعل لهم جماعة من الأطباء يزورونهم للمعالجة تبرعاً منهم، وهم: ابن الموفق، وزرقين، وابن جلول، وأما ما يتعلق بالتغذية فإن الطلبة المحتاجين يتناولون الأكل عند بعض المحسنين، والمتبرعين من العائلات، وأصحاب المطاعم، والجدير بالذكر أن طباخاً وهو ابن جلول محمود كان يتبرع بتغذية خمسين تلميذاً في مطبخه وكان بعض الخبازين يتبرعون بالخبز وأهل بسكرة يرسلون بأكياس من التمر. رأي ابن باديس في تعليم المرأة: إن ابن باديس على بصيرة بما للمرأة من وظيفة إجتماعية تربوية عظيمة، ولذلك فإنه أوجب تعليمها وإنقاذها مما هي فيه من الجهالة العمياء، ونصح بتكوينها تكويناً يقوم على أساس العفة وحسن تدبير المنزل، والنفقة والشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، كما أنه حمل مسؤولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلموا الأمة رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثماً كبيراً إذ فرطوا في هذا الواجب. واستدل على وجوب تعليم المرأة بالعمومات القرآنية الكثيرة الشاملة للرجال والنساء، وبأحديث شريفة، ومذهبه أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص من إجماع أو نص أو ضرورة طبيعية، لأن النساء شقائق الرجال، ولا خلاف بين اللغويين والأصوليين في أنه إذا ما اجتمع النساء والرجال، كان الخطاب أو الخبر بصيغة التذكير على طريقة التغليب، واستدل بقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ

_ (1) التربية في الإسلام للدكتور الاهواني ص 190.

مواقفه إزاء مقاومة الإستعمار للتعليم

بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (1) وبالحديث الذي رواه أبو داود عن الشفاء بنت عبد الله قالت. ((دَخَلَ عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ألا تعلمين هذه رُقْيَة النَملة كما علمتها الكتابة" (3). كما استدل بدليل تاريخي، وهو ما استفاض في تاريخ الأمة الإسلامية من وجود العالمات الكاتبات الكثيرات (3). مواقفه إزاء مقاومة الإستعمار للتعليم: إنه لا يكفي الوقت لاستعراض تاريخ دفاع ابن باديس عن الحركة التعليمية وجهاده التربوي الذي وقف حياته كلها عليه، لقد تعرَّض لاضطهاد الإستعمار ومطاردته وعراقيله، ولكنه ثبت ثبات الرجال أصحاب المبادىء لما يتسم به من التفاؤل واليقين بأن العاقبة له، وللأمة الجزائرية معتقداً أن كل محاولة لحمل الجزائريين على ترك لغتهم أو دينهم أو تاريخهم أو شيء من مقوماتهم محاولة فاشلة. وحين أراد الإستعمار منعه من التعليم كتب مقالا تحت عنوان: "بعد عشرين سنة في التعليم نسأل هل عندنا رخصة" (4). وحين صدر قانون 8 مارس 1938م بمنع التعليم كتب مقالاً آخر تحت عنوان: "يالله للإسلام والعربية في الجزائر كل من يعلم بلا رخصة يغرم ثم يغرم ثم يسجن" وأعلن فيه عزمه على المقاومة بكل قوة قائلاً: "وإننا نعلن لخصوم الإسلام والعربية عقدنا على المقاومة المشروعة عزمنا وسنمضي بحول الله في تعليم ديننا

_ (1) 2/ 282 البقرة. (2) رواه مسلم. (3) ج 3 م 25 ص 110. 1358هـ 1939. (4) الصراط عدد 7 - 1352هـ 1933م.

ولغتنا رغم كل ما يصيبنا ولن يصدنا عن ذلك شيء فنكون قد شاركنا في قتلهما بأيدينا وأننا على يقين من أن العاقبة- وإن طال البلاء- لنا وأن النصر سيكون حليفنا (1). وكتب في مناسبة أخرى: "أما الذين يحاربون العربية فهم يفرقون ويشوشون فسيندمون، وتنشر العربية بقوة الحق والفطرة وهم كارهون". ولا نريد أن نستمر في الإطالة عليكم فإن مواقفه في الدفاع عن تعليم الدين والعربية ضد الإستعمار تتطلب وحدها محاضرة كاملة. أيها السادة: إن الشيخ ابن باديس أمة وحده إستطاع بمفرده أولاً وبمساعدة إخوانه من العلماء ثانياً أن يقوم بتربية جيل وتكوين أمة، وتبصيرها بشخصيتها ومقوماتها، وهو الذي استطاع أن يضع أصول نهضتنا الفكرية والإجتماعية والأخلاقية والسياسية، وأن الثورة الجزائرية العظيمة في جوانبها النفسية وقوتها المعنوية التي تتمثل في كلمة "الجهاد" ترتد إلى عمله التربوي الخاص والعام، تربية الجيل في المدارس وتربية الأمة في المساجد وبرحلاته في مختلف أنحاء القطر. وإحياؤنا لذكراه إنما هو اعتراف بالجميل، وتخليد لعمله العظيم، وروحه القوية التي تمثل رمزاً من رموز حياتنا العقلية والأخلاقية، وعنصراً من عناصر وجودنا الذاتي، لأن ابن باديس قام بعملية التربية والوعي، تلك العملية التي تعتبر أعمق نشاط يؤديه الكائن البشري على الإطلاق، لأنه به يصنع المادة البشرية الصالحة، ويصوغ الذات الإجتماعية النافعة، ويبني الشخصية المتكاملة الشاعرة بوجودها وذاتيتها وحريتها. إننا نحيِّي بإقامة ذكراه جرأته، وشجاعبه، وثباته، وتضحيته، وزهده في متاع الدنيا، في سبيل المبدأ، ونطبق ذلك العهد الذي أخذه

_ (1) البصائر محرم 1358هـ أفريل 1938م ص 1.

على نفسه بقوله: "إني أعاهدكم على أني أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما وإنها لواجبات، وإني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم" (1) كما نبرهن بهذا أننا سنواصل رسالته ونحقق دعوته التي دعا إليها تلامذته ودعانا جميعاً معهم: "أطلب منكم شيئاً واحداً وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن " (2). رحمك الله يا ابن باديس في الخالدين والسلام عمار الطالبي

_ (1) 7 م 15 ص 346 رجب 1358هـ أوت 1939م (2) ن. م. ن. ص.

قسم التفسير

آثار ابن باديس قسم التفسير

التذكير

التَّذْكِيرُ حقيقته، حاجة الخلق إليه، القائمون به، تذكير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما كان يذكر به، من كان يذكر، مشروعية التذكير في الإسلام. ــــــــــــــــــــــــــ حقيقة التذكير: 1 - أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان جاهلاً أو عنه ناسياً أو غافلاً، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول فيسمى تذكيراً مجازاً وتوسعاً، ويجمع الثلاثة قولك: عباد الله الصالحون يذكِّرون الخلق بالخالق بأقوالهم وأعمالهم وسمتهم. 2 - وحاجة العباد إلى هذا التذكير أعظم ما يحتاجون إليه وأشرفه وألزمه، فإن سعادتهم الحقيقية في هذه الحياة بإنارة عقولهم، وزكاة نفوسهم واستقامة سلوكهم، وفي الحياة الأخرى بنعيم الجنان وحلول الرضوان، إنما هي بإيمانهم بربِّهم وشكرهم له. وأن دلائل وجوده ووحدانيته وقيومته وآثار فضله وإحسانه ورحمته ماثلة في الكون بادية للعيان، داعية إلى الشكر هادية إلى الإيمان، لكن العقول كثيراً ما تكون مغلولة بقيود أهوائها، محجوبة بحجب غفلتها، فتعمى عن تلك الدلائل والآثار، فتكفر كفر جحود وعناد، أو كفر عصيان وطغيان. ويكون تورطها في كبائر الذنوب وصغائرها على مقدار تلك الحجب وتلك القيود. وليس لغير من عصم الله انفكاك أو خروج منها، كلها. فهم إذن بأشد الحاجة إلى تذكيرهم بتلك الدلائل وتلك الآثار ليحصلوا أسباب سعادتهم بالإيمان والشكر.

3 - قد علم الله حاجة عباده إلى التذكير، فاصطفى منهم رجالاً أنعم عليهم بكمال الفكرة ووقاية العصمة، وأرسلهم لتذكير العباد {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (1)}، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (2)}. فالأنبياء والمرسلون- عليهم الصلاة والسلام- هم أولو هذا المقام الجليل، مقام التذكير. ثم من بعدهم ورثتهم من العلماء العاملين. 4 - قد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على سنَّة إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد متمثلاً أمر ربه- تعالى- له بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (3)}. إذ السيطرة لا تكون على القلوب والإيمان- وهو من أعمال القلب- لا يكون بالإكراه وإنما يكون بذكر الحجج والأدلة، وكذلك كانت سنة المرسلين في الدعوة إلى الله كما قصَّها علينا القرآن الكريم في كثير من السور والآيات. كان- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكرهم بقوله وعمله وهديه وسمته، وكان ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه، وقد قالت عائشة الصديقة- رضوان الله عليها- لما سئلت عن خلقه- والخلق

_ (1) 4/ 164 النساء. (2) 26/ 208 الشعراء. (3) 88/ 21 الغاشية.

هو الملكة النفسية التي تصدر عنها الأعمال- قالت: كان خلقه القرآن، فكان تذكيره كله بآيات القرآن: يتلوها ويبينها بالبيان القولي والبيان العملي متمثلاً في ذلك كله أمر ربِّه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (1)}، فالقرآن وبيانه القولي والعلمي من سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بهما يكون تذكير العباد ودعوتهم لله رب العالمين، ومن حاد في التذكير عنها ضل وأضل وكان ما يضر أكثر مما ينفع إن كان هنالك من نفع. 5 - كان- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يفتأ مذكراً المؤمنين والكافرين، والله يهدي من يشاء ويوفق من يريد. وقد أمر بالتذكير مطلقاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (2)}. وكانت سيرته العملية في التذكير هي العمل بهذا الإطلاق، فما كان يخص قوماً دون قوم في الدعوة والتذكير، فكانت هاته السنة العملية دليلاً على أن ما جاء على صورة التقييد في بعض الآيات ليس المراد منه التقييد، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (3)}. فالشرط الصوري هو للإستبعاد، أي إستبعاد نفع الذكرى فيهم. ولا يزال من أساليب العربية في لسان التخاطب الدارج بيننا قول الناس لبعضهم بعضاً: "كلمه في كذا إذا نفع فيه الكلام" إستبعاد لنفعه فيه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ

_ (1) 45/ 50 ق. (2) 88/ 21 الغاشية. (3) 9/ 87 الأعلى.

وَعِيدِ (1)}. فليس ذكر المفعول للتقييد وإنما هو للتنبيه على أنه هو الذي ينتفع بالتذكير نظير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. 6 - ولحاجة العباد للتذكير ومنزلته من الدين شرعه الله للمسلمين شرعاً موقتاً في خطب الجمع والأعياد، وشرعاً مرسلاً موكولاً للمذكرين على ما يرونه من نشاط الناس وحاجتهم، كما كان يتخول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الناس بالموعظة وطلبه طلباً عاماً من جميع المؤمنين في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (2)}، في صفة المؤمنين العاملين. وسيكون هذا الباب من المجلة (3) مجالاً لفنون من التذكير جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى ونفعنا بها دنيا وأخرى (4).

_ (1) 45/ 50 ق. (2) 3/ 103 العصر. (3) يقصد مجلة الشهاب. (4) ش: ص 1، م 5 ص 2 - غرة رمضان 1347هـ فيفري 1929

الذكر

الذِّكْرُ تمهيد، القسم العلمي: حقيقته، محله، إطلقاته، أقسامه، القلبي: بالتفكير، بالإعتقاد، بالإستحضار، اللساني: بالثناء والدعاء، بالإرشاد والتعليم. ذكر الجوارح بالعمل، بالإنكفاف. القسم العملي: السيرة النبوية في الذكر، كيفية السلوك عليها. التحذير. ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: 1 - الذكر أصل من أصول الدين العظيمة أو هو الدين كله، ولذا امتلأ القرآن العظيم بالآيات المشتملة عليه. فالمسلم إذاً شديد الحاجة إلى معرفته وفقهه، وطريقة العمل به، وقد تعرضنا لبيان ذلك فيما سيأتي، وجعلنا الكلام في قسمين. وختمناه بالتحذير مما خرج عن سواء القصد بغلوٍّ أو تقصير ليكون الواقف عليه على بصيرة مما يأتي منه أو يدع. القسم العلمي: 2 - الذكر حضور الشيء في القلب الحضور الثاني بعد زواله منه المسبوق بحضور متقدم. هذه حقيقته. وقد يطلق على الحضور الأول توسعاً. وزواله بعد حضور هو النسيان. فهما ضدان. قال تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ (1)}.

_ (1) 64/ 18 الكهف.

وفي مثل: ذَكَّرْتَنِي الطَّعْنَ وَكُنْتُ نَاسِيَا (1). 3 - فالمعنى الأصلي للذكر محلُّه القلب، إذ القلب محل ضده النسيان، والضدان إنما يتضادان في محل واحد، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا (2)} أي جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا. فالغفلة في القلب والذكر في القلب. وأخوات الذكر- كالذكرى، والتذكير والذُكر، بضم الذال،- كلها من أعمال القلب، وهو مثلها. وأما الصمت الذي هو من شأن اللسان فليس ضداً له كما قد قيل، وإنما هو ضد في كلام العرب لأعمال لسانية كالنطق في قولهم في المال (ناطق وصامت) وما في الحديث: "فليقل خيراً أو ليصمت". 4 - ثم يطلق الذكر إطلاقاً شائعاً على ما يجري على اللسان مما يخبر به عما في القلب ويعبر عنه، ومنه قوله تعالى: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)}. وسمى الله- تعالى- القرآن ذكراً كما في قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ (4)} لأن آياته متلوَّة بالألسنة ومعانيه حاضرة في القلوب. ومثله في هذه التسمية كلمات التسبيح والحمد والتهليل والتكبير من جميع الأذكار. ويقال في كل عمل من أعمال الطاعة ذكر، لأنها كلها مرتبطة

_ (1) أنظر مجمع الأمثال 279/ 1، المثل رقم 1469 وتمامه: ردوا على أقربها الأقاصيا ... إنَّ لها بالمشرفيّ حادياً ذكَّرتْني الطَّعن وكنت ناسيا (2) 28/ 18 الكهف. (3) 3/ 37 الصافات. (4) 21/ 50 الأنبياء.

أقسام الذكر

بذكر القلب ومن ثمراته. وسمى الله- تعالى- نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ذكراً في قوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا (1)} لأنه مخبر عن ربه ومبلغ للذكر، أو لأنه هو- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكر في الصلاة عليه والحديث، وفي سيره وشمائله بالألسنة والقلوب. وعبر عن إرساله بالإنزال لأن رسالته وحي من العلي الأعلى، وأعظم رحمة نزلت من السماء. وسمي الله الآيات الكونية المشاهدة ذكراً في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (2)} لأنها تحدث الذكر في القلب كما تحدثه آياته المتلوة التي تسمى أيضاً ذكراً. فالمعنى أنه كما لم يكن لهم ذكر في قلوبهم من الآيات المتلوة، لأنهم كانوا لا يستطيعون سمعاً، كذلك لم يكن لهم من الآيات المرئية لأن أعينهم في غطاء. أقسام الذكر: 5 - قد كثر ورود لفظ الذكر في آيات القرآن وأحاديث السنة، وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام، مراده من تلك النصوص: ذكر القلب فكراً واعتقاداً واستحضاراً، وذكر اللسان قولاً، وذكر الجوارح عملاً. وسنتكلم عليها واحداً واحداً. ذكر القلب وهو على ثلاثة ضروب: الأول: التفكر في عظمة الله وجلاله، وجبروته وملكوته، وآياته في أرضه وسمواته وجميع مخلوقاته، والتفكر- أيضاً- في أنواع آلائه وعظيم إنعامه على خلقه عامة وعلى الإنسان خاصة بما سخَّر

_ (1) 65/ 20 الطلاق. (2) 102/ 18 الكهف.

له منها وما يسَّر له من أسباب الإنتفاع بها، بما يوجب الإيمان بوحدانيته في ربوبيته، فلا خالق ولا مدبِّر ولا مصرِّف ولا آمر ولا حاكم ولا منعم على الحقيقة سواه، وبوحدانيته في ألوهيته فلا يستحق العبادة سواه. وهذا الضرب هو أعظم الأذكار وأجلها وأفضلها، وبه يتوصل إليها ويستحق الثواب عليها، إذ هو أساسها الذي تبنى عليه. فالأعمال مبنية على العقائد، والعقائد لا تثبت إلا بهذا التفكر، وبه تنجلي في العقول، وترسخ في النفوس، وتحصل للناظر طمأنينة اليقين. قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (1)} وهذا هو الذكر الذي يحصل به الإطمئنان. وهو المراد في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ (2)}. قال جماعة من السلف: ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة، وهو المراد أيضاً في حديث أبي الدرداء موقوفاً في الموطأ ومرفوعاً في غيره: " ألا أخبركم بخير أعمالكم وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إعطاء الذهب وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى. قال: "ذكر الله" وفي الحديث معاذ كذلك: "ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" وهذا كله لأنه هو أساس جميع الأعمال كما قدمنا، فإذا حصل ودام وجهه حصلت كلها ودامت على وجوهها. الثاني: العقد الجازم بعقائد الإسلام في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله، عقداً عن فهم صحيح وإدراك راسخ تتحلَّى به النفس بمقتضيات تلك العقائد وتتذوق حلاوتها وتتكون

_ (1) 23/ 30 الرعد. (2) 45/ 29 العنكبوت.

لها منها إرادة قوية في الفعل والترك تملك بها زمامها، تلك الإرادة التي لا تكون إلا عن عقيدة راسخة في النفس ويقين مطمئن به القلب. ولذا كان هذا الضرب من ذكر القلب متفرعاً عن الضرب الأول ومبنياً عليه. الثالث: استحضار عظمة الرب وإنعامه وما يستحقه من القيام بحقه عند كل فعل وترك فيفعله بإذنه لوجهه ويترك بإذنه لوجهه. ولا يدوم هذا الإستحضار إلا إذا رسخت العقيدة التي هي من مقتضى الضرب الثاني، ودامت الفكرة التي هي من مقتضى الضرب الأول، فهو متفرع عنهما ومتوقف عليهما. وهذا الضرب هو أساس التقوى وهو المراد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1)}. فإن الذكر المناسب لمواطن الحرب هو استحضار عظيم حق الله على العبد في القيام بذلك الفرض، واستحضار وعده ووعيده، مما يقوي القلب ويكسب الجرأة والثبات وانتظار النصر- دون كثرة الذكر اللساني- فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: طلب الصمت عند جلبة العدوِّ وصخبه. وهو المراد أيضاً في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1)}. فإن الإبتغاء من فضل الله هنا هو التصرف بوجوه التجارة والكسب وليس ذلك مما يناسبه ذكر اللسان كثيراً، فإن ذكر اللسان يطلب فيه التدبر، وأن ذلك غير متيسر للمشتغل بالبيع والشراء،

_ (1) 46/ 8 الأنفال. (2) 62/ 10 الجمعة.

ذكر اللسان وهو ضربان

وإنما يناسبه استحضار عظمة الرب وإنعامه ولازم حقه ليمتثل أمره ونهيه في وجوه الأخذ والعطاء والقضاء والإقتضاء. ذكر اللسان وهو ضربان: الأول: ذكر الله- تعالى- بالثناء عليه والاعتراف بنعمه وإظهار الفقر إليه بأنواع الأذكار والدعوات ... وهذا الذكر شرط الإعتداد به حضور القلب عنده. ومن أظهر الآيات الواردة فيه قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (2)} فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ في حجته المشعر إتسقبل القبلة ودعا وكبَّر وهلَّل ووحَّد. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ في حجته المشعر استقبل القبلة ودعا وكبَّر وهلَّل ووحَّد. الثاني: ذكره تعالى يدعوة الخلق إليه، وإرشادهم إلى صراطه المستقيم الموصل إليه بتعليم دينه والتنبيه على آياته وإنعاماته وتبيين محاسن شرعه وتفهيم أحكامه وشرح حكمته في خلقه وأمره والترغيب والترهيب بوعده ووعيده، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين في التبليغ عن ربِّ العالمين واتِّباعهم للمؤمنين، إلى يوم الدين، ولذا قال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج ... وأشباه هذا. وما سمَّاه قليل من كثير قصد به تقريب التبيين بالتمثيل. ذكر الجوارح وهو ضرب واحد: فذكرها إستعمالها في الطاعات، وكل عمل لها أو انكفاف على مقتضى الشرع، فهو طاعة، وكل طاعة لله فهي ذكر، فكل عامل لله

_ (1) 198/ 2 البقرة.

القسم العملي

بطاعته فهو ذاكر لله- تعالى-. كما حكاه النووي عن سعيد بن جبير وغيره من العلماء، مستدلاً به على أن فضيلة الذكر ليست منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها. وبهذا يمكن للعبد الموفق أن يكون ذاكراً لربِّه في يقظته ونومه وصحته ومرضه وعلى جميع أحيانه. القسم العملي: أمر الله عباده بذكره في غير ما آية من كتابه وغير ما حديث من كلام نبيِّه، ووعد عليه بجزيل الثواب. ومن الآيات العامة في هذا الأمر قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (1)} وهو أمر بالذكر بوجوهه الثلاث فحق علينا أن نذكره بها. وكما تلقينا هذا الأمر وهذا الوعد عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك علينا أن نتلقى عنه كيف كان يعمل به، فهو المبلغ عن الله- تعالى- بقوله وفعله والمبين كذلك بهما. ولا شك أنه - صلى الله عليه وآله وسلم- كان دائم ذكر القلب بالفكر والعقد والإستحضار، دائم ذكر الجوارح في أنواع الطاعات. وقد جاء في شمائله الشريفة أنه كان - صلى الله عليه وآله وسلم-: "دائم الفكرة لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت" وأنه "كان سكوته على أربعٍ: على الحِلم والحذر والتقدير والتفكير". وأما الذكر اللساني فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم- كما جاء في شمائله أيضاً-: "لا يجلس ولا يقوم إلاَّ على ذكر". فلا يخلو مجلسه من ذكر الله. كما كان يسكت ويطيل السكوت كما تقدم، وقد روى عنه الأئمة من أذكار اليوم والليلة وسائر الأذكار ما فيه الكفاية والشفاء.

_ (1) 152/ 2 البقرة.

التحذير

فالمؤمن الذي يحافظ على قلبه ويعتني به حتى يكون صحيح العقد دائم الفكر والإستحضار، ويأتي مع ذلك من الأذكار المأثورة المطلقة بما تيسر منها، وبالمرتبة في الأحوال والأوقات التي رتبت عليها، ولا يخلي مقامه ومقعده من شيء من ذكر الله وإن قل- يكون متبعاً للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم - في سنته في الذكر، ويكون بهذا - في بيته وفي سوقه وفي مصنعه وفي مسجده- معدوداً من الذاكرين المكثرين، بالقلب واللسان والجوارح. التحذير: ربما شغل اللسان بالتعلم والعلم عن الأذكار المأثورة حتى يتركها الطالب جملة ويكون عنها من الغافلين، فيحرم من خير كثير وعلم غزير، وقد كان- صلى الله عليه وآله وسلم- معلم الخلق، وما كان يغفل عن تلك الأذكار. وربما بالغ قوم في بعض هذه الأذكار فأتوا منه بالآلاف، وأهملوا جانب التفكير الذي هو أعظم أذكار القلب، والذكر اللساني أحد وسائله، فتشغلهم الوسيلة عن المقصود. وليس ذلك من هدى من كان- كما تقدم- دائم التفكير. وقد يؤديهم الذكر اللساني بالألوف إلى الإنقطاع عن مجالس العلم والزهد في التعلم فيفوتهم ما قد يكون تعلمه عليهم من فروض الأعيان. وليس من سداد الرأي وفقه الدين إهمال المفروض إشتغالاً بغير المفروض. ويقابل هذا الغلو في ذكر اللسان ما رآه آخرون من الإقبال على التفكير الأيام والليالي، مع ترك اللسان. وهذا زيغ عن طريق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في المحافظة على الأذكار اللسانية التي امتلأت كتب الحديث بالترغيب فيها والحثِّ عليها. فليحذر المؤمن من هذا كله ومن مثله وليتمسك بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإتيان بضروب الذكر الثلاثة كلها منزلاً

لها في منازلها متعبداً الله- تعالى- بجميعها، والله الموفق وبه المستعان (1).

_ (1) ش: ج 2 م 5 ص 1 - 7. غرة شوال 1347 - مارس 1929.

ما هو أفضل الأذكار

مَا هُوَ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ تمهيد: حالتا العبد، الفتوى النبوية فيهما، القسم العملي. أفضل الأذكار، آيات في الباب، أحاديث فيه، القرآن يحصل فضل الحالتين، القرآن والذكر القلبي، القرآن والذكر اللساني، القرآن والذكر العملي، بعض علوم القرآن. نتيجة الاستدلال. القسم العملي، مقدار التلاوة، ما يقصد من التلاوة، التحذير. ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: للعبد حالتان؛ حالة يعالج فيها شؤون الحياة من أمر نفسه وأهله وما إلى رعايته من مصالحه أو مصالح غيره، فيمارِس فيها الأسباب ويباشر فيها ما تقتضيه بشريته، وهو في هذه الحالة متعبد مأجور ما جرى فيها على حدود الله وقصد بها امتثال شرعه. وحالة ينفرد فيها لربه ويخلص من هم ذلك كله قلبه، ويتوجه بكليته إلى خالقه، بالفكر والإعتبار ودوام المراقبة والإقبال. وهذه الحالة الثانية هي أشرف وأفضل حالتيه، وهي أساس الإستقامة في الحالة الأولى وأصل الكمال في غيرها. كانت هاتان الحالتان للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما كانتا لغيره، وقوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "أنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة"- إشارة إلى الحالة الأولى التي يكون فيها قائماً بمصالح الأمة وناهضاً بأعباء الرسالة ومباشرة

الشؤون العامة والخاصة وراءها دون الحالة الثانية التي يكون فيها متفرغ القلب للربِّ. وما كان ذلك الغين إلا الإشتغال بأمور الخلق في الحالة الأولى، الذي يحجب عن كمال مشاهدة الحق، التي في الحالة الثانية، فاستغفر الله- تعالى- منه، وما كان استغفاره- عليه الصلاة والسلام- إلا لاشتغاله بكامل عن أكمل، وتوجهه للقيام بأمر عظيم عن مقام أعظم. وقد تفطن الصحابة- رضوان الله عليهم- لهاتين الحالتين وسألوا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عنهما وأفتاهم فيهما فجاء في الصحيح أن حنظلة الأسيدي- وكان من كتَّاب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة، قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكرنا بالنار والجنة، كأنها رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقي مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وقلت، نافق حنظلة يا رسول الله!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات؛ فنسينا كثيراً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة. ثلاث مرات. فقوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "ساعة وساعة " بيان للحالتين وتقرير لهما. وقوله: والذي نفسي بيده إلى آخره ... بيان لفضلاهما.

القسم العلمي

هذه الحالة الفضلى الذكرى التي يحصلها للعبد على أكمل وجه هو أفضل الأذكار، وستعرف مما سيأتي بعد أنه هو القرآن. وقد قسمنا ماسنقوله إلى قسمين: علمي وعملي، وختمناه بفصل في التحذير. القسم العلمي القرآن أفضل الأذكار- من طريق الأثر: قال تبارك وتعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ (1)}. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ (2)}. {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ (3)}. فهذه البركة، وهذا التيسير، وهذا الأمر بالتلاوة المقرون بالأمر بتوحيد العبادة وبالإسلام على طريق الحصر لم ترد إلا في القرآن. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وهذه مثوبة لم ترد لغير القرآن من جميع الأذكار.

_ (1) 50/ 21 الأنبياء. (2) 17/ 54 و22 و32 و40 القمر. (3) 91/ 27 - 92 النمل.

القرآن أفضل الأذكار- من طريق النظر

وروى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً. (ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه). ومن معناه ما ذكره القرطبي عن فروة بن نوفل عن خباب بن الأرت قال: إن استطعت أن تقرب إلى الله- عزَّ وجل- فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. ومثل هذا لا يقال بالرأي، فهو في حكم المرفوع. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: يقول الرب تبارك وتعالى: مَن شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. وهذا الحديث والذي قبله نصَّان صريحان في المقصود. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة - رضي الله عنها -، مرفوعاً: قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة. وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير. وروى أبو نعيم عن ابن عمر - رضي الله عنه -: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: قراءة القرآن في الصلاة، ثم قراءة القرآن في غير الصلاة، فإن الصلاة أفضل الأعمال عند الله وأحبها إليه، ثم الدعاء والإستغفار، فإن الدعاء هو العبادة، وإن الله- تعالى- يحب الملح في الدعاء، ثم الصدقة فإنها تطفء غضب الرَّب ... ثم الصيام. فإن الله- تعالى- يقول: الصوم لي وأنا أجزي به. والصيام جنَّة للعبد من للنار. قال القرطبي- بعد ما خرَّج هذا الحديث بسنده- قال علماؤنا: هذا حديث عظيم في الدين يبين فيه أن أعظم العبادات قراءة القرآن في الصلاة. القرآن أفضل الأذكار- من طريق النظر: إن أشرف حالتي الإنسان- وهي حالة انفراده بربه، وتوجهه

القرآن والذكر القلبي

بكليته إليه، وخلوص قلبه له وتعلقه به- إنما تحصل على أكملها لتالي القرآن العظيم. فإن أفضل ما فيه- وهو قلبه- يكون قائماً بأفضل أعماله، وهو التفكر والتدبر في أفضل المعاني، وهي معاني القرآن. وأن ترجمان ذلك القلب- وهو لسانه- يكون قائماً بأفضل أعماله، وهي البيان بأفضل كلام وهو القرآن. وجوارحه- إذا لم يكن في صلاة- كانت محبوسة على قيام القلب واللسان بأفضل الأعمال. وإذا كان في صلاة كانت قائمة بأفضل عبادة، وهي الصلاة في أشرف موقف، وهو مناجاة الرحمن بآيات القرآن. فهذا الذكر الحكيم تنزيل الرحمن الرحيم، الذي يحصل هذه الحال التي هي أشرف الأحوال، وهي معراج الأرواح لمنازل الكمال - هو أفضل الأذكار. وأيضاً- فإن الذكر قلبي ولساني وعملي، والقرآن محصل لذلك كله على أكمله كما سنبينه. القرآن والذكر القلبي: فالتالي للقرآن المتدبر لآياته يكون متفكراً في مخلوقات الله وما فيها من حكم ومن نعم، وفي معاني أسمائه وصفاته، وفي مظاهر رحمته وإحسانه وبطشه وانتقامه، وفي أسباب ثوابه وعقابه، وفي مواقع رضاه وسخطه. كما يكون التالي أيضاً متبصراً في عقائده خيراً بأدلتها ورد الشبه عنها، كما يكون أيضاً مستحضراً لربه في قلبه باستحضار حقوقه ونعمه وآلائه، إذ هذا كله مما تضمنته آي القرآن، على أكمل بيان، وأوضح برهان. القرآن والذكر اللساني: وكذلك قد اشتمل القرآن على أفضل الأذكار اللسانية، من تهليل وتكبير وتحميد وتسبيح وتمجيد واستغفار ودعاء ... ، وعلى الأسماء

القرآن والذكر العملي

الحسنى والصفات العلى للرب تبارك وتعالى. فتاليه يكون ذاكراً بهذه الأذكار كلها. القرآن والذكر العملي: إن تلاوة القرآن بالتَّدبر تثمر للتالي التوبة والإنابة، والرجاء والخوف، وذلك كله مما يكون له خير داع إلى الإستقامة- ولو بعض الشيء،- في سلوكه العملي. هذا شيء قليل مما للقرآن في الذكر بأنواعه الثلاثة، إلى ما فيه من علم مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبسط أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة في الدنيا والأخرى وعلم النفوس وأحوالها، وأصول الأخلاق والأحكام وكليات السياسة والتشريع وحقائق الحياة في العمران والإجتماع، ونظم الكون المبنية على الرحمة والقوة والعدل والإحسان. إلى ما تقصر عن عدِّ الألسنة وتعجز عن الإحاطة به الأفهام، وإنما ينال كل تال منها على قدر ما عنده من سلامة قصد وصحة علم بتقدير وتيسير من الحكيم العليم. نتيجة الاستدلال: لهذه الأدلة الأثرية والنظرية المذكورة وغيرها ذهب الأئمة من السلف والخلف إلى أن قراءة القرآن أفضل من الذكر. قال سفيان الثوري: "سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر". نقله القرطبي في الباب السابع من كتاب التذكار. وقال النووي: "واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك" قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان. (1).

_ (1) ش: ج 3، م 5، ص 1 - 6. غرة ذي القعدة 1347هـ افريل 1929م.

القسم العملي

القسم العملي مقدار التلاوة: قد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يخلي ليله ولا نهاره من تلاوة القرآن وكان- كما قال القرطبي- يختمه في سبع. وهكذا قال لعبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "واقرأ في كل سبع ليال مرة " وقد كان قال له أولاً: "واقرأ القرآن في كل شهر" فلما قال إنه يطيق أكثر من ذلك نقله إلى العشرين وإلى الخمسة عشر وإلى العشر واتنهى به إلى السبع في قول الأكثر. وكان هذا فعل الأكثرين من السلف. وعند الترمذي وغيره من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" وهذا ترخيص فيما دون السبع وترغيب عما دون الثلاث. وقد فهم السلف من هذه الأحاديث بيان ما يكون وظيفته وحزباً يستمر عليه، فلذا لم يمتنعوا من ختم القرآن في أقل من ذلك في مرات في بعض الأحوال. وقد ثبت عن كثير منهم ختم القرآن في ركعة واحدة. ولا شك أن أحوال حملة القرآن تختلف في التفرغ للتلاوة والإشتغال بغيرها، وأحوال الشخص الواحد في نفسه تختلف كذلك، فيرتب حامل القرآن حزبه من الشهر إلى السابع على حسب حاله. فإذا لم يكن من حملة القرآن فلا يخلُ ليله ولا نهاره من تلاوة شيء مما معه حسب استطاعته، ولا يكن من الغافلين. ما يقصده من التلاوة: قراءة القرآن أفضل أعمال اللسان، وتدبر معانيه أفضل أعمال القلب. هذا من حديث أبي أمامة عند الترمذي الذي قدمناه في القسم الأول. فليقصد التالي التقرب إلى الله- تعالى- بهما.

التحذير

والقرآن موعظة ترقق القلوب القاسية فليقصد تليين قلبه. والقرآن شفاء لأدواء النفوس في عقائدها وأخلاقها وأعمالها فليقصد الشفاء به من ذلك كله. والقرآن هدى ودلالة على كل ما يوصل إلى سعادة الدنيا والأخرى فليقصد الإهتداء بهدايته. والقرآن رحمة من الله للمؤمنين فليستنزل بتلاوته وتدبره الرحمة من الله- تعالى- بإفاضة علوم القرآن على قلبه وبتوفيقه إلى القيام بمقتضى هدايته. ولا يسلم تالي القرآن- لأنه غير معصوم- من ذنوب قد يصدأ لها قلبه، فليقصد بتلاوته جلاء قلبه والتوفيق للتوبة من ذنبه. وليجعل تلاوته لأجل تحصيل التوبة من أعظم وسائله إلى ربه. وقد مضى لك في الحديث القدسي في القسم الأول: "من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين". التحذير: زعم قوم: أن الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- خير لعامة الناس من تلاوة القرآن. قالوا: لأن الصلاة ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم، والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه. واستدلوا على هذا بقول أنس - رضي الله عنه - الذي تحسبه العامة حديثاً: "رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ". فأدَّى هذا بمعتقديه إلى ترك قراءة القرآن أو التقليل منها. فليحذر من هذا الرأي ومما أدى إليه. للصلاة منزلتها وفضلها، وللقرآن منزلته وفضله، فليأت الذاكر من الصلاة ومن غيرها من أبواب الذكر بما لا يؤدي إلى ترك أو تقليل تلاوة القرآن الذي هو أفضل الأذكار.

الوجه الأول

وهذا الرأي المتقدم في تفضيل الصلاة على التلاوة مخالف تمام المخالفة لما نقلناه في "نتيجة الاستدلال" عن أئمة السلف والخلف من أن قراءة القرآن أفضل من جميع الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة، ومخالف كذلك لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه: الوجه الأول: إن المذنبين مرضى القلوب، فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فكل معصية يأتي بها الجسد هي من فساد في القلب ومرض به، وإن الله- تعالى- قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (1)}، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوه ويتدبره ويستشفوا به بألفاظه ومعانيه. وذلك الرأي يصرف المذنبين عن تلاوته. الوجه الثاني: إن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة والشكوك والأوهام والجهالات. وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها، وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها، ولا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها؛ فهي محتاجة دائماً وأبداً إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن، وقد أرشد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذا- فيما رواه البيهقي في الشعب والقرطبي في التذكار- بقوله: "أن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا:

_ (1) 57/ 10 يونس. (2) 27/ 82 الإسراء.

الوجه الثالث

يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن". فمقصود الشارع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم، وذلك الرأي يصرفهم عنه. الوجه الثالث: إن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها، فروى أبو داوود عن سعد: "ما من أمريء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله أجذم". وروى الشيخان عن عبد الله: "إستذكروا القرآن فإنه أشد تقصياً من صدور الرجال من النعم". فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ ودفع النسيان وذلك الرأي أدى إلى تقليلها أو تركها الموقع في النسيان. وإلى مخالفته مقصود الشرع بهذه الوجوه فإن له لوازم فاسدة. منها: أن صلاة النافلة مرغب فيها على العموم، وهي مشتملة على قراءة القرآن. فماذا يقول أصحاب هذا الرأي؟ فهل يرغِّبون المذنبين- أمثالنا- عن النافلة طرداً لأصلهم؟ أم ينهون عن قراءة القرآن في النافلة فيقولون ما لم يقله أحد؟ أم يقولون بالإقتصار على قراءة سورة فيتحكمون في الأحكام؟! ومنها: أنه قلَّ من يسلم من مخالفته للقرآن بعمله. فإذا ذهبنا مع ذلك الرأي حرم خلق كثير من تلاوة القرآن. وكفى بقول يؤدي إلى هذا كله راداً على نفسه. وأما قولهم: "إن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته"، فهي دعوى لم يقيموا عليها من نص صحيح صريح من سنة أو كتاب، بل الدليل قائم على خلافها، فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة واحدة ولا بكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنباً آخر، وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر. فكيف إذا باشر عبادة التلاوة؟ والأصل القطعي - كتاباً وسنة- إن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهو يبطل أن تجدِّد له سيئاته إذا جاء بحسنة تلاوة القرآن.

وأما قول أنس - رضي الله عنه -: "رب تال للقرآن والقرآن يلعنه" فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته، وكيف وتلاوته عبادة؟ وإنما معناه أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلاً فيكون داخلاً في عموم لعنه للظالمين والكاذبين، فخرج هذا الكلام مخرج التقبيح لمخالفته القرآن مع تلاوته بعثاً للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن وتعجيل المتاب، لا مخرخ الأمر بترك التلاوة والإنصراف عنها. هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل عليه بحكم الأدلة المتقدمة. وثبت في الصحيح قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". وهذا في المتعبد بالصيام الذي يوقع الزور والعمل به في وقت صيامه، فيكون متلبساً بالعبادة والمخالفة في وقت واحد. ومع هذا فقد قال الشراح في معنى الحديث- والعبارة للقسطلاني-: "وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور"، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من باع الخمر فليشقص الخنازير)، أي يذبحها، ولم يأمره بشقصها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذَّر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه. فمن باب أحرى وأولى أن لا يكون قول أنس - رضي الله عنه - محمولاً على طلب ترك التلاوة من المذنب لأنه غير مباشر لذنبه في حال تلاوته، وإنما المقصود تحذيره من الإستمرار على المخالفة وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته. هذا حظ العلم في الإستدلال على حاجة المذنبين إلى تلاوة القرآن العظيم، وأما حظ التجربة، فوالله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إِلَانَةً للقلب،

واستدراراً للدمع، وإحضاراً للخشية، وأبعث على التوبة من تلاوة القرآن وسماع القرآن. نعود إلى تتميم الكلام على التحذير: ليحذر القاريء من السرعة في التلاوة التي تؤدي إلى تخليط كلماته وتذهب بحلاوته وتمنع من بقاء أثره في النفس. وليحذر من ذهاب قلبه مسترسلاً مع خواطره، منصرفاً عن تدبره والتذكر به. وإذا عرضت له الخواطر فليصرفها ليدفعها وليحمل فكره على تدبر آيات الكتاب ولا ينقطع عن التلاوة، وإذا كانت الخواطر لا تفارقه، فإن تصميمه على دفعها مع تكاثرها من جهاده لنفسه الذي يثاب عليه وينتهي به في الأخير إلى الإنتصار عليها. وليحذر من الإستمرار على ما عنده من مخالفة لأوامر ونواهي الكتاب، ومن عدم الخوف والوجل عند المرور بآيات الوعيد والتقريع على ذلك الذنب، إذا لم يوفق للتوبة في بعضها فليستحضر الخشية والخشوع عند الآيات المتعلقة بذلك الذنب، وليكررها وليتفهمها وليقف عندها وقفة العاجز الذليل الفقير المتضرع لربه، المتعرض لرحمته، بتلاوة كلامه، فإن هذا من أعظم الوسائل لتيسير التوبة. فرتل القرآن، وتدبر معانيه، والتزم حدوده، واضرع إلى الله - تعالى- أن يرزقك التوبة فيما عندك له من مخالفة، تكن من الفائزين بإذن رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 4، م 5، ص 1 - 6. غرة ذي الحجة 1347هـ ماي 1929م.

خطبة

خُطْبَةٌ فِي افْتِتَاحِ دُرُوسِ التَّفْسِيرِ الْعَامِ بِالْجَامِعِ الْأَخْضَرِ ــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله الذي شرفنا بخطابه، وألهمنا حفظ كتابه، وجعلنا من أمة سيد أحبابه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي اختاره الله - تعالى- من صميم العنصر العربي ولبابه، وحلاَّه بأسمى معارف النوع البشري وأكمل آدابه، وأرسله رحمة للعالمين ليكشف عن الدين ما كشف من حجابه، ويهدي من سبقت له العناية الربانية إلى أعتابه، فأدَّى الرسالة وبلغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى رجع الحق إلى نصابه. وعلى الغرِّ الميامين من آله، والشم الغطاريف من أصحابه، وعلى التابعين لهم بإحسان على مر الزمان وتوالي أحقابه. أما بعد، فإن القرآن كلام الجبار، وسيد الأذكار، فيه من العلم ما يفتح البصائر، ومن الأدب ما ينوِّر السرائر، ومن العبر ما يبهر الألباب، ومن الحكم ما يفتح للعلم والعمل كل باب، هو القول الفصل، والحكم العدل، فمن استهدى بغيره ضل، ومن سلك غير نهجه زل، ومن اتبعه كان على الصراط المستقيم. فالحمد لله الذي يسَّر لنا العودة إلى تفسيره، والكرع من عذب نميره. وطوبى وبشري- إن شاء الله تعالى- لحاضري دروسه، بالنفع العميم، والأجر العظيم، والنعيم المقيم. والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القصد، والصحة في الفهم، والبيان في القول، والتوفيق في العمل، والتيسير للختم، إنه المولى

الكريم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين (1). ... - صورة - المقصورة الواقعة داخل الجامع الأخضر التي كان يجلس فيها الشيخ عبد الحميد بن باديس قبل ابتداء الدرس، والجامع الأخضر أسسه حسين باي للصلاة والتعليم سنة 1156هـ ...

_ (1) ش: ج11 م6، ص59، غرة رجب 1349هـ ديسمبر 1930م.

- صورة - منبر الجامع الأخضر ــــــــــــــــــــــــــ

- صورة - سدة الجامع الأخضر التي كان يعلم فيها يعض المواد التي تمنع فرنسة تدريسها كالتاريخ والجغرافية ... صورة عامة للحرم في مسجد سيدي الأخضر (الجامع الأخضر) الذي يعتبر أهم مركز ثقافي وأهم مؤسسة تربوية علمية من المؤسسات التي علم فيها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــ

-صورة- الجامع الأخضر ومأذنته ــــــــــــــــــــــــــ

إفتتاح الدروس العلمية الإسلامية بالجامع الأخضر ومسجد سيدي قموش

إِفْتِتَاحُ الدُّرُوسِ الْعِلْمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْجَامِعِ الْأَخْضَرِ وَمَسْجِدِ سَيِّدِي قَمُّوشْ خُطْبَةُ الإِفْتِتَاحِ ألقاها عبد الحميد بن باديس بعد صلاة العشاء بالجامع الأخضر مفتتحاً بها درس تفسير القرآن العظيم الذي افتتح به التدريس كما هي العادة في كل سنة. ــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله حمداً كبيراً كثيراً، ومجده أكبر، ورفده أكثر. والشكر لله شكراً جزيلاً وفيراً، ونعمته أجزل ورحمته أوفر. أحمده، قذف بالحق على الباطل فدمغه فأزهقه. وأشكره، نصر حزب الحق وبحلية آلائه طوقه. وخذل حزب الباطل وبغمة كيده أشرقه. فله الحمد، وله الشكر بدءاً وعوداً رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توحيداً خالصاً له في ألوهيته وربوبيته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله تصديقاً صادقاً له في نبوَّته ورسالته، شهادة تتنكَّب بها عن سبل الغالين والمقصرين.

ونكون بها على ملَّة إبراهيم- عليه السلام-: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونرجو بها من فضل ربنا أن نكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. والصلاة والسلام على الشاهد المبشر النذير، الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب العربي القرشي الهاشمي إمام الأنبياء وخاتم المرسلين. ورضي الله عن آله الطيبين الطاهرين، وعن أصحابه الهادين المهتدين ... -صورة- مسجد سيدي قموش، أسس سنة 1343هـ - 1924م كما هو مكتوب عليه كان يدرِّس فيه الشيخ عبد الحميد (صورة خارجية) ...

وعن أئمة الهدى من صالح سلف المؤمنين، وعن التابعين لهم بإحسان من جميع المسلمين. أما بعد، فقد عدنا- بفضل الله- إلى رياض القرآن المونقة، وأنهاره العذبة المتدفقة، وأنواره الواضحة المشرقة، نتعظ بمواعظه الملينة للصخور، ونتعالج بدوائه الشافي لما في الصدور، ونستهدي بهداه الموضح للصراط المستقيم، ونستنزل رحمته العامة للمؤمنين. ... -صورة- غرفة الشيخ عبد الحميد في مسبجد سيدي قموش ...

-صورة- محراب مسجد سيدي قموش ــــــــــــــــــــــــــ

-صورة- السبورة التي كان يعلم بها الشيخ عبد الحميد بن باديس في مسجد سيدي قموش ــــــــــــــــــــــــــ

وعدنا- والحمد لله- إلى مدارسة القرآن العظيم الذي (1) أنزله الله آمراً وزاجراً، وسنة خالية، ومثلاً مضروباً فيه نبأنا، وخبر مَن كان قبلنا وحكم ما بيننا لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، لا يشبع منه العلماء، ولا تزيغ له الأهواء، هو الحق ليس بالهزل. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن قسم به قسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم. من طلب الهدى في غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله. هو الذكر الحكيم، وهو النور المبين، هو الصراط المستقيم، وهو حبل الله المتين، فمن تمسك به نجا، ومن تركه كان من الهالكين - عياذا بالله السميع العليم. فالله نسأله- كما وفقنا لقراءته ومدارسته- أن يوفقنا لفقهه ومتابعته، وأن يجعله- في الدارين- حجة لنا لا علينا، وأن يكون نوراً لنا في الدنيا والآخرة، وفي عرصات القيامة، وعلى متن الصراط حتى ندخل معه الجنة دار السلام بسلام آمنين، آمين يارب العالمين (2). ..

_ (1) قد وصف القرآن العظيم بهذه الصفات في حديث الترمدي وغيره. (2) ش: ج 13، م 9، ص 512 - 514، غرة شعبان 1352هـ ديسمبر 1933م.

خطبة افتتاح لدروس التفسير هاته السنة

خُطْبَةُ اِفْتِتَاحِ لِدُرُوسِ التَّفْسِيرِ هَاتِهِ السَّنَةِ جرت عادتنا أن نفتتح دروس التفسير من كل سنة بخطبة، تارة نخرج منها إلى نفس التفسير وتارة نطرق بعدها موضوعاً مناسباً للمقام. ولم نكن فيما مضى نعود إلى كتابتها وفي هذه السنة رأينا أن نحلي بها صدر الشهاب تعميماً للفائدة. ــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله الذي جمل الإنسان بالبيان، وجمل البيان بالقرآن، فالإنسان دون بيان حيوانٌ أبكم، والبيان دون قرآن كلام أجذم، وذو البيان والقرآن هو الأكمل الأعظم، قدراً وتقديراً، والأحسن الأقوم، عملاً وتفكيراً، والأسعد الأكرم، حالاً ومصيراً. أحمده، أرسل محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه القرآن تبصرة وذكرى، ومعجزة كبرى، حجة وتذكيراً، وشرع لنا من دينه الحنيف، مناهل العز والسعادة، ومهد لنا من شرعه الشريف سبل الحسنى والزيادة، رحمة منه- تعالى- وفضلاً كبيراً. وأشكره، هدانا واجتبانا، فرضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، وحبب إلينا ديننا، فوالله لو بذلت لنا الدنيا بحذافيرها في تركه ما ساوت عندنا حبة رغاماً، توفيقاً منه تعالى ويقيناً صادقاً منَّا وبصراً بصيراً.

واستغفره لما كان منا من نقص وتقصير في الوفاء بعهده الحق وشكر فضله الكبير، إنه كان عفواً غفاراً شكوراً. وأصلي وأسلم على سيدنا محمد أشرف خلقه وأكرم رسله، فرق بالقرآن بين الحق والباطل، وهدى به الضالَّ وعلَّم به الجاهل، وجاهد به- في الله- جهاداً كبيراً. وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، اقتفوا طريقته، وأحيوا سنته، فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم ولقَّاهم نضرةً وسروراً. وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً. وعلى بقية أمته، وأهل ملته، لبوا دعوته وأموا غايته ناشطاً وحسيراً. صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم نلقى محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- ونسعد بلقائه ونحشر بين الأمم تحت لوائه، ونجزى بمحبته- إن شاء الله تعالى- جزاءاً موفوراً. أما بعد؛ فقد عدنا- والحمد لله تعالى- إلى مجالس التذكير، من دروس التفسير، نقتطف أزهارها، ونجتني ثمارها، بيسر من الله - تعالى- وتيسير. على عادتنا من تفسير الألفاط بأرجح معانيها اللغوية، وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية، وربط الآيات، بوجوه المناسبات، معتمدين في ذلك على صحيح المنقول وسديد المعقول، مما جلاه أئمة السلف المتقدمون أو غاص عليه علماء الخلف المتأخرون- رحمة الله عليهم أجمعين-. وعمدتنا فيما نرجع إليه من كتب الأئمة تفسير ابن جرير الطبري، الذي يمتاز بالتفاسير النقلية السلفية، وبأسلوبه الترسلي البليغ في بيان معنى الآيات القرآنية، وبترجيحاته لأولى الأقوال عنده بالصواب. وتفسير الكشاف الذي يمتاز بذوقه في الأسلوب القرآني وتطبيقه

فنون البلاغة على آيات الكتاب والتنظير لها بكلام العرب واستعمالها في أفانين الكلام. وتفسير أبي حيان الأندلسي الذي يمتاز بتحقيقاته النحوية واللغوية وتوجيهه للقراءات. وتفسير الرازى الذي يمتاز ببحوثه في العلوم الكونية، مما يتعلق بالجماد والنبات والحيوان والإنسان، وفي العلوم الكلامية ومقالات الفرق والمناظرة في ذلك والحجاج. إلى غير هذا مما لا بد لنا من مراجعته من كتب التفسير والحديث والأحكام، وغيرها مما يقتضيه المقام. نقول هذا ليعرف الطلبة مصادر درسنا، ومآخذ ما يسمعونه منا. ونحن نعلم أننا- والله- كما قال أخو العرب: لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نُسِبَ الْمُعَلَّى ... إِلَى كَرَمٍ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ ... وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ وكما نقول في مثل: "إِنَّمَا نُكَحِّلُ فِي مَوْضِعَ الْعَيْنَيْنِ" وإذا نظرنا إلى قصورنا وخطورة مقام الكلام على كلام الله- تعالى- أحجمنا. وإذا رأينا إلى فضل الله وثقتنا به وحسن قصدنا- إن شاء الله تعالى- في خدمة كتابه أقدمنا. وهذا الجانب الكريم أرجح عندنا، فنحن نقدم معتمدين على الله تعالى، سائلين منه تعالى لنا ولكم أن يوفقنا إلى حسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول، وسداد العمل.

_ (1) ش: ج 11، م 5، ص 1 - 4 غر ة رجب 1348هـ - ديسمبر 1929م.

دعوة أهل الكتاب

دَعْوَةُ أَهْلُ الْكِتَابِ. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)}. ــــــــــــــــــــــــــ أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأمم فكانت رسالته عامة وكانت دعوته عامة مثلها. وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى. ولما أرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان الخلق قسمين: أهل كتاب - وهم اليهود والنصارى- وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه وتحريفهم لما حرفوا وكانوا أولى القسمين باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء، فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} إلى آخر الآيتين. وفي ندآئهم بيا أهل الكتاب تشريف وتعظيم لهم بإضافتهم للكتب، وبعث لهم على قبول ما جاء به محمد - صلى الله

_ (1) 15/ 5 - 16 المائدة.

أدب واقتداء

عليه وسلم - لأنه جاء بكتاب، وهم أهل الكتاب، واحتجاج عليهم بأن الإيمان بالكتاب الذي عندهم يقتضي الإيمان بالكتاب الذي جاء به لأنه من جنسه. أدب واقتداء: هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحدٍ أحسن ما يدعى به وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه، فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون حائل يبعد بينك وبينه. وإذا كان هذا الأدب عاماً في كل تداع وتخاطب فأحق الناس بمراعاته هم الدُّعاة إلى الله والمبينون لدينه، سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين. بيانه لهم، حجته عليهم: كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم، فكانوا لا يظهرون منها إلا ما يشاؤون، ولا تعرف عامتهم منها إلا ما أظهروا، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمي من أمة أميَّة، يبين لهم بما أنزله الله عليه وأوحى إليه من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقداراً كثيراً، ويتجاوز عن كثير مما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسل الله- عليهم الصلاة والسلام- من عنتهم وشرهم وأذاهم. فكان هذا البيان العليم وهذا الخلق الكريم من هذا النبي الأمي كافياً أن يعرفهم بنبوته وصدق دعوته ونهوض حجته، ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.

تمثيل

تمثيل: في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاويين التصريح برجم الزناة فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف وكتموا النص فبينه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والقصة مشهورة في كتب السنن. جاءت صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا تنطبق على غيره فكتموها مثل قول عيسى عليه السلام. وفي الفقرة الثانية عشرة وما بعدها في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا: (إن لي أموراً كثيرةً أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم). صرح عيسى- عليه السلام- بأن الله هو الإله وحده، وأن عيسى رسوله، فكتموها وقالوا فيه ما قالوا. جاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا قول عيسى- عليه السلام-: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته). وأمثال هذا فيما عندهم كثير. أدب واقتداء: على الداعي إلى الله والمناظر في العلم أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه، فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب- ولو كانت هنالك عيوب ومثالب- إقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير. وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب وتعد على الخصم وإبعاد له وتنفير عن الإستمتاع والقبول وهما المقصود من الدعوة والمناظرة.

نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن

نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن: لقد كان الناس أهل الكتاب وغيرهم قبل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلام من الجهل بالله وبأنبيائه وبشرعه. ومن الجهل بآيات الله في أنفسهم وفي الكون. ومن الجهل بنعم الله عليه في أنفسهم بالعقل والفكر والإستعداد للخير والكمال، وفي العالم المسخر لهم بما أودع فيه من مرافق العيش والعمران والحياة، ومن الجهل بقيمة أنفسهم الإنسانية وكرامتها وحريتها. فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان بقوله وبفعله وبسيرته معرفاً للخلق لما كانوا يجهلون. فكان نوراً ساطعاً في ذلك الظلام الحالك فبدده عن البصائر. وكما أن النور الكوني يجلو الموجودات الكونية للأبصار فكذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك النور الروحي الرباني يجلو تلك الحقائق للبصائر، وكما أن النور الكوني يظهر الموجودات الكونية فلا يحرم منها إلا معدوم البصر فكذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك النور الرباني مجلياً للحقائق البشرية كلها ولا يحرم من إدراكها إلا مطموسو البصائر الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وكما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نوراً تنبعث من أقواله وأفعاله وسيرته الأشعة الكاشفة للحقائق، كذلك كان الكتاب الكريم الذي أنزله الله عليه يبين بسوره وآياته وكلماته تلك الحقائق أجلى بيان. فبمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه تمت نعمة الله- تعالى- على البشرية كلها بإظهار وبيان كل ما تحتاج إلى اظهاره وبيانه. ولما دعا الله إلى تصديق رسوله بالحجة العلمية الخلقية من بيانه وتجاوزه ذكر بهذه النعمة العظمى في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}. محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن نور وبيان: في هذه الآية وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور

إستفادة

ووصف القرآن بأنه مبين. وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور بقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (1)} ووصف الرسول بأنه مبين كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (2)}. وهذا ليبين لنا الله- تعالى- أن إظهار النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد، ولقد صدقت عائشة - رضي الله عنها - لما سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كان خلقه القرآن) (3). إستفادة: نستفيد من هذا: أولاً- أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان ولهذا يرد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن. وثانياً- أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته وفقه حياته - صلى الله عليه وسلم - يتوقف على فقه القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما. إقتداء: هذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان، فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا النور وهذا البيان، فهو على ما يسر له من العلم- ولو ضئيلاً- يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال وهو بذلك وبعمله الصالح كالنور يشع على من حوله وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من

_ (1) 8/ 64 التغابن. (2) 44/ 16 النحل. (3) ذكره القاضي عياض في الشفاء وابن سعد في طبقاته.

الهداية ونوعها

علم وعمل. فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه ويعمل عليه ليضرع إلى الله دائماً في دعواته أن يمده بنوره وليدع بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعو به في ذلك وهو: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وأجعل لي نوراً) (1). الهداية ونوعها: قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم ومرضاة خالقهم، وهذه هي هداية الدلالة وهي من فضل الله العام للناس أجمعين وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكن والاختيار - قامت حجة الله على العباد. ثم يسر من شاء- وهو الحكيم العدل- إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال. وهذه هي دلالة التوفيق وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته وأقبلوا على ما أتاهم من عنده فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (2)} وأما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذلك التيسير كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (1)}. فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هُدوا دلالة وتوفيقاً والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة وحرموا من التوفيق في جزاء إعراضهم.

_ (1) البخاري ومسلم وغيرهما. (2) 17/ 47 محمد. (3) 61/ 5 الصف.

بماذا تكون الهداية

بماذا تكون الهداية: كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون، إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين. فلذا بيَّن تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه فيتمسك بها من يريد الهدى وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال. ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر- جاء بالضمير مفرداً في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ}. لمن تكون الهداية: أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها فهي كما تقدم عامة، وأما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد فهي للذين اتبعوا ما جاءهم من عند الله من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لهما متبعين لرضوانه المقتضي لقبوله ومثوبته وكرامته لهم، ولم يتبعوا أهواءهم ومألوفاتهم وما ألفوا عليه آباءهم ولا أهواء الناس ورضاهم. فكان اتباعهم لرضوان الله سبباً في دوام إرشادهم وتوفيقهم وبقدر ما يكون ازدياد اتباعهم يكون ازدياد توفيقهم، إذ قوة السبب تقتضي قوة المسبب، والخير يهدي إلى الخير والهدى يزداد بالإهتداء. وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والإتباع يقتضي الربط ما بين ضديهما: الإعراض والخذلان وأنه بقدر ما يكون الإعراض عن الهدى يكون الخذلان والحرمان والشر يدعو بعضه إلى بعض والسيئة تجر إلى السيئة. وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الإتباع وجعل التوفيق مسبباً عنه- بما في صلة الموصول من التعليل- قوله تعالى: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}. إلى ماذا تكون الهداية: فشؤون الشخص في نفسه وشؤونه فيما بينه وبين أهله وفيما بينه

الإخراج من حالات الحيرة إلى حالة الاطمئنان

وبين بنيه وفيما بينه وبين أقاربه وفيما بينه وبين جيرانه وفيما بينه وبين من تربطه به علاقة من علاقات الحياة ومصالحها، وشؤون الجماعات وشؤون الأمم فيما بينها، كل هذه الشؤون سبل وطرق في الحياة تسلك ويسار عليها للبلوغ إلى الغايات المقصودة منها مما به صلاح الفرد والمجموع. وكلها إن سلكت بعلم وحكمة وعدل وإحسان كانت سبل سلامة ونجاة وإلا كانت سبل هلاك، فيحتاج العبد فيها إلى إرشاد وتوفيق من الله- تعالى-. وقد منَّ الله بفضله على العباد بهذا النبي الكريم والكتاب العظيم فمن آمن بهما واتبعهما ففيهما ما يهديه إلى كل ما يحتاج إليه في كل سبيل من تلك السبل في الحياة وباتباعها. واتباعهما اتباع لرضوان الله، يوفقه الله ويسدده في سلوك تلك السبل- الفردية والجماعية والأممية- إلى ما يفضي به إلى السلامة والنجاة. وتكون تلك السبل كلها له سبل سلام أي سلامة ونجاة لأنها أفضت به بإرشاد الله وتوفيقه جزاء لاتباعه وتصديقه إليها كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ (1)}. الإخراج من حالات الحيرة إلى حالة الاطمئنان: تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيراً مرتبكاً كمن يكون في ظلام، منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى والمقلد للآباء من دليل يطمئن به ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه. ومنها حالة الشكِّ ومنها حالة اعتراض الشبهات ومنها حالة ثوران الشهوات، وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والإهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات والشهوات وما فيها من حيرة وعماية إلى الحالة التي تطمئن فيها القلوب كما تطمئن

_ (1) 18/ 5 المائدة.

الإسلام، هو السبيل الجامع العام

في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام. فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات وتكسر سلطان الشهوات. فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من أعراض عنهما أو خالفهما يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. على العبد أن يقبل ما فيه كماله وسعادته ومرضاة خالقه مما هداه الله إليه برسوله وكتابه وجعل قبوله له سبباً في توفيقه وإخراجه من الظلمات إلى النور، وعليه أن يعتقد أنه لا ينال شيئاً من التوفيق وحظاً من النور إلا بإذن الله، أي إرادته وتيسيره، فلا يعتمد على نفسه ولا على أعماله، وإنما يكون اعتماده على الله، فيحمله ذلك على الإجتهاد في العمل وعدم العجب به ودوام التوجه إلى الله وصدق الرجاء فيه والخوف من عقابه ودوام المراقبة له. ولأجل لزوم هذا الإعتماد على الله الميسر للأسباب الذي لا يكون في ملكه إلا ما أراد- قارن قوله {يَهْدِي} و {وَيُخْرِجُهُمْ} بقوله {بِإِذْنِهِ}. الإسلام، هو السبيل الجامع العام: ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- والقرآن العظيم هو دين الله الإسلام، فكل ما دل الله عليه الخلق بهما وما وفق إليه من العلم والعمل باتباعهما فهو من الإسلام، ولهذا لما ذكر تعالى إرشاده وتوفيقه للذين اتبعوا رضوانه وإخراجهم من الظلمات إلى النور ذكر إرشاده وتوفيقه لهم إلى الطريق المستوي الموصل إلى الكمال والسعادة ومرضاة الله الجامع لذلك كله بقوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم

الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم: إن الحاجة إلى إرشاد الله وتوفيقه دائمة متجددة، فكل عمل من أعمال الإنسان، وكل حال من أحواله هو محتاج فيه إلى هداية الله ودلالته ليعرف ما يرضاه الله منه مما لا يرضاه، وهو محتاج فيه إلى توفيق الله وتيسيره ليقوم بما يرضاه منه وشرعه له ودله عليه، ولن يزال العبد- غير المعصومين - صلى الله عليه وسلم - تغشاه ظلمات الشبهات والشهوات فيحتاج إلى دلالة الله وتوفيقه ليخرج منها إلى نور الإيمان والإستقامة. فالعبد المحتاج دئماً إلى الرجوع إلى كتاب الله وما ثبت من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليهتدي إلى ما يرضي الله مما شرعه له من أحواله وأفعاله، وإلى ما يدفع عنه شبهاته وينقذه من شهواته ومحتاج إلى التوسل بذلك الرجوع إليهما وذلك الإتباع لهما إلى الله- تعالى- ليفتح له أبواب المعرفة ويمد له أسباب التوفيق. وهذا هو القصد من صيغة المضارع المفيدة للتجدد في قوله تعالى: {يَهْدِي} و {يُخْرِجُهُمْ} و {يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. جعلنا الله من المتبعين لرضوانه، الرجاعين لكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الفائزين منهما بالهداية، لخير غاية، بإذنه وفضله، بيده الخير وهو على كل شيء قدير (1).

_ (1) ش: ج 3، م 11، ص 135 - 144 - ربيع الأول 1354هـ جوان 1935م.

سبيل السعادة والنجاة

سَبِيِلُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}. ــــــــــــــــــــــــــ خلق الله محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم- أكمل الناس وجعله قدوتهم وفرض عليهم اتباعه والائتساء به. فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم ومغفرة خالقهم ورضوانه، إلا باقتفاء آثاره والسير في سبيله. فلهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين سبيله بياناً عاماً للناس تتضح المحجة للمهتدين وتقوم الحجة على الهالكين. أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات فقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}. ثم بين سبيله بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الله على بصيرة، وتنزيه الله- تعالى- والبراءة من المشركين. فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. الدعوة إلى الله: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته كان يدعو الناس كلهم إلى الله بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده، وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة

_ (1) 108/ 12 يوسف.

على كل مسلم أن يكون داعيا إلى الله

جلية لا خفاء بها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء " (1) فكانت مشاهدة معينة كما أشير إليها في الآية إشارة المعاين المشاهد. كان يدعو إلى دين الله ويبين هو ذلك الدين وبمثله يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، ويشاهد الناس تلك العبادة والتوحيد والطاعة فكان - صلى الله عليه وسلم - كله دعوة إلى الله. فما دعا إلى نفسه، فقد مات ودرعه مرهونة في دَيْن، وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول: "لا فضل لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله". كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم فكتب الكتب وأرسل الرسل فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم. كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله، ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع عن الإنذار والتبشير، والوعظ والتذكير. كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل حتى يصير الأمر المدرك واضحاً لديه كوضوح الأمر المشاهد بالصبر فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها وفي جميع أحواله. وكانت دعوته المبنية على الحجة والبرهان مشتملة على الحجة والبرهان، فكان يستشهد بالعقل ويعتقد بالعلم ويستنصر بالوجدان ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية وما استفاض من أخبارها وبقي من آثارها من أنباء الأولين وما يمر الناس عليه مصبحين وبالليل. على كل مسلم أن يكون داعياً إلى الله: لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله هي سبيل محمد - صلى الله

_ (1) رواه ابن ماجة عن طريق ابي الدرداء - رضي الله عنه - بسند موثق وفيه ابن سميع قال فيه ابن عدي: حسن الحديث.

عليه وسلم - ما يفيد أن على اتباعه- وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة- أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم- ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم أتباعه وأن اتباعهم له لا يتم إلا به- جاء التصريح بذلك هكذا: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. فالمسلمون أفراداً وجماعات عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين. وأن تكون دعوتهم وفقاً لدعوته وتبعاً لها. فمن الدعوة إلى الله دروس العلوم كلها مما يفقه في دين الله ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته، فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته داع إلى الله، والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته داع إلى الله، ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل. ومن الدعوة إلى الله بيان حجج الإسلام ودفع الشبه عنه ونشر محاسنه بين الأجانب عنه ليدخلوا فيه وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه. ومن الدعوة إلى الله مجالس الوعظ والتذكير لتعريف المسلمين بدينهم وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم، وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم، وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية، أفرادها وأممها، إلا بينه لهم ودعاهم إليه. وما من سبب مما تشقا به البشرية أفرادها وأممها إلا بينه لهم ونهاهم عنه. وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم وبقاياه الباقية لديهم ومظاهره القائمة بهم لما بقيت لهم- وهم المجردون من كل قوة- بقية، ولتلاشت أشلاؤهم- وهم الأموات- في الأمم الحية. ومن الدعوة إلى الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواحب بحسب

تفرقة

رتبة الاستطاعة. فيجب باليد فإن لم يستطيع فباللسان فإن لم يسطع فبالقلب وهو أضعف الإيمان وأقل الأعمال في هذا المقام. ومن الدعوة إلى الله ظهور المسلمين- أفراداً وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل، وصدق وأمانة، فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم منه. وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم إلا لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال عياراً على الأقوال. ومن الدعوة إلى الله بعث البعثات إلى الأمم المسلمة ونشر الكتب بألسنتها وبعث المرشدين إلى عوام الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم. كل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- وسنة السلف الصالح من بعده. فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسبيل إخوانه الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - من قبله، فلم يكن المسلم ليدع من هذا المقام ثابتاً لكل مسلم ومسلمة، وحقا القيام به - بقدر الاستطاعة- على كل مسلم ومسلمة- فأهل العلم به أولى وهو عليهم أحق. وهم المسؤولون عنه قبل جميع الناس، وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلا يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب. وإذا عادوا إلى القيام به- وقد عادوا والحمد لله- أوشك- إن شاء الله- أن ينجلي عن المسلمين مصابهم. تفرقة: ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله صادقاً في دعواه، فلا بد من التفرقة يين الصادقين والكاذبين والفرق بينهما- مستفاداً من الآية- بوجهين: الأول أن الصادق لا يتحدث عن نفسه ولا يجلب لها جاهاً ولا مالاً ولا يبغي لها من الناس مدحاً ولا رفعة. أما الكاذب فإنه

مباحث لفظية

بخلافه فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله. وهذا الفرق من قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ}. الثاني: أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان فلا تجد في كلامه كذباً ولا تلبيساً ولا ادعاءً مجرداً، ولا تقع من سلوكه في دعوته على الْتِوَاء ولا تناقض ولا اضطراب. وأما الكاذب فإنه بخلافه، فإنه يلقي دعاويه مجردة ويحاول تدعيمها، بكل ما تصل إليه يده ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلا بعداً عن الصراط المستقيم. وهذا الفرق من قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ}. مباحث لفظية: (على بصيرة): يتعلق بأدعو واختيرت (على) لتدل على تمام التمكن. (أنا): تأكيد للضمير المستتر في أدعو. ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستتر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على أتباعه كما تتصل دعوتهم بدعوته. وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية، والكلام تصوير للواقع. (من): تفيد للعموم لكل تابع، وأكملهم في الإتباع أكملهم في الدعوة، لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون. تنزيه الله تعالى: الإعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة ويكاد لا تكون لمنكريه- عناداً- نسبة عددية بين البشر. ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه ولا يليق بجلاله من الصاحبة والولد والمادة والصورة والحلول والشريك في التصرف في الكون والشريك في التوجه والضراعة إليه والسؤال منه والإتكال عليه. فأرسل الله الرسل ليبيِّنوا للخلق تنزهه عن ذلك كله. وكان من سبيل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يدعو الخلق إلى الله وينزهه

مباحث لفظية

عن كل ما نسبه إليه المبطلون وتخيله المتخيلون، وهو معنى قوله {وَسُبْحَانَ اللَّهِ}. فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلا بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلا بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته ومواقع رحمته ومظاهر حكمته وآيات ربوبيته وألوهيته ووحدانيته في جلاله وسلطانه وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله. وهذا التنزيه- وإن كان داخلاً في الدعوة إلى الله- فإنه خصص بالذكر لعظم شأنه، فإنه ما عرف الله من شبهه بخلقه أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية، فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها تنزيه الله- تعالى- عن الشبيه والشريك وكل ما لا يليق. والمسلمون المتبعون لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله على بصيرة متبعون له في هذا التنزيه عقداً وقولاً وعملاً واعلاناً ودعوة. مباحث لفظية: (سبحان) منصوب بفعل محذوف تقديره، أسبح، أي أنزه. والجملة معطوفة على جملة أدعو، فهي من بيان القبيل. البراءة من المشركين: الأمة التي بعث منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أول أمة دعاها إلى الله هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها وتعبد مع ذلك أوثانها، تزعم أنها تقربها إلى الله وتتوسط لها لديه. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدعو إلى الله وينزهه يعلن ببراءته من المشركين وأنه ليس منهم براءة من عقيدتهم وأقوال وأعمال شركهم، فهو مباين لهم في العقد والقول والعمل مباينة

الضد للضد. فكما باين التوحيد الشرك باين هو المشركين وذلك معنى قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وهذه البراءة والمباينة، وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه فإنها نص عليها بالتصريح لتأكيد أمر مباينة المشركين (والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلية وخفيه) في جميع مظاهر شركهم حتى في صورة القول كما شاء الله وشاء فلان. فلا يقال هكذا ويقال: ثم شاء فلان، كما جاء في حديث بيناه في جزء من الأجزاء الماضية، أو في صورة الفعل، كأن يسوق بقرة أو شاة مثلاً إلى ضريح من الأضرحة ليذبحها عنده فإنه ضلال كما قاله (الشيخ الدرديري في باب النذور). فضلاً عن عقائدهم كاعتقاد أن هنالك ديواناً من عباد الله يتصرف في ملك الله، وأن المذنب لا يدعو الله وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات، وذلك الميت يدعو له الله.- لتأكيد أمر المباينة للمشركين، في هذا كله نص عليها بالتصريح كما قلنا، وللبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جليه وخفيه. والمباينة والتَّبري لازمة من كل كفر وضلال، وذلك مستفاد من الدعوة إلى الله وتنزيهه. وإنما خصص المشركين لما تقدم، ولأن الشرك هو شر الكفر وأقبحه. ولما كانت هذه المباينة والبراءة داخلة في الدعوة إلى الله وتنزيهه، فالمسلمون المتبعون لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - كما يدعون إلى الله على بصيرة وينزهونه، يباينون المشركين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ويطرحون الشرك بجميع وجوهه ويعلنون براءتهم وانتفاعهم من المشركين. والحمد لله رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 1، م 11 ص4 - 10، محرم 1354هـ - افريل 1935م.

كيف تكون الدعوة إلى الله والدفاع عنها

كَيْفَ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَالدِّفَاعُ عَنْهَا. "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (1). ــــــــــــــــــــــــــ سبيل الرب جلَّ جلاله: شرع الله لعباده بما أنزل من كتابه وما كان من بيان رسوله ما فيه استنارة عقولهم وزكاء نفوسهم واستقامة أعمالهم. وسمَّاه سبيلاً ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى العناية المقصودة، وهي السعادة الأبدية في الحياة الأخرى. وأضافه إلى نفسه ليعلموا أنه هو وضعه، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه. وذكر من أسمائه الرب، ليعلموا أنَّ الرب- الذي خلقهم وطورهم ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم ومراحل تكوينهم- هو الذي وضع لهم هذه السبيل، لطفاً منه بهم وإحساناً إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم. فكما كان رحيماً بهم في خلقه كان رحيماً بهم في شرعه. فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها، ومع شكر له وشوق إليه. وأمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يدعو الناس أجمعين- وحذف معمول أدع لإفادة العموم - إلى هذه السبيل فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}.

_ (1) 125/ 16 لنحل.

إهتداء

إهتداء: أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو إلى سبيل ربه، وهو الأمي المعصوم، فما ترك شيئاً من سبيل ربه إلا دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس من سبيل الرب جل جلاله، فاهتدينا بهذا- وأمثاله كثير- إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ودعاة الله ودعاة الشيطان. فمن دعا إلى ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى، ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال. إقتداء: فالمسلم المتبع للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يألو جهداً في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه. وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلو سبل الباطل على دعاتها من الشياطين. أركان الدعوة: أركان الدعوة أربعة: الداعي، وهو النبي:- صلى الله عليه وآله وسلم-. والمدعو، وهم جميع الناس. والمدعو إليه، وهو سبيل الرب جلَّ جلاله. والدعوة إلى سبيله الموصل إليه دعوة إليه، فالمدعو إليه في الحقيقة هو الله تعالى، والبيان عن الدعوة. وتجيء الآيات القرآنية منها ما هو حديث وبيان عن الداعي، ومنها ما هو حديث وبيان عن المدعو إليه، ومنها حديث وبيان عن بيان الدعوة. وتتضمن كل آية جاءت في واحد الذكر أو الإشارة للثلاثة الأخرى، وهذه الآية الكريمة جاءت في بيان كيفية الدعوة، وبماذا تؤدي

الحكمة

وكيف يدافع عنها مع ذكر الدَّاعي والمدعو إليه. فقال تعالى: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. الحكمة: الحكمة هي العلم الصحيح الثابت المثمر للعمل المتقن، المبني على ذلك العلم. فالعقائد الحقة والحقائق العلمية الراسخة في النفس رسوخاً تظهر آثاره على الأقوال والأعمال حكمة. والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة التي أثمرتها تلك العقائد: حكمة، والأخلاق الكريمة كالحلم والأناة وهي علم وعمل نفسي: حكمة. والبيان عن هذا كله بالكلام الواضح الجامع. حكمة، تسمية للدال باسم المدلول. إستدلال واستنتاج: في سورة الإسراء ثمان عشرة آية، جمعت أصول الهداية، من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا " إلى: " وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}. وقد تكلمنا عليها في الجزء 6، 7، 8، 9، 10، من المجلد السادس وقد جمعت تلك الآيات كل ما ذكرنا من العقائد الحقة والحقائق العلمية والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة والأخلاق الكريمة، وسمى الله ذلك كله حكمة فقال تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (1).

_ (1) روى الثلاتة البخاري في كتاب الأدب باب ما يجوز من الشعر.

إهتداء واقتداء

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً" وذلك لأن من الشعر ما فيه بيان عن عقيدة حق أو خلق كريم أو عمل صالح أو علم وتجربة. كشعر أمية ابن أبي الصلت الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: كاد أن يسلم، وككلمة لبيد - رضي الله عنه -: "أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ". التي قال فيها - صلى الله عليه وسلم -: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ)). فالحكمة- التي أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الناس إلى سبيل ربه بها- هي البيان الجامع الواضح للعقائد بأدلتها، والحقائق ببراهينها، والأخلاق الكريمة بمحاسنها، ومقابح أضدادها، والأعمال الصالحة- من أعمال القلب واللسان والجوارح- بمنافعها ومضار خلافها. وهكذا كان بيانه لهذه الأشياء كلها بما صحَّ من أحاديثه وجوامع كلمه، وهكذا هو بيان القرآن لها كلها حيثما كانت من آياته، فآياته القرآن وأحاديثه - صلى الله عليه وسلم - في بيان هذه الأشياء- البيان المذكور- هما الحكمة التي كان يدعو إلى سبيل ربه بها. وتلك الأشياء كلها أيضاً حكمة، وهي التي كان يعلمها كما في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. فصلى الله عليه وآله وسلم من داع إلى الحكمة بالحكمة ومعلم للحكمة بالحكمة. إهتداء واقتداء: هدتنا الآية الكريمة إلى أسلوب الدعوة، وهو الحكمة، وتجلت هذه الحكمة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فعلينا أن نلتزمها جهدنا حيثما دعونا. ونقتدي بأساليب القرآن والسنة في دعوتنا فبها يحصل الفهم واليقين والفقه في الدين والرغبة في العمل

الموعظة الحسنة

والدوام عليه. وها نحن قد بلغ الحال بنا إلى ما بلغ إليه من الجهل بحقائق الدين والجمود في فهمه والإعراض عن العمل به والفتور في العمل. فحق على أهل الدعوة إلى الله- وخصوصاً المعلمين- أن يقاوموا ما بيَّنا من جهل وجمود وإعراض وفتور بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها والعقائد ببراهينها والأخلاق بمحاسنها والأعمال بمصالحها. وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية والحمد لله - وأخذ أثرها- بفضل الله- يظهر في الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله. الموعظة الحسنة: الوعظ والموعظة الكلام المليِّن للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب، فيحمل السامع إذا اتعظ وقبل الوعظ وأثر فيه على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقد يطلق على نفس الأمر والنهي. الإستدلال: ففي حديث العرباض الذي رواه الترمذي وغيره: وعظنا - رسول الله صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت- خافت- منها القلوب وذرفت- سالت- منها العيون. فقد خطب فيهم خطبة كان لها هذا الأثر في قلوبهم فهذه حقيقة الموعظة، وقال تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (1). أي يؤمرون به، وقال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} (2).

_ (1) 165/ النساء. (2) 17/ 24 النور.

بماذا تكون الموعظة

أي ينهاكم. فهذا من إطلاق الوعظ على الأمر والنهي، لأن شأن الأمر والنهي أن يقترن بما يحمل على امتثاله من الترغيب والترهيب. بماذا تكون الموعظة: يكون الوعظ بذكر أيام الله في الأمم الخالية، وباليوم الآخر وما يتقدمه وما يكون فيه من مواقف الخلق وعواقبهم ومصيرهم إلى الجنة أو إلى النار، وما في الجنة من نعيم وما في النار من عذاب أليم، وبوعد الله ووعيده. وهذه أكثر ما يكون بها الوعظ ويكون بغيرها كتذكير الإنسان بأحوال نفسه ليعامل غيره بما يجب أن يعامل به وهو من أدق فنون الوعظ وأبلغها مثل قوله تعالى:- وقد نهى أن يقال لمن ألقى السلم لست مؤمناً-. {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (1). وقوله تعالى- وقد أمر بالعفو والصفح-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2). تفريق بالتمثيل: يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (3) هذه حكمة. ويقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (4)

_ (1) 4/ 93 النساء. (2) 22/ 24 النور. (3) 6/ 156 الأنعام و34/ 17 الإسراء. (4) 4/ 9 النساء.

حسن الموعظة

هذه موعظة، ويقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} (1). هذه أيضاً موعظة. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} (2) هذه حكمة. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3). هذه موعظة. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (4)، هذه حكمة. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (5) هذه موعظة. وهكذا تمتزج الحسنة بالحكم البالغة في آيات القرآن الكريم فتتبعها في جميع سوره تجدها وتدبرها تقع منها على علوم جمة وأسرار غزيرة. حسن الموعظة: الموعظة التي تحصل المقصود منها من ترقيق للقلوب للحمل على الإمتثال لما فيه خير الدنيا والآخرة هي الموعظة الحسنة. وإنما يحصل المقصود منها إذا حسن لفظها بوضوح دلالته على معناها. وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع واستقرت في القلوب وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية فأثارت الرغبة والرهبة

_ (1) 8/ 4 النساء. (2) 94/ 16 النحل. (3) 94/ 26 النحل. (4) 30/ 22 - 31 الحج. (5) 31/ 22 الحج.

تطبيق واستدلال

وبعثت الرجاء والخوف بلا تقنيط من رحمة الله ولا تأمين من مكره وانبعثت عن إيمان ويقين وتأدَّت بحماس وتأثر فتلقتها النفس من النفس وتلقنها القلب من القلب إلا نفساً أحاطت بها الظلمة وقلباً عم عليه الرَّان. عافى الله قلوب المؤمنين. تطبيق واستدلال: كل هذا تجده في مواعظ القرآن وفيما صحَّ من مواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان- صلَّى الله عليه وسلم - كما جاء في الصحيح إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه. كأنه منذر جيش يقول صبحكم - أغار عليكم في الصباح- مساكم- أغار عليكم في المساء- وكان يقصر خطبه في بلاغة وإيجاز. إهتداء واقتداء: هدتنا الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها إلى أن من الموعظة ما هو حسن وهو الذي تكون به الدعوة، ومنها ما هو ليس بحسن فيجتنب. وبينت مواعظ القرآن ومواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحسن. فعلينا أن نلتزمه لأنه هو الذي تبلغ به الموعظة غايتها وتثمر بإذن الله ثمرتها، وعلينا أن نجتنب كل ما خالفه مما يعدم ثمرة الموعظة، كتعقيد ألفاظها، أو يقلبها إلى ضدِّ المقصود منها، كذكر الآثار الواهية التي فيها أعظم الجزاء على أقل الأعمال. تحذير: أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة مسجعة طويلة من مخلفات الماضي لا يُراعى فيها شيء من أحوال الحاضر وأمراض السامعين تلقي بترنم وتلحين أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيراً ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.

الجدال بالتي هي أحسن

هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية سد بها أهلها باباً عظيماً من الخير فتحه الإسلام وعطلوا بها الوعظ والإرشاد، وهو ركن عظيم من أركان الإسلام. فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيباً في الناس، وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون. ورحم الله أبا الحسن - كرم الله وجهه- فقد قال: (الفقيه كل الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكره. ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه). الجدال بالتي هي أحسن: لا بد أن يجد داعية الحق معارضة من دُعاة الباطل وأن يلقى منهم مشاغبة بالشبه، واستطالة بالأذى والسفاهة. فيضطر إلى رد باطلهم وإبطال شغبهم ودحض شبههم، وهذا هو جدالهم ومدافعتهم الذي أمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - (وجادلهم). ولما كان أهل الباطل لا يجدون في تأييد باطلهم إلا الكلمات الباطلة يموهون بها، والكلمات البذيئة القبيحة يتخذون سلاحاً منها، ولا يسلكون في مجادَلتهم إلا الطرق الملتوية المتناقضة، فيتعسفون فيها ويهربون إليها- لما كان هذا شأنهم أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجتنب كلماتهم الباطلة والقبيحة وطرائقهم المتناقضة والملتوية، وأن يلتزم في جدالهم كلمة الحق والكلمات الطيبة البريئة، وأن يسلك في مدافعتهم طريق الرفق والرجاحة والوقار. دون فحش ولا طيش ولا فظاظة، وهذه الطريقة في الجدال هي التي أحسن من غيرها في لفظها ومعناها ومظهرها وتأثيرها وإفضائها للمقصود من إفحام المبطل وجلبه ورد شره عن الناس واطلاعهم على نقصه وسوء قصده. وهذه هي الطريقة التي أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -

إهتداء واقتداء

بالجدال بها في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1). إهتداء واقتداء: هدتنا الآية الكريمة إلى الطريقة المحمودة المشروعة في الجدال، وفي آيات القرآن بيان لهذه الطريقة البيان التام، فإنه كما لم يترك القرآن عقيدة من عقائد الإسلام إلا بينها وأوضح دليلها ولا أصلاً من أصول أحكامه أو أصول آدابه إلا بينه واحتج له، وذكر حكمته وثمرته، كذلك لم يترك شبهة من شبه الباطل إلاَّ ردها بالطريقة الحسنة التي أمر بها. وجاءت السنة النبوية الكريمة والسيرة المحمدية الشريفة مطبقة لذلك ومنفذة له. فالكتاب والسنة فيهما البيان الكافي الشافي للجدال بالتي هي أحسن، كما فيهما البيان الشافي الكافي للحكمة والموعظة الحسنة. فعلينا أن نطلب هذا كله من الكتاب والسنة، ونجهد في تتبعه وأخذه واستنباطه منهما، وندأب على العمل بما نجد. والتحلي به والإلتزام له، من هذه الأصول الثلاثة في الدعوة والدفاع عنها. أحكام وتنزيل: أمر الله بالدعوة وبالجدال على الوجه المذكور، فكلاهما واجب على المسلمين أن يقوموا به، فكما يجب لسبيل الرب جلَّ جلاله أن تعرف بالبيان بالحكمة، وأن تحب بالترغيب بالموعظة الحسنة، كذلك يجب أن يدافع من يصدُّون عنها بالتي هي أحسن. إذ لا قيام لشيء من الحق إلا بهذه الثلاث. غير أنَّ الدَّعوة بوجهيهما والجدال ليستا في منزلة واحدة في القصد والدوام. فإن المقصود بالذات هو

_ (1) 125/ 16 النحل.

تحذير

الدعوة وأما الجدال فإنه غير مقصود بالذات وإنما يجب عند وجود المعارض بالشبهة والصادِّ بالباطل عن سبيل الله. فالدعوة بوجهيهما أصل قائم دائم، والجدال يكون عند وجود ما يقتضيه. ولهذا كانت الدعوة بوجهيهما محمودة على كل حال، وكان الجدال مذموماً في بعض الأحوال، وذلك فيما إذا استعمل عند عدم الحاجة إليه، فيكون حينئذ شاغلاً عن الدعوة ومؤدياً- في الأكثر- إلى الفساد والفتنة. فإذا كان جدالاً لمجرد الغلبة والظهور فهو شر كله وأشد شراً منه إذا كان لمدافعة الحق بالباطل، وفي هذه الأقسام الممنوعة جاء مثل قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (*) {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}. وقوله (1) - صلى الله عليه وسلم -: (ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل). ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (2) تحذير: المدافعة والمغالبة من فطرة الإنسان ولهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلاً غير أن التربية الدينية هي التي تضبط خلقه وتقوم فطرته فتجعل جداله بالحق عن الحق. فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة فنذهب في الجدل شر مذاهبه وتصير الخصومة لنا خلقاً، ومن صارت الخصومة له خلقاً أصبح يندفع معها في كل شيء ولأدنى شيء، يبالي بحق ولا باطل. وإنما يريد الغلب بأي وجه كان، وهذا هو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (3)

_ (1) الترمذي وصححه. (2) 58/ 43 الزخرف. (3) الصحيحان. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا، والآية الكريمة نصها {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ}

ثمرته

إن أبغض الرجال إلى الله الألد (الشديد الخصومة) الخصوم (الكثير الخصومات). ومن ضبط نفسه وراقب ربه لا يجادل إذا جادل إلا عن الحق وبالتي هي أحسن. (علينا الدعوة والجدال وإلى الله الهدي والضلال، والمجازاة على الأعمال). الدعوة بوجهيها يجب أن تكون عامة والجدال على وجهه عام مثلها ثم يكون حظ كل أحد من الهدى والضلال على حسب استعداده وقابليته وما سبق عليه أمر ربه وتكون مجازاته على ذلك للخالق الذي هو العالم بمن خرج عن طريقه وأعرض عن هداه وبالذين قبلوا هداه فاهتدوا وساروا في سبيله. والعدل الحقيقي التام في الجزاء إنما يكون ممن يعلم السر والعلن وليس ذلك إلا لله فلا يكون الجزاء على الهدى والضلال من سواه. ولهذا ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1). ثمرته: ثمرة العلم بهذا أن الداعي يدعو ولا ينقطع عن الدعوة، ولو لم يتبعه أحد، لأنه يعلم أن أمر الهدى والضلال إلى الله، وإنما عليه البلاغ. وأنه يصبر على ما يلقى من إعراض وعناد وكيد وأذى دون أن يجازي بالمثل أو يفتر في دعوة من آذاه، لعلمه بأن الذي يجازي إنما هو الله. جعلنا الله والمسلمين من الدعاة إلى سبيله، كما أمر الصابرين المحتسبين أمام من آمن وشكر، ومن جحد وكفر، غير منتظرين إلا جزاءه ولا متَّكِلِين إلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل (2).

_ (1) 125/ 16 النمل. (2) ش: ج 2 م 11 ص 65 - في 7 صفر 1354 - 5 ماي 1935

آية الليل وآية النهار

آيَةُ اللَّيْلِ وَآيَةُ النَّهَارِ. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ لله تعالى في سور القرآن، وعالم الأكوان، آيات بينات دالة على وجوده، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وحكمته، ونعم سابغات موجبة لحمده، وشكره، وعبادته. ولما ذكر تعالى آيته، ونعمته، بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم، فقال تعالى {وَجَعَلْنَا} الآية. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}: خلقناهما ووضعناهما آيتين. وجعل الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصة، فهما حادثان مسيران بتدبير وتقدير. و {اللَّيْلَ}: هو الوقت المظلم الذي يغشى جانباً من الكرة الأرضية عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل. و {النَّهَارَ}: هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيئه بنورها ولا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة وأمكنتها، يكور الليل على النهار بأن يحل محله في جزء من

_ (1) 17/ 12 الإسراء.

الكرة- وجزء الكرة مكور- فيكون النهار الحال مكوراً بحكم تكوُّر المحل. وكذلك النهار يكور عليه فيحل محله من الكرة فيكون أيضاً مكوراً بحكم تكوُّر المحل. وإنما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله في محله لأنه لا يمكن تكويره عليه بحلوله عليه في نفسه لأنهما ضدان لا يجتمعان، وليس جسمين يحل أحدهما على الآخر. والآية: هي العلامة الدَّالة، وكان الليل والنهار {آيَتَيْنِ}: بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول والقصر على نظام محكم وترتيب بديع، بحسب الفصول الشتوية والصيفية، وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض، المناطق الإستوائية والقطبية الشمالية والجنوبية وما بينهما. حتى يكونا في القطبين ليلة ويوماً في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين، ويوم فيه ستة أشهر هو صيفهم، فهذا الترتيب والتقدير والتسيير دليل قاطع على وجود خالق حكيم قدير، لطيف خبير. الليل في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو القمر فيقال في القمر {آيَةَ اللَّيْلِ} والنهار في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو الشمس، فيقال في الشمس {آيَةَ النَّهَارِ}. وبعد ما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما ذكر أظهر آيات كل واحد منهما وأضافهما إليه. فقال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ... الخ} وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخراً عن الليل والنهار، وكيف؟ وما كان الليل والنهار إلاَّ باعتبار إضاءة الشمس لجانب وعدم إضاءتها لمقابله، فليست الفاء في {فَمَحَوْنَا} للترتيب في الوجود، وإنما هي للترتيب في الذكر وللترتيب في التعقل. فإن القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخر في التعقل عن الكل. وقد اتفق الكاتبون على الآية ممن رأينا على أن المراد من لفظ

الآية في الموضعين واحد، فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار، والإضافة في {آيَةَ اللَّيْلِ} و {آيَةَ النَّهَارِ} للتبيين كإضافة العدد للمعدود. أو يراد بها الشمس والقمر فيكون {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} على تقدير مضاف في الأول مقدراً هكذا: وجعلنا الليل والنهار، أو في الأخير مقدراً هكذا: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين، وأما على تقديرنا المتقدم فإن لفظ {آيَتَيْنِ} صادق على الليل والنهار، ولفظ {آيَةَ اللَّيْلِ} و {آيَةَ النَّهَارِ} صادق على الشمس والقمر، وعليه يكون تقدير الآية هكذا: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة، وهو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وسالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات: بالليل وقمره والنهار وشمسه، فالتقرير به أولى ولذلك فسرنا الآية عليه. {فَمَحَوْنَا} المحو هو الإزالة: إزالة الكتابة من اللوح، وإزالة الآثار من الديار، فمحو {آيَةَ اللَّيْلِ} إزالة الضوء منها. وهذا يقتضي أنه كيان فيها ضوء ثم أزيل. فتفيد الآية أن القمر كان مضيئاً ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً، وقد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس. واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الإكتشافات والبحوث العلمية أن جرم القمر- كالأرض- كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد الحمو والحراره ثم برد. فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد. لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية. ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- وبرهاناً لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم وتقدموا في العرفان. فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأمم إلا أفراداً قليلين من علماء الفلك. وأن حمو جرمه أولاً وزواله

بالبرود ثانياً ما عرف إلا في هذا العهد الأخير. والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرناً- نبي أمي من أمة أمية كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن العلم. فلم يكن ليعلم هذا ويقوله إلا بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم حقائقها ... كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً ... فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتُمِ {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}. فقد وضعت كذلك من أول خلقها {مُبْصِرَةً} يبصر بها، والإسناد مجازي، كما تقول: لسان متكلم، أي متكلم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب. والمبصرون حقيقة هم ذوو الأبصار. ولكنهم لا ينتفعون بأبصارهم إلاَّ في ضوئها ولا ينتفعون بها في الظلام. وإذا كان الضوء يكون من النار فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوة والدوام والعموم. وكما أفادت الآية زوال نور القمر بعد أن كان بمقتضى لفظة {فَمَحَوْنَا} ومدلولها لغة- فإنها تشير إلى أن نوره مكتسب وتوميء إلى أنه من الشمس، وذلك أنَّنا نرى فيه نوراً مع علمنا أن نوره قد أزيل، فنعلم قطعاً أن ذلك النور ليس منه. وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الإستدلال والإمتنان، ومعاقباً مصاحباً لها في الظهور فنوره جاءه منها وهي التي أبصرته. وقدم الليل وآيته على النهار وآيته في ترتيب النظم، لأنه ظلام، والظلام عدم الضوء، والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات. {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}.

ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخلق ليعرفوه، وذكر ما فيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه. فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه واجعة للعباد، ليبتغوا ويطلبوا فضلاً من ربهم بالسعي لتحصيل المعاش وأسباب الحياة ووجوه المنافع. وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية وما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات. وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها، وحساب القمر وتنقله في بروجه، وحساب أبعادهما وسعتهما ومسير نورهما، ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء. والإبتغاء: هو طلب الشيء بسعي إليه ومحبة فيه. ويسمي - تعالى- طلب أسباب الحياة إبتغاء تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبة، فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب. كما يسمي- تعالى- المطلوب بالإبتغاء فضلاً من الرب، وفضله من رحمته، ورحمته واسعة لا تضبطها حدود ولا تحصرها الأعداد- تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه ويأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه، وليكونوا - إذا ضاق بهم مذهب- آخذين بمذهب آخر من مالك هذا الفضل الرباني الواسع غير المحصور، وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول، وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول على البغية، لأن طلبهم طلب لفضل رب كريم. ويقول تعالى: {مِنْ رَبِّكُمْ} والرب المالك المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله ما يليق به ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب وما يقسمه لهم من رزق ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحدٌ على أحد بتعدٍّ أو حسد. فهذه الكلمات القليلة الكثيرة وهي: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة: بالعمل مع الجدِّ

فيه والمحبة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران. وبالرضا والتسليم للمَوْلى، الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير، وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به الأمن والسلام. ويذكر تعالى علم عدد السنين المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات. فإنَّ نظام الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب انتاجها إنَّما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان، كما ذكر-تعالى- جنس الحساب تنبيها على لزومه لهذا الضبط ولجميع شؤون الحياة من علم وعمل. فكل العلوم الموصلة إلى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب. {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}. فكل ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق، وأخلاق الصدق، وأحكام العدل ووجوه الإحسان، كل هذا فُصِّل في القرآن تفصيلاً. كل فصل على غاية البيان والإحكام. وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل، ويأخذوا منه ويهتدوا به. فهو الغاية التي ما وراءها غاية في الهدى والبيان (1). ..

_ (1) ش: ج 12، م 5، ص 1 - 6 غرة شعبان 1348 - جانفي 1930

إرادة الدنيا وإرادة الآخرة

إِرَادَةُ الدُّنْيَا وَإِرَادَةُ الْآخِرَةِ "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ... " (1) ــــــــــــــــــــــــــ كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام: عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد. منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره، جعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجو وراءها ثواباً، ولا يخاف عقاباً، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته فلا يجيب داعي الله بترغيب ولا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان. فمن كان هذه إرادته، وهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله {مَنْ نُرِيدُ} من الجار والمجرور في قوله {عَجَّلْنَا لَهُ} فالتعجيل منه تعالى لمن يريد، لا لكل مريد، والشيء المعجل- في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي لا على ما يشاء العبد المريد. فكم من مريدي الدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلاَّ بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه

_ (1) 17/ 18 - 19 الإسراء.

الدار ولا في تلك الدار، وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب- ولا ثمرة حصلها عاجلاً، ولا ثواباً ادَّخره آجلاً، وذلك هو الخسران المبين. ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دُخولها فيصلاها مذموماً: مذكوراً بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. مدحوراً: مبعداً في أقصى النار مطروداً من الرحمة. حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلاً أن يحرم منها في الآخرة. ونظير هذه الآية آية " الشورى ": {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (1). عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها. والتقييد بمن في قوله تعالى {مِنْهَا} على أن ما يناله- سواءً كان كل ما أراد أو بعضه- ما هو إلا بعض من الدنيا، وإذا كانت الدنيا كلها شيئًا زهيداً بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة- فما بالك بما هو بعض منها. فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد. ونظيرها أيضاً آية " هود ": {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا

_ (1) 42/ 20 الشورى.

العباد- إذا- على أربعة أقسام

النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1). وتوفيتهم أعمالهم إنالتهم ثمراتها مكملة في الدنيا، وهم فيها لا يبخسون: لا ينقصون من جزائهم عليها بتحصيل المسببات التي توسلوا إليها بأسبابها. ثم في الآخرة تحبط تلك الأعمال فلا يكون عليها من جزاء ولا لها من ثمرة، لأنها كانت أعمالاً باطلة لا ثبات لها، عمل للدنيا دار الزوال فزالت بزوالها، وبقي على عمالها إثم عدم شكرهم لربهم فيه فدخلوا به النار. وتلك عاقبة الظالمين. غير أن هاتين الآيتين مطلقتان في الشيء المعطى والشخص المعطى له، وآية "الإسراء" مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته فيهما. والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام. وقد أفادت هذه الآيات كلها أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها- موصلة- بإذن الله تعالى- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه. بمقتضى أمر الله وتقديره، وسننه في نظام هذه الحياة والكون. ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين. ومن مقتضى هذا أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم. نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه، ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم يضع عليه أخذه بالأسباب، فنال جزاءه في دار الأسباب وليس له في الآخرة إلاَّ النار. فالعباد- إذاً- على أربعة أقسام:

_ (1) 11/ 15 - 16 هود.

هذا كان سعيه مشكورا بثلاثة شروط

1 - مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة. 2 - ودهريٌّ تارك لها، فهذا شقى فيهما. 3 - ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقى فى الدنيا وينجو- بعد المؤاخذة على الترك- في الآخرة. 4 - ودهريٌّ آخذ بالأسباب الدنيوية، هذا سعيد فى الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين. فلا يفتنن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم. فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو من ضعف إيمانهم. ولم يتقدم غيرهم بعدم إيمانهم بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة. وقد علموا أنهم مضت عليهم أحقاب وهم من أهل القسم الأول بإيمانهم وأعمالهم. وما صاروا من أهل القسم الثالث إلا لما ضعف إيمانهم وساءت أعمالهم وكثر إهمالهم .. فلا لوم إذاً- إلا عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم. {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1). وهذا قسم آخر من الخلق، قصد بعمله الآخرة وإياها طلب، وثوابها انتظر، يرجو أن يزحزح فيها عن النار ويفوز بالجنة ويحل عليه الرضوان. فهذا كان سعيه مشكوراً بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يقصد بعمله ثواب الآخرة قصداً مخلصاً. كما يفيده فعل الإرادة في {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} ولام الأجل في {وَسَعَى لَهَا}.

_ (1) 19/ 17الإسراء.

الشرط الثاني

الشرط الثاني: أن يعمل لها المعروف في الشرع اللائق بها الذي لا عمل يفضي إلى نيل ثوابها سواه، وهو طاعة الله تعالى وتقواه بامتثال أوامره ونواهيه والوقوف عند حدوده. الشرط الثالث: أن يكون مؤمناً موقناً بثواب الله تعالى وعظيم جزائه. فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة لهم {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} متقبلاً مثاباً عليه بحسن الثناء وجميل الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1). وإذا اختل واحد منها فليس العمل بمتقبل ولا بمثاب عليه بضرورة انعدام المشروط بانعدام شرطه. وفي هذه الشروط مباحث: المبحث الأول: إن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الإخلاص فيه لله. لأنَّ الإخلاص هو أن تجعل عبادتك لله وحده، ورجاؤك الثواب وطمعك فيه، وحذرك العقاب وخوفك منه. هما مقامان عظيمان لك في جملة عبادتك. يجب عليك أن تكون فيهما أيضاً مخلصاً. لا ترجو إلا ثوابه، ولا تخاف إلا عقابه، وإذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهداً لا يردك معارض ولا تأخذك في الله لومة لائم، وصغرت في نظرك العوالم كلها فنطقت بقولك {الله أكبر} نطق عالم واجد مشاهد. والمقصود أن رجاء الثواب، وخوف العقاب، روحهما الإخلاص، فكيف ينافيانه؟ فالعامل الراجي للثواب الخائف من العقاب، المخلص في الجميع آب

_ (1) 2/ 261 البقرة.

المبحث الثاني

بأربع عبادات: عمله، ورجائه، وخوفه، وإخلاصه وهو روح الجميع. وقد جاء في القرآن ثناء شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه وعليهم الصلاة والسلام هكذا: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (1). وذكر تعالى دعاء عباد الرحمن الصالحين هكذا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (2). وفي دعاء القنوت: «نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ الجِدَّ». إلى غير هذا من أدلة كثيرة تؤيد ما ذكرنا .. المبحث الثاني: أفاد هذا الشرط أن من لم يرد الآخرة لم يكن سعيه مشكوراً، وفي هذا تفصيل، لأن العامل إما يكون في عبادته لم يرد بها الآخرة أصلاً، بل أراد بها شيئاً دنيوياً من محمدة الخلق أو استفادة شيء أو تحصيل منفعة العمل. أو أراد الآخرة وشيئاً مما ذكر شركة متساوية أو متفاوتة. وإما أنْ يكون في عمل عادة لم يرد بها الآخرة أصلاً بل أراد الغرض الدنيوي، أو أرادهما معاً، والدنيوي وسيلة للأخرى فهنالك- إذاً- أقسام: القسم الأول: العامل في أمر تعبدي كالصلاة والصدقة والحج والعلم، فهذا إذا لم يرد الآخرة أصلاً فهو موزور غير مشكور. وفيه جاء حديث

_ (1) 82/ 26 الشعراء. (2) 65/ 25 الفرقان.

القسم الثاني

أبي هريرة في الصحيح قال: "سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أولَ النَّاسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه: رجلٌ استُشْهِدَ، فأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفهُ نِعَمَهُ، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشْهِدتُ، فقال: كذبتَ، ولكنكَ قاتلتَ لأن يقالَ: جَرِيءٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فَسُحِبَ على وَجْهِهِ، حتى أُلقيَ في النَّارِ. ورجلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وقرأَ القرآن، فَأُتيَ به، فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعرفَهَا، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تَعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتُهُ، وقرأْتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنكَ تعلَّمْتَ العلم ليقال: عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ به، فَسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقيَ في النَّارِ، ورجلٌ وسَّعَ اللهُ عليه، وأَعطَاهُ من أَصنافِ المال كُلِّهِ، فأُتيَ بِهِ فعرَّفهَ نِعَمه، فعرفها، قال: فما عَمِلْت فيها؟ قال: ما تَركتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنفَق فيها إِلا أَنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنكَ فعلت ليُقَال: هو جَوادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه ثم أُلقيَ في النَّارِ" وهذا الذي كان من هؤلاء هو الرياء، وهو أن يفعل العبادة ليقال إنه مطيع. ومهما دخل الرياء في عبادة إلا أحبطها، ولو كان قليلاً، لحديث أبي هريرة في الصحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن شرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) وإشراك غيره معه صادق بالقليل والكثير فلا فرق بينهما في الإحباط. والعامل المرائي موزور غير مشكور. القسم الثاني: العامل في العبادة الذي قصد بها ثواب الآخرة وشيئاً آخر من أعراض الدنيا "كالرجل يبتغي الجهاد وهو يريد من عرض الدنيا" وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقال: لا أجر له. رواه أبو داوود وابن حبان. وعلى وزانه نقول: من قصد الهجرة والتزوج بامرأة معاً، أو قصد الوضوء والتبرد، أو قصد الصوم والحمية- وإن صحت عبادته. لأن الصحة تتوقف على نية القصد،

القسم الثالث

والثواب يستوقف على نية الإخلاص- لا أجر له. هذا إذا سوى ما بينهما في القصد كما هو ظاهر لفظ الحديث. وأما إذا كان الغالب هو قصد العبادة فالظاهر أنَّه له من الأجر بقدر ما غلب من قصده. القسم الثالث: العامل في العبادة الذي يكون قصده إلى ثواب الآخرة، وما عداه من منافع تلك العبادة ملحوظ له على سبيل التبع لها، من حيث أنه مصلحة شرعية معتبرة في التشريع. والأحكام الشرعية المعللة بفوائدها في الآيات والأحاديث لا تحصى كثرة ومنها في الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1). ومن منافع الحج الحركة الإقتصادية لخير تلك البقاع ومصلحة أهلها وغزارة عمرانها، ولذا قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (2) والفضل هو الإتجار في مواسم الحج. فكل منفعة تجلبها عبادة أو مضرة تدفعها فملاحظتها عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص ولا تنقص من أجر العامل، وهي مثل الثواب المرتب على العمل. هي في الدنيا وهو في الآخرة وكلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا، ويشملها لفظ دعاء القنوت: «نرجو رحمتك» إذ هو تبارك وتعالى رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها. القسم الرابع: العامل لعمل عادي دنيوي من أكل وشرب ونوم وجماع ونحوها، فهذا إذا قصد بعملها النفع الدنيوي، ولا قصد له في الثواب، فهو غير مأجور ولا مأزور. وهذه هي حالة أهل الغفلة والجهل.

_ (1) 22/ 28 الحج. (2) 2/ 198 البقرة.

القسم الخامس

القسم الخامس: عامل الأعمال العادية الذي يتناولها بنية كونها مباحاً تناولها شرعاً بها التوسل إلى ما يتوقف عليها من أعمال واجبة ومندوبة، وإلى الإنكفاف بها عن المحرمات والمكروهات. كمباضعة زوجته للقيام بواجب حقها، وكف نفسه وكفها، وكالنوم ليقوى على العبادة، والرياضة ليصح للطاعة، فهذا مثاب وسعيه مشكور. وله ما نوى. وبهذه السبيل يستطيع العبد الموفق أن تكون حركته وسكناته كلها لله، وفي طاعته، دائم الذكر له يعبده كأنه يراه. لأن من كان يعبد كأنه يرى مولاه، لا يمكن أن يغفل عنه قلبه ويشتغل بسواه، حتى إذا اشتغل بشيء كان بإذنه ورضاه، فلم يخرج في أي عن حضرة قدس الله. ومن أدلة هذا قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عند مسلم: ((وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)). المبحث الثالث: من الناس من يخترع أعمالاً من عند نفسه ويتقرب بها إلى الله، مثل ما اخترع المشركون عبادة الأوثان بدعائها، والذبح عليها والخضوع لديها، وانتظار قضاء الحوائج منها، وهم يعلمون أنها مخلوقة لله مملوكة له، وإنما يعبدونها- كما قالوا- لتقربهم إلى الله زلفى. وكما اخترع طوائف من الهنود أنواع التعذيب بقتل أنفسهم وإحراقها طاعة- زعموا- وتقرباً، وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص والزمر والطواف حول القبور والنذر لها والذبح عندها ونداء أصحابها وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها وحرق البخور عندها وصب العطور عليها. فكل هذه الإختراعات فاسدة في نفسها لأنها ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد - صلى الله

المبحث الرابع

عليه وآله وسلم - وأصحابه من بعده، فساعيها موزور غير مشكور. المبحث الرابع: شكر الرب لعبده هو جزاء شكر عبده له، وإنما يكون العبد شاكراً لربه إذا كان عاملاً بطاعته مؤمنا به. فإذا انعدم الإيمان لم يتصور شكران، وهذا مستفاد من قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وأفادت الجملة الإسمية ثبوت الإيمان ورسوخه حال العمل، وعلى قدر ثبوت الإيمان ورسوخه يكون الثبات والدوام على الأعمال. فالمؤمن بالله يعمل موقناً برضاه، موقناً بلقائه وعظيم جزائه، فهو يعمل ولا يفشل. وسواء عليه أَوَصَلَ إلى الغاية التي يسعى إليها أم لم يصل إليها حال بينه وبينها موانع الدنيا أو مانع الموت كانت مما تجنى ثماره في جيله أو لا تجنى ثماره إلا بعد أجيال. فأفادت الجملة المذكورة شرط القبول للعمل، وسر الدوام عليه والمضي بغبطة وسرور فيه. إمكان العمل بالآية لجميع المسلمين: خاتمة: إن المسلمين كلهم- والحمد لله أهل إيمان فليستشعروه عند جميع الأعمال ولا يخلون من عمل لمعاشهم أو لمعادهم، فليقصدوا بذلك كله وجه الله وامتثال أمره وحسن جزائه. وليقتصروا في عبادتهم على ما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ليكونوا على يقين من موافقة رضى الله وسلوك طريق النجاة. فإذا فعلوا هذا وصمدوا إليه وجاهدوا أنفسهم في حملها عليه كانوا شاكرين مشكورين على تفاوتهم في منازل العاملين عند رب العالمين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (1).

_ (1) ش: ج1، م 6، ص 1 - 9. غرة رمضان 1348 - فيفري 1930

عموم النوال من الكبير المتعال

عُمُومُ النَّوَالِ مِنَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ إن هذه الموجودات كلها، علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله، مغمورة بنعمته. وأول تلك النعم هو وجودها، وذلك الوجود من مقتضى الرحمة. ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وأفرادها، وتتفاوت أيضاً حسب ذلك. وينال كلٌ حظه منها بتقدير الحكيم العليم. ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كلَّ موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده وما يتوقف عليه بقاؤه أو ارتقاؤه، سواء أكان من عالم الجماد أو عالم النبات أو عالم الحيوان. وقد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلاَّ لها، وما أعد لهم من عذاب النار. وذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا وما أُعِدَّ لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة: هؤلاء في النعيم المقيم، وأولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فإنهم قد أُعْطُوا من نعم الحياة ومكنوا من أسبابها فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، وفي الإرادة الحرة. وقد أظلتهم السماء، وأصابتم نعمة الشمس والقمر والكواكب وما ينزل من السماء، وقد أقلتهم الأرض، وشملتهم

_ (1) 20/ 17، 21، سورة الإسراء.

نعمة الهواء والماء والغذاء والدواء من النبات والحيوان والجماد وكل ما يخرج من الأرض. وشاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه، وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه. فاختار كل بعقله - وهو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها- ما اختار لنفسه. وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. وبقوا بعد ذلك الإختيار الذي اختلفت به منازلهم عند الله فيما أعد لهم يوم لقائه- سواء، في تلك النعم الدنيوية والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها. لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وهذا معنى قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} وليس الله تعالى مانعا ًكافراً لكفره أو عاصياً لعصيانه من هذه الحياة وأسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر. وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} والحظر المنع والمحظور الممنوع، وتركيب الآية يفيد أن عطاء الربِّ لا يمنع ولا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته. وقدم المفعول وهو {كُلًّا} رداً على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضاً دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين، يعني فريق مريدي العاجلة ومريدي الآخرة، و {نُمِدُّ} من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسمى مدداً. وأصل المد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع، ومنه مد يده ومدَّ شبكته، ومنه مد الله لك أسباب السعادة، أي بسطها ووسعها، والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه وأنواع بره وإحسانه. وهو تبارك وتعالى لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه. وأضاف العطاء للرب

لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق وتطويرهم وإعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار، وأضاف الرب إلى ضمير المخاطب، وهو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية. والرب جلَّ جلاله قد مضى من وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال- فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد وهو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- بما هو من مقتضى وصف ربه. هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام. وقد كان- صلى الله عليه وآله وسلم- رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين، حريصاً على هدايتهم إلى الصراط المستقيم. حتى خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) أي قاتل نفسك غماً لعدم إيمانهم. وكان أساس شرعه على العدل، والإحسان العدل مع كل واحد، والإحسان إلى كل شيء فقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) ولما كان هو عليه الصلاة والسلام قدوتنا فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته وشفقته وعدله وبره وإحسانه. نفعل الخير عاماًّ، كما تعم خيرات الله تعالى العباد، نفعله لأنه خيرٌ نستطعم لذته، غير منتظرين جزاء، إلا من الله. لأن من انتظر الجزاء من الناس وفي هذه الحياة لا بد أن يميل بخيره عن جهة إلى جهة، وربما يكون في ميله قد أخطأ وجه الصواب، ولا بد أيضاً أن ييأس فيفتر في العمل أو ينقطع عنه عندما يرى عدم المكافاة

_ 11) 2/ 26 الشعراء.

النظر في تفاضل البشر

من الناس وعدم ظهور أثر خيره في الحياة وأبناء الحياة. وقد أفادت الآية- حسبما تقدم- أن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء، وأن من تمسك بسبب بلغ- بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان براً أو فاجراً مؤمناً أو كافراً. وهذا الذي أفادته الآية الكريمة مشاهد في تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً، فقد تقدموا حتى سادوا العالم ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع، لما أخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم. وقد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب فخسروا دنياهم وخالفوا مرضاة ربهم وعوقبوا بما هم عليه اليوم من الذل والإنحطاط، ولن يعود إليهم ما كان لهم إلا إذا عادوا إلى امتثال أمر ربهم في الأخذ بتلك الأسباب. فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره، المتقدم لما فيها من بيان أن ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره ما تقدم بعدم إسلامه. وأن السببب في التقدم والتأخر هو التمسك والترك للأسباب. ولو أن المسلم تمسك بها كما يأمره الإسلام، لكان- مثل سالف أيامه- سيد الأنام. النظر في تفاضل البشر: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (1). إن من أعظم العبر ما نشاهده في أحوال الخلق أمماً وجماعات وأفراداً من الإختلاف الشديد. فقد اختلفت بواطنهم النفسية، كما اختلفت ظواهرهم الجسدية، وإنك كما تجد أبناء الأمة الواحدة

_ (1) 17/ 21 الإسراء.

يتشابهون في تركيب أجسامهم، ثم لا بد من فروق تتمايز بها شخصياتهم، ويتبع هذا الإختلاف إختلافهم في إدراكهم وتمييزهم وأخلاقهم وعاداتهم في ظلالهم وهداهم، وفي درجات الهدى ودركات الضلال. كل هذا دال على بديع صنع الخالق القدير، وعجيب وضع العليم الحكيم. فمكنهم تعالى كلهم من الأسباب وإدراك العقل وحرية الإرادة، ثم فضل بينهم هذا التفضيل. فكان منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والشقي والسعيد، إلى تقسيم كثير. وفقه أسباب هذا التفضيل هو فقه الحياة والعمران والإجتماع، فلذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وكيف سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والإعتبار، والجملة في محل نصب على العامل عن لفظهما بكلمة الإستفهام. وكما فضل بعض خلقه على بعض في دار الإبتلاء، كذلك فضل بعضهم على بعض في دار الجزاء، لكن التفضيل هنالك أكبر، والتفاوت بين العباد أظهر. في مواقف القيامة، وفي داري الإقامة، ويا بعد ما بين من في الجنة ومن في النار. وأهل النار متفاوتون في دركاتها، وأهل الجنة متفاوتون في درجاتها. روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)). روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك

منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)). وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) وهذا التفضيل الأخروي هو المراد بقوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} وفي هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة. فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضاً في شيء منها، وهي الدار الفانية، فلِمَ لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية مع أن من عمل لنيل الفضل في الآخرة- وما عملها إلا الخير والمعروف- حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه وأكمل حال. فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (2).

_ (1) 4/ 144 النساء. (2) ش: ج2، م 6، ص 73 - 16 غر ة شوال 1348هـ مارس 1930

أصول الهداية في ثمان عشرة آية

أُصُولُ الْهِدَايَةِ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةٍ " لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا- إلى- وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا " (1). ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: قد أوتي رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فالآية من كتاب الله والأثر من حديث رسول الله تجد فيه من أصول الهداية ودقيق العلم ولطيف الإشارة في لفظ قليل وكلام بيِّن- ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومنح التوفيق. فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها. وهي- فوق بلاغتها التي عرف العرب أعجازها بسليقتم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم- قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا وبأي لغة نطقوا بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفطر وتسلمها العقول. وإنك لست واجداً مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدًى وبيان وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.

_ (1) 22/ 17 الإسراء.

إرتباط الآيات بما قبلها

إرتباط الآيات بما قبلها: موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1). ووقوعها بلصق قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (2) إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور المستفاد من هذه الآيات. التوحيد: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تتقبل الأعمال إلا به. وما أرسل الله رسولاً إلا داعياً إليه ومذكراً بحججه، وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهي كلمته الصريحة فيه. ولا تكادُ سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده. وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه. {لَا تَجْعَلْ} الجعل يكون عملياً، كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون إعتقادياً، كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني. {مَعَ اللَّهِ} المعية هنا أيضاً هي معية إعتقادية. {إِلَهًا آخَرَ} الأله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والإفتقار وإظهار الإنقياد والإمتثال ودوام التضرع والسؤال. {فَتَقْعُدَ} القعود ضد القيام والعرب تكنى بالقيام عن الجد في الأمر

_ (1) 19/ 17 الإسراء. (2) 17/ 22 الإسراء.

والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالساً، فتقول: قام بحاجتي، إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة، وإنما قضاها بكلمة قالها أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء كان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه، إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائماً يمشي على رجليه، فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب وفراغ اليد من كل خير. {مَذْمُومًا} مذكوراً بالقبيح موصوفاً به. {مَخْذُولًا} متروكاً بلا نصير مع حاجتك إليه. فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكاً في ألوهيته فيعبدوه معه، ليعتقدوا أنه الإله وحده فيعبدوه وحده. وبين لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكاً وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة وعملهم يكون مردوداً عليهم وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم ومن كل ذي عقل سليم من الخلق، ويكونون مخذولين لا ناصر لهم. فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم، فما لهم- قطعاً من نصير. والخطاب وإن كان موجهاً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه عام للمكلفين، وسر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم، وإن كان هو قد عصم من المخالفة فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) القضاء يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري

_ (1) 23/ 17 الإسراء.

الذي لا يتخلف متعلقه، فما قضاه الله لا بد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني. {رَبُّكَ} الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل. ((أن)) مصدرية والتقدير بألا تعبدوا إلاَّ إياه، أي بعدم عبادتكم سواه بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه. فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلاَّ له. فذل القلب وخضوعه والشعور بالضعف والإفتقار والطاعة والإنقياد والتضرع والسؤال هذه كلها لا تكون إلا لله. فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده. ومن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده، ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده. ومن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده. فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمراً عاماً وحكم حكماً جازماً بأن العبادة لا تكون إلا له. وجيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيهاً على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك إلاَّ له، فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه. فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها إنفراده بالخلق، والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته. وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهببة كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي. فالأولى نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه وهو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه، وهذا من باب العلم. والثانية: أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه، لأنه هو ربك وحده وهذا من باب العمل. فمن وحَّد الله جلَّ جلاله في ربوبيته وألوهيته

بيان واستدلال

علماً وعملاً فقد استكمل حظه من مقام هذا الأساس العظيم، ومن أخلَّ بشيء من ذلك كان ذلك نقصاً في دينه بقدر ما أخل، حتى ينتهي الأمر إلى خلص المشركين. نعوذ بالله من الشرك جليه وخفيه إنه سميع عليم. بيان واستدلال: يكون الذل بمعنى ضعف الحال، وهذا قد يكون لأهل التوحيد والإيمان كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (1) ويكون بمعنى اللين المشوب بالعطف، وهذا من صفات المؤمنين الممدوحة إذا وقعت في محلها كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2). ويكون الذل بمعنى خنوع القلب وخضوعه وانكساره للضعف والإفتقار، وهذا هو الذي لا يكون من المؤمن الموحد إلا لربه كما في حديث دعاء القنوت «ونخنع لك» أي نذل ونخضع لك، وهذا الخنوع هو أساس العبادة القلبية، فلذلك لا يكون إلا الله، وإن من أسرار كلمة "الله أكبر" التي يأتي بها المؤمن مرات كثيرة في صلواته وغيرها من أحواله حفظ القلب من الخضوع للخلق باستشعار عظمة الخالق التي يصغر عندها كل مخلوق. فلا يزال المؤمن لهذا قوي القلب عزيز النفس بالله لا ينتظر قوة ضعفه إلا به ولا سد مفاقره إلا منه، ولقلب المؤمن الموحد أمام من يحب في الله ويعظم بتعظيم الله خضوع أيضاً، ولكنه خضوع هيبة

_ (1) 3/ 123 آل عمران. (2) 57/ 5 المائدة.

وتوقير وإجلال، لا خضوع ذل وخنوع وضعف وافتقار، إذ هذا - كما قدمنا- لا يكون إلا للغني القوي العزبز القهار. من مظاهر هذا الخنوع الذي لا يكون إلا لله الطاعة والإنقياد، وهي أيضاً لا تكون إلا له وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) أي أطاعه واتبعه كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فمن تبع مخلوقاً وأطاعه فيما يأمره وينهاه دون أن يكون في طاعته مراعياً طاعة الله فقد عبده واتخذه رباً فيما أطاعه فيه. وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره لما جاء للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسمعه يتلو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) فقال عدي: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ قال: أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئاً أحلوه. قال: قلت نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: فتلك عبادتهم إياهم، فالمؤمن الموحد لا تكون طاعته إلا لله أو لمن طاعته طاعة لله. ومن مظاهر ذلك الخنوع: الدعاء والسؤال والتضرع والجؤار "رفع الصوت بالدعاء والإستغاثة إليه" قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (3) {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (4) {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} في آيات كثيرة. وقال - صلى الله

_ (1) 45/ 22 الجاثية. (2) 32/ 9 التوبة. (3) 53/ 16 النحل. (4) 162/ 27 النمل. (5) 8/ 9 الأنفال.

عليه وآله وسلم:- من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الترمذي-: "إذا سألت فسل الله" في أحاديث كثيرة. فلا يدعو المؤمن الموحد غير الله ولا أحداً مع الله إذ الدعاء عبادة، كما في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - يرفعه "الدعاء هو العبادة"، رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وكما في حديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي وكل عبادة لا تكون إلا لله فالدعاء لا يكون إلا لله، وإنما كان من العبادة هاته المنزلة لأن حقيقة العبادة هي التذلل والخضوع، وهو حاصل في الدعاء غاية الحصول، وظاهر فيه أشد الظهور. ألهمنا الله رشدنا وأعاذنا من شرور أنفسنا إنه سميع قريب مجيب (1).

_ (1) ش: ج 3، م 6، ص 138 - 143 غرة ذي ا! لقعدة 1348هـ افريل 1930

بر الوالدين

بِرُّ الْوَالِدَيْنِ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ والله: هو الخالق، والوالدان- بوضع الله- هما السبب المباشر في التخليق. والله هو المبتدىء بالنعم عن غير عمل سابق، وهما يبتدئان بالإحسان عن غير إحسان تقدم، والله يرحم ويلطف وهو الغني عن مخلوقاته وهم الفقراء إليه، وهما يكنفان بالرحمة واللطف الولد، وهما في غنى عنه، وهو في افتقار إليهما، والله يوالي إحسانه، ولا يطلب الجزاء، وهما يبالغان في الإحسان دون تحصيل الجزاء. فلهذه الحالة التي خصهما الله بها، وأعانهما بالفطرة عليها، قرن ذكرهما بذكره، فلما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ولما أمر بشكره أمر بشكرهما فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) وفي هذا الجمع في القضاء والحكم بالإحسان والأمر بالشكر لهما، مع الله تعالى، أبلغ التأكيد وأعظم الترغيب، ثم زاد هذا الحكم، وهذا الأمر، وتقريراً بلفظ التوصية بهما في قوله تعالى:

_ (1) 23/ 27 الإسراء. (2) 135/ 4 النساء. (3) 14/ 11 لقمان.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (1). ليحفظ حكم الله وأمرَه فيهما ولا يضيع شيء من حقوقها، فكان حقهما بهذه الوصاية أمانة خاصة ووديعة من الله عظيمة عند ولدهما. وكفى بهذا داعياً إلى العناية بهذه الأمانة وحفظها وصيانتها. وكما جاء هذا الجمع في باب الأمر في القرآن كذلك جاء الجمع بينهما في باب النهي وكبر المعصية في السنة. ففي الصحيح عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: ألا أخبركم بأكبر الكبائر! قلنا: بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وتقدير نظم الآية هكذا: "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبأن تحسنوا للوالدين إحساناً". فحذفت أن تحسنوا لوجود ما يدل عليه وهو إحساناً. وفي تنكيره إفادة للتعظيم فهو إحسان عظيم في القول والفعل والحال. وتقول: أحسنت إليه وأحسنت به، وأحسنت به أبلغ لتضمن أحسنت معنى لطفت، ولما في الباء من معنى اللصوق. ولهذا عدَّى في الآية بالباء ليفيد الأمر باللطف في الإحسان والمبالغة في تمام اتصاله بهما، فلا يريان ويسمعان ولا يجدان من ولدهما إلا إحساناً، ولا يشعر أن في قلوبهما منه إلاَّ بالإحسان. ومن الإحسان ما يكون ابتداء وفضلاً، ومنه ما يكون جزاء وشكراً، فعليه أن يعلم أن كل إحسانه هو شكر لهما على سابق إحسانهما الذي لا يمكنه أن يكافئه بمثله، لثبوت فضيلة سبقه، وفي تعليق الحكم- وهو الأمر بالإحسان- بلفظ الوالدين المشتق من الولادة إيذان بعليتهما في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالديَّة سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين إليه أو مسيبئين. وقد جاء هذا صريحاً في قوله تعالى:

_ (1) 8/ 29 العنكبوت.

{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) فأمر بمصاحبتهما بالمعروف على كفرهما. وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: قدمت على أمي وهي راغبة (أي في العطاء والإحسان) أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك. وهذا الإحسان الواجب لهما جانب الأم آكد فيه من جانب الأب وحظها فيه أوفر من حظه، ويشير إلى هذا تخصيصها بذكر اتعابها في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (ضعفاً على ضعف) وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (2). وفي الأخرى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (3). فذكر ما تعانيه من ألم الحمل ومشقة الوضع ومقاساة الرضاع والتربية، وجاء التصريح بهذا في الحديث الصحيح: فقد جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي (أي صحبتي من حسن العشرة والبر والتكرمة) قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. فذكر الأب في الثالث. وفي طريق آخر للحديث ذكره في الرابعة. ولقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد أتعابها وضعف جانبها ورقة عاطفتها

_ (1) 15/ 31 لقمان. (2) 14/ 31 لقمان. (3) 46/ 15 الأحقاف.

وشدة حاجتها، فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم، ومحاسن الشرع الكريم. ومن الإحسان إليهما طاعتهما في الأمر والنهي، ومن عقوقهما مخالفتهما فيهما. وإنما تحل له مخالفتهما إذا منعاه من واجب عيني أو أمراه بمعصية، لما في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا طاعة لأحد في معصية الله أنما الطاعة في المعروف" وعند الحاكم وأحمد: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ومن الدليل على رجحان جانبهما على الواجب الكفائي ما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد، وفي الطريق الثاني قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أقبل رجل إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله؟، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما. هذا لأن القيام عليهما فرض عيني، والجهاد كان عليه فرض كفاية، ولو تعين عليه، ولم يكونا في كفاية قدم القيام عليهما وكفايتهما عليه. ومن حقوقهما عليه أن لا يخرج إلى ما فيه خوف ومخاطرة بالنفس إلا بإذنهما بدليل ما جاء في سنن أبي داود: أنَّ رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال: أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع إليهما فاستأدنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما. أما إذا أراد تعاطي ما لا خطر فيه ولا فجيعة من شؤون الحياة ووجوه التصرفات فليس عليه أن يستأذنهما وليس لهما منعه، ولكن إذا منعاه من شيء امتنع لوجوب برهما، وطاعتهما.- في غير المعصية- من برهما.

تفضيل الإحسان إليهما في القول والعمل وتأكيده في حالة الكبر

تَفْضِيلُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَتَأْكِيدُهُ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ الأمر بالإحسان إليهما عام في جميع الأحوال، وخصصت حالة بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر بالذكر لأنها حالة الضعف، وشدة الحاجة، ومظنة الملل والضجر منهما، وضيق الصدر من تصرفاتهما فهما في هذه الحالة قد عادا في نهايتهما إلى ما كان ولدهما عليه في يدايته. وليس عنده من فطرة المحبة مثل ما عندهما، فكان بأشد الحاجة إلى التذكير بما عليه من تمام العناية بهما، ومزيد الرعاية لهما، وشدة التوقي والتحفظ من كل ما يمس بسوء جانبهما في هاته الحال على الخصوص، وإن كان ذلك واجباً عليه في كل حال على العموم. وطول بقائهما عنده في كنفه وثقل مؤنتهما عليه، وما يكون من ضروريات الكبر والمرض مما يستقذره في بيته، كل هذا قد يؤد به إلى الضجر والتبرم فيقول ما يدل على ضجره وتبرُّمه. فنهى عن التفوُّه بأقلِّ كلمة تدل على ذلك، وهي كلمة {أُفٍّ} بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فأحرى وأولى ما فوقها، وهذا أمر

_ (1) 23/ 17 إلا سر اء.

يتحمل كل ذلك منهما ونهي عن التضجر منهما. ومن ضرورة مبايتنهما لولدهما في السنِّ وفي النشأة أنهما كثيراً ما يخالفانه في آرائه وأفكاره، وقد يتناولان ما لا يحب أن تصل يدهما إليه، وقد يسألانه للمعرفة أو للحاجة، وكل هذا قد يؤديه إلى نهرهما، أي زجرهما بصياح وإغلاظ أو إظهار للغضب في الصوت واللفظ، فنهى عن هذا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}. وفي هذا أمر بالتلطف معهما في الطلب والعرض والدلالة على وجه الصواب في الأمر وأبواب الفعل والترك، وبحسن التلقي لكل ما يسألان ويطلبان، ونهى عن أي إغلاظ في اللفظ والصوت وحالة الكلام. ولما نهاه عن القول القبيح المؤذي أمره بالقول اللين السهل الحسن في لفظه وفي معناه وفي قصده وفي منشأه السالم من كل عيب ومكروه بقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}. وفي هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول ويؤنسهما بطيب الحديث، ونهى عن أن يؤذيهما في قوله أو يوحشهما بطول السكوت فليس له أن يتركهما وشأنهما، بل عليه مجالستهما ومحادثتهما وجلب الأنس إليهما وإدخال السرور عليهما. ثم أن القول إنما هو عنوان ما في الضمير، ولا يكون كريماً شريفاً إلا إذا كان عنواناً صادقاً حسن مظهره ومخبره وعذب جناه وطاب مغرسه، وما ثماره إلا معانيه، وما مغرسه إلا القلب الذي صدر عنه. فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف والعطف من صميم قلبه كما هو يعرب لهما عنهما بلسانه فيكون محسناً لهما حينئذ في ظاهره وباطنه وذلك هو تمام البر الذي أمر به. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}. مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل وبيان الحال التي يكون عليهما. فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفيء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي كما يسعى

الطائر لفراخه ويحيطهما بحنوه وعطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به وأشير إليه، يلازمه وهو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، وإنما يخفض جناحه حنواً وعطفاً وحياطة لفراخه، فيكون في الكلام استعارة بالكناية. وأضيف الجناح إلى الذل- وهو الهون واللين- إضافة موصوف إلى صفة. أخفض لهما جناحك الذليل، وهذا ليفيد هونه وانكساره عند حياطتهما حتى يشعر بأنهما مخدومان للإستحقاق لا متفضل عليهما بالإحسان. وفي ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق موجب للرحمة وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره، ليكون ذلك ابعث له على العمل وعدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه. و {مِنَ} في قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمَةِ} للتعليل متعلقة باخفض، فتقيد مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئاً على الرحمة الثابتة في النفس لا عن مجرد استعمال ظاهر كما كان يكنفانه ويعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة، فيكون هذا مفيداً ومؤكداً لما قدمناه من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر والباطن، ليتم البرور. {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. مهما اجتهد الولد في الإحسان إلى أبويه فإنه لا يجازي سابق إحسانهما، فأمر بأن يتوجه بسؤال الرحمة لهما من الله تعالى، وهي النعمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة إظهاراً لشدة رحمته ورغبة في وصول الخير العظيم من المولى الكريم إليهما، واعترافاً بعجزه عن مجازاتهما. يدعو لهما هكذا في حياتهما وبعد مماتهما، أما في حياتهما فيدعو لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام، وأما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلا إذا ماتا مسلمين لقوله تعالى:

خاتمة

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1). والكاف في قوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. للتعليل، أي: رب ارحمهما لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليَّ في حالة الصغر، حالة الضعف والافتقار. وفي هذا اعتراف بالجميل وإعلان لسابق إحسانهما العظيم وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل لأنه وعد أنَّه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة، وهو قد أخبر تعالى على لسان رسوله أنه يرحم الراحمين. ولا أرحم- بعده تعالى- من الوالدين. خاتمة: من بر الوالدين أن نتحفط من كل ما يجلب لهما سوءاً من غيرنا، فإن فاعل السبب فاعل للمسبب، ومن هذا أن لا نسبَّ الناس حتى لا يسبوا والدينا، لأنا إذا سببنا الناس فسبوهما كنا قد سببناهما، وسبهما من أكبر الكبائر. ففي الصحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا وسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". ومن برهما حفظهما بعد موتهما بالدعاء والاستغفار وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة رحمهما. فقد روى ابن ماجة وأبو داوود وابن حبان في صحيحه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي البدري

_ (1) 114/ 9 التوبة.

- رضي الله عنهم أجمعين- قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة (أي الدعاء) عليهما والإستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما. وفي إكرام صديقهما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وأنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه. هذا وإنَّ من راض نفسه على هذه الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة والأقوال الطيبة التي أمر بها مع والديه حصل له من الارتياض عليها كمال أخلاقي مع الناس أجمعين، وكان ذلك من ثمرات امتثال أمر الله وطاعة الوالدين. والله يوفقنا ويهدينا سواء السبيل. إنه المولى الكريم رب العالمين (1). ..

_ (1) ش ج4، م 6، ص 206 - 212 غرة ذي الحجة 1348هـ 1930م.

صلاح النفوس وإصلاحها

صَلَاحُ النُّفُوسِ وَإِصْلَاحِهَا {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال. وفساده: هو كونه على حالة اختلال في ذاته أو في صفاته بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان. إعتبر هذا في البدن، فإنَّ له حالتين: حالة صحة وحالة مرض. والأولى: هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها وينهض هو بأعماله. والثانية: هي حالة فساده باختلال مزاجه فتتعطل أعضاؤه أو تضعف كلها أو بعضها عن القيام بوظائفه، ويقعد هو أو يثقل عن أعماله. هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس، فلها صحة ولها مرض، حالة صلاح وحالة فساد. والإصلاح هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد. والإفساد هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه. فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية والدواء، وإصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة. وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، وإفساد النفس بمقارفة المعاصي والذنوب، هكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد. في كثير من الأحوال.

_ (1) 15/ 17 الإسراء.

غير أن الإعتناء بالنفوس أهم وألزم لأن خطرها أكبر وأعظم. إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلاَّ آلة لها، ومظهر تصرفاتها. وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، وإنما رقيُّه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه وانحطاطها، وما فلاحه إلا بزكائها وما خيبته إلا بخبثها. فقد قال تعالى. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (1) وفي الصحيح: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وليس المقصود من القلب مادته وصورته، وإنما المقصود النفس الإنسانية المرتبطة به. وللنفس ارتباط بالبدن كله، ولكن القلب عضو رئيسي في البدن ومبعث دورته الدموية على قيامه بوظيفته تتوقف صُلوحية البدن لارتباط النفس به، فكان حقيقياً لأن يعبر به عن النفس على طريق المجاز. وصلاح القلب بمعنى النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة وإنما يكونان بصحة العلم وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله بجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة، وإذا فسدت النفس من ناحية العقد أو ناحية الخلق أو ناحية العلم أو ناحية إرادة فسد البدن وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد. فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع، والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس. إما مباشرة وإما بواسطة، فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق، والخير، والعدل، والإحسان، إلا وهو راجع عليها بالصلاح، وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء، إلا وهو عائد عليها بالفساد، فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل،

_ (2) 10/ 91 - 11 الشمس.

وشرع الشرائع، وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس إذا تمسكت به غاية الكمال. قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته، وتوحيده، والإخلاص له، وأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما في الظاهر والباطن، كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة، ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس وصلاحها، لينبه الخلق على أصل الصلاح، الذي منه يكون، ومنشأه الذي منه يبتدىء، فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة، لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي قد يكون قبل التدبر خفياً. ونظير هذه الآية في موقعها ودلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف.- قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فقد جاءت أثناء آيات أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات تنبيهاً للعباد على أن المحافظة عليها على وجهها تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع وحضور وانقطاع إلى الله تعالى وتوجه إليه ومناجاة له، وهذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال. والنفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذَّة وأنساً تهون معهما أعباء التكليف. ثم إن العباد بنقص الخلقة وغلبة الطبع معرضون للتقصير في ظاهرهم وباطنهم، في صور أعمالهم ودخائل أنفسهم،- وخصوصاً في باب الإخلاص- فذكروا بعلم ربهم في نفوسهم في قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} (2) ليبالغوا في المراقبة فيتقنوا أعمالهم في صورها

_ (1) 238/ 2 البقرة. (2) 25/ 17 الإسراء.

ويخلصوا بها له. وهذه المراقبة هي الإحسان الذي هو عبادتك الله كأنك تراه، وذكر اسم الرب لأنه المناسب لإثبات صفة العلم، فهو الرب الذي خلق النفوس وصورها ودبرها. ولا يكون ذلك إلا بعلمه بها في جميع تفاصيلها. وكيف يخفى عليه شيء منها وهو خلقها (1). {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2). والصالحون: في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} (3) هم الذين صلحت أنفسهم فصلحت أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وصلاح النفس وهو صفة لها خفي كخفائها. وكما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها. فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة- وهي الجارية على سنن الشرع وآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- حكمنا بصلاح نفسه وأنه من الصالحين. ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه وأنه ليس منهم ولا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس وفسادها إلاَّ هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4).

_ (1) في الأصل: وهو هو خلقها. (2) 24/ 67 الملك. (3) 25/ 27 الإسراء. (4) 114/ 3 - 114 آل عمران.

فذكر الأعمال ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين، فأفادنا أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلا بها ولا يستحقه إلا أهلها. ثم إن العباد يتفاوتون في درجات الصلاح على حسب تفاوتهم في الأعمال. ويكون لنا أن نقضي بتفاوتهم في الظاهر بحسب ما نشاهد، ولكن ليس لنا أن نقضي بين أهل الأعمال الصالحة في تفاوتهم عند الله في الباطن فندعي أن هذا أعلى درجة في صلاحه عند الله تعالى من هذا، لأن الأعمال قسمان: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وهذه أصل لأعمال الجوارح، وقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلا الله، والأوابون في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (1) هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى. والأوبة في كلام العرب هي الرجوع قال عبيد: وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ ... وَغَائِبُ المَوْتِ لاَ يَؤُوبُ والتوبة هي الرجوع عن الذنب، ولا يكون إلا بالإقلاع عنه. واعتبر فيها الشرع الندم على ما فات والعزم على عدم العود وتدارك ما يمكن تداركه، فيظهر أن الأوبة أعم من التوبة، فتشمل من رجع إلى ربه تائباً من ذنبه، ومن رجع إليه يسأله ويتضرع إليه أن يرزقه التوبة من الذنب. فنستفيد من الآية الكريمة سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإذا تاب العبد فذاك هو الواجب عليه والمخلص له - بفضل الله- من ذنبه. وإن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع والتعرض لمظان الإجابة، وخصوصاً في سجود الصلاة فقمن- إن شاء الله تعالى- أن يستجاب له. وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية مصرًّا عليها غير مشمئز منها ولا سائل

_ (1) 17/ 25 الإسراء.

من ربه بصدق وعزم التوبة منها ويبقى معرضاً عنه ربه كما أعرض هو عنه، ويصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب، فهو الداء العضال الذي لا دواء له. وجاء لفظ الأوَّابين جمعاً لأواب وهو فعال من أمثلة المبالغة، فدل على كثرة رجوعهم إلى الله، وأفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله. ذلك أنَّ النفوس- بما ركب فيها من شهوة، وبما فطرت عليه من غفلة، وبما عرضت له من شؤون الحياة، وبما سلط عليها من قرناء السوء من شياطين الإنس والجن- لا تزال- إلا من عصم الله- في مقارفة ذنب ومواقعة معصية صغيرة أو كبيرة من حيث تدري ومن حيث لا تدري، وكل ذلك فساد يطرأ عليهما فيجب إصلاحها بإزالة نقصه، وإبعاد ضرره عنها، وهذا الإصلاح لا يكون إلا بالتوبة وبالرجوع إلى الله تعالى. ولما كان طروء الفساد متكرراً فالإصلاح بما ذكر يكون دائماً متكرراً. والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها والقيام في ذلك والجد فيه والتصمم عليه هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد. ومن معنى هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من درن المعاصي. والغفور في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. والمغفرة: سترة للذنب وعدم مؤاخذته به، ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته، ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين. ومغفرته أكثر. وليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابلها كثرة المغفرة منه

_ (1) 222/ 2 البقرة.

فلا يفتأ العبد راجعاً راجياً للمغفرة لا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع ولا يضعف رجاؤه في نيل مغفرة الغفور، كثرة الرجوع. وقد أكد الكلام بـ (أن) لتقوية الرجاء في المغفرة، وجيء بلفظة (كان) لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق، فقد كان عباده يذنبون ويتوبون إليه ويغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً، وإنما احتيج إلى هذا التأكيد كله في تقوية رجاء المذنب في المغفرة ليبادر بالرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عند رؤية مغفرة الله تعالى التي هي أكبر وأكبر. والآخر رؤيته لطبعه البشري وطبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال كما قال شاعرهم- أي البشر، لأن الشاعر العربي عبر عن طبع بشري: سَأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ ... وَمَنْ أَكْثَرَ التِّسْئآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ فيقوده القياس- وهو من طباع البشر أيضاً- القياس الفاسد إلى ترك الرجوع والسؤال من الرب الكريم العظيم النوال. فهذان الأمران يقعدانه عن الرجوع والتوبة فيستمر في حمأة المعصية وذلك هو الهلاك المبين. فكان حاله مقتضياً لأن يؤكد له حصول المغفرة عند رجوعه بتلك المؤكدات. وقد كان مقتضى الظاهر في تركيب الآية أن يقال: إن تكونوا صالحين فإنه كان لكم غفوراً، لأن المقام للإضمار، لكنه عدل عن الضمير إلى الظاهر فقيل فإنه كان للأوابين غفوراً لينص على شرط المغفرة وهو الأوبة والرجوع. وعلم من ذلك أن الصالح عندما تقع منه الذنوب مطالب- كغيره- بالأوبة لتحصيل المغفرة، لأن فرض الأوبة إلى الله من المعاصي عام على الجميع. وقد اشتملت الآية من

فعل الشرط وهو إن تكونوا صالحين، وجوابه وهو فإنه كان للأوابين غفوراً ... على الحالتين اللازمتين للإنسان لتكميل نفسه وهما الصلاح المستفاد من الأول والإصلاح بالأوبة المستفاد من الثاني. وما دام الإنسان يجاهد في تزكية نفسه بهذين الأصلين فإنه بالغ- بإذن الله- درجة الكمال. ثبتنا الله والمسلمين عليهما وحشرنا في زمرة الكاملين المكملين إنه المولى الغفور الكريم (1).

_ (1) ش: ج5، م 6 ص 270 - 275 غرة محرم 1349هـ جوان 1930

إيتاء الحقوق لأربابها

إِيتَاءُ الْحُقُوقِ لِأَرْبَابِهَا {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ .... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ الناس كلهم في حاجة مشتركة إلى بعضهم. وما من أحد إلا وله حقوق على غيره، ولغيره حقوق عليه. ولهذه الحاجة المشتركة والحقوق الممتزجة كان الإجتماع والتعاون ضروريين لحياة المجتمع البشري واطراد نظامه. وقيام كل واحد من أفراد المجتمع بما عليه من حقوق نحو غيره هو الذي يسد تلك الحاجة المشتركة بين الناس. وعندما يؤدي كل واحد حق غيره فليست خدمته له وحده، بل هي خدمة للمجتمع كله. وبالآخرة هي خدمة له هو في نفسه لأنه جزء من المجتمع وما يصيب الكل يعود على جزئه. فإذا تواردت أفراد المجتمع على هذه التأدية سعدت وسعد مجتمعنا بنيله حاجيات الحياة ولوازم البقاء والتقدم في العمران. أما إذا توانى الأفراد في القيام بالحقوق وقصروا في تأديتها إلى بعضهم فإن الحاجة المشتركة من العلم والثقافة وحفظ الصحة والأخلاق وأنواع الصناعة- تتعطل، وبتعطلها يختل نظام الإجتماع ويعود إلى الإنحلال والتقهقر، وينحظ بأفراده إلى أسفل الدركات، فلهذا بعد ما أمر الله تعالى بإيتاء حقه- وهو توحيده في عبادته- أمر بإيتاء حقوق العباد، القريب منهم والبعيد.

_ (1) 26/ 17 - 30 الإسراء.

حقوق القريب

حُقُوقُ الْقَرِيبِ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}. ــــــــــــــــــــــــــ ابتدأ بحق القريب لوجوه: الأول أنه هو مقتضى طبيعة الترتيب. الثاني: تأكيد حق القريب. الثالث: إن من حكمة التربية أن يبدأ من الأوامر بما تعين فطرة النفوس الإنسانية على قبوله ببداهة الفكرة أو بشعور العاطفة. وكلتا هاتين يحبب للنفس إيتاء حق القريب فابتدى به في الأمر ليكون تقبلها له أسهل ومبادرتها للإمتثال أسرع، فإذا سخت النفوس بإيتاء حق القريب ومرنت عليه إعتادت الإيتاء وصار من ملكاتها فسهل عليها إيتاء كل حق ولو كان لأبعد الناس. وشيء آخر، وهو أن الأقارب قد تكون بينهم المنافات والمنازعات لقرب المنازل، أو تصادم المنافع أو التشاح على المواريث ما لا يكون بين الأباعد، فيقطعوا حق القرابة ويهدموا بناء الأسرة، ويعود ذلك عليهم أولاً بالوبال، ويرجع ثانياً على مجتمعهم- والمجتمع مؤلف من الأسر- بالتضعضع، فكان هذا من جملة ما يقتضي الإبتداء بحقهم إلى المقتضيات المتقدمة الأخرى. وقوله تعالى: {ذَا الْقُرْبَى} عام يشمل الأصل- وهو الأبوان- وما يتصل بالمرء من ناحيتهما من أصولهما وفصولهما، ويشمل الفصْل- وهو الأبناء والبنات- ويتصل به منهما من فصول، غير أن الوالدين لمزيد العناية بهما خصصا بالذكر في الآيات المتقدمة وإن كانا داخلين في هذا العموم. والحق في قوله تعالى {حَقَّهُ} هو الثابت له شرعاً المبين في آيات من الكتاب من صلة رحم ونصيب إرث ونفقة فرض وندب وإحسان بالقول والفعل ومواساة عن محبة وعطف.

حق المسكين

حَقُّ الْمِسْكِينِ: {وَالْمِسْكِينَ} ــــــــــــــــــــــــــ قد ذكر في آية الزكاة الفقير والمسكين. والحق أنهما متغايران، والراجح أن الفقير من له بلغة لا تكفيه، والمسكين من لا شيء له، فهو أشد حالاً من الفقير، ولذا لما أريد هنا ذكر أحدهما إقتصر عليه تنبيهاً بالأعلى في الفقر على الأدنى، فالمراد أهل الفقر والحاجة كلهم. وحق المساكين ما ثبت لهم من الزكاة، وكذلك ما تدعو إليه الحاجة من تعليمهم وإيوائهم وطبهم وتجهيز موتاهم، مما تقوم به الجمعيات الخيرية في هذا العصر، فكل هذا مما تصرف إليه الزكاة ويجب القيام به عند عدم الزكاة أو فنائها أو قصورها عنه، ويجب القيام به واجباً موزعاً على كل واحد ما استطاع، فإذا لم يقم به المجتمع عاد الإثم على جميع الأفراد كل بقدر ما قصر فيما استطاع، ثم ما إلى هذا من عموم الصدقة والإحسان. حَقُّ ابْنُ السَّبِيلِ: {وَابْنَ السَّبِيلِ} السبيل هي الطريق، وابنها هو المسافر لأنه منها أتى كما أتى الإبن من أمه. وحقه هو الثابت له في الزكاة، فيأخذ منها إذا قطع به ولم يكن معه ما يبلغه ولو كان غنياً في بلده، وعلى جماعة المسلمين تبليغه إذا لم تكن ثم زكاة. ومن حقه ضيافته حسب السنة، وإرشاده ودلالته على ما يريد معرفته من طريقه أو مرافقها. وبذكر ابن السبيل والمسكين مع ذي القربى جمعت الآية القريب والبعيد من ذوي الحقوق. وبذكر ابن السببيل والمسكين جمعت ذا الحاجة الثابتة وهو المسكين، والحاجة العارضة وهو ابن السبيل،

الإنفاق في غير وجه شرعي

وقدم الأول لأصالة حاجته. وفي ذكرهما أيضاً جَمْعٌ ما بين القريب الدار والبعيد الدار والمسافر. كل هذا ليعلم أنَّ ذا الحق يعطي حقه على كل حال، وبقطع النظر عن أي اعتبار. وسمي هؤلاء الثلاثة بأسمائهم المذكورة لأنها ترقق عليهم القلوب من القرابة والمسكنة وغربة الطريق. وسمى ما ينالونه حقاً ليشعر المكلف بتأكده. ويحذر المعطي من المنِّ به ولا ينكس قلب آخذه. الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} المال قوام للأعمال، وأداة الإحسان، وبه يمكن القيام بالحقوق، فصاحبه هو مالكه، ولكن الحقوق فيه تشاركه ولا يقوم له بوجوه الحق إلا إذا أمسكه عن وجوه الباطل، ثم لا يقوم له بجميع تلك الوجوه إلا إذا أحسن التدبير في التفريق وأصاب الحكمة في التوزيع. فلذا بعد ما أمر الله تعالى بإعطاء الحقوق لأربابها نهى عن تبذير المال الذي هو أصلها وبه يمكن إعطاؤها. والتبذير هو التفريق للمال في غير وجه شرعي أو في وجه شرعي دون تقدير فيضر بوجه آخر. فالإنفاق في المنهيات تبذير وإن كان قليلاً. والإنفاق في المطلوبات ليس بتبذير ولو كان كثيراً. إلا إذا أُنْفِقَ في مطلوب دون تقدير فأضر بمطلوب آخر كمن أعطى قريباً وأضاع قريباً آخر أو أنفق في وجوه البر وترك أهله يتضورون بالجوع وقد نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا بقوله: "وابدأ بمن تعول". والإنفاق في المباحات إذا لم يضيع مطلوباً ولم يؤد إلى ضياع رأس المال بحيث كان ينفق في المباح من فائدته ليس بتبذير، فإذا توسع في المباحات وقعد عن المطلوبات أو أداه إلى إفناء ماله فهو تبذير مذموم.

إخوان الشياطين

وأفادت النكرة وهي قوله {تَبْذِيرًا} بوقوعه بعد النهي- العموم فهو نهي عن كل نوع من أنواع التبذير القليل منه والكثير حتى لا يستخف بالقليل، لأن من تساهل في القليل وصلت به العادة إلى الكثير. إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}. إن الشيطان يعمل وأعماله كلها في الضلال والإضلال. فقد ضيع أعماله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وهو جاد في ذلك ضار عليه لرسوخه في نفسه. والمبذر يضيع أمواله في الباطل وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وقد أخذت عادة التبذير بخناقه واستولت عليه. فهو أخو الشيطان لمشاركته له في وصفه كمشاركة الأخ لأخيه. وهو أخوه بامتثاله لأمره وصحبته له في الحال وفي المال وفي سوء العاقبة في العاجل والآجل. المال كما هو أداة لكل خير، كذلك هو أداة لكل شر، فالمبذر المفرق لماله في وجوه الباطل بالغ- لا محالة- بماله إلى شر كثير وفساد كبير، ولذلك وصف بأنه أخ الشيطان الذي هو أصل الشر والفساد، ووصف تعالى الشيطان بقوله: {كَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} لأنه أنعم عليه بنعمته فبدلاً من أن يستعملها في طاعته في الخير قصرها على المعصية والشر. وذكر هذا من وصف الشيطان بعد ما تقدم يفيد أنه من وصف المبذر أيضاً. فالمبذر أخو الشيطان، والشيطان كان لربه كفوراً. فالمبذر كان لربه كفوراً. ذلك لأن الله تعالى أنعم عليه بالمال الذي هو أداة لكل خير وعون عظيم على الطاعة فجعله أداة في الشر واستعان به على المعصية. ومكنه بالمال من نعمة القدرة

حسن المقال، عند العجز عن النوال

على القيام بالحقوق فضيعها وقام بالشرور والمفاسد. وهذا من أقبح الكفر لنعمة ربه الذي كان به مضارعها للشيطان أخيه. والعياذ بالله. حُسْنُ الْمَقَالِ، عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النَّوَالِ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. للمؤمنين حالتان حالة وجد وحالة عوز. فلما علمنا الله تعالى ما نصنع في حالة الوجد من إيتاء لذوي القربى واليتامى والمساكين- علمنا ما نصنع في حالة العوز من الرد الجميل والقول اللين الحسن. وقوله تعالى {تُعْرِضَنَّ} من الإعراض وهو الإنصراف عن الشيء، وهو هنا كناية عن عدم العطاء، لأن من يأتي أن يعطي يعرض بوجهه ولو إعراضاً قليلاً. ولما كان الإعراض كناية عن عدم العطاء فإنه يشمل عدم العطاء عند السؤال الذي قد يكون معه الإعراض بالفعل ولو قليلاً، ويشمل عدم العطاء لمن هو أهل لأن يعطي مع عدم وجود السؤال. وقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا}. الإبتغاء هو الطلب باجتهاد، وذلك بالأخذ في الأسباب والإعتماد على مسببها وهو لله تعالى. ورحمة الرب هنا رزقه. ورجاؤها هو انتظارها مع الأخذ في أسبابها بالقلب والعمل. وابتغاء رحمة الرب ورجاؤها كناية عن حالة العوز والإعسار لأن شأن المعوز المؤمن أن يكون كذلك. وقوله تعالى: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. تقول: يسرت له القول، إذا لينته له. فالقول الميسور هو القول الملين وحاصل المعنى: إن أعرضت عنهم فلم تعطهم لأنك لم تجد ما

تعطيهم- وهي الحالة التي تكون فيها تطلب رحمة من ربك راجياً رزقه- فقل لهم قولاً ليناً سهلاً فتواسيهم بالقول عند عدم السؤال، ولا تتركهم في ساحة الإهمال، وردهم الرد الجميل عند السؤال فتقول لهم يرزق الله ونحوه من لين الكلام. وفي الآية تعليم وتربية للمعسر من ناحيتين، الأولى: معاملته لذوي القربى واليتامى والمساكين عند السؤال وعدمه. وعرف من الآية أنه مطالب بحسن المقال بدلاً مما عجز عنه من النوال. والثانية: أدبه، هو في نفسه والحالة التي ينبغي له أن يكون عليها. فإن حالة العسر حالة شدة وبلاء يحتاج المكلف أشد الحاجة أن يعرف دواءه فيها لسيرته العملية، وحالته النفسية. فأعطته هذه الآية الكريمة الدواء لهما. فأما في سيرته العملية فعليه أن يكون ساعياً في الأسباب حسب جهده وذلك هو ما يفيده قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}. وأن يكون مطمئن القلب بالله معتمداً عليه قوي الثقة فيه. وذلك هو ما يفيده قوله: {تَرْجُوهَا}. وقد ذكر برحمة الرب- جلَّ جلاله- لوجوه، الأول: تقوية رجائه، فإنه يعلم سعة رحمة الله وغمره بها في كل حين. ومن ذا الذي لم يجد نفحات الرحمات في أكثر الأوقات في أحرج الساعات. الثاني: بعثه على الصبر والتسليم وعدم الضجر والسأم من الطلب والإنتظار، فإنها رحمة الرب، ومن مقتضى ربوبيته تدبيره للخلق بحكمته فما جاء منه كيف جاء وفي أي وقت جاء أبطأ أم تأخر- هو مقبول منه محمود منا عليه. الثالث: بعث عاطفة الرحمة على غيره فإنَّ من كان يرجو رحمة ربه جدير بأن يكون رحيماً بعباده. ورحمته بعباد الله تعينه على القيام بما أمر به من حسن المقال عند العسر وجميل النوال عند اليسر. وتكون سبباً له في رحمة الله إياه والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

العدل في الإنفاق

الْعَدْلُ فِي الْإِنْفَاقِ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}. ــــــــــــــــــــــــــ لما أمرنا تعالى بالإنفاق علمنا كيف ننفق، وبين لنا أدب الإنفاق في هذه الكلمات. شبهت حالة وهيئة البخيل المسيك الذي لا يكاد يرشح بشيء ولا يقدر لبخله على إخراج شيء من ماله بحالة وهيئة الذي جعل يده مغلولة مجموعة بغل إلى عنقه. فذاك لا تتوجه نفسه للبذل ولا تمتد يده للعطاء وهذا لا تعتدُّ يده للتصرف. ونقل الكلام المركب الدال على المشبه به فاستعمل في المشبه على طريق الإستعارة التمثيلية لتقبيح حالة البخيل. والمعنى: لا تبخل بالنفقة في حقوق الله ولا تمسك إمساك المغلولة يده الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء. وشبهت حالة المسرف الذي لا يبقي على شيء بحالة الشخص الباسط لكفيه، فلا يمسكان عليه من شيء، فذلك يملك المال ولكنه يسرفه لايبقى له منه شيء، وهذا قد يمر الشيء على يده، ولكنه لا يبقي فيها شيء ونقل المركب الدال على المشبه به إلى المشبه استعارة تمثيلية أيضاً. والمعنى: ولا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه ولا تنفق جميع مالك. وبهذا يعلم أن كل البسط المنهي عنه هنا غير التبذير المنهى عنه في الآية- المتقدمة، ذاك توزيع المال وتبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الانفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء. نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط والتفريط وهما الإسراف

والتقتير. فالمأمور به هو العدل الوسط، فعلى ذي المال أن يأخذ في إنفاقه بهذا الميزان ليكون إنفاقه محموداً. فلا يمسك عما يستطيع ولا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر. وكان النهي عن كل البسط لأنه هو الذي فيه إسراف، وأما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه. وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف والتقتير بقوله: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}. البخيل الممسك ملوم من الله تعالى ومن العباد إذا لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع ومن نفسه بعد ضياع ما في يده. والمحسور المتعب المضني الذي انكشفت عنه القوة ولم تبق به قدرة على شيء. تقول العرب: حسرت البعير، أي انضيته وأتعبته بالسير حتى لم يبق به قدرة عليه. والجمل لا يقطع الطريق ويصل إلى الغاية إلا إذا حافظ صاحبه على ما فيه من قوة فسار به سيراً وسطاً. أما إذا أجهده واستنزف قوته فإنه يسقط كليلاً محسوراً، فلا قطع طريقه ولا وصل منزله ولا أبقى جمله. فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، وبلغ غاية حياته هادئاً رضياً، وإذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع والإنتفاع ولم يبلغ غاية حياته إلاَّ بأتعاب ومشاق. وعلم من هذا أن قوله: {مَلُومًا} يرجع للمقتر والمسرف، وقوله: {مَحْسُورًا} يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول أنَّ البخيل أيضاً مبغوض من الناس مخذول منهم، فلا يجد في ملماته معيناً ولا في نوائبه معزياً، فهو أيضاً ضعيف الجانب لا قوة له. فالمسرف ضيع المال. والبخيل ضيع الإخوان، فكلاهما مكسور الظهر عديم الظهير.

والمخاطب بهذا الخطاب إمَّا مفرد غير معين، فيشمل جميع المكلفين غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر، ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول وليس عنده شيء، وما كان ملوماً ولا محسوراً، بل كان على ذلك صباراً شكوراً مشكوراً- وأما هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أمته، وعادة العرب أن تخاطب سيد القوم، تريد القوم، وتعبر بالمتبوع عن أتباعه، ونظير هذه الآية في ذلك: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (1) {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (2) فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم غير داخل في هذا الخطاب بإجماع، وقد تقدم قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ}، يعني الوالدين، وكان والداه عليهما الرحمة توفيا، فلم يدخل في الخطاب قطعاً، فكذلك هنا. قال الإمام إبن العربي - رضي الله عنه - في تعليل عدم دخوله في هذا الخطاب-: لما هو عليه من الخلال والجلال، وشرف المنزلة، وقوة النفس على الوظائف وعظيم العزم عله المقاصد. فأما سائر الناس فالخطاب عليهم وارد والأمر والنهي- كما تقدم- إليهم متوجه. إلا أفراداً خرجوا من ذلك بكمال صفاتهم وعظيم أنفسهم، منهم أبو بكر الصديق خرج عن جميع ماله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقبله منه الله سبحانه، وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع مالهم لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم. وأعيان من الصحابة كانوا على هذا، فأجزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، وائتمروا بأمر الله واصطبروا على بلائه، ولم تتعلق قلوبهم بدنيا، ولا ارتبطت أبدانهم

_ (1) 94/ 10 يونس. (2) 65/ 39 الزمر.

تفاوت الأرزاق من حكمة الخلاق

بمال منها، وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق وغروب أنفسهم عن التعلق بغضارة الدنيا. وقد كان أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة فما ادَّخر قط شيئاً لغد ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد، ولا ربط على الدنيا بيد. فههنا ثلاثة أصناف من الخلق الأعم الأكثر، وهم أهل الحظوظ البشرية، والقليل وهم الذين ضعفت فيهم حظوظهم، والأقل الأندر وهم الذي زالت منهم تلك الحظوط. وقد أفادتنا السنة العملية المتقدمة في كلام الإمام ابن العربي أن لأهل الصنف الثاني أن يخرجوا عن كثير من أموالهم على مقدار ما بقي من حظوظهم، وأن لأهل الصنف الثالث أن يخرجوا منها كلها، وأما أهل الصنف الأول فلا يخرجون من الوسط الذي ينته الآية. وقد جاءت الآية الكريمة على مقتضى حال الأعم الأكثر لأنها قاعدة عامة في سياسة الإنفاق، وشأن القواعد العامة أن يعتبر فيها جانب الأعم الغالب ولا يلتفت للنادر. وقد وكل للنبي صلىَّ الله عليه وآله وسلم بيانه، فجاء مبيناً فيما تقدم من سنته. وتقررت القاعدة واستثناؤها من الكتاب والسنة وهما مصدر التشريع. تَفَاوُتِ الْأَرْزَاقِ مِنْ حِكْمَةِ الْخَلَّاقِ: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (1) لما أرشدنا تعالى إلى السلوك الأقوم في العمل في باب الإنفاق أرشدنا إلى العقد الصحيح في مسألة تفاوت الأرزاق وفي ذلك تمام الهداية إلى الإستقامة في الظاهر والباطن.

_ (1) 17/ 30 الإسراء.

وأن أحوال العباد في الغنى والفقر والسعة والضيق وتعاقبها عليهم بسرعة وبمهل، وتفاوتهم فيها لما يخفي ولما يظهر من العلل- لأمر عجب عجاب يحير الألباب. فعلَّمنا الله تعالى في هذه الآية أنَّ الربَّ هو الذي يربي المربوب في أحواله وأطواره بمقتضى الإصلاح والصواب هو الذي يبسط ويوسع على من يشاء- ولا يشاء إلاَّ ما هو حق وعدل وصواب وإن خفي علينا وجهه- ويقدر، أي يضيق على من يشاء، وكل أحد هو حقيق بالحال الذي هو فيه. وأنه كان بعباده خبيراً مطلعاً على دواخل أمورهم وبواطن أسرارهم من أنفسهم، ومما يرتبط بهم ومن سوابقهم ومصائرهم بصيراً منكشفة له جميع أمورهم. وكما أنه بالعمل بآية الإنفاق ينتظم أمر العباد في معاشهم، كذلك بالإيمان بهذه العقيدة تزول حيرتهم وتطمئن قلوبهم فيما يرونه من أحوال الرزق في أنفسهم وفي غيرهم. والله يبصر القلوب ويقوم الأعمال إنه سميع مجيب (1). ..

_ (1) ش: ج6 م، 6 ص 334 غرة صفر 1349 - جولية 1930

حفظ النفوس بحفظ النسل وحفظ الفرج وعدم العدوان

حِفْظُ النُّفُوْسُ بِحِفْظِ النَّسْلِ وَحِفْظُ الْفَرَجِ وَعَدَمِ الْعُدْوَانِ {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ إن الأرواح الإنسانية كريمة الجوهر لأنها من عالم النور، فقد خلقت من نفخ الملك كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الثابت في الصحيح: ((أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح .. الخ) والملائكة- كما في الصحيح- خلقوا من النور. وإنها كريمة الخلقة أيضاً لأنها فطرت على الكمال، ولذا أضافها الله تعالى إلى نفسه في معرض الامتنان في قوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} دع ما يطرأ عليها بعد اتصالها بالبدن من تزكية ترقى بها في معارج الكمال أو تدسية تنحط بها إلى أسفل سافلين. وبعد ارتباطها بالبدن يتكون منهما المخلوق العظيم العجيب

_ (1) 3/ 31 - 33 الإسراء.

1 - حفط النسل

المسمى بالإنسان، الذي جعل الله تعالى خليفة في الأرض ليعمرها ويستثمرها. ويعبرها إلى دار الكمال الحق والحياة الدائمة الأبدية. هذه النفوس البشرية جاءت الشرائع السماوية كلها بإيجاب حفظها، فكان حفظها أصلاً قطعياً وكلية عامة في الدين، وجاءت هذه الآيات في تقرير هذا الحفظ من وجوه ثلاثة سنتكلم عليها واحداً واحداً: 1 - حفط النسل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}. العرب في زمان البعثة هم المخاطبون قبل الناس بالقرآن، وهم المأمورون أول الناس- لعموم الرسالة- بالبلاغ، وعلى اهتدائهم كان يتوقف اهتداء غيرهم، فمن الحكمة توجه القصد إلى تطهيرهم من مفاسدهم، وقد كانوا في الجاهلية منهم من يقتل البنات خشية الفقر وليوفر ما ينفق عليهن لينفقه على نفسه وبيته وبنيه، ويرى النفقة عليهن ضائعة لأنه لا ينتظر منهن سعياً للكسب ولا نصرة على العدو، وهذه هي المؤودة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} على أنه قد كان من ساداتهم من يحي المؤودة فيشتريها من عند أبيها وينجيها من القتل. كزيد بن نفيل القرشي أبي سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين - رضي الله عنهم -، وصعصعة ابن ناجية التميمي الصحابي جد الفرزدق الشاعر المشهور. وقد كان قتل البنات شائعاً فيهم مستفيضاً ومنهم- كما في "لسان العرب"- من كان يئد البنين عند المجاعة، فجاء النهي عن القتل في الآية متعلقاً بلفظ الولد شاملاً للبنات والبنين، ومعه السبب الذي كان يحملهم على القتل وهو

معالجة هذه الرذيلة: بإبطال سببها، وعظيم قبحها، وسوء عاقبتها

خشية الإملاق: أي خوف الفقر والإقتار، والمملق هو الذي خرج ماله من يده فلم يبق بها شيء، ومن مادته الملقة وهي الصفاة الملساء. فنهوا عن هذا القتل الفظيع مع ذكر سببه لتصوير حالتهم بوجه تام وليتخلص من ذكر السبب إلى إبطاله ورده. معالجة هذه الرذيلة: بإبطال سببها، وعظيم قبحها، وسوء عاقبتها: أبطل تعالى خوفهم من الفقر بقول: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} فأخبر أن رزق الجميع عليه، وأنه متكفل برزق خلقه بما يسر لهم من أسباب جلية أو خفية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى والكبير والصغير. كما أنَّه تعالى هو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما في الآية السابقة، فهما مرتبطتان بهذه المناسبة، ومن ضلالهم أنَّهم نظروا إلى قوة الكبير فحسبوه مرزوقاً من نفسه فهداهم بقوله: {وَإِيَّاكُمْ} إلى أن الكبار مرزوقون من الله بتقديره وتيسيره. ولما كان لا فرق بين الكبير والصغير في الحاجة إلى لطف الله وضمان الرزق من الله فلا وجه لخوف الفقر من وجود الأولاد وكثرتهم، لأنه ما من واحد منهم إلا ورزقه مضمون من خالقه جل جلاله. وبيَّن تعالى فظاعة هذا القتل بقوله: {أَوْلَادَكُمْ} بإضافة الأولاد إليهم، فإن الأولاد أفلاذ الأكباد، وبضعة من لحم المرء ودمه، ونسخة من ذاته، فمحبتهم فطرة، والعطف التام عليهم خلقة، فكيف يكون قبح وفظاعة فعل من بلغ بهم القتل. وأي خير يرجى من قاتل ولده لغيره من الناس بعد ما جنى أفظع الجنايات على ألصق الناس به. وبين تعالى سوء العاقبة لهذا القتل بقوله: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} أي إثماً كبيراً لما فيه من قتل النفس وقطع النسل وهلاك الجنس وخراب العمران وسوء الظن بالله وعدم خشيته وعدم الشفقة على خلقه، يقال خطىء يخطأ خطئاً إذا قصد الفعل القبيح ففعله. وأخطأ

عموم حكم الآية وترغيبها

يخطيء خطئاً إذا قصد شيأً فأصاب غير .. ومن مثل وعيد الآية ما ثبت في الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- سئل أي ذنب أعظم قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. عموم حكم الآية وترغيبها: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والحكم يعم بعموم اللفظ كما أن ذكر سبب القتل في الآية لا يقتضي التخصيص لأنه ذكر لتصوير الحال الذي كانوا عليه، فالقتل حرام لأي سبب كان. وهذا الفعل الذي كان في الجاهلية على الوجه المتقدم، وهو فعل مؤد إلى قطع النسل وخراب العمران، لا تسلم منه الأمم الأخرى في مختلف الأزمنة والبلدان، إما بالقتل بعد الولادة وإما بإفساد الحمل بعد التخليق، وهو حرام باتفاق. وقد يكون بالإمتناع من التزوج أو بعدم الإنزال في الفرج وهو العزل. والآية كما نهت عن القتل قد رغبت في النسل بذكر ضمان الرزق، فعلى المؤمن أن يسعى لذلك من طريقه المشروع وأن يتلقى ما يعطيه الله من نسل ابن أو بنت بفرح لنعمة الله وثقة برزق الله وإيمان بوعده. 2 - حفظ الفرج: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}. في الزنا إراقة للنطفة وسفح لها في غير محلها، فلو كان منها ولد لكان مقطوع النسب مقطوع الصلة ساقط الحق. فمن تسبب في وجوده على هذه الحالة فكأنه قتله. ولهذا بعد ما نهى عن قتل الأولاد نهى عن الزنا الذي هو كقتلهم لأنه سبب لوجودهم غير مشروع. قال الجوهري: "قربته أقربه قربانا أي دنوت منه" فقوله تعالى:

معالجة هذه الرذيلة، بتقبيحها، وسوء عاقبتها

{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} أبلغ في النهي من ولا تزنوا، لأنه بمعنى ولا تدنوا من الزنا. وأفاد هذا تحريم الزنا وتحريم الدنو منه، لا بالقلب ولا بالجوارح، فقد جاء في الصحيح: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة. العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليدان زناهما البطش والرجل زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى. ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه". فزنا هذه الجوارح دنو من الزنا الحقيقي ومؤد إليه، وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي. وهو ستر الحرة ما عدا وجهها وكفيها وجمع ثيابها عند الخروج بالتجلبب، وبما حرم من تطيب المرأة وقعقعة حليها عند الخروج، وخلوتها بالأجنبي واختلاط النساء بالرجال، فتضامر النهي والتشريع على أبعاد الخلق عن هذه الرذيلة. والمسلم المسلم من تحرى مقتضى هذا النهي وهذا التشريع في الترك والإبتعاد. معالجة هذه الرذيلة، بتقبيحها، وسوء عاقبتها: بين تعالى قبحها بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}. والفاحشة هي الرذيلة التي تجاوزت الحد في القبح، وعظم قبح الزنا مركوز في العقول من أصل الفطرة كان ولم يزل كذلك معروفاً. ومن رحمة الله تعالى بخلقه أن ركز في فطرهم إدراك أصول القبائح والمحاسن- ليسهل انقيادهم للشرع عندما تدعوهم الرسل إلى فعل المحاسن وترك القبائح وتأتيهم بما هو معروف في الحسن أو القبح لهم، فتبين لهم حكم الله فيه وما لهم من الثواب أو العقاب عليه. وبيَّن تعالى سوء عاقبة الزنا بقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} أي بئس طريقاً طريقه. طريق مؤد إلى شرور ومفاسد كثيرة في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة، فهو طريق إلى هلاك الأبدان وفساد الأعراض، وضياع الأموال وخراب البيوت وانقطاع الأنساب وفساد المجتمع

3 - عدم العدوان

وانقراضه زيادة على ما فيه من معنى القتل للنفوس الذي تقدم في صدر الكلام ... فعلى المؤمن إذا وسوس له الشيطان بهذه الرذيلة أن يتعوذ بالله منه ويستحضر قبحها، والمفاسد التي تجر إليها، والإثم الكبير الذي يعقبها، وقبل ذلك كله حرمة النهي الشرعي عنها فيكون ذلك له - بإذن الله- وقاية منها. 3 - عدم العدوان: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}. جاء أسلوب هذه الآيات تدرجاً من الخاص إلى العام فقتل الأولاد قتل للنفس التي حرم الله، والزنا كالقتل للنفس كما قدمناه. وجيء هنا بالنهي الصريح عن قتل النفس وأكد مقتضى النهي بوصف النفس بقوله: {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} والتحريم هو المنع، فحرم الله معناه منع الله، والتقدير حرم الله قتلها، فحذف لدلالة {لَا تَقْتُلُوا} عليه فالمنهي عنه هو القتل والمحرم هو القتل، فتأكد المنع بالنهي والتحريم. وفي إسناد التحريم إلى الله بعث للنفوس على الخشية من الإقدام على المخالفة وتنبيه لها على ما يكفها عن الإقدام، وهو استشعار عظمة الله. القتل المحرم: بيَّن تعالى بقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أن القتل المحرم هو القتل بالباطل، وأن القتل بالحق ليس بمنهي عنه. وبين الحق في الحديث الصحيح بقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل دم امرى مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزاني الثيب، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق

الردع عن العدوان بشرع القصاص

للجماعة) في غير هذه الثلاث أو يقال يتقدم هذا الحصر في الورود عليها، وهذا القتل الحق لا يتولاه أفراد الناس في بعضهم وإنما يتولاه الإمام الذي إليه القيام بتنفيذ الأحكام وفصل الحقوق. الردع عن العدوان بشرع القصاص: القتل وسفك الدم عمل قديم في البشر فلهم- على الجملة- ضراوة عليه وألف به. وأعظم ما يكف الشخص عن نفس أخيه خوفه على نفسه، فلذلك شرع الله تعالى القصاص بين النفوس وبين تعالى ذلك بقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} المظلوم من قتل عمداً عدواناً، والولي هو القريب، والسلطان هو التسلط- والمعنى: ومن قتل عمداً عدواناً فقد جعلنا لقريبه تسلطاً بتمكينه من القصاص. لا يحفظ النفوس إلا العدل: كفاء النفس نفس فلا يقتل إلا القاتل بما قتل دون غيره ودون تمثيل به، وبين تعالى هذا بقوله: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} أي لا يتجاوز القصاص المشروع، لأن الإسراف ظلم ومثير للحفائط فيتسلسل الشر. تسكين نفس الموتور: الموتور هو من قتل قريبه، ولفقد القريب لوعة ربما تذهب بالنفس إلى شر غاية، فذكر بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} فإن قريب المقتول قد نصره الله بما جعل له من القصاص، فإذا لم يستوف له في الدنيا إستوفى له في الأخرى. والمؤمن بيقينه لا يرى يوم القيامة إلا قريباً. وكفى بالله حسيباً (1).

_ (2) ش: ج7، م 6، ص 399 - 405 غرة ربيع الأول 1349هـ أوت1930م

حفظ الأموال باحترام الملكية

حِفْظُ الْأَمْوَالِ بِاحْتِرَامِ الْمِلْكِيَّةِ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ مال الشخص هو ما كان ملكاً له. واليتيم هو من عدم أباه، من اليتم، بمعنى الإنفراد، ومنه الدرة اليتيمة. ومن عدم أباه فقد عدم ناصره. فإذا بلغ النكاح فقد بلغ القوة فاستغنى عن الناصر فلا يقال فيه يتيم في اللغة. واعتبر الشرع الشريف وجود قوة العقل فمنع استقلاله ودفع ماله إليه بعد البلوغ حتى يؤنس منه الرشد. والتي أحسن: الفعلة والخصلة التي هي أنفع، والبلوغ إلى الشيء الوصول والإنتهاء إليه. والأشد، جمع شدة، كأنعم جمع نعمة، فالأشد هو القوي، وبلوغ الأشد هو بلوغ القوي والوصول إلى الحالة التي تحصل فيها القوى للإنسان، القوى البدنية والقوى العقلية. ولا يقال في الشخص قد بلغ أشده إلا إذا حصل على قواه من الجهتين فأما القوى البدنية فعلامة حصولها هو البلوغ. وأما القوى العقلية فعلامة حصولها هو الرشد الذي يظهر في حسن التصرف، وقد جمع العلامتين قوله تعالى في سورة النساء: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2).

_ (1) 34/ 17 - 35 سورة الإسراء. (2) 5/ 4 النساء.

فابتداء الأشد من البلوغ إذا كان معه رشد، ولا يزال يتدرج حتى يستكمل في الأربعين كما قال تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}. فالأربعون هي سن الإستكمال والإستواء والتمام في القوى، وهي السن التي بعث الله فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للعالمين بشيراً ونذيراً، ولا يزال الإنسان في قوته - ما لم تعرض الطوارىء- إلى الخمسين، قال الشاعر (2): أَخُو الْخَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ ثم يأخذ في التراجع. مال المرء كقطعة من بدنه ويدافع عنه كما يدافع عن نفسه. وبه قوام أعماله في حياته. فالأموال مقرونة بالنفوس كما في الإعتبار، فقرنت في النظم آية حفظ الأموال بآيات حفظ النفوس، كما قرن بينهما النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام. نهى تعالى عن قربان مال اليتيم إلا بالوجه الذي هو أنفع، فلا بد لكافل اليتيم من النظر والتحري عند التصرف في ماله حتى يعرف ما هو ضار وما هو نافع وما هو ضار ولا نافع وما هو أنفع فلا يتصرف إلا بما هو نافع، فإذا تعارض وجهان نافعان تحرى أنفعها لليتيم، وفي هذا النهي- بطريق الأحرى- تحريم أخذ مال اليتيم بالباطل والتعدي عليه ظلماً. ومثل اليتيم في وجهي النهي المتقدمين غيره، فكل ذي ولاية أو أمانة على مال غيره يجب عليه أن يتحرى التحريم المذكور. كما يحرم على كل أحد أن يتعدى على مال غيره. وإنما

_ (1) هو سحيم عبد بني الحسحاس.

الولاية والاستقلال

خص اليتيم بالذكر لأنه ضعيف لا ناصر له، والنفوس أشد طمعاً في مال الضعيف، فالعناية به أوكد والعقوبة عليه أشد. ومن تأدب بأدب الآية في مال الضعيف، كاليتيم، كان حقيقاً أن يتأدب بأدبها في مال غيره. ومن بليغ إيجاز القرآن في بيانه أنه يذكر الشيء ليدل به على نظيره، أو الذي هو أحرى بالحكم منه، أو لكون امتثال الحكم الشرعي فيه داعياً إلى امتثاله في غيره بالمساواة أو الأحْروية. وأجاز تعالى لولي اليتيم أن يتصرف في ماله بالإستثناء في قوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيجوز له تنميته لليتيم بوجوه التجارة. الولاية والاستقلال: الولاية على اليتيم واستقلاله حالتان كلتاهما حق وخير إذا كانت كل واحدة منها في وقتها المناسب لها. وكل واحدة منهما تكون ظلماً وشراً إذا كانت في غير وقتها فلذلك بيّن تعالى الحالتين ووقتها بما قبل {حَتَّى} وما بعدها، فوقت عدم بلوغ الأشد هو وقت الولاية، فمن الفروض الكفائية على الأمة أن يكون أيتامها مكفولين غير مهملين. ووقت بلوغ الأشد- ببلوغ الحلم والرشد- هو وقت استقلال من كان يتيماً ووقت دفع ماله إليه، فلا يجوز حينئذ الإستيلاء على ماله والسيطرة عليه. الوفاء بالعهد: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1). أوفى بعهد إذا أتى بما التزم تاماً وافياً. والعهد من عهد إليه بالشيء إذا أعلمه به. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ

_ (1) 17/ 34 الإسراء.

الوفاء بالعهد شرط ضروري لحصول السعادتين

قَبْلُ فَنَسِيَ} (1) أي أعلمناه. فالعهد هو الإعلام بالإلتزام أو الإعلام بما يلتزم. فمن الأول: عاهدت زيداً على كذا، أي أعلمته بالتزامي له، وتعاهد القوم على الموت، أي أعلم بعضهم بعضاً بالتزامه، ومن الثاني: عهد الله إلى العباد إلى أعلامهم بما عليهم أن يلتزموه. وقول عبد الله ابن عمر - رضي الله عنه -: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. أي إعلامه لنا وإعلامنا لكم بما يلتزم. والمسؤول من سأل. وسأل بمعنى طلب، إما طلب علماً وإما طلب شيئاً، فإن كانت الأولى تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بعد، تقول سألته عن كذا فأجابني، وإن كانت الثانية تعدى الفعل إليه بنفسه، تقول: سألته ثوباً فأعطانيه. فقوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}، إذا كان من الأولى فالأصل مسؤولاً عنه فحذف إيجازاً لظهور المراد. وإذا كان من الثاني فلا حذف، والمعنى حينئذ مطلوب أي مطلوب الوفاء به. الوفاء بالعهد شرط ضروري لحصول السعادتين: عهد الله تعالى لعباده هو ما شرعه لهم من دينه فوفاؤهم بعهده قيام بأعباء ذلك الدين الكريم وانتظام شؤونهم في هذه الحياة - أفراداً وجماعات وأمماً- متوقف على الوفاء من بعضهم لبعض بما بينهم من عهود، فالوفاء ضروري لنجاة العباد مع خالقهم ولسلامتهم من الشرور والفوضى والفتن. وضروري- إذا- لتحصيل سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. ولمكانة هذا الأصل وضرورته تكرر في الكتاب والسنة الأمر به على وجه عام بين الأفراد والأمم بلا فرق بين الأجناس، والملل. وجاء هنا في آية الوصاية باليتيم، وهي آية حفظ الأموال باحترام الملكية،

_ (1) 15/ 20 طه.

الترغيب في الوفاء والترهيب من الخيانة

لوجهين: الأول أن الكامل لليتيم قد أعلن بكفالته- بلسان حاله- أنه ملتزم لحفظه في بدنه وماله، فهذا عهد منه يطالب بالوفاء به ويسأل عن ذلك الوفاء، الثاني أن الآية في حفظ الأموال وعدم التعدي على ملك أحد، والناس يتعاملون بحكم الضرورة ويبنون تعاملهم على تبادل الثقة والعهود المبذولة من بعضهم لبعض بلسان المقال أو بلسان الحال، فأمروا بالوفاء بالعهد الذي هو أساس للتعامل، وفي ذلك سلامة مال كل أحد من التعدي عليه. ولا ينافي هذا عموم اللفظ الذي يقتضي الأمر بالوفاء عاماً لأنه باق على عمومه، وإنما يدخل فيه هذان الوجهان المذكوران في ارتباط النظم دخولاً أولياً. ومن بديع إيجاز القرآن في نظم الآيات أن يؤتي باللفظ مفيداً للعام ومقوياً للخاص. الترغيب في الوفاء والترهيب من الخيانة: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} إذا كان مسؤول بمعنى مطلوب، أي مطلوب الوفاء به، فإنه مطلوب في الفطرة وهي الشريعة، فالعباد فطروا على استحسان الوفاء ومطالبة بعضهم بعضاً به، والشرع طالبهم بالوفاء وشرعه لهم ووعدهم الثواب عليه. ففي قوله: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ترغيب لهم في الوفاء بحسنه ومشروعيته وحسن الجزاء عليه. ويتضمن هذا الترغيب بالتخويف من ترك الترغيب بالتخويف من ترك المطلوب. وإذا كان مسؤول بمعنى مسؤول عنه فإن المعنى أن الله تعالى يسأل العباد يوم القيامة عن عهودهم هل أوفوا بها ليجازيهم على الوفاء بحسن الجزاء، وعلى الخيانة بالعذاب والإهانة، فينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ويقال هذه غدرة فلان كما جاء في الصحيح. ففي الآية على هذا- أيضاً- ترغيب وترهيب.

إيفاء الحقوق عند التعامل

إيفاء الحقوق عند التعامل: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1). إيفاء الكيل إتمامه، والقسطاس هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال والميزان على تعدد أنواعهما، والمستقيم الصحيح الذي لا عيب فيه، ومما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل كسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه. والخير: النافع. والتأويل: مصدر أول، بمعنى رجع، من آل يؤول أولاً، بمعنى رجع، وهو هنا بمعنى المرجع والمئال، أي العاقبة. الأمر بإيفاء الكيل من موضوع ما قبله في الأمر بحفظ الأموال واحترام الملكية. والمكيلات والموزونات مورد عظيم للتعامل، ومعرضة تعريضاً كبيراً للبخس والتطفيف وأخذ مال الناس بالزيادة أو بالتنقيص، إما بفعل الشخص وإما بفساد الآلة، فأمر تعالى بإيفاء الكيل وأمر باختيار الآلة الصالحة لذلك، وبين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله: {إِذَا كِلْتُمْ} على سبيل التأكيد، حتى لا يتأخر الوفاء عن الكيل بأن يكتل ما نقص أو يرد ما زاد، فإن الذي يفصل الحق ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل. الترغيب في إيفاء الكيل: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} رغب تعالى في الإيفاء بوجهين. الأول: أنه خير، فيفيد العدل والحق وأكل الحلال وراحة البال، وفيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر، وفيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة، وهذه

_ (2) 35/ 27 الإسراء.

تركيب على هذا الترغيب

كلها وجوه نفع وخير. الثاني: أنه أحسن عاقبة عاجلاً في نفس الشخص وأخلاقه وفي عرضه وسمعته وفي سلامته من المطالبات والمنازعات، وآجلاً بحسن جزائه عند الله بما أعد للموفين من الأجر العظيم. تركيب على هذا الترغيب: هذان الوجهان اللذان رغب الله تعالى بهما في الوفاء- ينبغي للعاقل أن يجعلهما نصب عينيه في كل ما يتناوله ويعمله، فيقتصر على ما هو خير ينفعه في الحال، وحسن العاقبة بنفعه وعدم ضرره في المال. والله يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال إنه الكريم الواسع النوال (1).

_ (1) ش: ج 8 م 6 ص 462 - 467 غرة ربيع الثاني 1349هـ سبتمبر 1930.

العلم والأخلاق

الْعِلْمُ وَالْأَخْلاقُ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: العلم الصحيح والخلق المتين هما الأصلان اللذان ينبغي عليهما كمال الإنسان. وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة من أصول التكليف، فهما أعظم مما تقدمهما من حيث توقفه عليهما، فجيء بهما بعده ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى. ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آيتها تقديم الأصل على الفرع. آية العلم المفردات والتراكيب: القفو: إتباع الأثر، تقول: قفوته أقفوه إذا اتبعت أثره. والمتبع للأثر شخص موال في سيره لناحية قفاه، فهو يتبعه دون علم بوجهة ذهابه ولا نهاية سيره. فالقفو إتباع عن غير علم، فهو أخص من مطلق

_ (1) 17/ 36 - 37 الإسراء.

الإتباع، ولذلك اختيرت مادته هنا. ولكونه اتباعاً بغير علم جاء في كلام العرب بمعنى قول الباطل قال جرير: وَطَالَ حِذَارِي غُرْبَةَ البَيْنِ وَالنَّوَى ... وَأُحْدُوثَةٌ مِنْ كَاشِحٍ يَتَقَوَّفُ (1) أي متقول بالباطن. والعلم إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة. سواء كانت تلك البيتة حساً ومشاهدة أو برهاناً عقلياً، كدلالة الأثر على المؤثر والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن، هذا هو الأصل، ويطلق العلم أيضاً على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جداً. كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (3). فسمى القرآن إدراكه لما شاهدوا: علماً. لأنه إدراك كان يبلغ الجزم لأنبيائه على ظاهر الحال، وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه. والسمع: القوة التي تدرك بها الأصوات بآلة الأذن. والبصر: القوة التي تدرك بها الأشخاص والألوان بآلة العين. وقدم السمع على البصر لأن به إدراك العلوم وتعلم النطق، فلا يقرأ ولا يكتب إلا من كان ذا سمع وقتاً من حياته. والفؤاد القلب. والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما. وإطلاق لفظ الفؤاد والقلب على العقل مجاز مشهور. وكان: تقيد ثبوت خبرها لاسمها وكونها على صورة الماضي لا يدل على انقضاء ذلك الإرتباط. ومثل هذا التركيب

_ (1) ديوانه 374. والتقوف: قفو الأثر. (2) 81/ 12 يوسف.

القلب ميزة الإنسان وأداة علمه

يفيد في الإستعمال إستحقاق الإسم للخبر، فالجوارح مستحقة للسؤال ويكون ذلك بالفعل يوم القيامة. والمسؤول الموجه إليه السؤال ليجيب. وأولئك إشارة إلى هذه الثلاثة، وضمير كان عائد على كل، وضمير عنه عائد على ما، وضمير مسؤولاً عائد على ما عاد عليه ضمير كان. والتقدير: كل واحد من هذه الثلاثة السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عما ليس لك به علم. القلب ميزة الإنسان وأداة علمه: يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، ويمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، وعقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير، وتفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجاباً وسلباً وارتباط بعضها ببعض نفياً وثبوتاً، وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الإرتباط على صورة مخصوصة ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول. فالتفكير إكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكراً. ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير- إمتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته ونظم معيشته بمكتشفاته ومستنبطاته. فمن المشي على الأقدام إلى التحليق في الجو، مثلاً. وبقي سائر الحيوان على الحال التي خلق عليها دون أي انتقال. وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها ويستقيم تنظيمه لها- تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول وقسمي العلوم والآداب. وهذا كما كان العرب والمسلمون أيام بل قرون مدنيتهم. عرَّبوا كتب الأمم إلى ما عندهم ونظروا وصححوا واستدركوا واكتشفوا. فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم

وأناروا بالعلم عصرهم ومهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم. فأدُّوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها، وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم. ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة، وعرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم فجاء هو أيضاً بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده، وثمرة تفكيره ونظره فيها. وقد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه، كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز القرن الماضي لتكاثر المعلومات. فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات فتكثر المعلومات فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها. وهكذا يكون كل قرن ما دام التفكير عمالاً- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله. فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى. وإذا كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها بقي حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل. لأن المعلومات إذا لم تتعاهد بالنظر زالت من الحافظة شيئاً فشيئاً، وهذا هو طور الجمود الذي يصيب الأمم المتعلمة في أيامها الأخيرة عندما تتوافر الأسباب العمرانية القاضية- بسنة الله- بسقوطها. وإذا لم يصح إدراكه للحقائق أو لنسبها، أو لم يستقم تنظيمه لها كان ما يتوصل إليه بنظره خطأً في خطأٍ وفساداً في فسادٍ. ولا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس والضلال في المعقول. وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد. وهذا هو طور انحطاط الأمم الإنحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم ويفشو الجهل وتنتشر فيها الفوضى بأنواعها فتتخذ رؤوساً جهالاً لأمور دينها

العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والإعتقادات

وأمور دنياها فيقودونها بغير علم فيَضِلُّون ويُضَلَّون ويَهلَكون ويُهلِكون ويفسدون ولا يصلحون. وما أكثر هذا- على أخذه في الزوال بإذن الله- في أمم الشرق والإسلام اليوم. العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والإعتقادات: سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً، يستقيم باستقامته ويعوج باعوجاجه ويعقم بعقمه. لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الإعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره ونظره. وهذه الإدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف، فمنها ما هو قويٌّ معتبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الإعتبار، فالأول: العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه وهو عام الإعتبار. ويليه الظن وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتملة، وهو معتبر عندما نتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك، وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازاً. والثاني: الوهم، وهو إدراك الأمر على الوجه المرجوح. والشك وهو إدراك الأمر على وجهين، وجوه متساوية في الإحتمال وكلا هذين لا يعوَّل عليه. ولما كان الإنسان- بما فطر عليه من الضعف والإستعجال- كثيراً ما يبني أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه وعلى ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر والضلال. بين الله تعالى في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم ولا يصح منهم البناء لأقوالهم وأعمالهم واعتقاداتهم إلا على إدراك واحد وهو العلم فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتبع

تفصيل

ما لا علم لك به، فلا يكن منك اتباع بالقول أو بالفعل أو بالقلب لما لا تعلم. فنهانا عن أن نعتقد إلاّ عن علم، أو نفعل إلاّ عن علم، أو نقول إلاّ عن علم. فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه ونفكر فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه وإلا تركناه حيث هو في دائرة الشكوك والأوهام أو الظنون التي لا تعتبر. ولا كل ما نسمعه أو نراه أو نتخيله أو نقوله، فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع كما جاء في الصحيح، بل علينا أن نعرضه على محك الفكر فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية ومقتضيات الزمان والمكان والحال. فقد أمرنا أن نحدث الناس بما يفهمون، وما حدّث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان عليهم فتنة وإلا طرحناه. ولا كل فعل ظاهر لنا نفعله، بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه لنكون على بينة من خيره وشره ونفعه وضره، فما أمر تعالى إلاّ بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلاّ عما هو شر وفساد لهم أو مؤد إلى ذلك. وإذا كان من المباحثات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها. فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلا تركناه. فلا تكون عقائدنا- إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلا حقاً، ولا تكون أقوالنا إلا صدقاً، ولا تكون أفعالنا إلا سداداً. ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم ولا كان الفساد والشر في أفعالهم إلا بإهمالهم أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم. تفصيل: نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هو ما لنا به علم، أي لنا علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق وأقوال

تفريع

الصدق وأفعال السداد. فأما ما كان من عقائد الحق في أمر الدين أو في أمر الدنيا فلا حضر في اعتقاد شيء منه. وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك. وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل إذ ليس كل قول صادق يقال، فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته لأنها غيبة محرمة ولا يجابه بها في حضوره لأنها إذاية، إلا إذا وجَّه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة التي من أولها أن لا تكون في الملأ. وهكذا يجب في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها والتفصيل في مفاهيمها. تفريع: الفرع الأول: من اتبع ما ليس له به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين أو في حق الناس أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحضور فهو آثم من جهتين: إتباعه ما ليس له به علم، واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور. ومن اعتقد حقاً من غير علم أو قال في الناس صدقاً عن غير علم أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه- مع ذلك- آثم من جهة واحدة، وهي إتباعه ما ليس له به علم ومخالفته لمقتضى هذا النهي. الفرع الثاني: المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلاً، وإنما يقول سمعت الناس يقولون فقلت- هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم لتحصيل هذا الإستدلال له العلم. والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها يصدق عليه باعتبار الأدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم. ولكنه له علم من ناحية أخرى وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام بما أمر تعالى من سؤال أهل العلم وما رفع عن العاجز من الإصر وهو من العامة العاجزين عن درك أدلة الأحكام.

نصيحة على هذا الفرع

نصيحة على هذا الفرع: أدلة العقائد مبسوطة كلها في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير. وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم. فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم. إذ يجب على كل مكلف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم. ولن يجد العامي الأدلة لعقائده سهلة قريبة إلا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه. أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الإصطلاحية فإنه من الهجر لكتاب الله، وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه. وقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه. ومما ينبغي لأهل العلم أيضاً- إذا أفتوا أو أرشدوا- أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم، ويذيقهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائماً على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتاواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب وأثر في النفوس. فإلى القرآن والسنة - أيها العلماء- إن كنتم للخير تريدون. الفرع الثالث: المجتهد إذا أفتى مستنداً إلى ما يفيد الظن من أخبار الآحاد أو الأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدلالة- هل هو متبع لغير العلم. والجواب لا. بل هو متبع للعلم وذلك من ثلاث وجوه: الوجه الأول: أنَّ كل دليل يكون ظنياً بمفرده- يصير يقيناً إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده وشهدت له بالصواب. وهذا هو شأن المجتهدين في الأدلة الفردية.

الفرع الرابع

الوجه الثاني: أن المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الدالة على اعتبارها. الوجه الثالث: أن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي الذي يكون جزماً ويسمى- كما تقدم علماً. فما اتبع المجتهد إلاَّ العلم. الفرع الرابع: لا نعتمد في إثبات العقائد والأحكام على ما ينسب للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم - من الحديث الضعيف لأنه ليس لنا به علم، فإذا كان الحكم ثابتاً بالحديث الصحيح مثل قيام الليل ثم وجدنا حديثاً في فضل قيام الليل بذكر ثواب عليه مما يرغب فيه جاز عند الأكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه الذي لم يكن شديداً على وجه الترغيب. ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز الإلتفات إليه وهذا هو معنى قولهم: "الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال" أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها في أصل ثبوتها. فما لم يثبت بالدليل الصحيح في نفسه لا يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر فضائله باتفاق من أهل العلم أجمعين. الفرع الخامس: أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب فلا نقول فيها إلا ما كان لنا به علم بماء جاء في القرآن العظيم أو ثبت في الحديث الصحيح. وقد كثرت في تفاصيلها الأخبار من الروايات مما ليس بثابت، فلا يجوز الإلتفات إلى شيء من ذلك. ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملائكة والجن والعرش والكرسي واللوح والقلم وأشراط الساعة وما لم يصل إليه علم البشر. سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

فوائد ختام الآية

من قال ما لم يسمع سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه. ومن قال رأيت ولم ير سئل بصره فشهد عليه. ومن قال عرفت ولم يعرف أو اعتقد ما لم يعلم سئل فؤاده فشهد عليه. لأنه في هذه الأحوال الثلاثة قد اتبع ما ليس له به علم. وهذه الشهادة كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1). هذه الثلاثة تسأل على وجوه منها ما تقدم وهو الذي يرتبط به هذا الكلام بما تقدم من النهي. ومنها سؤال السمع لِمَ سمع ما لا يحل ولِمَ لَمْ يسمع ما يجب، وسؤال البصر لِمَ رأى ما لا يحل، وعن جميع أعمال البصر من نظر البغض والإحتقار ونحو ذلك. وسؤال الفؤاد عما اعتقد وعما قصد وجميع أعمال القلوب. فوائد ختام الآية: فختام هذه الآية تأكيد للنهي السابق وتفصيل لطرق العلم وتنبيه على لزوم حفظها واحدة واحدة وترهيب للإنسان من اتباع ما لا يعلم بما يؤول إليه أمره من فضيحة يوم القيامة وخزي بشهادة جوارحه عليه. فالله نسأل أن يجعلنا متبعين للعلم في جميع ما نعمل، ويثبتنا ما نعمل، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إنّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (2).

_ (1) 24/ 24 النور. (2) ش: ج9، م 6، ص 526 - 535 غرة جمادى الأولى 1349 - أكتوبر 1930.

آية الأخلاق

آيَةَ الْأَخْلَاقِ {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ المفردات والتركيب: المرح مشية فيها خفة ونشاط واختيال ناشئة عن شدة فرح بالنفس، تقول العرب: أمرح الفرس فمرح فهو فرس مرح وممراح، إذا شبع فاخذ يمشي بخفة ونشاط واختيال. ويقال مرح الرجل إذا اختال في مشيته ونظر في عطفيه، ولا يكون ذلك إلا لفرحه بنفسه واعجابه بها. وخرق الأرض ثقبها، والطول ارتفاع القامة. نصب مرحا بتمش لأنه متضمن له تضمن الكلي لجزئيه، إذ المرح جزئي من جزئيات المشي، فكأنه قال لا تمرح مرحا. ونظيره قول الشاعر: يُعْجِبُهُ السَّخُونُ والبُرُودُ ... والتَّمْرُ حُبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ فنصب حباً بيعجب لأن الإعجاب متضمن للحب، أو نصب على أنه حال كجاءني زيد ركضاً. ونصب طولاً على أنه تمييز أي من جهة الطول. والتقدير: ولن يبلغ طولك طول الجبال. التفسير: حب الإنسان لنفسه غريزة فيه، وذلك يحمله على الإعجاب والفرح بها وبكل ما يصدر عنها ويستخفه ذلك حتى يتركه يمشي بين الناس مختالاً متبختراً، وهذه هي مشية المرح التي نهى الله

_ (2) 37/ 17 - 39 الإسراء. وارتباط الآية بما قبلها تقدم في صدر الجزء السابق.

العجب أصل الهلاك

تعالى في هذه الآية عنها. ولما كانت هي فرعاً عن الإعجاب بالنفس والفرح بها فالنهي منصب على أصلها كما انصب عليها. ولما كانت هذه العلة ناشئة عن علة العجب أعقب الله تعالى بيان الداء الذي نهى عنه بذكر الدواء الذي يقلعه من أصله. فقال تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. فذكر الإنسان بضعفه بين مخلوقين عظيمين من فوقه ومن تحته، فإذا ضرب برجليه الأرض في مرحه فهو لا يستطيع خرقها، وإذا تطاول بعنقه في اختياله فهو لن يبلغ طول الجبال. فقد أحاط به العجز من ناحيتيه، وذكر الإنسان لضعفه وعجزه أنجع دواء لمرض إعجابه بنفسه. نعم الإنسان أعظم من الأرض والجبال بعقله، ولكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحاً، لأن عقله يبصره بعيوب نفسه ونقائص بشريته، فلا يدعه يعجب بها فلا يكون من المرحين فما مرح إلا وهو محروم من نور العقل مفتون بمادة الجسم، فذكر بضعف هذا الجسم وصغارته. العجب أصل الهلاك: اذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، ولهي عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها فعاش ولا أخلاق له مصدراً لكل شر بعيداً عن كل خير. وعن العجب بالنفس ينشأ الكبر على الناس والاحتقار لهم، ومن احتقر الناس لم ير لهم حقاً، ولم يعتقد لهم حرمة ولم يراقب فيهم إلا ولا ذمة، وكان عليهم- مثل ما كان على نفسه- أظلم الظالمين. إبليس اللعين- نعوذ بالله تعالى منه- كان أصل هلاكه من عجبه

ترك العجب شرط في حسن وكمال الأخلاق

بنفسه، وأنه خلق من النار، وأنه خير من آدم، فتكبر عليه فكان من الظالمين الهالكين. ترك العجب شرط في حسن وكمال الأخلاق: تربية النفوس تكون بالتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل، والعجب هو أساس الرذائل. فأول الترك تركه، وهو المانع من اكتساب الفضائل، فشرط وجودها تركه كذلك. ومن لم يكن معجباً بنفسه كان بمدرجة التخلق بمحاسن الأخلاق والتنزه عن نقائصها، لأن الإنسان مجبول على محبة الكمال وكراهة النقص. فإذا سلم من العجب فإن تلك الجبلة تدعوه إلى ذلك التخلق والتنزه. فإذا نبه على نقصه لم تأخذه العزة، وإذا رغب في الكمال كانت له وإليه هزة فلا يزال بين التذكيرات الإلهية والجبلة الإنسانية الخلقية يتهذب ويتشذب حتى يبلغ ما قدر له من كمال. ولهذه المعاني التي تتصل بتفسير هذه الآية الكريمة- وهي أصول في علم الأخلاق- عنونا عليها بآية الأخلاق. تأكيد الأوامر والنواهي المتقدمة بطريق الإيجاز: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} المناسبة: إن الغاية التي يسعى إليها كل عاقل هي السعادة الحقة، وإن التكاليف الإسلامية كلها شرعت لسوقه إليها، ولما كانت أصولها قد تضمنتها الآيات السابقة أمراً ونهياً بطريق الإطناب والتفصيل- أعيد الحديث عنها في هذه الآية بطريق الإيجاز والإجمال. قصداً للتأكيد وتقرير هذه الأصول العظيمة في النفوس، مع اشتمال هذه الآية الموجزة على ما لم يشتمل عليه ما تقدمها. وهذا من بديع التأكيد، لاشتماله على السابق مع شيء جديد.

المفردات والتراكيب

المفردات والتراكيب: السيء هو القبيح والقبائح المنهي عنها فيما تقدم، قبيحة لذاتها، ولنهي الله تعالى عنها، والمكروه هو المبغوض المسخوط عليه، وهو ضد المحبوب المرضي عنه. والمحاسن محبوبة لله أمر بها ويثيب عليها ويرضى على فاعلها، والمقابح مبغوضة له تعالى نهى عنها، ويعاقب عليها ويسخط على مرتكبها. وليس المكروه بمعنى عدم المراد لأنه لا يكون في ملكه تعالى ما لا يريد وما تشاءون إلا أن يشاء الله. وليس بمعنى المنهي عنه نهياً غير جازم لأن ذلك إصطلاح فقهي حادث بعد نزول القرآن، والقرآن لا يفسر بالإصطلاحات الحادثة. ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة (سيئه)، فالمكروه هو سيء ما تقدم وهو القبائح المنهي عنها. أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة (سيئة)، ومكروهاً خبر كان على القراءة الأولى، وخبر ثان على القراءه الثانية. وتقدير الكلام على القراءة الأولى، كل ذلك المذكور كان سيئه- وهو المنهيات- مكروهاً عند ربك ومفهومه أن حسنه- وهو المأمورات- محبوب عنده، وعلى الثانية كل ذلك المنهي عنه كان سيئة مكروهاً عند ربك. ومفهومه أن المأمور به حسن عنده. التفسير: عرَّف- تعالى- عباده في هذه الآية بمنطوقها ومفهومها - على ما تقدم في التقرير- أن ما أمرهم به هو الحسن المحبوب، وأن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض. فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع ونواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح والفطرة السليمة، وأنه- تعالى- لا يأمر بقبيح ولا ينهى عن حسن، وفي علمهم بهذا ما يحملهم على الإمتثال ويرغبهم فيه، فإن الحسن تميل إليه النفوس

مكانة هذه الأصول علما وعملا

والقبيح تنفر منه. وفي قوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّكَ} غاية الترغيب في الحسن والتنفير من القبيح فإن الحسن جد الحسن ما كان حسناً عند الله تعالى، والقبيح جد القبيح ما كان قبيحاً عنده، وفي اسم الرب تنبيه على أن العلم بالحسن والقبيح على وجه التفصيل والتدقيق حتى يكون المأمور به حسناً قطعاً والمنهي عنه قبيحاً قطعاً إنما هو له تعالى، وأن أوامره ونواهيه- تعالى- الجارية على مقتضى ذلك هي من مقتضى ربوبيته- تعالى- وتدبيره لخلقه. مكانة هذه الأصول علماً وعملاً: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} المناسبة: لما بينت الأصول تمام البيان وقررت غاية التقرير جاءت هذه الآية للتنويه بها لحث العباد على تحصيل ما فيها من علم والتحلي بما دعت إليه من عمل. المفردات والتراكيب: الحكمة هي العلم الصحيح والعمل المتقن المبني على ذلك العلم. وقال مالك بن انس - رضي الله عنه -: هي الفقه في دين الله والعمل به. والقرآن حكمة لدلالته على ذلك كله. ذلك إشارة إلى ما تضمنته الآيات المتقدمة من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ومن في (مما) تبعيضية. ومن في (من الحكمة) بيانية، مجرورها بين المبهم وهو ما في قوله (مما) والتقدير ذلك الذي تقدم بعض الحكمة التي أوحاها إليك ربك. التفسير: هذا ضرب آخر من تأكيد العمل بما تقدم والترغيب

ختام الآيات

فيه، فبين تعالى أن ما تضمنته الآيات المتقدمة كله حكمة، فالمتحقق بما فيها من علم والمتحلي بما حثت عليه من أعمال هو الحكيم الذي كمل من وجهته العلمية وجهته العملية وتلك أعلى رتب الكمال للإنسان. وفي ذكرانها بعض من كل تنبيه على جلالة كلها، وهو عموم ما أوحى الله تعالى إلى نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وتنبيه أيضاً على أن شرح هذه الأصول فيما أفادته من علم وعمل، والتفقه فيها يرجع فيه إلى الوحي ويعتمد في ذلك على بيانه، وفيه بيان أن الوحي هو المرجع الوحيد لبيان دين الله تعالى وشرعه وما أنزله لعباده من الحكمة، وذلك الوحي هو القرآن العظيم وسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم. ختام الآيات: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}. المناسبة: لما كانت هذه الآيات في أصول الهداية وأساس الهداية، وشرطها هو التوحيد ختمت الآيات بالنهي عن الشرك كما بدأت به. المفردات والتراكيب: الإلقاء هو الطرح، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت القبيح وما حملك عليه ونحو هذا. والمدحور المبعد، وانتصبا على الحال. التفسير: نهى تعالى عن الشرك وأن يعبد معه سواه، فالعبادة بالقلب واللسان والجوارح لا تكون إلا له. وكما حذر في فاتحة

نظرة عامة في الآيات المتقدمة

الآيات بقعود المشرك في الدنيا مذموماً بالشرك الذي ارتكبه مخذولاً لا ناصر له. كذلك حذر هنا بمثال المشرك في آخرته بإلقائه في جهنم ملوماً على ما قدم مطروداً مبعداً في دركات الجحيم. نظرة عامة في الآيات المتقدمة: قد تضمنت هذه الآيات على قلتها الأصول التي عليها تتوقف حياة النوع البشري وسعادته من حفظ النفوس والعقول {وَلَا تَقْفُ} الآية. والأنساب والأموال والحقوق (وأوفوا بالعهد، وأوفوا الكيل) والأعراض {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا- وَلَا تَقْفُ} والدين الذي هو عمدة ذلك كله، وفي حفظه حفظ لجميعها، وفي افتتاح الآيات بقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} وختمها بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} بيان من الله تعالى لخلقه بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقايتها وسور حفظها، وأن التوحيد هو ملاك الأعمال وقوامها ومنه بدايتها وإليه نهايتها. وكذلك المسلم الموفق يبتدىء حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها فالله نسأل- كما من علينا بها في البداية- أن يمن علينا بها في النهاية. اللهم هذا لنا وللمسلمين أجمعين (1).

_ (1) ش: ج 10، م 6، ص 591 - 596 غرة جمادى الثانية 1349هـ - نوفمبر 1930

القول الحسن

الْقَوْلُ الْحَسَنُ {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (1) ــــــــــــــــــــــــــ اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان، والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاصلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاقحت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات. فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره، وأممه، وبريد عقله وواسطة تفاهمه. فإذا حسن قويت روابط الألفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي على التعاون والتآزر، وجنى العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران. وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك. فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الإسترشاد والإستمداد والتعاون بين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة. وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل، وفي ذلك كل الشر، لأبناء البشر. فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم

_ (1) 17/ 53 - 54 الإسراء.

وهلاكهم- هو القول الحسن، ولهذا أمر الله تعالى نبيه - صلى الثه عليه وآله وسلم - أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين: الأول أنهم أضيفوا إليه، وهذه إضافة شرف لا يكون إلا للمؤمنين به. الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الإمتثال إنما هم من حصلوا على أصل الإيمان. والتي هي أحسن: هي الكلمة الطيبة والمقالة التي هي أحسن من غيرها فيعم، ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس حتى ينادي بعضهم بعضاً بأحب الأسماء إليه، وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم، حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء، وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون إذاية لخصمه ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به- وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعريض، وأدنى تلميح إلى شيء قبيح. وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم أو بينهم وبين غيرهم، وقد جاء في الصحيح أن رهطاً من إليهود دخلوا على النبي - صله الله عليه وآله وسلم - فقالوا السام عليكم، ففهمتها عائشة - رضي الله عنها - فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؟ فقال: قد قلت: وعليكم. فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله: وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال- صلى الله عليه وآله

التحذير من كيد العدو الفتان

وسلم - القولة التي هي أحسن، وهذا هو أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس. وأفاد قوله تعالى: {أَحْسَنُ} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة فننتقي أحسنها في جمبع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام، فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة والإقتصار على الحسن وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم إستعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة، فرب كلمة واحدة أوقدت حرباً، وأهلكت شعباً، أو شعوباً. ورب كلمة واحدة أنزلت أمناً، وأنقدت أمة أو أمماً. وقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: "الكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار ولو بكلمة طيبة". وهذا الأدب الإسلامي- وهو التروي عند القول واجتناب السوء واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "المسلم أخو المسلم"- إلا بتركهم هذا الأدب وتركهم للتروي عند القول والتعمد للسيء بل للأسوأ في بعض الأحيان. التحذير من كيد العدو الفتان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} نزغ الشيطان وسوسته ليهيج الشر والفساد. وعداوته باعتقاده البغض وسعيه في جلب الشر والضر. وإبانته لعداوته بإعلانه لها، كما علمنا القرآن.

المحاسنة على الحال والظاهر- والتفويض إلى الله تعالى في العواقب والسرائر

وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء ويهيج غضبه ليقوله، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الضر والفساد. ولون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح، حتى يقولها، فإذا قالها عاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته ويهيج غضبه حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه. فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا فيتباعدون عمَّا فيه احتمال السوء فضلاً عن صريحة ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له ويتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز. المحاسنة على الحال والظاهر- والتفويض إلى الله تعالى في العواقب والسرائر: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة، وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضاً أو يفسقه أو يكفره فيكون ذلك سبباً لزيادة شقة الخلاف اتّساعاً، وتمسك كل برأيه ونفوره من قول خصمه. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر. فذكر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله. فلا يقطع لأحد بأنه من أهل النار لجهل العاقبة سواء كان من أهل الكفر أو كان من أهل الفسق

أو كان من أهل الإبتداع كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك. إلا من جاء النص بهم. فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر وسوء عاقبته، ولا يقال للمبتدع يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها، ولا يقال لمرتكب الكبيرة يا فاسق ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها، فتقبح القبائح والرذائل في نفسها وتجتنب أشخاص مرتكبيها. إذ ربّ شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال، تكون عاقبته إلى الخير والكمال، ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله تعالى- على عقبه في هاوية الوبال. وخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرسله وكيلاً على الخلق حفيظاً عليهم كفيلاً بأعمالهم. فما عليه إلا تبليغ الدعوة ونصرة الحق بالحق والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم - خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به من قول التي هي أحسن، للموافق والمخالف فلا يحملنهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلهما، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه، فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه، أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، وحشرنا في زمرة أهلهما آمين (1). ..

_ (1) ش: ج11، م 6، ص 654 - 658 غرة رجب 1349هـ - ديسمبر 1930م.

دعاء غير الله: من دعا غير الله فقد عبد ما دعاه وهو في عبادته من الخاسرين

دُعَاءُ غَيْرِ اللَّهِ: مَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ عَبَدَ مَا دَعَاهُ وَهُوَ فِي عِبَادَتِهِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (1) ــــــــــــــــــــــــــ المفردات: (الدعاء): هو النداء لطلب شيء من المدعو ولذلك لا يدعى إلا العاقل أو ما نزل منزلته مجازاً من الجمادات، أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من الجمادات. وإذا كان لشيء معظم ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشرية فهو عبادة ولا يكون إلا من المخلوق لخالقه، وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضاً لغرض من الأغراض. و (الزعم): القول بغير دليل. و (من دونه): أي غيره. و (الملك) الإستيلاء على الشيء والتمكن من التصرف فيه. و (كشف الضر): إزالته. و (لا تحويلا): نقلا له إلى شخص آخر. التراكيب: أمروا بالدعاء لتوقيفهم على خيبتهم فيه، بظهور عجز من يدعون. وحذف مفعولا زعم، والتقدير زعمتموهم آلهة، للعلم

_ (1) 17/ 57 - 58 الإسراء.

المعنى

بهما لأنهم ما دعوهم الاّ لكونهم آلهة في زعمهم. ولا يملكون: وقع بعهد الفاء ولم يجزم في جواب الأمر لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهم لا يملكون، وهذا لأن الفاء قصد بها العطف ولم يقصد بها السببية، ولا يصح أن تقصد بها السببية لأن ذلك يقتضي أن يكون عدم ملكهم متسببا عن الدعاء مثلها في قول الشاعر: رَبِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلَ عَنْ ... سَنَنِ السَّاعِينَ فِي خَيْرِ سَنَنْ فإن عدم العدول متسبب عن التوفيق. وليس كذلك الأمر في هذه الآية، فإن عدم ملكهم متحقق سواء دعوا أم لم يدعوا، فلذلك امتنع النصب ووجب الرفع على التقدير المتقدم. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين اتخذوا آلهة من دون الله فعبدوها، أدعوا معبوداتكم هذه التي زعمتموها آلهة من دون الله عندما ينزل بكم الضر، وأنظروا هل تستطيع تلك المعبودات الباطلة أن تكشف وتزيل عنكم ذلك أو أن تحوله عنكم إلى غيركم، فإنكم تجدونها عاجزة عن ذلك غير قادرة على شيء منه، وإنما يقدر على ذلك الإله الحق وهو الله الذي خلقها وخلقكم فاعبدوه هو وأدعوه هو واقلعوا عن عبادة ودعاء ما سواه. الأحكام: تدل الآية على أن دعاء غير الله تعالى لدفع الضر- ومثله جلب النفع- عبادة للمدعو، فإن المشركين كانوا يتعبدون لآلهتهم بهذا الدعاء الذي نهاهم الله تعالى عنه ببيان خيبتم فيه ووقوعه في غير محله. وتسمية الدعاء عبادة ثابتة لغة وشرعاً بغير ما دليل، منها حديث النعمان بن بشير عند أحمد وأصحاب السنن مرفوعاً

إستنتاج

(الدعاء هو العبادة) وحديث أنس عند الترمذي مرفوعاً (الدعاء مخ العبادة) وهذا لأن العبادة هي الخضوع والتذلل لمن بيده الخلق والتصرف والعطاء والمنع، ومظهر هذا الخضوع والتذلل هو الدعاء لدفع الضر، أو جلب النفع، فلذلك عبر عنه في الحديث الأول بأنه هو العبادة أي معظمها، وفي الثاني بأنه مخ العبادة أي خالصها. ودلت الآية أيضاً على أنه لا يجوز دعاء غير الله من المخلوقين، أي مخلوق كان، لدفع ضر- ومثله جلب نفع-، لأن الآية نعت على المشركين دعاءهم من لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وهذا أمر يشترك فيه جميع المخلوفين، فلا مخلوق يستطيع كشف الضر أو تحويله عن نفسه ولا عن غيره فلا مخلوق يجوز دعاؤه ودلت على أن كشف الضر أو تحويله- ومثله جلب النفع- إنَّما هو للمعبود الحق لأن الآية استدلت عليهم في مقام الأمر بتوحيد الله بالعبادة بانتفاء ملك كشف الضر أو تحويله عن غير الله، فأفاد ذلك قصر هذا التصرف عليه تعالى وحده. إستنتاج: لما ثبت شرعاً أن الدعاء عبادة فمن دعا شيئا فقد عبده ولو كان هو لا يسمي دعاءه عبادة جهلاً منه أو عناداً لأن العبرة بتسمية الشرع واعتباره لا بتسمية المكلف واعتباره. ألا ترى لو أن شخصاً قام للصلاة بدون وضوء مستحلاً لذلك فلما أنكرنا عليه قال إنني لا أعتبر هذه الأفعال والأقوال عبادة ولا أسميها صلاة. أترى ذلك يجيز فعله ويدفع عنه تبعته، كلا! ولا خلاف في ذلك بين المسلمين. بل قد حكموا بردته إن كان يفعل ذلك ويراه حلالاً. لأنه يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة. فالداعي لغير الله تعالى يطلب منه قضاء حوائجه قد عبد من دعاه، وإن لم يعتبر دعاءه عبادة، لأن الله قد سماه عبادة، وإذا استمر على فعله ذلك مستحلاً له

تطبيق

بعد تعليمه، وإرشاده، يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وهو أنَّ العبادة -والدعاء منها- لا تكون إلاَّ لله، فيحكم بردته، نظير مستحل الصلاة بلا وضوء بلا فارق. تطبيق: إذا علمت هذه الأحكام فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين، الجزائريين وغير الجزائريين، تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقاً في هذا الضلال. فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النسل، وإنزال الغيث، وغير ذلك مما يسألون ويذهبون إلى الأضرحة التي شيدت عليها القباب، أو ظلمت بها المساجد، فيدعون من فيها ويدقون قبورهم وينذرون لهم ويستثيرون حميتهم بأنهم خدامهم وأتباعهم فكيف يتركونهم وقد يهددونهم بقطع الزيارة، وحبس النذور، وتراهم هنالك في ذل وخشوع وتوجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم، فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجههم كلها عبادة لأولئك المدعوين، وإن لم يعتقدوها عبادة، إذ العبارة باعتبار الشرع لا باعتبارهم، فياحسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدين لباساً مقلوباً حتى أصبحنا في هذه الحالة السيئة من الضلال. تحذير وإرشاد: فليحذر قراؤنا من أن يتوجهوا بشيء من دعائهم لغير الله وليحذروا غيرهم منه. ولينشروا هذه الحقائق بين إخوانهم المسلمين بما استطاعوا عسى أن يتنبه الغافل، ويتعلم الجاهل، ويقلع الضالون عن ضلالهم، ولو بطريق التدريج، وبذلك يكون قراؤنا قد أدوا أمانة العلم وقاموا بفريضة النصح، وخدموا الإسلام والمسلمين.

نجاة المعبودين بهداهم وهلاك العابدين بضلالهم

نَجَاةُ الْمَعْبُودِينَ بِهُدَاهُمْ وَهَلَاكُ الْعَابِدِينَ بِضَلالِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}. ــــــــــــــــــــــــــ المفردات: (يبتغون): يطلبون باعتناء واهتمام. (الوسيلة)، سبب الوصول إلى البغية والقرب من المطلوب، والوسيلة الموصلة إلى الله هي عبادته، وطاعته، بامتثال أوامره ونواهيه، والتزام محابه، واجتناب مكارهه، وهذا المعنى هو المراد هنا. (أقرب): أي في المكانة والمنزلة، (يرجون رحمته): ينتظرون إنعاماته لافتقارهم إليه. (ويخافون عذابه): يخشون عقوبته، وانتقامه لعلمهم بقوته، وسلطانه، وقصورهم عن القيام بجميع واجب حقه. (محذورا): مخيفاً متحرزاً منه. التراكيب: أولئك: إشارة إلى المعبودين الذين وصفهم. ويدعون ضميره للداعين، وأصله يدعونهم، يبتغون خير أولئك. و (أيهم): اسم موصول مضاف إلى ضمير المبتغين، وهو يدل بعض من كل من الواو في يبتغون. (وأقرب): خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، والجملة صلة الموصمول، ويحتمل أن يكون أيهم استفهاماً مبتدأ وأقرب خبر، وتقدير الكلام ينظهرون أيهم أقرب. نزول الآية: قال ابن مسعود: هي في نفر من الإنس كانوا يعبدون

المعنى

نفرا من الجن، فأسلم الجن وبقى الإنس على عبادتهم، وجاء عنه وعن غيره أنها في الذين كانوا يعبدون الملائكة من العرب. المعنى: أولئك الجن والملائكة الذين يدعوهم (1) هؤلاء المشركون أرباباً قد أسلموا فصاروا من عباد الله المؤمنين يطلبون أسباب الزلفة والقرب عند ربهم، ينظرون من هو الذي يكون منهم أقرب مكانة باجتهاده، وصالح عمله، (هذا على الإعراب الثاني وعلى الإعراب الأول: يطلب الذي هو أقرب منهم أسباب الزلفة عند الله فأحرى وأولى غيره) ويرجون بأعمالهم الصالحة رحمته ويخافون بمخالفتهم عذابه. إن عذاب ربك كان من حقه وشأنه أن يتقى ويحذر لما فيه من عظيم الخزي وشديد الألم. الأحكام: أفادت الآية أن العبادة لا تنفع صاحبها إلا إذا كانت على الوجه الحق وإلا فإنه لا يحصل منها إلا على الخيبة والوبال. وأن المكلف (2) لا يحمل شيئاً من إثم عمل غيره إذا لم يكن راضياً به ولو كان ذلك العمل متسبباً عنه إذا لم يكن متسبباً هو فيه. وأن المكلف مطالب بأن يطلب أسباب القرب إلى الله بجد واجتهاد وأن يكون جامعاً بين الرجاء والخوف في سلوكه. التطبيق: نعرف كثيراً من الصالحين - رحمهم الله تعالى - قد شيدت عليهم القباب ونذرت لهم النذور وقصدوا لقضاء الحاجات ودعوا في المهمات وكان ذلك كله مما أحدثه المحدثون بعدهم وبالغ

_ (1) كذا في الأصل والصواب: يدعونهم. (2) في الأصل: الملكف.

عبرة وتحذير

فيه المستغلون له ممن ينتمون إليهم فهم - إن شاء الله تعالى - برءاء من إثم ذلك كله وإنما اثمه على فاعليه. عبرة وتحذير: يأتي يوم القيامة أولئك الذين كانوا يدعون الملائكة والجن المسلمين وعباد الله الصالحين ويحسبون أنهم ينفعونهم في ذلك اليوم. فيتبرأ منهم أولئك الذين كانوا يعبدونهم بدعائهم ويتركونهم في ذلك الموقف العصيب. فما أمرَّ خيبتهم يومذاك وما أعظم حسرتهم ويالها من عبرة لقوم يعقلون. فحذار يا إخواننا من هذه العاقبة السيئة وهذا الموقف المخزي، فبادروا إلى توحيد الله بالدعاء الذي هو مخ العبادة، واقتصروا في جانب الصالحين على محبتهم والترضية عليهم وسؤال الرحمة لهم والإقتداء بهم فيما كان منهم من طاعة وخير ولا تعظموهم بما لا يكون إلا لله رب العالمين. والله ينصرنا بالحق ويهدينا إليه ويجعلنا من حزبه ويميتنا عليه آمين يا رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 12، م 6، ص 8، 7 - 723 غرة شعبان 1349هـ - جانفي 1930

الطور الأخير لكل أمة وعاقبته

الطَّوْرُ الْأَخِيرِ لِكُلِّ أُمَّةٍ وَعَاقِبَتُهُ {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: الأمم كالأفراد، تمر عليها ثلاثة أطوار، طور الشباب، وطور الكهولة، وطور الهرم، فيشمل الطور الأول نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها، مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة، ويشمل الطور الثاني ابتداء أخذها في التقدم والإنتشار وسعة النفوذ وقوة السلطان إلى استكمالها قوتها وبلوغها غاية ما كان لها أن تبلغه من ذلك، بما كان فيها من مواهب وما كان لها من استعداد وما لديها من أسباب. ويشمل الطور الثالث إبتداءها في التقهقر والضعف والإنحلال، إلى أن يحل بها الفناء والإضمحلال. إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها من عالم السيادة والاستقلال، وما من أمة إلا ويجري عليها هذا القانون العام، وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر كما تختلف الأعمار. هذه السنة الكونية التي أجرى الله عليها حياة الأمم في هذه الدنيا أشار إليها في كتابه العزيز في غير ما آية. فذكر أعمال الأمم وأنها مقدرة محددة بآجالها في مثل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ

_ (1) 58/ 17 إلا سراء.

فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (1). وذكر إنشاء الأمم على أثر الهالكين في مثل قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (2). وذكر طور شباب الأمة ودخولها معترك الحياة في مثل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (3) فإن بني إسرائيل ماستخلفوا في الأرض حتى قووا واشتدوا وتكونت فيهم أخلاق الشجاعة والنجدة والحمية والأنفة بعد خروجهم من التيه، وذلك هو الطور الأول، طور الشباب للأمة الإسرائيلية، وذكر الطور الثاني، وهو طور الكهولة واستكمال القوة وحسن الحال ورغد العيش في مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} (4). وذكر الطور الثالث طور الضعف والإنحلال في مثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} (.) وإهلاكهم يكون بعد إسباغ النعمة وإقامة الحجة عليهم وتمكن الفساد فيهم وتكاثر الظلم منهم، فإهلاكهم هو نهاية الطور الثالث من أطوار الأمم الثلاثة. وإلى خاتمة الطور الثالث وعاقبته جاء البيان في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا

_ (1) 33/ 7 الأعراف. (2) 21/ 11 الأنبياء. (3) 128/ 7 الأعراف. (4) 112/ 16 النحل. (5) 60/ 18 الكهف.

الألفاظ

نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}. الألفاظ: القرية: المساكن المجتمعة، ومادة (ق ر ي) تدل على الجمع، فتصدق على القرية الصغيرة والمدينة الكبرى، وتطلق القرية مجازاً على السكان إطلاقاً لاسم المحل على الحال. ومنه هذه، و (الإهلاك): الإبادة والإفناء بالإستئصال، كما فعل بعاد وثمود. و (قبل يوم القيامة): أي في الدنيا، و (العذاب الشديد): كأمراض الأبدان وفساد القلوب وانحطاط الأخلاق وافتراق الكلمة وتسليط الظلام، كما أرسل على بني إسرائيل عباداً أولي بأس شديد فساؤا وجوههم وجاسوا خلال ديارهم، وكتسليط أهل الحق على أهل الباطل، وكالجدب والقحط وجوائح الأرض وجوائح السماء و (في الكتاب) أي اللوح المحفوط و (مسطورا): أي مكتوباً اسطاراً مبيناً. التركيب: (إن) نافية. و (من) زيدت لاستغراق الجنس وتأكيد العموم و (إلا) أفادت مع ان النافية حصر كل قرية في أحد الأمرين من الهلاك والعذاب الشديد ليعلم أن لا نجاة لكل قرية من أحدهما قطعاً. و (أو) تفيد أحد الشيئين المذكورين على الإبهام وعدم التعيين. و (ذلك) إشارة إلى المذكور من الهلاك والتعذيب. المعنى: يقول تعالى: ما من قرية على وجه الأرض إلا ولا بد أن يحل بها منا هلاك وفناء بما يبيدها ويفنيها، أو عذاب شديد لا يفنيها ولكنه يذيقها أنواع الآلام وشديد النكال، كان هذا قضاء سابقاً في علمنا ماضياً في إرادتنا مكتوباً أسطاراً في اللوح المحفوط.

الأحكام

الأحكام: أحكام الله تعالى: أحكام شرعية وهي التي فيها بيان ما شرعه لخلقه مما فيه انتظام أمرهم وحصول سعادتهم إذا ساروا عليه، وأحكام قدرية، وهي التي فيها بيان تصرفه في خلقه على وفق ما سبق في علمه، وما سبق في إرادته. والأحكام الشرعية تقع من العباد مخالفتها فيختلف مقتضاها من الفعل أو الترك، والأحكام القدرية لا تتخلف أصلاً ولا يخرج المخلوقات عن مقتضاها قطعاً. وفي هذه الآية حكم من أحكامه القدرية، وهو أن كل قرية لا بد أن يصيبها أحد الأمرين المذكورين بما سبق من علمه وما مضى من إرادته، فلا يتخلف هذا الحكم ولا تخرج عنه قرية. إيضاح وتعليل: الله حكم عدل حَكيم خبير، فما من حكم من أحكامه الشرعية إلا وله حكمته، وما من حكم من أحاكامه القدرية إلا وله سببه وعلته. لا لوجوب أو إيجاب عليه، بل بمحض مشيئته، ومقتضى عدله وحكمته. قد قضى على كل قرية بهذه العاقبة من الهلاك أو العذاب الشديد في هذه الآية، وبيّن في غيرها سبب استحقاقها لها فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (1)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (2) {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (3) {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (4) {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا

_ (1) 60/ 18 الكهف. (2) 118/ 11 هود. (3) 59/ 28 القصص. (4) 21/ 11 الأنبياء.

توجيه

وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} (1). {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (2) فأفادت هذه الآيات أن سبب الهلاك والعذاب هو الظلم والفساد والعتو والتمرد عن أمر الله ورسله والكفر بأنعم الله. وما ربك بظلام للعبيد. توجيه: الطور الأخير للأمم هو الذي ذكر في الآيات كثيراً دون الطور الأول والثاني. ووجه ذلك أنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد ويعظم فيه الظلم وينتهي فيه الإعذار للأمة ويحل فيه أجلها، فينزل بها ما تستحقه من هلاك أو عذاب. فكرر ذكر هذا الطور لزيادة التحذير منه والتخويف من سوء عاقبته والحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع من الظلم والفساد والرجوع إلى طاعة الله تعالى، وإعمال يد الإصلاح في جميع الشؤون فيرتفع العذاب، بزوال ما كان لنزوله من أسباب. إستنتاج وتطبيق: القرى التي قضى عليها بالهلاك والإستئصال هذه قد انتهى أمرها بالموت وفات عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة. وأما القرى التي قضى عليها بالعذاب الشديد فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن وعلاجها متيسر. مثل الأمم الإسلامية الحاضرة.

_ (1) 8/ 65 الطلاق. (2) 112/ 26 النحل.

إرشاد واستنهاض

فمما لا شك أن فينا لظلماً وعتواً وفساداً وكفراً بأنعم الله، وإننا من جراء ذلك لفي عذاب شديد. ولا نعني بهذا أن الأمم الإسلامية مخصوصة بهذا، بل مثلها وأقوى منها في أسباب العذاب والهلاك غيرها من أمم الأرض. وأنَّ لهم لقسطهم من العذاب الشديد، وإذا لم يأت المقدار المماثل من الهلاك أو العذاب لما عندهم من أسبابهما فلأنَّه لكل أمة أجل ولما يأت ذلك الأجل بعد. فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. إرشاد واستنهاض: قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقاً وقدراً بمشيئته وحكمته لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها ونجتنبها باجتناب أسبابها، وقد عرفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم أو نقلع عنها فننجو، فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب. وقد ذكر لنا في كتابه أمّة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعد ما كان ينزل بها، ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من المسبب فقال تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1) فبمادرتهم للإيمان وإقلاعهم عن الكفر كشف عنهم العذاب، وأرشدنا في ضمن هذا إلى العلاج الناجع في كشف العذاب وإبطال أسبابه، وهو الإيمان. كما أرشدنا إليه أيضاً في قوله تعالى قبل هذا: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} (2) أي نجاها من العذاب، وذكر قوم يونس دليلاً على ذلك. وأرشدنا إليها أيضاً في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (3)

_ (1) و (2) 10/ 98 يونس. (3) 7/ 95 الأعراف.

رجاء وتفاؤل

فالإيمان والتقوى- هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب. ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلا إذا قمنا متعاونين أفراداً وجماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه وبدأ به في نفسه، ثم في من إليه ثم في من يليه من عشيرته وقومه، ثم جميع أهل ملته. فمن جعل هذا من همه وأعطاه ما قدر عليه من سعمه كان خليقاً أن يصل إلى غايته أو يقرب منها. ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك وأخلاقنا من الفساد وأعمالنا من المخالفات، ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد، ولنشرع في ذلك غير محتقرين لأنفسنا ولا قانطين من رحمة ربنا ولا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله، وليكن دليلنا في ذلك وأمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، وسيرة صالح سلفنا. ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق ويبصرنا في العلم ويفقهنا في الدين ويهدينا إلى الأخذ بأسباب القوة والعز والسيادة العادلة في الدنيا، ونيل السعادة الكبرى في الأخرى. وليس هذا عن العاملين ببعيد. وما هو على الله بعزيز. رجاء وتفاؤل: إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء، وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وأن ذلك وإن كان يبدو اليوم قليلاً لكنه - بما يحوطه من عناية الله وما يبذل فيه من جهود المصلحين - سيكون بإذن الله كثيراً وعسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين. حقق الله الآمال وسدد الأعمال بلطف منه وتيسير، إنه نعم المولى ونعم النصير (1).

_ (1) ش: ج1 م 7 ص 1 - 6 رمضان 1349 - فيفري 1931

التكريم الرباني للنوع الإنساني

التَّكْرِيمُ الرَّبَّانِيُّ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ اللغة: (كرمنا): الكرم ضد اللؤم، يوصف به الشيء لشرفه في ذاته بكمال صفاته أو لحسن أفعاله وما يصدر عنه من النفع لغيره، فيقال فرس كريم وشجرة كريمة وأرض كريمة إذا حسنت هذه الأشياء في ذواتها وكملت فيها صفات أنواعها، ويقال نفس كريمة إذا كملت بمحاسن الأخلاق التي بها كمال النفوس. وقالت بلقيس في كتاب سليمان عليه السلام: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (2). لأنه كان على أكمل ما تكون عليه الكتب من بيان اسم مرسله وذكر اسم الله تعالى في أوله وختم على ما فيه. هذا كله من كرم الذات بما كمل فيها من صفات. ووصف جبريل بأنه رسول كريم لشرف ذاته الملكية وحسن أفعاله بما كان على يده من نفع للخلق بتبليغ الوحي والهدى. وهذا من كرم الذات والأفعال، وهو الكرم الكامل الذي يكون بشرف الذات ونفع الأفعال. ويقال كرُم الشيء - بضم الراء- لازماً، ويتعدى بالهمز والتضعيف، فيقال أكرمته

_ (1) 7/ 17 الإسراء. (2) 29/ 27 النمل.

التراكيب

وكرمته بمعنى واحد، أي فعلت له فعلاً فيه رفعة له ومنفعة. فكرمنا بني آدم، أي فعلنا لهم ما فيه رفعتهم ومنفعتهم، من إنعاماتنا عليهم. (وحملناهم) من الحمل بمعنى الرفع أي أركبناهم ورفعناهم على المركوبات مثل قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (1). {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (2). {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (3). و {الطيبات} ما يطيب للأكل والشرب مما يلذ في الطعم وتحمد عاقبته، فلا يكون الطيب إلا حلالاً لأن غير الحلال- وإن لذ طعمه في بعض أقسامه فإنه- لا تحمد عاقبته بما فيه من إثم، وتبعة، وما يكون فيه من ضرر. (وفضلناهم): من الفضل بمعنى الزيادة أي صيرناهم ذوي فضل وزيادة في الكرامة كما تقول: فضلت زيداً على عمر في العطاء، أي صيرته ذا فضل وزيادة عليه فيه. التراكيب: متعلق حملناهم محذوف لقصد التعميم المناسب لمقام الإمتنان بالتكريم مع الإختصار، تقديره: على كل ما يصلح لحملهم عليه. المعنى: يقول تعالى: "ولقد أنعمنا على بني آدم نعماً عظيمة كثيرة في خلقتهم من تركيب أبدانهم وأرواحهم وعقولهم، وفي حياتهم بما

_ (1) 93/ 9 التوبة. (2) 13/ 54 القمر. (3) 17/ 3 الإسراء.

مسائل

مكناهم منه من أسباب السلطان على غيرهم من الخلق من عالم الجماد والنبات والحيوان، وتسخير هذه العوالم لهم يحصلون منها منافعهم، فأوصلنا إليهم هذه النعم وكرمناهم بها فنفعناهم ورفعنا أقدارهم". ومن هذا التكريم والإنعام الذي فيه المنفعة وفيه الرفعة أننا سخرنا لهم ما يركبونه في البر والبحر ومكناهم من أسباب تسييره والإنتفاع به وإننا بثثنا لهم على وجه الأرض أنواعاً من المآكل والمشارب اللذيذة المباحة من النبات والحيوان والجماد، فخلقناها صالحة لغذائهم ومكناهم من أسباب تحصيلها وإصلاحها والتفنن فيها. فكان لهم بذلك كله زيادة بينة من نعمتنا، وفضل محقق على كثير من مخلوقاتنا. مسائل: المسألة الأولى: تكريم الله تعالى لخلقه، قسمان: أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام: فهو إخراجه لهم من العدم إلى الوجود، وإعطاؤه لكل شيء من خلقته اللائقة به من تركيب أجزاء ذاته وتعديل مادة تكوينه ومن أعضائه- إذا كان من ذوي الأعضاء- التي يحتاج إليها في حياته لجلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهدايته وإلهامه ما خلق صالحاً لذلك إلى استعمال تلك الأعضاء وطرق الجلب والدفع بها. وأما الخاص: فهو تكريمه وإنعامه على عباده المؤمنين بنعمة الإسلام في الدنيا، وبدار السلام في الأخرى. والتكريم المذكور في هذه الآية من القسم الأول العام كما سيتبين في المسألة الرابعة. المسألة الثانية: جميع المخلوقات التي أخرجها الله تعالى من الوجود إلى العدم وإن كانت متساوية في أصل التكريم العام. فإنها متفاوتة فيه بحسب تفاوتها في شرف الذات وكمال الخلقة. فعالم النبات أكثر حظاً في التكريم من عالم الجماد، وعالم الحيوان أكثر

المسألة الثالثة

حظاً منهما، ونوع الإنسان أكثر حظاً في التكريم العام من جميع الحيوان. المسألة الثالثة: عظم حظ الإنسان من هذا التكريم من جهة ذاته بحسن صورته واعتدال مزاجه، ومن جهة روحه بأنها من العالم النوراني العلوي وبأنها مع اتصالها بالبدن قابلة للتحلي بأكمل الصفات وأطهر الأخلاق، ومن جهة عقله الذي به إدراك الحقائق وحصول المعارف، وعرف الأسباب ومسبباتها ووجوه ارتباطاتها واتصالاتها، ونسبة بعضها إلى بعض، فملك وساد واستفاد وأفاد. المسألة الرابعة: هذا التكريم المذكور في المسألة السابقة هو عام للنوع الإنساني من حيث هو إنسان لا فرق فيه بين من آمن ومن كفر، لأنه راجع للخلقة الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع، والتمكين من أسباب المنافع الذي هو ثابت لجميع النوع بما عنده من عقل وتفكير. وهذا هو مقتضى العموم المستفاد من لفظ (بني آدم) ومثل هذا التكريم في العموم الحمل في البر والبحر والرزق لأنها من جملة التكريم، كما تقدم في فصل بيان المعنى. المسألة الخامسة: تفضيل الله تعالى لمن يشاء من خلقه قسمان: تفضيل في الخلقة وتفضيل في الجزاء والمثوبة. فمن الأول تفضيل بني آدم المذكور في هذه الآية بما كرموا به وأعطوه في خلقتهم من الوجوه المتقدمة زائداً على كثير من مخلوقات الله مما كانت لهم به الرفعة والمنفعة لجميع نوعهم على العموم. ومن الثاني تفضيل المجاهدين على القاعدين في قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).

_ (1) 94/ 4 النساء.

المسألة السادسة

المسألة السادسة: إقتضى قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ}، أي بما كرمناهم به في خلقتهم أنهم لم يفضلوا على جميع مخلوقات الله، وأن بعض المخلوقات أفضل منهم في الخلقة وأكثر منهم كرماً في الجنس، فمن هو هذا المخلوق المفضل عليهم؟ هذا ما نبينه في المسألة التالية. المسألة السابعة: إذا نظرنا في عوالم المخلوقات فإننا نجدها منقسمة إلى قسمين: قسم مشاهد، وقسم غير مشاهد علمناه بالوحي الصادق من الكتاب والسنة. فالقسم الأول: هو عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان، وهذا القسم كله قد فضل عليه الإنسان بميزة عقله التي ساد بها الجميع وبغيرها مما تقدم. والقسم الثاني: هو الملائكة والجن. فأما الجن، فالإنسان أشرف منهم خلقة وأكرم عنصراً فهم ظلمانيون خلقوا من النار. وهو ترابي وروحه من عالم النور الذي هو عالم الملائكة. فلذا كان أهلاً لاصطفاء الرسل منه كما اصطفيت من الملائكة ولم يصطف من الجن رسول ولا نبي. وأما الملائكة فخلقتهم أشرف من خلقة الإنسان وأكرم لأنهم خلقوا من نور محض منزهة لأجسام النورانية عن كثافة الأجساد الإنسانية الترابية واخلاطها وظلمتها. فلم يفضل عليهم النوع الإنساني عن الخلقة بل فضلوا عليه فهم غير الكثير الذي فضل عليه الإنسان. المسألة الثامنة: المفاضلة تقع بين الملائكة وبني آدم على وجهين: إما من جهة الخلقة وإما من جهة المثوبة. فأما من جهة الخلقة فقد عرفنا في المسألة المتقدمة أن الملائكة أفضل، والآية ظاهرة في ذلك ظهوراً بيناً. وأما من جهة الأجر والمثوبة فهو خارج عن معنى الآية وموضوعها. وأفضل الخلق - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل منهم قطعاً، وفي المفاضلة بين الأنبياء والملائكة في الأجر والثواب خلاف كبير وتفويض أمر ذلك إلى الله تعالى في مقام التذكير أسلم.

سلوك المكرمين- حكمة الامتنان بتكريم الإنسان

سلوك المكرمين- حكمة الامتنان بتكريم الإنسان: إمتن الله تعالى على بني آدم بهذا التكريم لهم في شرف الخلقة ورفعتها، وكثرة المنفعة وتيسير أسبابها تذكيراً لهم بنعمته ليشكروها فيزيدهم منها، وتعريفاً لهم بشرف أنفسهم ليقدروها فينتفعوا بها، فهذان الأمران هما الحكمة المقصودة بهذا الإمتنان. فلنتكلم عليها في الفصلين التاليين. شكر العبد لنعمة ربه: قد ابتدأنا بهذه الكرامة في الخلقة، بدون سعي منا ولا عمل، وهو المبتدىء بالنعم قبل استحقاقها. فمن قبل هذه الكرامة وشكرها كان من المكرمين، ومن لم يعرف قيمتها وكفرها كان من المهانين. ومن يهن الله فما له من مكرم، فلنقابل هذا التكريم في الخلقة بالشكر الجزيل بأن نعقد قلوبنا على تعظيم النعمة به، ونطلق ألسنتنا بالإعتراف والثناء على مسديه، ونستعمل هذه الخلقة الكريمة في مراضي ربنا وطاعته. متوسلين بشكر ما ابتدأنا به خالقنا من تكريم الخلقة، إلى ما وعد به الشاكرين من تكريم الجزاء والمثوبة، بأنواع ألطافه وإنعامه وجزيل فضله وإكرامه. فسبحانه ذا الجلال والإكرام. معرفة العبد لقدر نفسه: قد استودعنا خالقنا خلقة كريمة، فعلينا أن نعرف قيمتها وأن نقدرها قدرها. وحق على من كرمه ربه أن يكرم نفسه، فعلينا أن نكرم أنفسنا بتكريم أرواحنا بتنزيهها عن مساوىء الأخلاق وتحليتها بمكارمها. وتكريم عقولنا بتنزيهها عن الأوهام والشكوك والخرافات والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الإعتقادات وتكريم جوارحنا بتنزيهها عن المعاصي وتجميلها بالطاعات فنتحرى

بأقوالنا وأفعالنا أكرم الأقوال وأكرم الأعمال. ونترفع عن جميع الرذائلة والدنايا، ونتباعد عن كل مواطن السوء والسفالة ونحفظ كرامتنا وشرفنا أمام الله والناس ونجتهد أن لا يمسنا بسوء لا منا ولا من غيرنا. فإذا قدرنا- هكذا- أنفسنا، وشكرنا- كما تقدم- ربنا بلغنا- بإذن الله تعالى- أبعد الغايات من التكريم والتفضيل. يسرنا الله والمسلمين أجمعين لما يسر له عباده المكرمين المفضلين برحمتك يا أرحم الراحمين (1).

_ (1) ش: ج 2، م 7، ص 78 - 83 غرة شوال 1349 مارس1931

الصلاة لأوقاتها

الصَّلَاةُ لِأَوْقَاتِهَا {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المفردات: (أقم) أمر، من أقام، أي اجعلها قائمة وذلك بحفظها، والمحافظة عليها، وحفظها صونها من الخلل في شروطها، وأركانها من أقوالها، وأعمالها في الظاهر والباطن، والمحافظة عليها بالمداومة عليها في أوقاتها، (الصلاة): المراد الصلوات الخمس المكتوبة. (لدلوك) اللام، لام الأجل والسببية (الدلوك) هو الميل، وبدايته عند الزوال، ونهايته بالغروب. (إلى): لانتهاء الغاية، فغسق الليل هو نهاية غاية الإقامة. (الغسق): هو ظلمة الليل وبداية الظلمة بالغروب وتمامها بعد مغيب الشفق، عند اشتداد الظلمة. (قرآن الفجر): ما يقرأ به في صلاة الفجر- وهي الصبح- من القرآن، فسميت قرآناً من تسمية الكل باسم جزئه تنبيها على أهمية ذلك الجزء ومكانته. (مشهودا): محضورا. التراكيب: أفادت اللام السببية أن ميل الشمس سبب في وجوب الصلاة وإلى عند التجرد عن القرائن لا يدخل ما بعدها في حكم

_ (1) 78/ 27 الإسراء.

المعنى

ما قبلها، لكن هنا قامت القرينة الشرعية- وهي مشروعية الصلاة في الليل- على أن ما بعد إلى داخل في حكم ما قبلها، فهو محل أيضاً لإقامة الصلاة فيه، وقرآن الفجر منصوب عطفاً على الصلاة، وخصصت بالذكر، لأنها لم تكن عند ميل الشمس، ولا عند الغسق، بل تكون عند الوقت الذي أضيفت إليه وهو الفجر. وجملة {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} تذييل لتأكيد إقامته صلاة الفجر. المعنى: أقم يا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وأمره أمر لأمته لأنَّهم مأمورون بالإقتداء به- الصلاة لأجل ميل الشمس، فأَدِّ الظهر والعصر، وفي غسق الليل، فأَدِّ المغرب والعشاء، وأقم صلاة الفجر إنها صلاة مشهودة. بيان وتوجيه: هذه الآية قد انتظمت أوقات الصلوات الخمس، ووجه ذلك بوجوه: الأول: أن الظهر تكون أول الميل، والعصر تكون وسطه، وأن المغرب تكون عند أول الغسق، والعشاء تكون عند شدته بمغيب الشفق، والصبح عند الفجر. الثاني: أن الظهر عند أول الميل، والعصر عند وسطه، والمغرب عند نهايته، والعشاء عند الغسق، أي اشتداد الظلمة بمغيب الشفق. والفرق بين الأول والثاني أن الأول اعتبر المغرب عند بداية الظلمة، والثاني اعتبرها عند تمام الميل، وهما في الواقع متلازمان، فإنه إذا تم الميل ابتدأت الظلمة. الثالث: ولم أره لأحد واللفظ يحتمله- أن ميل الشمس يبتدىء بالزوال، وينتهي فيما يرى لنا بالبصر بمغيب الشفق، غير أن ميلها في الزوال والغروب مشاهد بمشاهدة ذاتها، وميلها بعد الغروب

تفسير نبوي

مستدل عليه بما يشاهد من أخذ الشفق في المغيب إلى أن يغيب بتمامه، ولا شك أن ذلك نتيجة ميلها من وراء الأفق، فالصلوات الأربع على هذا واجبة لدلوك الشمس، وأما غسق الليل، فهو اشتداد ظلمته، وذلك يكون على أتمه بعد مضي الثلث الأول من الليل، فيكون غسق الليل بهذا المعنى خارجاً عن حكم ما قبل إلى، لأن وقت العشاء ينتهي بانقضاء الثلث الأول، فالأوقات عند غسق الليل. تفسير نبوي: أخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال. سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار، في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}. فاستشهد أبو هريرة بالآية على الحديث ليبين أنه تفسير لها، وأن صلاة الفجر مشهودة تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار. وجاء هذا عند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً إلى النبي- صلى الله عليه وسبلم-. وجاء اجتماع الملائكة بأبسط من هذا عند مالك رحمه الله فأخرج في موطئه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون. إستنباط: من تخصيص صلاة الفجر بجملة التذييل المؤكدة، وما اشتملت عليه من هذه المزية، أخذ جماعة من أهل العلم أفضليتها

ترغيب وترهيب

على غيرها، فإن قلت أن صلاة العصر أيضاً لها هذه المزية، كما تقدم في حديث مالك، قلت إن ثبوت هذه المزية للفجر قطعي بنص القرآن، ومتفق عليه في روايات الحديث، بخلاف العصر فقد جاء في بعض الروايات دون بعض وتبقى الفجر ممتازة بتخصيصها بالتأكيد في نص الكتاب وكفى هذا مرجحاً لها. ترغيب وترهيب: قد جاء عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الترغيب في امثثال هذا الأمر (أقم الصلاة) وفي الترهيب من مخالفته من الأحاديث ما فيه مقنع ومزدجر، فمما جاء فيهما حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً أستخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة رواه مالك وغيره. ومما جاء في الترغيب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل بقي من درنه شئ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شئ. قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. رواه الشيخان في صحيحيهما، ومما جاء في الترهيب حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. رواه مسلم وغيره بنحوه. وحديث بريدة - رضي الله عنه - مرفوعاً العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.

الأحكام

الأحكام: قد قال بكفر تارك الصلاة جماعات كثيرة من الفقهاء والمحدثين سلفاً وخلفاً مستدلين بحديث جابر وحديث بريدة الصريحين في كفره، وذهبت جماعات أخرى كذلك إلى عدم كفره على عظم جرمه، مستدلين بحديث عبادة بن الصامت المتقدم الصريح في جعله في المشيئة، والكافر مقطوع له بدخول النار، ويجيبون عن حديث جابر وبريدة بأن المراد من كفر تارك الصلاة هو الكفر العملي، والكفر قسمان: إعتقادي وهو الذي يضاد الإيمان، وكفر عمل، وهو لا يضاد الإيمان، ومنه كفر تارك الصلاة غير المستحل للترك، وكفر من لم يحكم بما أنزل الله كذلك. وبهذا يجمع بين الأحاديث. وكفى زاجراً للمرء عن ترك الصلاة أن يختلف في إيمانه هذا الإختلاف. تعليم: في ربط الصلاة بالأوقات تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكل عمل وقته، فللنوم وقته، وللأكل وقته، وللراحة وقتها، ولكل شيء وقته. وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته وتطرد له أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير من الأعمال. أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت فإنه لا بد أن يضطرب عليه أمره ويتشوش باله، ولا يأتي إلا بالعمل القليل، ويحرم لذة العمل، وإذا حرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر، فقل سعيه، وكان ما يأتي به من عمل- على قلته وتشويشه- بعيداً عن أي إتقان. وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- مقسماً لزمانه على أعماله، وفيه القدوة الحسنة. فقد روى عياض - رضي الله عنه - في (الشفا) عن علي - رضي الله عنه - قال: كَانَ- صلى الله عليه وآله وسلم- إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ وَجُزْءًا

لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّاسِ، فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ، وَقِسْمَتُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ، مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ، وَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ، وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ، وَيَقُولُ: لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ يَدْخُلُونَ رُوَادًا، وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً ا. هـ. فهكذا ينبغي للمسلم أن يقسم أوقاته على أعماله ويعمرها كلها بالخير. وكما ربط الله له صلاته بالأوقات، وهي من أمور دينه، كذلك يربط هو بالأوقات جميع أمور دنياه والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقصرنا على طاعته ويفقهنا في أسرار دينه، ويوفقنا إلى إتباع سنة رسوله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام (1).

_ (1) ش: ج 3، م 7، ص 145 - 249 غرة ذي القعدة 1349هـ مارس 1931م.

نافلة الليل وحسن عاقبتها

نَافِلَةُ اللَّيْلِ وَحُسْنُ عَاقِبَتِهَا {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: من: للتبعيض. الهجود، النوم والهاجد النائم وج (2) هجود ومنه (أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودٌ) والتهجد ترك الهجود، كالتحرج والتأثم في ترك الإثم والحرج، وبناء تفعل يكثر في التحصيل كتعلم وتقدم، وجاء قليلاً في معنى الترك، والمراد منه هنا ترك النوم للقيام بالعبادة، للنافلة. قال الجوهري: عطية التطوع من حيث لا تحب ومنه نافلة الصلاة ا. هـ. أي أن الصلاة مؤداة على وجه التطوع دون الوجوب، فلذا قيل فيها: نافلة. وهي على كلام الجوهري بمعنى الشيء الزائد، فهي إسم غير مصدر. قال أبو البقاء وغيره: النافلة الزيادة، فهي مصدر كالعاقبة. عسى: للرجاء، وهي من الله تعالى على الوجوب، لأن إطماعه تعالى لعباده في الجزاء على أعمالهم هو من وعده، ومحال عليه تعالى أن يخلفه. مقاماً: محل القيام. محموداً مثنياً عليه. التراكيب: من الليل متعلق بفعل محذوف دل عليه تهجد تقديره أسهر.

_ (1) 79/ 17، الإسراء. (2) كذا في الأصل ويقصد به (جمع).

المعنى

الضمير في به عائد على القرآن لتقدم ذكره ولا تراعى الإضافة. والباء باء الأداة لأن التهجد بمعنى التعبد يحصل بالقرآن، أي بالصلاة ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على الليل، فالباء بمعنى في، أي فيه. نافلة: مصدر منصوب بتهجد لاتفاقهما في المعنى. والتقدير: تنفل نافلة، وهذا يجري على الوجهين في معاد الضمير. ويحتمل أن يكون حالاً. وهذا يجري على عود الضيير على القرآن بمعنى الصلاة. مقاماً: إما مصدر من غير لفظ عامله الذي هو يبعثك بمعنى يقيمك من مرقدك، وإما ظرف أي يبعثك في مقام، ومحموداً: صفة لمقام، ولكن الذي يحمد حقيقة هو القائم في المقام، فجعل الحمد للمقام توسعاً تنبيها على عظم الحمد وكثرته، فإنه فاض على صاحب المقام حتى غمر مقامه. المعنى: أسهر بعضاً من الليل فتعبد بالقرآن في الصلاة زيادة على تعبدك به في صلاة فرضك فتكون على رجاء أن يبعثك ربك من مرقدك يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيقيمك مقاماً يحمدك فيه جميع الناس لما يرون لك من فضل وما يصل إليهم بسببك من خير. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: كيف يكون التهجد؟ فأمَّا اللفظ فإنه يفيد ترك النوم للعبادة فيشمل تركه كله أو بعضه بأن لم ينم أصلاً أو لم ينم أولاً ثم رقد أو نام أولاً ثم قام. لكن ثبت أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان ينام ثم يقوم، فبينت السنة العملية أن التهجد المطلوب هو القيام بعد النوم. المسألة الثانية: هل كان قيام الليل فرضاً عليه: صلى الله عليه وسلم- دون أمته بمقتضى قوله تعالى {نَافِلَةً لَكَ}. قد ذهب

إلى هذا جماعة كثيرة من أهل العلم سلفاً وخلفاً، ويرد عليه أن توجيه الخطاب إليه لا يقتضي تخصيص الحكم به كما في آية: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وآيات كثيرة، ولأن قيام الليل يقع من غيره فيسمى نافلة اتفاقاً، ولحديث عائشة - رضي الله عنها -: ((إن- الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة- تعني سورة المزمل- وهي مكية {قُمِ اللَّيْلَ} فقام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه حولاً وأمسك الله خاتمتها إثني عشر شهراً، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيامه تطوعاً بعد فرضه)). رواه مسلم. فهذا يدل على أنهم فهموا أن الأمر من قوله تعالى (قُمِ) لهم معه، مع أنه موجه إليه بخطاب الإفراد، وأنه كان فرضاً عليه وعلى الناس فصار تطوعاً عليه وعلى الناس، ولحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين وغيرهما ((قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تورمت قدماه - وهذا لمداومته على القيام كل ليلة ببضع عشر ركعة- فقيل له قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً (1) فلو كانوا يعلمون أن قيام الليل واجب عليه ويفهمونه من القرآن لما أنكروا مشفقين عليه أن يقوم بما هو واجب عليه، ولأن قوله: (أفلا أكون عبداً شكوراً) يفيد أنه متطوع بهذا القيام باختيار ليؤدي شكر نعمة ربه عليه، فإن قيل إن السؤال والجواب راجعان إلى تورم قدميه، وذلك ناشيء على المداومة قيل إذا أنكر الشيء الناشيء عن المداومة فقد أنكرت المداومة، والمداومة على الفرض لا تنكر، فبقي الدليل سالماً، ولهذا كله قال هؤلاء الموردون أن قيام الليل تطوع ونفل في حقه وفي حق أمته، وبقي للأولين أن يقولوا أن قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} خاص به- صلى الله عليه وآله وسلم- اتفاقاً، وقد جعل جزاء لتهجده بالليل، ولما كان الجزاء خاصاً به فالعمل المجزى عنه خاص به،

المسألة الثالثة

فلهذا حملنا قوله على معنى دون غيرك ولما رأيناه واظب على التهجد ولم يتركه حملناه على أنه كان مفروضاً عليه، وحملنا نافلة على معنى أنها فريضة زائدة فوق الصلوات الخمس، فيقول المخالفون في هذا إنكم حملتم النافلة على الفريضة، وهذا خلاف أصل معناها الذي هو التطوع. وأما ما ذكرتم من خصوص الجزاء به فإنا نقول أن الخطاب موجه له في الأول وفي الآخر، ففي الأول لما لم يعارضنا معارض ألحقنا به أمته، وفي الثاني لما منعنا مانع وهو اختصاصه بالمقام المحمود لم نلحقهم به، وبقي الجزاء مساوياً للعمل في صورة اللفظ حيث كان كل منهما موجهاً إليه، وإذا تأملت في هذا البحث الذي سقناه أدركت أن القول بعدم الخصوصية هو الراجح، فالآية حثٌّ وترغيب على قيام الليل للعموم ووعد له- صلى الله عليه وآله وسلم- بالمقام المحمود. المسألة الثالثة: ما هو المقام المحمود (هو مقامه - صلى الله عليه وسلم - للشفاعة العظمى) يشفع للخلائق وقد جهدوا من كرب الموقف فجاءوا إلى كبراء الرسل عليهم الصلاة والسلام يسألونهم أن يشفعوا لهم إلى ربهم ليفصل القضاء ويريحهم من كرب الموقف فيتدافع الشفاعة أولئك الرسل صلوات الله عليهم ويتنصلون منها بأعذار رهيبة للرب جلّ جلاله حتى ينتهوا إليه - صلى الله عليه وسلم - فيتقدم فيشفع ويسأل فيعطى، كما جاء هذا كله مفصلاً في الأحاديث الصحيحة المستفيضة. فبحمده الخلق كلهم لما يرون من فضله عند ربه ولما وصل إليهم من الخير المطلوب بسببه. إختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بالمقام المحمود ودليله: ثم له - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الشفاعة العظمى شفاعات أخرى بينتها صحاح الأحاديث، ولعموم فضل هذه الشفاعة العظمى

المسألة الرابعة

لأهل الموقف كلهم قال- صله الله عليه وآله وسلم- كما في صحيح مسلم ((أنا سيد الناس يوم القيامة)) والسيد من يتولى أمر السواد، فظهر عموم سيادته بعموم نفعه. وقد فسر المقام المحمود بمقام الشفاعة عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - رواه عنه البخاري في صحيحه وفسره بها غيره. المسألة الرابعة: هل المقام المحمود خاص به؟ قد علمت من المسألة السابقة أنه مقام الشفاعة العظمى وهي خاصة به فهو خاص به ويدل عليه حديث جابر الصحيح: ((من قال حين يسمع النداء- الأذان- - اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته- حلت له شفاعتي يوم القيامة)) فهو - صلى الله عليه وسلم - الموعود بالمقام المحمود. تنبيه وإلحاق: قد جعل الله تعالى جزاء نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - على تهجده وخلوته بربه في مناجاته هذا المقام الذي يحمده فيه الخلق ويتقبل فيه شفاعته ويستجيب دعوته ويفتح عليه فيه بمحامد من ذكره لم يفتح عليه بها قبل، ففي هذا تنبيه للمؤمنين على حسن عاقبة القائمين لربهم في جنح الليل، وما يكون لهم من مقامات عند ربهم على حسب منازلهم. فكما كان المؤمنون ملحقين بنبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - في مشروعية هذه العبادة كذلك هم ملحقون به في حسن الجزاء عليها. وإن كان قد خصص هو عليه السلام بذلك الجزاء الأعظم فلهم جزاؤهم من مقامات القرب، والزلفى والقبول، والرضا، على ما يناسب منارلهم جزاء بما كانوا يعملون (1).

_ (1) ش: ج، م 7، ص 220 - 230 غرة ذي الحجة 1349هـ - افريل 1931م.

صدق المدخل والمخرج

صِدْقُ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: مضى في الآيات السابقة ذكر الله تعالى ما كان من المشركين من الكيد لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بمحاولتهم فتنته في دينه والله يثبته، ومبالغتهم في عداوته وإذايته، حتى كادوا يستفزونه ويزعجونه من أرض مكة فيخرجونه منها، وجاء بعدها أمر الله تعالى بإقامة الصلاة والتهجد بالليل، وفي ذلك أمر الله له بالقيام بعبادة ربه والتوجه والإنقطاع إليه وعدم المبالاة والاشغال عن مهام العبادة بهم، فجاء بعد ذلك الأمر الذي في هذه الآية بسؤاله أن يختار له، وفي ذلك تفويض أمره إلى ربه ورضاه بما يختار له. فالآيات السابقة أمر بالتجرد لعبادته، وهذه أمر بالتسليم لمشيئته، فبتلك يكون منقطعاً إليه، وبهذه يكون معتمداً عليه. الألفاظ: المدخل يكون بمعنى الإدخال ويكون بمعنى زمانه أو مكانه، الصدق: أصله وصف للقول بمعنى قوله ومطابقته للواقع.

_ (2) 17/ 80 الإسراء.

التراكيب

ويوصف به الفعل إذا وقع على وجهه، وكما ينبغي أن يكون. وتضاف إليه الأشياء الكاملة في أنفسها الحسنة في ظاهرها وباطنها. لدن بمعنى عند. السلطان: بمعنى التسلط، يصدق على التسلط على العقول بالحجة وعلى غيرها بالملك والولاية. النصير: بمعنى ناصر. التراكيب: مدخل ومخرج منصوبان على المصدرية أو على الظرفية. المعنى: قل يا محمد سائلاً ربك متضرعاً إليه، يا رب أدخلني إدخالاً حسناً كاملاً تساوي في ظاهره وباطنه في الحسن والكمال، وتماثلت بدايته ونهايته وحاله وعاقبته فيهما أكون فيه على بصيرة ويقين وثبات وقوة، وأخرجني إخراجاً كذلك- وإذا كان بمعنى الظرف كان المعنى أدخلني في مكان حسن أو زمان حسن .. الخ. وأخرجني كذلك- واجعل لي من عندك تسلطا بالحق على العقول بالحجة والبرهان وعلى الملك بالعدل والإحسان، ينصرني ويؤيدني على كل من يقف في طريق دعوتي إليك وهداية خلقك من جبابرة البغي أو رؤوس الضلال. توجيه: قدمنا احتمال المصدرية في مدخل ومخرج لأنه أعم والعموم أنسب بهذا الدعاء الجليل الذي ليس في ألفاظه ما يدل على التخصص ولما كان الذي يضاف إلى الصدق لا يكون إلا حسناً لا عيب فيه ثابتاً لا خلل فيه وصفنا الإدخال والإخراج بما وصفناهما به لأن ذلك كله من مقتضى الحسن والكمال والثبوت. ولما كان السلطان المطلوب هو من عند الله ولا يكون إلا سلطاناً بالحق سواء

ترجيح

أكان في العلم أم في الحكم فسرنا، بالحجة والبرهان والعدل والإحسان. ترجيح: إذا نظرنا إلى ما تقدم من قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} قيل إن المراد بمدخل الصدق هو المدينة ومخرج الصدق هو مكة وتكون مكة مخرج صدق لأنه يخرج منها على حق ويقين وبصيرة وبإذن من الله تعالى وتأييده وتكون المدينة مدخل صدق لذلك كذلك. وإذا نظرنا إلى عموم اللفط حملنا الآية على العموم اعتباراً بحكم اللفظ ولا يفوت اعتبار المناسبة لما تقدم فإن الخروج من مكة ودخول المدينة يكون مما دخل في العموم دخولاً أولياً فالحمل على العموم - كما رأيت- محصل لاعتبار اللفظ واعتبار المناسبة ولذلك اخترناه. تطبيق: كل فرد من أفراد بني الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته لا ينفك عن المداخل والمخارج فكل ساعة يقضيها من حياته هي مدخل باعتبار دخوله فيها من غيرها ومخرج باعتبار خروجه منها إلى سواها. فإن قضاها صادق العقد صادق القول، صادق العمل وفارقها كذلك فهي مدخل صدق ومخرج صدق. وإن قضاها وفارقها سيء العقد سيء القول سيء العمل فهي ليست كذلك بل هي مدخل كذب وفجور ومخرج كذب وفجور. فالإنسان محتاج في كل لحظة من حياته لتوفيق الله وتأييده، وحفظه وإمداده، فجاء هذا الدعاء القرآني منبهاً على هذه العقيدة، مشتملاً على سؤال ما يحتاج إليه الإنسان في جميع شؤونه في حياته وأطواره فيه- من ألطاف ربه. ولما كان الإنسان في كل لحظة من حياته- لا بد- واجداً معارضاً

إستنباط

وصاداً عن الخير والصدق وقاطعاً في طريق الحق- من نفسه وشياطين الإنس والجن- قرن الدعاء السابق بالدعاء الثاني الذي فيه طلب التأييد من الله بالسلطان المبين، فالدعاءان- على (1) اختصارهما وإيجازهما- قد جمعا للإنسان كل حاجته من تحصيل الخير ودفع الشر فهما من أعظم الأدوية الربانية للإنسان ومن أعظم وسائله الشرعية إلى خالقه، فما أحراهما بأن يلهج بهما في كثير من أوقاته. إستنباط: إذا علمنا الله تعالى دعاء ففي ضمن ذلك التعليم تعليم آخر لنا كيف نعمل ما يناسب ذلك الدعاء وكيف نسلك السلوك الذي هو مظنة الاستجابة، فلما علمنا تعالى- مثلا- كيف ندعوه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كان في ذلك إرشاد لنا إلى سلوك الطريق المستقيم والإهتداء بأهله والمباينة لغيرهم، فكذلك هنا لما علمنا كيف ندعوه بالحفظ والتوفيق في المدخل والمخرج كان في ذلك إرشاد لنا إلى ما ينبغي لنا أن نكون عليه في مداخلنا ومخارجنا وجميع مصادرنا ومواردنا من تحري ما فيه مرضاته واجتناب ما فيه سخطه، ولما علمنا كيف ندعوه بالتقوية والتأبيد بسلطان من لدنه مبين كان في ذلك إرشاد لنا أن نكون أهل قوة في الأيدي وقوة في البصائر ودفاع عن الحق بما استطعنا من قوة. سلوك وامتثال: فعلينا أن لا ندخل في أمر إلاَّ على بصيرة به وعلم بحكم الله تعالى فيه، وأن دخوله خير، وأن لا نخرج من أمر إلا على بصيرة

_ (1) في الاصل: على ان اختصارهما وايجازهما.

مجيء الحق وزهوق الباطل واستجابة دعاء الصادقين

وعلم كذلك، لا فرق بين أمر وأمر من كبير وصغير وجليل وحقير ونكون- مع بذل غاية ما عندنا من نظر واختيار- معتمدين على ربنا واثقين بحسن اختياره لنا مسلمين له فيما اختاره، ضارعين له مظهرين فقرنا وحاجتنا في كل حال. وعلينا أن نحصل من الأسباب ما يحصل لنا قوة العلم وقوة العمل لنكون أهلاً للدفاع عن الحق وحزبه، ومقيمين لسلطان الله في أرضه بالحق والعدل والإحسان. معتمدين- مع تحصيل تلك الأسباب- على الله وحده ومنتظرين منه الفرج والتيسير. هذان هما الأصلان الأساسيان في سلوك أهل الله: التمسك بالحق ومدافعة الباطل، فاستمسك بهما تكن- بإذن الله- من الفائزين. مَجِيءُ الْحَقِّ وَزُهُوقُ الْبَاطِلَ وَاسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الصَّادِقِينَ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1) المناسبة: لما أمر الله تعالى نبيه أن يدعوه بحسن المدخل والمخرج والنصرة والتأييد أمره أن يعلن استجابته لدعوته بمجيء الحق وفي ذلك نصره، وذهاب الباطل وفي ذلك هلاك أعدائه وذهاب دولتهم. هذا على النظر العام، وأما على النظر الخاص فإن الله تعالى بعد ما ذكر أن أعداءه كادوا يستفزونه من الأرض وأمره أن يتوجه إلى عبادته ودعائه ذكر في هذه الآية ما كان من نصره على المشركين وفتح مكة عليه وتنكيس الأصنام التي هي باطلهم وإعلان كلمة التوحيد

_ (1) 17/ 82 الإسراء.

التراكيب

الذي هو دينه وهدايته. ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه الآية عندما كان يشير إلى الأصنام فتسقط إلى الأرض. ففي الصحيح من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل مكة (يعني عام الفتح) وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". الحق الثابت الذي لا يعتريه زوال الباطل الذي لا ثبات له في نفسه. فالإسلام حق ويشمل كل ما هو طاعة. والشرك والكفر باطل ومثله كل ما هو معصية. زهقت الروح: خرجت، وزهق الباطل: ذهب واضمحل. الزهوق: الهالك الذاهب. التراكيب: جملة أن الباطل كان زهوقاً إطناب بالتذييل، المخرج إخراج المثل لتأكيد منطوق الكلام السابق. وشبه الباطل الذي غلب بأدلة الحق فزالت شبهه من الأذهان وطواغيته من الأرض بالحيوان الذي صرع فذبح فزهقت روحه وذهب على طريق المكنية حيث حذف المشبه به، وهو الحيوان المصروع المذبوح، وذكر المشبه وهو الباطل المغلوب، وأشير إلى المحذوف بذكر لازمه وهو الزهوق. المعنى: وقل يا محمد- معلنا بما أظهر الله على يدك وما قضى به من نصرك وما أجاب من دعائك- جاء الإسلام والتوحيد بأدلته وحججه وقوته وسلطانه، وذهب الكفر والشرك فبطلت شبهه. واضمحلت دولته وأصبح الحق غالباً والباطل مغلوباً، وكذلك كان الباطل شأنه الذهاب والإضمحلال.

صدق وعد الله جل جلاله

صدق وعد الله جل جلاله: نزلت هذه الآية بمكة والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم يلقون من المشركين ما يلقون، والمسلمون في ضعف- من العدد- وقلة، والمشركون في قوة وكثرة. فكانت هذه الآية وعداً بما سيكون من غلبتهم وقوتهم وكثرة عددهم فيبطل الشرك ويذهب سلطانه. وقد صدق الله وعده ففتح عليهم مكة، وتمت لهم على المشركين النصرة، وللإشارة إلى إنجاز هذا الوعد وصدق الخبر قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية يوم فتح مكة كما تقدم. تفصيل: مجيء الحق هو بظهور أدلته وقيام دولته، وزهوق الباطل هو ببطلان شبهه وذهاب دولته. فأما القسم الأول فإنّ الأمر فيه ما زال ولن يزال كذالك ولن تزداد على الأيام أدلة الحق إلا اتضاحاً، ولن تزداد شبه الباطل إلا افتضاحاً. وأما القسم الثاني فإنه مرتبط بأحوال أهل الحق وما يكون عليه من تمسك به وقيام فيه، أو إهمال له وقعود عنه فيدال لهم ويدال عليهم بحسب ذلك. عقيدة: يرتبط قلب المسلم مطمئناً على أن ما هو عليه من الإسلام حق لا شك فيه وأنه يومئذ منصور ما تمسك به وأنه إذا خذل فإنما جاءه ذلك من ناحية نفسه، وعلى أن ما عدا الإسلام هو باطل لا شك فيه، وأن صاحبه هالك عند ربه وأن ما يكون له من سلطان لم يأته من جهة باطله وإنما جاءه من أسباب عمرانية مما يقتضيه الحق وفرط فيه أهله فحرموا ثمرته.

سلوك

سلوك: على أهل الحق أن يكون الحق راسخاً في قلوبهم عقائد، وجارياً على ألسنتهم كلمات، وظاهراً على جوارحهم أعمالاً يؤيدون الحق حيثما كان، وممن كان، ويخذلون الباطل حيثما كان وممن كان. يقولون كلمة الحق على القريب والبعيد، على الموافق والمخالف، ويحكمون بالحق كذلك على الجميع. ويبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل نشره بين الناس وهدايتهم إليه بدعوة الحق، وحكمة الحق وأسبابه ووسائله. على ذلك يعيشون وعليه يموتون. فلنجعل هذا السلوك سلوكنا، وليكن من همنا. فما وفينا منه حمدنا الله تعالى عليه، وما قصرنا فيه تبنا واستغفرنا ربنا. فمن صدقت عزيمته ووطن على العمل نفسه - أعين ويسر للخير. وربك التواب الرحيم (1).

_ (1) ش: ج4، م 7، ص 224 - 231 غرة ذي الحجة 1349هـ - أفريل 1931م

القرآن شفاء ورحمة

الْقُرْآنُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما جاء في الآية السابقة الإخبار بمجيء الحق، وفي مجيئه صحة الأرواح والأبدان والأحوال، وبزهوق الباطل وفي ذهابه ذهاب العلل والأمراض كذلك- جاء في هذه الآية بذكر القرآن والإخبار كما جاء فيه من الشفاء والرحمة تنبيهاً على أنه هو الشافي من أمراض الباطل وعلله، وأنه هو مصدر الحق وحجة ناصره، ومحصل الرحمة لأتباعه والمتمسكين به. المفردات: من: لابتداء الغاية أو للتبعيض، لأنه نزل مبعضاً، فكل بعض نزل منه فهو شفاء ورحمة. الشفاء: البرء من المرض، مرض الأبدان أو مرض النفوس. الرحمة: النعمة. الظلم: وضع الشيء في غير محله، كوضع الكفر موضع الإيمان. الخسار: النقص والضياع يكون في الأموال، يقال خسر ماله إذا ضيعه، ويكون في النفوس فيقال خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خلقت له من الطاعة والكمال، ويكون في الدين فيقال خسر دينه إذا ضيعه ولم يعمل به. فخاسر القرآن هو من ضيعه ولم يؤمن به.

_ (1) 82/ 17 الإسراء.

التراكيب

التراكيب: قرنت جملة (نُنَزِّلُ) بالواو مع أن ما قبلها إنشائية وذلك على وجهين: الأول أن تكون معطوفة على جاء الحق، أي وقل ننزل، فعطفت الخبرية على الخبرية التي لها حل، وهو المفعولية بالقول. الثاني: أن تكون الواو للإستئناف وهي في الحقيقة صلة في الكلام لتقويته وقرنت جملة لا يزيد بالواو لأنها معطوفة على جملة الصلة، وعبر بالمضارع في ننزل ويزيد قصداً لمعنى التجدد لأن الآيات كانت تنزل شيأ فشيأ وتنكير شفاء ورحمة للتعظيم. وقدم الشفاء لأنه برء من النقص على الرحمة لأنها حصول الكمال تقديم التخلية على التخلية وآيات القرآن الكريم سبب في حصول الشفاء فجعلت هي شفاء على طريق المبالغة تنبيهاً على تحقق حصوله بها. المعنى: وننزل عليك يا محمد بسبب الوقائع والمناسبات آيات من القرآن العظيم، هي شفاء يستشفي بها المؤمنون، ونعمة عظيمة أنعمنا بها عليهم، يؤمنون بها ويحلون حلالها، ويحرمون حرامها، ويعملون بما فيها، فينالون سعادة الدنيا والآخرة. أما الكافرون الظالمون الذين قابلوا بالكفر ما يجب أن يقابل بالإيمان وقابلوا بالرد ما يجب أن يقابل بالقبول فإن نزول تلك الآيات يكون سبباً في زيادة خسارهم وضياع الخير عليهم. إذ كل آية من تلك الآيات كانت كافية في شفائهم لو استشفوا بها ونزول الرحمة عليهم لو اهتدوا بها إلى الإسلام لكنهم يقابلون كل آية بالكفر والجحود فيخسرون في كل مرة كنزاً عظيماً، وهكذا يزداد خسارهم بقدر كفرهم المتجدد بنزول الآيات. تنظير: وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه،

ومنها قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1). ومنها في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (2). وأفادت الآيات كلها أنه شفاء لأهل الإيمان الذين يؤمنون دون غيرهم فإنهم بإعراضهم عنه كانوا من الخاسرين، وجاءت آية يونس بتقييد الشفاء بها في الصدور الذي هو العقائد، لأن ذلك هو المقصود الأول من هداية القرآن، وأصل لغيره. فإنه إذا شفيت الصدور من عقائد السوء ونزغات الشكوك واعتقدت الحق وارتبطت على اليقين زكت النفوس واستقام سلوك الإنسان فرده وجماعاته، ورقي درجات الكمال، فلا ينافي ذلك أن القرآن شفاء أيضاً للنفوس من سيء الأخلاق كما هو مقتضى الإطلاق في آية الإسراء هذه وآية فصلت (3) لأن الأخلاق ناشئة عن العقائد ولازمة لها ولأنهما كليهما- العقائد والأخلاق- لا تكمل النفس الإنسانية إلا بالشفاء فيهما. ولا ينافي أيضاً حصول الشفاء للأبدان بالقرآن في بعض الأحوال كما هو مقتضى الإطلاق أيضاً ومقتضى ما سيأتي من الآثار، وإن كان هذا ليس هو المقصود بالقصد الأول من شفاء القرآن.

_ (1) 57/ 10 يونس. (2) 44/ 31 فصلت. وفي الأصل (السجدة) بدل (فصلت). (3) أصلحنا (السجدة).

تقسيم

تقسيم: الأمراض الإنسانية قسمان أمراض أرواح وأمراض أبدان، وكلاهما أنواع. وأمراض الأرواح المقصودة بالذات هنا ترجع إلى نوعين: مرض العقول ومرض النفوس، فالأول بجمود النظر وفساد الإدراك وتقليد الآباء واعتقاد الباطل والشك في الحق. والثاني بفساد الأخلاق وانحطاط الصفات. أما الأعمال فهي تابعة لهما فتصلح بصلاحهما وتفسد بفسادهما، والقرآن قد جاء داعياً إلى النظر والتفكر والإعتبار والتدبر، مبيناً- بما ساق من حجج الله وحجج رسله- الطريق الأقوم في الإدراك الصحيح. والسبيل الأشد في الفهم والتفهيم ناعياً على المقلدين تقليدهم، كاشفاً لأهل الباطل عن باطلهم، ذاكراً من قواطع البراهين البينة الواضحة ما لا يبقى معه خفاء في الحق ولا ريب. وجاء أيضاً مبيناً للأخلاق الفاسدة وذاكراً سوء أثرها وقبح مغبتها، مبيناً كذلك الأخلاق الصحيحة وعظيم نفعها وحسن عاقبتها فهذا شفاؤه للنفوس والعقول. وهو راجع إلى تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق وبهما سلامة الأرواح وكمالها وعليهما قوام الهيئة الإجتماعية وانتظامها. على أن القرآن هو شفاء للإجتماع البشري كما هو شفاء لأفراده فقد شرع من أصول العدل وقواعد العمران ونظم التعامل وسياسة الناس ما فيه العلاج والدواء الشافي لأمراض المجتمع الأنساني مع جميع أمراضه وعلله. شفاء العقائد والأخلاق- وهما أساس الأعمال- والمجتمع. هذه الثلاثة لا تكاد تخلو آيات القرآن من معالجتها وبيان ما هو شفاء لها. ولا شفاء لها إلا بالقرآن- وبيان النبي راجع إلى القرآن- ومن طلب شفاءها في غير القرآن فإنه لا يزيدها إلا مرضاً، فهذه الأمم الغربية بسجونها ومشانقها ومحاكمها وقوتها قد إمتلأت بالجنايات والفضائح المنكرة التي تقشعر منها الأبدان، وهذه الممالك الإسلامية التي تقيم الحدود القرآنية

كالمملكة النجدية الحجازية والمملكة اليمنية قد ضرب الأمن رواقه عليهما واستقرت السكينة فيها دون سجون ولا مشانق مثل أولئك، وما ذلك إلا لأنهم داووا الملك بدواء القرآن فكان الشفاء التام. وأما الأمراض البدنية فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" رواه البخاري من طريق أبي هريرة وقال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى" رواه مسلم من طريق جابر، وثبت عنه أنه داوى وتداوى، وروى الأئمة من ذلك عنه الكثير الطيب في كتاب الطب من صحيح البخاري وغيره. وثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن العظيم، وأقر على ذلك من فعله من أصحابه. روى البخاري من طريق يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى إلى فراشه" وروى الشيخان واللفط للبخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال: "انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لأرقي ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطع من الغنم فانطلق يتفل عليه

مداواة الأبدان، بالطب والقرآن

ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط (1) من عقال (2). فانطلق يمشي وما به قلبة (3). قال: فأوفهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم أقسموا فقال الذي رقي لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكروا له فقال وما يدريك (4) أنها رقية. ثم قال: قد أصبتم، أقسموا واضربوا لي معكم سهماً، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فثبت بهذين الحديثين أن في القرآن شفاء للأبدان، وحصل عندنا من جميع ما تقدم أنه شفاء للأرواح والأبدان للأفراد والمجتمع. مداواة الأبدان، بالطب والقرآن: ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - الأمر بالتداوي قولاً وعملاً، وثبت عنه الإستشفاء بالقرآن، ولا منافاة بينهما، فإن الإنسان مركب من روح من عالم النور وجسم من عالم المادة المركبة. فمن الحكمة الإلهية أن شرع الله لنا عند الأمراض على لسان رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - الجمع بين الأدوية المادية التي هي المناسبة للبدن والآيات القرآنية التي هي المناسبة للروح مع ما في الأدوية القرآنية من اطمئنان القلب بالله وقوته به وانتعاشه بذكره وفي ذلك من تقوية للروح ونعيمها ما يهون عليها ألم المرض ويغلبها بإذن الله تعالى عليه. ومثل الآيات القرآنية في ذلك كل ما ثبت من الرقي النبوية المأثورة.

_ (1) حل. (2) حبل يشد به ذراع البهيمة. (3) بحركات، أي علة. (4) تعجب من وقوفه على أنها رقية وإصابته في ذلك.

تحذير

تحذير: فرط قوم فأهملوا الإستشفاء بالذكر المأثور واقتصروا على الدواء المادي فحرموا أنفسهم من خير كبير إذا لم يكونوا له كالمنكرين، وأفرط آخرون فأهملوا الدواء المادي وزهدوا الناس فيه وتزيدوا في جانب المأثور حتى خرجوا عنه واتخذوا لهم من ذلك حرفة ومورداً لمعاش ونسوا أنواع أشفية القرآن الروحية والإجتماعية التي هي المقصودة بالقصد الأول من تنزيله، مقتصرين على الوجه الذي وجدوا منه سبيلاً إلى الإسترزاق على ما أحدثوا فيه وما ابتدعوا. فعكسوا الأمر وخالفوا السنة ووقعوا في المحظور من عدة وجوه. هذان الطرفان مذمومان. والعدل هو الوسط الذي لا يهمل هذا ولا ذاك ويقف في الوارد عندما ورد ويتناوله على ما ورد. تطبيق: نزول الآيات في الكافرين لا يمنع من تطبيقها على من شاركهم في مثل الحال الذي أنكرته عليهم من المؤمنين لأن الوصف المذموم سواء أكان المتصف به مؤمنا أم كان كافراً. فالذين تتلى عليهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتوضح لهم الدلائل الشرعية وهم عنها معرضون وعن تدبرها غافلون وبها متهاونون- يزدادون بكل مرة إثما بإعراضهم وغفلتهم وتهاونهم فيخسرون بقدر ما بقوتهم من الهداية على حسب حالهم، وإذا لم يكن خسارهم كخسار الكافرين فهو كخسار المعرضين الغافلين المتهاونين، وكفى به خساراً يتنزه عنه المؤمنون ويأباه الراشدون. سلوك: نتناول القرآن العظيم دواء من عند ربنا شفاء لأمراض عقولنا، وأمراض نفوسنا، وأمراض مجتمعنا، فنتطلب ذلك منه بتدبر آياته

وتفهم إشاراته ووجوه دلالاته، وشفاء أيضاً لأبداننا فنفعل كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه على ما تقدم في حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها. وعلى ما جاء من نحو ذلك مما ثبت عنه - عليه وآله الصلاة والسلام - وانتهى إليه علمنا. غير مقصرين ولا غالين وعلى ربنا متوكلين، سائلين أن يشفينا بالقرآن الكريم أجمعين آمين يا رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 5 م 7 ص 289 - 295. محرم 1350 - ماي 1931

صفتان من صفات النوع الإنساني: الإعراض من النعمة - واليأس من الرحمة

صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ: الْإِعْرَاضُ مِنَ النِّعْمَةِ - وَالْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: في النوع الإنساني غرائز غالبة عليه لا يسلم منها إلا من عصم الله أو وفق إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي آيات القرآن العظيم بيان لكثير من تلك الغرائز للتحذير من شرها والتنبيه على سوء مغبتها، منها هذه الآية الكريمة. المناسبة: لما ذكر الله- تعالى- أن القرآن يكون شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، بين تعالى سبب خسار أولئك الظالمين، وهو إعراضهم عن الله وبعدهم منه ويأسهم من رحمته. وعلم منه أن المؤمنين الذين كان القرآن لهم شفاء ورحمة هم على الضدِّ منهم، فهم أهل إقبال على الله- تعالى- وقرب منه ورجاء فيه. المفردات: (أنعمنا): أوصلنا أنواع الإحسان. (الإنسان): المراد به النوع باعتبار مجموعه، فلا ينافي خروج أفراد كثيرين بالعصمة والتوفيق

_ (1) 83/ 27 - 84 الإسراء.

التركيب

(أعرض): صد بوجهه إلى ناحية أخرى، فأرى عرض وجهه، أي ناحية وجهه. (نئا): بعد. (بجانبه): بناحيته، بشقه الأيمن أو الأيسر، والباء للتعدية، أي أبعد جانبه. (مسه): أصابه. (الشر): البلايا والرزايا بأنواعها. (يئوسا) شديد اليئوس والقنوط وعدم انتظار الفرج. التركيب: جييء بفعل الشرط وجوابه ماضين لتحقق وقوعهما، ولذلك كان التعليق بإذا، وجواب الشرط والفعل والمعطوف عليه فيهما الصورة التامة للمعرض غاية الإعراض، فإنه يصرف عنك وجهه، وهذا مفاد الفعل الأول. ويلوي عنك عطفه ويعد جانبه ويوليك ظهره، وهذا مفاد الفعل الثاني. ثم هما كناية عن الإستكبار وعدم الإكتراث والإلتفات إلى مولى النعم، سواء حصلت هذه الصورة بالفعل أو لم تحصل. المعنى: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض تمام الإعراض إما بعدم قبول تلك النعمة استكباراً أو تهاوناً، كما يكون من الذين يكفرون بالقرآن أو يخالفونه، وهو من أعظم نعم الله عليهم، وإما بعدم القيام بحق الله في تلك النعمة وعدم شكره عليها، كنعمة العقل والبدن والحال وغيرها إذا لم تستعمل في طاعة الله ولم يقم بحقه فيها. وإذا مس الإنسان الشر ونزلت به المصائب وحلت به النوائب إستولى عليه اليأس والقنوط وانسدت في وجهه أبواب الرجاء. توجيه: يرتبط اليئوس من رحمة الله بالإعراض عن نعمته من جهتين: الأول أن من أعرض عن نعمة الله فقد قطع صلته بخالقه وذهب ممعنا في

إنتقال واعتبار

بعده فإذا نزلت به المصيبة كان كالمنقطع به في البيداء يجد نفسه وحده فيأخذه اليأس والقنوط من كل جانب، الثانية أن الإعراض عن النعمة ترك لها ولموليها، والآيس متروك لوحده مغضوب عليه قد ترك فترك وكان جزاؤه من جنس عمله. إنتقال واعتبار: هذه حالة أهل الإعراض، أما أهل الإقبال على الله تعالى والقبول لإنعامه فإن قلوبهم عامرة بالله وصلتهم متينة به، فإذا نزلت بهم المصائب رجعوا إليه وانتظروا رحمته، فكان ذكره غناهم في الفقر وإنسهم في الوحشة، ونعيمهم في الألم. وكان لهم من الرجاء في أنواع رحمته ما يهون عليهم جميع المصائب. تبصير وتحذير: بصرنا القرآن في هذين الوصفين الذميمين الإعراض عن النعمة، واليؤس من الرحمة، ونحن نراهما فاشيين في أكثر الناس على تفاوت بينهم على حسب ما عندهم من إيمان وعمل صالح. بصَّرنا القرآن بهما ليحذرنا منهما ومن سوء عواقبهما، فإن الإعراض عن النعمة كفر بها ومقتض لسلبها، وأن اليئوس من رحمة الله جهل به وكفر بما هو متقلب فيه من نعمه وموجب لانطماس القلب وشلل البدن وانقطاع الأعمال. فليحذر المؤمن من هذين الوصفين الذميمين وليعمل على اجتنابهما واجتثاثهما من أصلهما. سلوك: على المرء أن يقبل نعم الله تعالى ويقبل عليها إقبال المستعظم لها، العارف بحقها وعظيم الفضل بها، ليقوم بشكرها وذكر الله عندها، وليتفحصهما وليتأملها نعمة نعمة، ليشكر الله عليها واحدة واحدة، بالقلب واللسان، وإلا كان حسب المستطاع حتى ما يكون من باب

مباينة سلوك أهل الحق لسلوك أهل الباطل

المصائب والآلام فإنه يتناوله على أنه نعمة من الله تعالى بها فيه من أجر وتمحيص، وما يحصل به من رجوع وإنابة، وما يكون منه من تربية وتدريب على السلوك اللازم في الحياة الفردية والإجتماعية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1). وليكن دائماً متمسكاً بحبل الرجاء في الله في تسيير الأسباب وكشف الكروب ودفع المكروه، فالرجاء حسن ظن في الرب وقوة في القلب وباعث على العمل ومخفف أو مذهب للألم. فياله من طاعة عظيم أجرها جليل نفعها في الدنيا والدين، فهنيئاً للشاكرين الراجين، ويا ويح الكافرين- كفر عقيدة أو كفر نعمة- القانطين. مُبَايَنَةُ سُلُوكِ أَهْلِ الْحَقِّ لِسُلُوكِ أَهْلِ الْبَاطِلِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (2). المناسبة: قد استفيد مما تقدم تقسيم الخلق إلى قسمين: أهل إيمان ورجاء، وأهل كفر وقنوط، فجاء البيان في هذه الآية بأن كل فريق له مذهبه وطريقه الذي يكون عليه. المفردات: (شاكلته): طريقته ومذهبه. المشاكلة له اللائقة به التي صارت له طبيعة وخلقاً. (أهدى سبيلا): أسد مذهباً وأقوم طريقاً.

_ (1) 42/ 30 الشورى. (2) 17/ 84 الإسراء.

التراكيب

التراكيب: التعبير بالمضارع مع لفظة على يفيد تجدد العمل وانبناؤه على الخلق والطبيعة. المعنى: قل يا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- كل فريق منا ومنكم يعمل في حياته على طريقته ومذهبه. فأعمالنا مباينة لأعمالكم لأن طريقتنا مباينة لطريقتكم فربكم أعلم بمن هو أقوم طريقاً وأسد مذهباً، فيثبت المهتدين ويعاقب الضالين. ومن فوائد الآية الكريمة إستدراج الضال لقبول الهداية. وذلك بمناصفته بأنك على ناحيتك وهو على ناحيته، وإظهار التساوي معه أمام علم الله وقدرته، وهذا من أنفع الأسباب في نجاح الدعوة، وعليه في القرآن آيات كثيرة منها سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1) فينبغي لدعاة الحق أن يلتزموه ولا يهملوه. والبراءة من أهل الباطل. وذلك بإعلان المباينة والمخالفة لهم في عملهم وما انبنى عليه عملهم بأسلوب المناصفة الذي جاءت به الآية فتحصل البراءة مع الفائدة المتقدمة. إنبناء الأعمال على العقائد والأخلاق فإن الآية، وإن كانت بالخطاب الأول للمشركين ثم لأمثالهم من الكافرين فإنها تفيد أن كل واحد تبنى أعماله على مذهبه وطريقته التي هي خلقه وطبيعته، ونأخذ من هذا أن الذي نوجه إليه الإهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر. وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فعل

_ (1) 1/ 109 الكافرون.

مراقبة الله في السلوك

المؤمن ما يناسب إيمانه: فإن كل أحد يعمل على طريقته وطبيعته اللائقة به، ولا يليق بالمؤمن ولا يشاكله إلا الصدق في القول والعمل والعدل والاحسان والوفاء والأمانة، فلا يظلم من ظلمه ولا يخون من خانه ولا يكذب على من كذب عليه، فلا تجرى أفعاله في مقابلة الناقص على ما يشاكل ذلك الناقص، بل تجرى أفعاله على ما يشاكله هو في إيمانه وكماله. مراقبة الله في السلوك: فإن علمنا بأنه أعلم بمن هو أهدى سبيلاً يدعونا إلى المبالغة في تقويم سلوكنا حتى تكون على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فإنه هو أهدى الطرق وأقربها، وما ذلك الصراط المستقيم إلا القرآن العظيم والهدي النبوي الكريم وسلوك السلف الصالح، وذلك هو دين الإسلام. نسأل الله تعالى أنَّ لنا ولجميع المسلمين الإستقامة والنجاة يوم القيامة بمنه وكرمه آمين (1). ..

_ (1) ش: ج7 م7 ص423 - 428 ربيع الأول 1350 - جويليه 1931

الود من إكرام الله لأولياء الله

الْوُدُّ مِنْ إِكْرَامِ اللَّهِ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ سبب النزول، ووعد السابقين: كان السابقون الأولون من المؤمنين أول الاسلام بمكة -مبغوضين من أهل مكة المشركين مهجورين منهم مزهوداً فيهم. ومن أشد الآلام على النفس وأشقها أن يعيش الإنسان بين قومه مبغوضاً مهجوراً، مزهوداً فيه، خصوصاً مثل تلك النفوس الحية الأبية. فأنزل الله هذه الآية تأنيساً لأولئك السادة ووعداً لهم بأن تلك الحالة لا تدوم، وأنه سيجعل لهم وداً فيصيرون محبوبين مرغوباً فيهم. وقد حقق الله وعده: فكان أولئك النفر بعد السادة المقدمين من أقوامهم وعشائرهم لسبقهم وفضلهم وكانوا- وهم قادة الجيوش في الفتوحات الاسلامية- المحبوبين هم وجيوشهم المرغوب فيهم من الأمم التي فتحوها لعدلهم ورحمتهم ورفعهم لنير الإستعباد الديني والدنيوي الذي كانت تئن تحته تلك الأمم، وأثبت التاريخ أن بعض الأمم الأجنبية دعتهم إلى إنقاذها من أيدي رؤسائها. فكانت هذه الآية من آيات الإعجاز بالإعلام بما يتحقق في الإستقبال مما هو كالمحال في الحال فكان على وفق ما قال. عموم الوعد لعموم اللفظ: الإيمان- وهو التصديق الصادق المثمر للأعمال- والأعمال

_ (1) 96/ 19 مريم.

سبب الود وسبب الجعل

الصالحة- وهي المستقيمة النافعة المبينية على ذلك الإيمان- هما اللذان جعلهما الله سبباً في تحقيق جعل هذا الود لما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. فيعم ذلك كل أهل الإيمان والعمل الصالح. وهم أولياء الله و {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} سبب الود وسبب الجعل: تكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم، منها القرابة ومنها الصداقة، ومنها صنائع المعروف، ومآثر الإحسان. أما هذا الود الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات فسببه جعل من الله له في قلوب العباد لهم دون تودد منهم ولا توقف على تلك الأسباب فيودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة ولا وصل إليه منهم معروف فهذا نوع من الود خاص يكرمهم الله به وينعم عليهم به الرحمن من جملة نعمه التي يحدثها ويجددها لهم زيادة على ما يقتضيه الإيمان والعمل الصالح- ومنه الإحسان- من مودة القلوب. أما سبب هذا الجعل والوضع والإيجاد من الله لهذا الود والإكرام به فهو الإيمان والعمل الصالح، وهما سبب لإكرامات كثيرة من الله تعالى. هذا الجعل للود منها. بشارة وتثبيت: في الآية من سبب نزولها بشارة لدعاة الحق وأنصار السنة ومرشدي الأمم عندما يقومون بدعوة القرآن في عشائرهم ويلقون منهم النفور والإعراض والبغض والإنكار ويجدون أنفسهم غرباء بينهم، يعاديهم من كانوا أحبابهم ويقاطعهم أقرب الناس قرابة إليهم، ويصبح يؤذيهم

دفع إشكال

من كان يحميهم ويدافع عنهم- في الآية بشارة لهم بأن تلك الحالة لا تدوم وأنهم سيكون لهم على كلمة الحق مؤيدون وفي الله محبون، وسيكون لهم ود في القلوب ممن يعرفون وممن لا يعرفون. وفيها أيضاً تثبيت لهم في تلك الغربة ووحشة الإنفراد بما يكون لهم من أنس الود وأي ود هو. ود يكون من جعل الرحمن. دفع إشكال: الآية منظور فيها إلى مجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وغالبهم، فلا يشكل علينا أن منهم من يموت في غربة الحق قبل أن يكون له على الحق أنصاره، ومنهم من يموت غير معروف من الناس. كما أن الود الذي يجعل لهم غير منظور فيه للعموم فلا يشكل ببغض من يبغضهم تعصباً لهوى آو تقليداً لضال أو حرصاً على منفعة ومحافظة على جاه أو منصب أو مال. تفسير نبوي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله اذا أحب عبد دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول اني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي (جبريل) في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض) رواه بهذا اللفظ مسلم ورواه البخاري وغيرهما. وزاد الطبراني: (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} فارتبط الحديث بالآية بزيادة الطبراني. وبين النبي- صلى الله عليه وسلم-

تبيين وتعيين

بقراءة الآية أن هذا القبول الذي يجعل لمن أحبه الله في أهل الأرض- والمراد بهم من يعرفونه منهم- هو نوع الود المذكور في الآية، وبين أن أهل القبول في الأرض محبوبون في أهل السماء قبل أهل الأرض، وبين أن سبب ذلك القبول هو محبة الله لهم، فمن أحبهم حببهم لعباده. ولما كان سبب القبول محبة الله لهم بيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أن بغض الله سبب في بغض الخلق لهم إذا ما تسبب عن أحد الضدين يتسبب عن الآخر ضده. ولما كانت محبة الله مسببة عن الإيمان والعمل الصالح فبغض الله مسبب عن ضدهما، إذ ما تسبب عنه أحد الضدين يتسبب عن ضده الضد الآخر. وكما كان ذلك الود والقبول يكون شيئاً زائداً على ما تقتضيه أسباب الود بين الناس، كذلك تكون هذه البغضاء التي يهين الله بها ويعاقب من يشاء زيادة على ما تقتضيه أسباب البغضاء بينهم، فيكون هذا الذي وضعت له البغضاء- والعياذ بالله- مبغوضا حتى ممن لم يكن منه إليه شيء من أسباب البغض. تبيين وتعيين: قد يكون الإتباع والمحبون والراغبون لأهل الحق ولأهل الباطل لأئمة الهدى ولرؤوس الضلال لدعاة الإتباع ولدعاة الإبتداع. ولكن أهل المحبة من الله والود والقبول من العباد هم أهل الحق وأئمة الهدى ودعاة الإتباع للكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالحون، لا لأنفسهم والتحزب لهم وجلب النفع لهم، والذي يعينهم لهذه الكرامة دون غيرهم هو إتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم في سيرته ودعوته. وما كانت دعوته إلا للقرآن وبالقرآن دون أن يسأل على ذلك من أجر. وهذا لأن الود والقبول عند العباد مسببان عن محبة الله للعبد، ومحبة الله لا تكون إلا للمتبعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:

إرشاد

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1). فكرامة الود والقبول إنما هي للمتبعين له- صلى الله عليه وآله وسلم- فأما غيرهم فما يكون لهم من قبول عند أمثالهم فهو فتنة وبلاء عليهم. إرشاد: أفادت الآية الكريمة والحديث الشريف أن على المسلم أن يتمسك بالإيمان والعمل الصالح والإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ولو كان في قوم انفرد بينهم بذلك وحده. ولا يستوحش من انفراده بينهم. فحسبه رضى الله ومحبته وكفى بهما أنساً وليثق بأنه- إن صدق- ومد الله في عمره يكون له ود وقبول في عباد الله وأنس بمن يحبهم ويحبونه لله وتلك المحبة النافعة الدائمة والصلة المتينة الجامعة التي تجمع بين أهلها في الدنيا والأخرة. جمعلنا الله والمسلمين من العاملين له المتحابين فيه (2).

_ (1) 3/ 31 آل عمران. (2) ش: ج4 م12 ص 199 - 203 ربيع الثاني 1354 - 3 جويلية 1935

من آداب المتعلم حسن التلقي وطلب المزيد

مِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ حُسْنُ التَّلَقِّي وَطَلَبُ الْمَزِيدِ {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ لا حياه إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالماً إلا من كان متعلماً، كما لن يصلح معلماً إلا من قد كان متعلماً. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله معلماً، كان أيضاً متعلماً. علمه الله بلسان جبريل، فكان متعلماً عن رب العالمين ثم كان معلماً للناس أجمعين. أرأيت أصل العلم ومن معلموه ومتعلموه؟ ثم أرأيت شرف رتبة التعلم والتعليم. لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها ولرتبة التعليم آدابها. وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في آدابهما بما أدبه الله وأنزل عليه من الآيات فيهما، مثل آيتنا اليوم وغيرها. لزوم الصمت عند السماع: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنزل عليه جبريل- عليه السلام- بالوحي وقرأه عليه قرأ معه وساوقه في القراءة وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم لحرصه على حفظه وعدم نسيانه، حتى يبلغه كما أنزل عليه. ولأن تعلق قلبه بما يسمع من جبريل وامتلأه به واستيلاء ذلك المسموع على لبه يدعوه إلى النطق به لما بين القلب واللسان

_ (1) 114/ 20 طه.

تأكيد الصمت بكف اللسان

من الإرتباط، ولأن شوقه إلى ذلك المسموع ومحبته ورغبته فيه تبعثه على التعجيل بقراءته، غير أن القراءة عند السماع وقبل تمام الإلقاء تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يُضْعِفُ عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا أوصى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل من قبل أن يقضي ويتمم إليه وحيه فقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} تأكيد الصمت بكف اللسان: لا يتم تفرغ القلب للوعي إلا بسكون اللسان فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع حتى ينكف اللسان عن الحركة فلا تكون قراءة لا جهراً ولا سراً فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (1) ثم بين أن الله يجمعه في قلبه- صلى الله عليه وآله وسلم- بالحفظ وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (2) أي قراءتك إياه، ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل إذا قرأه عليه فيقرأه كما قرأه بعد فراغه بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) أي فإذا قرأه جبريل وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأ كما قرأه. وأنه تعالى يبينه بأقوال نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- وأفعاله بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (4)

_ (1) 16/ 75 القيامة. (2) 17/ 75 القيامة. (3) 18/ 75 القيامة. (4) 19/ 75 القياهة.

هذا الأدب أدب عام

هذا الأدب أدب عام: إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام ليفهم المراد. فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض مما يلقيه إليه حتى يفرغ المعلم من إلقائه كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته، وعلى كل قارىء لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم فيحفظ وفهم المناظر فيرد ويقبل وفهم القارىء فيعرف ما يأخذ ويترك وفهم السامع لتحصل فائدة الإستماع، وبترك هذا الأدب كثيراً ما يقع سوء الوعي أو سوء الفهم وفوات القصد من المناظرة أو القراءة أو الكلام. دوام التعلم للإزدياد من العلم: يتعلم الإنسان حتى يصير عالماً ويصير معلماً، ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل به فلن يزال بحاجته إلى العلم ولن تزال أمامه فيما علمه، وعلمه أشياء مجهولة يحتاج إليها فعليه أبداً أن يتعلم وأن يطلب المزيد. ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأعظم- أن يطلب من الله- وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم- أن يزيده علماً فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}. تحذير واقتداء: ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا من علم عن العلم فوقف بهم عندما انتهوا إليه فجمدوا وأكسبهم الغرور بما عندهم فتعظموا وتكلموا فيما لم يعلموا فضلوا وأضلوا وكانوا على أنفسهم وعلى الناس شر فتنة وأعظم بلاء فبمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلى

بهذا المرض فيقلع عن جموده وغروره ويزداد مما ليس عنده ممن عنده علم ما لم يعلم. ويحذر من أن يقف عن طلب العلم ما دام فيه زمن من الحياة، ويقتدي بهذا النبي الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- فلن يزال يطلب من الله تعالى أن يزيده علماً بما ييسر له من أسباب وما يفتح له من خزائن رحمته وما يلقيه في قلبه من نور وما يجعل له من فرقان وما يوفقه إليه من أصل ذلك كله وهو تقوى الله والعمل بما عليه. نسأل الله لنا وللمسلمين العلم النافع والعمل الصالح. فهو ولي الهداية والتوفيق (1).

_ (1) ش: ج5 م11 ص 275 - 278 جمادى الأولى 1354 - أوت 1935

من وعد الله للصالحين

مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لِلْصَّالِحِينَ {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما مضى في السورة ذكر الأنبياء عليهم السلام وأممهم وختم الحديث عنهم بذكر الساعة وقربها ومقدماتها وأحوال الخلق يوم القيامة- جاء في هذه الآية ذكر الأمة التي جاءت بعد تلك الأمم كلها، وهي أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-. توجيه: وإنما كانت هذه الآية في أمة محمد، لأنه لما تكلم على الأمم الخالية لم يبق الكلام إلا عليها، فخوطبت بما قضاه الله وكتبه من إرث الصالحين الأرض. والمخاطبون به بهذه الآية المكية هم المؤمنون بالله الموحدون له المتبعون لرسوله محمد- صلى الله عليه وسلم- المصدق لجميع الرسل عليهم السلام، وهم أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وهم الصالحون الموجودون يوم ذلك على وجه الأرض، فكانت الآية إعلاماً بما كتبه الله لهم ووعداً بإرثهم الأرض. الألفاظ: (الزبور): بمعنى المزبور، أي المكتوب. والمراد به جنس ما أنزله

_ (1) 21/ 105 الأنبياء.

الله من الوحي على رسله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بكتابته. وقرأ حمزة: الزبور جمع زبر، أي كتاب فعَيَّنت هذه القراءة المراد بالزبور في القراءة الأولى الكتب المنزلة، لا خصوص زبور داوود عليه السلام. الذكر: المراد به هنا اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء قبل أن يخلق الخلق، وجاء تسميته بالذكر فيما رواه البخاري في مواضع من صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله ضليه وسلم-: كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر شيء وخلق السموات والأرض ومما كتبه في الذكر ما أنزله على رسله عليهم السلام كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}. الأرض: جنس الأرض الدنيوية، لأن هذا اللفظ موضوع لها، فإذا أطلق إنصرف إليها، وبهذا فسرها ابن عباس من طريق علي ابن طلحة، وهي أصح طرقه. يرثها: تنتقل إليهم من يد غيرهم، وأصل الإرث الإنتقال من سالف إلى خالف، وقد يطلق في غير هذا الموضع على أصل التمليك مجازاً. الصالحون: الصالح من كل شيء هو ما استقام نظامه فحصلت منفعته، وضده الفاسد وهو ما اختل نظامه فبطلت منفعته. ويظهر هذا من تتبع مواقع الإستعمال فإذا قالوا هذه آلة صالحة عنوانها محصلة للمنفعة المرادة منها لانتظام أجزائها، وإذا قالوا آلة فاسدة عنوانها لا تحصل المنفعة لاختلال في تركيبها. والصالح في لسان الشرع- قرآناً وسنة- لم يخرج عن هذا المعنى حيثما جاء. فالصالح

_ (2) 85/ 21 - 22 البروج

المعنى

هو من استنار قلبه بالإيمان والعقائد الحقة، وزكت نفسه بالفضيلة والأخلاق الحميدة، واستقامت أعماله وطابت أقواله، فكان مصدر خير ونفع لنفسه وللناس. استقام نظامه في عقده وخلقه وقوله وعمله، فعظمت وزكت منفعته، وهذا هو معنى الصالحين حيثما جاء كما في قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وكما في التشهد: «السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» وقد بين القرآن من هم الصالحون بياناً شافياً وكافياً بذكر صفاتهم مثل قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (1). المعنى: يخبرنا الله تعالى أنه كتب في الكتب التي أنزلها على رسوله من بعد ما كتب في اللوح المحفوط الذي هو أصل تلك الكتب أن الأرض يرثها ويملكها عباده الصالحون أهل العقائد الصحيحة والأخلاق الكريمة والأعمال المستقيمة الذين ينفعون العباد والبلاد. تطبيق: خاطب الله بهذه الآية المؤمنين بمكة وهم في قلة عَدد وعُدد يعدهم بذلك- لا بطريق صريح- أنهم يرثون الأرض ويكون لهم فيها القوة والنفوذ. ويبعثهم بتعليق الوعد بوصف الصلاح على التمسك به والإزدياد منه والإستمرار عليه، ثم صرح لهم بالوعد بعد في سورة النور وهي مدنية بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ

_ (1) 113/ 3 - 114 آل عمران.

تعميم وتقييد

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1). وقد حقق الله لهم هذا الوعد ففتح لهم الفتوح وأورثهم ملك كسرى وقيصر ومد لهم ملكهم في الشرق والغرب، وأولئك الذين كانوا في قلة وخوف يوم نزلت الآية المكية هم الذين شاهدوا ذلك النصر وتلك الفتوح وترأسوا ذلك الملك العريض. تعميم وتقييد: علق الوعد بالوصف، وهو الصلاح، ليعلم أنه وعد عام، ولتعلم كل أمة صالحة أنها نائلة حظها- ولا محالة- من هذا الوعد. واقتضى هذا التعليق بالوصف أيضاً تقييده بأهله، فإذا زال وصف الصلاح من أمة زال من يدها ما ورثت. ونظير هذا التقييد قوله في آية النور: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. تنظير: مثل هذه الآية فيما تضمنته من الوعد الذي يقوي به قلوبهم ويثبت إيمانهم ويظهر به صدق نبيه- صلى الله عليه وسلم- بما أعلمه به من غيب- أحاديث صحيحة (2). كقول النبي- صلى الله

_ (1) 55/ 24 النور. (2) البخاري في باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين.

إشكال وحله

عليه وسلم- لخباب رضي الله عنه وقد لقي الصحابة من المشركين شدة فسأله أن يدعو فقال له النبي- صلى الله عليه وسم-: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله". وكقوله (1) - صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم: (فان طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى) وقد امتدت به الحياة حتى رأى ذلك ومثل هذا أحاديث أخرى في الصحيح. فقد تطابقت الآيات والأحاديث في هذا الوعد وقد صدق الله وعده لعباده الصالحين. وصدق نبيه- صلى الله عليه وسلم- بما لم يكن يعلمه أحد ولا يرى شيئاً من أسبابه بل لا يرى إلا ما هو مناف له. ولكن العاقبة للمتقين. إشكال وحله: قال أناس إن أرض الدنيا كما يستولي عليها الصالحون يستولي عليها غيرهم، والأرض التي لا يرثها إلاَّ الصالحون هي أرض الجنة، فيجب تأويل الآية بها. والجواب: أن هذا التأويل إنما يحتاج إليه إن لو كانت الآية هكذا (إن الأرض لا يرثها إلا عبادي الصالحون) بطريق الحصر فيهم. أما لما كانت الآية لا حصر فيها فلا حاجة إلى هذا التأويل بل في لفظ الإرث وربطه بوصف الصلاح دلالة على أنها كانت لغيرهم، فانتقلت إليهم، وأنها تزول مع زوال وصف الصلاح. وقد جاء التنبيه على أن الأرض يرثها الصالحون وغيرهم في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ

_ (1) البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام.

إيراد وجوابه

يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1) فيرثها الصالحون نعمة ويرثها غيرهم فتنة ونقمة كل ذلك حسب مشيئة الحكيم الخبير. إيراد وجوابه: قد يقال: فما هي الفائدة إذاً في تخصيص الصالحين بالذكر في هذه الآية؟ والجواب: 1 - أن هذه الآية خوطب بها أول الناس الصحابة بمكة، وهم الصالحون في الأرض ليعلموا ما وعدهم الله به وليعلموا أن قوة الباطل إلى ضعف، وأن ضعف الحق إلى قوة. 2 - ولأن شأن الصالحين- أنَّى كانوا أن يكو نوا- قليل سيما أول أمرمم فهم بحاجة إلى أن يعلموا هذا الوعد ليزدادوا إيماناً وقوة وثباتاً. 3 - ولأن الخلق مفتونون بالكثرة في العدد والعدة غافلون عن القوة الروحية والأخلاقية وما ينشأ عنهما من استقامة لا يحسبون لذلك حساباً، فيحتاجون إلى العلم بأن الصالحين نائلون حظهم من هذا الوعد، وإن كانوا قلة في الناس. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2). تحذير من تحريف: رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة على الأرض- وهي

_ (1) 227/ 7 الأعراف. (2) 249/ 2 البقرة.

موعظة وإرشاد

مدنية مادية في نهجها وغايتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحق والعدل والرحمة والإحسان- فقالوا إن رجال هذه المدنية هم الصالحون الذين وعدم الله بإرث الأرض. وزعموا أن المراد بالصالحين في الآية: الصالحون لعمارة الأرض. فيالله للقرآن وللإنسان، من هذا التحريف السخيف، كان عبارة الأرض هي كل شيء ولو ضلت العقائد، وفسدت الأخلاق، واعوجت الأعمال وساءت الأحوال، وعذبت الإنسانية بالاأزمات الخانقة، وروعت بالفتن والحروب المخربة الجارفة وهددت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها، هذه هي بلايا الإنسانية التي يشكو منها أبناء هذه المدنية المادية التي عمرت الأرض وأفسدت الإنسان، ثم يريد هذا المحرف أن يطبق عليها آية القرآن: كتاب الحق والعدل والرحمة والإحسان، وإصلاح الإنسان ليصلح العمران. فاما الصالحون فهو لفظ قرآني قد فسره القرآن كما قدمناه وقد شرَّف أهله بإضافتهم إلى الله في قوله: {عِبَادِي} فحمله على الصالحين لعمارة الأرض تحريف للكلام عن مواضعه أبشع التحريف وأبطله فليحذر المؤمن منه ومن مثله من تحريفات المبطلين والمفتونين. موعظة وإرشاد: فعلى الأمم التي تريد أن تنال حظها من هذا الوعد أن تصلح أنفسها الصلاح الذي بينه القرآن، فأما إذا لم يكن لها حظ من ذلك الصلاح فلا حظ لها من هذا الوعد، وإن دانت بالإسلام. ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء وكل محاولة لصدها عن غايتها- وهو آخذ بها- مقضي عليها بالفشل. سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحولها؟

{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (1) ثم {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (2 و 3).

_ (1) 42/ 35 فاطر. (2) 33/ 7 الأعراف. (3) ش: ج 6 م 11 ص 339 - 345 جمادى الثانية 1354 - سبتمر 1935

دفاع الله عن المؤمنين

دِفَاعُ اللَّهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (1). ــــــــــــــــــــــــــ الكلمات: دفع الشيء صده ورده، والدفاع عن الشيء حمايته بصد ما يؤذيه عنه وقُرىء في المتواتر (يدفع) وقُرىء (يدافع) وهو بمعنى يدفع، ولكنه أريد قوة الدفع، فجيء بفاعل الذي يقتضي المغالبة في أصله، لأن دفع المغالب أقوى وأبلغ. أو لأن ما يهيئه الله لهم من أسباب الدفع التي يباشرونها مقابلة لما يقصدُهم به أضدادهم، فكان الدفع من الجانبين، خان إذا ضيع ما جعل في حفظه وعهدته، والخوان الكثير التضييع لما استحفظ. والكفور الكثير الجحود للنعم فلا يعترف بها أو لا يؤدي شكرها. التراكيب: عندما يكون المؤمنون في قلة وضعف وأعداؤهم في كثرة وقوة- كالحالة التي كان عليها المؤمنون يوم نزلت الآية بعيد الهجرة- تشك النفوس في سالامتهم من كيد عدوهم، فلذا جاء هذا الخبر مؤكداً بأن. ولكون هذا الدفع متجدداً جيء بالفعل مضارعاً. ولبيان سبب الدفع جيء بالجملة المستأنفة بعد الجملة الأولى وأكدت بأن لأن الأولى

_ (1) 22/ 38 الحج.

التفسير

تحمل المخاطب علا أن يسال سؤال المتردد: هل هؤلاء المدفوعون أعداء مبغوضون؟ فأجيب بالتأكيد. وحذف مفعول يدافع ليعم كل ما يدفع فشمل كيد الكائدين. التفسير: هذا من الله تعالى خبر حق ووعد صدق للمؤمنين بأنه يرد عنهم كيد أعدائهم ويبطل مكرهم ويكف شرهم وإن عظم ذلك منهم وكثر. وأن هذا منه لهم متكرر متجدد. ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم وعهده لديهم واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضي عنهم فأيدهم ونصرهم ودافع عنهم، ولأن أعداءهم ضيعوا أمانة الله عندهم بارتكاب المنهيات وترك المأمورات وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أو ما جاءهم به من شرعه فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين. تحرير في التعليل: إن الحب من الله والبغض كسائر أفعاله لا تقع إلا على وجه الحق والعدل والسداد، وهذا أمر واجب لأفعال الرب الحكيم. فالمؤمنون أحبهم ونصرهم لإيمانهم، وأعداؤهم أبغضهم وخذلهم لخيانتهم وكفرهم. واقتضت هذه المقابلة أن الخيانة والكفر من صفات أضدادهم وليست من صفاتهم. فإيمانهم مستلزم لأمانتهم بحفظ عهد الله عندهم في نفوسهم وعقولهم وأبدانهم وجميع ما لديهم على جميع أحوالهم، ومستلزم لاعترافهم بنعم الله وشكره عليها باستعمالها في طاعته وطلب المزيد من بره، وأمانتهم هذه وشكره هي مظهر إيمانهم الذي يميزهم عن أضدادهم ويدل على صدقهم في ذلك الإيمان ورسوخه في قلوبهم. فإذا أعدمت منهم الأمانة فخانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم وفشت الفواحش والمناكر والبدع فيهم وصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه،

خيانة دون خيانة وكفر دون كفر

وإذا بطروا نعم الله عندهم فعطلوا منها ما عطلوا بجهلهم وكسلهم وقعودهم عن الخير وأسباب الحياة والسعادة، واستعملوا منها ما استعملوا في الشر والفساد واتباع الشهوات- إذا كانوا هكذا فقد استوجبوا غضب الله وبغضه ونقمته وحرموا نصرته ودفاعه وكانوا هم الظالمين. خيانة دون خيانة وكفر دون كفر. الخيانة خيانتان خيانة عقيدة وخيانة أعمال، وكذلك الكفر وكذلك النفاق وكذلك الشرك وإنما يخرج المرء عن أصل الإسلام بما كان في أصل العقيدة، لا بما كان في الأعمال إلا عملاً يدل دلالة ظاهرة على فساد العقيدة وانحلالها. وعلى هذا عقد البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح أبواباً في ظلم دون ظلم وكفر دون كفر. تطبيق: لما كان المسلمون أهل الإيمان والصدق والشكر والأمانة دافع الله عنهم وقد شهد التاريخ بذلك من الله لهم، فلما خانوا وكفروا تركهم ومكن منهم. ولكنه برحمته وعدله لم ينس لهم أصل إسلامهم فأبقى لهم أصل وجودهم الذاتي. وهم لحم على وضم بين الأمم لا يستطيعون دفعاً عن أنفسهم. وأبقى لهم أصل وجودهم الروحي بكتابه المثلو بين ظهرانيهم رغم إعراضهم عن تدبره وهجرهم لما فيه- عساهم يرجعون. تنبيه وتحذير: كل عمل لا يحل فهو خيانة وإن كان بأدنى إشارة، وقد نبَّه الله على هذا بقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} (1) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم.

_ (1) 19/ 40 المؤمن.

سؤال وجوابه

وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم آثره وانتشار ضرره. ولهذا جاء ما جاء من الوعيد الشديد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين فغشهم ولم ينصح لهم. فحَق على المسلم أن يحذر من الخيانة دقيقها وجليلها وخصوصاً ما اتصل بالناس منها ويتنبه من أقل كلمة وأدنى إشارة توقعه في ضطرها. سؤال وجوابه: فإن قيل: قد نجد من عباد الله المؤمنين من يصيبه البلاء والشدة فيعذب وقد يقتل وكأين من نبي قتل، وقد أصاب المؤمنين يوم أحد ويوم حنين ما أصابهم. فالجواب: أن دفع الله يكون بأسباب وأنواع وعلى وجوه تختلف بحسب الحكمة ولا تخلو كلها من دفاع، فإن ما يصيب المؤمنين من البلاء في أفرادهم وجماعتهم هو ابتلاء يكسبهم القوة والجلد ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصير منهم، فيتداركوا أمرهم بالإصلاح والمتاب، فإذا هم بعد ذلك الإبتلاء أصلب عوداً وأطهر قلوباً وأكثر خبرة وأمنع جانبا، وإنَّ في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه والظلم الذي لا يقدر على إزالته لبعثاً للقوة في نفس غيره ممن يأتسى به، وضعفاً في قلب ظالمه. وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين. مشاهدة وتوصية: نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلاَّ بدفع الله وبطل كيد الكائدين فيها بمحض صنع الله، وقد كنا فيها- فيما نرى- على شيء من العمل لله. فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله. وهذه المشاهدة التي شاهدنا- ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا- توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله والمحافظة على العهد

والثقة به، فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع وينيل أهله العزة والحفظ، فعلى المسلم أن يعمل لذلك ويعتد به ثقة بالله وصادق وعده. والله لا يخلف الميعاد (1).

_ (1) ش: ج 9 م11 ص 491 - 495 رمضان 1354 - ديسمبر 1935

أكل الحلال والعمل الصالح

أَكْلُ الْحَلَالِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1). ــــــــــــــــــــــــــ الكلمات: الطيب ما صلح واعتدل في نفسه وسلم من كل ما يفسده ويخرجه عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذاً للنفوس سواءاً كان مما يدرك بالسمع أو بالبصر أو بالذوق أو بالشم أو باللمس أو بالعقل. فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية. ويقابله الخبيث وهو المستقذر حساً أو عقلاً وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) فما أحلَّ الله إلا الطيب المستلذ، وما حرم إلا الخبيث المستقذر. فلهذا صار الطيب في لسان الشرع يجيء كثيراً بمعنى الحلال ويكون ضده الخبيث بمعنى الحرام. ومنه: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي المحللات، فملك غيرك، وإن كان مستلذا في الحس فإنه ليس طيباً لك شرعاً، وذلك لأنه مستقذر في العقل بما فيه عند تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل. وقد يجيء الطيب بمعنى الجيد، والخبيث بمعنى الرديء، وعليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا

_ (1) 23/ 51 المؤمنون. (2) 156/ 7 الأعراف.

التراكيب

أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1). الصالح هو المستقيم النافع، وهو فعل المأمورات وترك المنهيات وتناول المباحات من حيث أنها مباحات أو وسائل لفعل المأمورات وترك المنهيات. التراكيب: للإهتمام بالمأمور به قدمت قبل الأمر جملة النداء. ولأن هذا المأمور به مما يجب عليهم تبليغه نودوا بلفظ الرسل. ولأن كل واحد منهم أوحى الله إليه بهذا النداء والأمر في زمانه كان النداء والأمر للجميع، وقد دخل في الجمع عيسى- عليه الصلاة والسلام- الذي كان الحديث عليه في الآية التي قبل هذه وهي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (2). كما دخل في الجمع محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي نزلت عليه هذه الآية. ولأن المقصود من الأكل- وهو الغذاء واللذة- يحصل ببعض قبل (من الطيب) بمن التبعيضية. ولما كان المخاطب بكل الحلال والعمل الصالح شأنه أن تتشرف نفسه لتعيين ثمرة ذلك جاء الخبر مؤكداً بأن في {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعلم الله مستلزم لجزائه للعاملين فكان كناية عن الجزاء وفي الكناية عن الجزاء بالعلم تفخيم لهذا الجزاء وتعظيم فهو جزاء الله العليم وكفى به.

_ (1) 267/ 2 البقرة. (2) 23/ 50 المؤمنون.

التفسير

التفسير: خلق الإنسان مركباً من روح وبدن، وإنما بقاء بدنه بالغذاء، وإنما كمال روحه بالعمل، فأمر الله بالأكل لبقاء البدن واشترط أن يكون من الطيبات لأنها هي التي تغذي ولا تؤذي. أما الخبائث ففيها الأذى ويتفه أو يعدم منها الغذاء. وأمر بالعمل الصالح الذي فيه زكاء للنفس ونفع لها في العاجل والآجل وخير للعباد والبلاد. وأخبر بعلمه بعمل العاملين ليجتهدوا في العمل ويخلصوا له فيه وينتظروا جزاءهم من عنده. والدِّين كله عمل صالح وتوحيد خالص. وقد انتظمتهما الآية تصريحاً في العمل واستلزاماً في التوحيد. وبيَّن- تعالى- بهذه الآيتان هذا الذي اشتملت عليه هو دين الله لجميع الأمم أوصى به رسله- صلوات الله عليهم- ليبلغوه لخلقه فهو حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه. توجيه الترتيب: تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحاقظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل، فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلَّها الله كما حرم غلاة المتصوفة اللحم، وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها كما يفعله متصوفة الهنادك ومن قلدهم من المنتسبين للإسلام. والميزان العدل في ذلك هو ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه- رضي الله عنهم- وقد بيَّن ذلك أئمة السنة والأثر رحمهم الله، وقد جوده مالك- رضي الله عنه- في كتاب الجامع من الموطأ. وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه على أنه هو الذي يثمرها، لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن فتصلح الأعمال كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن فتفسد الأعمال.

بيان نبوي

بيان نبوي: خرج مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيها الناس، إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. وإن الله تعالى أمر المؤمنينن بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) (2). فبين الحديث الشريف أن الله طيب أي منزه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله، تنعم العقول والأرواح بمعرفته- كما يليق به- ومحبته. وأنه لا يقبل من الأعمال إلا طيباً أي صالحاً في نفسه خالصاً من شوائب المخالفة والرياء والشرك وبين أن الشرع عام للرسل وللأمم ولا يستثنى من هذا إلا ما دل الدليل على اختصاصه بالرسل وبيَّن أن أكل الحلال هو الذي يثمر قبول الدعاء والدعاء هو مخ العبادة فإذا ردَّ عليه فقد ردت عليه عبادته فكان هذا البيان النبوي على مقتضى ما أفاده ترتيب الأمرين في الآية. تكميل: في آية الرسل الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالعمل الصالح واستلزام الأمر بالإخلاص، وفي آية المؤمنين الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالشكر والتصريح بلزوم توحيده تعالى في العبادة لأن تمامها هكذا:

الإهتداء

{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) واقتصر في الحديث على الأمر بالأكل من الطيبات إما لأن الأكل كان في الحديث على أكل الحلال، وإما لأن الراوي اختصر الرواية. الإهتداء: على المؤمن أن يتحرى في مأكله ومشربه وكل ما فيه قوام ذاته الحلال الطيب يمتثل بذلك أمر الله ويقصد التوصل به إلى العمل الصالح وعليه أن يتحرى في فعله وتركه أمر الله ونهيه حتى يكون عمله عملاً صالحاً طيباً متقبلاً. يمتثل بذلك أمر الله ويقصد قبول عبادته ودُعائه لديه. والمتحري للحق والخير جدير بالتوفيق إليه وكثرة إصابته. رزقنا الله والمسلمين التحري لطاعته والتوفيق لمرضاته والتأدب بكتابه آمين (1).

_ (1) 172/ 2 البقرة. (2) ش: ج11 م11 ص 587 - 590 ذو القعدة 1354 - ففري 1936

الإجتماع العام للأمر الهام وارتباط الجماعة بأمر الإمام

الْإِجْتِمَاعُ الْعَامُّ لِلْأَمْرِ الْهَامِّ وَارْتِبَاطِ الْجَمَاعَةِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ -1 - القرآن العظيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1). ــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: الأمر الجامع هو الحادث الذي يتطلب الاجتماع بطبيعته فيجمع الإمام الناس من أجله، من ذوي الرأي والمعرفة بمثله، والخبرة والتجربة فيه، من كل من يعم نفعه، أو ضرره من أمور السلم والحرب وشؤون الحياة والاجتماع، ليتشاوروا فيما بينهم ويستضيئوا بعضهم لرأي بعض. والإستئذان: هو طلب الإذن من الإمام بمفارقة الإجتماع لعذر قاض بالمفارقة.

_ (1) 24/ 62 - 63 النور.

المعنى

المعنى: يأمر الله المؤمنينن إذا كانوا مع رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- على أمر جامع ألا يفارقوا مجلسه كلهم أو بعضهم إلاَّ بإذنه. وأكَّد هذا الأمر بما وطأ له من ذكر الإيمان بالله ورسوله تنبيهاً على أنه من مقتضاهما، وبقرنه بهما وجعله ثالثاً لهما تعظيماً لشأنه، وتنبيهاً على ملازمته لهما ممن صدق فيهما (1). حتى كان غير المستأذنين لا إيمان لهم، وبإعادته في الجملة الثانية، ببيان أن الذين يستأذنون هم دون غيرهم الثابتون في إيمانهم المستمرون عليه، تعريضاً بالذين لا يستأذنون وتقبيحاً لحالهم، بأنهم لا ثبات لهم في الإيمان ولا استمرار منهم على العمل به، فليسوا بالمؤمنينن ولا بالذين يؤمنون. ثم جعل الخيار لرسوله في الإذن وعدم الإذن لهم إذا استأذنوه لبعض شأنهم تعظيماً لأمر الاجتماع وتعظيماً للصالح العام وتوكيداً لحق الإمام على الجماعة لحفظ الإجتماع وتتميم الأعمال. ثم أمره أن يستغفر لهم، فقد يكون العذر دون الاضطرار، وقد يكون ما فاته من بركات الاجتماع، وحسنات المشاركة فيه بالرأي والإهتمام، وتكثير السواد- بسبب ذنب كان منهم في أمر غير الاجتماع، وأكد هذا الأمر بأنه الكثير المغفرة لعباده الدائم الرحمة بهم. الأحكام: لما كان الاجتماع شُرع للمصلحة، والذهاب بدون استئذان حُرِّم للمفسدة، فالمشروعية والتحريم دائمان بدوام المصلحة والمفسدة: فأحكام الآية مستمرة الأحكام عامة للمسلمين في كل زمان وكل مكان، مع أئمتهم وقادتهم المقدمين منهم فيهم في كل ما يعرض من اجتماع لصالح عام.

_ (1) كذا في الأصل ولعله (بهما).

بيان مراد، ودفع اغترار واعتراض

فمن أحكام الآية الكريمة- أن على أئمة المسلمين وذوي القيادة فيهم إذا نزل بهم أمر هام أن يجمعوا جماعة المسلمين الذين يرجى منهم الرأي والعمل فيما نزل، فلا يجوز لهم أن يهملوا أمرهم، ولا أن يسبتدوا عليهم، وأن على المسلمين أن يجتمعوا إليهم ويكونوا معهم، يظاهرونهم ويؤيدونهم وينصحون لهم، فلا يجوز لهم أن يتخلفوا عنهم، ولا أن يخذلوهم، وأنَّ على المجتمعين أن لا يذهب واحد منهم إلا بإذن- وأن لا يستأدن إلا لعذر ببعض الشأن، وأن على الإمام أن ينظر في الإذن وعدمه فيفعل ما هو أولى. بيان مراد، ودفع اغترار واعتراض: تجد في آيات القرآن العظيم أخباراً ووعوداً من الله- تعالى- للمؤمنين ولربما حسب من لا يعلم أنها تشمل كل من كان على أصل الإيمان من اعتقاده مع بعض أعماله، وإن فرط في كثير من أصول الأعمال. فيبين الله- تعالى- في هذه الآية وأمثالها مراده بالمؤمنين عند إطلاق لفظ المؤمنين في تلك الأخبار والوعود، حتى لا يغتر المفرطون ولا يعترض الجاهلون. توجيه وإرشاد: إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله، ورسوله، إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر، وتدبر، وتتشاور، وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة متساندة في العمل عن فكر وعزيمة. ولهذا قرن الله في هذه الآية بين الإيمان بالله ورسوله والحديث عن الجماعة وما يتعلق بالإجتماع، فيرشدنا هذا إلى خطر أمر الإجتماع، ونظامه، ولزوم الحرص، والمحافظة عليه، كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان وحفظ عمود الإسلام. موعظة: ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلاَّ بإهمالهم لأمر

موازنة وترجيح

الاجتماع ونظامه، إمَّا باستبداد أئمتهم وقادتهم وإما بانتشار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم وجهلهم بما يفرضه عليهم، وما ذلك إلا من سكوت علمائهم وقعودهم عن القيام بواجبهم في مقاومة المستبدين، وتعليم الجاهلين، وبث روح الإسلام الإنساني السامي في المسلمين. فعلى أهل العلم- وهم المسؤولون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم- أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة، فينفخوا في المسلمين روح الإجتماع الشورى، في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بهم مستبد، ولا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهم، ممن ينتسب إليهم فينبذ ويطرح ويستغني عنه بالله وبالمؤمنين. موازنة وترجيح: هنالك المصلحة العامة وهنالك المصلحة الخاصة، ومحال أن تساوي هذه بتلك، أنظر إلى الذكر الحكيم كيف عبر عن الأولى بالأمر الجامع، وفي هذا ما فيه من تفخيم، وعبر عن الثالية ببعض الشأن وفي هذا ما فيه من التحقير والتقليل. وفي قرنها بالإستغفار تنبيه على ترجيح الأولى على الثانية وأنها ما كانت تعتبر إلا على وجه الرخصة والإستغراق في الإهتمام والتدبير للمصلحة العامة أحق وأولى. إمتثال ورجاء: لنجعل المصلحة العامة غايتنا، والمقدمة عندنا حتى لا يكون- إن شاء الله- في مصالحنا الخاصة ما يصرفنا أو يشغلنا عنها، راجين من الله تعالى أن يعيننا على ما قصدنا وأن يوفقنا إلى استعمال كل مصلحة خاصة لنا في مصلحة عامة لنا ولإخواننا إنه نعم الموفق ونعم المعين (1).

_ (1) ش: ج1، م13، ص 1 - 4 غرة محرم 1356 هـ - 14 مارس 1937م

-2 - القرآن العظيم

-2 - القرآن العظيم: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة والإرتباط: لما بينت الآية السابقة وجوب الإستئذان عند إرادة الإنصراف من مجلسه عليه الصلاة والسلام بينت هذه الآية وجوب تلبية دعوته إذا دعا، وفضحت حالة الذين يتسللون غير مستأدنين وحذرت من فعلهم وأوعدت الوعيد الشديد المخالفين أمثالهم. الألفاظ: الدعاء: النداء وطلب الإقبال للحضور. بينكم: في اعتقادكم ومعاملتكم. يتسللون:. يذهبون قليلاً قليلاً من الجماعة متخفين. لواذاً: ملاوذة بأن يلوذ هذا بهذا ويلوذ هذا بهذا متستراً به حتى لا يرى عند خروجه. فليحذر: فليتيقظ، وليتحرز. وذلك باجتناب المخالفة. يخالفون عن أمره: يصدون ويعرضون عن طريقته وسنته ومنهاجه وما كان عليه من سير في الحياة. الفتنة: البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم، هذا معنى الفتنة لأنها ذكرت في مساق الوعيد. عذاب أليم: في الآخرة. المعنى: لا تنزلوا دعاء الرسُول لكم إذا دعاكم إلى الحضور عنده منزلة

_ (1) 63/ 2 النور.

تنظير وتعميم

دعاء بعضكم بعضا للحضور، فتحسبون أنفسكم مخيرين إن شئتم أجبتم وإن شئتم تخلفتم، فتارة تجيبون وتارة تتخلفون، فإجابة دعوته والإسراع إليه واجب محتم عليكم، والتخلف أو التباطؤ- لغير عذر واضح- محرم عليكم، ذلك لأنه إذا دعاكم لا يدعوكم إلا لمصلحة قطعية وخير محقق يعود عليكم في أمر الدين أو أمر الدنيا، ففي تخلفكم أو تباطئكم تفويت أو تعطيل أو تثبيط. وإذا حضرتم مجلسه فابقوا كلكم عنده ولا تذهبوا من مجلسه واحداً واحداً أو اثنين اثنين يتستر بعضكم ببعض عند الخروج حتى لا يراه الناس ولا يراه الرسول، فإن الله يعلم قطعاً أولئك الذين يخرجون متسللين متسترين بعضهم بعض، فإذا نجوا من ملام الرسول فإنهم لا ينجون من عذاب الله. وإذا كان الله عالماً بصنعهم ومفارقتهم لمجلس رسوله وثلمهم لجماعته وصدهم وإعراضهم عما هو عليه هو ومن معه- فهو معاقبهم على ما ارتكبوا بالبلايا، يصبها عليهم في الدنيا، أو العذاب الأليم ينزله بهم في الآخرة، أو يجمع لهم ما بينهما، فليتجنب أولئك المخالفون لأمره هذه الفتنة وهذا العذاب وليحذروا منهما. وما ذلك إلا بترك المخالفة والإقلاع عنها والرجوع إلى الموافقة والإتباع. تنظير وتعميم: أمراء المسلمين وقادتهم ومن يتولون أمراً من أمورهم العامة تجاب دعوتهم إذا دعوا لأمر عام وشأن مما يرتبط بما في عهدتهم من أمر الناس، ويسرع إليهم ولا يتسلل من مجالسهم. ذلك لما لهم من حق الخلافة عن الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما كان يقوم به من أمر الناس وتدبير شؤونهم وضبط نظامهم ورعاية مصالحهم. ميزان: كل الأقوال والأعمال توزن بأقواله وأعماله، وكل الأحوال والسير

وجوه الفتنة وسببها

توزن بسيرته وحاله. فما وافقها فهو الحق والخير والهدَى، وهو الذي يقبل من كائن من كان. وما خالفها فهو الباطل والشر والضلال، وهو الذي يرد على صاحبه كائناً من كان. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد). وجوه الفتنة وسببها: مخالفة السنة النبوية والهدى المحمدي وما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في تنفيذ شرع الله وتطبيق أحكامه وتمثيل الإسلام تمثيلاً عملياً، تلك المخالفة هي سبب كل بلاء لحق المسلمين حتى اليوم بحكم صريح هذه الآية. وقد ذكر المفسرون في تفسير الفتنة أشياء على وجه التمثيل لا على وجه الحصر والتحديد، فذكروا الكفر، والقتل، والاستدراج بالنعم، وقسوة القلب، عن معرفة المعروف والمنكر، والطَّبع على القلب حتى لا يفقه شيئاً، وكل هذا قد أصاب المسلمين بسبب مخالفتهم. أعظم الفتنة: غير أن أعظم الفتنة- فيما نرى- هو ما قاله الإمام جعفر الصادق: (أن يسلط عليهم سلطان جائر) فإنه إذا جار السلطان- وهو من له السلطة في تدبير أمر الأمة والتصرف في شؤونها- فسد كل شيء، فسدت القلوب والعقول والأخلاق والأعمال والأحوال، وانحطت الأمة في دينها ودنياها إلى أحط الدركات، ولحقها من جرائه كل شر وبلاء وهلاك. ثم بتفاوت ذلك الفساد بحسب ذلك الجور في قدره وسعته ومدة بقائه. هذا إذا كان ذلك الجائر من جنسها ويدين- بحسبب ظواهره- بدينها، فكيف إذا لم يكن من جنسها ولا من دينها في شيء. حقاً إن أعظم ما لحق الأمم الإسلامية من الشر والهلاك كله جاءها على

تطبيق وتحذير

يد السلاطين الجائرين منها ومن غيرها. وهذا ما يشهد به تاريخها في ماضيها وحاضرها. فما أصدق كلمة جعفر الصادق وما أعمق نظره فيها، ومن أحق بمثلها من بيت النبوة ومعدن الحكمة؟ عليهم الرضوان والرحمة. تطبيق وتحذير: من أبين المخالفة عن أمره وأقبحها الزيادة في العبادة التي تعبد لله بها على ما مضى من سنته فيها وإحداث محدثات على وجه العبادة في مواطن مرت عليه ولم يتعبد بمثل ذلك المحدث فيها. وكلا هذين زيادة وأحداث وابتداع مذموم. يكون مرتكبه كمن يرى أنه اهتدى إلى طاعة لم يهتد إليها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وسبق إلى فضيلة قصر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عنها. وكفى بهذا وحده فتنة وبلاء، دع ما يجر إليه من بلايا أخرى، وقد طبق الأمام مالك رضي الله عنه هذه الآية الكريمة، على هؤلاء المتزيدين أحسن تطبيق وأبلغه وأردعه لمن كان له فهم وإيمان. روى الإمام ابن العربي- رحمه الله- بسنده المتصل إلى سفيان ابن عيينه رحمه الله قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة (1) من حيث أحرم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (إني أريد أن أحرم من المسجد) فقال: لا تفعل. قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى

_ (1) ذو الحليفة: تصغير حلفة، وهي ماءة بين بني جشم بن بكر بن هوازن، بينه وبين المدينة ستة أميال، وهو كان منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة لحج أو عمرة (أنظر البكري 464 - 465).

بوارق أمل

أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فليتأمل المسلمون- وخصوصاً المنتسبين إلى مذهب مالك- في فقه هذا الإمام العظيم ووقوفه عند حدود الله وليحذروا من عاقبة المتزيدين المتغالين. بوارق أمل: لقد شعر المسلمون عموماً بالبلايا والمحن التي لحقتهم وفي أولها سيف الجور المنصب على رؤوسهم، وإدرك المصلحون منهم أن سبب ذلك هو مخالفتهم عن أمر نبيهم- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخذت صيحات الإصلاح ترتفع في جوانب العالم الإسلامي في جميع جهات المعمور. تدعوا الناس الى معالجة أدوائهم بقطع سببها واجتثاث أصلها. وما ذلك إلا بالرجوع إلى ما كان عليه محمد- عليه الصلاة والسلام- وما مضت عليه القرون الثلاثة المشهود لها منه بالخير في الإسلام، وقد حفط الله علينا ذلك بما إن تمسكنا به لن نضل أبداً- كما في الحديث الصحيح- الكتاب والسنة. وذلك هو الإسلام الصحيح الذي أنقذ الله به العالم أولاً، ولا نجاة للعالم مما هو فيه اليوم إلا إذا أنقذه الله به ثانيا. وقد أخذ المسلمون يصيغون أسماعهم ويستجيبون- أفواجاً أفواجاً- لداعي الإصلاح أينما دعاهم، وفي ذلك- والحمد لله- ما يقوي الرجاء والأمل، ويبعث على الجد والعمل. الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون (1).

_ (1) ش: ج2، م13، ص 72 - 76 صفر 1356 - أفريل 1937

الفرقان

الْفُرْقَانُ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1) ــــــــــــــــــــــــــ المفردات: تبارك: مادة برك كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها بروك الإبل استناختها، والبركة كالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء، والبراكاء الثبات في الحرب، ومنها البركة بمعنه النماء والزيادة ولا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينمو ويزيد، فلم تخرج عن الثبوت، وتبارك من البركة، فمعناه تزايد خيره والله تعالى له الكمال ومنه الإنعام فتبارك أي تزايد كماله وإنعامه فلا تحصى إنعاماته ولا تحد كمالاته. وثبوت الكمال ينافي وينفي ضده، فيقتضي التنزه عن النقص. فانتظم اللفظ ثلاثة معاني: التنزه عن النقص، والإتصاف بالكمال، والإفاضة للإنعام. فتبارك: (تقدس وتعاظم) الفعل الأول مفيد للاول، والفعل الثاني مفيد للثاني، والثالث (نزل) مادة نزل كلها ترجع إلى معنى الهبوط من علٍ والحلول في أسفل. ونزل المضاعف أبلغ في المعنى، من أنزل، وقد يفيد كثرة النزول كما هنا، لأنه نزله مفرقاً على نيف وعشرين سنة، وقد يفيد القوة في نزول

_ (1) 25/ 1 - 2 الفرقان.

التراكيب

واحدكما في: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} لان تنزيل الجملة أقوى من إنزال التفصيل. (الفرقان): أصله مصدر فرق بمعنى فصل وهو أبلغ في الدلالة على المعنى من فرق المصدر المجرد بما فيه من زيادة الألف والنون كما كان القرآن أبلغ من القراءة لذلك. وهو هنا اسم من أسماء هذا الكتاب الكريم. (نذير): مادة نذر كلها ترجع إلى الإعلام والتحتيم، فمنها نذر على نفسه الصوم أوجبه وحتمه وأعلم به ونذر بالعدو كفرح علم به وأنذره أعلمه، ولا يستعمل إلاَّ في إبلاغ ما فيه تخويف فهو إعلام بتأكيد وتحتيم. ونذير هنا بمعنى منذر من فعيل بمعنى مفعل. التراكيب: (الَّذِي نَزَّلَ): عرف المسند إليه بالموصولية لزيادة تقرير الغرض الذي إليه سيق الكلام، لأن الغرض بين كمالات الله تعالى وإنعاماته وتنزيل الفرفان منها، فهو من أعظم نعم الله على البشر ومن آيات الله الدالة على قدرته وعلمه وحكمته. (عبده): إضافة تشريف لأنه أكمل العباد. المعنى: تقدس وتعاظم الرب الذي نزل الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال وحزبيهما من الناس مفصلاً آيات آيات على محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أكمل عباده ليكون بذلك الكتاب لجميع الأنس والجن منذراً لهم، بعلمهم بعذابه ويخوفهم بشديد عقابه إن لم يعبدوه وحده ويخلعوا غيره من آلهتهم الباطلة ويدخلوا في الدين الذي جاءهم به وهو الإسلام. توحيد: هذا الفعل وهو (تبارك) لا يسند إلاّ إلى الله تعالى، ذلك لأن

سلوك

العظمة الحقيقية بالكمال والإنعام والتقديس بالتنزه التام ليسا إلا له وما من كامل من مخلوقاته إلا وهو- جل جلاله- الذي كمله وما من منعم عليه منهم إلا وهو- تعالى- الذي أنعم عليه وما من زكي منهم إلا وهو- سبحانه- الذي زكاه. سلوك: هذا الرب الكامل المكمل المنعم المتفضل القدوس المقدس هو الذي أنرل هذا الفرقان، فإذا أردت أن ترقى في درجات الكمال وتظفر بأنواع الإنعام وتزكي نفسك الزكاء التام فعليك بهدى هذا الفرقان، فهو بساط القدس ومعراج الكمال ومائدة الإكرام وقد سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت كان خلقه القرآن. تفقه واستنباط: لما سمى الله كتابه الفرقان علمنا أنه به يفرق بين الحق والباطل وأهل هذا وذاك، فهو الحكم العدل والقول الفصل بين كل متنازعين يدعي كل منهما أنه على الحق فيما هو عليه من عقد أو قول أو عمل، فما تقابل حق وباطل وما تعالجت حجة وشبهة إلا وفي هذا الكتاب الحكيم ما يفرق ما بينهما وإنما يتفاوت الناس في إدراك ذلك منه على حسب ما عندهم من قوة علم وصدق بصيرة وحسن إخلاص، فعلينا - إذاً- أن يكون أول فزعنا في الفرق والفصل إليه، وأن يكون أول جهدنا في استجلاء ذلك من نصوصه ومراميه مستعينين بالسنة القولية والعملية على استخراج لآليه. فإذا حكم قبلنا وسلمنا وكنا مع ما حكم له وفارقنا ما حكم عليه، فالله سماه الفرقان لنعلم أنه فارق بنفسه ولنعمل بالفرق به ولا يكمل إيماننا بأنه الفرقان إلا بالعلم والعمل. ولما جعل- تعالى- غاية تنزيل الفرقان أن يكون عبده نذيراً

تطبيق وتحاكيم

إقتضى ذلك أن نذارته تكون بالفرقان لتقوم الحجة وتتم الحكمة وتحصل الفائدة وتشمل النعمة. وقد صرح بهذا في قوله تعالى بالأعراف: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ}. وبالأنعام: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. وبالنمل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}. وبق: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}. وبالتوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فعلينا- إذاً- أن نعلم أنَّ القرآن هو كتاب النذارة والهداية، فنستخرج أصولهما وفنونهما من آياته، وهذا حظ العلم، وأن يكون اهتداؤنا في أنفسنا وهدينا لغيرنا به، وهذا حظ العمل، وهما ركنا الإيمان. تطبيق وتحاكيم: في العالم الإسلامي كله اليوم طائفتان من المؤمنين تتنازعان خطة الهداية والنذارة والتذكير، ولكل منهما في سلوكها للقيام بتلك الخطة سبيل، وكل منهما تدَّعي أنها هي التي على الصواب، وأنها الأحق والأولى بنفع العباد. فرأينا أن نطبق فصل الفرقان عليهما وننظر كيف يفرق ما بينهما وبين المصيبة من المخطئة منهما، وفي ضمن ذلك تحاكمهما إليه وفصل النزاع بينهما بحكمه. وإنما اخترناهما للتطبيق والتمثيل لخطر الخطة التي تنازعا عليها، وعظيم النفع والضرر الذي يحصل من خطأ المخطىء وصواب المصيب بها، ولأن الهداية والنذارة والتذكير أمور لها أنزل القرآن فتنازعهما عليها تنازع عليه فأحق فصل نمثل به

حكم القرآن بين الطائفتين

لنعلمه هو فصله بين المتنازعين فيه. وها نحن نعرض بعض حال كل طائفة في قيامها بالخطة ثم نسوق آيات القرآن وننظر من أسعد الطائفتين بها. حكم القرآن بين الطائفتين: الطائفة الأولى: يذكرون من يدعونهم بغير القرآن بأحزاب وأوراد من وضعهم لا مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا قليلاً: ولهم عليهم في أموالهم حق في أوقات من السنة معلومة. والطائفة الثانية: يذكرون الناس بالقرآن فيأمرونهم بقراءته وتدبره ويبينون لهم معانيه ويحثونهم على التمسك به والرجوع إليه. ويدعونهم إلى الأذكار النبوية الثابتة في الكتب الصحاح لرجوعها إلى القرآن بحكم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) ولا يطلبون عليهم في ذلك أجراً. والله تعالى يقول في الحال الأول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} وغيرها من الآيات المتقدمة في هذا المجلس ويقول- تعالى- في الحال الثاني لنبيه- صلى الله عليه وآله وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} (2) {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (3). ويقول في آية صريحة صراحة تامة في بيان من يجب أن يتبع من الدعاة {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا

_ (1) 59/ 7 الحشر. (2) 57/ 25 الفرقان. (3) 12/ 23 الشورى.

وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) ومن هم المهتدون؟ هم المتبعون للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لقوله تعالى في الأعراف: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) واتباعه بالنسبة لموضوعنا هو اتباعه في طريق دعوته الخلق إلى الله. وقد ثبت بالقرآن أنه كان يدعو بالقرآن ويذكر به وأنه لا يسئل على ذلك أجراً. بان- والحمد لله- بما ذكرنا حكم القرآن بين الطائفتين واتضح طريق الحق في الدعوة والإرشاد لمن يريد سلوكه منهما. والله نسأل لنا ولهم قبول الحق والتعاون عليه والقوة والإخلاص في الصدع به والثبات عليه و {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (3 و 4).

_ (1) 21/ 36 يس. (2) 157/ 7 الأعراف. (3) 27/ 14 إبراهيم. (4) ج12، م7، ص 732 - 737 غرة شعبان 1350هـ - ديسمبر 1931م.

كلام الظالمين في الكتاب الحكيم، والرسول الكريم، ورد رب العالمين

كَلَامُ الظَّالِمِينَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، وَالرَّسُولُ الْكَرِيمِ، وَرَدُّ رَبُّ الْعَالَمِينَ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: كفروا، غطوا الحق بإنكاره وعدم الإعتراف والإعلان به. وكل من غطى شيئاً وستره فقد كفره، وسمي الليل كافر لأنه يغطي الأشياء بظلامه، والزارع كافر لأنه يغطي البذر بالتراب. إفك: كذب مصروف عن وجهه الحق من أفكه يفكه أفكاً أي صرفه. إفتراه: اختلقه واخترع صورته. جاؤوا: وردوه واتنهوا إليه. ظلماً: وضع الشيء في غير موضعه. زوراً. شهادة بالباطل. أساطير: جمع أسطورة أي أخبار وحكايات مسطورة في كتب الأوائل ليست محل الثقة. إكتتبها: أمر بكتابتها له، وافتعل يأتي للطلب كاحتجم واقتصد. تملى: تلقى عليه ليحفظها فيلقيها على الناس. بكرة: ما بين الفجر والطلوع. أصيلا: ما بعد العصر إلى الغروب. السر: الخفي من كل شيء. غفورا: ستاراً للذنوب كثير التجاوز عنها. رحيما: دائم الإفاضة للنعم.

_ (1) 4/ 25، 5، 6 الفرقان.

المعني

المعني: وقال الذين أنكروا الحق مع ظهوره، وجحدوه مع وضوحه، ما هذا الكلام الذي يتلوه محمدٌ علينا إلا كلام كذب مصروف عن وجه الحق اخترعه وصوره وأعانه عليه غيره من أناس آخربن، فقد سموا الحق الصراح والصدق الخالص إفكاً، وجعلوا أخبار الأمين الذي كانوا يدعونه هم أميناً، افتراء وجعلوا القرآن الذي عجزوا عن معارضته كلاماً عادياً متعاوناً على تركيبه وتصويره، فسموا الشيء بغير اسمه ووضعوا الوصف في غير موضعه، فانتهوا بذلك إلى ظلم عظيم أتوه ووقعوا فيه وقد شهدوا بالباطل، فنسبوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما هو برىء منه من الافتراء والاستعانة بغيره فانتهوا إلى زور عظيم تحملوه. وقالوا:- أيضاً- هذا الذي يتلوه علينا هو من أخبار الأوائل وكتبهم المسطورة التي سطروها من أعاجيب أحاديثهم مما يتلى به ولا يوثق بصحته توصل إليها من غيره، أمر فكتبت له فكاتبها له يمليها عليه دائماً في طرفي النهار فيحفظها هو ويأتينا بها. قل- يا محمد- أنزل هذا الذي أتلوه عليكم الخالق الذي يعلم الشيء الخفي والأمر المكتوم في العالم العلوي والعالم السفلي. وما أمهلكم فلم يعاجلكم بالعذاب، وبقي يجدد لكم التذكير مع إعراضكم وعنادكم وقبح صنيعكم وسوء ردكم إلا أنَّه من شأنه الصفح والتجاوز ودوام الإنعام والتفضل، فهل لكم أن ترجعوا إلى هذا الرب الغفور الرحيم؟ مزيد بيان: بهر العرب ما رأوا وما سمعوا، من رجل كان بالأمس معرضاً عنهم تاركاً لهم وشأنهم يشهد موسم الحج معهم ويجتنب مشاهد

وثنيتهم ولكنه لا يعاديهم ولا ينكر عليهم ويسير بينهم بالصدق والجد والعفاف وكمال المروءة سيرة تخالف سيرتهم فهم لذلك يحبونه ويعظمونه ويدعونه الأمين لقباً خصوه به فصار يدعى به بينهم. فأصبح اليوم- وقد جاوز الأربعين- ينكر عليهم ويسفه أحلامهم ويقبح عبادتهم وما يعبدون ويصبر على أذاهم ولا يقابلهم بالمثل ويستمر على دعوته غير مبال بهم ولا حاسب شيئاً لكثرتهم ولا لسطوتهم. ومن كلام مثل كلامهم في ألفاظه وفي تراكيبه ثم هم يعجزون عن معارضته بمثل أقصر سورة منه ثم يشهدون الفرق بينه وبين كلام محمد نفسه فهو إذا حدَّثهم بما اعتادوا من حديثه معهم حتى إذا تلى عليهم القرآن جاءهم بما هو فوق كلامه وكلامهم وما تقصر عن معارضته ألسنتهم. بهرهم هذا وهذا وأخذ العناد بعقولهم واستحوذت عليهم شياطينهم فحاروا فيما يقذفون به هذا الرسول وهذا الكتاب، فأخذوا يقولون عن الكتاب أنه إفك مفتري ورأوه أكبر مما كانوا يسمعون من كلام محمد، فلم يكن ليأتي به وحده، وهو فوق المعتاد من كلامه، فإذا هنالك أقوام يعينونه. ومن هم الأقوام؟ وهو- بعد- في نفر قليل ممن آمن به، وهم هم في كثرتهم وتساندهم وقد عجزوا عن الإتيان بشيء مثله فالقليل أحرى بالعجز من الكثير ويقولون أنه أساطير الأولين وقد كان منهم من عرف شيئاً من أخبار الفرس وملوكهم وكان يحدثهم بها ويقصها عليهم ويزعم لهم أنها مثل ما يأتي به محمد فقالوا- وقد علموا الفرق- هذه منها وهي مثلها ولكن محمداً عرفوه أمينا لا يقرأ ولا يكتب فكيف اتصل بهاته التي زعموها أساطير فاخترعوا وسيلة لذلك أنه يكتبها له غيره ويمليها عليه وهو يحفظها ومن هو هذا الذي يكتب ويملي عليه وهم قد عرفوا مدخل محمد ومخرجه ومغداه ومجلسه وعرفوا بلدتهم ومن يساكنهم فكيف لا يرونه ولا مرة بين يدي هذا الكاتب المملي ولا يشاهدونه يوماً في صحبته فاخترعوا لذلك

أسلوب في البيان

أنه يمليها عليه في طرفي النهار في ظلام من الوقت وسكون من الناس. وقالوا في الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه مفتر يستعين على افترائه بغيره، ويتظاهر باستقلاله وينسب لله ما هو حكايات الأوائل وأوضاعهم. فيكذب عليه- تعالى- لديهم. رد الله عليهم كل ما قالوا فيهما بأنه ظلم وزور وأن ما يتلوه عليه هذا النبي الكريم من ذلك الكتاب الحكيم ليس مما يكون إلا من خالق المخلوقات العالم بأسرارها. أسلوب في البيان: لقد جاؤوا الظلم والزور في قولهم الأول وقوله الثاني: {قُلْ} أمر بما يرد قولهم الأول وقولهم الثاني. غير أنه قصد إلى الإيجاز وعدم التكرار فجعل مع قولهم الأول الوصف وهو الظلم واكتفى بذكره هنا عن إعادته وجعل مع قولهم الثاني الدليل وهو إنزال من يعلم السر واكتفى بذكره هنا عن ذكره مع الأول فحذف من كل ما أثبت مع الآخر. وجعل الوصف مع الأول والدليل مع الثاني ترقياً من الدعوى للدليل. وجه الدليل: القرآن أعجز العرب ببلاغته حتى عرفوا وعرف العلماء بلسانهم المرتاضين ببيانهم أنه ليس مثله من طوق البشر. هذه هي الناحية الظاهرة في إعجاز القرآن والإستدلال به له ولمن أتى به صلى الله عليه وآله وسلم. وهنالك ناحية أخرى هي أعظم وأعم وهي ناحيته العلمية التي يذعن لها كل ذي فهم من جميع الأمم في كل قطر وفي كل زمن. وهذه الناحية هي التي احتج بها في هذا الموطن. فقد استدل على أن القرآن لا يمكن أن يكون أتى به محمد من عنده ولا يمكن أن يستعين عليه بغيره ولا أن يكون من أوضاع الأوائل- بأنه ينطوي على أشياء من أسرار هذا الكون لا يعلمها إلا خالقه فمن ذلك ما أنبأ به من أسرار الأمم

ترغيب

الخالية وبين من أسرار الكتب الماضية وما أنبأ من أحداث مستقبلة وما ذكر من حقائق كونية كانت لذلك العهد عند جميع البشر مجهولة كالزوجية في كل شيء وسبح الكواكب في الفضاء وسير الشمس إلى مستقر مجهول معين عند الله لها وغير ذلك من أسرار العمران والإجتماع وما تصلح عليه حياة الإنسان مما تتوالى على تصديقه تجارب العلماء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم. فكتاب اشتمل على كل هذه الأسرار لا يمكن أن يأتي به مخلوق. ترغيب: قد دعانا الله إلى العلم ورغبنا فيه في غير ما آية وأعلمنا أنه خلق لنا ما في السموات وما في الأرض جميعاً وأمرنا بالنظر فيما خلقه لنا، وأعلمنا هنا أن في هذه المخلوقات أسراراً بينها القرآن واشتمل عليها وكان ذلك من حجته العلمية على الخلق فكان في هذا ترغيب لنا في التقصي في العلم والتعمق في البحث لنطلع على كل ما نستطيع الإطلاع عليه من تلك الأسرار: أسرار آيات الأكوان والعمران وآيات القرآن فنزداد علماً وعرفاناً ونزيد الدين حجة وبرهاناً ونجني من هذا الكون جلائل ودقائق النعم، فيعظم شكرنا للرب الكريم المنعم. فقهنا الله في كتابه، ووفقنا إلى الاهتداء به، والسير على سننه (1). ..

_ (1) ش: ج3، م13، ص 116 - 120 غرة ربيع الأول 1356هـ - 2 ماي 1937م.

منزلة الرسالة العلية والضرورات البشرية

مَنْزِلَةُ الرِّسَالَةِ الْعَلِيَّةِ وَالضَّرُوْرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ... } (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما طعنوا في رسالته بأنه بشر يفعل ما يفعله البشر بقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (2) رد الله عليهم بأن هذا هو حال جميع المرسلين من قبله، واحتج عليهم بما يعملون من ذلك بما يسمعون من أهل الكتاب جيرانهم وبما عندهم من أخبار عاد وثمود من بني جلدتهم. المفردات: الإرسال: هو البعث لتبليغ شيء أو قضائه. وفي لسان الشرع هو إنزال الله تعالى الوحي على من اصطفاه من خلقه لينذر به من أمره بإنذاره من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3). فالرسالة وحي مع أمر التبليغ.

_ (1) 25/ 20 الفرقان. (2) 7/ 25 الفرقان. (3) 192/ 26 - 194 الشعراء.

التراكيب

التراكيب: مفعول أرسلنا محذوف تقديره رجالاً، وعليه عاد الضمير في أنهم، وهو صاحب الحال، والحال هي الجملة التي بعد إلا، والجملة الثانية حال بالعطف على الأولى، والاستثناء مفرغ من الأحوال وتقدير الكلام: وما أرسلنا قبلك رجالا من المرسلين إلاَّ حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلاّ في هذه الحال. وأن اللام والحصر بما والأكل هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، وهو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلا بشراً رداً على منكري ذلك من المشركين، وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون لأن ذلك من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم، وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية من البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها. المعنى: وما ينكر عليك هؤلاء من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق مع أنك رسول الله، وقد علموا أنه ما من رسول كان قبلك إلا وهذه حالته، وما أنت إلا واحد منهم فلا عيب عليك في ذلك ولا حجة لهم عليك به. تاريخ: هذه المقالة شنشنة قديمة من الأمم التي أرسلت إليها الرسل فقابلتها بالجهل والعناد فقد قال لنوح قومُه: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} (1) وقال لهود قومه: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا

_ (2) 27/ 11 هود.

تعليل

تَشْرَبُونَ} (1) ولصالح: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (2) ولشعيب: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 31) ولموسى وهرون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} (4) وفي سورة إبراهيم عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم أنهم قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (5) فقال المشركون للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما قاله أمثالهم لإخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام. تعليل: ما اعترض المعترضون على الرسل ببشريتهم إلا من جهلهم وسوء نظرهم وغباوتهم، أما جهلهم فقد جهلوا ما في البشرية من استعداد لنيل أرقى الكمالات وجهلوا ما تقتضيه الرسالة من مشاكلة بين الرسول والمرسل إليهم لتحصل المفاهمة والإتصال. وجهلوا ما يؤهل به البشر لرتبة الرسالة من كمال في الروح والعقل، والأخلاق والسلوك مما كان الرسل متصفين به كله أمام أعين أقوامهم، وأما سوء نظرهم فإنهم نظروا إلى بشرية الرسل فقاسوهم بهم وقالوا لهم أنتم مثلنا مع وجود الفارق الواضح بينهم وبين الرسل في الصفات النفسية التي بها كمال الإنسان، وأما غباوتهم فإنهم لغلبة الجسمانيات على حسهم وإهمالهم استعمال عقولهم لم يتفطنوا للكمال المشاهد الذي امتاز به الرسل بين أقوامهم.

_ (1) 33/ 23 المؤمنون. (2) 154/ 26 الشعراء. (3) 186/ 26 الشعراء. (4) 48/ 23 المؤمنون. (5) 14/ 10 إبراهيم.

تعليم

تعليم: هذه العلل التي صدر اعتراض المعترضين عنها قد علمنا الله تعالى في كتابه العزيز ما يعصمنا منها، فعلمنا أن الإنسان مستعد لأن تخضع له العوالم بما فيه روح الله وأنه يلتحق بعالم الملائكة الأطهار بتلك الروح عندما تكون على أصل طهرها وقدسها، علمنا هذا بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (1) فأخضع له ملائكته أشرف العوالم وبقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} (2) فاتصل بهم وخاطبهم وعلمهم، فلا عجب أن يأتي المماثلون له من أبنائه في طهره وعصمته على سنته في الإتصال بالملائكة ومخاطبتهم، وعلمنا أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم ليحصل الاتصال ويمكن التلقي، وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك وأنهم لو أنزل عليهم ملك وهم بشر لكسي حلة البشرية ولا التبس عليهم أمره ولقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر. علمنا بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (3) وبقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (4). وعلمنا أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله تعالى له ومن مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار البشرية وظلم الجسمانية وتسفلها فتبقى روحه

_ (1) 5 29/ 1 الحجر و 72/ 38 ص. (2) 33/ 2 البقرة. (3) 17/ 95 الإسراء. (4) 9/ 6 الأنعام.

على غاية الطهر والعلوية النورانية مستعدة للإتصال بالملأ الأعلى حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي. علمنا هذا بمثل قوله تعالى. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (1) وقوله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (2). وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} (3) وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (4) وغيره كثير. وعلمنا أن الرسل وإن كانوا موافقين لنا في الخلقة البشرية فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية من حيث الطهر والكمال. فنفوسهم بقيت على طهرها لم تدنس بشيء ونفوسنا لا تخلو من تدنس، والموفق من داوم على غسلها بالتوبة وتحليتها بالصالحات، وكمالهم فطري ويبلغون فيه بعملهم المتواصل وعصمتهم الربانية إلى الغايات التي لا تنال وكمالنا ليس كذلك في الأمور الثلاثة الفطرة والعمل المتواصل والعصمة. علمنا هذه بقوله تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (5) فبالنظر الصحيح فيما منَّ الله عليهم به ندرك أنهم ليسوا مثلنا وإن ساوونا في الخلقة البشرية. وعلمنا أن لا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية بل نعبر من

_ (1) 22/ 75 لحج. (2) 47/ 38 ص. (3) 42/ 3 آل عمران. (4) 6/ 124 الأنعام. (5) 11/ 14 إبراهيم.

الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير. وعلمنا هذا بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (1) فلا ينظر إلى بهرجة الكثرة ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما وبقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} (2) فلا يجوز أن نغتر بالمال والقوة والجاه وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها وصرفها في وجوهها. ولا نغتر بحالة الضيق والعسر والضعف فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر أو ضجر ويأس وفجُور فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبيت ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحْكم الحاكمين. وبقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) فعلمنا أنه بشر ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله وبما يقتضيه من مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال حتى لا تعجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندْركه ببصائرنا.

_ (1) 103/ 5 المائده. (2) 89/ 15 - 17 الفجر. (3) 111/ 18 الكهف و 6/ 41 السجدة.

عقيدة

عقيدة: الرسول إنسان ذو روح طاهرة نورانية علوية بها تأتى له تلقي الوحي من الملائكة وذو جسد بشري عليه ضروريات البشرية الخلقية دون نقائصها الكسبية لأنه مصرف بتلك الروح العلوية الظاهرة التي لا يصدر عنها إلا الخير، وبهذا الجسد البشري تأتي للبشر الأخذ عنه والإاقتداء به ومأخذ هذه العقيدة من الآيات التي تلوناها في فصل التعليم المتقدم. تحذير: علينا أن نحذر من أن نعترض أو نحكم بالأنظار السطحية دون بحث عن الحقائق أو أن نلحق شيئاً بشيء دون أن تتحقق انتفاء جميع الفوارق. فقد انتشرت بعدم الحذر من هذين الأمرين جَهالات وارتكبت ضلالات، وبالنظر السطحي ازدرى إبليس آدم فامتنع من السجود له واعترض على خالقه فكانت عليه اللعنة إلى يوم الدين وبعدم النظر إلى الفوارق قال أحد ابني آدم لأخيه لما تقبل قربانه دونه هو {لَأَقْتُلَنَّكَ} حتى ذكره أخوه بوجود الفارق فقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) وحقيقة الأول ترجع إلى الجهل المركب وحقيقة الثاني ترجع إلى القياس الفاسد وهما أعظم أصول الفساد والضلال. سلوك: الأنبياء والمرسلون أكمل النوع الإنساني وهم المثل الأعلى في كماله وقد كان أصل كمالهم بطهر أرواحهم وكمالها فأقبل على روحك بالتزكية والتطهير والترقية والتكميل ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاقتداء بهم

_ (1) 5/ 30 المائدة.

والإهتداء بهديهم وقد قال الله تعالى لنبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1) فاقرأ ما قصه القرآن الكريم من أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم وسيرهم وتفقه فيه وتمسك به تكن- إن شاء الله تعالى- من الكاملين (2).

_ (1) 6/ 90 الأنعام. (2) ش: ج1، م7، ص 1 - 7 غرة رمضان 1350 هـ - جانفي 1932م

فتنة العباد بعضهم ببعض

فِتْنَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (1) ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: أفاد ما تقدم من الآية أن الرسل يأكلون الطَّعام فيحتاجون للغذاء وتحصيله، وأنهم يمشون في الأسواق للسعي والتكسب، وأفاد آخر الآية الحكمة الربانية في ذلك، وهو أن يكون بذلك فتنة واختبارا للعباد، وتلك سنة الله تعالى في خلقه، فقد جعل بعضهم لبعض فتنة. المفردات: قال في (لسان العرب): الأزهري وغيره: جماع معنى الفتنة الإبتلاء والإمتحان والإختبار، وأصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد ا. هـ، ومنه قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) و {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (3) و {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (4) و {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ

_ (1) 25/ 20 الفرقان. (2) 2/ 29 العنكبوت. (3) 28/ 8 الأنفال و 25/ 64 التغابن. (4) 40/ 20 طه.

التركيب

وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (1). (أتصبرون): الصبر حبس النفس على المكروه. والمكروه لها فعل ما فيه تعب، وترك ما فيه لذة. ويكون في المشروع والمقدور، ففي الأول بالقيام بالمأمورات والترك للمنهيات. وفي الثاني- وهو المصَائب والبلايا- بالرضا والتسليم للخالق وعدم الاعتراض عليه وعدم السعي في إزالتها بغير الوجه المأذون فيه. و (الصبر): هو المشاهد للأشياء ظاهرها وباطنها، ذواتها ونعوتها وأحوالها، مبادئها وغاياتها وعواقبها. التركيب: الاستفهام في (أتصبرون) بمعنى الأمر، أي اصبروا. وخرج الأمر في صورة الإستفهام تنبيهاً على قلة الصبر في الوجود فهو من الأمر المعدوم الذي يسأل عنه هل يوجد، وفي ذلك بحث للهمم على تحصيله والتمسك به. وجملة (وكان ... الخ) معطوفة على جملة {وَجَعَلْنَا} وعدل عن مقتضى الظاهر، وهو وكنا بصراء بالإضمار إلى {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} بالإظهار للتنبيه على أن فتنته لعباده من مقتضى ربوبيته لهم وحسن تدبيره فيهم. موقع هذه الجملة بعد الجملة الأولى لبيان أن فتنته لهم هي من علم وبصر بصواب ذلك وحكمته، وأنه مطَّلع على حقيقة ما يكون منهم عند الاختبار ليجازيهم عليه، وفي هذا وعد ووعيد للممتحنين. المعنى: امتحنا بعضكم ببعض لتظهر حقائقكم عند الإمتحان. جلنا الرسل يأكلون كما يأكل البشر ويتكسبون كما يتكسبون لنمتحن العباد بهم فيظهر من يتبعهم بالإيمان واليقين لما معهم من الحق والكمال

_ (1) 35/ 21 الأنبياء.

سؤال وجوابه

ويصبر على ما يلحقه في أتباعهم من الجهد والبلاء ممن يحتقرهم ويعرض عنهم لما يرى من بشريتهم، كما جعلنا الأمم فتنة لرسلها وامتحاناً لهم ليظهر صبرهم على ما يلاقون منهم من إذاية وشر، فتعلو درجاتهم ويضاعف أجرهم. وجعلنا الغني إمتحاناً للفقير حتى يظهر صبره على حاله وكفه لعيْنه ويده عن شيء غيره، كما جعلنا الفقير امتحاناً للغني حتى يظهر صبره على القيام بواجبه نحوه، وجعلنا الصحيح فتنة للمريض حتى يظهر صبره على بلواه ورضاء بما أعطاه الله، كما جعلنا المريض فتنة للصحيح حتى يظهر صبره على القيام بواجبه نحوه من العطف عليه وعيادته ومواساته: وجعلنا الرعية فتنة للراعي حتى يظهر صبره على القيام بواجب رعايتها، كما جعلنا للراعي فتنة للرعية ليظهر صبرها على طاعته، وهكذا في جميع أقسام الناس. أتصبرون على هذا الإمتحان فإن الصبر عليه عزيز شديد فاصبروا فإنه لا يخرجكم من هذا الإمتحان خالصين خلوص الذهب الإبريز إلا الصبر، وكان ربك يا محمد بصيراً عالماً بعاقبة الإمتحان في عباده، مطلعاً على كل ما يكون منهم عند الإمتحان ليجازيهم عليه. سؤال وجوابه: الله تعالى عالم بما يكون من عباده بعد امتحانهم قبل أن يمتحنهم فما هي حكمة الإمتحان؟ والجواب: أن الله تعالى إنما يحاسب عباده على ما عملوا وكسبوه واكتسبوه بما عندهم من التمكن من الفعل والترك وما عندهم من الاختيار لا على ما علمه منهم قبل أن يعملوه، فلهذا يمتحنون لتظهر حقائقهم ويقع جزاؤهم على ما كسبت أيديهم باختيارهم، ولا حجة لهم في تقدم علمه تعالى بما يكون منهم، لأن تقدم العلم لم يكن ملجئاً لهم على أعمالهم، ففي هذا الإمتحان قيام حجة الله على العاملين أمام أنفسهم وأمام الناس، كما فيه إظهار لحقيقتهم لأنفسهم ولغيرهم.

تطبيق

تطبيق: كما يفتن الفرد بالفرد كذلك تفتن الأمة بالأمة، من ذلك أننا- معشر الأمة الإسلامية- قد فتنا بغيرنا من أمم الغرب وفتنوا هم أيضاً بنا. فنحن ندين بالإسلام وهو دين السعادة الدنيوية والأخروية، ولكن حيثما كنا- إلا قليلاً- لسنا سعداء لا في مظاهر تديننا ولا في أحوال دنيانا، ففي الأولى نأتي بما يبرأ منه الإسلام ونصرح بأنه من صميمه. وفي الثانية ترانا في حالة من الجهل والفقر والتفرق والذل والاستعباد يرثي لها الجماد، فلما يرانا الغربيون على هذه الحالة ينفرون من الإسلام ويسخرون منه إلا من نظر منهم بعين العلم والإنصاف فإنه يعرف ما نحن عليه هو ضد الإسلام، فكنا فتنة عظيمة عليهم وحجاباً كثيفاً لهم عن الإسلام، فكنا- ويا للأسف- فتنة للقوم الظالمين. وهم من ناحيتهم نراهم في عز وسيادة، وتقدم علمي عمراني فننظر إلى تلك الناحية منهم فنندفع في تقليدهم في كل شيء حتى معائبهم ومفاسدهم ونزدري كل شيء عندنا حتى أعز عزيز إلا من نظر بعين العلم فعرف أن كل ما عندهم من خير هو عندنا في ديننا وتاريخنا، وأن ذلك هو هو الذي تقدموا وسادوا به وأن ما عندهم من شر هو شر على حقيقته وأن ضرره فيهم هو ضرره وأنه لا يجوز أن يتابعوا عليه فكانوا فتنة لنا حتى يظهر من ينظر بعين الحق للحقائق ممن تبهره الظواهر فتسلبه إدراكه فيغدو لا يفرق بين اللب والقشور. إقتداء: علمنا من هذه الآية وغيرها أن الله تعالى يمتحن عباده ويختبرهم ليظهر حقائقهم، فلنقتد به تعالى في هذا فنبني أمورنا على الإمتحان والإختبار فلا نقرر علماً، ولا نصدر حكماً إلا بعد ذلك وخصوصاً في معرفة الناس والحكم عليهم، فالظواهر كثيراً ما تخالف البواطن

إهتداء

والتصنع والتكلف قلما يسلم منهما أحد ولا يعصم من الخطأ مع هذه المغالطات كلها إلا الإمتحان والإختبار فاعتصم بهما. إهتداء: كل من اتصل بك من أهلك وبنيك وأبيك وأمك وأصحابك وعشيرتك وقومك وكل من ترتبط به برباط من أبناء جنسك- هو فتنة وامتحان لك هل تقوم بواجبك نحوه من جانب خير له أو دفع شر عنه أو جلب خير منه لغيره أو دفع شره عن غيره. وهل تكف يدك عن شيئه وتكف بصرك عما متع به وتسأل الله مما عنده من فضله؟ وإنما تقوم بواجبك نحوه مما تقدم وتكف يدك وعينك عنه وتسأل الله مما عنده راضياً بما قسم لك معتقداً الخير كل الخير في قسمته- إذا تذرعت بالصبر على إتيان ما يطلب منك إتيانه وإن كان عليك ثقيلاً. والكف عما يُطْلب منك الانكفاف عنه وإن كان منك قريباً وفي طبعك لذيذاً، وإنما يكون لك هذا الصبر إذا كنت دائم اليقين بعلم الله بك واطلاعه عليك وأنه كان بك بصيراً. هذه الحقائق كلها هدتنا هذه الآية الكريمة إليها: هدتنا إلى أنَّا امتحنا ببعضنا، وأن الذي يخلصنا في هذا الإمتحان ويخرجنا سالمين هو الصبر، وأن حالتنا في الإمتحان منكشفة لمن سيجازينا عليها. فلنهتد بهدايتها إلى ما هدتنا إليه، ولنتدرع في هذا الإمتحان بالصبر المتين ولنستحضر في قلوبنا مراقبة الله لنا لتثبت قدمنا في مقام الصبر بروح اليقين، فبذلك نخرج- إن شاء الله تعالى- من نار الفتنة ذهباً خالصاً نقياً، وجوهراً طيباً زكياً فنسعد في الدارين برضى رب العالمين، والله ولي التوفيق (1).

_ (1) ش: ج1، م 8، ص 7 - 12 غرة شوال 1350 - فيفري 1932

ندامة الظالم على تركه السبيل القويم وصحبته للمضلين

نَدَامَةُ الظَّالِمِ عَلَى تَرْكِهِ السَّبِيلَ الْقَوِيمِ وَصُحْبَتِهِ لِلْمُضِلِّينَ {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما سأل المشركون أن يروا الملائكة أخبروا بأنهم سيرونهم في يوم يكون شره عليهم عظيماً. وذكر في الآيات السابقة ما يكون في ذلك اليوم من حبوط أعمالهم وتشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة وغير ذلك، وذكر في هذه الآيات ما يكون في ذلك اليوم من ندم الظالم وسوء حاله. المفردات: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، كوضع الكفر موضع الإيمان، ووضع المعصية موضع الطاعة. وحق الله تعالى أن يؤمن به ويوحد ويطاع، فمن كفر أو أشرك به أو عصاه فقد ظلم. وهو هنا الكافر والمشرك لأنه الذي لم يتخذ مع الرسول سبيلاً. الويلة: الهلكة كالويل بمعنى الهلاك، فلان: يكنى به عن الأعلام كما يكنى بالهن

_ (1) 27/ 25 - 29 الفرقان.

التراكيب

عن الأجناس. الخليل: فعيل بمعنى فاعل، وهو من تخللت مودته القلب وامتزجت بالنفس فكانت له مكانة منهما وسلطان عليهما. هذا في جانب الخلق وأما في جانب الله تعالى فبالمعنى الذي يليق بقدسه وتنزيهه فإبراهيم- عليه السلام- خليل الرحمن بما له عنده تعالى من عظيم المنزلة ورفعة الشأن وقبول الدعوة وما له عليه من جزيل الإنعام. الإضلال: الصد والصرف عن طريق الحق والنجاة. الذكر: القرآن العظيم، وفسر بالشهادتين وبالإسلام، والقرآن فيه ذلك كله وهو الذي سيأتي على الأثر ذكر هجرهم له، ولذلك اخترناه في معنى الذكر هنا. الشيطان: الخبيث الشرِّير الذي استولى عليه وتمكن منه خلق الإفساد، والإضرار من الجن والإنس. الخذول: الكثير الخذل أي التسليم والترك لمن نزل به البلاء في وقت الحاجة إلى إنقاذه. التراكيب: شأن من وقع في غيظ وحسرة وندامة أن يعض يديه ويأكل بنانه كأنه لمَّا لم يجد شيئاً يطفيء فيه غيظه رجع على نفسه بذلك، فعض اليد لازم لحالة الحسرة والغيط والندامة، فلذا يكنى به عنها من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، وذلك لا يمنع من وقوع العض منه حقيقة بل وقوع ذلك هو الشأن الغالب. وجملة {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} حالية فهو يعض حالة كونه قائلاً يا ليتني فبينت هذه الجملة ما يقول كما بينت التي قبلها ما يعمل، فصورتاه في حاله الشنيع الفظيع. ويوم: منصوب بأذكر أو معطوف على {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} كما عطف عليه {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} ويوم يرون: منصوب بأذكر أو بيمنعون البشرى كما يدل عليه {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} والتنكير في قوله {سَبِيلاً}، للإفراد أي سبيلاً واحداً لا تعدد فيه، بخلاف ما كان عليه الظالم من سبل أهوائه

المعنى

المتعددة المتشعبة، والألف في {يَا وَيْلَتَى} منقلبة عن ياء المتكلم، والأصل يويلتي، نادَى ويلته أي هلكته لتحضر في ذلك الوقت لأنه وقتها وليس نداؤها رغبة في حضورها، فالهلاك لا يرغب فيه وإنما نادى الهلاك ليحضر لما حصل له من اليأس والقنوط من أسباب النجاة، فلم يبق له إلا الهلاك، كما يقول العليل للطبيب وقد آيس من معالجة جرح بيده مثلاً: اقطع فهذا وقت القطع، وهكذا يخرج كل نداء في حالة شدة لما لا يخلص منها، وإنما يزيد في اشدادها كما ينادي الشقي (يا شقوتاه) والمفتضح (يا فضيحتاه) والمصاب (يا مصيبتاه) وكنى بفلان لأن لكل ظالم خليلاً له اسمه الخاص فلا يمكن التصريح بأسماء الجميع، فما بقي إلا الكناية عنها بفلان، وجملة {لَقَدْ أَضَلَّنِي} بيان لسبب تمنيه السابق وأل في الشيطان والإنسان للجنس، فيدخل في جنس الشيطان خليل الظالم الذي صده عن الذكر وقرين خليله من الجن الذي سول له ذلك وأعانه. وقرينه هو الذي زينه له ودعاه إليه، والجملة من كلام الظالم لإعلان خيبته وإظهار ألمه منها لما وجد نفسه وحده مخذولاً ممن أضله وأغواه. المعنى: ويوم يعض الظالم لنفسه بالكفر لربه أو الشرك على يديه ندماً وحسرة على تفريطه وعدم اتباعه لسبيل الحق مع الرسول الذي أرسل إليه وعلى توريطه لنفسه بصحبته لخليله وطاعته له حتى صرفه عن الإيمان بالقرآن بعد ما جاءه وسمعه وتمكن من الإيمان به فأغواه ذلك الخليل وقرينه، وقرينه (1) هو حتى أردوه ثم خذلوه في ذلك اليوم العظيم وفي وقت الحسرة والندامة فلم يجد منهم نصراً ولا معونة كما هو شأن الشياطين في خذلان من يغووه ويردوه (2).

_ (1 و 2) كذا في الأصل.

إلحاق واعتبار

إلحاق واعتبار: كما علينا أن نتبع سبيل الرسول- عليه وآله الصلاة والسلام- التي جاء بها من عند الله- تعالى- وهي الإسلام كذلك علينا أن نتبع سبيله في القيام بشرائع الإسلام علماً وعملاً في أبواب العبادات وأحكام المعاملات، وفي تطبيق أصول الإسلام وفروعه على الحياة الخاصة والعامة، وهذه هي سنته التي كان عليها وكان عليها أصحابه وأهل القرن الثاني من التابعين وأهل القرن الثالث من أتباع التابعين، تلك القرون المشهود لها بالخيرية على غيرها بلسان المعصوم. وكما أن من عدل عن الإسلام ولم يسلك سبيله وقع في ضلال الكفر كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل الإسلام يندم أشد الندم ويتحسر أعظم الحسرة على ما كان من تفريطه كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل السنَّة إذ كل منهما قدظلم نفسه وفرط في سبيل نجاته. فالآية وإن كانت في الكافر والمشرك فهي تتناول بطريق الإعتبار أهل الأهواء والبدع، وبهذا كانت متناولة بوعظها وترهيبها جميع الخلق ممن لم يدخل في الإسلام أو دخل فيه، ولم يلتزم سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. تحذير: عندما تتخلل محبة شخص من الناس قلبك وتمتزج بروحك ويستولي بسلطان مودته عليك تصير أقواله وأفعاله كلها عندك مرضية وعيوبه ونقائصه عنك محجوبة. فتمسي طوع بنانه ورهن إشارته، يوجهك حيث شاء، ويصرفك عما أراد. وهذه حالة من أخطر الأحوال عليك لأنك فيها قد سلبت تمييزك وخسرت إرادتك وصرت آلة في يد غيرك، فقد ترى الخير وتدعى إليه فيصرفك عنه، وقد ترى الشر وتحذر منه ويوقعك فيه، وهب هذا الخليل كان مخلصاً لك وحدباً عليك فإنه غير معصوم من الخطأ والضلال، أما إذا كان شريراً مفسداً فهنالك الهلاك المحقق والوبال الشديد، وقد ذكر لنا الله- تعالى- في

إرشاد

هذه الآية ما كان من سوء مآل الظالم بسبب انقياده لخليله واتباعه له عن غير روية وصدق تمييز يحذرنا من سلطان الخلة الذي يهمل معه شأن الإرادة والتمييز ويعلمنا أن علينا أن نحافظ على إرادتنا وتمييزنا ونظرنا لأنفسنا مع الصديق والعدو، ومع الخليل وغير الخليل، بل نحافظ عليهما مع الخليل أكثر لأنه مظنة الخوف بما له من المكانة في القلب والسلطان على النفس. إرشاد: لما كان خليل المرء بهذه المنزلة فعليك أن تختار من تخال، فلا تخال إلا من حسنت سريرته واستقامت سيرته وغلب الصواب على أقواله وأعماله ليكون دليلك إلى الخير وسائقك إليه، مع محافظتك على إرادتك وتمييزك معه على كل حال. علامة: إذا أردت أن تعرف شر خلانك وأحقهم بهجرك له وابتعادك عنه فانظر فيما يرغبك هو فيه وما يرغبك عنه، فإذا وجدته يرغبك عن القرآن وعما جاء به القرآن فإياك وإياه فتلك أصدق علامة على خبثه وسوء عاقبة قربه، فابتعد عنه في الدنيا قبل أن تعض على يديك على صحبتك له في الأخرى. وإذا وجدته يرغبك في القرآن وما جاء به القرآن فذلك الخليل الزكي الصادق فاستمسك به وحافظ عليه. وإن خلة أسست على الرجوع إلى القرآن والتحاب على القرآن والتناصح بالقرآن لخلة نافعة دنيا وأخرى لأنها أسست على أساس التقوى. وقد قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (1) (2).

_ (1) 67/ 43 الزخرف. (2) ش: ج2، م8، ص 63 - 75 غرة شوال 1350 - فيفري 1932

شكوى النبي الكريم من هجر القرآن العظيم

شَكْوَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما ذكر تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن والإعراض والصد عنه وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة على ما كان منهم من ذلك في الدنيا ذكر ما قاله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من الشكوى لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره. المفردات: مهجورا: متروكاً مقاطعاً مرغوباً عنه. الرسول: محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقومه: قريش. التراكيب: في قوله {يَا رَبِّ} إظهار لعظيم اِلتجائه وشدة اعتماده وتمام تفويضه لمالكه، ومدبر أمره وموالي. الإنعام عليه. وفي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفي التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب،

_ (1) 25/ 30 الفرقان.

المعنى

بيان لعظيم جرمهم، فتركهم للقرآن وهو قريب منهم في متناولهم وقد أتاهم به واحد منهم أقرب الناس إليهم. فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب. وهذا أقبح الصد وأظلمه. وفي قوله: {اتَّخَذُوا ... الخ} بيان أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم، وذلك أعظم من أن يقال هجروه، الذي يفيد وقوع الهجران منهم دون دلالة على الثبوت والملازمة. المعنى: وقال الرسول شاكياً لربه إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم قد صدوا عنه فتركوه وثبتوا على تركه وهجره. إستنتاج واعتبار: في شكوى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من هجر القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور عليه وأبغضها لديه، وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للمهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه، ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد. تنزيل: ونحن- معشر المسلمين- قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة. وبيَّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال والحرام ووجوه النظر والإعتبار مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح

الخاص والعام فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاط المختصرة تفني الأعمار قبل الوصول إليها، وبيَّن القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساويء الأخلاق ومضارها، وبيَّن السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بقدسيتها فهجرنا ذلك كلها (1) ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا واصطلاحات من اختراعاتنا خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع، وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والتبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيُّل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقي بين أهلها بذور الشقاق والخصام وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها والإقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها. وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل، فهحجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وفرن الثور! ودعانا القرآن الى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير، كتفسير الجلالين، مثلاً بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك. وفي جامع الزيتونة عمره الله- تعالى- إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير فإنه- ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياماً أو شهوراً، فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلاً دون أن

_ (1) كذا في الأصل.

بيان واستشهاد

يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية. فهذا هجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسم أنهم في خدمة القرآن. وعلَّمنا القرآن أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما أتاهم وينهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن، فهجرناها كما هجرناه وعاملناه بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم من أهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة. وكم وكم وكم بيَّن القرآن وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران. بيان واستشهاد: شر المهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه، لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم، فكان شرهم متعدياً وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك، وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم في كتاب (أعلام الموقِّعين) عن حماد بن سلمة ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة عن معاذ بن جبل قال: ((تكون فتن فيكثر المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن فيقرؤه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنَّه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة))

سبيل النجاة

قاله معاذ ثلاث مرات ا. هـ فانظر في قطرنا وفي غير قطرنا كم تجد ممن بنى موضعاً للصلاة ووضع كتباً من عنده أو مما وضعه أسلافه من قبله وروَّجها بين أتباعه فأقبلوا عليها وهجروا القرآن. وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه إذ لا نفع بما صرف عباد الله عن كتاب الله، وإنما يدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمي صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه وأكد في التحذير بالتكرير. وهذا الحديث وإن كان موقوفاً على معاذ فهو في حكم المرفوع لأنه إخبار بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- إلا بتوقيف من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله. سبيل النجاة: لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوَّع الذي نذوقه ونقاسيه إلا بالرجوع إلى القرآن. إلى علمه، وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقه فيه وفي السنة النبوية شرحه وبيانه، والإستعانة على ذلك بإخلاص القصد وصحة الفهم والإعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والإهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين، وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه ييسِّر على من توكل على الله فيه، وقد بدت طلائعه والحمد لله وهي آخذة في الزيادة إن شاء الله وسبحان من يحيي العظام وهي رميم.

التسلية والتثبيت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

التَّسْلِيَةُ وَالتَّثْبِيتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما شكا عليه الصلاة والسلام قومه سلاَّه الله تعالى وعزَّاه وأمره بالصبر والثبات ووعده ورجاه. المفردات: العدو: وزنه فعول يكون للواحد والجماعة. التراكيب: كاف كذلك بمعنى مثل، والإشارة (2) للجعل المفهوم مما تقدم، أي مثل ذلك الجعل للأعداء لك جعلنا لكل نبي ... الخ. المعنى: مثلما جعلنا لك أعداء من قومك كفروا بك وهجروا كتابك وصدوا عنك وبالغوا في إذايتك جعلنا لكل نبيء مما نبأنا أعداء من أهل الذنب والإجرام، فما أصابك إلا ما أصابهم فاصبر كما صبروا وكفى بربك

_ (1) 25/ 31 الفرقان. (2) في الأصل: الإشار.

ترهيب

هادياً يهديك إلى طريق الحق ويبصرك الرشد ويعرفك بما تؤدي به رسالة ربك، فلا تتحير في أمرك لما ترى من صدود قومك وناصراً ينصرك على أعدائك يأمره بالصبر ويثبته بالتآسي، يعده بأنه يهديه في طريق التبليغ وينصره على معارضيه حتى يتم أمر الله على يده. ترهيب: هؤلاء الذي (1) سماهم الله- تعالى- أعداء لنبيه ووصفهم بالإجرام هم أولئك الذين هجروا القرآن وصدوا عنه فهذا تخويف عظيم ووعيد شديد لكل من كان هاجراً للقرآن العظيم بوجه من وجوه الهجران. إقتداء وتأس: حق على حزب القرآن الداعين به والداعين إليه أن يقتدوا بالأنبياء والمرسلين في الصبر على الدعوة والمضي فيها والثبات عليها وأن يداووا أنفسهم عند ألمها واضطرابها بالتآسي بأولئك السادة الأخيار. بشارة: قد وعد الله تعالى نبيه بعد ما أمره بالتآسي والصبر- بالهداية والنصر- وفي هذا بشارة للدعاة من أمته من بعده السائرين في الدعوة بالقرآن وإلى القرآن على نهجه أنه يهديهم وينصرهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) معهم بالفضل والنصر والتأييد، وهذا عام للمجاهدين المحسنين والحمد لله رب العالمين (3).

_ (2) كذا في الأصل وصوابه الذين. (2) 69/ 29 العنكبوت. (3) ش: ج2، م8، ص 68 - 75 غرة شوال 1350 - فيفري 1932

تثبيت القلوب بالقرآن العظيم

تَثْبِيتُ الْقُلُوبِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيِمِ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: هذا اعتراض آخر من اعتراضاتهم الباطلة نسق مع ما تقدم منها ليجاب عنه ويبين خطؤهم فيه كما فعل تقدمة. المفردات: {لَوْلَا}: مع المضارع للتحضيض نحو {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ} (2) ومع الماضي للوم والتوبيخ نحو {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (3) وهي هنا مع الماضي فتكون للوم على عدم حصول المذكور وحصول ضده، والمقصود من اللوم هنا الإعتراض على عدم نزوله جملة واحدة ونزوله مفرقاً، فالمعترض عليه هو نزوله مفرقاً. {نُزِّلَ}: يأتي مرادفاً لأنزل، والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيداً للتكثير فيفيد تكرر النزول وتجديده. وخرج على هذا قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا

_ (1) 25/ 32 الفرقان. (2) 46/ 27 النمل. (3) 13/ 24 النور.

التراكيب

لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ- من الكتاب- وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (1) وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج لئلا يناقض قولهم جملة واحدة، فيكون من التضعيف المرادف للهمزة. وعندي أن {نزَّل} المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته، فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية، لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كل جزء من الأجزاء بمفرده. (كَذَلِكَ): الإشارة للإنزال المفرق المفهوم من قولهم {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً} لأنه في معنى: لمه نزل عليه جملة ولم ينزل عليه مفرقا. (التثبيت): ثبات الشيء إقامته ورسوخه دون اضطراب وذلك من قوته، كما أن اضطراب المضطرب من ضعفه، فتفسير تثبيت الفؤاد هنا بتقويته تفسير يلازم معناه، على أنه مراد منه أيضاً أصل المعنى، وهو السكون وعدم الإضطراب. فتثبيته- إذاً- هو تسكينه وتقويته. (الترتيل): مادة رتل كلها ترجع إلى تناسق الشيء وحسن تنضيده، منه ثغر رتل- بالتحريك- أي مفلج بين الأسنان فرج لا يركب بعضها بعضاً، وترتيل القرآن في التلاوة هو القاء حروفه حرفاً حرفاً وكلماته كلمة كلمة وآياته آية آية على تؤدة ومهل حتى يتبين للقارىء وللسامع، ولا يخفى عليه منه شيء، وأما ترتيله في نزوله وهو المراد هنا فإنه (2) إنزاله آية وآيتين وآيات مفرقاً نجوماً على حسب الوقائع. التراكيب: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وصل لأنه قيل من أقوالهم فعطف على ما تقدم من مثله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ} الأصل أنزلناه كذلك

_ (1) 3/ 3 آل عمران. (2) كذا في الاصل.

المعنى

فأوجز بحذف المتعلق لوجود ما يدل عليه في اعتراضهم وفصل لأنه جواب عن اعتراضهم. {وَرَتَّلْنَاهُ}: وصل لأنه معطوف على أنزلناه المحذوف، والتنوين في {تَرْتِيلًا} تنوين تنويع وتعظيم أي نوعاً من الترتيل عظيماً. المعنى: وقال الذين كفروا- وهم قريس أو اليهود أو الجميع، وهو الظاهر لأن قريشاً واليهود كان يتصل بينهم الكلام في شأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وشأن القرآن- قالوا معترضين ومقترحين: لمه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة وغيرها ونزل عليه مفرقاً. فقال الله- تعالى- جواباً لهم وأنزلناه كذلك الإنزال مفرقاً لنثبت به قلبك فيسكن ويطمئن وتقوية فيصبر ويتحمل. وأنزلناه مرتلاً مفرقاً تفريقاً مرتباً منزلاً كل قسم منه في الوقت المناسب لإنزاله والحالة الداعية إليه اللائقة به. مزيد بيان للإعتراض والجواب: أما اعتراضهم فكان لأنهم سمعوا القرآن يذكر أن الكتاب أنزل على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كما أنزلت الكتب على الأنبياء- عليهم السلام- من قبله بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} فقالوا لماذا نزل هذا الكتاب مفرقاً ولم ينزل مثل تلك الكتب جملة واحدة؟ وهم لما عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه أخذوا يباهتون بالباطل ويعترضون بمثل هذا الإعتراض. وأما الجواب فكان ببيان حكمتين في إنزاله مفرقاً: الحكمة الأولى تثبيت قلبه والحكمة الثانية تفريقه مرتباً على الوقائع وكان في تينك الحكمتين مزيتان عظيمان للقرآن العظيم على غيره من كتب الله تعالى فكان ما اعترضوا به على أنه نقص فيه عنها هو كمال له عليها.

شرح الحكمة الأولى

شرح الحكمة الأولى. كان كل نجم ينزل من القرآن العظيم- والنجم القسم الذي ينزل معاً آية أو آيتين أو أكثر- يزداد به عجزهم وعنادهم ظهوراً وتزداد به حجة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وصدقه وضوحاً فيزداد بذلك سكون قلبه وطمأنينته بظهور أمره على عدوه وعلو كلمة الحق على كلمة الباطل وفي ذلك تقوية له وأي تقوية لا عن شك كان في قلبه أو تردد ولكن البراهين المتوالية والحجج المتتالية تزيد في سكون القلب واطمئنانه، وإن كان معقوداً من أول أمره على اليقين فهذا وجه من تثبيت فؤاده بالآيات المتفرقات في النزول. وقد كان كل نجم من نجوم القرآن ينزل بشيء من العلم والعرفان مما يرجع إلى العقائد أو الأخلاق أو الأحكام أو التذكير بالأمم الماضية وأخبار الرسل المتقدمين أو باليوم الآخر أو بسنة الله في المكذبين إلى غير ذلك من علوم القرآن فيتقوى قلبه عند نزول كل نجم بما يكتسبه منه من معرفة وعلم. وكان يلقى من الجهد والعناء في تبليغ الرسالة ما تضعف عن تحمله القوى البشرية، فإذا نزل عليه القرآن واتصل بالملك الروحاني النوراني وقذف في قلبه ذلك الوحي القرآني تقوى قلبه على تحمله أعباء الرسالة ومشاق التبليغ ولما كان البلاء والعناء في سبيل التبليغ متكرراً متجدداً كان محتاجاً إلى تجديد تقوية قلبه وكان ذلك مقتضياً لتفريق نزول الآي عليه. فهذه ثلاثة وجوه من التثبيت. حظنا من العمل بهذه الحكمة: قلوبنا معرضة لخطرات الوساوس بل للأوهام والشكوك. فالذي يثبتها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليقين هو القرآن العظيم. ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم، ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلاّ شكاً وما ازدادت قلوبهم إلا مرضاً حتى

شرح الحكمة الثانية

رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد القرآن، وأدلة القرآن، فشفوا بعد ما كادوا، كإمام الحرمين والفخر الرازي. وقلوبنا معرضة لران المعصية الذي تظلم منه القلوب وتقسوا حتى تحجب عنها الحقائق وتنطمس أمامها سبل العرفان. فالذي يجلو عنها ذلك الران ويزيل منها تلك القسوة ويكشف لها حقائق العلم ويوضح لها سبل المعرفة هو القرآن العظيم. فقراؤه المتفقهون فيه قلوبهم نيرة مستعدة لتلقي العلوم والمعارف، مستعدة لسماع الحق وقبوله، لها من نور القرآن فرقان تفرق به بين الحق والباطل وتميز به بين الهدى والضلال، وقلوبنا معرضة للضعف عن القيام بأعباء التكليف وما نحن مطالبون به من الأعمال والذي يجدد لنا فيها القوة ويبعث فيها الهمة هو القرآن العظيم فحاجتنا إلى تجديد تلاوته وتدبره أكيدة جدا لتقوية قلوبنا باليقين، وبالعلم، وبالهمة والنشاط للقيام بالعمل. شرح الحكمة الثانية: من محاسن هذه الشريعة المطهرة أنها نزلت بالتدريج المناسب كما كان في تحريم الخمر وكما كان في العدد المفروض عليه الثبات للعدو في آيات الأنفال وكما كان في مشروعية قيام الليل في آيات سورة المزمل وما كان ليكون هذا التدريج بغير تفريق الآيات في التنزيل. ومن محاسنها نسخ المحكم عند انتهاء المصلحة التي اقتضت تشريعه وانقضاء زمنها لحكم آخر أنسب منه للبقاء في الأزمان كما كان في آيتي المتوفى عنها في سورة البقرة وما كان ذلك ليتأتى إلا بتفريق الآيات في الإنزال. وكانت الوقائع تقع والحوادث تحدث والشبه تعرض والإعتراضات ترد فكانت الآيات تنزل بما تتطلبه تلك الوقائع من بيان وما تقتضيه تلك الحوادث من أحكام وما تستدعيه تلك الشبه من رد وتلك الإعتراضات من إبطال إلى غير ما ذكرنا من مقتضيات نزول الآيات المعروفة بأسباب النزول وفي بيان الواقعة عند وقوعها

حظنا من العمل بهذه الحكمة

وذكر حكم الحادثة عند حدوثها ورد الشبهة عند عروضها وإبطال الإعتراض عند وروده، ما فيه من تأثير في النفوس ووقع في القلوب ورسوخ في العقول وجلاء في البيان وبلاغة في التطبيق واستيلاء على السامعين وما كان هذا كله ليتأتى لولا تفريق الآيات في التنزيل وترتيلها وتنضيدها هذا الترتيل العجيب وهذا التنضيد الغريب الذي بلغ الغاية من الحسن والمنفعة حتى إنه ليصح أن يعد وحده وجهاً من وجوه الإعجاز. حظنا من العمل بهذه الحكمة: أن نقرأ القرآن ونتفهمه حتى تكون آياته على طرف ألسنتنا ومعانيه نصب أعيننا لنطبق آياته على أحوالنا وننزلها عليها كما كانت تنزل على الأحوال والوقائع فإذا حدث مرض قلبي أو اجتماعي طلبنا دواءه في القرآن وطبقنماه عليه وإذا عرضت شبهة أو ورد اعتراض طلبنا فيه الرد والإبطال وإذا نزلت نازلة طلبنا فيه حكمها وهكذا نذهب في تطبيقه وتنزيله على الشؤون والأحوال إلى أقصى حد يمكننا. اقتداء: انظر الى هذه الحكمة في هذا التنزيل كيف تنزل آياته على حسب الوقائع في هذا قدوة صالحة لأئمة المجتمع وخطبائها في توخيهم بخطبهم الوقائع وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال. بلى والله بلى والله، ولقد كانت الخطب النبوية والخطب السلفية كلها على هذا المنوال تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال، وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال فما هي إلا مظهر من مظهر (1) قصورنا وجمودنا. فإلى الله المشتكى وبه المستعان (2).

_ (1) كذا في الأصل. (2) ش: ج3، م8، ص 133 - 139 غرة ذي القعدة 1350 - مارس 1932

الحق والبيان في آيات القرآن

الْحَقُّ وَالْبَيَانُ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1). المناسبة: لما رد تعالى إعتراضاتهم وأبطل شبهاتهم أخبر تعالى بأنه لا يزال القرآن كذلك يدمغ باطلهم بحقه فيزهقه. ويصدع غشاء تمويهم بصادق بيانه فيمزقه لطمْأنة قلب نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- وتثبيته ووعداً له بدوام النصر والتأييد. المفردات: (المثل): هو الشبه، هذا أصله، ثم يطلق على الكلام الذي قيل أول ما قيل في مقام، ثم لحسنه وإيجازه حفط وجرى على الألسنة وصار يقال في كل مقام يشابه مقامه الأصلي الذي قيل فيه أولاً لمشابهة المقام الثاني للمقام الأول. ثم صار يطلق أيضاً على كل كلام فيه بيان لشيء وتصوير له، سواء أطابق ذلك البيان والتصوير الواقع وأتى بالحق أم لم يطابق الواقع ولم يأت بالحق، وهذا المعنى هو المراد هنا، فإن المشركين جاؤوا بكلمات في حق الله- تعالى- وفي حق كتابه وفي حق ملائكته وفي حق نبيه، لم يطابقوا فيها الواقع ولا أتوا فيها بحق كقولهم في الله وملائكته: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا

_ (1) 33/ 25 الفرقان.

التراكيب

الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}. وفي نبيه: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}. وفي القرآن: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}، {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فهذه هي أمثالهم التي ضربوها فضلوا. وجاء القرآن بعد كلماتهم الباطلة بكلمات الحق الدامغة مثل قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} فهذه هي أمثال الله التي جاءت بالحق وأحسن تفسيراً، التفسير: الكشف عن المعنى. التراكيب: وصلت الجملة لمشاركتها لما قبلها في الخبرية والمخبر عنهم والموضوع المتحدث عنه مما جاؤوا به من الباطل وما رد عليهم به من الحق، وجملة {جِئْنَاكَ} حالية من كاف الخطاب المفعول في {لَا يَأْتُونَكَ} والحصر بالنفي، وإلا في تلك الحال والتقدير: ولا يأتونك بمثل في حال من أحوالك إلا في حال مجيئنا بالحق وأحسن تفسيرا، والتعبير بالمضارع في يأتونك يفيد الحدوث وتجدد الإتيان منهم، والتعبير بالماضي في جئناك مع أنه في معنى المستقبل يفيد تحقق المجيىء، وهو المناسب لمقام الوعد والتثبيت. المعنى: ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون وأمثالهم بكلام يحسنونه ويزخرفونه يصورون به شبهة باطلة أو اعتراضاً فاسداً إلا جئناك بالكلام

إهتداء

الحق الذي يدمغ باطلهم ويدحض شبهتهم وينقض اعتراضهم ويكون أحسن بياناً وأكمل تفصيلاً. إهتداء: اذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شبه الظالمين واعتراضاتهم ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوجز لفظ وأقربه وأبلغه، وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية ومزيد دراية وخبرة. ولا نحسب شبهة ترد على الإسلام إلاَّ وفي القرآن العظيم ردها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة، فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع إلى آي القرآن ولا أخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلا واجديها فيها وكيف لا نجدها في آيات ربنا التي هي الحق وأحسن تفسيراً. إقتداء: لنقتد بالقرآن فيما نأتي به من كلام في مقام الحجاج أو مقام الإرشاد فلنتوج دائماً الحق الثابت بالبرهان أو بالعيان ولنفسره أحسن التفسير ولنشرحه أكمل الشرح ولنقربه إلى الأذهان غاية التقريب وهذا يستدعي صحة الإدراك وجودة الفهم ومتانة العلم لتصور الحق ومعرفته ويستدعي حسن البيان وعلوم اللسان لتصوير الحق وتجليته والدفاع عنه فللإقتداء بالقرآن في الإتيان بالحق وأحسن بيان علينا أن نحصل هذه كلها ونتدرب فيها ونتمرن عليها حتى نبلغ إلى ما قدر لنا منها. هذا ما على أهل الدعوة والإرشاد وخدمة الإسلام والقرآن، فأما ما على عموم المسلمين من هذا الإقتداء فهو دوام القصد إلى الإتيان بالحق وبذل الجهد في التعبير بأحسن لفظ وأقربه ومن أخلص قصده في شيء وجعله من وكده أعين- بإذن الله تعالى- عليه.

حشر الكفار إلى النار

حَشْرُ الْكُفَّارِ إِلَى النَّارِ {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما أبطل شبههم بين مآلهم وجزاءهم. المفردات: (الحشر): السوق والجمع. (المكان): المنزل. (والسبيل): الطريق. التراكيب: فصلت الجملة لأنها بيان لحالهم في الآخرة وهو غير الموضوع المتقدم: عرف المسند إليه بالإشارة في قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} للتنبيه على أن المشار إليه وهو الذي (2) المتقدم حقيق بما بعد اسم الإشارة من قوله: {شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} بسبب ما اتصف به المشار إليه المتقدم مما دلت عليه الصلة، وهو حشرهم على وجوههم إلى جهنم الذي ما أصابهم إلا بما قدمت أيديهم، ففي الحقيقة هم الحقاء بكونهم شراً مكاناً وأضل سبيلا بسبب ما أداهم إلى ذلك الحشر. فاكتفى بذكر المسبب عن السبب وأفعل التفضيل لم يذكر

_ (1) 34/ 25 الفر قان. (2) كذا في الأصل.

المعنى

معه المفضل عليه ليفيد أن مكانهم شر مكان من أمكنة الشر وسبيلهم أضل سبيلاً من سبيل الضلال. وإسناد الضلال للسبيل مجاز. المعنى: هؤلاء المشركون القائلون للمقالات المتقدمة ومن كان على شاكلتهم في الكفر، والعناد الذين يجمعون ويساقون إلى جهنم مقلوبين على وجوههم أولئك شر مكاناً ومستقراً فإنهم أهل النار وأضل طريقاً فإنهم سلكوا طريق الكفر الذي أداهم إلى ذلك المستقر. حديث: أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة. فقه: من هذا الحديث علمنا أنه يجب فيما يرد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظاهره ولو كان غير معتاد في الدنيا لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم. توجيه: رفعوا وجوههم في الدنيا عن السجود لله فأذل الله تلك الوجوه فمشوا عليها في المحشر، ورفعوا رؤوسهم كبراً عن الحق فنكَّسها الله يوم القيامة، ومشوا في طريق النظر والاستدلال مشياً مقلوباً فمشوا في الآخرة مشياً مقلوباً فكان ما نالهم من سوء تلك الحال جزاءاً وفاقاً لما أتوا من قبيح الأعمال. وما ربك بظلام للعبيد.

تحذير

تحذير: فيما يذكره الله تعالى من هذا الجزاء العادل تخويف عظيم لنا من سوء الأعمال التي تؤدي إلى سوء الجزاء وخصوصاً من مثل ما ذكر فيما تقدم من ترك السُّجود والكبر على الحق والنظر المقلوب. عصمنا الله والمسلمين أجمعين بالعلم والدين وهدانا سنن المرسلين آمين يا رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج3، م8، ص 140 - 142 غرة ذي القعدة 1350 - مارس 1932

من إكرام الله تعالى عبده تحميله أعباء الرسالة وحده

مِنْ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَبْدَهُ تَحْمِيلُهُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ وَحْدَهُ {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: قد استفيد من الآيات المتقدمة ما كان يكابده النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من إذاية قومه وما كان يلقاه من مكابرتهم للحق، وتعنتهم بالباطل، وما كان يعانيه من الجهد الجهيد في إنذارهم وتبليغ دين الله- تعالى- إليهم وقد أحاط به الأعداء من كل جانب، ولقيته العقبات من كل ناحية، وهو في ذلك كله جاهد في القيام بتبليغ الأمانة، ناهض بأعباء الرسالة في تلك السبيل ليس معه من نذير وقد كان ذلك مما تتفسخ له القوى البشرية لولا تأييد من الله، فأراد تعالى في هذه الآية أن يثبته في مقامه ويؤنسه في انفراده، فيبين له أن تخصيصه بالقيام هذا المقام العظيم هو لأجل تعظيمه، وتكريمه، وتخصيصه بالأجر الكثير، والثواب الذي ليس له من مثيل. المفردات: البعث: الإرسال. القرية: منازل الناس حيث يقيمون ويكونون مجتمعاً كبيراً أو صغيراً. النذير: المخوف من الوقوع في الشر والهلاك.

_ (1) 25/ 51 الفرقان.

التراكيب

التراكيب: مفعول المشيئة محذوف قياساً، وتقدير الكلام ولو شئنا أن نبعث، والبعث في كل قرية منتف بحكم لوْ لأنَّها هنا تدل على امتناع شرطها. المعنى: لو أردنا لأرسلنا في كل بلدة ومصر رسولاً ينذرهم ويخوفم من حلول نقمتنا بهم بكفرهم بنا، ومعصيتهم لنا، فيخف عنك عبء ما حملت ويسقط عنك بذلك تعب كثير ولكنا لم نرد ذلك وحملناك أنت وحدك أعباء وأثقال النذارة لجميع القرى ليظهر فضلك بعموم رسالتك ويعظم أجرك بعظم جهادك وصبرك ويكثر ثوابك بكثرة من يؤمن بك، ومن تودُّ وتعمل ليؤمن بك. حديث: صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر. وأعطيت الشفاعة)). وذكر اللونين الأحمر والأسود لقصد التعميم، هكذا جاء هذا الحديث عن جابر بن عبد الله في صحيح مسلم وجاء فيه من طريق أبي هريرة زيادة ((وختم بي النبيون " فتعميم رسالته وختم النبوة به في هذا الحديث الصحيح من طريقيه من مقتضى معنى الآية فإنه لما عمت رسالته ولم يكن معه رسول في حياته وختمت به النبوة فلا يكون كذلك بعد وفاته ثبتبت له كرامة الخصوصية، وعظمة المنزلية وجزالة المثوبة، وهو ما كنا بيناه في معنى الآية، وما أحسن التفسير تعضده الأحاديث الصحاح.

تأسي ورجاء

تأسي ورجاء: قد ثبت في السُّنَّة ما يكون من كثرة الجهل، وموت السنة، وانتشار البدعة، وقد أيد ذلك الواقع والمشاهدة، فإذا كان دعاة العلم، والسنة، وخصوم الجهل، والبدعة، فلا بد أن يكونوا قليلاً في العدد الكثير خصوصاً في مبدأ أمرهم وأول دعوتهم، ولا بد أن يلقوا ما يلقون ويقاسوا ما يقاسون، ومما يثبت قلوبهم في عظيم مواقفهم تآسيهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء وحده بالحق والناس كلهم على الباطل فما زال يجاهد حتى لقي ربه، ومما يثبت قلوبهم أيضاً رجاؤهم- إذا أخلصوا النية وأحسنوا الإقتداء- فيما يكون لهم من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، في جهادهم على قلتهم، وفيما يكون لهم من الثواب كذلك فيمن اهتدى بهم وفيمن بذلوا جهدهم في هدايته، وكانت لهم الرغبة العظيمة في إيصال الخير إليه، وإن لم يرجع إليهم. عَدَمُ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ. وَالْجِهَادُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1). المناسبة: لما بين ما خصصه به من الكرامة دعاه إلى مقابلة ذلك بعدم طاعة أهل الكفر والثبات على جهادهم بالقرآن. المفردات: الفاء تعريفية- الطاعة: الإمتثال للطلب. والجهاد: بذل الجهد من

_ (1) 25/ 52 الفرقان.

التراكيب

ناحيتك في مقابلة من هو باذل جهده في الناحية المقابلة لك، هذا مقتضى صيغة فعال. التراكيب: جهاداً كبيراً مصدر مبين للنوع المطلوب بصفته وهي كبيرا. المعني: لما أكرمناك بعموم رسالتك وختم النبوة بك فقابل هذه النعمة، بإخلاص الطاعة لربك ولا تطع الكافرين أعداء الله وأعدائك في أي شيء يدعونك إليه من مقتضيات كفرهم كالرجوع إليهم والسكوت عن بعض كفرهم، وابذل كل جهدك في دعوتهم للدين الحق، ومقاومة ما هم عليه من الباطل بالقرآن العظيم، وجاهدهم بهذا القرآن جهاداً كبيراً بتحمل كل ما يأتيك من ناحيتهم من بلاء وإذاية والصبر عليه والثبات على الدعوة والمقاومة. تعميم: كما لا تجوز طاعة الكافرين في شيء مما يمليه عليهم كفرهم كذلك لا تجوز طاعة العصاة في شيء مما تمليه عليهم معصيتهم لأن الجميع فيه مخالفة لدين الله وكما يجاهد أهل الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبير كذلك يجاهد به أهل المعصية لأنه كتاب الهداية لكل ضال والدعوة لكل مرشد، وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة من التنبيه بالأعلى على الأدنى لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة. إقتداء: ما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليطيع الكافرين وإنما جاء هذا النهي تهييجاً له على تمام مخالفتهم ومعاكستهم في جميع

إستدلال

مناحي ومظاهر كفرهم، والخطاب وإن كان له فالحكم شامل لأمته فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافراً أو عاصياً في أيِّ شيء من نواحي الكفر ونواحي المعصية، وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه فكذلك هو فرض على أمته هكذا على الإجمال وعند التفصيل تجده فرضاً على الدعاة والمرشدين الذين (1) يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين، فالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر. إستدلال: هذه الآية نص صريح في أن الجهاد في الدعوة إلى الله وإحقاق الحق من الدين وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين، وإنكار الجاحدين، هو بالقرآن العظيم، ففيه بيان العقائد وأدلتها ورد الشبه عنها. وفيه بيان الأخلاق، محاسنها ومساوئها، وطرق الوصول إلى التحلي بالأولى والتخلي عن الثانية ومعالجتها. وفيه أصول الأحكام وعللها وهكذا فيه كل ما يحتاج إليه المجاهد به في دين الله فيستفاد منها كما يستفاد من آيات أخرى غيرها أن على الدعاة والمرشدين أن تكون دعوتهم وإرشادهم بالقرآن العظيم. ميزان: عندما يختلف عليك الدعاة الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى فانظر من يدعوك بالقرآن إلى القرآن- ومثله ما صح من السنة لأنها تفسيره وبيانه- فاتبعه لأنه هو المتبع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وجهاده بالقرآن والمتمثل لما دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن.

_ (1) في الأصل "الذي".

نعمة ومنقبة

نعمة ومنقبة: قد سمى الله تعالى الجهاد بالقرآن جهاداً كبيراً وفي هذا منقبة كبرى للقائمين بالدعوة إلى الله بالقرآن العظيم وفي ذلك نعمة عظيمة من الله عليهم حيث يسرهم لهذا الجهاد حتى ليصح أن يسمُّوا بهذا الإسم الشريف (مجاهدون) فحق عليهم أن يقدروا هذه النعمة ويؤيدوا شكرها با لقول والعمل، والإخلاص والثبات والصبر واليقين. جعلنا الله والمسلمين منهم وحشرنا في زمرتهم أجمعين (1).

_ (1) ش: ج4، م8، ص 200 - 220 غرة ذي الحجة 1350 - افريل 1932

تعاقب الليل والنهار للتفكير والعمل

تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلتَّفْكِيرِ وَالْعَمَلِ {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما سأل المشركون بقولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} كما يسألون عن المجهول ذكر لهم القرآن ما يعرفهم به من عظيم آياته وجلائل إنعاماته التي هي من آثار رحمته، فذكر لهم بروج السماء والشمس والقمر، ثم ذكر لهم تعاقب الليل والنهار. المفردات: (خلفة): يقولون خلفت الفاكهة بعضها بعضاً خَلَفا- بالتحريك- وخلفة إذا صارت خلفا، من الأولى، وخلف زيد عمرا يخلفه إذا جاء بعده في مكانه، فالخِلْفة مصدر، وهو لما كان على وزن فِعْلَة دال على الهيبة كالركبة، بمعنى الهيئة من الركوب، فالخلفة إذاً هيئة من الخلوف. فإذا قلت خلفه خلفا أو خلوفا فقد أردت مطلق الحدث، وإذا قلت خلفه خلفة فقد أردت هيئة خاصة من الخلوف. (التذكر): قبول التذكير: فإن مخلوقات الله مذكرات للعبد بربه، فتذكره هو قبوله ذلك التذكير واعتباره واتعاظه به. (الشكور): مصدر شكر، بمعنى القيام بعبادته وطاعته لأجل نعمه. (أو): للتفصيل والتنويع،

_ (1) 25/ 62 الفرقان.

التراكيب

لأن المستفيدين من اختلاف الليل والنهار هم المتذكرون والشاكرون، فلا تمنع من أن يكون الشخص الواحد متذكرا شاكرا في آن واحد. التراكيب: خلفة: مفعول ثان لجعل، على معنى جعلهما ذوي خلفة، وفي الأخبار تقول الليل والنهار خلفة، والرجلان خلفة على هذا المعنى، أي يخلف أحدهما الآخر، وكان مفردا عن الاثنين لأنه مصدر والجار في {لِمَنْ أَرَادَ} يتعلق بجعل، وكان الجعل لهما لأنهما المستفيدان منه. ولم يكرر الإسم الموصول لأن الشخص الواحد يمكن أن يتصف بالصلتين معا، وكرر فعل الإرادة لأنها لا بد منها في التذكر وفي الشكر، وقيل (أن يتذكر) ليفيد المضارع الحدوث والتجدد فإن الغفلة مستولية على الإنسان والآيات المرئية ما تزال تحدث له التذكر وتجدده له. وقيل {شُكُورًا} لمناسبة رؤوس الآي. المعنى: يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ووضعهما يختلفان ويتعاقبان على هيئة مخصوصة في التخالف والتعاقب ليستفيد من ذلك من العباد من أراد أن يتذكر فيعتبر بما فيهما من انتقال وتغير ونظام وتقدير، ويستدل بذلك على وجود خالقهما وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ورحمته بمخلوقاته، أو أراد أن يشكر فيقوم بعبادة خالقه المنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها التي منها هذا الإختلاف والتعاقب بين هذين الوقتين اللذين لا يصلح حال الإنسان ولا تنتظم أعماله ولا يستقيم عمرانه إلا به. فقه لغوي: اختيرت لفظة الخلفة هنا لدلالتها على الهيئة فتكون منبهة على

فقه شرعي

هيئة هذا الإختلاف بالطول والقصر المختلفين في جهات من الأرض وذلك منبه على أسباب هذا الاختلاف من وضع جرم الأرض وجرم الشمس وذلك كله من آيات الله الدالة عليه وبتلك الهيئة المقدر المنظم عظمت النعمة على البشر وشملتهم الرحمة فكانت هذه اللفظة الواحدة منبهة على ما في اختلاف الليل والنهار من آية دالة ومن نعمة عامة. وهكذا جميع ألفاط القرآن في انتقائها لمواضعها. فقه شرعي: لما كان جعل الليل والنهار خلفة لأجل التذكر والعمل كان كل واحد منهما صالحا للعمل الذي يعمل فيه صاحبه، فمن فاته عمل بالليل أتى به في النهار، ومن فاته عمل بالنهار أتى به في الليل، وهذا إذا كان من العادات فهو على سبيل التدارك، وإذا كان من العبادات فهو على سبيل القضاء. وقد روى ابن جرير بسند حسن: ان رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتها في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. ومن هذا ما رواه مسلم والأربعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل. فقه قرآني: حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث: الإرادة والفكر والعمل، وهي المذكورات في هذه الآية، لأن التذكر بالتفكر والشكر بالعمل. فاستفادة الإنسان مما خلقه الله له وجعله لأجله لا تكون إلا بهذه الثلاثة، وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بد للإنسان منها، فالعمل متوقف على

موعظة

البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح من العقل الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، فلهذا كان الإنسان مأموراً بالمحافظة على هذه الثلاثة عقله وخلقه وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء وتوقي الأذى والتريض على العمل. موعظة: قال الإمام ابن العربي: سمعت ذانشمند الأكبر- يعني الغزالي- يقول إن الله خلق العبد حيا عالما وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة، إذ الكمال للأول الخالق فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في الطاعة فليفعل، ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا وينام نحو سدس النهار راحة فيذهب له ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ولا يتلف عمره سهرة في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم. اهـ سلوك: حافظ على العبادات في أوقاتها، واقض ما فاتك واربط أعمالك بأوقاتها، وتدارك ما فاتك ووجه قصدك إلى ما ترى من آيات الله متفكراً ووجه قصدك في جميع أعمالك لله سامعا مطيعا- تكن عبدا ذاكرا شاكرا سعيدا- إن شاء الله- في الدارين. وفقنا الله إلى ذلك والمسلمين أجمعين (1).

_ (1) ش: ج5، م8، ص 245 - 249 غرة محرم 1351 - ماي 1932

القرآن يصف عباد الرحمن

الْقُرْآنُ يَصِفُ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الصِّفَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما تجاهل المشركون الرحمن واستكبروا عن السجود له عرفهم القرآن بالرحمن بخلقه وتدبيره وإنعامه كما مضى في الآيات المتقدمة، ثم عرفهم بعباده الذين عرفوه بذلك فآمنوا به وخصوا له بما اشتملت عليه هذه الآيات من صفاتهم. وكما كانت مخلوقات الله المذكورة سابقاً دالة عليه ومعرفة به بما فيها من آثار قدرته وآثار رحمته كذلك كان عباده المذكورون أدلة عليه ومعرفين به بأقوالهم وأفعالهم وهديهم وسلوكهم ومظاهر آثار رحمة الله عليهم، فذكروا بعد ذكر تلك المخلوقات وذكرت هي قبلهم لأنها كانت أدلة لهم، والدليل سابق على المستدل سبق المستفاد منه على المستفيد. وفي تعريف القرآن لعباد الرحمن بعد تعريفه بالرحمن تشريف كبير لهم وتبكيت لأولئك المتجاهلين المتكبرين، ووجه آخر في المناسبة، وهو أنه لما ذكر التذكر والشكر في الليل والنهار في الآية المتقدمة ذكر صفات المتذكرين الشاكرين وما أثمره لهم تذكرهم وشكرهم ترغيباً في التذكر والشكر.

_ (2) 63/ 25 الفرقان.

المفردات

وقولهم للجاهلين سلاماً من مقتضى هونهم ورفقهم، فلذلك قرن به وعطف عليه. المفردات: عباد: جمع عبد، بمعنى المملوك الذليل الخاضع، أو جمع عابد كصاحب وصحاب وتاجر وتجار بمعنى المطيع والقائم بما يرضي ربه، والأول هنا أظهر، الرحمن: المنعم الذي تتجدد نعمه في كل آن، يمشون على الأرض: يتنقلون عليها. هونا: هان الأمر يهون هونا بمعنى سهل، ومنه (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي سهل، وشيء هين على وزن فيعل، أي سهل، ويقال هين بالتخفيف. ومن صفات المؤمن أنه هين لين من الهون بمعنى السهولة في أخلاقه ومعاملته، وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعا: ((حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس) وهو على ما فسرنا من السهولة في أخلاقه ومعاملته وذلك هو الذي يقرِّبه من الناس، وفسر الهون في الآية بالحلم والوقار والسكينة والتواضع والطاعة، وكلها ترجع إلى السهولة واللين، وفسر بعدم الفساد في الأرض وعدم التجبر والتكبر لأنها كلها أضداد للسهولة واللين. خاطبهم: كَالَمهم. الجاهلون: السفهاء القليلو الأدب السيئو الأخلاق. والجهل ضد العلم ويطلق بمعنى السفه والطيش لأنهما عنه ينشآن ومنه قول الشاعر: أَلاَ لاَ يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا (1) ومنه الجاهلون في الآية. سلاما: السلام كالسلامة معناهما التعري. من الآفات والمكروهات.

_ (1) من معلقة عمرو بن كلثرم، وقوله: فنجهل فوق جهل الجاهلينا، قال التبريزي: معناه فنهلكه ونعاقبه بما هو أعظم من جهله.

التراكيب

التراكيب. وصلت الجملة بما قبلها بالواو لاشتراكهما في القصد وهو التعريف بالرحمن وبعباده. وعباد مبتدأ والذين خبر وأضاف العباد للرحمن تخصيصا لهم وتفضيلا وتقريبا وفيه تعويض بأولئك المتجاهلين المتكبرين المبعدين، وهونا منصوبا على أنه مفعول مطلق والتقدير: مشياً هوناً، أو على أنه حال من فاعل يمشون أي هينين، ومجيء المصدر حالا كثير ولمصدريته أفرد، والموصوف جمع (1) نظير الزيدون عدل. ويمشون على الأرض هونا تركيب كنائي أريد به معناه ولازم معناه، فهم يمشون هينين برفق وتثبت، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا. هذا أصل المعنى وهو مراد ومراد أيضا لازم وهو سهولتهم وتواضعهم وعدم تكبرهم ورفقهم في الأمور وبعدهم عن الإفساد. ومراد لازم آخر أيضاً، وهو سيرهم في الحياة وتصرفهم في جميع الأمور ومعاملتهم للناس، فإذا كانوا أهل رفق وسهولة في مشيهم في الأرض فكذلك هم أهل رفق وسهولة في الأمور الأخرى، مما ذكرنا، لأن الرفق والسهولة خلق فيهم فكما هو في المشي هو في غيره. وكانت الصلة بالمضارع ليفيد التجدد، فإن المشي في الأرض ضروري للإنسان وكان المعطوف على الصلة بصورة الشرط لأن خطاب الجاهلين لهم ليس مما يكون دائما، وكان التعليق بإذا لأن مخاطبة الجاهلين لهم بالسوء أمر محقق، ومتى سلم أهل العلم والدين من الجاهلين ولم يذكر ما يخاطبهم به الجاهلون للعلم بأن خطاب الجاهل أي السفيه لا يكون إلا سوءا مما يمليه عليه جهله وسفهه. ونصب سلاما على أنه مفعول مطلق، والتقدير قالوا قولا سلاما، أي ذا سلام، فيشمل كل قول فيه سلامة من الأذى والمكروه، كسلام عليكم

_ (2) في الأصل جميع.

المعنى

ويغفر الله لكم وسامحكم الله ونحو ذلك. أو نصب على أنه مفعول به، أي قالوا هذا اللفظ سلاما نفسه. المعنى: يقول تعالى وعباد الرحمن ومماليكه القائمون بحق العبودة (1) له هم أهل الرفق والسهولة الذين يمشون على الأرض هينين في مشيهم وفي معالجتهم لشؤون الحياة ومعاملتهم للناس لحلمهم وتواضعهم غير مستكبرين ولا متجبرين ولا ساعين في الأرض بالفساد. وإذا خاطبهم السفهاء بما لا ينبغي من الخطاب قابلوهم بالحلم وقالوا لهم سلاما لأنهم سلموا من الجهل، فسلم المخاطب لهم من أن يجهلوا عليه ولو جهل (2) أو قالوا لهم من الكلام ما فيه سلامة من الأذى والمكروه. الأحكام: في الآية استحباب الرفق في المشي وكراهية العنف والإضطراب، ومن العنف الضرب بالرجل والخفق بالنعل، فإذا كانا بعجب وخيلاء فهو حرام. وفيها الإغضاء عن الجاهل ومقابلة كلمته السيئة بالكلام الحسن. وكراهة مجاراته في خطابه ومماثلته، وإذا كان في ذلك فتنة أو مفسدة محققة كان حراما. تمييز: ليس من الهون في المشي التثاقل والتماوت فيه، وروي أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال لجماعة رآهم كذلك: ((لا تميتوا علينا ديننا أماتكم الله) وأن عائشة- رضي الله عنها- رأت

_ (1) كذا في الأصل ولعله العبودية. (2) كذا في الأصل.

بيان ورد

قوما يتماوتون فسألت عنهم فقيل لها هؤلاء قوم من القراء، فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وكان مشيه- رضي الله عنه- إلى السرعة خلقة لا تكلفا والخير في الوسط. وليس هون المشي وحده يعرفك بأن صاحبه من عباد الرحمن، فرب ماشٍ هوناً رويداً وهو ذئب أطلس، ولكن بالهون في المشي وبما ذكرنا في فصل التراكيب والمعنى من لوازمه. بيان ورد: اشتملت الآية على بيان الأدب في معاملة الجاهلين من أفراد الناس، أكانوا مسلمين أم غيرهم، وما اشتملت عليه من الأدب قد جاء في آيات كثيرة مثل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) و {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (2) فهو أدب مشروع مؤكد، وحكم دائم محكم، وهو في معاملات الأفراد كما ترى. فلا ينافي ما شرع من الحرب عند وجود أسبابها وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات، وهي من الأمور العامة كما ترى فبطل قول من زعم أن هذه الآية بالنسبة لغير المسلم منسوخة بآية السيف لأن هذه الآية ثابت حكمها في حالٍ وآية السيف ثابت حكمها في حال أخرى، فلا تنسخ إحداهما الأخرى. وما أكثر ما قتلت أحكام بآية السيف هذه، وهي عند التحقيق غير معارضة لها لمباينة حالها لحالها.

_ (1) 198/ 7 الأعراف. (2) 55/ 28 القصص 0

تمثيل واستدلال

تمثيل واستدلال: جاء في الصحيح من طرق مجموع ألفاظها ان رهطا من إليهود دخلوا على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا: السام عليكم (والسام الموت) ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: عليكم السام واللعنة وغضب الله عليكم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مهلا يا عائشة، عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، إن الله يحب الرفق في الأمور كلها. فقالت عائشة: أولم تسمع ما قالوا؟ فقال لها: أولم تسمعي ما قلت رددت عليهم. قد قلت ((وعليكم)) فيستجاب لي فيهم ((لأنه دعاء بحق)) ولا يستجاب لهم في ((لأنه دعاء بباطل وظلم)). فقد خاطبه هؤلاء الجاهلون بالسوء فقال لهم كلمة سالمة من القبح ليس فيها لفظ الإذاية وهو السام بعيدة عن الايحاش خالصة للرفق، فهي من القول السلام، أي ذي السلام من مقتضى الآية على الوجه الأولى من وجهيها، ففي الحديث مثال لقول السلام في خطاب الجاهل ودليل على عموم الحكم وأحكامه. سؤال وجوابه: على الوجه الثاني في الآية، وهو أنه يقول للجاهل سلاما، يقال هل يسلم عليه إذا كان كافراً، فيقال نعم كما قال إبراهيم لأبيه {سَلَامٌ عَلَيْكَ} وقد قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} (1) ولم يستثن إلا قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} نعم هو سلام موادعة ومتاركة لا سلام تحية وكرامة.

_ (2) 14/ 60 الممتحنة.

لطيفة تاريخية

لطيفة تاريخية: قالوا إن إبراهيم بن المهدي العباسي كان منحرفا عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فرآه في النوم قد تقدمه لعبور قنطرة، فقال له إبراهيم: إنما تَدَّعي هذا الأمر، يعني الخلافة، بامرأة، يعني فاطمة رضي الله عنها، ونحن أحق به منك، وحكى إبراهيم رؤياه للمأمون وقال له: فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه، فقال له المأمون: فما أجابك به؟ قال: كان يقول لي: {سَلَامًا سَلَامًا}، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال: يا عم، قد أجابك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا اهـ، فرضي الله عن الإمام الهاشمي ما أبلغه حيا وميتا. توجيه وسلوك: القول السلام محمود ومطلوب في كل حال، وإنما خصت حالة خطاب الجاهل لأنها الحالة التي تثور فيها ثائرة الغضب بما يكون من سفهه ومهاترته، فعلى المؤمن أن يكون حاضر البال بهذه الآية عند ما تسوق إليه الأقدار جاهلا، فيخاطبه بما لا يرضيه حتى يسلم من شره، ويكسر من شرته، فيسلم له عرضه ومروءته ودينه ويسلم ذلك الجاهل أيضاً من اللجاج في الشر، والتمادي فيه فيكون المؤمن بقوله السلام وتأدبه بأدب القرآن قد حصل السلامة للجميع وأعظم به من فضل وأجر في الدنيا والدين وفقنا الله لذلك والمسلمين أجمعين (1).

_ (1) ش: ج6، م8، ص 299 - 306 غرة صفر 1351 - جوان 1932

الصفة الثالثة

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (1) ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: لما ذكر فيما تقدم سلوكهم مع الخلق، ذكر في هذه الآية سلوكهم في القيام بعبادة الحق. وفيما تقدم بيان حالهم عند اختلاطهم بالعباد، وفي هذه بيان حالهم عند تفردهم لرب العباد. المفردات: يبيتون من البيتوتة وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، ويقابلها الظلول وهو أن يدركك النهار. السجد: جمع ساجد، والقيام: جمع قائم، وهو من الأوزان التي يشترك فيها المصدر والجمع. التراكيب: الذين عطف على الخبر الأول وأعيد لفظ الذين لاستقلال الحالة الثانية عن الأولى، وقدم الجار ليفيد تخصيص عبادتهم بربهم ويفيد الكلام عبادتهم وإخلاصهم، وقدم سجداً لأن السجود أقرب أحوال العبد للرب لحديث: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. ووقع قياما في موقعه مناسبا للفاصلة. المعنى: ومن صفات عباد الرحمن أنهم يحيون الليل فيبيتون يصلون لربهم يوافون بين السجود والقيام.

_ (1) 25/ 64 الفرقان.

بيان وترغيب

بيان وترغيب: هذه الآية من آيات الحث على قيام الليل مثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (1) وقد بينت السنة المطهرة مقداره فثبت في الموطأ من طريق أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا والسلام بعد كل ركعتين لحديث: ((صلى الليل مثنى)). وثبت عند مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين، فتلك ثلاث عشرة، وقد ثبت ذلك في الموطأ من طريق عروة عنها، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يصلي الليل ثلاث عشرة ركعة، وهذا هو الغالب من أحواله، وقد كان يصلي أقل منه في بعض الأحوال، فقد ثبت عند البخاري من طريق مسروق عنها أن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم بالليل سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومثل ما جاء عن عائشة من إنتهاء ركعاته إلى ثلاث عشرة. جاء في الموطأ من حديث ابن عباس، وجاء فيه أيضاً من حديث زيد بن خالد الجهني، وفي هذه السنة العملية الثابتة بيان للقدر الأكمل الذي يكون به العبد ممن يصدق عليهم هذا الوصف من صفات عباد الرحمن. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (2).

_ (1) 16/ 32 السجدة. (2) 65/ 25 - 66 الفرقان.

المناسبة

المناسبة: لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق ذكر خوفهم منن ربهم واعتمادهم عليه في نجاتهم وعدم اغترارهم بأعمالم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال ولا يعتمدونه إلا على الكبير المتعال. المفردات: الغرام مادة (غ رم) تدور على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر وبالعذاب وبالهلاك الملازم. ساءت: بمعنى قبحت مثل بئس لإنشاء الذم، المستقر: محل الإستقرار إلى الثبوت، والمقام: محل الإقامة أي البقاء. المفردات: ساءت: فاعله الضمير المخصوص بالذم، ومستقراً ومقاما تمييز مفسر للضمير، وجملة {إِنَّ عَذَابَهَا} تعليل للجملة الدعائية، وفصلت عنها لكمال الإنقطاع بينهما لإنشائية الأولى وخبرية الثانية، وجملة {إِنَّهَا سَاءَتْ} مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى، فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته أكدته الثانية بما أفاد من مقامه ومستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الإتصال نظير: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}. والتأكد فيهما بأن، لأنه لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخير وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد، فيؤكد له الخبر ووجه التلويح بهذا الخبر أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيراً إلى قبح هذا العذاب وشدته فهذا نظير: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (1)

_ (1) 11/ 37 هود و27/ 23 المؤمنون.

المعنى

المعنى: ومن صفاتهم أنهم يدعن الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لأن عذابها عذاب شديد فادح ملح ملازم، ولأنها بئست المستقر الذي يستقر ويثبت فيه وبئست المقام الذي يقام ويمكث فيه. رد واستدلال: زعم قوم أن أكمل أحوال العابد أن يعبد الله تعالى لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم ومثلها قول إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة والسلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (1) في نصوص لا تحصى كثرة، وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه، وأخطأوا فيما زعموا، فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والإفتقار والشعور بالحاجة والإضطرار وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها أن يخاف ويطمع كما يذل ويخضع ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، ولهذا كان الأنبياء- عليهم وآلهم الصلاة والسلام- وهم أشد الخلق تعظيما لله، ومن أكثرهم خوفا من الله وتعوذا من عذاب الله، وسؤالا لما عند الله وكفى بهم حجة وقدوة، وأن هذه المقالة تكاد تفضي إلى صرح الرجاء والخوف، وعليهم مبني الأعمال لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والإحتياج، ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ ((وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد)) وهذا ضروري في الدين. ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليه الغلو وقلة الفقه في الدين في الكتاب والسنة وما كان عليه هدى السابقين الأولين.

_ (1) 26/ 82 الشعراء.

إعتبار ونصيحة

إعتبار ونصيحة: إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام، وأن الدنيا هي مطية الآخرة، فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة وأن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا فمن لازمها بالكفر ومات عليه دامت له تلك الملازمة ومن لازمها بالإصرار على الكبائر كانت له على حسب تلك الملازمة. فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة ويلازم مجالس الطاعة والسنة وأن يسرع بالتوبة مفارقا الذنوب وأن لا يصر على شيء من القبائح والعيوب وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه فالله يحب التوابين ويغفر للاوابين جلنا منهم أجمعين. آمين (1).

_ (1) ش: ج9، م8، ص 454 - 458 غرة جمادي الأولى 1351 - سبتمبر 1932.

أيهما أكمل العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب أم العبادة دونهما؟

أَيُّهُمَا أَكْمَلُ (1) الْعِبَادَةُ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ أَمِ الْعِبَادَةُ دُونَهُمَا؟ زيادة بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (2). ــــــــــــــــــــــــــ قد قال قوم إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات. وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} في الجزء الصادر في غرة جمادى الأولى. وقلنا في الإنكار عليهم: "وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه وأخطأوا فيما زعموا". وذكرنا أثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها، وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة نشر الشيخ المولود الحافظي مقالا ردا علينا دون أن يذكر جميع أدلتنا ودون أن يتعرض لنقضها في سندها أو متها أو عدم انطباقها أو إفادتها لما سيقت لافادته، ودون

_ (1) فيه رد على مقال الشيخ الحافظي المدرج في جريدة البلاغ منذ بضعة أسابيع (المؤلف). (2) 65/ 25 - 66 الفرقان.

أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة. وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال. فرأينا أثر اطلاعنا على مقاله أن نعود في هذا الجزء لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه من أن وضع العبادة الشرعية على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعي، ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول: إن العبادة هي غاية الذل والخضوع مع الشعور بغاية الضعف والافتقار، ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع. فخوف العبد من عقاب ربه هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه وشهوده لعزته وقهره وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه وأنه لا يؤمن من مكره، وطمعه في ثوابه هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه وفضله وتصديقه بوعده فهو يعبده ويخاف أن لا يقبل عبادته ويخشى نقمته. ويعبده ويرجو رحمته وينتظر مثوبته، وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية والإعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة والغنى والرحمة والكمال. فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب ورجاء الثواب لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين. والدليل على هذا ستسمعه من الكتاب والسنة وأقوال السلف. أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ

يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1). ووجه الدليل من الآية أن هؤلاء المذكورين فيها هم الكمل من عباد الله الصالحين يدليل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- المروي في الصحيح قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومع كمالهم لم تتجردْ عبادتهم من الخوف والطمع. ووجه آخر: وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون فذكرها مع الخوف والطمع فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم لنقتدي بهم فيها فعلم أن العبادة التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفا وطمعا. ومثل هذه الآية: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ- إلى- رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ووجه الدليل منها كالتي قبلها وتزيد

_ (1) 15/ 32 - 17 السجدة. (2) 3/ 191 - 194 آل عمران.

عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار وغفران وتكفير السيئات. ومثلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}. ووجه الدليل منها كالتي قبلها. ومثلها قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا" (1) ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد ببيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله. ومثلها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (2).

_ (1) 7/ 76 - 9 الدهر. (2) 13/ 21 - 24 الرعد

ووجه الدليل كما تقدم وفيها أيضاً بيان أن خوف سوء الحساب لا ينافي الصبر ابتغاء وجه الله. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ. (1) ووجه الدليل ما تقدم ومعنى الآية إنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم فيخافون أن لا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال خائفين من عدم قبولها. فهؤلاء هم الكمل من عباد الله وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها وضعفها وحاجتها وفقرها وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية مقام ذي الجلال والإكرام. ولا تجد في القرآن العظيم آية واحدة دالة صريحة على ذكر عباده- هكذا- دون خوف أوطمع. ونزيد على الآيات المتقدمة آية دالة على حال عباده المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى (2): {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ

_ (1) 58/ 23 - 62 المؤمنون. (2) 82/ 26 الشعراء.

الدِّينِ} ووجه الدليل من الآية أن إبراهيم- عليه السلام- أخبر عن نفسه بصيغة المضارع المفيد للتجدد أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته، فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعاً ومعلوم أنه معصوم وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئة هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل وهو أنه خاف المؤاخذة- المؤاخذة اللائقة بمقامه- وطمع في الغفران وكانت عبادته على الطمع والخوف. ولا يقال أنه كان معلما للناس لأنه إخبار عن نفسه وخبره صدق ثابت فلا بد أن يكون كما أخبر. وأما السنة فمنها دعاء القنوت المشهور (نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد) ووجه الدليل منه أن الصلاة أشرف أحوال العبد وأجل مقاماته وأعظم عباداته وقد علم أن يدعو فيها هذا الدعاء الصريح في رجاء الرحمة وخوف العذاب وما كان ذلك إلا لأن العبادة الشرعية موضوعة عليهما. ومنها حديث: (وأما السجود فادعوا فيه، فقمن أن يستجاب لكم) وهو حديث صحيح، وفي الصحيح أيضاً (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ووجه الدليل أن أقرب أحوال العبد من ربه هو محل للدعاء، والداعي يرجى القبول ويخاف المنع، فالعبادة في أقرب أحوال العبد موضوعة على الرجاء والخوف. ومنها الحديث الصحيح: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذي أنرلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به) ووجه الدليل منه أنه تعليم لما يقوله المسلم فيما قد يكون آخر حال يلقى

عليه ربه ولا ينبغي أن يلقاه إلا على أكمل حال. فعلمنا هذا الدعاء الصريح في الرغبة والرهبة ليقوله المؤمن ولو كان من أكمل الكمل فدل على أن الرغبة والرهبة عليهما وضعت العبادة في جميع الأحوال. ومنها الحديث الصحيح: " قالت عائشة (رضي الله عنها): كنت نائمة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ففقدته فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك) ووجه الدليل أنه في الحال التي هو فيها أقرب ما يكون من ربه وهي حالة سجوده استعاذ برضى الله من سخطه وبعافيته من عقوبته، ثم لما لم يستطع الإلحاطة بأفعاله رد الأمر لذاته فاستعاذ به منه وهو في الجميع مستعيذ والمستعيذ طالب والطالب راج وطامع في نيل المطلوب فلم يفارق عبادته الرجاء والطمع حتى في هذه الحالة التي هي بينه وبين ربه لأنه كان ساجداً في جنح الليل دون حضور أحد من الناس إلا عائشة التي كانت نائمة واستيقظت ففقدته فاطلعت عليه في تلك الحال. ومنها الحديث الصحيح عن ابن عباس الذي كان يعلمهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إياه كما يعلمهم السورة من القرآن رواه مالك وفيه: (اللهم أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ووجه الدليل منه أنه علمهم هذه الاستعاذة الصريحة في الخوف والرجاء كسائر ما علمهم من الدعوات المبنية عليهما. وهكذا تجد جميع دعواته المأثورة على الرغبة والرهبة والرجا والخوف ولا تجد دعاء واحداً علمهم فيه أن يتوجوا إلى الله تعالى دون رغبة ولا رهبة ولا رجاء ولا خوف، ولو كانت العبادة الخالية

من الطمع والخوف هي أكمل العبادة لكان بينها لهم بيانا شافيا صريحا كعادته في بيان الكمالات، وهو الحريص على دلالتهم على كل خير، فكيف لم يدلهم على هذا المقام بصريح المقام لو كان من الكمال بحيث يدعى لها بعض الناس. فقد بان لنا بما ذكرناه توارد آيات الكتاب وأحاديث السنة في صراحة وجلاء على مشروعية العبادة مقرونة بالرغبة والرجاء والخوف، ولم نظفر بآية واحدة أو حديث واحد فيه التصريح بمشروعيتها مجردة منهما فضلا عن أنها أكمل منها معهما، وما كنا لنترك أدلة الكتاب والسنة الصريحة لرأي أحد كائنا من كان، وإننا نورد فيما يلي حديثا من صحيح البخاري يبين لنا كيف كان الصحابة سادة هذه الأمة يعبدون الله تعالى يرجون قبول أعمالهم لديه: (قال أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري، قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال قلت لا قال فإن أبي قال لأبيك يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وهجرتنا معه وجهادنا وعملنا كلنا معه بَرْدٌ لنا وإن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا رأساً برأس قال أبي (يعني أبا موسى) لا والله قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك فقال أبي (يعني عمر) لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا وأن كل شيء عملناه بعد نجونا منه كفافا رأسا برأس فقلت- أبو بردة- إن أباك والله خير من أبي) ووجه الدليل عملهم على الرجاء وخوفهم من عدم القبول والعقاب على المخالفة وإن اختلفا فيما اختلفا فيه ولا تجد في كلام واحد منهم أنه كان يجرد عبادته عن الطمع والخوف وما كان المقام الأكمل ليفوتهم وهم أفقه الناس في الدين وأحرصهم على الخير. هذه هي أدلتنا فيما ذهبنا إليه ورددنا على مخالفيه وهي أكثر من

هذا عدا في كتاب الله وسنة رسوله وفيما ذكرناه كفاية- إن شاء الله- لمن نصح وأنصف وأخلص الإيمان بقوله تعالى (1): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. والآن نعطف بالكلام على مقال الشيخ ونحْصره في مواضع: 1 - أنكرنا على من زعموا أن مرتبة العبادة العليا أن يعبد الله تعالى لذاتِه دون الطَّمع في ثوابه ولا الخوف من عقابه ونسبنا إليهم الخطأ ولما وجدنا آيات الكتاب وأحاديث السنة طافحة بأن عبادة الكمل من عباد الله مقرونة بالخوف والطمع كما قدمنا نسبنا خطأهم إلى قلة التفقه في الدين أي في أدلة الدين وهي الآيات والأحاديث المذكورة، وما عسى أن يقال فيمن لم تكفه تلك الآيات والأحاديث كلها على صراحتها واتفاقها إلا أنه لم يتفقه فيها. ولما لم نجد آية واحدة ولا حديثا واحداً يصرح بمدعاهم حملناهم على الغلو هذا كله دون أن نصرح بشخص ولا بطائفة لأن الكلام مع القول والدليل. فأبى حضرته إلا أن يحمل كلامنا على طائفة مخصوصة يحب هو اليوم التظاهر بالدفاع عنها ثم تطرق من ذلك إلى رمينا بما يناسب غرضه من الجرأة وقلة النصيحة والتطاول على الأئمة إلى ما يريد أن يصفنا به ليقول القارىء أن حضرته موصوف بضده. وربك أعلم بتلك الأوصاف وأهلها. 2 - كان استدلالنا بآية (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) على الوجه الذي بيناه فيما تقدم دون أن نذكر الحصر ولا أن نشير إليه ولا من مقتضى

_ (1) 4/ 85 النساء0

موضوعنا أن نقصر عباد الرحمن على تلك الصفات، لكن حضرته أخذ يقرر في قواعد الحصر الضرورية عند المبتدئين وخرج من ذلك إلى أن الآية لا حصر فيها وإننا تسرعنا وما تدبرنا ولم نحسن تطبيق قواعد العلوم على موضوع النزاع. وفي الحق أن حضرته هو الذي لم يحسن تنزيل ما طولب به في الحصر على كلام لم ندع فيه الحصر ولم نستدل به وإنما استدللنا بالآية مثل ما استدللنا بغيرها على الوجه الذي تقدم وعلى ما معه من الوجوه. 3 - ما في كلام الإمام الرازي من أن الله مستحق للعبادة لذاته وأنه لو أمرنا بالعبادة بلا ثواب ولا عقاب لوجبت فهو حق مسلم وليس هو موضوع النزاع، كان موضوع النزاع هل العبادة مع الخوف والرجاء أكمل أم العبادة دونهما وما فيه من أن (من عبد الله للثواب والعقاب فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب والله واسطة) - إذا كان يعني به أنه عبد الله للثواب من حيث ذاته والعقاب من حيث ذاته دون الإمتثال للأمر وتوجه للرب، فهذا ليس كلامنا فيه، وإن كان يعني أنه يعبد للثواب والعقاب من حيث أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب وخوف العقاب فهو يعبد الله امتثالا لأمره- فكلامه منوع لأن العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالا لأمره وقياما بحقه مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربوبية وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية وذلك يبعث على الرجاء المأمور به، فالمعبود في الحقيقة والواقع هو المتوجه إليه بالطاعة وهو الله تعالى لا الثواب الذي تعلق به الرجاء ولا العقاب الذي تعلق به الخوف. وكيف يكون الثواب وهو المعبود والعقاب هو المعبود والله هو الذي شرعهما، فهل يشرع عبادة غيره، وما هذا إلا من عدم التأمل في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ

رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1). أي شأنه أن يحذر ومن حقه أن يحذر وهل هذا إلاَّ من عدم التفقه في قوله تعالى- في أم القرآن والسبع المثاني التي يناجي بها المصلي ربه وهو في أعظم عبادة-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن المستعين طالب للإعانة والطالب راج قبول طلبه خائف من عدم قبوله. وقوله تعالى فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} طلبا كذلك فليتفقه المتففهون في كلام رب العالمين. 4 - ونقل كلام الإمام الرازي في باب المحبة قوله: (وأما العارفون فقد قالوا قد يحب الله تعالى لذاته وأما حب خدمته وحب ثوبه فدرجة نازلة) ونحن نقول إن الذات أقدس الموصوف بالكمالات المفيض للإنعامات تتعلق به قلوب المحبين موصوفا بكمالاته وإنعاماته التي منها ثوابه وجزاءه وتلك المحبة تبعث على خدمته بطاعته والتقرب إليه بأنواع العبادات وأما عبادة الذات مجرداً عن الإنعامات فهو نوع من التعطيل في الإعتقاد والتقصير في الشهود وإذ كانت المحبة عملا من أعمال العبد القلبية التي يتقرب بها إلى الله فهي عبادة. وقد بينا بالأدلة المتقدمة أن العبادة في الإسلام موضوعة على مصاحبة الرجاء والخوف والمحب للرب ذي الجلال والإكرام والبطش والإنعام لا يغيب عن إجلاله بالخوف والتذلل له بالطمع كحاله في سائر العبادات. 5 - ونقل من كلام النيسبوري قوله: (المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة وعلى المنعم لا على النعمة) فإن كان مراده أن نظرهم على المعبود أي إعتمادهم في القبول على المعبود لا على العبادة فهذا حق وليس كلامنا فيه، وإن كان مراده أن نظرهم على المعبود أي توجههم

_ (1) 57/ 17 الاسراء.

إلى المعبود دون العبادة فهذا ايضا حق لان العبادة متوجة بها لا إليها وليس كلامنا في هذا. وإن كان مراده دون تقرب بالعبادة فهذا باطل لأن الله تعالى قال: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي ما يقربكم إليه من طاعته وإن كان مراده دون شعور بالعبادة فهذا أيضا باطل لأن العابد ينوي العبادة ويقصد بها القربة ويتوجه بها مخلصا فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فكيف يكون لا شعور له بها وأما قوله (وعلى المنعم لا على النعمة) فإن أراد أن المتقرب إليه هو الله المنعم دون النعمة، فهذا حق وليس كلامنا فيه، وإن أراد أن رجاء نعمة الثواب حين التوجه لله والتقرب إليه بالطاعة ينافي التقرب إلى المنعم ويعد تقربا للنعمة فهذا هو الذي أبطلناه بالأدلة السابقة ونقضناه في الموضع الثالث. وإن أراد أن ذكر العبد لنعم الله عليه مخل بكمال عبادته فهذا باطل أيضا لأن عبادة الله شكرا على ما أتى من النعم وطلبا للمزيد من أرفع المقامات وقد قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (1) {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا - إلى- شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} (2)، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (3) {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (4) و {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (5). 6 - إستدل النيسبوري: (بأنه قيل لبني إسرائيل اذكروا نعمتي

_ (1) 34/ 13 سبأ. (2) 120/ 16 - 121 النحل. (3) 19/ 27 النمل و 25/ 46 الأحقاف. (4) 14/ 31 لقمان. (5) 7/ 14 إبراهيم.

ولأمة محمد اذكروني) وهذا منقوض بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (1)، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} (2). 7 - نقل من كلام النيسبوري ما يفيد أن عبادة الله لكونه إلاهاً وكون المخلوق عبداً لا يكون معها رغبة في الثواب ولا رهبة من العقاب وأنها هي أعلى الرتب ونحن نقول من مقتضى شعورك بعبوديتك شعورك بضعفك وفقرك وإن من مقتضى علمك بالله شهودك لقوته وفضله وذاك الشعور وهذا الشهود يبعثان فيك الرجاء والخوف فتكون وأنت تعبده لأنه إله ولأنك عبد راجيا خائفا. ودعوى تجرد العبادة عنهما قد أبطلناها بالأدلة السابقة. 8 - نقل قول الإمام ابن العربي ((أمر الله عباده بعبادته وهي أداة الطاعة بصفة القربة وذلك بإخلاص النية بتجربد العمل عن كل شيء إلا لوجهه وذلك هو الإخلاص الذي تقدم بيانه)) ثم زعم هو من عنده أن من مقتضى تجريد العمل عن كل شيء تجريده من رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص هو ما كان لوجه الله لكونه إلاهاً لا غير. وهذا صريح منه في أن رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص وهو باطل لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ .. (3) " الآية، وقد تقدمت فخافوا وعملهم لوجه الله بنص القرآن. وروي الأئمة في الصحيح أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إني أسمع الله

_ (1) 3/ 103 آل عمران. (2) 33/ 9 الأحزاب. (3) 9/ 76 الدهر.

تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة الله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح. فأقره على قوله أرجو برها وذخرها ولم يقل له أن هذا مناف للإخلاص كما يقول الشيخ، وهو يسمبط ويشنبط في كلام الإمام ابن العربي ثم مالك- ياخي- ولابن العربي حسبك ابن سينا وأمثاله الذين يحاولون تطبيق العبادة الإسلامية على الفلسفة اليونانية والآراء الأفلاطونية، أما إبن العربي فهو حكيم إسلامي وفقيه قرآني وعالم سني- حقيقي- لا يبني أنظاره إلا على أصول الإسلام ودلائل الكتاب والسنة. وهاك كلامه في إرادة المأذون فيه مع العبادة من أمور الدنيا بله الرجاء والخوف والسمع كلامه الصريح من الدليل الصحيح في الرد على مثل زعمك قال على قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. المسألة الثانية: قال علماؤنا: (في هذا دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء إن الحج دون تجارة أفضل أجراً) وقال على قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} (1): (وهذا يدل على أن العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة الثواب). 9 - ونقل كلاما للإمام الغزالي في المحبة وقد قدمنا في الموضع

_ (1) 33/ 29 الأحزاب.

الثامن الكلام على مثله وبين أن المحبة عبادة وأنها موضوعة كسائر العبادات الشرعية على الرجاء والخوف بالأدلة المتقدمة. 10 - وقال: وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك) وقد تقرر أن خوفه خوف اجلال وتعظيم لا خوف النار والعقاب اهـ، ونقول أن خوف الإجلال لا يخرج به العبد عن ضعف وذل العبودية ومشاهدة قوة وفضل الربوبية فلا يتجرد خوفه الإجلالي عن خوف المؤاخذة: المؤاخذة التي ليست ناراً ولا عذاباً ولكنها مؤاخذة مناسبة لذلك المقام العالي بدليل أن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- وهو مثل نبينا عليه الصلاة والسلام في العصمة وعدم النار والعقاب وقد خاف المؤاخذة فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ولا خطيئة له ولجميع الأنبياء والمرسلين لا من الكبائر ولا من الصغائر على كل حال، وبدليل أنه هو عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري، وليس هذه لذنب لا صغير ولا كبير وانما هو لعلمه بالله وعظيم حقه وشدة تعظيمه لربه فيخاف المؤاخذة فيطلب المغفرة فبان بهذا أن خوف الإجلال لا يتجرد عن خوف المؤاخذة. وبعد هذا البيان نقول لحضرته لا تستدل بالحديث دون بيان رتبته ولا ذكر لمخرجه، وما هكذا يكون استدلال الأمناء من العلماء وأنه يرمي الأحاديث هكذا مهملة اختلط الحق بالباطل وتجرأ على السنة النبوية الغبي والجاهل حتى بلغ الأمر إلى نسبة الأحاديث إلى كتب الإسلام المتفق عليها ولا وجود لها فيها، أما نحن فلا نعرف هذا الدعاء في الصحاح المتداولة عندنا فليتك تبين من أين جئت به حتى نعرف مقدار ما تعتمد في احتجاجك عليه.

11 - وقال: فللأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حالتان: حالة مع الله- تعالى- لا يرون فيها غير جلاله وعظمته: وحالة مع الخلق يستغفرون ويستعيذون من النار وسوء المنقلب وفتنة القبر والدجال، ويطلبون الرحمة والثواب والجنان اهـ، ونقول قد بينا أن رؤية جلال الله مما يبعث على الخوف من المؤاخذه كما مضى عن إبراهيم ومحمد- عليهما الصلاة والسلام- فلا يتجردون عن الخوف خوف الاجلال وخوف المؤاخذة في حالتهم مع الله وقد دل حديث عائشة الذي قدمناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في سجوده في جوف الليل والناس نيام فيما بينه وبين ربه استعاذ برضا الله من سخطه وبمعافاته من عقابه فكانوا يستعيذون ويرجون ويخافون في حالتهم مع الله وأما حالتهم مع الناس فإنهم كانوا يعلمون وكانوا يخبرون عن أنفسهم بخوفهم وطمعهم كما أخبر إبراهيم- عليه السبلام- بطمعه وأخبر محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه بأنه أتقاهم لله وأخوفه له وأخبر عن استغفاره لربه وأخبارهم حق صدق لا شك فيه ولا يجوز أن يقال إنهم قالوه لمجرد التعليم وهو في الواقع لا حقيقة له إذ الإخبار عن النفس بشيء أنه كان وهو لم يكن هو الكذب الذي عصمهم الله منه ونزههم عنه ولو تفطن حضرته لهذا لما قال ما قال. 12 - وذكر حديث الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورها وأتم الإخلاص بها وقد علمت أن من مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عزٍّ وقوة وفضل الربوبية فينبعث الرجاء والخوف في العابد وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة بإتقانها والإخلاص

فيها. ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى مشاهدته، أي مشاهدة جلاله وجماله: بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع فصدق الشهود لا يد معه من الرجاء والخوف وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات الباعثين للخوف والرجاء وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجردا فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهدا بل غافلا معطلا جامدا وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث عن أن تكون فاضلة كاملة. فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين اللتين يكون فيها العبد عابدا العبادة الشرعية الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الادلة المتقدمة. 13 - ونقل كلام ابن سينا في كتاب الإشارات وكلام شراحه وهو مثل ما تقدم لنا إبطاله بأدلة الكتاب والسنة والشرح بهما لمعنى العبادة المشروعة. وإذ كنا نبحث عن العبادة التي شرعها الله لعباده على لسان رسوله فإننا لا نعرفها إلا من الكتاب والسنة وقد قدمنا من أدلتهما ما جلى المسألة للعيان وأغنى فيها عن كل كلام. وتلخص وتبين لنا مما تقدم أن العبادة المشروعة هي القصد إلى الطاعة مع الشعور بضعف العبد وذله، وحاجته وفقره ومشاهدته لجلال ربه وقدرته وعزته، وجماله وفضله ورحمته فيكون بتلك المشاهدة خائفا من عقابه أو مؤاخذته، راجيا لثوابه وإنعامه، وأن هذه العبادة هي عبادة الكمل من عباد الله الذين وصفهم بأفضل صفاتهم في كتابه وهي عبادة أنبيائه ورسله الذين ذكر عبادتم القرآن وهي عبادة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- التي دلت عليها صحاح الآثار وعبادة أصحابه الثابتة في النقول، وخلصنا من هذا إلى أن

الصفة الخامسة

العبادة المجردة عن الخوف والرجاء منافية لصدق مشاهدة الجلال والجمال مخالفة لعبادة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين وأنه لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة مثل واحد من الأدلة المتقدمة المتكاثرة وأنها ما دامت كذلك ليس لنا أن نعدها مشروعة فضلا عن أن نعدها كاملة فضلا عن أن ندعى أنها أكمل لأن مشروعية الشيء لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح. وأنى لنا ذلك في العبادة المجردة عن الرجاء والخوف والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والحمد لله رب العالمين (1). الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: {الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (2). المناسبة: مضى وصفهم بأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما، والصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر وتربي النفس على استصغار الدنيا وما فيها، وعلى تعظيم الرب والوقوف عند حدوده، فلا يعظم شيء من الدنيا عند أهل الصلاة فيمسكوا عن بذله في الحق، ولا يستهويهم شيء منها فينتهكوا لأجله حدود الله وحرماته. ولما كان المال هو أعز شيء من هذه الدنيا، وهو أعظم سبب لنيل مبتغياتها، وصفوا بأنهم في تصرفهم فيه على أكمل حال، وهي حالة العدل التي أثمرتها لهم الصلاة، فلا يمسكونه عن حق ولا يبذلونه في باطل.

_ (1) ش: ج1، م9، ص 1 - 8 غرة رمضان 1351 - جانفي 1933 (2) 67/ 25 الفرقان.

المفردات

المفردات: أنفقوا: بذلوا المال في وجه من الوجوه. الإسراف: مجاوزة الحد المشروع. الإقتار والتقتير: التضييق. القوام: العدل بين الشيئين، أي المعتدل ما ينهما، وسمي العدل بين الشيئين قواما لاستقامة طرفيه واعتدالهما فلا إلى هذا ولا إلى ذاك. التراكيب: وكان: أي هو، أي إنفاقهم المفهوم من أنفقوا. بين ذلك: خبر كان، وقواما: حال مؤكدة، فلو قيل: وكان بين ذلك لكان كافياً، ولكن أكد بِقِوَاماً لما فيه من صريح اللفظ المفهم للعدل. والإنفاق يكون ولا يكون، والشأن أن يكون، ولهذا علق وكان التعليق بإذا، وقدم نفي السرف على نفي التقتير لأن الإسراف شرهما، ففيه مجاوزة الحدود وضياع المال، وفي التقتير مفسدته مع بقاء المال، فينفقه في الخير وقد يبقى لغيره فينتفع به. المعنى: إذا أنفقوا أموالهم لم يتجاوزوا الحد المشروع ولم يضيقوا فيقصروا في القدر المطلوب، وكان إنفاقهم بين التجاوز والتضييق عدلا مستويا لا إفراط فيه ولا تفريط، وصفهم بالقصد الذي هو وسط بين الغلو والتقصير وهو الحالة بين الحالتين والحسنة بين السيئتين. تحديد: الإسراف مذموم فهو ما كان في منهي عنه نهي تحريم أو كراهة، أو في مباح قد يؤدي إليهما. فالأول كمن أَوْلَمَ وليمة أنفق فيها جميع ماله، وأصبح بعدها هو وأهله للضبيعة والحاجة، والثاني كمن أَوْلَمَ وليمة دعته إلى الإستدانة وإن كان يظن القدرة على الأداء

تطبيق

لأن الدَّين محذر ومستعاذ منه، والثالث: كالإستمرار على إيلام الولائم مع القدرة عليها في الحال مما قد يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين في المآل. والتقتير مذموم أيضا، فهو ما كان إمساكا عن مأمور به أمر وجوب، أو استحباب أو عن مباح يؤدِّي إليهما، فالأول: كمن يمسك عن أهله شحاً حتى يذيقهم ألم الجوع والبرد، والثاني: كمن لا يذيقهم بعض الطيبات التي يخص بها نفسه من السوق. والثالث: كمن يمسك عن تطبيب خاطر زوجته ببعض الكماليات مع قدرته عليها مما قد يفسد قلب زوجته عليه أو يحملها على ما لا يرضيه. والقوام العدل هو الممدوح، فهو أن ينفق في الواجب والمندوب وما يؤدي إليهما ويمسك عن المحرم والمكروه وما يؤدي إليهما ويتسع في الحلال دون مداومة في الأوقات واستيفاء لجميع اللذات واستهتار بالمشتهيات. تطبيق: حالة وطننا في الأعم الأغلب في الولائم والمآتم لا تخلو من السرف فيها الذي يؤدي إلى التقتير من بعدها فيكون الإثم قد أصاب صاحبها بنوعيه وأحاط به من ناحيتيه والشر يجر إلى الشر والإثم يهدي إلى مثله، وعلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين علق كثير ممن سمعناهم يشكون هذه الحالة آمالهم في معالجتها خصوصا في المآتم حقق الله الآمال. وثم نوع آخر موجود في غالب القطر ويكثر في بعض الجبال، وهو أن بعض المأمورين من بعض شيوخ الطوائف يأتون بثلة من أتباعهم فينزلون على المنتمين إليهم من ضعفاء الناس فيذبح لهم العناق إن كانت ويستدين لشرائها إن لم تكن ويفرغ المزاود ويكنس لهم ما في البيت ويصبح معدما فقيرا مدينا ويصبح من يومه صبيته يتضاغون

نصيحة

ويمسي أهل ذلك البيت المسكين يطحنهم البؤس ويميتهم الشقاء ميتات متعددة في اليوم وشر ما في هذا الشر أنه يرتكب باسم الدين ويحسبه الجهال أنه قربة لرب العالمين، فأما إذا جاء وقت الرحال إلى الأحياء والأموات وتقديم النذور والزيارات فحدث هنالك عن أنواع السرف والتكلفات والتضييع للحقوق والواجبات. نصيحة: فياليت الذين تأتيهم تلك الوفود يسألونهم فردا فردا عن حالهم ومن أين جاؤوهم بما جاؤوهم به من أموالهم فعساهم أن يطَّلعوا على بؤس أولئك المساكين فترق لهم قلوبهم ويرجعوا إليهم مالهم أو يزيدوهم من عندهم وليقتصروا على من يجدونهم أهل قدرة على ما دفعوه لهم من أموالهم فهذه نصيحة إذا عملوا بها خففت من الشر والبؤس عن الزائرين ومن الإثم واللوم عن المزورين. فهل بها من عاملين، وفقنا الله والمسلمين (1). الصِّفَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (2). سبب النزول: ثبت في الصحيحين- واللفظ لمسلم- أن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر؟ قال: أن تدعو الله ندًّا

_ (1) ش: ج10، م8، ص 497 - 503 غرة جمادى الثانية 1352 - أكتوبر 1932 (2) 68/ 25 الفرقان.

المطابقة بين الآية وسبب نزولها

وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ- إلى- أَثَامًا}. المطابقة بين الآية وسبب نزولها: تواردت الآية والحديث في الإثم الأول على شيء واحد. وتوارد أيضاً في الثاني والثالث، إلا أن في الحديث ذكر فرد من العام هو شر أفراده وأكبرها إثماً، وفي الآية ذكر العام، ولا شك أنَّ شر قتل الولد لما في ذلك زيادة على قتل النفس من الخروج عن حنان الفطرة وارتكاب ضد ما توجبه الرعاية والكفالة، وسوء الظن بالله المتكفل برزق الخليقة. كما أن الزنى بحليلة الجار هو شر أفراد الزنى لما فيه زيادة على الزنى من انتهاك حرمة الجار وخيانة الأمانة، فإنهم ما تجاوروا حتى أمن بعضهم بعضا وأدخل الفساد على أساس التكوين الاجتماعي في الناس، وهو التجاور والتقارب. المناسبة: لما أثبت لهم أصول الطاعات في الآيات المتقدمة نفى عنهم أمهات المعاصي في هذه الآية تنبيها على أن الإيمان الكامل هو ما تثبت معه الطاعات وتنتفي المعاصي، وذلك هو غاية الإمتثال للأوامر والنواهي، وفيه تعريض بما كان عليه المشركون من الإتصاف بهذه المعاصي من دعائهم آلهتهم مع الله وقتلهم النفس وارتكابهم فاحشة الزنى. وقدم إثبات الطاعات على إنتفاء المعاصي تنبيها على أن من راض نفسه على الطاعة ودانت نفسه، والإنقياد للأوامر الشرعية ضعفت منه أو زالت دواعي الشر والفساد فانكف عن المعصية.

نكتة استطرادية

نكتة استطرادية: فمن هنا نعلم أن على المسلم الذي يعمل لتزكية نفسه أن يواظب على الطاعات بأنواعها وأن يجتهد في حصول الأنس بها والخشوع فيها، فإن ذلك زيادة على ما يثبت فيه من أصول الخير يقلع منه أصول الشر ويميت منه بواعثه. وجه ترتيب هذه الصفات المنفيات: قامت الشريعة على المحافظة على حقوق الله وحقوق عباده، وحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فمن دعا مع الله غيره وأشرك به سواه فقد أبطل حق الله وأعدم عبادته، ومن قتل النفس فقد تعدى على أول حق جعله الله لعباده بفضله وهو حق الوجود وعمل على إبطال وجودهم وفناء نوعهم وزوال عبادتم. فلهذا قرن قتل النفس بدعاء غير الله معه. ولما كان الزنى فيه بطلان النسب وفساد الخلق والجسد وذلك مؤد إلى الإضمحلال والزوال والشرور والأهوال قرن بقتل النفس فذلك قتل حقيقي وهذا قتل معنوي. المفردات: الدعاء: هو النداء لطلب أمر أو تنبيه عليه. الإله: هو المعبود. حرم الله النفس: جعل لها حرمة ومنعة فلا يجوز التعدي عليها ومادة (ح رم) تفيد المنع في جميع تصاريفها، الحق: هو الثابت من مقتضيات القتل في الشرع. التراكيب: وصف النفس بالإسم الموصول المعروف الصلة، لأن تحريم الله لها أمر مركوز في النفوس معروف للبشر بما جاءهم من جميع الشرائع، وكان النفي للفعل بصيغة المضارع للإشارة إلى استمرار ذلك النفي.

المعنى

المعنى: والذين لا يدعون ولا يعبدون مع الله إلها آخر فيشركون به سواه في عبادتهم إياه ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة ويوحدونه في ربوبيته وألوهيته، ولا يقتلون النفس التي جعل الله لها حرمة وحرم قتلها بالسبب إلا الحق الثابت في دين الله المعارض لحرمتها المقتضي لقتلها بالزنى بعد الإحصان أو الكفر بعد الإيمان أو القتل للنفس العمد العدوان، ولا يزنون فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج. مزيد بيان لتوحيد الرحمن: من دعا غير الله فقد عبده. ما يزل الذكر الحكيم يسمي العبادة دعاء يعبر به عنها. ذلك لأنه عبادة فعبر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع لأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها فإن العابد يظهر ذله أمام عز المعبود وفقره أمام غناه وعجزه أمام قدرته وتمام تعظيمه له وخضوعه بين يديه، ويعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلبه منه حوائجه. فالدعاء هو المظهر الدال على ذلك كله، ولهذا كان مخ عبادته. وقد جاء التنبيه على هذا في السنة المطهرة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عيه وآله وسلم-: الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. رواه أحمد والترمذي وأبو داوود رحمهم الله والنسائي وابن ماجة. وعن أنس - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي- رضي الله عنه- فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة. فمن دعا غير الله فقد عبده، وإذا كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة فالحقيقة لا ترتفع بعدم تسميته

من دعا شيئا فقد اتخذه إلها

لها باسمها وتسميته لها بغير اسمها، والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته. من دعا شيئا فقد اتخذه إلها: لما ثبت أن الدعاء عبادة فالدَّاعي عابد والمدعو معبود والمعبود إله، فمن دعا شيئا فقد اتخده إلهه لأنه فعل له ما لا يفعل إلا للاله، فهو وإن لم يسمه إلها بقوله فقد سماه بفعله. ألا ترى إلى أهل الكتاب لما اتبعوا أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم- وهما لا يكونان إلا من الرب الحق العالم بالمصالح- قال الله تعالى فيهم: ({اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1). وإن كانوا لا يسمونهم أربابا فحكم عليهم بفعلهم ولم يعتبر منهم عدم التسمية لهم أربابا بألسنتهم). فكذلك يقال فيمن دعا شيئا أنه اتخذه إلهاً نظرا لفعله وهو دعاؤه، ولا عبرة بعدم تسميته له إلها بلسانه. وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره أنه قال للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لما سمعه يقرأ هذه الآية، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه وإذا أحلوا لهم شيئا أحلوه! قال: قلت: نعم، فتلك عبادتهم إياهم. قال الإمام الجصَّاص: ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم بالمصالح ثم قلد هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وقبلوه منهم وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلل صاروا متخذين لهم أربابا إذ نزولهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب اهـ وعلى وزانه نقول: لما كان الدعاء عبادة والعبادة لا تكون إلا للاله كان الداعي لشيء من المخلوقات متخذا اياه إلهاً لما نزله

_ (1) 32/ 9 التوبة.

تحذير وإرشاد

بدعائه إياه منزلة الاله، سواء دعاه وحده دون الله أو دعاه مع الله والعياذ بالله. تحذير وإرشاد: ما أكثر ما تسمع في دعاء الناس "يا ربي والشيخ"، "يا ربي وناس ربي"، "يا ربي والناس الملاح" وهذا من دعاء غير الله مع الله فإياك أيها المسلم وإياه. وادع الله ربك وخالقك وحده وحده، وحده، وأنف الشرك راغم. الوعد بالعذاب الشديد: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (1). المناسبة: إذا أمر القرآن بشيء ذكر فائدته وثمرته للعباد في الدارين، وكذلك إذا نهى عن شيء ذكر مضرته وسوء عاقبته عليهم فيهما، فلما ذكر في صدر الآية نفي تلك المعاصي عن عباد الرحمن الذي يفيد النهي عنها ذكر هذا الوعيد لبيان سوء عاقبتها وقبح أثرها. نكتة استطرادية: هذه هي سنة القرآن في التربية وهي أنجح الطرق في جعل المأمور والمنهي يمتثل للأمر والنهي من كل نفسه ويعمل لتنفيذهما بعقله وإرادته، فالتربية التي تنبني على امتثال الأمر والنهي من غير المعصوم

_ (1) 69/ 25 الفرقان.

المفردات

والإنقياد لهما إنقيادا أعمى، مخالفة لتربية القرآن، والخير كله في اتباع القرآن في جميع ما يفيده القرآن. المفردات: إسم الإشارة راجع للثلاثة المذكورة من قبل. يلق: يقابل ويصادف وينال، آثاما: عقابا جزاء على إثمه، فالأثام جزاء الإثم. يضاعف: يزاد له على الأصل فيعذب عذابين أو أنواعا من العذاب، يخلد: يلقى، وطول البقاء يسمِّه خلودا كما قالت العرب في أثافي الصخور خوالد لطول بقائها بعد دروس الأطلال لا لدوام بقائها إذ لا دوام لها، وعلى هذا قول المخبَّل السعدي (1): إِلاَّ رَمَادًا هَامِدًا دَفَعَتْ ... عَنْهُ الرِّيَاحَ خَوَالِدٌ سُحْمُ المهان: الذليل المحتقر الذي يفعل به ما يذله ويحقره. التراكيب: يضاعف بدل من يلق، بدل كل من كل، قال الخليل: لأن مضاعفة العذاب هي لقي الاثام، وعندي أنه بدل بعض من كل لان لقي العذاب جزاء على تلك الاثام يكون في الدنيا والآخرة، ومضاعفة العذاب والخلود فيه تكون في الآخرة، وبهذا تكون الآية قد أفادت أن المرتكب لما تقدم من المعاصي الشرك وقتل النفس والزنى ينال جزاءه دنيا وأخرى، وعذاب الآخرة المضاعف المستمر أشد وأبقى، وهذا هو الجاري على سنة القرآن في التخويف بسوء عاقبة المعصية عاجلا وآجلا، والتنبيه على أن الآجل أشد وأفدح من العاجل.

_ (1) من مفضليته، وانظر المفضليات للانباري 209.

المعنى

المعنى: ومن يأت هذه الأفعال فدعا مع الله إلها آخر أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو زنى فإنه يلقى وينال جزاء معصيته في دنياه وجزاءها في أخراه ويكون عذابه عليها في الآخرة مضاعفا مزيدا عليه أنواع ويستمر فيه باقيا مذللا محقرا. توجيه: إنما ضوعف لأهل هذه الكبائر العذاب، لأن كل كبيرة منها مضاعفة المفاسد والشرور ففي دعاء غير الله الجهل بالله والكفر بنعمة الله والإبطال لحق الله، وفي قتل النفس تأييم وتيتيم وتأليم لغير من قتل وفتح لباب شر بين أولياء القاتل والمقتول وتعد على جميع النوع وتهوين لهذا الجرم الكبير، وفي الزنى جناية على النسل المقطوع وعلى من ادخل عليهم من الزنى من ليس منهم، وعلى أصحاب الارث في خروج حقهم لغيرهم وغير ما ذكرنا في جميعها كثير، فكانت المضاعفة من باب جعل الجزاء من جنس العمل وهو من مقتضى الحكمة والعدل. تذكير: يذكرنا القرآن بمضاعفة العذاب على كبائر الأثام لنذكر عندما تحدثنا أنفسنا بالمعصية سوء عاقبتها وتعدد شرورها وتشعب مفاسدها ومضاعفة العذاب بحسب ذلك عليها لنزدجر وننكف فنسلم من الشر المتراكم والعذاب المضاعف ونفوز بأجر التذكر وثمرة التذكير. جعلنا الله والمسلمين ممن انتفع بالذكرى وسلم من فتن الدنيا والأخرى بمنه وكرمه آمين (1).

_ (1) ش: ج11، م8، ص 552 - 564 غرة رجب 1351 - نوفمبر 1932

إستثناء التائبين من المذنبين

إِسْتِثْنَاءُ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُذْنِبَينِ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ــــــــــــــــــــــــــ سبب النزول: أخرج الشيخان عن ابن عباس- رضي الله عنهما- واللفظ لمسلم، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بمكة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى {مُهَانًا}. فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش، فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} إلى آخر الآية. المناسبة: لما ذكر تعالى عظائم الذنوب وأكبر كبائرها وتوعد بالوعيد الشديد عليها، عقبها بذكر التوبة منها ورغب فيها لينبه عباده على طريق الرجوع إليه، وأن من تاب منهم إلى الله تاب الله عليه. المفردات: التوبة: الرجوع إلى الله، أي الرجوع من معصية الله إلى طاعته،

_ (1) 25/ 170 الفرقان.

التراكيب

وذلك بالندم على ما فات والعزم على عدم العود إليه وهذان من عمل القلب. وبالإقلاع عما هو متلبس به وهذا من عمل الجوارح، الإيمان عندما يذكر مع الأعمال يراد به تصديق القلب ويقينه واطمئنانه بعقائد الحق، والعمل الصالح هو العمل الطيب المشروع من طاعة الله على العباد سواء كان من عمل الباطن، وهو عمل القلب، أو من عمل الظاهر، وهو عمل الجوارح، والعمل الصالح من ثمرات الايمان الدال وجودها على وجوده وكمالها على كماله ونقصها على نقصه وعدمها على اضطرابه ووشك انحلاله واضمحلاله. التبديل: التحويل فتجعل الحسنة مكان السيئة. الغفور: الستار للذنوب المتجاوز عنها. الرحيم: المنعم الدائم الإنعام. التراكيب: إلاّ من تَابَ: استثناء من يفعل استثناء متصلاً لأن الذي يتوب من جملة من فعل والفاء في (فأولئك) تفريعية لتفرع التبديل على التوبة وعاطفة لجملة أولئك على جملة استثني التي قامت مقامها إلا، كما عطفت عليها الجملة الأخيرة جملة وكان، ونظير هذا: من يقم منكم فله درهم إلا زيدا فله درهمان. المعنى: يستثني من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا من رجع إلى الله من الشرك وقتل النفس والزنى بالتوبة الصادقة وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقبلهم الله ويجعل مكان سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا يتجاوز عن ذنوب عباده ضد تجاوز عما كان منهم من شرك أو قتل أو زنا رحيما منعما على عباده فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيئاتهم.

ترتيب وتوجيه

ترتيب وتوجيه: يكون العاصي في غمرات معصيته فإذا ذكر الله ووفقه الله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته فإذا استشعر قلبه اليقين واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية والإقبال على الطاعة، فإذا كان صادقا في هذا العزم فلا بد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة والثانية فذكر الإيمان والثالثة فذكر عمل صالح. تأييد واقتداء: روى الأئمة عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أحد الثلاثة الذين خلفوا أنه لما جلس بين يدي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بعد ما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن انخلع من مالي إلى الله وإلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: أمسك بعض مالك فهو خير لك، قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي هو بخيبر. فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلا على صدق توبته كما اقتضته الآية، فتأيد بفهمه ما قدمنا وكان خير قدوة للتائبين. وجوه التبديل: لما كانت السيئة لا تنقلب حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة وهذا على وجوه أولها محق السيئات الماضية بالتوبه وكتابة حسنة التوبة وما فيها من عمل باطن وظاهر كما تقدم. وثانيهما تركه المعصية وإتيانه بالعمل الصالح، فصار يعمل الصالحات بعد ما كان يعمل السيئات. وثالثهما أن نفسه كانبت بالمعصية مظلمة شريرة

مسألتان أصوليتان

فتصير بالتوبة والعمل الصالح منيرة خيرة فالتبديل في الكتب والعمل وحالة النفس. مسألتان أصوليتان: الأولى: هل يخرج غير التائب من النار: استثنى الله التائب من مضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا، فبقي غير التائب للخلود. والخلود كما قدمنا في الآية السابقة طول البقاء، ولا يقتضي التأييد فقد يكون معه التأييد وقد لا يكون، فمع التأييد لا خروج ومع عدمه الخروج. وغير التائب الذي بقي للخلود المطلق في الآية هو المشرك والقاتل والزاني، فأما المشرك فلا خروج له من النار لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وأما القاتل والزاني إذا كانا من أهل الإيمان فإنهما يخرجان بعد شديد العذاب بما معهما من الإيمان لأحاديث صحيحة منها ما رواه الشيخان البخاري والمسلم عن أنس- رضي الله عنهم-: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ذرة"، زاد البخاري في رواية قتادة عن أنس: "من إيمان" مكان "خير". وهذا من عدل الله ورحمته، فإنه أذاقهم من العذاب الشديد والهوان المخزي جزاءهم، ثم أخرجهم من النار وما أضاع عليهم إيمانهم. إن الله بالناس لرؤوف رحيم. الثانية: هل لقاتل النفس ظلما وعدوانا من توبة: ذهب ابن عباس في المشهود عنه الذي رواه الشيخان وغيرهما أنه لا توبة له، وقال في هذه الآية إنها نزلت في المشركين، وذكر سبب نزولها كما تقدم وقال- إثره-: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له

وقال في هذه الآية أنها آية مكية نسختها آية مدنية وهي آية الفرقان (1): {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. ومراده بالنسخ التخصص، يعني أن لفظة من في {إِلَّا مَنْ تَابَ} عامة تشمل القاتل فتقتضي بعمومها أن له توبة وأن آية الفرقان (النساء) التي جاءت في القاتل خصصتها وأخرجته من عمومها. قال ابن رشد- بنقل الابي-: وإلى هذا ذهب مالك لأنه قال: "لا يؤم القاتل وإن تاب" قال ابن رشد: وهذا لأن القتل فيه حق لله وحق للمقتول، وشرط التوبة من مظالم العباد رد التبعات أو التحلل، وهذا لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يعفو عنه المقتول قبل القتل. وذهب جمهور السلف وأهل السنة إلى أنَّ للقاتل توبة، ونظروا في هذه الآية إلى عموم لفظها لا إلى خصوص سبب نزولها، وجعلوا عموم {وَمَنْ يَقْتُلْ} في آية الفرقان (النساء) مخصصا بمن تاب المستثنى في هذه الآية فابن عباس خصص من تاب بمن يقتل، وهم عكسوا فخصصوا من يقتل بمن تاب، ويرجح تخصيصهم العمومات الدالة على قبول التوبة من كل مذنب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) وقوله: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (3) وقوله: {قَابِلِ التَّوْبِ} (4).

_ (1) كذا في الأصل ولكنها آية "النساء". (2) 109/ 4 النساء. (3) 42/ 25 الشورى. (4) 3/ 40 المؤمن وتمام الآية: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.

قدوة في الفتوى

وحديث التائب من الذنب كمن لا ذنب له في عمومات كثيرة، والظواهر إذا كثرت تفيد القطع. قدوة في الفتوى: قال ابن رشد: كان ابن شهاب إذا سئل يستفهم السائل ويطاوله فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح. قال ابن رشد: وإنه لحسن من الفتوى. فهكذا ينبغي مراعاة الأحوال في تنزيل الأقوال، فإن من لم يقتل يجب التشديد عليه وسد الباب في وجهه، ومن قتل ينبغي ترغيبه في الرجوع إلى الله، وفي مراعاة هذا الأصل والإقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث على الخير والكف عن الشر والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها كانت أعمالا أو كانت أقوالا. ترهيب: ما أعظم هذا الذنب وما أكبره. ونعوذ بالله من ذنب اختلف أئمة السلف في قبول توبة مرتكبة، وقد أجمعوا على قبول توبة الكافر، ولعظم شأن الدماء كانت أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين الخلق فأيَّاك أيها الأخ أن تلقي الله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلما ولو بكلمة، فإن الأمر صعب والموقف خطير. بِشَارَةُ التَّائِبِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (1).

_ (1) 25/ 71 الفرقان.

المناسبة

المناسبة: لما أفادت الآية السابقة أن التوبة تمحو السيئات، جاءت هذه الآية إثرها تبين ما لأهلها من جزيل الإنعامات وعظيم الدرجات. المفردات: المتاب: مصدر كالمرجع. التراكيب: خالف جواب الشرط وهو يتوب فعل الشرط وهو تاب بمتعلقه وهو إلى الله ومعموله وهو متابا، وعبر بالمضارع في الجواب ليفيد التجدد باعتبار تجدد المثوبات للراجعين إلى الله، وتنوين متابا تنوين تفخيم وتعظيم. المعنى: ومن تاب التوبة الصادقة وعمل عملا صالحا دليلا على صدق توبته فإنه يرجع إلى الله الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحسن لقاءهم ويجزل ثوابهم، رجوعا وأي رجوع رجوع العز والتكريم إلى الحليم الكريم. ترغيب: دعا الله بهذا عباده المذنبين حتى لا يتسرب القنوط إلى قلوبهم، وهو محرم عليهم ولا يحول بينهم وبين خالقهم ذنب، وإن عظم، ورغبهم في التوبة بأنها رجوع إليه وكفى، وأن الرجوع إليه فيه من الخير والشرف فوق ما تصوره الألفاط، فما أحلمه من رب كريم وما أرحمه بعباده المذنبين، فهذا داعي الله فأجيبوه وهذا باب الله فَلِجُوه فإنكم مهما رجعتم إليه لا تطردون ومهما قصدتم إليه تقبلوا وتكرموا.

الصفة التاسعة

اللهم فكما فتحت لنا بابك فوفقنا إليه وتب علينا لنتوب إنك أنت التواب الرحيم (1). الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ... } (3). المناسبة: لما وصفهم بالصفات المتقدمة الدالة كلها على كمال أخلاقهم، واستقامة أعمالهم في ظواهرهم وبواطنهم، بأنبائها على قوة إيمانهم، وصحة علمهم، فكانوا أهل الحق المتصفين به في علمهم وعملهم، القائمين عليه في جميع أحوالهم، وصفهم هنا ببعدهم عن الباطل، ومشاهده، ومجانبتهم لأهله. المفردات: الشهود: هو الحضور الذي يكون فيه إدراك بالحواس أو بالبصيرة. والشهادة هي الإخبار عن علم حصل عن شهود. ولا يشهدون: يحتمل أن يكون من الشهود وأن يكون من الشهادة. والزور: أصله الميل ويطلق على الكذب لأنه ميل عن الحقيقة وعلى كل باطل من الأقوال، والأعمال، لأنه ميل عن الحق. التراكيب: إذا كان {لَا يَشْهَدُونَ} بمعنى لا يحضرون فالزور مفعول به، وإذا كان بمعنى لا يخبرون فالزور مفعول مطلق بعد حذف المضاف، والأصل: ولا يشهدون شهادة الزور.

_ (1) ش: ج12، م8، ص 608 - 615 شعبان 1351 - ديسمبر 1932 (2) 25/ 72 الفرقان.

المعني

المعني: - على الإحتمال الأول- والذين لا يحضرون مشاهدة الباطل والإثم من كل من مجلس تتعدى فيه الحدود، أو تنتهك فيه الحرمات أو يحكم فيه بالجور، أو تعظم فيه الطواغيت أو يدعى فيه بدعوى الجاهلية، أو تحيا فيه معالم الوثنية أو تطمس فيه السنة النبوية أو يدعي فيه أحد مع الله، أو يضرع إلى سواه. وعلى الاحتمال الثاني- والذين لا يشهدون شهادة الزور ولايخبرون إلا بالحق الواقع. ترجيع وترجيح: يلزم من أنهم لا يشهدون مشاهدة الباطل أنهم لا يشهدون بالزور لوجهين: الأول لأنهم إذا كانوا لا يحضرون مجالس الباطل فبالأحرى أنهم لا يقولونه. والثاني أن يشهد شيادة الزور من مشاهد الباطل التي لا يحضرونها. فيكون الوجه الأول أولى لأنه أشمل. توسع في البيان: على أنه من بلاغة القرآن أن تأتي مثل هذه الآيات بوجوه من الاحتمالات متناسبات غير متناقضاته فتكون الآية الواحدة بتلك الاحتمالات كأنها آيات نظير مجيء الآية بقراءتين: فتكون كآيتين مثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا - فَتَثَبَّتُوا} (1) وقوله تعالى في آية الوضوء: {وَأَرْجُلَكُمْ} (2) بالنصب عطفاً على الوجه فيفيد غسل الأرجل، وتلك هي الحالة

_ (1) 49/ 6 الحجرات. (2) 7/ 5 المائدة، وتمام الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .. }.

موعظة

الأصلية العامة. وبالخفض عطفا على الرؤوس فيفيد مسح الأرجل وتلك هي حالة الرخصة عند لبس الخفاف. فتكون هذه الآية باحتمالها مفيدة تنزههم عن شهود الباطل وعن شهادته. موعظة: قال جار الله في الكشاف عن هؤلاء الموصوفين من عباد الرحمن: إنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعلية في الإثم لأن حضورهم دليل الرضا به وسبب وجوده والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وهذا كما قال فإن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها وترك للنهي عن المنكر، وقد قال الله تعاله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (1) وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3) فتعم الآية كل ظالم فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، ولا

_ (2) 5/ 82 - 82 المائدة. (2) 68/ 6 الأنعام.

يكفي أن ينكر ويجلس لأنه يكون ببقائه معهم، قد أظل ما يدلُّ على الرضا بفعلهم ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول، وروى الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ولا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه). فأخبر أن اللعنة تنزل على الحاضرين لعدم دفعهم، واقتضى أنهم غير راضين بقلوبهم، وأحرى إذا رضوا فلا يجوز من هذا الحديث وغيره حضور الظلم والقبائح مع عدم دفعها، ولو مع عدم الرضا بها. وروى الشيخان عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال لأصحابه: لما وصلوا الحجر ديار ثمود- ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم)) فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم، وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني أو اللزوم على الوجه الأول من أكبر الذنوب إثما، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق وتضيع بها الحقوق وتبطل المعاملات وتزول الثقة بين الناس وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم. وصح عنه عليه وآله الصلاة والسلام أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور وقول الزور) وكان متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا (شفقة عليه) ليته سكت. فجلس لها وبقي يكررها لعظم شرها وكبر مفسدتها وعظم الإثم فيها

_ (4) 6/ 68 الأنعام.

الصفة العاشرة

على حسب ذلك منها. أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل زور وذي زور. الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (1) المناسبة: نفى عنهم فيما تقدم حضور مشاهد الزور وأخبر هنا أنهم لا يقفون عند اللغو عندما يمرون عليه ترقيا في وصفهم بالبعد عن الباطل والإثم والعبث ومجالبة أهله. المفردات: اللغو: مصدر لغا يلغو، أى قال باطلا فهو القول الباطل ومثله الفعل الباطل من كل ما لا فائدة فيه ولا نتيجة له مما شأنه أن يلغي ويطرح. والكريم: الخالص العنصر فهو الزكي غير المتدنس، ومن مقتضى ذلك حسن أخلاقه واستقامة أعماله وسلامته من الرذائل. التراكيب: كراما حال من فاعل مروا الثاني ليبين وصفهم عند المرور. المعنى: وإذا مروا في طريقهم بقول يقال أو فعل يفعل مما لا فائدة فيه جاوزوه معرضين عنه أزكياء غير متدنسين بشيء ولا متلفتين لأهله. موعظة. في الإقبال على اللغو شغل للباطل به وتكدير للخاطر بظلمته،

_ (1) 25/ 72 الفرقان.

الصفة الحادية عشرة

وتضييع للوقت فيه، ولكل كلمة تسمعها أو فعلة تشهدها أثر في حياتك، وإن قلَّ، وقد يعقبها ضدها فتزول بعد ما شغلت وعطلت، وقد يردفها مثلها فتثبت وتنمو وتسوء عاقبتها ولو بعد حين، وبقدر ما تلتفت إلى اللغو تلتفت عن كرمك، وبقدر ما يعلق بك منه ينقص من زكائك وبقدر ما تتساهل بالوقوف عليه تقرب من الدخول فيه وإذا دخلت فيه واستأنست بأهله جرك إلى الزور وعظائم الأمور وللشرِّ أسباب متواصلة وأنساب متصلة يؤدي بعضها إلى بعض فينتقل المغرور الغافل من خفيها إلى جليها، ومن صغيرها إلى كبيرها، فالحازم من لم يسامح نفسه في قليلها، وتباعد كل البعد عنها، وعن أهلها، وقد هدتنا هذه الآيات لنهتدي وذكرت عباد الرحمن لنقتدي والله المستعان ولا توفيق إلا به (1). الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (2). المناسبة: لما وصفهم فيما تقدم بإعراضهم عن الباطل، ومجانبتهم لأهله، وبعدهم عنه وصفهم هنا بإقبالهم على الحق، وإكبابهم عليه متفهمين مستبصرين. الألفاظ: ذكروا: وعظوا ونبهوا. بآيات ربهم: هي آيات القرآن، وفيها

_ (1) ش: ج2، م9، ص 66 - 0 7 غرة شوال 1351 - فيفري 1923 (2) 25/ 73 الفرقان 0

التراكيب

التذكير بآيات الأكوان التي ترى بالعيان. الخرور: هو السقوط كسقوط الساجد، الأصم: فاقد حاسة السمع أو الذي لا يتدبر ما يسمع فلا ينتفع به وهو المراد هنا. والأعمى: فاقد حاسة البصر، أي الذي لا يعتبر فيما يبصر فلا ينتفع به، ويكون الأعمى بمعنى فاقد الإدراك القلبي، وهو عمى البصيرة وما هنا يحتمل الوجهين الأخيرين. التراكيب: عبر بإذا لأن التذكير مما هو واقع محقق كالذي يسمع من القرآن في الصلاة من الخطب في الجمع. وبنى الفعل للنائب لأن التذكير بالآيات يجب قبوله من أي مذكر كان. وصما وعميانا: حال من الواو ضمير الجماعة في لم يخروا، والنفي منصب على الحال التي هي قيد في الكلام وإذا كان الكلام مقيدا بقيد كما هنا فإن النفي ينصب على ذلك القيد في غالب الاستعمال العربي، ونظيره ما رأيت زيدا راكبا نفيا للركوب لا للروية، ولا يلقاني مسلما نفيا للسلام لا للقاء، فلم ينف عنهم الخرور وإنما نفى عنهم الصمم والعمى عند الخرور. المعنى: ومن صفات عباد الرحمن أنهم إذا ذكرهم مذكر بآيات ربهم التي أنزلها على نبيهم- صلى الله عليه وآله وسلم- بما فيها من ذكر مخلوقاته وإنعاماته وأيامه في أوليائه وأعدائه ووعده ووعيده وترغيبه وترهيبه، أقبلوا عليها وأكبوا على سماعها بآذان واعية، وأبصار راعية، وقلوب حاضرة، وعقول متدبرة، لا كمن يقبلون عليها ويكبون على سماعها ولكنهم لا يسمعون ولا يبصرون لأنهم لا يعقلون ولا يتدبرون.

عموم الحاجة للتذكير

عموم الحاجة للتذكير: بعد ما ذكر تعالى من صفات عباد الرحمن ما ذكر ذكر استماعهم للتذكير تنبيها على أن التذكير محتاج إليه في كل حال فإذا كان الموصوفون بتلك الصفات يحتاجون إليه فغيرهم أولى وذلك لأن الغفلة من طبع الإنسان ودوام الغفلة صدأ القلوب وصقالها هو التذكير. قبول التذكير من كل مذكر: كما تقبل كلمة الحق من كل قائل كذلك يقبل التذكير من كل مذكر ولو كان المذكر من كمل العباد والمذكر من أوساطهم أو أدناهم وفي عباد الرحمن المذكورين في استماعهم إذا ذكروا من أي مذكر، القدوة الحسنة. ما يكون به التذكير: قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (1) {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) فالتذكير بآيات القرآن والأحاديث النبوية هذا هو التذكير المشروع المتبوع والدواء الناجع المجرب ولذلك تجد مواعظ السلف كلها مبنية عليه راجعة إليه، والنصح لله ولرسوله وللمسلمين في لزوم ذلك والسير عليه.

_ (1) 45/ 50 ق. (2) 17/ 54 القمر. (3) 7/ 59 المجادلة.

أقسام الناس عند التذكير

أقسام الناس عند التذكير: الناس عند تلاوة القرآن على قسمين معرضين ومقبلين. فالمعرضون غير المؤمنين. والمقبلون على قسمين مقبلين بظاهرهم دون باطنهم ومقبلين بظاهرهم وباطنهم، فالمقبلون بظاهرهم دون باطنهم هم المنافقون، والمقبلون بظاهرهم وباطنهم على قسمين: مستمعين مستبصربن حاضرين متدبرين، وغافلين غير متدبرين غير سامعين ولا مبصرين، والأقسام كلها مذمومة إلا قسم المقبلين بظواهرهم وبواطنهم المستمعين المستبصرين، وهذا القسم هو الذي وصف به عباد الرحمن فكانوا مباينين لأهل الإعراض من الكافرين والمنافقين ولأهل الغفلة وعدم التدبر من المؤمنين. تحذير وتنبيه: قد صورت الآية حالة المؤمن بالقرآن الذي ينكب عليه ويتلقاه بالقبول ثم لا يتفهمه ولا يتدبره بحالة الأصم الأعمى في عدم انتفاعه بما انكب عليه تقبيحا لعدم التفهم والتدبر من المؤمن للآيات وتحذيرا منه وتنبيها على أن الإنتفاع بالقرآن الذي تتفتح به البصائر وتتسع به المدارك وتتهذب به الأخلاق وتتزكى به النفوس وتتقوم به الأعمال وتستقيم به الأحوال إنما يكون بتفهمه وتدبره دون مجرد الانكباب عليه بلا تفهم ولا تدبر. أمر وإرشاد: الآيات الدالة على طلب التدبر والتفهم لآيات القرآن العظيم كثيرة منها هذه الآية ومنها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)

_ (1) 29/ 38 ص.

الصفة الثانية عشرة

فعلينا أن نحضر قلوبنا عند سماعها ونستعمل عقولنا في فهمها ونحمل أنفسنا على الاتِّعاظ بها، فإذا صدقت النية وأخلص التوجه فتح على العبد من وجوه العلم والعمل- بإذن الله- بما لم يكن له في بال، وأن الله وصف هذا الكتاب بأنه مبارك لزيادة خيراته وتيسيره للذاكرين- ترغيبا لنا في فهمه وتدبره واستنزال الخيرات واستزادة البركات منه، فاقبل- يا أخى على القرآن على استماعه وعلى تفهمه والزم ذلك حتى يصير عادة لك وملكة فيك- تر من فضل الله وإقباله عليه ما يدنيك- إن شاء الله- ويعليك ويعود بالخير الجزيل عليك .. والله نسأل لنا ولكم الإقبال على الله بتلاوة وتدبر كتابه، والتأدب بجميع آدابه حتى نحشر في زمرة أحبابه، بمنه وكرمه آمنين (1). الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2). المناسبة: لما وصفهم في الآيات المتقدمة بما دل على أنهم أهل خير وكمال في أنفسهم وصفهم في هذه بما دل على محبتهم الخير والكمال لغيرهم من قرابتهم أزواجهم وذريتهم ومن سواهم، وقدم الأزواج على الذرية لأنهم ألصق ولأنهم الأصل.

_ (1) ش: ج3، م9 ص 120 - 125 غرة ذي 2 لقعدة 1351 - مارس 1933 (2) 25/ 74 الفرقان.

فقه هذه المناسبة

فقه هذه المناسبة: فطر الإنسان على محبته لنفسه لتحمله هذه الفطرة على المحافظة عليها والدفاع عنها وتكميلها بكل وجوه الكمال. وكان من مقتضى هذه المحبة رغبته في الوجود والبقاء ومما هو قوة في وجوده ومظهر لبقائه أن يرى الناس على فكره وصفاته وأحواله، فيرى نفسه ممثلة في غيره، وأفكاره وصفاته وأحواله باقية ببقاء الناس، فالخير الكامل من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انتشار الخير والكمال في الناس. والشرير الناقص من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انشار الشر والنقص فيهم فلذا كان لازما لتتميم وصف عباد الرحمن ذكر محبتهم الخير والكمال لغيرهم. ميزان هذه المناسبة: قد تخفي عليك دخيلة نفس الإنسان فيمكنك أن تعرفها بما يجري به لسانه فإذا جرت كلماته بمحبة انتشار الخير والكمال، فهو من أهلهما وإذا جرت بالضد فهو على الضد. فما يحب الإنسان انتشاره هو الدليل على صفات نفسه وهو ميزان تزنه به في الشر والخير والنقص والكمال. المفرادت: الهبة: العطاء من غير عوض، ولا تكون على الحقيقة التامة إلا من الله، فهو الغني الوهاب. من: ابتدائية فمن ناحية الأزواج والذرية تكون قرة الأعين، الأزواج: جمع زوج، وهو يصدق على الرجل والمرأة، والنساء شقائق الرجال، وهذا الدعاء كما يكون من المؤمنين يكون من المؤمنات، كما تصدق الآيات المتقدمة على الموصوفين من الصنفين بتلك الصفات. الذرية: ما تناسل منهم من أبنائهم وبناتهم، وقرئت بالإفراد لاتحادها في أصل النسل، وبالجمع

التراكيب

لاختلافها في الفروع والانساب. قرة الأعين: بردها إن كانت من القر وهو البرد. وسكونها إن كانت من القرور، بمعنى الاستقرار، الإمام: هو المتبع المقتدى به وأفرد لأن المراد به الجنس، وحسن الافراد من جهة اللفظ لوقوعه فاصلة على وزان ما قبلها وما بعدها ومن جهة المعنى، أن أئمة الهدى كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم بالسير على الصراط المستقيم واتحاد وجهتهم بالقصد إلى الله تعالى وحده. التراكيب: قرة أعين: تركيب كنائي، فإذا كان القرة من القر فهو كناية عن السرور، لأن العين في حالة السرور باردة، وإذا سَالَتْ منها دموع في حالة الفرح كانت باردة، وإذا كان الإنسان في حالة حزن فالعين تكون سخنة بسبب ثورة النفس وآلامها التي تثير الحرارة، فإذا سَالَتْ منها دموع الحزن كانت سخنة ومما يقال على هذا أقر الله عين المحق وأسخن عين المبطل وجاء عليه قول أبي تمام (1): فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأُسْخِنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتْ فقرة أعينهم على هذا كناية عن سرورهم بأزواجهم وذريتيم، بما يرونهم عليه من الخير والكمال، وإعانتهم لهم عليهما. وإذا كانت القرة من القرور فهي كناية عن سكون النفس بحصولها على ما يرضيها من الأزواج والذرية، ومعنى هذا أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها تعلقت بما عند غيرها وتشوقت إليه، فتمتد إليه العين ويطمح إليه

_ (1) من قصيدة يمدح حبيش بن المعافي قاضي نصيبين ورأس العين مطلعها: نُسَائِلُهَا أَيَّ الْمَوَاطِنِ حَلَّتِ ... وَأَيَّ دِيَارٍ أَوْطَئَتْهَا وَأَنَّتَ

المعنى

البصر، وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق وانكفت عن التشوف فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها ولم يطمح البصر إليه، ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (1). فقرة أعينهم على هذا كناية عن رضى أنفسهم بما يكون لهم من أزواج وذرية موصوفين بالصفات المرضية من طاعة الله في القيام بوظائف الدين والدنيا وإعانتهم لهم على القيام بها. المعنى: ومن صفات عباد الرحمن أنهم يدعون ربهم يسألونه أن يهب لهم أزواجا وذرية تقر بهم أعينهم بأن يكونوا موصوفين بمثل صفاتهم سائرين على منهاجهم معينين لهم على ما هم عليه، ويسألونه أن يكونوا على أكمل حال في العلم والعمل والإستقامة يقتدي بهم فيها المتقون. الأحكم: الأول: التزوج وطلب النسل هو السنة، سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسنة أصحابه عليهم الرضوان، وسنة عباد الرحمن، وليس من شريعته الحنيفية السمحة الرهبانية والتبثل، وقد رأى قوم من الزهاد رجحان الإنقطاع إلى العبادة على التزوج والإشتغال بالسعي على الزوج والذرية فرد عليهم أئمة الدين والفتوى بأنَّ في التزوج

_ (1) 131/ 20 طه.

الثاني

اتباعا للسنة، وفي السعي على الأهل ما هو من أعظم العبادة، وفي التزوج تكثير سواد الأمة والمدافعين عن الملة والقائمين بمصالح الدين والدنيا، وفي هذا ما فيه من الأجر والمثوبة. وفي التبتل مخالفة السنة وانقطاع النسل وضعف الأمة وتعطيل المصالح وخراب العمران وكفى بهذا كله شرا وفسادا. الثاني: سؤال العبد من ربه أن يهب له من الزوج والذرية ما تقرء به عينه، يقتضي سعيه بقدر استطاعته لتحصيل ذلك فيهما ليقوم بالسببين المشروعين من السعي والدعاء، فعليه أن يختار ويجتهد عندما يريد التزوج، وأن يقصد إلى ذات الدين، وفي اختياره واجتهاده في جانب الزوجة سعي في اختيار الولد، فإن الزوجة الصالحة شأنها أن تربي أولادها على الخير والصلاح. ثم عليه أن يقوم بتعليم زوجه وأولاده وتهذيبهم وإرشادهم فيكون قد قام بما عليه في الإبتداء والإستمرار مع دوام التضرع إلى الله تعالى والابتهال. الثالث: ما تقرُّ به الأعين يحصل به الفرح والسرور فالفرح والسرور بما هو خير وطاعة من حيث أنه نعمة من الله وفضل محمود ومشروع. الرابع: طلب الرتب العليا، في الخير والكمال، والسبق إليها والتقدم فيها مما يدعونا إليه الله، ويرغبنا بمثل هذه الآية فيه كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} لأن طلب الكمال كمال ولأن من كانت غايته الرتب العليا إنْ لَم يصل إلى أعلاها لم ينحط عن أدناها، وإنْ لم يساو أهلَها لم يبعد عنهم. ومن لم يطلب الكمال بقي في النقص ومن لم تكن له غاية سامية قصر في السعي وتوانى في العمل، فالمؤمن يطلب أسمى الغايات حتى إذا لم يصل لم يبعد وحتى يكون في مظنه الوصول بصحة القصد وصدق النية.

الخامس

الخامس: من الدين الإقتداء بأهل العلم والعمل والإستقامة في الهدى والسمت. السادس: لا يكون الإمام إلا تقياً فاق غيره في التقوى. السابع: إن اقتداء المتقين بأئمتهم إنما هو في التقوى لأنهم ما كانوا أئمة إلاَّ بها. فالآية أفادت إن المتقين يقتدون بأئمتهم وإن أئمتهم متقون مثلهم وأكمل منهم في التقوى، وأن اقتداءهم بهم في التقوى لا في غيرها فمن حاد عنها فلا إمامة له. تمييز: الخير الكامل المقدم في الخير والكمال المقتدى به فيهما إذا طلب الإمامة من حيث الخير والكمال نفسهما ومن حيث حمل الناس عليهما بالقدوة الصالحة فيهما، لأن فعل الخير والاتصاف بالكمال دعوة إليهما بالعمل وهي أبلغ من الدعوة بالقول، ومن حيث انتشارهما في الناس وسعادة الناس بهما، إذا طلب الإمامة من هذه الحيثيات فطلبه مشروع محمود وهو طلب عباد الرحمن المذكور في الآية، وإذا طلب الإمامة والتقدم لأجل الترأس والتقدم فهذا طلب مذموم من عمل المتكبرين لا من عمل المتقين، فعلى الداعي أن يميز هذا التمييز ليخلص القصد في دعائه ويكون على صواب فيه. كلمة عظيمة من إمام عظيم: قال مجاهد- التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير-: ((أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا)) ذكره البخاري ورواه ابن جرير بسند صحيح. يعني أن الذين يقتدي بهم الناس من بعدهم هم الذين كانوا يقتدون بسلفهم الصالح من قبلهم، فالذين أحدثوا في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح لم يقتدوا بمن قبلهم فليسوا أهلاً

سلوك واقتداء

لأن يقتدي بهم من بعدهم فكل من اخترع وابتدع في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح فهو ساقط عن رتبة الإمامة فيه. سلوك واقتداء: كان الأعرابي الجاهل المشرك يأتي للنبي- صلى الله عليه وآلهه وسلم- فيؤمن به ويصحبه يتعلم منه الدين، ويأخذ عنه الهدى، فيستنير عقله بعقائد الحق وتتزكى نفسه بصفات الفضل، وتستقيم أعماله على طريق الهدى، فيرجع إلى قومه هادياً مهدياً، أما ما يقتدي به، ويؤخذ عنه كما اقتدى هو بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأخذ عنه. فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك فيحضر مجالس العلم التي تذكره بآيات الله وأحاديث رسوله ما يصحح عقده ويزكي نفسه ويقوِّم عمله وليطبق ما يسمعه على نفسه وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه وليداوم على هذا حتى يبلغ إلى ما قدر له من كمال فيه فيرجع وهو قد صار قدوة لغيره، في حاله، وسلوكه، وطلبة العلم الذين (1) وهبوا نفوسهم لله وقصروا أعمارهم على طلب العلم لدعوة الخلق إلى الله هم المطالبون على الأخص بهذا السلوك ليصلوا إلى إمامة الحق. وهداية الخلق، على أكمل حالة ومن أقرب طربق. فاللهم وفقنا واهدنا إلى سنة نبينا إذا اقتدينا وإذا اقتدي بنا آمين. يا رب العالمين (2).

_ (1) في الأصل: الذي. 1 2) ش: ج6، م9، ص 223 - 229. غرة محرم 1352هـ - ماي 1933م.

جزاء عباد الرحمن

جَزَاءُ عِبَادُ الرَّحْمَنِ {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (1). المناسبة وفقهها: لما ذكر في الآيات المتقدمة صفاتهم وأعمالهم ذكر ما أعدَّ لهم من عظيم الجزاء عدلى تلك الأعمال تنبيها على ما وضعه تعالى بمشيئته وحكمته ورحمته من الارتباط بين هذه الأعمال، وهذا الجزاء، وإفضائها إليه إفضاء السبب لمسببه ليسعى الراجون لهذا الجزاء من طريق هذه الصفات وهذه الأعمال كما يسعى لسائر المسببات من طريق أسبابها وتوقي جميع الأمور من أبوابها. وفي هذا حث لأهل هذه الأعمال على التمسك بما هم به عاملون. وتنبيه لأهل الغرور على بطلان ما هم به مغترون ((والكيس من دان نفسه (قهرها على الطاعة وحاسبها) وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)). المفردات: يجزون: يعطون في مقابلة أعمالهم، الغرفة: البيت الأعلى فوق بيت، وأل: فيه للجنس فيصدق بالمتعدد. صبروا: حسبوا نفوسهم.

_ (1) 25/ 75 - 76 الفرقان.

التركيب

والباء: فيه سببية. يلقون: من لقي بمعنى يجدون. ويلقون: من لقي بمعنى تلقيهم الملائكة أي تقابلهم وتتلقاهم. تحية: دعاء بالحياة. سلاما: دعاء بالسلامة. خالدين: باقين. مستقرا: هو المكان الذي ينتهي إليه من غيره ويثبت فيه. مقاما: هو المكان الذي يقام ويمكث فيه. التركيب: جملة أولئك مستأنفة بيانيا، فإنَّ تلك الصفات والأعمال تشوق السامع إلى معرفة ما لهم وثمرة أعمالهم فيسأل عنهما، فكانت الجملة جواباً لذلك السؤال المقدَّر وعرف المسند إليه بالإشارة تنبيها على أن استحقاقه للمسند كان بما تقدم من صفات. وجملة (حسنت) مستأنفة بيانياً، لأن من عرف حالتهم من الحياة والسلامة والبقاء يتشوف لمعرفة حال مكان هذه الحياة السالمة الباقية فيسأل عنه فوقعت جملة حسنت موقع الجواب عن هذا السؤال المقدَّر. وهي إنشائية أفادت إنشاء مدح الغرف بالحسن، وتعظيم ذلك الحسن وقدم المستقر لأن أول الحلول استقرار، والمقام ببقاء الإستقرار واستمرار المكث. المعنى: أولئك الذين ذكرت صفاتهم وأفعالم يعطون جزاء أعمالهم البيوت العلالي في الجنة بسبب صبرهم وحبسهم لأنفسهم على الطاعات والمجاهدات وكفهم لها عن المعاصي والشهوات، وتتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، باقين في هذا النعيم المقيم وسكنى علالي الجنة التي هي أحسن مستقر ينتهي إليه الإنسان ومقام يمكث فيه. تطبيق حديث وفقهه: " روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنهم- أن رسول

دلالة

الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إن إهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى- والذي نفسي بيده- رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ... )، فهذا الحديث بيَّن أن أهل الغرف هم أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة في الجنة بهذا المقدار من البعد، فهم الموصوفون بالصفات المذكورة في الآيات المتقدمة على أتمها، ومن لم يكن مثلهم فيها لم يكن في منازلهم التي جوزوا بها عليها وكان على حسب حظه من الإيمان في منزلة من منازل أهل الجنة الذين يتراءون أهل الغرف. فدرجات أهل الجنة في منازلهم على حسب سلوكهم في أعمالهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (1). دلالة: دلت الآية على السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الجزاء العظيم وهو أعمالهم، ودلت على السبب الذي تمكنوا به من القيام بهذه الأعمال وهو الصبر لقوله تعالى: {بِمَا صَبَرُوا} ومن أعظم الحكمة معرفة الأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض، فلا ينهض بامتثال المأمورات وترك المنهيات إلاَّ من صبر، والصبر خلق من الأخلاق التي تتربى وتنمو بالمران والدوام، فواجب على المكلف أن يجعل تربية نفسه عليه وتعويدها به من أكبر همه، إذ لا يقوم بالتكاليف

_ (1) 45/ 20 - 21 الجاثية.

بيان القرآن للقرآن

الشرعية إلا به بل ولا يستطيع الحياة في هذه الدار الدُّنيا الموضوعة على المحنة والإبتلاء إلا إذا تمسك بسببه. بيان القرآن للقرآن: في هذه الآية إنهم يلقون تحية وسلاما وقد بين من يتلقاهم بذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (1). فالملائكة هم الذين يتلقونهم بالسلام والدعاء لهم بالطيب وهو مما يدخل في التحية، لأن من طيبهم طيب حياتهم، وما أكثر ما تجد في القرآن بيان القرآن، فاجعله من بالك تهتد- إن شاء الله- إليه. إقتداء ورجاء: هؤلاء هم السالكون وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم، ولما سلكوا الصراط المستقيم بالعمل المستقيم انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم في جوار الرحمن الرحيم، فإذا اشتقت إلى نهايتهم فتمسك ببدايتهم وزن أعمالك بأعمالهم وأحوالك بأحوالهم، فإذا جعلت ذلك من همك، وحملت عليه نفسك بصادق عزمك وصبرت كما صبروا رجوت أن تظفر بما ظفروا، فالله نسأل لنا ولك وللمسلمين صحة الاقتداء وصدق الرجاء، وحسن الجزاء: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2). (3)

_ (1) 73/ 39 المزمر. (2) 97/ 26 النحل 0 (3) ش: ج7، م9، ص263 - 267 غرة صفر 1352هـ - جوان 1933م

قيمة العباد عند ربهم بقدر عبادتهم

قِيمَةُ الْعِبَادِ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِقَدَرِ عِبَادَتِهِمْ {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (1). ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: قد أفادت الآيات السابقة كمال حال عباد الرحمن في نفوسهم وعقولهم وأخلاقهم وأعمالهم، وأفادت عظيم منزلتهم عند ربهم ورفيع ما أُعدَّ لهم من درجاتهم جزاء على صالحاتهم وحسناتهم، وجاءت هذه الآية تفيد أن ذلك المقام العظيم الذي كان لهم عند ربهم إنما هو بسبب عبادتهم، وتعلن للناس أن عبادتهم هي الشيء الوحيد الذي يكون لهم به قدر وقيمة عند ربهم وبدونها لا يكون لهم وزن عند خالقهم ولا يكونون شيئا يبالي به. وأن من كذب وخلع بتكذيبه ربقة العبادة فقد حقَّت عليه كلمة العذاب، وهو واقع به لا محالة. المفردات: ما يعبؤ بكم: ما يبالي بكم، العبء: هو الثقل فما عبأت به بمعنى ما كان له عندي وزن ولا مقدار، وعبأت به كان له عندي وزن ومقدار، وعدِّي بالباء لأنه بمعنى ما باليت، دعاؤكم: عبادتكم من إطلاق الجزء على الكل. كذبتم: كفرتم فلم تعبدوا. لزاما: ملازما واصل اللزام مصدر لازم واختير هنا للتنبيه على أن بين المكذبين

_ (1) 25/ 77 الفرقان.

التراكيب

والعذاب ملازمة من الطرفين فهم بتكذيبهم قد ألزموا أنفسهم العذاب فلازمهم العذاب. التراكيب: جواب لولا محذوف لدلالة ما تقدم وتقدير الكلام: لولا دعاؤكم ما عبأ بكم، وجملة فقد كذبتم واقعة موقع التعليل الكلام مقدر تقديره- والله أعلم- لا يعبأ بكم فقد كذبتم، أي لأنكم قد كذبتم فالفاء تعليلية وأما جملة فسوف يكون فمتسببة عما قبلها فالفاء فيها سببية. وضمير يكون عائد على العذاب المفهوم من المقام. المعنى: قل للذين أرْسِلْتَ إليهم ما يبالي بكم ربِّي ولا يعبأ بكم ولا يكون لكم عنده وزن لولا إيمانكم وعبادتكم، فإذا كذبتم وكفرتم فهو لا يعبأ بكم وسوف يكون العذاب ملازما بسبب تكديبكم. تحرير في المخاطب: المخاطبون هم الذين كذبوا، ثم ان ما لحقم بسبب التكذيب من العذاب الملازم، فهو خاص بهم وبالمكذبين أمثالهم، وما كان موجها لم من جهة أنهم عباد- وهو أن الله لا يعبأ بهم لولا دعاؤهم- فهو عام لجميع العباد لمماثلتهم لهم في العبودية لله واستغناء الله عنهم وفرض العبادة عليهم وعدم التقدير لهم إلا بها. تفسير أثري: أخرج البخاري في كتاب التفسير، عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خمس قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام. ورواه في مواضع أخرى من صحيحه. وعنى بالدخان

ترهيب

المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (1) وبالقمر المذكور في: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وبالبطشة المذكورة في: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} (3) وباللزام المذكور في هذه الآية. وفسَّر ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وفسر اللزام به أيضاً فهي في الحقيقة أربع وعدها خمسا باعتبار الوصفين البطش والملازمة. وفسر الحسن اللزام بعذاب يوم القيامة ومن عادة السلف أنهم يفسرون اللفظ بما يدخل في عمومه دون قصد للقصر عليه ولا منافاة حينئذ بين التفسيرين فيكونون قد توعدوا تكذيبهم بلزوم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. ترهيب: رتب لزوم العذاب على التكذيب فأعظم العذاب لأكمل التكذبب وهو تكذيب الكفر ثم أصناف العذاب لازمة لتكذيب العصيان بالعدل والحكمة في التفسير والترتيب. إستنباط: لما كانت مقادير العباد عند ربهم بحسب عبادتهم فالأنبياء- عليهم السلام- أعلى الناس منزلة عند الله هم أعظمهم عبادة لله، وهم أتقاهم له، وأشدهم، خشية منه. وقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مالك وغيره ((والله إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وألمكم بما أتقي)). وقال أيضاً: ((والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده)).

_ (1) 44/ 10 الدخان. (2) 44/ 16 الدخان.

سؤال استطرادي وجوابه

سؤال استطرادي وجوابه: كيف يخشى وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ أجاب العلماء عن هذا بأجوبة منه أنه لا يخشى العقاب ولكنه يخشى العتاب ومنها- وهو قول الأكثر- أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بشرط امتثاله لما أمر به. ذكر هذين ابن العربي في "القبس" ومنها أنها خشية الإجلال ومشاهدة عظمة الربوبية وأنه لا يجب عليه تعالى شيء. وهذان (1) الحديثان الصحيحان من الأدلة الصريحة عند أهل العلم على أن العبادة الشرعية الإسلامية لا تتجرد من الخوف حتى عبادة أفضل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين. تعليل: الإنسان مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي وهو روحه، ومعرض للسقوط والنقصان بما فيه من أخلاط عناصر جزئه الأرضي الظلمائي وهو جسده، ولا يخلص من كدرت جثمانه ولا ينجو من أسباب نقصانه إلا بعبادة ربه التي بها صفاء عقله وزكاء نفسه وطهارة بدنه في ظاهره وباطه فبعبادة ربه يكمل فيرقى في مراتب الكمال ويدنو من الملأ الأعلى عند الرب الأعلى ذي الجلال والإكرام فالله طيب لا يقبل إلا الطيب وإليه يصعد الكلم الطيب، ولا طيب ولا كمال إلا للعابدين فلا قيمة ولا قبول لغيرهم عند رب العالمين. إرشاد وتحذير: قد بيَّن لك الطريق الذي يوصلك إلى مولاك، ويرقيك في مراتب كمالك وعلاك، وما هو إلاَّ عبادة ربك. فكن عبدا له في اختيارك واضطرارك وفي جميع أحوالك، واحذر أن تعتمد على شيء

_ (1) في الأصل: هذا.

غير عبادته، واحذر أن تتوجه بشيء من عبادتك لغيره، ومن عبادتك بل هو مخ عبادتك، ودعاؤك وسؤالك واستغاثتك فإياك إياك أن تتوجه بشيء منه لغيره، فكن دائما عبداً لله وكن دائما عبدا له وحده فذلك حقه عليك وذلك السبب الوحيد الذي ينجيك ويعليك. والله نسأل أن يقصرنا على عبادته، ويديمنا على الإخلاص في التوجه إليه حتى نلقاه على ملة الإسلام وهدى عباده الصالحين آمين يا رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 8، م9، ص 303 - 307 غرة ربيع الأول 1352 - جويليه 1933

انتهى الجزء الأول من المجلد الأول من هذا الكتاب، وقد اشتمل على مدخل الحياة العقلية والثقافية للمغرب الإسلامي، وعلى حياة الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعلى آثاره المتعلقة بالتفسير وشرح الحديث. ويليه الجزء الثاني من المجلد الأول، وفيه تتمة دروس التفسير وشرح الأحاديث.

آثاَرُ ابْنُ بَادِيسَ

الطبعة الأولى عام 1388 هـ - 1968 ميلادية يشتمل المجلد الأول من هذه الطبعة على مدخل للحياة العقلية والثقافية للمغرب الإسلامي، وعلى حياة ابن باديس وآثاره المتعلقة بالتفسير، وشرح الحديث، ويشتمل المجلد الثاني على المقالات الاجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية والسياسية التي دبجها يراع الشيخ الإمام الأستاذ عبد الحميد ابن باديس. وقد كلفت دار اليقظة العربية لجنة من كبار علماء دمشق للقيام بتصحيح آثار ابن باديس أثناء طبعها، وذلك حرصا منها على أن يصدر هذا الكتاب الذي له أهمية بالغة في النهضة الإسلامية العربية الحديثة في المغرب الإسلامي سليما من الأخطاء، خاليا من التحريف

كتاب آثار ابن باديس المجلد الأول تفسير وشرح أحاديث اعداد وتصنيف الأستاذ عمّار طالبي بالإشتراك مع الناشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما الجزائر-24 شارع عزون هاتف 56 - 76 - 62

طبع هذا الكتاب بموافقة واشراف الناشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما الجزائر- 24 شارع عزون هاتف 56 - 76 - 62 ملتزم الطبع والتوزيع في الأقطار العربية والبلاد الأجنبية دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر

الجزء الثاني من المجلد الأول

دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر كتاب آثار ابن باديس الجزء الثاني من المجلد الأول تفسير وشرح أحاديث إعداد وتصنيف الأستاذ عمّار طالبي بالإشتراك مع دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر الطبعة الأولى 1388 هجرية - 1968 ميلادية

جميع حقوق الترجمة والطبع والنشر والاقتباس محفوظة للناشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر

- صورة - ..... العلامة الثائر الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر ــــــــــــــــــــــــــ

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة - القسم الأول

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم الأول {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: النبوة: منزلة من الكمال التام البشري يهيء الله لها من يشاء من عباده فيكون بذلك مستعدا لتلقي الوحي والاتصال بعالم الملائكة ولتحمل أعباء ما يلقى إليه وتكاليف تبليغه بالقول والعمل، وتحمل كل بلاء يلقاه في سبيل ذلك التبليغ. والملك: ولاية على المجتمع لحفط نظامه، تقتضي عموم النظر وشمول التصرف في روابط الناس ومعاملاتهم وتصرفاتهم، وتسييرهم في ذلك كله على أصول عادلة توصل كل أحد إلى حقه وتكـ فه (2) عن حق غيره، ليعيشوا في رخاء وسلام، ويبلغوا غاية ما يستطيعون من متع الحياة.

_ (1) 15/ 27 النمل. (2) كذا في الأصل، ولعلها: (وتصرفه).

وقد يتصف الشخص بالنبوة دون الملك فيكون مبلغا عن الله ولا يكون له التنفيذ والإدارة والتنظيم، وقد يتصف الشخص بالملك دون النبوة؛ وقد وجد الشخصان في شمويل وطالوت فكان الأول نبيا وكان الثاني ملكا كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (1) وقد يجمع بينهما مثل داود وسليمان عليهما السلام. ثم إن الملك قد تكون الأصول التي يستند إليها مستمدة من أوضاع البشر لحفط مصالحهم في الحياة الدنيا ليكون ملكا بشريا. وقد تكون الأصول مستمدة من وحْي الله بما فيه حفظ مصالح العباد في الدنيا وتحصيل سعادتهم فيها وفي الأخرى فيكون ملك نبوة. ومن طبيعة ملك النبوة إلتزام الحق ونصرته حيثما كان، بإقامة ميزان العدل في القول والحكم والشهادة بين الناس أجمعين، المعادين والموالين، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (2) {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (3) {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا

_ (1) 7/ 2، 2 البقرة. (2) 152/ 6 الانعام. (3) 57/ 4 النساء. (4) 9/ 5 المائدة.

الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1). وبالوفاء بالعقود والعهود بين الأفراد والجماعات كما قال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (3) {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (4) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (5). وبغير هذا من وجوه إلتزام الحق ونصرته. ومن طبيعته بث الخير بين الناس بنشر الهداية والإحسان دون تمييز بين الأجناس والألوان كما قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (7) {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا

_ (1) 4/ 134 النساء. (2) 1/ 5 المائدة. (3) 152/ 6 الانعام. (4) 191/ 16 لنحل. (5) 92/ 16 النحل. (6) 22/ 77 الحج. (7) 195/ 2 البقرة.

إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (1). ومن طبيعة الدعوة إلى القوة والتنويه بها وبناء الحياة عليها، لكن في نطاق العدل والرحمة ولدفاع المعتدين، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (3) وقبلها: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فقوة الحديد لحفظ الكتاب، والميزان وحمل الناس عليها. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4) {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (5). ومن طبيعته الدعوة إلى الجمال والتحبيب فيه في جميع مظاهر الحياة لكن في نطاق الفضيلة والعفاف كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، (6)، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ

_ (1) 8/ 60 الممتحنة. (2) 8/ 61 الأنفال. (3) 25/ 57 الحديد. (4) 2/ 194 البقرة. (5) 42/ 39 - 140 الشورى. (6) 4/ 95 التين.

صُوَرَكُمْ} (1) {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (2) {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (3) {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} (4) {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} (5) {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (6) {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (7) {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (8) {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (9). ومن طبيعة الملك البشري- وإن روعيت في أوضاعه هذه الأصول الأربعة- أنه لا يقيم ميزان العدل بين أبناء المملكة وغيرهم فتراه يكيل لهؤلاء بمكيال ولهؤلاء بمكيال. ولا يرعى من العهود- في الغالب- إلاَّ ما لا يعارض مصلحته أو تلزمه براعاته قوة خصمه. كما أنه يكاد يقصر بره وإحسانه على أبناء جلدته ومن كانوا من جنسه ولونه، كما أنه يبني أمره على القوة المطلقة فتندفع مع رغباته

_ (1) 40/ 64 المؤمنون. (2) 50/ 20 طه. (3) 6/ 37 الصافات. (4) 24/ 10 يونس. (5) 60/ 27 النحل. (6) 5/ 22 الحج و7/ 50 ق. (7) 31/ 7 الأعراف. (8) 6/ 5 المائدة. (9) 30/ 24 النور. 13

إلى أقصى ما يمكنها أن تصل إليه فيكون البغي والتسلط والعدوان. كما أنه تستهويه زينة الحياة الدنيا وزخارفها فتمتد يده إليها حيثما وجدها فتتنازعها الأيدي بالقوة والحيلة وتذهب في أفانينها الشهوات بالناس إلى النقص والرذيلة. ثم إن طبيعة الملك من حيث أنه ملك- سواء أكان بشريا أم نبويا- مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة، لما جبل عليه الخلق من اعتبار المظاهر والتأثر بها، وهذا إذا كان في الحق فهو محمود مطلوب وإذا كان للباطل والبغي والتحظيم النفسي فمذموم متروك. ومن الأول أمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عمه العباس- رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى تمر عليه كتائب المسلمين وذلك لإدخال الرعب على قلبه بما يرى من النظام والقوة، فحبسه العباس فجعلت الكتائب تمر به فيسأل العباس عن كل كتيبة فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: من هؤلاء؟ فقال العباس: هذا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. قال العباس: فقلت له: إنها النبوة، فقال: فنعم إذن. قصد أبو سفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم فنفى ذلك العباس ورده إلى النبوة التي هي أصل تلك القوة، وذلك الملك النبوي المستند إلى الوحي الإلهي ولم يرد نفي الملك جملة، ومنه ما كان معاوية بالشام: لما قدم عليه عمر وجده في أبهة من الجند والعدة فاستنكر ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ فاعتذر معاوية بأنهم في ثغر تجاه العدو، وأنهم في حاجة إلى مباهاة العدو بزينة الحرب والجهاد فسكت عمر وأقره. فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو

ملك وإنما أنكره عمر لما خاف فيه من تعظم واستعلاء وإعجاب. فلما كان للحق والمصلحة أقره. ومن أقوى الأدلة على أن تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة، ما قصه الله علينا في هذه الآيات عن ملك سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام. نعم في مسند أحمد أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- خير من أن يكون نبيا ملكا أو يكون نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا. وكان ذلك تواضعا منه. ولا ينفي هذا أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- كما كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى كان قائما على الحكم والتنفيذ وإدارة الشؤون العامة وتنظيم المجتمع مما يسمى ملكا نبويا مستندا إلى الوحي الإلهي، لأن التخيير راجع إلى حالته الشخصية الكريمة فخير بين أن يكون لشخصه من مظاهر الملك مثل ما كان سليمان أو لا تكون له تلك المظاهر فاختار أن لا تكون وأن يكون مظهره مظهرا عاديا مثل مظهر العبد العادي. كما سليمان- عليه السلام- الذي كان ملكا نبيا لم ينف ذلك عنه العبودية، وإنما ينفي عنه مظهرها العادي. فهما حالتان للقائمين على الملك جائزتان، كان على إحداهما سليمان وعلى الأخرى محمد- عليهما الصلاة والسلام- وحالة أفضل النبيين أفضل الحالتين. وقد اختار عمر- رضي الله عنه- الفضلى وأقر معاوية على الفاضلة الأخرى. ولما كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- جاء بملك النبوة كان القرآن العظيم جامعا للأصول التي ينبني عليها ذلك الملك، وجاء فيه مثل هذه الآيات التي نكتب عليها ليبين صورة من صور ملك النبوة ومظهرا صادقا من مظاهره فيما قصت علينا من ملك سليمان-

الآية الأولى

عليه السلام- وهي ثلاثون آية، من الآية الخامسة عشر من سورة النمل إلى الآية الرابعة والأربعين منها. الآية الأولى وهي: 15 الألفاظ والتراكيب: علماً: نوعا عظيما ممتازا من العلم جمعا به بين الملك والنبوة، وقاما بأمر الحكم والهداية. وقالا: قولهما متسبب وناشيء عن العلم لكنه لو قيل فيقالا، بالفاء، أفاد أن غير القول تسبب منهما عن العلم ولما عطف بالواو على أن هنالك أعمالا كثيرة عظيمة كانت منهما في طاعة الله وشكره، ونشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا. فضلنا: أعطانا ما فقنا به غيرنا. على كثير: فهنالك كثير لم يفضلا عليه ممن ساواهما أو فاقهما. من عباده المؤمنين: ففضلا بين أهل الفضل فكانا من أفضل الفاضلين وذلك بما أعطيا من النبوة وملكها. المعنى: يخبرنا الله تعالى عما أعطى لهذين النبيين الكريمين من هذا الخير العظيم، وعما كان منهما من الشكر له، والمعرفة بعظيم قدر عطائه. وإظهار السرور به مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه، ومن إعلانهما ما كان لله عليهما من نعمة التفضيل العظيمة بحمده والثناء عليه. تنويه وتأصيل: قد ابتدىء الحديث عن هذا الملك العظيم بذكر العلم وقدمت النعمة به على سائر النعم تنويها بشأن العلم وتنبيها على أنَّه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا. وأن الممالك انما تبني عليه وتشاد، وأن الملك

أحماض

إنما ينظم به ويساس وأن كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار. وأنه هو سياج المملكة ودرعها، وهو سلاحها الحقيقي وبه دفاعها وأن كلَّ مملكة لم تحم به فهي عرضة للانقراض والانقضاض. أحماض: قال أبو الطيب المتنبي: أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَسَلِ ... وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُحِبِّيهِنَّ كَالْقُبَلِ نعم إن محبي الممالك الصادقين في محبتها والذين تصلح لهم ويصلحون لها هم الذين يستعذبون في سبيلها الموتَ، ويكون الطعن عندهم مثل القبل على ثغور الحسان، فأما الممالك التي تبنى على السيف فبالسيف تهدم. وما يشاد على القوة فبالقوة يؤخذ، وإنما أعلى الممالك وأثبتها ما بني على العلم، وحمي بالسيف، وإنما يبلغ السيف وطره ويؤثر أثره، إذا كان العلم من ورائه. ولكن أبا الطيب شاعر الرجولة والبطولة، شاعر المعارك والمعامع، لا يرى أمامه إلا الحرب، وآلات الطعن والضرب فلا يمكن أن يقول- وقد غمرته لذة الانتصار، واستولت نشوة الغلب والظفر على لبه وخياله- إلا ما قال. فقه وأدب: يجوز لمن أنعم الله عليه بنعمة وفضله بفضيلة أن يفرح بتلك النعمة ويظهر فرحه بها في معرض حمد الله عليها، من حيث أنها كرامة من الله لا من حيث إنها مزية من مزاياه فاق بها سواه، مثلما فعل هذين النبيين الكريمين، وكما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ

إرشاد وإشادة

فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (1). وكثيرا ما يكون التفات المرء إلى نفسه حاجبا له عن غيره فيذكر من شأنه ما أفرحه ويسكت عن غيره وفيهم من هو مثله ومن يفوقه، فقد يجر هذا إلى عجب بنفسه وغمط لحق من عداه. فلهذا كان من أدب مقام الفرج بنعمة الله وحمده عليها، ذكر نعمته العامة عليه وعلى غيره، والإاشارة إلى من فضلوا عليه. فيكبح من نفسه بتذكيرها بقصورها، ويرضى الله باعترافه لدى الفضل بفضله وحكمة الله وعدله، وبوقوفه كواحد ممن أنعم عليهم من عباده. إرشاد وإشادة: إذكار الأنبياء- صلى الله عليهم- من حمد وتسبيح وتهليل وغيرها أفضل الأذكار وأجمها وأسلمها، وقد اشتمل الكتاب العزيز على كثير منها، فعلى المسلم الحرص على الخير بها علما وعملا، فقد رأيت ما يحف بإظهار الفرح بنعمة الله من مخاطر إذا لم يتنبه لها، وقد جاء هذا الحمد النبوي محصلا للقصد سالما من كل خطره بعباراته الموزونة الشاملة، التي لا يصدر مثلها إلا منهم لكمال علمهم وأدبهم. عليهم الصلاة والسلام (2).

_ (1) 58/ 10 يونس. (2) ش. ج2، م15، ص 57 - 66 غرة صفر 1358 - مارس 1939

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة - القسم االثاني

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم االثاني الآية الثانية وهي: 16 سورة النمل (27) (1) {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}. ـــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ والتراكيب: الارث: انتقال ما كان للميت إلى الحي، فيقوم فيه الوارث مقام الموروث. سواء كان مالاً أو ملكاً أو علماً أو مجداً، والمراد هنا الملك والنبوة، علمنا: أعطينا العلم، ولم يذكر المعلم- وهو الله- للعلم به، فإن هذا التعليم ليس من معتاد البشر ولا من طوقهم، منطق الطير: نطقها، وهو تصويتها، وقد يطلق النطق على كل ما يصوت به الحيوان، فالحيوان ناطق والجماد صامت، وأوتينا: أعطينا، والنون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها، من كل شيء: هو على معنى التكثير، أو على معنى العموم الحقيقي فيما تقتضيه تلك العظمة مما يؤتاه الأنبياء والملوك، الفضل: الزيادة، المبين: الظاهر الذي لا خفاء به.

_ (1) المؤلف هو الذي عين رقم الآية واسم السورة دون رقمها.

المعنى

المعنى: قام سليمان مقام أبيه داوود- عليهما الصلاة والسلام-، فكان في بني إسرائيل من بعد نبياً ملكاً. وأراد سليمان أن يشهر نعمة الله عليه وينوه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به وطاعته، فدعا الناس وذكر لهم ما خصه الله به من علم منطق الطير وعظائم الأمور مما هو خارق للعادة معجز للبشر آية على نبوته. وتحداهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع الناس، وهو مشاهد لهم لا يمكنهم إنكاره كما لا تمكنهم معارضته. فقه وتحقيق: من ميزة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أنهم يخرجون من الدنيا دون أن يتعلقوا بشيء منها فلا يورثون ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم. وفي الصحيح: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"، فلم يرث سليمان من داوود مالاً وإنما ورث ما نوه به من العلم والملك وما دل عليه ذلك من النبوة. وقد خصصه الله بذلك دون بقية إخوته. تفرقة: الشيء الموروث إن كان من أمور الدنيا وأعراضها ومتناولات الأبدان ومتصرفاتها، فإنه ينتقل بذاته من الميت إلى الحي وينقطع عنه ملك الميت. وما كان من صفات الروح فإنه لا يفارق الميت- لبقاء الروح- وإنما يقوم الحي مقام الميت في أداء ما يؤديه الميت من أعمالٍ متصفاً بمثل ما كان متصفاً به الميت، متحلياً بمثل حليته. فإرث سليمان للملك هو من المعنى الأول، فداوود بعد موته لم يبق ملكاً وإرثه للعلم والنبوة، هو من المعنى الثاني، فداوود بعد موته على علمه ونبوته.

تفرقة أخرى

تفرقة أخرى: إذا كان الموروث مالا فإنه يستحق بالقرابة شرعا، وإذا كان علما أو نبوة أو ملكا فإنها لا تستحق بها. فلم يرث سليمان من داوود ما ورثه منه لأنه ابنه، وإنما كان ذلك تفضلا من الله ونعمة. ولهذا لما دعا سليمان الناس لم يذكر لهم أبوة داوود. وإنما ذكر لهم ما كان به أهلا لمقامه مما خصه الله به من علم وقوة، ومظاهر الملك ومعجزة النبوة. عجائب الخلقة وحكمة العربية: الحيوانات كلهم فهم وإدراك وأصوات تدل بها على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها بعضها عن بعض. ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا، ومنها ما نسمعه، ومما نسمعه ما نفهم مرادها به ومنه مما لا نفهمه. فلا نسمع صوت النملة ولكننا نسمع صوت الهرة- مثلا-، ونميز بين صوتها الذي تدل به على غضبها وصوتها الذي تدل به على طلبها. وفي مملكة النمل ومملكة النحل- مثلا- من النطام والترتيب والتقدير والتدبير ما لا يبقى معه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز وما بينهما من تفاهم. بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيرا من العبارات والإشارات وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها وتدل عليه. فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها اللذين أخبرنا بهما القرآن، وتلك الغاية من الإدراك والنطق لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات. وقد أدركها سليمان- عليه السلام- بتعليم من الله كرامة له وآية على نبوته ومعجزة للناس. فمن حكمة اللغة العربية الشريفة أن سمت أصوات الحيوانات نطقا كما سمت في، المتعارف، اللفط الذي يعبر به عما في الضمير نطقا. لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي

نظر وإيمان

طريق تفاهمها، وطريق فهم ما يمكن لإنسان فهمه عنها. فلله هذه اللغة ما أعمق غورها وما أدق تعبيرها. نظر وإيمان: قد شوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات حسن تدبيرها لأمر معاشها ودقة سعيها في جلب منافعها ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها. وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآتيين من بعد، فنحن به مؤمنون لجوازه عقلا وثبوته سمعا، مثل سائر السمعيات. تمييز: قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتد إليه قدرته ويكون في متناول يده. فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة وتمكن من ناصيتها واستعمل حيوانها وجمادها في مصلحته ورقي أطوار التقدم في حياته. ولفقد الحيوان غير الإنسان هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته. فإدراك الحيوان فطري إلهامي يعطاه من أول الخلقة، والإنسان يعطى أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه ويستمر في درجات التقدم وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل. وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني. توجيه: ذكر سليمان- عليه السلام- منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا، فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات غير

تنزيه وتبيين

الإنسان مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، وأشرفها الطائرة فاقتصر على الطير تنبيها بالأعلى على الأدنى. تنزيه وتبيين: عبر سليمان- عليه السلام- عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام- ليتعظم بسلطان- ولا ليتطاول بفضل. فالأنبياء- صلى الله عليهم- أشد الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده، وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة. وهذا هو الذي توخاه سليمان- عليه السلام- من المصلحة بإظهار العظمة. ولذا لم يقل: علمت، ولا: لي، وعندي من كل شيء. ولم يقل: فضلي فهو فضل من علمه أتاه فضله به عمن سواه. ترغيب واقتداء: يذكر الله تعالى لنا في شأن هذا النبي الكريم ما أعطاه من علم وما مكنه منه من عظيم الأشياء ترغيبا لنا في طلب العلم والسعي في تحصيل ما بنا حاجة إليه من أمور الدنيا، وتشويقا لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد وعوالم الأحياء وبعثا لهممنا على التحلي بأسباب العظمة من العلم والقوة، وحثا لنا على تشييد الملك العظيم الفخم على سنن ملك النبوة. فقد كان سليمان- عليه السلام- نبيا وما كان ملكه ذلك إلا بإذن الله ورضاه، فهو فيما ذكره الله من أمره قدوة وأي قدوة مثل سائر الأنبياء والمرسلين. عليهم الصلاة والسلام أجمعين

_ (1) ش: ج3، م15، ص 105 - 109 غرة ربيع الأول 1358 - أفريل 1939

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة - القسم الثالث

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم الثالث الآية الثالثة، وهي: 17 من النمل (27) (1) {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}. ـــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ والتراكيب: الحشر: الجمع من أماكن متفرقة، جنوده: هم المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده. يوزعون: يكفرون عن الخروج عن النظام في السير فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون عن الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشمال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه. وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى وأعلاهم في ذلك الجن ثم الانس ثم الطير وفي عطف الجملة الثانية بالفاء إفادة سرعة الانتظام بعد الاجتماع. وفاعل حشرهم الاعوان الحاشرون، وفاعل وزع هم الضباط المنظمون. المعنى: كان لسليمان- عليه الصلاة والسلام- من الجن والانس والطير

تفصيل

جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين فإذا عرض أمر جمعهم. وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم. فإراد سليمان أن يسافر فأمر أعوانه بجمع الجنود فجمعوهم له. فلما اجتمعوا تولى رؤساؤهم تنظيمهم فساروا مع سليمان في كثرة ونظام يتولى أولئك الرؤساء تنظيمهم في سيرهم ويمنعونهم من الخروج عن النظام. تفصيل: كما أن للانس من يعرفهم من أعوان سليمان ومن ينظمهم من رؤسائهم كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير، وسلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له وخصوصية ملك لم ينبغ لأحد من بعده. تاريخ وقدوة: تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان. فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة. وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة. وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة، وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم، وكان النظام محكما لضبط تلك الكثرة ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى. تعرض علينا الآية هذه السورة التاريخية الواقعية تعليماً لنا وتربيةً على الجندية المضبوطة المنظمة. ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم وأن مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفاً عندهم في الجاهلية، وبقيت الآية على الدَّهر مذكرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوى والكثرة

طبيعة وشريعة

وحدهما لا يغنيان بدون نظام وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون. طبيعة وشريعة: في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة- بصنع الله- تستخلص الأعلى من الأدنى والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق، وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم والشجر، وتجد المملكة من النمل والنحل مثلا. فالإنسان لم يخرج عن هذا القانون الطبيعي، ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته، فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنسان ومقررات الشرع الإسلامي مثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين. ولما ولي الحسن البصري القضاء، قال لا بدَّ للسلطان من وزعة أي أعوان يكفون الناس عن الشر والفساد ويتولون تربيتهم وتنظيمهم. وفي رواية: لا بد للناس من وازع، أي كاف يكف بعضهم عن بعض وهو الحاكم وأعوانه. وفي حديث ذكره أهل الغريب: من يزم السلطان أكثر ممن يزع القرآن ومعناه، أن من يكفهم عن الشر خوف السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن. وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. الآية الرابعة: وهي 18 من النمل (27): {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ}:

الألفاظ والتراكيب

يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. الألفاظ والتراكيب: أتوا على وادي النمل: هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف للنمل لكثرته فيه. نملة: لفظها مؤنث ومعناها محتمل مثل شاة وحمامة. مساكنكم: هي قرى النمل التي يسكنها تحت وجه الأرض، المحكمة الوضع والتركيب، والتقسيم، ولذلك قيل فيها مساكن ولم يقل غيرها. لا يحطمنكم: لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام. لا يشعرون: لا يحسون بوجودكم. الإتيان بإذا وجوابها لإفادة أن قولها كان يسبب إتيانهم عند أول ما أتوا. لا يحطمنكم: نعتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه. وإنما المعنى لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم فنهتهم عن السبب والمراد النهي عن السبب لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر السبب وهو الحطم من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول، والجملة مؤكدة للأولى فكأنها قالت أدخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها. ونظير التركيب في التعبير بالمسبب عن السبب لا أرينك ههنا .. أي لا تكن هنا فأراك. المعنى: سار سليمان- صلى الله عليه وسلم- في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن وتظلهم الطير حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته فصاحت في بني جنسها فنادتهم للتنبيه وأرشدتهم إلى طريق النجاة بأمرهم بالدخول في مساكنهم وحذرتهم من

عبرة وتعليم

الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم عن غير شعور منهم فلا يكون اللوم عليهم وإنما اللوم على النمل إذا لم يسرع بالدخول. عبرة وتعليم: عاطفة الجنسية غريزة طبيعية، فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها. ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند، إنذار بني جنسها إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم فانذرتهم في أشد ساعات الخطر أبلغ الإنذار. ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم أن تذكر عذر سليمان وجنده. فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلا بحياة قومه ولا نجاة له إلا بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلا إذا شعر بأنه جزء منهم ومظهر هذا الشعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه وأن لا يكون اهتمامه بهم دون اهتمامه بها. واجب القائد والزعيم: هذه النملة هي كبيرة النمل، فقهد كان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها فبادرت بالإنذار. فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلا من كان عنده من بعد النظر وصدق الحدس وصائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع. عظة بالغة: هذه نملة وفت لقومها وأدت نحوهم واجبها، فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه. هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهماً لقومه فيسكت

الآية الخامسة

ويتعامى ولن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم. آه، ما أحْوجنا- معشر المسلمين- إلى أمثال هذه النملة! الآية الخامسة وهي: 19 من النمل (27): {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}. الألفاظ والتراكيب: التبسم: إنفراج الشقنين على الأسنان، وقد يكون للغضب وقد يكون للسخرية وقد يكون للضحك، وهو الأكثر وهو بدايته ولهذا قيد بضاحكا. أوزعني أن اشكر: ألهمني شكر نعمتك وتحقيقه في اللغة والتصريف أنك تقول: وزعت الشيء أي كففته وأوزعني الله الشيء أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما تقول ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك أي إجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك أي أمنعه من أن يذهب عني وينفلت منِّي، فالمقصود اجعلني ملازما لشكرك فلا أنفك لك شاكرا. نعمتك: عام يشمل كل نعمة لله عليه وعلى والديه. وأن أعمل: معطوف على أن أشكر فيقدر مثل تقديره كما تقدم. ترضاه: وصف مؤكد للتقييد على ما سيأتي لأن العمل الصالح مرضي عنه الله. وإنما ذكر الوصف ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح. أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين: إجعلني معهم وأكمل الصالحين الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين، وتحقيقه أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم لا يدخل عليهم فيه إلا من كان مثلهم

المعنى

فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى ولهم منازلهم في الجنة ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد، وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلا برحمة من الله بتيسير لأسبابها وتفضل عظيم. المعنى: لما سمع سليمان- عليه الصلاة والسلام- كلام النملة تبسم تبسم السرور والتعجب من قولها وطلب من ربه تعالى أن يلهمه شكر ما أنعم به عليه وعلى والديه وأن يلهمه عملا صالحا ينال به رضاه وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين بأن يثبت اسمه بينهم ويقرن ذكره بذكرهم ويلحقه بهم ويسكنه الجنة معهم بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه. توجيه: صدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره، فهذا مبعث تعجب سليمان- عليه السلام- وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه من غير شعور. فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء، هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان -عليه السلام- لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي لم يؤته غيره حتى فهم به ما همست به النملة وهي من الحِكم الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال. أدب من سرته النعمة: نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والاكبار لنواله. ومن أدب العبد حينئذ أن

النعمة المزدوجة

يسأل الله التوفيق، بشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة والتوفيق لشكرها بما يقوم به من أعمال صالحة في رضى الله كما فعل سليمان- عليه السلام-. النعمة المزدوجة: إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح فهي نعمة على ولدهما إذا أتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة، كما أن نعمة الله على الولد هي نعمة على والديه فهو من أثرهما ومثل حسناته في ميزانهما لأنهما أصل ذلك وسببه ويدعو له الناس فيدعون لهما ويدعو هو لهما. وقد يؤذن له فيشفع لهما. فالنعمة على الوالد أو على الولد هي نعمة مزدوجة بينهما ولهذا ذكر سليمان- عليه السلام- نعمة الله على والديه مع نعمته عليه. الغاية المطلوبة: إن شعور العبد برضى الله عنه هو أعظم لذة روحية تعجز عن تصويرها الألسن. واحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم. فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله. فالعمل الصالح ترتضيه العقول وتستعذبه الفطر. ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله. ولهذا قال سليمان- عليه السلام-: (تَرْضَاهُ). جمع وتحقيق: قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1)

_ (1) 16/ 32 النمل.

دقيقة روحية

فأفادَ أن الأعمال سبب في دخول الجنة وفي هذه الآية: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} فأفاد أن الدخول بالرحمة، ولا منافاة ما بينهما فَالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله. والعمل من حيث ذاته لا يستحق على الله جزاء لأنه لا ينتفع به إذ هو الغني عن خلقه. وإنما تفضل فجعله سبباً في نيل ثوابه ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفاً إلى عشر، إلى أضعاف كثيرة إلى الموفي للصابرين بغير حساب. دقيقة روحية: إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس وفي الرفيق الأعلى الأطهر وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية. في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه والانجذاب نحوه. ولذا كان من دعوات الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الدخول في الصالحين واللحوق بهم. مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (1). وقول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2). وفقنا الله لشكر ما من به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة وختم لنا باللحوق بعباده الصالحين (3).

_ (1) 82/ 26 الشعراء. (2) 101/ 12 يوسف. (3) ش: ج4، م 15، ص 157 - 165 غرة ربيع الثاني 1358 - ماي 1939

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة - القسم الرابع

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم الرابع الآية السادسة وهي: 20 من النمل (27): {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}. ـــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ والتراكيب: تفقد: التفقد تطلبك ما فقدته وغاب عنك وتعرفك أحْواله. لا أرى: لا أبصر، الهدهد: هو (تبيب) وهو طائر صغير الجرم منتن الريح ليس من كرام الطير ولا من سباعها. ما لي لا أرى: استفهم عما حصل له فمنعه من الرؤية حيث ظن أولا أن الهدهد كان حاضراً وإنما هو لم يره. أم كان من الغائبين: استفهم عن غيبته حيث ظن ثانيا أنه غائب فاستفهم عن صحة ما ظن، فكلمة أم فيها اضراب وفيها استفهام، فأضرب إضراب إنتقال من ظن إلى ظن. كان من الغائبين: تعريض بقبح فعله لما انحط عن شرف الحضور وكان من الغائبين. المعنى: تطلب سليمان- عليه السلام- معرفة ما غاب عنه من أحوال الطير فلم ير الهدهد وأخذ يتساءل فظن أن شيئاً ستره عنه فلم يره،

تعليم وقدوة

ولما لم يكن شيء من ذلك ظن أنه كان غائباً غير حاضر وذلك هو الظن الأخير الذي حصل به اليقين. تعليم وقدوة: من حق الرعية على راعيها أن يتفقدها ويتعرف أحوالها إذ هو مسؤول عن الجليل والدقيق منها يباشر بنفسه ما استطاع مباشرته منها ويضع الوسائل التي تطلعه على ما غاب عليه منها وينيط بأهل الخبرة والمقدرة والأمانة تفقد أحْوالها حتى تكون أحوال كل ناحية معروفة مباشرة لمن كلف بها. فهذا سليمان على عظمة ملكه واتساع جيشه وكثرة أتباعه قد تولى التفقد بنفسه ولم يهمل أمر الهدهد على صغره وصغر مكانه، وقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: "لو أن سخلة بشاطىء الفرات يأخذها الذئب ليسأل عنها عمر" وهذا التفقد والتعرف هو على كل راع في الامم والجماعات والاسر والرفاق وكل من كانت له رعية. تعليل وتحرير: تفقد سليمان جنس ما معه من الطير للتعرف كما ذكرنا وذكر الطير لأنه هو الذي تعلهقت به القصة وليس في السكوت عن غير الطير ما يدل على أنه لم يتفقده فالتفقد لم يكن للهدهد بخصوصه وإنما لما تفقد جنس الطير فقده ولم يجده فقال ما قال. فلا وجه لسؤال من سأل: كيف تفقد الهدهد من بين سائر الطير. تدقيق لغوي وغوص علمي: سأل سليمان عن حال نفسه فقال: ما لي لا أرى الهدهد ولم يسأل عن حال الهدهد فيقل (1) ما للهدهد لا أراه فأنكر حال نفسه قبل أن ينكر حال غيره. فنقل الحافظ الإمام ابن العربي عن الإمام

_ (1) كذا في الأصل.

توجيه

عبد الكريم بن هوازن القشيري شيخ الصوفية في زمانه قال: " إنما قال مالي لا أرى لأنه اعتبر حال نفسه ذا علم أنه أوتي الملك العظيم وسخر له الخلق فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه فقال: مالي، وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم، هذا في الآداب فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض". توجيه: مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من أجل علوم القرآن وذخائره إذ هي معاني صحيحة في نفسها، ومأخوذة من التركيب القرآني أخذاً عربياً صحيحاً، ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع. وكل ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول، ومنه فهم عمر وابن عباس- رضي الله عنهما- أجل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من سورة النصر، أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة وخصوصا الأول والثاني، فهو لا يجوز في تفسير كلام الله وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية. كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدمين والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين. الآية السابعة وهي: 21 من النمل (27): {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. الألفاظ والتراكيب: عذابا شديدا: ينتف ريشه هكذا فسره ابن عباس وجماعة من

المعنى

التابعين. بسلطان مبين: بحجة قاطعة توضح عذره في غيبته. سميت الحجة سلطاناً لما لها من السلطة على العقل في إخضاعه، أفادت أو إن المخلوف على حصوله هو أحد الثلاثة، فإذا حصلت الحجة فلا تعذيب ولا ذبح، ولو لم تحصل لفعل أحدهما، وقدم التعذيب لأنه أشد من القتل، وحالة الغضب تقتضي تقديم الأشد. المعنى: يقسم سليمان على معاقبة الهدهد- وقد تحقق غيبته- بالتعذيب أو بالذبح إذا لم يأته بالحجة التي تبين عذره في تلك الغيبة ولا يستثنى للعفو ولا يجعل سببا لسلامته من العقوبة إلاّ الحجة. توجيه واستنباط: ليس في الآية ما يفهم خصوص نتف الريش من لفط العذاب الشديد، وإنما فهم ابن عباس- رضي الله عنه- وأئمةٌ من التابعين ذالك بالنظر العقلي والاعتبار، فإنَّ نتف ريشه يعطل خاصية الطيران فيه فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ، وقد علم ان المسخ في القرآن أشنع عقوبة في الدنيا، فلهذا فسروا العذاب الشديد بنتف الريش. والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم انسا- فردا أو جماعة- من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية وحوله إلى عيشة العجماوات وذلك نوع من المسخ فهو عذاب شديد وأي عذاب شديد؟ صرامة الجندية: كان هذا الهدهد من جنود سليمان التي حشرت له وقد كان في مكانه الذي عين له وأقيم فيه، فلما فارق وترك الفرجة في صفه وأوقع الخلل في جنسه استحق العقاب الصارم الذي لا هوادة فيه. وهذا

تقدير العقوبة

أصلٌ في صرامة أحكام الجندية وشدتها لعظم المسؤولية التي تحملتها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها وعظم الخطر الذي يعم الجميع إذا أخلت بها. تقدير العقوبة: جرم الهدهد صغير وما كلف الا بما يستطيعه من الوقوف في مكانه والبقاء في مركزه، ولكن جرمه باخلاله بهذا الواجب كان جرماً كبيراً فإن الخلل الصغير مجلبة للخلل الكبير فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا على حسب صغر ذاته. تنبيه وإرشاد: كل واحد في قومه أو في جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته، مما يقوم به من عمل حسب كفاءته واستطاعته، فعليه أن يحفظ مركزه ولا يدع الخطر يدخل ولا الخلل يقع من جهته فإنه إذا قصَّر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه وجماعته، وأوجد السبيل لتسرب الهلاك إليهم. وزوال حجر صغير من السد المقام لصد السبيل يفضي إلى خراب السد بتمامه. فاخلال أي أحد بمركزه ولو كان أصغر المراكز مؤد إلى الضرر العام. وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته هو مظهر النظام والتضامن وهما أساس القوة. الحق فوق كل أحد: لقد أغضب سليمان غياب الهدهد فلذا توعده هذا الوعيد وأكده هذا التأكيد. ولكن سلطان سليمان في قوته وملكه ومكانته يجب أن يخضع لسلطان آخر هو أعظم من سلطانه: هو سلطان الحق، والحق فوق كل أحد. وملك سليمان ملك حق فلا بد له من الخضوع لسلطان الحجة ليقيم ميزان العدل، والعدل أساس الملك وسياج العمران (1).

_ (1) ش: ج 5، م 15، ص 203 - 208 غرة جمادى الأولى 1358 - جوان 1939

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم الخامس

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم الخامس الآية الثامنة وهي: 22 من النمل (27): {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ـــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ والتراكيب: مكث: أقام، وقرأ عاصم بفتح الكاف. غير: صفة زمان محذوف، فالتقدير غير بعيد. فاعل مكث هو الهدهد مثل فاعل قال الآتي. أحطت: الاحاطة بالشيء، عقليا هي العلم به من جميع نواحيه. سبأ: إسم مدينة باليمن سميت باسم سبأ جد العرب اليمانية حمير وغيرها، وصرفه الجمهور على اعتبار المكان، ومنعه من الصرف المكي والبصري على اعتبار البلدة. بنبأ: النبأ الخبر الذي له شأن وخطورة. واليقين: المحقق، جعله نفس اليقين مبالغة في تحقيقه. وفي الكلام إيجاز بالحذف، اذ المعنى: فجاء الهدهد فسأله سليمان- عليه السلام- ءن سبب مغيبه فقال. المعنى: لم تطل غيبة الهدهد عن مركزه في جنود سليمان، فلم يلبث في غيبت إلاَّ زمانا قصيراً، وكان سؤال سليمان له عن غيبته فور رجوعه،

توجيه واستنباط

فأسرع بالجواب والاعتذار عن الغيبة والدفاع عن نفسه فقال: اطلعت على شيء لم تطلع أنت عليه وعرفته من جميع نواحيه، وقد أتيتك من بلدة سبأ بخبر خطير ذي شأن عظيم تيقنته غاية اليقين. توجيه واستنباط: كان في جواب الهدهد حجة بينة لسبب غيابه، وذلك لأنه لم يذهب عابثا ولا لغرض خاص به، وإنما ذهب مستطلعا مكتشفا فحصل علما وجاء بخبر عظيم في زمن قصير فرجحت هذه الفوائد العظيمة بتركه لمركزه في الجند فسقطت عنه المؤاخذة. فإن قيل: ان أصل مفارقته لمركزه دون استئذان كان مخالفة يستوجب عليها العقوبة فالجواب أن هذه المخالفة كانت لقصد حسن وهو الاستطلاع وأثمرت خيرا فاستحق العفو عن تلك المخالفة التي كانت عن نظر ولم تكن عن تهاون وانتهاك للحرمة. فإن قيل: ما الذي أوقع في نفس الهدهد رغبته في طلب ما طلب، فالجواب: انه يجوز أن يكون شاهد عمران اليمن من مكان بعيد ببصره الحاد فرغب في المعرفة أو أن يكون قد مر باليمن من قبل ولم يتحقق من حالها فأراد أن يتحقق. وهذه الآية مأخذ من مآخذ الأصل القائل: ان المخالف للأمر عن غير انتهاك للحرمة لا يؤاخذ بتلك المخالفة. ومن فروع هذا الأصل سقوط الكفارة عمن أفطر في رمضان متعمدا متأولا تأويلا قريبا. عزة العلم وسلطانه: ابتدأ الهدهد جوابه معتزا بما أحاط به من العلم متجملا بما حصل منه مظهرا لارتفاع منزلته به متحصنا به من العقاب. ولم تمنعه عظمة سليمان- عليه السلام- من اظهار علمه واعلان اختصاصه به دون سليمان.

أدب واقتداء

أدب واقتداء: قد سمع سليمان هذا من الهدهد وأقره عليه، فللصغير أن يقول للكبير، وللحقير أن يقول للجليل، علمت ما لم تعلم وعندي ما ليس عندك، إذا كان من ذلك على يقين وكان لقصد صحيح. ومن أدب من قيل له ذلك ولو كان كبيرا جليلا أن يتقبل ذلك ولا يبادر برده وعليه أن ينظر فيه ليعرف مقدار صدق قائله فيقبله أو يرده بعد النظر والتأمل، اذ قد يكون في أصغر مخلوقات الله وأحقرها من يحيط علما بما لم يعلم مثل سليمان- عليه السلام- في علمه وحكمته واتساع مدركاته. وكفى بمثل هذا زاجرا لكل ذي علم عن الاعجاب بعلمه والاعتزاز بسعة اطلاعه والترفع عن الاستفادة ممن دونه. مدرك عقيدة: لا يعلم أحد من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- شيئا مما غاب عنه إلا باعلام الله، فليس لهم كشف عام عن جميع ما في الكون، وإنما يعلمون منه ما اطلعهم الله عليه. ومن مدارك ذلك هذه القصة، فإن سليمان- عليه السلام- لم يكن يعلم من مملكة سبأ شيئا حتى اطلعه الله عليه بواسطة الهدهد. وإذا كان هذا حال الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فغيرهم من عباد الله الصالحين من باب أحرى وأولى. تحقيق تاريخي: رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الاسرائيليات الباطلة التي امتلات بها كتب التفسير مما تلقى من غير تثبت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه. وروى شيئا من ذلك الحاكم في مستدركه وصرح الذهبي ببطلانه، ومن هذه المبالغات الباطلة انه ملك الارض كلها

معذرة إلى القراء الكرام

مشارقها ومغاربها، فهذه مملكة عظيمة بسبأ كانت مستقلة عنه ومجهولة لديه على قرب ما بين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام (1). معذرة إلى القراء الكرام ما قرأتموه من التذكير بهذه الآية الكريمة في هذا الجزء قد كتبت شطره مساء يوم الإثنين 2 جمادى الأولى و 19 جوان وشطره بكرة الثلاثاء الغد منه. وفي صبيحة هذه الثلاثاء ابتدئت المحاكمة في قضية مقتل المفتي ابن دالي عمر التي اتهم الشيخ الطيب العقبي والسيد عباس التركي باطلا ظلما عدوانا، فكان من واجبي أن أحضر جميع الجلسات، فانشغل بالي عن تتميم مجالس التذكير. ولقد مات ابني الوحيد ومات أخ لي عزيز فما شغل ذلك بالي مثل اليوم ولا منعني عن دروسي وأعمالي ذلك لأن هذه القضية اليوم قضية الإسلام والعربية والجزائر، لا قضية فرد أو جماعة. فمعذرة يا قرائي الاعزة، والله نسأل أن يظهر الحق ويدحض الباطل.

_ (1) ش: ج 6، م 15، ص 251 - 254 غرة جمادى الثانية 1358 - جويلية 1939

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم السادس

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة القسم السادس الآية التاسعة وهي: 23 من النمل (27): {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ـــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ والتراكيب: وجدت: اصبت، امرأة: هي بلقيس بإجماع المفسرين والمؤرخين. تملكهم: تتولى أمرهم ملكة عليهم. وعبر بالمضارع تصويرا للحال العجيب، وهو أن تتولى ملكهم امرأة، وعاد الضمير على سبأ ضمير جمع مذكر على معنى القوم، اذ كانوا يسمون باسم أبيهم. فذكر لفظ سبأ أولا بمعنى المدينة، وأعيد عليه الضمير بمعنى القوم على أسلوب الاستخدام. من كل شيء: لفظ عام أريد به كل ما تحتاج إليه من أشياء الملك والسلطان والقوة والعمران. عرش: هو سرير الملك الذي تجلس عليه. عظيم: في كبره وقوته وحسنه. المعنى: يقول الهدهد لسليمان- عليه السلام- مبينا الخبر العظيم الذي جاء به: اني وجدت أولئك القوم الذين يسكنون تلك المدينة قد جعلوا امرأة ملكة عليهم. وقد أعطيت تلك الملكة كل ما تحتاج اليه

عظمة المملكة العربية اليمنية

في نظام ملكها وعظمته، ومن مظاهر تلك العظمة السرير العظيم الذي تجلس عليه بين أهل مملكتها. عظمة المملكة العربية اليمنية: كانت بلقيس ملكة على اليمن في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد وقد كانت ملكة عظيمة على مملكة عظيمة راقية. والهدهد الذي شاهد ملك سليمان وعظمته قد استعظم ملكها وعرشها، وعظمة العرش عنوان عظمة الملك، فلذا خصصه الهدهد بالذكر ورغب سليمان في الإتيان به. تفوق العرب على الإسرئيليين: كل ذلك الرقي وتلك العظمة بلغتهما المملكة العربية اليمنية بنفسها من تفكيرها وعملها من قرون بعيدة. فأما الإسرائيليون- وهم إذ ذاك في القرن الخامس من تاريخهم- فإنهم لم يبلغوا في ذلك العهد إلى شيء من ذلك. وما كان لسليمان من بناءات ومنشآت فهو مما صنعته له الجن والشياطين، كما جاء في آيات من القرآن عديدة، ولم يترك بنو إسرائيل من الآثار ما يدل على شيء ذي بال من الفن والقوة، فأما ما تركته اليمن فهو شيء كثير قائم مشاهد، والاكتشافات ما زالت تظهر منه شيئا فشيئا. ولاية المرأة للملك: ثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((لن يفلع قوم ولّوا أمرهم امرأة)) قاله لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم امرأة. فاقتضى هذا أن لا تلي المرأة ولاية لا إمارة ولا قضاء، وأيدت هذا النص الصحيح السنة العملية فأخذ به جمهور أئمة الإسلام، وجاءت روايات عليلة عن بعضهم لم يلتفت إليها ولم يعمل بها.

تعليل

تعليل: لا تصلح المرأة للولاية من ناحية خلقتها النفسية، فقد أعطيت من الرقة والعطف والرأفة ما أضعف فيها الحزم والصرامة اللازمين للولاية، وفي اشتغالها بالولاية إخلال بوظيفتها الطبيعية الاجتماعية التي لا يقوم مقامها فيها سواها، وهي القيام على مملكة البيت وتدبير شؤونه وحفظ النسل بالاعتناء بالحمل والولادة وتربية الأولاد. رفع اعتراض: في تواريخ الأمم نساء تولين الملك، ومن المشهورات في الأمم الإسلامية شجرة الدر في العصر الأيوبي، ومنهن من قضت آخر حياتها في الملك وازدهر ملك قومها في عهدها. فما معنى نفي الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة؟ هذا اعتراض بأمر واقع ولكنه لا يرد علينا لأن الفلاح المنفي هو الفلاح في لسان الشرع، وهو تحصيل خير الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ازدهار الملك أن يكون القوم في مرضاة الله، ومن لم يكن في طاعة الله فليس من المفلحين، ولو كان في أحسن حال فيما يبدو من أمر دنياه. على أن أكثر من ولوا أمرهم امرأة من الأمم إذا قابلهم مثلهم كانت عاقبتهم أن يُغْلبَوا. الآية العاشرة وهي: 24 من النمل (27): {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}. الألفاظ والتركيب: من دون الله: تجاوزوا عبادة الله إلى عبادة الشمس. زين: حسن.

المعنى

أعمالهم: سجودهم للشمس وغيره من أعمال كفرهم. فصدهم: صرفهم صرفا شديدا. السبيل: هو الطريق الوحيد المعهود للنجاة وهو توحيد الله. لا يهتدون: لا يكون منهم سلوك في طريق الحق والسداد. جملة وجدتها مستأنفة للبيان جواباً على تقدير سؤال، فالكلام السابق بين حالتها من ناحية الدنيا فتشوقت نفس السامع إلى معرفة حالتها من ناحية الدين .. عدم اهتدائهم مسبب عن صد الشيطان لهم، وصده مسبب عن تزييفه لأعمالهم لهم، هذا ما تفيده الفاء. المعنى: وجدتهها وقومها مجوساً يعبدون الشمس فيسجدون لها ولايسجدون لله، وقد تمكن الشيطان منهم فحسن في أعينهم أعهمالهم فصرفهم عن عبادة الله وتوحيده مع ظهور الدلائل ووضوح الآيات فثبتوا على ضلالهم لا يكون منهم اهتداء لطريق النجاة الظاهر في حال من الأحوال. سلاح الشيطان وأصل الضلال: محبة الإنسان نفسه غريزة من غرائزه، وهو محتاج إليها ليجلب لنفسه حاجتها ويدفع عنها ما يضر بها ويسعى في تكميلها. هذه هي الناحية النافعة والمفيدة من هذه الغريزة ولكنها من جهة أخرى هي مدخل من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان فيحسن له أعماله وهو لمحبة نفسه يحب أعماله ويغتر بها فيذهب مع هواه في تلك الأعمال على غير هدى ولا بيان فيهلك هلاكاً بعيداً فاستحسان المرء لأعماله هو أصل ضلاله وتزيين الشيطان لتلك الأعمال هو أحد أسلحة الشيطان. الوقاية: فعلى المرء ان يتهم نفسه في كل ما تدعوه إليه، وأن يزن جميع

الآية الحادية عشر

أعماله بميزان الشرع الدقيق خصوصا ما تشتد رغبته فيه ويعظم حسنه في عينه. الآية الحادية عشر وهي: 35 من النمل (27): {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}. الألفظ والتراكيب: ألا يسجدوا: عدم سجودهم، فاِنْ مصدرية، ولا نافية، وهو بدل بعض من أعمالهم، خصص بالذكر لانه أصل كفرهم ومبعث فساد أعمالهم. الخبء: الشيء المخبوء، فعل بمعنى مفعول، يقال خبأت الشيء أخبؤه خبأً بمعنى سترته عن العيون، فالخبء يشمل كل ما احتوته السموات والأرض مما يبرزه الله للخلق لمنفعتهم فتشاهده العيون مثل المطر والنبات، أو تدركه العقول مثل بدائع الخلق ودقائق الصنع، ومنه ما يكشفه الله لعلماء الأكوان من أسرار الخلقة عندما يستعملون عقولهم ووسائلهم العلمية فيأتون بما فيه نفع للعباد ورقي للعمران. ما يخفون: ما يكتمون في أنفسهم أو عن غيرهم. وما يعلنون: يظهرون للناس. المعنى: زين لهم الشيطان من أعمالهم على الخصوص عدم سجودهم لله الذي أقام عليهم الحجة بما يخرجه لهم من الخيرات المخبئات من السموات والأرض من أمطار السماء ونبات الأرض مما يدل على عظيم قدرته ولطف علمه الذي أحاط بما (1) ببواطن الأشياء وظواهرها وبما

_ (1) كذا في لاصل.

استدلال وتوجيه

تنطوي عليه السرائر تواريه الستائر وما هو ظاهر للعموم. استدلال وتوجيه: السجود مظهر لغاية الذل والخضوع والانقياد والاستسلام، وتلك أصل العبادة ولا يستحقها من العبد الا من هو- حقيقة- المنعم الغني الكامل القوي، وما هو الا خالقه. فاستدل على استحقاق الله السجود دون غيره بما ذكر من اخراجه الخبء ويشمل علمه لما خفي وما علن. وذلك متضمن لكماله وانعامه وشمول علمه وعموم سلطانه. حكم وانبناؤه: انبنى على ان السجود عبادة ولا يستحقها الا الخالق، تحريم السجود للمخلوق فلا يجوز أن يعظم به أحد أحدا ولو لم يقصد به العبادة اما إذا قصد به العبادة فهو الكفر البواح. تحذير: كثيرا ما رأينا في الرسوم التي تنشرها الصحف أناسا من المسلمين راكعين أو مقاربين للسجود لذي سلطان. فعلى المسلم أن يحذر من ذلك فلا يفعله ولا ينحني لأحد من الخلق وان ينكره إذا رآه. تشويق القرآن إلى علوم الأكوان: من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية أن يعرض علينا القرآن صوراً من العالم العلوي والسفلي في بيان بديع جذاب يشوقنا إلى التأمل فيها والتعمق في أسرارها، وهنا يذكر لنا ما خبأه، في السموات والأرض لنشتاق اليه. وتبعث في البحث عنه واستجلاء حقائقه ومنافعه غريزة حب الاستطلاع ومعرفة المجهول وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم واستثمار ما في الكون إلى أقصى

ترتيب في الاستدلال

ما استطاعوا ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم ولن نعز عزَّهم الا إذا فهمنا الدين فهمهم وخدمنا العلم خدمتهم. ترتيب في الاستدلال: إخراج الخبء لا يكون إلاَّ من العالم بذلك الخبء الذي أحاط علمه به في حال ستره وفي حال ظهوره فيدل ذلك على شمول علمه لما ظهر وما بطن، ومنه ما يخفون وما يعلنون، ولذلك عطفه عليه لترتبه عليه ترتب المدلول على دليله. الآية الثانية عشر وهي: 26 من النمل (27): {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. تعميم: العرش: مخلوق عظيم من عالم الغيب أعظم من السموات والأرض. المعنى: الموصوف بتلك الصِّفات والمنعم بتلك الانعامات المستحق للسجود منهم، وقد زين لهم الشياطين عدم السجود له، هو الله الذي لا معبود غيره ولا يستحق العبادة سواه خالق المخلوقات كلها، والمالك لها والمدبر لامرها، والمتصرف فيها من أصغر مخلوق إلى أعظم مخلوق، وهو عرشه العظيم الذي فاق كل ما نرى من عالم الشهادة. توجيه الترتيب: لما ذكر استحقاقه للعبادة بكمالاته وانعاماته ذكر أن لا مستحق للعبادة غيره، إذ لا يشاركه في تلك الكمالات والانعامات سواه، فكأن الجملة كالنتيجة لما قبلها. ولما ذكر وحدانيته في الألوهية فلا

بيان مراد

يعبد سواه، ذكر وحدانيته في الربوبية بانفراده بالخلق والملك والتصرف والتدبر لهذا المخلوق العظيم، ونبه به على ما دونه من المخلوقات، ولما كان الحديث على عظمة ملك العباد ملك النبوة وغيره ذكر عظمة ملك الله التي تصغر ازاءها كل عظمة. بيان مراد: قد يتماثلان (1) اللفظان ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل فيه فلقد جاء في حق سليمان- عليه السلام- {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ووصف الهدهد بلقيس بأنها أوتيت من كل شيء، ولما كان المتحدث عنه أولا هو سليمان فكل شيء يعم ما يحتاج اليه من أمر النبوة وملك النبوة. كما انه قد قال عنها: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقال عن الله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. فعرش بلقيس عظيم بين عروش الملوك، وعرش الله عظمته أعظم من السموات والارض. وهكذا لا بد من اعتبار المقام في فهم الكلام. العبرة والقدوة: قد ألهم الله الحيوانات إلى ما قد يخفي عن بعض العقلاء، ومضى منا كلام عن هذا فيما تقدم من هذه الآيات الكريمة، وهذا الهدهد بين الهداهد فلهم إلْهام خاصٌ يقتضيه تخصيصه بهذا الموقف واتصاله بسليمان- عليه السلام-، وزمن الانبياء زمن خرق العوائد وظهور الآيات، وقد كان في حسن بيانه وترتيب أخباره وبديع تهديه عبارة بالغة لأولي الألباب، فقد تحصن بالعلم ونـ ره (2) بالنبأ المتيقن وفصل

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: يتماثل. (2) كذا في الأصل، ولعل: ونبأه.

لمحة نفسية

النبأ فشرح حاليها الدنيوية والدينية وتنقل من تشويق إلى تشويق أبلغ منه فكان متثبتا فيما أخبره. بارعا فيما صور مستدلا فيما قرر وفيما أنكر، بصيرا بكيد الشيطان للإنسان متفطنا لانبناء الضلالات بعضها على بعض خبيرا بترتيب الادلة وحسن الاستنتاج. وفيما ذكر الله لنا من هذه العبر البالغة من هذا الحيوان الأعجم حث لنا على أن نسلك عندما نخبر ونبين أو نبحث وننظر ونستدل ونرتب ونعلل، أن نسلك هذا المسلك. واذا كان الله تعالى قد بعث غرابا ليتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه فكذلك ذكر لنا أمر هذا الهدهد الممتاز بين الهداهد لنقتدي به، تنبيها لنا على أخذ العلم من كل أحد والاستفادة من كل مخلوق والشعور دائما بالنقص للسلامة من شر ادواء الإنسان: العجب والكبر والغرور ... {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. لمحة نفسية: الظواهر دلائل البواطن فالمرء يعرف من سبحات وجهه وفلتات لسانه، وكثير ما تدل كلماته على مهنته أو فكرته وعقيدته، كما تدل هيبته أو لبسته وشمائله. وما يباشره المرء تنطبع به نفسه ويصطبغ خياله فيجري على لسانه في تشبيهاته وتمثيلاته وفنون قوله فقد تختلف العبارات عن شيء واحد في وقت واحد باختلاف نفسيات المتكلمين عليه. وقد عرف الهدهد بين الطيور بثقوب البصر والاهتداء إلى الماء في جوف الأرض خصوصا هدهد سليمان الممتاز بين الهداهد فلما استدل ذكر من صنع الله ما هو أقرب اليه وأغلب عليه وهو اخراخ الخبء الذي منه الماء المخبوء في جوف الأرض.

إشارة علمية

إشارة علمية: دَلالة الصنعة على الصانع دلالة فطرية عقلية قطعية، فكل ذي صنعة في مكنته أن يستدل بصنعته على وجود خالق هذا العالم وكماله. يشاهد ان صنعته ما كانت الا به وبما له من قدرة فينا وعلم بها فيهديه ذلك إلى ان هذا العالم ما كان الا من خالق قادر عالم. فالهدهد ذكر ما هو من عمله في الاستدلال على وجود الخالق تعالى ووحدانيته. ومثله كل ذي صنعة. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ (1)

_ (1) ش: ج 7، م 15، ص 312 - 320 غرة رجب 1358 - أوت 1939.

يس

يس (1) ــــــــــــــــــــــــــ مثل هذا اللفظ مما افتتحت به بعض سور القرآن، وللعلماء فيه طريقتان: الأولى أنه لفظ له معنى يعلمه الله، فهو من التشابه الذي لا يعلمه الراسخون، وإنما يؤمنون به ويردون علمه إلى عالمه. سؤال وجوابه: القرآن أنزل للبيان، ولا بيان إلاَّ بالإلهام، فكيف يكون في القرآن لفظ لا يفهم له معنى؟ والجواب: أنَّ عدم فهم معنى من بضع عشرة كلمة افتتحت بها بعض السور لا يخل ببيان القرآن لما أنزل لبيانه من عقائد وآداب وأحكام وغيرها من مقاصد القرآن. توجيه وتنيظير: ان الله تعالى أعطانا العقل الذي به ندرك الآيات التي نصبها لنا لنستدل بها على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته. وبالنظر في هذه الآيات نصل- بتسيير الله- بعقولنا إلى إدراك بدائع عجيبة وأسرار غريبة ما تزال تتجلى لنا ما دمنا نتأمل فيها ونعتبر بها. وما يزال الإنسان يكتشف منها حقائق مضت عليه أزمان وهو يعدها من المحال. ويجتني منها فوائد ما كانت تخطر له في أحقابه الماضية على بال. غير أن استجلاء هذه الحقائق واستحصال هذه الفوائد من الآيات الكونية- على نفاستها وعظيم نفعها- محفوف بخطر الاعجاب بذلك

_ (1) 36/ 1 يس.

العقل، حتى يحسب أنه محيط بالحقائق كلها، وأن مدركاتها يقينيات بأسرها، فيؤديه حسبانه الأول إلى الفتنة بالمدركات، فيحسب أن لا شيء بعدها، فقد يخرج إلى انكار خالقها، ويؤديه حسبانه الثاني إلى الذهاب في ظنونه وأوهامه وفرضياته إلى غايات لا نسب بين اليقين وبينها. فكان من لطف الله بالإنسان أن جعل لعقله حداً يقف عنده وينتهي اليه، ليسلم من هذا الخطر، خطر الاعجاب بالعقل، ففي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها ولا تستطيع أن تعرف كنهها، كحقيقة الكهرباء في الكون، وحقيقة الروح والعقل في الإنسان، فمثل هذه الحقائق المنغلقة التي يرتد عقل الإنسان اليه عنها خاسئا وهو حسير. هي التي تعرفه بقدره وبعظمة هذا الكون وفخامة أمره. فيقف بعقله عند حد النظر والاعتبار والاستدلال ببديع الصنعة وعظيم النعمة على حكمة الله البالغة ومنته السابغة، دون خلط للاوهام بالحقائق ولا فتنة بالمخلوق عن الخالق. هذه الحقائق التي خفيت عن العقل البشري فلم يدرك كنهها لم تقدح في دلالة آيات الأكوان على ما دلَّت عليه من وجود الخالق ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته، وفضله واحسانه ورحمته، فكذلك لم يقدح في بيان القرآن ودلالة آياته خفاء معاني بضع عشرة كلمة من كلماته، وكما كان خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية ايقافا للعقل عند حده وتعريفا له بقدره، وتنبيها له على عظم آيات ربه، كذلك كان خفاء هذه المعاني في الآيات القرآنية لمثل ذلك. ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية في هذا الجلاء العام والخفاء الخاص جملة من الأحكام، كعدد الصلوات والركعات والسجدات التي خفيت على العقول حكمتها وقد ظهرت الحكم الكثيرة الجلية في سائر أحكام الشريعة غيرها، ولم يقدح في حكمة الشريعة في أحكامها، خفاء ما خفي في بعضها، كما لم يقدح خفاء ما خفي من حقائق الآيات

بناء العمل على هذا العلم

الكونية ومعاني الآيات الكلامية في دلالتها وبيانها. والحكمة هنا في هذه الاحكام هي الحكمة المتقدمة فيهما. ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية والأحكام الشرعية في هذا الخفاء الجزءي تصرفات الله في خلقه بمجاري اقداره فقد تظهر حكم الله فيها وقد تخفى، وقد تخفى دهراً وتظهر بعد مدة. وقد نبهنا الله على هذه الحقيقة بما قص علينا في قصة يوسف عليه السلام، وما كان مجهولا من حكم قدر الله في مبدأ أمره وما ظهر من تلك الحكم الباهرة للقدر في آخر أمره، وبما قصه علينا في قصة أم موسى لما أوحي اليها بقذفه في اليم وعدم الخوف عليه وما كان من عواقب امره، وكما لا ينفي الحكمة عن تدبير الله عدم ظهورها كذلك لا ينفي الحكمة عن شرعه عدم فهمها ولا يقدح في دلالة الآيات وبيانها عدم إدراك كنهها أو عدم فهم معناها. ففي خلق الله وفي شرع الله وفي قدر الله وفي كلام الله ما يخفي على العقول إدراك حقيقته أو حكمته، أو معناه لطفاً من الله بالإنسان وتنبيها له، وقد قامت الحجة عليه فيما جهل بما عرف. وتجلت له بدائع الخلقة وجلائل النعمة فيما ظهر، فآمن بوجود مثلها فيما خفي. إذ الرب الحكيم الرحيم لا يكون منه إلا ما هو حكمة وفيه نعمة، فكان الإنسان في القسم الأول مدركا مستدلا معتبرا، قد استعمل عقله فأدَّاه إلى الإيمان واليقين فيما ظهر. وكان في القسم الثاني مصدِّقا مذعنا لربه صاغرا، قد أدرك الحجة فآمن بالغيب فيما استتر. فجمع بين النظر والاستدلال، والتسليم والاذعان. فهذا توجيه وجود لفظ لا نفهم معناه من كتاب الله- عند من يقول به- ببيان حكمته، مع تنظيره بمثله في خلق الله وشرعه وقدره. بناء العمل على هذا العلم: قد رأيت كيف يقف العقل عاجزاً أمام بعض أسرار الخلق والقدر

والشرع والقرآن، مع يقينه بما علم منها، ان ما عجز عن إدراكه ما هو إلاّ مثل ما عرف في الحق والحكمة والنعمة، إذ الجميع- ما عرف وما عجز عنه- من إله واحد حكيم خبير رحمن رحيم. فليذكر الناظر في خلق الله وقدره وشرعه وكلامه دائما هذه الحقيقة، وهي ثبوت الحق والحكمة والنعمة في جميعها، وإمكان عجز عقله في بعض المواضع والأحوال عن إدراكها فيكون عمله في خلق الله هو النظر والبحث والتعليل والاكتشاف واستجلاء الحقائق الكونية واستخراج الفوائد العلمية والعملية إلى أقصى حد توصله اليه معلوماته وآلاته حتى إذا انتهى إلى مشكل استغلق عليه اعترف بعجزه ولم يرتكب من الأوهام والفروض البعيدة ما يكسوا الحقيقة ظلمة، ويوقع الباحث من بعده في ضلالة أو حيرة، فكثيراً ما كانت الفروض الوهمية الموضوعة موضع اليقينيات سببا في صد العقول عن النظر وطول أمد الخطأ والجهل، ويكون عمله في قدر الله هو الاعتبار في تصاريف القدر، والاتعاظ بأحوال البشر، واستحصال قواعد الحياة من سير الحياة، فإذا رأى من تصاريف القدر ما لم يعرف وجهه ولم يتبين له ما فيه من عدل وحكمة واحسان ورحمة، فليذكر عجزه وليذكر ظهور ما خفي عنه من مثل ذلك في وقت ثم ظهر له فيوقن ان هذا مثله، وانه إذا طالت به الأيام قد يظهر له من وجهه ما خفي منه، فيتلقاه الآن بالتسليم والتنزيه، راداً علمه إلى الله تعالى مفوضا أمره إليه، ويكون عمله في شرع الله هو الفهم لنصوص الآيات والأحاديث ومقاصد الشرع وكلام أئمة السلف، وتحصيل الاحكام وحكمها، والعقائد وأدلتها، والآداب وفوائهدها، والمفاسد وأضرارها، حتى إذا بلغ إلى حكم لم يعرف حكمته وقضاء لم يدر علته ذكر عجزه فوقف عنده، فلم يكن من المرتابين ولا من المتكلفين، ولم يمنعه عجزه عن تعليل وتبين وجهه ذلك القليل عن المضي في التفهم والتدبر لما بقي له من

القول الثاني في فواتح السور

الكثير، ويكون عمله في كتاب الله هو التفهم والتدبر لآياته والتفطن لتنبيهاته ووجوه دلالاته واستثارة علومه من منطوقه ومفهومه، على ما دلت عليه لغة العرب في منظومها ومنثورها، وما جاء من التفاسير المأثورة وما نقل من فهوم الأئمة الموثوق بعلمهم وأمانتهم، المشهود لهم بذلك من أمثالهم، فإذا وقف أمام المتشابه رده إلى المحكم، وإذا انتهى إلى فواتح السور ذكر عجزه فآمن بما لها من معنى وقال: الله أعلم به. فهذا السير النظري والعمل العلمي المبني على اليقين بعدل الخالق جل جلاله وحكمته ورحمته في خلقه وقدره وشرعه وكلامه ومعرفة العبد بقدره ومقامه يزداد السائر على مقتضاه ايمانا وعلماً وفوائد جمة، ويسلم من الغرور والأوهام والفتنة، وهو سبيل الراسخين الذين يقولون فيما لا يفهمونه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1). القول الثاني في فواتح السور: وذهبت جماعة من أهل العلم- من السلف والخلف- إلى ان هذه الفواتح قد فهمت العرب المراد منها، ولذلك لم تعترض على البيان بها ولا طعنت في عربيته بعدم فهمها، وان كنا لا نجد في كلامها ما نعرف به المعنى الذي فهمته منها، وممن ذهب إلى ذلك الامام أبو بكر بن العربي فقال في كتاب ((القبس على موطأ مالك بن أنس)): "وليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فان محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- لو خاطب الكفار منها بما لا يفهم لكان ذلك أقوى أسبابها في الطعن عليه، وكانوا يقولون: هذا يتكلم بما لا نفهم وهو يدعي أنه بلسان عربي مبين. وما حمعسق في اللسان؟ وما كفهيعص في الكلام؟ فدل أنهم فهموا الغرض وعرفوا المقصود؟.

_ (1) 3/ 7 آل عمران.

اختلاف المتؤلين

اختلاف المتؤلين: منهم طائفة تكلمت على كل لفظ من ألفاط الفواتح وذكرت له معنى، واختلفوا في تلك المعاني التي ذكروها، وهي كما ذكر الامام ابن العربي: "لا سبيل إلى تمييز واحد منها بدليل لأنه معدوم، ولا بأثر لأنه غير منقول" ولا تطمئن إلى شيء منها القلوب التي عاشت على اليقين، ولا تسلم واحداً منها العقول التي اعتادت قفو العلم على نور الدليل. ومنهم طائفة أخذتها كلها بوجه واحد، فقال بعضٌ: إنها حروف تنبيه تقرع الأسماع فتلفت السامعين إلى الاستماع والتدبر، لما اشتملت عليه السورة من الأحكام والعقائد والآداب وغيرها من مقاصد القرآن، فهي نظير الا والهاء في مألوف الاستعمال. وقال بعضهم: انها حروف تعجيز وافحام وتقريع، لأن القرآن الذي عجزوا عن معارضته من هذه الحروف وأخواتها تركبت كلماته، فكأنما يقال لهم: ما هذا الذي عجزتم عنه إلاَّ كلام جنس كلامكم، وما ركبت لكلماته الا مما ركبت منه كلماتكم، وهذا لعجزهم، ولتقريعهم أوجع. ومما يؤيد هذا أن أكثر هذه الفواتح ذكر بعده الكتاب المعجز وصفاته، مثل قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} (1) {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... الآية} (2). {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (3). {الر * تِلْكَ آيَاتُ

_ (1) 1/ 1 - 2 البقرة. (2) 3/ 1 - 3 آل عمران. (3) 7/ 1 - 2 الأعراف.

الفائدة العملية

الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (1). {الر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} (2). {الر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3). {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (4). {الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (6) وغيرها ... الفائدة العملية: قد افتتحت هذه السور من القرآن العظيم بكلمات التنبيه، وجاءت أول سورة منه بعد الفاتحة مفتتحة به، فلنكن عند قراءته في انتباه واقبال على استيعاب لفظه وتفهم معناه، فإن التالي للقرآن والسامع له في حضرة الرب على بساط القرب، والغفلة في هذا المقام من قلة الأدب، ومن قل أدبه في مقام الاحسان والكرامة استوجب أضعاف ما يستوجبه غيره من العتب والملامة وتعرض لموجبات الحسرة والندامة، فالله نسأل أن يجعلنا من قرائه على اتنباه واستحضار أناء الليل وأطراف النهار العاملين به بالعشي والأبكار، إنه الجواد الكريم الستار. ... {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا

_ (1) 10/ 1 يونس. (2) 11/ 1 هود. (3) 12/ 1 يوسف، وانظر: 13/ 1 الرعد، و 15/ 1 الحجر. (4) 26/ 1 - 2 الشعراء. (5) 32/ 1 - 2 السجدة. (6) 40/ 1 - 2 المؤمن.

بيان المفردات

مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (1). بيان المفردات: الحكيم: هو الموصوف بالحكمة، وأصل اللفظ من حكم، بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات، والضلالات، والسفالات، فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم، وعمل مستقيم، لا يحكم الا عن تفكير، ولا يقول الا عن علم، ولا يفعل الا على بصيرة، فإذا نظر أصاب، وإذا فعل أطاب، وإذا نطق أتى بفصل الخطاب. ووصف القرآن بالحكيم لأنه هو العلم الصحيح، المثمر لهذا كله، والصراط المستقيم، هو دين الإسلام، الذي جاء به جميع المرسلين، قبل النبي- صلى الله عليه وعليهم وسلم-. تنزيل: بمعنى منزل، وهو الصراط المستقيم. العزيز: القوي الغالب، الممتنع الذي لا نظير له. الرحيم: المنعم الدائم الانعام والاحسان. الإنذار: الاعلام بوقوع ما يخاف منه، وهو الهلاك والعذاب العاجل والآجل. والغافل عن الشيء: التارك له المعرض عنه، مع حضوره لديه لاشتغال باله بسواه. المعنى: أقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- من المرسلين رداً على من قالوا له: لست مرسلا، في حال أنه على دين الإسلام، الذي بعثه الله به ثابتا عليه في عقده، وقوله، وفعله، وجميع أمره. وأخبر تعالى أنَّ هذا الإسلام الذي جاء به النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نزَّله عليه الله القوي الغالب، الذي لا يغالب، العديم الشبيه والنظير، والمنعم الدائم الانعام المستمر الاحسان. وبيَّن تعالى أنه كان من المرسلين لينذر الأمة العربية

_ (1) 36/ 2 - 6 يس.

أصل المعرفة والسلوك من هذه الآيات الكريمة

ويعلمها سوء عاقبة ما هي عليه من الشرك والضلال، تلك الأمة التي ما أنذر آباؤها فهي مشتغلة بما توارثته من آبائها، من عبادة الأوثان، وارتكاب الاثم والعدوان، وأنواع الضلال، والخسران، معرضة عن توحيد خالق الأرض والسموات، وعن النظر فيما نصب للدلالة عليه من الآيات، طال عليها أمد الجهالة، واستولت عليها أسباب الضلالة، فتمكنت منها الغفلة، التمكن التام، فتركت في أوديتها البعيدة المدى، كالأنعام أو أضل من الأنعام. أصل المعرفة والسلوك من هذه الآيات الكريمة: تمهيد: خلق الله الخلق حنفاء موحِّدين، فأتتهم الشياطين فأضلتهم عن سواء السبيل، فمن رحمته تعالى بهم، أن أرسل اليهم، رجالا منهم، لهدايتهم، وأنزل عليهم كتبا منه، لدلالتهم. فالله هو المرسل وتلك الكتب هي رسائله، وأولئك الرجال هم رسله، والخلق هم المرسل اليهم. المعرفة: فللمرسل العلوُّ والكمال، وله الخلق، والأمر، ومنه الرحمة، والعدل، والاحسان، والفضل، وله الربوبية، والالوهية، دون شريك ولا مثال. وفي تلك الوسائل الحق، والحكمة، والنور المخرج، من كل ظلمة والفرقان في كل شبهة، والفصل في كل خصومة، بها تفتح البصائر، وتطةَر الضمائر، وتعرف طريق الحق، والهدى من طرائق الباطل والضلال. ولأولئك الرسل-عليهم الصلاة والسلام- أكمل ما يمكن للإنسان من كمال، وأكمل المعرفة بالمرسل- تعالى-، وأعظم الخشية له، وأكمل الرحمة بالخلق، وأشد الشفقة عليهم، وأكمل العلم بما جاءوا

تمهيد

به وأعظم التمسك به، وأكثر الاتباع له، فلا كمال الا بالاقتداء بهم، ولا نجاة الا باتباعهم، ولا وصول إلى الله تعالى الا باقتفاء آثارهم. وللمرسل إليهم عجز المخلوق وضعفه، أمام خالقه، وحاجته وافتقاره اليه، وعليه حق عبادته، وطاعته، والرجاء لفضله، والخوف من عقابه، والفكر في آياته، ومخلوقاته، والنهوض للعمل في مرضاته، واستثمار أنواع نعمائه، والشكر له على جميع آلائه. فبمعرفة هذه الأربعة حق معرفتها، ومعرفة مقام كل واحد منها، وما له فيه- كمال الإنسان العلمي الذي هو أصل كماله العملي، والشروط اللازم فيه. وقد اشتملت هذه الآيات على هذه الأربعة في حق الأمة المحمدية فالمرسل هو {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} والرسالة هي: {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} والرسول هو "محمد"- صلى الله عليه وآله وسلم- المخاطب بـ {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} والمرسل اليهم هم العرب الذين {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}. تمهيد: لما ضل الخلق عن طريق الحق، والكمال، الذي يوصلهم اليه، إلى مرضاته والفوز بما لديه أرسل اليهم الرسل ليعرفوهم بأن ذلك الطريق هو الإسلام، ويكونوا أدلتهم في السير وقادتهم إلى الغاية، وأنزل عليهم الكتب لينيروا لهم بها الطريق، ويقودهم على بصيرة، ويتركوهم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يهلك عليها إلاَّ من ظلم نفسه، فحاد عن السواء، أو تخلف عن القافلة فكان من الهالكين. فالقافلة هم الخلق، والطريق هو الإسلام، والادلة هم الرسل، والمصابيح هي الكتب، والغاية هو الله جل جلاله. السلوك: فعلى مريد النجاة من المهالك والفوز بأسنى المطالب، وأعلى المراتب

- أن ينضم إلى القافلة الربانية يتعاون مع أفرادها ويقوم بحق الرفقة فيها، ويعد نفسه جزءا منها لا سلامة له الا بسلامتها، فهو يحب لكل واحد منها ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ويهديه إلى ما يهديها اليه من خير ويقيه مما يقيها منه من سوء. وان يطيع أولئك الأدلة ويقتفي آثارهم، وينزل بنزولهم، ويرتحل بارتحالهم، وأن يرجع في معرفة وجوه السير، وأصنافه، وأوقاته، ومراحله، ومنازله، اليهم دون أدنى اعتراض، ولا مخالفة، ويقابل ما يتحملونه من مشاق الدلالة، ومتاعب القيادة، بغاية ما يستطيع من الأدب معهم، والتعظيم، والانقياد لهم، والمحبة فيهم، وحسن الثناء عليهم، وطلب عظيم الجزاء، من الله لهم تعالى على عظيم إحسانهم. وان يلتزم ذلك الطريق ويسير في سوائه غير مائل إلى جنباته، ولا ذاهب في بنيَّاته (1) لا مفرطا في السير يسبق الرفقة فينفر بلا دليل، ولا مفرطا فيه، فيتخلف عنها بلا معين نمطا وسطا مع الجماعة لا من الغلاة ولا من المقصرين. وأن يستنير بما رفعه أولئك الأدلة من مصابيح الهداية، وأن يسير تحت أنوارها الساطعة، مفتح البصر، للاستضاءة بها غير مغلق الأجفان عنها، متعرفا بها أديم الأرض ومواقع قدمه منها. وأن يعرف عظم الغاية التي هو سائر إليها، فيقصر همه كله في الوصول اليها، ويحضرها قلبه في كل لحظات سيره، ليسرع مع الرفقة إليها، وتخف عليه مشاق الطريق وأتعابها، ويعذب لديه كل ألم في الانتهاء إليها. فبسلوك هذا الطريق القويم، بدلالة الرسول الكريم، وأنوار الكتاب المبين، إلى ربِّ العالمين الرحمن الرحيم، كمال الإنسان العملي المبني على الكمال العلمي.

_ (1) بنيات الطرق جميع بنية تصغر بنت هي ما يخرج من نواحيه من طرق صغيرة تضل السائر عن الغاية وتبعده عن الرفقة فى السير.

الحكمة في هذه الآية

وقد اشتملت هذه الآيات على ذكر السالكين، وهم المنذرون وعلى الدليل وهو الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الطريق وهو الصراط المستقيم المنزل من الله، وعلى ما بين الطريق وهو القرآن الحكيم. الحكمة في هذه الآية: قال ابن وهب: سمعت مالك رضي الله عنه يقول: "الحكمة: الفقه في دين الله والعمل به" ففي الفقه في دين الله الكمال العلمي، وفي العمل به الكمال العملي، وهذه الآيات- على إيجازها- قد اشتملت على أصول ما به كمال الإنسان العلمي وكماله العملي اللذان بهما كماله الروحي والبدني ونعيمه الدنيوي، والأخروي، وما كماله العلمي، وكماله العملي الا بالمعرفة الصحيحة والسلوك المستقيم، وهما اللذان تقدم في الفصل السابق بيانهما وفسر مالك الحكمة بهما اذ الفقه في دين الله هو المعرفة الصحيحة، والعمل به، هو السلوك المستقيم، وهما الحكمة التي وصف به، في الآية الأولى القرآن العظيم، لا انه كتاب العلم، والعمل اللَّذين لا يكون بدونهما حكيم. فكما اشتملت هذه الآيات على أصول الحكمة دلت على أصلها، ومأخذها، وما يكون الإنسان بعلمه والعمل بما فيه من أهلها، وهو القرآن الحكيم. توجيه القسم في الآيات: أقسم الله بالقرآن الحكيم على أن محمداً من المرسلين، لينذر الغافلين حال انه على صراط عظيم مستقيم منزل من العزيز الرحيم، لأن القرآن هو كتاب محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي كان يتخلق به ويهتدي بما فيه وينذر به ويدعو اليه ويبينه للناس بقوله، وفعله، وهو برهانه، وحجته، وآيته، ومعجزته. كما أنه كتاب الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم، فيه حجته،

عقائد وأدلتها من هذه الآيات

ودلائله، فيه أحكامه وحكمه، فيه آدابه وشمائله، فيه بيان حقيقته، وما هو منه ونفى ما ليس منه عنه، فيه بيان تاريخه، وتاريخ الإنسانية معه، فيه ذكر أوليائه، وحسن بلائهم في سبيله، وحسن أثره فيهم، والعود بالعاقبة المحمودة عليهم، وذكر أعدائه وجهدهم في مقاومته وسقوط شبههم أمام حجته وذهاب باطلهم أمام حقه، وشدة أخذه لهم، على ظلمهم، ونزول تقمته بهم، وحلول دائرة السوء عليهم، فيه الإسلام كله، فمن طلبه فيه، وجده، ونجا به، ومن طلبه في غيره (1) ضل، وكان من الهالكين. عقائد وأدلتها من هذه الآيات: العقيدة الأولى: محمد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: دليلها الأول القرآن الحكيم جاء رجل أمي ما قرأ ولا كتب ولا دارس العلماء ولا عرف الكتب. ودليلها الثاني: موافقة دعوته- صلى الله عليه وآله وسلم- لدعوة المرسلين- صلوات الله عليهم- إلى عبادة الله وحده وتصديق مما جاءهم به من عنده دون أن يسألهم على ذلك أجراً وهذا من قوله: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فهو من المرسلين. من جهة ارساله لأنه منهم في أقواله وَأفعاله نظير قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2) وقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (3) وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا

_ (1) بيان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- للقرآن من القرآن لقوله، تعالى: {تُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. (2) 35/ 9 الأحقاف. (3) 37/ 37 الصافات.

ودليلها الثالث

إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (1). ودليلها الثالث: هذا الدين الكامل الجامع الذي هدى به النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى ما فيه سعادته، فاطلق فكره وسدد نظره وقوم عقائده وهذب أخلاقه ونظم اجتماعه، ووضع له قواعد الحياة والعمران على العدل والإحسان ووجههم إلى خالقهم وما أعدَّ لهم عنده- ان آمنوا وعملوا الصالحات- من النعيم المقيم والرضوان التام. ودليلها الرابع: سلوكه هو في حياته على هذا الصراط المستقيم من يوم عرف الدنيا حتى فارقها، فكان يمثله على اكمل وجه لا يخل بشيء منه ثابتا عليه لا يحيد قيد شعرة عنه دون أن تحفظ عنه زلة. ولا تعرف منه في القيام به والدعوة اليه فترة، ولا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمة ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء ولا شدة، فكان في كرم خلقه وتمام زهده وعظيم تألهه وتوجهه لربه بعدما فتح الله له الفتح المين ودخل الناس أفواجا في الدين كما كان أيام كان وحيدا بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد رب العالمين. العيقدة الثانية: القرآن كلام الله ووحيه، ودليلها أنه حكيم فما فيه من العلم وأصول العمل. لا يمكن أن يكون الا من عند الله في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها، إلى ما فيه من حقائق كونية كانت مجهولة عند جميع البشر وما عرفت لهم إلاّ في هذا العصر الأخير، ومن أشهرها مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين موجبة وسالبة، جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها

_ (1) 4/ 162 النساء.

العقيدة الثالثة

قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1). ومنها مسألة حياة النبات التي جاءت في مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (2). ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى، جاءت في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (3) فهذه حقائق علمية كونية أجمع علماء العصر أنها من المكتشفات الحديثة ولم تكن معلومة عند أحد من الخلق قبل اكتشافها ولا كانت عندهم الآلات الموصلة إلى معرفتها. وكفى بهذا القل من الكثر دليلاً على أن هذا القرآن ما كان إلا من عند الله الذي خلق الأشياء ويعلم حقائقها. العقيدة الثالثة: الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه. ودليلها مستفاد من وضعه بأنه صراط مستقيم، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان، أعمال قلبه وأعمال لسانه وأعمال جوارحه وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئياته عن هذا الأصل العام التجلي في جميع الاحكام وهو "الحق والخير والعدل والاحسان" وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان، ولكنها بإجماع المتشرعين لا تخلو من نقص واعوجاج واضطراب، فهم ما يقتئون يتبعونها بالتكميل والتقويم والتعديل على ممر الأيام، ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه لوجدته منطبقا عليه ظاهرا فيه حتى

_ (1) 51/ 49 الذاريات. (2) 21/ 30 الأنبياء. (3) 15/ 22 الحجر.

ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية عن الإسلام أيام تاريخها، قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها، فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام، ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم للمادة الغالبة والوراثة القديمة، منها مسألة الطلاق وتعدد الزوجات وتحريم الربا تحريما باتا، فكم من عالم غير مسلم صرح بأنَّ الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل هو ما شرعه الإسلام على الوجه الذي شرعه الإسلام. فهذه الاستقامة التامة العامة المطردة في شرع جاء به رجل أمي من أمة أمية جاهلية يجزم كل عاقل بأنه ليس من وضع العباد وإنما هو من وضع خالق العباد (1).

_ (1) ش: ج2، م 10، ص 47 - 57 غرة شوال 1352 - جانفي 1934.

الوحي مصدر الإسلام

اَلْوَحْيُ مَصْدَرُ الْإِسْلَامِ جملة هو {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (1) بينت وجه استقامة ذلك الصِّراط الذي هو الإسلام بأنه تنزيل العزيز الرحيم، وأفادت أن جميع هذا الدين وحي من الله منزل على نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا لأن مرجع الإسلام في أصوله وفروعه إلى القرآن وهو وحي من الله والى السنة النبوية، وهي وحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) وكل دليل من أدلة الشريعة فانه يرجع إلى هذين الأصلين ولا يقبل الا إذا قبلاه ودلا عليه. وكل شيء ينسب للإسلام، ولا أصل له فيهما فهو مردود على قائله، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». الإسلام دين العز والرحمة: ذكر من أسمائه تعالى في هذا الموطن العزيز: {الرَّحِيمِ} للتنبيه على أن هذا الدِّين الذي نزَّله الرب الموصوف بالعزة والرحمة هو دين عزة ورحمة. ومن مقتضى العزة: القوة والمنعة والرفعة، ومن مقتضى الرحمة: الفضل، والخير، والمصلحة. وهذه كلها متجلية في أحكام الإسلام. والعدل والاحسان اللذان أمر الله بهما وأنبنت أحكام الإسلام عليهما

_ (1) 36/ 5 يس. (2) 53/ 4 - 5 النجم.

اهتداء واقتداء

لا يكونان إلاَّ عن العزة والرحمة فالدَّليل لا ينهض بالحكم ولا يقيم ميزان العدل والقاسي لا يكون منه إحسان. اهتداء واقتداء: فالمسلم المتحقق بالإسلام المهتدي بهدايته لا يكون إلاّ عزيزا رحيما، فالذلة من المسلم نقص إسلامه والقساوة مثلها نقص فيه، وقد ذكر الله تعالى سادات المسلمين في عزتهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (1). وذكرهم في رحمتهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) ونعم القدوة هم لجميع المسلمين. النذارة ثمرة الرسالة: كان من المرسلين لينذر الغافلين، فالأول كمال والثاني تكميل، وقد فطر الله رسلَه- صلى الله عليهم وسلم- على الرحمة وحب الخير، فكانوا أحرص الناس على نجاة الناس وكمالهم وسعادتهم، فصبروا على تكذيبهم واذايتهم حتى أدُّوا أمانة الله إليهم، وأقاموا حجته عليهم. وكان الله ينجيهم ومن آمن بهم وينزل عقوبته بالمكذبين لهم وينصرهم عليهم، فأعلم محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه من المرسلين لينذر- ليأتسى بهم ويصبرهم ويرجو من نصر الله له واهلاك أعدائه ما كان منه تعالى لهم.

_ (1) 42/ 39 الشورى. (2) 59/ 9 الحشر.

إقتداء

إقتداء: العلماء ورثة الأنبياء وما ورث الانبياء دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم. والعلم مستمد من الرسالة فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلايا، والعطف على الخلق والرحمة وقد قالى الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1). التدريج في الإنذار: أرسل الله محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- للعالمين بشيراً ونذيراً، ودرَّجه في النذارة على مقتضى الحكمة من القريب إلى البعيد، فأمره بإنذار عشيرته بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2) فصعد الصفا فنادى بطون قريش حتى نادى العباس عمه وصفية عمته وفاطمة ابنته، وقال لهم: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» وأمر بانذار من حول مكة من العرب بقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (3) على الوجه الأقرب في معنى {وَمَنْ حَوْلَهَا} المؤيد بصدر الكلام وهو قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (4) ومثلها في

_ (1) 9/ 123 التوبة. (2) 26/ 214 الشعراء. (4) 6/ 92 الانعام و42/ 7 الشورى. (4) 42/ 7 الشورى.

اندفاع إشكال

إنذار العرب ما في هذه الآية وهو قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (1)، فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم. وأمره بتعميم الإنذار بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) فارسل رسله إلى الأمم تحمل كتبه إلى ملوكها بالدعوة إلى الإسلام، وكان ذلك هو الإنذار العام. اندفاع إشكال: قد كان النبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسل نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس عامة بمثل قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي بالقرآن كل من بلغه القرآن ولا يشكل على ذلك مثل ما تقدم من الآيات في انذار عشيرته الأقربين وقومه العرب، لأنه ابتدأ بهما لحكمة التَّدريج وحق القريب لا للتخصيص، بدليل ما جاء من آيات التعميم. إقتداء: هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب النَّاس إليه، ثم من بعدهم على التدريج، وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع، فمن الأسر تتركب الأمة، فعندما يعني كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلُّها بارتقاء أسرها كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه، فيكون المعتني باسرته في الوقت نفسه معتنيا بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته

_ (1) 36/ 6 يس. (2) 7/ 157 الأعراف.

إستطراد واستنباط

خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع أسرته بالفعل وأمته بالقصد أو أسرته مباشرته وأمته بواسطة وكل هذا مما يثاب المرء شرعا عليه. إستطراد واستنباط: لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، بنص (1) هذه الآية وغيرها فهم في فترتهم ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) و {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (3) وغيرهما، وكلها آيات قواطع في نجاة أهل الفترة، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ من جاء فيهم نص ثابت خاص كعمر بن لحي أول من سيب السوائب وبدَّل في شريعة إبراهيم وغيَّر وحلل للعرب وحرَّم فأبوا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ناجيان بعموم هذه الأدلة، ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس- رضي الله عنهما-: "أن رجلا قال للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفا الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار" لأنه خبر آحاد فلا يعارض القواطع وهو قابل للتأويل، يحمل الأب على العم مجازاً يحسنه المشاكلة اللفظية ومناسبته لجبر خاطر الرجل وذلك من رحمته- صلى الله عليه وآله وسلم- وكريم أخلاقه. سبب الغفلة ودواؤها: أفادت الفاء في قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أنَّ غفلتهم

_ (1) في الأصل بص. (2) 17/ 15 الإسراء. (3) 5/ 21 المائدة.

تطبيق

تسببت عن عدم انذارهم، فكل أمة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير واقعة في الغفلة لا محالة. ولا كان ترك الإنذار والتذكير موقعا في الغفلة فالإنذار والتذكير يزيلانها، فقد عرفتنا الآية الكريمة بسبب الغفلة وبعلاجها لنحذر سببها ونعالج أنفسنا وغيرنا بعلاجها. تطبيق: كان الناس منذ زمن قريب لا يسمعون ولا يسمع منهم لفظ الاهتداء بهداية القرآن العظيم والاقتداء بهدى الرسول الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- والسير بسيرة السلف الصالح في النهوض بأعباء الدنيا والدين وهم- إلاَّ قليلا- عن هذا غافلون، أما اليوم بعد أن نهض العلماء المصلحون بواجبهم ونشروا دعوة الحق في قومهم فقد أصبح ذلك معروفا عند أكثر الناس محن (1) وعناية طلاب العلم ومناط رغبتهم وفي متناول الناس بجميع طبقاتهم وانا لنرجو من فضل الله المزيد، ونشاهد ذلك- والحمد لله- كل يوم يزيد فالحمد لله على ما علَّم وألْهم وبصَّر ويسَّر. نسأله دوام التوفيق والتسديد رب العالمين (2).

_ (1) كذا في الأصل. (2) ش: ج 3، م 10، ص 90 - 99. غرة ذي القعدة 1352هـ - 5 فيفري 1934م.

لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه

لَا يُؤْمِنُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَدَمَ إِيمَانِهِ {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .. } (1) ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: علم الله أن نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وانقاذهم من الهلكة، وعلم أنهم لا يؤمن به إلاَّ أقلهم، وعلم أن ذلك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لشدة حرصه على إيمانهم، وعظيم شفقته عليهم. ولعدم ظهوره ثمرة ما بذله من جهد في هدايتهم فأراد- تعالى- أن يقوي قلب نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- على تحمل ذلك باعلامه به من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا، فان التوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع هو ايمان أكثرهم لا كفره. المفردات: حق: وجب وثبت. القول: قول الله فيهم بما سبق في علمه، فهم لا يؤمنون. فهم: أي أكثرهم. التراكيب: نفي الايمان عنهم نفياً مؤكداً بالاخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون.

_ (1) 36/ 7 - 11 يس.

المعنى

وقرنت الجملة بالفاء السببية لتفيد أن من سبق في علم الله عدم ايمانه لا يرجى ايمانه بحال، فارتباط الثاني بالأول ارتباط لا انفكاك له. المعنى: لقد وجب وثبت ما سبق في علم الله في أكثرهم وما كان من قوله بعدم ايمانهم فلا يرجى من ذلك الأكثر الذي سبق في علم الله عدم ايمانه ايمان. سؤال: ما مات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى عم الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولا شك ان الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالنسبة لمن آمنوا فما معنى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ}. جوابه: الذين قام النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بانذارهم وأقام بين ظهرانيهم مكررا للنذارة عليهم صباح مساء مدة ثلاث عشرة سنة هم أهل مكة. فهم الذين تتعين ارادتهم من الضمير في قوله تعالى: {أَكْثَرِهِمْ} ولا شك أن اكثر من انذارهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أهل مكة ماتوا على الكفر. سؤال على هذا الجواب: هذا يقتضي أن المراد بلفظه "قوما" المتقدمة أهل مكة، مع ان المفسرين فسروها بالعرب. جوابه: نسلم هذا ويكون تفسير "قوما" بالعرب نظرا لمماثلتهم لأهل

لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله

مكة في وجوب انذارهم باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف وهو غفلتهم لعدم انذار آبائهم. لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله: قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم من آيات مشاهدات وما أرسل اليهم من رسل بآيات بينات، وهذه كلها أمور معلومة لديهم ضرورية عندهم لا يستطيعون أن ينكروا شيئا منها، فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار، ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل اليهم وما تلوا عليهم من آيات، وبهذه الاشياء قامت حجة الله عليهم وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم. فأما ما سبق من علم الله فيهم فهو أمر مغيب عنهم غير مؤثر فيهم- لأن العلم ليس من صفات التأثير- ولا دافع لهم. فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب عنهم. وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم. توجيه للترتيب: تقوم حجة الله على العبد أولاً ويعمل هو- كاسباً ومكتسباً- باختياره ثانيا، ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثا. ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم. تقريب: قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما وأخلاقهما وسيرتهما ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما وهو يعلم- بما علم من أحدهما- انه يمتثل ويعلم- بما علم من الأخر- انه يخالف. ويقول لأهل

تعليم

بيته ان فلانا سيمتثل، وان فلانا سيخالف. ويظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما فجازى الممتثل على طاعته وجازى المخالف على عصيانه. فلا شك ان هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والارشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما. كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما يستحق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه. لله المثل الأعلى فقد أحاط بكل شيء علما فعلم من سيطيعه ومن سيعصي، ولكنه الحكم العدل فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه، بل جعل جزاءهم بعد اقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت أيديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب. تعليم: أرأيت كيف أن الله تعالى لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم اعى أعمالهم. فهذا تعليم لنا كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض فلا نجازي على مجرد الظن بل ولا على مجرد اليقين وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال. فرب شخص قدرت فيه الخير أو الشر ففعل ضد ما قدرت، فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه ولنال كل ما لا يستحقه، فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه وهذا ما ينبغي ان نربط به المجازاة بيننا. تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ}

المناسبة

فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (1). المناسبة: لما ذكر عدم إيمانهم وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الايمان ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الاعراض عنه. المفردات: الغل: ما يجعل في العنق محيطا به. الذقن: مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم. مقمحون: رافعون رؤوسهم. يقال: قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال: اقمحه الغل: إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه. السد: الحاجز بين الشيئين. فأغشيناهم: جعلنا عليهم غشاء أي غطاء أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الأبصار. التراكيب: فهي إلى الأذقان أي الاغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان. وهذا كناية عن عرضها ولذا فرع عليه فهم مقمحون. فرع عدم أبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم لالتزاق السدين بهم وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركا لا يستطيعون أبصارا، وكيف يبصرون وجهه ملتزق بالحائط مثلا. المعنى: إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالا ضيقة عريضة

_ (1) 36/ 8 و 9 يس.

توجيه التمثيل

تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الايمان لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا. وجعلنا أمامهم حجابا وخلفهم حجابا محيطين وملتزقين بهم ومغطيين لجميع ذواتهم فلا يستطيعون معهما تحركا ولا أبصارا. توجيه التمثيل: دعوا إلى الايمان والتوحيد ومكارم الاخلاق وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها شبهوا بالابل المقمحة عن الماء. ثم ان هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة تدرك باستعمال النظر فيما بين يدي الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها، فلما اعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملتزقين ومحيطين به فجمد في مكانه فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئا. ترهيب: كل ما دعا اليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال فهو مما تقبله الفطرة السليمة وتدركه العقول بالنظر الصحيح، فمن قابل دعوة الإسلام بالاعراض والعناد وخالف فطرته وعاكس عقله كان حقيقا بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة والطبع على القلب، فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ الذي صورها في أبشع وأفظع صورة. ليحذرنا من الاعراض عن الحق والعناد له ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله. تعليم: لكل إنسان فطرته وعقله فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما

من استوى عنده الانذار وعدم الانذار لا يرجى منه ايمان

راجعين إلى الفطرة الإنسانية وإلى العقل البشري منزهين عن الاغراض والاهواء والأوهام والشبهات. فإذا كان هلاك هولاء بعدم الاستفادة منهما فان النجاة عند ما تعرض الامور بالرجوع اليهما، وتجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة ليعلمنا الرجوع اليهما والاستفادة منهما. من استوى عنده الانذار وعدم الانذار لا يرجى منه ايمان: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1). المناسبة: لما ذكر- تعالى- عدم ايمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سببا آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم. الترتيب: ذكر هذا السبب أثر ما تقدم من وصفه حالهم في شدة الاعراض للتنبيه على أن من فسدت فطرته وانطمس عقله يسوي عنده الانذار وعدمه فلا يكون منه ايمان على كل حال. المفردات والتراكيب: سواء: بمعنى مستو. والهمزة الأولى أصلها للاستفهام، وليس مرادا هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية لوقوعها بعد لفظها ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك، ولذا يكون تأويل الكلام هكذا: سواء عليهم انذارك وعدم انذارك.

_ (1) 36/ 10 يس.

المعنى

المعنى: ان أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعدم ايمانهم بلغوا من شدة الاعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الايمان ومأيوس من صدوره من ناحيتهم. تحذير: يذكر الله تعالى حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء وضده، يحذرنا منها ومما يؤدي اليها من اهمال الفطرة وترك النظر، فان الإنسان انما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية التحق بالعجماوات بل كانت العجماوات خيرا منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعداد لإدراكه. تحذير الانذار للمنتفعين وتبشيرهم: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (1) المناسبة: لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بانذار النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر الذين ينتفعون به تأنيسا له بهم وتقوية له بظهور ثمرة انذاره فيهم. المفردات والتراكيب: الذكر: القرآن، وهو من أسمائه التي تكررت في التنزيل،

_ (1) 36/ 11 يس.

الترتيب

وأل فيه للعهد. الغيب: الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر، التبشير الاخبار بما يسر، المغفرة ستره الذنب بالتجاوز عنه وعدم المؤاخذة به. الأجر: الجزاء على العمل. الكريم: الطيب الشريف في نفسه النافع في أثره الذي لا يشوب ذاته نقص، ولا منفعته ضرر، وأفاد المضارع في تنذر تحديد الإنذار للمتبعين، وذكر اسم الرحمن ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء. الترتيب: ذكر المنتفعين بعد المأيوس من انتفاعهم ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء، وذكرت الخشية بعد الاتباع لانها لا تحصل إلاَّ به. وجيء بعد بالتبشير مقرونا بالفاء لأنه إنَّما يكون لأهل الاتباع والخشية بسبب اتباعهم وخشيتهم. وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية والتزين بعد ازالة الادران. المعنى: انما يتجدد انذارك وينتفع به الذين آمنوا وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم لصدق ايمانهم خاشين نقمته راجين رحمته، وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بانذارك بشرهم على اتباعهم للقرآن وخشيتهم بالغيب للرحمن بمغفرة ذنوبهم وجزاء شريف رفيع طيب نافع لا نقص فيه ولا تنغيص- على أعمالهم. دفع إشكال: أمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالإنذار العام، ثم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى:

إرشاد

{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ... } الآية (1). اذ لا فائدة من انذارهم، وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الآية. فلا منافاة بين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الذي يقتضي التعميم وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الذي يقتضي التخصيص، لأن الأول في مقام الإنذار العام، والثاني في مقام تجديد الإنذار والانتفاع به. واما الاعراض فلا يكون الا عن المأيوس منه من الكافرين. إرشاد: طريق السلوك الشرعي انما هي اتباع القرآن وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله ويرجو رحمته، وأهل الاتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام. وتذكير المؤمنين بانذارهم وتبشيرهم فلا يؤمنون من عذاب الله ولا يقنطون من رحمته. صفة المؤمن من هذه الآيات: المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبع القرآن في عقده وخلقه وعمله، واستوت خلوته وجلوته وسره وعلنه، وعبد الله راجيا رحمته خائفا عذابه، يخوفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والاجر الكريم. ثبتنا الله والمسلمين على الايمان مع هذه الصفات إلى الممات آمين يا رب العالمين (2).

_ (1) 53/ 29 النجم. (2) ش: ج5، م10، ص 186 - 196 غرة محرم 1353هـ - افريل 1934م.

الحياة بعد الموت

الحياة بعد الموت {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} (1) ــــــــــــــــــــــــــ المناسبة: اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها- وهي القرآن- ووصفها، والمرسل وهو العزيز الرحيم، والمرسل اليهم وتعميمهم بالنذارة وانقسامهم إلى معرضين معاندين ومقبلين متبعين. فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته وهو يوم القيامة. ووجه آخر وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة: الايمان بالله والايمان برسول الله والايمان باليوم الآخر. وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني بالقسم عليه على ما تقدم من البيان، وانتظمت الأصل الأول ضمنا بذكر العزيز الرحيم فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث. سؤال: كيف لم يذكر الأصل الأول- وهو الأصل الأول- الا بما ذكر به من الذكر الضمني. الجواب: ذلك لأمرين: الأول أنَّ هذه الأصول الثلاثة تذكر في اكثر السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الاصول

_ (1) 36/ 12 يس.

المفردات

أكثر من غيره ولا يذكر فيها غيره الا ضمنا كما هنا. الثاني أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للاصل الأول اذ جميع دلائل النبوة دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته. المفردات: الاحياء: ايجاد الحياة في الجسم ولا يكون الا من الله. والميت: الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه سواء كانت فيه وزالت أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه. التركيب: أكدت الجملة (بأن) لان الخطاب مع منكري البعث والنشور. وأكد اسم ان بنحن ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره- وعبر بنحيي فعلا مضارعا ليفيد تجديد الاحياء واستمراره فيشمل احياءه للأجنة في الدنيا واحياءه الأحياء الثاني في الأخرى، وكثيرا ما جاء في القرآن الاستدلال على الاحياء الثاني بالاحياء الأول، فتكون كلمة (نحيي) قد اشتملت على العقيدة وهي الاحياء الثاني ودليلها وهو الأحياء الأول. المعنى: يعرف الله- تعالى- عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم، فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية. إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} المناسبة: لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة

المفردات

وغير المباشرة مكتوبة عليهم لأن حياتهم بعد الموت لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم. المفردات: قدم الشيء: جعله قدامه، وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إلى الآخرة فهي محفوظة حتى يلحقها. والأثر: ما يحصل من العمل كالذي يحصل على- وجه التراب من وضع الأقدام- ويبقى بعد رفعها. فآثار الإنسان ما يحصل من أعماله التي باشرها. التراكيب: عبر بنكتب مضارعا ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلا ويكتب. وأسند الكتابة اليه، والكاتبون الملائكة لأنهم بأمره يكتبون. المعنى: يعلم الله- تعالى- عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم إذا كان متسببا عن أعمالهم وأثرا لها. تنظير: مثل هذه الآية في الدلالة على ان العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة وما عمله غيره وكان من آثار عمله قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (1). فالذي أخره هو أثره المذكور في هذه الآية.

_ (1) 75/ 13 القيامة.

تأييد وبيان

تأييد وبيان: في صحيح مسلم من طريق جابر بن عبد الله- رضي الله عنهم- قال: جاء ناس من الاعراب إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطئوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه، قال: ثم ان رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء». وفيه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه-: ان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: من دعا إلى هدىً كان له من الاجر مثل اجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثار من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا. فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه مثل ماله وعليه من أعماله التي باشرها. وبين الحديث الأول ان ما تسبب عن عمل المرء يعد أثرا لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته. اذ الذي جاء بالصرة أولا قد تسبب عن مجيئه مجيء من بعده على أثره، والحديث سيق في شأنهم، فتكون حالتهم أول ما يشمل كما بين الحديث الثاني ان أثر القول كأثر الفعل، اذ الكل عمل. وبين الحديثان ان نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره ولا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا. تنبيه: من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا ان المراد به:

تحذير

من سن سنة حسنة أو سيئة هو من ابتدأ طريقا من الخير في أعمال البر والاحسان وما ينتفع به الناس من شؤون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات اذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتئات عليه واستنقاص له، وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كل بدعة ضلالة» «وكل ضلالة في النار». تحذير: على العاقل وقد علم انه محاسب عن أفعاله وعلى آثار أقواله أن لا يفعل فعلاً ولا يقول قولا حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه من أصل القول وأصل الفعل، فقد يقول القول مرة ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة. حقا ان هذا لشيء تنخلع منه القلوب وترتعد منه الفرائض وصدق القائل من السلف- رضي الله عنهم-: السعيد من ماتت معه سيئاته. الاحصاء العام في الكتاب الإمام: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} المناسبة: لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كلَّ الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميما بعد تخصيص. المفردات: الاحصاء: تحصيل الشيء بالعد وضبطه والاحاطة به. الامام: ما يؤتم ويقتدى به. والكتاب: إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه. والمبين: المظهر لما فيه فكل ما فيه ظاهر فيه.

التراكيب

التراكيب: أصل الكلام: أحصينا كل شيء أحصيناه، فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الاحصاء ووقوعه على كل شيء. المعنى: يعلم الله عباده بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال وجميع ما كان في العالم وما يكون، وأثبته فرداً فرداً في كتاب إمام معتمد مظهر للأشياء التي فيه فهي فيه ثابتة ظاهرة جلية. إعتبار: قد أحاط الله بكل شيء علما فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب اظهارا لعظمة ملكه وليعلم عباده الضبط والاحصاء في جميع أمورهم وليبالغوا في محاسبة أنفسهم وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وما أخطاهم لم يكن ليصيبهم. فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة وأكبر راحة للقلب من صروفها. نسأل الله أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وان يعيذنا من الخوف إلاَّ منه، ومن الخضوع إلاَّ له. آمين يا رب العالين (1). ...

_ (1) ش: ج 6، م 10، ص 244 - 250 غرة صفر 1353هـ - ماي 1934م.

الفرار إلى الله

الفرار إلى الله {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}. ــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: المقصود الأساسي من الآيات هو تحذير الخلق من الهلاك وترغيبهم في النجاة ولا سبيل إلى ذلك الا بالفرار إلى الله. فمهد لذلك بالآيات الثلاث الأول للترغيب فيه، وختم بالخامسة لبيان الفرار الصحيح المنجي عند الله. الآية الأولى: الألفاظ والتراكيب: السماء: هي الجرم الأعظم الذي أحاط بالأجرام السابحة في الفضاء كلها وعلا عليها. بنيناها: ضممنا أجزاءها بعضها إلى بعض بغاية الدقة والإحكام فكانت كالقبة فوق الجميع. بأيد: بقوة. لموسعون: لمقتدرون ومطيقون، على احتمال أن يكون من الوسع، بمعنى القدرة.

_ (1) 51/ 47 - 50 الذاريات.

المعنى

والطاقة. أو لموسعون ومبعدون بين أرجائها على احتمال أن يكون من السعة. وقدمت السماء لأنها الشاهد المحسوس الذي تقوم به الحُجة. وليقع البناء عليها مرتين على لفظها وعلى ضميرها لأن الأصل: وبنينا السماء بنيناها. لتحقيق أنها مبنية وأن بناءها لم يكن إلاَّ من الله القادر الحكيم. ولذلك علق بالفعل قوله بأيدٍ. والجملة الحالية تدل على ان الاتساع ثابت له عند البناء فذلك البناء العظيم لم ينقص من قدرته أو لم يمنع من توسيعه. المعنى: ان هذه القبة التي أحاطت بكم من جميع الأرجاء نحن بنيناها بقدرتنا ذلك البناء المحكم المتقن، بنيناها ونحن على قوتنا وقدرتنا نقدر على بناء أعظم منها لو شئنا، أو، ونحن على قدرتنا وطاقتنا في افاضة الخيرات والبركات منها عليكم. - هذا على انه من الوسع- أو بنيناها وقد وسعنا أديمها حتى أحالت بهذه الأجرام السابحة التي منها ما لا يكون معه جرم الكرة الأرضية إلا كحمصة فوق مائدة كبيرة. - هذا على أنه من السعة-. تحقيق آية كونية من الآيات القرآنية: السماء في اللغة هي كل ما علاك. فكل ما علا الأرض من سحب وطبقات هواء وكواكب تسبح في الفضاء، وما وراء ذلك من القبَّة المحيطة الكبرى هو للأرض سماء، وكل هذه متقنة الصنع محكمة الوضع متلاحمة الأجزاء، مرتبط بعضها ببعض ارتباطا مقدرا بالمسافات المدققة التي لا يكون معها تصادم ولا ارتخاء. ووضعها على هذه الصورة المنظمة المحكمة هو البناء وعليها كلها ينبغي ان يحمل لفظ السماء في الآية المتقدمة. وقد جاء لفط السماء في القرآن مراداً به القبة المحيطة في مثل:

الآية الثانية

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (1) {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (2) وجاء مرادا به السحاب في مثل: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} (3) فإن المطر ينزل من السحاب لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} (4). وجاء مراداً به طبقات الجو في مثل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} (4) والبرد يتكوَّرُ في طبقات الجو. والمتتبع لمواقع لفظة السماء من الكتاب العزيز يتحقق هذا. الآية الثانية: الألفاظ والتراكيب: الأرض: هي هذه الكرة التي تعيش عليها. فرشناها: بسطناها بزينتها ومنافعها. الماهدون: من مهد الشيء وضعه وسواه وهيأه للنوم والجلوس والراحة. ويجري في تقديم الأرض ما تقدم في تقديم السماء. ومن يسير على هذا البساط المفروش ويطلع على ما هي فيه من أسباب الحياة لكل ما فيه من حيوان لا يتمالك أن ينطق بالمدح والثناء على من هيأ هذه التهيئة ومهد هذا التمهيد، ولذا قرنت الجملة الأخيرة بالفاء فقيل: فنعم الماهدون، ولا يغني فرش الأرض عن مهدها لأن المهد يتضمن ما حصل فيها من مرافق ومواد وأسباب للعيش على أديمها والتنعم بخيراتها.

_ (1) 67/ 65 الملك. (2) 37/ 6 الصافات. (3) 43/ 11 الزخرف. (4) 24/ 43 النور.

المعنى

المعنى: ان الأرض التي أنتم متمكنون من الوجود على ظهرها والسيْر في مناكبها والانتفاع بخيراتها نحن فرشناها لكم وهيأنا لكم أسباب الحياة والسعادة فيها على أكمل وجه وأنفعه وأبدعه. مما نستحق به منكم الحمد والثناء. دقيقة كونية في الآية القرآنية: شأن الفراش أن يكون ما تحته لا يصلح للجلوس والنوم عليه. وما تحت وجه الأرض هو كذلك لا يصلح للحياة فيه، فان تحت القشرة العليا من الأرض المواد المصهورة والمياه المعدنية والأبحرة الحارة مما تنطق به البراكين المنتشرة على وجه الارض في أماكن عديدة فكانت القشرة العليا من الأرض مثل الفراش تماما. الآية الثالثة: الألفاظ والتراكيب: من كل شيء: من كل جنس من الأجناس. خلقنا: كونا. زوجين: فردان متباينان يكمل أحدهما الآخر في عالم الحيوان وعالم النبات وعالم الجماد. تذكرون: تذكرون ما أودع في فطرتكم من المعرفة لا تنظرون بعقولكم في عجائب الخلق فتدركون ما له جلَّ جلاله من الألُوهية والربوبية والوحدانية. وقدم من كل شيء لأن الأشياء هي المستدل بها ولبعث الهمم على النظر فيها. المعنى: إنَّا خلقنا الأشياء التي تشاهدونها على الزوجية والتركيب من شيئين متضادين لتكونوا بحيث يرجى منكم أن تعلموا أنَّ النقص والعجز

توسع في التذكر

عم المخلوقات كلها لحاجة كل شيء منها إلى ضده، وقصوره بنفسه. فالقدرة والكمال للخالق وحده فلا يستحق العبادة سواه فاعبدوه ووحدوه. توسع في التذكر: النظر في الأزواج مفض للعلم بما ذكرنا وللعلم بأن الخلق غير صادر عن طبيعة الأشياء، فان النار- مثلا- لا يصدر عنها التبريد والتسخين لأن السبب لا ينتج الضدين، فالمخلوقات كلها صادرة بطريق الخلق عن فاعل مختار وللعلم بوجوه كثيرة من احاطة علمه وشمول حكمته وعموم نعمته. حقيقة نفسية، في نكتة بلاغية: إذا نظر العاقل في هذه الأزواج وفكر انكشفت له وجوه سر دلائل الربوبية والألوهية والتوحيد وإذا حصل الانكشاف الأول تبعته انكشافات فإذا حصل منه التذكر أفضى به إلى تلك الوجوه الكثيرة. ولهذا نزل الفعل منزلة اللازم الذي لا يراد منه إلا حصول الحدث. آية كونية في الآية القرآنية: من الأزواج ما هو ظاهر مشاهد معلوم من قديم مثل السماء والأرض والليل والنهار والحر والبرد والذكر والأنثى في الحيوان وبعض النبات. ومنها ما كشفه العلم بما مهد الله له من أسباب كالجزء الموجب والجزء السالب في القوة الكهربائية وفي الذَّرة التي هي أصل التكوين فلا فردية الا لخالق هذه الازواج كلها الذي أنبأنا بها قبل ان تصل إلى تمام معرفتها العقول فكان من معجزات القرآن العلمية التي يفسرها الزمان بتقدم الإنسان في العلم والعمران. بلاغة التنويع والتنزيل: لما كانت السماء متلاحمة الأجزاء في العلاء ثابتة على حالة مستمرة

الآية الرابعة

في هذه الدنيا على البقاء ناسبها لفط البناء، ولما كانت مظهر العظمة والجلال ناسبها لفط القوة. ولما كانت الأرض طرأ عليها التبديل والتغيير بما ينقص البحر من أطرافها ربما قد يتحول من سهولها وجبالها وبما يتعاقب عليها من حرث وغراسة وخصب وجدب ناسبها لفط الفراش الذي يبسط ويطوى ويبدل ويغير، ولما كانت أسباب الانتفاع بها الميسرة ضرورية للحياة عليها وكلها مهيأة وكثير منها مشاهد وغيره معد يتوصل إليه بالبحث والاستنباط- ناسب ذكر التمهيد-. ولما كانت الأزواج مكونا بعضها من بعض ناسبها لفظ الخلق ولما كان النظر في الزوجية هو نظر في أسباب التكوين لتلك المذكورات السابقة وهو محصل للعلم الذي يحصل من النظر فيها قرن بلفط التذكر. الآية الرابعة: الألفاظ والتراكيب: الفاء: للترتيب لأن ما قبلها على ما فيه من عظمة وكمال وجمال فهي مخلوقة موسومة بسمة العجز والنقصان، فلا يصلح شيء منها للتعويل عليه، فلم يبق إلاَّ الخالق القادر ذو الجلال والاكرام، فهو الذي يفر اليه دون جميع المخلوقات. فروا: اهربوا. النذير: المعلم بما فيه هلاك لتجتنب الأسباب المؤدية اليه. المبين: الذى يوضح ما نذر منه والأسباب المؤدية اليه والوسائل المنجية منه. مع اقامة الحجة على صدقه ونصحه. وقدم لكم ليفيد اهتمامه بهم وذلك ليجلبهم اليه فيستمعوا لنصحه وبعده منه ليبين مصدر رسالته وذلك ليبين لهم أنه مأمور فلا يستكبروا عن قبول دعوته. وأكد الجملة لأنهم في مقام التردد أو الإنكار. المعنى: هذه المخلوقات كلها عاجزة في نفسها مفتقرة- ابتداء ودواما-

نكتة التنويع

إلى خالقها فاهربوا من شرها إلى خالقها فهو الذي ينجيكم من شرها ويهديكم إلى خيرها ولا تغتروا بشيء منها فإنها لا تملك حفظا لنفسها فكيف تملكه لغيرها. إنني أحذركم الهلاك إذا اغتررتم بها وقطعتكم عن خالقها ولم تهربوا إلى الله منها وقد أبنت لكم مصدر الهلاك وطريق النجاة. نكتة التنويع: جاءت الثلاث الآيات الأول كما يكون قولها من الله، وجاءت هذه الآية كما يكون قولها من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنويعا للخطاب وتفننا، فإنه لما كان ما في هذه الآية هو المقصود حول أسلوب الكلام من الاخبار إلى الأمر تجديدا لنشاط السامع وبعثا لاهتمام المخاطبين وحثا لهم وتوكيدا عليهم. وفيه تنبيه على أن ما يقوله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مثل ما يقوله الله في وجوب الإيمان والامتثال. بيان وتوحيد: هذا العالم بمائه وأرضه وأزواجه هو فتنة للإنسان بما فيه من لذائذ ومن جمال وما فيه من قوة وما فيه من سلطان. وقد ركبت في الإنسان شهواته وأهوائه وسلط عليه الشيطان يغويه ويزين له. فكل هذا العالم إذا ذهب فيه الإنسان مع أهوائه وشهواته تحت إغواء الشيطان وتزيينه فانه ينحط إلى أسفل سافلين ويصير عبدا لأهوائه وشهواته وشيطانه ولكل ما فتنه من العالم وذهب بلبه. وقد ينتهي به ذلك إلى عبادته من دون خالقه. فالعالم بهذا الاعتبار شر وبلاء وهلاك يجب الفرار والهروب منه ولا يكون هذا الفرار منه إلا إلى خالقه بالايمان به والتصديق لرسله، والدخول تحت شرعه، فبذلك يعرف الإنسان كيف يجعل جدا لاهوائه وشهواته وكيف يضبطها

إرشاد وتعميم

بنطاق الشرع وزمامه، وكيف يدفع عنه كيد شيطانه، وكيف يتناول سماء العالم وأرضه وأزواجه بيد الشرع فيعرف ما فيها من نعمة وحكمة فيستغلها بهداية الشرع مفرقا علميا وعمليا- بين منافعها ومضارها، فيعظم بها انتفاعه ويزداد فيها اطلاعه واكتشافه فتتضاعف عليه منها الخيرات والبركات ويزداد علمه وعرفانه، ويقوى يقينه وايمانه ويعظم لله بره وشكرانه. فيكون له ذلك العالم جنة الدنيا وقنطرة لجنة الاخرى، ويفوز من الدارين بالمبتغى، كل هذا بفراره من المخلوقات إلى خالقها فسلم من شرها وفاز بخيرها فمن هرب من المخلوقات إلى خالقها نجا ومن فر من الخالق إلى شيء من مخلوقاته كان من الهالكين. إرشاد وتعميم: كل ما يصيب الإنسان من محن الدنيا ومصائبها وأمراضها وخصوماتها ومن جميع بلائها لا ينجيه من شيء منه إلاَّ فراره إلى الله. ففي العدالة الشرعية ما يقطع كلَّ نزاع، وفي المواعظ الدينية ما يهون كل مصاب، وفي الهداية القرآنية والسيرة النبوية ما ينير كل سبيل من سبل النجاة والسعادة في الحياة. يعرف ذلك الفقهاء القرآنيون السنيون، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. تنبيه على وهم: ليس الفرار من الأمراض بمعالجتها، ومن المصائب بمقاومتها فرارا من الله لأنَّ الأمراض هو قدَّرها والأدوية هو وضعها ودعا إلى استعمالها والتعالج بها، وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مقاومتها فكلها منه بقدره والإنسان مأمور منه بأن يعالج ويقاوم فما فر من قدره إلاَّ إلى قدره ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر- رضي الله عنهما- في قصة الوباء: " أفراراً من قدر الله يا عمر! " قال عمر: "نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله". وفي الحقيقة كان الفرار من شرٍ في مخلوق إلى الله يرجو منه الخير في غيره.

تحذير من الجهالة

تحذير من الجهالة: ليس المقصود بالفرار من الدنيا ترك السعي والعمل وتعاطي الأسباب المشروعة، لتحصيل القوت ورغد العيش وتوسيع العمران وتشييد المدنية بل المقصود الفرار من شرورها وفتنتها. وتناول ذلك كله على الوجه المشروع هو من الفرار اليه والدخول تحت شرعه كما قدمناه وقد ضل قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة فعطلوا الأسباب وخالفوا الشريعة وحادوا عمَّا ثبت من السنة، وفيهم سئل إمام الحديث والسنة أحمد بن حنبل رحمه الله، سئل عن القائل اجلس لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال: "هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي، وقوله: تغدو خماصا وتروح بطانا، وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة". تطبيق: إذا رأينا طائفتين من المؤمنين تنازعتا فأما أحداهما فالتجأت إلى السلطان تستغيثه وتستعين به وتحطب في حبله، فأغاثها وانتقم لها وأمدها وقربها وأدناها، وأما الأخرى فلم تستغث الا بالله ولم تستنصر الا به ولم تعتمد الا عليه ولم تعمل الا فيما يرضيه من نشر هداية الإسلام وما فيها من خير عام لجميع الانام وتحملت في سبيل ذلك كل ما تسببت لها فيه الطائفة الاخرى ومن تولته وهربت اليه، إذا رأينا هاتين الطائفتين عرفنا منهما- يقينا- الفارة من الله والفارة اليه فكنا- ان كنا مؤمنين- مع من فر إلى الله. الآية الخامسة: الألفاظ والتراكيب: ولا تجعلوا: ولا تضعوا من عند أنفسكم ما لا وجود له.

المعني

إلهاً: معبودا تخضعون له وترجون منه التصرف في الكون ليجلب لكم النفع ويدفع عنكم الضر. وتقدمت ألفاظ آخر الآية. المعني: ولا تجعلوا في فراركم إلى الله شيئا معه من مخلوقات تعتمدون عليه وتلجئون إليه فتكونوا قد اشركتم به سواه فإني أحذركم ما في ذلكم من هلاككم بالشرك الذي لا يقبل الله معه من عمل والتي قد أبنت لكم لزوم توحيده في الفرار اليه، كما بينت لكم لزوم ذلك الفرار. نكتة التكرير: أعاد {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} مع الآية الخامسة ليبين لهم ان عبادة الله مع الاشراك به كتعطيل عبادته فهلاك المشرك كهلاك الجاحد. والنجاة أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا لا في ربوبيته ولا في ألوهيته. تنبيه وتحذير: جاء في الحديث فيما رواه أصحاب السنن ان الدعاء هو العبادة فمن دعا غير الله فقد عبده ومن دعا مخلوقا مع الخالق فقد اشرك فإذا دعوت فادع ربك ولا تدع معه أحدا. وكيف تدعو من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وإذا توسلت فتوسل بأعمالك بإيمانك وتوحيدك وباتباعك لمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ومحبتك فيه واعتقادك ما له عند الله من عظيم المنزلة وسمو المقام عليه وعلى آله الصلاة والسلام. بيان نبوي قولي: قال عليه الصلاة والسلام فيما يقال عند النوم: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» والملجأ هو المهرب الذي يهرب اليه، والمنجى هو مكان النجاة فبين لنا أنه لا يكون الهرب الا إلى الله، ولا تكون النجاة الا

بيان نبوي عملي

بالهرب اليه فمن هرب لغيره كان من الهالكين. كما بين لنا ان كل ما يجري في هذا العالم فهو بقدره فلا مهرب ولا نجاة مما خلق وقدر إلا إليه. بيان نبوي عملي: روى أحمد وابن جرير عن حذيفة بن اليمان: ان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا حزبه أمر صلى. وفزع للصلاة. يعني إذا نزل به مهم أو أصابه غم فزع للصلاة، فبين لنا بالفعل أنَّ الفرار إلى الله بالتلبس بطاعته وصدق التوجه اليه، والدعاء والتضرع والخشوع له، والاستسلام لدينه وشرعه والاخلاص في عبادته والاعتماد عليه، وذلك كله موجود على أكمله في الصلاة التي هي عمود الدين ومظهر كماله. جعلنا الله والمسلمين من الفارين اليه والمقبولين لديه. آمين (1).

_ (1) ش: ج1، م 15، ص2 - 10 غرة محرم 1358هـ - 1939م.

خلاصة تفسير المعوذتين

خُلَاصَةُ تَفْسِيرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ من درس الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي ختم به تفسير القرآن. ــــــــــــــــــــــــــ كلمة بين يدي التلخيص: أكمل طرائق المتقدمين من علماء هذه الملة في تلقين العلوم- طريقة الإملاء. والإملاء نتيجة لاستحكام الملكة في العلم واستقلال الفكر فيه، أو سعة المحفوظ ورحابة آفاق الحافظة. واستحكام الملكة واستقلال الفكر وقوّة الحافظة مزايا تكاد تكون خالصة لعلماء سلف هذه الأمة لم يبلغ علماء الأمم الأخرى مدا حدهم (1) فيها ولا نصيبه. وكانت وظيفة السامعين كتابة ما يُملى عليهم كلّه أو خلاصته، وكانت المحابر والأقلام والأوراق هي الأدوات اللازمة لروّاد مجالس العلم إلّا في مقامات مقابلة الأصول وضبطها. فهنا لا بدّ من إحضار النسخ الكاملة من الكتب. ومن ثمرات تلك الطريقة المثلى في التلقين والتلقي كتب الأمالي في الحديث واللغة والأدب، وفي تراجم المحدثين والأدباء الشيء الكثير من ذلك، وإن لم يبق لنا الدَّهر منها إلّا الأقل من القليل. ولما انتهى عصر الرواية بجمع روايات السلف في التفسير ورواياتهم للأحاديث والسنن ودونت أصول اللغة والأدب والعلوم المتفرعة عنها وجاء دور الاستغلال لها -نشأت عوامل الانحطاط في العلوم الإسلامية، وكان من أظهر مظاهرها جفاف

_ (1) كذا بالأصل ولعلها مدى أحدهم

القرائح وجدب الأفكار وضعف القوى الحافظة، وانحطت طرائق التلقين تبعًا لذلك وانحصرت في الطريق الشائعة إلى اليوم. وهي التزام كتاب تتعدّد نسخه بتعدّد المتلقين له يحل الشيخ عباراته ويشرح معانيه. وانحطت وظيفة السامعين من الكتابة والتقييد إلى الاستماع المجرد. ولسنا نعيب طريقة التزام الكتب وشرح معانيها بالكلام، فذلك في حقيقته نوع قاصر من الإملاء. وإنما ننعي على السامعين إهمالهم لكتابة ما يسمعون فتضيع عليهم الفوائد التي يلقيها الأستاذ وقد تكون قيّمة، كما تضيع في عصرنا هذه الخطب والمحاضرات المرتجلة التي لا يكتبها ملقيها ولا متلقيها. ولسنا بصدد التأريخ لهذه الطرائق والمقارنة بينها وبيان وجوه النقص والكمال فيها وإنما ننبّه في هذا المقام إلى أن أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية، لأنها شغلت المعلم والمتعلم معًا بالكتاب عن العلم إذ أصبح همّهما كله مصروفًا إلى تحليل الكتاب وفكّ عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة وفي بعض هذا ما يستغرق الوقت ولا يُبقي سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلّياته، وبعيد جدًا على من يدرس علمًا على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلًا لمن يقرؤه من مثل مختصر خليل على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقدة التي ذهب الاختصار بكثير من أجزائها وفي بيان التقديم والتأخير في الألفاظ وربط المعمولات بالعوامل البعيدة وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مراجعها. والطفرة بالذهن من مذكور إلى مقدر، وهذا هو كل ما يشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابًا في الفقه، ودراسة الكتب لذاتها أصبحت اليوم فنًّا كماليًّا من التَّاريخ لا أصلًا في تعلّم العلوم. والدارس لتاريخ العلوم الإسلامية يتجلّى له هذا في تراجم علماء تلك العلوم، إذ يجد فيها دائمًا أشباه هذه العبارة:

كان أقوم الناس على كتاب الجمل للخونجي. أو على كتاب التهذيب للبرادعي، أو على كتاب الشامل لابن الصباغ. كان نافذا في إقراء المحصّل للرازي. كان سديد البحث في مختصر ابن الحاجب الأصلي كثير المناقشة لعباراته. وأين سداد البحث وكثرة المناقشة في عبارة كتاب من تحصيل الملكة في علم؟ إن الأصولي الحقيقي هو الذي ينفق مما عنده أو يقرئه من أي كتاب كان. ولا يفتتن بكتاب عين هذا الافتتان، وإن الفقيه الحقيقي هو الذي يفهم الفقه، لا الذي يفهم كتابًا في الفقه، وفي وقتنا هذا نسمع علماء المعاهد المشهورة يتمدحون بمثل هذا ويصفون من يحسن إقراء التنقيح للقرافي على هذه الطريقة بالأصولي المحقق .. ولقد حاول جماعة من العلماء الحفّاظ في القرون الأخيرة إصلاح هذه الحالة وإحياء طريقة الأمالي فلم ينجحوا لافتتان جمهور المتعلمين بالكتب وانصرافهم عن العلم إلى كتب في العلم. حاول ذلك الحافظ ابن حجر وهو أهل لذلك، ولكن أهل زمانه لم يكونوا أهلًا له، ونعى معاصره ابن خلدون المؤرخ طرق التلقين في زمنه وكثرة المؤلفات والمختصرات في العلم وعدّها عائقة عن التحصيل، وحاول ذلك بعد ابن حجر تلميذه الحافظ السيوطي وهو أهل لذلك على ما فيه من تبجح واستطالة، وقد شكا في بعض رسائله إخفاقه في هذه المحاولة بعبارة مرّة، ووصف انصراف الجمهور عنها بأنه من غلبة الجهل وكلال الهمم وضعف العزائم. نجمت في هذه العهود الأخيرة ناجمة اضطراب وتبرّم من طرائق التعليم المتبعة وكتبه الملتزمة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من أضرارها وسوء عواقبها. وكان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أعلى الحكماء صوتًا بلزوم إصلاحها وأبلغهم بيانًا لأضرارها وسوءاتها ومعايبها وأسدهم رَأيًا في تغييرها بما هو أجدى منها وأنفع وأكثرهم عملًا جديًّا في ذلك. وكان من إصلاحاته العملية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان- رحمه الله- وهو من هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق

الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا تفسير الجلالين ويستهلها بقراءة عبارته. ولكن السامعين لتلك الدروس- على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها ممّا لم تنطو عليه حنايا عالم ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامهم لتقييد تلك الدروس إلّا قليلا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد. ولو لم يقيّض الله محمد رشيد رضا لهذا العمل الجليل لضاع كله ولكن الله وفقه لحفظ معاني تلك الدروس وسدّد قلمه في أدائها، ثم نهج نهجه بعد موته وسار على شعاع هديه في تفسير كلام الله فأبقى لهذه الأمة تلك الأسفار القيمة المعروفة بتفسير المنار. مدّت حركة الاصلاح العلمي مدّها بعد موت الإمام، وانتشرت في الأقطار الإسلامية، وأسفرت عن إصلاح حقيقي لأساليب التعليم في المعاهد الحرّة، وعن إصلاح صوري في المعاهد الرسمية. ولا تزال الحرب قائمة في هذه المعاهد بين طلاب الإصلاح وبين أنصار الجمود، وستكون العاقبة للمصلحين بإذن الله. ولقد كان من حسن حظ الجزائر أن باعث النهضة العلمية فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد وضع أساس هذه النهضة على قواعد صحيحة من أول يوم، فسلك في درس كلام الله أسلوبا سلفي النزعة والمادة، عصري الأسلوب والمرمى، مستمدا من آيات القرآن وأسرارها أكثر ممّا هو مستمد من التفاسير وأسفارها. وقد قرأنا له في بعض افتتاحيات مجلة "الشهاب" أنه يعتمد في هذه الدروس على تفاسير مخصوصة في مواضيع مخصوصة، كالطبري في المأثور والكشاف للزمخشري في أسرار الإعجاز، وذلك صحيح ومفيد لمن يجعل فهوم الرجال مقاييس لفهمه ولا يعطيها أكثر من أنها فهوم تصيب وتخطيء، أما المعنى الصحيح لكتاب الله فيستجليه من البيان العربي والشرح النبوي ومن مقاصد

الدين وأسرار التشريع، ومن عجائب الكون وسنن الله فيه ومن أحكام الاجتماع الإنساني. ومن تصاريف الزمن ونتائج العقول وثمرات العلوم التجريبية وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن بها على هذه الطريقة في القطر الجزائري فإن من دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيّدها بالكتابة، ولو وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخزاً لا يُقوم بمال، ولاضطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال، ولتمخض لنا ربع قرن عن تفسير يكون حجة هذا القرن على القرون الآتية. ومن قرأ تلك النماذج القليلة المنشورة في الشهاب باسم مجالس التذكير على أي علم ضاع وأي كنز غطى عليه الإهمال. ولما كان اليوم المشهود بختم هذه الدروس جمع أحد الحاضرين ما وعته ذاكرته وأمكنه تقييده من معنى درس الختم في تفسير المعوذتين وتصرف في ألفاظه بما لا يخرج عن معانيه إذ لم يكن من الميسور أن يلتقط الألفاظ كلها. فجاء بهذه الخلاصة التي ننشرها على الناس في هذا العدد (الخاص بالاحتفال) لافتين أنظارهم إلى أن هذه الخلاصة محيطة بمعاني الدرس مع تصرف ضروري اقتضته مساوقة ما كتب لما قيل. استهل الأستاذ الدرس بعد الاستعاذة والتسمية بالتحميد المأثور: الحمد لله إن الحمد لله. نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد فما له من مضل، ونشهد أن لا إله إلّا الله ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ثم عقّب بما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ به خطبته. وجرت عادة المحدثين والمفسرين أن يفتتحوا به مجالس التحديث والتفسير، وإن اختلفت الروايات في ألفاظه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم قال توطئة للدخول في تفسير المعوذتين ما معناه مع تصرف وتوضيح:

بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا وأن يشتبها وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بها دائرة بينهما موصوفة بأحدهما، ولا بد من قدر الله ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني، وحكمته المبينة في وجيه هي ابتلاء خلقه ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم بعد أن وهبهم العقل والتمييز وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلا منه تعالى ورحمة -وحكمة أخرى وهي تمرين هذا الإنسان في حياتيه العلمية والعملية وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافغ والناقغ على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه. والإنسان يكتسب القوّة والدربة بتمرّسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره، وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة وسائق لها ومهيىء لما يظهر أنه من بدواتها. وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر وأدق منه التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين. فإن الخير درجات وأنواع، والشر كذلك دركات وأنواع. والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر. وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق. ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد. وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة. والمبصرات عند عروض الشبهة والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان وطواف طائفه. ومن هذه المعوذات عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك وهي شر، وحقائق تقي صاحبها الوهم وهو شر. وعبادات تربي مقيمها على الخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. وأعمال تثبت فاعلها على الحق. وأقوال يلفيها القلب العامر بتقوى الله والخوف من مقامه على الألسنة

لتكون شهادة لها وعنوانًا عليها. والألسنة تراجمة القلوب فكان ممّا شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن. وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ بالله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة. أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُر خير منهن قط قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ برب الناس». وفي رواية أخرى في مسلم عنه تسميتهما بالمعوذتين، وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضًا وصف عقبة بن عامر بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. فتسمية هاتين السورتين بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة كأسماء جميع سور القرآن وقد يقال المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص. وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذًا من الشرك وهو أصل الشرور كلها .. وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما وأما ما يذكر في نزولهما في قصة سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك لم يصح سببًا لنزولهما. وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن الأعصم أصل ثابت في الصحيح وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما ولنا فيما صح غنية عما لم يصح. وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة. وهي ناحية التعوذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيهما ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عابس الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له يا ابن عابس ألا أدلّك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون قال بلى يا رسول الله، قال قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس هاتين السورتين.

فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به. ولهاتين السورتين خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما، وهما كالسورة الواحدة. فما هي الحكمة في ختم القرآن بهما؟ وترتيب السور توقيفي ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في الإتقان وجماعة. يستطيع ممارس القرآن ومتدبره ومتلقيه بالذهن المشرق والقريحة الصافية أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعًا ولكن أجلاها وأوضحها أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن. وتحصين لهذه النعم المنشالة من القرآن عليه أن يكدِّرها عليه كيد كائد أو حسد حاسد، فإن من أوتي الشيء الكريم ورزق النعمة الهنية هو الذي تمتدُّ إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء وتقذفه عيونهم بالشرر وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء ويشتد عليه تكالبهم سعيًا في سلبه منه أو تكديره عليه وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار نفاسة ما تملك تكون هدفًا لمكائد الكائدين وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري ومن أوتي القرآن فقد طوى الوحي بين جنبيه وأوتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين ومهوى أفئدة الكائدين فكان حقيقًا وقد ختم القرآن حفظًا أو مدارسة أو تلاوة أن يلتجىء إلى الله طالبًا منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم الذي كمل له وهذه النعمة الشاملة التي تمت عليه هذه حكمة. وأخرى وهي أن من أوتي القرآن وتفقّه فيه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب وأحاط بالعلم من أطرافه وملك كنزه الذي لا ينفذ. وان من آفات العلم اغترار صاحبه به وقد يتمادى به الغرور حتى يسول له أن ما أوتيه من العلم كاف في وقايته من الأضرار ونجاته من الأشرار فكان من رحمة الله

بصاحب القرآن ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به أن ختم بهاتين السورتين كتابه لتكونا آخر ما يستوقف القاريء المتفقه، وينبهه إلى أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلى الآن. وهي أنه مهما امتدّ في العلم باعه واشتد بالحكمة اضطلاعه. فإنه لا يستغني عن الله ولا بد له من الالتجاء إليه والاعتصام به يستدفع به شر الأشرار وحسد الحاسدين وكفى بهذه التربية قامعًا للغرور. وإنه لشر الشرور. هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتبًا ترتيبه التوقيفي وبين هاتين السورتين في اتحاد موضوعهما. وأما المناسبة الخاصة بين السورتين وبين سورة الإخلاص فهي أن سورة الإخلاص قد عرَّفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد. فإذا قرأت القرآن وتدبّرتَه على ترتيبه ووجدت توحيد الله منبثًا في آياته وسوره متجليًّا ذلك التجلي الباهر بمعارضه وصوره مادا ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع - كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد وكأنها وصية مودعّ مشفق بمهمّ يخشى عليك نسيانه فليعمد فيها من الكلام إلى ما قلّ ودلّ ولم يملّ. ومن صدقك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه بصدق معاملتك لله وإخلاص توحيدك إياه. فأنت وقد آمنت وصدّقت وخرجت من سورة الإخلاص متشبعًا بمعانيها ومنها معنى الصمد - تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدّرة بالشرور. وأن لا ملجأ إلّا ذلك الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد. فَتَجِيءُ المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الالتجاء الذي هو من تمام التوحيد. ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاث جمع بينهنَ التَسْمِيَةِ، ففي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث عن نفسه بالمعوذات وسياق النسائي لحديث عقبة بن عامر المتقدم أن رسول الله

سورة الفلق

قرأ وقرأت معه الإخلاص ثم قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فلما ختمهن قال: ما تعوّذ بمثلهن أحد. وكما جمع - صلى الله عليه وسلم - بينهن في التسمية والتعوذ جمع بينهن عمليًّا في قراءة الوتر. هذا إجمال المناسبة الخاصة بين السور الثلاث. ... سُورَةُ الْفَلَقِ: قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1). الأمر المفرد للنبي- عليه السلام-. ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن أن تقدِّر في مثل هذا الأمر أيُّها الرسول أو أيُّها النبي، لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي- عليه السلام-، وأن لا نقدر يا محمد كما هو جار على الألسنة وفي التصانيف، فإن القرآن لم يخاطبه باسمه والأمر لنبيّنا أمر لنا لأننا المقصودون بالتكليف ولا دليل على الخصوصية فهو في قوّة: قل أنت، وقل لأمتك يقولون. وأعوذ: أستجير وألتجيء ويتعدى هو وجميع تصاريفه بالباء، كأستجير. والعوذ والعياذ مصدران منه كالصوم والصيام، وفي القرآن مما جاء على المعنى اللغوي: يعوذون برجال من الجنّ (2) ومن كلام العرب: قد استعذت بمعاذٍ (3). والرب: الخالق المكوّن المربي، ومواقع استعمال هذه الكلمة في القرآن هي التي تكشف كل الكشف عن معناها الكامل.

_ (1) 113/ 1 الفلق. (2) وتمام الآية: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} وهي 72/ 6 الجن. (3) في الأساس (عوذ): لقد عذت بمعاد.

من شر ما خلق

والفلق: الفجر المفلوق المفري، ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم. ومما وصف به ربنا نفسه في القرآن فالق الإصباح، وفالق الحَبّ والنوى، فهما من أسمائه تعالى. ومواقع هذه الألفاظ التى تضاف إلى كلمة رب في القرآن كمواقع أسماء المخلوقات التى أقسم بها الله، كلاهما عجيب معجز، فكل لفظة تستعمل في المقام الذي يناسبها وتناسبه، وكل لفظة تبعث في الأسلوب الذي وقعت فيه متانة وقوّة وفي معناه وضوحا وجلاء، وسر إضافة الفلق إلى ربّ هنا أن الفجر بمعناه العرفي هو تشقق الظلمة عن النور، فإن الليل يكون مجتمع الظلمات مسدول الأرواق. فإذا جاء الصبح حصل الانفلاق. والذي يبقى بعد ذلك الانفلاق هو النور الذي نفى الظلمة. ولا ينفي ظلمات الشر والضلال والباطل إلّا أنوار الخير والهدى والحق من خالقها، وفالق أنوارها. وكما أضيف الفلق، بمعنى الفجر، إلى كلمة رب هنا أقسم به في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ}. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1). من كل مخلوق فيه شر، فلا يدخل في عمومه إلّا كل شرير من أي العوالم كان، كما يدخل في عموم الناطق كل ذي نطق، أو من شر كل مخلوق. ومن مخلوقات الله ما هو خير محض كالأنبياء والملائكة. ومعلوم أن المخلوقات كلها خلقت بحق ولحكمة فهي في نفسها خير، فإن كان لا ينشأ من أعمالها أو آثارها إلا الخير فهي

_ (1) 113/ 2 الفلق

الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحيانًا أو دائمًا فعملها هو الشر وهو المستعاذ منه. وتصخ نسبة هذا القسم إلى الله من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين لا من حيث الرضى والتكليف، فالله لا يرضى بالشرّ ولا يكلف به، وقصارى إبليس -وهو مادة الشر في هذا الوجود- أن يزيد الشر ويلبسه بالخير. فالشر بيد الله خلقة وحكمة لا رِضًا وتكليفًا، والخير بيد الله خلقة وحكمة ونعمة وأمرًا. وقد يكون الشرّ ذاتيًا لا ينفك، وقد يكون نسبيًّا باعتبار حالة تعرض واتجاه يقصد ونعم الله على عباده قد تنقلب عليهم شرًا وبلاءً بسبب سوء تصرفهم فيها، كالمال الذي سماه الله خيرًا في القرآن - يكسبه صاحبه من الوجوه الشرعية وينفقه في الوجوه المشروعة. ويتحرى رضا الله في جمعه وتفريقه فيكون خيرًا بذاته وبعمل صاحبه. ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شرًا لا من ذاته بل من عمل صاحبه. وهذا العالم الإنساني المكلف هو الذي يتجلّى الخير والشرّ في أعماله. ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقًا. وإنما عيب عليه الشر وقبح منه لأنه قادر على تمييزه واجتنابه ومكلف بذلك، وقد وضع له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وَوَضَّح له أن الخير ما نفع وأن الشر ما أضر. ولكنه وإن أُوتي قوّة التمييز لم يؤت قوّة الاستعصام ابتلاء من الله. فأما المخذول فيأتي الشر عامدًا متعمدًا وهو يعلم أنه شر، وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز، والخير والشر لا يوزنان بميزان حيي يستوي الناس كلهم في إدراكه وقد تَدِقُّ الفوارق بينهما حتى تخفى، وفي هذه المواقف يجب الالتجاء إلى الله ليرينا الخير خيرًا ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء، وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح تندفع ألسنتنا ونقول:

{أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}. وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين رب والفلق، فإن ربَّ الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فتُرَى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالمًا فقد تخفى عليه حقائق المعقولات فيزيغ فكره ويطغى. ومناسبة أخرى: وهي أنَّ الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام، ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه هو عين ما يضايقهم من ذلك في الشر. هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان. هذه الثلاثة هي: الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد. والغاسق: الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة. ووقب: دخل في الوقب، وهو النقرة في الشيء. والنفاثات: السواحر ينفثن الريق واللفظ، جمع نفاثة، كثيرة النفث. والعقد: جمع عقدة، بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها. والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين. فالثلاثة كما ترون شرها خفي،

وكل شر يخفي عمله أو يخفى أثره يجلّ خطبه ولعظم خطره. فيعسر التوقّي منه والاحتياط له. لأنك تتقي ما يظهر ويستعلن لا ما يخفى ويستتر. لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص، أما نكتة الترتيب فإن الليل ليس شرًا في نفسه ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور. والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار مسبّبة للحكم على أحدهما بحكم الآخر. بخلاف النفاثات والحساد فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتيا لهما. ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي، كما أن بين الإثنين تفاوتا في ذاتية الشر وقوّته وعسر التوقِّي منه. فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه، بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترقٍّ من الأخف إلى الأشد. ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهرًا بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد، فإن الجميع ظلام، ظلام الزمن وظلام السحر وظلام الحسد. وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد للمراد. الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظّلم وتكاثفها، فكأن بعض أجزائها يدخل بعضًا، والظلام يبدأ خفيفًا مشوبا باسفار من أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويحلو لك حتى يغطّي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب. والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني. وفائدة القيد حينئذٍ أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم. فالطارق يطرق والسارق يسرق والحيات تنتهش، والضواري تفترس. وظلام الليل يستر ذلك كله ويعين عليه ويعوق عن الاستسراح والاستنجاد، والعرب تقول في ما يشير إلى هذا: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ. فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال شرٌ يقع في زمان، والاحتمال

الثاني أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسّيًّا فيقتضي ظرفًا مكانيًّا، وما هذا الظرف إلّا الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها ويكون دخوله فيها أبين من دخولها في الفضاء وملؤه إياها أشد، فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء خصوصا من الآدميين، والمستعاذ منه شر يقع في مكان، وعلى الاحتمالين لما كان الليل معوانًا لذوي الشر على شرهم أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه. والنفاثات: صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلًا كان أو امرأة، وأما للنساء وخُصِّصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهُنَّ به أشهر. والنفث: إخراج الهواء من الفم مدفوعًا بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل، والنفث وإن كان عامًا لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطًا ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم وينفثون على كل عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلّا لأنه يؤثّر في بعض النفوس القابلة للتأثر به، حاش النفوس المعصومة كنفوس الأنبياء، فإن شرور الدنيا وأسوأها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم. ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما يوهمه لفظ الرواية فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني. ونحن نعتقد دينًا أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده. ونقطع علمًا وتجربة أن للقوى النفسية تأثيرًا أعظم من تأثير القوى الجسمانية، وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون وتأثير التنويم في المنوّم، وأن التأثير والتأثر النفسانيين

يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوّة وضعفًا، وأن تأثير العين ليس من ذاتها وإنما هو من النفس التي من وراء العين، ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تُحدث ذلك الأثر، وإن هذا التأثير لون من ألوان النفس، فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيرًا، وإن كانت شريرة كان شرًا. فالنفث المذكور في الآية إنْ أثَّر فإنما يؤثر بالقوّة النفسية التي من ورائه، والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلّا نفث الشر، لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق وإنما تنفث السم. وكالعدو يلقاك بطعن الأَسَل، لا بطعم العسل إذ كان ذلك من طبيعة العداوة. هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة، وأما النفوس الخيرة الطيبة كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير. وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه، يبدأ برأسه ووجهه، يفعل ذلك ثلاث مرات، فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله، ثم قالت في تمامه: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك. وفي رواية: كان يقرأ بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها. وفي رواية مسلم عنها: أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله. فهذه الأحاديث- وهي ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ المعوذات وينفث حين القراءة نفث الخير قطعًا. وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها. وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيرًا وشرًا، ولولاهما لما كان النفث إلّا من فعل السحرة. والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءًا من

روحانيتها على نفس أخرى أو على بدن، وكأن تحرلك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية واستدعاء لها حتى تتصل بالريق الذي ينفث كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادِّي. وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثًا مجردًا بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة. ومن الشواهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا ((تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل)) ثم رفعها وقال: «بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا». ... [بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع]: إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلّا الزمن، وكذلك كلام نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع لم تفهم أسرارها ومغازيها إلّا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون، وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في وصف القرآن: «لا تنقضي عجائبه». والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامد والفهم الجامد، وإنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم، وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات، لم يأت مصداقها أو تأويلها

بعد. يعنون أنه آتٍ وأن الآتي به حوادث الزمان ووقائع الأكوان وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه. ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أسبابه في هذا الحديث؟ فماذا تراهم يقولون؟ يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بِرِيق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شفاء ما بعده من شفاء. ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال في التراب مكروب. وفي الريق مكروب. فأنَّى يشفيان مريضا أو ينفسان عن مكروب. ويقول الكيمياوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل. ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمدًا رسول الله. فقد علّم الناس من قبل أربعة عشر قرنًا أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه تشفي من القروح والجروح. ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدًا من المحبة والإخلاص له. وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به وليقرر لهم من منن الوطن منة كانوا عنها غافلين. فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تُغذي وتُروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تَشْفي، فليس هذا الحديث إرشادا لمعنى طبي ولكنه درس في الوطنية عظيم. ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب فإنه بباب حب الوطن أشبه، وما نرى رافع لعقيرة بقوله: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذْخر وجليل وهل أرِدَنَّ يومًا مياه مجنة ... وهل يبدوَنَّ لي شامة وطفيل

ومن شر حاسد إذا حسد

إلّا سائرًا على شعاعه. وما نرى ذلك الغريب المريض الذي سئل فيم شفاؤك؟ فقال: شمة من تربة اصطخر. وشربة من ماء نهاوند إلّا من تلامذة هذا الدرس، ولقد زادنا إيمانًا به بعد ايمان أنه يقول: تربة أرضنا بريقة بعضنا، يقل: تربة الأرض بريق بني آدم، فليس السر في تربة وريق ومرض، ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوطنية والقومية لا ما يتبجح به المفتونون. ويقول الروحانيون: إن هناك روحًا طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها وتغذى بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوّها وهوائها. من ريقة منفوثة نفث الخير من نفس مؤمنة قوية الروحانية. فيكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني. وإذا تجلت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب. ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول. وهكذا تأتي بعض المتون من كلام الله وكلام رسوله معجزة للعقول، فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون، والعلوم حرف العقول، والزمان من وراء الكل يصيح أن انتظروا ... {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1). الحاسد: الذي قامت به صفة الحسد. وهو الذي يُحب أن تسلب النعم من غيره وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزين له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد

_ (1) 113/ 5 الفلق

ويتمنى أن لا يبقى على وجه الأرض منعم عليه. وإنما ينشأ الحسد من العجب وحب الذات فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلًا لنعم الله، وكفى بهذا محادة للمنْعِم. والحسد شر تلازمه شرور، العجب والاحتقار والكِبْر، وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها حسد آدم عجْبا بنفسه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (1)، ورآه لا يستحق السجود احتقارًا له فقال: أهذا الذي أكرمْتَ علي ثم تكبر ولم يسجد ورضي باللعنة والخزي، ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إمامًا. والحسد شر على صاحبه قبل غيره لأنه ياكل قلبه ويؤرق جفنه ويقضّ مضجعه، ولا يكون شرًا على غيره إلا إذا ظهرت آثاره بأن كان قادرًا على الإضرار أو ساعيًا فيه، ولهذا قال تعالى: {إِذَا حَسَدَ}. والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلا العجز. وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين، ونعمة العافية والعلم، والجاه والحكم وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج، وقد وصف الحكماء له أنواعًا من العلاج فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء للغزالي (1). ...

_ (1) 7/ 11 الاعراف و 38/ 76 ص. (2) 20/ 131 طه. (3) ج 4، م4، ص 186 - 212 غرة ربيع الثانى وجمادى الأولى 1357 - جوان جوليت 1938

سورة الناس

سُورَةُ النَّاسِ: قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (1). قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان) وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما. أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو الناس، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: الفلق. والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام ومن ثلاثة أنواع منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة. والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام: قسم يصدر عنه الضرر ويعمله، وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول. وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح ومالك هديها، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فهو يحسن له الأشياء القبيحة ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يرديه من القبائح ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، قريبا منه متصلا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك. ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا وأكثر شرًا وأخسر عاقبةً خصص التعوذ منه بسورة كاملة. رب الناس: هو مربّيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود

مالك الناس

ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما منَّ به عليهم فيما ينفعهم، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، وأصله من ربه يربه ربا، إذا قام على إنشائه وتعاهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال. ولفظه المصدر ولكن معنى اسم الفاعل كالعدل يراد به العادل. ومَالِكِ النَّاسِ: هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، وبشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية. وإِلَهِ النَّاسِ: هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية. وبلاغة الترتيب إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني، فالأول: طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية، والثانى: طور القوّة والتدبير، وهما من مظاهر الملك، والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية. والمستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها أو بما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوّة الموسوسة مثل قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (1) أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وخالقه كقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. وكقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ

_ (1) 2/ 267 البقرة. (2) 38/ 82 ص.

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} (1). وكقوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (2). فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها. والرب رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته. ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه. ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجّه الخطاب وإليهم يساق التحذير، وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما، فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم لتثبيت سنّة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم. ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربويين وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال. وقد ضلُّوا بالفعل في ربويية الله وفي ألوهيته .. ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ويصدّوهم بذلك عما شرع الله. وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء. واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها

من شر الوسواس

ما دام لا يملك لنفسه ذلك وما دام محاسبًا عليه وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر. ففي تخصيص الناس بالذكر تنبيه إلى أنهم أحوج المربُويِينَ إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد. ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنَّة من استعباد الأقوياء. ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل والأخيار منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} (1). ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس، توضيح المعنى وإلفات النفس إليه وإيقاظ شعورها به والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} (2) - الوسواس هنا صفة الموسوس وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة، وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء. والعرب

_ (1) 2/ 13 البقرة. (2) 114/ 4 الناس

الذي يوسوس في صدور الناس

تسمي حركة الحلي وسواسًا، وهذا المعنى واضح في المراد هنا فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكي الحيلة في ذلك ولا يرمي رميته إلّا في الخلوات. وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضرورًّيا من الفرق بين المصلحين والمفسدين أن الأولين يصدعون لكلمة الحق مجلجلة ويرسلون صيحته داوية ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا ويستترون إذا فعلوا ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات. ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات. والخناس: وصف مبالغة في الخانس من الخنوس وهو التأخر بعد التقدم ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقًا في الكيد وتقصيًا في التطور حتى يبلغ مراده. فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا وهجومًا وانتهازًا واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (1). يرشدنا بذلك لنعِدَّ لكل حالة من حالاته عدتها. ولنُضيِّق عليه المسالك التي يسلكها، كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام. وإنما هو كالذباب تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ثم دواليك حتى تملّ أو يملّ، وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد فهو مبالغة في التحذير منه لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره. {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}: قال يوسوس

_ (1) 7/ 16 الأعراف

من الجنة والناس

بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها. وقال: فِي صُدُورِ النَّاسِ. والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستودع القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى. والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1). ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح والحرج والضيق والشفاء والإخفإء والإكنان- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية ولا أجزاءها المادية وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس يوجّه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر لأنها مجمع القوى. وقال: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} ولم يقل في قلوب الناس، لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنًا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقبًا. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: الجِنَّة جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين. واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون في قوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (2) ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة ليلتئم طرفا الكلام ويحصل التقصي الوصفي في المستعاذ به والمستعاذ منه. وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة،

_ (1) 22/ 46 الحج (2) 7/ 183 الأعراف

إلى قسمين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعضٍ زخرف القول، وشيطان الجن ميسر للشر فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطين الإنس بطانة السوء وقرين السوء. وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1) وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} (2) وهو من باب توزيع الجمع على الجمع، أي لكل واحد قرين، فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس يزينون له ما بين يديه وما خلفه ويصدّونه عن ذكر الله فماذا يصنع؟ ما عليه إلّا أن يلتجى إلى الله ويستعيذ به ويتذكر فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (4). ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخِّر ذلك المقدم في آية أخرى لسرّ آخر، فيقدم السماء على الأرض في مقام ويؤخرها عليها في مقام آخر، ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن

_ (1) 43/ 36 الزخرف. (2) 41/ 25 فصلت. (3) 7/ 199 الأعراف و41/ 36 فصلت. (4) 7/ 200 الأعراف.

في آية الأنعام لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء وهي من الإنس أظهر ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح. وفي آية (الناس) قدم الجنة على الناس لأن الحديث عن الوسوسة وهي من شياطين الجنّ أخفى وأدقّ وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمرَّ. فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد فيربى عليه ويكون شرا منه لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به، ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جِنِّيٌ لإنسي ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولّد منها فتن ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل، وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفّل كان شرّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى وأوشك أن يكون خيرًا محضا لولا أن العصمة لم تكتب إلّا لطائفة منه وهم الأنبيإء عليهم الصلاة والسلام. فإلإنسإن إذا انحط يكون شرًا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال. ... انتهى تلخيص الدرس وقد حرصنا على ما وعته الذاكرة من معانيه وقيده القلم من ألفاظه ثم تصرفنا في المواضيع التي طرقها الأستاذ بما لا يخرج عن مراده ولا يخالف طريقته في تفسير كلام الله والله ينفعنا بالقرآن ويوفقنا إلى خدمته (1).

_ (1) ش: ج4، م14، ص 206 - 212 غرة ربيع الثاني وجمادى الأولى 1357 - جوان جويلية 1938.

حول كلمات الاستاذ الكبير في تفسير آيات الزينة والستر

حَوْلَ كَلِمَاتِ الْأُسْتَاذِ الْكَبِيرِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الزِّيْنَةِ وَالسَّتْرِ -1 - نشرت جريدة " الزهرة " الغراء حديثا لفضيلة العلامة الكبير الشيخ محمد بن يوسف المفتي الحنفي بحضرة تونس، أفضى به لأحد محرري جربدة " اللواء التونسي"، فرأينا في بعض ما قاله الاستاذ نظراً لا ينبغي السكوت عليه فكتبنا عليه ما يلي: قال الحرر: " ثم تلا- الاستاذ- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ .. } (1) الآية، يقال للمرأة إذا زال ثوبها عن وجهها: أدني عليك من ثوبك، أي استري وجهك، وتلا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .. } الآية قلت- المحرر- وما المراد من الزينة؟ قال: الزينة هي الوحه إذ الوجه هو مناط جمال المرأة". فظاهر من مساق تلاوة الاستاذ للآية ان يستشهد بها على وجوب ستر الوجه. وظاهر من السؤال انه عن المراد بلفظ الزينة من:

_ (1) 33/ 59 الأحزاب. (2) 24/ 31 النور.

{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وظاهر من الجواب أنه فسر الزينة بالوجه في قوله: {زِينَتَهُنَّ}. ولو ذهبنا على هذا الرأي في الاستشهاد والجواب لكان تقدير الآية هكذا، ولا يبدين وجوههن الا ما ظهر من وجوههن. وهذا لا قائل به وتكاد لا تكون فائدة لمعناه. والصواب: أن الذي فسر بالوجه والكفين-لا بالوجه فقط- هو لفظة "ما" في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وهي واقعة على الزينة الظاهرة. إذ الزينة منها باطن كالسوار للذراع والدملج للعضد والقُرط للأذن والقلادة للنحر والخلخال للساق، ومنها ظاهر كالكحل للعين والخاتم للأصبع. والزينة هي هاته الأشياء المتزين بها ونحوها. فتعلق بها هذا الخطاب باعتبار محالها فالمقصود محالها بدليل انها إذا لم تكن في محالها لا يتعلق بها هذا الخطاب وقد جاء تفسير الزينة الظاهرة عن السلف مرة بالوجه والكف ومرة بالكحل والخاتم، والثاني راجع للأول لأن الوجه محل الكحل والكف محل الخاتم، فالثاني فسر على حقيقة اللفظ والأول على المراد. ولما قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} عمَّ اللفظ الباطنة والظاهرة. ولما قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} خص الظاهرة فجاز ابداؤها وبقيت الباطنة على المنع. وأفادت الآية منع كشف العنق والصدر والساق والذراع وجميع الباطن، وأباحت كشف الظاهر، وهو الوجه والكفان، إذ هما ليس بعورة من المرأة بإجماع. فبان بهذا بطلان تفسير الأستاذ الزينة من {زِينَتَهُنَّ} الوجه، وبطلان استدلاله بالآية على وجوب ستره، إذ هي بالعكس دالة على جواز ابدائه بحكم الاستثناء الصريح.

ونرى أن نزيد المقام تقريراً وتوضيحاً بما ننقله عن إمامين كبيرين في الحديث والفتوى: الإمام الجصاص الحنفي والقاضي عياض المالكي. ثم عن إمام دار الهجرة. قال الجصاص: - وهو يريد {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} -. "وقال أصحابنا: المراد الوجه والكفان، لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف، فإذ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين. ويدل على أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة أيضا أنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين، فلو كانا عورة لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة. وإذا كان كذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة". وقال عياض " في هذا كله- وهو يعني حديث نظر الفجأة- عند العلماء حجة انه ليس بواجب ان تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب وسنة لها. وعلى الرجل غض بصره عنها إلى ان قال: ولا خلاف ان فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ من الاكمال بنقل المواق. ونقل صدره النووي وأقره. وفي الموطأ: (سئل مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟ فقال: ليس بذلك بأس، إذا كان على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال. قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يواكله أو مع أخيها على مثل ذلك). فمالك يرى جواز مواكلة المرأة للأجنبي إذا لم تكن في خلوة معه، بأن كان ذلك بحضرة زوجها أو أخيها مثلا. وهي تقتضي ابداء وجهها وكفيها للأجنبي إذ ذلك لازم عند المواكلة كما قاله الباجي وأقره. فهذه النقول كلها مفيدة لما دلت عليه الآية من أن الوجه والكفين

ليسا بعورة وأنه لا يجب على المرأة سترهما. نعم نصَّ أكثر الفقهاء المتأخرين مع جميع المذاهب على أن المرأة يجب عليها ستر وجهها إذا خشيت منها الفتنة، وهذا حكم عارض معلل بهذه العلة، فيدور معها وجودا وعدما. ولذا لنا كانا نتحقق الفساد بسفور نساء المدن والقرى - وحالتنا هي حالتنا- لا نرى لهن جواز السفور ما دامت هاته الحال، ونعرف نساء جهات في بادية قطرنا لا يسترن وجوههن وليس بهن فساد ولم تقع بهن من فتنة، فلما سئلنا عن سفورهن اجبنا بتركهن على حالهن أخذاً بأصل الجواز. إننا بما كتبنا أردنا اعتراض عبارة الأستاذ وبيان الحكم الأصلي لستر الوجه والكفين والحكم العارض، وتد بينا ذلك حسب المستطاع. وبقي الكلام على آية الإدناء التي ربما تظن معارضتها لآية الابداء المتقدمة وسنتكلم عليها في العدد الآتي إن شاء الله. -2 - نعيد اليوم- وقد عدنا إلى تمام هذا الوضوع- ما كنا صرحنا به في القسم الأول من قولنا: " ... فهذه النقول كلها مفيدة لما دلت عليه الآية من أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وأنه لا يجب على المرأة سترهما. نعم نص أكثر الفقهاء المتأخرين مع جميع المذاهب على أن المرأة يجب عليها ستر وجهها إذا خشيت منها الفتنة، وهذا حكم عارض معلَّل بهذه العلة فيدور معها وجوداً وعدماً. ولذا لما كنا نتحقق الفساد بسفور نساء المدن والقرى- وحالتنا هي حالتنا- لا نرى لهن جواز السفور ما دامت هاته الحال. ونعرف نساء جهات في بادية قطرنا لا يسترن وجوههن وليس بهن فساد ولم تقع بهن من فتنة فلما سئلنا عن سفورهن اجبنا بتركهن على حالهن أخذاً بأصل الجواز". نعيد هذا ليتقرر مما نريده عند قارئنا بجلاء تام.

المبحث الأول: في معنى الإدناء والجلابيب:

قد فرغنا في القسم الأول من الكلام على آية الإبداء وهي آية قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ونريد أن نتكلم في هذا القسم على آية الإدناء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وفي هذه الآية تفسيران أخذ الاستاذ بأحدهما وهو مرجوح في نظرنا بما نقيمه من الأدلَّة على مرجوحيته، وسنتكلم على الآية في ثلاثة مباحث. المبحث الأول: في معنى الإدناء والجلابيب: الإدناء من الدنو وهو القرب، فالإدناء التقريب، فيدنين عليهن من جلابيبهن بمعنى يقرِّبن عليهن، وأصل فعل دنا أن يتعدلى بمن، تقول: دنوت منه وأدنيته منه، وإنما يتعدى بعلى إذا كان في الكلام معنى الارخاء أو الضم كما في قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} (1) وكما في: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ}. والجلباب- على اختلاف عبارات اللغويين في تفسيره- هو الثوب الأعلى الذي تجعله المرأة فوق رأسها وترسله على بدنها كالملحفة ونحوها. و"من" للتبعيض لأن الذي تدنيه عليها من ناحية وجهها. إنما هو بعض جلبابها. فأفادت الآية طلب تقريب المرأة بعض جلبابها وإرخائها وضمه عليها

_ (1) 76/ 14 الدهر.

المبحث الثاني: في اختلاف المفسرين من السلف:

من ناحية وجهها. وهذا محتمل لأن يكون بتغطية جميع الوجه وبتغطية بعضه. واختلاف المفسرين من السلف في معنى الآية دليل على وجود هذا الاحتمال. وما نقله الاستاذ بالمعنى من تفسير الزمخشري هو أحد الوجهين المحتملين وأجود ما نقل عن أئمة العربية في تفسير الآية قول الكسائي: "يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن" قال الزمخشري: "أراد بالانضماه معنى ادناء" والتقنع لا يقتضي ستر الوجه كله. المبحث الثاني: في اختلاف المفسرين من السلف: في الآية قولان لهم نقلهما ابن جرير في تفسيره الشهير. الأول - هو أن يغطين وجوههن ورؤسهن فلا يبدين منهن إلاَّ عيناً واحدة. وهذا قول عبيدة وقول ابن عباس من طريق أبي صالح. الثاني- أُمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن، وهو قول قتادة وقول ابن عباس من طريق محمد بن سعد. المبحث الثالث: في الترجيح: قد مضت آية الابداء مفيدة جواز إبداء الوجه والكفين على مقتضى ما تقدم من البيان، وجاءت بعدها هذه آية الادناء محتملة لطلب ستر الوجه كله كما في القول الأول. وتكون عليه معارضته لآية الابداء المتقدة. تلك تبيح كشف الوجه وهذه تُحْظره، ومحتملة لطلب الارخاء والضم لبعض الجلباب على بعض الوجه وهو الجبين كما في القول الثاني ولا تكون حينئذ معارضة لآية الابداء.

وحملها على ما لا تكون به معارضة بين الآيتين- وهو الوجه الثاني- أرجح وأولى إن لم يكن متعينا. ثم ان قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} يفيد أن علة طلب الادناء هي تمييزهن عن الاماء اللاتي كن يمشين حاسرات أو بقناع مفرد فيتعرضن لهن أهل الشطارة والسفهاء. وفي الادناء على الوجه الثاني في الآية تحصيل لهذا المقصود من التمييز، فحملها عليه مناسب للعلة وسالم من المعارضة فهو المختار. وبهذا التقرير تكون كل آية مفيدة معنى غير الذي أفادته الأخرى، فآية الابداء أفادت طلب ستر الأعضاء إلا الوجه والكفين، وآية الادناء أفادت طلب الستر الأعلى الذي يحيط بالثياب ويعم الرأس وما والاه من الوجه وهو الجبين وينضم على البدن، ليحصل به تمييز الحرائر بالمبالغة في التستر والاحتشام. وهذا هو المناسب لجوامع كلم القرآن والله أعلم (1).

_ (1) ج 3، م 5، ص 19 - 21 غرة ذي القعدة 1347هـ - أفريل 1929.

كلمة المحتفل به

كَلِمَةُ الْمُحْتَفَلِ بِهِ ختم الاستاذ عبد الحميد بن باديس حفلة تكريمه بكمة بليغة شكر بها الوفود الحاضرة، وعاد بهم إلى الماضي فوزع معاني التمجيد والتكريم التي تجلت عنها الحفلة- على الأصول التي كونته. فكانت كلمته درسا في التواضع وعرفان الجميل عرف منه الحاضرون ناحية نفسية من أخلاق الأستاذ المحتفل به. وقد حافظنا ما استطعنا على معاني تلك الكلمة إذ فاتنا أن ننقل ألفاظها، قال حفظه الله (1): ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الإخوان: أنتم ضيوف القرآن. وهذا اليوم يوم القرآن. وما أنا إلا خادم القرآن. فاجتماعكم على تنائي الديار وتباعد الأقطار هو في نفسه تنويه بفضل القرآن ودعوة جهيرة إلى القرآن في وقت نحن أحوج ما نكون إلى دعوة المسلمين إلى قرآنهم. فهل علمتم أنكم باحتفالكم هذا قمتم بواجبات أهونها ما سميتموه احتفالا بشخصي. إن أقوال خطبائكم وشعرائكم كلها في الحقيقة اشادة بيوم القرآن ووفود القرآن وكل ما لي من فضل في هذا فهو أنني كنت السبب فيه. أيها الإخوان. أنا رجل أشعر بكل ما له أثر في حياتي. وبكل من له يد في

_ (1) كلمة ألقاها الأستاذ الإمام ابن باديس بمناسبة الاحتفال بختم القرآن.

[صورة] الشيخ عبد الحميد يلقي كلمة شكر للمحتفين به بمناسبة ختم القرآن ---------- [صورة] تمثل تقديم الهدايا لفضيلة الأستاذ عبد الحميد بمناسبة الاحتفال بختم القرآن

تكويني. وان الانصاف الذي هو خير ما ربى عليه امرؤ نفسه- ليدعوني أن أذكر في هذا الموقف التاريخي العظيم بالتمجيد والتكريم كل العناصر التي كان لها الأثر في تكويني حتى تأخذ حظها مستوفى من كل ما أفرغتم على شخصي الضعيف من ثناء ومدح بالقول والفعل. فإني أشهد الله أنكم بالغتم في التحفي بي والتنويه بأعمالي، وأشهد أن هذا التحفي عسير عليَّ جزاؤه ثقيل علي حمله، فلعلي إذا ذكرت هذه العناصر ووفيتها حقها من الاعتراف لها بالفضل توزعت حصصها من التنويه وتقاضت حقوقها من الثناء الذي أثقلتم به كاهلي. فأكون بذلك قد أرضيت ضميري وخففت عن نفسي. إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربَّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة. ورضي لي العلم طريقة اتبعها ومشربا أرده وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم وراشني وحماني من المكاره صغيرا وكبيرا. وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر. ولأكل ما عجزت عنه من ذلك لله الذي لا يضيع جزاء العاملين. ثم لمشائخي الذي علموني العلم وخطوا لي مناهج العمل في الحياة ولم يبخسوا استعدادي حقه، وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العملية، وهما من مشائخي اللذان تجاوزا بي حد التعليم المعهود من أمثالهما لأمثالي- إلى التربية والتثقيف والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة. أحد الرجلين الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور رحمهما الله. وإني لأذكر للأول وصية أوصاني بها وعهداً عهد بي إليَّ وأذكر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله فأجدني مدينا لهذا الرجل بمنة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدَّد عليَّ أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت ولا أتخذ علمي مطية لها كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت.

صورة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله أخذت له بمناسبة الاحتفال بختم القرآن.

وأذكر للثاني كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية وذلك انني كنت متبرماً بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله. فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح. فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد له بها. ثم لأخواني العلماء الأفاضل الذين وازوني في العمل من فجر النهضة إلى الآن، فمن حظ الجزائر السعيد ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار أنه لم يجتمع في بلدٍ من بلدان الإسلام فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء وافرة الحظ من العلم مؤتلفة القصد والاتجاه مخلصة النية متينة العزائم متحابة في الحق مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية قد ألف بينها العلم والعمل- مثل ما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار فهؤلاء هم الذين ورى بهم زنادي وتأثل بطارفهم تلادي، أطال الله أعمارهم ورفع أقدارهم، ثم لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير المنطوية على أصول الكمال ذات النسب العريق في الفضائل والحسب الطويل العريض في المحامد. هذه الأمة التي ما عملت يوما- علم الله- لارضائها لذاتها. وإنما عملت وما أزال اعمل لارضاء الله بخدْمة دينها ولغتها ولكن الله سددها في الفهم وأرشدها إلى صواب الرأي فتبينت قصدي على وجهه وأعمالي على حقيقتها فأعانت ونشطت بأقوالها وأموالها وبفلذات

صورة أخذنت بمناسبة ختم القرآن في قاعة كلية الشعب يقسنطينة يوم الإثنين 14 ربيع الثاني 1357هـ - 1938م.

كلمة الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس

أكبادها. فكان لها بذلك كله من الفضل في تكويني العملي أضعاف ما كان لتلك العناصر في تكويني العلمي. ثم الفضل أولاً وأخيرً لله ولكتابه الذي هدانا لفهمه والتفقه في أسراره والتأدب بآدابه. وان القرآن الذي كوَّن رجال السلف لا يكثر عليه أن يكوِّن رجالاً في الخلف لو احسن فهمه وتدبره وحملت الأنفس على منهاجه. أيها الاخوان. إذا لم يكن لي في حياتي العلمية من لافت للقرآن إلا تلك الكلمة التي سمعتها من الشيخ النخلي، وقد فعلت فعلها في نفسي وأوصلتني في فهمي إلى الدرجة التي تحمدونها اليوم فإننا- والحمد لله- نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم وغايتنا التي ستتحقق أن يكوِّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها. وان أعز ما وصلنا إليه هو تبين الغاية وتلاقي الجهود وفقنا الله واياكم للأعمال الصالحة ورزقنا الإخلاص فيها والثبات عليها إنه سميع مجيب (1). كلمة الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس (2) أيها الاخوان: الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة وايمان وجمال،

_ (1) ش: ج4، م14، ص 288 - 291 غرة جمادى الثانية وربيع الثاني 1357 - جوان وجويلية 1938 (2) كلمات قالها بمناسبة احتفال ختم تفسير القرآن أيضا.

أخذت هذه الصورة بمناسبة الاحتفال بختم الشيخ عبد الحميد لتفسير القرآن يوم الأحد 12 ربيع الثاني 1357هـ - 1938م في الجامع الأخضر بقسنطينة، وقد وقع الاحتفال في كلية الشعب.

والعلم يمثل القوة، والفن يمثل الجمال وبهذا تحتفل بكم- ياضيوف القرآن- جمعيات قسنطينة الحيوية التي تمثل القوة والايمان والجمالى. أيها الاخوان: إذا كنت استمد القوة والحياة فإنما استمدهما ممن أولوني شرف الثقة والإخلاص لديني ولأمتي وأخص منهم الأسود الكبار، وهم إخواني الأقوياء من رجال العلم الذين اجدني مهما وقفت موقفا إلا وجدتهم معي كالأسود. وأما الاشبال الصغار فهؤلاء الأبناء الذين تشاهدونهم يحتفلون بكم الليلة. ولقد جاءت قسنطينة تحييكم بكبارها وصغارها. فذكراكم يا ضيوف القرآن خالدة وهي منقوشة في قلبي لا تفنى ولا تنمحي. انني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما، وأنها لواجبات ... وإنِّي سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم. وأطلب منكم شيئا واحداً وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن. انا زارع محبة، ولكن على أساس من العدل والانصاف والاحترام مع كل أحد من أي جنس كان ومن أي دين كان، من كل جنس من كل دين. فاعملوا للأخوة ولكن مع كل من يعمل للأخوة فبذلك تكون الأخوة صادقة (1).

_ (1) ش: ج 7، م 15، ص 346 غرة رجب 1358هـ - أوت 1939م.

قسم الحديث

آثار ابن باديس قسم الحديث

الفن الأدبي في الحديث النبوي

الْفَنُّ الْأَدَبِيُّ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ. كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ وكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ فَحَدَا الحَادِي، وَكَانَ يَحْدُو بِهِنَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ». رواه البخاري في باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه وفي باب المعاريض وغيرهما من طريق أبي قلابة وثابت البناني وقتادة ثلاثتهم عن أنس - رضي الله تعالى عنهم- وسقناه من مجموع ألفاظهم. ــــــــــــــــــــــــــــــ الأشخاص: انجشة غلام حبشي كان يحدو في السفر بالنساء كما كان البراء بن مالك يحدو بالرجال. أبو قلابة: إمام شهير من فقهاء التابعين نزل الشام ومات بها. المفردات: الحدو والحَداء: سوق الابل والغناء لها لتنشط وتسرع في السير. ويح: كلمة تقال لمن وقع في بلية أو توقعت له رحمة له، بخلاف ويل فإنها تقال لمن وقع في عذاب أو توقع له وهو يستحقه ولا يرحم فيه. وانجشة: هنا شارف أن يقع في بلية كسر القوارير فخوطب خطاب رحمة من الوقوع في ذلك. رويدك: مصدر مصغر

التراكيب

بمعنى امهال القوارير، جمع قارورة، وهي الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. القوارير: النساء. التراكيب: ويحك: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف لم يستعمل، وتقدير الكلام: هلكت هلاكك الذي تستحق عليه الرحمة. رويدك مثله وتقديره أمهل امهالك. ونصب سوقك على التوسع بإسقاط الخافض أي في سوقك، ولما كان يدعوه إلى الرفق اقتضى الحال أن يعبر عن المطلوب الرفق به، وهن النساء بالقوارير على طريق الاستعارة التصريحية حيث شبهن بها بجامع الرقة واللطف والضعف، وحذف لفظ المشبه وذكر لفظ الشبه به. فكانت اللفظة المجازية بالغة غاية البيان عن حالة النساء وكان التركيب بها بالغا غاية البلاغة باشتماله على ما اقتضاه حال الدعاء إلى الرفق مما صورهن بصورة تدعو إلى الرفق وتستوجبه. المعنى: لما غنى انشجة للإبل وعلى ظهورها النساء نشطت واعنقت في السير فاتعبتهن فأشفق النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهن فأمر انجشة بالرفق بهن لأنهن ضعيفات عن تحمل شدة الاضطراب فوق ظهور الإبل المسرعة. الفن: إدراك صفات الشيء على ما هي عليه من حسن وقبح إدراكا صحيحا، والشعور بها كذلك شعورا صادقا والتصوير لها تصويرا مطابقا، بالتعبير عنها بعبارات بليغة في الإبانة والمطابقة للحال ذلك هو الفن الأدبي، والنفوس تميل إلى الحسن وتنشرح له وتنفر من

الرد على المتشددين

القبيح وتنقبض عنه، ولذا كان أكثر الفن الأدبي في تصوير الحسن وعرضه على الناس ليشاركوا الفنان في إدراك ذلك الحسن والشعور به والتذوق للذة ذلك الإدراك والشعور. وفي ذلك تربية لملكة الذوق الحسن في النفوس. وان النفوس لفي أشد الحاجة إلى تلك الملكة لتنعم بصور هذا الكون العظيم وما فيها من حسن فتقاوم بذلك ما تعانيه من متاعب الحياة وأوصابها وتدفع بلذة ذلك الشعور بالحسن ما تجده من آلامها، وإذا رجعت إلى القرآن العظيم فإنك تجد العدد العديد من آياته الكريمة يعرض علينا أنواعا من مخلوفات الله تعالى في صورها الحسنة الجذابة واقرأ في ذلك- مثلا- سورة الرحمن فإنك واجد ما قلناه. وكذلك في الأحاديث النبوية عدد كثير من مثل ذلك، ومنها هذا الحديث الشريف الذي بين أيدينا، فقد صور النساء في صورة حسنة جذابة بما في القوارير من بياض ولمعان ودقة ولطف مع التصوير لحقيقة حالهن في الضعف الخلقي وفي الضعف القلبي وسرعة انكسار قلوبهن وعسر انجبارها، فكانت هذه العبارة آية من آيات الفن الأدبي، التي تدخل على النفوس بهجة وانشراحا وتثير فيها حاسة الذوق للحسن والجمال. وقد القى كعب بن زهير قصيدته المشهورة في حضرة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فوصف المرأة والماء الذي مزجت به الخمرة والناقة وصورها تصويرا فنيا ولم ينكر عليها (1) لأنه لم يكن يصف شخصا معينا يؤدي وصفه إلى اثارة الشهوة البهيمية نحوه وإنما كان يعرض صوراً من محاسن تلك الأشياء التي تلذ للنفوس البشرية صورها الجمالية وتنمي فيها قوة الشعور والذوق. الرد على المتشددين: علم أبو قلابة- رضي الله تعالى عنه- تشدداً وتنطعا مما كان

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: عليه.

فقه

حدثهم بهذا الحديث يحملانهم على الامتناع من الكلمات التي فيها بعض وصف النساء فرد عليهم بتكلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بهذا (1) الكلمة التي لو تكلم بها أحدهم لعابوها عليه وبين لهم أن لا عيب فيها وفي مثلها مما لا فحش في لفظه ولا قبح في معناه ولا غاية سوء من ذكره. فقه: في الحديث سماع النساء لصوت الحادي وفيه للعناية بهن في السفر والرفق بهن فيه. وفيه التنبيه على المحافظة على قلوبهن وعواطفهن ليدوم ودَّهن وسلامتهن، ويدوم الهناء معهن والاستمتاع بهن لأنهن ضعيفات القلوب رقيقات العواطف شديدات الاحسان (2) يصبرن على كل شيء من الرجل إلا على كسر قلوبهن ومس عواطفهن، فهذا الحديث الشريف من الأحاديث الكثيرة التي جاءت في الوصاية بالنساء والمحافظة عليهن ومراعاة جانبهن، ويمتاز هذا الحديث بما فيه من ذكر السبب الذي يوجب ذلك ويقتضيه، على أبين تصوير وأبلغه فليكن دائما على بالنا، في معاملتنا للنساء وحياتنا معهن والله المستعان (3).

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: بهذه. (2) كذا في الأصل والصواب: الاحساس. (3) ش: ج 2، م 8 ص 75 - 79 غرة شوال 1350 هـ- فيفري 1932 م.

الراعي الغاش لرعيته

الرَّاعِي الْغَاشُّ لِرَعِيَّتِهِ. ((عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ. إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)). (رواه مسلم) ــــــــــــــــــــــــــــــ الصحابي الجليل والأمير الظالم: معقل بن يسار (رضي الله عنه): أسلم قبل الحديبية وشهد بيعة الرضوان. سكن البصرة وبها مات في خلافة معاوية- رضي الله عنه- وحفر نهرا بالبصرة بأمر عمر- رضي الله عنه- وإليه ينسب، وفيه جاء المثل: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل). عبيد الله بن زياد: أبوه زياد بن سمية، ألحقه معاوية بأبي سفيان فنسب اليه. ولَّى (عبيدَ الله) معاويةُ البصرة وأقره عليها يزيد. وعبيد الله هذا هو الذي جهز الجيوش لقتال الحسين بن علي- رضي الله عنهما- وهو ألزمهم بقتاله- قتله الله- وقد قتله إبراههيم بن الأشعث بعد، وخبره مذكور ومعروف. ترك الموعظة خوف المفسدة: كان معقل بن يسار يرى من ظلم عبيد الله بن زياد وغشه للرعية

ما الراعي وما الرعية

ولم يستطع ان يواجهه بما في هذا الحديث من الموعظة خوف أن يبطش به فتثور من أجل قتله أو إذايته ثائرة بالبصرة تؤدي إلى سفك دماء المسلمين دون ان تكف ابن زياد عن ظلمه فاتقاء لهذا لم يواجهه بالموعظة حتى جاء عبيد الله لعيادته وقد علم معقل أنه في مرض موته فاغتنم الفرصة وجابهه بالموعظة لما خلصت للمصلحة وأمن المفسدة. ما الراعي وما الرعية: الرعاية: حفظ الشيء وتفقد أحواله واعطاؤه ما يحتاج اليه وصرفه عما يؤذيه وما لا فائدة له فيه ووقايته مما يعدو عليه، وكل من جعل الله تحت يده شيئا من مخلوقاته فقد استرعاه ذلك الشيء أي: جعله في رعايته وطالبه وكلفه بأن يرعاه، فصار مسؤولا عنه عند الله، وما من بالغ عافل ذكرا أو انثى إلا وقد جعل الله شيئا في رعايته ولو لم يكن من ذلك إلا نفسه وعقله وبدنه، وأعظم بهما من شيء تجب رعايته. وهذا معنى التعميم في الحديث. الواجب على الراعي في رعيته: يجب على كل راع- بالتعميم المتقدم المستفاد من الحديث السابق- أن ينصح لما استرعاه الله من رعية في القول والعمل وان لا يدخر شيئا من جهده في حفظه وتفقد أحواله، واعطائه ما يحتاج اليه، وصرفه عما يؤذيه وما لا فائدة له فيه، ووقايته من كل ما يعدو عليه، وان يستصفي له من الآراء والأعمال والأقوال أبلغ ما يقدر عليه، فإذا قصر في شيء من هذا فقد غش رعيته بما يدخله عليها من الضرر في ولايته عليها وارتكب بذلك الكبيرة التي توعد عليها بالنار. توجيه: لما كانت أعظم الرعايات رعاية أمر العامة بالامرة والولاية حدَّث

الوعيد- معناه وشرطه وعمومه

معقل بن يسار بهذا الحديث عبيد الله بن زياد لأنه كان أميرا لمصر عظيم، فيكون من أول من يشمله عموم لفظ: (ما من أحد). وهذا هو وجه تخريج مسلم لهذا الحديث في كتاب الامارة. واما اللفط فهو على عمومه. الوعيد- معناه وشرطه وعمومه: توعد الله على لسان نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- الراعي الغاش بتحريم الجنة عليه. والتحريم هو المنع ويكون موقتا موقوتا ويكون مؤبدا، فإن مات الغاش مستحلا للغش أو عوقب على اصراره بسوء الخاتمة- عياذا بالله- فتحريمها عليه مؤبد، وان مات مسلما مصرا فتحريمها عليه كل وقت، يدخل النار بغشه ثم يخرج منها بما في قلبه من ايمان {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. وهذا المعنى- على تفصيله- عام بحسب صريح لفظه لكل راع غاش واقتضى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: «يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته» أن هذا الوعيد فيمن مات مصراً ولم يتب، فأما من تاب ولم يمت يوم مات على غشه فليس داخلا في هذا الوعيد. نعم ينجو التائب من غقوبة الغش بتوبته ولكنه تبقى عليه تبعات العباد وما ألحق بهم من ضرر وهي حقوق أخرى جنى عليها زيادة على أصل الغش. فلهما عقوباتها والقصاص عليها. تطبيق: كل من تولى أمراً من أمور الأمة فهو من رعاتها المسؤولين عنها المتوعدين بهذا الوعيد الشديد إذا غشوها على أي وجه كانت تلك الولاية من الوجوه التي تختلف باختلاف الأمم وأوضاعها ومما هو من أعظم الولاية على الأمة اليوم بحسب وضعها، النيابة عنها والتكلم بلسانها من أدنى درجات تلك النيابة إلى أعلاها. فليعلم هذا من

يتقدم لهذه الولاية وليراقب الله فيها، كما على كل راع أن يعلم هذا الوعيد ويحذر ان يقتحمه. نسأل الله لنا وللمسلمين أن يوفقنا إلى القيام بأحسن الرعاية في كل ما استرعانا من أنفسنا وغير أنفسنا (1).

_ (1) ش: ج 4، م 11، ص 204 - 206 ربيع الثاني 1354 هـ - جويليه 1935 م.

إتحاد المؤمنين وتعاونهم

إِتِّحَادُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاوُنِهِمْ. «الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري، ومسلم عنه أيضا إلى قوله بعضا. ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: المؤمن، (ال) في اللفظين جنسية استغراقية، فالمراد جميع الأفراد. (للمؤمن): اللام لام الاختصاص. و (يشد): يقوي بعضه بعضا بالتضام والالتحام. (شبك): أدخل أصابع اليمنى بين أصابع اليسرى وأصابع اليسرى بين أصابع اليمنى. التراكيب: الجملة الأولى خبرية لفظا طلبية معنى، أي ليكن المؤمن للمؤمن كالبنيان، وجيء بالطلب على صورة الخبر تنبيها على أن هذا المطلوب هوالشأن الذي لا ينبغي أن يكون سواه، فهو بحيث يخبر عنه لا أن يطلب. والجملة الثانية استئنافية لبيان وجه التشبيه. المعنى: الواجب على كل فرد من أفراد المؤمنين أن يكون لكل فرد من أفراد المؤمنين كالبنيان في التضام والالتحام، حتى يكون منهم جسد واحد كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

زيادة بيان

زيادة بيان: لقد قرر الحديث الشريف معنى الاتحاد الذي يجب أن يكون بين جميع أفراد المؤمنين على أكمل وجه في التصوير وأبلغه في التأثير، فقد شبههم بالبنيان وذلك وحده كاف في افادة الاتحاد، وزاد عليه التصريح بالشد والتقوية ليبين أن في ذلك الاتحاد القوة للجميع تأكيدا للزوم الاتحاد بذكر فائدته، ثم زاد عليه التصوير بالمحسوس لما شبك صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه، هذا كله ليبين للمؤمنين لزوم الاتحاد وضرورته. تبصر: ألا ترى البنيان كيف يتركب من الحجارة الكبيرة والحجارة الصغيرة والمواد الأخرى التي تلحم بها الحجارة وتكسى، وكل ذلك محتاج اليه في تشييد البنيان، فكذلك بنيان المؤمنين فإنه متكون من جميع أفرادهم على اختلاف طبقاتهم، فالكبير والجليل له مكانه، والصغير والحقير له مكانه، وعلى كل حال أن يسد الثغرة التي من ناحيته مع شعوره بارتباطه مع غيره من جميع أجزاء البنيان التي لا غناء لها عنه كما لا غناء له عن كل واحد منها، فكل واحد من المؤمنين عليه تبعته بمقدار المركز الذي هو فيه والقدرة التي عنده، ولا يجوز لأحد وان كان أحقر حقير أن يخل بواجبه من ناحيته، فإنه إذا أزيل حجر صغير من بنيان كبير دخل فيه الخلل بمقدار ما أزيل، وإذا ابتدأ الخلل من الصغير تطرق للكبير. ثم ألا ترى أصابعك وفيها القوي وفيها الضعيف حتى إذا شبكتها صارت كشيء واحد له قوة ومتانة زائدة، وكل أصبع منها يمكن أن يلوى ما دام وحده، فإذا شبكتها عسر ليها وقوي أمرها، فكذلك المؤمنين باتحادهم- وفيهم القوي وفيهم الضعيف- تكون لهم قوة عامة زائدة، وكل واحد منهم بمفرده يمكن قهره، فأما إذا اتحدوا فإنهم يكونون بقوة اتحادهم في مأمن من كل قهر.

تفقه

تفقه: لما قال صلى الله عليه وآله وسلم (المؤمن للمؤمن .. الخ) علق الحكم على الوصف فاقتضى ذلك أن هذا هو واجب كل مؤمن من حيث انه مؤمن مع كل مؤمن من حيث انه مؤمن، فيجب لهذا أن تطرح في مقام الاتحاد والتعاون جميع المفرقات من المذاهب والمشارب وينظر إلى وصف الايمان فقط، فهذه المذاهب وهذه المشارب أهلها كلهم أهل ايمان لا يدفع بعضهم بعضا عن ذلك، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أمرهم بالاتحاد والتعاون باعتبار الوصف الأصلي الذين هم مشتركون فيه ليكون الاتحاد والتعاون في مكنتهم دون التفات إلى ما أحدثوه من مفرقاتهم. فمن تعامى عن وصف الايمان الموجب للاتحاد ونظر إلى مذهب أو مشرب من موجبات الافتراق فقد عصى أبا القاسم- صلى الله عليه وآله وسلم- وحاد الله ورسوله وأعرض عن دعوة الحق وأجاب داعي الشيطان. سلوك: علينا أن نعتقد بقلوبنا أن الاتحاد واجب أكيد محتم علينا مع جميع المؤمنين، وأن فيه قوتنا وحياتنا وفي تركه ضعفنا وموتنا. وأن نعلن ذلك بألسنتنا في كل مناسبة من أحاديثنا. وأن نعمل على تحقيق ذلك بالفعل باتحادنا وتعاوننا مع إخواننا في كل ما يقتضيه وصف الايمان الجامع العام والله المستعان وعليه التكلان (1).

_ (1) ش: ج 7، م 7، ص 429 - 431 ربيع الأول 1350هـ - جويلية 1931م.

دعوى الجاهلية أو الكلمة المنتنة

دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْكَلِمَةُ الْمُنْتِنَةُ. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» السند رواه الشيخان وغيرهما. ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: كسعه: ضرب دبره بيده أو صدر قدمه. رجل ... رجلا: كان الرجلان من الموالي. يا للانصار، يا للمهاجرين: استغاثة من كل بقومه ومواليه لينصروه على الآخر. دعوى الجاهلية: الدعاء الذي كان يدعو به أهل الجاهلية بنعرة العصيبة لاثارة الحمية، يدعو الرجل قومه لينصروه ولو على الباطل. دعوها: اتركوها. منتنة: مكروهة في العقل والدين ككراهة الشيء النتن في الشم ومفرقة للجمع كما يفرق النتن المجتمعين. المعنى: كان الرجل في الجاهلية- إذا نزل له أمر- استنصر بقبيلته وتعضد بهم ودعاهم إلى معونته ونصرته، بما بينه وبينهم من عصبية قبلية فتثور حميتهم فيندفعون إلى مؤازرته فيؤيدونه ظالما أو مظلوما، فإذا كان ظالما زادوا في ظلمه وإذا كان مظلوما لم ينتهوا عند حد في الانتقام له من ظالمه، فلما جاء الإسلام أبطل الانتصار بالعصبية،

الدعويان وأثرهما

والتعضد على الانتقام بالقبيلة. وجعل الحكم بالقضاء الشرعي والتوصل إليه بالبينات والحكام. فلو أن ذلك المكسوع كان ممن تأدب بالإسلام وتغلغلت روح الإسلام في قلبه لكان دعا بدعوى الإسلام فقال: يامسلمون قد ضربني هذا. وأقام عليه البينة وساقه إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليقتص له منه، ولما لم يكن كذلك وكانت الروح الجاهلية لا تزال منها عقابيل في صدره دعا بدعوى الجاهلية، وكان صاحبه مثله فقابله بمثلها، فلما سمع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منهما سأل عن السبب الذي أثار تلك الدعوى فلما عرَّفوه بسببها نهى عنها وحذر منها فأبرزها في أقوى صورة تنفر منها ابرازا للمعقول في صورة المحسوس لأنه أبلغ فى التأثير على السامع فوصفها بأنها منتنة. الدعويان وأثرهما: دعوى الجاهلية- يا بني عمي، أو يا قومي، أو يا أهل بلدي، أو يا أهل وطني- انتقموا لي. فإذا دعا بها وقعت التفرقة بين عشيرة وعشيرة أو بين قوم وقوم، أو بين بلد وبلد، أو بين وطن ووطن، وأثارت الحمية في كل واحدة من الناحيتين على الأخرى ودفعت إلى الإسر اف والتعدي فأوسعت الظلم والشر وأبقث الإحن والأحقاد والتّرات مما يسترسل معه الظلم والفساد في المستقبل. أما دعوى الإسلام فهي: يا عباد الله، أو يا مسلمون، إني ظُلمت فأنقذوني اشهدوا لي. فإذا دعا بها كانت جامعة لا تفريق فيها، وأهابت بالسامعين كلهم كذاتٍ واحدَةٍ كلهم ينصرون الحق فيكفوا الظلم إن كان واقعا على المظلوم في الحال ويشهدون بالظلم عند الحاكم ليجري العدل مجراه. فأين تلك الآثار من هذه الآثار؟ ولقد ظهرت آثار الأولى في الأمة العربية في جاهليتها، وظهرت الثانية فيها بعد إسلامها فأرى الله العباد- عيانا

تفرقة وتمييز

جهرة- اختلاف الأثرين في أمة واحدة في زمن قريب وأقام عليهم حجته. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. تفرقة وتمييز: كل من سعى إلى تحصيل شيء مستعينا بذوي عصبية له لنسبة جنس أو قبيلة أو بلد أو حرفة أو فكرة غير ناظر إلى أنه على حق أو على باطل، فقد دعا دعوى الجاهلية، وكل من أجابه فقد شاركه في دعواه. أما من عرف الحق وتيقن من نفسه الصدق في طلبه واستعان على تحصيله بمن تربطهم به روابط خاصة ولا يأبى أن يعينه عليه من لم يكن من جماعته، لأن قصده إلى تحصيل الحق بإعانة أي كان، فهذا لا يكون دعا دعوى الجاهلية بل دعا دعوى إسلامية لأنها لم تخرج عن التعاون على الحق وهو من التعاون على البر والتقوى. استدلال: ثبت في صحيح مسلم في غزوة حنين أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أبا عباس ناد أصحاب السمُرة) فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة؟ وكانت الدعوة: يا معشر الانصار يا معشر الانصار ثم قُصِرَت على بني الحرث بن الخزرج فصارت يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخنررج. فكانت الدعوة- في ذلك اليوم الشديد- لمن جمعتهم بيعة الرضوان، وهم أهل السمرة ثم لمن جمعهم اسم الانصار ثم لمن جمعهم اسم أب. وكان ذلك كله حقا لأنه دعوة إلى الحق. تحذير وإرشاد: ليحذر المسلم من كل كلمة مفرقة من كل ما يثير عصبية للباطل وحمية جاهلية، يدعو بها ولا يجيب من دعا إليها .. فإن بلاء كثيراً حل بنا وفتنة كثيرة أصابتنا من تلك الكلمات المفرقة.

ولتكن دعوته- إذا دعا- بالكلمات الجامعة التي تشعر بالأخوة العامة وتبعث على القيام بالواجب بأيد متشابكة وقلوب متحدة. حتى إذا دعا جماعة خاصة يعلم منه نفعا خاصا في مكان خاص، فليكن بما يفهمهم أنه إلى الحق دعاهم وعلى القيام به استعان بهم دون إباية من انضمام كل من ينضم إليهم، فإنه ما توجه قوم إلى نصرة الله- ورضا الله قصدهم- إلا كان الله معهم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1).

_ (1) ش: ج 2، م 13، ص 77 - 80 صفر 1356هـ- افريل 1937م.

تكثير السواد .. !

تَكْثِيرُ السَّوَادِ .. ! ((مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، قَالَ: ((قُطِعَ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ)). ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ المُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} رواه البخاري في كتاب الفتن. ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: سواد القوم: أشخاصهم. قطع عليهم: بعث، فرض عليهم جيش يبعث للقتال. اكتتبت: كتب اسمه في جملة الجيش. المعنى: كان عبد الله بن الزبير قائما بمكة، وكان عبد الملك بن مروان، بالشام، والفتنة مشتعلة بين المسلمين، بسبب النزاع ما بينهما. فكان عبد الله بن الزبير يبعث البعوث من الحجاز إلى قتال عبد الملك بالشام ففرض على أهل المدينة جيشا، فكتب فيه أبو الأسود محمد ابن عبد الرحمن الأسدي اسمه ليكون من جملته. ثم لقي عكرمة مولى ابن عباس، فذكر ذلك له، فنهاه عكرمة عن أن يكون (1) في

_ (1) في الأصل: أيكون.

المطابقة

ذلك الجيش، وأخبره عن ابن عباس، بما كان من سبب نزول قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وهو أن قوما من المسلمين كان المشركون يخرجون معهم لا ليقاتلوا المسلمين، وإنما ليكثروا سواد المشركين، ويظهروا عظيم جيشهم، وكثرة عددهم في أعين المسلمين. فكانوا يقتلون بما يصيبهم من رمي السهام وضرب السيوف، فواخذهم الله لمجرد تكثيرهم سواد المشركين، وإن لم يشاركوهم في القتال، ولا حضروه طائعين، وانزل الآية الكريمة فيهم. المطابقة: ذكر عكرمة هذا لأبي الأسود لأنه أفاد حكم الله فيمن كثر سواد المقاتلين للمسلمين دون أن يقاتل، أو يكون راضيا أو طائعا بالحضور. فكيف بمن اكتتب للقتال مثل أبي الأسود؟ ولا فرق في المؤاخذة في قتال المسلمين بين أن يكون مع المشركين، أو مع المسلمين في الفتنة. الأحكام: من حضر مع قوم وكثر جمعهم فهو منهم وشريك لهم في عملهم، سواء أكان خيراً أم شرا، كما يفيده الحديث الذي جعلناه ترجمة. وهو في مسند أبي يعلي. فأما في الشر فالنص فيه حديث ابن عباس هذا، وأما في الخير فحديث أبي هريرة في الصحيح، في القوم الذين يجتمعون فيسبحون الله ويكبرونه ويهللونه ويحمدونه ويسألونه، ويستجيرونه ويستخبرونه ويستغفرونه فيقول الله للملائكة عليهم السلام، قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، فتقول الملائكة: ربِّ، فيهم فلان عبد أخطأ، إنما مر فجلس معهم فيقول تعالى: «وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».

الاهتداء

الاهتداء: فحق على المسلم أن يختار من يصاحب من رفقة، أو يجالس من جماعة، أو يكثر من سواد قوم فإنه محاسب على أعماله، ومن أعماله مجرد حضور بدنه. جنبنا الله الفتن ودعاتها، والمظالم وأهلها، وكثر بنا سواد المؤمنين وحشرنا في زمرة الصالحين آمين (1).

_ (1) ش: ج 4، م 15، ص 166 - 168 غرة ربيع الثانى 1358هـ- ماي 1939م.

من رغب عن سنتي فليس مني

مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي السنة: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ». ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: رواه مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. ومسلم يحيى عن ابن يحيى عن مالك. المتن: روي بوجهين ثابتين: الأول فهو أهلكُهم برفع الكاف، اسم تفضيل، والثاني بفتح الكاف فعل ماض. الألفاظ: الهلاك: الاستحالة إلى الفساد وذهاب حالة الصحة والاستقامة التي تصدر عنها الفوائد، ويكون بها الاستعداد، يقال هلك زيد إذا مات، وهلك الطعام إذا تغير واستحال. فهلاك الناس فسادهم في أحوالهم بفساد عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك عنوان ذهابهم واضمحلالهم. وأهلكُهم على الوجه الأول أشدهم هلاكا، وعلى الوجه الثاني أوقعهم في الهلاك. المعنى على الوجه الأول: إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس، يعيبهم وينقصهم ويحقر من

وعلى الوجه الثاني

أمر جماعتهم، فقد صار بذلك أعظم هلاكا منهم لارتكابه معصية كبيرة تعدت إلى غيره وعمتهم، وهي معصية الكبر الذي هو احتقار المرء من عداه، فهذا قد تكبر على جميع الناس فكان عظم هلاكه على حسب عظم معصيته بهذا العموم في الكبر والاحتقار. وعلى الوجه الثاني: إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس يثبطهم ويقنطهم فهو بذلك التثبيط والتقنيط أيْأسهم من رحمة الله وصدهم عن الرجوع إليه وبالتوبة ودفعهم إلى الاستمرار فيما هم عليه، فأوقعهم بكلمته تلك في الهلاك، هلاك اليأس والقنوط والاندفاع في الشر. الأحكام: على الوجه الأول: لا يجوز الحكم على عموم الناس بالشر والفساد ولو كان ذلك ظاهراً بينهم فاشيا فيهم، لأنه حكم بدون علم، وظن سوء بمن قد يكون في غمار الناس على خلاف ما عليه أكثرهم. هذا إذا حكم حكما لمجرد الإخبار فأحرى وأولى إذا زاد على ذلك تحقيرهم. وعلى الوجه الثاني: لا يجوز لمن رآى الناس في حالة سيئة أن يقنطهم من رحمة الله وإمكان تدارك أمرهم واصلاح حالهم. هذا إذا كان يحمله على ذلك ما تعظمه من سوء حالهم في ظاهر أكثرهم وأحرى وأولى إذا كان يحمله على ذلك صدهم وتثبيطهم عن التوبة والأخذ بأسباب الإصلاح. توجيه: كان الحديث الشريف مفيدا لعدم الجواز لما ذكر، لأنه سيق مساق الذم لهذا القول ووصف قائله بأنه أعظم الناس هلاكا أو أوقع الناس في الهلاك وما أدى إلى أحد هذين لا يكون إلا ممنوعا.

تقييد وتعميم

ويؤيد هذا الحديث في المنع الأدلة الدالة على منع الحكم بدون علم. وظن السوء بالناس وتحقيرهم وتقنيطهم عن الخير وصدُّهم عنه. تقييد وتعميم: قد يقول الإنسان هلك الناس اشفاقا عليهم وتحزنا لما هم فيه فلا يكون مثل من قاله تحقيرا وتقنيطا غير أنه يبقى في عبارته ذلك التعميم الذي هو حكم بغير علم. مع ما توقعه هذه العبارة من القنوط- خصوصا إذا تكررت- ولو لم يقصده القائل فلا ينبغي أن تقال هذه العبارة ومثلها من كل ما يفيد هلاك جميع الناس. الآداب: على الوجه الأول: على من يريد أن يرشد المسلمين ويعمل لإصلاح حالهم أن ينظر إليهم بعين الشفقة والحنانة لا بعين الزراية والاحتنقار. فإن الشفوق تدفعه شفقته إلى المبالغة في العناية بتتبع الأدواء واستقصاء أنواع العلاج، بخلاف الزاري المحتقر فإنه يترفع بنفسه عن الناس ويتركهم فيما هم عليه وإن باشر شيئا من معالجتهم فإنه يباشره من استثقال واشمئزاز لا يصل معهما إلى داء الأمة شيء من علاجه ولن يستطيع هو معهما صبرا على الاستمرار في عمله أو على إتقان القليل منه. على أن الشفوق تشعر نفوس الأمة منه بتلك الشفقة فتقابله بمثلها وبالامتثال لما يأتيها منه لمعالجتها واثقة منه بنصحه منقادة لإرشاده راجية نيل الخير على يده. والزاري المحتقر تشعر منه الأمة بذلك فتقابله بمثله وتنقبض نفوسها عنه وتقوي ريبتها في قوله وفعله وقد تصارحه ببعضه فتؤدي الحال

أصل عام في التربية

بينهما إلى العداوة والمقاطعة. ويكون خيرا له لو تركهم من أول الأمر وشأنهم. وعلى الوجه الثاني: على مرشدي المسلمين أن يعانوا أدواءهم بالعلاجات النافعة ويشخصوها لهم عند الحاجة بالعبارات الرقيقة المؤثرة في رفق وهوادة مجتنبين كل ما فيه تقنيط أو تثبيط، وأن يعرِّفوهم بأنهم- وإن ساءت نواح من أحوالهم- فهنالك (1) نواح ما تزال صالحة. وهنالك علاجات من الإسلام قريبة ناجعة وأن يعرفوا ما فيهم من فضائل وما لهم من مجد، وما لهم بهذا الإسلام من قدر وعز ليثيروا فيهم النخوة ويبعثوهم على العمل والخير. وإذا ذكروا لهم سيئاتهم ذكروا لهم قرب السبيل إلى النجاة منها بالإقلاع عنها فيسرعون بالتوبة والإنابة. أصل عام في التربية: هذا الحديث أصل عظيم في التربية المبنية على علم النفس البشرية فإن النفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال تنبعث بقوة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب. وعندما تشعر بحقارتها وعجزها تقعد عن العمل، وترجع إلى أحطِّ دركات السقوط. فجاء هذا الحديث الشريف يحذر من تحقير الناس وتقنيطهم، وذلك يقتضي أن المطلوب هو احترامهم وتنشيطهم وهذا الأصل العظيم الذي دل عليه هذا الحديث الشريف يحتاج إليه كل مرب سواء أكان مربِّيا للصغار أم للكبار، وللأفراد أم للأمم، إذ التحقير والتقنيط وقطع حبل الرجاء قتل لنفوس الأفراد والجماعات، وذلك ضد التربية، والاحترام والتنشيط وبعث الرجاء احياء لها وذلك هو غرض كل مرب ناصح في تربيته.

_ (1) في الأصل: فهالك.

فاللهم صلي على هذا النبي الكريم العظيم الرحيم الذي علمته ما لم يكن يعلم وكان فضلك عليه وعلينا به عظيما، فكم من علوم وأسرار انطوت عليها أحاديثه الشريفة قد أتت على ما لم تعرفه البشرية إلاَّ بعد حين ولا عجب فهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (1).

_ (1) ش: ج3، م 10، ص 99 - 102 غرة ذي القمدة 1352هـ- 15 فيفري 1935 م.

نظافة الطرق والمجالس أو مصلحة من مصالح البلدية

نَظَافَةُ الطُّرُقِ وَالْمَجَالِسِ أَوْ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِحِ الْبَلَدِيَّةِ. " قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ». رواه مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنهم). ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: اتقوا: اجتنبوا. اللعانين: الكثيرو اللعن، واللعن الابعاد من رحمة الله، واللعان في الحقيقة من يصدر منه اللعن بكثرة، وقيل في التخلي في الطريق والتخلي في الظل لعانان لأنهما سبب في صدور اللعن بكثرة من الناس لفاعلهما، فأسند ما في معنى الفعل إلى سببه مجازا. التخلي أصل معناه الذهاب إلى الخلاء، والمراد به هنا قضاء الحاجة البشرية من بول أو غائط، وأطلق التخلي عليها لأن الشأن أن تكون في الخلاء ففي اسمه أدب من آدابه. المعنى: إذا أردتم قضاء الحاجة فاجتنبوا الطرقات وانجتنبوا الأماكن التي اتخذها الناس للجلوس في ظلها، ومن تخلى في واحد من هذين فإنه يجلب على نفسه لعنا كثيرا. الحكم: التخلي في طرقات الناس وأماكن جلوسهم متعد عليهم مؤذ ظالم لهم فهو داخل في لعن الله للظالمين، وشأن الناس عندما يجدون القذر

تعميم

في طرقاتهم وأماكن جلوسهم أن يلعنوا من آذاهم بذلك، وهم مظلومون منه، فيكون لعنهم من دعوة المظلوم، ودعوة المظلوم مستجابة، فصار المتخلي قد أوقع نفسه في لعنة الله ولعنة الناس المظلومين، والذنب الذي يؤدي إلى هذا اللعن لا يكون إلا من الكبائر. فالتخلي في طربق الناس أو في ظلهم كبيرة من الكبائر. تعميم: تشمل الطرق الطرق إلى البيوت والأسواق والقرى وموارد الماء والطرقات كلها ومثل المكان الذي اتخذه الناس للجلوس في ظله كل مكان اتخذوه للجلوس فيه لمنفعة من منافعهم فيدخل في ذلك الأسواق والمنتزهات وغيرها، فكل ذلك مما يحرم التخلي فيه ويلحق بالتخلي وضع القذر والوسخ والزبل والشوك وكل ما فيه مضرة لما في الجميع من التعدي والإذاية. تتميم: كما انتظم الحديث الصحيح المتقدم النهي عن تقذير الطرقات والأماكن العامة بذلك الترهيب الشديد كذلك جاء الترغيب في تنقيتها وإزالة الأذى عنها شاملا ذلك ما كان من المستقذرات وغيرها من كل ما فيه أذى، فقد ثبت في الصحيح اأن أبا برزة الأسلمي- رضي الله عنه- قال للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: يا نبي الله علمني شيئا انتفع به، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعزل الأذى عن طريق المسلمين» وثبت قول صلى الله عليه وسلم: بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره فشكر الله له فغفر له. وإذا كانت إزالة الأذى عن الطريق- ومثلها كل مجتمع عام- فيها الأجر والمثوبة فوضع الأذى فيه الاثم والعقوبة.

تطبيق

تطبيق: من أحسن المصالح التي يقوم عليها اجتماع الناس في التمدن الحاضر وألزمها، مصلحة التنظيف في الإدارات البلدية، وأنت ترى أن الأحاديث النبوية المتقدمة قد انتظمت ذلك التنظيف بالترهيب من التقذير وكل مؤذ، والترغيب في إزالتها، فوضع الإسلام بذلك أصل هذه المصلحة قبل أن يعرفها تمدن اليوم، فعلى المسلم أن يلتزم ذلك كأمر ديني يثاب عليه عند ربه ليكون دافعه إلى القيام به من نفسه ورقيبه في تنفيذه ضميره الديني وإيمانه، وقد شهد التاريخ لمدن الإسلام أيام مدنيته الزاهرة بانفرادها بين مدن عصرها النظافة وحسن المظهر، وما ذلك إلا من تطبيق مثل ما تقدم مما وضعه الإسلام من أصول المصالح التي تقوم عليها الحياة ويترقى بها المجتمع. فعلينا- معشر المسلمين- أن نعني بما دعتنا إليه هذه الأحاديث النبوية الشريفة لنكون بين الناس مثلا حسنا راقيا في النظافة البلدية لنفع أنفسنا ومجتمعنا ونرفع اسم ديننا ونفوز بالأجر والرضى من ربنا. وفقنا الله لإحياء معالم الدين، ورفع اسم الإسلام والمسلمين (1).

_ (1) ش: ج4، م 11، ربيع الثانن 1354هـ - جويلية 1935م.

الصحة والفراغ استغلالهما والاستفادة منهما

الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ إِسْتِغْلَالَهُمَا وَالاِسْتِفَادَةَ مِنْهُمَا. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ». (البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهم). ــــــــــــــــــــــــــــــ اللغة: النعمة: ما يفعل على وجه الإحسان ضد النقمة، وهي ما يفعل على وجه العقوبة. المغبون: المنقوص في حقه، أصله من غبن في البيع إذا نقص من حقه، ثم يستعمل في كل من نقص من حظه في كل شيء. الصحة: اعتدال المزاج وقوة البنية ضد المرض. الفراغ: الخلاء، ومصدر فرغ يفرغ إذا كان خاليا من الشغل، وهذا هو المراد. التراكيب: مغبون خبر مقدم لكثير والجملة نعمتان. والصحة والفراغ خبر لهما مقدر والجملة مستأنفة بيانيا. المعنى: إن كثيرا من الناس يكونون في صحة من أبدانهم وفراغ من أشغالهم ولا يعمرون أوقاتهم الفارغة بطاعة الله، ولا يستعملون أبدانهم الصحيحة فيها، فتضيع عليهم تلك الأوقات، وتلك الصحة باطلا فيخسرونهما، ولا يستفيدون منهما فيكون ما خسروه منهما نقصا في حظهم من حياتهم، وإذ كانت الحياة هي أغلى شيء عند

فقه الحديث ومقصوده

الإنسان يحافظ عليه، ولا يبذل شيئا منه إلا بحقه، فهؤلاء الذين نقصوا حظهم في حياتهم هم أعظم المغبونين. فقه الحديث ومقصوده: عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه وكل لحظة ثمرة معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة، فقد غبن حظه منها وخسرها. وكذلك بدنه فهو أنفس آلة عنده، وإنما فائدة الآلة بالعمل، فإذا كانت الآلة، في عمل فهو ربح وزيادة، وإذا كانت في بطالة فهو في نقص وخسران، فالرشيد الرشيد، هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، وتلك الآلة العظيمة، فعمر وقته بالأعمال، وداوم على استعمال ذاته فيها فربحهما، والسفيه السفيه من أساء التصرف فيهما فأخلى وقته من العمل، وعطل ذاته عن الشغل فخسرها. ولما كان الإنسان مضطرا إلى السعي في معاشه فيشغله ذلك عن وجوه الطاعات، من العلم ونوافل الصلاة والصوم والحج وغيرها. ومعرضا للأمراض فتمنعه منها، ولكنه لا يخلو من حالة يكون فيها فارغا من الشغل لمعاشه، ومعافى من المرض في بدنه، ذكره هذا الحديث الشريف بما عليه في هذه الحالة من المحافظة عليها وعمارتها بالطاعات حتى لا يخسرها وتنقص من عمره بلا فائدة فيكون مغبونا فيها. تفريغ على الحديث: فإذا عمَّر الإنسان وقت فراغه من الكد لعيشه، بطاعة من طاعات الله واستعمل بدنه مغتنما فرصة صحته فيها، ثم عرض شغل من اشغال عيشه فقطعه عنها، او طرأ عليه مرض فمنعه منها ونيته المداومة على تلك الطاعة لولا الشاغل والمانع، فإنه يكتب له في شغله وفي مرضه، ثواب ما كان يعمله في صحته وفراغه، ومن الدليل على ذلك حديث البخاري-

تفريغ آخر

رضي الله عنه- عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنهم- سمعت أبا موسى مرارا يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا، والسفر نوع من الشغل. تفريغ آخر: وإذا كان المؤمن عاملا في طاعة الله- تعالى- أيام صحته، وفراغه، ثم مرض فإن له أجرين أجرا على ما كان يعمل في صحته بدليل ما تقدم، وأجرا على مرضه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه». رواه البخاري- رضي الله عنه- وكذلك إذا شغل بالسعي على نفسه أو على العيال، فإن له أجرين أجر ما شغل عنه، وأجر سعيه على عياله، وأدلة ثواب الساعي على عياله كثيرة منها حديث الرجل الذي رأى الصحابة- رضي الله عنهم- من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: إن خرج يسعي على ولده صغارا فهو في سبييل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو فبي سبيل الله. رواه الطبراني بسند صحيح. ومثله من شغل بطاعة عن طاعة كمن شغل بالرباط عن نافلة الحج، مثلا لأنه إذا كان المشغول بالسفر المأذون فيه يكتب له ما كان يعمله مقيما لأن نيته المداومة لولا عارض السفر- فالمشغول بالطاعة عن طاعة كان ينوي فعلها لولا عروض الطاعة الأخرى- أحرى وأولى. سلوك العاملين بهذه الأحديث: يعمرون أوقاتهم كلها بالأعمال، أعمال القلب أو أعمال اللسان وأعمال

الجوارح فلا يشتغلون عن طاعة إلا بطاعة ولا يخرجون من عمل إلا إلى عمل فإذا مرضوا صبروا واحتسبوا وأتوا بما يستطيعون فتتضاعف أجورهم بأعمالهم وبنيانهم ويربحون جميع حياتهم، وأولئك هم الفائزون، سلك الله بنا وبالمسلمين مسلكهم بمنه وكرمه آمين (1).

_ (1) ش: ج 2، م 7، ص 84 - 86 غرة شوال 1349هـ- مارس 1931م.

نظام الغذاء

نِظَامُ الْغِذَاءِ. «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ. فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ». رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح ــــــــــــــــــــــــــــــ إن الإنسان بجزئه الترابي، وهو بدنه- مخلوق أرضي، وبجزئه النوراني- وهو روحه- مخلوق سماوي، فإذا جذبه جزؤه الترابي بزمام الشهوة إلى السفليات الارضية، طار به جزؤه النوراني على بساط العقل إلى علويات السماء. وهو لن يزال دائما بين هذا وذاك في انحطاط واعتلاء. لم يخلق الإنسان للأرض وإن خلق منها، وإنما خلق للسماء وللملأ الأعلى، وآخر كلمة قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» وإنما ينتهي إلى هذا بصفاء روحه واستنارة عقله، وما البدن الترابي إلا آلة لهما، لاستكمال قوتهما، ومظر لتلك الاستنارة وذلك الصفاء، وعيار على ما فيهما من قوة وضعف بما يكسبانه ويكتسبانه في طريق الاختبار والابتلاء. لينال الإنسان ما يستحقه على حسن تصرفه أو سوء تصرفه من عادل الجزاء، بعد خروجه من دار الفناء إلى دار البقاء. فالجسد آلة بديعة للروح لازمة لها في الدنيا وملازمة لها في الأخرى، فمن العدل الإلهي أن يكون لها حظها هنالك، كما كان لها حظها هنا. ومن العدل الواجب على الإنسان أن يعطيها- كما يعطي الروح- حقها من الاعتناء، فكما يغذي روحه بما ينير عقلها

من العلوم والمعارف، وما يزكيها من الأخلاق والأداب، وما يقويها من صالح العمل، ومفيد السعي في وجوه الحياة ويحفظها من كل ما يغشى العقل من جهالات وأوهام، وما يدسي النفس من رذائل، وما يضعفها من كسل وبطالة، كذلك عليه أن يغذي بدنه بما ينميه وما يصلحه وما يقويه، ويحفظه من كل ما يفسده أو ينهكه أو يؤذيه. يتوقف هذا البدن وصلاحه على الغذاء، وقد جعل الله فيه وعً، وأي وعاء، وهو المعدة، مخزن الغذاء وبيت الداء، وعلى حفط نظام هذا الوعاء تترتب الصحة والمرض والسقم والشفاء. فإذا ملأ ابن آدم بطنه كان عليه شر وعاء، وانبعثت منه شر الأدواء: أسقام للبدن وأثقال على الروح وظلمات للعقل، فانقلب على الانسان مع انتفاع به إلى أصعب الشر وأقسى البلاء. وإذا اقتصر على أكلات تقيم الصلب وتمسك البدن حصل من البدن على العمل، وسلم من آلام المرض، ونعم بالعافية، وكان انتفاعه بالآلة البدنية خالصا من شوائب الضرر. واذا غلبته الشهوة، وكان- لا محالة- منقادا للذة، فليقف دون الشبع، ولا يملأ كل الملأ المعدة حتى لا تثقل حركتها في الهضم، وحتى لا تنتفخ في البطن فتسد مجاري النفس وبذلك يكون قد عدل بين أصول الحياة البدنية الثلاث: طعامه وشرابه ونفسه، فأعطى لكل واحد الثلث من بطنه. غير أن الإنسان إذا كان هكذا تغلبه الشهوة، وتقوده اللذة، فإنه بمظنة أن يتجاوز- ولو في بعض الأحيان- العدل إلى الامتلاء. فشرع له الصوم ليقاوم شر ذلك بما فيه من راحة للمعدة ونقاء، وتربية على امتلاك زمام نفسه عن الشهوات واللذات وعلى استطاعة حملها على الجوع والعطش عند الاقتضاء، هذا للمعتدل وللمالئي للبطن الملوك للشهوة بالأحرى والأولى، اما ذاك المقتصر على الاكلات فهو له

ليس الخبز كل ما نريد

زيادة في القوة ورسوخ لما تمكن منه من العادة المشروعة الحسنة. فالصوم ضرورة لنظام الغذاء وحفظ الصحة البدنية وعون للإنسان على حسن استعماله لآلته الترابية الأرضية للترقي إلى آفاقه الروحية النورانية وكمالاته العلوية. فالحمد لله الذي شرع لنا الصيام وفرض علينا رمضان ووفقنا إلى القيام به في كل عام. نسئله المزيد إنه الحميد المجيد. ليس الخبز كل ما نريد: نحن- المسلمين- ربينا تربية إسلامية على الفة الجوع، والتقلل من الأكل والاقتصار على قدر الحاجة، والمواساة في المطعم والمشرب. فطعام الواحد عندنا يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الثلاثة يكفي الستة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ونعتقد عن تجربة أن الرجل لا يهلك عن نصفه قوته. بهذه التربية استطعنا أن نبقى ونعيش في مثل ما عليه حالة معظم الأمة الجزائرية من الفاقة والعوز والجوع والمسغبة، بينما هي تنظر إلى ما ينعم فيه غيرها من النعمة والرخاء، مما لو أصاب أمة أخرى لاجتاحها وأفناها، أو لأثارها ودفعها إلى موارد العذاب والردى. وكما ربانا الإسلام هذه التربية من ناحية الغذاء فقد ربانا تربية أخرى من نواحي أخرى. ربانا على محبة العلم والمعرفة والرغبة فيهما والتلهف على ما فات منهما والاحترام لمن كان له حظ فيهما. وبهذه التربية استطعنا، رغم الفاقة ورغم الجوع ورغم التثبيط والمعاكسة أن نحافظ على قرآننا وخطنا، وبقايا علوم لغتنا وديانتنا، وجملة معارفنا، واندفعنا إلى تأسيس المكاتب العربية رغم ما يحول بينها وبيننا واندفعنا إلى المكاتب الحكومية فضاقت عنا وبقيت مئات الآلاف في أنياب الجهل والفقر من أبنائنا.

ولولا تلك التربية الإسلامية التي زرعتها القرون فاستقرت في قرارات النفوس، وصارت من الخلق الموروث لكان ما نحن فيه من ظلم وتعاسة وتقديم كل أحد علينا في وطننا والترك لمعامل التجويع والتجهيل تخرج آلاتها الفتاكة المتنوعة للقضاء عليها، شاغلا لنا عن العلم وعن الشعور به وعن طلبه وعن المزاحمة عليه. جهل قوم من ذوي السلطة هذا الخلق منا فحسبوا- وهم جد عالمين بما فيه الأمة من جوع وفاقة- أننا قوم لا نريد إلا الخبز، وأن الخبز عندنا هو كل شيء وأننا إذا ملئت بطوننا مهدنا ظهونا، وانهم إذا أعطونا الخبز فقد أعطونا كل ما نطلب، اذ الخبز- في زعمهم- هو كل ما نريد، فإذا حادثناهم في حالنا سكتوا عن كل شيء الا عن الجوع والخبز، وإذا رفعنا أصواتنا بمطالبتهم بحقوقنا لديهم، أو بإنجاز مواعيدهم خرجت المراسيم بتوزيع قناطير القمح أو الفرينة أو الدقيق أو سلفات البذر التي لا ينال المحتاج الحقيقي منها ما يسد حاجته وتذهب في أثناء توزيعها في تعاريج والتواءات أخرى ... فإذا صدرت تلك المراسم طبل المطبلون وزمر المزمرون-، وحسب المغرورون اننا قد رضينا وفرحنا وانتهى أمرنا. يا قوم، إنتا أحياء، وإننا نريد الحياة وللحياة خلقنا، وأن الحياة لا تكون بالخبز وحده، فهنالك ما علمتم من مطالبنا العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلها ضروريات في الحياة. ونحن نفهم جيدا ضروريتها للحياة، وقد بذلنا فيها لكم ما كان- يوما- سببا قويا في حياتكم فلا تبخلوا علينا اليوم بما فيه حياتنا إن كنتم منصفين، وللأيام والأمم مقدرين. وإلا فالله يحكم بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين (1).

_ (1) ش: ج9، م 12، ص394 - 396 غرة رمضان 1355هـ - ديسمبر 1936م.

أثر النيات في الأعمال

أَثَرُ النِّيَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ. «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». أخرجه الشيخان في صحس جحهما ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: الأعمال: هي الأفعال التي تصدر عن الجوارح فتدخل فيها الأقوال، والغالب أن الأعمال أخص من الأفعال فهذه فيما كان عن قصد وغيره وتلك فيما كان عن قصد. النية: هي القصد إلى الفعل. الهجرة: الترك، والمراد هنا مفارقة دار الكفر إلى دار السلام خوف الفتنة على الدين بالمنع من إقامته. يصيبها: يحصل عليها. ينكحها: يتزوجها. التراكيب: بالنيات يتعلق بمحذوف تقديره معتبرة، ودل هذا المتعلق الخاص ما جاء بعده من التفصيل بين الهجرتين والمقام الذي القى فيه الكلام. كما سنبينه في مورد الحديث. ونظيره في هذا التقدير قولهم: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، أي معتبر بهما. والمرء بأدبه، أي معتبر أو يعتبر به والباء سببية. وإنما للحصول والمحصور فيه هو الجار والمجرور وما أفادته الباء من معنى السببية أي لا سبب تعتبر به الأعمال إلا النيات نظيره إنما زيد قوي بقومه أي لا سبب لقوته إلا قومه. فأفاد التركيب حصر اعتبار الأعمال في نياتها والمقصود بها لا في صورها وظواهرها.

سبب الورود

ولكل امرىء خبر ما نوى، أي نواه. قدم عليه ليحصر فيه بإنما فأفاد التركيب ان حظ كل عامل من عمله هو ما قصده أي عين ما قصده في كميته ومقداره دون ما لم يقصد فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله أي قصدا فهجرته إلى الله ورسوله أي وقوعا واعتبارا ففعل الشرط وجوابه لم يردا على معنى واحد. ومثل هذا يقال في الشرط الثاني وجوابه وذكر تزوج امرأة بعد دنيا يصيبها تخصيص بعد تعميم لأن ذلك الخاص هو سبب الحديث، واللام في الدنيا لام الأجل والعلة فتفيد أن طلب الدنيا أو طلب التزوج هو العلة الباعثة له دون قصد طاعة الله فلا يدخل فيه ما إذا كان الباعث هو الطاعة. وطلب هذه الأشياء، جاء على سبيل التبع. سبب الورود: قال القسطلاني: قد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس، المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجال ثقات من رواية الأعمش. ولفظه: " عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها. قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس". المعنى: إن أعمال الناس قد تشترك في صورها ومظاهرها، حتى لا يكون في ذلك فرق بينها ولكنها بذلك التساوي الصوري الظاهري لا تكون متساوية في الاعتبار والحقيقة وما يتبعها من القبول والرد في نظر الشرع فقد هاجر مهاجر أم قيس كما هاجر سائر المهاجرين. الجميع قد كان منهم مفارقة الديار وترك دار الكفر إلى دار الإسلام واللحوق بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فالعمل عمل واحد قطعا، ولكن القصد مختلف فقد كان قصدهم بهجرتهم طاعة الله ورسوله، وكان

قصده بهجرته التزوج بأم قيس فكانت هجرتهم واقعة عند الله- تعالى- موقعها محصلة لهم رضاء ومثوبته، وكانت هجرته لا موقع لها عند الله ولا حظ لها من ثوابه، وكانت معتبرة من عمله الدنيوي لا من عمله الديني ومثله كل من قصد بهجرته غرضا من أغراض الدنيا ما حمله على الهجرة إلا هو. هذا معنى الجملة الأولى من الحديث الشريف. ومعنى الثانية: أن الأعمال المعتبرة عند الله التي قصد بها طاعته تتساوى أيضا في صورها ومظاهرها ولكنها لا تتساوى منازلها في الاعتبار والقبول والمثوبة، بل تتفاوت حظوظ أصحابها في ذلك بحسب تفاوتهم في مقاصدهم منها فيهاجر المهاجران- مثلا- كلاهما يقصد بهجرته طاعة الله ورسوله هذا لا يقصد إلا ذلك، وذاك يقصد معه على سبيل التبع غرضا دنيويا من تجارة أو تزوج. فحظ الأول من هجرته هو طاعة الله ورسوله وحدها غير متبعة بشيء وحظ الثاني هو الطاعة المتبعة بشيء. وثواب الأولى- قطعا- أعظم من ثواب الثانية. أو يكون أحدهما قصد الهجرة وما يكون معها من جهاد بالنفس والمال ومصاحبة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وخدمته وصحبته والتفقه عليه وتكثير سواد أصحابه وعمارة مدينته. والآخر لم يخطر بباله شيء من هذا. فحظ الأول من عمله عظيم وثوابه كثير على حسب كثرة مقاصده وتنوعها وحظ الثاني واحد وهو الهجرة، وثوابه عليها بالخصوص. وذلك على حسب قصده ونيته. ومثل هذين القاصدان للمسجد لأجل صلاة واحدهما يقصده مع ذلك عمارة المسجد وحبس الجوارح على الطاعة وإرشاد الضال وتنبيه الغافل وتعليم الجاهل، وتكثير الجماعة والتعاون على الخير بحضور مشاهده وبعث غيره على الاقتداء به فيه. والآخر لم يخطر بباله شيء من هذا. فحظ الأول من عمله وثوابه عليه أكثر بكثير من حظ الثاني وثوابه وإن كانا كلاهما في طاعة الله.

الأحكام

فالنيات والمقاصد كما تفرق بين المسلمين المتماثلين وتؤثر فيها بالقبول والرد، وهو مقتضى الجملة الأولى، كذلك تفرق بين العملين المقبولين وتؤثر فيهما باختلاف مقدار الثواب وحظ العامل منه وهو مقتضى الجملة الثانية، وهذا أثر كبير للنيات في الأعمال. الأحكام: أفاد الحديث إن العمل الديني لا يكون مقبولا حتى تقصد به طاعة الله وإن من قصد به غير ذلك فعمله مردود عليه وان أجر العامل يقل ويكثر على حسب نيته بعمله وأنه يمكنه أن يقصد مقاصد كثيرة من الخير بعمل واحد فيتضاعف ثوابه عليه بحسب نيته وإن لم يقع ذلك فعلا بعمله، كقصد إرشاد الضال في المسجد ولم يجده أو تعليم الجاهل ولم يلقه وقصد الجهاد من الهجرة ومات قبله وأمثال ذلد كثيرة. تفريع: كما أثرت النية في الأفعال التعبدية بالقبول والرد أو بتفاوت الأجر كذلك تؤثر في الأعمال المباحة فإن المباحات في نفسها لا يثاب ولا يعاقب عليها ولكنها بالنية والقصد منها يدخلها ذلك وتلحق بما أريد منها إلحاق الوسائل بمقاصدها. فالشيء- مثلا- مباح وقد ينوي به الذهاب إلى التعلم فيصير عمل طاعة فيثاب عليه ولو لم يجد المعلم فلم يتعلم، وقد ينوي به الذهاب إلى السرقة فيصير عمل معصية فيأثم به وإن حيل بينه وبين ما قصد فلم يسرق وكذا سائر المباحات. إرشاد وترغيب: كما حكينا أن نجتهد في تطهير أعمالنا من المخالفات وقصرها على الطاعات والمباحات، كذلك علينا أن نجتهد في طاعتنا أن تكون خالصة لوجه الله وأن نبعد عنا كل خاطر يلفتنا إلى غيره حتى يسلم لنا القصد

تنبيه وتحذير

كله خالصا والعمل كاملا أو يسلم لنا القصد الأول الذي هو شرط القبول فإذا كان شيء آخر بعده يكون لاحقا وتابعا وأن نتفقه ونتدبر بعد ذلك في نيتنا بطاعتنا فنوفرها ونستثمرها ونقصد بها ما حضرنا من وجوه الخير التي يمكن أن تقصد بها. وأن ننظر مثل ذلك في أعمالنا المباحة كأكلنا وشربنا ونومنا ومشينا وراحتنا ورياضتنا فنقصد بها الإستعداد للطاعات والتقوى لفعل الخيرات وكل ما يمكن أن تؤدي إليه أو تعين عليه من معروف فتصير أعمالنا المباحات من قسم الطاعات فما أسعدنا حينئذ وما أعظم ثروتنا من الخير. نحن لا نسلم من مخالفة وتقصير وفي ذلك علينا خسار كثير ولا يجبر ذلك الخسار إلا بسلوك هذا الطريق الشرعي القويم، فهلم أيها الإخوان في الله إليه، ففيه- والله- التجارة الرابحة، والحياة الناجحة وإرضاء الرحمن وإرغام الشيطان والسعادة في الدارين. تنبيه وتحذير: الأعمال إما طاعات لأنها مأمور بها وجوبا أو استحبابا، وإما مخالفات لأنها منهي عنها تحريما أو كراهة، واما مباحات لأنها غير مأمور بها ولا منهي عنها، فالمخالفات بقسميها لا تقبلها النيات طاعات لأنها في قسمها غير عمل صالح ولأننا علمنا بالنهي عنها ان قصد الشارع هو تركها وعدم وجودها فقصد المكلف مضاد لقصد الشارع فكان ساقطا لا عبرة به ولا أهلية له لقلب الموضع الشرعي ... والطاعات بقسميها هي التي تؤثر فيها النية بالقبول والرد بحسب قصد الله بها وقصد غيره أو بتفاوت درجات القبول وبحسب المقصود على ما تقدم وهي المقصودة بالقصد الأول من الحديث. والمباحات مثلها تؤثر فيها النيات فتقبلها طاعة أو معصية لأن الشرع لما أباحها علمنا أنه لا قصد له لا في وجودها ولا في عدمها من حيث

ذاتها فكان لقصد المكلف حينئذ سبيل إلى التأثير فيها. وقد غفل عن هذه الحقيقة أقوام- عفا الله عنهم- فتراهم يستدلون على أعمالهم بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى» قاصدين إلى تبريرها غير ملتفتين إلى كونها من قسم الطاعات أو المخالفات أو المباحات. وكثيرا ما يرتكبون البدع كدعاء المخلوقات وكالحج إلى الأضرحة وإيقاد الشموع عليها والنذور لها وكالرقص وضرب الدف في بيوت الله وغير هذا من أنواع البدع والمنكرات، ويتوكؤون في ذلك كله على «إنما الأعمال بالنيات» كلا، ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب فإن البدع كلها من قسم المخالفات وأن المخالفات لا تنقلب طاعات بالنيات. فحذار أيها الأخوان في الله من هذا الجهل الذي أدى إلى تحريف الكلم عن مواضعه وإلى المداومة على المنكر والفرح به، ونعوذ بالله- لنا ولجميع إخواننا المسلمين- أن نكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ونسأله تعالى- لنا ولإخواننا المسلمين- أن نكون من الذين يرجون لقاء ربهم فيعملون الأعمال الصالحة ولا يشركون بعبادة ربهم أحدا (1).

_ (1) ش: ج1، م 7، ص 6 - 11 رمضان 1349هـ - فيفري 1931م. 186

التوجه إلى الله برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ. قال أبو عيسى الترمذي: ((حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قَالَ: فَادْعُهْ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ»، - هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر -وهو غير الخطمي)) ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: محمود بن غيلان: ثقة من رجال البخاري ومسلم. عثمان بن عمر هو ابن فارس العبدي المتوفي سنة (209هـ) ثقة، روي عنه الستة، وهو الراوي عن شعبه. ولهم عثمان بن عمر بن موسى التيمي متقدم غير هذا. أبو جعفر، هكذا عند الترمذي غير منسوب وقال فيه: هو غير الخطمي، يعني أبا جعفر يزيد بن عمير الأنصاري الخطمي، لكن ابن ماجة قال: حدثنا أحمد بن منصور بن يسار، ثنا عثمان بن عمر، ثنا شعبة عن أبي جعفر المدني إلى آخر السند والمتن. فصرح بأن أبا جعفر هو المدني. وهذا هو أبو جعفر القاري يزيد بن القعقاع. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وكان إمام أهل المدينة في

مخرجو الحديث

القراءة فسمي القارئي لذلك. عمارة بن خزيمة بن ثابت الانصاري روي له أصحاب السنن الأربعة وثقه النسائي وابن حبان وابن سعد. عثمان بن حنيف هو الأنصاري الأوسي الصحابي المشهور. مخرجو الحديث: رواه ابن ماجة في باب ما جاء في صلاة الحاجة من سننه والنسائي والحاكم والبيهقي وابن خزيمة والطبراني. رتبة الحديث العلمية والعملية: قال فيه الترمذي كما تقدم حسن صحيح غريب. فالصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى آخر سنده سالما من العلة والشذوذ فإذا خف الضبط في بعض رواته فهو الحسن. وما يقول فيه أبو عيسى الترمذي حسن صحيح أقوى مما يقول فيه حسن فقط، لأن وصفه بالصحة مع وصفه بالحسن يفيد أن خفة الضبط في بعض رجاله تكاد لا تؤثر عليه حتى كأنها لم تحطه عن رتبة الصحبح التام. وأما الغريب فهو ما انفرد بروايته راو فقط وإذا كان ذلك المنفرد ثقة فذلك الانفراد لا يضر فالغرابة لا تنافي الصحة والحسن. وغرابته جاءته من انفراد أبي جعفر به كما تقدم. وصححه أيضا ابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني. فبعدما عرفنا من حال سنده وتصحيح هؤلاء الأئمة له حصل لنا العلم الكافي- وهو الظن الغالب- بثبوت. وحيث كان بهذه المنزلة من الثبوت فإنه صالح لاستنباط الأحكام الشرعية العملية منه. ألفاظ المتن: زاد ابن ماجة بعد قوله: ((فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه)) قوله ((ويصلي ركعتين)) ولذلك أخرجه في باب ما جاء في صلاة الحاجة.

المفردات

وهذه زيادة عدل فهي مقبولة. والأمر بالوضوء مما يؤيدها. وزاد النسائي بعد قوله: اللهم شفعه في: وشفعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره. المفردات: التوجه إلى الشيء: هو القصد إليه، فأتوجه إليك أي أقصد إليك. و (الباء) في بنبيك وفي اني توجهت بك هي باء الاستعانة، والمستعان به هو السبب الحصل للمستعان عليه ولذلك جعل بعضهم باء الاستعانة من باء السببية، فالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مستعان به على السؤال أي على نجح السؤال بحصول الشيء المسؤول من الله تعالى، ومستعان به على التوجه بمعنى القصد أي على نجح ذلك القصد بحصول المطلوب منه تعالى فهو متوصل به إلى نجح السؤال ونجح القصد، وكل ما يتوصل به إلى الشيء يقال فيه وسيلة إليه، فالسؤال به توسل به، فيمكن أن تسمي هذه الباء باء التوسل، وهي الداخلة على ما هو وسيلة في حصول شيء و (الهاء) في قوله (فادعه) هاء السكت أو ضمير عائد على الله تعالى. الشفاعة: سؤال الخير لغير السائل، فقوله شفعه فيّ أي اقبله في أي اقبل دعاءه وسؤاله لي. التراكيب: قوله أسالك وأتوجه إليك بنبيك. وقوله إني أتوجه بك يحتمل أن يكون على ظاهره، فالسؤال والتوجه والتوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نظرا لمقامه عند الله تعالى ويكون هذا نظير قول القائل: أسألك بالله، من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}، وفي سنن أبي داود والنسائي مرفوعا: «وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ» وقول القائل: أسألك بالرحم، من قوله تعالى:

المعنى

{وَالْأَرْحَامٍ} بالجر في قراءة الشاميين، وقول عائشة لفاطمة رضي الله عنمها: "عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" ويحتمل أن يكون على تقدير مضاف هكذا بدعاء نبيك في العبارة الأولى وبدعائك في العبارة الثانية، لأنه إنما سأله أن يدعو لك، فيكون التوسل بدعائه ولقوله: فشفعه فيَّ أي اقبل دعاءه لي. وجملة (فشفعه) معطوفة على جملة (أسألك)، وجملة (اني توجهت بك) معترضة بين المتعاطفين. المعنى: هذا رجل أعمى جاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يسأله أن يدعو الله تعالى له أن يشفيه من العمى فخير بين أن يدعو له وأن يصبر على بلواه، وأخبره أن الصبر خير له من جهة الأجر والمثوبة، فاختار الرجل أن يدعو له فأمر أن يتوضأ وضوءاً حسنا مستكملا لفرائضه وفضائله في ظاهره وباطنه، وأن يصلي ركعتين ويدعو بالدعاء المذكور. والظاهر أنه بعد الفراغ من الركعتين مثل ما جاء في دعاء الاستخارة بعد ركعتيها، وكان الدعاء سؤالا من الله تعالى وتوجها إليه وتوسلا بنبيه أو بدعائه وثناءاً على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بما بعثه الله من الرحمة المناسب ذكرها غاية المناسبة في مقام الدعاء والتوسل وخطابا له عليه السلام بأنه توجه به إلى ربه لتقضى حاجته ثم رجوعا إلى سؤال الله تعالى أن يقبل فيه شفاعة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. سؤال: الرجل قد اختار أن يدعو له فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو بذلك الدعاء ولم يدع هو له مع أنه قال له في التخيير إن شئت دعوت وإن شئت صبرت.

جوابه

جوابه: الظاهر أنه دعا له وإن لم يصرح بذلك في متن الحديث لقول الأعمى: (اللهم شفعه فيَّ) أي اقبل دعاءه وسؤاله لي. الأحكام: لم يدع الأعمى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يسأله أن يشفيه هو، لأن الدعاء لقضاء الحوائج وكشف البلايا ونجو ذلك هو العبادة، وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع «الدُّعاءُ هوَ العِبَادةُ» رواه أحمد وأصحاب السنن. والعبادة لا تكون إلا لله لم يدعه لا وحده ولا مع الله، لأن الدعاء لا يكون إلا لله. وهذا بخلاف ما يفعله الجهال والضلال من طلبهم من المخلوقين من الأحياء والأموات أن يعطوهم مطالبهم ويكشفوا عنهم بلاياهم، وإنما سأله أن يدعو له الله تعالى أن يعافيه وهذا جائز أن يسأل المؤمن من أخيه في حال حياته أن يدعو الله تعالى له. ومن هذا حديث البخاري في سؤال أم أنس ابن مالك من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو لأنس خادمه، فدعا له. ومن هذا ما رواه الترمذي وأبو داود عن عمر بن الخطاب قال: استأذنت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في العمرة فأذن لي وقال اشركنا يا أخي في دعائك ولا تنسنا زاد في رواية الترمذي فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. يعني قوله: أشركنا ... الخ ثم انه توسل بذاته بحسب مقامه عند ربه وهذا على الوجه الأول من الوجهين المتقدمين في فصل التراكيب أو توسل بدعائه، وهذا على الوجه الثاني منهما. فمن أخذ بالوجه الأول قال يجوز التوسل بذاته، ومن أخذ بالوجه الثاني قال إنما يتوسل بدعائه، ثم ان من أخذ بالوجه الأول فهذا الدعاء حكمه باق بعد وفاته كما كان في حياته، ومن أخذ بالوجه الثاني لا يكون بعد وفاته. لأن دعاءه إنما

سؤال

كان في حياته لمن دعا له. فالوجهان المتقدمان- كما ترى- هما مثار الخلاف في جواز التوسل بذاته وعدم جوازه، فمن أخذ بالوجه الأول جوَّز ومن أخذ بالثاني منع. سؤال: فان قلت قد عرفنا القولين وعرفنا مدركهما فما هو الراجح عندك منهما؟ جوابه: الراجح هو الوجه الأول الذي يجيز السؤال بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نظرا لمقامه العظيم عند ربه لوجهين: الأول: ان ذلك هو ظاهر اللفط ولا موجب للتقدير ولا منافاة بين أن يكون في قوله أسالك وأتوجه اليك بنبيك وقوله اني توجهت بك قد سأل بذاته. وفي قوله: (اللهم شفعه فيَّ) قد سأل قبول دعائه له وسؤاله. والثانى: أنه لما كان جائزاً السؤال من المخلوقين بما له من مقام عظيبم عندهم فلا مانع من أن يسأل الله تعالى بنبيه بحسب مقامه العظيم عنده. سؤال آخر: بعدما رجحت جواز التوسل بذاته -صلى الله عليه وآله وسلم - نظرا لمقامه العظيهم عند الله تعالى فهل يقاس عليه غيره من كل ذي مقام عند الله تعالى فيتوسل به أو يكون هذا مقصورا عليه؟ جوابه: القياس في باب العبادات ضعيف، وإذا ارتكب هنا فلا يقاس عليه الاَّ كلُّ ذي مقام محقق عند الله تعالى. سؤال آخر: بعد ما عرفنا حكم سؤال الله تعالى بأهل المكانة عنده من مخلوقاته.

جوابه

فهل الأفضل هو سؤاله بمخلوقاته أو سؤاله بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في طاعاته؟ جوابه: الأفضل هو سؤاله تعالى بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته، وذلك لوجهين: الأول: ان ذلك هو مقتضى النص القرءاني الصريح القطعي في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ويشمل ذلك تسميته بها ونداءه بها. الوجه الثاني: مما جاء في السنة العملية في أحاديث كثيرة ثابتة مستفيضة، كان سؤاله تعالى فيها كلها بأسمائه وصفاته منها حديث: «أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسد الخ» رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود، ومنها حديث رجل كان يصلي في المسجد فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والاكرام يا حي يا قيوم أسألك. فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. رواه أصحاب السنن الأربعة من طريق أنس، ومنها حديث: إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق. رواه النسائي والحاكم من طريق عمار بن ياس، وهكذا سائر الأحاديث التي جاءت في هذا الباب كلها متواردة على دعاء الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهي كلها تحقيق وبيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. هذا كله في دعائه تعالى بأسمائه وصفاته. وأما ما جاء في دعائه والتوسل إليه بعمل العبد في أنواع طاعاته، فمنها حديث بريدة: أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد (والشهادة عمل العبد) أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: لقد سألت الله بالإسم الأعظم

الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب. رواه أبو داوود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم إلا أنه قال: لقد دعوت الله باسمه الأعظم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، قال الحافظ عبد العظيم المنذري، قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وإسناده لا مطعن فيه. ومنها حديث الثلاثة الذي (1) آووا إلى غار فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعله يفرجها عنكم فدعا أحدهم ببروره والديه، فانفرجت منها فرجة، ودعا الثاني بعفته عن الزنا بعد ما كاد فانفرجت فرجة، ودعا الثالث بوفائه لأجيره، فانفرجت البقية. وهذا حديث صحيح مشهور رواه الشيخان وغيرهما (2). ومن ذلك حديث سارة زوج إبراهيم عليه السلام لما مدَّ الجبار الظالم إليها يده يريدها على السوء، قامت تتوضأ وتصلي وقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر، فغط حتى ركض برجله. فقالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل فعاد إليها وعادت إلى الدعاء كالمرة الأولى، وفي الثالثة تركها وقال: ارجعوها إلى إبراهيم. رواه مفصلا البخاري في كتاب البيوع من صحيحه من طريق أبي هريرة، فانظر إليها كيف توسلت لربها بإيمانها الذي هو أشرف أعمالها، وبعفتها

_ (1) كذا فى الأصل وجوابه: الذين. (2) رويت القصة باختلاف الالفاظ في كتاب الفرج بعد الشدة ص 28 - 29 وقال التنوخي صاحب الكتاب: هذا حديث مشهور رواه عن النبى- صلى الله عليه وآله وسلم- علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن أبى أوفى، والنعمان بن بشير الأنصاري، رضي الله عنهم. وعن كل واحد منهم عدة طرق. وقد اختلف في ألفاظه والمعنى واحد.

سؤال آخر

وإحصانها لفرجها ولم تتوسل إليه برسوله وخليله زوجها إبراهيم عليه الصلاة والسلام. سؤال آخر: بعد ما عرفنا رجحان سؤاله تعالى بالأسماء والصفات والطاعات فهل ثبت عن الصحابة سؤالهم وتوسلهم بذاته؟ جوابه: لم يثبت عن واحد منهم شيئا (1) من ذلك فيما لدينا من كتب السنة المشهورة، بل ثبت عدولهم عن ذلك في وقت مقتض له لو كانوا يفعلونه وذلك في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. ومعنى الحديث أنهم كانوا يتوسلون بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يدعو لهم في الاستسقاء ويودعون، ثم صاروا يتوسلون بالعباس فيدعو لهم ويدعون، فالتوسل هنا قطعا بدعائهما لا بذاتهما. ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مرجوحية التوسل بالذات أن الصحابة لم يقولوا في موقفهم ذلك: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا أي بذاته ومقامه بل عدلوا عن ذلك إلى التوسل بالعباس يدعو لهم ويدعون كما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يفعل في الاستسقاء. ولقد استدل بعضهم بعدول الصحابة عن التوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا المقام على منعه، ونحن لما بينا قبل من دليل جوازه إنما نستدل بعدولهم على مرجوحيته.

_ (1) كذا في الأصل جوابه شيء.

سؤال آخر

سؤال آخر: قد عرفنا فيما تقدم مشروعية سؤال المؤمن من أخيه المؤمن في حياته أن يدعو له فهل يشرع الذهاب إلى القبر وطلب الدعاء من الميت؟ جوابه: لو كان هذا جائزا لفعله الصحابة في الحديث المتقدم ولذهبوا لقبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يسألونه أن يدعو لهم كما كان يدعو لهم في حياته، ولم يرد في حديث عن واحد منهم أنه كان يذهب إلى القبر النبوي ويطلب منه- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو له، بل جاء عن ابن عمر- وهو من عرف بشدة اتباعه وتحريه- أنه كان يقف فيسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم على أبي بكر ثم على عمر رضي الله تعالى عنهما ثم ينصرف لا يزيد شيئا. أخرجه مالك في الموطأ. تلخيص وتحصيل: تحصل لنا من جميع ما تقدم: (1) أن دعاء المخلوق وحده أو مع الله ممنوع. (2) وأن التوسل بدعائه في حياته وهو من المؤمنين مطلوب ومشروع. (3) وأن التوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله ومسلم- جائز مرجوح. (4) وأن التوسل بذات غيره من أهل المكانة المحققة له وجه في القياس. (5) وأن التوسل بذات غيره ممن ليس لنا اليقين القاطع بمقامه لا وجه له. (6) وأن طلب الدعاء منه بعد موته بدعة لم يفعلها الصحابة. (7) وأن الراجح في التوسل إلى الله هو التوسل إليه بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته. هذه سبع مسائل كثر فيها هذه الأيام القال والقيل، وتعرض لها من الكتّاب الأصيل والدخيل، وقد منَّ الله بتحريرها على هذا الوجه الذي لم أره لغيري، وقد كنت في تحريرها علم الله باحثاً منصفاً

متجرداً فما كان فيها من حق وصواب فهو من الله وما كان فيها - عياذاً بالله- من باطل وخطأ فهو مني وأستغفر الله والخير قصدت وحسبنا الله ونعم الوكيل (1).

_ (1) ش: ج 3، م 8، ص 145 - 155 غرة ذي القعدة 1350هـ - مارس 1932م.

حق النساء في التعليم

حَقُّ النِّسَاءِ فِي التَّعْلِيمِ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه-: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ" فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ. فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: «وَاثْنَتَيْنِ». رواه البخاري. ــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح: كان الرجال يلازمون النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيحيطون به للتعلم فلا يستطيع النساء مزاحمتهم عليه وكن يجلسن في آخر صفوف المسجد، فإذا تحدث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالعلم بعد الصلاة لا يتمكن من كمال السماع، وكانت لهن رغبة في العلم مثل الرجال إذ كلهن يعلمن أنَّهنّ مكلفات بأحكام الشريعة مثلهم. فلذا سألن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعيِّن لهن يوما باختياره هو يخصصهن به. فأجابهن إلى ما طلبن ووعدهن يوما يعينه ووفى لهن بوعده، فلقيهن في ذلك اليوم وحدهن فوعظهن وأمرهن بأشياء مما عليهن من أمر الدين. وأخبرهن بأن كل واحدة منهن يموت لها ثلاثة من ولدها فتقدمهم قبلها فإن ذلك التقديم يكون لها حجابا ووقاية من النار لعظم الأجر بعظم المصيبة، فطمعت إحداهن في فضل الله وخافت أن يكون هذا الفضل محصورا فيمن قدمت ثلاثة فسألت عمن قدمت اثنتين فأخبرها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه لمن قدمت اثنتين أيضا.

الأحكام والفوائد

الأحكام والفوائد: النساء شقائق الرجال في التكليف، فمن الواجب تعليمهن وتعلمهن وقد علمهن- صلى الله عليه وآله وسلم- وأقرهن على طلب التعلم، واعتنى بهن وتفقدهن كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم. وبلال يأخذ في طرف ثوبه. لا يجوز اختلاط النساء بالرجال في التعلم، فأما أن يفردن بيوم كما في هذا الحديث، وإما أن يتأخرن عن صفوف الرجال كما مرَّ في حديث ابن عباس- رضي الله عنه- يجعل لتعليم (1) النساء يوم خاص بهن ويتكرر هذا اليوم بقدر الحاجة. ولما كانت الحاجة دائمة فاليوم مثلها. فيه عظيم أجر من أصيب في أفلاذ كبده إذا حزن ولم يقل قبيحا وجاء التنصيص على الرجال فهم مثل النساء في هذه المثوبة. وفيه البداية في التعليم بما تشتد إليه حاجة المتعلم. فإن حنان النساء وضعفهن يحملانهن على الجزع الشديد وقد يخرج بهن إلى القبيح فذكر لهن ما يكون عدة لهن ووقاية عند نزول المصيبة. وفيه ما ينبغي من تهيئة القلوب وتحضير النفوس لتلقي التكاليف الشرعية لتنشرح لها الصدور وتنشط فيها الجوارح ولذا قدم الوعظ على الأمر. اقتداء: إن الجهالة التي فيها نساؤنا اليوم هي جهالة عمياء، وأن على

_ (1) في الأصل لتعيلم.

أوليائهن المسؤولين عنهن إثما كبيرا فيما هن فيه. وأن أهل العلم والإرث النبوي مسؤولون عن الأمة، رجالها ونسائها، فعليهم أن يقوموا بهذا الواجب العظيم في حقِّ النساء بتعليمهن خلف صفوف الرجال، وفي يوم خاص بهن اقتداء بالمعلم الأعظم: عليه وعلى آله الصلاة والسلام (1).

_ (1) ش: ج 2، م 15، ص 64 - 66. صفر 1358هـ - مارس 1939م.

تعليم النساء الكتابة

تَعْلِيمُ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ. عَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: «أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ». رواه ابو داوود. ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: رجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي فلم يخرج له فيهما، لكنه ثقة. وثقه أبو حاتم وابن نافع وابن حيان، وقد تابعه غيره. وخرج الحديث أيضا النسائي والبيهقي في السنن الكبرى والإمام أحمد. المتن: الأشخاص: الشفاء هي بنت عبد الله القرشية العدوية من السابقات والمهاجرات الأول- رضي الله عنها- وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنهما. الألفاظ: النملة قروح تخرج في الجنب، ورقيتها كلام كانوا يقولونه عليها مما لا محظور فيه فأقره النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-. ولم يذكر الرواة نصه. المعنى: عرف - صلى الله عليه وآله وسلم- أن الشفاء كانت علمت حفصة

الأحكام والفوائد

الكتابة، وكانت الشفاء من عاقلات النساء وعارفاتهن، فدعاها إلى تعليم حفصة رقية النملة وحثها عليها، ونشطها لذلك بتذكيرها بتعليمها لها الكتابة، فمن كان من شأنه عمل من الأعمال خف عليه القيام به. مبينا لها بذلك أن تعليم هذه مثل تعليم تلك في النافع وفعل الخير. الأحكام والفوائد: فيه مشروعية الرقية وذلك بشرط أن تكون بالكلام المفهوم الذي لا محظور فيه كما دلت عليه الآثار، وإذا كانت الأدوية سببا للشفاء بخواصها فبعض الأقوال تكون في ذلك مثلها تلك من ناحية البدن وهذه من ناحية الروح وقد دلت على هذا وذاك التجربة وأقرَّت الجميع الشريعة. وفيه تعلم الرقية وتعليمها مثل كل ما يمكن أن ينتفع به على الوجه المشروع وفيه حث العارف بشيء مما يحتاج إليه الناس أن ينشره بينهم ويعلمهم إياه. وفيه تعليم النساء الكتابة واستدل به على ذلك جماعة من الأئمة منهم الخطابي في شارح السنن، وصاحب المنتقى. توسع في الاستدلال: وأقوى منه في الاستدلال العمومات القرآنية المتكاثرة الشاملة للرجال والنساء، فإن مذهب الجماهير وهو المذهب الحق أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص يخرجهن من نص إو إجماع أو بضرورة طبيعية. لأن النساء شقائق الرجال في التكليف ولا خلاف في أنه إذا اجتمع النساء والرجال ورد الخطاب أو الخبر مذكرا على طريقة التغليب. وتأمل قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}

الاقتداء

وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. كيف نص في الثانية على الرجال لما كان الحال مقتضيا لهم، وأطلق في الأولى فدل على أنه لا فرق بين أن يكون الكاتب رجلاً أو امرأة، وهو من أدلته مشروعية تعلم النساء الكتابة، وكل آية دعت للعلم، قد دعت للكتابة لأن الله قد بين لنا أنه علم بالقلم ليبين لنا أن القلم هو طريق العلم وآلة حفظه وتدوينه وأقسم بالقلم تنويها بشأنه وجاء ذلك كله على الخطاب العام الشامل للنساء شموله للرجال والعمومات إذا تكاثرت أفادت القطع ولهذا جعلنا هذا الطريق من الاستدلال أقوى من الاستدلال بالحديث الذي هو خبر آحاد وخبر الآحاد- من حيث ذاته- يفيد الظن وإن كان صحيحا. وحيث تواردت تلك العمومات وثبت هذا الحديث فقد بلغ الدليل بنصه وقطعيته غاية القوة والبيان. الاقتداء: فاستنادا إلى هذه الأدلة، وسيراً على ما استفاض في تاريخ الأمة، من العالمات الكاتبات الكثيرات- علينا أن ننشر العلم بالقلم في أبنائنا وبناتنا في رجالنا ونسائنا على أساس ديننا وقوميتنا إلى أقصى ما يمكننا أن نصل إليه من العلم الذي هو تراث البشرية جمعاء، وثمار جهادها في أحقاب التاريخ المتطاولة، وبذلك نستحق أن نتبوأ منزلتنا اللائقة بنا والتي كانت لنا بين الأمم (1). **

_ (1) ش: ج 3، م 15، ص 110 - 112. غرة ربيع الأول 1358 هـ- أفريل 1939م.

ستر وجه المرأة من الدين على ما فيه من تفصيل

سِتْرُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدِّينِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ. ((مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)). ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: هذا سند من بيت البركات على المسلمين: بيت الصديق رضي الله عنه، فعروة هو ابن الزبير وأمه أسماء. والمنذر أخوه شفيقه. وهشام وفاطمة زوجان وأبناء عم وجدتهما أسماء، رضي الله عنهم. المتن: خمير الوجه: تغطيته بغير النقاب وما في معناه مما يشد على الوجه. وذلك بأن تسدل الثوب على وجهها نازلا من رأسها. وجاء هذا مبينا في حديث عائشة الذي رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة وغيرهم، قالت: ((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- محرمات. فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجها، فإذا جاوزونا كشفناه)). الاحتجاج: أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من أهل العلم والدين، فما كان يخفي عليها ما جاء من نهي المرأة عن النقاب وهي محرمة.

التأييد

فلو كان التخمير مثله لما أقرتهن عليه وما كانت لتفرق بينهما برأيها، وفي كليهما ستر وتغطية لولا أنها على توقيف من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في التفريق ما بينهما. ولهذا احتج مالك رضي الله عنه بتقريرها فخرجه في موطئه. التأييد: يؤيد هذا حديث عائشة المتقدم وفيه تقرير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لهن على ما فعلن. وهو حديث محتج به: والذي وقع فيه كلام من رواته- وهو يزيد بن أبي زياد- قد قبله مسلم وجعله ممن يشمله اسم الستر والصدق وتعاطي العلم. كما في مقدمة صحيحه. الأحكام والاستدلال: ستر وجه المرأة عن رؤية الأجنبي مشروع بالتقرير النبوي له في وقت الإحرام الذي هو وقت كشف وجه المرأة: ولذلك كن- كما في حديث عائشة- يكشفن وجوههن إذا جاوزهن الركبان. وما نهيت المرأة عن النقاب في الإحرام إلا وقد كان النقاب من شأنها وعادتها- والعادة التي يقرها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لمصلحة تصير من الدين باستنادها إلى التقرير النبوي الذي هو أصل من أصول التشريع، والمصلحة المراعاة هنا هي سد ذريعة افتتان الرجال بالنساء بسبب النظر، ودفع هذه الفتنة على اعتباره القول والفعل النبويان كما في حديث الخثعمية الآتي قريبا، ولما لم يكن وقوع الافتتان محققا دائما لم يكن ستر الوجه حتما لازما في كل حال بل يجوز للمرأة الكشف عند عدم تحقيقها كما في حديث الخثعمية أيضا على ما سيأتي من البيان. حديث الخثعمية: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس

المقصود منه

رديف رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. ا. هـ المقصود منه: رواه مالك والجماعة، وفي رواية الترمذي من طريق علي كرم الله وجهه قال: واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج أفيجز لي أن أحج عنه، قال: حجي عن أبيك، قال- علي- ولوى عنق الفضل فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما. ففي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لم آمن عليهما الشيطان أن الفتنة لم تقع وإنما خاف وقوعها فسد ذريعتها، وفي قوله هذا وفعله دليل على مراعاة الفتنة، وسد ذريعتها، وفي عدم أمره للمرأة بستر وجهها دليل على جواز ذلك لها، وهذا بناء على أنها كانت مكشوفة الوجه، كما هو الظاهر من نظر الفضل إليها، ومن خوف الفتنة وهو الذي فهمه أكثر الناس، وإن احتمل أن تكون مستورة الوجه بما سدلته من رأسها كما قاله ابن العربي. تحصيل: ستر وجه المرأة مشروع راجح وكشفه عند أمن الفتنة جائز وعند تحققها واجب، وأمر الفتنة يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص والأحوال فيختلف الحكم باختلاف ذلك ويطبق في كل بحسبه. تطبيق: من المسلمين اليوم أقوام- معظمهم من غير أهل المدن والقرى-

تفرقة وتحذير

ألفوا خروج نسائهم سافرات فلا يلفتن أنظارهم بذلك، فهؤلاء لا يطالبن بستر الوجوه مع بقاء حكم غض البصر وحرمة تجديد النظر، ومن المسلمين أقوام- معظمهم من أهل المدن أو القرى- ألفوا ستر وجوه النساء فكشف المرأة بينهم وجهها يلفت الأنظار إليها، ويغري أهل الفساد بها، ويفتح بابا للقال والقيل في شأنها، وشأن أهلها، وعشيرتها، فهؤلاء يجب عليهن ستر وجوههن، اتقاء للشر والفتنة والوقيعة في الأعراض. هذه أحكام عامة لنساء المؤمنين- ولأمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- أحكام خاصة بهم، على أنهن خير القدوة للنساء أجمعين. تفرقة وتحذير: هنا سفور إسلامي وهو كشف المرأة وجهها- دون شعرها وعنقها- عند أمن الفتنة، مع عدم إظهار الزينة، غير الوجه والكفين، وعدم إثارة الفتنة بروائح الطيب وخشخشة الحلي ورنين الخلخال. وهنالك سفور إفرنجي فيه كشف الشعر والعنق والأطراف مع التبرج بالزينة وما إليها، فعلينا- معشر المسلمين- أن نوجه قوتنا كلَّها إلى منع السفور الافرنجي الذي قد طغى حتى على نساء أمراء الشرق المسلمين ووزرائه، وأن نحذر كل ما يؤدي إليه وأن نحافظ على الوضعية الإسلامية العفيفة الطاهرة بسفورها- إذا كان سفوراً على ما فصلناه- في دائرة محدودة ليس فيها إثارة ولا إغراء. توصية: على المربين لأبنائنا وبناتنا أن يعلموهم ويعلموهن هذه الحقائق

الشرعية ليتزودوا وليتزودن بها وبما يطبعوهم ويطبعوهن (1) عليه من التربية الإسلامية العالية، لميادين الحياة فيكونوا ويكنَّ - إن شاء الله تعالى- مثال الطهر والعفاف، والصون للأجيال، حقق لله الآمال ويسر الصالح من الأعمال إنه عظيم الفضل كريم النوال (2).

_ (1) كذا في الأصل. (2) ش: ج 1، م 13، ص 5 - 8. غرة محرم 1356 هـ- 14 مارس 1937م.

النساء والكمال

النساء والكمال. عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». رواه البخاري- ومسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم وقوة الإرادة وقوة العمل، فهي أسس في الخلق الكريم، والسلوك الحميد، اللذين ينهض بهما بجلائل الأعمال ويبلغ بهما إلى أسمى غايات الشرف والكمال، والمرأة لما خلقت لقسم الحياة الداخلي أعطيت من القوى الثلاث القدر الذي تحتاج إليه منها وهو دون ما يحتاج إليه الرجل الذي خلق للقيام بقسم الحياة الخارجي فكانت بخلقتها أضعف منه في العلم والإرادة والعمل فكانت لذلك دونه في الكمال، وتقسيم الحياة إلى قسميها ضروري لبقاء النسل وحفظه وتقسيم وظيفة الحياة بين الرجل والمرأة، وإعطاء كل واحد منهما القدر الذي يحتاج إليه في وظيفته من بديع صنع الحكيم الخبير، فلو لم يعط الرجل ما أعطى من كمال القوى لما استطاع القيام بالأعمال الكبيرة في قسه ولو اعطيت المرأة مثل ما أعطى لما صبرت على البقاء في قسمها فأخلته فاختل النظام فحصل الفساد. ونحن نرى اليوم المرأة في المدنية الغربية ومقلديها لما خيل إليها أنها قوية مثل الرجل هجرت وظيفتها أو أهملتها وخرجت

الإرشاد النبوي

تزاحم الرجل في وظيفته فأضرت بالقسم الداخلي من الحياة بإهماله واضطرابه وأضرت بالقسم الخارجي بمزاحمة الرجل وزحزحة قسم كبير منه عن العمل وتعريضه للفتن، والأمم الغربية اليوم تشكو مر الشكوى من تفكك نظام الاسرة وانحلال رباط الأخلاق الزوجية وبعضها عاجز عن تدارك أمره بما فيه من فوضى الآراء وتشعب الأهواء وتأصل الداء، وبعضها قد أخذ يعالج الحالة بما فرضه على العزابة من ضريبة مالية وما جعله من مكافآت المتزوجين والمتزوجات. الإرشاد النبوي: فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعرفنا بهذا الضعف في جنس المرأة حتى لا نعدو بها ما خلقت له من وظيفة القسم الداخلي من الحياة فنظلمها ونظلم الحياة، وأراد أن يدلنا على ضعفها بدليل تاريخي مشاهد للأجيال، فذكر لنا تخلفها عن الرجل في بلوغ ذروة الكمال، فأخبرنا أنه قد كمل في الأمم الماضية من الرجال كثير وما كمل منهم من النساء غير امرأتين. وذكر فضل عائشة على نساء وقتها كفضل الثريد على الطعام من أطعمة العرب ليجمع بين الحديث على الأمم الماضية وأمته ويدل على استمرار الكمال في النساء مثل استمراره في الرجال كل بما قدر ويسر له. إلى أي درجات الكمال بلغتا: قد بينت درجات الكمال في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وقد ذهب بعض الناس إلى أن كمال مريم وآسية ببلوغهما درجة النبوة، وذهب الأكثرون إلى أنهما لم تبلغا إليها وإنما بلغتا ما دونها من رتبة الصديقية، واستدلوا بما تقتضيه

الاقتداء

رتبة النبوة من الظهور لهداية الناس وإرشادهم، وذلك غير ما خلقت له المرأة، وهذا الحديث ليس نصا في كمال النبوة فلا تقوم الحجة. وقد جاء في صحيح مسلم- من طريق علي- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة». فأخبر بخير نساء الدنيا في الأمم الماضية وخير نساء الدنيا في هذه الأمة، فكما لم تكن هذه نبية لم تكن تلك نبية، على ظاهر الفرق ما بينهما في الخيرية. وذهب قوم إلى نبوة مريم بدليل أن الملائكة خاطبتها باصطفاء الله لها وأمرها بالقنوت والسجود والركوع في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وهذه هي النبوة: تبليغ الملائكة وحي الله بالاصطفاء والتكليف لمن يشاء من عباده. فهذا الدليل القوي دليل على خصوصية مريم البرة النقية عليها السلام بهذه المزية بين بنات حواء كلهن. الاقتداء: هؤلاء السيدات الكاملات كلهن قد كملن في الدين فمنهن أمُّ نبي ومنهن زوجة نبي ومنهن منقذة نبي. فعلينا أن نكمل النساء تكميلا دينيا يهيئن للنهوض بالقسم الداخلي من الحياة وإعداد الكاملين ومساعدتهم للنهوض بالقسم الخارجي منها. وبذلك تنتظم الحياة انتظاما طبيعيا تبلغ به الإنسانية سعادتها وكمالها (1).

_ (1) ش: ج6، م 11، ص 346 - 348 جمادى الثانية 1354هـ - 1935م.

شهيدة في ميدان الوغى

شَهِيدَةٌ فِي مَيْدَانِ الْوَغَى (1). ((مَالِك، عَنْ إِسْحَقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَا يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ -وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَلَسَتْ تَفْلِي فِي رَأْسِهِ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ -يَشُكُّ إِسْحَقُ- قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ، قَالَتْ: فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ)). ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: ثبت عند البخاري من طريق الليث تصريح أنس بالرواية عن أم حرام خالته، فكان أنس مرة يصرح بها ومرة لا يصرح، وإذا روى الصحابي ما هو من أقوال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وشؤونه عن غيره فلا يقدح في حديثه عدم تصريحه بمن روى عنه لأن غيره

_ (1) العنوان من وضع المعلق.

المتن

صحابي مثله، والصحابة كلهم عدول، ورواة هذا الحديث- غير مالك- أقارب، فإن اسحاق ابن عم أنس وأم حرام خالة أنس، وقد روى هذه القصة بلفظ أخصر عن أم حرام أو آخر عمير بن الأسود العنسي. أخرجه البخاري. المتن: جاء عنه بألفاظ متقاربة كلها متفقة على أصل المعنى، وخرجه البخاري بتلك الألفاظ في مواضع من صحيحه. العربية: فلي الرأس: تفتيشه لإخراج الهوام أو للتنظيف من غبار ونحوه، والمقصود هنا الثاني لأن الأخبار متواترة تواتراً معنويا بنظافة جسمه- صلى الله عليه وآله وسلم- وطيب ريحه وعرقه. وثبج البحر: وسطه، وهو معظمه ومحل هوله. سؤال وجوابه: ما وجه دخوله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليها وتمكينها من فلي رأسه؟ كانت كل محرما له بالخؤولة أو بالرضاعة؛ حكاه الأئمة. تحقيق تاريخي: أول ما ركب المسلمون البحر للغزو في خلافة عثمان- رضي الله عنه- استأذنه معاوية- رضي الله عنه- فأذن له فغزا قبرص سنة سبع وعشرين. ذكره ابن الأثير وغيره، وأول ما غزا المسلمون القسطنطينية وركبوا إليها البحر كان في خلافة معاوية سنة 28هـ، وكان في ذلك الجيش أبو أيوب الأنصاري دفينها. تطبيق على هذا الحديث: خرجت أم حرام مع زوجها وركبت البحر في زمان معاوية، أي

الأحكام

في زمان إمارته، وكان ذلك أول جيش ركب البحر، وكانت هي معهم وتوفيت بعد خروجها من البحر ونزولها في أرض قبرص، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، وأما الجيش الثاني فهو الجيش الذي غزا القسطنطينية ولم تكن أم حرام معهم. وما جاء في صحيح البخاري صريح فيما قلناه من تعين الجيش الأول والجيش الثاني. ونصه من طريق عمير بن الأسود عن أم حرام قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قالت أم حرام قلت: يا رسول الله، أنا فيهم، قال: أنت فيهم. ثم قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا. فكانت مع أول جيش غزا البحر وهو جيش معاوية إلى قبرص لا غيره كما حققنا. الأحكام: فيه دخول الرجل على محرمة دون حضور الزوج. وفيه سنة إطعام الزائر، وفيه تصرف المرأة فيما تحت يدها من مال زوجها من الطعام بالمعروف. وفيه مباشرة محرم الرجل له في غير العورة. وفيه سنة القيلولة. وفيه سنة إظهار السرور بالنعم والطاعات، وفيه جواز سؤال من بدر منه ما لا يعرف سببه، وفيه الاهتمام بكل ما يصدر منه- صلى الله عليه وآله وسلم-، وفيه جواز ركوب البحر، وفيه جواز التوسع بالحلال، وفيه فضل الغزو في البحر، وفيه سؤال الشهادة، وفيه سنة طلب الدعاء ممن ترجى إجابته، وفيه الدعاء ممن طلب منه، وفيه غزو النساء مع الرجال. الفوائد: منها: أن رؤيا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وحي محفوظ، وقد

الموعظة

كان الصحابة يعلمون هذا علما عاماً ولذلك سألت أم حرام أولا وثانيا سؤال المتيقن بوقوع الغزو على الوجه الذي ذكر- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قد تكون رؤياهم بالمثال كما رأى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بقرة تنحر فأولها بمن قتل من أصحابه في غزوة أحد، وقد تكون بالصريح الذي لا يحتاج إلى التأويل كما هنا، ومنها تحقيق استجابة دعائه إذا دعا، ولهذا قال لها في الثانية- جازما-: أنت من الأولين. وهذا فيما لم يعلم بالمنع منه كما في حديث وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، يعني أمته فمنعنيها. ومنها أن من معجزاته- صلى الله عليه وآله وسلم- إخباره بأمور غيبية لم يكن شيء مما يدل عليها أو يقتضي وقوعها يوم أخبر فوقعت كما أخبر فركب أصحابه البحر وغزوا الروم ومدينة قيصر من بعده بينما كانوا يوم أخبر بهذا من أبعد الأمم عن ركوب البحر والبراعة فيه وكانت أم حرام مع الطائفة الأولى كما أخبرها، وكانت منهم على أبلغ وجه حيث فازت بالثمرة المقصودة من الغزو وهي الشهادة وإن كان موتها في غير مباشرة القتال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد. رواه مسلم ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. الموعظة: علم الله أن السيادة في البر لمن ساد في البحر، وأن أقسام الأرض المتقاطعة وأصناف الأمم المتباينة، لا يقرب بينها. ويفتح الطريق لتواصلها وتعارفها، وينقل مدنياتها من بعض إلى بعض منها إِلاَّ ركوب البحر وملك ناصيتها، فجاءت الآيات القرآنية العديدة في ذكر البحر

وصفاته ومنافعه وسفنه وبديع الصنعة فيه وعظيم النعمة به. وجاء هذا الحديث يبشر الأمة الإسلامية بما هيء لها من أسباب السيادة ويعرفها أنها أمة ملك وسلطان وقوة وأنها ستملك البحار، وتغزو الأمصار الكبار، يعرفها بهذا ويدعوها إليه لتعد له عدته وتأخذ له طريقه وتتوصل إليه بأسبابه. إذ لا يكون ملك إلا بأسباب الملك، ولا تكون قوة إلا بأسباب القوة ولا تكون السيادة إلا بأسباب السيادة، وقد علمت من دينها أن السيادة لا تكون إلا بالملك وأن الملك لا يكون إلا بالقوة: قوة الأبدان وقوة العقول وقوة الأخلاق وقوة المال- وبهذه يكون العدل الذي هو أساس الملك- وأن لا قوة إلا بالعلم والعمل والتهذب، فإذا دعاهم هذا الحديث إلى السيادة فقد دعاهم إلى هذا كله ونبههم على هذا التقدير المحكم الذي ارتبط بعضه ببعضه وعلى أنه لا سبيل إلى غايته إلاَّ بإتيانه من بدايته، وقد فهم المسلمون هذا دهرا فسلكوه فأنجز لهم الله وعده، وجهلوه أدهارا فتركوه فأذاقهم الله بأسه، وما ربك بظلام للعبيد. ولئن عادوا إليه ليعودن إليهم، ولن يخلف الله الميعاد (1).

_ (1) ش: ج1، م 10، ص 9 - 14 غرة رمضان 1352هـ - فيفري 1934م.

خروج النساء إلى المساجد

خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ. ((روى مسلم في صحيحه بسنده عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللهَ بْنَ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا». قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ.)) ــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح: قد صح من السنة العملية والسنة القولية خروج النساء إلى المساجد وحضورهن مشاهد الخير، وثبت نهي الرجال عن منعهن من ذلك، ومنه ما في هذا الحديث. وعليهن قبل الخروج أن يستأذن الرجال كما هو مقتضى قوله إذا استأذنكم إليها، كما ثبت أيضا نهيهن عن مس الطيب إذا أردن الخروج وعليهن لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وأن يضربن بخمرهن على جيوبهن وأن يدنين عليهن من جلابيبهن وهي ما يجعل فوق الثياب كلها كالملاءة ونحوها وأن لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فلا يسمع منها خشخشة الحلي ولا رنين الخلخال. وأن يمشين في حافات الطريق ولا يحاققن الطريق، أي لا يمشين في وسطه وهذه كلها مأخوذة من الآيات والأحاديث في هذا الباب ولما سمع بلال بن عبد الله أباه يحدث بهذا الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قابله بالرد وقال والله لنمنعهن فغضب أبوه غضبا شديدا وسبه وشتمه سبا سيئا مقابلا لقوله السيء ومقابلته للحديث النبوي بالمعارضة.

نفي تعارض

نفي تعارض: ثبت عن عائشة أنها قالت: لو أن رسول الله- صلى الله عليه وآله ولسلم- رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، وهذا لا يعارض ما تقدم، لأن الذي أحدثته هو الطيب والزينة وهو نهي عن منعهن ونهاهن عن مس الطيب عند إرادة الخروج فلو رأى ما أحدثن لمنعهن لإخلالهن بالشرط حتى يلتزمنه ولا يمنعهن منعا يكون إبطالا لنهيه الأول عن منعهن. قدوة: لما سمع عبد الله بن عمر ابنه بلالا يصارحه بمعارضة السنة ومخالفتها لم يملك نفسه واستشاط غضبا حتى سبه سبا سيئا لم يكن من عادة ابن عمر صدور مثله منه. وهكذا كل مسلم غيور على الإسلام والكتاب والسنة يسمع من أهل الإسلام التكذيب بهما أو التعدي عليهما أو المعارضة لهما بالرأي والهوى أو تحريفهما عن مواضعهما كذلك فإنه لا يملك نفسه أن يدافع عنهما وقد يملكه الغضب لله فيكون منه بعض ما ليس من عادته أن يصدر منه من قول. تحذير وإرشاد: هذا الذي وقع من بلال كثيرا ما يقع مثله أو نحوه من أهل الجهل والبدعة الذين شبوا عليهما وشاخوا حتى صارت البدعة عندهم سنة والسنة بدعة فإذا ذكرت لهم الحكم الشرعي بدليله من الكتاب والسنة صدوا ونفروا وأبوا واستكبروا وصارحوا بالمخالفة أو سكتوا وأضمروا الخلاف. وما هذا شأن المؤمنين فحذار إذا سمعت حكما شرعيا ونصا قرآنيا أو حديثا صحيحا نبويا أن تقابل بالخلاف بل انشرح بذلك صدر ولا يكن في صدرك من حرج مما قضى الله ورسوله وسلم تسليما (1).

_ (1) ش: ج5، م 8، ص 250 - 252 غرة محرم 1351هـ - ماي 1932م.

تحريم الخلوة بالأجنبية خصوصا على الأقارب

تَحْرِيمُ الْخُلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ خُصُوصًا عَلَى الْأَقَارِبِ. ((أخرج مسلم في صحيحه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ»)). ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: الحمو: على وزن دَلو قال الليث بن سعد: هو أخ الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه، فالأحماء أقارب الزوج والأختان أقارب الزوجة والأصهار يقال عليهما. التراكيب: نصب إياكم على التحذير. أفرأيت معناه أخبرني. الحمو الموت تشبيه بليغ كزيد أسد، وفي الموت استعارة تصريحية شبه فساد البيوت وخرابها وانحلال روابطها بالموت بجامع الهلاك والزوال في كل. فجاء عليه وآله الصلاة والسلام بهذا التركيب البليغ البالغ للمبالغة في التحذير والبلوغ إلى غاية التأثير. المعنى: حذر عليه وآله الصلاة والسلام الرجال من الدخول على النساء، وكانوا يتساهلون في الدخول على نساء أقاربهم، فسأل هذا الأنصاري - رضي الله تعالى عنه-عن أقارب الزوج، فأجابه- صلى الله عليه وآله وسلم-

الأحكام

بأن الخوف منه أكثر والشر منه أقرب والفتنة به أشد، لأنه متمكن الدخول إلى بيت أخيه دون إنكار عليه، فيتوصل إلى المرأة ويخلو بها دون كلفة ولا مراقبة، بخلاف الأجنبي فهو بعيد عن الدار ينكر عليه دخولها ويخشى من مراقبة أهلها، فإذا كان الأجنبي ممنوعا من الخلوة بالأجنبية فأحرى وأولى قريب زوجها. وبيَّن عليه وآله الصلاة والسلام أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الهلاك والفتنة في الدين وإلى خراب البيت وفساد الأسرة واضمحلالها. الأحكام: حرم الحديث الخلوة بالأجنبية خصوصا على الأقارب أما المحرم كزوجة الإبن أو زوجة الأب فلا تحرم الخلوة بها للمحرمية وأما الدخول دون خلوة فإذا انتفت الريبة فهو غير ممنوع. العمل بالحديث: الناس- إلا من شاء الله- بهذا الحديث جاهلون، وعن سوء العاقبة التي حذر منها غافلون، وفي الهلاك الديني والعرضي واقعون، فحق على من قرأ هذا الحديث أن يعلمه للناس وينشره فيهم ويحث نفسه وإياهم على العمل به والسير على أدبه ولا يستعظمن ما يراه من جهل فإنه ما جاء إلا من قلة نشر العلم فإذا نشر العلم- ولو كان في أوله قليلا- فإنه لا يلبث بإذن الله أن يصير كثيرا، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (1). **

_ (1) ش: ج 9، م 8، ص 459 - 460 غرة جمادى الأولى 1351هـ - سبتمبر 1932م.

خير النساء

خَيْرُ النِّسَاءِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَلِي عِيَالٌ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ». رواه مسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: الحديث ثابت في الصحيحين وإنما انفرد مسلم بهذه الرواية التي فيها ذكر سبب ورود الحديث وهو خطبة النبي- صلى الله وآله وسلم- أم هانيء- رضي الله عنها- وما أجابت به. الكلمات: حنا عليه: يحنو حنوا عطف فالأحنى هو الأكثر عطفا. وحنت المرأة على ولدها حنوا فهي حانية إذ لم تتزوج بعد أبيه فإذا تزوجت فلا يقال فيها حانية. رعي الشيء يرعاه رعاية حفظه فالأرعى هو الأحفظ. وذات اليد هي الأموال لأنها صاحبة اليد تجعل فيها. التراكيب: ركبن الإبل: كناية عن نساء العرب وقصد بها التعميم أي خير نساء العرب كلهن. وجملة أحناه مستأنفه لبيان ما كن به خير النساء، وأفردَ الضمير في أحناه باعتبار الجنس.

الأشخاص

الأشخاص: أم هانيء بنت أبي طالب كانت تزوجت هبيرة بن عمر المخزومي أسلمت عام الفتح وهرب زوجها إلى نجران فأولادها منه هم العيال الذين اعتذرت به وأبت أن تتزوج عليهم فقبل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عذرها. المعنى: خير نساء العرب نساء قريش لجمعهن بين: الرأفة بالولد والشفقة عليه والعناية به في تربيته حتى يتركن التزوج من أجل التفرغ للقيام به، وحفظهن للمال وحسن التدبير فيه والأمانة عليه. فيكفين الزوج أعز شيء لديه وهو ماله وولده اللذان بهما حسن حاله وبقاء أثره. تنبيه على استلزام: لا تستطيع ترك التزوج بعد تأيمها للتفرغ لتربية أولادها إلا المرأة الكاملة العفاف الشديدة الرأفة التي أنساها حبها في أولادها والشفقة عليهن داعية النفس إلى الزواج وما استطاعت ذلك إلا بما عندها من ملكة العفاف فوصفها بأنها حانية يستلزم أنها عفيفة. توجيه: لا بقاء لأمة من الأمم إلا بانتظام أسرها وحفظ نسلها وقد خصص الله المرأة للقيام بهذين الأمرين العظيمين وزودها من الرحمة والشفقة ما يعينها عليهما، وإنما تقوم بهما إذا جمعت ما بين العفة في نمسها والاقتصاد في نفقتها والتفرغ للقيام بأولادها ولهذا لما جمع نسوة قريش ذلك كله كن خير نساء العرب. إرشاد: يبين لنا هذا الحديث الشريف ما خلقت له المرأة من العمل العظيم

الأحكام

في الحياة ويرشدنا بذلك لوجوب القيام عليها وتهيئتها لذلك بالتربية والتعليم فتكون تربيتنا وتعليمنا لها بما يقوي فيها هذه الصفات: العفة وحسن تدبير المنزل والنفقة فيه، والشفقة على الولد وحسن تربيته، وكل زيادة على هذه- بعد تهذيب أخلاقها وتصحيح دينها وتحبيبها في قومها- فهي ضارة بها أو مخرجة لها عن مهمتها العظيمة ملحقة الضرر بقومها فلنجعل هذا الحديث الشريف دليلنا ومرشدنا في كل ما نسعى إليه من تعليم النساء والبنات. الأحكام: امتنعت أم هانيء من التزوج للقيام بأولادها فأقرها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأثنى على المتصفات به فدل ذلك على استحسانه لمن ملكت عفتها وقدرت عليه. وثناء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على نساء قريش بوصفهن دليل على ما ينبغي من اختيار المرأة المتصفة بمثل هذا الوصف. ودليل ما ينبغي أن يتخير من معادن النساء في بيوتهن وأقوامهن فإن الأخلاق تتوارث والبنات متأثرات بالأمهات في الغالب. تصديق: إن نساء أنجبن من أنجبن من رجالات قريش في الجاهلية والإسلام وولدن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- لهن خير نساء في كل ما توصف به النساء من خير فصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وبرَّ وشهدت بصدقه الأيام (1). **

_ (1) ش: ج 9، م11، ص 496 - 498 رمضان 1354هـ - ديسمبر 1935م.

الآيه الخالدة لنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم

الآيه الخالدة لنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم. أَبُو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رواه البخاري ومسلم وغيرهما ــــــــــــــــــــــــــــــ لما كان المقصود من الرسالة هو هداية الخلق وإقامة الحجة عليهم كان الرسل- صلوات الله عليهم- أكمل الناس في أخلاقهم وأنزههم في سيرتهم، معروفين بذلك بين أقوامهم قبل نبوتهم، ثم إذا بعثهم الله تعالى آتاهم من العلم وقوة الإدراك ووضوح البيان ما تنهض به حجتهم وتتضح به دعوتهم ويقطع بكل من يعارضهم بشبهة ويموه بباطل، وإذا قرأت ما قصَّه علينا القرآن العظيم من مواقف الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم- رأيت كيف أنهم كانوا يدعون الناس بالحجج والبراهين والأدلة العقلية الجلية، وأنهم كانوا إذا سئلوا الآيات المعجزات الخارقة للعادة ردوا الأمر إلى الله ونفوا أن تكون لهم قدرة على الإتيان بها إلا بإذن الله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فيظهر الله على أيديهم الآيات تأييدا لهم وتخويفا لأقوالهم وقطعا لمشاغبتهم، فيخضع لها بَعضهم ويستمر الأكثرون على العناد، فما من نبي من الأنيياء إلا وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما مثله في وضوحه، وظهوره والعجز عن

تفرقة وترجيح

معارضته ما يؤمن عليه العباد، ويتفقون عليه لولا ما يصدهم عنه من العناد، وهو معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر». والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أوتي مثل هذه الآيات، وقد غفل الكثير منها كثير من أصحابه- رضي الله عنهم- واشتهرت عند أئمة الحديث والنقل، غير أن آيته الخالدة الدائمة كعموم رسالته ودوامها هي القرآن العظيم وهو الوحي الذي أوحاه الله إليه، فهي المعول عليها في دوام الحجة على تعاقب العصور والأجيال، اذ لا يقوم غيرها مقامها في بقائها مشاهدة لجميع الناس، ولذا حصر آيته فيها فقال: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي». تفرقة وترجيح: آيات الرسل- صلوات الله عليهم- كانت معجزات كونية لا يشهدها إلاَّ من حضرها، ثم تبقى أخبارا يمكن للجاحد إنكارها ويتأتي للمشاغب أن يصنع من الخزعبلات والمخارق ما يموه به على ضعفه العقول ويدعي مماثلتها. وآية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهي القرآن العظيم معجزة علمية عقلية يخضع لسلطانها كل من يسمعها ويفهمها ولا يستطيع معارضتها، لا في لفظها وأسلوبها وبيانها، الذي عجزت عن معارضة أقصر سوره العرب، على ما كان من حميتها وانفتها وشدة رغبتها في إبطالها لو وجدت سبيلا إليها فقط- بل لا تستطاع معارضتها فيما اشتملت عليه من أصول العلوم التي يحتاج إليها البشر في كمالهم وسعادتهم أفرادا وجماعات، وأمما وما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة والحكم الباهرة في كل ما دعت إليه إلى ما اشتملت عليه من حقائق كونية كانت مجهولة عند البشر حتى كشفها العلم في هذا العصر مثل

تفريع

انباء الخلق كله على أساس الزوجية في أشياء كثيرة. مصداق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. فبهذا كانت آية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أعظم الآيات وأبقاها، وكانت مغنية عن غيرها كافية عما عداها كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. تفريع: لما بقيت هذه الآية الكبرى على العصور- وانبنت على الاحتجاج بالعلم والعقل كان لها في كل عصر اتباعها الكثيرون عن اقتناع واطمئنان ويزداد ويكثر عددهم بتوالي الأزمان. ويكثر الداخلون فيهم بقدر ما يزداد تقدم البشر في العلم والعرفان، وقد شوهد هذا اليوم وقبل اليوم. ونحن نرى في هذا العصر كيف ينتشر الإسلام تباعا لهذه الآية بين الأمم وفي علمائها دون نشر للدعوة من المسلمين تبينها ولا قوة لهم تؤيدها. وإنما بما فيه من علم وحجة وأدب وحكمة تخضع العقول وتجذب القلوب. ولهذا فرع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على كون آيته، وحيا رجاء أن يكون أكثر الأنبياء- صلوات الله عليهم- أتباعا يوم القيامة الذي تظهر فيه التابعية الصادقة فقال: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». إنفراده- صلى الله عليه وآله وسلم- بالاتباع من يوم بعثته: ليس المنتمون لموسى- صلى الله عليه وسلم- ولعيسى - صلى الله عليه وسلم- باتباع لهم، لأن دعوة الأنبياء- صلوات الله عليهم- واحدة ودينهم- وهو الإسلام- واحد وإن اختلفت بعض الفروع العملية في شرائعهم، فمن لم يؤمن بواحد منهم كمن لم

إقتداء

يؤمن بهم كلهم، وما كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بدعا من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاؤا به، وما جاء إلا مصدقا لهم. فالذين لم يتبعوه من المنتمين إليهما عليهما السلام غير متبعين لهما فانقطعت تابعيتهما ببعثة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فمن آمن به كان من اتباعه وإلا كان من الهالكين. وقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم- «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». إقتداء: كل داع له من الأجر مثل أجور من اتبعه على دعوته لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، فرجا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كثرة أتباعه إذ في ذلك انتشار الهداية، وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- أحرص الناس على هداية الناس، وفي ذلك مضاعفة أجره وجزائه عند الله، فلنا فيه الأسوة الحسنة بالحرص على نشر هدايته وتبليغ دعوته ورجاء كثرة الأجر والثواب بكثرة ما نوفر من اتباعه فليعمل العاملون لهذا وليجهدوا فيه. وقد رجا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كثرة أتباعه لدوام وظهور آيته الخالدة، وهي القرآن العظيم، فعلى الناشربن لهدايته والمبلغين لدعوته أن يجعلوا القرآن أمامهم وحجتهم ومرجعهم، فإنه هو كتاب الدعوة، ومنشور الهداية، ومظهر الحجة. وأتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- هم أتباع القرآن وخلفاؤه في التبليغ، وورتثه في العلم هم الذين يبلغون القرآن ويتلون القرآن وينذرون بالقرآن كما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك وكما قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}

{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}. جعلنا الله ممن اتبعوا دينه، ونشروا هدَايته وبلغوا حجته غير مبدلين ولا مغيرين (1).

_ (1) ش: ج 3، م 11، ص 145 - 149 صفر 1354 هـ-3 جوان 1935م.

قيمة الرجل بقيمة قومه

قِيمَةُ الرَّجُلِ بِقِيمَةِ قَوْمِهِ. لما قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» (1) نبه على معنى عظيم في ارتباط كل فرد بأمته ارتباط الجزء بكله وهذا الارتباط يقتضي أمورا كثيرة منها ما جاء نصا في الحديث الشريف ومنها ما يؤخذ مما يقتضيه التشبيه ومن هذا أن الفرد منظور إليه في النظر الاجتماعي العام بما ينظر به إلى أمته، سواء أساواها في المستوى الذي هو فيه من رقي وانحطاط، أم كان أسمى منها أو أدنى فقيمته في النظر الاجتماعي العام هي قيمتها. ــــــــــــــــــــــــــــــ جمعتني ليلة بثلاثة من شبابنا المتعلم التعليم الأوروبي والمتأدب الأدب الإفرنجي ممن لا ينقصه شيء عن الطبقات الراقية منهم، وانساق بنا الكلام إلى ما تكتسب به الأمم والأفراد الاحترام في عين غيرها، واتفقنا على أن الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها ولغتها ودينها وتاريخها لا تعد أمة بين الأمم، ولا ينظر إليها إلا بعين الاحتقار مع القضاء عليها في ميادين الحياة بالتقهقر والاندحار. وان الفرد الذي لا يحافظ على ذلك من أمته لتأخرها في سير الزمان بما أحاط بها من ظروف الحياة وأن تحلى بأعظم وأحسن ما يتحلى به الراقون من أمة أخرى لا ينظر إليه إلا بالعين التي ينظر بها إلى أمته. أخذ أولئك الشبان- وقد زالت عن أبصارهم غشاوة الغرور

_ (1) رواه مسلم ولفطه: تداعى له سائر الجسد (المعلق).

والغفلة لما أقنعتهم بأن قيمة الرجل بقيمة أمته- يقصون علي من الوقائع التي وقعت لهم هم أنفسهم ما يثبت تلك الحقيقة ويؤيدنها. قلت لأولئك الأخوان- وقد اندهشت مما لم أكن أحسبه يقع-: لا تلوموا من عاملكم بما تقتضيه نظرة اجتماعية عامة، ولكن لوموا أنفسكم إن جهلتم هذه الحقيقة، وأنتم أبناء دين قررها من أول أيامه في مثل الحديث الشريف الذي افتنحنا به هذا المقال. واليوم- وقد تجلت لكم الحقيقة علميا وعمليا- عليكم أن تلتفتوا إلى أمتكم فتنشلوها مما هي فيه بما عندكم من علم وما اكتسبتم من خبرة محافظين لها على مقوماتها سائرين بها في موكب المدنية الحقة بين الأمم، وبهذا تخدمون أنفسكم وتخدمون الإنسانية بإنهاض أمة عظيمة تاريخية من أممها، ثم لا يمنع هذا من أخذ العلم عن كل أمة وبأي لسان واقتباس كل ما هو حسن مما عند غيرنا ومد اليد إلى كل من يريد التعاون على الخير والسعادة والسلام (1).

_ (1) ش: ج 8، م 11، ص 443 - 444 شعبان1354 هـ- نوفمبر 1935م.

من السنة تعلم اللغات المحتاج إليها

مِنَ السُّنَّةِ تَعَلُّمُ اللُّغَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا. زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ قَالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ» قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ. قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. رواه الترمذي وحسنه ورواه غيره ــــــــــــــــــــــــــــــ لما نزل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالمدينة مهاجراً كان بها وبضواحيها مع الأوس والخزرج- رضي الله عنهم- اليهود، فأقرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكتب بينه وبينهم عهداً، وكانت الكتب تدور بينه وبينهم في الشؤون والمصالح من الطرفين. فكانوا يكاتبونه بالخط العبراني، كانت لغتهم العربية، ولكنهم كانوا يكتبون بالخط العبري، فأمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كاتبه زيد بن ثابت- رضي الله عنه- أن يتعلم الخط العبري ليكتب له إليهم ويقرأ له ما يرد عليه منهم فيكون على يقين من كلامهم إليه وبلوغ كلامه إليهم، وما كان ليحصل له هذا اليقين- وهم ليسوا بمحل الثقة- لو تولى ذلك واحد منهم فقد لا يكتب عنه كل ما يقوله لهم وقد لا يقول له كل ما كتبوه إليه، فتعاطى زيد تعلم الخط العبراني، فما مضى عليه نصف شهر حتى حذقه وتولى الكتابة عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- والقراءة له.

الفوائد والأحكام

الفوائد والأحكام: الأولى: كل قوم تربط بينهم المصالح لا بد لهم من التعاون، ولا يتم التعاون إلا بالتفاهم والتفاهم بالمشافهة والكتابة، فعلى القوم المترابطين بالمصلحة أن يفهموا بعضهم لغة بعض وخطه، وبقدر ما تكثر الأقوام المترابطة بالمصلحة تكثر اللغات والخطوط ويلزم تعلمها، لأن العلة هي الحاجة. وسواء كانت المصلحة التي تربط الأقوام عمرانية أو علمية لأن المصلحة من حيث هي مصلحة محتاج إلى تحصيلها، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أمر زيداً بتعلم الكتابة، لأن اللغة كانت عربية ولو كانت لغة أخرى لأمره بتعلمها لعلة الحاجة، والحكم يدور مع العلة. وقد جاء عن زيد من طريق أخرى- ذكرها الترمذي- أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أمره أن يتعلم السريانية. فنحن اليوم وقد ربطت بيننا وبين أمم أخرى مصالح علينا أن نعرف لغتهم وخطهم كما عليهم هم أن يعرفوا لغتنا وخطنا. الثانية: هذه السنة أصل في اتخاذ الكتبة والتراجمة في الدولة وما يشترط فيهم من العلم والأمانة. الثالثة: كان في إمكان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكاتبهم بالخط العربي ويلزمهم أن يكاتبوه به ولكن تسامح الإسلام واحترامه لمحترمات الأمم في دينهم وقوميتهم قضيا بترك اليهود يكتبون ويكاتبون بخطهم، فأقرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على ما أرادوا وكلف هو من تعلم خطهم. وتركها لاتباعه سنة بعده. الرابعة: هذه السنة أصل في ضبط أمور الدولة بالكتابة فيما يصدر عنها وفيما يوجه إليها. ومثلها ضبط كل العاملات، فهي أصل في التسجيل على العموم. وهكذا تجد سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إذا تتبعتها- قد قررت - بالفعل- أصولا كثيرة

من أصول المدنية والعمران، ولهذا كان على قارئها أن يتناولها للفهم والاستنباط والتطبيق على الأحوال (1).

_ (1) ش: ج 2، م 11، ص 77 - 78 صفر 1354 هـ- 5 ماي 1935م.

التستر بالنقائص

التَّسَتُّرُ بِالنَّقَائِصِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ -وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ- فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ». رواه البخاري في الأدب ومسلم في الزهد والرقائق ــــــــــــــــــــــــــــــ الكلمات: المعافى: من العافية وهي السلامة، فالمعافى هو السالم. ويحتمل أن يكون المراد هنا سلامة العرض من القدح أو سلامة البدن من الحد أو سلامة العاقبة من المؤاخذة بالذنب. والمجاهر: هو المعلن بفسقه. المعنى: قد يرتكب المذنب المعصية مع شعوره بقبح ما أتى وخجله به من ربه وانكسار قلبه من أجل معصيته، فهو لذلك يتستر بذنبه فلا يطلع عليه غيره لا بقول ولا بفعل، فهذا قد سلم منه الناس فلم يؤذهم بشره ولم يدعهم إلى الاقتداء به، وسلم منه الشرع فلم يكسر من هيبته ولم ينقص عند الناس من حرمته، فسلم له هو عرضه من القدح وبدنه من الحد وسلم له أصل إيمانه، وهو حياؤه من الله وخوفه منه، واحترامه لدينه وبعضه لما يأتي من معصيته فيوشك بهذه الحياة التي في قلبه أن يقلع عن ذنبه ويتوب فيسلم عن المؤاخذة بسبب الثوبة، وقد يترجح

إستنباط

ما في قلبه من خوف وخجل واحترام وبغض للمعصية وتألم بها- على نفس المعصية- فيسلم من المؤاخذة بها عند الموازنة يوم القيامة. فصدق فيه هذا الوعد بأنه معافى من ذنبه وسالم من المؤاخذة به. أما الذي يجاهر بمعصيته ويعلن بها فهذا قد تعدَّى على مجتمع الناس بما أظهر من فساد وما أوجد من قدوة سيئة وما عمل لمجاهرته على شيوع الفاحشة فيهم. وقد تعدى على الشرع بما انتهك من حرمته وجرأ من السفهاء عليه. وهو بمجاهرته قد دل على استخفافه بحق الله وحق عباده وعلى عناده للدين وخلو قلبه من الخوف والحياة، وأي إيمان يبقى بعدهما. ولما كانت المجاهرة بالمعصية تطلق في الغالب على من يعلن أمره للجماعات بين النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن مجاهرة الفرد كمجاهرة الجماعة من باب التنبيه على الجزئي الخفي من جزئيات المنهي عنه لأنه هو الذي شأنه أن لا يتنبه له فيتساهل فيه ومن تساهل في الجزئي الخفي أدَّاه ذلك إلى التساهل في غيره. وهذا الجزئي الخفي هو أن يعمل عملا يستره الله فيه ثم يحدث به رفيقه فيكشف ستر الله عنه. إستنباط: قد تبين ما في المجاهرة من المفاسد والظلم، وقد دل الحديث على أن أهلها غير معافين، فهم هالكون، فهي حرام، ومعصية زائدة في أصل المعصية، فالمجاهر بمعصيته ارتكب معصيتين: المعصية والمجاهرة بها، وقد تجر عليه المجاهرة آثاما كثيرة بما يتسبب عن معصيته من شيوع الفاحشة وسوء القدوة، ويستمر ذلك يكتب عليه من آثاره ما بقي متسبب عن آثاره إلى يوم القيامة. فيا لفداحة الحمل يوم الفزع الأكبر وكما يحرم تحدث الشخص بمعصية نفسه لما فيه من المجاهرة كذلك يحرم عليه أن يتحدث بمعصية غيره ولو كان هو الذي

تنبيه وتحذير

حدثه لما في ذلك من إذاعة الفاحشة ومن الغيبة. تنبيه وتحذير: المجاهر بفسقه الذي لا يستتر من أحد يجوز ذكره بفسقه الذي جاهر به إذا كان في ذكره به مصلحة أو دفع مفسدة، ويجب أن يحذر من ذكره لغير ذلك فإنه من الغيبة وإذاعة الفاحشة. إعتبار: هذا في الأفراد، ومثلها الأمم، فالأمة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضرب على يد سفهائها وأهل الفساد منها وتهجرهم وتنبذهم من مجتمعها تسلم من الشرور والبلايا، وتقل أو تنعدم منها المفاسد والمنكرات، والأمة التي تسكت عن سفهائها وأهل الشر من كبرائها وتدعهم يتجاهرون فيها بالفواحش والقبائح، هي أمة هالكة متحملة جريرة المجاهرة، بالمعاصي، بالهلاك في الدين والعذاب في الآخرة. تربية: روى الحاكم في مستدركه، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله). فليعمل المسلم على اجتناب المعاصي كلها. حتى إذا ألم بشيء منها فليجتهد في إخفائه وستره وليضرع إلى الله تعالى في سجوده أن يتوب عليه من ذنبه وليتوسل إليه- تعالى- بإيمانه به وحيائه وخوفه منه واحترامه لشرعه وعباده، فهو- جل جلاله- يحب التوابين ويحب المتطهرين (1).

_ (1) ش: ج11، م 11، ص 591 - 593 غرة ذي القعدة 1354هـ- فيفري 1936م

الشرك والوثنية ودعوى النبوة

الشِّرْكُ وَالْوَثَنِيَّةُ وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ. عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي». رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح. ــــــــــــــــــــــــــــــ كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يعرف أصحابه بما يكون في أمته من بعده، وهو تعريف للأمة بما يكون فيها، يعرفهم بذلك ليحذروه ويجتنبوا أسبابه ويبادروا إلى معالجته عند وقوعه. لا يستبعد مسلم صدور الشرك والوثنية ودعوى النبوة من غير المسلمين، وإنما يستبعد ويستنكر أن يكون شيء من هذا ممن يقولون أنهم مسلمون. ولهذا قدم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا التعريف والإنذار. حتى إذا وقع شيء من هذا من هذه الأمة بودر إلى إنكاره وعلاجه ولم يتساهل معهم في شيء من ذلك لأنهم يقولون أنهم مسلمون. اللحوق بالمشركين: من اعتقد مثل عقيدتهم أو فعل مثل أفعالهم أو قال مثل أقوالهم فقد لحق بهم، وقد يكون اللحوق تاما مخرجا عن أصل الإسلام، وقد يكون دون ذلك. فأصل عقيدة الشرك عند عرب الجاهلية أنهم يعلمون أن الله هو خلقهم وهو يرزقهم وهو المالك لجميع مخلوقاته، ولكنهم كانوا يجعلون توجههم وتقربهم وتضرعهم لآلهتهم على اعتقاد

عبادة الأوثان

أنها هي تقربهم إلى الله. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تتوجه لبعض الأموات وتتضرع لهم وتقف أمام قبورهم بخضوع وخشوع تامين وتتضرع وتناديهم على اعتقاد أنهم يقربونها إلى الله ويتوسطون لها إليه. ويزيدون أنهم يتصرفون لها بقضاء الحوائج وجلب الرغائب ودفع المصائب. ومن أعمال المشركين في الجاهلية أنهم يسوقون الأنعام لطواغيتهم فينحرونها عندها طالبين رضاها ومعونتها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تسوق الأنعام إلى الأضرحة والمقامات تنحرها عندها إرضاءً لها وطلبا لمعونتها أو جزاء على تصرفها وما جلبت من نفع أو دفعت من ضر. ومن أقوال المشركين في الجاهلية حلفهم بطواغيتهم تعظيما لها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة يحلفون بالله فيكذبون ويحلفون بمن يعظمونه من الأحياء أو الأموات فلا يكذبون. فهذه الطوائف الكثيرة كما قد لحقت بالمشركين وصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين». عبادة الأوثان: كانت عبادة الأوثان في الجاهلية بالخضوع والتذلل لها ورجاء النفع وخوف الضر منها، فينذرون لها النذور وينحرون لها النحائر يلطخونها بالدماء ويتمسحون لها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة لها أشجار ولها أحجار تسميها بأسماء وتذكرها بالتعظيم وتذبح عندها الذبائح وتوقد عليها الشموع وتحرق عندها البخور وتتمسح بها وتتمرغ عليها. مثل فعل الجاهلية أو تزيد. فصدق عليهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: (وحتى يعبدوا الأوثان) هذا كله واقع في الأمة لا شك فيه. وكما كان من نصح نبيها- صلى الله عليه وآله وسلم- أن أنذرها بوقوعه فيها قبل وقوعه- فإن من نصح علمائها لها أن يعرفوها به اليوم بعد وقوعه ويصوروه لها على صورته

دعوى النبوة

الشركية الوثنية التي ينفر منها المسلم بطبعه. ولو أن الأمة سمعت صيحات الإنكار من كل ذي علم لأقلعت عن ضلالها ورجعت إلى رشدها، فما أسعد من نصحها من أهل العلم وجاهد لإنقاذها. وما أشقى من غشها وزادها رسوخا في ضلالها وتماديا في هلاكها. فَحَيَّهَلَّا على العمل أيها المصلحون الناصحون المخلصون، فإنَّ عهد الغش والخديعة قد آذن بذهاب، وأن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. دعوى النبوة: قد ضلت وهلكت باتباع أشخاص ادعوا النبوة من هذه الأمة طوائف كثيرة، وقد كان منهم أول الإسلام مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، ثم كان المختار بن عبيد الثقفي، ثم كان منهم في عصرنا قبيله الباب، وإليه تنسب البابية، والبهاء وإليه تنسب البهائية، وغلام القادياني وإليه تنسب القاديانية، وقد كادت هذه القاديانية تدخل الجزائر على يد طائفة الحلول وشيخها لولا أن قام في وجوههم العلماء المصلحون وفضحوهم على صفحات (الشهاب) أيام كان أسبوعيا فردَّ الله كيدهم ووقى الله الجزائر شراً عظيما. وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن هؤلاء الكذابين بأنهم ثلاثون فلا بد أن يصلوا إلى هذا العدد وقد تكون بقيتهم في أحشاء الأيام. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم كذابون وأنه لا نبي بعده، وقد صدق قوله صلى الله عليه وآله وسلم، فما من واحد منم إلا وقد ظهر من كذبه ما عسر تأويله على أصحابه، ومن غلطه وخلطه ما يدل على أنه لا مستند له من اليقين. فصلى الله على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين (1).

_ (1) ش: ج1 - م11، ص 11 - 13 محرم 1354 هـ- أفريل 1935م.

كلمات الشرك (النهي أن يقال ما شاء الله وشئت)

كَلِمَاتُ الشِّرْكِ (النَّهْيُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ) (1). قال الإمام ابن ماجة في سننه: " حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ»، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِنَحْوِهِ". ــــــــــــــــــــــــــــــ السند الأول: هشام ثقة أخرج له البخاري والأربعة. وابن عيينه أحد أئمة الإسلام المشهورين. وابن عمير روى له الستة وابن حراش مثله. وحذيفة الصَّحابي الشهير. السند الثاني: ابن أبي الشوارب ثقة روى عنه مسلم والترمذي والنسائي. وأبو عوانه أحد الأعلام روى له الستة. وعبد الملك وربعي تقدما. والطفيل صحابي.

_ (1) ما بين الهلالين هو ما ترجم به ابن ماجة على الباب.

رتبة الحديث

رتبة الحديث: الحديث صحيح بسنديه مرفوع بهما، ولا يضر إبهام الرجل الرائي، لأن حذيفة قال: انه من المسلمين، والمسلمون يومئذ هم الصحابة، وكلهم عدول. ولأن حذيفة نقل بلوغ الرؤيا للنبي- صلى الله عليه وآله وسم- ونقل قوله عند سماعها. مزيد بيان: ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب: " أن سفيان وشعبة وزائدة (يعني ابن قدامة ثقة روى له البخاري) وجماعة رووا عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل حديثه هذا. وقال أبو عمر: وفي حديث زائدة عن الطفيل أنه رأى في المنام أن قائلا يقول له من اليهود: نِعْمَ القوم أنتم لولا قولكم ما شاء الله وما شاء محمد. ثم رأى ليله أخرى رجلاً من النصارى فقال له مثل ذلك. فأخبر بذلك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقام خطيبا فقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد وقولوا ما شاء الله وحد» وزاد بعضهم فيه: ثم ما شاء محمد". فأفادنا كلام ابن عبد البر تعدد الرواة عن عبد الملك، وبينت لنا رواية زائدة بن قدامة أن الرائي هو الطفيل بن سخبرة، وأن الرؤيا تكررت، وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قام خطيبا في الناس لمزيد العناية والاهتمام بالأمر. وأنه قال ما شاء الله وحده. الجمع: لا تعاوض بين الروايات، فيعمل بها كلها، وقوله في رواية زائدة: (ما شاء الله وحده) لا ينافي. (ثم ما شاء محمد) فيكفي الاقتصار على ثم ما شاء محمد، كما عند ابن ماجة. والأحسن أن يزيد قبله لفظة وحده ليأتي بجميع الوارد.

الألفاظ

الألفاظ: تشركون: أي تقرنون بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق بعبارة تفهم التسوية، وهي العبارة المذكورة في الجملة التالية المبينة، وهي قوله: «تقولون ما شاء الله وشاء محمد» وهذه العبارة قد تكون في نحو قولهم: افعل ذلك ما شاء الله وشاء محمد، أو لا أفعله ما شاء الله وشاء محمد. وفي الاستثناء في اليمين نحو: إلا ما شاء الله وشاء محمد. وفي باب اليمين أورد الحديث ابن ماجة. إن كنت لأعرفها لكم، ان: نافية. واللام: في (لاعرفها) لام الجحود، والفعل بعدها منصوب، فنفى معرفته بهذه العبارة منهم على وجه يفيد أنها شيء ما كان ليخطر في باله لمنافاته لإيمانهم وتوحيدهم وعدم مناسبتها لحالهم، ثم: تفيد انحطاط مشيئة المخلوق عن مشيئة الخالق وتأخرها وتلك هي رتبتها، وقد شاء الله ما شاء وحده، ثم كانت مشيئة المخلوق. فلفظة وحده أصرح في استقلال مشيئة الله. المعنى: كان بعض من الصحابة يقولون هذه العبارة دون أن يعلم بهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فأراد الله أن يطلع عليها نبيه لينهاهم عنها، وكان من حكمتها أن اطلعهُ عليها بهذا الوجه، أرى بعض الصحابة رؤيا فيها تعبير لهم بالشرك الذي هو أبغض الأشياء إليهم من بعض أهل الكتاب، وهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، والمسيح ابن مريم ليكون ذلك أشد في الزجر وأعظم في التوبيخ، فذكرت الرؤيا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكانوا يقصُّون عليه رؤاهم فنفى علمه بصدور تلك العبارة منهم، وأظهر إنكاره وتعجبه من صدور تلك العبارة الشركية التي ما كان ليظن صدورها منهم، وفي هذا ما فيه من اللوم والتعنيف فقام

الأحكام

خطيبا فيهم فنهاهم عن العبارة الشركية الباطلة وبين عبارة التوحيد والحق الصحيحة وهي أن يقولوا (ما شاء الله وحده ثم ما شاء محمد) أو (ما شاء الله ثم ماشاء محمد). الأحكام: أفاد الحديث النهي عن القرن بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق. ومشيئة المخلوق بالواو وجواز القرن بينهما بثم، وأثبت للمخلوق مشيئة، ولكنها مقيدة ومتأخرة بخلاف مشيئة الخالق فإنها سابقة ومطلقة مستقلة، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. وأفاد أن القرن بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق شرك وأن من فعل ذلك يقال له قد أشركت، لأنه لما قصت عليه الرؤيا وفيها قوله: لولا أنكم تشركون، أقر ذلك ولم ينكره، وأن كلمة الشرك لا يجوز أن تقال ولو كان قائلها لا يعتقد المساواة بين الخالق والمخلوق، كما هو حال الصحابة الذين لا يشك في عملهم بذلك وأن قائل كلمة الشرك هذه وإن كان يقال له أشركت كما تقدم لا يخرج بذلك من الإيمان حيث كان لا يعتقد التسوية، فإنه لم يحكم بردتهم بتلك الكلمة وإنما نهاهم عن قولها. تأييد: روى ابن ماجة في هذا الباب بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت» وهذا الحديث في معنى الحديث الذي تكلمنا عليه. تفصيل أول: الشرك يكون بالاعتقاد، وهذا مخرج عن الايمان ويكون بالقول مثل الكلمة المتقدمة، وهذا لا يخرج صاحبه من الإيمان وإنما يحرم عليه النطق به.

تفصيل ثان

تفصيل ثان: من الصفات ما يثبت لله على ما يليق بجلاله ويثبت للمخلوق على ما يليق بحدوثه وافتقاره كالمشيئة وكااعطاء عندما تكون للمخلوق أسباب فيها، فهذا يسند إليهما ويحرم أن يسوى بينهما في العبارة، ويجب الإتيان بعبارة صريحة في عدم التسوية، فأما المشيئة فقد تقدمت وأما العطاء فكأن تقول لمن أعطاك شيئا هذا من فضل الله ثم من فضلك، ومنها ما لا يجوز أن يجمع فيه بين الإسناد للمخلوق والخالق أبدا كالعطاء الذي لا دخل للمخلوق فيه لخروجه عن الأسباب الممكن هو منها، فلا يجوز أن تقول في غيث نزل مثلا هذا من الله ومن فلان ولا ثم من فلان، لأنه لا دخل لأحد فيما وراء الأسباب. تطبيق: إذا نظرنا في حالة السواد الأعظم منا معشر المسلمين الجزائريين فإننا نجهد هذه الكلمات شائعة بينهم. فاشية على ألسنتهم وهي (بربي والشيخ) وهم يعنون أن ما يفعلونه هو بالله وبتصرف الشيخ (بربي والصالحين)، (بربي والناس الملاح)، (إذا حب ربي والشيخ) (شوف ربي والشيخ)، وهي كلها من كلمات الشرك كما ترى، فأما قولهم: (بربي والشيخ) ونحوه فمما لا يجوز أن يذكر فيه المخلوق مع الخالق قطعا لأن ما تفعله هو بالله وحده أي بتقديره وتيسيره ولا دخل للمخلوق فيه، وأما قوله: (إذا حب الله والشيخ) فمما لا يجوز إلا بلفظة ثم. فيكون بمعنى إذا شاء الله ثم شاء الشيخ إذا كان هذا الشيخ حيا وكان الأمر مما يكن أن تدخل مشيئته فيه ولقد شب على هذه الكلمات ونحوها الصغير وشاب عليها الكبير وانقطع عنها النهي والتغييرحتى صارت كأنها من الكلمات المشروعة، وصار قلعها من الألسنة من أصعب الأمور وأصبحت كلمة بالله وحده ونحوها

العلاج

مهجورة لديهم منسية عندهم ثقيلة على أسماعهم ثقل من يدعوهم إليها ويلهج بها على قلوبهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. العلاج: على من عرف هذا الحديث النبوي أن يعمل به في نفسه وأن ينشره بين الناس وأن يعالجهم به بتفهيمهم فيه وتحذيرهم من مغبة مخالفته والإصرار على معاندته، ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. فإلى التوحيد أيها المسلمون وإلى الإرشاد أيها العالمون والله مع الصابرين (1).

_ (1) ش: ج 6، م 8، ص 306 - 311 غرة صفر 1351 هـ- جوان 1932م.

بناء المساجد على القبور من فعل شرار الخلق عند الله يوم القيامة

بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْ فِعْلِ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»)). رواه الشيخان رحمة الله عليهما ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الحديث أحد الأحاديت الكثيرة المستفيضة التي جاءت في التحذير من بناء المساجد على القبور، والتنبيه على أن ذلك يؤدي إلى عبادتها والتأكيد لذلك بذكر ما كان ممن قبلنا من ذلك وما أداهم إليه فأخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث أن أصحاب تلك الكنيسة كانوا يبنون المساجد على قبور صلحائهم ويصورون صورهم. وإنما يفعلون ذلك تعظيما لهم واستئناسا بصورهم وليعبدوا الله تعالى عند قبورهم تبركا بهم. فكانوا بسبب فعلهم من بناء المساجد على القبور ونحتهم للصور شرار الخلق عند الله يوم القيامة، لأن تعريف المسند إليه بالإشارة- وهو أولئك- يفيد أن المشار إليه الموصوف بصفات- وهي بناء المساجد على القبور وتصوير الصور- حقيق وجدير بما يذكر بعد اسم الإشارة- وهو قوله شرار الخلق- من أجل اتصافه بتلك الصفات. وذلك لأن القبر المعظم ببناء المسجد عليه والصورة المعظمة لتمثيلها ذلك الصالح يصيران مما يعبد ويعتقد

الأحكام

فيه النفع والشر والعطاء والمنع، فيدعو ويسأل ويطلب منه الحوائج وتخشع عنده القلوب وتنذر له النُّذور، وهذه من العبادة التي لا تكون إلا لله، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما-: أن وداً وسواعا ويغوث ويعوق ونسراً التي كانت أصناما لقوم نوح وعبدتها العرب من بعدهم، كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك- الذين نصبوها، وتنسخ، وتغير العلم- عبدت. فعلم من هذا أن ما يكون موضوعا في أصله بقصد حسن يمنع وينهى عنه إذا كان يؤدي بعد ذلك إلى مفسدة. الأحكام: هذا الحديث نص صريح في المنع من بناء المساجد على قبور الصالحين وتصوير صورهم وفيه الوعيد الشديد على ذلك. ونظيره حديث جندب- رضي الله عنه- عند مسلم- رضي الله عنه- سمع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول- قبل أن يموت عليه السلام بخمسة أيام-: «ألا وأن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك». تطبيق: هذه هي حالتنا اليوم معشر مسلمي الجزائر وأحسب غيرنا مثلنا. نجد أكثر أو كثيرا من مساجدنا مبنية على القبور المنسوب أصحابها إلى الصلاح، ومنهم من كانوا معروفين بذلك ومنهم المجهولون، فإن قيل إنما بنيت المساجد على تلك القبور للتبرك بأصحابها لا لعبادتهم قلنا إن النهي جاء عاما لبناء المسجد على القبر بقطع النظر على قصد

إيمان وامتثال

صاحبه به، ولو كانت صورة البناء للتبرك مرادة بالنهي. لاستثناها الشرع فلما لم يستثنيها علمنا أن النهي على العموم، وذلك لأنها وإن لم تؤد إلى عبادة المخلوق في الحال فإنها في مظنة أن تودي إلى ذلك في المآل. وذرائع الفساد تسد لا سيما ذريعة الشرك ودعاء غير الله التي تهدم صروح التوحيد. وانظر إلى ما جاء في حديث ابن عباس في أصنام قوم نوح وكيف كان أصل وضعها وكيف كان مآلها، وتعال إلى الواقع المشاهد نتحاكم إليه فإننا نشاهد جماهير العوام يتوجهون لأصحاب القبور ويسألونهم وينذرون لهم ويتمسحون بتوابيتهم، وقد يطوفون بها ويحصل لهم من الخشوع والابتهال والتضرع ما لا يشاهد منهم إذا كانوا في بيوت الله التي لا مقابر فيها، فهذا هو الذي حذر منه الشرع قد أدت إليه كله وهبها لم تؤد إلى شيء منه أصلا فكفانا عموم النهي وصراحته والعاقل من نظر بإنصاف ولم يغتر بكل قول قيل. إيمان وامتثال: علينا أن نصدق بهذا الحديث بقلوبنا فنعلم أن بناء المساجد على القبور من عمل شرار الخلق كما وصفهم النبي- صلى الله عليه وآله وسام- وأن تنطق بذلك ألسنتنا كما نطق به هذا الحديث الشربيف وأن نبني عليه أعمالنا فلا نبني مسجداً على قبور ولا نعين عليه، وأن ننكره كما ننكر سائر المنكرات حسب جهدنا، ومن أعظم الإنكار تبليغ هذا الحديث بنصه وتذكير الناس به والعمل على نشره حتى يصير معروفا عند عامة الناس وخاصتهم، إذ لا دواء للبدع الشيطانية إلا نشر السنة النبوية، ولا نستعظم انتشار هذه البدعة وكثرة ناصريها فإنها ما انتشرت وكثر أهلها إلا بالسكوت عن مثل هذا الحديث والجهل به. ولنكن في إرشادنا مقتصرين على إيراد لفط الحديث وشرحه

على أنه واضح مفهوم بنفسه- دون أن نمس شيئا من شؤون أولئك المقبورين فإنهم إخواننا سبقونا بالإيمان فلهم علينا حق الدعاء والاستغفار. فإذا عملنا كلنا على هذا من حسن قصد ومحبة في الخير للمسلمين رجون! أن يؤيدنا الله تعالى ويجعل النفع بأيدينا. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (1).

_ (1) ش: ج5، م 7، ص 295 - 297 محرم 1350 هـ- ماي 1931م.

النهي عن البناء على القبور

النَّهْيُ عَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقُبُورِ. «نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ». مسلم من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا حديث صحيح صريح في النهي عن البناء على القبر ومعضداته من السنة كثيرة. وهو من الظهور والصراحة بحيث لا يحتاج إلى تفسير، وإنما نسأل كل مؤمن بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} نسأل كل مؤمن بهذه الآيات أن يعمل بنهي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن البناء على القبر فلا يبن على قبر ولا يعن بانيا، ويعلن هذا الحديث في الناس ويذكرهم به ولا يفتأ يقرع به أسماع الغافلين ويفتح به أعين الجاهلين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1)

_ (1) ش: ج 2، م 9، ص 71 غرة شوال 1351 هـ- فيفري 1933 م.

لعن من اتخذ المساجد على القبور

لَعْنُ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ. «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــ لما أخبر عليه وآله الصلاة والسلام أن الله لعن اليهود والنصارى بين علة وسبب لعنهم، وهي اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد. وذلك بأن بنوا عليها المساجد أي أماكن العبادة كما هو صريح في حديث آخر هكذا ((بنوا على قبره مسجداً))، وسنذكره في الجزء الآتي إن شاء الله. فالمتخذ للمساجد على القبور ملعون بنص هذا الحديث الصحيح الصريح. فيا أيها المؤمنون بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- المصدقون لحديثه إياكم والبناء على القبور، إياكم واتخاذ المساجد عليها إن كنتم مؤمنين. وعليكم تبليغ هذا الحديث والتذكير به والتكرير لذكره يكن لكم أجر المجاهدين في سبيل رب العالمين وثواب العاملين لإحياء سنة سيد المرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين (1).

_ (1) ش: ج3، م9، ص 125 غرة ذي القعدة 1351 هـ - مارس 1933م.

بناء المساجد على القبور من شرار الخلق عند الله يوم القيامة

بِنَاءً الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُوْرِ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. " أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»)). البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها (1). ــــــــــــــــــــــــــــــ كانوا شرار الخلق بسبب بنائهم المساجد على قبور صالحيهم واتخاذ الصور لهم وكلاهما ذريعة الشرك والوثنية، وإن كان النصارى يقصدون التبرك بآثار الصالحين. ولا يقال أن هذا فيمن جمع بين البناء والتصوير لأنه قد جاء لعنهم على البناء وحده كما في الحديث المتقدم في جزء مضى ولا يقال أن هذا لأنهم نصارى لأن المقصود النهي عن مثل فعلهم هذا والتحذير منه ببيان العقاب المترتب عليه حتى لا يفعل المسلمون هذا الفعل فيترتب عليه عقابه. فحذار أيها المسلم من فعل أهل الضلال ومشاكلة الأشرار ولا تغتر بكثرة الهالكين (2).

_ (1) كرر شرح هذا الحديث في ج5، م 7، ص 295 - 297 وانظر ص 246 من هذا الجزء. (2) ش: ج 6، م 9، ص 230 غرة محرم 1352 هـ- ماي 1923م.

تأكيد النهي عن اتخاذ القبور مساجد

تَأْكِيدُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورَ مَسَاجِدَ. " عَنْ جُنْدَبِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». رواه مسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الحديث كالأحاديث الماضية صريح في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. وذلك ببناء المساجد عليها كما تقدم في حديث أم حبيبة وأم سلمة- رضي الله عنهما- في الجزء الماضي، وبالصلاة إليها كما فيما سننقله في الجزء الآتي، وفي هذا الحديث تأكيد النهي بكلمة (ألا) مرتين، وبتكرير النهي المستفاد أولا من (لا) وثانيا من الجملة الأخيرة المصرح فيها بمادة النهي مع التأكيد بأن، وبعد هذا التأكيد في هذه الصراحة لا يبقى من يشك أو يشكك في معناه إلا من أعمى الله بصيرته واستولى الغرض والهوى على لبه وران كسبه على قلبه عياذا بالله. هذا وإننا بعد أن نفرغ من نقل متون هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة نأتي بكلام الأئمة من شراحها عليها ثم بكلام الأئمة من فقهائنا المالكية رحم الله الجميع ونفعنا بمحبتهم وحشرنا في زمرتهم لا مبدلين ولا مغيرين آمين (1).

_ (1) ش: ج 7، م 6، ص 267. غرة صفر 1352 هـ - جوان 1933م.

من اتخاذ القبور مساجد الصلاة إليها

مِنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا. " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». قَالَتْ: وَلَوْ ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. رواه الشيخان واللفظ للبخاري. ــــــــــــــــــــــــــــــ أفادت عائشة- رضي الله عنها- أنهم لم يبرزوا قبره- صلى الله عليه وآله وسلم- للناس خوفا من أن يتخذ مسجدا بالصلاة إليه فاتخاذ القبور مساجد الذي تكرر النهي عليه ولعن مرتكبه يكون بالبناء عليها كما في الأحاديث الماضية وبالصلاة أيها كما في هذا الحديث (1).

_ (1) كرر شرح هذا الحديث في ج3، م 9، ص 125 وانظر ص 251 من هذا الجزء. (2) ش: ج 8، م 9، ص 308 غرة ربيع الأول 1352 هـ- جويلية 1933م. ، 25

حديث تزكية الأموات لا يجزم لأحد أنه من أهل الجنة إلا بنص من الشارع

حَدِيثُ تَزْكِيَةِ الْأَمْوَاتِ لَا يُجْزَمُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ. " قال ابن شهاب: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ -امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي.» فَقَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا" رواه البخاري في صحيحه من طرق في عدة أبواب. ــــــــــــــــــــــــــــــ المتن: ثبت عند البخاري أيضا «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» وثبت عنده أيضا «ما أدري ما يفعل به». ترجمة شخصي الحديث: شخصا الحديث هما اللذان كانا سببا في وروده، وهما أم العلاء المزكية وعثمان المزكى، فأما أم العلاء فهي بنت الحارث بن ثابت الأنصارية الخزرجية، وهي أم خارجة بن زيد الراوي عنها. وأما عثمان بن مظعون فهو أبو السائب بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي

الشرح

من السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، هاجر الهجرتين وشهد بدرا، وهو أول من مات من الهاجرين بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع منهم. الشرح: لما جاء المهاجرون إلى المدينة ولا أهل لهم ولا مال نزلوا على الأنصار من الأوس والخزرج، فاقتسمهم الأنصار بالقرعة فطار في قسمة بيت زيد بن ثابت، عثمان بن مظعون، فأنزلوه في أبياتهم فمرض مرضه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقامت أم العلاء في حضرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- تثني على عثمان فدعت له بالرحمة وشهدت له جازمة بأن الله أكرمه، أي بالجنة، لأنها هي دار كرامة الله لعباده. فأنكر عليها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال لها: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أي من أين علمت ذلك، ففدته بأبيها تادبا معه- صلى الله عليه وآله وسلم- في الخطاب، وقالت: فمن يكرمه الله، أي إذا لم يكن عثمان مع سابقيته وهجرته وبدريته فمن يمكرم، فبين لها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما يجوز أن يقطع به وما لا يجوز أن يتعدى حد الظن، فقال لها: أما هو فقد أتاه اليقين، يعني الموت، وهذا مقطوع به، وإني لأرجو له الخير، وهذا هو الذي لا يجاوز حد الظن، ثم بين لها أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن البشر لا يعلمون الغيب حتى الأنبياء- عليهم السلام- فإنهم لا يعلمون إلا ما علمهم، فقال لها: «والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» فاهتدت إلى ما هداها إليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقالت: والله لا أزكي أحدا بعده أبداً، تعني مثل هذه التزكية التي قطعت له فيها بالكرامة.

توضيح

توضيح: ما في لفظ الحديث موافق لما في سورة الأحقاف المكية من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}. قال البيضاوي: أي في الدارين على التفضيل إذ لا علم بالغيب. يعني إلاَّ ما علمه الله وقد أعلمه الله بأنه مغفور له ما تقدم وما تأخر في سورة الفتح المدنية، وأعلمه بما أخبره به في الصحيح من منازله الكريمة يوم القيامة ومقامه المحمود وغيره من أنواع الخصوصية والكرامة. الأحكام: في الحديث اقتسام أهل القدرة أهل العجز عند الضرورة والشدة، وفيه الدخول على الميت بعد تسجيته في أكفانه، وفيه الدعاء للميت بالرحمة، وفيه المنع من القطع لأحد بالجنة دون نص شرعي، وفيه المبادرة بإنكار القول الباطل في الدين فور سماعه، وفيه مراجعة المعلم بإبداء وجه النظر الذي وقع الخطأ فيه، وفيه جواز ظن ورجاء الخير لأهله. تفرقة: ذكر الميت بما علم من حاله في حياته ثناء عليه جائز والقطع له بالنجاة ممنوع، فأما هذا الثاني فدليل منعه من الحديث المذكور، وأما الأول فدليل جوازه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي عباس قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من وراءي فالتفت اليه فإذا هو علي. فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت أكثر، اسمع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: جئت أنا وأبو

تحذير وإرشاد

بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما. وهذا في ذلك الجمع دليل على إجماعهم على جوازه وهو لم يخرج عن ذكره بما علمه منه في حياته وظن الخير له بذلك بعد مماته. تحذير وإرشاد: لقد ابتلى كثير من الناس بالغلو فيمن يعتقدون فيهم الصلاح فيجزمون لهم بما لا يعلمه إلا الله، ثم زادوا على هذا فيزعمون أن فلانا مات في رتبة كذا وحصل عند الله على منزلته كذا، ثم زادوا على هذا فيزعمون أن فلانا يشفع لأتباعه ويعديهم على الصراط أو يجعله في بطنه ويمر بهم وأنه يحضر لهم عند الموت ويحضر لهم عند السؤال ويكون معهم في مواقف يوم القيامة، وكل هذه الدعاوى انبنت على الجزم بأنه ممن أكرمه الله وأنه من أهل الجنة، ذلك الجزم الذي سمعت النهي والإنكار صريحين فيه من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على أم العلاء في رجل من السابقين الأولين البدريين، وليست هذه الدعاوى المبنية على المخالفة لهذا النهي النبوي الصريح قاصرة على العوام بل تجدها عند غيرهم وتسمعها ممن يرفعون أنفسهم عن طبقتهم وتقرأها في الكتب التي عدلت عن الأحاديث النبوية الصحيحة والطريقة النبوية الواضحة وذهبت في نيات الطريق فكانت بلاء على العامة وأشباههم ووبالا. فاحذر أيها الأخ المسلم من عقيدة الجزم بالكرامة والجنة لغير من نص عليه المعصوم عليه وآله الصلاة والسلام، ومن تلك الدعاوى الباطلة التي انبنت عليها. ولا تجزم بالكرامة على الله لأحد غير المنصوص عليه وإن كان عظيما فإن قول رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أحق وأعظم وأنف من لا يقول هذا ولا يقبله مرغم. وكل من استعظمته ممن هو على جانب من الصلاح والخير فإنه لا يداني

مقام عثمان بن مظعون البدري في الصلاح والخير وقد سمعت ما سمعت من النهي النبوي عن القطع له بالكرامة، ومهما أعدنا القول في هذا فإننا لا نفيه حقه من الإنكار والاستئصال لما نعلمه من رسوخ هذه الضلالة وقدمها والتهاون فيها وعظيم التجري على الله بها، وهذا الحديث النبوي هو دواؤها والقاطع لها فليتأمله قراؤنا ولينشروه في المسلمين وليذيعوه بالتلاوة والتفسير والتأكيد والتقرير عسى أن يشفي الله به القلوب من داء الغلو والادعاء والغرور والتغرير وليظن المسلم الخير بأهل الخير وليرج لهم حسن الجزاء والمصير كما رجا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- الخير لعثمان بن مظعون- رضي الله تعالى عنه- بعد ما نهى عن الجزم بالكرامة له وهذا هو دين الله الحق الوسط السالم من الغلو والتقصير والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقف بنا عند حدود الشرع الشريف، ويحفظنا من الغلو والتقصير والتحريف إنه هو الولي الحفيظ اللطيف (1).

_ (1) ش: ج1، م 8، ص 592 - 594 غرة رجب 1351هـ- نوفمبر 1932م.

تفاوت الصدقات بنسبتها لأموال المتصدقين

تَفَاوُتُ الصَّدَقَاتِ بِنِسْبَتِهَا لَأَمْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ. " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ». فَقَالَ رَجُلٌ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ دِرْهَمٍ تَصَدَّقَ بِهَا وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ». رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له، والحاكم قال: صحيح على شرط مسلم، المنذري. ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: السبق الوصول للغاية قبل غيره، وأصله في الأبدان، ويكون للعقول في الوصول للفهم وللأعمال في الوصول للأجر والفضيلة، ومنه هذا. العُرض- بضم العين- هو الجانب، كعرض الحائط أي جانبه. المعنى: يقول- صلى الله عليه وآله وسلم- إن درهما واحداً تصدق به صاحبه نال به من الأجر والفضل أعظم مما نال صاحب مائة ألف درهم تصدق بها. فبلغ درهمه إلى غاية من الأجر والفضل ولم يبلغ إليها الآخر. ولما خفي وجه هذا على السائل لأن المعروف أن ثواب الكثير أكثر بيَّن له- صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا حيث يكون الدرهم

توجيه

بالنسبة لمال صاحبه كثيرا، فإن درهم ذى درهين هو شطر ماله، وتكون المائة ألف بالنسبة لمال صاحبها قليلة، فإنها لم تكن إلا من جانبه، وسلم أصله ومعظمه. توجيه: الأجرُ على قدر المشقة، والثواب على قدر النصب، وما يجده ذو الدرهمين من إنفاق أحدهما، وهما كل ما يملك من المشقة والنصب، أعظم مما يجده ذو المائة ألف، وهي بعض ماله الكثير، وذو الدرهمين كان عنده من الإيمان واليقين ما أنفق به شطر ماله فهو أعظم إيمانا ممن أنفق جزءا من مائة منه. وما عند ذى الدرهمين من خلق الإيثار والتضحية والبذل في سبيل الله أعظم بكثير مما عند ذى المائة ألف. فهو أعظم منه أجرا وفضلا، فقد كان أعظم منه مشقة. فقد كان أعظم منه مشقة وأقوى منه إيمانا، وأبلغ منه تضحية وبذل جهد في سبيل الله وإيثارا. لا جرم كان أعظم منه فضلا واجرا. تبصرة: يقعد الشيطان للقليل المال في طريق الإنفاق فيزهده فيه. ومن مداخله عليه أنه يحقر له ما ينفقه من قليل بأنه لا غناء فيه فيقبض يده عن الصدقة بذلك القليل الذي يستطيعه فيفوته أجر كبير. فبصرنا نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- بالحقيقة، وبين لنا أن ذلك القليل بالنسبة لمال صاحبه هو كثير حتى أنه يسبق كثير غيره من أهل المال العظيم ليشارك فقيرنا غنينا بقليله فيكون من السابقين إلى الأجر الكثير. تربية: الأخلاق الفاضلة التي هي موجودة في فطرة الإنسان بأصولها،

وتنمو بحسن التربية وتنطمس بالإهمال- قد حفظهما الله تعالى علينا بما وفقنا إليه من الإسلام، وما علمنا من آداب وما شرعه لنا من أعمال. ومما ينمي تلك الأخلاق ويقويها المداومة على الأعمال التي تنشأ عنها. ومن أعظم تلك الأخلاق وأدخلها في باب النهوض بجلائل الأعمال وحفظ سعادة الاجتماع خلق البذل، فجاء هذا الحديث الشريف وغيره يبين لنا عظيم أجر صدقة المقل ليحثه على مشاركة الغني في العطاء بما استطاع فيكون البذل من الجميع عاما، والسخاء بينهم مشتركا، وآثاره عليهم ظاهرة فينمو خلقه بذللك في الأمة كلها وترسخ أصوله في نفوسها فتصبح وهي أمة سخية بما عندها في سبيل ما ينفعها متعاونة بالبذل في مهماتها مشتركة بجميع طبقاتها في كل مشروع خيري من مشاريعها، وإذا تربت الأمة على هذه الصفة وتدرجت إلى الكمال فيها فذلك عنوان نجحها وفوزها وبلوغها غاية آمالها، وسعادتها في الدارين وفقنا الله لبذل كل عزيز وغال في سبيله والمسلمين اجمعين (1).

_ (1) ش: ج4، م 7، ص 230 - 231 غرة ذي الحجة 1349هـ- أفريل 1931م.

إتباع رمضان بستة من شوال

إِتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ. " عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»)). رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وجاء بمعناه عن ثوبان وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر. ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: تقول العرب: اتبع الفرس لجامها، أي ألحقه بها في العطاء. يضرب مثلا في الأمر باستكمال المعروف واستتمامه، ويصدق هذا ولو كان بين العطاء الأول، والعطاء الثاني مهلة، وكذلك جاء قوله تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي ألحقنا بعض القرون ببعض في الهلاك الناشيء عن تكذيبهم مع أن بين كل قرن وقرن مدة طويلة، فالإتباع هو الإلحاق لشيء بشيء في أمر سواء، أكان عن اتصال أو عن انفصال. الدهر: أصل معناه مدة الدنيا، ويطلق على أمد من الزمان قل، أو كثر، والمراد به هنا السنة، كما جاء مصرحا به في بعض روايات الحديث. التراكيب: أفادت ثم أن الاتباع متأخر عن الصوم، وإن كان قد جاء من طريق غير أبي أيوب العطف بالواو. والضمير في (كان) عائد على عمل المفهوم من الكلام السابق، أي كان عمله، وهو صومه شهرا وستة أيام.

المعنى

المعنى: من صام رمضان وصام بعده ستة أيام من شوال كان ذلك من عمله كصيام الدهر، لأن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشر أشهر، وستة أيام بعده بشهرين، فذلك تمام السنة. وجاء هذا التفسير عند النسائي من طريق ثوبان مرفوعا. توجيه كلام مالك: تطبيق: قد علمت ان الإتباع يصدق بالإلحاق متصلا أو منفصلا، والفصل هنا واجب بيوم الفطر للعلم بحرمة صومه، فمن فصل به فقط فهو متبع، ومن فصل بأكثر منه فهو متبع، ومقتضى الإطلاق في لفظة (ستا) أنه لا فرق في حصول الفضل بين أن تكون متوالية أو متفرقة، وما تقدم في فصل المعنى من حديث ثوبان يؤيد هذا الإطلاق، لأن المقصود تحصيل ستة أيام لتكون بمقتضى جزاء الحسنة بعشر ستين يوما، وهذا حاصل عند تفرقها وعند اجتماعها. الأحكام: ذهب الشافعية والحنابلة وغيرهم- وهو المصحح عند الحنفية- إلى استحباب صوم هذه الأيام محتجين بهذا الحديث الصحيح الصريح. وأما المالكية فقد قال يحيى إن يحيى راوي الوطأ: سمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون بذلك.

فقه مالك واحتياطه

والذي يظهر من عبارات مالك أن المكروه هو صوم ستة أيام متوالية بيوم الفطر، كما يفهم من قوله: (في صيام ستة أيام بعد الفطر) ومن قوله (وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) وإنما يخشى هذا الإلحاق إذا كانت متوالية ومتصلة بيوم الفطر. فالكراهة إذا عنده منصبة على صومها بهذه الصفة من التوالي والاتصال لا على أصل صومها. وهذا هو التحقيق في مذهبه. فقه مالك واحتياطه: أنبني فقه مالك واحتياطه على أصلين: الأصل الأول: أن العبادة المقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهو أصل عام في جميع العبادات، وفي خصوص الصيام قد ثبت نهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، وظاهر أن وجه هذا النهي هو خوف أن يعدَّ ذلك من رمضان، فحمى الشارع بهذا النهي العبادة من الزيادة في أولها. فبنى مالك- بسعة علمه وبعد نظره- على ذلك حمايتها من الزيادة في آخرها فكره صوم تلك الأيام متوالية متصلة بيوم الفطر مخافة- كما قال-: (أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) فكان احتياطه في الأخير مطابقا لاحتياط النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الأول، وذلك كله لأجل المحافظة على بقاء العبادة المقدرة على حالها غير مختلطة بغيرها. وقد جاء نظير هذا الاحتياط في الصلاة، فقد روى أبو داود في سننه: أن رجلاً دخل إلى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: اجلس خنى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا. فقال له عليه وآله الصلاة والسلام: (أصاب الله بك يا ابن الخطاب). يعني أن الذين كانوا قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فأدى ذلك إلى اعتقاد جهالهم وجوب الجميع

الأصل الثاني

فأدى ذلك إلى تغيير شرع الله وهو سبب الهلاك. لا يقال أن مقدار العبادة معلوم من الدين بالضرورة فكيف يظن أنه قد يعتقد الجميع من الأصل والزيادة عبادة واحدة، لأننا نقول إذا دام وصل النافلة بالفريضة وطال العهد وخلفت الخلوف أدى ذلك أهل الجهالة إلى ذلك الاعتقاد، والاحتياط للعبادة يقتضي قطع ذلك الاعتقاد من أصله بالنهي عما يؤدي إليه وهو من سد الذرائع الذي هو أحد أصول مالك في مذهبه. ومع هذا فقد نقل الإمام القرافي، عن الإمام عبد العظيم المنذري أن الذي خشي منه مالك رحمه الله تعالى قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والقوانين (1) وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد ا. هـ. فلله مالك ما أوسع علمه، وما أدق نظره، وما أكثر اتباعه فرحمة الله تعالى عليه وعلى أئمة الهدى أجمعين. الأصل الثاني: أن ما ورد من العبادة مقيداً بقيد يلتزم قيده، وما ورد منها مطلقا يلتزم إطلاقه، فالآتي بالعبادة المقيدة دون قيدها مخالف لأمر الشرع ووضعه. والآتي بالعبادة المطلقة ملتزما فيه ما جعله بالتزامه كالقيد مخالف كذلك لأمر الشرع ووضعه، وهو أصل في جميع العبادات. ومثال ما ورد من العبادة مقيدا، التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة والختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فقيدت هذه العبادة المحددة بإيقاعها دبر كل صلاة، فالإتيان بها في غير دبر الصلوات مخالفة للوضع الشرعي ومثال ما ورد مطلقا (2) لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة (3) وسبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة فيلتزمها في وقت

_ (1) كذا بالأصل ولعله القوالين. (2) و (3) رواهما مالك في الوطأ.

اقتداء وتحذير

معين من النهار فيخرج عن مقتضى الإطلاق في لفظ يوم من نص الحديث فيكون مخالفا للوضع الشرعي. ولفظ الحديث الوارد في هذه الأيام جاء مطلقا في الاتباع، صادقا بالاتصال والانفصال، وفي لفظ ستة صادقا بتواليها وتفرقها فالتزام اتصالها وتواليها تقييد لما أطلقه الشرع وتزيد عليه. اقتداء وتحذير: هذان الأصلان اللذان قررنا بهما فقه مالك هما اصلاح مجمع عليهما كثيرة في الشريعة المطهرة أدلتهما والفروع التي تنبني عليهما فلنا في مالك وغيره من أئمة الهدى القدوة الحسنة في التمسك بهما. فنحتاط لعبادتنا حتى لا نخلط بين فرضها ونفلها. ونتقبل ما جاء من العبادات مقيدا أو محددا بقيده وحده، ونتقبل ما جاء منها مطلقا على إطلاقه فلا نلتزم فيه ما يخرجه عن الإطلاق. ولنحذر كل الحذر من الأخلاق بقيود الشارع أو التقييد لمطلقاته، ففي ذلك استظهار عليه وقلة أدب معه وتبديل لوضعه واختيار عليه وإنما الخير لله ولرسوله لا لأحد من الناس وأن الغالب على الناس أنهم لا يتعمدون الإخلال بالقيود وإنما يتعمدون التقييد للمطلقات وأنواع الالتزامات مع أنهما في المخالفة سواء فلنحذر من الوقوع في مثل هذا على الخصوص. إمتثال: نصوم هذه الستة كما رغبنا نبينا، طمعا في فضل ربنا، غير ملتزمين وصلها ولا موالاتها. والله يلهمنا والمسلمين أجمعين أنواع المبرات وإقامتها بمنه وكرمه آمين (1).

_ (1) ش: ج3، م 7، ص 150 - 154 غرة ذي القعدة 1349هـ - مارس 1931

على رسلكما

عَلَى رِسْلِكُمَا. عَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: " أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي المَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا». رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: تنقلب: ترجع إلى بيتها، يقلبها: يردها ويمشي معها، وما يزال هذا الفعل قلب بمعنى رد مستعملا في اللغة الدارجة بالقاف المعقودة، على رسلكما: على هينتكما، أي مشيتكما الهينة التي لا عجلة فيها، أي لا تسرعا. كبر عليهما: عظم وشق يبلغ مبلغ الدم يصل حيث يصل. أن يقذف: أن يرمي. الأشخاص: صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- سنة سبع من الهجرة سبيت في فتح خيبر فأعتقا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وتزوجها، توفيت في شهر رمضان سنة (50هـ).

المعنى

المعنى: كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يواظب على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فجاءته زوجته صفية ليلة تؤنسه وتحادثه فلما أرادت الانصراف إلى بيتها قام معها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يؤنسها إلى بيتها كما جاءت هي إليه، وبلغ معها باب المسجد فمر بهما رجلان من الأنصار فأسرعا في مشيهما واستحييا لما رأيا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، فخشي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهما من وسوسة الشيطان المسلط على الإنسان بأن يلقي في قلوبهما شيئا من وجود امرأة مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- والشيطان يقنع بالخطرة يلقيها في قلب المؤمن يؤلمه بها ولو كان صدق إيمانه يرد عنه كيد الشيطان، ويدفعه ويقنع بإذاية المؤمن ولو بخطرة السوء تمر بالقلوب تمسه في دينه أو عرضه، فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسد في وجه الشيطان باب الكيد لذينك الرجلين الصَّحابيين- رضي الله عنهما- ويقطع عليه طريق إذايتهما وإذايته معهما، فقال لهما تمهلا ولا تسرعا في مشيكما وأعلمهما بأنها زوجته صفية. وكان الصحابيان الجليلان لم يقع في قلوبهما شيء ولم يخطر أدنى خاطر منه في بالهما، فاستعظما وكبر عليهما واشتد عليهما أن يظن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيهما خطور مثل هذا ببالهما، حتى يحتاج إلى تعريفهما، وهما كانا يريان أنفسهما بصدق إيمانهما أبعد ما يكون عن هذا. فبين لهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الداعي الذي دعاه إلى تعريفهما بالواقع، وهو الخوف عليهما مما قد يكون بإلغاء الشيطان دون قصد منهما، لا شيء هو واقع منهما وبين لهما ما يعرفهما بإمكان ذلك وسهولته بما فعل للشيطان من التمكن من إلقاء الوسواس للإنسان وبلوغه منه في الإحاطة والتمكن مبلغ الدم.

الأسوة ولكم في رسول الله أسوة حسنة

الْأُسْوَةُ: وَلَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حماية الأعراض من التهم: كما على المسلم أن يقي عرضه من طعنات الألسن بالسوء عليه أن يقيه من هواجس النفوس به فإن الهواجس مبادي الظنون والظنون مطايا الأقوال والأقوال سهام نافذة وقلما يثبت غرض على كثرة الرمي ومن خسر عرضه خسر قيمته وخسر كل شيء فلخطر هذه النهاية لزم الاحتفاظ على العرض من تلك البداية. فلا ينبغي للمسلم أن يرى حيث تقع في أمره شبهة وتتوجه عليه تهمة ولو كان عند نفسه بريئا وعما يرمي به بعيدا، فليس الإنسان يعيش في هذه الدنيا لنفسه بل يعيش لنفسه ولإخوانه، وإذا تعرض للتهم خسر نفسه وخسره إخوانه، وأدخل على نفسه البلاء منهم وأدخل البلاء عليهم به. فكانت مصيبته على الجميع وضرره عائدا على الإسلام وجماعة المسلمين خصوصا إذا كان المؤمن يقتدى به ويرجع إليه فإن زوال الثقة به خسارة كبرى وهدم لأركان الدين وتعطيل لانتفاع الناس بالعلم وانتفاعه هو بعلمه. وإذ وقف الإنسان موقفا مشروعا وخاف أن تتطرق إليه في خواطر الناس شبهة كان عليه أن يبادر للتصريح بحقيقة حاله والتعريف بمشروعية موقفه. وليس لأحد، بعد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يغتر بمنزلته عند الناس فلا يبالي بما قد يخطر لهم. بل ذو المنزلة

مدافعة الشيطان عن القلوب

أحق بالتبيين والتصريح لعظيم حاجة الناس إلى بقاء ثقتهم به وتوقف استفادتهم منه وقيامه بما ينفعهم على تلك الثقة. قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: " في الحديث دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم". مدافعة الشيطان عن القلوب: علينا وقد علمنا أن الشيطان متمكن من الوسوسة لنا من جميع نواحينا متصلا بنا اتصالا، وقريبا منا قربا مثل اتصال وقرب الدم لا يمكننا الانفصال عنه كما لا يمكننا الانفصال عن الدم، أن نأخذ جميع الحيطة لرد كيده وإبطال تدبيره وإحباط وسوسته وذلك بالمبادرة إلى الاستعاذة بالله منه بالاستعاذة الثانية عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الأحوال المختلفة وبمقابلة كل نوع من وسوسته بما يبطله من ذكر الله فإذا جاء من ناحية الإيمان بادرنا إلى لا إله إلا الله وإذا جاء من ناحية التنزيه بادرنا إلى سبحان الله، وإذا جاء من ناحية الإنعام: بادرنا إلى الحمد لله وإذا جاء من ناحية التخويف من الخلق بادرنا إلى " الله أكبر" وهكذا نبادر إلى رد ما يوسوس به من كلمات الباطل إلى ضدها من كلمات الحق. وكما على المؤمن أن يدفع ذلك عن قلبه عليه أن يدفعه عن قلب أخيه بمصارحته بما يزيل إساءة الظن به، أو حمل شيء عليه، أو نفرة من ناحيته، أو إشغال لأمره، وأن يبين له ما يقصد بذلك من مدافعة الشيطان ورده عن نفسه وعن أخيه ليكون عينا له على قصده، فيرجع الشيطان عنهما مذموما مدحورا. وهذه المدافعة للشيطان وحماية

القلوب منه من أعظم الجهاد وأوجبه وألزمه بل هي أصل الجهاد كله فإنه هو أصل البلاء كله فالسلامة منه هي السلامة من كل سوء والتمكن من نيل كل خير والفوز بكل سعادة في الدنيا والآخرة (1).

_ (1) ش: ب 2، م 10، ص 58 - 60 غرة شوال 1352 هـ- جانفي 1934 م.

إنما يؤخذ الدين من العلماء

إِنَّمَا يُؤْخَذُ الدِّينُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ عَلَيْه وَآلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِهُ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: الراهب: هو العابد، وكانت الرهبنة فيمن قبلنا بالانقطاع عن الناس والتفرغ للعبادة، ابتدعها أهلها دون أن يكتبها الله عليهم كما في سورة الحديد. ثم جاء الإسلام فشرع الجمعة والجماعة فأبطل الانقطاع عن الناس للعبادة إلا من فرَّ بدينه أيام الفتنة خوفا على نفسه منها. والعالم: من له دراية وملكة واشتغال بالعلم، والمقابلة

المعنى

ما بينهما في الحديث تقتضي أن الراهب لم يكن عنده من العلم ما يقال في صاحبه عالم، والعالم لم يكن عنده من الانقطاع للعبادة ما يقال في صاحبه راهب. قال الإمام محمد السنوسي- رادا على الأبي-: تسمية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الرجل الثاني بالعالم والأول بالراهب يدل على أن الراهب ليس بعالم، والحجة فيما دل عليه لفظه صلى الله عليه وآله وسلم من أن كل واحد إنما ثبت له في نفس الأمر معنى الوصف الذي أطلقه عليه، وأما دلالة الدال على الراهب وهو إنما سئل عن العالم فليس فيه دليل على أن الراهب كان عالما لاحتمال أن يكون الدال رجلا جاهلا ولا يعرف العالم إلا من هو عالم، لاسيما والرهبانية كثيرا ما يعتقد الجهلة ملازمتها للعلم. والترهب إن سلم أنه يقتضي العلم فإنما يقتضي العلم بما يحتاج إليه في ترهبه وإلا فكم من مترهب جاهل. المعنى: هذا رجل جنى هذه الجنايات العديدة ثم ذكر الله تعالى فأراد الرجوع إليه فسأل عن أعلم أهل الأرض ليوجده سبيلا إلى ذلك فدله من دله على راهب لاعتقاد العامة العلم في كل مظهر للتعبد، فلم يجد عنده مخرجا من جنايته فكمل بقتله المائة محمولا على ذلك باليأس والجرأة والاستهانة بقتل النفس. ولكنه بقي مع ذلك يطمع أن يجد عند غيره سبيلا فدل على عالم فأفتاه بإمكان التوبة مستدلا بأنه لا شيء يحول بينه وبينها، وأشار عليه بمفارقة أرضة التي ضري فيها على الجنايات فإنها كانت أرض سوء عليه، وأمره أن يذهب إلى أخرى بها قوم صالحون يعبدون الله ويسيرون بطاعته فيصاحبهم ويعبد الله معهم لإصلاح نفسه بمعاشرة الصالحين وتحقيق توبته بالعمل الصالح معهم. فذهب الرجل على هذه النية وأدركه الموت قبل أن يصل إلى تلك الأرض، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وحجتهم نيته التي

الأحكام

خرج عليها، وملائكة العذاب وحجتهم أنه لم يعمل عملا صالحا، فكان القضاء لملائكة الرحمة تغليبا لجانب القصد والنية، وتأيدت النية بجده في السير إلى الأرض التي قصد حتى كان أقرب إليها من الأرض التي خرج منها. الأحكام: في الحديث لزوم السؤال للجهال. وفيه أن أهل العلم هم الذين يسألون عنه لا غيرهم، وإن كان أكثر عبادة. ولذا قال مالك رحمه الله: (لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه معلن السفه، وصاحب هوى يدعو إليه، ورجل معروف بالكذب في حديث الناس وإن كان لا يكذب على الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به). ذكره ابن عبد البر في جامع العلم، وفيه صحة توبة القاتل وهو مذهب جمهور السلف، وهذا الحديث من أدلتهم. عبرة وتحذير: العلم قبل العمل، ومن دخل في العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وربما اغتر به الجهال فسألوه فاغتر هو بنفسه فتكلم بما لا يعلم فضل وأضل. فهذا الراهب قد دل عليه من دل عليه يحسبه أعلم أهل الأرض فسئل فأجاب بما لا يعلم فعادت مصيبة ذلك عليه وعلى سائله، ولو دل هو سائله على غيره من العلماء لسلم هو وسلم السائل. فحذار من التقصير في العلم اللازم للعبادة، وحذار من الكلام في دين الله والإفتاء للناس بغير علم مؤهل لذلك، وحذار من صرف الناس عن العلم وأصله إذا رأيتهم قد افتتنوا بك.

إستشهاد

إستشهاد: جاء في حديث رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما عن ابن عباس- رضي الله عنهم- وخرجه ابن عبد البر في جامع العلم عنه وعن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن فقيها واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد. وواقع هذا حديثنا مما يشهد لذلك فقد رأيت ماذا جر الراهب على نفسه وعلى غيره، وكيف أنقذ العالم ذاك الشرين من الهلاك. نسأل الله الفقه في الدين وعمل الصالحين وتوبة الأوابين لنا ولجميع المسلمين آمين يا رب العالين (1).

_ (1) ش: ج12، م 8، ص 616 - 618 شعبان 1351 هـ- ديسمبر 1932م.

فضل السجود والحث عليه

فَضْلُ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ. " قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ»، فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ»، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» ". رواه مسلم، واللفظ له. وأبو داوود والطبراني في الكبير. ــــــــــــــــــــــــــــــ الراوي: هو أبو فراس، قديم الصحبة، كان من أهل الصفة يلازم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في السفر والحضر مات سنة " ثلاث وستين". الألفاظ: مع: ظرف مكان مبهم واسع، وهو كان يبيت عند بابه كما في رواية الطبراني، وذالك هو المراد من مع هنا. حاجته: ما يحتاج إليه في الوضوء أو على وجه تسكنينها هي أو التي للتخيير أو للإضراب، وعلى وجه الواو هما كلمتان: همزة الاستفهام والواو العاطفة، هو: أي مسؤولي ذَاكَ أي المذكور وهو المرافقة. الإعانة: مشاركة الفاعل في العمل ليخف عليه ويسهل وينتهي منه إلى غرضه. التراكيب: حذف مفعول سل للتعميم وهو المناسب لمقام الافضال في النوال. غير معطوف على موافقتك من عطف لفظ في كلام على لفط في كلام

المعنى

آخر عند ما يقصد المتكلم ربط كلامه بكلام المتكلم قبله لنحو تلقينه، فيكون مجموع الكلام هكذا: أسألك مرافقتك في الجنة أو غير ذلك، والكلام وإن كان خبرا فهو في قوة الطلب ولذلك كانت أو للتخبير هذا كله على وجه أو التي للتخبير وإما إذا كانت للإضراب فتقدير الكلام بل اسأل غير ذلك. وأما إذا كانت الهمزة للاستفهام فإن الواو عطفت على جملة، وتقدير الكلام: أتترك ما سألت وتسأل غير ذلك. والإستفهام هنا المراد به الطلب، يطلب منه أن يترك سؤال المرافقة ويسأل غيره، هو ذاك: تفيد الحصر، أي مسؤولي هو المرافقة لا غيرها. المعنى: كان هذا الصحابي- رضي الله تعالى عنه- يخدم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ويبيت عند باب بيته ليأتيه بما يحتاج إليه من ماء يتوضأ به أو غيره، فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يجازيه على خدمته فأمره أن يسأله ليعطيه، فأعرض هذا الصحابي عن جميع مطالب الدنيا وسأله أعز مطلب في الآخرة وهو مرافقته له في الجنة، ولما كانت هذه المرافقة تقتضي درجة رفيعة في الجنة أخص من مطلق دخول الجنة، وهذه الدرجة تقتضي العمل الشاق، حاول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- صرفه عن هذا السؤال الذي فيه العمل الشاق الذي ربما لا يطيقه إلى غيره مما هو أسهل من المطالب، فصمم الصحابي على سؤاله وأبى أن يسأل غيره، فقبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- سؤاله على أن يعينه على نفسه لتحصيل المطلوب، وأرشده إلى ما هو وسيلة في رفع الدرجات، وهو كثرة السجود فإن العبد لا يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة كما ثبت في الصحيح.

زيادة بيان

زيادة بيان: قد جاء هذا الحديث عند الطبراني بأبسط من رواية مسلم، وذكر الرواية المطولة. يوضح لنا الرواية المختصرة، ورواية الطبراني كما في (الترغيب والترهيب) هي هذه: (قال كعب: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- نهاري فإذا كان الليل آويت إلى باب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فبت عنده فلا أزل أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي، حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام، فقال، يوماً: يا ربيعة سلني فأعطيك؟ فقلت: أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فسكت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: من أمرك بهذا؟ قلت: ما أمرني به أحد ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان، الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي. قال: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود). النظر في الروايتين: بينت المطولة أنه كان يخدمه بالنهار والليل وأنه ما سأل إلا بعد النظر والتفكر، وأنه لم يسأل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعطيه الجنة وإنما سأله أن يدعو الله تعالى له لعلمه أن دعاءه مستجاب، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بأنه يفعل ما طلبه منه، وهو دعاء الله تعالى له. غير أن الرواية المطولة فيها أنه سأله النجاة من النار ودخول الجنة، والرواية المختصرة فيها أنه سأل مرافقته له في الجنة وهي أخص من مطلق الدخول. الجمع والترجيح: كل ما في المطولة مما هو زائد على المختصرة غير معارض لشيء فيها فهو مع المختصرة حديث واحد روى مطولا ومختصرا وإن تفاوتت

توجيه

طريقاه. وما جاء فيها معارضا لشيء في المختصرة وهو سؤال دخول الجنة المعارض لسؤال المرافقة فإننا نأخذ بما في المختصرة ترجيحا لها لقوة سندها. توجيه: المرافقة في الجنة لا تقتضي المساواة في المنزلة والكرامة، أصله قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ - إلى- وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ولهذا سألها هذا الصحابي. ولما كان من الملازمين للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الدنيا توجهت همته إلى مرافقته في الأخرى فسأله ذلك. فوائد الأحكام: في الحديث جواز قبول التبرع بالخدمة من الناس، وخصوصا لأهل المقامات العامة في مصالح الناس، وفيه فضل القيام من جوف الليل، - من قوله آتيه بوضوئه - وفيه سنة مكافأة المحسن على إحسانه، وفيه مشروعية سؤال الدعاء، وخصوصا ممن ترجى له الاستجابة، وفيه عدم الاكتفاء بالدعاء وحده عن التوسل بالطاعات ونوافل الخيرات، وفيه فضل السجود والحث عليه، وفيه دليل لمن يقول بأفضلية كثرة السجود على طول القيام. إرشاد وتحذير: سأل هذا الصحابي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو له الله ولم يسأله هو أن يعطيه الجنة لأن الذي يعطى هو الله تعالى ولأن الذي يسأل منه العطاء هو الله تعالى، كما قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لابن عباس فيما رواه (وإذا سألت فاسأل الله) فمن المخلوق تسأل الدعاء ومن الخالق تسأل العطاء، ومن أدلة الأول هذا

بيان عقيدة وإبطال ادعاء

الحديث ومن أدلة الثاني حديث أبي عباس المذكور. وكثير من الناس يسألون ممن يعظمون نفس العطاء وخصوصا من الأموات- رحمهم الله- في قبورهم فأرشدهم بمثل ما سمعت وحذار أن تكون منهم. بيان عقيدة وإبطال ادِّعاء: لما سأل هذا الصحابي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بالدعاء وأرشده إلى العمل الصالح وهو كثرة السجود، ولم يقل له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إنني ضامن لك ذلك ولا أنت مضمون ولا أنت في ضماني، لأن العبد لا يجوز له أن يضمن على خالقه بدون إذنه شيئا، وإذا كانت الشفاعة التي هي طلب منه لا تكون عنده إلا بإذنه فكيف الضمان الذي هو التزام على القطع، فمن الغرور العظيم والجهل الكبير والجراءة الكبرى على الله تعالى قول بعض المدَّعين "روح راك مضمون" وقول آخرين (من دخل دار كذا فهو مضمون) و (أنا ضامني الشيخ) و (يا دار الضمان) ونحو ذلك، مما يقوله الجاهلون وينكره العالمرن ويبرأ منه الصالحون. حقيقة نفسية: العبد بين داعيين مختلفين دينه يدعوه إلى الحسنى وينهض به للعلاء ونفسه تدعوه إلى السوأى وتنحط به إلى الحضيض. ولا ينحط المسلم عن مقامات الكمال إلا بإجابته داعي نفسه واعراضه عن داعي دينه. فالنفس هي الجاذب القوي إلى دركات الانحطاط. ولما كان دعاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا الصحابي سببا في رفع درجاته، وكانت نفسه إذا خلاها على هواها ما نفعه له من ذلك الرفع فصار الدعاء النبوي والنفس الأمارة كالمتنازعين فيه- أمره بأن يعينه على نفسه بكثرة السجود ولم يقل له أعني على مطلوبك أو

تحصيل مرادك، بل قال له أعني على نفسك. وفي هذا تنبيه له على أن النفس هي المعرقلة للعبد عن الصعود في سلم السعادة وأنه إذا قهرها وغلبها فقد تيسرت له أسباب الكمال (1).

_ (1) ش: ج 4، م 8، ص 205 - 210 غرة ذي الحجة 1350 هـ- أفريل 1932 م.

الصدق والكذب أين يهدي كل واحد منهما.

الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَيْنَ يَهْدِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ((قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». رواه البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ لمسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: عليكم: اسم فعل بمعنى تمسكوا. وإياكم: منصوب على التحذير في معنى احذروا. والصدق مطابقة الخبر للواقع وتصويره على ما هو عليه. والكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع وتصويره على خلاف مما هو عليه. يهدي إلى كذا: يعني يوصل إليه بتحري الشيء يقصده ويتعمده ولا ينحرف عنه. البر: اسم جامع للخير كله. والفجور: الانبعاث في الشر، الصدِّيق: الكثير الصدق. والكذاب: الكثير الكذب. التراكيب: عبر بالمضارع في يصدق ويكذب ويتحرى ليفيد التجدد، وأن ذلك هو شأنه الذي يتكرر منه.

المعنى

المعنى: تمسكوا بالصدق وألزموه فإن الصدق يوصل إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم، وإن العمل الصالح يوصل إلى الجنة، وإن الرجل ليتكرر منه الصدق ويتكرر منه تعمد الصدق والقصد إليه والتزامه حتى يكتب عند الله كتابة خاصة صديقا فيثاب ثواب الصديقين ويرضى عليه رضاهم. واحذروا الكذب واجتنبوه فإن الكذب يوصل إلى الشر والانبعاث فيه وأن الشر يوصل إلى النار. وأن الرجل ليتكرر منه الكذب ويتكرر منه تعمده والقصد إليه حتى يكتب عند الله كتابة خاصة كذابا فيؤثم إثم الكذابين ويسخط عليه سخطهم. تفصيل وتقسيم: الصدق والكذب يكونان باللسان على ما تقدم من التفسير وهو الأصل في إطلاقهما، وعليه محمل الحديث. ويكونان في القلب من حيث الاعتمقاد فالعقد الحق الجازم صدق والعقد الباطل كذب ويكونان في الجوارح من حيث الأفعال، فالأفعال الموفر حقه الواقع على وجهه (1) صدق، والفعل الناقص الواقع على غير وجهه كذب، وجماعها كلها الحق والكمال في الصدق والباطل والنقص في الكذب فأقسام كل منهما مرتبط بعضها ببعض ارتباطا يكاد لا ينفصل ويكاد من التزم بعضها ألاَّ يفارق الآخر. ولا يكمل العبد في مقام الصديقة إلا بكماله في أقسام الصدق كلها، وبعده عن أقسام الكذب كلها. توجيه وتعليل: كان الصدق يوصل إلى البر والكذب يوصل إلى الفجور لوجوه: الأول: ما بيناه في الفصل السابق من الارتباط بين أقسام كل منهما

_ (1) في الأصل (وجه).

إستفادتان

ورجوعهما إلى أصل واحد. الثاني: أن إلتزام الصدق يحمل على الوفاء بالعقود والعهود والوعود في معاملة الناس، فتجري أعمال المرء مع غيره على سداد واستقامة والكذب بعد ذلك. الثالث: أن الملتزم للصدق يمسك نفسه عن أعمال السوء مخافة أن يسئل عنها فيصدق فيجر على نفسه سوءا أو يكذب وهو لا يرضى مواقعة الكذب فتجري أعماله على البر سالمة من الفجور. والملتزم للكذب الضاري عليه يرتكب العظائم ولا يبالي أن ينفي عن نفسه كاذبا. أما البر فيوصل إلى الجنة لأنها دار المتقين، وأما الفجور فيوصل إلى النار لأنها دار الفاسقين. وأما كتابة الملازم للصدق صديقا فجزاء له من جنس عمله، فإنه داوم على الصدق وثبت عليه حتى رسخ فيه وتمكن خلقا من أخلاقه، فأثبت اسمه كذلك في الصديقين ومثله ملازم الكذب. إستفادتان: الأولى: أن بين الخصال خصال البر وخصال الشر تناسبا وتوالداً أو هذا أصل يحتاج إليها في تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وعلاج أدوائها، فإن من عرف المرض الأصلي الذي نشأت منه أمراض أخرى سهل عليه إذا عالجه أن يقتلع- بإذن الله- الباقي، ومن عرف أصل الخير سهل عليه إذا تمسك به أن يحصل على فروعه. الثانية: إن تكرر العمل بمقتضى خلق من الأخلاق يقويه ويثبته وأن العمل على مقتضى ضده يضعه ويزيله، وهذا أصل عظيم أيضا في التربية يعلمنا أن التساهل في الأعمال السيئة ولو كانت في نظرنا طفيفة يفضي بنا إلى استعصاء داء الرذيلة، وأن القيام بالأعمال الحسنة ولو كانت طفيفة يبلغ بنا إلى رسوخ الفضيلة. إستنتاج: قد كتب الله مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض وجفَّت

ترهيب

الأقلام وجرت المقادير كما في الصحيح، فهذه الكتابة كناية أخرى من باب الجزاء للعامل على عمله يستحق بها صاصبها وصف الصدِّيقين وثوابهم، أو وصف الكذابين وعقابهم، ويظهر بذلك في الملا الأعلى عند ملائكة الرحمن ويكسي حلته بين الناس ويعرف به {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. ترهيب: إن من داوم على الكذب حتى كتب من الكذابين يخشى عليه أن يحرم من التوفيق إلى التوبة، وتلك هي أكبر مصيبة، فإن الله من فضله على هذه الأمة أن فتح أمامها أبواب التوبة، وإذا داوم العبد على الإعراض عن باب سيده، متهاونا بمخالفة أمره، حتى كتب عنده في سىجل الشريرين كان ذلك خطرا عظيما عليه في أن يسد في وجهه الباب ويضرب بسوط الحرمان. ففي هذا الحديث الشريف ترهيب شديد من سوء عاقبة هذه الحال. تحذير: مواطن الهزل ومجالس البسط مما يتساهل فيها الناس فيلقون فيها الكلام بلا ضبط، وتجري ألسنتهم بالكذب من غير مبالاة ولا احتياط فيقعون في الإثم على الكذب والإثم على التهاون بالمعصية، ويتعودون ذلك التساهل حتى يقعوا في الوعيد المذكور في هذا الحديث، فليحذر المسلم من مثل هذه الحال وليتفطن لنفسه في مثل هذه المقامات. تحذير أوكد: من قلة الاحتياط في الدين وعدم الاحترام للعلم ما يجري على ألسنة كثير من الناس قولهم: (قال رسول الله) - صلى الله عليه وآله وسلم -. دون معرفة برتبة الحديث عند أهله، ومصيبة بعض المتسمين

سلوك

بالعلم والقائمين بالخطب الجمعية في هذا أشد وأضر لتعديها منهم إلى غيرهم ونشرهم الموضوعات الكثيرة في الناس، ولا يكفيهم أنهم سمعوا أو وجدوا، فقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم في مقدمة صحيحه، والكذب عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- عظيم، والتحري فيما دونه واجب فكيف به، خصوصا وقد قال هو عليه وآله الصلاة والسلام «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم». رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وقال الإمام سيدي محمد السنوسي- رحمة الله عليه- في شرحه لهذا الموضع: (وعلماء السوء والرهبان على غير أصل سنة كلهم داخلون في هذا المعنى وما أكثرهم في زماننا (القرن التاسع) نسأل الله تبارك وتعالى السلامة من شر هذا الزمان وشر أهله) انتهى كلامه. سلوك: على العاقل أن يضبط لسانه في الجد والهزل، وأن يحترس من الكذب في الجليل والحقير، وأن يتثبت فيما ينقل ويروي من حديث الناس، وأن يتثبت أكثر وأبلغ فيما يروي في الدين والعلم، وأن يتحرى الصدق وتصوير الحقائق، وأن يجعل ذلك من همه وأعظم قصده، وأن يبادر بالتوبة فيما يزل به لسانه إلى ربه، ويعمل دائما على أن يطابق بين عقدهِ بقلبه ونطقه بلسانه وعمله بجوارحه حتى يكون متحريا للصدق بجميع أقسامه ويكتب به- بفضل الله ورحمته- في الصديقين. وفقنا لهذا ويسرنا له نحن والمسلمين أجمعين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين (1)

_ (1) ش: ج 10، م 8، ص 500 - 503 غرة جمادى الثانية 1351 هـ- أكتوبر 1932 م.

لا لوم على صدق المتاب محاجة آدم وموسى عليهما السلام

لَا لَوْمَ عَلَىَ صِدْقِ الْمَتَابِ مُحَاجَّةِ آَدَمَ وَمُوَسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدَمُ، مُوسَى. قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». رواه الأئمة. ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بعد موتهم الدنيوي أحياء حياة برزخية روحية أسمى وأرقى من حياة غيرهم بمقتضى كمالاتهم ومقاماتهم، فتتلاقى أرواحهم في العالم العلوي القدسي، ويكون بينهما التعارف والتخاطب. وعلى هذا الوجه وقعت هذه المحاجَّة بين آدم وموسى عليهما السلام، وقصها علينا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لنستفيد ما فيها من العلم ونقتدي بما فيها من عمل. الألفاظ: تحاج: تنازعا وذكر كل واحد حجته. فحج آدم موسى: غلبه في الحجة. أغويت الناس: أضللتهم، أي كنت سببا في إخراجهم إلى الأرض فأغويتهم وأضلتهم الشياطين. وأخرجتهم: أي كنت سببا في إخراجهم بأكلك من الشجرة. علم كل شيء: أي مما يحتاج إليه في

المعنى

هداية الناس، واصطفاه على الناس من غير المرسلين. قدر علي أي سبق به علم الله ومضت به إرادته في الأزل. المعنى: إلتقى هذان النبيان الكريمان التقاء روحيا في العالم العلوي، فوجه موسى إلى آدم لومه على ما كان منه من الأكل من الشجرة والمخالفة مما أدى إلى إخراجه من الجنة فنسل ذريته بالأرض فكان سببا في خروجهم إليها وتمكنت منهم الشياطين في دار التكليف فأغوت وأضلت من أغوت وأضلت منهم وكان ذلك كله بسببه. فدفع آدم هذا اللوم بأن ما كان منه كان مقدرا عليه قبل أن يخلق فلا لوم عليه فيه، إذ لا دخل له في التقدير، وعرض آدم لموسى بأنه ما كان ينبغي له أن يكون منه هذا اللوم على المقدر، مع علو مقامه بالعلم والاصطفاء, فغلب آدم موسى وقامت حجته عليه. بسط وبيان: دلت الأدلة القطعية أن ما يكون من العبد سبق به علم الله ومضت به إرادته وكتب عليه قبل أن يخلق {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} كما دلت الأدلة القطعية على أن الإنسان موأخذ بعمله ملوم عليه لما عنده من التمكن وما له من الاختيار {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وأنه لا مؤاخذة عليه بعد التوبة ولا لوم {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.

دفع شبهة

وآدم عليه السلام كانت منه المخالفة على التأويل وتاب الله عليه، وكل ذلك قد كان في حياته فلم يبق عليه لوم بعد ذلك المتاب، فلما لامه موسى لم يكن سبب اللوم من ناحيته- وهو المخالفة- قائما لزواله بما كان من التوبة، ولم يبق إلا التقدير السابق، وهو لا دخل له فيه، فكيف يلام. فقلت حجته على موسى بسبب انعدام ما يوجب عليه اللوم، وهو المخالة، فكان لوم موسى في غير محله. دفع شبهة: قد احتج آدم بالقدر السابق فنهضت حجته، فهل يحتج كل مخالف بالقدر السابق فتنهض حجته؟ كلا: فإن الأدلة القطعية المتقدمة تمنع من ذلك منعا قاطعا. والتحقيق أن المخالف له حالتان: حالة التوبة الصادقة التي أسقطت المؤاخذة، وهذه هي حالة آدم التي احتج فيها فنهضت حجته، وحالة عدم التوبة، وهذه لا حجة فيها بالقدر لوجود المؤاخذة بالعمل المكتسب. وآدم وإن لم يذكر توبته. بمقاله فهي مفهومة من حالة معروفة مما أنزله الله من كتبه على موسى وغيره. دفع شبهة أخرى: فإذا كان آدم لا لوم عليه لسقوط المؤاخذة بالتوبة فكيف لامه موسى؟ والجواب: أن موسى لا يجهل هذا ولكنه غفل عنه أو غفل عما كان من آدم من التوبة، وتجوز عليه الغفلة وهو ليس في دار التكليف ولا في مقام التبليغ، فلما ذكر آدم دليله ذكر موسى ما غفل عنه فسلم. إقتداء: المناظرة في العلم والدين والمحاجة بالحق عن الأصول الشرعية والكمالات الإنسانية لا يتعالى عنها كبير لكبره، ولا يحتقر فيها صغير

لصغره، فالحق هو الحق على أي لسان ظهر، والحجة هي الحجة من أي ناحية قامت. وعلى هذا الأصل حاج موسى آدم وهو أبوه. ومن حق المناظر أن يذكر كل ما يراه من الحجة الحقة لإثبات قوله ولو كان فيه ثقل على خصمه، وعلى هذا الأصل نسب موسى لآدم الإغواء والإخراج- وإن لم يكن من فعله- لأنه متسبب عنه. ومن الواجب على من لاح له الحق في حجة خصمه أن يسكت ويسلم. فقد علمنا أن النبيان الكريمان (1) كيف يعتمد (2) على الحجة في البداية وكيف يخضع (3) لها في النهاية والقدوة هما صلى الله وسلم عليهما (4).

_ (1 و2 و3) كذا في الأصل ويبدو أن التعبىر مضطرب لنقص بعض الجمل أو لسقوطها حين الطبع. (4) ش: ج5ـ، م 15، ص 208 - 211 غرة جمادى الأولى 1358هـ - جوان 1939م.

مجالس العلوم الإقبال عليها والإعراض عنها

مَجَالِسُ الْعُلُومِ الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا. عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَذَهَبَ وَاحِدٌ. فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» ". ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: خرَّجه مالك وتلقاه من طريقه الأئمة البخاري ومسلم والترمذي والنَّسائي رضي الله عنهم. ألفاظ المتن: الفرجة: الخلل بين الشيئين. أوى:! أوى إلى منزله، نزله واستقر فيه، وأوى إلى الله لجأ إليه ودخل مجلس ذكره ومنزل أوليائه. آواه: أنزله منزله وأدخله مسكنه، وآواه الله قبله وضمه إلى أهل مجلس ذكره وأناله ما ينيلهم من رحمته. استحيا: الحياء تغير

البيان

وانكسار يعتري الإنسان عند خوف ما يذم به أو يلام عليه فيمنعه منه. فاستحيا هذا معناه امتنع من الذهاب كما ذهب صاحبه أو ترك المزاحمة في الحلقة. فاستحيا الله منه: ترك عقابه ولم يحرمه من ثواب. أعرض: التفت إلى جهة أخرى فذهب إليها. فأعرض الله عنه: حرمه من الثواب. البيان: كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يجلس في المسجد النبوي لأصحابه ويجلسون إليه حلقة فيعلمهم القرآن، والحكمة، ويعظهم، ويرشدهم، فجاء هؤلاء الثلاثة من طرف المسجد والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في حلقته، فأقبل اثنان وذهب الثالث ودخل أحد الإثنين في الحلقة فسد فرجة وجلس الآخر خلف الحلقة فلما فرغ النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- من درسه أراد أن يعرف القوم بصنيع الثلاثة ليعلموا حكم عمل كل واحد منهم في الشرع، فبين لهم أن الأول نال الأجر والمدح بإقباله على مجلس العلم وسده الفرجة، وأن الثاني سلم من الذم ولم يكن له من الأجر للأول، وأن الثالث حرم من الأجر وتحمل الملامة. تحرير: فسر الإعراض بالغضب والسخط، وفسرناه بالحرمان من الأجر مع الملامة، لأن ترك الإتيان ليس تركا لواجب حتى يستوجب صاحبه الغضب والسخط الذي من مقتضاه الإثم، بدليل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يمنعه من الذهاب. ويؤيد تفسيرنا ما جاء عن أنس عند الحاكم ولفظه (فاستغنى فاستغنى الله عنه) وهذا ظاهر أن معناه لم يقبل على ما فيه أجر وثواب فلم يعط أجرا ولا ثوابا. وفسر بعضهم استحياء الثاني بأنه لم يدخل للحلقة، وفسره آخرون

الفوائد والأحكام

بأنه استحيا من الذهاب عن الجلس، والتفسير الثاني أرجح لأن سد الفرجة مطلوب فلا يمدح بالاستحياء منه. ولأنه جاء في رواية أنس عند الحاكم (ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس). وهذا نص في المراد. الفوائد والأحكام: الأولى: الجلوس في المساجد حلقا للتعلم والتعليم. الثانية: تعليم الناس ووعظهم وإرشادهم في المساجد، وهذان مما أجمع عليه المسلمون في جميع الأعصار والأمصار وجرى عليه عملهم وعلم بالضرور عندهم فلا يتعرض لهم فيها إلا ظالم من شر الظالمين. له في الدنيا خزي وله في الآخرة عذاب عظيم. الثالثة: التعليق للعلم وتنظيم الحلقة وسد فرجها فهي في ذلك كصفوف الصلاة فيجوز التخطي لسد الخلل كما فعل الأول ويجلس خلفها إذا لم يكن موضع فيها كما فعل الثاني. الرابعة: فضل الإقبال على مجالس العلم وكراهة الإعراض عنها إلا لعذر. الخامسة: بيان أحكام الأعمال التي تقع أمام الناس حين وقوعها ليرسخ علمها ويتعظ بما فيها. السادسة: لوم من زهد في الخير ولم يحرص عليه وإن لم يكن ذلك الخير من الواجبات عليه في تلك الحال. إهتداء: إن من يؤمن بأنه يحاسب على مثاقيل (1) الذر من أعماله لا يكون إلا حريصا على الخير أقل القليل منه، ومن شأن الحريص على الخير

_ (1) في الأصل ميثاقيل.

أن يسارع إليه ويسابق فيه فلا يرى موطنا يشغله بين أهله إلا ملأه ولا نقصا يمكنه تكميله إلا كمَّله. حتى إذا سبق إلى خير وقف عندما حصل وكان له بنيته أجر من سبق. فهذا المجلس النبوي الكريم مثله في المعنى جميع مواطن الخير ومشاهد الفلاح. بصرنا الله بالخير وحببنا فيه وأعاننا عليه وجعلنا من أهله (1).

_ (1) ش: ج 3، م 13، ص 121 - 124 غرة شعبان 1356هـ- 2 ماي 1937م.

درس ختم الموطأ كما نقله في وقت الإلقاء بعض التلامذة وقد اجتهد أن يؤدي أغلب المقصود.

دَرْسُ خَتْمِ الْمُوَطَّأِ (1) كما نقله في وقت الإلقاء بعض التلامذة وقد اجتهد أن يؤدي أغلب المقصود. أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. وَبِهِ ثِقَتِي وَأَسْتَعِينُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَسْعَدِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم تَسْلِيمًا. الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. ــــــــــــــــــــــــــــــ بالسند المتصل إلى الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس- رضي الله عنه- قال: " أَسْمَاءُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- " وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ». السند: روى مالك هذا الحديث مرسلا، ورواه عنه كذلك يحيى بن يحيى

_ (1) ش: اكتفينا بهذا الدرس الجليل عن الحديث المعتار لمجالس التذكببر (المؤلف).

المتن

والأكثرون، وجاء مرويا عنه مسندا عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه وكثيرا ما يروي مالك الحديث مسندا ومرسلا. ولا يرسل مالك ولا يأتي ببلاغ في الغالب إلا وهو على علم بمن يترك من السند أنه محل الثقة والقبول والاعتماد. فأما إذا شك فإنه يصرح بشكه. وتصريحه بالشك حين يشك يدلنا على ما عنده من العلم واليقين عندما يسكت دون أن يصرح بالراوي. ومن الدليل على أنه إذا كان على شك من الأمر يصرح ما تقدم لنا قريبا في باب التعفف عن المسألة، فلما روي عن العلاء بن عبد الرحمن قوله: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلاَّ عزَّ وما تواضع عبد إلا رفعه الله)) قال لا أدري أيرفع هذا الحديث إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أم لا.؟ ثم إن هذا الحديث قد جاء مسندا في الصحيحين وغيرههما. المتن: في قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لي خمسة أسماء، مفهومان: مفهوم الحصر ومفهوم العدد. فأما الأول: فمن تقديم الجار والمجرور، وأما الثاني: فمن لفظ خمسة، لكن المفهومين ليسا سواء، فإن مفهوم العدد- غير معتبر كما هو أصح الأقوال، نعم يسئل عن وجه الاقتصار على هذا العدد إذ كان هناك غيره، فإن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- له أسماء كثيرة قد أنهاها بعضهم إلى الألف. فاقتصاره هنا على ذكر خمسة لا بد أن يكون لوجه اقتضى الاقتصار عليها. ووجه ذلك أنها هي التي سمي بها في الكتب المنزلة. وهي الخمسة التي يختص بها وليس لغيره ألفاظها ولا معانيها كما سيتبين. وإذا كان سمي بغيرها في الكتب المتقدمة فهذه هي الأشهر والأكثر وكفى بهذا الذي ذكرنا وجها لتخصيصها بالذكر.

«أنا محمد»

وأما مفهوم الحصر في قوله لي خمسة أسماء أي ليست لغري فهو مفهوم معتبر وهو حصر صحيح ثابت من جهة المعنى ومن جهة اللفط. فأما الأول: فإننا نجد معانيها ليست إلا له- صلى الله عليه وآله وسلم- مختصا بها بين أخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- وهم المشاركون له في الكمالات ولكن الله يفضل منهم من يشاء بما يشاء لا لنقص في الفضل عليه ولكن لخصائص زائدة في المفضل، وأما الثاني: فكذلك أيضا على ما سنبين. «أَنَا مُحَمَّدٌ»: مشتق من الحمد، والحمد هو الثناء بذكر الكمالات والصفات الفاضلة المشتملة على ما هو من صفات الذات، أو من صفات الأفعال وعلى ما هو من باب الكمالات أو من باب الإنعام. وإنما يعبر من الثناء ما كان حقا وصدقا بمطابقته للواقع وبمطابقته لما في القلب. ومحمد: اسم مفعول من حمد المضاعف العين، وهو يقتضي التكثير، فالحمد هو ذو الخصال الكثيرة الحميدة التي تقتضي حمده مرة بعد أخرى. فالمحمود هو من وقع عليه الحمد ولو مرة وأما المحمد فالذي يكثر حمده. وهو في الأصل صفة وقد نقل من الوصفية إلى العلمية وجعل دالا على الذات المسماة بهذا الاسم. والمسمي له بهذا الاسم هو جده عبد المطلب بإلهام من الله، - والإلهام من الله هو ما يوفق الله إليه العبد ويهديه إليه دون علم سابق ولا دليل ظاهر، وإنما هي هداية ربانية تكون بإرشاد القلب إلى الشيء الملهم إليه- فهذا الاسم النبوي علم منقول من الصفة وهو وإن كان موضرعا للذات، فإن الواضع يلاحظ عند الوضع معنى تلك الصفة التي نقل منها. ويدل لهذا ما جاء أن عبد المطلب لما سئل عن تسمية ابنه بهذا الاسم- ولم يكن من أسماء آبائه وأجداده، ومن عاداتهم أن يحيوا ذكر آبائهم وأجدادهم بتسمية أبنائهم بأسمائهم- أجاب

«وأنا أحمد»

إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. فدل هذا على أن العربي الواضع للعلم الوصفي يلاحظ معناه لما كان صفة، وبهذا يكون الاسم وغيره- مع العلمية- منطويا ومشتملا على الثناء عليه. ولهذا يعبر القاضي عياض بقوله: "فمن خصائصه تعالى له- صلى الله عليه وآله وسلم- أن ضمن أسماءه ثناءه، فطوى أثناء ذكره، عظيم شكره" وما كانت الأسماء منطوية على الثناء إلا مع ملاحظة ما كانت عليه قبل العلمية. والثناء الذي يشتمل عليه هذا الاسم الشريف هو ما دل عليه من كثرة خصاله التي يحمد عليها ويكون حمده عليها متجددا. وهذا قد تحقق وهو واقع مشاهد فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قد حمده الخلق ويمحدونه دنيا وأخرى ويزداد ذلك في المواطن التي يزداد علم الناس بما أعطاه الله من كمالات وما أظهر على يده من إنعامات ويزداد علمهم بذلك بقدر ما يزداد تقدمهم في العلم والمعرفة، حتى أننا نرى في عصرنا هذا من غير المسلمين ممن ينصفونه فيذكرون من كمالاته والخير الذي أصاب البشرية على يده، فيشكرونه ويكررون الثناء عليه. فأما من أهل الإيمان به فهو كثير شهير، ثم إن الخلق كلهم يوم القيامة يحمدونه بما يشاهدون من النعم التي أعظمها وأجلها موقفه في الشفاعة العامة، فيحمدونه الحمد المتجدد المتكرر عندما يشاهدون ما لم يكونوا من قبل يعرفون. «وَأَنَا أَحْمَدُ»: وهو مشتق أيضا من الحمد، غير أن فعله حمد السالم المسند إلى الفاعل، وهو علم منقول من اسم التفضيل، والأحمد هو الأكثر حمدا من غيره. وقد علمنا أن النقل تصحبه تلك الملاحظة، فقد سمي أحمد على اعتبار أنه أكثر الخلق حمدا لله، فالخلق كلهم يحمدون الله بلسان الحال أو بلسان المقال. وهو أكثرهم حمدا لله على كل حال.

هذا وقد ذهب قوم إلى أن أحمد من فعل حمد المبني للغائب على معنى أنه أكثر محمودية من غيره. وتنتفي مرادفته للأول بجعل الأول راجعا للملكية أي لكثرة الصفات التي يحمد عليها، وجعل هذا راجعا للكيفية أي أفضلية ما يحمد به. والذي يقرر هذا هو الإمام ابن قيم الجوزية ويقول في تقريره؛ لو كان أحمد من المبني للفاعل لكان الأولى أن يسمى حمَّادا لأنه هو الذي يفيد كثرة الحمد. وهذا من هذا الإمام على جلالته سهو وغفلة فإن أحمد عندما يكون منقولا من اسم التفضيل المسند للفاعل يفيد تفضيله على جميع الحامدين المقلين والمكثرين فهو الأكثر حمدا لله من كل من أقل أو كثر. وأما حماد فإنما يفيد كثرة حمده ومن كثر حمده قد يساويه أو يفوقه فيه غيره فأما أحمد فيفيد- خصوصا مع حذف المتعلق- أنه بلغ من كثرة الحمد إلى مقام كان فيه أكثر حمدا لله من كل حامد. على أن- هنالك شيئا آخر لا بد من ملاحظته وهو أن الإسمين يراد بهما الدلالة على تكميل الله له من ناحيتين، الناحية التي يكون فيها في مقام التعظيم والتكريم بالثناء عليه وهو ما يقتضيه اسم محمد. والناحية التي يكون فيها في مقام الخضوع والخشوع بحمده لله تبارك وتعالى وثنائه عليه، وهو ما يقتضيه اسم أحمد المنقول من المسند للفاعل، فمحمد دلنا على مقامه الأول الذي يكثر فيه له الحمد، وأحمد دلنا على مقامه الثاني الذي يكثر فيه منه الحمد، ودلنا على أنه في هذا المقام قد فاق سواه وكان فيه لا تظير له. وهذا المعنى لا يمكن أبدا أن يستفاد من حماد. على أن أحمد المأخوذ من السند إلى الفاعل هو الذي يجري القياس، والمتبادر إلى الأذهان عند سماع اسم التفضيل هو الإسناد إلى الفاعل ولا يفهم الاسناد إلى المفعول إلا بقرينة. وحمده الله الذي فاق فيه كل حامد لا يكون إلا عن إيمانه ومعرفته

لكلمات الله وإنعاماته فيقتضي أنه فاق فيهما جميع الخلق. والايمان والمعرفة يقتضيان الطاعات الظاهرة والباطنة فيكون قد فاق في الطاعة جميع الخلق وبهذا كان الاسم متضمنا لأكمل الثناء عليه بأنه أكمل عبد لله علما وعملا. وهذان الاسمان الشريفان مرتبان في التسمية بهما للخلق والأسبق منهما عند قوم وهم الأكثرون هو أحمد وهو الذي سماه الله به في الإنجيل كما في سورة الصف: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. ثم محمد ااذي سماه به جده توفيقا من الله وهو اسمه في القرآن العظيم كما في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}. فالسابق إذا هو أحمد. والذين يذهبون إلى هذا يقولون أن الترتيب بينهما في التسمية على حسب الترتيب الذي بين المقامين المدلولين لهما فإن المقام الأول هو مقام عبوديته وحمده لله، والمقام الثاني هو مقام كماله بأخلاقه وصفاته وأعماله. فهو قد حمد الله أكثر الحمد في مقام عبوديته فجازاه على ذلك بأن كان محمودا مكررا حمده في مقام كمالاته والجزاء من جنس العمل فهو ما كان محمدا حتى كان أحمد وهذا ترتيب ظاهر وجيه. ويكون وجه تقديم اسم محمد في هذا الحديث على هذا القول أنه أشهر أسمائه وأنه اسمه في القرآن العظيم. وذهب قوم إلى أسبقية اسمه محمد، وأنه سمي به في التوراة، واستدلوا على هذا بأدلة ونقلوا من التوراة نقولا. ووجه التقديم لاسم محمد على هذا القول أنه نظر إلى أنه يوجد على فطرة الكمال ويشب على الكمالات والأخلاق الفاضلة التي يتكرر حمده عليها وقد حمده أهله صبيا رضيا، وحمده قومه شابا سريا وسموه بالأمين ثم لما أنعم الله عليه بالنبوة كان أحمد الخلق لله بما كان له حينئذ من العلم بكمالات الله وإنعاماته. وهو وإن كان مفطورا على الإيمان والعلم والكمال

«وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر»

وقد كان حامدا لله من يوم إدراكه لكن حمد النبي الرسول ليس كحمد من لم يكن بعد نبيا رسولا. فعلى هذا النظر من الترتيب يظهر وجه الأسبقية لاسم محمد على هذا القول. «وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ»: والمحو هو الإزالة. وفسر لنا- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الاسم دون الاسمين السابقين لأن اشتقاقهما كاف في ظهور معناهما، بخلاف الماحي فإنه قد يخفى المراد منه باعتبار الشيء الممحو ولذلك بينه بقوله الذي «يمحو الله بي الكفر». وهذا المحو الذي كان به- صلى الله عليه وآله وسلم- علمي واما عملي وقد حصل المحو به- صلى الله عليه وآله وسلم- للكفر علميا وعمليا فأما الأول فقد جاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بأدلة قاطعة وبراهين ساطعة على صدقه في كل ما جاء به من الحق والهدى والنور جاء من ذلك بما لم يأت به غيره وكل ذلك محو وإزالة للكفر في العالم العالمي. وأما الثاني فإنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء والأرض في ظلمة من الكفر بين ضلال أهل الكتاب ووثنية المشركين وأنواع أخرى من كفر الكافرين فدعا إلى الله وصبر وجاهد، فما مات - صلى الله عليه وآله وسلم- حتى انتشر الإسلام في جزبرة العرب كلها التي كانت سببا في إنقاذ البشربة ومصدرا لهدايتها فهذا محو عملي ومحو آخر وهو أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قد زويت وطويت له الأرض حتى شاهد مشارقها ومغاربها وقيل له أنه ستبلغ دعوته إلى ما زوي له منها وقد كان ذلك. ففي الأمد القصير ظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وامحى سلطان الكفر وانهدت عروش الجبابرة عرش القياصرة بالشام وعرش الأكاسرة بالعراق وتتابع المحْو والإزالة. قال: يمحو الله، لأن الخالق إنما هو لله. ويقول: بي لأنه هو السبب. ويفيد المضارع أن المحو يتجدد وكذلك كان فما زال المحو

«وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي»

العلمي يتجدد فما نجمت ضلالة إلا وكان فيما جاء به حجة دامغة لها وما زال المحو العلمي كذلك يتجدد والإسلام ينتشر من نفسه انتشارا لا يلحقه فيه غيره ممن ينفقون في نشر نحلهم الأموال الطائلة ويسخرون القوات المتنوعة الهائلة وليس انتشاره في خصوص الأمم المنحطة بل في الأمم الراقية والذين سبقوا إليه منها هم علماء مما يدل على أن أكبر آيات الإسلام هي آياته العلمية الخالدة. فالمحو يتجدد تجددا مشاهدا مستمرا بهذا النبي الكريم عليه وآله الصلاة والسلام. «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» الحشر: الجمع وتقدير الكلام على أثر قدمي وجمع الناس على أثر قدمه كناية عن اتباعهم له. والمعنى: أن الله يجمع الناس كلهم على شريعته جمعا تشريعيا فلا يقبل من أحد شيئا إلا باتباعه في شريعته والسير على أثر إقدامه، سواء أكان من أهل الملل الأخرى أو من أهل ملته فلا نجاة لكافر من ضلال الكفر إلا باتباع شريعته، ولا نجاة لمسلم من ضلال البدعة إلا باتباع سنته. ويفيد المضارع في قوله (يحشر) أن هذا الجمع متجدد لأن شريعته دائمة وسنته باقية فما من جيل إلا وهو مكلف بالسير على قدمه وذلك معنى تجدد جمع الناس جمعا تشريعيا على اتباعه. وأسند الحشر لنفسه في قوله الحاشر لأنه الكاسب المباشر المبلغ عن الله شرعه لعباده وقال يحشر بإسناد الحشر إلى الله وحذف الفاعل للعلم به من المعنى وسياق الكلام، لأنه هو الخالق المشرع. على أوزان قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}. «وَأَنَا الْعَاقِبُ»: هو الذي يخلف شيئا ويأتي بعده، وهو صلى الله عليه وآله وسلم جاء بعد جميع الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة

والسلام- وخلفهم. وقد جاء في رواية مسلم مفسرا فقال: «وأنا العاقب الذي لا نبي بعده» وعند غير مسلم «الذي لا نبي بعدي» وأفاد بالتفسير أنه لا يعقبه غيره فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. تقدم لنا في صدر الدرس أن قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لي خمسة أساء يقتضي اختصاصه بها وهو اقتضاء صحيح ومطابق للواقع فهذه الأسماء ليست إلا له إذ لم يسم الله نبيا ولا رسولا بواحد منها فهو مختص بالتسمية بها من الله بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام-. نعم قد سمى بعض العرب أبناءهبم محمدا قبل البعثة بقليل، وهم نفر قليل ولم يعرفوا بنبوة، ومنهم من أسلم فكان من أتباع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فكان ذلك القليل النادر في حكم العدم، على أن القصود بتخصيصه تخصيصا من بين سائر الانبياء والشيء إنما يفضل بالنسبة لمن في منزلته. فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- لما تذكر فضائله وخصوصياته إنما تذكر بالنسبة للأنبياء والمرسلين فإذا قلنا أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خص بكذا بهذا الاسم مثلا فمعنى ذلك أننا لا نجده لمثله من الأنبياء والمرسلين. فهذا الاختصاص اللفظي بهذه التسمية. وكذلك هو مختص بها من جهة معانيها فله من الكمالات التي يتحلى بها والإنعامات التي جعله الله سببا فيها والمواقف التي يقفها ما ليس لغيره، فليس ينال غيره من الحمد مثل ما يكون له من الله ومن الناس وهو يقابل تلك النعم الربانية عليه بالحمد، فلا يكون الحمد من أحد مثل الذي يكون منه لله. وكفى في هذا حديث الشفاعة الثابت المشهور فإنه لما يخر ساجدا لله يفتح عليه بأنواع من الحمد لم

يكن يعرفها هو من قبل فقد بلغ في حمده لله مقاما لم يبلغه أحد. ولما يتقبل الله شفاعته العامة في فضل القضاء يحمده أهل الموقف كلهم في ذلك المقام المحمود، فقد بلغ من حمد الناس له مقاما لم يبلغه غيره. فبان اختصاصه- صلى الله عليه وآله وسلم- بمعنى الإسمين الشريفين محمد وأحمد دون جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. وكذلك الاسم الثالث فإنه مختص بمعناه. وإذا راجعنا تواريخ الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- فإننا لا نجد أحدا منهم محي به من الكفر ما محي بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ولنقتصر على هذين النبيين الكريمين موسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- فأنتم تعرفون من القرآن ما قاسى موسى من بني إسرائيل الذين ما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهه آلهة. وما تقصه كتبهم يدل أنهم لم ترسخ لهم قدم في الإيمان، فأي محو هنا؟ وأما عيسى- عليه الصلاة والسلام- فقد رفعه الله إليه وما آمن به إلا أفراد ثم بقيت دعوته مغمورة. وما انتشرت النصرانية المنسوبة إليه باطلا إلا بعد ثلاثمائة سنة على يد ملك بيزنطا قسطنطين. على أنهما- عليهما الصلاة والسلام- لم يرسلا رسالة عامة حتى يعم المحو بهما وإنما أرسلا رسالة خاصة لبني إسرائيل كما لم يأتيا من الآيات بمثل ما أتى به لمحو كل كفر وباطل، وكفى بآية القرآن الخالدة على الزمان المتجددة على الأجيال. فهذا يبين لكم أن المحو العلمي والعملي بأكمله وأشمله إنما هو خصوصية له عليه الصلاة والسلام. ولعلكم تقولون أن العرب قد ارتدت بعد موته- صلى الله عليه وآله وسلم- فأين هو المحو؟ فالجواب: أن الردة لم تكن عامة، فإن الأكثر والأظهر هم الذين ثبتوا على الإسلام والطاعة لخليفة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يبدلوا شيئا، وطائفة كثيرة

بقيت على الإسلام وإنما امتنعت عن أداء الزكاة، وهذه هي التي توقف عمر وغيره في قتالها وشرح الله صدر أبي بكر لقتالها ورجع الصحابة- رضي الله عنهم- إليه، وطائفة أخرى ارتدت عن الإسلام جملة كأصحاب طليحة وسجاح- راجعا الاسلام بعد- والأسود ومسيلمة وكان في غمار هؤلاء المرتدين أفراد من المؤمنين يقاومون وتوقفت طائفة تنتظر لمن تكون الغلبة. وكان السر الأكمل في هذه الردة على تفصيلها أن يتبين للناس أن الذين اتبعوه اتبعوه لأنه نبي لا لأنه عربي. لقد ثبت المحو به مباشرة في الأكثر الأظهر وثبت المحو بواسطة خليفته ومن معه ممن انطبق عليهم قول الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. والمحو على يد هؤلاء السادة محو به. وهكذا كل محو يقع على يد أتباعه إلى يوم الدين فهو محو به وله مثل حسنات مباشريه على قاعد السابق للخير والبارىء به والداعي إليه. وكذلك الإسم الرابع فهو مختص بمعناه لأن الله لم يجمع الناس جمعا تشريعيا على نبي قبله فقد كان النبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسل هو - صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس عامة. وكذلك الإسم الخامس فهو المختصر، بختم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين. هذه الأسماء الشريفة نأخذ منها حظ العلم وحظ العمل فأما حظ العلم فقد تقدم، وأما حظ العمل فعلينا إذ علمنا معنى اسمه محمد

أن نستكثر من الأخلاق الطيبة والأعمال النافعة والمواقف الشريفة مما ننال به الحمد من الله والناس. وعلينا إذ علمنا معنى اسمه أحمد أن نكثر من حمد الله على نعمه نعم الخلقة ونعم الهداية، فنحمده إجمالا وتفصيلا، ويتضمن هذا علمنا بهذا النعم وذلك يقتضي توسيع دائرة معلوماتنا بخلقه وبشرعه فنتناول كل ما نستطيع من العلوم والمعارف التي توصلنا إلى ذلك وقدلنا عليه. وعلينا إذا علمنا معنى اسمه الماحي أن نعمل على محو الكفر والضلال والشر والباطل وكل ما ينهي عنه الإسلام وما ابتدعه المبتدعون وحملوه إياه. نمحو ذلك كله من أنفسنا وحيثما استطعنا ولا سبيل إلى هذا المحو إلا بالعلم والعمل وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح فأعظم ما محى به الكفر سلفنا الصالح هو هديهم وسلوكهم وتطبيقهم للإسلام تطبيبقا صحيحا على الحياة في أنفسهم وفي غيرهم في جميع الأحوال. وعلينا إذ علمنا معنى اسمه الحاشر أن نتقيد بشريعته وسنته فلا نقول ولا نعمل ولا نعتقد إلا مالا يخرج عنهما فيكون قولنا دائما ماذا قال محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وماذا فعل وكيف كان في مثل هذا الموقف في مثل هذا الحال في كل ما نقفه من مواقف وما يعترضنا من أحوال وبهذا نكون قد حشرنا أنفسنا على اثره. وعلينا أن ندعو الناس إلى اتباع شريعته وسنته بما نبين لهم من براهين الحق وأدلة الصدق وبما نذكر لهم من محاسنه ومحاسن ما جاء به وبذلك نكون قد عملنا على حشر ما استطعنا من الناس على شريعته وجمعنا ما أمكننا من القلوب على تعظيمه ومحبته، وفي ذلك الخير والسعادة للناس أجمعين. وعلينا إذ علمنا معنى اسمه العاقب وهو الخاتم أن نرد كل ما يحدثه

المحدثون من زيادة في شريعته، ونعد كل من يأتي ذلك ويتظاهر بالإسلام دجالا من الدجاجلة وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يكون بعده دجاجلة وكذابون وأولهم مسيلمة والمتنبؤون الكذبة فلا قول إلا قوله ولا هدى إلا هديه ولا إسلام إلا ما جاء به. ... ها ان مالكا- رحمه الله تعالى ورضي عنه وجازاه عنا أحسن الجزاء- قد ختم كتابه الجليل بهذا الحديث الشريف المشتمل على هذه- الأسماء النبوية الكريمة فهل هنالك من نكتة؟ إن هذا الموطأ هو أقدم كتاب لنا ألفه إمام عظيم من أتباع التابعين، وهو كتاب يعلمنا العلم والعمل ويعرفنا كيف نفهم وكيف نستنبط وكيف نبني الفروع على الأصول، يعطينا هذا كله وأكثر منه بصريح بيانه وبأسلوب ترتيبه للأحاديث والآثار والمسائل. وإن شراح هذا الكتاب الجليل لم يوفوه حقه- في نظري القاصر- من هذه الناحية وهي من أعظم نواحيه. ومما هو مشهور من ابتكار مالك في كتابه هذا الكتاب الجامع الذي ختم به الموطأ، فإنه نظر إلى مسائل عديدة من أمهات الشريعة في العقائد والأخلاق والآداب والأحكام وغيرها فنظمها في سلك واحد وسماها بالكتاب الجامع، وهذه الأصول التي نظمها في هذا الباب بنى عليها من جاء بعده فروعا وعقد عليها أبوابا كالبخاري وغيره. وإن مالكا لم يذكر في موطئه كتابا خاصا بالسيرة النبوية كما فصل ذلك غيره ممن جاء بعده ولكنه ذكر أسماءه الشريفة- صلى الله عليه وآله وسلم- فكفاه وذكر أسمائه متضمنا لسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم- فكفاه في ذكر حياته- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذكر أسماءه.

ولما كانت سيرته من بدايتها إلى نهايتها هي المثال الصادق للشريعة كلها والسفر الجامع للدِّين الإسلامي كله- ختم كتابه بهذا الحديث المشتمل على هذه الأسماء المتضمنة لها. وهو كالتحصيل بعد التفصيل. ونكتة أخرى وهو أن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية. والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في سيرته الطيبة فهذا الحديث بعد ما تقدمه من الكتاب كله مثل الغاية من الوسيلة. فسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم- هي الجامعة لمحاسن الإسلام والغاية لكل كمال. ومن أبدع المناسبة لختم الكتاب أن كان آخر هذه الأسماء الشريفة هو العاقب والعاقب هو الخاتم، عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الآل والتابعين أفضل الصلاة وأزكى التسليم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج7، م 15، ص 332 - 344 غرة رجب 1348هـ - أوت 1939م.

آثار وأخبار

آثار وأخبار (1). استقر رأي الأعضاء الإداريين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين على تخصيص الصفحة الأولى من جريدة الجمعية بهذا الباب: باب الآثار والأخبار. والمنقول في هذا الباب هو الحديث المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-، والأثر المروي عن أحد الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين-، والقول المنسوب إلى إمام من أئمة الدين أو صالح من صلحاء المؤمنين رحمة الله عليهم أجمعين. ويختار من الآثار والأخبار ما قل لفظه ليسهل على القارىء حفظه، ودل مع ذلك على ترغيب أو ترهيب أو تربية أو تسلية. وعلى القارىء أن يحفط ما يجده في هذا الباب من الآثار. وعلى الكاتب أن يعقب كل أثر بتعليق يشير فيه إلى ما حضره من فوائد تؤخذ من ذلك الأثر، ولا بأس أن يكون التعليق منقولا أيضا. فإن المقصود هو أن يحرص الكاتب على إفادة القارىء سواء في ذلك إفادته بما فهمه هو أو بما فهمه غيره. 1 - شكوى علماء الدين من الأرذال المفسدين: روى ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن الحسن البصري أحد كبار علماء التابعين أنه قال:

_ (1) اخترنا أن نلحق هذه المقلات بقسم الحديث لأنها تدور حوله في أغلبها.

تعليق

اللهم إليك نشكو هذا الغثاء الذي كنَّا نحدث عنه، إن أجبناهم لم يفقهوا، وإن سكتنا عنهم وكلناهم إلى عي شديد. والله لولا ما أخذ الله على العلماء في علمهم ما أنبأناهم بشي أبدا (1: 6). تعليق: الغثاء في الأصل ما يخالط زبد السيل من أعشاب وأوراق، والمراد به- هنا أرذال الناس وسقطهم. وقد أفاد الأثر أولا: أن علماء الدين المرشدين كانوا من قديم الزمان يعانون متاعب في الإرشاد ويتحملون إذايات المفسدين، ويتلقون اعتراضات من أدعياء العلم المفتونين. وثانيا: أن تلك المتاعب والإذايات والاعتراضات لا تسقط عن العالم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنجيه من تبعة الكتمان الثابتة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} وقوله- صلى الله عليه وآله وسلم-، «من سئل علما علمه فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» رواه ابن عبد الله في الجامع وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم بروايات متحدة المعنى متقاربة الألفاظ. وثالثا: أن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائها لمستحقيها. وليس العلم ملكا لهم يستغلونه فيكتمونه إن رأوا الكتمان أوفق بمصالحهم الشخصية، وينشرون منه ما لا يصادم أهواء العامة بل يزيدهم جاها لديهم. ولا أبخس صفقة ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة.

2 - حكم طلب العلم

2 - حكم طلب العلم: روى ابن عبد البر في جامعه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- «أطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم» (1: 7). تعليق: أفاد الحديث أمرين: أحدهما وجوب طلب العلم، وثانيهما عدم اعتبار المشقة في طلبه مانعا من وجوبه، بلغت المشتقة ما بلغت. والحديث رواه ابن عبد البر من طرق متعددة ثم قال ( ... في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافا متقاربا). ومثار الخلاف الذي أشار إليه ابن عبد البر ما في لفظة العلم من الإجمال، فإن المراد من العلم العلم الديني قطعا، لكن مسائل الدين منها ما هو فرض ومنها ما هو غير فرض ومنها ما هو فرض عيني ومنها ما هو فرض كفاءي. وقد أورد ابن عبد البر أقوال الأئمة في معنى الحديث، فروى عن اسحاق بن راهويه أنه قال: " معناه أنه يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته، إن كان له مال، وكذلك الحج وغيره، وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه، وما كان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه ". وروى عن مالك أنه سئل: عن طلب العلم أهو فريضة على الناس فقال: لا، ولكن يطلب من المرء ما ينتفع به في دينه. وروى عن ابن المبارك أنه سئل عن معنى هذا الحديث فقال: فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه.

3 - براءة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ممن غير دينه

وروى عن ابن عيينة أنه قال: فريضة على جماعتهم، ويجزىء فيه بعضهم عن بعض وتلا هذه الآية: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}. ثم أورد ابن عبد البر جملة من المسائل الواجبة وجوبا عينيا، وجملة من الواجبات الكفائية، ونحن لا نرى لزوما للتفصيل فإنه يلوح من كلام الأئمة المتقدم أن طلب العلم على وجهين: أحدهما الاشتغال بتحصيل مسائله والانقطاع إلى تعلم قواعده. وهذا هو الواجب كفاية. وثانيهما السؤال عن حكم ما نزل به من أمر دينه واستفتاء أهل العلم فيه وهذا واجب عينا فاحفظ هذا الضابط واعتبر به مسائل دينك يسهل عليك الفرق بين ما هو واجب على عموم المسلمين يسقط عنهم بوجود عالم بينهم، وما هو واجب عليك في خاصة نفسك لا تبرأ منه ذمتك إلا بمعرفته (1). 3 - براءة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ممن غير دينه: روى مالك في الموطأ، وروى غيره أيضا عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- خرج إلى القبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا. فقالوا: يارسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: كلا أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. وأنا فرطهم على الحوض.

_ (1) الصراط السنة الأولى العدد 12 يوم الإثنين 16 شعبان 1352هـ ديسمبر 1933م، ص1 ع1 و2 و3 ص2 ع1

تعليق

فقالوا: يارسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: قال يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء. وأنا فرطهم على الحوض. فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال. أناديهم ألا هلم ألا هلم ألا هلم: فيقال إنهم قد بدلوا بعدك؟ فأقول: فسحقا فسحقا فسحقا». تعليق: قد أتينا هذه المرة بحديث فيه طول. ولكن ما فيه من الفوائد نعتقد أنه يكون حافزا للقارىء إلى حفظه. وليس حفظ الحديث الجليل بكثير على همة المستفيدين. وفوائد هذا الحديث أولاها: جواز زيارة القبور، غير أن الجواز مقيد بكونها على الصفة التي وقعت من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ومن أصحابه- رضوان الله عليهم-. وصفة الزيارة في هذا الحديث مركبة من ثلاثة أشياء: أحدها حق الدعاء للموتى، ثانيها الاعتبار بحالهم، ثالثها دعاء الزائر لنفسه بحسن الخاتمة. الأول مستفاد من جملة السلام عليكم. والثاني مستفاد من جملة وإنا بكم لاحقون. والثالث مستفاد من جملة إن شاء الله. فقد قال أبو القاسم الجوهري معناه: " لا نبدل ولا نغير، نموت على ما متم عليه إن شاء الله تعالى" نقله الباجي في شرح الموطأ. الفائدة الثانية: تسميته- صلى الله عليه وآله وسلم- لمن لم يره من أمته بإخوانه. فنحن من أخوانه- صلى الله عليه وآله وسلم- وكفى بهذه النسبة شرفا. فما على المسلم إلا أن يعمل بسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تتحقق فيه هذه النسبة. وليس من الأدب ومن الإيمان أن يستضعف المسلم هذه النسبة ويحاول

تقويتها بنسبة أخرى إلى شخص آخر ككونه خوني فلان أو حبيبه أو درويشه (1). وعدم تسميته- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه بالإخوان يدل على فضل الصحبة وإن لها مزية زائدة على مطلق الأخوة. وهذا لا خلاف فيه. الفائدة الثالثة: عنايته- صلى الله عليه وآله وسلم- بأمته في الآخرة كما كان حريصا على هدايتهم في الدنيا يدل لهذه العناية قوله: وأنا فرطهم على الحوض. قال الباجي في شرحه: يريد أنه يتقدمهم إليه ويجدونه عنده. رواه ابن حبيب عن مالك. يقال فرطت القوم: إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيء لهم الماء والرشاء. الفائدة الرابعة: إن عنايته- صلى الله عليه وآله وسلم- بأمته في الآخرة خاصة بالثابتين على سنته منهم، فأما المبتدعون الذين بدلوا سنته وأحلوا محلها بدعتهم فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم- يبعدهم عنه بقوله: فسحقا فسحقا فسحقا. ثم هذا الإبعاد معناه الحرمان من ماء الحوض في وقت شدة الحاجة إليه. فإن كان الابتداع والتبديل بالمروق من الدين فالإبعاد حرمان من الشفاعة أيضا، ويبقى ذلك المبتدع مخلدا في النار وإن كان الابتداع لا يخرج من الدين، فالإبعاد عن الحوض لا يمنع المبتدع أن تناله الشفاعة، غير أن في الإبعاد عن الحوض عذابا بالظمأ وخزيا بالطرد. نسأل الله أن يحيينا على سنة رسوله الكريم وأن لا يحرمنا من ماء حوضه العذب ولا من شفاعته المرجوَّة (2).

_ (1) خوني وحبيب ودرويش مترادفة معناها: مريد. (2) الصراط: السنة الأولى العدد 13 يوم الإثنين 23 شعبان 1352 هـ الموافق 11 ديسمبر 1933م، ص1 ع1 و2 و3 بقية ص2 أسفلها. ص2 أسفلها.

4 - الترغيب في الذكر

4 - الترغيب في الذكر قال الحسن البصري وأبو العالية والسدى والربيع بن أنس: «إن الله يذكر من ذكره ويشكر من شكره ويعذب من كفره». نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره (1: 360). تعليق: الأحاديث والآثار في فضل الذكر والترغيب فيه كثيرة، وليس فيها على كثرتها ما يدل على احتياج الذاكر إلى إذن في ذكره من غيره. وليس فيها على كثرتها ما يدل على أن الله قد نصب بعض عباده لإعطاء الإذن في ذكره لمن يريده. فاذكروا الله أيها المؤمنون. ولا تتخذوا وسطاء بينكم وبين الله في الإذن بالذكر ولا في قبوله. وما أصدق قول الناس: "باب الله ما عليه بواب". 5 - ما هو الذكر ومن هو الذاكر؟ عن خالد بن أبي عمران قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- «من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلَّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن. ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن». أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان، نقل ذلك السيوطي في الدر المنثور (1: 149). وعن سعيد بن جبير أنه قال في جواب مسائل سأله عنها عبد الملك ابن مروان: "وتسأل عن الذكر فالذكر طاعة الله. فمن أطاع الله فقد ذكر الله،

تعليق

ومن لم يطعه فليس بذاكر وأن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن". نقله ابن غيلان في شرحه على حلية الأبرار للنووي (1: 15). تعليق: قد جمعنا بين الحديث المرفوع والأثر الموقوف على سعيد بن جبير من كبار علماء التابعين لاتحادهما في المعنى وورودهما على غرض واحد، وقدمنا الحديث لأنه الأصل، وأخرنا الأثر لأنه الفرع الشاهد المقوي لسند ذلك الحديث .. وقوله في الحديث: وإن قلت صلاته ... الخ. يريد صلاة التطوع وصيام التطوع، أما من قلت صلاته الواجبة أو صيامه الفرض فإنَّه عاص لا يوصف بالطاعة. وبهذا الحديث وذلك الأثر تعلم المراد من الآيات الآمرة بالذكر. كقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. فليس المراد من الذكر في أمثال هاتين الآيتين خصوصا الذكر اللساني. بل المراد الطاعة بجميع أنواعها من صلاة وصيام وصدقة وتلاوة قرآن وتسبيح وتحميد وتهليل وغير ذلك. فإن المطيع إنما أطاع الله لكونه ذكره بقلبه أو بلسانه. وغرضنا من تقديم هذين الحديث والأثر إلى القراء أن يعلموا أولا: أن معنى الذكر أوسع مما يتخيلون، وأن بعض من يمدونهم من العباد في غير الذاكرين هم في عرف الشرع من الذاكرين. وأن يعلموا ثانيا: أن ما عليه كثير من العوام من الاعتماد على السبح (1) دون الطاعة هو غرور في غرور وأن كثيرا ممن يعد نفسه ويعده الناس من الذاكرين هو في عرف الشرع من الغافلين.

_ (1) كذا في الأصل ولعله: التسبيح.

6 - هل ينفع الذكر مع تصدي حدود الله؟

فيا أيها المسلمون تثبتوا في الحقائق الشرعية واطلبوا تفسيرها من صاحب الشريعة أو ممن قرب زمنه من زمنه. ولا تعتمدوا في فهم حقائق دينكم على عرفكم وعادتكم فإن الجهل بالسنة وخروج أمر العامة من يد العاملين بها مما ابتليت به الأمة الإسلامية قديما. 6 - هل ينفع الذكر مع تصدي حدود الله؟ عن أبي هند الداري عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- «قال الله اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فمن ذكرني وهو مطيع فحق عليَّ أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي أن أذكره بمقت». أخرجه الديلمي وابن عساكر. ونقله السيوطى في الدر المنثور (1: 148). وعن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه قيل له: أرات (1) قاتل النفس وشارب الخمر والزاني يذكر الله، وقد قال الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}؟ قال: " إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت". اخرجه عبد الله بن حميد وابن أبي حاتم نقله في الدر المنثور (1: 149) تعليق: إن في ذلك الحديث وهذا الأثر لذكرى لقوم يؤمنون. كثيرا ما يعظ المسلم أخاه وينكر عليه تكاسله في الواجبات ونشاطه في المنهيات فيجيبه بقوله إن الله غفور رحيم، أو نحن أخذنا الورد عن

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: أرأيت.

7 - الحث على القرآن

سيدي فلان وقد ضمن لمن يذكر ورده الجنة. فليعلم المسلمون أن ذكر الله على هاته الصفة ونحوها مما يوجب مقت الله ولعنته. أيها المسلمون من وعظ منكم فليتعظ، ومن نهى عن منكر فلينته. ومن أمر بمعروف فليأتمر {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1). 7 - الحث على القرآن: عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن. تعليق: قد تقاصرت همم المسلمين في هذه المدة الأخيرة عن تعليم القرآن وتعلمه. فقل الحافظون له؛ فعلى كل من نصب نفسه لإرشاد المسلمين في دينم أن يحثهم على العناية بحفظ كتاب ربهم، وعلى الكتَّاب أن يطرقوا هذا الموضوع الكثير النواحي. هذا يأتيه من ناحية فضيلة القرآن- وذلك من ناحية اختيار المعلمين وما هي الصفات المطلوبة فيهم؟ والآخر من ناحية أسلوب التعليم وما هو الأقرب إلى التحصيل من أي الأساليب؟ ورابع من ناحية تحسين حال المعلمين وتوفير أجرتهم، وكل من هذه النواحي يلزم أن تتعدد فيها الكتابة حتى تحدث تأثيرا في المجتمع وتكون رأيا عاما في الموضوع. وحسبنا في هذا الباب باب الآثار والأخبار ما أرشدنا إليه.

_ (1) الصراط السنة الأولى العدد 14 يوم الإثنين 1 رمضان 1352هـ 18 ديسمبر 1933م، ص 1ع 1 و2 و3 ص 2 ع1.

8 - الإعتصام بكتاب الله

والحديث صريح في فضل من جمع بين تعلم القرآن وتعليمه لغيره وأنه خير من غيره، وإنما ثبتت له هذه المزية لأن المراد من متعلمه من حفظه وفهمه وعمل به والمراد من معلمه من يلقنه غيره ويفسره له ويرشده إلى العمل به. وإذا كان هذا النوع الممدوح في الحديث المفضل على غيره بشهادة الصادق المصدق مفقودا من بيننا أو كالمفقود، فالواجب علينا السعي في تكوينه ولهذا دعونا الكتاب إلى العناية بهذا الموضوع. قال الحافظ ابن حجر في بيان وجه خيرية معلم القرآن ومتعلمه: " ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدى. - ولهذا كان أفضل. وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهذا أشرف الجميع". هذا كلام ابن حجر. ثم أفاد أن ليس المراد بهذا الحديث من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرأه أو يقرئه. 8 - الإعتصام بكتاب الله: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «أتاني جبريل فقال يا محمد أمتك مختلفة بعدك! قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: في كتاب الله. به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا ومن تركه هلك (مرتن) قول فصل

تعليق

وليس بالهزل. لا تخلقه الألسن ولا تفنى عجائبه. فيه نبأ من كان قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما هو كائن بعدكم». أخرجه الإمام أحمد. نقله الحافط ابن كثير أوائل كتابه فضائل القرآن الذي ختم به تفسيره. تعليق: صدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقد وقع الاختلاف. وقد دعونا الناس إلى المخرج وهو كتاب الله وسنة رسوله المبينة له. فقال المعاندون ما قالوا إلاَّ من كان يؤمن بأن محمدا رسول الله فليمتثل إرشاده. وقد أرشدنا إلى المخرج من هذا الاختلاف فلنعمل بإرشاده وهدانا إلى طريق الحق عند الإلتباس فلنهتد. وقد وصف الله كتابه بقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فهو هدى بين واضح لا يلتبس على مديد الحق التماس الهدى منه. وإذا كانت طباعنا العربية وسلائقنا في فهم لسان العرب قد حالت وفسدت وصعب علينا أو تعذر فهم كلام ربنا، فإن في تعلم اللغة العربية وعلومها ما يجعل لنا سلائق مكتسبة، وأن فيما كتبه أئمة التفسير قبلنا ما يجبر نقص السليقة الكسبية عن السليقة الفطرية. وقد أوصل الجهل بكتاب الله بعض أدعياء العلم إلى أن جعلوا الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ضروب الشرك طريقة خاصة بابن تيمية على معنى أنها بدعة حصلت بعد انعقاد الاجماع! فمن سلك هذه الطريقة فقد عرض دينه للخطر! ولو نظروا في كتاب الله وتأملوه لوجدوا جل آياته دعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك. وإذا ذكرت لهم هذا قالوا-: تلك آيات نزلت في مشركي مكة،

9 - مدح العامل بالقرآن

فكيف تطبقونها على من يشهد الشهادتين. وهذا نوع آخر من جهالاتهم وتلبيس إبليس عليهم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} قال المفسرون معناه من بلغه القرآن فتخصيص إنذاره بمشركي مكة تعطيل للقرآن. قال الغزالي في الإحياء: " وينبغي للتالي أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن. فإن سمع أمراً أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور. وكذا إن سمع وعدا أو وعيدا. وكذا ما يقف عليه من القصص فالمقصود به الاعتبار. قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. قال محمد بن كعب القرظي: "من كلمه القرآن فكأنما كلمه الله عز وجل" أ. هـ كلام الغزالي (1). 9 - مدح العامل بالقرآن: عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-:

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 15 الاثنين 8 رمضان 1352هـ 25 ديسمبر 1933م، ص1، ع 1 و2 و3، ص 2 ع1 و1/ 2 من الثاني أسفله.

تعليق

«المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب. والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنطة طعمها مر وريها مر». رواه البخاري ومسلم وغيرهما. تعليق: جعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- طيب الطعم دائرا مع العمل. وجعل طيب الرائحة صفة التلاوة. والمجدي على المرء هو عمله. أما التلاوة وحدها لا تجدي فالمنافق يتلو القرآن ولكنه في الدرك الأسفل من النار. وقد دل الحديث على أن العمل بالقرآن درجتين (1) أعلاهما الجمع بين التلاوة والعمل. ودل على أن المخالفة لأوامره ونواهيه دركتين (2) أدناهما الجمع بين الأعراض عن حفظه والإضراب عما دعا إليه. والعمل بالقرآن يقتضي فهم معانيه وكذلك كان المخاطبون بهذا الحديث فإن القرآن بلغتهم نزل. ولهذا لم يقل في الحديث: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويفهمه ويعمل به)) لأن ذكر الفهم لأولئك المخاطبين حشو، تتحاشى عنه البلاغة النبوية. فيا أيها القراء المؤمنون تطلبوا معاني ما تقرأون واعملوا بما تفهمون كي تكونوا أترجة، ويا أيها المؤمنون الأميون اسألوا أهل الذكر والعلم بكتاب ربكم وتحروا العمل بما دعاكم إليه كي تكونوا ثمرة. وقد دلت مقابلة القارىء العامل بالقارىء المنافق على تسمية من يخالف ما يقرأه منافقا والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وهم

_ (1 و2) كذا فى الأصل وصوابه: درجتان، دركتان.

10 - ذم المباهي والمتعيش بالقرآن

أخس صنوف الكفار. ولكنا نجد من الناس من لا يختلف في إيمانه ثم هو يخالف ما يقرأه. وقد قال العلماء: إن هذا النوع من المؤمنين يسمي نفاقهم نفاق عمل لا نفاق كفر. ويسمون منافقين مجازا لأن فيهم خصلة من خصالهم وهي مخالفة للأوامر. فالقارىء إن لم يعمل بما يقرأه فهو منافق حقيقة أو مجازا. أعاذنا الله وإياكم من النفاق حقيقته ومجازه وجعلنا ممن يتلو كتابه عالما بمعانيه عاملا بما يفهمه منه. 10 - ذم المباهي والمتعيش بالقرآن: عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «تعلموا القرآن واسالوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسأون به الدنيا. فإن القرآن يتعلمه ثلاتة نفر: رجل يباهي به ورجل يستأكل به ورجل يقرأه لله (1). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وصححه الحاكم، نقله الحافظ في فتح الباري (9: 82). تعليق: حديث أبي سعيد أخرجه الإمام أحمد بلفط آخر وفي آخره: ((ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر)) وفسر الراوي عن أبي سعيد الفاجر بمن يتأكل بالقرآن، فقوله في رواية أبي عبيد (ورجل يستأكل به) بمعنى الفاجر في رواية الإمام أحمد، ويكون حينئذ قوله في رواية أبي عبيد (رجل يباهي به) بمعنى قوله في الرواية الأخرى (ومنافق).

11 - الغاية من قراءة القرآن

وقد دل الحديث على ذم المباهي بتلاوته. وكثيرا ما يقصد قراء زماننا المباهاة بأصواتهم والفخر بحفظهم، ولا سيما إذا كانوا يتلون مجتمعين بصوت واحد، فليحذر من يجد هذا من نفسه، وليعلم أن كتاب الله هداية تخشع لها القلوب وتستسلم إليها الجوارح. ودل أيضا على ذم المسترزق بالقرآن وكثير من قراء زماننا لا يقصدون من حفظه إلا التوسل به للتلاوة على الموتى بأجرة ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية المحضة. ولا يتناول هذا الذم من يأخذ الأجرة على تعليم القرآن إذا كانت في مقابلة تعبه وشغل وقته، ولم يتخذ تعليمه صناعة من الصناعات المادية المحضة بل على هذا المعلم- إن أراد السلامة من ذلك الذم- أن يكون هو نفسه عاملا بكتاب الله وأن يقصد من تعليمه الدعوة إلى العمل به. 11 - الغاية من قراءة القرآن: عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه كان يقول: ((أنزل عليهم القرآن ليعملوا به، فاتخذوا درسه عملا. أن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به)). نقله الثعالبي في تفسيره (1: 9) تعليق: ذم ابن مسعود من اتخذ تلاوة القرآن عملا. فكيف حال من آجر نفسه للتلاوة وباع عمله ذلك؟ وللفقهاء خلاف في حصول الأجر لمن يقرأ القرآن من غير فهم ولا

12 - معنى ليلة القدر

تأمل. وهذا إذا قصد التالي بتلاوته وجه الله تعالى لأن الإخلاص شرط شرعي لترتيب الثواب الأخروي فهل هذا الذي يتلو القرآن من غير فهم بأجرة مخلص لله في تلاوته حتى يختلف في إثابته على التلاوة؟ وقد فتحنا بابا للبحث في موضوع "الفداوي" (1) واللبيب يكفيه ما اقتصرنا عليه (2). 12 - معنى ليلة القدر: قال الشوكاني: " قيل: سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، وقيل: لعظيم قدرها وشرفها، وقيل: لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ- أي ضيق-}. تفسير الشوكاني (5: 459). تعليق: هذا كلام الشوكاني حذفنا منه كلمات قليلة لا تؤثر في فهم الرأي. والأقوال الثلاثة، الأول ذكرها أيضا محي السنة أبو محمد البغوي في تفسيره. ولا أرى مانعا من صدق هذه الأقوال مجتمعة، فهي ليلة قدر

_ (1) هو الذي يقرأ على الموتى. (2) الصراط: السنة الأولى العدد 16 الاثنين 15 رمضان 1352هـ 1 جانفي 1934م، ص 1، ع 1 و2 و3، ص 2، ع 1

بمعنى تقدير الأرزاق والآجال وغيرها لوقوع هذا التقدير فيها، وهي ليلة قدر وشرف لنزول القرآن فيها. وللطاعات فيها قدر وفضل على الطاعات في غيرها، وهي ليلة تكثر فيها الملائكة بالأرض كثرة لا تكون في غيرها لقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}. وعلى تفسير القدر بمعنى تقدير أمور الخلق يقال: كيف يتجدد هذا التقدير كل سنة وقدر الله أزلي؟ وقد نقل البغوي جواب هذا السؤال في تفسيره فقال: " قيل للحسن بن الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: نعم. قيل: فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير التي خلقها إلى المواقيت تنفيذاً للقضاء المقدر". وقد استبان من هذا أن الليلة التي تقدر فيها أمور الخلق هي الليلة التي قال الله فيها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وسماها في آية الدخان مباركة إذ قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. فليلة القدر والليلة المباركة إسمان لليلة واحدة، هي ليلة إنزال القرآن. وهذه الليلة في رمضان لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وليست في شعبان كما يظنه العوام الذين يفرقون (1) بين ليلة القدر والليلة المباركة ويعتقدون اعتقادا مخالفا للقرآن، أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وبعض العوام يسمون ليلة النصف من شعبان ((ليلة قسام الأرزاق)) ولهم في هذه الليلة خرافات يبنونها على أساس الجهالات. وغرضنا من هذا التنبيه إرشاد المسلمين إلى معرفة هذه الليلة معرفة صحيحة كما نطق الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبهذه المعرفة على هذا الوجه تتطهر عقولهم من خرافات وتزول عنهم جهالات.

_ (1) في الأصل يفوقون.

13 - معنى خيرية ليلة القدر

13 - معنى خيرية ليلة القدر: عن أنس قال: " العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر" أخرجه عبد الله بن حميد، نقله في الدر المنثور (6: 370). تعليق: بين هذا الأثر- وفي معناه آثار كثيرة- أن خيرية ليلة القدر راجعة إلى تفضيل الطاعة فيها والعمل الصالح على غيرها من الليالي والأيام. وهذا يفيد أن المسلم الذي يتطلب ليلة القدر إنما يتطلبها ليعمل صالحا ويجد في العبادة، فالمؤمن اإنما يطلبها للدين لا للدنيا، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". 14 - الدعاء ليلة القدر: عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (1). رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. نقله ابن كثير في تفسيره (9: 261). تعليق: ليلة القدر من أوقات الاستجابة فينبغي للمؤمن أن يكثر فيها من

الدعاء ولهذا سألت عائشة- رضي الله عنها- عن صيغة تدعو بها تلك الليلة. وقد بيَّن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- لزوجه الكريمة عليه صيغة الدعاء، فيتعين أن يكرر المسلم هذا الدعاء ليلة القدر وأن يفضله على ما سواه لأنه لفظ أفضل الخلق الذي علمه لأحب زوجاته. ثم هذا يؤكد ما قدمناه من أن ليلة القدر تراد للدين لا للدنيا، وكثير من العوام يتمنى لو يعلم ليلة القدر ليطلب بها دنياه فلتب إلى الله من وقع له هذا الخاطر السيء. فإن الله يقول في كتابه العريز: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. وكثير من العوام يعتقدون في بعض البيوتات الغنية أن مؤسس ذلك البيت رأى ليلة القدر فسأل الله أن يجعل ماله ونسله خيرا من مال الناس ونسلهم فكان ذلك ثم يجعلون هذه الميزة الدنيوية دليل (1) على ولاية ذلك الداعي وصلاح ذريته. وحديث عائشة- رضي الله عنها- وآية من كان يريد حرث الآخرة وما في معنى ذلك من الآيات والآثار شاهدة بفساد ذلك الاعتقاد وضلال تلك الأفكار، وأن الفرق بين التقي والفاجر هو الإقبال على الآخرة أو الإقبال على الدنيا. ولسنا ننكر على من يطلب الدنيا بأسبابهها التي جعلها الله تعالى وإنما ننكر على من يكون همه الدنيا دون الآخرة حتى أنه يترصد ليلة القدر ليطلب فيها الدنيا غافلا عن الآخرة. ثم يعتقد أن من نال ثروة دنيوية بغير أسباب ظاهرة ليديه فإنما ذلك لولايته ودعائه ليلة القدر!.

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: دليلا.

15 - علامات ليلة القدر

15 - علامات ليلة القدر: عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء». أخرجه أبو داود الطيالسي نقله ابن كثير (9: 257) تعليق: الأحاديث في تعيين ليلة القدر كثيرة متضاربة، والصحيح أنها في رمضان. والراجح أنها في العشر الأواخر منه. وهذه العلامات التي ذكرها الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- ليلة القدر ليس فيها أن السماء تنشق وأنه يظهر فيها ألوان من نور كل نور له لون خاص إلى غير ذلك من خرافات العوام. وان مما يؤسف المؤمن ان الأوقات المفضلة في ديننا قد غمرناها بالخرافات وصرفنا نفوسنا عما يراد فيها من الطاعات، فحرمنا من خير كثير وقلما تجد وليا صالحاً أو وقتا فاضلا ألا وهو محاطا بخرافات تعين ابليس على إبراز قسمه في الاغراء. وتقف حجر عثرة أمام الداعي المرشد إلى الصراط المستقيم. وان مما يؤسف المؤمن ان هذا الشهر، شهر رمضان، الذي جمع الله لنا فيه بين الصيام والقيام، وأودع فيه أفضل ليالي العام يقطعه أكثرنا في اللهو والقمار والنوم والشجار. أيها المسلمون: طهروا عقولكم من الخرافات ونوِّروا قلوبكم بالطاعات، وانتهزوا فرصة الأوقات المفضلات، ولا تهملوها فتعود عليكم بالحسرات.

اللهم صلي على من أنزلت عليه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. انتهى بحمد الله الجزء الثاني من المجلد الأول ويليه الجزء الأول من المجلد الثاني

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 17 الاثنين 22 رمضان 1352هـ 8 جانفى 1934م، ص1 ع 1 و2 و 3 وص 2 ع 1 و2

كتاب آثار ابن باديس الجزء الأول من المجلد الثاني مقالات اجتامعية تربوية أخلاقية دينية سياسية إعداد وتصنيف دكتور عمار الطالبي الشركة الجزائرية لصاحبها الحاج عبد القادر بوداود

جميع الحقوق محفوظة الشركة الجزائرية لصاحبها الحاج عبد القادر بوداود الطبعة الأولى 1388 هجرية = 1968 ميلادية الطبعة الثنية 1403 هجرية = 1973 ميلادية الطبعة الثالثة 1417 هجرية = 1997 ميلادية

آثار ابن باديس 3

[صورة: العلامة الثائر الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر]

هذا هو الجزء الأول من المجلد الثاني من كتاب آثار ابن باديس، وهو مجموعة من المقالات الاجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية والسياسية، دبجها يراع العلامة الإمام ابن باديس في مختلف المناسبات. وقد قامت لجنة من كبار العلماء- بتكليف من دار اليقطة العربية- بالإشراف على طبع هذا الكتاب وتصحيحه، ليأتي سليماً من الأخطاء، خالياً من التحريف، كسفر له أهمية بالغة في النهضة الإسلامية والوثبة العربية في المغرب الإسلامي.

قسم الإصلاح والثورة ضد البدع

آثار ابن باديس: قسم الإصلاح والثورة ضد البدع

يتكلمون بما لا يعلمون

يتكلمون بما لا يعلمون إن الجاهل بالشيء جاهل به ولو كان من أعلم الناس بغيره، وما علمه بما علم برافع جهله فيما جهل، أن هذه لحقيقة من الوضوح بمكان. ولكن يحتاج إلى تكرار ذكرها بقدر ما يتكرر من وقوع مخالفتها. أن الناس قسمان: الجاهلون بكل علم، والعالمون وليس منهم من يعلم كل علم. ومن العجيب أن أهل الجهل اعرف بجهلهم فلا يتكلمون فيما لا يعلمون. وأما أهل العلم فكثير منهم يتجاوزون حدود علمهم فيتكلمون بما لا يعلمون. فكأن الجاهلين آيسوا من العلم ولم تكن لهم شبهة فاحجموا وكأن هؤلاء اغتروا بما عندهم فقالوا فيما غاب عنهم فاقدموا وذلك هو الغرور المبين. قد لا أكون أنا كاتب هذه السطور سالما من هذا العيب، ولكن ذلك لا يمنعني من لأن أذكره لاحذره واحذر منه. خصوصا إذا رأيت شره قد مس العزيزين عليَّ: ديني، ووطني، وقد رأيت ذلك هذه الأيام من ثلاث جهات فأردت أن أعرض لها في هذا الفصل: الجهة الأولى: نشرت "مجلة الرابطة الشرقية" في عددها الثالث من المجلهد الثاني مقالا بامضاء (علوي) عرض فيه كاتبه للخلاف الواقع بين العلويين الاشراف الحضارمة، والإرشاديين في جاوة وسنغافورة وقبل أن يدخل في موضوعه ذكر "الجزائر" لينظر بها فقال: "إليك نبأ عن الجزائر فإن في أرجائها حركة تحسبها حركة نهوض

الجهة الثانية

لشعبها العربي الذي … إلى صورة مشوهة من العجمة بالعسف والجهل وعدم المعونة على سلوك سبيل الحياة. وتدهش إذ تعلم أن الحركة الجزائرية بمظاهرها من نقاش على صفحات الصحف والمجلات هي حركة مفاضلة بين شيخين من شيوخ الطرق الصوفية هنالك، أيهما أصح نسبا وأنفذ أمرا وأقدر على الكرامات والخوارق؟. الحقيقة التي يعلمها كل أحد أن هذه الحركة الأدبية ظهرت واضحة من يوم برزت جريدة "المننقد" المعطلة بقرار وزاري، فمن يوم ذلك عرفت الجزائر من أبنائها كتابا وشعراء ما كانت تعرفهم من قبل. ولم تكن الجريدة أسست للدفاع عن أحد، وإنما أسست للمبدئين الذين لا يزالان مكتوبين على سفر هاته المجلة إلى اليوم. ثم كانت مخاصمات ضرورية في مبدأ كل نهوض ثم تقررت المباديء وعرفت الخطط ورجع الجميع- في الغالب- إلى العمل في دائرة الاإخاء والتسامح والتفاهم بالحسنى. ولم تكن قط في الجزائر هاته الصورة التي ذكرها الكاتب من الخصومة على المفاضلة بين شيخين ولكن صاحبنا تخيل فخال، وجازف المقال. وبدل أن يقتصر في كتابته على جاوة التي يعرفها- إن كان يعرفها- جاوزها إلى الجزائر التي لا يعرفها فكان من الخاطئين. الجهة الثانية: كتب الأستاذ سلامة موسى في كتاب "تاريخ الفنون وأشهر الصور" في فصل "الفنون الإسلامية" يقول: "وقد نزع الإسلام نزعة توحيدية وجعل للتوحيد المقام الأول في الإيمان فتأثرت الفنون من هذه الناحية بحذف كل ما يختص برسم الإنسان أو الحيوان أو نحت تماثيلهما. وذلك لأن الصور والتماثيل تومىء إلى الأوثان التي يخشى

الجهة الثالثة

على التوحيد منها. ولكنا نجد أمتين إسلاميتين هما: الفرس، ومصر (مدة الفاطميين) تسمامحتا بعض التسامح في الرسم والنحت حتى كانت ترى في قصور الفاطميين مناظر الرقص والصيد والغزلان، وكانت كتب الفرس وقصورهم تزين أيضا بصور الحيوان والنبات. ولكن هذا لا يطعن فيما نثبته من معأرضة الإسلام لهذين الفنين بل هو أجدر أن يؤيد ما قلناه، وذلك لأن فارس ليست سنية وكذلك مصر أيام الفاطميين كانت شيعية. والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام وخروج على جمهور المسلمين". لا شك أن حضرة الكاتب يجهل أن جمعا كبيرا من علماء الإسلام لا يمنعون من الصور ما كان مثل رقم في ثوب، وإنما يمنعون ما كان تمثالا تام التصوير، وليس جهله بهذا هو الذي يدعونا إلى الإنكار عليه. ولكن قوله: "والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام" هو الجدير بكل إنكار. فقد حسب نفسه لما عرف شيئا من تاريخ الفنون أنه عارف بمذاهب الإسلام، فحكم على الشيعة بالانشقاق عنه. وهذا الكاتب لم يكفه أن ينفي- في أكثر ما يكتب- عن الإسلام كل ما يحسبه فضيلة حتى جاء يحأول أن ينفي عنه أمما كاملة من أبنائه ونعوذ بالله من سوء القصد وقبح الغرور. الجهة الثالثة: قوم من بني جلدتنا مرقوا من جنسنا- وهم أحرار فيما يفعلون، ورفضوا شريعتنا- وهم أحرار فيما يفعلون. ثم نصبوا دعاية لهذا الرفض وهذا المروق يزعمون أن ما فعلوه مما لا يأباه الإسلام، ويرمون كل من لم يوافقهم بالجمود والتعصب. ليعلموا - أولا- أن كاتب هذه السطور وبني دينه وجلدته يحترمون جميع الأجناس البشرية، ويقدرون الحق والعدل في جميع

القوانين الأممية، ويدعون لهؤلاء السادة وما اختاروه لأنفسهم غير أنهم. ينكرون هذه الدعاية العريضة التي يتقول فيها على الإسلام بغير علم ويرمي فيها علماءه بالجهل والتعصب والجمود. أيها السادة- مع احترامي لكم ولما اخترتموه لأنفسكم- أقول لكم بغاية الصراحة: إنكم تجهلون أصول الإسلام لأنكم لم تتعلموها، وإنكم- بضرورة ذلك- مخطئون فيما تنسبونه إليه، وأن الناس، لعلمهم بذلك منكم، لا يغترون بشيء مما تقولون. خير لكم- أيها السادة- أن تسلكوا في دعايتكم مسلك البيان للمنافع الدنيوية التي تحصل للناس بموافقتكم- إذا كانت ثم منافع- وتضربوا الأمثال لذلك بما حصل لكم بالفعل من الميزان كان قد حصل، وتدعوا أمر الدين والفتوى لأهلهما، وأنتم لو سلكتم مسلك الدعاية بالدنيا لما عرضت لكم. ولكن لما أخذتم تدعون باسم الدين لم يسعني إلا تنبيهكم بهذه الكلمات، وعساكم- لما كنتم ترغبون من علماء الدين أن يجاوبوكم- أن تتلقوا مني هذه الآية القرآنية الكريمة، وهذا الحديث النبوي الشريف، كتحقيق لرغبتكم واعتبار لها. وثقوا مع ذلك باحترامي لأشخاصكم، وتقديري لما هنالك بيننا من روابط شخصية أو عمومية هي غير ما نحن بصدده: قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وأين الرفض من هذا التسليم. وقال سيدنا ومولانا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-: « .. مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ الله مِنْهُ يوم القيامة عَدْلاً وَلَا صَرْفاً»

رواه مسلم والبخاري في صحيحهما من طريق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الحليم الكريم (1).

_ (1) ش: ج1، م 6، ص 27 - 30 غرة رمضان 1348هـ - فيفري 1930م.

ما هكذا عهدنا أدب صروف

ما هكذا عهدنا أدب صروف وقفت في جزء فيفري الماضي من مجلة "المقتطف" الكبرى على مقال من قلم تحريرها تحت عنوان "مفاخر اور الكلدانيين" جاء فيه قول كاتبه: " لقد جاء في بعض الخرافات العربية القديمة أن عاصفة من الرمل طمرت مدينة عاد فأصبحت بعد العاصفة ولا عين لها ولا أثر". لا نشك أن كاتب المقال ليس مسلما، كما لا نرتاب أنه لا يجهل أن قصة عاد من قصص القرآن، فتعبيره عنها بالخرافة من سوء الأدب الذي ما عهدنا في المرحوم الدكتور صروف الذي كان في علمه وفلسفته وشدة تحقيقه ديِّنًا صحيح التدين محترما لكتب الأديان، هذا من الوجهة الأدبية، وأما من الوجهة العلمية فإن الحكم على قصة مشهورة متواترة عند أمة بأنها خرافة بدون بحث ولا تدليل ليس من شأن العلماء المحصلين. ثم- بعد هذا- نقول في تحقيق هذه القصة القرآنية: أن القرآن العظيم كما يسلك في أدلته العقلية أقرب طريق وأوضحه كذلك يسلك في تذكيره أصدق المواعظ وأبلغها. وأنه كان يخوِّف العرب أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم، ولقد خلت قبلهم أمم كثيرة جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا فأخذهم الله بالعذاب الشديد، ولكن القرآن كان يذكرهم ويخوفهم بمن هم أقرب الأمم إليهم ممن كانوا في أرضهم العربية، قد تواترت لديهم أخبارهم، ومثلت أمامهم آثارهم من قوم عاد سكان الأحقاف وقوم ثمود سكان الحجر. وقد كان للتذكير

_ (1) كذا في الأصل.

بأحوال تلك الأمم التي هي في أرضهم ومن جنسهم أبلغ الأثر في نفوسهم، كما كان من حديث عقبة بن ربيعة الذي رواه أصحاب السير: تلا عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حم فصلت إلى قوله صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسك عتبة بيده على فم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأناشده الرحم أن يكف. وما كان محمد الرجل العظيم، والمصلح الحكيم، والرسول الكريم ليجعل تذكيره الذي يريد التأثير به على سامعيه مما لا حقيقة له ولو أنه خاطبهم بما لا يعرفونه من أخبار تلك الأمم وتيقنوه لأسرعوا إلى تكذيبه فيما يقول. فسكوتهم- وهم أسرع (1) الناس إلى مجادلته بالباطل- دليل قاطع على أن القصة كانت عندهم مما هو معلوم بالقطع من تواتر الخبر، ومشاهدة الأثر (2).

_ (1) في الأصل: أسرع (2) ش: ج3، م 6، ص 166 - 167 غرة ذي القعدة 1348هـ - أبريل 1930م.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عامها الثاني ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: كنا نعلم من يوم تأسيس هذه الجمعية رغم تفاؤلنا، ما ستلقاه مثل كل مشروع عظيم من صعوبات وعقبات، ولكننا ما كنا نحسب أن حظها من ذلك يكون (1) إلا من خارجها ولكن الواقع جاء بخلاف ذلك وكانت مصاعب الجمعية ومتاعبها من داخلها، حصلت نفرة بين أعضاء مجلس الإدارة ورئيس لجنة العمل فأدت إلى ما أدت إليه من فرقة وفتنة وقى الله شرها. وقد علم الناس حقيقة الحال من البيان الرسمي الذي نشره مجلس إدارة الجمعية أثر انتخابه مما لا حاجة إلى إعادته وإن كنا سنشير إلى أشياء منه لزيادة البيان. بأي نية ذهبت للأجتماع العمومي: ذهبت عازماً على إصلاح ذات البين وعلى تسيير انتخاب الجمعية على مقتضى قانونها الأساسي والوقوف معه مهما كان الحال. وعرفت من الاجتماعات التي كانت قبل يوم الانتخاب ومن محأولاتي الخاصة أن الصلح غير ممكن وأنه لم يبق علي إلا المحافظة على الجمعية قبل كل شيء وكنت رغم ما يأتيني من أنباء بما يدبر من أمور، مطمئنا على الجمعية لأنني كنت أعتقد أن الاجتماع العمومي سيضم جمعا عظيما من أهل العلم وحسبي بعلمهم هاديا لهم إلى ما فيه خير وسداد للجمعية والأمة. فدخلت صبيحة الإثنين 18 محرم الماضي إلى نادي الترقي وأنا على هذا الاعتقاد.

_ (1) كذا في الأصل ويبدو أنه (لا يكون).

ماذا كان يدبر للاستيلاء على الجمعية

ماذا كان يدبر للاستيلاء على الجمعية: كان رئيس لجنة العمل قد سعى سعيا شديدا في تكوين عدد كثير ممن يوافقونه على القائمة التي يقدمها للانتخاب، وكانت مكاتبات لبعض الجهات في الحث على القدوم يوم الانتخاب وأصبح مكتب الدعاية منعقدا على الساعة الخامسة في مدرسة السلام يديره رئيس لجنة العمل وشيخ زاوية بمستغانم- كما اعترف لي بذلك رئيس اللجنة في الحديقة العمومية أمام جماعة- وأصبحت الوصولات توزع على كل من يقال فيه طالب ليأتي للجمعية العمومية وينتخب من كتبت أسماؤهم في ورقة سلمت له. نكتة المسألة: القائمة التي أعطيت من طرف السيدين المذكورين فيها ثلاثون شخصا الأعضاء الأقدمون مع ضرب على أسماء بعضهم وزيادة عليهم والسيد رئيس اللجنة هو أحد الثلاثين وحضرته- بلا مؤاخذ ومع الاحترام- ليس من أهل العلم ولا من الطلبة، وإذا كانت الأعمال والأقوال هي التي تدل على المقصود والنوايا فلا نكون ظالمين إذا استدللنا بهذا العمل على ما يدل عليه مفوضين العلم بذلك والجزاء عليه إلى الله تعالى. كيف كنا وكيف كانوا: بينما كان السيدان يعملان عملهما ويقويان حزبهما كنا تاركين للمسألة حالها تسير بطبيعتها ولو كنا على شيء من سوء النية أو القصد إلى الاستيلاء بالأغلبية لكنا دعونا تلامذتنا دعوة عامة للحضور- وهم كثر وكلهم من أهل العلم- فملؤوا نادي الترقي والشوارع المتصلة به ولا فخر ولكن ما كنا- والحمد لله- لنقصد إلى التكثر ولا إلى العصبية والتحزب وإحداث الفرقة بين الناس.

صبيحة يوم الإثنين وما صبيحة الإثنين

صبيحة يوم الإثنين وما صبيحة الإثنين: اكتظ النادي على سعته بالناس وألقيت خطاب الافتتاح والترحيب وعرَّفت الجمع بأن المنتخبين لا بد أن يكونوا من أهل العلم كما تنص عليه المادة السابعة من القانون الأساسي للجمعية التي تقول: "الأعضاء العاملون هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائري بدون تفريق بين الذين تعلموا ونالوا الإجازات بالمدارس الرسمية الجزائرية وبين الذين تعلموا بالعاهد العلمية الإسلامية الأخرى" وعرفت الجمع بأن مجلس الإدارة عين لجنة لتقيد أسماء من ينطبق عليهم هذا الوصف المذكور في المادة وأنها تقبل من كانت له شهادة أو كان باشر التعليم أو كان يشار إليه بالعلم في قومه وأنه بعد تقييد أسماء المنتخبين يكون الانتخاب. وهنا قامت القيامة واضطربت أركان القاعة بالضجيج وأبى القوم إلا الانتخاب في الحين دون اعتبار للمادة القانونية ولا اعتبار لتقييد أسماء المنتخبين، واستمر ذلك الاضطراب وذلك الهياج إلى قرب الزوال فافترقنا- بعد أن وقفنا على شفا حفرة من الهلاك فأنقذنا الله منها- على أن نجتمع مساء على الساعة الثانية بعد الزوال. لوازم واستاجابات: عرفنا بما رأينا في ذلك الجمع وما سمعنا فيه أن أهل العلم قد حشر فيهم من ليس منهم وكان معهم من لم يتخلق بأخلاقهم ولا تأدب بآدابهم وأن ما وقع صباحا سيقع مساء وأن ذلك مفض ولا محالة إلى عاقبة سيئة ربما قضت على الجمعية وعلى النادي الذي نحن ضيوف فيه وأن المسؤولية تكون على رئيس الجمعية فلزمني إذاً أن أخبر إدارة الشرطة لترسل أعوانها لحفظ النظام فأعلمتها وعرفت بما رأيت وما سمعت أنه يراد الاستيلاء على الجمعية بطريق غير مشروع

مساء الإثنين

وبعدد كبير لا تنطبق عليه المادة القانونية، ولذلك فر من فر من الوقوف أمام اللجنة وهي لجنة تعريف وسؤال لا لجنة امتحان، فلزمني أن أحافط على شرف الجمعية العلمية من أن يسيطر عليها غير أهل العلم. مساء الإثنين: ما جاءت الساعة الواحدة بعد الزوال حتى امتلأت سقائف النادي ورحابه والدرج المصعدة إليه- فما أكثر العلماء في ذلك اليوم- وبقي الناس في انتظار الساعة الثانية لفتح باب النادي وجاء أعوان الشرطة وفتح النادي، وعاد الحال إلى ما كان عليه في الصباح ولما رأيت الأمر لا يزيد إلا هياجا وارتباكا أعلنت بارتفاع الجلسة ووقف الشرطة محافظين على النظام حتى خرج الناس. ولا والله ما أهان الشرطة أحداً ولا زادوا على إسكاتهم للغوغاء وحفظهم للنظام وأحسب أنه لولا وجود الشرطة عند الإعلام برفع الجلسة لكانت وجوه خاصة رأيتها ثم تفعل ما لا تحمد عقباه. ولا أشك أن التهويل الذي أثاره بعض الناس في بعض النشريات على استدعاء الشرطة والتقبيح لذلك أمام الفكر العام والتعديِّ بالباطل على أعوان الحكومة ورميهم بأنهم أهانوا العلماء، لا أشك أنهم ما حملهم على ذلك إلا شدة تأسفهم على ما فاتهم من كيد دبروه كانوا ينفذونه لولا وجود أعوان الشرطة، مع ما يقصدون من الحط من مقام الجمعية. فنحن بقدر ما تقولوا على أعوان الشرطة وسبوهم نشكرهم على حفظهم للأمن والنظام وقيامهم بواجبهم ونعترف بأنه لولاهم- بعد حفظ الله- لكانت الجمعية في خبر كان. يوم الثلاثاء: أصدرت الجمعية منشورا ونشرت في الصحف الفرنسية بما وقع وأعلمت أن الانتخاب يكون من الغد يوم الثلاثاء فجاء

كيف كان الترشيح للإنتخاب

الناس صبيحة الثلاثاء وكان الانتخاب مساءها على ما هو مبين بالصحف وبيان الجمعية. وكان يوم هدوء ونظام وتأمين. وشاهد أعوان الشرطة ورجال الخفية الفرق بين يوم الإثنين الذي حضرته الغوغاء ومن حشر في أهل العلم ويوم الثلاثاء الذي لم يحضره أولئك- ولا أعني بكلامي هذا أن كل من تخلف عن يوم الثلاثاء فهو ليس من أهل العلم كلا- فقد تخلف بعض أهل العلم الذين لم يستطيعوا بما شاهدوا من فظاعة يوم الإثنين أن يعودوا إلى الاجتماع أو لم يحسبوا يوم الثلاثاء إلا مثل يوم الإثنين. كيف كان الترشيح للإنتخاب: قدم مجلس الإدارة القديم قائمة هذه صورتها: الشيوخ ابن باديس، الإبراهيمي، العقبي، الميلي العمودي، الفضيل (من مجلس الإدارة القديم وكانوا حاضرين)، المهاجي (منه وكان غائبا لقدومه من الحج) ابن عربية، أبو اليقظان خير الدين، التبسي، المكي، القاسمي (هؤلاء جدد وكانوا حاضرين) أبو عبد الله البوعبدلى (جديد وكان غائبا واعتذر ببرقية يقول فيها: اعتبروني، معكم في كل شيء) وأعلن للمنتخبين أن لهم الحرية في أن ينتخبوا القائمة كلها أو يرفضوها كلها أو يختاروا بعضها دون بعض فجرى الانتخاب على الوجه القانوني على تفاوت في عدد الأصوات وفاز الشيوخ المذكورون إلا واحداً فاز عليه الزاهري بنحو العشرين صوتا. عناصر مجلس الإدارة: لقد جاء مجلس الإدارة مؤلفا من جميع عناصر الأمة الجزائرية ممثلا لها خير تمثيل ففيه من العلماء المنتمين للزوايا كالمهاجي وأبي عبد الله والفضيل وفيه من العلماء الموظفين كابن

رئاسة الجمعية

عربية القاضي والمعمودي الوكيل الشرعي وفيه من علماء القبائل الفضيل وفيه من علماء الإباضية أبو اليقظان، أفبعد هذا يقول قائل يلتزم الصدق: أن الجمعية إنما تمثل طائفة. رئاسة الجمعية: شاء الإخوان أن يجددوا لهذا العاجز حمل مسؤولية الرئاسة رغم امتناعه ووالله لقد كنت أود لو صرفت عني ووالله لولا خوفي من عظيم المسؤولية عند الله ما قبلت من إخواني ذلك رغم شدة احترامي لإرادتهم، وتقديري لإشارتهم، فالله نسأل لنا ولهم أن يعيننا جميعا على القيام بقوة وأمانة وإخلاص بهذا العبء الثقيل (1).

_ (1) ش: ج 8، م 8، ص 395 - 409 غرة ربيع الثانى 1351هـ - أوت 1632م.

بواعثنا - عملنا- خطتنا- غايتنا

بواعثنا - عملنا- خطتنا- غايتنا رأينا كما يرى كل مبصر ما نحن عليه معشر المسلمين من انحطاط في الخلق وفساد في العقيدة وجمود في الفكر وقعود عن العمل وانحلال في الوحدة وتعاكس في الوجهة وافتراق في السير. حتى خارت النفوس القوية وفترت العزائم المتقدة، وماتت الهمم الوثابة ودفنت الآمال في صدور الرجال، واستولى القنوط القاتل واليأس المميت فأحاطت بنا الويلات من كل جهة وانصبت علينا المصائب من كل جانب. رأينا هذا كله كما رآه المسلمون كلهم وذقنا منه الأمرَّين مثلهم ففزعنا إلى الله الذي لم تستطع هذه الأهوال والمصائب كلها أن تمس إيماننا به، وتزعزع ثقتنا فيه، فاستغثنا واستجرنا واستخرنا، وتوسلنا إليه جل جلاله بالإيمان وبسابق آلائه، وجأرنا إليه بأسمائه، فهدانا- وله المنة- إلى النور الوضَّاء الوهاج الأتم، والمنهاج الواضح الأقوم، هدانا إلى سنة سيدنا الأكرم، وقدوتنا ألأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. عرفنا- مما هدانا إليه ربنا- الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والهدى الذي ما بعده إلا الضلال وسبيل النجاة التي ما في كل مخالفتها إلا الهلاك، والدواء الذي بدونه لا تبرأ النفوس من أدوائها ولا تظفر بالقليل من شفائها، فحمدنا الله على ما هدانا وعقدنا العزم على المحافظة على هذه النعمة وشكرها، وما شكرها إلا في العمل بها وبنشرها وأشفقنا على أنفسنا من تبعة الكتمان وما جاء فيمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه من ضعف الإيمان، فأخذنا على

أنفسنا دعوة الناس إلى السنة النبوية المحمدية وتخصيصها بالتقدم والأحجية فكانت دعوتنا- علم الله- من أول يوم إليها والحث على التمسك والرجوع إليها ونحن اليوم على ما كنا سائرون وإلى الغاية التي سعينا إليها قاصدون وقد زدنا من فضل الله، أن أسسنا هذه الصحيفة الزكية. وأسميناها (السنة النبوية المحمدية) لتنشر على الناس ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في سيرته العظمى، وسلوكه القويم، وهديه العظيم، الذي كان مثالا ناطقا لهدي القرآن وتطبيقا لكل ما دعا القرآن إليه بالأقوال والأفعال والأحوال مما هو المثل الأعلى في الكمال والحجة الكبرى عند جميع أهل الإسلام فالأئمة كلهم يرجعون إليها، والمذاهب كلها تنطوي تحت لوائها، وتستنير بضوئها، وفيها وحدها ما يرفع أخلاقنا من وهدة الانحطاط ويطهر عقيدتنا من الزيغ والفساد ويبعث عقولنا على النظر والتفكير، ويدفعنا إلى كل عمل صالح ويربط وحدتنا برباط الأخوة واليقين ويسير بنا في طريق واحد مستقيم ويوجهنا وجهة واحدة في الحق والخير ويحيي منا النفوس والهمم والعزائم ويثير كوامن الآمال ويرفع عنا الإصر والأغلال ويصيرنا-حقا- خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. فها نحن اليوم نتقدم بهذه الصحيفة للأمة كلها على هذا القصد وعلى هذه النية: عملنا نشر السنة النبوية المحمدية وحمايتها من كل ما يمسها بأذية. وخطتنا الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء بفهم الأئمة المعتمد عليهم، ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية المحمدية دون تفريق بينهم. وغايتنا أن يكون المسلمون مهتدين بهدي نبيهم في الأقوال، والأفعال، والسير، والأحوال حتى يكونوا للناس كما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم مثالا أعلى في الكمال.

والله نسأل التوفيق والتسديد في القصد والقول والعمل لنا وللمسلمين أجمعين (1). الرئيس عبد الحميد بن باديس

_ (1) السنة الأولى، العدد الأول، الإثنين 8 ذي الحجة- 1351هـ- 1932م، ص1.

((عبداويون))! ثم ((وهابيون))!

((عبداويون))! ثم ((وهابيون))! ثم ماذا؟ لا ندري. والله! بقلم الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعببة العلماء المسلمين الجزائرين. ــــــــــــــــــــــــــــــ لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام 32 وعزمنا على القيام بالتدريس أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة وأدبها والتفسير والحديث والأصول ومبادئ التاريخ ومبادئ الجغرافية ومبادئ الحساب وغير هذا ورأينا لزوم تقسيم المعلمين إلى طبقات واخترنا للطلبة الصغرى منهم بعض الكتب الابتدائية التي وضعتها وزارة المعارف المصرية وأحدثنا تغييرا في أساليب التعليم وأخذنا نحث على تعلم جميع العلوم باللسان العربي والفرنسي ونحبب الناس في فهم القرآن وندعو الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين ومؤلفات المعاصربن، لما قمنا بهذا وأعلناه قامت علينا وعلى من وافقنا قيامة أهل الجمود والركود وصاروا يدعوننا (1) للتنفير والحط منا "عبداويين" دون أن أكون- والله- يوم جئت قسنطينة قرأت كتب الشيخ محمد عبده إلا القليل فلم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لإنكارهم، على كثرة سوادهم وشدة مكرهم وعظيم كيدهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية وقضيناها عشر سنوات في الدرس لتكوين نشء علمي لم نخلط به غير. من عمل آخر فلما كملت العشر

_ (1) كذا فى الأصل والصواب: يدعون.

وظهرت- بحمد الله- نتيجتها رأينا واجبا علينا أن نقوم بالدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح إلى الكتاب والسنة وهدى صالح سلف الأمة وطرح البدع والضلالات ومفاسد العادات فكان لزاما أن نؤسس لدعوتنا صحافة تبلغها للناس فكان المنتقد وكان الشهاب ونهض كتاب القطر ومفكروه في تلك الصحف بالدعوة خير قيام وفتحوا بكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وكانت هذه المرة غضبة الباطل أشد ونطاق فتنته أوسع وسواد اتباعه أكثر وتمالأ على دعاء الحق الجمود والبدعة وعليها بنيت صروح من الجاه، ومهما جرت أنهار من المال، وأصبحت الجماعة الداعية إلى الله يدعون من الداعين إلى أنفسهم "الوهابيين" ولا والله ما كنت أملك يومئذ كتابا واحدا لابن عبد الوهاب ولا أعرف من ترجمة حياته إلا القليل ووالله ما اشتريت كتابا من كتبه إلى اليوم، وإنما هي أفيكات قوم يهرفون بما لا يعرفون ويحأولون من إطفاء نور الله ما لا يستطيعون وسنعرض عنهم اليوم وهم يدعوننا "وهابيين" كما أعرضنا عنهم بالأمس وهم يدعوننا "عبداويين" ولنا أسوة بمواقف أمثالنا مع أمثالهم من الماضين. ولما كان من سنة القرآن الحكيم التنبيه على مشابهة اللاحقين من الناس للسابقين في منازعهم وأهوائهم وكثير من أحهوالهم حتى كان التاريخ يعيد نفسه بإعادة ذلك منهم وجاء ذلك في مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ} وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وغيرها، لما كان هذا من سنة القرآن فتحنا هذا الباب من الصحيفة تحت عنوان: "التاريخ يعيد نفسه" لننشر فيها- ما أمكننا النشر- قصصا عن حياة رجال السنة المصلحين مع دعاة البدعة المبطلين، تزيد العالم المصلح ثباتا على الحق والقاريء

الصادق تبصرة في الأمر و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. ولسنا نقصد في وضع قصصنا إلى وضع تأليف ولا نخص هذا النقل بكاتب معين أو كتاب مختص، وبين أيدينا الآن كتاب "الاعتصام" لمؤلفه علامة العقول والنقول أبي إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 790، فرأينا أن ننقل منه الفصل التالي الذي يذكر فيه أبو إسحاق ما رمي به من مثل ما رمينا به حتى كأنا في زمان واحد، قال رحمه الله: "فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا، فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما روي عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- أنه قال لو خرج رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي فكيف لو كان اليوم، قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان. وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان فقلت: ما أغضبك؟ فقال: "والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا". وعن أنس بن مالك قال: "ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- غير قولكم: لا إله إلا الله. قلنا بلى يا أبا حمزة؟ قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وعن أنس قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في المنكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب

دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعرض أجرا عظيما، وكذلك فكونوا إن شاء الله. وعن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف، ما عرف غير هذه القبلة. وعن سهل بن مالك عن أبيه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات تدخل في المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا، وإنما تتكاثر على توالي الدههور إلى الآن. فتردد النظر بين- أن اتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل- وبين أن اتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد، وأعد المؤالفين، لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوَّق إلى العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة وأني لو التمسك لتلك المحدثات مخرجا لوجدت غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن، رقي بي مرتقا صعبا، وضيق علي مجالا رحبا وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفهت السلف الأول. وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب

أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أني لم التزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء. وتارة نسبت إلي الرفض وبغض الصحابة- رضي الله عنهم- بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطباء للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة فلا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل فدعاؤه للغزاة والمرابطين قال ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه وأما أن يكون شيئا يعمد إليه في خطبته دائما فإني أكره ذلك. ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة. وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم. وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على المسائل ويوافق هواه، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره. وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب "الموافقات" (1) وتارة إلى معاداة أولياء الله، وسببب ذلك أني

_ (1) كتاب للمصنف في الأصول وحكم الشريعة هو فيه نسيج وحده (المؤلف).

عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم. وتارة نسبت إلي مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها- وهي الناجية- ما- عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك وأوهموا والحمد لله على كل حال. انتهى كلام أبي إسحاق وسننقل عنه في العدد الآتي ما ذكره من حال بعض الأئمة الذين كانوا قبله ووقع لهم ما وقع له (1).

_ (1) السنة الأولى العدد 3 ص الإثنين 29 ذي الحجة 1351 هـ.

الدعاء منه عادة ومنه عبادة

الدعاء منه عادة ومنه عبادة (1) "الدعاء: هو النداء لطلب شيء من المدعو ولذلك لا يدعي إلا العاقل أو ما نزل منزلته مجازا من الجمادات أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من العجماوات، وإذا كان لشيء معظم ليطلب منه ما وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشربة فهو عبادة. ولا يكون إلا من المخلوق لخالقه، وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضا لغرض من الأغراض". الشهاب ج 12، م 6، شعبان 1349. "يجب أن نمهد لمناقشته- (الشيخ الدجوي) -: بيان معنى الاستغاثة وتقسيمها، فالاستغاثة هي طلب الغوث، وهو تخليص من شدة أو إعانة على دفع مشقة فهي من أقسام النداء والدعاء، وتكون من المخلوق لخالقه عبادة وتكون من المخلوق لمثله عبادة، فيدعو المخلوق ويستغيث به فيما هو مقدوره كقولك يا زيد أسقني ماء ويا عمرو أدعوك لتنصحني وإنني في عسر مالي فأغثني وفرج عني بما تقرضني وعلى هذا جاء قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، فقد طلب منه أن ينصره عليه بما عنده من القوة البدنية، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ولم يطلب منه أن (يتصرف) له فيه بتصرف باطن وعليه جاء قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي

_ (1) فيه الرد على ما نشر بالبلاغ عدد 282.

طلبوا منكم النصرة بالقوة التي في يديكم من العدد والعدة لا أنهم طلبوا منكم أن تنصروهم بطريق الغيب و"التصرف". ويدعو المخلوق خالقه ويستغيثه، في تيسير الأسباب العادية وفيما هو وراء تلك الأسباب من الألطاف الخفية وما هو فوق الطاقة البشرية وعلى هذا جاء قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فتوجهوا إليه بالدعاء وطلب التخليص من المكروه بالنصر على الأعداء وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بين ظهرانيهم فلم يستغيثوه لعلمهم أن الاستغاثة فيما وراء الأسباب لا تكون إلا لله. فعلم من هذا أن الاستغاثة قسمان: إستغاثة بما هو في طوق البشر ودائرة الأسباب وهذه تكون للمخلوق لأنها عادة واستغاثة فيما هو خارج عن طوق البشر ودائرة الأسباب، وهذه لا تكون إلا للخالق لأنها عبادة، وعلى هذين القسمين نزلنا آيات التنريل. أفخفي هذا على فضيلته حتى أخذ يستدل بآية الاستغاثة العادية التي تكون بين المخلوقين على الاستغاثة التعبدية التي لا تكون إلا لله. إن خفاء هذا على مثله لعجيب. ثم هذا التقسيم الذي ذكرنا في الاستغاثة هو بنفسه يجري في الدعاء وما الاستغاثة إلا نوع منه فما كان منه لشيء معظم ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشرية فهو عبادة ولا يكون من المخلوق إلا لخالقه وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم لبعض لغرض من الأغراض ومن الأول قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فنصره الله تعالى بما ليس من صنع البشر ومن الثاني قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فدعا موسى قومه وطلب منهم ما هو في مكنتهم.

لا يجوز دعاء غير الله ولا أحد مع لله

جهل هذا كله من كلامنا أو تجاهله بعض الطلبة فادعى علينا بالباطل وكتب في بعض الصحف يقول: (والملخص مما يدور عليه كلامكم هو كون الدعاء عبادة بإطلاق) ثم أخذ بناء على دعواه هذه المبنية على جهله أو تجاهله يندد ويشنع ويتعجب، وقد وجد مادة - د ع و - وأمَامَه واسعة فنقل معظمها فانتفخ بها بطن المقال دون أن تكون به حاجة إليها في المقام. ج 6، م 7 صفر 1350. لا يجوز دعاء غير الله ولا أحد مع لله. الدعاء عبادة، وكل عبادة فإنها لا تكون إلا لله: فالدعاء لا يكون إلا لله هذا قياس من الضرب الأول من الشاكل الأول مقدمته الصغرى دليلها من نفسها لأنها من لفظ الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره ومقدمته الكبرى معلومة من الدين بالضرورة ومن أدلتها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإذا كان سيدي الطالب له إلمام بقواعد المنطق الأولية فهذا يكفيه وإذا أراد التوسع فليتفهم ما نقلناه سابقا من المجلد السادس والسابع وليراجع بقية ردنا على الشيخ الدجوي في المجلد السابع وبقية مجالس التذكير في المجلد السادس وليجد الفهم فيما كتبناه في الدعاء، بالمجلد الثامن. من دعا غير الله فقد عبده. لما كان الدعاء عبادة فمن دعا فقد عبد ومن دُعي فقد عبد، ولهذا تواردت نصوص الآيات والأحاديث على النهي عن دعاء غير الله دون استثناء لشيء من مخلوقاته، مثل قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} {أَمَّنْ

التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غير دعائه

يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. وقال عليه وآله الصلاة والسلام في وصيته لابن عباس- رضي الله عنهما-: «وإذا سألت فاسأل الله» رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وهو في الأربعين النووية فإذا أراد سيدي الطالب أن يزداد بصيرة فليطالع شراحها. فإن قلت أن الداعي للمخلوقات لا يسمى دعاؤه عبادة قلت أن من فعل ما يسميه الشرع عبادة كان فعله عبادة لأن العبرة بتسمية الشرع لا بتسميته، ولأن العبرة في التسمية الشرعية بالعمل، لا بتسمية العامل كمن حلف بغير الله فقد أشرك بتسمية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منه شركا في قوله: «من حلف بغير الله فقد أشرك» رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. وإن لم يسمّ الحالف فعله ذلك شركا. وراجع ص 20 - 721 من المجلد السادس من الشهاب تزدد علما. التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غير دعائه. دعاؤه هو الطلب منه قضاء الحوائج وهذا ممنوع بالأدلة المتقدمة والتوسل به أن تطلب من الله وتسأله به صلى الله عليه وآله وسلم، مثل أن تقول اللهم إنني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة مثل ما في حديث الأعمى الذي تكلمنا عليه في الجزء الثالث من المجلد الثامن وذكرنا دلالته على جواز التوسل به عليه الصلاة والسلام ومن التوسل به التشفع أو لاستشفاع به، وكله بمعنى الطلب من الله به فالله هو المدعو وهو المطلوب منه، وهذا كله جائز لا كلام لنا فيه غير أن سيدي الطالب لم يفرق بين دعائه والتوسل به فذهب يستدل بالجائز على

نصيحة بنصيحة

الممنوع مسويا بينهما، وما ذكره عن البيهقي وفي العتبي- على تسليم صحته وعلى ما في سنده- لا يخرج عن التوسل والاستشفاع به صلى الله عليه وآله وسلم وهو غير دعائه وطلب الحوائج منه الذي قامت الأدلة على منعه من كل مخلوق لأنه من العبادة التي لا تكون إلا للخالق، وما نقله من كلام الشيخ ابن تيمية هو في بيان أن استجابة دعاء الداعي لا تكون دليلا على أن دعاءه مشروع كما هو صريح كلامه، ويكفي دليلا على مراده هذا هذه العبارة الأخيرة مما نقله من كلامه وهي قوله: "فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر إما أنه يدل على حسن حال المسائل فلا" وكون السؤال وقع من بعض الناس له مخالفين أمره وقوله إذا سألت فاسأل الله، شيء وكونه شرعه لنا ودعانا إليه شيء آخر وقد خفي على سيدي الطالب هذا القدر من الفرق ما بينهما فجعل سؤال بعض الناس دليلا على المشروعية ولو تأمل الفصل الطويل الذي نَقلَ بعضه من كلام الشيخ ابن تيمية لظهر له الفرق جليًا. نصيحة بنصيحة. نصحني سيدي الطالب إذا يسر الله لي زيارة القبر الشريف أن أسأله عليه وآله الصلاة والسلام الشفاعة، وقد يسر الله لي ذلك وله الحمد والمنة منذ عشرين سنة، وقد دعوت الله وحده وتوسلت له بنبيه وتوجهت إليه به أن يميتني على ملته، ويجعلني من أنصار سنته، وأهل شفاعته، إلى أشياء أخرى قد استجاب الله تعالى بعضه (1)، وأنا أرجو الاستجابة في الباقي وجزاء نصيحتك أيها الأخ أنني أنصحك بالتأمل الجيد فيما تقرأ وتكتب والتثبت التام فيما تعزو وتنقل فإننا

_ (1) كذا في الأصل ولعله بعضها.

لا ندين إلا بما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، من آية قرآنية أو سنة نبوية قولية أو فعلية، وما كان عليه السابقون مما رواه الأئمة في كتب الإسلام المشهورة، فعليك إذا نقلت أن تبين الكتاب وتعين المحل المنقول منه ليكون لقولك قيمة في مقام البحث والنظر، والله يتولى إرشادك وتسديد خطاك في سنن العلم والدين (1). الأستاذ عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 2، م 6، ص 92 - 96 غرة شوال 1351هـ- فيفري 1933م.

كلمة كفر لو دري قائلها

كلمة كفر لو دري قائلها لما كتبنا في الجزء الماضي في تحقيق العبادة الشرعية تحرينا الاستدلال بالكتاب والسنة وهدي الصحابة لأن المسألة مسألة دينية وهذه هي مآخذها، ولأنها جرى فيها خلاف والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فقال عنا أحد الكاتبين في جريدة (آتي البيوت من ظهورها) فسمى إستدلالنا بالكتاب والسنة وهدي الصحابة إتيان للبيوت من ظهورها وهي كلمة مصادمة للآية القطعية المتقدمة وغيرها ولعل الكاتب لم يتفهمها ولم يدر مقتضاها وإلا فما كان لمسلم أن يقولها. ثم إذا كان الكتاب والسنة وهدي سادات الأمة ظهورا للبيوت فما هي- يا صوفي الزمان- أبوابها. ما عندنا- والله يا أخي- إلا هذه التي جعلتها ظهورا للبيوت، فإذا كانت لا ترضيكم- فـ {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (1).

_ (1) ش: ج 2، م9، ص 96 غرة شوال 1351هـ - فيفري 1933م.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جواب الرئيس للشيخ قدور الحلوي ــــــــــــــــــــــــــــــ إلى جناب المكرم المحترم سيدي قدور الحلوي السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد وقفت في بعض الجرائد على تقديمكم استعفاءكم لنا من عضوية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن رئاسة لجنتها الدائمة بالجزائر احتجاجا على البرقية المنشورة في بعض أعداد (الدفاع) الأخيرة بغير استشارة ولا موافقة غالب أعضاء الجمعية. وتحرجا مما نشر في مجلة الشهاب من مقال منقول عن مجلة المنار الإسلامي. فأما استعفاؤكم من عضوية الجمعية فقد قبلته. وأما استعفاؤكم من رئاسة لجنتها الدائمة فهو واقع منكم في غير محله إذ حضرتكم لم تكونوا رئيس اللجنة في يوم من الأيام ورئيسها معروف منشور اسمه مع أعضائها في عدد (السنة) الذي نشر فيه الاجتماع العام الماضي ومن العجب أن يخفى عليكم هذا. وأعجب منه أن لا يعرف عضو في جمعية مركزه فيها، وأما البرقية المنشورة في (الدفاع) فهي برقية احتجاج على لجنة م ميرانت الوزارية التي ذهبت لتطعن المسلمين الجزائريين الطعنة النجلاء في مسألة المساجد والمكاتب والصحافة وهي مسائل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كتبت فيها صحفها- أيام كانت لها صحافة- ونشرت فيها بياناتها ووجهت فيها برقيات احتجاجها قبل تكوين هاته اللجنة، أتريد من الجمعية أن تسكت عن الاحتجاج لما احتج القطر كله بالمظاهرات والبرقيات مع جميع الجهات والطبقات؟ أفتخرج الجمعية عن إجماع المسلمين في مسائل هي

المقصودة بها بالذات؟ وأما توجيه البرقية باسم الجمعية فلاعتماد الرئيس على التفويض المعطي له من المجلس الإداري في القيام بالدفاع عن الجمعية في جميع مسائلها وقد علم كل أحد أن هذه المسائل هي مسائل الجمعية التي ما زالت تدافع عنها وتضطهد فيها ومن أجلها. على أن أكثر أعضاء المجلس الإداري قد خاطبوا الرئيس يستحثونه على القيام بالاحتجاج. وستسمع يوم الاجتماع العام الآتي كيف يكون التصويت على تلك البرقية وغيرها بالإجماع ليعلم كل أحد أن هذه الجمعية متضامنة في جميع أعمالها لا يشذ عنها إلا من شذ. وأما جعلكم تحرجكم مما نشر بمجلة (الشهاب) السبب الثاني لاستعفائك، وعجب آخر من حضرتكم إذ مجلة الشهاب معروفة بخطتها الإصلاحية مستقلة بها من يوم نشأتها قبل وجود الجمعية بسبع سنوات فكيف تحملون مسؤوليتها على الجمعية. فأما ما تهجمتم به على الجمعية في بقية مقالكم ولخصتم به ما كان يتقوله غيركم عن الجمعية وأنتم من أعضائها دون أن يحملكم على الخروج منها، فإنا لا نجيبكم عنه لأنا فرغنا منه قبل اليوم مع أناس بيتت حقيقتهم الأيام وضربهم الله بالتفرق والخذلان، فأين هم، وأين صحافتهم اليوم، وتلك عاقبة الظالمين ونهاية كيد الخائنين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1). الجزائر: عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

_ (1) ش: ج 7، م 10، ص 341 - 342 غرة ربيع الأول 1353هـ - 14 جوان 1934م.

انكار العلماء المتقدمين على المدعين المبتدعين

إنكار العلماء المتقدمين على المدعين المبتدعين للأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ــــــــــــــــــــــــــــــ كلما قام دعاة الإصلاح بالإنكار على البدع الفاشية، والضلالات الرائجة، وبينوا قبحها وضررها بالبراهين الساطعة وأفحموا أهلها بالأدلة القاطعة، صاح المتعيشون عليها في اتباعهم المغترين بهم: "لو كان ما نحن عليه باطلا لأنكره العلماء المتقدمون قبل أن ينكره هؤلاء (العصريون) لكن المتقدمين رحمهم الله رأوه وسكتوا عليه وأقرو. ورضوا به ومضى على ذلك الزمن الطويل وعاش عليه الجيل بعد الجيل، وقالوا مثل ما قال الأولون {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ولما كان هذا قد يغر الجاهل وشبه الجاهل فيحسب أن الأمر كما ذكروا وأن العلماء المتقدمين سكتوا وما أنكروا، أردنا أن ننقل لقراء (السنة) بعضا من إنكار أهل العلم على هؤلاء، المتسمين بالفقراء المدعين لطريقة الزهد المتمسكين بالبدعة ليعرفوا سنة العلماء في الرد عليهم والتقبيح لحالهم والتحذير من ضلالهم فيعلموا أن العلماء الإصلاحيين المعاصرين ما جاءوا إلا على سنة سلفهم المتقدمين وما قاموا إلا بما يفرضه عليهم الدِّين من نصح المسلمين وإرشاد الضالين والذبِّ عن سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعليهم وسلم.

إنكار الإمام القشيري، صاحب الرسالة القشيربة، من أهل القرن الخامس

إنكار الإمام القشيري، صاحب الرسالة القشيربة، من أهل القرن الخامس: قال في وصف المتشبهين بالصوفية المنتحلين لطريقتهم المباينين لسلوكهم: " فعدُّوا قلة المبالات بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات والارقفاق بما يأخذونه من السوقة وأصحاب السلطان". إنكار الإمام أبي بكر الطرطوشي المالكي، من أهل القرن الخامس والسادس: قال في خطبة كتابه الذي ألفه في إنكار البدع والمحدثات وعندنا منه نسخة خطية مكتوبة نحو القرن العاشر: "ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المؤمنين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والتغيير واعتقدته من الدين الذي يقربنا إلى الله عز وجل وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت به سييل المؤمنين وخالفت الفقهاء والعلماء وحماة الدين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتي (1) عليهم في أقاصي الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق".

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: الفتوى.

إنكار الإمام أبي حيان الأندلسي، من أهل القرن السابع والثامن

إنكار الإمام أبي حيان الأندلسي، من أهل القرن السابع والثامن: قال في الجزء الرابع من تفسيره الكبير ص310، وهو يصف متصوفة زمانه مما ينطبق على أمثالهم في زماننا: "ولو عاش الحسن إلى هذا الزمن العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم أذكارا لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداما يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعود عنهم كرامات، ويرون لهم منامات يدونونها في أسفار، ويحضون على ترك العلم والاشتغال بالسنة ويرون الوصول إلى الله بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل ولا نبي مرسل ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة، ونصب أيديهم للتقبيل، وقلة الكلام واطراق الرؤوس وتعيين خادم يقول: الشيخ مشغول في الخلوة، رسم الشيخ، قال الشيخ، رأى الشيخ، الشيخ نظر إليك، الشيخ كان البارحة يذكرك، إلى نحو من هذه الألفاط التي يخشون بها على العامة ويجلبون عقول الجهلة هذا ان سلم الشيخ وخادمه من الاعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة فإذ ذلك يكون منسلخا من شريعة الإسلام بالكلية والعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليهم الأوقاف وتخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائل ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به". إنكار الإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي، من أهل القرن الثامن: قال في كتاب الاعتصام (1: 216) - يصف فقراء زمانه بالأندلس-: "فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها

إنكار الإمام القلصادي المالكي، من أهل القرن التاسع

الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقلما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن فضلا عن غيرها ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة وتنزل فيها السكينة وتحف بها الملائكة. فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا فاقتدوا بالجهال أمثالهم، وأخذوا يقرأون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم لا على ما قال أهل العلم فيها، فخرجوا على الصراط المستقيم". إنكار الإمام القلصادي المالكي، من أهل القرن التاسع: قال في كتابه "لباب الأزهار اليمنية على الأنوار السنية" ص 35: " وكم من سنة دثرت وبدعة أقيمت وتوصل عليها بدلائل وذلك بسبب علماء السوء لأن البدعة في الغالب لا يحدثها عالم لكن إذا وقعت ينصرها من كان له غرض فاسد ويقيم الدَّليل على صحة ذلك ويحدث لذلك اتباع على ما هو مشاهد معلوم" وقال فيه ص 151: "وليس المراد بالذكر ادامته باللسان فقط وعدم التحلي به وذلك من تلبيس إبليس ويحسبون أنهم على شيء". إنكار الشيخ عبد الرحمن الأخضري الجزائري، من أهل القرن العاشر: لهذا العالم الصالح قصيدة تعرف بالقدسية مشهررة وصف فيها هذه الطائفة وصفا كاسفا فاضحا صورهم على الصورة التي يعرفها منهم كل من عرفهم ولا يستطيع أن ينكرها أحد حتى المتعصب لهم، ومما قال فيهم: وظهرت في هذه البلاد: طائفة البلع والازدراد .. الخ. إنكار الشيخ عبد الكريم الفكون القسنطيني، من أهل القرن الحادي عشر: قال في كتابه: "منشور الهداية في التعريف بحال من ادعى العلم

إنكار الشيخ مصطفى لعروسي، من أهل القرن الثالث عشر

والولاية" فلما رأيت الزمان بأهله تعثر وسفائن النجاة من أمواج البدع تتكسر وسحائب الجهل قد أضلت وأسواق العلم قد كسدت واضمحلت فصار الجاهل رئيسا والعالم في منزله يدعي من أجلها خسيسا وصاحب أهل الطريقة، قد أصبح وأعلام الزندقة على رأسه لائحة، وروائح السلب والطرد من المولى عليه لائحة، تمسكوا من دنياهم بمناصب شرعية، وحالات كانت قدما للسادات الصوفية، فأوهموا العامة بأسماء ذهبت مسمياتها وأوصاف تلاشت أهلها منذ زمان وأعصار لبسوا باتنحالهم لها على أهل العصر أنهم من أهلها- وربما صارت الطائفة البدعية مقطعا للحقوق وقسما يقسم بهم في البر والعقوق- أعلنوا بأن سوابق الأقدار منوطة بإرادتهم وتأثيرات الأكوان صادرة عن اختيارهم فزادت بهم العامة شغبا إلى شغبهم وتشويشا دخل في قلوبهم واتخذت أتباعهم ألقابا باسم الشيخوخة، وزاد في إفصاج أحوالهم والحمل على بثها وإبدائها ما أحدثوه من أن من مات منهم بنوا عليه وشيدوا بناءات وجعلوا عليهم قبابا من العود وألواحا منقوشة بأسمائهم وما اختاروا من ألقاب التي لا تصلح لهم، وهي من أوصاف ساداتنا العلماء والعاملين والصلحاء الفاضلين وصيروا ذلك لغابر الدهر بحيث أنهم لبسوا على العامة في الحياة وعلى من سيكون بعد الممات". إنكار الشيخ مصطفى لعروسي، من أهل القرن الثالث عشر: هذا العالم هو محشي شيخ الإسلام زكرياء شارح الرسالة القشيرية قال- بنقل الأستاذ الميلي في تاريخ الجزائر (2: 263) -: "إني بذلا للنصيحة أحذرك من متابعة مشايخ هذا الوقت ممن لا يثمر الاجتماع بهم خلاف المقت إذ هم قطاع طريق الله على عباده وأعداء الأولياء الداعين إلى سبيل رشاده حيث لا همة لهم إلا جمع العرض

الفاني ولا سعي لهم إلا في تجريد القاصي والداني أزاحهم الله من جميع البلاد وأراح منهم الدواب والعباد … فعليك يا أخي في مثل هذا الوقت بخاصة نفسك وتباعد عمن بهم تزيد قاذورات رجسك وتابع هدى سيد المرسلين وإمام كل النبيين- والمرسلين فكافيك التمسك بالقرآن والتمسك على طريق سيد ولد عدنان ولا تغرنك - لو فرض- خوارق العادات فإنها كما تكون للكرامة توجد لقصد الإهانة. فهذه وصيتي إليك قد ذكرتها شفقة عليك دعاني لذكرها رعاية المقام فتقبلها مني وعليك السلام". بان بهذا لمن عرف وأنصف أن الحق لم يعدم أنصارا في سائر الأزمان وأن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة على مرِّ الأيام وأن الطائفة القائمة على الحق التي تحيي من سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما أمات الناس لن تزول من على وجه الأرض ولا تزال ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى يأتي أمر الله والحمد لله رب العالمين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) السنة، السنة الأولى، العدد 4، ألاثنين 6 محرم الحرام 1352هـ - ص 1

الصوفي السني بين الحكومة السنية والحكومة الطرقية

الصوفي السني بين الحكومة السنية والحكومة الطرقية بقلم الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريبن. ــــــــــــــــــــــــــــــ أما الصوفي السني فهو الإمام المجاهد السيد أحمد الشريف السنوسي الذي توفاه الله منذ أشهر بالمدينة المنورة فقد كان على جانب عظيم من التمسك بالكتاب والسنة والتخلق بأخلاق السلف الصالح وكانت دعوته إلى الله وإرشاده للعباد بهدايتهما وكانت تربيته لأتباعه مبنية على التفقه في الدين والتزام العمل به والزهد والصبر وحفظ الكرامة. وأما الحكومة السنية فهي الحكومة السعودية القائمة على تنفيذ الشريعة الإسلامية بعقائدها وآدابها وأحكامها الشخصية والعمومية حتى ضرب الأمن أطنابه ومد العدل سرادقه على جميع تلك المملكة العربية العظيمة بما لم تعرفه دولة على وجه الأرض غير دولة الإمام يحيى المضارعة لها في السنية وإقامة عمود الشريعة الإسلامية. وأما الحكومة الطرقية فهي حكومة مصر التي تشارك المشاركة الرسمية في بدع المواليد وتؤيد تأييدا رسميا الإجتماعات الصوفية بما فيها من مناكر وقبح مظاهر وسوء مناظر مما تضج منه صحافتها كل يوم فضلا عن العلماء المصلحين من أمتها. ويواطؤها على هذا علماؤها الرسميون بسكوتهم وإقرارهم وأحيانا بدفاعهم وتأويلاتهم. أما كيف كان هذا الإمام بينهما فهاك الخبر لتنظر وتعتبر: لما

رجع الإمام من الأناضول بعد ما أنكر الكماليون جميله واستثقلوا بقاءه، ما آوته إلا الحكومة السنية حكومة ابن سعود فأقام عندها في الحجاز مكرما مبجلا. وأما الحكومة المصرية الطرقية فإنها أبت عليه أن يدخل مصر مراعاة لوعد كانت أخذته عليها إيطاليا في شأن الإمام. ولم ينته احترامها لهذا الوعد القاضي بحرمان إمام عظيم من دخول أرضها عند هذا الحد الاعتيادي عند من لا يراعي إلا جهة واحدة وإن أغفل جهات عديدة، بل تجاوز تصلب حكومة مصر ويبسها إلى منعه من دخول مصر في الحالة التي يرثي فيها العدو لعدوه ولو كان كعداوة إيطاليا للإمام. ذلك أن الإمام لما مرض مرضه الأخير واشتد به الألم رغب في التداوي بمصر فطلبت حكومة الحجاز من حكومة مصر السماح له بذلك وكانت الحكومة المصرية في انتظار قدوم ملك إيطاليا فماطلت ولم تجب حتى مات الإمام دون أن تسمح له بالدخول لأجل التداوي. نحن لا نتكلم على هذه المسألة من ناحيتها السياسية وإنما نتكلم عليها من ناحيتها الإنسانية ومن ناحيتها الدينية على الخصوص. فالحكومة السعودية التي طهرت الحجاز من البدع والضلالات والخرافات ورجعت اتباع الطرق التي تسمي نفسها الطرق الصوفية إلى عقولهم ودينهم لما جاء هذا الصوفي السني أكرمت وفادته وأنزلته المنزلة اللائقة به وحكومة مصر التي تؤيد الطرقية وبدعها وخرافاتها وتشويهها لما كان عليه الجنيد وأمثاله، وما كان عليه أئمة الهدى كلهم تعامل هذا الصوفي السني هذه المعاملة القاسية الخشنة الخالية من كل لطف ومراعاة وفي هذا الموقف من هاتين الحكومتين البرهان القاطع على أن الحكومة السعودية ما طاردت الطرق لأنها تصوف وإنها طاردتها لأنها مدعية بالباطل ومتصفة بضده. وأن الحكومة المصرية ما نصرت الطرق لأنها تصوف وإنما ناصرتها لأن غالب علمائها الذين يعيشون على رواتبها

وعلى رضا العامة وتعظيمها واستغلال جهلها أقروها على ذلك وحسنوه لها فأقرتهم والعامة عليه: وهل أفسد الناس إلاَّ الملوك … وأحبار سوء ورهبانها وقبل الحكومة السعودية قد كان علماء الإسلام المصلحون يقبلون طريقة الحق وينكرون طرق الباطل وقد ذكرنا جمعا منهم من القرن الخامس إلى القرن السالف في عدد مضى وهم قدوتنا أنعم بهم من قدوة وقبل الحكومة المصرية وعلمائها قد كان من يقر ما أقرت دون بينة ولا برهان. وسيبقى كذلك على الدهر من ينصر السنة ويؤيدها ويدافع عنها. ومن ينشر البدعة وينفخ في بوقها وينقر على طبلها. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1).

_ (1) السنة، السنة الأولى العدد 6 الإثنين 20 محرم الحرام 1352 هـ- 1 ماي 1933م، ص1 و2.

الإسلام دين علم خالد

الإسلام دين علم خالد ألف الأستاذ محمد فريد وجدي كتابا تحت هذا العنوان بحث فيه في الوحي والدين والإسلام، فوفى البحث حقه. وقد كان بعض المعجبين بالأستاذ أطلعني على الكتاب فوقفت فيه على أشياء أنكرتها منها: تعبيره عن موجد الكون بروح الكون وجعله الحياة الإنسانية قبسة من الحياة الوجودية، ويعني بالحياة الوجودية ما عبر عنه بروح الكون وهذا صريح في أن الروح الإنسانية مأخوذة من الله تعالى، جل َّ (1) الله عن ذلك، وكيف يؤخذ الحادث من القديم؟ ومنها زعمه عن الموجودات (ص 12) أنها سابحة في روح الوجود سبح النينان في المحيط الزاخر، منه وجدت وبه تحيا وفيه تفنى، وكما كان تعبيره عن موجد الكون بروح الوجود من العبارات الحلولية الموهمة أن الموجد سارٍ في الموجودات فقد كان تعبيره هنا بأنها سابحة فيه وتفنى فيه مقتضيا أنها حالة فيه وكلا الأمرين محال باطل اعتقاده، حاشا الأستاذ أن يكون قصده، ومنها زعمه أن في الناس علماء منتهين (ص 18) لا يتطلبون أن يأخذوا الدِّين آدابا وأخلاقا ولا أن يتعلموا منه أسلوبا في الحياة ولا دستورا في المعاملات ثم يقول عنهم (ص 25) أن هؤلاء العلماء الأعلام يرون أن لا حاجة بهم إلى الأديان المعروفة هم هكذا ويسميهم بالعلماء الأعلام! رأيت هذا في الكلام واستنكرته ونبهت الإخوان عليه ثم رأيت لحجة الإسلام الأستاذ رشيد رضا بحثا مستفيضا في هذا الكتاب وملؤلفه (2).

_ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) ش: ج 7، م 12، ص304 - 311 غرة رجب 1355هـ - أكتوبر 1936م.

طلب الآخرة وحدها مذموم فى الإسلام

طلب الآخرة وحدها مذموم فى الإسلام غلو الصوفية بجعل الكمال عدم طلب الدنيا والآخرة. ــــــــــــــــــــــــــــــ كنا بيَّنَّا نحن وغيرنا على صفحات هذه المجلة أن العبادة الشرعية موضوعة على الرجاء والخوف وأن الطمع في فضل الله لا ينافي إخلاص العبادة له، وذكرنا الأدلة الكثيرة على ذلك من الكتاب والسنة وكانت أدلة ثابتة صريحة غير قابلة للتأويل وبينا بها أن من زعم أن العبادة تتجرد عن الرجاء والخوف، فقد زعم باطلاً وأنه لا يجد آية واحدة ولا حديثا صحيحا واحدا يستدل به على دعواه فالعبادة المتجردة عن الرَّجاء والخوف ليست العبادة التي جاء لها الإسلام. ثم لما اطلع أخونا في الله شيخ الإسلام الأستاذ محمد رشيد رضا على ما دار في المسألة بيننا وبين خصومنا كاتبنا بموافقته على ما قلنا وذكر لنا ما كان كتبه هو في المسألة في الجزء الثاني من تفسير المنار الشهير وها نحن ننقل ما كتبه الأستاذ في المسألة عند تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية، إفادة لقرائنا شاكرين لفضيلته عنايته وتنبيهه. قال أحسن الله جزاءه: "وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّقْسِيمِ مَنْ لَا يَطْلُبُ إِلَّا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ دَاعِي الْجِبِلَّةِ وَتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَهَدْيِ الدِّينِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ مَنْ لَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى حُسْنِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا مَهْمَا يَكُنْ غَالِبًا فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ

بِالْجُوعِ وَالْبَرْدِ وَالتَّعَبِ يَحْمِلُهُ كَرْهَا عَلَى الْتِمَاسِ تَخْفِيفِ أَلَمِ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ، وَالشَّرْعُ يُكَلِّفُهُ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ حُقُوقًا لِبَدَنِهِ وَلِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَلِرَحِمِهِ وَلِزَائِرِيهِ وَإِخْوَانِهِ وَأُمَّتِهِ لَا تَصِحُّ عُبُودِيَّتُهُ إِلَّا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا. وَفِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا الْغُلُوَّ مَذْمُومٌ خَارِجٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَصِرَاطِ الدِّينِ مَعًا، وَمَا نَهَى اللهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَذَمَّهُمْ عَلَى التَّشَدُّدِ فِيهِ إِلَّا عِبْرَةً لَنَا، وَقَدْ نَهَانَا عَنْهُ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ فَقَالَ لَهُ: «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللهَ بِشَيْءٍ؟» قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُبْحَانَ اللهِ إِذًا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ فَهَلَّا قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَدَعَا لَهُ فَشَفَاهُ اللهُ تَعَالَى. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا فِي الْغُلُوِّ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ سَمِعَ قَارِئًا يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فَصَاحَ أَوَاهُ فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللهَ؟ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنُ الظَّاهِرِ قَبِيحُ الْبَاطِنِ، فَالْآيَةُ خِطَابٌ لِخِيَارِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ وَشَيْخُهُ مِنِ الصُّوفِيَّةِ لَمْ يَبْلُغُوا مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، فَإِرَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْحَقِّ إِرَادَةٌ لِمَرْضَاةِ اللهِ وَعَمَلٌ بِسُنَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا فِيهَا الْغَنِيمَةُ فِي الْحَرْبِ، وَبِالْآخِرَةِ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهَلْ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَآثَرُوا الشَّهَادَةَ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْغَنِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ اللهَ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ الصُّوفِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْغُلَاةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا مِنْهُ لِلَّهِ وَطَلَبًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ؟

(أَقُولُ): كَلَّا إِنَّمَا هِيَ فَلْسَفَةٌ خَيَالِيَّةٌ مِنْ خَيَالَاتِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الْبُرْهُمِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ قَدْ شُغِلَ بِهَا أَفْرَادٌ عَنْ فِطْرَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ مَعًا فَجَعَلُوهَا أَعْلَى مَرَاتِبَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَأَوَّلُوا لَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَمَا إِرَادَةُ وَجْهِهِ تَعَالَى إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَحَرِّي هِدَايَةِ دِينِهِ فِيهِ، لَا مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ أَنَّ إِرَادَةَ وَجْهِهِ تَعَالَى هُوَ الْوُصُولُ إِلَى ذَاتِهِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ بِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَدْنُو مِنْ كُنْهِهَا الْأَفْكَارُ وَلَا الْأَوْهَامُ، مِمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ، بَلْ إِدْرَاكُ كُنْهِ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُ تَعَالَى فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ خَلْقِهِ. وَإِنَّمَا أَعْلَى مَرَاتِبَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا هِيَ مَعْرِفَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، وَدُعَاؤُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ بِمَا يُنَاسِبُ تَعَلُّقَهُ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَبِهَذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِيَارَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُ كُلٌّ مِنْهُمْ رَبَّهُ عِبَادَةً خَاصَّةً، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ مَنْ يَعْرِفُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ مِنْ حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُبِّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَتِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ بِتَجَلِّيهِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ. (1).

_ (ا) ش: ج 12، م 9، ص472 - 474 غرة رجب 1352هـ - نوفمبر 1933م.

بيان عن هلال شوال

بيان عن هلال شوال من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى المسلمين الجزائريين ــــــــــــــــــــــــــــــ اجتمعت هيئة علمية بإدارة مجلة الشهاب ليلة الأحد لاتنظار ما يرد من الأخبار عن الهلال والأسئلة عنه مثل ما فعلت ليلة رمضان وبيناه في المنشور السابق. دق جرس التلفون من قصر الطير فتكلم السيد عبد الرحمن بن بيبي فأخبر بأن الهلال رآه رجلان من قريتهم وناداهما فتكلم كل واحد منهما وأخبر عن الرؤية وزكاهما السيد عبد الرحمن وسمع هذا كله رئيس الجمعية والسيد أحمد بوشمال والشيخ عبد العلي ثم دق الجرس من بلدة جامعة فتكلم فضيلة قاضيها الشيخ لخضر بن غريب فذكر أن قاضي بلدة أولاد جلال أخبره أن الهلال رآه اثنان في بلدته وأنه نقل له اثنان من أهل قرية سيدي خالد الرؤية عن أربعة بها فثبت الأمر عنده ثم ذكر فضيلة قاضي جامعة أن الهلال قد رؤي أيضا في سيدي عقبة وأنه نقل ذلك عن الثقة عنده، ثم تكلم السيد الحاج الشاوي فأخبر بمثل كل ما ذكره الشيخ القاضي وسمع ذلك كله منهما من سمعوا الخبر الأول وغيرهم. ولما تحملنا هذه الشهادات قمنا فذهبت إلى فضيلة قاضي قسنطينة الشيخ محمد بن الساسي فأدينا عنده الشهادة، وكلم هو قاضي بلدة أولاد جلال فأخبره بمثل ما أخبرناه به، فأصدر حكمه بدخول شهر شوال بالأحد وأعلن ذلك للناس. وتولت هيئة جمعية العلماء توزيع الخبر بالبرقيات والتلفونات- كعادتها- على أنحاء القطر.

أصبح الخبر منتشرا في القطر كله وأفطرت جل البلدان ولولا بقايا من الذين في قلوبهم مرض لعم العيد جميع البلدان. وكان من المقدر على العاصمة الجزائر أن يقع فيها الخلاف في الفطر كما وقع فيها الخلاف في الصوم وكان سبب ذلك أخيرا هو السبب، أولا: ذلك المتعنت المخذول. كان يعتل لخلافه في الصوم بأنه لم تخاطبه هيئة رسمية وهو لا يقبل إلا الرسميين فخاطبه ليلة الأحد فضيلة الشيخ محمد بن الساسي بنفسه هو ومن كانوا معه في المحكمة ورغم هذه المخاطبة الرسمية أبى من العمل بها وأصر على رأيه الباطل الذي لا مستند له لا من وهم ولا من شبهة. وكان هذا منه الدليل القاطع عند الناس على تعصبه وعناده وما يكون عنه التعصب والعناد في مثل هذه المسألة الدينية من طوايا وأدغال. هكذا تقوم الجمعية بكل ما ترى فيه الخير من نشر العلم والدين وتوحيد الكلمة في الخير فتجد أمثال هذه العراقيل من هذه الأشباح المظلمة والأيدي الظالمة تعترضها في طريق الصالح العام، والجمعية- بإذن الله- سائرة في طريقها المحمودة إلى غايتها النافعة ولو كره المبطلون والله المستعان. هذا وإننا نحمد الله على ما شاهدناه من الأمة من المناية ونشكر كل من أعاننا على القيام بهذه الطاعة ونرجو من إخواننا المسلمين أن يبذلوا عنايتهم في كل الشهور وأن يبادر كل من يرى الهلال إلى إخبار محكمته وأن يعلن رئيس المحكمة ذلك الناس والله المسؤول أن يوفقنا للخير ويعيننا عليه ويجعلنا من أهله (1). عن مكتب رئاسة الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ملحق ج 12، م 10، ص 1 - 3 غرة ذي القعدة 1353هـ - فيفري 1935م.

المجتنيات من الجرائد والمجلات

المجتنيات من الجرائد والمجلات نصيحة الأستاد الإمام لأهل الجزائر وتونس ــــــــــــــــــــــــــــــ للمشاركة في حفلة الذكرى الثلاثين (1) التي أقامها إخواننا المصريون للأستاذ الإمام نشرنا صورته وقدمناها هدية للقراء، وننقل هنا بمناسبة ذلك نصيحته التالية عن المجلد الحادي عشر من (المنار). من يعرف الأستاذ الإمام يعرف أن كل حديثه في جميع أوقاته نصح وتعليم فمجالسه ومسايره يستفيد علما وحكمة في كل أمره من أمور الدنيا والآخرة ولذلك نعتقد أن الذين عرفوه واجتمعوا به في رحلته الأخيرة إلى الجزائر وتونس قد سمعوا منه نصائح لا تحصى ولكن النصيحة العامة الشاملة التي كان يشافه بها أهل العلم والدراية في القطرين هي: "1 - الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية من طرقها القريبة التي أرشد إليها في الخطاب الذي ألقاه في تونس. "2 - الجد في الكسب وعمران البلاد من الطرق المشروعة الشريفة مع الاقتصاد في المعيشة. "3 - مسألة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة. وبهذا الأخير يتم لهم كل ما يريدون من مساعدة الحكومة الفرنسية لهم علي ما قبله فإن الحكومات في جميع الأرض يضيقون على البلاد التي يستعمرونها ما داموا يعتقدون أن أهلها ساخطون عليهم أو لهم ضلع مع حكومة

_ (1) وذلك في سنة1354هـ - 1935م.

أخرى. وهذا الإعراض عن السياسة لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارا بهم من القوانين والمعاملات فإذا لم تكشف ظلامتهم بعد الالتجاء إليها في كشفها كانوا معذورين إذا سخطوا وتربصوا بها الدوائر" (1).

_ (1) ش: ج 6، م 11، ص 363 غرة جمادى الأولى 1354 هـ- أوت 1635 م.

التقرير الأدبي

التقرير الأدبي الذي ألقاه رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس في افتتاح اجتماعها السنوي العام صبيحة يوم الأحد السادس عشر من جمادي الآخرة عام 1354هـ الموافق للخامس عشر سبتمبر سنة 1935م. ــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فباسم الله تعالى ثم باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أفتتح هذا الاجتماح الرابع للجمعية والمؤتمر الديني العلمي لهيئتها العمومية. ثم أرحب بكم شاكرا لكم إقبالكم على الجمعية وعضدكم لها، بوفودكم على اجتماعها، كما أشكر أولئك الإخوان الذين حبستهم الأعذار، فاعتذر من يحسن منهم الكتابة بالكتب، والبرقيات، واكتفى الأميون منهم بهبات الأرواح، ونبضات القلوب. أيها الإخوان: لقد كانت السنة الماضية، وهي الرابعة من سنوات الجمعية، سنة ممتازة في حياة الجزائر، تحركت فيها الجزائر حركة الألم، وحركة الأمل، حركة ألم أورثه الجمود من ناحية، والغفلة من ناحية، وأسباب أخرى من نواح أخرى، فطال عليه الأمد حتى أنهك الروح، والجسد، وحركة أمل بعثه الشعور بالحياة، وثقة

برجال ممن بيدهم الحل والعقد، أو لهم كلمة مع من بيدهم الحل والعقد، فارتفع صوت الجزائر حتى أسمع الصم، وإن قل المجيب وظهر رسمها على صفحات الأيام، وإن اختلف تلوينه باختلاف أذواق الدساسين ونزعاتهم، وإذا ذكرت الجزائر- أيها الإخوان- فقد ذكرت الجمعية فهي- ولا نكران- الممثلة للجزائر من ناحيتها الروحية والأدبية وما كتب كاتب في صحيفة من كبريات الصحف وصغرياتها عن الجزائر إلا كان حديثه عن الجمعية في طالعة كلامه، وإذا ألغينا تهاويل مقصودة وأنباء مقلوبة بقي الاعتراف للجمعية بمكانتها، وإن صلاح الجزائر، وإرضاء الجزائر معظمه في مساعدة الجمعية على ما تقوم به من تربية وتهذيب. لقد أبدت الجمعية ألم الأمة وألمها من ناحيتها الخاصة بها بما نشر لها وبما أبرقت من برقيات وما أرسلت من كتب. وقد أبدت ما لها من أمل يوم قابل رجالها وزير فرنسا م. ريفي وسمعت منه ما قوى ذلك الأمل. وكم كان يسرني- وأنا رجل مسلم طبعتني تربيتي الإسلامية على الاعتراف بالجميل- أو استطعت أن أذكر لكم اليوم شيئا من تحقق ذلك الأمل. لكن بغاية الأسف لا أستطيع أن أقول لكم إلا أنه لم يتحقق شيء منه، فالمساجد ما تزال موصدة الأبواب في وجوه الوعاظ والمرشدين والمكاتب العربية ما زالت تلقى العراقيل الشديدة، وصحيفة الجمعية ما تزال في نطاق المنع والتحجير وما يزال رجال من أشخاص الجمعية البارزين تحت الرقابة والشدة بغير ذنب. غير أننا لا نقطع حبل الرجاء ما دام على رأس الإدارة رجل عالم خبير يقدر العلم وأهله ربما انفسح أمامه المجال للعمل في عهد الولاية الجديدة، ومع ذلك فإنني إبقاء لصوت الحق أرفع باسم جمعكم هذا إلى المراجع العليا الإحتجاج على بقاء هاته الحالة التي يحال فيها بين علماء الإسلام

ومساجد الإسلام، ويحال فيها بين الأمة وتعلم دينها في أماكن دينها ويعرقل فيها المسلمون على تعليم أبنائهم، لغة وعقائد وآداب دينهم. ويخنق فيها صوت جمعية دينية علمية فيحال بينها وبين الصحافة التي هي الأداة المشروعة المعترف بها لكل جمعية لنشر دعوتها والدفاع عن نفسها. ثم مع هذه الحالة وضيقها فإن الجمعية قامت بحمد الله بما استطاعت من واجباتها. فالدروس العلمية في بلدان عديدة يقوم بها رجال الجمعية للطلاب والمدارس القليلة المسموح بها يتولاها رجال من الجمعية لتعليم الصغار. وقد قام رجال مجلس الإدارة في آخر السنة برحلات في العمالات الثلاث فوفدوا على خمسين بلدة ونيف قألقوا فيها دروس الوعظ والإرشاد على الجموع الكثيرة من الناس فأحيوا بما نشروا من الهداية نفوسا وأنعشوا أرواحا وفتحوا عيونا وآذانا وبعثوا- من الخير- آمالاً وبذروا بذور الرحمة والمحبة بين جميع السكان. واليوم- وقد قطعنا الرحلة الرابعة من سيرنا- فإننا نستعين الله تعالى على التقدم للمرحلة الخامسة بإيمان ثابت ويقين صادق وقصد للخير صحيح ونحن نجدد لكم عهد الله على السير بالجمعية أو مع الجمعية على خطتها الدينية العلمية لنشر العلم والفضيلة ومحاربة الجهل والرذيلة. القرآن أمامنا والسنة سبيلنا والسلف الصالح قدوتنا وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا. فلنسر موحدين متحدين على هذا الصراط المستقيم لخير الجميع والله مع العاملين المخلصين والحمد لله رب العالمين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) سجل مؤتمر العلماء المسلمين الجزائريين ص 74 - 76/ 16 جمادى الأخيرة 1354هـ - 15 سبتمبر 1935م.

العناية بهلال رمضان وثبوته

العناية بهلال رمضان وثبوته قياما بالواجب حسب عادة الجمعية كاتب مكتب الرئاسة جميع رؤساء الشعب في القطر كله بالكتاب التالي: حضرة الأخ الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبعد: فالمرغوب منكم أن تقوموا بأنفسكم أنتم ومن معكم بالعناية برؤية هلال رمضان وقد ثبت دخول شعبان بالثلاثاء فتجب مراقبة الهلال ليلة الأربعاء الآتية إذ هي ليلة الثلاثين فإذا رؤي فليبادر بإعلام أقرب محكمة شرعية لديكم ولتعلمونا إلى مكتب رئاسة الجمعية على تيليفون: 15 - 25 (خمسة وعشرين خمسة عشر) وليكن تلقي الخبر دائما باثنين من اثنين إلا إذا لم يره إلا واحد فليتلق عنه اثنان وليبلغ الخبر على الوجه المذكور إذ قد يكون شخص آخر رآه في ناحية أخرى فتلفق الشهادة، فإذا لم ير ليلة الأربعاء فتصدوا له ليلة الخميس ولتعملوا فيه كما بينا. هذا وقد طلبنا من مدير إدارة البريد في العاصمة أن يأمر بإبقاء التليفون مفتوحا إلى الساعة العاشرة. والمرغوب أن تعرفونا بعدد التيليفون الذي نخاطبكم عليه في حين اتصالكم بكتابنا هذا إما ببرقية وإما بالتليفون. إننا نؤكد عليكم في القيام بهذا الأمر الديني العظيم، والله يتولانا وإياكم والمسلمين بالتوفيق والتأييد. والسلام عليكم من أخيكم: رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة 1 العدد 1 الصفحه 8 العمود 1 - 2 الجزائر يوم الجمعة 1 شوال المبارك 1354هـ الموافق لـ 27 ديسامبر 1935م.

العناية بهلال رمضان

العناية بهلال رمضان وفاء بالوعد واتماماً للفائدة ننشر لقرائنا الكرام نقلا عن الشهاب الأغر ما يتعلق بهذا المبحث قال: فجاءت الأجوبة من عندهم كلهم بالكتب والبرقيات باستعدادهم لتنفيذ ما خوطبوا به وتعيين محال مخاطباتهم. ولما كان مساء يوم الثلاثاء انتصب بمكتب الرئاسة رئيس الجمعية وهيأته من الأعضاء لتلقي الأخبار فوردت عليهم نحو مائة تيليفون من جميع جهات القطر تسأل عن الرؤية وتخبر بوجود الغيم المتكاثف وهطول المطر في بعض الجهات. كما انتصب بالمحكمة بجوار مكتب الرئاسة فضيلة الشيخ القاضي الشيخ محمد بن الساسي في ثلة من أهل العلم حسب عادته من يوم نهضت الجمعية بهذا الواجب وكان فضيلته من أول من لبى دعوتها ونهض به معها. أكمل شعبان ثلاثين وفي مساء الأربعاء رأى الهلال بقرية أم البواقي جمع كثير من الناس. وأخبرتنا بذلك هيأة الشعبة ولم نحتج إلى إعلان الخبر لأن رمضان قد يثبت بعد- قطعا- بكمال شعبان ثم من الغد جاءتنا الأخبار من جهات عديدة بأنهم رأوه ليلة الخميس. إدارة البريد: كاتب رئيس الجمعية مدير البريد بالعاصمة يرغب منه أن يأمر ببقاء التيليفون مفتوحا بالمراكز الصغرى التي يغلق فيها باكرا- إلى الساعة

الهيئة الشرعية بالعاصمة

العاشرة من ليلة الأربعاء وقد كلمتنا بعضها متأخرة فنظن أنه أمر بذلك، فنشكره. (الهيئة الشرعية بالعاصمة): كنا في السنوات الماضية لما يثبت الهلال في مجمة قسنطينة ونحأول الاتصال- تيلفونيا- بمفتي العاصمة أو قاضيها لا نجد إلا ذلك سبيلا حتى نرغب من بعض الفضلاء من إخواننا الجزائريين الذين نخاطبهم كالسيد ابن صيام والسيد ابن المرابط- أن يذهبوا إليهما ويعلموهما فلا يجدون منهم عناية لأن الذي كان يسيطر على الهيئة الدينية هو إمام الجامع الكبير المعروف (1) وكان بقلبه مرض من قسنطينة ومن جمعية العلماء فلا يريد أن يقبل كل ما يأتي من قسنطينة وإن كان من محكمة الشيخ القاضي وبحكمه لما فيه من دخل من عناية الجمعية، حتى أنه في السنة الماضية خوطب هو نفسه من محكمة الشيخ القاضي فأبى إلا العناد كما نشرناه وعلمه الناس في وقته. أما في هذه السنة- والحمد لله- فقد قطع الله اليد الظالمة وانقذ منها الهيئة الدينية فتألفت الهيئة الشرعية من فضيلتي الشيخ القاضي والشيخ المفتي وغيرهما وتصدت للعناية بأمر الهلال وجلست بمحلها ليلة الأربعاء لانتظار الأخبار وشاهد الناس بالعاصمة مظهرا من العناية الدينية لم يشهدوه من قبل. فنشكر الهيئة على ما قامت به ونرجو لها الاستمرار في هذا المنهج الحميد الذي هي أهله. (رجاء من أصحاب الفضيلة القضاة والمفاتي): ندعو فضيلاتكم- باسم الدين والأخوة فيه- إلى القيام بهذا

_ (1) هو الشيخ بن الحاج كحول ولا وجه لستر من لا يستتر (المؤلف).

رجاء من الأمة

الواجب العظيم فينتصبوا بمحلاتهم ليلة الثلاثين لتلقي الأخبار بعضهم من بعض وليتلقي الأخبار من الناس. (رجاء من الأمة): إن ليلة الثلاثين هي ليلة الجمعة فيجب لرؤية الهلال وعلى كل من رأى وتحقق أن يرى غيره- إن كان معه- ويبادر برفع رؤيته إلى أقرب محكمة إليه، ومن المحتمل القوي أن يرى هلال شوال ليلة الجمعة إذا لم يمنع منه غيم لأن علماء الفلك متفقون على أن هلال رمضان كان استهل نهار الثلاثاء وما منع من رؤيته ليلة الأربعاء إلا عموم الغيم ويؤيد قولهم شيوع رؤيته ليلة الخميس. (إلى رؤساء شعب الجمعية): نرجوا من إخواننا رؤساء شعب الجمعية أن يحثوا الناس على هذا الواجب كما هي عادتهم- شكر الله لهم- فبفضل الله ثم بعنايتكم انتشرت هذه الروح من العناية الدينية والتعاون المشروع المحمود وتلك هي غاية الجمعية وقد وصلنا إلى معظمها والحمد لله، ونرجو من الله المزيد فنعم المولى ونعم النصير. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة1 العدد2 الجزائر يوم الجمعة 15 شوال المبارك 1354 هـ الموافق ليوم 10 جانفى 1936م صفحة 7 العمود الثانى والثالث.

الإصلاح أمس واليوم

الإصلاح أمس واليوم أول من نادى بالإصلاح الديني علما وعملا نداء سمعه العالم الإسلامي كله في عصرنا هذا هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأول من قام بخدمته بنشرة إسلامية عالمية هو تلميذه حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. رحمهما الله وجازاهما عن الإسلام والمسلمين خيرا ما جازى به المجددين لهذا الدين. ومن عدل الله وحكمته أن كان مبعث هذه الدعوة الإصلاحية هو مصر. مصر التي هي مبعث أكثر البدع والضلالات الاعتقادية والعملية من يوم انتصبت فيها دولة الفاطميين فرسخت فيها البدع الطرقية وغير الطرقية- والطرق حيثما كانت فهي تكأة وملجأ البدع والخرافات- وصارت الخطة الطرقية من الخطط الإسلامية في الحكومات المصرية التي تحميها وتؤيدها فصارت البدع والضلالات رسمية في نظر المسلمين وغير المسلمين وجاء الأزهر وأهل الأزهر- إلا قليلا- على دين الدولة وهوى العامة يقرون تلك البدع والضلالات بسكوتهم بل بمشاركتهم العملية وتأييدهم الفعلي والقولي وما ينتشر عنهم من كتب وتلاميذ. أما الجامعان اللذان يذكران مع الأزهر بشمالنا الإفريقي وهما الزيتونة بتونس والقرويون بفاس- فهما- إلا قليلا- كما قال الأول: وَمَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ أُمَّ عَمْرٍو … بِصَاحِبِكِ الَّذِي لَا تَصْبَحِينَا وكيف يكون حال العالم الإسلامي ومراكزه العلمية الدينية في ذلك الضلال المبين؟ ..

جاءت الدعوة الإصلاحية ومصر والعالم الإسلامي على تلك الحال فاصطدمت بقوة ما كانت تثبت لها لولا قوة الحق والإيمان. ومضى ثلث قرن أو يزيد والدعوة الإصلاحية تنتشر وتتقدم وتنقص البدع والضلالات من أطرافها ولكنه لم تقم في أمة إسلامية هيئة علمية منظمة تعلن الدعوة إعلانا عاما وتصمد للمقاومة غير مبالية بما يؤبد البدع والضلالات من سلطان ديني وسلطان دنيوي- غير الأمة الجزائربة فكان من علمائها الأحرار المستقلين الذين لا يعيشون على الوظيف أولئك الذين نهضوا بالدعوة الإصلاحية منذ بضع عشرة سنة وجاهدوا فيها لله وصابروا وأسسوا لها أعظم مؤسسة دينية- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- حتى أصبحت الدعوة الإصلاحية- والفضل لله والحمد لله- ثابتة الأركان مشيدة البنيان باسقة الأفنان دانية الثمار وارفة الظلال- لا على الجزائر وحدها بل على الشمال الإفريقي كله. لم يبق للمتشبثين بالبدع والضلالات والأوهام والخرافات من شبهة يتمسكون بها ويستندون إليها إلا طرقية مصر وعلماء مصر ورجال الأزهر. وكانت- لا كانت- شبهة لبس بها الشيطان كثيرا وأضل بها العوام وأيد بها حزبه وشغب بها على حزب الله. وكنا على اليقين من أن الله سيزيل هذه الشبهة، ويزيح هذه المحنة ويؤيد العلماء المصلحين في الأزهر فيصبح الأزهر- حجة للمصلحين ومصدر هداية للمسلمين وقد حقق الله الرجا وأصبح الأزهر اليوم يؤلف من رجاله الرسميين، لجانا للقيام بالإصلاح الديني علما وعملا، ومن ورائه الحكومة المصرية تؤيده وتسنده كما تراه في المقال التالي الذي نقلناه من جرائد مصر. فما أعظمها بشرى نزفها للمسلمين ولقرائنا في ختام هذه السنة الحادية عشرة من عمر مجلتهم فتكون أعظم ما نهنيهم به في هذا العيد، عيد النحر السعيد راجين من الله المزيد {كَتَبَ اللَّهُ

لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} آمين والحمد لله رب العالين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ج12، م11، ص646 - 647 غرة ذي الحجة1345هـ - مارس 1936.

إحتفال جمعية التربية والتعليم الإسلامية بالحجاج

إحتفال جمعية التربية والتعليم الإسلامية بالحجاج وتعرض الحكومة لها بعد إذنها (1) ــــــــــــــــــــــــــــــ جرت عادة الجمعية أن تحتفل بالحجاج وكانت تحتفل بهم في (نادي الإتحاد) وكان يضيق عن أفواج الراغبين في السلام على الحجاج والتبرك بهم فرأت هذا العام أن تحتفل بهم في الجامع الكبير فذهب السيد (الحاج إدريس) المحامي كاتبها العام والنائب البلدي والسيد (حسين بن شريف) أمين مالميتها والنائب البلدي فطلبا الإذن من الكاتب العام بدار العمالة فإذن لهم وبعد هذا الإذن أصدرت الجمعية منشورا على الناس يوم الثلاثاء هذا نصه: جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة تكريم حجاج بيت الله الحرام: تبتهج النفوس وتنشرح الصدور بقدوم وفد الله وحجاج بيته الحرم حديثي عهد بتلك الديار المطهرة، والآثار الكريمة، فيود كل مسلم أن يراهم وأن يلتمس الخير من الاجتماع بهم. لكن ذهاب أفواج الناس إليهم في بيوتهم فيه ما فيه من التثقيل عليهم والكلفة لأهلهم، والسرف المذموم فيما يضطرون لتقديمه لقاصديهم، حتى ليكاد يقارب الذي ينفقونه عند قدومهم ما أنفقوه في حجهم. وهذا كله من الحرج والتكلف والتبذير التي نهينا عنها.

_ (1) نشر هذا المقال أيضا فى الشهاب: ج2، م12، ص 75 - 78 بتاريخ غرة صفر 1355هـ - ماي 1936م

فالجمعية تدعو إخواننا المسلمين أن يقلعوا عن هذه المنهيات وأن ينكفوا عن الذهاب إلى الحجاج في بيوتهم إلا من كان من أقاربهم. والجمعية قد عزمت على تكريم الحجاج مساء يوم الجمعة القابلة إثر صلاة العصر بالجامع الكبير إن شاء الله تعالى. فهي تدعو جميع المسلمين إلى الإتيان إليهم والتبرك بهم. وبهذا نكون قد اجتمعنا بوفد الله، في بيت الله، وسلمنا مما نهي عنه الله. فيتضاعف إن شاء الله الأجر، ويتكاثر الغنم، ويتجلى جمال المظهر، ويحسن عند الله وعند الناس الأثر. جمع الله قلوبنا على الحق، وأقوالنا على الصدق وأعمالنا على العدل والإحسان، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عن الجمعية: الرئيس عبد الحميد بن باديس وفي صبيحة الأربعاء استدعت الإدارة السيد (الحاج إدريس) والسيد (حسين) ولغياب السيد الحاج إدريس ذهب مكانه مع السيد حسين السيد (محمد الشريفه ابن الابيض) المحامي والنائب البلدي والعضو في الجمعية فأخبرهما الكاتب العام بالرجوع في ذلك الإذن لعدم جواز الاجتماع في الجامع فأعلماه بما أصدرته الجمعية من الإعلان بالاجتماع للعموم بناء على إذنه المتقدم، وبعد مراجعة طويلة أوقف الأامر النهائي على مراجعة عامل العمالة السيد البريفي. وفي مساء الأربعاء سافرت إلى (عنابة) لمقابلة الحجاج صبيحة الخميس فلما نزلت بدار السيد (الحاج الخوجة) رئيس شعبة جمعية العلماء أخبرني أن السيد بريفي يسأل عن قدومي وأمره أن يخبره عني بمجرد قدومي ولما أخبره إذ ذاك بقدومي طلب حضوري لديه

مع السيد الخوجة على السابعة صباح الخميس. ولما ذهبنا إليه في الموعد أخبرني بأن السيد البريفي يمنع من إقامة الاحتفال بالجامع وينكر إعطاء الإذن، فأجبته بأن الناس سوف يجتمعون لأجل المنشور الذي وزع عليهم بعد إذن خليفة البريفي وأما الاحتفال فلا يقام. رأيت بعد خروجي من عند السيد بريفي أن هذا الأمر لا يجوز السكوت عليه فليس من اللائق بإدارة محترمة أن تضطرب هذا الاضطراب ولا من اللائق بجمعية محترمة أن تعامل هذه المعاملة وعلمت ما يتركه هذا العمل في قلوب المسلمين من الأثر السيء والكدر التام، فبادرت إلى إرسال برقية إلى دار العمالة بقسنطينة، ومثلها إلى دار الولاية العامة ذكرت فيها أن المنشور ما كان إلا بعد الإذن واستنكرت الرجوع في الإذن وأعربت عن الاستياء الذي يحصل من منع المسلمين من إقامة احتفال ديني محض في مسجدهم ونصحت بالرجوع عن المنع في صالح الجميع. قفلت إلى قسنطينة مساء الخميس ومكثت صبيحة الجمعة أنتظر جوابا عن برقيتي فلم يأت عنها جواب. لما صليت عصر الجمعة جاءني جماعة من المسلمين فذكروا أن الجامع الكبير قد غص بالناس وأنهم في انتظارك وأنهم لا يتفرقون إلا إذا أتيت فذهبت إلى الجامع الكبير فوجدت رؤساء الشرطة ورجالها قد اكتنفوا بابي الجامع، ووجدت الجامع غاص الرحاب بالناس. فشققت طريقي إلى المحراب حيث وجدت جمعا من الحجاج أربعة عشر أوأكثر فسلمت ثم توجهت للناس فبشرتهم بما لهم عند الله باجتماعهم في بيته لإكرام وفده، ثم أعلمته (1) بمنع الحكومة من إقامة الاحتفال الذي هو عبارة عن تلاوة آيات من القرآن العظيم وإلقاء خطاب ديني فيه

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: أعلمتهم.

تذكير وتشويق وتبشير ولاجل أن أخفف على الناس ما أصابهم من الألم من صدمة المنع قلت لهم: حسبكم أن عملكم قد وقع عند الله وأن نتوجه كلنا بالدعاء إليه وإخواننا الحجاج يدعون الله لكم وبعد الدعاء قام الحجاج ووقفوا عند باب بيت الصلاة فسلموا عليهم وصافحوهم مهنئين متبركين. الملاحظات: 1 - ما كان رجوح عامل العمالة في الإذن الذي أعطاه خليفته إلا بعد سعي من المفتي (ابن الموهوب) وتحريش وتهويل، وقد علم السيد (ابن الابيض) لما خاطبه السيد البريفي لغيبتي في "عنابة" أن المسألة أثارتها الناحية الرسمية في الجامع الكبير. 2 - برهنت الأمة باجتماعها الهائل بالجامع الكبير على أنها تعرف قيمة الناس فلم تلتفت إلى ما نشرته صحيفة معلومة من الصد والتثبيط، ولا ما نشره في أوراق ووزعها من لم يجسر أن يصرح باسمه تحت أوراقه ... 3 - ما يزال بعض الرجال في الإدارات يغترون ببعض الرسميين الذين لا قيمة لهم عند الأمة حتى يوقعوهم فيما لا ينبغي. إننا نود أن تعرف الحكومة مقدار تعلق الأمة بمساجدها ورغبتها في عمارتها بأمور دينها فترجع عن معأرضتها فيها ومنعها منها فتكسب شيئا من قلوبها وصادق شكرها. عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة

_ البصائر: السنة1 العدد14 الصفحة1 و2 العمود الأول الجزائر في يوم الجمعة 18 الحرم الحرام 1355هـ الموافق ليوم 10 أفريل 1936م.

شيخ الإسلام بتونس

شيخ الإسلام بتونس يقاوم السنة، ويؤيد البدعة، ويغري السلطة بالمسلمين!! ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - نطق (شيخ الإسلام) - والحمد لله- بعد سكوت مألوف منذ السنين الطوال، وإن كان أتى بما لا يرضي الله ورسوله، والحق ودليله، فقد نطق على كل حال. ولقد كان نطقه متوقعا لدينا. فقد كان المقال المنشور بالعدد الحادي عشر من (البصائر) الموجه إلى علماء الزيتونة عامة وشيخي الإسلام به خاصة، قنبلة وقعت وسط أولئك النائمين والمتناومين أزعجتهم في مراقدم ونبهت من كان غافلا عنهم من الناس، حتى لقد تسابق الناس إلى ذلك العدد يطلبونه بأضعاف ثمنه كما أخبرني تلامذتي الذين رجعوا من تونس لتعطيل القراءة بجامع الزيتونة بسبب البلاغ المشهور وما لحق تلامذة الجامع من سجن وتغريب. إننا نشكر لشيخ الإسلام المالكي هبوطه إلى الميدان، وإن كان هبط إليه هبوط المغيظ المحنق الذي أنساه الغيظ والحنق ما يناسب مقامه من التحري والاتزان، فتعثر في أذيال العجب والتعظم عثرات أهوت به مرات في مهاوي الخطأ والتناقض حتى تردى في هودة إذاية أنصار السنة باللسان، ومحأولة إذايتهم بيد العدوان. شيخ الإسلام يقاوم السنة- ويؤيد البدعة-! ويغري (السلطة) بالمسلمين!! هذا- والله- عظيم وإن كان القارىء يود أن يعرف من هو هذا الذي تحلى بهذا اللقب وأتى بهذه الشنع التي لا يأتي

بها من ينتمي انتماء صادقا للإسلام من عامة المسلمين فكيف بشيخ الإسلام؟ نعم كل أحد يتعجب نهاية العجب أن يصدر هذا من شيخ الإسلام. ويزيد كاتب هذه السطور عجبا آخر فوق عجب كل أحد أن شيخه وأستاذه وصديقه الشيخ الطاهر بن عاشور هو الذي يأتي بهذا الباطل ويرتي هذا الذنب. إنني امرؤ جبلت على حب شيوخي وأساتذتي وعلى احترامهم إلى حد بعيد، وخصوصا بعضهم، وأستاذي هذا من ذلك الخصوص، ولكن ماذا أصنع إذا ابتليت بهم في ميدان الدفاح عن الحق ونصرته؟ لا يسعني وأنا مسلم أدين بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، إلا مقاومتهم ورد عاديتهم عن الحق وأهله. دعونى- يا قرائي الأفاضل- أحدثكم عن شيء من حقيقة هذا الرجل كما عرفته وعن علاقتي به وأثره في حياتي فإن هذا وفاء لحق تلك الصحبة والأستاذية يهوِّن عليَّ ما أجابهه به بعد. عرفت هذا الأستاذ في جامع الزيتونة، وهو ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما بالرسوخ في العلم والتحقيق في النظر والسمو والاتساع في التفكير أولهما العلامة الأستاذ شيخنا (محمد النخلي) القيرواني رحمه الله، وثانيهنا العلامة الأستاذ شيخنا (الطاهر بن عاشور) وكانا كما يشار إليهما بالصفات التي ذكرنا يشار إليهما بالضلال والبدعة

وما هو أكثر من ذلك لأنهما كانا يحبذان آراء الأستاذ (محمد عبده) في الإصلاح ويناضلان عنها ويبثانها فيمن يقرأ عليهما وكان هذا مما استطاع به الوسط الزيتوني أن يصرفني عنهما، وما تخلصت من تلك البيئة الجامدة واتصلت بهما حتى حصلت على شهادة العالمية ووجدت لنفسي حرية الاختيار. فاتصلت بهما عامين كاملين كان لهما في حياتي العلمية أعظم الأثر على أن الأستاذ ابن عاشور اتصلت به قبل نيل الشهادة بسنة فكان ذلك تمهيدا لاتصالي الوثيق بالأستاذ النخلي. وإن أنس فلا أنسى دورسًا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب وبثت في روحًا جديداً في فهم المنظوم والمنثور وأحيت مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام. مات الأستاذ النخلي على ما عاش عليه، وبقي الأستاذ ابن عاشور حتى دخل سلك القضاء فخبت تلك الشعلة وتبدلت تلك الروح فحدثني من حضر دروسه في التفسير أنه- وهو من أعرف إنكاره على الطرق اللفظية وأساليبها- قد أصبح لا يخرج عن المألوف في الجامع من المناقشات اللفظية على طريقة عبد الحكيم في مماحكاته وطرائق أمثاله وبقي حتى تقلد خطة شيخ الإسلام، ووقف هو وزميله الحنفي في مسألة التجنيس المعروفة منذ بضع سنوات، ذلك الموقف حتى أصبح اسمه لا يذكر عند الأمة التونسية إلا بما يذكر به مثله. وها هو اليوم يتقدم بمقال نشره بجرييدة (الزهرة) في عدد يوم الإثنين الرابع عشر من هذا الشهر الحرم يقاوم فيه السنة ويؤيد فيه البدعة ويغري السلطة بالمسلمين. فهل ابن عاشور هذا اللقب بشيخ الاسلام، هو ابن عاشور أستاذي الذي أعرف؟ لا! ذلك رجل آخر مضى قضى عليه القضاء وأقبرته المشيخة، وقد أديت له حقه بما ذكرته به. وهذا مخلوق آخر ليس

موقفه اليوم أول مواقفه ولا أحسبه يكون آخرها. وإنني لا أود أن يكون آخرها. فإن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة ما ينطوي عليه مثله ممن ينتحلون ألقابا مخترعة في الإسلام، ولا يفضحهم مثل مقال هذا الرجل. وموعدنا بالرد عليه لعدد (1) الآتي أن شاء الله، والله المستعان (2). عبد الحميد بن باديس -2 - سئل فضيلته عن حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت، وحول قبره عند دفنه، فأجاب بقوله: "أن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت للتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت، بالمغفرة والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة. وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمان الصحابة، إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر الدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت، عند موته على خلاف فيه، ولهذا كان ترك القراءة هو السنة وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة". هذه هي السنة وقد بينها أوضح تبيين، وعللها أحسن تعليل،

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: للعدد. (2) البصائر: السنة الأولى، العدد 16، الجزائر، الجمعة 2 صفر 1355 هـ 24 أفريل 1936م.

ثم أنظر إليه كيف أخذ يقاومها فقال: "وحينئذ فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إما مكروهة وإما مباحة غير سنة، فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها دون بعض". إذا كان ترك القراءة هو السنة، فالقراءة قطعا بدعة إذ ما فعله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من القربات ففعله سنة وما تركه مما يحسب قرابة مع وجود سببه فتركه هو السنة وفعله قطعا بدعة. والقراءة في هذه المواطن الثلاثة التي حسب أنها قربة قد وجد سببها في زمنه فمات الناس وشيع جنائزهم وحضر دفنهم، ولم يفعل هذا الذي حسب- اليوم- قربة ومن المستحيل- شرعا- أن يترك قربة مع وجود سببها بين يديه ثم يهتدي إليها من يجيء من بعده ويسبق هو إلى قربة فاتت محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه والسلف الصالح من أمته. ولا يكون الإقدام على إحداث شيء للتقرب به مع ترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- له مع وجود سببه إلا افتئاتا عليه وتشريعا من بعده وادعاءً - ضمنيا- للتفوق عليه في معرفة ما يتقرب به والحرص عليه، والهداية إليه، فلن يكون فعل ما تركه- والحالة ما ذكر- من المباحات أبدا بل لا يكون إلا من البدع المنكرات. فبطل قوله: "وإما مباحة غير سنة". بعد هذه المقاومة بالباطل فرع عليها مقاومة بالتناقض فقال: "فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها". أفيجهل أحد أن المباح هو ما استوى فعله وتركه وأن المندوب هو ما ترجح فعله على تركه. أو أن المباح من حيث ذاته غير مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك، وأن المندوب مطلوب الفعل فكيف يتصور أن القراءة إذا كانت مباحة تكون مندوبة في الجميع أو في البعض، أم كيف يتفرع الضد عن ضده؟؟ ولما ثبت أن ترك القراءة هو السنة وأن القراءة بدعة فأقل ما يقال فيها أنها مكروهة، ولا خلاف بين

المالكية، أن الكراهة هي مذهب مالك وجمهور أصحابه، وقد نقل فضيلته سماع أشهب من العتبية قال: "سئل مالك عن قراءة يس عند رأس الميت، فقال: ما سمعت بهذا وما هو من عمل الناس"، فهذا تصريح منه بأنه رده لأنه محدث ليس عليه عمل السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين. وإذا كان هذا قوله فيما جاء فيه أثر وهو قراءة يس عند رأس الميت فغير هذا الوطن مما لا أثر فيه، أولى وأحرى بالكراهة. والتعليل بأنه ليس عليه عمل الناس يفيد أن مجرد فعل القراءة مكروه لأنه عمل مخالف لعملهم دون التفات إلى أنه اعتقد أن ذلك سنة أو لم يعتقد. إذ ما فعله إلا وهو ويعتقد أنه قربة في تلك المواطن فيكون قصد القربة بما لم يجعله الشارع قربة، وهذا مقتض للكراهة، فقصد القربة وحده كاف في الكراهة دون حاجة إلى اعتقاد أنه سنة وبهذا بطل تأويل من تأول كلام مالك بمن قصد أنه سنة. وبعد أن ثبت أن قراءة القرآن العظيم في تلك المواطن بدعة، وأنها مكروهة فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم؟ ذهب الإمام الشاطبي إلى أن الكراهة حيثما عبر بها في البدعة فهي كراهة تحريم على تفاوت مراتبها في ذلك وساق على ذلك جملة من الأدلة الكافية في الباب السادس من كتابه الاعتصام، فأجمل فضيلته في الإشارة إلى مذهب الشاطبي إجمالا أظهره به مظهر من تكلم في خصوص هذه المسألة فتوهم وتقوَّل على الإمام فقال: "وليس المراد بالكراهة الحرمة كما توهمه الشاطبي في كتاب الاعتصام مستندا إلى أن الإمام قد يعبر بالكراهة ويعني بها الحرمة لأن كلام مالك لم يقع فيه لفظ الكراهة بل هي من تعبير فقهاء مذهبه تفسيرا لمراده. لأن علماء مذهبه متفقون على أنَّ مراد مالك من كلامه في المدونة وفي السماع هو الكراهة بالمعنى المصطلح عليه في الفقه، ولأن دليل التحريم لا وجود له فحمل

كلام مالك عليه تقول عليه والإقدام على التحريم ليس بالهين إذ لم تقم عليه الأدلة الصريحة". لم ينصف فضيلته الشاطبي في الصورة التي صور بها كلامه وفيما رواه به. وكل ذلك لأجل أن يتوصل إلى تهوين ارتكاب بدعة القراءة في المواطن الثلاثة لأنها من المكروه الذي لا يعاقب على فعله ونحن نذكر فيما يلي ما هو تلخيص لبعض ما استدل به الشاطبي وزيادة عليه: إن من ابتدع مثل هذه البدعة التي هي تقرب فيما لم يكن قربة كأنه يرى أن طاعة لله بقيت تنقص هذه الشريعة فهو يستدركها وأن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خفيت عليه قربة هو اهتدى إليها أو لم تخف عليه ولكنه كتمها. وهذه كلها مهلكات لصاحبيها فلا يكون ما أوقعه فيها من ابتداع تلك التي يحسبها قربة إلا محرما. وقد قال مالك فيما سمعه من ابن الماجشون: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"، هذا من جهة النظر المؤيد بكلام مالك. وأما من جهة الأثر فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وفيه عن أبي هرير قال قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «مندعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». ووجه الدليل من الحديثين أنه سمى في الحديث الأول البدعة شراً وضلالا فعم ولم يخص، وأثبت الإثم لمرتكب الضلالة والدَّاعي إليها والإثم لا يكون

إلا في الحرام فيكون النظر هكذا: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة يؤثم صاحبها، فكل بدعة يؤثم صاحبها، وكل ما يؤثم عليه فهو حرام: فكل بدعة حرام. وقد دخلت بدعة اختراع القرب في قوله: "وكل بدعة ضلالة" بمقتضى عموم اللفظ. ويدل على دخولها ما ثبت في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- رد على من قال أما أنا فأقوم الليل، ولا أنام، وعلى من قال أما أنا فلا أنكح النساء، وعلى من قال أما أنا فأصوم ولا أفطر، رد عليهم بقوله: «من رغب عن سنتي فليس مني» ولم يكن ما التزموه إلا فعل مندوب في أصله أو ترك مندوب ومع ذلك رد عليهم بتلك العبارة التي هي أشد شيء في الإنكار فكل من أراد أن يتقرب بما لم يكن قربة فهو مردود عليه بمثل هذه العبارة الشديدة في الإنكار. ويدل أيضا على دخولها ما ثبت في الصحيح عن قيس بن حازم قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها، فقال: حجت مصمتة، قال لها: «تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية» فهذه أرادت أن تتقرب بما ليس قربة فجعل عملها من عمل الجاهلية وقال: أنه لا يحل فكل مريد للتقرب بما لم يكن قربة فيقال في فعله ما قيل في فعلها. ووجه الدليل من الحديثين أن التقرب بما ليس قربة أنكر أشد الإنكار وقيل فيه لا يحل، وقيل فيه من عمل الجاهلية فلا يكون بعد هذا كله إلا ضلالا فيدخل- قطعا- في عموم قوله: «وكل بدعة ضلالة» فيثبت له التحريم بالنظر المتقدم. (لها بقية) (عبد الحميد بن باديس)

_ البصائر السنة 1، العدد 17، الصفحة 1، العمود 2 و3 من صفحة 2، الجزائر في يوم الجمعة 9 صفر 1355 هجرية، الموافق ليوم 1 ماي 1936م.

-3 - ودخول بدعة التقرب بما ليس قربة مثل القراءة في المواطن الثلاثة، قد فهمه مالك وجاء في كلامه ما هو صريح في ذلك. فروي في- الموطأ- حديث أن النيَّ- صلى الله عليه وآله وسلم- رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صومه» قال مالك: أمره أن يتم ما كان لله طاعة (وهو الصيام) ويترك ما كان لله معصية. وروى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، قال مالك: معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر أو إلى الربذة. فقد جعل مالك القيام للشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الأماكن المذكورة معاصي، وفسر لفظ المعصية في الحديث بها، مع أنها في نفسها أشياء مباحات، لكنه لما أجراها مجرى القربة- وليست قربة- حتى نذر التقرب بها وصارت معاصي لله وليس سبب المعصية أنه نذر التقرب بها حتى أنه لو فعلها متقربا دون نذر لكانت مباحة، بل مجرد التقرب بها وليست هي قربة موجب لكونها معصية عند مالك. والدليل على ذلك ما حكاه ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالكا بن أنس، واتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-. فقال إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال الرجل: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال

أزيدها، قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. فهذا الرجل لا نذر في كلامه وقد أراد الإحرام- وهو في نفسه عبادة- من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- وموضع قبره. وأراد أن يزيد أميالا تقرباً لله تعالى بإيقاع الإحرام بذلك الموضع الشريف وزيادة التعب بالأميال. ومع ذلك رده مالك عن ذلك وبيَّن له قبح فعله بما يراه لنفسه من السبق وقرأ عليه الآية مستدلا بها وما كان مثل هذا داخلا في الآية عنده ألا وهو يراه حراما. فهذا هو مستند الشاطبي في فهم كلام مالك والحكم بأنه يرى في كل بدعة تقرب بما ليس قربة الحرمة لا كراهة التنزيه. فلم يكن متوهما ولا متقولا ولا مقدما على التحريم بدون دليل. وقد بان مما تقدم أن الحكم على بدعة التقرب بما ليس قربة محكوم عليها بالضلالة والحرمة وأن ذلك هو مذهب إمام دار الهجرة، وبعد ثبوت الحق بالدليل، سقط كل قال وقيل، ونزيد على ذلك الآن ما قاله فقهاؤنا المتأخرون في بدع الجنائز من القراءة ونحوها: "سئل أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها من جهرهم بالتهليل والتصلية والتبشير والتنذير ونحو ذلك على صوت واحد أمام الجنازة. كيف حكم ذلك في الشرع؟. فأجاب: السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار. خرَّج ابن المبارك أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمت وأكثر حديث نفسه. قال فكانوا

يرون أنه يحدث نفسه بأمر الميت وما يرد عليه وما هو مسؤول عنه. وذكر ذلك أن مطرفا كان يلقى الرجل من إخوانه في الجنازة وعسى أن يكون غائبا فما يزيد على التسليم يعرض عنه اشتغالا بما هو فيه فهكذا كان السلف الصالح. واتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة: وذكر الله والصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وآه وسلم- عمل صالح مرغب فيه في الجملة لكن للشرع توقيت وتحديد في وظائف الأعمال، وتخصيص يختلف باختلاف الأحوال والصلاة وإن كانت مناجاة الرب، وفي ذلك قرة عين العبد، تدخل في أوقات تحت ترجمة الكراهة والمنع. والله يحكم ما يريد ". ا. هـ، وقال أبو سعيد في جواب آخر: أن ذكر الله والصلاة على رسوله عليه السلام من أفضل الأعمال وجميعه حسن لكن للشرع وظائف وقَّتها وأذكار عيَّنها في أوقات وقتها، فوضع وظيفة موضع أخرى بدعة، وإقرار الوظائف في محلها سنة، وتبقى وظائف الأعمال في حَمل الجنائز إنما هو الصمت والتفكر والاعتبار. وتبديل هذه الوظائف بغيرها تشريع. ومن البدع في الدين، ا. هـ. وقال أبو سعيد في جواب آخر: المنقول عن السلف الصالح- رضي الله عنهم- في المشي مع الجنائز هو الصمت والتفكر في فتنة القبر وسؤاله وشدائده وأهواله. وكان أحدهم إذا قدم من سفره فيلقاه أحد إخوانه بين يدي الجنائز لم يزد على السلام إقبالا على الصمت، واشتغالا بالتفكر في أحوال القبر، والخير كله في اتباعهم وموافقتهم في فعل ما فعلوه. وترك ما تركوه، ا. هـ. نقل هذا كله الوانشريسي في المعيار وهذه هي فتوى أبي سعيد بن لب في موضوعنا المنطبقة على كل ما أحدث من الأوضاع بقصد التقرب وليست قربة في هذه المواضع وإن كانت حسنة في أصلها وقد رأيت

إنكاره لها، فترك هذا كله فضيلة. ونقل كلاما آخر لأبي سعيد خارجا عن الموضوع كما سنبينه عندما ننتهي إليه. ونعود الآن إلى بقية ما قاله فقهاؤنا عليهم الرحمة والرضوان. وسئل الإمام عبد الله العبدوسي ما حكم القراءة بين يدي الجنازة، وكذلك ما يفعله الفقراء (هم الإخوان الطرقيون) أمامها. فأجاب: وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة لأنه بدعة ومباهاة. ويقال لولي الجنازة ما تعطيه للفقراء تأثم عليه. أعطه للمساكين صدقة عن وليك الميت فذلك أنفع وأبقى لكما إلى الآخرة. والجنازة على الاعتبار والتذكير والاستبصار والإقبال على أمر الآخرة. وكان السلف الصالح- رضي الله عنهم- يبكون ويحزنون حتى لا يدري الغريب بينهم ولي الميت من غيره، ا. هـ. نقلها من المعيار. وأنت تراه كيف أفتى بوجوب تغيير هذه البدعة المنكرة وجعل ما يعطى للقائمين بها جالبا للإثم على من أعطى. ذلك لأنه أعان على المنكر. والمعين على المنكر كفاعله. وعقد الوانشريسي فصلا قبيل نوازل النكاح ذكر فيه البدع فجزم ببدعية هذه المحدثات عند الجنائز فقال: ومنها الذكر الجهري أمام الجنائز فإن السنة في اتباع الجنازة الصمت والتفكر والاعتبار وهو فعل السلف. واتباعهم سنة، ومخالفتهم بدعة. وقد قال مالك: لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. ا. هـ، فهذه أقوال الفقهاء أهل الفتوى الجارية على أصل مذهب مالك الجاري على مقتضى تلك الأدلة التي بينا، وعليها بنينا. (عبد الحميد بن باريس)

_ البصائر: السنة العدد 18 الجزائر في يوم الجمعة 16 صفر 1355هـ الموافق ليوم 8 ماي 1936م الصفحة 1 والعمود 1 و2 من الصفحة 2.

-4 - لو أردنا الاقتصار في المسألة على ما أقمناه من الاستدلال عليها. ثم ما ذكرنا من أنها قول مالك ومشهور مذهبه، وما نقلنا من فتوى أهل الفتوى من المتأخرين- لكفانا ذلك في بيان الحق بدليله والتأيد بالسابقين إليه. ولكن رأينا في ما نقله فضيلته إبهاما وإيهاما وتحريفا، فوجب أن نتتبعه بالبيان. قال فضيلته: (وذهب اللخمي وابن يونس وابن رشد وابن العربي والقرطبي وابن الحاجب وابن عرفة من أئمة المالكية إلى أن القراءة مستحبة في المواطن الثلاثة، إذا أريد إهداء ثوابها إلى الميت). هنا مسألتان إحداهما هي انتفاع الميت بإهداء القراءة إليه هكذا على الإطلاق، وهذه ليست محل النزاع. والأخرى هي قراءة الجماعة على الميت عند موته وعند رفعه وعند دفنه على فبره. وهذه هي محل الكلام. وكلامه يوهم بصريحه أن هولاء الأئمة كلهم يستحبون القراءة في المواطن الثلاثة، وقد كان عليه أن يبين مأخذه لا أن يلقي به على هذا الإهمال والإجمال. والذين ذكرهم الموافق في مسألة قراءة يس عند موته هم ابن حبيب وابن رشد وابن يونس واللخمي ولم يقل في المواطن الثلاثة كما قال فضيلته وأما ابن العربي والقرطبي فجاءا في كلام للعبدوسي هكذا: (وأما القراءة على القبر فنصر) ابن رشد في الأجوبة، وابن العربي في أحكام القرآن له، والقرطبي في التذكرة، على أنه ينتفع بالقراءة أعني الميت سواء قرأ على القبر أو قرأ في البيت وبعث الثواب له أو في بلد إلى بلد. وأما شهاب الدين القرافي في القواعد فنص على أنه لا ينتفع بذلك إلا إذا قرأ على القبر مشافهة وهو قول خارج عن المذهب". نقل هذه الفتوى من المعيار ونقلها كنون. وكلام هؤلاء الأئمة إنما هو في أن القراءة يصل ثوابها دون توقف على القراءة

على القبر خلافا لمن شرط ذلك وهو القرافي وليس هو فيما اتخذ سنة للتقرب من القراءة عند دفن الميت على قبره الذي هو موضوعنا. والعبدوسي الذي نقل هذا عنهم هو الذي أفتى- كما قدمنا- بما هو مذهب السلف من السكوت والاعتبار. فلم يفهم من كلام هؤلاء الأئمة- قطعا- خلاف ما أفتى به. وليس عندي مختصر ابن الحاجب ولا مختصر ابن عرفة حتى أعرف ما قالا. وأحسب أنه لو كان لهما قول مقابل لمذهب مالك لذكره شراح مختصر خليل وحواشيهم. ثم قال فضيلته: (وذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله ووافقهما عياض والقرافي من المالكية وبعض الحنفية إلى استحباب القراءة عند القبر خاصة) وكان عليه - أيضا- أن يذكر مأخذه وأحسبه استند في هذا النقل المجمل المبهم على ما نقله كنون والرهوني والحطاب من كلام القرافي، وقد وقع منهم اختصار في نقله أدى إلى اضطراب فيه، فقال الرهوني نقلا عن القرافي: "مذهب أحمد بن حنبل وأبي حنيفة أن القراءة يحصل ثوابها للميت إذا قرىء عند القبر حصل للميت أجر المستمع" فأوهم أن القراءة عند القبر شرط في مذهبهما ووقع غيره في هذا الوهم فنقل عنهما التفريق بين القراءة عند القبر وعند غيره. ونحن ننقل لك كلام القرافي من الفرق الثاني والسبعين بعد المائة لتتجلى لك حقيقة مذهبهما وموضوع كلامهما. قال القرافي: "وقسم اختلف فيه هل فيه حجر (أي منع للعامل من نقله لغيره) أم لا. وهو الصيام والحج وقراءة القرآن فلا يحصل شيء من ذلك للميت عند مالك والشافعي رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل يصل ثواب القراءة للميت. فأنت ترى أن الشافعي موافق لمالك خلافا لما زعمه فضيلته، وأن موضوع الكلام في وصول القراءة للميت لا في اتخاذها قربة في المواطن

الثلاثة. خلافا لما أوهمه الرهوني وتوهمه غيره وخرج به فضيلته عن الموضوع. ثم قال القرافي في الفرق المذكور: "ومن الفقهاء من يقول إذا قرىء عند القبر حصل للميت أجر المستمع، وهو لا يصح أيضا لانعقاد الاجماع على أن الثواب، يتبع الأمر والنهي فما لا أمر فيه ولا نهي لا ثواب فيه بدليل المباحات وأرباب الفترات. والموتى انقطع عنهم الأوامر والنواهي. وإذا لم يكونوا مأمورين لا يكون لهم ثواب وإن كانوا مستمعين. ألا ترى أن البهائم تسمع أصواتنا بالقراءة ولا ثواب لها لعدم الأمر لها بالاستماع فكذلك الموتى. والذي يتجه أن يقال ولا يقع فيه خلاف أنه يحصل لهم بركة القراءة لا ثوابها كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده فإن البركة لا تتوقف على الأمر". فالقرافي بعد ما أيد مذهب مالك ورد على مخالفه ثم على رأي بعض الفقهاء اختار حصول البركة بالقراءة للأموات عند قبورهم، وهو رأي- كما قال العبدوسي فيما تقدم- خارج عن المذهب، ولسنا نكتفي في رده بمجرد أنه خارج عن المذهب بل نرده بأن تحصيل البركة للأموات من خير ما يتقرب به العبد لربه في نفع إخوانه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة وما كانت لتفوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نستدركها عليه فقد حصر الدفن للأموات ولقد زار أهل المقابر وما جاء عنه إلا الدعاء، وما لم يجيء عنه ويدعى أنه قربة فهو البدعة وكل بدعة ضلالة إلى آخر الاستدلال المتقدم. وأما ما نسبه للقاضي عياض فأصله في شرحه على مسلم في حديث القبرين اللذين مر بهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: «أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة

وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا. ثم قال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا». ونقل الأبي كلا عياض فقال: "وأخذت منه تلاوة القرآن على القبر لأنه إذا رجي التخفيف بتسبيح الشجر فالقرآن أولى" فنقول أن هذا من القياس في العبادات وهو مردود في مذهب مالك، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم- كانوا يحفظون القرآن فلو أن قراءة القرآن للتخفيف على الأموات مشروعة لكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- قرأ وأمرهم بالقراءة لكنه لم يقرأ ولم يأمرهم بالقراءة واقتصر على وضع فلقتي العسيب. ومعاذ الله أن يترك الأحرى إلى غير الأحرى كما يقتضيه التمسك بالقياس وأما أمر العسيب والتخفيف به ما دام رطبا فهو كما قال الإمام المازري: "فلعله أوحى إليه أن يخفف عنهما ما داما رطبين ولا وجه يظهر غيره" وكما قال الأبي: "والأظهر أنه من سر الغيب الذي اطلعه الله عليه" ولا يخفى أن كلام هذين الإمامين مما يرد ذلك القياس، لأن القياس حيث يكون ينبني على العلة المشتركة ومبنى ما هنا على سر غيبي خاص. ... عرض فضيلته في القسم الثاني من كلامه إلى حكم تغيير بدعة القراءة في المواطن الثلاثة فقال: "أقصى حكمها في النهي أن تكون من قبيل المكروه والمكروه لا يغير على فاعله". ونحق قد بينا بالاستدلال المتقدم أن بدعة التقرب بما لم يشرع التقرب به في موطن من المواط من لا تكون إلا حراما وأن كراهتها عند مالك كراهة التحريم فيجب تغييرها كما يجب تغيير المحرمات.

وعلى ذلك جاءت فتوى العبدوسي المتقدمة: "وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة" ثم لا نسلم له أن المكروه كراهة التنزيه لا يغير على فاعله. فإن المكروه منهي عنه ومن نهى عن شيء فقد أنكره فهو داخل في المنكر على قدر درجته في والنهي عن المكروه. وقال القرافي في أواخر فروقه: "المسألة الخامسة من التأدية إلى إحداهما والمضار والمفاسد مطلوب زوالها ولا تزال إلا بالتغيير كل بحسب منزلته في الضرر والفساد. والمكروه منهي عنه ونحن مأمورون بتبليغ أوامر الله ونواهيه. وقد نص أصحاب حواشي الرسالة وغيرهم أنه يستحب الأمر بالمندُوب والنهي عن المكروه. وقال القرافي في أواخر فروقه: "المسألة الخامسة المندوبات والمكروهات يدخلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل الإرشاد للورع ولما هو أولى من غير تعنيف ولا توبيخ بل يكون ذلك من باب التعاون على البر والتقوى" لكن فضيلته لا يريد هذا التعاون الذي قد يدرب الناس على الإنكار فيترقوا فيه إلى ما يضر بنواح معينة فهو لهذا يزعم أن غاية هذه البدع أن تكون مكروهة وأن المكروه لا يغير ثم يغري السلطة بالمغيرين! ثم قال فضيلته- مستدلا على عدم التغيير-: "وقد جرى عمل كثير من بلاد الإسلام على اتباع قول الذين رأوا الاستحباب فلأهل الميت الخيار أن يتبعوا السنة أو يتبعوا المستحب". ومعاذ الله أن يكون الترك هو السنة ويكون الفعل مستحبا. إذ معنى هذا أن سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وطريقته هي ترك المستحب فعاش في جميع حياته تاركا لهذا المستحب معرضا عنه زاهدا فيه حتى جاءت الخلوف فأقبلت عليه وتمسكت به فنقول لمن جاء يستفتينا أنت مخير إن شئت تمسكت بسنة محمد- صلى الله عليه

وآله وسلم- وهي الترك، وإن شئت تمسكت بهذا المستحب الذي أحدثته الخلوف. لا كلا! ما كان مقابلا للسنة إلا البدعة. وما كانت البدعة إلا ضلالة إلى آخر الاستدلال المتقدم وقد تقدمت مناقشتنا له فيمن نسب إليهم الاستحباب. ثم أراد فضيلته أن يستدل على أن ما جرى عليه عمل الناس من الخلافات لا يغير فقال: "قال أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره وهو القرن الثامن: أن ما جرى عليه عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يلتمس لهم مخرج شرعي على ما أمكن من وفاق أو خلاف (أي بين العلماء) إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين أو بمشهور من قول قائل". ما يجري، به عمل الناس ينقسم إلى قسمين قسم المعاملات وقسم العبادات. وقسم المعاملات هو الذي يتسع النظر فيه بالمصلحة والقياس والأعراف وهو الذي تجب توسعته على الناس بسعة مدارك الفقه وأقوال الأئمة والاعتبارات المتقدمة، وفي هذا القسم جاء كلام أبي سعيد هذا وغيره وفيه نقله الفقهاء وأنت تراه كيف يعبر بالعرف والعادة. أما قسم العبادات فإنه محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يقبل منه إلا ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يتقرب إلا بما تقرب به وعلى الوجه الذي كان تقربه به ومن نقص فقد أخال ومن زاد فقد ابتدع وشرع وذلك هو الظلام والضلال: ومن هذا القسم التقرب بالقراءة في المواطن الثلاثة بعد ما ثبت أن سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- تركها وفيها جاء كلام ابن سعيد الذي نقلناه عنه فيما تقدم. فمن العجيب- ولا عجب مع الغرض- أن يقلب فضيلته الحال فيهمل كلام أبي سعيد الذي هو في موضوعنا ويأتي بكلام له في موضوع آخر وينزل قوله في قسم المعاملات على ما هو من قسم العبادات.

ثم فرع على ما أبطلناه من رأيه فقال: "وعليه فكل من يتصدى لمنع أقارب الأموات من تشييع جنائزهم بالقراءة فقد أنكر عليهم بغير علم واجترأ عليهم بالتدخل في خاصة أمورهم بدون سبب يحق له ذلك" وإذا ثبت أن ذلك بدعة وضلالة قد أنكرها أهل العلم فمن منع منها منع بعلم. ولو ترك كل مرتكب بدعة ضالة لأن منعه تدخل في خاصة أموره لعم الفساد وغرقت السفينة كما في الحديث المشهور. ثم بين فضيلته ما هو شأن العالم في الإنكار فقال: "وإنما شأن العالم في مثل هذا أن يرغبهم في التأسي بالسنة وبيان أنها الحالة الفضلى بقول لين". وإذا بان أن هذه بدعة وهي ضلالة فإنها تغير بدرجات التغبير الثلاث فمن استطاع تغييرها باليد فلا يجوز له الاقتصار على اللسان، ثم إننا والله لقد وددنا لو ظفرنا بهذا الذي قلت منك ياصاحب الفضيلة وددنا لو أنك قمت مرة واحدة من عمرك- وأنت شيخ الإسلام- فرغبت الناس بالتأسي بالسنة وبينت أنها الحالة الفضلى بقولك اللين، وكلامك العذب الرقيق. ولكن- وياللأسف- كانت أول قومة قمتها هي قومتك هاته التي نحن في معالجتها ودفع أضرارها وغسل أوضارها. ثم جاء فضيلته بالداهية الدهياء: "فإن هم تجاوزوا ذلك فحق على (ولاة الأمور) في البلدان أن يدفعوا عن أهل المآثم عادية من يتصدى بزعمه لتغبير المنكر دون أن يعلم، من كل من تزبب قبل أن يتصرم". أرأيت كيف يغري السلطة بالمصلحين أرأيت كيف يستكبر إنكار من ينكر البدعة، ويسميه عاديا وهو هو الذي لم ينبس ببنت شفة أمام أي عادية من عوادي الزمان؟ .. ليس هذا مقام رد فأرد عليك

مثل ما تقدمه. ولكنه مقام ظلم وتحريش وتحقيق نكل الأمر فيه إلى العزيز الحكيم. إلى هنا ننتهي من البحث الذي بنيناه على النظر والاستدلال لا على مجرد سرد الأقوال. وقد وعد فضيلته بأنه سيتبع فتواه ببيان تأصيل أحكامها ونحن لبيانه هذا من المنتظرين والعاقبة للمتقين. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: ع19 س1 الجزائر يوم الجمعة 23 صفر 1355هـ - لـ 15 ماي 1936م ص1 - 2 وعمود من 3.

حول فتوى القراءة على الأموات

حول فتوى القراءة على الأموات لماذا التذييل، بدل التدليل والتأصيل؟ ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - وعد الشيخ الطاهر بن عاشور في آخر فتواه التي فرغنا من نقضها أنه سيتبعها بأدلتها فقال: "هذا حاصل هذا الجواب بما تضمنه البعض من أقوال أهل المذهب أتيت به واقتصرت فيه على ذلك دون تطويل ولا تأصيل، لقصد إحاطة أصناف المستفتين بحكم هذه المسألة. وسأتبعه ببيان تأصيل أحكامه ليزداد أهل النظر فإنهم يحبون أن يلحقوا الفروع بأصولها، ويميزوا عن خليط ثفالها خالص منخولها". ومعنى هذا أنه ذكر الأقوال مجردة ولم يذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأنه سيذكر أدلة تلك الأقوال ليتميز القوي منها بقوة مدركة من الضعيف لضعف مدركه. وقد قلنا في آخر نقضنا لفتواه: "وعد فضيلته بأنه سيتبع فتواه ببيان تأصيل أحكامها، ونحن لبيانه هذا من المنتظرين؟ ". وكنا ننتظر منه أمرين أحدهما دفاعه عن فتواه إن كان له عنها من دفاع، وثانيهما وفاؤه بما وعد. فأما الثاني فإنه لم يكتب فيه حرفا إلى الآن وأنى له أن يأتي بأدلة من الكتاب والسنة لما يعترف هو نفسه أنه خلاف السنة. وإننا نتحداه ونقول له إنه لن يستطيع أن يأتي على بدعة القراءة على الأموات في المواطن الثلاثة بسنة ثابتة من قول أو عمل أو تقرير فليأت بشيء من ذلك إن كان من الصادقين.

وأما الأول فإنه حاد فيه عن صريح الدفاع واكتفى فيه بمثال نشرته جريدة الزهرة تحت عنوان (تذييل للفتوى في قراءة القرآن في الجنازة) ولعله اكتفى أيضا بما كتبه أولئك المجاهيل الذين قمشوا مسائل وأقاويل من غير فهم ولا تطبيق، وبعثروها في مقالات طويلة حالكة سداها البغض والبذاء ولحمتها الخبط والمهاترة، ثم أمضوها بإمضاءات مستعارة جبنا عن منازلة من يصارحهم باسمه أو لبقية ما من حياء من المجاهرة بذلك السقط والهذر. فأما إذا كان فضيلته اكتفى بهؤلاء فإنه لمزر به أن يكون هؤلاء الذين لا يستطيعون الظهور في كتابة علمية دينية انصاره، ثم كيف يكونون انصاره وهم يستحون- إن كانوا يستحون- من التظاهر بنصرته؟ لا يامولانا ان في الدنيا علماء وانه يعز علينا- والله- أن لا يكون من ينصرك إلا بمثل ذلك الجهل الظاهر من جاهل مختف وإنك ترتاح له وتكتفي به، ونحن من ناحيتنا نربأ بأنفسنا عن تضييع الوقت في مطالعة ما لا يساوي نظرة إليه فضلا عن الاشتغال بالرد عليه ومن ذا يرضى بمخاطبة من يتستر في موضوع ديني معروف فيه الراد والمردود عليه، فما دين هؤلاء الجبناء المجاهيل وما قيمتهم وما هي النواحي التي تحركهم؟ أما قيمتهم العلمية والأخلاقية فقد عرفناها من كتابتهم وأما غيرها فإننا منه مستريبون، وإذا كانوا مسلمين حقيقة ومستقلين في إرادتهم فليصرحوا بأسمائهم إن كانوا من أنفسهم واثقين. وأما إذا كان فضيلته يكتفي بذلك التذييل فها نحن نعرض لنقضه وإبطال ما زاده من الباطل فيه بعد بيان ما كان دفعه إليه بدل التدليل الذي عجز عنه بعدما كان وعد به. ***

بينما كانت الأمة التونسية- كسائر الأمم الإسلامية- تتألم من المضار التي تلحقها من بدع المآتم التي أساسها بدعة القراءة على الأموات التي تجمع الناس فتنفق على أكلهم وشربهم الأموال وتبذر الثروات وتثقل الكواهل بالديون ويتعدى على أموال الأيتام ويتحمل الضعيف المحال ما يتركه على أسوأ حال. بينما الأمة التونسية هكذا والمصلحون منها يعالجون حالتها إذا بشيخ الإسلام ورئيس مجلس الشورى المالكي يطلع عليها بفتوى غريبة تقرر تلك البدعة وتؤيدها وتتلمس التأويلات البعيدة لتسويغ ويلاتها، فأعظمت ذلك الأمة التونسية، واستنكرته مثلما أعظمناه نحن واستنكرناه فبادر الصحافي الكبير السياسي المحنك الأستاذ محمد الجعائبي في جريدته (الصواب) ذات الثلاثين سنة في خدمة الأمة التونسية بصدق وثبات وتضحية فكتب مقالا تحت عنوان "فتوى ضد البدع والضلالات والقراءة على الميت وفي الجنائز" ونشر فتوى (1) لشيخنا أبي الفضل المالكي شيخ الجامع الأزهر سابقا رحمه الله مؤرخة بـ 4 ربيع الثاني 1334هـ، وكانت هذه الفتوى ردا مفحما على فتوى الشيخ ابن عاشور وكتب الأستاذ العجائبي تصديرا عليها قال فيه: "فكان جواب الشيخ محررا على أبدع أسلوب قد اقتصر فيه على السؤال دون أن يحاول التحريش أو الإملاء على أولياء الأمر بما يجب اتخاذه من التدابير تاركا ما لله لله وما لقيصر لقيصر" ولا يخفى ما في كلام الأستاذ شيخ الصحافة التونسية من الإنكار والاستهجان تعريضا بفتوى الشيخ ابن عاشور، وأثر هذا أخذت الأسئلة ترد على شيخ الإسلام لا تستطيع أن تصرح بالإنكار- ومن يستطيع مصارحة شيخ الإسلام بالإنكار- ولكنها لم تستطع محوه من بين السطور ونحن ننقل من

_ (1) نشرت (البصائر) هذه الفتوى في العدد 16

تلك الأسئلة ما يفهم منه ذلك الإنكار وما يصور الحالة المنكرة التي يتألم إخواننا التونسيون- مثلنا- منها ويريد شيخ الإسلام بفتواه- الغريبة تقريرها. سأل الشيخ مصطفى الشنوفي من حمام الأنف، ونشرت سؤاله الزهرة فقال: "إن سؤالنا الذي نطلب إماطة اللثام عن دخيلته وتحقيق ما ينتابه من أحكام هو ما يلي: بعد وضع الحالة التي عليها القراء وكذا الأمكنة والمستمعون، بل قل المتفرجون تحت أعين الباحثين. وهاك ما كل الناس على اطلاع تام عليه حيث أنه متكرر صباحا مساء كل يوم. يموت مسلم فيذهب وليه طائعا أو تحت تأثير خوف العار لاستئجار جماعة تصدوا لإيجار ما يحفظونه من كتاب الله تعالى، بعد المماكسة طبعا وفعلا عندما يقترب أمد المأتم تراهم زرافات بحالة لا نقول أنها منفردة إذ هذا ليس من توابع ما نحن فيه إلا أننا نريد أن نأخذ بيد الشيخ حفظه الله ونطلعه وما نخاله جاهلا لكن هذا من باب التذكير فحسب. جماعة الطرق تتلو أحزابا بها من الخلط ما لا يخفى مما يكون في غالب الأحيان وفي كثير من الجمل موجبا للتوبة مما تضمنه من الكفر الغير المقصود مع كونه في اعتقادهم يستحق عليه أجزل المثوبات كل هذا مقصود به استمطار الرحمة على جثمان الفقيد. جماعة القراء تتلو قرآنا يبرأ منه جميع بدور القراء، ما هو شاذ وما هو ليس بشاذ، فترى مدودا لا ندري كم مقياسها، أثلاثة ألفات أم أربعة، بل ربما نقول ولا نرى أنفسنا جازفنا في التعبير انها تبلغ في بعض الأحيان الستة والسبعة على أقل تقدير مع ما يتبع هذا من زلزلة استغفر الله، بل قلقلة في عرف القراءات وهي حسب الاشتهاء لا عند الاقتضاء مع الوقف الذي ما أنرل الله به من سلطان على أن

خبز وزيتون ومغفرة من الله

معدل السير في الساعة تبلغ إن كان هناك مأتم ثان مزمع على الحضور فيه العشرة أحزاب في الساعة، إذاً يكتفون في الغالب بأوائل الكلم أو ترخيمها حتى يتسنى لساداتنا القراء انتهاز المأتم الثاني كيلا يفوت. كل هذا مع تفاوت في الصياح تبعا لمركز الفقيد من حيث الوجاهة وترقب أوفر الجزاء. ولا نريد التعليق على ختم القرآن المزعوم الذي تتفرق فيه الأسفار على عشرة أنفار، بينا مرتل يجوِّد ثمنا أو ربعا على أكثر تقدير، يجوِّد كما يريد لا كما يقول الشاطبي نرى بعضهم يهمهم والآخر يكمل بقية حديثه الذي بدأه مع صاحبه خارج الدار أما القاريء فتراه يقلب صفحات السفر بسرعة يستحيل كونه حقق نظره فيها فضلا على تمكنه من تلاوتها، أما الجلوس فعلى غاية الاحتشام والاحترام لجلال القرآن. فهل هذا هو القرآن وهل هاته تلاوته وهل هؤلاء الأشخاص الذين يجوز لهم قراءته، وهل لناس أن يستمعوهم؟ لنخرج من الدار ولنشاهد أكبر مهزلة يبرأ منها الإسلام صياح وعويل من الدار وآذان وتكبير وصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسورة البقرة ويس وتبارك وجمهرة وتخريج وأحزاب قادرية ومدائح عيساوية وطيبية وشاذلية وتيجانية. خبز وزيتون ومغفرة من الله: يريد الكل إحتكار الأسماع فتراه يجهد نفسه في الصياح حتى إنك لا تشاهد إلا أوداجا منتفخة وعيونا بارزة ودماء للوجوه متصاعدة. جمعية أصوات وأنواع قراءات: ثم تجتاز المزابل والصوابيط (1) والطرقات القذرة التي من فرط نتنها

_ (1) كلمة عامية تونسية معناها: الجزء الذي عليه سقف من زنقة مفردة: "صباط".

يعد اجتيازها نصرا من الله لنصل للمقبرة ولنلق نظرة مجردة على تلكم الجماعة عندما يقع لحد الميت: تقرأ سورة يس فالبعض جالس على الأرض والآخر فوق قبر والآخر متوسده مع تعدد في أنواع الجلوس ولا تنس فكل لا يطيق مفارقة نعله المحبوب أما القلب فيفكر هل يكون ممن يقاول في جنازة السيد فلان الذي توفي صبيحة هذا اليوم واللسان يتلو والعين ترهق شيخ القراء، كم تناول من الأجر من ذوي الميت وهل أخفى شيئا لنفسه. هاته صورة مصغرة مما هو واقع وعمت به البلوى والذي يشاركنا في مشاهدة أدواره جمع التونسيين. فهل تجوز قراءة القرآن في الأماكن القذرة على قارعة الطريق وعدم الاحتشام في تلاوة القرآن والخشوع والله بر في آياته. والخلاصة أننا نتقدم بغاية الاحترام لفضيلة شيخ الإسلام المالكي والحنفي كل ما على ما يقتضيه أصل مذهبه الزكي ونلتمس من علماء الشريعة السمحة أن يفتون بحكم الله المنطبق على زماننا الذي اختلط فيه الحلال بالحرام وأن تكون فتياهم تعالج المسألة كما هي واقعة لا كما هي في النظر المجرد ولا نخالهم إلا فاعلين". وكتب الشيخ محمد بن ابراهيم التوزري يقول: "إنني أرفع إلى حضرتكم السامية هذه الأسئلة راجيا التكرم بإيضاح الجواب عن كل مسألة على حدتها ونص الأسئلة: ما قولكم دام مجدكم، هل سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنسخ بعد وفاته باختلاف الزمان (أم لا) وهل فعل وقول العلماء يصح أن يكون دليلا على جواز فعل ما كان مخالفا للسنة أو فعل الصحابة والسلف الصالح- رضي الله تعالى عنهم- (أم لا) وهل العرف الحادث من الناس يصح جعله دليلا على جواز رفع الصوت خلف الجنازة (أم لا)؟

وهل رفع الصوت خلف الجنازة مظنة التشويش على المتفكر السائر مع الجنازة (أم لا) وهل إذا ادعى المتفكر التشويش برفع الصوت خلف الجنازة يصدق (أم لا)؟ وهل يأثم من يشوش غيره برفع الصوت خلف الجنازة (أم لا)؟ أفيدوا مأجورين ولكم مني جزيل الشكر ومن الله الثواب. وكتب الشيخ التهامي عزيز البانقي القرقني يقول: "وحيث ثبت أن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت ظهر أن قراءة القرآن في المواقع الثلاثة خلاف السنة، وخلاف السنة إنما هو البدعة. وقد حكم بالكراهة مطلقا في ذلك أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة في شرحه لمختصر البخاري حيث قال: مذهب مالك كراهة القرآن في هاته المواقع (1) لأننا مكلفون بالتفكير والاعتبار ومكلفون بالتدبر في القرآن فآل الأمر إلى إسقاط أحد العملين ا. هـ. وما أشبه عصر ابن لب وابن سراج والمواق بهذا العصر وأهله وها أنا سائل جنابكم يا صاحب السماحة والفضيلة بقطع النظر عن الكراهة أو الجواز: هل تلك الصيغة يقرأ بها مشيعو الجنائز قول الله تعالى كنطقهم بلفظة غفور بدون واو ورحيم بدون ياء وعذاب بدون ألف ويجعلون لا النافية لام ابتداء ونون المتكلم ومعه غيره نون جمع المؤنث ويقطعون كلمات الله محافظة على الصيغة وعلى أصواتهم أَيُبَاحُ لهم القراءة بهاته الصفة سواء كانوا مع الجنازة أو في مواقع أخرى أم يحرم عليهم. وهل تلك الأجرة التي يأخذها مشيعو الجنازة من أولياء الميت على القراءة جائز أم لا؟ وهل تعد صدقة أم لا؟ وهل تدخل في مؤن التجهيز

_ (1) فى الأصل: الواقع.

ويقضي بها أن شح بعض الورثة أم لا؟ فالرجاء منكم أن تجيبوا جوابا شافيا أبقاكم الله ملجأ للسائلين ومفيدا للطالبين (انتهى). ولا يخفى ما في هذه الأسئلة من الرد على الفتوى والإنكار عليها والتنبيه على خروجها عن الموضوع وعدم مطابقتها لصورة الواقع وتعريضها بأن المفتي تعمد الإغضاء عما يعلمه كل أحد ويشاهده من المضار والمفاسد بسبب القراءة على الجنائز وذهب بفتواه يتأول ويتحمل لما هو من عالم الخيال. ولما أحرجته هذه الأسئلة أجاب عنها بذلك التذييل ولما كان هذا التذيبل قد اشتمل على الباطل والخطأ مثل الفتوى فإننا سنعرض لبيان ما فيه من ذلك في العدد القادم إن شاء الله (1). عبد الحميد بن باديس -2 - كان أصل السؤال عن القراءة عند تشييع الجنازة وحول الميت وعند القبر. وكان جوابه عنه هكذا: " إن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت والتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة. وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمن الصحابة. إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر اللدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر

_ (1) البصائر: س 1، العدد24، الجزائر يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ الموافق ليوم19 جوان 1936م، الصفحة 3، العمود 2 و3، ص 6، العمود 2 و3 إلى ص 7 العمود أو 2 و3 نصفه.

المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت عند موته على خلاف فيه. ولهذا كان ترك القراءة هو السنة وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة". ثم أخذ بعد هذا الجواب الواضح البين يقاوم ما فيه من صريح السنة مما فرغنا من رده عليه. وأما في تذييل الفتوى فإنه قال هكذا: "اعلم أن موضوع الفتوى الصادرة منا هو أن قول مالك أن السنة في تشييع الجنازة السكوت. والقراءة في الجنازة مكروهة عنده وأنها عند فريق من العلماء مستحبة غير مكروهة لقصد انتفاع الميت بثوابها". وهذا كلام قاصر على خصوص القراءة عند التشييع فلنقصر كلامنا اليوم معه فيه. وقد زعم أن القراءة عند التشييع عند فريق من العلماء مستحبة. ونقول أنه لم يقل باستحبابها واحد من الأئمة- رضي الله عنهم- ولا من شيوخ مذاهبهم ولا ذكرها متن من المتون التي يدرس بها فقههم في الأمصار. فهو مطالب بأن يثبت هذا الفريق ولو بواحد من هؤلاء ولن يستطيع- ولا محالة- إثبات العدوم، وفيما نقلناه في كلامنا السابق ما يدل على الاتفاق على بدعتها، ونزيد هنا قول الإمام ابن شامة الشافعي المتوفى سنة 665هـ في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" قال: "وفيما يفعله الناس اليوم في الجنائز بدع كثيرة ومخالفة لما ثبت في السنة من ترك الاسراع بها والقرب منها والإنصات فيها ومن قراءتهم القرآن بالألحان". ثم قال فضيلته: "فمدرك مالك ههو التيمن بقصد التأسي بالفعل الواقع في زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمن أصحابه فالمراد بالسنة عنده الطريقة التي كان عليها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-". نعم السنة هي الطريقة التي كان عليها- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يفعل ويترك، ونحن مأمورون باتباعه في هذه الطريقة،

بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ رَحِيمٌ} والتأسي به فيما فعل وفيما ترك يمن ومخالفته شؤم، ولنا به أسوة حسنة فالقراءة عند التشييع تركها فتركها من سنته أي من طريقته فهو سنة وفعلها ليس من طريقته فهو بدعة. والخير في الاتباع، والشر في الابتداع. وخير أمور الناس ما كان سنة … وشر الأمور المحدثات البدائع هذا هو البيان الواضح لمدرك الإمام- رحمه الله- لا كما توهمه عبارة فضيلته من تهوين أمر الاتباع بأنه قصد التيمن والتبرك وأن الترك لا يدخل في لفط السنة لأنها هي الطريقة. ثم قال: "ولما كان مالك لا يرى وصول ثواب القراءة للميت لم يوجد في نظره ما يعأرض مقصد التأسي فلذلك قال بكراهة القراءة فيها". مذهب مالك أن ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من الطاعات في موطن مع وجود المقتضي لفعله بحسب الظاهر فإنه يترك دون التفات إلى ذلك الذي يظهر أنه مقتضى إذ يترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تبين أنه ليس بمقتضى في الشرع ففعل تلك الطاعة عليه اعتبار لما ألغاه الشارع واعتداد بما طرحه. وفي هذا معاندة له وافتيات عليه، ولهذا منع الذي أراد أن يحرم من المسجد النبوي وقرأ عليه قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد تقدم تفصيل هذا في سابق كلامنا، فلو أن مالكا كان يقول بوصول ثواب القراءة لما قال بها في التشييع لأن السنة فيه هي تركها، والدعاء المتفق على نفعه لا يقول به مالك في الركوع لأن السنة فيه هي تركه، وهكذا ما هنا.

ثم قال: " وأما الذين خالفوه فمدركهم أن السكوت ترك فلا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده". قد علمت مما تقدم أن هؤلاء الذين يزعم أنهم مخالفون لمالك في سنة ترك القراءة في التشييع لا وجود لهم في الأمة ولا في شيوخ مذاهبهم ومع ذلك فقد أخذ فضيلته يقرر في مدركهم فزعم أن السكوت ترك وأن الترك لا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده، ومقتضى هذا الاستدلال من السنة النبوية يكون بالفعل دون الترك وهذا باطل والحق أنه كما يستدل بفعله- صلى الله عليه وآله وسلم- يستدل بتركه. والتقرب إلى الله بترك ما تركه كالتقرب إليه بفعل ما فعله. ومن فعل ما تركه كمن ترك ما فعله وكما لا يتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعله كذلك لا يتقرب إليه بفعل ما تركه، وهاك من كلام الأئمة ما يثبت لك هذا الأصل ويعرفك بدليله: قال ابن السمعاني: "إذا ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- شيئا وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله، أمسك عنه الصحابة وتركه إلى أن قال لهم: أنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه. وأذن لهم في أكله"، نقله الشوكاني في (إرشاد الفحول)، وفي أوائل الجزء الرابع من (الموافقات) للإمام الشاطبي بحث واف في الاستدلال بتركه - صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر أنواعه، وقال القسطلاني في كتابه (المواهب اللدنية): "وتركه- صلى الله عليه وآله وسلم- سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه فنأتي من القول في الوضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله" وقال ابن حجر الهيتمي: "ألا ترى أن الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان أنكروا الأذان لغير الصلوات الخمس كالعيدين وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة

عقب السعي بين الصفا والمروة قياسا على الطواف. وكذا تركه - صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة". والنقول على هذا الأصل- وهو الاستدلال بتركه- كثيرة والأدلة فيه ثابتة واضحة وقد اعتنى ببسطة الأستاذ (محمد أحمد العدوي) حفظه الله في كتابه (أصول في البدع والسنن) بسطا كافيا لمن هدَاه الله (1). (عبد الحميد بن باديس) -3 - الاستدلال بترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أصل عظيم في الدين. والعمل النبوي دائر بين الفعل والترك، ولهذا تكلم علماء الأصول على تركه كما تكلموا على فعله. وقد ذكرنا جملة من كلامهم فيما قدمنا، غير أن تقرير هذا الأصل الذي يهدم بدعا كثيرة من فصل ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مما يتأكدُ مزيد تثبيته وبيانه. إذ بالغفلة عنه ارتكبت بدع وزيدت زيادات ليست مما زيدت عليه في شيء. وحسبك أن مثل هذا العالم يقرر في ذيل فتواه أن "السكوت ترك فلا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده" فالترك إذاً ليس دليلاً شرعياً، ولهذا أردنا أن نعود إلى بيان هذا الأصل ونقل كلام أئمة الأصول والنظر فيه. قال الإمام الشاطبي في آخر الجزء الثاني من كتاب الموافقات: "والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع

_ (1) البصائر: س1 العدد 25 الجزائر يوم الجمعة 6 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 26 جوان 1936م الصفحة 2 العمود 1 - 2 و1 - 2 من الصفحة3.

التسبب أو شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضى له. وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقرر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فإنها لما تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذاك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها. وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم، كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال. فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل. والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضى له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كلن هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم يشرع الحكم ولا نبه عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هناك بدعة زائدة ومخالفة لما قصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع، ثم نقل كلام مالك وبينه، وتطبيق هذا الأصل على مسألتنا أن تقول: (إن المقتضي للقراءة- وهو حصول البركة للميت ووصول الثوابا إليه- قائم ومع قيامه فقد ترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- القراءة ففهم من هذا الترك مع قيام المقتضى أن قصد الشارع هو الوقوف عندما بين من السكوت والاعتبار، وأن زيادة القراءة في ذلك الموطن بدعة زائدة ومخالفة لما قصد الشارع وإن كانت عبادة من حيث ذاتها، كما قال مالك في سجود الشكر عند الأمر

تُحبه "لا يفعل ليس هذا مما مضى من أمر الناس" وإن كان السجود في نفسه عبادة، ثم قال أبو إسحاق الشاطبي في آخر الفصل المذكور "وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليرجعهما كما كانا أول مرة، لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعا إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها. وهو أصل صحيح إذا اعتبر وصح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها. ودل على أن وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة ما كان موجودا قبل فاذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل. وقد قرر هذا الأصل الإمام ابن القيم في آخر الجزء الثامن من كتاب إعلام الموقعين عندما تكلم على ما ورد من السنن الثابتة من دون معأرض. وطبق هذا الأصل على مسألتنا شيخنا الشيخ بخيت الحنفي مفتي الديار المصرية رحمه الله في كتابه (أحسن الكلام) فقال: "وأما رفع صوت المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية فهو مكروه لا سيما على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان ولم يكن شيء منه موجودا في زمن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولا في زمن الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف الصالح. بلهو مما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لفعله فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة شرعا كما هو الحكم في كل ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لفعله" وقال أيضا: "وأما ما يفعل في زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد".

فهذا الأصل العظيم الذي قرره مالك- رحمه الله- وهو أن ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضي فالدين تركة- وبينه أبو إسحاق الشاطبي- قد رأيت تقريره والاستدلال له والتفريع عليه من جماعة غير مالكية كابن السمعاني والقسطلاني الشافعيين وابن القيم الحنبلي والشيخ بخيت الحنفي مع تطبيق هذا الأخير له على عين مسألتنا. فلم ينفرد به مالك من أئمة الاجتهاد والفتوى ولا أبو إسحاق الشاطبي من أئمة الأصول والنظر نقول هذا لأن المتأولين للبدع والمنكرات- مثل فضيلته- أصبحوا وكأنهم يتبرمون بقول مالك وشدته فيها ويحاولون التملص إلى أقوال ولو لم تكن منزلة قوله في الاستدلال والنظر حتى زعم فضيلته أن لمالك مخالفين في القراءة عند التشييع وجاء لهم بمدرك حاول أن يهدم به هذا الأصل العظيم. أما أبو إسحاق الشاطبي فقد صار يوصم عند بعض أنصار البدعة والمتأولين لها بالشذوذ وما ذنبه عندهم إلا نصرته للسنة بكتابه الفريد. في بابه كتاب (الاعتصام) وبفصول من كتابه الفريد الآخر كتاب (الموافقات). ولقد كنا أيام الطلب بجامع الزيتونة- عمره الله- نسمع من شيوخنا كلهم الثناء العاطر على هذا الكتاب وصاحبه وكانت له عندهم منزلة عظيمة. وأحسن الدروس في المناظرات الامتحانية هو الذي رصعه صاحبه بكلام الشاطبي وأحسن فهمه وتنزيله فليت شعري ماذا يقول المتأولون للبدع والمنكرات- مثل فضيلته- فيه اليوم وقد أصبح حجة للمصلحين. وقد بلغني أن كتاب (الموافقات) قد قرر تدريسه بالجامع - عمره الله- وأن الذي يدرسه للشيوخ هو الشيخ عبد العزيز جعيط أحد المفتيين المالكيين والمترشح- فيما يظهر- لمشيخة الإسلام بعد عمر طويل- إن شاء الله- لشيخ الإسلام الحالي، ولعله مر في درسه

على هذا الفصل الذي نقلناه من الموافقات في تقرير الأصل المتقدم أو قاربه. فماذا قال أو يقول فيه؟ إن هذا الأصل وهو أن ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى فالدين تركه والزيادة عليه بدعة مذمومة مخالفة لمقصد الشارع- هو حجة المصلحين في رد البدع الغالين والمتزيدين، فماذا قلت يا فضيلة الشيخ عبد العزيز أو ماذا تقول. بين! بين! فإنك تعرف وعيد الكاتمين. وإلا فعليك - لا قدر الله- إثم الهالكين والمعاندين (1). (عبد الحميد بن باديس) -4 - قال فضيلته: "وقد عأرضه، أي الترك النبوي" قصد آخر حسن وهو التبرك بقراءة القرآن ووصول ثواب ذلك للميت، فهم يرون في السكوت في الجنازة فضيلة بركة التأسي وفي القراءة فضيلة وهي وصل الثواب للميت. هذه هي حجة كل مبتدع ومحدث في الدين ما ليس منه ومتعبد بغير ما شرع الله لعباده بواسطة رسوله- عليه الصلاة والسلام- يفعل ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بدعوى أن في فعله خيرا وفضيلة وزيادة مفيدة، ويعأرض التشريع الإلهي بالترك النبوي مع قيام المقتضى برأيه وهواه، واستدراكه ودعواه. ومن مقتضى منعه- قطعا- أن ذلك الخير وتلك الفضيلة والزيادة المفيدة قد فاتت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في السنين الطويلة التي

_ (1) البصائر: س1 العدد 27 الجزائر يوم الجمعة 20 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 10 جوليت 1936م الصفحة 3 والعمود 2 من الصفحة 6.

عاشها تاركا لها فلم يفعلها ولم يبلغها وهو المأمور بالتبليغ المعصوم من الكتمان حتى تفطن لها هذا المبتدع فجاء بها وفاز بتحصيلها، وكانت من الفضائل التي رجح ميزانه بها وخلا منها ميزان محمد- عليه وآله الصلاة والسلام- {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. ولو جرى الأمر على هذا الأصل الباطل والقول الضال لأذن للعيدين والتراويح والكسوف والاستسقاء، وقيل أن عدمها في العهد النبوي ترك وهو لا يدل على استحباب عدم الآذان ولا على كراهة ضده وقد عأرضه قصد آخر حسن وهو ما في الآذان من حصول الثواب للمؤذن والحاكي؟ ففي عدم الآذان فضيلة بركة التأسي وفي الآذان فضيلة حصول الثواب للمؤذن والحاكي. وهكذا يمكن أن تزاد عبادات كثيرة في غير مواضعها تركها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لها ويعأرض تركه عليه السلام لها بما فيها من الفضائل الذي غفل عنه هو عليه السلام واهتدى إليه المبتدعون، وكفى بقول يؤدي إلى هذا ضلالا وشرا وفسادا. نعم في قراءة القرآن العظيم لقارئه وسامعه كل البركة ووصول الثواب المهدى، قال به جمع الأئمة عليهم الرحمة، غير أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهو الرحيم بأمته الحريص على دلالتهم على الخير وما فيه الأجر والثواب لم يقرأ القرآن العظيم في هذا الموطن فدلنا على أن الترك هو الخير، وأن هذا الموطن ليس محلا للقراءة بل هو محل لعبادة أخرى هي عبادة التفكر والاعتبار. فالقراءة فيه بدعوى تلك المعأرضة مخالفة ومشاقة له، وما هو أكبر من ذلك من دعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه عليه السلام. ثم قال فضيلته: "واعتضدوا بقراءة سورة يس".

حديث قراءة يس

لو كان لمن يقول بقراءة القرآن العظيم عند التشييع دليل من أثر أو صحيح نظر لأمكن أن يقال: "واعتضدوا بحديث يس"، لكن قد علمنا مما تقدم أنه لا دليل لهم إلا مشاقة الترك النبوي بتخيل الأفضلية ودعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مما تقدم لنا إبطاله فلا يمكن حينئذ أن يقال فيهم "اعتضدوا" ويبقى النظر في حديث قراءة يس نفسه فلنتكم على سنده ومتنه ليتبين أنه خارج عن موضوعنا. حديث قراءة يس: عن معقل بن يَسَار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- " أقرأوا يس على موتاكم" قال الحافظ في التلخيص (153) بنقل الأستاذ محمد حامد الفقي: رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان- وليس بالنهدي- عن أبيه عن معقل بن يسار ولم يقل النسائي وابن ماجة عن أبيه. وأعله ابن القطار بالاضطراب وبالوقف وبالجهالة لحال أبي عثمان وأبيه. ونقل الإمام أبو بكر بن العربي المالكي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث ا. هـ، وقد صححه الحاكم وابن حبان وهما معروفان بالتساهل في التصحيح وسكت عنه أبو داود وسكوته يقتضي عدم تضعيفه ولكنه لا يقتضي بلوغه درجة الصحيح وإذا ضم إليه ما ورد في معناه- ولم يبلغ منها شيء إلى درجة الحجة- إرتقى إلى رتبة الحسن لغيره. هذا كلمة موجزة في سنده بينت لنا رتبته. وأما متنه فإن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "على موتاكم" من حضرتهم الموت. قال ابن حبان في صحيحه- بنقل ابن حجر وغيره: أراد به من حضرته المنية لا

أن الميت يقرأ عليه- قال وكذلك قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ا. هـ، ومما يدل على أن المراد من حضرته المنية ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، قال حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان قال كانت المشيخة يقولون إذا قرئت- يعني يس- لميت خفف عنه بها. وفي مسند الفردوس- بنقل ابن حجر- عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلاّ هَوَّن الله عليه" قال الصنعاني شارح (بلوغ المرام): وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر ا. هـ. وحديث أحمد المتقدم رواه جمع من شراح الحديث مختصرا كما رأيت وأصله في المسند هكذا: "حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان بن عمرو عن المشيخة أنهم حضروا غضيف بن الحرث حين اشتد سوقه فقال: هل أحد منكم يقرأ يس؟ قال فقرأها صالح بن شريح السكوني فلما بلغ أربعين آية منها قبض، قال: فكان المشيخة يقولون: "إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها". قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): وهو حديث حسن الإسناد. وغضيف المتوفى صحابي وصالح الذي قرأها، له إدراك، فالمشيخة الذين حضروا بين صحابي وتابعي، والحديث وإن كان موقوفا فمثله لا يقال بالرأي، قال الحافظ: فله حكم المرفوع، وما في هذا الحديث صريح غاية الصراحة، بأن قراءة يس إنما هي على المحتضر ففيه (لما اشتد سوقه) والسوق قال أئمة اللغة: هو النزع. وكان المحتضر نفسه هو الذي قال: "هل فيكم أحد يقرأ يس" وقد فهم الأئمة- رضي الله عنهم- أنه في المحتضر، فأخرجه ابن ماجة تحت قوله: "باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر" وأخرجه البغوي في (المصابيح) تحت قوله: "باب ما يقال عند من حضره الميت". ومثله التبريزي في (المشكاة)، وكذلك الإمام ابن أبي زيد فإنه

ذكر رخصة بعض العلماء- وهو ابن حبيب- في قراءة يس- في (باب ما يفعل بالمحتضر من رسالته) فقال هكذا: "وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرا معمولا به". فبان بهذا كله أن حديث قراءة يس- على ما فيه كما عبر فضيلته في أصل الفتوى - خارج عن موضوعنا، لأن موضوعنا في القراءة على الميت بعد موته وهو الذي يفعله الناس ويسمونه (فدوة) وعند تشييعه كما يفعل (مروقية) تونس وغيرهم، وهو الذي قصر فضيلته الكلام عليه في التذييل كما تقدم، وبعد دفنه عند قبره. وليس لنا أن نقيس هذه المواطن على قراءة يس عند المحتضر لأن القياس لا يدخل في العبادات، ولأن المعنى الذي قصد من قراءتها- وهو التخفيف، عليه حال النزاع- معدوم في هذه المواطن. ولهذا فنحن ما زلنا نطالب فضيلته بالإتيان بسنة صحيحة قولية أو فعلية تثبت مشروعية القراءة في موطن من هذه المواطن. وأنَّى له ذلك؟ (1). عبد الحميدبن باديس -5 - حقا لقد صارت مسألة السنة في تشييع الجنازة- وهي الواضحة الجليلة- ذات ذيول ففضيلته قد جعل لفتواه تذييلا فلا تأصيل ولا تدليل. ونحن- بحكم العدوى الكتابية- قد جعلنا لردنا عليه هذا التذييل. ولكنه لم يخل من دليل.

_ (1) البصائر: س1 عدد 28 الجزائر يوم الجمعة 27 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 17 جوليت 1936م الصفحة 4 والعمود 2 من الصفحة 5.

كل ما يريده فضيلته هو بقاء تلك الحالة المنكرة البشعة من تشييع الجنائز التي نشرنا فيما مضى بيان بعض الكتاب من إخواننا التونسيين عنها، وهو يعلم أن لا بقاء لها إلا ببقاء تلك الفئة من (المروقية) قائمة بها، وأنها لا تقوم بها إلا بثمن فليفت حينئذ فضيلته- ولا بد- بتحليل ذلك الثمن وجواز أخذ الأجرة على القراءة، فلذا قال في تذييله: "وأما أخذ الأجرة على قراءة القرآن فاعلم أن أخذ الأجر على القراءة جائز باتفاق الأئمة الأربعة". باتفاق الأئمة الأربعة! هذا باطل ما دعا إليه وحمل عليه إلا الحرص على بقاء هذه البدعة والعياذ بالله، والحقيقة هي أن الحنفية والحنابلة- كما هو مصرح به في كتبهم- لا يجيزون أخذ الأجرة على القراءة وحجتهم على ذلك أن الأجر دفع لأجل حصول ثواب القراءة للدافع لكان القارىء ما قرأ إلا لأجل ذلك الأجر فلم يكن عمله خالصا لله فلم يكن له عليه ثواب، فهو آثم لأنه أكل الأجر بالباطل والدافع آثم لأنه متسبب له في عمل بلا إخلاص وفي ذلك الأكل بالباطل، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن شبل: "قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: اقرؤا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به". رواه أحمد بسند قال في مجمع الزوائد رجاله ثقاة، ورواه غيره، وأجابوا عن حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله". رواه البخاري بأنه محمول على أخذ الأجر في تعليمه أو الرقية به مما يحصل مقابل الأجر لدافعه جمعا بين الأدلة، وقال بهذا بعض المالكية أيضا، وهو قول قوي- كما ترى- نظرا وأثرا، فأين هو الإجماع الذي يدعيه فضيلته؟. إلى هنا وجب أن ننتهي من الحديث مع فضيلته. وبقيت لنا كلمة

مع جريدة (الزهرة) التي تساءلت عن آداب الإسلام سنقولها لها- إن شاء الله- إذا إبنا من سفرنا مع وفد الأمة الجزائرية إلى باريس، فإلى اللقاء. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: س 1 عدد 29 الجزائر يوم الجمعة 5 جمادي الأولى 1355هـ الموافق ليوم 24 جوليت 1936م، الصفحة 3 في العمود 3.

إلى علماء جامع الزيتونة

إلى علماء جامع الزيتونة: إن مسؤولية العلماء عند الله فيما أصاب المسلمين في دينهم لعظيمة، وأن حسابهم على ذلك لشديد طويل، ذلك بما كتموا من دين الله، وبما خافوا في نصرة الحق سواه، وبما حافظوا على منزلتهم عند العامة وسادة العامَّة، ولم يحافظوا على درجاتهم عنده، وبما شحوا ببذل القليل من دنياهم في ما يرضيه، وبما بذلوا وأسرفوا في الكثير من دينهم فيما يغضبه، اللهم إلا نفرا منهم بينوا وما كتموا، ونصحوا لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم فقامت بهم حجة الله، وتداولت بهم أجيال المسلمين إرث النبوة، واتصل بهم سند الحق وانفضحت بهم شبهة الباطل، أولئك هم الطائفة التي لن تزل ظاهرة على الحق لا يضر بها من خذلها حتى تقوم الساعة. وإنَّا راجعنا تاريخ المسلمين في سعادتهم وشقائهم وارتفاعهم وانحطاطهم وجدنا ذلك يرتبط ارتباطا متينا بقيام العلماء بواجبهم أو قعودهم عما فرضه الله وأخذ به الميثاق عليهم. ولهذا فنحن ندعو العلماء كلهم إلى أن يذكروا هذا الميثاق وأن لا ينبذوه وراء ظهورهم، وأن يبادر كل ساكت وقاعد إلى التوبة والإصلاح والبيان، فقد علموا قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ

اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. ونحن نحمد الله فقد تجاوبت أصوات العلماء بالإصلاح الإسلامي من كل ناحية، وقد كان من أعظم ذلك ارتفاع صوت الأزهر كما نشرنا، في الجزء الماضي من مجلة (الشهاب) وقد كنا نشرنا في جزء ربيع الثاني من العام الماضي الفتوى التي أصدرها عشرون عالما من علماء طرابلس الغرب في وجوب إلغاء ما يستعمله أصحاب الطرق من المشي على الفحم المصهور وابتلاع العقارب والأفاعي والحشرات السامة وطعن أجسادهم وثقبها بالالات الحادة. وقدموا في ذلك مطلبا لحكومة البلاد وعملت على تنفيذه، ثم اطلعنا على عريضة مؤرخة بربيع الأول من العام الماضي قدمها نحو الثلاثين عالما من علماء المغرب الأقصى من مدرسين بجامع القرويين وغيرهم إلى جلالة مولانا السلطان (سيدي محمد) أيده الله يشتكون إليه ما كان من مخالفة ما تقدم من أمره بمنع بدع كل الطوائف المبتدعة كطائفة العيسيوية وغيرهم، ويرغبون من جلالته إصدار أوامره بزجر المجرمين المخالفين فصوت العلماء بالإصلاح الإسلامي والحمد لله قد ارتفع من مصر وطرابلس والجزائر والغرب الأقصى وما بقي ساكنا إلا جامع الزيتونة، فلا تسمع له همسا. لقد ارتفعت الشكوى في الصحف التونسية هذه المدة الأخيرة من بلدان عديدة من القطر التونسي الشقيق بالبدع والمناكر التي يأتيها الطرقيون به. والفضائح التي ارتكبها بعضهم وسيق من أجلها إلى العدلية كما يساق المجرمون، ووجهت سؤالات صريحة إلى العلماء في حكم الإسلام في ذلك كله. وعلماء جامع الزيتونة وشيوخ الفتوى فيه وشيخا الإسلام منهم- وأجمون ساكتون كأن الأمر لا يعنيهم وكأن آيات الله لم تطرق آذانهم، فأين أنتم أيها الشيوخ، وأين إيمانكم؟ لقد سئلتم عن رفض الشريعة الإسلامية بسبب التجنس ذلك الرفض

المخرج عن الإسلام فسكتم، وقال الناس إنكم خفتم على مناصبكم وها أنتم أولاء تسألون اليوم عن البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين باسم الدين، تنكر البدع التي أماتت ضمائرهم وخدرت عقولهم، وجمدت أفكارهم وأفسدت أخلاقهم وأضاعت أموالهم، وسلبتهم حقيقة دينهم، وتركتهم بلاء على أنفسهم، وفتنة لغيرهم، فهل أنتم اليوم أيضا ساكتون، وبالتخويف على مناصبكم معتذرون؟ إننا ندعوكم بكلمة الله إلى الصدع بالحق وإنقاذ المسلمين، فإن أجبتم فذلك الظن بكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وإن أبيتم فعليكم إثم الهالكين وحسب المسلمين رب العالمين (1). عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "المتخرج من جامع الزيتونة" عمره الله

_ البصائر: السنة الأولى العدد الأول الجزائر في يوم الجمعة 26 ذي الحجة 1354هـ الموافق لـ: 20 مارس 1936م، ص1، ع1 و2 و3 ونشر هذا المقال بنفسه في الشهاب، ص 1، م 12، ص 4 - 6 بتاريخ غرة محرم 1355هـ - أفريل 1936م.

معاذ الله

معاذ الله: ظن المتستر وراء (الطالب الزيتوني) أنني لم أجبه ترفعا عنه، ومعاذ الله من هذا معاذه. وإنما لم أجبه لأنه تستر وراء إمضاء مستعار في مخاطبة من يكتب بإمضائه الصريح وليس من العدل أن ينازل الرجال من يختفي وراء الحجال، فإن أردت أن تجاب، فارفع الحجاب، وسلام عليك يا أستاذ! (عبد الحميد)

_ البصائر: السنة1 العدد 24 - الجزائر يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ الموافق ليوم 19 جوان 1936م الصفحة السابعة العمود الثالث.

من آثار جمعية العلماء في تهدئة الأفكار

من آثار جمعية العلماء في تهدئة الأفكار نشرت جمعية العلماء المسلمين على الأمة الجزائريين منشورين في أيام الحادثة (1)، تحضها على ملازمة الهدوء والسكون وتدعوها إلى الثقة بالعدالة الفرنسوية وهذا نص المنشور الأول: نداء من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ايها الشعب الكريم! ها أنت اليوم استيقظت من نوم عميق، وفتحت عينيك للحياة، ونهضت للعمل مع العاملين. فتقو بالاتحاد وتسلح بالايمان وتدرع بالصبر، وتحصن بالثبات، سر بهدوء ونظام في طريق الحق والخير، إلى منزلتك اللائقة بك من الحياة بين الشعوب. كن حذرا كن يقظا. أعرف أصدقاءك من أعدائك. وما أصدقاؤك إلا الذين يحترمون الإنسانية في جميع أجناسها وجميع أديانها ويرحمون الضعيف وينصرون المظلوم، ويقاومون الظلم والاستعباد. وما أعداؤك إلا الذين وقفوا لك في طريق الحياة والتقدم منذ عرفتهم وعرفوك، فسدوا عليك أبواب الرزق والعلم، وسلبوك الحرية والثروة، واستغلوك كما تستغل الحيوانات العجماء بل أشد وأشر.

_ (1) حادثة مقتل الشيخ كحول سنة 1355هـ - 1936م.

وها هم اليوم يريدون خدعك، ويحاولون استعمالك آلة لأغراضهم ضد أصدقائك الإنسانيين. أيها الشعب الكريم: كن- كلك- مع الحكومة الفرنسوية الممثلة للشعب الفرنسي الديموقراطي أصدق تمثيل. كن كلك ضد كل متعصب ضد أي جنس وأي دين. كن متحدا فبالاتحاد- فقط- تبلغ غايتك الشريفة الإنسانية. كن مستيقظا منظما، لتبرهن على أنك شعب لا تريد إلا العيش والحرية والسلام. إرفع عقيرتك بالاحتجاج ضد جميع الذين يستعملون العنف والقسوة والأساليب الشيطانية الخفية ليحدثوا الفتنة والشغب ضد فرنسا والجزائر. ناد من كل قلبك: لتحيى الجزائر! لتحيى فرانسا الشعبية! ليسقط الظلم والاستعباد! ليسقط أضداد الأجناس وحرية الأديان والأفكار! عن الجمعية: الرئيس عبد الحميد بن باديس وهذا نص المنشور الثاني أيها الشعب الكريم: كبر على أعدائك أن يروك فرحا مسرورا بمؤتمرك العظيم، ووفدك إلى باريس، وبلوغ صوتك إلى الحكومة الفرنسية وأحزاب الجبهة الشعبية ورجوع وفدك يحصل الآمال الصادقة، والثقة التامة من تلك الحكومة وتلك الأحزاب.

كبر على أعدائك كل هذا فأخذوا يدبرون لك المكائد، وينصبون لك الأشراك، فكانت تلك الجناية المفكرة على الإمام (ابن دالي) ثم كانت تلك- التهمة الشنيعة على الأستاذ (الطيب العقبي). كل ذلك لأجل أن يثيروك فيخرجوك عن النظام والسكينة ليصوروك بالصورة التي يريدونها لك من القبح والفساد، ولأجل أن يزيلوا ثقتك بالجبهة الشعبية حكومتها وأحزابها، ويوهموك أنه لم يصبك في أيامهم ما أصابك في أيامها فيفضلوك عنها لتقع فريسة بين أيديهم. أيها الشعب الكريم: إرفع صوتك بالاحتجاج ضد كل إجرام وكل كيد. أعلن مقتك للكائدين المكارين. دم على ثقتك بالجبهة الشعبية حكومتها وأحزابها. ثق بأن عين العدالة الفرنسية ستفضح الكائدين. عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وشكر وتقدير كانت حادثة اعتقال الأستاذ (الطيب العقبي) في ظاهرها محنة لجمعية العلماء المسلمين الجزائربين أثرت ما تؤثره المحن المفاجئة من حيرة لم تذهب بالصبر واضطراب لم يزلزل العقيدة. ولكنها كانت في حقيقتها نعمة عظيمة لا يقوم بها الشكر فقد أحدثت في العالم المتصل بالجزائر روحا جديدة من العطف على الجمعية والتنبه لمكانتها والتأييد لها والانتصار لمبادئها الحقة وكانت موحدة لشعور سكان الشمال الإفريقي على الخصوص.

وقد أحدث طرفا الحادثة وهما الإعتقال والإفراج، ضجة أسف عامة، وهزة فرح شاملة، نطقت بها مئات البرقيات والرسائل التي وردت على الأستاذ وعلى مركز الجمعية، وعبرت عنها الصحف العربية والفرنساوية. فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين تتقدم بالشكر الجم للجرائد التونسية على موقفها الشريف في هذه الحادثة واعتنائها المضاعف واهتمامها بإظهار الحقيقة وللجرائد الباريزية على انتصارها للحق وللأمم التي أظهرت عطفها على الجمعية، وشاركتها في الأسف عند نزول الكربة والْفَرح عند انجلائها مقدرة للجميع إحساسهم سائلة رب العباد أن يديم على الكل ستره العميم وفضله الشامل (1). عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس تنظيم الإجتماع العام والدعوة إليه بسم الله الرحمن الرحيم قسنطينة في ......... سنة 1355هـ -1936م الأخ الشيخ رئيس شعبة الجمعية بـ .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فإن الاجتماع العام للجمعية يكون صبيحة الأحد 11 رجب 27 سبتمبر بنادي الترقي بعاصمة الجزائر، فالرجاء منكم أن تحضروه أنتم وبعض أعضاء مجلس إدارة شعبتكم، هذا على سبيل اللزوم ثم من تيسر له القدوم من بقية الأعضاء هذا على سبيل الرغبة الأكيدة.

_ (1) البصائر: الجمعة 10 جمادى الثانية 1355 الموافق ليوم 28 أوت 1936 ص7 السنة الأولى العدد 32.

وقد وجهنا لكم عددا من أوراق الدعوة لتوزعوها بعناية على إخواننا أعضاء الجمعية لديكم ممن ترون منهم تيسر القدوم. والله يستعملنا وإياكم في طاعته، ويتولانا وإياكم بجميل عفوه وجزيل بره. والسلام عليكم ومن أخيكم رئيس الجمعية (1) عبد الحميد بن باديس ((ورقة استدعاء)) للاجتماع العام الذي يقع بنادي الترقي بالعاصمة صبيحة الأحد الثاني من رجب 1355هـ 27 سبتمبر 1936م. أيها الأخ الكريم ... السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. اما بعد فالمجلس الإداري للجمعية يدعوكم للحضور للاجتماع العام في الزمان والمكان المذكورين أعلاه ويؤكد عليكم في الدعوة، راجيا لكم التوفيق والتيسير. والسلام من أخيكم رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس

_ (1) البصائر: السنة الأولى العدد 36 الجمعة 9 رجب 1355هـ - 25 سبتامبر 1936م ص 7 ع 2.

استصحب هاته الورقة معك عند القدوم: فالمرجو من كل من لم يصله كتابه من رؤساء الشعب أو بطاقته من الأعضاء أن يعتبر النص المنشور هنا موجها إليه. وأن يسعى جهده لحضور هذا الاجتماع وعدم تفويته ما استطاع ووجد إلى الحضور سبيلا والله الميسر والهادي إلى سواء السبيل.

_ البصائر: السنة الأولى العدد 36 الجمعة 9 رجب 1355هـ - 25 سبتامبر 1936م ص 7 ع2 و3.

المجلة الزيتونية

المجلة الزيتونية يحق لي- وأنا تلميذ من تلامذة الزيتونة- أن اغتبط بالمجلة الزيتونية غبطة خاصة. ويحق لي- وأنا جندي مع جنود الإصلاح الإسلامي العام- أن أسر سرورا خاصا بتعزز معاقل الإصلاح بها. ما كنت لأنسى أربع سنوات قضيتها بالزيتونة، شطرها متعلماً وشطرها متعلماً ومعلماً، فكان لي منها آباء وإخوة وأبناء، فأكرم بهم من آباء وأكرم بهم من إخوة وأكرم بهم من أبناء. مضت بضع سنوات حالت فيها الأعمال المتوالية بيني وبين زيارة ذلك المعهد الشريف وأهله الكرام، ولقد كان- علم الله- شذى مجالسنا بذكره، ونعيم أرواحنا بذكراه، وما أعرف صائفة حل بنا معشر خدمة الإصلاح- بها البلاء واستحكمت حلقاته مثل الصائفة الماضية، بما كبدت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وما نصب لها ولرجالها من إشراك لولا دفع الله وحفظه، وما أعلم صائفة هاج بي الشوق إلى جامع الزيتونة مثلها، ولقد علم رفاقي أنه كان صبابة وهياجا لا شوقا معتادا. وأي واجبات هي من حقوق الجزائر غالبت ذلك الشوق فغلبته فلم أستطع براحا، وأي ألم هو كنت ألقاه بين سلطان الواجب وصولة العاطفة، لكن الله الذي أرانا فنونا من لطفه في تلك الصائفة عجل بما سكن ذلك الشوق، وأنعش الروح، وشرح الخاطر، فاطلع علينا (المجلة الزيتونية) من سماء تلك الديار، مشرق الشموس مطلع الأقمار وقد ازدانت غرتها بأسماء أربعة من خيرة الشباب العلماء

العاملين: الأستاذ محمد الشاذلي بن القاضي والأستاذ محمد الهادي ابن القاضي، وكنت تلقيت قسما من البلاغة على المنعم والدهما، والأستاذ محمد المختار بن محمود، والأستاذ الطاهر القصار، وكنت مررت يوم امتحان شهادة التطويع أمام المنعمين والديهما مع غيرهما وقد اضطلع هؤلاء الأساتذة الأربعة بالمجلة وتحريرها وإدارتها وماليتها. وأمدهم الأستاذ الأكبر شيخ الجامع بتأييده الرسمي ووازرهم في العمل أمثالهم من الشباب العلماء وأصحاب الفضيلة الشيوخ الكبراء مثل العلامة أستاذنا شيخ الإسلام المالكي ابن عاشور والعلامة أستاذنا الشيخ الصادق النيفر والعلامة الأستاذ الشيخ عبد العزيز جعيط والعلامة الأستاذ الشيخ البشير النيفر وغيرهم. فكانت المجلة الزيتونية تمثل تمثيلا صحيحا جامع الزيتونة بشيوخه وشبانه فتتجلى فيها الجرأة والرصانة، والنشاط والتؤدة. فتسير- إن شاء الله- إلى غايتها في قوة وسلام. كانت أول دعوة للإصلاح الإسلامي أعلنت في هذا الشمال الإفريقي على لسان الصحافة- هي دعوتنا منذ بضع عشرة سنة في جريدة (المنتقد) الشهيدة وفي خلفها (الشهاب) وما كان ينتظر من جامع الزيتونة المعمور في جلاله وثقل تقاليده أن يخف لتأييد تلك الدعوة فكنا نعذره بالسكوت حينا، ونأمل أن يأتي يوم يأبى عليه الحق فيه إلا أن يقول كلمته ويرفع صوته فيدوي له هذا الشمال، وكنا نستعجل هذا الفينة بعد الفينة بما نلوح ونصرح به من عتب واستنجاد، حتى جاء هذا العام المبارك فجاءت (المجلة الزيتونية) تعلن الإصلاح وتحمل رايته وتدعو إليه باسم جامع الزيتونة المعمور فكان فوزا مبينا للإصلاح والمصلحين ونصرا عظيما للإسلام والمسلمين. وقد صدر العدد الأول بمقال الافتتاح بقلم رئيس التحرير الأستاذ محمد المختار ابن محمود وخطاب لصاحب الفضيلة، الأستاذ الأكبر شيخ

الجامع وخطاب للأستاذ محمد الشاذلي بن القاضي صاحب المجلة وكلها صريحة فيما ذكرناه من تقدم جامع الزيتونة والمجلة الزيتونية لميدان الإصلاح الإسلامي العام. وها نحن ننقل فيما يلي دررا منها نحلي بها جيد هذا المقال: قال الأستاذ رئيس التحرير: "ونحن إذا تأملنا حالة المسلمين في هذا العصر، من كل قطر ومصر وجدناهم قد نبذوا تعاليم الإسلام ظهريا. وتجافوا عنه كبرا وعتيا. فسوق المفاسد والضلالات في رواج وظلام الشرك يوشك أن لا يكون له انبلاج، فكان لزاما على علماء الدين في جميع النواحي أن يشمروا عن ساعد الجد. وينفقوا كل ما لديهم من مال وجاه وكد. ويرفعوا أصواتهم بإرشاد الناس. من جميع الأجناس. حتى يملأ صوتهم الفضاء، ويصل إلى عنان السماء، فينفذ إلى قلوب أعمتها الضلالة وأتت عليها الجهالة. وبذلك يتميز السبيل القصد عن الجائرات من السبل، وما تكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ويصرع الباطل وإن شاع ويظهر الحق وتعلو كلمة الله في جميع البقاع". "وسيكون في المجلة باب بعنوان (الوعظ والإرشاد) وهو من أعظم أبواب المجلة حيث سيكون مجالا فسيحا لإرشاد الناس وتنبيههم إلى مواقع الخطأ فيما هم سائرون عليه حتى يقلعوا عنه ويرجعوا إلى هدي الإسلام". "وسيكون شعار المجلة في جميع أعمالها وفي مختلف أطوارها، الإصلاح الديني ومقاومة كل حركة ترمي إلى الإلحاد أو إلى التعصب الديني أو المذهبي ومقاومة البدع بجميع أنواعها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا". وقال الأستاذ الأكبر أستاذنا المالقي- في بيان مهمة مشيخة الجامع

الأعظم التي تسعى لتحقيقها-: (خامسا) إرشاد العلماء للعامة وإنقاذهم من وهدة الجهالة التي لا يعذر صاحبها وذلك بالوعظ والإرشاد في الجوامع، والمجتمعات العامة وتعهدهم بالموعظة كما كان عليه سلف الأمة ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وقال الأستاذ صاحب المجلة: "وليس هذا هو كل ما يتطلب منا القيام به فإن أمامنا مهمات كثيرة تتطلب رجالا مصلحين أمثالكم هي اليوم في طي الذهول أو النسيان". ... نحن نسجل بغاية السرور والغبطة ومع صادق الرجاء وعظيم الأمل، هذه التصريحات الجليلة التي لا تصدر إلا من قلوب أفعمث بالخير، ونفوس تشعر بالواجب، وهمم تريد النهوض بإرث النبوة والرسالة من إنقاذ الخلق وهدايتهم إلى الصراط المستقيم. وخصوصا تصريحات مولانا الأستاذ الأكبر فقد بين أن من مقاصد مشيخة الجامع القيام بالوعظ والإرشاد في الجوامع والمجتمعات وأن تلك هي سيرة السلف الصالح. وطبع كلامه بكلمة أمام دار الهجرة التي هي شعار "الشهاب". وهذا الذي بيَّنه فضيلته هو ما قامت وتقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو ما لقيت وتلقى في سبيله كل عرقلة وشر من طرف الإدارة الظالمة الغاشمة المتعرضة لتربية المسلمين تربية إسلامية إنسانية صحيحة، فليتكل فضيلته على الله وليقدم الشبان العلماء من أبناء الزيتونة إلى ميادين الوعظ والإرشاد في الجوامع والمجتمعات في جميع نواحي المملكة- لا العمالة! - التونسية. وليوطن إخواننا من الأساتذة أنفسهم على ما يلقونه من البلاء وما تمطرهم به سحب الظلم والجهل من أنواع الأذى وفقهم الله وأعانهم على تعجيل ما عزموا عليه. ***

وبعد فإن اسم الزيتونة إسم إسلامي علمي تاريخي عظيم فيجب أن تكون "المجلة الزيتونية" ممثلة له مجددة لعهده. وأن في تعاون أساتذة الجامع: شبابهم وشيوخهم على النهوض بها ما يحقق ذلك إن شاء الله. وإنني أقترح على إخواني القائمين بها أن يضموا إلى قلم تحريرها رجالا من الزيتونيين الذين يعرفون بعض اللغات الغربية ولهم خبرة بحركات العصر من وراء البحر فإن العلوم والآداب والفنون تراث الإنسانية كلها لا تستقل فيها أمة عن أمة وأكمل الأمم إزاءها من تحسن كيف تحافظ على حسنها وتستفيد من حسن غيرها (1). وسلام عليكم أيها الرفاق، من أخ مشتاقا عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 10، م 12، ص440 - 444 غرة شوال 1355هـ - جانفي 1637م.

المجلة التونسية

المجلة التونسية اجتمعنا بالأستاذ مبارك الميلي في شهر رمضان الماضي ودار الحديث على النهضة الإصلاحية التي ظهرت بجامع الزيتونة المعمور، وكان من ثمارها المجلة الزيتونية. فأخبرني الأستاذ أنه كتب لها تقريظا وأرسله إلى إدارتها. وكنا نحسب أنه يصدر بجزء شوال ولما اجتمعت بالأساتذة أصحاب المجلة بشهر شوال أخبروني باتصالهم بالتقريظ واعتذروا عن تأخره بكثرة المواد وذكروا لي أنهم سينشرونه- مع تعليق على شيء فيه- في جزء ذي القعدة فصدر الجزء ولم ينشر فيه. فلما اجتمعت بالأستاذ الميلي في العشرين منه تذاكرنا أمر التقريظ وتأخر نشره وسألته هل فيه ما جعل نشره على الإاخوان ثقيلا؟ وطلبت منه أن يطلعني عليه وأن يأذن لي في نشره فأعطانيه فلم أجد فيه إلا كل ما يسر ويفيد فبادرت بنشره (1).

_ (1) ش: ج12، م12، ص 507 غرة ذي الحجة 1355هـ - فيفري 1937م.

دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأصولها

دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأصولها بقلم الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ــــــــــــــــــــــــــــــ 1 - الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله، وكمله على يد نبيه (محمد) الذي لا نبي من بعده. 2 - الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به وذلك لأنه: أولا- كما يدعو إلى الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين، يذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر أجمعين. ثانيًا- يسوي في الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية بين جميع الأجناس والألوان .. ثالثا- لإنه يفرض العدل فرضا تاما بين جميع الناس بلا أدنى تمييز. رابعا- يدعو إلى الإحسان العام. خامسا- يحرم الظلم بجميع وجوهه وبأقل قليله من أي أحد على أي أحد من الناس. سادسا- يمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير. سابع- ينشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالختل والإكراه. ثامنا- يترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاؤون. تاسعا- شرك الفقراء مع الأغنياء في الأموال وشرع مثل القراض

والمزارعة والمغارسة، مما يظهر به التعاون العادل بين العمال وأرباب الأراضي والأموال. عاشرا- يدعو إلى رحمة الضعيف فيكفي العاجز ويعلم الجاهل ويرشد الضال ويعان المضطر ويغاث الملهوف وينصر المظلوم ويؤخذ على يد الظالم. حادي عشر- يحرم الاستعباد والجبروت بجميع وجوهه. ثاني عشر- يجعل الحكم شوري ليس فيه استبداد ولو لأعدل الناس. 3 - القرآن هو كتاب الإسلام. 4 - السنة- القولية والفعلية- الصحيحة تفسير وبيان للقرآن. 5 - سلوك السلف الصالح- الصحابة والتابعين وأتباع التابعين- تطبيق صحيح لهدي الإسلام. 6 - فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة. 7 - البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعله وكل بدعة ضلالة. 8 - المصلحة كل ما اقتضته حاجة الناس في أمر دنياهم ونظام معيشتهم وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم مما تقره أصول الشريعة. 9 - أفضل الخلق هو (محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه: أولا- اختاره الله لتبليغ أكمل شريعة إلى الناس عامة. ثانيا- كان على أكمل أخلاق البشرية. ثالثا- بلغ الرسالة ومثل كمالها بذاته وسيرته.

رابعا- عاش مجاهدا في كل لحظة من حياته في سبيل سعادة البشرية جمعاء حتى خرج من الدنيا ودرعه مرهونة. 10 - أفضل أمته بعده هم السلف الصالح لكمال اتباعهم له. 11 - أفضل المؤمنين هم الذين آمنوا وكانوا يتقون وهم الأولياء والصالحون فحظ كل مؤمن من ولاية الله على قدر حظه من تقوى الله. 12 - التوحيد أساس الدين، فكل شرك- في الاعتقاد أو في الفعل- فهو باطل مردود على صاحبه. 13 - العمل الصالح المبني على التوحيد به وحده النجاة والسعادة عند الله فلا النسب ولا الحسب ولا الحظ بالذي يغني عن الظالم شيئا. 14 - اعتقاد تصرف أحد من الخلق مع الله في شيء ما شرك وضلال، ومنه اعتقاد الغوث والديوان. 15 - بناء القباب على القبور ووقد السرج عليها والذبح عندها لأجلها والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال الجاهلية ومضاهاة لأعمال المشركين فمن فعله جهلا يُعَلَّم ومن أقره ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل. 16 - الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ والتحيز لاتباع الشيخ وخدمة دار الشيخ وأولاد الشيخ إلى ما هناك من استغلال .... ومن تجميد للعقول وإماتة للهمم وقتل للشعور وغير ذلك من الشرور .. 17 - ندعو إلى ما دعا إليه الإسلام وما بيناه منه من الأحكام بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الأئمة مع الرحمة والإحسان دون عداوة أو عدوان.

18 - الجاهلون والمغرورون أحق الناس بالرحمة. 19 - المعاندون المستغلون أحق الناس بكل مشروع من الشدة والقسوة. 20 - عند المصلحة العامة- من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف بفرق الكلمة ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله، ثم بقوة الحق وادراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. عبد الحميد بن بادبيس بقسنطينة بالجامع الأخضر اثر صلاة الجمعة 4 ربيع الأول 1356هـ (1)

_ (1) البصائر: السنة الثانية العدد 71 الجمعة 9 ربع الثاني 1356هـ 18 جوان 1937م، ص 1، ع 1 و2 و3، وص 2، ع 1، ونشرت نفس المقالة في ش: ج4، م 13، ص 176 - 179، غرة ربيع الثاني 1356هـ - 11 جوان 1937م.

لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة

لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة من المعلوم عند أهل العلم أن مما حفط الله به دينه وأبقى به حجته أنه لا تنقطع الدعوة إلى الله في هذه الأمة والقيام على الحق والإعلان بالسنن والرد على المحرِّفين والمتغالين والزائغين والمبتدعين وأن أهل هذه الطائفة معروفة مواقفهم في كل جيل محفوظة آثارهم عند العلماء غير ان غلبة الجهل وكثرة أهل الضلال قد تحول دون بلوغ صوتهم إلى جميع الناس فترى أنصار الباطل كلما قام داع من دعاة الحق في ناحية اعترضوه بسكوت من سكت ممن كان قبله وأوهموا اتباعهم المغرورين بهم أن هذا الداعي جاء بدين جديد فيكون من أعظم ما يرد به عليهم ويبصر أولئك المغترين بهم نشر ما تقدم من كلام دعاة الحق وأنصار الهدى في سالف الزمان، ولهذا ننشر فيما يلي خطبة جليلة لمولانا السلطان سليمان ابن سيدي محمد بن عبد الله أحد مفاخر ملوك المسلمين في القرن الثاني عشر في القطر الشقيق المغرب الأقصى، وقد كان هذا الإمام علامة مشاركا تحريرا سلفيا مصلحا كبيرا عاملا بعلمه آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعياً للسنة محارباً للبدعة. معلماً للأمة ما علمه الله منفذاً فيها لأحكام الله، وقد نشر هذه الخطبة في رسالة خاصة إخواننا العلماء المصلحون بالمغرب ورجوا من الخطباء أن يخطبوا بها كما كان أمر صاحبها رحمه الله، أن يخطب بها في زمانه فنقلناها من تلك الرسالة ونحن نرجو من خطباء الجزائر أن يخطبوا بها على الناس إن كانوا لهم ناصحين.

نص الخطبة

نص الخطبة الحمد لله الذي تعبدنا بالسمع والطاعة، وأمرنا بالمحافظة على السنة والجماعة وحفظ ملة نبيه الكريم وصفيه الرؤوف الرحيم، من الإضاعة، إلى قيام الساعة وجعل التأسي به أنفع الوسائل النافعة أحمده حمداً ينتج اعتماد العبد على ربه وانقطاعه. وأشكره شكراً يقصر عنه لسان البراعة، وأستمد معونته بلسان الذلة والضراعة وأصلي على محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة، على العموم والإشاعة والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه حسب الاستطاعة أما بعد أيها الناس شرح الله لقبول النصيحة صدوركم وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه آمركم ومأموركم فإن الله قد استرعانا جماعتكم وأوجب لنا طاعتكم وحذرنا إضاعتكم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. سيما فيما أمر الله به ورسوله أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية الذين إن مكناهم في الأرض أقَاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولهذا نرثي لغفلتكم! أو عدم إحساسكم ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم! فألقوا لأمر الله آذانكم وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم وطهروا من دنس البدع إيمانكم وأخلصوا لله أسراركم وإعلانكم واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طريق السنة لتسلكوها. وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه. واعرفوا فضله عليكم وعوه واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون! والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون وافترقوا أوزاعا! وانتزعوا الأديان والأمول انتزاعا بما هو حرام كتابا وسنة واجماعا! وتسموا فقراء: وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ

بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}! وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة وتلبيس وضلال وتدليس شيطاني وحبال زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتا! وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك درهم وأقواتا! وتصدى له أهل البدع من عساوة وجلالة وغيرهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة! وصاروا يرقبون للهوهم الساعات! وتتزاحم على حبال الشيطان وعصيه منهم الجماعات! وكل ذلك حرام ممنوع والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع، فأنشدكم الله، عباد الله هل فعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- لعمه سيد الشهداء موسما؟ وهل فعل سيد هذه الأمة أبو بكر لسيد الارسال- صلى الله عليه وعلى جميع الصحابة والآل- موسما؟ وهل تصدى لذلك أحد من التابعين رضي الله عنهم أجمعين-، ثم أنشدكم الله، هل زخرفت على عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- المساجد، أم زوقت أضرحة الصحابة والتابعين الأماجد كأني لكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفة أضرحة الصالحين وغير ذلك من أنواع الابتداع، حسبنا الاقتداء والاتباع، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، وهذه المقالة قالها الجاحدون هيهات هيهات لما توعدون. وقد رد الله، مقالهم ووبخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين. وأهل الصلاح والدين خير القرون قرني الحديث (1) وبالضرورة أنه لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، فقد قبض رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عقد الدين قد سجل، ووعد الله بإكماله وقد عجل، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

_ (1) متفق عليه، (ابن باديس).

الْإِسْلَامَ دِينًا} قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على منبر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بحضرة الصحابة- رضي الله عنهم-: أيها الناس، قد سننت لكم السنن وفرضت الفرائض وتركتم على الجادة، فلا تميلوا بالناس يميناً ولا شمالاً فليس في دين الله ولا فيما شرع نبي الله، أن يتقرب بغناء ولا شطح، .. والذكر- الذي أمر الله به، وحث عليه، ومدح الذاكرين به، هو على الوجه الذي كان يفعله- صلى الله عليه وآله وسلم-، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف، وطريقة صالحي الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يستمع ومن سلك غير سبيلهم فلا يتبع ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين قوله: {مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، فما لكم يا عباد الله ولهذه البدع؟! أأمنا من مكر الله؟! أم تلبيساً على عباد الله؟! أم منابذة لمن النواصي بيديه!؟ أم غرورا لمن الرجوع بعد إليه!؟ فتوبوا واعتبروا وغيروا المناكر واستغفروا. فقهد أخذ الله بذنب المترفين من دونهم! وعاقب الجمهور لما أغضوا عن المنكر عيونهم! وساءت بالغفلة عن الله عقبى الجميع. ما بين العاصي والمداهن المطيع! أفيزلكم الشيطان، وكتاب الله بأيديكم؟ أم كيف يضلكم وسنة نبيكم تناديكم، فتوبوا إلى رب الأرباب. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. ومن أراد منكم التقرب بصدقة، أو وفق لمعروف أو إطعام أو نفقة. فعلى من ذكر الله في كتابه. ووعدكم فيه جبريل ثوابه كذوي الضرورة الغير الخافية والرضى الذي لستم بأولى منهم بالعاقبة. ففي مثل هذا تسد الذرائع وفيه تمتثل أوامر الشرائع.

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}. ولا يتقرب إلى مالك النواصي، بالبدع والمعاصي. بل بما يتقرب به الأولياء والصالحون. والأتقياء المفلحون أكل الحلال وقيام الليالي، ومجاهدة النفش في حفط الأحوال بالأقوال والأفعال. البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآيات تتلى، وسلوك الطريقة المثلى، وحج وجهاد ورعاية السنة في الموسم والأعياد، ونصيحة تهتدى، وأمانة تؤدى، وخلق على خلق القرآن يحدى، وصلاة وصيام، واجتناب مواقع الآثام، وبيع النفس والمال من الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. الصراط المستقيم كتاب الله، وسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-. وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات. وحضور النساء والأحداث. وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والأحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص …؟ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}؟، عن المقداد (1) بن معد يكرب- رضي الله عنه-: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة وبين يدييه راية يحملها، وأناس يتبعونها، فيسأل عنهم ويسألون عنه؟ .. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ

_ (1) كذا فى الأصل المنقول عنه: المقداد بن معد يكرب ولا يوجد في الإصابة هذا الإسم إنما الموجود المقداد بن الأسود بن معدي كرب ولعله هو الصواب هنا، راجع ج 3. من الإصابة ص 454 إلى 455 وبعد فانظر من خرج الحديث وما رتبته فإني لم أقف عليه.

الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}. فيجب على من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا من السلطان والخلائف أن يمنعوا هؤلاء الطوائف، من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم ثم إياكم والبدع فإنها تترك مراسم الدين خالية خاوية، والسكوت عن المناكر يحيل رياض الشرائع ذابلة ذاوية فمن المنقول عن المال، والمشهور في الأواخر والأوائل أن المناكر والبدع إذا فشت في قوم أحاط بهم سوء كسبهم وأظلم ما بينهم وبين ربهم وانقطعت عنهم الرحمات ووقعت فيهم المثلاث، وشحت السماء، وحلت النقماء وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، ونقعت م بركة الزروع، لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق الفوائد، والأدب مع الله ثلاثة: حفط الحرية، بالاستسلام والاتباع، ورعاية السنة من غير إخلال ولا ابتداع ومراعاتها في الضيق والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكل ذلك كذب على الله وافتراء، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، عن العرباض (1) بن سارية- رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله- صلى الله عليه وآله رسلم-، موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام إليه رجل فقال يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لمن ولي عليكم وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإيكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

_ (1) أخرجه الإمام أحمد فى مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجمة والحاكم في المستدرك باختلاف يسير.

وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم، فمن ذهب بعد لهذه المواسم أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم. فقد سىعى في هلاك نفسه. وجر الوبال عليه وعلى أبناء جنسه. وتله الشيطان للجبن. وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).

_ (1) ش: ج 4، م 12، ص 168 - 172 غرة ربيع الثاني 1355هـ - جويلية 1936م.

جواب صريح

جواب صريح تمهيد: ورد سؤال على الأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي وزير معارف الحكومة المغربية من الشيخ حافظ إبراهيم ربيشطي من أهل العلم ببلدة شقودرة بمملكة ألبانيا، عن أشياء منها ما يتعلق بالطريقة التجانية، فأجاب الأستاذ عن تلك المسائل كلها ونشر جوابه في مجلة "الرسالة" حيث نشر السؤال، ولقد أجاد الأستاذ في جوابه غير أنه أحاط كلامه في شأن الطريقة التجانية بشيء من الغموض حمله عليه فيما أظن مركزه ومحيطه وليس له في هذا عذر عند الله فإن السؤال كان واضحا والموضوع عظيما هاما والموقف محتاجا إلى صراحة لا يخاف فيها إلا الله. فريت من واجبي الديني أن أجيب بصراحة وأن آتي من كلام الأستاذ بما هو مؤيد لجوانبي مع التعليق عليه لا أقصد من ذلك - علم الله- إلا النصح لإخواني الذين ضلوا بهذه الطريقة عن الصراط المستقيم هدانا الله كلنا إليه .. تلخيص السؤال: يدعي المنتسبون للطريقة التجانية: 1 - أن قراءة (صلاة الفاتح) أفضل من تلاوة القرآن ستة آلاف مرة متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن. 2 - أن (صلاة الفاتح) من كلام الله القديم ولا يترتب عليها ثوابها إلا لمن اعتقد ذلك.

الجواب

3 - وأن (صلاة الفاتح) علمها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لصاحب الطريقة ولم يعلمها لغيره. 4 - وأن مؤسس الطريقة التجانية أفضل- الأولياء. 5 - وأن من اتنسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب وتغفر ذنوبه الصغار والكبار، حتى التبعات. فهل الإندماج فيها غير مناف للشريعة الغراء؟. الجواب: 1 - القرآن كلام الله و (صلاة الفاتح) من كلام المخلوق ومن اعتقد أن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق فقد كفر. ومن جعل ما للمخلوق مثل ما لله فقد كفر بجعله لله ندا فكيف بمن جعل ما للمخلوق أفضل مما للخالق. هذا إذا كانت الأفضلية في الذات فأما إذا كانت الأفضلية في النفع فإن (1) الأدلة النظرية والأثرية قاضية بأفضلية القرآن على جميع الأذكار وهو مذهب الأئمة من السلف والخلف. قال سفيان الثوري -رحمه الله- "سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر". نقله القرطبي في الباب السابع منكتاب "التذكار" وقال النووي - رحمه الله - "واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار. وقد تظاهرت الأدلة على ذلك" قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان ومخالفة مثل هذا موجب للتبديع والتضليل. 2 - وأما زعم من زعم- متأولا لتلك الأفضلية الباطله- بأن

_ (1) راجع ج 3 م 5 من الشهاب.

(صلاة الفاتح) خير لعامة الناس من تلاوة القرآن لأن ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثما لمخالفته لما يتلوه. واستدلوا على هذا بقول أنس- رضي الله عنه- الذي تحسبه العامة حديثا: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه- فهو زعم باطل لأنه مخالف لما قاله أئمة السلف والخلف من أن القرآن أفضل الأذكار ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة ولا بين مطيع وعاص، ومخالف لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه: الأول- أن المذنبين مرضى القلوب فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله فكل معصية يأتي بها الإنسان هي من فساد في القلب ومرض به. والله تعالى قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فمقصود الشرع من المسلمين أن يتلوه ويتدبروه ويستشفوا بألفاظه ومعانيه من أمراضهم من عيوبهم وذنوبهم وذلك الزعم الباطل يصرف المذنبين- وأيّنا غير مذنب؟ - عن تلاوته. الثاني- أن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة والشكوك والأوهام والجهالات وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها فلا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها فهي محتاجة دائما وأبدا إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن وقد أرشد النبي- صلى الله طيه وآله وسلم- إلى هذا فيما رواه البيهقي في "الشعب" والقرطبي في

_ (2) راجع ج 4 م 5 من الشهاب (المؤلف).

" التذكار" - "أن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها، قال: «تلاوة القرآن» " فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم وذلك الزعم الباطل يصرفهم عنه. الثالث- أن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه، وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها. فروى أبو داوود عن سعد- مرفوعا-: "ما من أمرء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي اله أجذم". وروى الشيخان عن عبد الله- مرفوعا-: "واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم". فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ ودفع النسيان وذلك الزعم الباطل يؤدي إلى تقليلها أو تركها. ومثل هذا الزعم في البطلان والضلال زعم أن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة واحدة. ولا يكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنبا آخر وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر فكيف يكتب عليه ذنب إذا باشر عبادة التلاوة؟ والأصل القطعي - كتابا وسنة- أن ما جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهو يبطل إن تجدد له سيئاته إذا جاء بتلاوة القرآن. وما قول أنس - رضي الله عنه- "رب تال للقرآن والقرآن يلعنه" فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته، كيف وتلاوته عبادة؟ وإنما معناه أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلا فيكون داخلا في عموم لعنه للظالمين والكاذبين. وهذا الكلام خرج مخرج التقبيح للإصرار على مخالفة القرآن مع تلاوته بعثا للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن وتعجيل المتاب، ولم يخرج مخرج الأمر بترك التلاوة والانصراف عنها. هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل بحكم الأدلة المتقدمة. ونظيره ما ثبت في الصحيح: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله

حاجة أن يدع طعامه وشرابه". قال الشراح- واللفظ للقسطلاني-: "وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور وإنما معناه التحذير من قول الزور فهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «من باع الخمر فليشقص الخنازير» أي يذبحها، ولم يأمره بشقصها، ولكنه التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه". هذا فيمن يرتكب الزور وهو صائم فيكون متلبسا بالعبادة والمخالفة في وقت واحد، فكيف بمن كان ذنبه في غير وقت عبادة التلاوة؟ فالمقصود من كلام أنس تحذيره من الإصرار على المخالفة، وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته. 2 - وليس عندنا من كلام الله إلا القرآن العظيم. هذا إجماع المسلمين حتى أن ما يلقيه جبريل- عليه السلام- في روع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- سماه الأئمة بالحديث القدسي، وفرقوا بينه وبين القرآن العظيم ولم يقولوا فيه كلام الله. ومن الضروري عند المسلمين أن كلام الله هو القرآن وآيات القرآن، فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) من كلام الله فقد خالف الإجماع في أمر ضروري من الدين وذلك موجب للتفكير. 3 - قد بعث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- معلما كما صح عند (1)، وعاش معلما آخر لحظة من حياته، فتوفاه الله تعالى نبيا رسولا ونقله للرفيق الأعلى، وقد أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وانقطع الوحي وانتهى التبليغ والتعليم. وترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل أبدا وهو كتاب الله وسنته، كما صحَّ عنه، هذا كله مجمع عند المسلمين، وقطعي في الدين، فمن زعم أن محمداً مات وقد بقي شيء لم يعلمه للناس في حياته فقد أعظم على الله الفرية وقدح في تبليغ الرسالة،

_ (1) كذا فى الأصل والكلام ناقص وربما يكون أصله أو عنه.

وذلك كفر. فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) علمها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لصاحب الطريقة التجانية دون غيره، كان مقتضى اعتقاده هذا أنه مات ولم يبلغ وذلك كفر. فإن زعم أنه علمه إياها في المنام فالإجماع على أنه لا يؤخذ شيء من الدين في المنام مع ما فيه من الكتم وعدم التبليغ المتقدم. هذا وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة- رضي الله عنهم- سألوا النبي- صلى الله عليه واله وسلم- كيف يصلون عليه فانتظر الوحي وعلمهم الصلاة الإبراهيمية وقد تواترت في الأمة تواترا معنويا ونقلها الخلف عن السلف طبقة عن طبقة وأجمع الناس على مشروعيتها في التشهد. ومن مقتضى الاعتقاد الباطل المتقدم أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- كتم عن أفضل أمته ما هو الأفضل وحرم منه قرونا من أمته وهو الأمين على الوحي وتبليغه، الحريص على هداية الخلق وتمكينهم من كل كمال وخير، فمن قال عليه ما يقتضي خلاف هذا فقد كذب عليه وكذب ما جاء به. ومن رجح صلاة على ما علمه هو - صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه- رضي الله عنهم- بوحي من الله واختيار منه تعالى فقد دخل في وعد: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}. 4 - لا تثبت الأفضلية الشرعية إلا بدليل شرعي ومن أدعاها لشيء بدون دليل فقد تجرأ على الله وقفا ما ليس به علم وقد أجمعت الأمة على تفضيل القرون المشهود لها بالخيرية من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام فاعتقاد أفضلية صاحب الطريقة التجانية تزكية على الله بغير علم وخرق للإجماع المذكور، موجب للتبديع والتضليل.

5 - عقيدة الحساب والجزاء على الأعمال قطعية الثبوت ضرورية العلم فمن اعتقد أنه يدخل الجنة بغير حساب فقد كفر. فالمندمج في الطريقة التجانية على هذه العقائد ضال كافر. والمندمج فيها دون هذه العقائد عليه إثم من كثر سواد البدعة والضلال. ثم هاكم من جواب الأستاذ عن فصول السؤال، مما يؤيد جوابنا مع تعليقنا عليه: "ومن المكر الخفي والكيد للإسلام المنطوي تحت هذه المقالة تزهيد الناس في القرآن العظيم وفي تلاوته ثم الإعراض عنه إلى ما هو أخف عملا وفي الميزان أثقل في زعمهم الباطل وإني لأعجب لمسلم استنار بنور القرآن يقبل هذه المقالة في الإسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله". لهذه وغيره نقول أن الطريقة التجانية ليست كسائر الطرق في بدعها، والمشاهد اليوم من أضرارها، ودعنا من حديث ماضيها بما فيه، بل هي طريقة موضوعة لهدم الإسلام تحت اسم الإسلام، فإن كتبها وأقوال أصحاب صاحبها مطبقة على هذه الأفكار وأكثر منها فلا تجد في كتبهم ما هو خالص منها حتى يمكن أن يكون هو الأصل وأن غيره مدسوس وإنك لتجد هذه الكتب محل الرضى والقبول والتقديس عند جميع أتباع الطريقة عالمهم وجاهلهم. ولو كان عالمهم بالكلمة المنسوبة إلى صاحب الطريقة، والله أعلم بصحة نسبتها: "زنوا كلامي بميزان الكتاب والسنة"- لأعدموا تلك الكتب أو حرموا على جماعتهم قراءتها أو حذفوا منها هذه الكفريات والأضاليل وأعلنوا البراءة منها للناس لكن شيئا من ذلك لم يقع. وإنما يطنطنون بتلك الكلمة قوليا ويقرون تلك الكتب وما فيها علميا. وماذا يفيد القول مع التقرير والعمل. ولهذا رغم من كان في هذه الطريقة من أناس مشهورين بالعلم كالشيخ الرياحي فإن الحالة هي الحالة وتلك الكفريات

والأضاليل فاشية منتشرة في اتباع الطريقة إلى اليوم. قال الأستاذ الحجوي .... بعدما نقل أقوالهم في ضمان شيخهم ومضاعفة الأجور لهم ودخولهم الجنة بغير حساب-: "فكأنها (الطريقة التجانية) ورقة حماية من دولة لها سلطة عالية، تعالى من يجير ولا يجار عليه، فكأنهم نسوا القرآن". فبهذا صارت الطريقة التجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرار ضد الإسلام. فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهم يقولون في الشيخ التجاني هو الختم وهو لبنة التمام للأولياء فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة. وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا أن التجاني رجله على رقبة كل ولي لله، بهذه العبارة الجافة من كل أدب الجارحة لعواطف كل مسلم لأن الولي في عرفهم يشمل النبي إذ يقولون أن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصحابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب، ولم يكن عندهم بشارة بالنجاة منهما. إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون". دعا الإسلام إلى الجد ومحاسبة النفس والعمل على الخوف والرجاء في جميع نواحي الحياة الدنيا على أن يكون ذلك على السداد والإخلاص ليكون ذخرا لسعادة الأخرى فجاءت عقيدة ضمان الشيخ ودخول الجنة بلا حساب هادمة لذلك كله وقد ظهرت آثارها بالفعل كما حكاه الأستاذ الحجوي فيما يلي: "حكى لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلا في البادية. وقد تقصيت أخبار الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون

كلمة إلى العلماء

على الحقوق، وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعا تيجانيون. فبقيت متحيرا حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب يترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم". هذا في العدول وهم من أهل العلم فكيف بالعامة؟ فهذه الطريقة ما وضعت إلا لهدم الإسلام ولا أجزم بأن صاحبها هو الذي وضعها هذا الوضع فقد يكون فيمن اتصل به من كاد هذا الكيد، ودسَّ، وليس مثل هذا الكيد جديدا على الإسلام. قال الإمام ابن حزم في كتاب "الاحكام" ج 3 ص 21: "فإن هذه الملة الزهراء الحنيفة السمحة كيدت في وجوه جمة، وبغيت لها الغوائل من طرق شتى، ونصبت لها الحبائل من سبل خفية، وسعي عليها بالحيل الغامضة وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم، وتسمى بأسمهم ودسَّ لهم سم الأساود، في الشهد والماء البارد، فلطف لهم من مخالفة الكتاب والسنة، فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه. وبه تعالى نستعيذ من البلاء، ونسأله العصمة بمنه، لا إله إلا هو". ((كلمة إلى العلماء)) (وفي مقدمتهم صديقي العلامة الأستاذ البشير النيفر التونسي). إنني أدعو كل عالم تجاني إلى النظر في فصول السؤال والجواب فإن أقروا ما أنكرناه فليعلنوا إقرارهم له. وإذا أنكروا ما أنكرناه فليعلنوا إنكارهم له، يصرحوا: 1 - بأن (صلاة الفاتح) ليست من كلام الله. 2 - وأنها ليست مثل الصلاة الإبراهيمية. 3 - وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لم يعلمها لصاحب طريقتهم.

4 - وأن لا فضل له ولا لأتباعه إلا بتقوى الله. 5 - وأن المنتسب إلى طريقتهم لا يمتاز من المسلمين عن غير المنتسب إليها. ومن لم يصرح بهذا باء بوزره ووزر الهالكين من الجاهلين وكان عليه إثم الكاتمين من العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل. {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (1). عبدالحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 7، م 14، ص 49 - 57 غرة رجب 1357هـ- سبتمبر 1938

رسالة جواب سؤال عن سوء مقال

رسالة جواب سؤال عن سوء مقال للعلامة السلفي الأستاذ عبد الحميد بن باديس حفظه الله ــــــــــــــــــــــــــــــ عقائد نقية، أدلة جلية، كلمات نبيلة، نقول جليلة بيان لعظيم مقام النبوة والرسالة، ولضلال من خاطب ذلك المقام بخطاب الجهالة، قرظها عشرة من كبار العلماء بتونس والجزائر والمغرب الأقصى، وعلق على مواضع منها العلامة الجليل القاضي الشيخ شعيب التلمساني. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى لله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما سؤال: ما قول ساداتنا العلماء- رضي الله عنهم- وأدام النفع بهم في رجل يزعم أنه قطب الزمان الفرد، وأن الكل دونه، وأنه العارف المسلك، إلى غير ذلك من أعلى صفات العارفين، وأسمى درجات الكاملين، ثم يقول مخاطبا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بما نصه: إن مت بالشوق منكد … ما عذر ينجيك إن تبق في هجري زائد … للمولى ندعيك من هو بالملك موحد … ينظر في أمرك عبس بالقول تساعد … ما نرجوه فيك ولما قيل له في هذه الأبيات قال: ألسن المحبين أعجمية. فهل يعد خطابه هذا سوء أدب وهل تجوز مخاطبة النبي- صلى الله عليه

الجواب

وآله وسلم- بمثله، وهل صدور مثله من شأن ال'ارفين الكاملين، وهل يقبل منه ما اعتذر به من عجمة ألسن المحبين، أفيدونا مأجورين إن شاء الله تعالى من رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى. الجواب: الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أدبه الله فأحسن تأديبه، ووفر من كل خير وكمال على جميع العالمين نصيبه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الهادين والمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين- أما بعد- فقد وقفت على سؤالكم وتأملت من جميع فصوله، وأحطت خبرا إن شاء الله- تعالى- بلفظه ومدلوله، وهممت أن لا أجيبكم عنه بحرف واحد، لما أعلم من تصميم أكثر العامة على العناد فيما اعتقدوه من الباطل، وسكوت أكثر الخاصة عن التصريح بالإنكار عليهم، والإرشاد لهم، وتهافت بعض الطلبة القاصرين، على تسويد صحفهم وصحائفهم بشبهات يسمونها بأفواههم دلائل وأجوبة عن متبوعيهم من الجاهلين، يخشونها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والتأويلات الباطلة الممنوعة، والروايات المدخولة عمن ليس قوله حجة على الناس في الدِّين وإنما غايته إذا ثبت عنه ذلك وحسن به الظن أن يؤول على وجه صحيح يقبله الشرع. ثم يردون بمثل هذا على الآيات البينة والأحاديث الثابتة وعمل السلف الصالح المشهود لهم بالخيرة على لسان المعصوم. أفمع هؤلاء ينفع الكلام أو يحسن الجواب. لكنني تذكرت ما جاء في وعيد الكاتبين، وفي وعد من بذل الجهد في نصح إخوانه المسلمين، ورجوت أن لا أعدم أنصارا على الحق، وإخوانا متكاتفين في نصرة الدين، من عدول حملة العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين،

وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فاستخرت الله- تعالى- وحررت لكم هذا الجواب في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، غير قاصد- علم الله- شخص أحد بالتقص، ولا خارج بعون الله- تعالى- عن جادة الفهم من دلالة الظاهر والنص، والله أسأل أن ينفع به المسترشدين ويهدي به في المعاندين ويفت به أعضاء المفسدين آمين. المقدمة في وجوب الأدب مع النبي- صلى الله عليه وسلم- إجماعا وأبدا وعلى كل حال: أجمع علماء الملة من جميع الفرق على وجوب الأدب مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حيا وميتا كما يجب الإيمان به حيا وميتا للنصوص القطعية في ذلك كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} الآية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية. وعلى هذا كانت سيرة السلف الصالح معه- عليه الصلاة والسلام- في الحياة وبعد الممات. روى الترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويبتسم إليهما. وجاء من غير وجه أن أصحابه كانوا حوله كأنما على رؤوسهم الطير حتى كانوا من تعظيمه وتوقيره يهابونه فلا يسألونه فيحبون أن يأتي الأعرابي الجاهل فيسأله، ولما ناظر أبو جعفر المنصور مالكا في المسجد النبوي ورفع صوته، قال له مالك: لا ترفع صوتك

في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ …} الآية. ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ …} الآية. وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1) وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لهما أبو جعفر (3) وقد كان مالك- رحمه الله تعالى- إذا ذكر النبي- صلى

_ (1) أي فيما فعلوه محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، الجلال المحلي. ومعنى الرفيع: العلي القدر والمحفوظ من إساءة الأدب، اهـ. صاوي. نعم إذا كان من يقول لشيخه لم لا يفلح فكيف بالتجاسر على خير الخلق على الإطلاق بالإطباق صلى الله عليه وآله وسلم. (2) وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}، بأن تقولوا يا محمد بل قولوا يا نبي الله يا رسول الله في لين وتواضع وخفض صوت، اهـ. محلي. قوله: لا تجعلوا دعاء الرسول أي نداءه بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا يا محمد ولا بكنيته فتقولوا يا أبا القاسم بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير بأن تقولوا يا رسول الله يا نبي الله يا إمام المرسلين يا رسول رب العالمين يا خاتم النبيين. واستفيد من الآية أنه لا يجوز نداء النبى بغير ما يفيد التعظيم لا في حياته ولا بعد وفانه. فبهذا يعلم أن من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة. قوله: وخفض الصوت أي لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. صاوي محشي الجلالين بالحرف. وفى الشفا ما نصه قال قال إبراهيم التيمي: واجب على كل مؤمن متى ذكره صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته ويأخذ في هيبته وفى جلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه صلى الله عليه وسلم ويتأدب بما أدبه الله، مثل قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ … الخ، ولَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ …} وغيره كما تقدم، اهـ.

الفصل الأول: في بيان خروج كلامه عن دائرة الأدب المرعية وتهجمه على الحضرة النبوية

الله عليه وآله وسلم- يتغير وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه. وكان جعفر الصادق كثير الدعابة والتبسم وإذا ذكر عنده النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- اصفر. والواقف على سير السلف الماضيين والعلماء المتقدمين يجد فيها كثيرا من هذا في مراعاة حرمته- صلى الله عليه وآله وسلم- وشدة التأدب مع جنابه الشريف، ومن أكثر الناس محافظة على الأدب وتحريضا عليه ووصاية به شيوخ الزهد والعلم من أئمة التصوف العارفين كرجال الرسالة القشيرية الذين أبقى الله بعظيم فضله على الإسلام وجميل صنعه لنصرة الدين كلامهم حجة على كل من ينتسب إلى طريقتهم في مثل هاته الأزمان، قال في الرسالة عن عبد الله بن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وعن أبي علي الدقاق: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل، وقال أبو حفص الحداد: التصوف كله أدب لكل وقت أدب ولكل حال أدب ولكل مقام أدب فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ومردود من حيث يرجو الوصال، وقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن (1). الفصل الأول: في بيان خروج كلامه عن دائرة الأدب المرعية وتهجمه على الحضرة النبوية. إنْ مت بالشوق منكد … ما عذر ينجيك أي حق للعبد الحقير، على السيد الجليل الكبير، حتى يطالبه

_ (1) وقيل: من يتأدب ساد … ومن لم يتأدب طرد عن الباب.

بالاعتذار إليه إذا لم يأته، أم كيف ساغ لهذا المسكين أن يقول له لا عذر ينجيك، مم ينجيه هذا العذر؟ إن لو كان ينجيه، أمن اللوم في شأنك والعتاب لأجلك؟ من أنت يا هذا حتى يعتذر سيد الأولين والآخرين لك، ثم لا ينجيه من التقصير في حقك عذر عندك، لقد وضعت نفسك والله في غير محلها وجهلت مقام النبوة وجلالة منصبها. قال: إن تبق في هجري زائد … للمولى ندعيك من هو بالملك موحد … ينطر في أمرك أي حق لك على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى صرت تخوفه بأنك تدعوه وتشكو به إلى الله- تعالى- لينظر في أمره، وهل يتصور منه- صلى الله عليه وآله وسلم- تقصير في حق أحد حتى يشكو به إلى الله- تعالى- حاشا ذلك الجناب الكريم، والنبي الرؤوف الرحيم (1)، أن يقصر في خير لأحد في حال حياته وبعد مماته وكيف ذلك وهو الذي قال له الله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (2). وهو الذي لما تعرض عليه في قبره أعمال أمته يستغفر للمذنبين، لكنك يا مسكين توهمته كعظماء الدول الذين يقصرون مع من دونهم فيخوفون بمن فوقهم على أنه لم يكن من أدب العبيد أن يهددوا الوزير بسلطة الأمير فأين أنت يا هذا حتى من آداب الوزراء والسلاطين بله الأنبياء والمرسلين. قال: عبس بالقول تساعد … ما نرجوه فيك

_ (1) القائل إنما أنا قاسم وألله يعطى … الخ. (2) وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

الفصل الثاني: في بيان حرمة مخاطبة النبي- صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الخطاب

هذا تعريض للنبي- صلى الله عليه وسلم- بما خاطبه الله تعالى في سورة ابن أم مكتوم، وتخويف له بما يلحقه أن قصر مع هذا المسكين من العتاب واللوم، واحتجاج عليه بالقرآن، وإلزام له بالقبول والإتيان، وهذا تهجم عظيم، وتجاسر شديد، لا يقدم عليه عامة المؤمنين، فكيف بمن يزعم أنه خاصة العارفين. الفصل الثاني: في بيان حرمة مخاطبة النبي- صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الخطاب. قد اشتمل صدر هذا الكلام على نفي قبول العذر من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وذلك يستلزم أن له عليه حقا إن وقع فيه تقصير احتيج معه إلى العذر ثم لا يقبل منه. وعلى أنه يرفع به دعوى لينظر في أمره، وهذه التهجمات القبيحة التي لا تصدر من العبيد إلى السادة، هي لا شك أقوى في سوء الأدب من مجرد رفع الصوت الذي نهى الله تعالى عنه وجعله سببا في حبوط الأعمال فتكون قطعا أحق بالمنع والتحريم، وما أشبه طلب هذا الرجل القبول والإتيان بهذا الخطاب المزعج الغليط بأولئك الذين نادوه من وراء الحجرات ولم يصبروا حتى يخرج إليهم، بل هو أشد، لأن القوم كانوا حديثي عهد بجاهلية لم يخالطوا المسلمين ولا تأدبوا بآداب الإسلام. وهذا يدعي منزلة الأولياء والصالحين، ثم يأتي بما لا يصدر من العامة الجاهلين فياليته تأدب في الخطاب، ووقف ذليلا على الأعتاب، فيكون في إسلامه وأدبه، خير شفيع لوصل سببه، لكن الغرور والغفلة، أعظم أسباب المحنة، عياذاً بالله، وأما آخر كلامه فقد أشتمل على طامة عظمى وجرأة كبرى بتعريضه للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في سورة عبس على ما تقدم بيانه في آخر الفصل الأول، وهذا في سوء الأدب أدخل، وفي الحرمة أشد، لأن صاحبه قد اعتقد تقصيراً

من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليم عليه فعرض له هو به، وخوفه من أن يقصر معه مثل ذلك التقصير فيلام عليه مثل ذلك اللوم. كبرت كلمة والله خرجت من فيِّ هذا المغرور المسكين، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا توفيق إلا به. فإن قلت هذه قصة جاءت في القرآن وخبر ذكره الله تعالى. قلنا فالجواب عن ذلك ما قاله الإمام الحافظ خزانة العلم وقطب المغرب أبو بكر بن العربي في سورة "ص" من كتاب الأحكام. قال: للمولى أن يذكر ما شاء من أخبار عبيده ويستر ويفضح ويعفو ويأخذ، وليس للعبد أن ينبز في مولاه بما يوجب عليه اللوم، فكيف بما عليه في الأدب والحد، وأن الله تعالى قد قال في كتابه لعباده في بر الوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فكيف بما زاد عليه، فما ظنك بالأنبياء وحقهم أعظم، وحرمتهم آكد، وأنتم تغمسون ألسنتكم في أعراضهم، ولو قررتم في أنفسكم حرمتهم لما ذكرتم قصتهم، اهـ. وما بعد هذا البيان بيان، وأن هذا الكلام لكاف وحده عند اللبيب المنصف في جواب ما تقدم من السؤال، ومن عقائد الإيمان مما يجب علينا في حق الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- أن لا نخاطبهم بما خاطبهم الله تعالى به ولا نذكر في كلامنا شيئا مما عوتبوا عليه لا بالتلويح ولا بالتصريح إلا بحكاية لفظ القرآن والحديث، وأما الله تعالى فإنه يخاطبهم بما شاء، لأنهم عباده وصفوته من خلقه، لهم من كمال المعرفة به ما ليس لغيرهم، وله عليهم من الفضل العظيم ما لا مطمع فيه لسواهم، وأما نحن فموقفنا معهم موقف العبيد مع السادة، فيجب علينا معهم اعتقاد الحرمة، واكبار الجانب، ولزوم الأدب، في الأقوال والأفعال، وجميع الأحوال ولا يجوز لنا ونحن خدامهم وأتباعهم أن نذكرهم أو نخاطبهم بما خاطبهم بهم ربهم ومالكهم، فما أبعدنا والله عن ذلك المقام، وقد ذكر هذه العقيدة الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في كتبه منها قوله في سورة

الفصل الثالث: في أن هذا المقال لا يصدر من العارفين

"الأحزاب" من كتاب الأحكام: وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا، أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله لا يزيد على ذلك، اهـ. وقال الإمام الصوفي أبو عبد الله بن الحاج في كلامه على المواسم من كتاب المدخل: وقد قال علماؤنا- رحمة الله عليهم- أن من قال عن نبي من الأنبياء في غير التلاوة والحديث أنه عصى أو خالف فقد كفر نعوذ بالله من ذلك، اهـ. ونقل هذا الكلام عنه الشيخ محمد الزرقاني في قسم الخصائص من شرحه للمواهب وسلمه: ولا يخفى أن حكم التعريض في هذا المقام حكم التصريح. فنعوذ بالله بالدين وتوقع في سوء الأدب مع سيد المرسلين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الفصل الثالث: في أن هذا المقال لا يصدر من العارفين. اعلم أن السادة العارفين هم أرسخ الناس قدما في محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- وتعظيم حرمته، ومراعاة شريف جانبه، وتعزيزه وتوقيره وبره. تجد ذلك في صلواتهم عليه، وفي أدعيتهم لله تعالى عند ذكره، والتوسل به، وفي مناجاتهم له عند الشوق إليه، وفي تأليفهم عند الكلام في حقه. وهذه أشياء مروية عنهم، معروفة منهم، لا تحتاج إلى شاهد ولا تخفى على طالب بل هم أكثر الناس أدبا مع شيوخهم ومربيهم ومريديهم، بل هم آدب الناس من جميع الناس، قال قائلهم: من لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان له ولا توحيد له، وكتبهم بهذا طافحة وسيرهم أصدق شاهد عليه فمعاذ الله أن يكون مرتكب ما تقدم مع الإصرار عليه من عامة عامتهم فضلاً عن أن يكون ممن فوق ذلك إذ لا نشك أن ذلك الخطاب الغليط الجافي لا يقوله المؤمن العامي الباقي على فطرة الإيمان، فضلا عن أهل الخصوصية

والعرفان ومن لا يراعي الأدب في خطاب سيد المرسلين، كيف يصلح أن يكون من العارفين السلكين، إذ من لا يؤدب نفسه كيف يؤدب غيره، ومن لم يؤمن على آداب الخطاب كيف يؤمن على ما يدعيه من مقامات الكاملين. قال أبو يزيد البسطامي- رحمه الله تعالى- لبعض أصحابه: قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية وكان رجلا مقصودا مشهورا بالزهد، فمضينا إليه فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة، فانصرف أبو زيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فكيف- يكون مأمونا على ما يدعيه اهـ. فانظر يا أخي رحمك الله بإنصاف إلى هذا العارف الكبير كيف وزن الرجل بميزان الشرع فطرحه لإخلاله بأدب واحد من الأداب- فكيف بنا لا نطرح هذا التهجم على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بقبيح التعريض وسوء الخطاب. قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الاعتصام أثر كلام أبي يزيد المتقدم: هذا أصل، أصله أبو يزيد- رحمه الله تعالى- للقوم، وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلا منه (1) فما ظنك به إذ كان عاملا بالبدعة كفاحا اهـ ونقول: فما ظنك به إذا كان يتهجم على الحضرة النبوية بمثل ذلك الخطاب الذي لا نظير له في كلام صغار المنتسبين، وعامة المداحين الجاهلين فضلا عن كلام العارفين؟ وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في شرحه لكتاب الطريقة المحمدية، عند كلام ابي يزيد المتقدم: إن الله- تعالى- لا يؤمن على أسراره وأنواره إلا من الله أولا على الأخلاق المرضية، والأداب المحمدية، - الله أعلم حيث يجعل رسالته- والحكمة وضع الشيء في موضعه، وهي ملازمة لأفعال الله- تعالى- لا ينفك عنها فعل من أفعاله تعالى البتة، وليس من الحكمة وضع الولاية والكمال في المنتهكة

_ (1) يعني أن الولي من لا يكون للشرع عليه اعتراض.

الفصل الرابع: في بطلان عذره بعجمة ألسن المحبين.

للحرمة والتارك للآداب، بل الحكومة تقتضي عقابه لا ثوابه أو العفو عنه لا المدح منه اهـ فلا نشك بعد هذا في بطلان دعواه الواسعة المضادة لتهجمه وإصراره على سوء الأدب مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولا دليل على حال المرء مثل كلامه ولا أصدق على قلبه من ترجمان لسانه (1). الفصل الرابع: في بطلان عذره بعجمة ألسن المحبين. اعلموا أن خير هذه الأمة هم أحبها في نبيها وهم أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على لسان المعصوم وعلى قدر حبهم فيه كان تعظيمهم له وأدبهم معه. لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ …} الآية، قال أبو بكر- رضي الله تعالى عنه-: والله لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار وصار عمر- رضي الله تعالى عنه- لا يسمعه حتى يستفهمه ولزم ثابت بن قيس- رضي الله تعالى عنه- بيته وكان جهير الصوت مخافة أن يحبط عمله حتى اعتذر للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعذره وبشره بالجنة فأنزل فيهم وفي أمثالهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ …} الآية. هؤلاء هم الحجة على الخلق وهم الذين لا يبلغ من جاء بعدهم مد أحدهم ولا نصيفه، وهذا أدبهم وهم سادات المحبين، وقد كانت ألسنتهم- والله- فصيحة في العلم والآداب، منزهة عن كل ما يعاب، فما بال هذا المسكين يركب ذلك الركب الصعب ويخرق سياج الأدب، ويعتذر بعجمة ألسن أهل الحب، كلا والله، لقد تجاسر على أهل المحبة الحقيقيين وافترى عليهم، وادعى عليهم ما ليس فيهم ثم لا يجد أبدا نظيرا لكلامه

_ (1) ما فيك يظهر على فيك وكل إناء بالذي فيه يرشح

الخاتمة: في نصيحة نافعة ووصية جامعة

عند واحد منهم، وإن اقتدى ببعض المغرورين المتعجرفين ممن لم نعلمهم حتى الآن فالحجة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وشيوخ الطريقة المتقدمين قاطعة به وبأمثاله أجمعين والحمد لله رب العالمين. الخاتمة: في نصيحة نافعة ووصية جامعة اعلموا جعلكم الله من وعاة العلم، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجملكم بعزة الاتباع، وجنبكم ذلة الابتداع، أن الواجب على كل مسلم في كل مكان وزمان أن يعتقد عقدا يتشربه قلبه وتسكن له نفسه؛ وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله، أن دين الله تعالى من عقائد الإيمان، وقواعد الإسلام، وطرائق الإحسان إنما هو في القرآن والسنة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وأن كل ما خرج عن هذه الأصول ولم يحظ لديها بالقبول- قولا كان أو عملا أو عقدا أو احتمالا فإنه باطل من أصله- مردود على صاحبه- كائنا من كان في كل زمان ومكان- فاحفظوها واعملوا بها تهتدوا وترشدوا إن شاء الله تعالى، فقد تضافرت عليها الأدلة- من الكتاب والسنة- وأقوال أساطين الملة- من علماء الأمصار- وأئمة الأقطار- وشيوخ الزهد الأخيار- وهي لعمر الحق لا يقبلها إلا أهل الدين والإيمان- ولا يردها إلا أهل الزيغ والبهتان، والله أسأل التوفيق لي ولكم ولجميع المسلمين والخاتمة الحسنة والمنزلة الكريمة في يوم الدين آمين والحمد لله رب العالمين. قال مؤلفه عبد الحميد بن باديس عفا الله عنه: فرغت من تحريره بين عشية يوم الإثنين وصبيحة يوم الثلاثاء السادس والعشرين والسابع والعشرين من ذي الحجة الحرام عام 1340 (1).

_ (1) رسالة: جواب سؤال عن سوء مقال ص1 - 20 الطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة (دون تاريخ).

التقاريظ

التقاريظ نثبتها هنا على حسب ورودها في التاريخ ــــــــــــــــــــــــــــــ تقريظ محمد النخلي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، أما بعد: فإني اطلعت على الرسالة التي حررها الفاضل العالم ابننا الشيخ عبد الحميد بن باديس أحد المتطوعين بجامع الزيتونة (عمره الله) جوابا عن سؤال في حق من خاطب النبي- صلى لله عليه وآله وسلم- خطاب جفاء وغلظة فوجدتها رسالة حافلة بالنصوص الصحيحة المطابقة لما سئل عنه مطابقة العام لبعض أفراده أيده الله بروح منه وأعانه على القيام بوظيفة الإرشاد في تلك البلاد المتعطشة لكثير من نظرائه الناسجين على منواله. ولنا مقالة فيما وقفنا عليه من تآليف هذا الرجل الذي ظهر بتلك الناحية والله المسؤل أن يجعلنا من الفرقة الناجية وكتبه فقير ربه محمد النخلي خادم العلم الشريف لطف الله به في 5 صفر الخير عام 1334هـ. تقريظ بلحسن النجار: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين هذا وقد وقفت على الجواب الذي حرره العلامة الفاضل السري الكامل إبننا الشيخ عبد الحميد بن باديس في شأن الأبيات التي سئل عنها فإذا هو لباب الحق الذي لا يرهقه نزاع وما على الشمس غطاء ولا على الصبح قناع كثر الله من أمثاله في

تقريظ محمد الطاهر بن عاشور

العلماء العاملين وألهم ذلك المتعجرف رشده كي يستبين سبيل المهتدين وإلى الله المشتكى من أناس يتنكبون الواضحة السمحاء ويتتبعون بنيات الطريق ويتطرفون في مجاهل السبل بغير علم ويتدهورون في مهواة الضلال. فإن أولئك من الذين عيرهم الله بقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} والله المسؤول أن يوفقنا لصالح الأعمال حرره فقير ربه بلحسن النجار في 6 ربيع الأنوار سنة 1341هـ. تقريظ محمد الطاهر بن عاشور: الحمد لله مؤيد الحق بالحجج الساطعة. ومزهق روح الباطل بالصوارم القاطعة. والمضيء بشمس العلم مهامه الجهالة الشاسعة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل بالدعوة النافعة، والواجب تعظيمه على كل من آمن به وتابعه، وعلى آله وصحبه وكل من ذاد صاحب بدعة ودافعه، أما بعد فإني طالعت هاته الرسالة الحافلة التي ألفها العالم الفاضل نبعة العلم والمجادة، وقريع التحرير والاجادة إبننا الذي افتخر ببنوته إلينا، واتمثل فيها بقول الساعة: " … ولا هو بالابناء يشرينا" الشيخ سيدي عبد الحميد بن باديس في تقويم من جرأه جهله على خطاب الحضرة النبوية، بما تجاوز حدود الآداب الدينية وأخطأ الباب الذي رام التطفل عليه من أبواب الصوفية، فوجدتها رسالة قد أودعها مؤلفها صريح الحق ومحضه، وأكثر فيها من المعاني ما أوجز لفظه، أكثر الله أمثاله في المسلمين، من العلماء المرشدين، وكتب في 17 صفر سنة 1341هـ محمد الطاهر بن عاشور قاضي تونس لطف الله به. تقريظ محمد الصادق النيفر: الحمد لله ملهم الحق من اجتباه من المرشدين، ومدحض الباطل بهديه المستبين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد روح

تقريظ معاوية التميمي

العالمين، ومحور دائرة عباد الله المخلصين، وباب الله الموصل لجميع السالكين القائل: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد، وفي كل حي بنو سعد فقد اتحفني الإبن الروحي، والأخ النصوحي، العلامة المدقق، ومن هو بكل فضيلة متصف ومتعلق، عمدة المغرب الاوسط والصاعقة على الدجاجلة الطراريس، الأستاذ سيدي عبد الحميد بن باديس، اتحفه الله بكل فضيلة، وأزاح بعلومه وتحريراته كل رذيلة، بالاطلاع على هاته الرسالة الحافلة التي هي بتحقيق جواب ذلك السؤال الكافلة، ولا يخامر عقل مسلم فضلا عن عالم أو سالك أن ينال قيد أنملة من ولاية أو سعادة، دون ترام على الأعتاب النبوية، وتفان بأدب في حب الطلعة المحمدية، ولكنها الأهواء أعمت، وتفنن في الأراجيف والتدجيل أصمت، أهكذا تكون الشطحات إن كان لك ذوق يا صاحب الأبيات الباردات، وأما أنا وإن كنت لست مطلعا على حالك ولا ما أنت فيه، ولكن كلام الشخص عنوان على ما انطوى عليه فارجع لرشدك وأفق من حال سكرك، واسلك طريق سادات مضوا، وأقبل نصيحة الشيخ عبد الحميد، فما بالك والله عنها محيد، وأنت أيها المجيب كثر الله من نصراء الحق أمثالك، وأحسن عقبي حالنا وحالك بحوله وطوله لا رب غير. حرره: خادم العلم محمد الصادق النيفر في أشرف الربيعين سنة 1341هـ. تقريظ معاوية التميمي: أطلعت رعاك الله أيها الأخ الغيور على ما أساله يراعكم، ذائدا عن الملة الحنيفية، وعلى ما نسجته ألمعيتكم الصائبة العبقربة، في الرد على من وجه الخطاب للطلعة المحمدية، بتلك الأبيات، وما حوته من الترهات، فتعتصم به سبحانه من الوقوع في الزلات، فوجدته من

تقريظ شعيب بن علي بن عبد الله

العمل المبرور، والصنيع المشكور. ناهيك به من صنيع يذب عن حمى المصطفى، ويزيد الذين اهتدوا هدى، فلله أنت من عالم نحرير، ومحام خبير، ولكن عذيري يا أخي من أهل هذا الزمان فإنه ما جرأ هؤلاء الناس على التفوه بمثل هذه الأباطيل بكل قحة ودعارة إلا رؤيتك السواد الأعظم من الأمة الإسلامية المسكينة في انقياد تام لهم- وأظنها دسيسة قديمة تمكنت حلقاتها- يتحرون خطاهم، ويرون رضا الخالق مقرونا برضاهم فيزيدون في الاستغراق، ويخلقون من ضروب الدجل والنفاق، ما تهتز له السبع الطباق. وبقدر انقيادهم لهؤلاء القوم تراهم يبتعدون من أولى العلم ابتعاد السليم من ذي العاهة أو الخطيب من الفهاهة ويستنهض بعضهم بعضا في الابتعاد وزد على ذلك ما استفحل من الداء الدفين في أهل العلم من الولوع بالتشاكس وهو الانتقاد، في كل عمل ما كانت صبغته. وبهذا ومثله تسنى لأولئك الانتصار وراجت بضاعة القوم. فقلت أدعوك للجلى لتنصرني … وأنت تخذلني في الحادث الجلل كتبه معاوية التميمي تحريرا فى ربيع الثانى عام 1341هـ. تقريظ شعيب بن علي بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليما، الحمد لله على جميل التوفيق والشكر لله على الهداية لأقوم طريق والصلاة والسلام على أشرف من وحده وعبده القائل من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده وعلى آله وأصحابه أولي العناية بدين الله وتابعيهم من العلماء العاملين وكمل العارفين المؤيدين بتأييد الله أما بعد: فقد اطلعني الجهبذ الإمام وأحد الأئمة

تقريظ محمد المولود بن الموهوب

الاعلام المحرر المجيد ذو الخلق السني الحميد أنيس كل جليس الشيخ سيدي الحاج عبد الحميد بن باديس على ما علقه على أبيات من خاطب - النبي صلى عليه وآله وسلم بقوله: إن مت بالشوق منكد … ما عذر ينجيك فألفيته الحق الذي فيه لا يستراب، والمنهج الأقوم الذي لا شك فيه ولا ارتياب فحمدت الله على أن وفقه لذلك وأرشده لسلوك تلك المسالك فإنه مشي على أصول سليمة وقواعد مستقيمة يجب الرجوع إليها والاعتماد عليها فمن حاد عنها ضل وهلك وخرج عن نهج السلف الصالح، وغير سبيلهم سلك، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا ووقاه والمحبين وأنصار الدين سوء وضيرا بحرمة أكمل المرسلين سيدنا ومولانا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأزكى التسليمات إلى يوم الدين آمين والحمد لله رب العالمين. عبد ربه شعيب بن علي بن عبد الله وفقه الله. تقريظ محمد المولود بن الموهوب: الحمد لله الذي جعل الأدب الصادق مع سيدنا المصطفى دليلا على الحب- وجعل حبه الكامل علامة على رسوخ الإيمان والقرب- والصلاة والسلام التامان عليه كما يليق به من الله- ما تلي ويتلى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وعلى آله وأصحابه الذين حازوا به عظيم الجاه- أما بعد فقد اطلعني الأخ في الله العلامة فرع الكمال وزبدة الأصول ذو الأنس والتأنيس السيد عبد الحميد ابن باديس على جوابه الشافي ونقله الصافي وكيله الوافي بل ونعم الحسام الكافي لقطع رقبة ذلك الذي قاده الخناس بزمام الوسواس حتى نطق بتلك العبارة المحزنة الدالة على أنه ذو إفلاس- وزين له أن إقبال الجهال عليه لا يكمل إلا بتلك الجسارة العظمى على الجناب

الاحمى- وأفضل المخلوقات قدما- فوجدته سلسبيلا معين- كالعسل المصفى للعلماء العاملين- من بحر شريعة الأمين يجري- فلله در الباديسي المؤيد بما قاله الكمل كالإمام الأخضري: وقال بعض السادة الصوفية … مقالة جليلة صفية إذا رأيت رجلا يطير … أو فوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عند حدود الشرع … فإنه مستدرج وبدعي واعلم بأن الخارق الروحاني … لتابع السنة والقرآن والفرق بين الإفك والصواب … يعرف بالسنة والكتاب والشرع ميزان الأمور كلها … وشاهد بفرعها وأصلها والشرع نور الحق منه قد بدا … وانفجرت منه ينابيع الهدى وقال بعض أولياء الله … السالكين لطريق الله من ادعى مراتب الجمال … ولم يقم بأدب الجلال فارفضه إنه الفتى الدجال … ليس له التحقيق والكمال ومن تحلى بحلى المعالي … ولحدود الله لم يبال ففر منه إنه شيطان … مخادع ملبس خوان قال البهيقي في مناقب الشافعي- رضي الله عنه- المحدثات ضربان: ما أحدث مخالفا كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلالة. وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة، وقال الأستاذ البكري- رضي الله عنه- في الوصية الجليلة: إن أهل الطريق يجب عليهم أن لا يخطوا خطوة ينكرها الشرع عليهم فإن من خالف الشريعة المحمدية تاه وضل عن الطريقة المرضية فالشريعة أصل والحقيقة فرعها فمن لم يحكم الأصل لا ينتفع بالفرع، ا. هـ. قال سيدي عبد القادر الجيلاني- رضي الله عنه-: كل حقيقة ردت شريعة فهي زندقة وكل ظاهر يخالف باطنا فهو باطل، ا. هـ. وقال

سيدي ابراهيم الدسوقي- رضي الله عنه-: طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، فمن أحدث فيه ما ليس في الكتاب والسنة فليس هو منا ولا من إخواننا ونحن بريئون منه في الدنيا والآخرة ولو انتسب الينا بدعواه، اهـ. وقال أبو زيد- رضي الله عنه-: لو أن رجلا بسط مصلاه على الماء وتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، اهـ. وفي مناهج السعادات: قيل للرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- متى أكون مؤمنا، وفي لفط آخر: مؤمنا صادقا، قال: إذا أحببت الله. قيل: ومتى أحب الله، قال: إذا أحببت رسوله، فقيل: ومتى أحب رسوله، قال: إذا اتبعت طريقته واستعملت سنته وأحببت بحبه وأبغضت ببغضه وواليت بولايته وعاديت بعداوته. وقال سهل التستري: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي- صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه وأذلوه وأهانوه، اهـ. فأين هذا مما نحن فيه من إساءة الأدب مع سيد الكائنات اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فبشراك يا أيها الباديسي لقد أسعدك الله بالدفاع عن حرمة الرسول كسيدنا حسان بن ثابت وغيره من الفحول، وبعداً لمن تشبه بالسالكين كذبا وما قرع الباب بيد آداب مع سيد الأحباب. هيهات أن تدرك المنى بشقشقة … طورا إليك وطورا طوع تلقين إن السيوف سيوف الله قاطعة … والمصطفى حبه فرض من الدين ألا اتئدوا عرف المركوب معتبر … لدى السباق حفائر الميادين نسأله تعالى أن يحفظنا من دسائس الدجالين في حصن سنة سيد المرسلين صلى الله عليهم أجمعين آمين، حرره الفقير إلى رحمة علام الغيوب محمد المولود بن الموهوب المفتي المالكي والمدرس بقسنطينة في الخامس عشر من شعبان 1341

تقريظ العابد بن أحمد بن سودة

تقريظ العابد بن أحمد بن سودة: الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد فقد طالعت السؤال والجواب فنعم الجواب وبئس السؤال لأن التعظيم والمحبة الكاملة كلها في اتباع سنة مولانا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: تركتكم على المججة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولما طالعت رسالة الشيخ الإمام فخر الأقران رئيس علماء قسنطينة العلامة الجامع مولانا السيد عبد الحميد بن باديس القسنطيني ألفيتها البحر الزاخر، ونقولها كالأنجم الزواهر، والله يديم حفظه وارتقاءه. وعليه يوافق عبد ربه سبحانه العابد بن أحمد بن سودة القرشي لطف الله به. تقريظ محمد بن العربي: حمدا لمن جعل الحق مع أهل التحقيق، ومن على من شاء بالتوفيق والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والرسل والملائكة، القائل تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله وأصحابه الأعلام، ما قال قائل ربي الله ثم استقام، أما بعد فالذي أدين الله به وأعتقده هو ما سطره سيدنا العلامة المشارك الدر النفيس السيد عبد الحميد بن باديس لأنه مؤسس المبني صحيح اللفظ والمعنى لم يبق فيه قول لقائل، ولا تشوف لمراجعة مجيب أو سائل. وعليه يوافق عبد ربه محمد بن العربي لطف الله به. تقريظ عبد القادر بن محمد بن عبد القادر: حمدا لمن جعل البيان سحرا، ورفع بالفصاحة أقواما فكان لهم

بين الناس قدرا، نحمده سبحانه على أن أرسل إلينا رسله تترا ونصلي على سيدنا محمد بحر البحور الزواخر، وعلى آله وأصحابه وعترته وحزبه أهل النصوص (1) الزاوجر- أما بعد- فقد أوقفني خلنا الحميم الصادق الخل الموافق النور العالم جميل الأخلاق والأوصاف سيدي عبد الحق بن وطاف، على رسالة الشيخ الإمام الهمام عالم الديار القسنطينية الإيوان النفيس، السيد عبد الحميد بن باديس فألفيتها فريدة في بابها جمعت النقول الصحيحة والاستدلالات اللطيفة: العلم قال الله قال رسوله … قال الأئمة ذوو العرفان فما العلم إلا الكتاب والسنة لا الشطحات الكاذبة والادعاءات الفاسدة: والدعاوى ما لم يقيدوا عليها … بينات أبناؤها أدعياء فما لنا إلا اتباع سنة مولانا الرسول ومن خالف سنة مولانا الرسول فالسيف مسلول (فما لنا إلا اتباع أحمدا) وغاية القول فيها: ذي المعالي فليعلون من تعالى … هكذا هكذا وإلا فلا لا ولما فاح مسك الختام قلت بلفظ قريب شامل من بحر مجزوء الكامل: جاءت إلي رسالة … عني بها الكدر انتفا جمعت أمورا جمة … قلبي إليها قد هفا ألفاظها درية … سمعي بها قد شنفا ولها معان أصبحت … بالفعل تحكي القرقفا من قاسها بالبدر و … شمس الضحى ما انصفا شكرا لحضرة سيدي … عبد الحميد المقتفا

_ (1) هذا أقرب ما ظهر من محو.

المقرظون، أسماؤهم ووظائفهم وبلدانهم

علامة الدنيا الذي … أضحى شريفا مشرفا وله على الشكر فر … ض عنه لن اتخلفا قاله وكتبه خديم الحديث الأستاذ عبد القادر بن محمد بن عبد القادر السودي القرشي الله وليه ومولاه، حرره بفاس حامدا ومصليا. المقرظون، أسماؤهم ووظائفهم وبلدانهم: 1 - العلامة النظار المفكر المستقل زعيم النهضة الفكرية لجامع الزيتونة الشيخ محمد النخلي رحمه الله. 2 - العلامة الأصولى البحاث الجامع الشيخ بلحسن النجار المفتي المالكي حفظه الله. 3 - العلامة المحقق الغواص النقاد الشيخ الطاهر بن عاشور عميد مجلس الشورى المالكي بتونس وقاضي الجماعة بها سابقا حفظه الله. 4 - العلامة المحقق الفقيه النوازلي المتفنن الشيخ الصَّادق النيفر قاضي الجماعة بتونس حفظه الله. 5 - العلامة المشارك الأديب البارع الشيخ معاوية التميمي المدرس بالزيتونة حفظه الله. 6 - العلامة الفقيه المشارك الشيخ شعيب بن عبد الله القاضي سابقا بتلمسان والمتقاعد الآن حفظه الله. 7 - العلامة المتفنن الألمعي المفكر الشيخ المولود بن الوهوب المفتي المالكي بقسنطينة والمدرس بمدرستها حفظه الله. 8 - العلامة الكبير المؤلف الشيخ العابد بن احمد بن سودة القرشي خطيب المسجد الإدريسي بفاس وقاضي الجديدة سابقا حفظه الله. 9 - العلامة المشارك الشيخ محمد العربي المدرس بالقرويين حفظه الله. 10 - العلامة المحدث المسند الرحالة الشيخ عبد القادر بن محمد بن عبد القادر السودي القرشي المدرس بالقرويين بفاس حفظه الله.

تبيان

تبيان: هذه الأبيات المسؤول عنها لم تزل إلى اليوم في ديوان ناطقها شيخ الطريقة العليوية بين أتباعه بعلمه ورضاه وتقريره مع ما فيه مما هو مثلها أو أشد في معاني أخرى. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1).

_ (1) رسالة جواب سؤال عن سوء مقال ص 21 - 33.

قسم التربية والتعليم

آثار ابن باديس: قسم التربية والتعليم

أيها المسلم الجزائري

أيها المسلم الجزائري هاك وصايا نافعة مختصرة على وجه الإجمال، وسنعيدها عليك مختصرة على وجه التفصيل. هاك آدابا تقتضيها إنسانيتك ويفرضها عليك دينك وتستدعيها مصلحتك في هاته الحياة. هاك ما إن تمسكت به كنت إنسان المدنية ورجل السياسة وسيداً حقيقياً يرمق من كل أحد بعين الاحترام والتعظيم. حافط على صحتك فهي أساس سعادتك وشرط قيامك بالأعمال النافعة لنفسك ولغيرك، تجنب العفونة فإنها مصدر جراثيم الأمراض ومثار نفور وبغض لطلعتك، ومجلبة سبِّ لجنسك ولدينك الشريف البريء منك في مثل هذه الحال. نظف بدنك، نظف ثوبك، تبعث الخفة والنشاط في نفسك، وتنبل في عين غيرك وتجلبه إلى الاستئناس بمعاشرتك. قِه أهلك وولدك ومن إلى رعايتك مما تقي منه نفسك، وسيرهم على نظام صحي وقانون أدبي تكفل سعادة وهناء عائلتك ورخاء عيشك، وهدوء بالك. حافظ على عقلك فهور النور الإلهي الذي منحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك. فاحذر كل (متعيلم) يزهدك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية ودعا إليها القرآن بالآيات الصريحة،

وخدم علماء الإسلام بالتحسين والاستنباط ما عرف منها في عد مدنيتهم الشرقية والغربية حتى اعترف بأستاذيتهم علماء أوربا اليوم. واحذر كل (متريبط) يريد أن يقف بينك وبين ربك ويسيطر على عقلك وقلبهك وجسمك ومالك بقوة، يزعم التصرف بها في الكون، فربك يقول لك إذا سألت عنه: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}، الآية. ويقول لك: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وأن الأولياء الصالحين بعيدون، عن كل تظاهر ودعوى متحلون بالزهد والتواضع والتقوى، يعرفهم المؤمن بنور الإيمان وبهذا الميزان. واحذر من دجال يتاجر بالرقي والطلاسم. ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحماء هزوءاً يستعملونها في التمويه والتضليل و (القيادة) و (التفريق) ويرفقونها بعقاقير سمية فيهلكون العقول والأبدان. حافظ على مالك فهو قوام أعمالك، فاسلك كل سبيل مشروع لتحصيله وتنميته، واطرق كل باب خيري لبذله. فاحذر بالوعة المضاربات الربوية في معاملاتك ومن مسارب السرف في جميع ملذاتك إذا كانت من المباحثات، دع ما إذا كانت من المحرمات. حافظ على حياتك، ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك، وإذا أردت الحياة لهذا كله، فكن ابن وقتك تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسبه من أسباب الحياة وطرق المعاشرة والتعامل. كن عصريا في فكرك وفي عملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك. كن صادقا في معاملاتك بقولك وفعلك. احذر من الخيانة! الخيانة المادية في النفوس والأعراض والأموال، والخيانة الأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.

احذر من التوحش فإن المتوحش في عصر المدنية محكوم عليه طبيعيا بالتناقض ثم الفناء والاضمحلال والاندثار، كما فنيت جميع الأمم المتباعدة عن التمدن والرقي. احذر من التعصب الجنسي الممقوت فإنه أكبر علامة من علامات الهمجية والانحطاط. كن أخا انسانيا لكل جنس من أجناس البشر وخصوصا ابن جلدتك المتجنس بجنسية أخرى، فهو أخوك في الدم الأصلي، على كل حال كن محسنا لكل أحد من كل جنس ودين فدينك الشريف يأمرك بالإحسان. حافظ على مبادئك السياسية ولا سياسة لك إلا سياسة الارتباط بفرنسا (1) والقيام بالواجبات اللازمة لجميع أبنائها والسعي لنيل جمبع حقوقهم فتمسك بفرانسة العدالة والأخوة والمساواة فإن مستقبلك مرتبط بها. ثق بأن سياسة الصدق والصراحة والإخلاص المرتكزة على الحب والعمل والتعاون، لا بد أن تظهرك أمام العالم بمظهرك الحقيقي رغم كل الغيوم التي ينشرها حولك خصومك ومنافسوك فتعطيك حينئذ فرنسا جميع الحقوق كما قمت لها بجميع الواجبات وتحيا حياة طيبة كجميع أبناء العالم العاملين المخلصين (2). عبد الحميد بن باديس

_ (1) هذه تقية من ابن باديس لأنه يؤمن بأن الشعب الجزائري سيستقل عن فرنسا متى حان الوقت، وقد حان وتحقق. (2) الشهاب عدد 49 السنة الثالثة 15 صفر 1345هـ - 23 أوت 1926م، وذلك قبل أن يتحول إلى مجلة ابتداء من سنة 1929م.

إصلاح التعليم بجامع الزيتونة، عمره الله

إصلاح التعليم بجامع الزيتونة، عمره الله قد علمنا أن إخواننا الزيتونيين طالبوا بالإصلاح منذ زمان، وسمعنا أن حكومة سمو الباي أجابت طلبهم وألفت لجنة لوضع مناهج الإصلاح المطلوب. ثم انقطعت أخبار تلك اللجنة مدة ليست بالقصيرة حتى حسبناها قد أصابها ما أصاب تلك اللجنة التي ألفت بالعبدلية لنشر الكتب القيمة، مثل رحلة العبدري، وشرعت في العمل بالتصحيح والمقابلة، ثم قضي عليها بالموت فلم نسمع حسيسها إلى اليوم. ثم عادت المطالبة بالإصلاح على ألسنة الصحف، وعاد الإعلان من طرف الإدارة ان اللجنة ما زالت حية وأنها جادة في عملها وما عليكم إلا الانتظار. واتصل الحديث على الإصلاح في الصحافة وقامت المناقشات الحادَّة بين الكتاب في وجوهه إلى أن بلغت إلى حد غير محمود، وكانت تلك المناقشات في الخارج كالصدى لما قام من الخلاف بين أعضاء اللجنة في الداخل، وقد أدت- ويا للمصاب- إلى صدع الوحدة الصحافية التونسية كما أدت إلى صدع بناء اللجنة الموقرة. فأصبنا بمصبتين اثنتين ولما نصل إلى النتيجة، فأما البلاء فكان معجلا وأما الإصلاح المطلوب فحظنا منه الانتظار، وليت شعري متى ينتهي هذا الانتظار؟ ومتى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه و (غيرك) يهدم. فكيف إذا كنت أنت تهدمه أيضاً؟ فما أعظم أسفنا- معشر الزيتونيين- مما آلت إليه الحال، وما أشد ألمنا من هذا التأخير والانتظار. ثم لنا كلمة في بعض وجوه الإصلاح رأينا من واجبنا أن نقولها: إن جامع الزيتونة كلية دينية فلا يكون إصلاح التعليم فيه إلا على مراعاة هذا الوصف الذي هو أساسه وغايته، والرجال الذين يتخرجون

من هذا الجامع يقومون بخطط كلها دينية وهم أصناف ثلاثة: رجال القضاء والفتوى ورجال الإمامة والخطابة ورجال التعليم، ولكل خطة من هذه الخطط وسائل خاصة لتحصيل الكفاءة فيها والاضطلاع بها، إن من المعلوم أن ما يحتاج إليه القاضي والمفتي من سعة الاطلاع على الأحكام وتمام الخبرة بتطبيقها على النوازل غير ما يحتاج إليه الإمام الخطيب من القدرة على إنشاء الخطب وحسن المعالجة بها لأمراض وقتها وقوة التأثير بها على سامعيها المعالجين بها وغير ما يحتاج إليه المعلم من معرفة أساليب التفهيم، وفهم نفسية المتعلمين وحسن التنزل لهم والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم. فلهذا نرى أن أول عمل في الإصلاح هو تقسيم التعليم في الجامع إلى قسمين: قسم المشاركة وقسم التخصص. فأما في قسم المشاركة فيتساوى فيه المتعلمون في المعلومات على طبقاتهم ويحصل الفائزون في الامتحان بعد تمام مدة التعلم التي لا تقل عن ثماني سنوات على شهادة عالم مشارك بدلا من لفظة (متطوع) فإنه لفظ مات معناه وذهبت قيمته بذهاب الوقت الذي وضع فيه والمناسبة التي اقتضته. وأما قسم التخصص فيفرع إلى ثلاثة فروع: فرع للتخصص في القضاء والافتاء وفرع للتخصص في الخطابة وفرع للتخصص في التعليم. وبعد تمام المدة التي لا تقل عن أربع سنوات في فرع القضاء والافتاء، وعن سنتين في فرعي الخطابة والتعليم، ينال الفائزون في الامتحان شهادة التخصص بالعالية فيما فازوا فيه. ثم إن المتعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلا بد أن يكون ممن تخصصوا

فيهما وتخصصوا في التعليم وكذلك المعلمون في فرع الخطابة. هذا رأينا في مسألة التقسيم، وأما مسألة الفنون وكيفية تعليمها فنرى أن يشتمل منهاج التعليم المشترك على اللغة والنحو والصرف والبيان، بتطبيق قواعد هده الفنون على الكلام الفصيح لتحصيل (1)، وأما قراءتها بلا تطبيق- كما الجاري به العمل اليوم- فهو تضييع وتعطيل وقلة تحصيل، وعلى تاريخ الأدب العربي وعلى تعلم الإنشاء وعلى تعلم حسن الأداء في القراءة وإلقاء الكلام وعلى العقائد. ويجب أن تؤخذ هي وأدلتها من آيات القرآن فإنها وافية بذلك كله، وأما إهمال آيات القرآن المشتملة على العقائد وأدلتها والذهاب مع تلك الأدلة الجافة فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعلى الفقه ويجب أن يقتصر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها، ثم يترقى بهم إلى ذكر بعض أدلتها، وعلى أصول الفقه مسائل مجردة، ثم يترقى إلى تطبيقها على المسائل الفقهية لتحصل لهم من هذا ومن ذكر أدلة المسائل الفقهية كما تقدم ملكة النظر والاستدلال، وعلى التفسير ويكون بسرد تفسير الجلالين على المتعلم وهو يبين ما يحتاج للبيان. والمقصود من هذا أن يطلع المتعلم على التفسير بفهم المفردات وأصول المعاني بطريق الإجمال، وعلى الحديث بقراءة الأربعين وغيرها سردا على الطريقة المتقدمة في التفسير. وعلى دروس في التربية الأخلاقية يعتمد فيها على آيات وأحاديث وآثار السلف الصالح. وعلى التاريخ الإسلامي على وجه الاختصار، وعلى الحساب والجغرافية، بأقسامها، وعلى مبادئ الطبيعة والفلك والهندسة. وإذا لم يكن في الشيوخ المصممين من يقوم ببعض هذه العلوم فلنأت بأمثل إخواننا المطربشين من تونس أو من مصر إن اقتضى الحال ذلك.

_ (1) كذا في الأصل ولعله: لتحصيل الملكة.

وأما فرع القضاء والفتوى من قسم التخصص فيتوسع لهم في فقه المذهب ثم في الفقه العام وتكون (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها ويدرسون آيات وأحاديث الأحكام ويدرسون علم التوثيق ويتوسعون في علم الفرائض والحساب ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة لا من عين المذهب الضيقة. وأما فرع الخطابة فيتوسم لهم في صناعة الإنشاء والاطلاع على أنواع الخطب ويدرسون آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية ونشرة الدعوة الإسلامية، ويمرنون على إلقاء الخطب الارتجالية. وأما فرع التعليم فيتوسعون في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها مع تمرينهم على التعليم بالفعل ومدارستهم للكتب الموضوعة لفن التعليم. هذه أصول ما نراه من كيفية الإصلاح بجامع الزيتونة المعمور. وهي وإن لم تكن وافية بالتفصيل فإنها كافية في مقام الأعمال، ولعل اللجنة الموقرة تعيرها التفاتا فتزنها بميزان العدل والإنصاف، فعساها واجدة فيها بعض ما يفيد (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 10، م 7، ص 601 - 605 غرة جمادى الثانية 1355هـ - أكتوبر 1931م.

جمعية التربية والتعليم الإسلامية

جمعية التربية والتعليم الإسلامية في الشهر الماضي صدر الترخيص لهذه الجمعية والاعتراف بها من طرف الحكومة في الجريدة الرسمية فكانت أول جمعية في قسنطينة من نوعها. وقد كانت جمعية مكتب التعليم العربي حجر الأساس في تكوينها ومن أعضاء تلك الأقدمين ومن انضم إليهم تكون أعضاء هذه، المؤسسون. ودونك أسماءهم فيما يلي: عبد الحميد بن باديس ................ رئيس قديم اسماعيل بن نعمون ................... نائبه حسين بن شريف ..................... أمين المال قديم حسونة بن الحاج مصطفى ............ نائبه محمد النجار ........................ كاتب العربية قديم الحاج ادريس ........................ كاتب الفرنسية عمر بن السعيد بن جيكو ............ عضو قديم محمد بن زرتي ...................... عضو قديم عبد الله بن البجاوي ................. عضو حسين ماضوي ...................... عضو وغرض الجمعية مفهوم من اسمها وهاك من قانونها الأساسي الذي صادقت عليه الحكومة، ما يشرحه لك بوضوح: (المادة الثانية: مقصود الجمعية هو نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف العربية الفرنساوية والصنائع اليدوية بين أبناء وبنات، المسلمين.

المادة الثالثة: تسعى الجمعية لقصدها هذا، أولا- بتأسيس مكتب للتعليم، ثانيا- بتأسيس ملجأ للأيتام،! ثالثا- بتأسيس ناد للمحاضرات، رابعا- بتأسيس معمل للصنائع، خامسا- بإرسال التلامذة على نفقتها إلى الكليات والمعامل الكبرى. [صورة: مدرسة التربية والتعليم الإسلامية] تأسست سنة 1936، وكان أصلها دارا فاشتريت بمبلغ (135000) فرنك قديم وأدخلت عليها إصلاحات، فأصبحت مدرسة. وبعد الاستقلال أدخلت عليها إصلاحات، وأصبحت تشرف عليها وزارة التربية الوطنية الجزائرية. وهي واقعة بنهج عبد الحميد بن باديس رقم 17 بقسنطينة

المادة الرابعة: بما أن مقصد الجمعية هو التربية والتعليم لا غير، فإنها تحرم على نفسها الخوض في المسائل السياسية، والاختلافات الحزبية، والمذهبية، والشخصية، بأي وجه من الوجوه). وأما مالية الجمعية فإنها تتكون مما يدفعه الأعضاء المشتركون وهو فرنكان في الشهر، ومن تبرعات المحسنين، ومن الإعانات الحكومية، ومن واجب تعليم التلامذة القادرين على الدفع. يشاهد القارىء مما تقدم عظيم نفع ما تسعى الجمعية وعظيم مؤوتنه، ويرى بجانب ذلك تفاهة القسط الشهري المعين للاشتراك فلا يجد بينهما تناسبا ولكننا قصدنا بتقليل هذا القسط، أولا- تيسير الاشتراك في الجمعية على جميع طبقات الأمة حتى تكون مؤسسة عمومية بأتم معنى الكلمة، ثانيا- تعويد الناس على البذل والسخاء المنتظم مع اعتقاد بأن القادرين على الإحسان لا يقفون عند ذلك المقدار الزهيد. قد خرج قابض الجمعية ولاقى من الناس إقبالا وسرورا وحصل على قدر لا بأس به، لكنه دون ما كنا نتوقعه، فشكرنا الناس على كل حال لأنهم ما اعتادوا البذل المنظم من قبل وكنا على يقين من أنهم سيكونون في المستقبل- بإذن الله- أوسع في البذل وأعون على الخير. للجمعية اليوم مكتبها المقام في بناية (الجمعية الخيرية الإسلامية) والتعليم فيه اليوم للبنين وقد عزمت الجمعية على فتح دروس بعد رمضان- إن شاء الله تعالى- لتعليم البنات فندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم إلى المكتب فأما البنون فلا يدفع منهم واجب التعليم إلا القادرون وأما البنات فيتعلمن كلهن مجانا لتتكون منهن- بإذن الله- المرأة المسلمة المتعلمة. أيها المسلمون: ها هو باب العلم والتقدم قد فتح أمامكم على

مصراعيه فادخلوه، ها هم أفراد منكم تعرفونهم وتثقون بهم قد تقدموا لخدمتكم فأعينوهم فإنهم- بعد عون الله تعالى- بكم ولكم، وها هي الحكومة قد رخصت لجمعيتكم هذه الشريفة المقصد العظيمة النفع، ثقة منها بكم وبالرجال الذين تقدموا إليها منكم ورغبة منها في تقدمكم فبرهنوا لها على أهليتكم لما منحتكم، وتقديركم للمشاريع العظيمة فيكم بنهوضكم بجمعيتكم حتى تصل إلى غرضها السامي وتقوم إليه بجميع الوسائل التي ذكرتها في قانونها الأساسي. وختاما أتقدم بالشكر لسمو الوالي العام م. كارد، وجناب كاتب الأمور الوطنية بالولايات العامة م. ميرانت وجناب م. كارل عامل عمالتنا المحبوب وحضرة م. تروسال الكاتب العام للأمور الوطنية بدار العمالة، أولئك الرجال العظام الذين نالت الجمعية رخصتها من الحكومة الفخيمة على أيديهم فلهم وللحكومة شكرنا واعترافنا وحُسن تقديرنا (1).

_ (1) ش: ج 2، م 7، ص 115 - 117 غرة شوال 1349هـ - مارس 1931م.

منع التعليم الديني بالمساجد

منع التعليم الديني بالمساجد قرار من بريفي عمالة الجزائر في ذلك لعمالته تاريخ القرار، نتيجة السعي في رفعه، رد اعتذار السيد البريفي، الاحتجاج على القرار ــــــــــــــــــــــــــــــ ليس هذا القرار الذي أثار الخواطر وكدر الصفو ابن هذه الأيام، فقد كان بريفي عمالة الجزائر قدمه للسري الوجيه السيد محمد بن صيام رئيس الجمعية الدينية طالبا منه أن ينفذه بصفته رئيس الجمعية ليكون القرار من الجمعية، عليه وزره ومسؤوليته، فتوقف السيد ابن صيام في التنفيذ نحو شهر، فأعيد عليه الطلب والإلحاح فأبت عليه ديانته، وهمته وتقديره للعواقب أن ينفذه فيعطل المساجد من ذكر الله ويحرم الناس من العلم والتربية الدينيين ويكدر الخواطر ويمس سمعة فرنسا التي لا يرضى أن تمس. وكان من جوابه أن المساجد لم يقع فيها شيء من التشويش يوجب هذا القرار لكن البريفي أصر على إصدار قرار فأصدر وكان منه ما كان. سعى جماعة من النواب والأعيان لدى الولاية العامة في رفع القرار. فردوا إلى البريفي وكان جوابه لهم أنه جاءه قوم آخرون فألحوا عليه بإصدار القرار لئلا يقع تشويش في المساجد ولا يمكنه أن يرجحكم عليهم ولذلك هو يصر على قراره. وجاء كتاب من الوالي العام يقول للجماعة فيه أن الأمر هو ما قاله البريفي وأن لا فائدة من مقابلته. كان الأستاذ العقبي يلقي دروسه الدينية بعدة مساجد، ومنها

إبطال الجمعية الدينية بالجزائر

الجامع الجديد. وكان هذا نحو العامين، وكان متحملا مسؤولية تلك الدروس أمام الإدارة، وما ذلك إلا لعلمه ومشاهدته للهدوء والنظام والسكينة التي كانت- كما هي العادة في جميع المساجد دائما- تخيم على دروس الأستاذ العقبي، ثم رغم المشاهدة والعيان ورغم تحمل السيد ابن صيام رئيس الجمعية الدينية بالمسؤولية يقول السيد البريفي: أنه أصدر قراره دفعا للتشويش الذي خوفه من وقوعه بعض الناس. يا عجبا يعرض عن الواقع المشاهد في المدة الطويلة إلى التشويش المعدوم المزعوم ولا يعول على كلمة رجل عظيم بارز رئيس للجمعية التي بيدها أمر المساجد متحمل للمسؤولية وكلمة جماعة من النواب والأعيان يعملون للخير على وضح النهار، ويعتمد على وشاية أفراد مجهولين يعملون للشر والغرض في دس وخفية. إننا نضم صوتنا إلى صوت الصحافة العربية والفرنسية التي استنكرت هذا القرار وعدته تعديا على الحقوق الدينية العامة للمسلمين في المساجد، غير قاطعين رجاءنا من البريفي نفسه وممن فوقه من السادة الحكام أن يعودوا للمسألة بالنظر السديد والحكم المنصف، وتؤكد وصيتنا لإخواننا المسلمين بالهدوء والسكينة وترك الأمر يجري مجراه النظامي السليم. إبطال الجمعية الدينية بالجزائر: بلغنا أنه صدر قرار بإبطال الجمعية الدينية التي كان لها النظر في المساجد بعمالة الجزائر وهي التي يرأسها ابن صيام الذي امتنع من تنفيذ القرار. وفي اقتران الأمور ببعضها ما يغني عن شرحها ووجوه ارتباطها (1).

_ (1) ش: ج 4، م 9، ص 188 - 189 غرة ذي القعدة 1351هـ - مارس 1633م.

بعد عشرين سنة في التعليم

بعد عشرين سنة في التعليم نسأل: هل عندنا رخصة؟! ــــــــــــــــــــــــــــــ عشرون سنة مضت ونحن ننشر العلم بالجامع الأخضر وفي مسجد سيدي قموش ومسجد سيدي عبد المؤمن والطلبة يأتون من جميع نواحي القطر يتزودون من علوم الدين واللسان ويستعين المحاويج منهم على ذلك بشيء طفيف من الإعانة بالخبز مما يعطيه بعض الناس المحسنين من الزكاة. ابتدأت القراءة بقسنطينية بدراسة الشفاء للقاضي عياض بالجامع الكبير حتى بدا لمفتي قسنطينة الشيخ ابن الموهوب أن يمنعنا فمنعنا .. ! فطلبنا الإذن من الحكومة بالتدريس في الجامع الأخضر فأذنت لنا وكان هذا الإذن على يد (م اريب) الكاتب العام للأمور الوطنية بدار العمالة إذ ذاك. مضت عشرون سنة ونحن نعلم في الجامع الأخضر الذي أسسه المرحوم حسين باي للصلاة والتسبيح والتعليم. وكأنه خشي أن يهمل فيه التعليم ويحرم المعلمون من حقهم في ريع حبسه- فسجل إرادته بالتنصيص عليه فكتب بالحروف البارزة على واجهة بيت الصلاة ما نصه: (أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم، ذو القدر العلي والتدبير الكامل وحسن الرأي أميرنا وسيدنا حسن باي أدام الله أيامه وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ست وخمسين ومائة وألف). مضت عشرون سنة والناس يشكرون الحكومة توظيفها مدرسا

[صورة: محراب مسجد سيدي عبد المؤمن الاسفل] يقضي سحابة نهاره وشطرا من ليله في خدمة العلم الديني واللساني ونشره ظنا منهم أنني أتقاضى مرتبا كسائر المتوظفين ولما لم ارزق من الحكومة فلسا واحدا- والفضل لله - وما كانت إلا مدرسا متطوعا مكتفيا بالإذن لي في التعليم ذاكرا ذلك للناس عن الحكومة في المناسبات بالجميل. مضت عشرون سنة والسواح الأجانب يأتون للجامع الأخضر

يشهدون حلقات العلم ووفرة الطلاب فيعدون ذلك من عناية الحكومة بالمساجد الإسلامية وتركها حرية التعليم للمسلمين. وبعد هذه العشرين سنة في ذلك كله دعيت مساء الخميس الماضي إلى دار عامل العمالة ليعرفني (م) الكاتب العام بكتاب جاءه من الولاية العامة سألوه فيه عن عبد الحميد بن باديس الذي يقرىء متطوعا ... [صورة مدخل مسجد سيدي عبد المؤمن وهذا المسجد علم فيه الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله]

بالجامع الأخضر بدون رخصة والقانون يمنع من التعليم بدون رخصة فأجبنا بأننا ما قرأنا إلا برخصة من الحكومة بواسطة م. اريب منذ عشرين سنة وأبدينا تعجبنا من هذا السؤال بعد عشرين سنة فقبل م. الكاتب العام الجواب منا على أن يجيب به الولاية العامة وينتظر ما يكون منها. ... [صورة: مدخل الجامع الكبير بعاصمة قسنطينة، وكان الإمام ابن باديس يعلم فيه في أول الأمر كتاب "الشفاء" للقاضي عياض ثم منعه المولود بن الموهوب، وهو واقع في نهج العربى بن مهيدي- قسنطينة]

هذا ما نذكره اليوم حكاية لتاريخ قيامنا بالتعليم وإثباتا لما سئلنا عنه وما أجبنا به مكتفين به حتى نرى ما ينتهي إليه الأمر في هذه المسألة التي ليست مسألة عبد الحميد بن باديس ولكنها مسألة التعليم الديني واللساني للمسلمين. ومسألة مائة طالب أو يزيدون جاءوا من العمالات الثلاثة لقسنطينة هذه الأيام ومسألة نحو الألفين من سكان قسنطينية ونواحيها يمتليء بهم الجامع الأخضر كل ليلة في مجلس التذكير. ومن واجب الحق على أن أذكر هنا ما شاهدته من تروسيل الكاتب العام من أدب ولطف وحرص على ألا يتعرض لدروسنا بسوء فأنا أشكره بلسان العلم وطلابه شكر من يقدرون أقدار الرجال ولا يخافون إلا الله. عبد الحميد بن باديس

_ الصراطـ السوي: السنة الأولى العدد 7 قسنطينة يوم الإثنين 11 رجب 1352هـ الموافق لـ: 30 أكتوبر 1933م، ص 6، ع 1 و2 و3

الدروس العلمية الإسلامية بقسنطينة

الدروس العلمية الإسلامية بقسنطينة يوم السبت 2 رجب 1352 و 21 أكتوبر 1933م تفتح- إن شاء الله تعالى- الدروس العلمية الإسلامية بقسنطينة التي يقوم بها جماعة من علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. تشتمل الدروس على التفسير للكتاب الحكيم وتجويده وعلى الحديث الشريف وعلى الفقه في المختصر وغيره وعلى العقائد الدينية وعلى الآداب والأخلاق الإسلامية وعلى العربية بفنونها من نحو وصرف وبيان ولغة وأدب وعلى الفنون العقلية كالمنطق والحساب وغيرهما. تعطى للطلبة المحاويج إعانة من الخبز ويسكنون في بعض المساجد. يجعل على كل جماعة من الطلبة عريف يضبط أمورهم ويراقب سيرتهم. يشترط في كل تلميذ أن يكون حافظا للقرآن العظيم أو لبعضه كربعه على الأقل، وأن لا يتجاوز سنه- إذا كان مبتدئا لم تتقدم له القراءة- خمسا وعشرين سنة وأن يأتي- إذا كان جديدا بكتاب من كبير بيته أو عشيرته للتعريف به. وينبغي للطالب أن يأتي معه بفرشه وغطائه. فندعو من فيهم استعداد وعندهم رغبة إلى الإقبال على العلم والرحلة في سبيله والله نسأل لنا ولهم التيسير والتوفيق وعمل الخير لوجه الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من عبد الحميد بن باديس

_ الصراطـ السوي: السنة الأولى العدد 4 قسنطينة يوم الإثنين 19 جمادى الثانية 1352هـ- 9 أكتوبر 1933م ص 3 - ع 3.

مقررات المجلس الإداري

مقررات المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريبن الذي انعقد في آخر رجب الماضي. ــــــــــــــــــــــــــــــ قرر تقديم هذين المطلبين التاليين- برقيا- للوالي العام ووزير الداخلية ورئيس الوزارة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ. المطلب الأول: بما أن المساجد كانت في القطر الجزائري مفتوحة في وجوه العلماء للوعظ والإرشاد وتعليم مبادئ الدين الإسلامي وبما أن هذه الحالة بقيت بعد الاحتلال على ما كانت عليه قبله ولم يقع فيها تغيير مدة قرن كامل وبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أهم غاياتها الوعظ والإرشاد وأن القيام بهذا المهمة لا يكون إلا في المساجد وبما أن قرار عامل عمالة الجزائر أحدث اضطرابا شديدا في أفكار المسلمين الذين اعتبروه مسّا بحريتهم الدينية. فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطلب بكل إلحاح وبكل احترام فتح المساجد في وجوه الوعاظ والمرشدين بدون إلجائهم إلى طلب إذن خاص. المطلب الثاني: بما أن تعليم أولاد المسلمين الجزائريين باللغتين العربية والفرنسية

من آكد الضروريات ومن أعظم الواجبات وبما أن تعليم الفرنسوية في المدارس والمكاتب الدولية من الأمور التي تباشرها الحكومة بمقتضى القوانين والتراتيب الجاري بها العمل وبما أن تعليم العربية من فروع التعليم الديني ولا يمكن المسلم أن يتعلم علوم دينه بدونها- وبما أن الحكومة ليس في وسعها أن تقوم بالمدارس الفرنسوية والمدارس العربية في آن واحد وأن الأمة الجزائرية تكتفي من الحكومة بأقل ما يمكن من الإعانة والمؤازرة والتشجيع وبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أسمى غاياتها نشر التعليم بكافة أنواعه والسعي في تعميمه بجميع الوسائل والطرق. فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطلب من الحكومة ترك الحرية التامة للمسلمين الجزائريين في فتح الكتاتيب القرآنية والمكاتب العربية الحرة وأن تقف إزاء القائمين بهذه المشاريع موقف المؤيد المساعد. رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس

_ الصراط السوي: السنة الأولى العدد 11 قسنطينة يوم الاثنين 6 شعبان 1352 هـ الموافق لـ: 27 نوفمبر 1933م ص: 8، ع 1 - 2.

الدروس العلمية بالجامع الأخضر بقسنطينة

الدروس العلمية بالجامع الأخضر بقسنطينة بانتهاء هذه السنة الدراسية أنهينا- بحمد الله- إحدى وعشرين سنة في التعليم. وامتازت هذه السنة عن سابقاتها بشيئين الأول قدوم الطلبة من العمالة الوهرانية فتم بهم تمثيل الطلبة للجزائر كلها، والثاني مشاركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بما استطاعته من الإعانة لصندوق الطلبة فكان ذلك أول خطوة خطتها الجمعية لغايتها الكبرى وهي تأسيس كلية علمية للعلوم الإسلامية وما هؤلاء المجتمعون من العمالات الثلاث إلا نواة لذلك المشروع العظيم حقق الله فيه الآمال. فلهذا كله رأينا أن ننشر البيانات التالية عن الطلبة في هذه السنة على الأمة الجزائرية المسلمة إدخالا للسرور على قلوبها، وبعثا للنشاط فيها، لتقوم بما يفرضه عليها دينها من إيجاد من يحفظ عليها علوم الإسلام، إذ لا بقاء له إلا ببقاء علومه ولا بقاء لعلومه إلا بوجود من يتملكها ويعلِّمها: أسماء الطلبة وبلداتهم

_ محمد الدراجي ................ على بريكة وأولاد دراج محمد الملياني ................ على عمالتي الجزائر ووهران بجاوي علي .................. على الصحراويين بلقاسم الزغداني .............. على البيضاء وخنشلة محمد دردور ................. على أوراس اسماعيل الحيدوسي ......... على باتنة والتوتة السعود الريغي .............. على الخميس وسطيف والبرج العربي كبيش ............... على الميلية وجيجل كافي البشير ............... على الحروش والسكيكدة وعزابة صالح اليدري ............. على ميلة ونواحيها

يتناولون غذاء خبزهم في مطبخته، السادة بو لحبال، زعيتر محمد بو رغيدة علي الكواوشة، فقد كانوا معتنين بالتلامذة مساعدين في ثمن الخبز والعمل. أهل بسكرة وضواحيها أرسلوا نحو ثلاثين خيشة من التمر. السيدان الحاج المربي وعمر أبناء مغسولة خصصا في مسجدهما سيدي بو معزة القسم الأعلى لسكنى الطلبة.

_ صندرق الطلبة، دخله وخرجه

_ ........................................................................... سنتيم فرنك مرافع للكتب في بيت الجامع الأخضر ..................................... 250 خبز شهر رجب وشعبان 2745 كيلو ....................................... سعر 180 1 494 سبعون قنطار قمح ......................................................... سعر 7700110 عشرة قناطر ................................................................ سعر 1200120 خمس قناطر ................................................................ سعره ر 50117 ر 587 ............................................................................. جمع منقول 25 ر 18403 شكاير ضروف (1) ......................................................... 150 شكاير ملح .................................................................. 25 غربلة ورحى وعجن وطيابأ3) ............................................... 60 ر 3126 خبز بسبب تمطل الرحي مرات .............................................. 50 ر 118 350 كيلو دقيق .......................................................... .. ر 353 يراخ للربيع ................................................................ 90 ر 216 عشساء عاشوراء ........................................................... .. ر 169 فطائر على مرات .......................................................... 50 ر 6 كس أدوية ....................................................................... 135 اعانات خماصة ............................................................ 500 مصاريف متفرقة ............................................................ 200 دين بقي من السنة الماضية ................................................. 4000 ............................................................................ 75 رهـ277

_ الدخل

_ ........................................................................................... سنتيم فرنك من السيد محمد دمغ ........................................................................ 100 من السيد احمد بن الحاج سعيد ............................................................. 1000 من السيد علي النجار ...................................................................... 50 من السيد سليمان بن جبارة ................................................................. 50 من السيد عبد السلام الكاتب ............................................................... 50 من السيد سليمان بن عبد السلام ........................................................... 200 من السيد رابح بن مصطفى ................................................................ 20 من السيد الحاج محمد بن الشهيب ......................................................... 10 من السيدعبدالكريم بو لكروع ............................................................... 25 من السيد ابن موسى بو بكر .............................................................. 20 من السيد الحاج الطاهر بو لهروم ......................................................... 40 من السيد الحاج عبد الرحمن بن الامين ................................................... 100 من السيد احمد بن عليوه ................................................................. 50 من السيد بو ربونة ....................................................................... 100 من السيد محمد بن زيدان ................................................................ 25 من السيد السعيد بن العابد ............................................................... 15 من السيد الحاج حسونة بن الحاج مصطفى ............................................. 200 من السيد ابن بو شريط محمد الشريف ................................................... 300 من السيد الحاج الصالح بن الحاج حسين ................................................ 100 من السيد عبد الكريم بن شندارلي ........................................................ 50 من السيد الحاج علاوة بن يمينة ......................................................... 200 من السيد الحاج حسونة دمغ ............................................................ 200 من السيد بوشاشي محمد الطيب ........................................................ 100 من السيد يحيى واحمد .................................................................. 100

_ ........................................................................................... سنتيم فرنك من السيدعمر بن جياكو ................................................................... 200 من السيد الحاج الصديق بن زكري ......................................................... 500 من السيد بو تميرة ......................................................................... 30 من السيداسماعيل بن الحاج علي .......................................................... 25 من السيمد محمد امزيان ابن حمادي ........................................................ 150 من السيد الوالي بن محمد .................................................................. 20 من السيمد احمد الشرقي ................................................................... 30 من السيد الحاج صالح مراب! ............................................................. 40 من السيد الزواوي السعيد بن المربي ....................................................... 20 من السيد السعيد العربي .................................................................. 100 من السيد الزواوي ........................................................................ 10 من السيدحسين بن شربف ................................................................ 100 من السيد الحاج محمد بن سميرة .......................................................... 1000 ........................................................................ مجموع الدخل .... .. ر1400788

رجاء

رجاء يرجو صندوق الطلبة من الله ثم من أهل البر والإحسان أن يفكُّوه من دينه ويزودوه للسنة الآتية ومن أراد الإحسان إلى صندوق الطلبة فليكن ذلك إلى أمين صندوقهم بهذا العنوان: BEN CHARIF HASSINE Propriétaire 3 Rue Hackett,3 CONSTANTINE رسوم (1) التلامذة وها أننا ننشر فيما يلي: رسوم التلامذة- ورسم التلامذة الجزائريين المزاولين لدروس العلم بجامع الزيتونة- عمره الله- لأن الجميع يرمون إلى غاية واحدة وهي النهوض بالأمة الجزائرية نهضة أخلاقية على أساس الدين والعلم على نور الكتاب والسنة وهدى صالحي سلف الأمة حفظهم الله بتوفيقه وتسديده وكان لهم وليا ونصيرا (2).

_ (1) صور. (2) ش: ج 8، م 0 1، ص 2 35 - 9 36 غرة ربيع الثانى 1353هـ - جويلية 1934م.

[صورة: جماعة العرفاء: الأستاذ عبد الحميد بن باديس يتوسط المجالسين من اليمين: بلقاسم الزغداني، علي البجاوي، محمد الملياني، الفضيل الورتلاني، محمد الدراجى، صالح البدري. الواقفون من اليمين: محمد دردور، مسعود الريفي، إسماعيل الحيدوسي، العربى كبيش، كافي البشير.] ... [صورة: فى الوسط الأستاذ عبد الحميد بن باديس والمجالسون من اليمين: عيسى الدراجي، محمد الدراجي، الفضيل الورتلانى، بلقاسم الزغداني]

[صورة: طبقة الأجرومية] ... [صورة: طبقة السعد]

[صورة: طبقه المكودي] ... [صورة: طبقة القطر]

[صورة: عامة لجميع الطلبة] ... [صورة: التلامذة الجزائريون بجامع الزيتونة عمره الله]

صلاح التعليم أساس الإصلاح

صلاح التعليم أساس الإصلاح -1 - لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم فإنّما العلماء من الأمّة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كلّه وإذا فسد فسد الجسد كلّه، وصلاح المسلمين إنّما هو بفقههم الإسلام وعملهم به وإنّما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون. فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم. ولن يصلح العلماء إلاّ إذا صلح تعليمهم. فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالماً من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به فيه. ولن يصلح هذا التعليم إلاّ إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته فيما كان يعلم - صلى الله عليه وآله وسلم- وفي صورة تعليمه، فقد صح عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مسلم أنّه قال: «إنّما بعثت معلما» (2)، فماذا كان يعلم وكيف كان يعلم. كان -صلى الله عليه وآله وسلم- يعلم الناس دينهم من الإيمان والإسلام والإحسان كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم- في جبريل في الحديث المشهور: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم»

وكان يعلمهم هذا الدين بتلاوة القرآن عليهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}. وبما بيَّنه لهم من قوله وفعله وسيرته وسلوكه في مجالس تعليمه وفي جميع أحواله فكان الناس يتعلمون دينهم بما يسمعون من كلام ربهم وما يتلقون من بيان نبيهم، وتنفيذه لما أوحى الله إليه وذلك البيان هو سنته التي كان عليها أصحابه والخلفاء الراشدون من بعده وبقية القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية من التابعين وأتباع التابعين. وإذا رجعت إلى موطأ مالك سيد أتباع التابعين فإنّك تجده في بيان الدين قد بنى أمره على الآيات القرآنية وما صح عنده من قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفعله، وما كان من عمل أصحابه الذي يأخذ منه ما استقر عليه الحال آخر حياته. لأنّهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره. وكذلك إذا رجعت إلى كتاب الأمّ لتلميذ مالك الإمام الشافعي فإنّك تجده قد بنى فقهه على الكتاب وما ثبت عنده من السنة. وهكذا كان التعلم والتعليم في القرون الفضلى مبناها على التفقه في القرآن والسنة، روى ابن عبد البر في الجامع عن الضحاك في قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، قال الضحاك: "حق على كلّ من تعلم القرآن أن يكون فقيها". وروى عن عمر -رضي الله عنه- أنّه كتب إلى أبي موسى -رضي الله عنه-: "أمّا بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية". وقال الإمام ابن حزم في كتاب الإحكام، وهو يتحدث عن السلف الصالح كيف كانوا يتعلمون

الدين: "كان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة -يعني القرون الثلاثة- يطلبون حديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه عليه السلام عملوا به واعتقدوه". ومن راجع كتاب العلم من صحيح البخاري ووقف على كتاب جامع العلم للإمام ابن عبد البر عصري ابن حزم وبلديه وصديقه، عرف من الشواهد على سيرتهم تلك شيئا كثيرا. هذا هو التعليم الديني السني السلفي، فأين منه تعليمنا نحن اليوم وقبل اليوم، بل منذ قرون وقرون؟ فقد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله، ولم يكن عندنا أي شوق أو أدنى رغبة في ذلك. ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوما منزلة القرآن من تعلم الدين والتفقه فيه، ولا منزلة السنة النبوية من ذلك. هذا في جامع الزيتونة فدع عنك الحديث عن غيره ممّا هو دونه بعديد المراحل. فالعلماء -إلاَّ قليل منهم- أجانب أو كالأجانب من الكتاب والسنة من العلم فهما والتفقه فيهما. ومن فطن منهم لهذا الفساد التعليمي الذي باعد بينهم وبين العلم بالدين وحملهم وزرهم ووزر من في رعايتهم لا يستطيع -إذا كانت له همة ورغبة- أن يتدارك ذلك إلا في نفسه. أمّا تعليمه لغيره فإنّه لا يستطيع أن يخرج فيه عن المعتاد، الذي توارثه عن الآباء والأجداد رغم ما يعلم فيه من فساد وإفساد. ونحن بعد أن بينَّا تعليم الدين من سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن عمل السلف الصالح من أهل القرون الفاضلة المحمودة، ومنهم إمامنا إمام دار الهجرة مالك، فإنّنا عقدنا العزم على

إصلاح التعليم الديني في دروسنا حسب ما تبلغ إليه طاقتنا إن شاء الله تعالى. وسننشر ما يكون من ذلك في الجزء الآتي إن شاء الله عليه توكلنا وعليه فليتوكل المؤمنون (1). -2 - قد ذكرنا في المقال السابق ما كان عليه التعليم الديني في عهد السلف الصالح من التفقه في الدين بالتفقه في القرآن والأحاديث النبوية، وذكرنا الحالة التي انتهى إليها في عصرنا من هجر القرآن والسنة، والاقتصار على الفروع العلمية المنشرة دون استدلال، ولا تعليل، واستشهدنا على ذلك بحالتنا نحن أنفسنا لما أخذنا شهادة العالية من جامع الزيتونة- عمره الله- بدوام ذكره. ونريد أن نذكر اليوم أن هذا الإعراض عن ربط الفروع بأصولها ومعرفة مآخذها، هو داء قديم في هذا المغرب من أقصاه إلى أدناه، بل كان داء عضالا فيما هو أرقى من المغارب الثلاث وهو الأندلس. ونحن ننقل فيما يلي كلام إمامين عظيمين من أئمة الأندلس المتبعين لمالك رحمه الله. قال الإمام عمر بن عبد البر المتوفى سنة 493هـ في (جامع بيان العلم وفضله): "واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا لتفهم وجه الصواب، فيصار إليه ويعرف أصول القول وعلته، فيجري عليه أمثلته ونظائره، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا كما شاء الله ربنا، وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان، ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على

_ (1) ش: ج 11، م 10، ص 478 - 481 رجب 1353هـ - 10 أكتوبر 1934م.

معناها، وأصلها، وصحة وجهها، فكأنه خالف نص الكتاب وثابت السنة ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام، وذلك خلاف أصل مالك. وكم وكم لهم من خلاف في أصول مذهبه مما لو ذكرناه لطال الكتاب بذكره ولتقصيرهم في علم أصول مذهبهم، صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داوود ابن علي، أو غيرهم من الفقهاء وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال: هكذا قال فلان، وهكذا روينا، ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته، فإن عأرضه الآخر بذكر فضل إمامه أيضا صار في المثل كما قال الأول: شكونا إليهم خراب العراق … فعابوا علينا شحوم البقر فكانوا كما قيل فيما مضى … أريها السُّها وتريني القمر وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد البلوطي: عذيري من قوم يقولون كلما … طلبت دليلا، هكذا قال مالك فان عدت قالوا: هكذا قال أشهب … وقد كان لا تخفى عليه اسمالك فان زدت قالوا: قال سحنون مثله … ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا … وقالوا جميعا: أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم … أتت مالكا في ترك ذاك المسالك هذا إمام من أئمة الإسلام العظام المجمع على إمامتهم وعدالتهم، ومن أعظم المتبعين لمالك الآخذين بمذهبه، وها هو يشكو مرَّ الشكوى مما كان عليه أهل بلدة الأندلس في القرن الخامس وينعي عليهم ما انفردوا به هم، وأهل الغرب من الجمود والتقليد، وحملهم للروايات المختلفة دون معرفة وجوهها، ومخالفتهم لأصل مذهب الإمام الذي ينتسبون إليه، وعدولهم عن النظر والاستدلال المأمور بهما كتابا وسنة المعمول بهما عند جميع الأئمة إلى الاحتجاج بفضل القائل

وعلمه، والاجماع على أنه قد يصيب المفضول، ويخطى الأفضل، ورحم الله عمر بن الخطاب في قوله: "امرأة أصابت ورجل أخطأ" واستشهد ابن عبد البر بأبيات القاضي منذر بن سعيد البلوطي المولود سنة 265 المتوفي سنة 355 - لتبيين قدم هذا الداء في الأندلس وشكوى العلماء الأعلام منه وإنكارهم على أهله. وقال الإمام ابن العربي الأندلسي المتوفي سنة 543هـ في (العواصم) وهو يتحدث عن فقهاء عصره: "ثم حدثت حوادث لم يلقوها في منصوصات المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا: وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف، حتى آل المئال أن لا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه، ويقال قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طلبيرة وأهل طليطلة: فانتقلوا من المدينة وفقائها إلى طلبيرة وطريقها". فهذا الإمام العظيم قد عاب عليهم نظرهم في الحوادث بغير علم لأن ما عندهم من الفروع المقطوعة عن الأصول لا يسمى علما ولما لم تكن عندهم الأصول تاهوا في الفروع المنتشرة ومحال أن يضبط الفروع من لم يعرف أصولها، وذكر ما أدَّاهم إليه إهمال النظر، من الانقطاع عن أقوال مالك نمسه، وأمثاله إلى أمثالهم من الفروعيين التائهين الناظرين بغير علم. فإذا كان الحال هكذا من تلك الأيام في تلك الديار وقد مضت عليه القرون في هذه البلاد وغيرها فإن قلْعه عسير، والرجوع بالتعليم إلى التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالمآخذ والأدلة أعسر وأعسر، غير أن ذلك لا يمنعنا من السعي والعمل بصدق الرجاء وقوة الأمل، وسننفذه في دروسنا هذا العام والله المستعان (1).

_ (1) ش: ج12، م10، ص 518 - 521 غرة شعبان 1353هـ - نوفمبر 1934م.

ختم الدروس العلمية بالجامع الأخضر

ختم الدروس العلمية بالجامع الأخضر (1) في أوائل هذا الشهر ختمت الدروس العلمية بالجامع الأخضر فجمع الأستاذ عبد الحميد بن باديس طبقات التلامذة الثلاث- وهم ينيفون على مائتين تلميذ- ليلقي عليهم كلمة الوداع ويزودهم بالوصايا النافعة فذكرهم بما بينه وبينهم من رابطة الأبوة والنبوة وما بينهم من رابطة الأخوة وما تقتضيه هذه الروابط من محبة مثمرة للأعمال الصالحة في الخدمة العامة، ومن دوام اتصال للتعاون على الخير، ومن تسامح بين الجميع،، ومن تناصح بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ثم حثهم على أن يمثلوا الأخلاق الإسلامية الفاضلة بين أقوامهم حتى تظهر عليهم آثار ما كانوا فيه من غربة للتربية والتعليم فيحببوا الناس في العلم ويكونوا لهم قدوة فيه وفي العمل به. وأوصاهم بنشر ما تعلموا من خير برفق ولطف وأن يكونوا مظاهر محبة ورحمة على ما قد يلقونه من جفوة من بعض الناس، وأن لا يقابلوا ذلك إلا بالتسامح دون أدنى شيء من المكروه. ثم قال لهم: "اتقوا الله، ارحموا عباد الله، اخدموا العلم بتعلمه ونشره، وتحملوا كل بلاء ومشقة في سبيله، وليهن عليكم كل عزيز ولتهن عليكم أرواحكم من أجله. أما الأمور الحكومية وما يتصل بها فدعوها لأهلها وإياكم أن تتعرضوا لها بشيء".

_ (1) رأينا نشر هذا المقال لأن مضمونه كلام لابن باديس وإن لم يكن بقلمه.

تحية وشكر: إلى أبنائي الطلبة

وختم الاجتماع بالدعاء والابتهال، بما فيه صلاح الحال والمآل إن شاء الله تعالى. ثم في المساء ودعهم الأستاذ واحدا واحدا فرجعوا إلى بلدانهم مزودين بالخير دعاة إليه فتح الله عليهم وفتح بهم إنه الفتاح العليم (1). تحية وشكر: إلى أبنائي الطلبة: وعليكم- السلام ورحمة الله وبركاته. جاءتني كتبكم وأفادتني ما يسرني ويسر كل محب للعلم من استمراركم على الجد في مراجعته والترغيب فيه ونشر الهداية- كل بما استطاع- بين قومه وعشيرته وقد ضاق وقتي عن مكاتبتكم واحدا واحدا فكاتبتكم بهذا على صفحات مجلتكم شاكرا لكم حسن عهدكم وصدق مودتكم سائلا من الله تعالى أن يجمع قلوبنا على الحق وأعمالنا على الخير. وسيكون افتتاح الدروس في منتصف شهر أكتوبر إن شاء الله كالمعتاد سهل الله لنا ولكم أسباب العلم النافع. ووفقنا وإياكم إلى العمل الصالح (2) .. والسلام من أبيكم: عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج4، م11، ص 265 غرة ربيع الثانى 1354هـ - 3 جويلية 1935م. (2) ش: ج6، م11، ص 397 غرة جمادى الثانية 1354هـ - سبتمبر 1935م.

تقرير في التعليم المسجدي

تقرير في التعليم المسجدي ألقاه الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن والاه التعليم المسجدي: أصل مشروعيته واستمرار العمل به: المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام فما بنى النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم استقر في دار الإسلام، بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة، فلا إسلام بدون تعليم، ولهذه الحاجة مضى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على عمارة المسجد بهما، فما انقطع عمره كله عن الصلاة، وعن التعليم في مسجده، حتى في مرضه الذي توفي فيه. ثم مضى المسلمون على هذه السنة في أمصار الإسلام يقفون الأوقاف على المساجد للصلاة والتعليم، ومن أظهر ذلك وأشهره اليوم، الجامع الأزهر وجامع الزيتونة وجامع القرويين. نوع التعليم المسجدي: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه، يبين للناس ما نزل إليهم-، يفقههم في الدين، فما بيّن القرآن وما فقه في الدين فهو من التعليم الإسلامي وهو من التعليم المسجدي. ولما كان القرآن كتاب الإنسان من جميع نواحي الإنسان وكتاب الأكوان بما فيها من نعم

الحاجة إليه

وعبر وكتاب العمران بما يحتاج إليه العمران مما يصلح أحوال البشر وما يتصل بالبشر، وكتاب السعادتين الدنيوية والأخروية، كانت العلوم التي تخدم ذلك كله من علوم الإسلام ومن علوم المساجد. ولذا كانت مساجد الأمصار الإسلامية من أيام البصرة والكوفة إلى يومنا هذا مفتحة الأبواب، معمورة الأركان، بجميع العلوم وإذا خلت في العصر الأخير من بعضها، فذلك للتأخر العام وضعف المسلمين في أسباب الحياة. الحاجة إليه: الإسلام دين الله الذي يجمع بين السعادتين وإنما يسعدهما به من اعتقمد عقائده وتأدب بآدابه وارتبط بأحكامه في الظاهر والباطن من أعماله، ولا بد لهذا كله من التعليم الديني الذي محله المساجد وبدونه لا سبيل الذي محله المساجد وبدونه لا سبيل إلى شيء من هذا كله فصارت حاجة المسلمين إليه حاجتهم إلى الإسلام وصار إعراضم عنه، هو إعراض عن الإسلام وهجر له، ما انتهى المسلمون اليوم إلى ما انتهوا إليه إلا بذلك الهجر، وذلك الإعراض، ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة وكما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يفعل من إقامتهما بمسجده كما تقدم. وجوب القيام به: لما كانت الحاجة إليه عامة فوجوب إقامته، وجوب عام، على الأمة بجميع طبقاتها، ولا يسقط الوجوب عن أحد إلا إذا قام بالتعليم أهله، فكفوا الباقين. ومن الواجب على المتولي أمر العامة أن يبعث فيها من يعلمها أمر دينها كما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-

الحالة التي هو عليها

يفعل فإذا قصر ذلك المتولي كان على الجماعة أن تقوم به فإن قصرت لحق الإثم كل فرد منها. الحالة التي هو عليها: إن الذي يراجع عقود الأحباس المسجدية يجد أكثر الذين أسسوا المساجد- وخصوصا مساجد الجمعية- حبسوا من الأملاك ما يصرف للتعليم فيها، كما حبسوا ما يصرف للقائمين بالصلاة. مما يدل على أن الأمة كانت تتلقى دينها في مساجدها وقد أدركنا بعض المساجد في بعض البلدان، وقد أبقي فيها بعض التعليم فقسنطينة- مثلا- أبقي فيها معلمان أحدهما بالجامع الكبير والآخر بالجامع الكتاني، وعطل الجامع الأخضر مع أنه مكتوب على لوحة تحبيسه أنه أسس للصلاة والتعليم حتى أذن لهذا العبد الضعيف بالتعليم فيه وكان في أول الأمر الذين يقومون بالتعليم في ذلك القدر القليل من المساجد في القليل من البلدان، يقومون بالتعليم الديني، من فقه وتوحيد وعربية للطلاب، وللعامة، بقدر الحال، ثم من نحو ثلاثين سنة صدر أمر اقتضى تبديل وضعية تلك البقية من التعليم المسجدي وخلعها من المعنى الديني وصبغها بصبغة غير صبغتها المسجدية، فقضى ذلك على البقية من التعليم المسجدي وأصبحت العامة وليس عندها من يعلمها أمر دينها وأصبح الطلاب وليس عندهم ما يدرسون فيه، ما يفقههم في الدين ويهيئهم للقيام بوظائفه على الوجه الصحيح المشروع. هذه هي الحالة اليوم في هذا القطر الجزائري الذي يسكنه من خمسة ملايين (1) من المسلمين اللهم إلا ما يقوم به بعض أفراد أكثرهم من رجال هذه الجمعية متطوعين، أو مع إعانة جماعة إعانة قليلة الجدوى غير مأمونة البقاء وأين يقع هذا القدر القليل من التعليم في ذلك العدد من الأمة ..

_ (1) هذا فى سنة 1935

كيف ينبغي أن يكون

كيف ينبغي أن يكون: لا بد للجزائر من كلية دينية يتخرج منها رجال فقهاء بالدين يعلِّمون الأمة أمر دينها وأستطيع أن أقول أن نواة هذه الكلية هم الطلاب الذين يردون على الجامع الأخضر بقسنطينة من العمالات الثلاث- فلو أن الجمعية سعت لتوسيعها بترسيم معلمين ورعاية مدد المتعلمين ووضع خطة التعليم لقامت بأعظم عمل علمي ديني للأمة فيحاضرها ومستقبلها. ثم لا بد مع هذا من حث كل شعبة من شعب الجمعية على ترسيم مدرس للتعليم في مسجدهم إن كان لهم مسجد ثم تسعى الجمعية لدى الحكومة لترسم في كل مسجد من المساجد التي لنظرها مدرسا فقيها بالدين، ليعلم الناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، فكلية تخرج المعلمين الدينيين، ومعلمون في المساجد التي لنظر الحكومة والتي لنظر الجماعات تلك هي الحالة التي يجب أن تكون عليها الأمة الجزائرية المسلمة لتبقى مسلمة. أما كيف يكون التعليم وما هي الفنون التي تعلم والكتب التي يتعلم فيها فهو موضوع مستقل لا يحسن أن يتناوله بالبحث إلا لجنة من أهل العلم وسيكون ذلك إن شاء الله تعالى يوم تباشر الجمعية ما ذكرنا من أمر الكلية والتعليم في المساجد أعانها الله على القيام بهذا العمل العظيم ويسر لها أسبابه (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1354هـ ص 95 - 98.

بيان عن الحركة العلمية بالجامع الأخضر ونفقاتها

بيان عن الحركة العلمية بالجامع الأخضر ونفقاتها الطبقات: أربعة. عدد التلامذة: نحو الثلاثمائة. العلوم التي تقرأ: التفسير، الحديث، الفقه، الفرائض، العقائد، الأدب، المواعظ، التجويد، الأصول، المنطق، النحو، الصرف، البلاغة، الأدب، محفوظات، ومطالعات، ودراسة، الإنشاء، الحساب، الجغرافية، التاريخ. الكتب المدروسة: الموطأ، أقرب المسالك، الرسالة، ابن عاشر، الزندبوي، المفتاح، التنقيح، السلم، المكودي، القطر، الآجرومية، الزنجاني، اللامية، السعد، الجوهر المكنون، من ديوان الحماسة، من ديوان المتنبي، آمالي القالي، من مقدمة ابن خلدون. المعلمون الشيوخ: عبد الحميد بن باديس، عبد الحميد بن الحيرش، حمزة بكوشة، المتخرجون من جامع الزيتونة المعمور. ومن كبار التلامذة الشيوخ: البشير بن احمد، عمر دردور. بلقاسم الزغداني. النفقة: لا تنقص يوميا عن ثلاثمائة فرنك مع ملحقات.

_ البصائر: س1 عدد 47 - الجزائر يوم الجمعة 26 رمضان 1355هـ الموافق ليوم 11 ديصامبر 1936 م ص5.

نداء وبيان إلى الأمة المسلمة الجزائرية

نداء وبيان إلى الأمة المسلمة الجزائرية بالوطن وخارجه، وجميع المحبين: محبي الخير للمسلمين ــــــــــــــــــــــــــــــ {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (قرآن كريم) 9/ 123 «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة» (حديث شريف صحيح). «والدال على الخير كفاعله» (حديث شريف صحيح) «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (حديث شريف صحيح) أيها الشعب المسلم الجزائري الكريم! تالله لن تكون مسلما إلا إذا حافظت على الإسلام، ولن تحافظ عليه إلا إذا فقهته. ولن تفقهه إلا إذا كان فيك من يفقهك فيه. ولهذا فرض الله على كل شعب إسلامي أن تنفر منه طائفة لتتفقه في الدين وترجع إلى قومها بالإنذار، فبذلك يرجى لهم الرجوع إلى الله، وما هو إلا الرجوع من الضلال إلى الهدى ومن الباطل إلى الحق

ومن الاعوجاج إلى الاستقامة. ومن الشقاوة إلى السعادة، ومن النقص إلى الكمال، وقد بين تعالى على لسان رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن طرق العلم هي طرق الجنة فمن سلك طريق هذا سهل له طريق ذاك. وبين أنَّ من دلَّ على مثل هذا الخير- بقوله أو عمله- فهو كمن فعله. وبين أن المعينين لإخوانهم في الخير يعينهم الله ومن أعانته لهم تيسير ذلك الخير عليهم إلى مثله من الخيري {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} ومن إعانته لهم التعويض عليهم عما أنفقوا بالعطاء المضاعف الكثير {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. أيها الشعب المسلم الجزائري الكريم أما أبناؤك الشبان حملة القرآن فقد هبوا هبة رجل واحد لطلب العلم والتفقه في الدين، يحملون الإيمان في قلوبهم والقرآن العظيم في صدورهم، والروح الجزائرية المسلمة في لحومهم ودمائهم لا يقصدون إلا أن يتعلَّموا فيعلِّموا ويتفقَّهوا فيفقِّهوا، ولا يرجون من ذلك إلا رضا الله ونفع عباده. وقد جاء منهم هذا العام إلى الجامع الأخضر بقسنطينة ما يناهز الثلاثمائة من جميع جهات القطر وذهب نحوهم- وأكثره من تلامذة الجامع الأخضر- إلى تونس. وأما هذا العبد العاجز فإنه بفضل الله ثم بفضل كل معين في الخير، قد تقبل هؤلاء الكرام الوافدين والأبطال المتجردين وأقام لهم- مثل السنوات الماضية- ما يلزمهم من دروسهم وما استطاع

من نفقاتهم وضم إليه من الشيوخ ومن كبار تلامذته من يعينه على تعليمهم. وأما أنت أيها الشعب الكريم- فإننا ندعوك بدعوة الله إلى مد يد المعرفة على هذا العمل الواجب العظيم ندعوكم لتمدوا صندوق هؤلاء الطلبة، بما استطعتم من خير. ونذكركم- وهذا معلوم عندكم من السنوات الماضية- أن صندوق الطلبة تتولاه لجنة من جمعية التربية والتعليم الإسلامية، فهي تضبط دخله وخرجه وتنشره على الناس. ونعرفكم أن أمين هذا الصندوق اليوم هو السيد كرماني الحاج حموش التاجر برحبة الجمال بقسنطينة. KERMANI HADJ HAMOUCH Propriétaire Commerçant 14 et 16 Rue Hakett Constantine فهلموا إلى التعاون على البر والاحسان- أيها الأخوان- والله المستعان، والسلام عليكم (1). من أخيكم عبد الحمببد بن باديس

_ (1) البصائر: العدد 47، السنة الأولى، الجمعة 26 رمضان 1355هـ- 11 ديسمبر 1936م، ص 5، العمود1 و2 و3.

لمن أعيش

لمن أعيش ملخص محاضرة ألقاها عبد الحميد على أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها الأخوة: ينبغي لكل قوم جمعهم عمل أن يفهم بعضهم بعضا كما ينبغي أن يفهموا العمل الذي هم متعاونون عليه ليكونوا في سيرهم على بصيرة من أنفسهم وعملهم. فقد يجتمع قوم على عمل مع اختلاف منازعهم فيأخذ كل واحد ليجذب إلى ناحية فتقع الخصومة ما بينهم وينقطع حبل عملهم وربما انتهى بهم الأمر إلى افتراق وعدوان. ولو أنهم في أول الأمر تفاهموا، لما تخاصموا. فنحن - أيها الاخوة - الذين اجتمعنا على التربية والتعليم من معلم ومتعلم يجب علينا أن يفهم بعضنا بعضاً. والمعلم هو الذي يجب أن يفهمه المتعلمون ويفهمهم هو في نفسه لأنه هو الذي انتصب ليبث فيهم أفكاراً وأخلاقاً وآداباً وهو مؤثر عليهم أثراً ما لا محالة، فمن واجب نصحه لهم أن يفهمه في نفسه لينظروا في قبول التأثر به فيستمرون معه، وعدم قبوله فيفارقونه، وليكون من قبلوا واستمروا مجتمعين على شيء قد فهموه واتفقوا على البقاء فيه والتعاون عليه. وأنا أظن نفسي مفهوما عند من يتصلون بي مثلكم ولو كان ذلك في زمن قليل لأنني ما فتئت أعلن عن فكرتي التي أعيش لها وغايتي التي أسعى إليها في كل مناسبة. واليوم - وقد كان تباين ما في بعض

من يتصلون بي- رأيت من الواجب أن ألقي عليكم هذا البيان مختصراً في سؤال وجواب ثم أقفّي عليه بشيء من الشرح والتفصيل: س: لمن أعيش أنا؟ ج: أعيش للإسلام والجزائر. قد يقول قائل: إنّ هذا ضيق في النظر، وتعصب للنفس، وقصور في العمل، وتقصير في النفع. فليس الإسلام وحده ديناً للبشرية، ولا الجزائر وحدها وطن الإنسان ولأوطان الإنسانية كلها حق على كل واحد من أبناء الإنسانية، ولكل دين من أديانها حقه من الاحترام. فأقول: نعم إن خدمة الإنسانية في جميع شعوبها، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها، هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه، ولكن هذه الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة فوجب التفكير في الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع. ونحن لما نظرنا في الإسلام وجدناه الدين الذي يحترم الإنسانية في جميع أجناسها فيقول: (17/ 70) {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ويقرر التساوي والأخوة بين جميع تلك الأجناس ويُبَيّن أنهم كانوا أجناساً للتمييز لا للتفضيل وأن التفاضل بالأعمال الصالحة فقط فيقول: (49/ 13) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3) ويدعو تلك الأجناس كلها إلى التعاطف والتراحم بما يجمعها من وحدة الأصل ووشائج القرابة القريبة والبعيدة فيقول: (4/ 1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ

الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. ويقرر التضامن الإنساني العام بأنَّ الإحسان إلى واحد إحسان إلى الجميع، والإساءة إلى واحد اساء (1) إلى الجميع فيقول: (5/ 35) {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. ويعترف بالأديان الأخرى ويحترمها ويسلِّم أمر التصرف فيها لأهلها فيقول: (109/ 6) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. ويقرر شرائع الأمم ويهون عليها شأن الاختلاف ويدعوها كلها إلى التسابق في الخيرات فيقول: (5/ 15) {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. ويأمر بالعدل العام مع العدو والصديق فيقول: (5/ 9) {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}. ويحرم الاعتداء تحريماً عاماً على البغيض والحبيب فيقول: (5/ 3) {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}. ويأمر بالإحسان العام فيقول: (16/ 90) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. ويأمر بحسن التخاطب العام فيقول: (2/ 83) {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

_ (1) كذا في الأصل الصواب: اساءة.

فلما عرفنا هذا وأكثر من هذا في الإسلام - وهو الدين الذي فطرنا عليه الله بفضله - علمنا أنه دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به، وأن خدمتها لا تكون إلا على أصوله، وأن إيصال النفع إليها لا يكون إلا من طريقه، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته، وخدمة كل ما هو بسبيله ومن ناحيته. فإذا عشت له فإني أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها، في جميع أجناسها وأوطانها، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنا لنكون هكذا إلا بالإسلام الذي ندين به ونعيش له ونعمل من أجله. فهذا - أيها الإخوان - معنى قولي: ((إنني أعيش للإسلام)). أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليَّ تلك الروابط لأجله- كجزء منه- فروضا خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة. فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة. وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه: إلى رجاله وإلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه وإلى آماله، كذلك أجدني إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه. هكذا هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال. وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال. نعم إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا هي دائما منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لا بد أن نكون قد خدمناها، وأوصلنا إليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا الخاص.

وأقرب هذا (1) الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ما هما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد لغة وعقيدة وآداباً وأخلاقاً وتاريخا ومصلحة ثم الوطن العربي والإسلامي ثم وطن الإنسانية العام. ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر. وما مثلنا في وطننا الخاص - وكل ذي وطن خاص - إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيع بيته فهو لما سواها أضيع. وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط. فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للاضرار بسواها - معاذ الله - ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطانٍ الأقرب فالأقرب. هذا - أيها الإخوان - هو مرادي، بقولي: «أنني أعيش للجزائر». والآن - أيها الإخوان - وقد فهمتموني وعرفتم سمو فكرة العيش للإسلام والجزائر فهل تعيشون مثلي للإسلام والجزائر؟ نعم! نعم! بصوت واحد. فلنقل كلنا: ليحيي الإسلام! لتحيا الجزائر (2).

_ (1) كذا فى الأصل. (2) ش: ج 10، م 12، ص 424 - 428 غرة شوال 1355هـ- جانفى 1937م.

مؤتمر المعلمين الأحرار

مؤتمر المعلمين الأحرار سينعقد مؤتمر رجال التعليم العربي الحر تحت إشراف جمعية العلماء بنادي الترقي بالجزائر يومي الأربعاء والخميس الثاني والعشرين والثالث والعشرين من شهر سبتمبر الجاري لتبادل الآراء فيما يهم التعليم العربي الحر ومدارسه ومساجده ونظمه وأساليبه، والغاية المنشودة من ذلك هي التوصل إلى توحيد مناهج التعليم العربي فعلى إخواننا الأساتذة القائمين بهذا النوع من التعليم أن يحرصوا كل الحرص على شهود هذا المؤتمر. والواجب أن يعدوا من الآن خلاصة آرائهم في ضمن تقارير تقدم للملؤتمر. وها هي المسائل التي نرجو منهم أن يتقدموا إلى المؤتمر بآرائهم فيها: 1 - وسائل توحيد التعليم. 2 - أسلوب التعليم. 3 - أسلوب تربية الناشئة. 4 - خلاصة تجاريبهم في التربية والتعليم. 5 - الكتب وهل الأحسن اختيار كتب مصرية أو تأليف كتب تتنفق مع الروح الجزائرية. 6 - رأيهم في تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه. 7 - التعليم المسجدي ووسائل تنظيمه وترقيته. 8 - رأيهم في الوسيلة التي نعيد بها المرأة المسلمة سيرة سلفها من تلقي العلم.

9 - تقارير مفصلة لدرجة إقبال الأمة على التعليم بأقسامه السابقة (كل في جهته). والمجلس الإداري لجمعية العلماء يلح كل الإلحاح على الأساتذ القائمين بمهمة التعليم الحر في أنحاء القطر الجزائري ألا يتأخروا عن الحضور في هذا المؤتر العلمي النافع الذي ستكون روعته وفوائده على مقدار جهودهم ومباحثهم، وستكتب دعوات خاصة لكل من نعرف اسمه وعنوانه بالضبط، ومن غاب عنا عنوانه فليعتبر هذه الكلمة دعوة خاصة، ولهم الشكر. رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة 2، العدد 80، الجمعة 26 جمادي 2، 1356هـ- سبتمبر 1937م، ص 5، ع 2 و3.

الإسلام الذاتي والإسلام الوراثي

الإسلام الذاتي والإسلام الوراثي أيهما ينهض بالأمم ــــــــــــــــــــــــــــــ يولد المرء من أبوين مسلمين فيعد مسلماً، فيشب ويكتهل ويشيخ وهو يعد من المسلمين. تجري على لسانه وقلبه كلمات الإسلام. وتباشر أعضاؤه عبادات وأعمال إسلامية، فراق روحه أهون عليه من فراق الإسلام، لو نسبته لغير الإسلام لرأيت منه لثار (1) عليك أو بطش بك. ولكنه لم يتعلم يوما شيئا من الإسلام ولا عرف شيئا من أصوله في العقائد والأخلاق والآداب والأعمال، ولم يتلق شيئا من معاني القرآن العظيم ولا أحاديث النبي الكريم، -صلى الله عليه وآله وسلم-. فهذا مسلم إسلاما وراثيا لأنه أخذ الإسلام كما وجده من أهله، ولا بد أن يكون- بحكم الوراثة- قد أخذه بكل ما فيه مما أدخل عليه وليس منه من عقائد باطلة وأعمال ضارة وعادات قبيحة. فذلك كله عنده هو الإسلام، ومن لم يوافقه على ذلك كله فليس عنده من المسلمين. هذا الإسلام الوراثي هو الإسلام التقليدي الذي يؤخذ بدون نظر ولا تفكير وإنما يتبع فيه الأبناء ما وجدوا عليه الآباء. ومحبة أهله للإسلام إنما هي محبة عاطفية بحكم الشعور والوجدان. هذا الإسلام الوراثي هو إسلام معظم عوام الأمم الإسلامية، ولهذا تراها مع ما أدخلت على الإسلام من بدع اعتقادية وعملية، ومع ما أهملت من أخلاق الإسلام وآدابه وأحكامه، متمسكة به غاية التمسك

_ (1) كذا في الاصل.

لا ترضى به بديلا ولو لحقها لأجل تمسكها به ما لحقها من خصومه من بلاء وهوان. هذا الإسلام الوراثي حفظ على الأمم الضعيفة المتمسكة به- وخصوصا العربية منها- شخصيتها ولغتها وشيئا كثيراً من الأخلاق ترجع به الأمم الإسلامية إذا وزنت بغيرها. ومن ذلك خلق العفة والطهر الذي حفظ نسلها فتراه يتزايد بينما تشكو أمم أخرى غير إسلامية من نقصان نسلها. فالشعب الجزائري يزداد في العام اثنين وثلاثين ومائة ألف والشعب التونسي يزداد في العام خمسين ألفا بينما بعض الشعوب غير الإسلامية يقف عن الازدياد ويخاف النقصان رغم ما عند هذا من العناية وما عند أولئك من الإهمال. لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبه أفكارها وتقنح أنظارها. والإسلام الوراثي مبني على الجمود والتقليد فلا فكر فيه ولا نظر. أما الإسلام الذاتي فهو إسلام من يفهم قواعد الإسلام ويدرك محاسن الإسلام في عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه وأعماله، ويتفقه- حسب طاقته- في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويبني ذلك كله على الفكر والنظر فيفرق بين ما هو من الإسلام بحسنه وبرهانه، وما ليس منه بقبحه وبطلانه فحياته حياة فكر وإيمان وعمل، ومحبته للإسلام محبة عقلية قلبية بحكم العقل والبرهان كما هي بمقتضى الشعور والوجدان. هذا الإسلام الذاتي هو الذي أمرنا الله به في مثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}، فبالتفكر في آيات الله السمعية وآيته الكونية وبناء الأقوال والأعمال والأحكام على الفكر، تنهض الأمم

فتستثمر ما في السماوات وما في الأرض وتشيد صروح المدنية والعمران. إذاً! فنحن- المسلمين- مطالبون دينيا بأن نكون مسلمين، إسلاما ذاتيا. فبماذا نتوصل إلى هذا الواجب المفروض؟ .. لذلك سبيل واحد، هو التعليم. فلا يكون المسلم مسلما حتى يتعلم الإسلام فالمسلمون- أفرادا وجماعات- مسؤولون عن تعلم وتعليم الإسلام، للبنين والبنات، للرجال والنساء، كل بما استطاع والقليل من ذلك خيره كثير، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ (1).

_ (1) ش: ج 3، م 14، ص 105 - 107 ربيع الأول 1357هـ - فيفري 1937م.

يا لله! للإسلام والعربية في الجزائر

يا لله! للإسلام والعربية في الجزائر (كل من يعلِّم بلا رخصة يغرّم ثم يغرّم ويسجن) قانون 8 مارس (لكل من يطلب الرخصة لا يجاب) هذا عمل الإدارة الكثير المتكرر ــــــــــــــــــــــــــــــ بينما الأمة الجزائرية تنتظر من فرنسا منحها حق التصويت البرلماني، مع بقائها على شخصيتها الإسلامية، إذ أعداء الأمة الجزائرية- وأعداء فرنسا أيضا- يجمعون أمرهم، ويدبرون كيدهم فيستصدرون من الحكومة قرارا وزاريا بعقوبات صارمة على التعليم، ليهدموا هذه الشخصية الإسلامية من أصلهما وليقضوا عليها بالقضاء على مادة حياتها. علموا أن لا بقاء للإسلام إلا بتعليم عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه، وأن لا تعليم له إلا بتعليم لغته، فناصبوا تعليمها العداء وتعرضوا لمن يتعاطى تعليمها بالمكروه والبلاء، فمضت سنوات في غلق المكاتب القرآنية ومكاتب التعليم الديني العربي والضن بالرخص، واسترجاع بعضها حتى لم يبقوا منها إلا على أقل القليل. ولما رأوا تصميم الأمة على تعلم قراءتها ودينها ولغة دينها، واستبسال كثير من المعلمين في سبيل القيام بواجبهم نحو الدين والقرآن ولغة الدين والقرآن، واستمرارهم على التعليم رغم التهديد والوعيد، ورغم الزجر والتغريم- لما رأوا هذا كله سعوا سعيهم وبذلوا جهدهم حتى استصدروا هذا القانون: قانون العقاب الرهيب.

لقد فهمت الأمة مَنِ المعلمون المقصودون، فهم معلمو القرآن والإسلام، ولغة القرآن والإسلام، لأنهم هم الذين عرفت الأمة كلها ما يلقون من معأرضة ومناهضة، وما يجدون من مقاومة ومحاكمة. بينما غيرهم من معلمي اللغات والأديان والمروجين للنصرانية في السهول والصحاري والجبال، بين أبناء وبنات الإسلام، في أمن وأمان، بل في تأييد بالقوة والمال. وهم الذين إذا طلبوا الرخص بكل ما يلزم للطلب أجيبوا بالسكوت والإعراض أو أعلن لهم بالرفض لغير ما سبب من الأسباب فهم الذين إذا طلبوا اليوم كان كما بالأمس السكوت أو الرفض جوابهم. ثم إذا أقدموا على التعليم بلا رخصة كان التغريم الثقيل والسجن الطويل جزاءهم، وإذا أحجموا واستسلموا تم لأعداء الإسلام والعربية مرادهم وقضوا على القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام قضاءهم. فهمت الأمة كل هذا وفهمت أن هذا القانون سلاح جديد حديد أشهر لمحاربتها في أعز عزيز عليها، وأقدس مقدس لديها وهو قرآنها ودينها ولغة قرآنها ودينها وتوقعت من السلطة أن تستعمله أشد استعمال وتستغله شر استغلال ضد تعليم القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام لما عرفته من قبل مقاومتها لهذا التعليم والقائمين به. فهمت الأمة هذا الشر والكيد المدبرين لدينها وقرآنها ولغة قرآنها ودينها. وفهمته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الممثلة للأمة في دينها وقرآنها ولغة دينها وقرآنها والناطقة في الدفاع عنها في هذه الناحية بلسانها والمعاهدة لله وللأمة على ذلك الدفاع إلى آخر رمق من حياتها. قد فهمنا- والله- ما يراد بنا وإننا نعلن لخصوم الإسلام والعربية أننا عقدنا على المقاومة المشروعة عزمنا، وسنمضي- بعون الله- في تعليم

للدفاع عن الإسلام والقرآن ولغتهما

ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا، ولن يصدنا عن ذلك شيء فنكون قد شاركنا في قتلهما بأيدينا. وإننا على يقين من أن العاقبة- وإن طال البلاء- لنا وأن النصر سيكون حليفنا- لأننا قد عرفنا إيمانا، وشاهدنا عيانا، أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما ولو اجتمع الخصوم كلهم على محاربتهما. سيرى الذين دبروا المكيدة. والذين لم يتفطنوا لها فشاركوا في تنفيذها. أنهم ما أصابوا بهذه المكيدة إلا سمعة فرنسا في العالم الإسلامي والعربي، في الوقت الذي تنفق فيه الملايين على تحسين سمعتها فيهما. ومكانتها عند الجزائريين في أحرج أوقاتها وأشدها حاجة إلى الأمم المرتبطة بها، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. عبد الحميد بن باديس ... للدفاع عن الإسلام والقرآن ولغتهما: ندعو كل معلم مكتب قرآني أو مدرسة طلب الرخصة من الإدارة ولم يجب، وكل معلم مكتب قرآني أو مدرسة منع من التعليم، وكل معلم نزعت منه رخصته- أن يكاتبنا بما وقع له من ذلك ويعرفنا بتفصيله وجميع ما يتعلق به لنسعى في نازلته السعي المشروع. كما ندعو كل من تعدى عليه من معلمي الديانة في المساجد أن يكاتبنا ويعرفنا لنتتبع بطريق القانون كل من روعه وانتهك حرمة الدين والمسجد من رجال السلطة كائنا من كان.

كما ندعو كل جماعة يريدون تأسيس جمعية وفتح مدرسة لتعليم الإسلام والعربية أن يكاتبونا ويعرفونا لنرشدهم إلى الوجوه القانونية اللازمة. نهج الأربعين شريفا عدد 17 بقسنطينة Rue Alexis - Lambert, 17 - CONSTANTINE - عبد الحميد بن باديس

_ البصائر قسنطينة يوم الجمعة 7 محرم 1357هـ الموافق ليوم 8 أفريل 1938م ص 1 والعمود 1 من الثانية.

[صورة: مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية (بالجزائر)] صورة بعض أعضاء إدارة جمعية الشبيبة الإسلامية الجزائرية وأساتذة مدرستها وهم المجالسون من اليمين الشيخ يحيى جعفر والشيخ باعزيز بن عمر والشيخ محمد العيد خليفة والسيد محمد علي دمرجي رئيس الجمعية والشيخ فرحات بن الدراجي والشيخ البدوي جلول والشيخ عبد الرحمن الجيلالى والواقفون من اليمين: السيد رشيد بطحوش والسيد أبى شهلة والسيد أحمد أندلسي والسيد زقان محمد والسيد عباس التركى والسيد الحاك يوسف دمرجي والسيد ابن ليلى محمد والسيد محمود رودوسي.

[صورة: تلاميذ وتلميذات مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية وشيوخها وبعض أعضاء إدارة جمعيتها]. ... [صورة: تلميذات مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية وشيوخها وبعض أعضاء إدارة جمعيتها]. (1)

_ (1) ش: ج1، م 14 ص 1 غرة محرم 1357هـ - مارس 1938م.

بمناسبة قانون 8 مارس 1938م

بمناسبة قانون 8 مارس 1938م كتاب مفتوح إلى السيد الوالي العام على القطر الجزائري ــــــــــــــــــــــــــــــ مضى زمن حسب بعض الناس فيه أن الإسلام والعربية إنما هما من هم قراء العربية وطلبة القرآن وعامة الناس. وأما المثقفون باللسان الفرنسي فلا همَّ لهم فيهما. وأنهم قد ذهبت بأبصارهم آفاق أخرى عن الالتفات إليهما، وأن أحسنهم حالا من يعطف عليهما عطفا رقيقا مراعاة للبيئة وحنواً على العشير. حتى جاءت هذه المقاومة الصريحة لتعليم الإسلام ولغة الإسلام من الإدارة بقانون 8 مارس وما سبقه وما لحقه من منع الرخص ومحاكمة المعلمين. فتجلت الحقيقة وانقشعت سحب الغرور وظهر أنَّ أخواننا المثقفين باللسان الفرنسي من الدكاترة والمحامين والأستاذة وغيرهم لا ينقصون عن غيرهم غيرةً ودفاعا عن الإسلام ولغة الإسلام. وها هو الدكتور ابن خليل- النائب البلدي بباتنة ورئيس الجمعية الدينية بها وأحد الأعضاء البارزين في جمعية النواب لعمالة قسنطينة- يدافع دفاعا فيه من حرارة الإيمان بقدر ما فيه من قوة الحجة وقد نشره باللسان الفرنسي في جريدة جمعية النواب (الانطانط) الغراء فرأينا تعريبه ليطلع عليه القراء ويكونوا على علم بما فيه من حجج قانونية يحتاجون إليها. وبعد فإنا نرجو أن ترجع الإدارة إلى الحق وتراعي شعور الأمة فتكسب بذلك محمدة وتفعل جميلاً هو في صالح

الجميع وذلك ما نعمل كلنا في سبيله (1). عبد الحميد بن باديس ... إنني من الذين فوجئوا بقانون 8 مارس وبالطبع قرأت بتأمل واهتمام زائد (بيان حقيقة) الذي أصدره السيد الوالي العام ونشر بالجرائد اليومية. وإنني اأكون مسرورا بكل فكرة حكومية يراد بها التنظيم الإداري في العمالات الجزائرية الثلاث طبق ما هو جار بأم الوطن حتى إنني أتفاءل لقانون فصل الدولة عن الدين- بالسلم الديني في هذا الوطن- وعلى الأخص الديانة الإسلامية- الذي هو من جملة المطالب الرئيسية لوحدة النواب التي أتشرف بالانتماء إليها ومع ذلك فإن قراءتي لهذا الـ: (بيان حقيقة) لم ترفع عني الدهشة لأنه في الواقع- كل شيء يبنى على فهم الحكومة لذلك القانون وتفسيرها إياه عمليا. وبهذا المثل الراجح الذي أضربه لكم فوق هذا المنبر سأحاول إفهامكم- على ما ارتآه فكري الضعيف، أحقية الدهشة المستولية عفى الأمة الإسلامية: في بلدة باتنة أربعة أديان جاري بها العمل (كاثوليكي، إسرائيلي، إسلامي، بروتيستاني) وعلى هذا يوجد في نفس هذه البلدة جمعية دينية إسرائيلية، وجمعية دينية إسلامية، حصل لي الشرف برئاستها منذ سنة 1934م- وجمعية دينية بروتيستان- ما عدا رجال الكهنوت الكاثوليكي فإنهم لم يؤسسوا جمعية دينية كإخوانهم في فرنسا. الجمعية الدينية الإسلامية بباتنة كميثلاتها من الجمعيات الدينية،

_ (1) تعليق له على مقال كتبه ابن خليل النائب البلدي بباتنة ورئيس الجمعية الدينية بها وعضو جمعية النواب لعمالة قسنطينة رأينا نقل المقال لأهميته التاريخية.

تأسست في سبتامبر 1925م على أساس قانون فصل الدين عن الدولة الصادر في ديسامبر 1905 ومرسوم 27 سبتامبر 1957م وهي لا تملك إلا مسجدا واحدا- وهو المسمجد الوحيد- في البلدة المذكورة كلها وهي التي تقوم بدفع أجر القائمين على الديانة من كيسها وما زالت منذ تأسيسها دائبة على تعليم الأكبار والصغار من المسلمين أمور دينهم. والمعروف عن التعليم المذكور أنه عبارة عن تعليم القرآن والتوحيد وأحكام العبادات ولهذا فهو لم يكن في وقت من الأوقات يصادف أدنى عرقلة ولا حتى مجرد ملاحظة حكومية حتى سنة 1935م أو هي كما ترى مدة عشر سنوات أو ونيف ثم إن السيد البريفي عامل عمالة قسنطينية أعلمني بكتاب مرقوم بـ 29763 ومؤرخ في 16 ديسامبر 1935م أن لا حق لهذه الجمعية- أي تعليم كان- وأن عليها قبل أن تفعل أن تمتثل وتعمل بمقتضى مرسوم 1892م فأجبته بالجواب التالي: باتنة 23 ديسامبر سنة 1935م من رئيس الجمعية الدينية الإسلامية في باتنة. جناب السيد البريفي عامل عمالة قسنطينة، سيدي أبلغكم مع الاحترام أنني اتصلت بمكتوبكم رقم 39763 وأعلم جنابكم أن الجمعية الدينية الإسلامية بباتنة ممثلة ومتبعة للوضعيات المعينة بالمادة الخامسة وما يليها من مواد قافون أول جوليت 1901 وكذلك وضعيات قانون 9 ديسنامبر 1905 وأمر 27 سبتمبر 1907. والمادة الأولى من القانون الأساسي لهذه الجمعية تنص على ما يأتي: تأسس بباتنة بعضوية جماعة من المسلمين مشتركين في مسؤولية وضع هذا القانون الأساسي جمعية دينية إسلامية ومنظمة على مقتضى

الغرض من الجمعية

قانون 9 ديسامبر 1980 وأمر 27 سبتمبر 1907 وأيضا على نمط الوضعيات التي للمادة الخامسة وما يليها من قانون أول جوليت 1951 الغرض من الجمعية: أولا: أن تتكفل بضمان الواجبات الدينية الإسلامية. ثانيا: أن تتولى رعاية المسجد الذي أسسه المسلمون والقيام عليه. ولهذا فإني وإياكم لعلى وفاق تام من أن قانون 1 جوليت 1901 بحسب مادته الخامسة لا يخول للجمعية المذكورة القوة القانونية. ولكن هذه الجمعية من جهة أخرى تستغل قانون حرية الأديان وفصل الدين عن الدولة وتتحصن به كمرسوم 27 سبتمبر 1907م المبينان لشروط القوانين المتعلقة بفصل الدين على الدولة للعمل الديني بأرض الجزائر وإذن فما هي الوسائل التي تمكننا من إقامة الشعائر الإسلامية؟ لقد قال لنا (لارشي المقنن الكبير) نفسه: "إن الدين الإسلامي يشتمل على جميع الأوامر التي تكون النظم الدينية أخلاقا وأحكاما" من صفحة 634 وفقرة 224 وهذا يدل على أن الدين الاسلامي لم يكن مجرد عبارات فقط بل حتى التعليم الديني. ومما قاله لارشي المذكور في شأن التعليم الإسلامي هو عين ما يزاول في المسجد. والجمعية هي- الضامنة فيه ماديا ودينيا في دائرة القوانين والمواد التي تجريها الحكومة على المساجد الرسمية بمقتضى الملحق المؤرخ في 17 ماي 1851 وعليه فإن هذه الدروس المختصة بالتعليم الديني والخالية من العلوم الدنيوبة العصرية والتي لم تخرج عن الحدود القانونية لا تعتبر مدرسة خاصة ولا مكتبا حرا من النوع المشار إليه بقانون 1892 المتعلق بالمكاتب الخاصة الحرة للأهالي. وعلى هذا فالمظنون عندي أن الحكومة المحلية قد غلطت في عدم

التمييز بين المكتب القرآني الحر والدروس الدينية العمومية وإني لأرجو بعد هذا أن تتدارك الحكومة ذلك على ضوء ما قدمت من إيضاح وتجديد للقضية. وتقبلوا خالص التحيات من قلب ملؤه الإخلاص العميق. الدكتور ابن خليل ... إن هذا المكتوب بقي مسكوتا عنه وفي 2 مارس 1936 بأمر عمالي: إن السيد الكوميسار بوليس سجَّل ضد الإمام قضية مخالفة باسم القانون المذكور عرضت أمام محكمة باتنة (السامبل بوليس) وقد وافق السيد القاضي الرأي المخزني ولكنه توقف في تنفيذ الحكم لأن لانديجينيا لا يجري على الإمام المذكور وأما وكيل الحق العام فإنه استأنف القضية بمجلس الاستئناف الأعلى ولكن مع الأسف لم يصدر شيء عنها في هذا الشأن لأن القضية رفضت بموجب قانون العفو المعروف وإذن فهذا الخلاف- واعتذر عن هذا التعبير- قد نجم من جديد بواسطة السيد الكوميسار بوليس. بقيت الإداوة العمالية متمسكة بوجهة نظرها فاتهمت القائمين بالتعليم للجمعية بأنهم منذ تاريخ غير مسمى فتحوا مكتبا قرآنيا لتعليم الصغار والكبار بدون رخصة (التهمة التي تثبتها مادتا 49 و51 من قانون 8 مارس 1938) والجمعية أيضا هي الأخرى متبوعة كذلك وضامنة، وستعرض الدعوى أمام مجلس التأديب (الكور لكسيونال) باسم قانون 8 مارس الأخيرة فلا ننتظر برجاء تام ص حكم العدالة. ومع ذلك قد تكونت حالة غير مرضية متسببة عن سوء فهم لقانون 1893 والسيد الكوميسار سجل المخالفة لأنه وجد في باتنة أن الإمام يعلم الرشداء وفي الأوقات الخارجية عن أوقات

التعليم الفرنسي يعلم صبيان الأهالي: القرآن والتوحيد والواجبات الإسلامية وبعبارة أخرى (علم اللاهوت الإسلامي). ومع هذا إن التعليم المشار إليه- هو ديني لا أكثر- يشبه التعليبم الذي تقوم به في لغتنا وحدود عقائدها، الجمعيات الدينية المنظمة الكاثوليكية بباتنة وهكذا يخيل أن الدين الإسلامي يعامل معاملة استثنائية وذلك رغم تعهد فرنسا باحترام حرية العمل في الدين والعوائد الإسلامية. زيادة على هذا كل مؤمن يتساءل عن سبب عدم تمكين الجماعات الإسلامية- التي تمثلها جمعيتها الدينية ومستخدموها- في العمل بحق أخذته من القانون الافرنسي مع المساواة مع الجماعات الدينية الأخرى. هذه هي النقطة السوداء، ومنشأ الاحتمالات التي أشرت إليها آنفا. إن الحالة التي يوجد فيها مديرو ومعلمو الجمعية الإسلامية المسؤولة عن مستقبل الدين الإسلامي أليمة، تمس سكان باتنة كلهم، إني أتعشم يا جناب الوالي تحت نور الحوادث التي عرضتها في هذا الكتاب الذي أملاه الاهتمام بصفاء ومصلحة هذا الوطن العمومية انكم تفهمون جيدا اضطرابي، وهو اضطراب السكان المسلمين الذين يرجون من ديموقراطي مثلكم اطمئنان ضميرهم (1).

_ (1) البصائر: قسنطينة يوم الجمعة 11 ربيع الثانى 1357 الموافق ليوم 10 جوان 1938 ص 1و02 اخترنا نقل هذا المقال لأن الشيخ ابن باديس قد علق عليه.

في سبيل التعلم والتقدم

في سبيل التعلم والتقدم من آثار جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة ــــــــــــــــــــــــــــــ ما من شك في أن الشعب الجزائري شعر بسوء الحالة التي وصل إليها في جميع نواحيه. وما من شك في أنه قد آلمه ما شعر به فأخذ يعمل للتخلص من تعاسته والنهوض من كبوته بكل ما يستطيع. الشعب الجزائري شعب مسلم طبعه الإسلام على تعظيم العلم، وحب التعلم، واحترام المتعلمين، فلما دبت فيه الحياة وهب للنهوض اندفع للتعلم اندفاعا أدهش قوما وحير آخرين. انتبه هذا الشعب العربي المسلم على صدمات الحوادث، وقوارع الزمان، ومناخيس البلايا التي خرقت الجلد واللحم والعظم وبلغت إلى شغاف الفؤاد، وعلى صوت الدعاة بالقرآن الذين هزت دعوتهم النفوس هزاً، وأحيا الله بها البلد الميت، ففتح عينيه ليرى النور، ومديره ليأخذ بأسباب النجاة فقدم له علماؤه المصلحون قبسا من نور الإيمان الذي هو في حنايا ضلوعه لينير له الوجود، ومدُّوا له حبل الإسلام الذي هو مرتبط بقلبه، ليصعد في مرقى الحياة، ويطلع إلى صرح المجد والسعادة، التي خلق لها الإنسان من حيث أنه إنسان. وناغوه بلغة دينه التي تتصل بروحه ليفهم ذلك الدين، ويذوق معانيه وتتشرب روحه حقائقه وأوضاعه وأحكامه، فتبدو أزهاره الذكية وثماره الطيبة، على أقواله وأعماله وسلوكه في الحياة مع جميع الناس. كان مما ربي عليه الإسلام هذا الشعب الجزائري الكريم أن يطلب

العلم للعلم، وأن يسعى إليه في كل أرض وأن يتعلمه بكل لسان، وأن يتناوله- شاكراً- من كل أحد. لهذا ترى أبناء الجزائر يجمعون- إذا وجدوا السبيل- بين لغتهم العربية واللغة الفرنسية وتجدهم كما يطالبون الحكومة بحرية تعليم وتعلم دينهم ولغة دينهم، يطالبونها بإيجاد المدارس وتوسيعها لتعلم الفرنسية وما إليها. وإننا ننشر اليوم مع هذا المقال صورة (1) لعدد من تلاميذ مدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة نالوا في هذه السنة الشهادة الابتدائية الفرنسية باستحسان. وفي ذلك أصدق شاهد على ما نقصده من نشر الثقافة باللسانين بين أبناء الجزائر. [صورة: من آثار جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة]

_ (1) بهذا العدد صورة فوتوغرافية لاثني عشر تلميذا مطربشين.

وإذا كنا نصرف أكثر جهدنا للتعليم العربي فذلك لأن العربية هي لغة الدين الذي هو أساس حياتنا ومنبع سعادتنا، ولأنها هي التي نحسن تعليمها، ولأنها- وهذا من الوجاهة والعدالة بمكان- هي اللغة المهملة بين أبنائها، المحرومة من ميزانية بلدها، المطاردة في عقر دارها، المغلقة مدارسها، المحارب القائمون على نشرها من أبنائها، اللهم إلا قليلا نادرا- على خوف- يحتج به عند مقتضى الحال، وإلا المدارس الرسمية الثلات التي لا تقبل إلا عددا محدودا لتخريج من يملأ الوظائف الرسمية ويناسب روحها. ولو أنا حرمنا من حرية تعلم اللغة الفرنسوية التي هي سبيلنا إلى آداب الغرب وعلومه وفنونه وفهمه من جميع جهاته، كما حرمنا من حرية تعلم لغتنا، لوقفنا إزاء ذلك الحرمان لو كان، كوقوفنا إزاء هذا الحرمان. إن شعبين متباينين ربطت أوضاع الحياة الجارية بينهما، لا أحسن لهما من أن يتفاهما ويتكارما ويتناصفا ويتآلفا، ومفتاح ذلك أن يتعلم كل منهما لغة صاحبه. هذا ما نقوله نحن الذين نريد الوئام والسلام، أما الذين يحاربون العربية فهم يفرقون ويشوشون فسيندمون، وتنتشر العربية بقوة الحق والفطرة وهم كارهون. فإلى المسؤولين الذين يقدرون مسؤوليتهم وجعلوا المصلحة العامة العليا غايتهم، نوجه نداءنا من أجل حرية الدين ولغة الدين، وفتح طريق التعلم والتقدم للمسلمين وغير المسلمين باللغتين. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة 3، ع 136، قسنطينة يوم الجمعة 27 شعبان 1357هـ المرافق ليوم 21 أكتوبر 1938م، الصفحة 1 وعمود 1 من ص 2.

بماذا نعود

بماذا نعود: ودار لقمان على حالها … والقيد باق والطواشي صبيح. ــــــــــــــــــــــــــــــ قد بلغت المسألة اليوم إلى غايتها تفهيما من الأمة، وتفهما من الإدارة، فلنقف مديدة للانتظار، على أمل أن تجاب الأمة لرغبتها، بحسن تبصر الإدارة وإنصافها فنعود للكتابة في الموضوع شاكرين مغتبطين: الخير أبقى وإن طال الزمان به … والشر أخبث ما أوعيت من زاد. عن عدد (البصائر) الصادر في 3 جمادى الأولى 1 جوليت الماضي. ــــــــــــــــــــــــــــــ لقد هز قانون 8 مارس الذي صدر لعرقلة تعليم الإسلام ولغة الإسلام بهذه البلاد، الشعب الجزائري هزة عنيفة، ورفعت الأمة بلسان نوابها وهيئتها وعلمائها صوتها عاليا بالاحتجاج والاستنكار ووالت (البصائر) الكتابة في المظلمة الفادحة خمسة أشهر. ولما انتهت المسألة إلى النيابة المالية- وهي أعلى نيابة في الوطن- وتضافر النواب المسلمون على المطالبة بحرية تعليم الدين ولغة الدين، وقدموا تقريرا في جلسة 15 جوان يشتمل على لزوم إعطاء رخص التعليم الإسلامي الحر للجميع، مع إحداث المراقبة على المدارس الحرة، وعلمنا من نوابنا أن هنالك وعودا في حل المسألة، رأينا أن المسألة قد بلغت غايتها، ورأينا أن نقف منتظرين كما هو في المربع الموضوع في صدر

هذا المقال. وها هي أربعة أشهر ونيف قد مضت على تلك الوقفة وانقضت في الانتظار! وها نحن نعود إلى استئناف الكتابة في هذه المظلمة الشوهاء والداهية الدهياء، التي لا يهدأ ضمير الأمة ما دام جرحها الدامي في أعماق قلبها، ولكن بماذا نعود؟ لقد كنا نحسب ونود أننا نعود فنذكر برَّ الإدارة بوعدها، واحترامها للأمة الجزائرية المسلمة في دينها ولغة دينها، وفي أدق شعورها، ومراعاتها ما تقتضيه مصلحة فرنسا من كسب قلوب الشعوب الواقعة في نطاق نفوذها لأيام رخائها وشدتها، فنرفع الصوت بالشكر والاغتباط، ونعرب عن شعور الأمة وعاطقتها الحقيقيين باللسان الصادق والضمير المرتاح. ولكن- ويا للأسف- خاب الظن وباخت الوعود، وانقشعت الأماني التي هي أحلام وتضليل. فمدرسة دار الحديث ما زالت مغلقة، ومثلها مدرسة القلعة، والمعلمون في بجاية وغيرها ما زالوا يعاودون بالتغريم ويساقون إلى المحامكة كمجرمين، وطلبات الرخص ما زالت تقابل بالرفض أو بالسكوت، اللهم إلا نزرا يسيرا جدا بوسائل خاصة لا يدل على تغيير في الحال ولا تبديل. هذا هو الحال من ناحية الإدارة التي هي مؤسفة بقدر ما هي مؤلمة، أما الحال من ناحية الأمة المظلومة في حرية تعلم دينها ولغة دينها، والمصابة من ذلك في أعز عزين عليها، فإنها مما يبعث على السرور والرضا وتمام الثقة بالأمة المسلمة في حاضرها ومستقبلها، فإنها برغم العراقيل ما تزال تبذل في التعليم بكل مناسبة، وتسعى للمطالبة والمقاومة بكل وسيلة مشروعة، وتتحمل تغريم المتعلمين- ويتحملون- بكل ثبات وطمأنينة. فهل تدرك الإدارة معنى هذه النفسية من الأمة؟ وهل تبصر من

وراء هذا الثبات والجلد شبح الحقيقة؟ وهل تشعر، بما تنطوي عليه قلوب هذه الأمة المسلمة المسألة من الألم واللوعة؟ ليتها، ولعلها يكون منها كل ذلك في صالح الجميع، وفي سبيل الحق والعدالة، ومن أجل الصفاء والسلام. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة 3، ع 140، قسنطينة يوم الجمعة 25 رمضان 1357هـ الموافق ليوم 18 نفامبر 1938، ص 1.

حول قانون 8 مادس المشؤوم

حول قانون 8 مادس المشؤوم كيف فهمت الأمة معاكسته لتعليم الدين والعريية؟ ــــــــــــــــــــــــــــــ يزعم المتكلمون بلسان الحكومة في منشوراتهم وإذاعاتهم أننا نحن الذين أفهموا الأمة أن غاية قرار 8 مارس هي معاكسة تعليم الدين واللغة العربية. فلأجل أن نعرف كيف فهت الأمة نفسها كلها هذه المعاكسة الصريحة يجب أن نعرف الظروف التي صدر فيها هذا القرار المشؤوم وما تقدمها- سنوات- من النهضة العلمية الدينية للأمة الجزائرية العربية المسلمة. من المعلوم أن الأمة الجزائرية هبت بعد قرن من الاحتلال لتأخذ قسطها- من الحياة من نواح عديدة وخصوصا الناحية الدينية والعلمية ولا شك أن هبتها هذه كانت طبيعية منبعثة عن عوامل مختلفة منها المحلي ومنها العالمي ومنها الذاتي ومنها الجواري. ومما لا ريب فيه أن الاحتفالات القرنية الهائلة التي أقامتها الحكومة كانت من أسباب تلك الهبة فقد سمعت الأمة وعودا وثناء كثيرين من أعلى رجال الحكومة بباريس ومن ممثلي الأمة الفرنسية بالبرلمان، وشاهدت وأحست وتوقعت فتأثرت، بذلك كله فيما تأثرت به في نهضتها. كانت من مظاهر هذه النهضة الدينية العلمية أن تأسست مساجد في نواحي الوطن بمال الأمة وكان منها أن ازداد عدد الراغبين في تعلم اللغة الفرنسية زيادة واضحة- وتعالت أصوات النواب والكتاب بمطالبة الحكومة بتأسيس المكاتب وإحداث الطبقات لتعليم أبناء المسلمين الفرنسية- ولا ينسى الناس هنا ما أحدث لهم من قانون تجديد السن

بثلاث عشرة سنة وما نشأ عنه من حرمان عدد غفير من تكميل التعليم مثلما أحدث هذا القرار المشؤوم- وكان من مظاهر النهضة ازدياد عدد الراغبين في دخول المدارس الثلاث الإسلامية الحكومية ولكنهم كانوا يردون لأن عدد تلاميذها محدود وكان من مظاهرها فتح المكاتب لتعليم أبناء المسلمين الذين لا يجدون مقاعد في المكاتب الفرنسية أو الذين وجدوا لكن من غير أوقات المكتب- لتعليم هؤلاء- قواعد وعقائد وآداب الدين ولغة الدين إلى جانب القرآن العظيم، وكان من مظاهرها تأسيس النوادي حتى أسست في رؤوس الجبال. لم ترق هذه النهضة الدينية العلمية في نظر الحكومة فأخذت في مقاومتها وابتدأ ذلك بالامتناع من إعطاء الرخص ثم بغلق المكاتب في نواح عديدة ثم بسوق المعلمين للمحاكمة. ضجت الأمة من هذا واستاءت وتألمت فرفعت صوتها بالشكوى بلسان نوابها وأقلام كتابها، وبلسان مؤتمرها العام وبلسان وفد ذلك المؤتمر فسمعت الوعود من حكومة باريس ومن ولاية الجزائر. ثم بينما الأمة تنتظر الوفاء بتلكم الوعود رغم ما تشاهده من ازدياد الإدارة في الشدة إذا هي تفاجأ بقرار 8 مارس الذي كان مطبقا بفرنسا منذ أكثر من نصف قرن دون أن يكون له ذكر في الجزائر فلما انبعثت الأمة في نهضتها الدينية العلمية بعث لها هذا القرار المشؤوم وأخذ في تطبيقه بكل شدة وصرامة، فلم يبق أحد إلا فهم القصد من بعث هذا القرار المشؤوم في هذه الظروف وما سبقها وما لحقها وما زال مستمرا إلى اليوم- إلا وهو معاكسة تعليم الدين ولغة الدين، وجاء قبله قرار منع النوادي الإسلامية من بيع المشروبات وهي مشروبات حلالية طبعا، فانفضح القصد حتى لدى حمار توما وراكبه (1).

_ (1) قال حمار الحكيم توما … لو أنصفوني ما كنت أركب لأنني جاهل بسيط … وراكبي جاهل مركب

هكذا فهمت الأمة كلها من نفسها، والحكومة نفسها هي التي أفهمتها بأعمالها والأمة هي التي قالت وما زالت تقول: (إن قرار 8 مارس المشؤوم ضربة قاضية على تعلم الإسلام ولغة الإسلام)، وما سمعته الحكومة في النيابة المالية من النواب المسلمين مما سننشره، كاف في دحض مزاعم منشوراتها وإذاعاتها (1). وكيف يصح في الأذهان شيء … إذا احتاج النهار إلى دليلٍ (2) عبد الحميد بن باريس

_ (1) فى الأصل: وذاتها. (2) البصائر قسنطينة يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1358 الموافق ليوم 21 جوان 1358م، ص 1.

النص التقريبي لكامل التقرير الأدبي

النص التقريبي لكامل التقرير الأدبي الذي ألقاه سماحة الأستاذ عبد الحميد بن باديس بدار جمعية التربية والتعليم 1358هـ يوم اجتماعها العام صبيحة الأحد 28 مايو 1939م ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين إلى يوم الدين. أما بعد: فباسم جمعية التربية والتعليم الإسلامية أرحب بكم أيها المستمعون الكرام وأشكركم على تلبيتكم لنداء جمعيتكم الإسلامية الناهضة، وأهنئكم وأذكركم بأنكم كنتم منذ أربع سنوات خلت تجتمعون في محلات غيركم. واليوم- والحمد لله- أصبحتم تجتمعون في داركم. ولقد كنتم ضعافا فقواكم الله، وعززكم ورفع شأنكم. أولا تثقون بالله؟ إنكم بلا شك تثقون به، ومن وثق بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. وإذا كنتم تثقون بالله فثقوا بأنفسكم، فإن من لم تكن له ثقة بنفسه لا تكون له ثقة بالله. وإذا كنتم تثقون بأنفسكم فثقوا بنفوس مؤمنة صادقة. ولم لا نثق بأنفسشا؟ وقد أعطانا الله عقولا ندرك بها، ومواهب نستسخرها لما يرضي الله ورسوله. لنا مواهب مثل ما لغيرنا. ولنا من هذه القومية العربية الخالدة مثل ما لغيرنا. ولنا من هذا التاريخ الممتد البعيد مجد وملك مثل ما لغيرنا وفوق ما لغيرنا.

ولقد أعطانا الله من هذا الدين الإنساني من هذا الدين العقلي الروحي ما يكمل عقولنا، ويهذب أرواحنا. أعطانا منه ما لم يعطه لغيرنا، لنكون قادة وسادة. وأعطانا وطنا شاسعا واسعا، مثل ما لغيرنا فنحن إذن شعب ماجد عظيم يعتز بدينه، يعتز بلغته، يعتز بوطنه، يعتز بقوميته، يستطيع أن يكون في الرقي واحدا من هذه الشعوب، وأن يفوق كثيرا من هذه الشعوب. ولنا من تاريخه الحافل ما يجعلنا نؤمن بصدق معتقدنا فيه. إننا نعتصم بالحق، ونعتصم بالتواضع عندما نقول: إننا شعب خالد ككثير من الشعوب. لكننا ننصف التاريخ إذا قلنا: إننا سبقناها في ميادين الحياة، سبقناها بهدايتنا، ونشرنا بينها الشريعة الحقة قبل أن تتكون هذه الأمم وسبقنا هذه الأمم في نشر الحق، أيام كانت في ظلمات من الجهل حالكة أيام كانت تسبح في لجج من الأوهام والخيالات. وذلك ما كنا فيه، وما سنعود إن شاء الله إليه، وإنما علينا أن نعرف تاريخنا، ومن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود. ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر والمستقبل السعيد، إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية، لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة. إنها وحدة الرابطة بيننا وبين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا، وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا وأحفادنا الغر الميامين، أرواحهم بأرواحنا، وهي وحدها اللسان الذي نعتز به وهي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في العقل من أفكار، وما في النفس من آلام وآمال. إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين، وخدم العلم، وخدم الانسان، هو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان، ونعمل لإحيائه منذ سنين، فليحقق الله أمانينا.

وإن الذي يعلم تاريخ الجزائر الحديث يجزم بأن هذا الشعب شعب حي لن يموت. لقد كان هذا العبد يشاهد قبل عقد من السنين هذا القطر قريبا من الفناء، ليست له مدارس تعلمه، وليس له رجال يدافعون عنه، ويموتون عليه. بل كان في اضطراب دائم مستمر، ويا ليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية، التي لا تعطبهم غالبا من العلم إلا ذلك الفُتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم وقد ينكرونها، هذه هي الحالة التي كنا عليها في تاريخنا الحديث. وما كنا لنرضى بها أو نبقى عليها وقد ولدتنا أمهات مسلمات جزاريات يأبين إلا أن نبقى كما ولدنا، وتأبى ثقافتنا إلا أن نرجع إلى ما عليه كنا. أخذنا نعمل وهناك من سبقنا في التفكير بالعمل وهم رجال نادي (صالح باي) رحمه الله- ولا أقول كلهم- لم يكونوا يعملون بوحي من أنفسهم بل كانوا يعملون بإيعازات من غيرهم. فلما بلغ الموعزون وبعض الموعز إليهم إلى غايتهم انتهى كل شيء وماتت الجمعية وهي في المهد، ولم تؤسس أقل تأسيس وأصبحت نسياً منسياً، ومضى على ذلك حين من الدهر حتى جاء هؤلاء الذين يعملون العمل الخالص لوجه الله، فنضوا نهضة أوجدت ما أنتم ترون، من اشتراء محل عظيم للتربية والتعليم يضم الآن من التلاميذ والتلميذات نحو الثمانمائة، ويضم من الكبار المتعلمين ما يناهز الستين أو السبعين حسب أوقات عملهم الحيوي اللازم. وأن فيها اليوم لمصنعا للنسيج، وقانون هذه الجمعية ينص عليه، وينص على تعليم العربية والفرنسية لأننا قوم نريد الحياة لأنفسنا كما نحبها لغيرنا، ونكره أن ندخل الضرر على أي كان غيرنا، كما لا نرضى أن يدخل علينا الضرر على أي كان غيرنا، ونحترم لغتنا ومجدنا كما نحترم لغة ومجد غيرنا. ولأننا قوم نحب الخير فلا نحرم

منه أحدا، وما فتحنا هذه المدرسة إلا لخدمة العلم وأهله، وتربية النشء وتثقيفه، وللجمعية نيات أخرى تنوي أن تقوم بها في المستقبل إن شاء الله. تنوي أن تبعث البعثات العلمية إلى الخارج، وتسعى جهدها في تحقيق ما ينص عليه قانونها الأساسي من تأسيس المصانع والملاجىء والمحلات العامة. هذه لمحة مختصرة خاطفة ذكرتها لكم عن تاريخكم وتاريخ نهضتكم الجليلة أيها الإخوان، وأخيراً أشكركم وأشكر الله الذي هداكم، وأشكر كل من سعى في تحقيق أمنيتنا من رجال ونساء، كما أشكر القائمين من رجال الجمعية والمباشرين العمل والتعليم كما لا أنسى الحكيمين الإنسانيين (كتوار) و (عنالي) والسيدتين (مدام سبانو) و (مدام دوره) وأشكر الآنسة زريزر وهي فتاة مسلمة جزائربة أدت خدمات جليلة إلى الجمعية، أشكرهم جميعهم على ما قاموا به من جلائل الأعمال. ثم بعد هذا العرض السريع أرجو أن تذكروا دائما أن الهيأة القديمة في ظرف سنوات قامت بأعمال كبرى وأتمنى على الله أن لا تأتي المقبلة إلا وقد أسستم مصنعا للأعمال، أو ملجأ للأيتام، وأن مجلسا موفقا مثل مجلسكم هذا أوجد هذه الأعمال، لجدير من يخلفه بأن يوجد في القريب العاجل أكثر منها. إنني ابتدأت حديثي بالثقة بالله والاعتماد على النفس وأختمه بهما، فثقوا بأنفسكم وثقوا بالله، واعتمدوا عليه وعلى أنفسكم واعملوا وكونوا خير خلف لخير سلف. نقله من القاء الرئيس محمد الغسيري، ومحمد الصالح رمضان

_ البصائر: السنة 4، عدد 171 قسنطينه يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1358هـ الموافق ليوم 22 جوان 1939م، الصفحة 5، العمود: نصف الأول، والثانى والثالث والرابع من صفحة 6.

الحركة التعليمية

الحركة التعليمية بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ أراد قسم الشبان من جمعية التربية والتعليم الإسلامية، أن ينشر على الأمة صورة للجمعية تنشيطا للعاملين وبعثا للقاعدين ومثالا للمحتذين، ودعاني لأكتب كلمة أشارك بها في هذا العمل المفيد الجميل، فلبيت دعوة أبنائي في الكلمة التالية، شاكرا لهم عملهم الخيري ودعوتهم إليه ودلالتهم عليه. أصل الجمعية: كان التعليم المسجدي بقسنطينة قاصرا على الكبار ولم يكن للصغار إلا الكتاتيب القرآنية، فلما يسر الله لي الانتصاب للتعليم عام 1332هـ جعلت من جملة دروسي تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها في آخر الصبيحة وآخر العشية فكان ذلك أول عهد الناس بتعليم الصغار. ثم بعد بضع سنوات رأى جماعة من الفضلاء المتصلين بنا تأسيس مكتب يكون أساسا للتعليم الابتدائي العربي فأسسناه وكان الأخوان الفاضلان السيد العربي والسيد عمر بن مغسولة قد اشتريا مسجد سيدي بو معزة والبناء المتصل به، وكان فوق بيت الصلاة محل للسكنى بالكراء فأزالاه عن ذلك وأبقياه محلا فارغا فجعلناه هو محل المكتب. ثم نقلت إلى بناية الجمعية الخيرية لاتساعها. وهو في اثناء هذا

القانون الأساسي للجمعية

كله يتسع نطاقة مرة ويضيق أخرى ولا تقوم به إلا جماعة لا تتجاوز عدد الأصابع. وفي سنة 1349هـ 1930م- رأيت أن أخطو بالمكتب خطوة جدية وأخرجه من مكتب جماعة إلى مدرسة جمعية فحررت القانون الأساسي لجمعية التربية والتعليم الإسلامية وقدمته باسم الجماعة المؤسسة إلى الحكومة فوقع التصديق عليه. القانون الأساسي للجمعية: بني القانون الأساسي للجمعية من الوجهة التربوية على تربية أبناء المسلمين وبناتهم تربية إسلامية بالمحافظة على دينهم ولغتهم وشخصيتهم ومن الوجهة التعليمية على تثقيف أفكارهم بالعلم باللسانين العربي والفرنسي وتعليمهم الصنائع. ومن الوجهة المالية على تعويد الأمة على العطاء المنظم وتوسيع نطاق الجمعية بجعل الاشتراك الشهري فيها فرنكين. تأسيس قسم الشبان: في أفريل سنة 1933 رأيت أن أبعث في الجمعية روحا جديدا للجد والنشاط بدعوة جماعة الشبان المنخرطين في عضوية الجمعية لتأسيس فرع منهم ينهض بالجمعية نهضة فتية صادقة فصادفت منهم الدعوة رغبة سابقة في العمل كانوا يهمون بإبدائها فيصدهم التهيب عنها ورأيت أن لهم الحق أن يأخذوا حظَّهم من التربية والتعليم على وجه يناسبهم فأسست لهم درسا في يوم الأحد من كل أسبوع يلقى على جماعة منهم في الساعة العاشرة نهارا وعلى جماعة أخرى في الساعة الثامنة ليلا حتى يعم من يتفرغون له بالليل ومن يتفرغون له بالنهار. أعمال الشبان: نهض الشبان بالعمل تحت إشراف مجلس إدارة الجمعية فتوسع

لجنة الطلبة

نطاق التعليم في عدد المعلمين وعدد التلاميذ وانتشرت فكرة التربية الإسلامية في قسم كبير من الشبان وها هم اليوم يتقدمون بهذه النشرة برهانا على ما قاموا به من عمل في أمد قليل في خدمة الجمعية راجين من الأمة أن تمدَّ يد المساعدة للجمعية لتقوم بما بقي عليها من أعمال قد اشتمل عليها قانونها ولم تتسع مقدرتها اليوم للقيام بها. لجنة الطلبة: لما كانت مهمة الجمعية هي التربية والتعليم وكانت الدروس العلمية التي تلقى بالجامع الأخضر هي أساس ذلك فقد تكونت من الجمعية للقيام بالطلبة والعناية بهم ومراقبة سيرهم لجنة من ثمانية عشر عضوا. وهي المتولية لصندوق الطلبة في دخله وخرجه. تعميم فكرة الجمعية: من ضمن القانون الأساسي للجمعية أن لها أن تؤسس فروعا في البلدان، فهي مستعدة لكل بلدة ترغب أن تكون فرعا منها لإجابة طلبها، كما أنها تدعو جميع المسلمين في كل بلدة إلى مثل تأسيسها لتربية أبناء المسلمين وبناتهم وتعليمهن وتعليمهم وأن ينهضوا لذلك نهضة حقيقية ويسعوا له سعي الجد المتواصل فإنهم لا بقاء لهم إلا بالإسلام ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم. والله مع الصادقين (1). رئيس جمعية التربية والتعليم الإسلامية عبد الحميد بن باديس

_ (1) نشرة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة عام 1354هـ -1936م، ص 1 - 4.

[صورة: تلاميذ وتلميذات مدرسة جمعية التربية والتعليم] ... [صورة: الشيخ محمد العايد الجلالي مع تلاميذ صفه من الطبقة الأولى في مدرسة جمعية التربية والتعليم]

[صورة: الأستاذ الشيخ الفضيل الورتلاني مع تلاميذ صفه من الطبقة الثالثة في مدرسة جمعية التربية والتعليم] ... [صورة: الأستاذ محمد العايد الجلالي مع تلاميذ صفه من الطبقة الثانية في مدرسة جمعية التربية والتعليم]

[صورة: تلميذات مدرسة التربية والتعليم وبأيديهن منتوجاتهن وقد وقف ناظر المدرسة الشيخ عمر شعلال] ... [صورة: الأستاذ عبد العلي مع تلاميذ الطبقة الرابعة بمدرسة التربية والتعليم]

[صورة: تلاميذ مدرسة جمعية التربية والتعليم وإلى اليسار الأستاذ مع تلاميذ صفه من الطبقة الأولى] ... [صورة: الأستاذ محمد العايد الجلالي مع تلميذات صفه في مدرسة التريية والتعليم]

قسم السياسة

آثار ابن باديس: قسم السياسة

خطتنا

خطتنا مبادؤنا وغايتنا وشعارنا ــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسيؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون، وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها، لا مقصرين ولا متوانين، راجين أن ندرك شيئا من الغاية التي نرمي إليها بعون الله ثم بجدنا وثباتنا وإخلاصنا، وإعانة إخواننا الصادقين في خدمة الدين والوطن. مبدؤنا السياسي: نحن قوم مسلمون جزائريون، في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية، فلأننا مسلمون نعمل على المحافطة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى كل كمال إنساني، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر وفي المحافطة على هذه التقاليد المحافظة على أهم مقومات قوميتنا وأعطم أسباب سعادتنا وهنائنا، لأننا نعلم أنه لا يقدر الناس أن يعيشوا بلا دين، وأن الدين قوة عظيمة لا يستهان بها، وأن الحكومة التي تتجاهل دين الشعب تسيء في سياسته وتجلب عليه وعليها الأضرار والأتعاب، بل ربما حصلت لها هزاهز وفتن كما أصاب حكومة هيريو في العهد القريب (1). لا نعني بهذا أننا نخلط بين الدين والسياسة في جميع شؤوننا، ولا أن يتداخل رجال الدين في سياستنا، وإنما نعني

_ (1) أحد رؤساء الوزارات الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية.

اعتبار الدين قواما لنا، ومهيعا، (1) شرعيا لسلوكنا، ونظاما محكما نعمل عليه في حياتنا، وقوة معنوية نلتجيء إليها في تهذيب أخلاقنا وقتل روح الإغارة والفساد منا وإماتة الجرائم من بيننا، فلهذا لا نألو جهدا في خدمته بنشر مبادئه الحقة العالية وتطهيره من كل ما أحدث فيه المحدثون، والدفاع عنه من أن يمس بسوء من أهله أو من غير أهله ولأننا جزائريون نعمل للَمِّ شعب الأمة الجزائرية وإحياء روح القومية في أبنائها وترغيبهم في العلم النافع والعمل المفيد حتى ينهضوا كأمة لها حق الحياة، والانتفاع في العالم وعليها واجب الخدمة والنفع للإنسانية. وإننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلا ونحب وطننا ونعتبره منها جزءا ونحب من يحبه (2) الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها ويظلمها. وبالأحرى نحب من يحب وطننا ويخدمه، ونبغض من يبغضه ويظلمه، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائري وتحبيب بنيه فيه، ونخلص لكل من يخلص له، ونناوىء كل من يناوئه من بنيه ومن غير بنيه. ولأننا مستعمرة من مستعمرات الجمهورية الفرنسيوية نسعى لربط أواصر المودة بيننا وبين الأمة الفرنسوية وتحسين العلائق بين الأمتين المرتبطتين بروابط المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة من الجانبين، تلك الروابط التي ظهرت دلائلها وثمراتها في غير ما موطن من مواطن الحرب والسلم. إن الأمة الجزائرية قامت بواجبها نحو فرنسا في أيام عسرها ويسرها، ومع الأسف لم نر الجزائر نالت على ذلك ما يصلح أن يكون جزاءها، فنحن ندعو فرنسا إلى ما تقتضيه مبادئها الثلاثة التاريخية

_ (1) طريق مهيع: بيِّن منبسط. (2) كذا في الأصل الذي به محو مطبعي.

مبدؤنا التهذيبي

"الحرية والمساواة والأخوة" من رفع مستوانا العلمي والأدبي بتعميم التعليم كل ممت الحديث (1). وتشريكنا تشريكا صحيحا سياسيا واقتصاديا في إدارة شؤون وطننا الجزائري، إن لفرنسا ما يناهز القرن في الجزائر ولا أحد ينكر ما لها من الأيادي في نشر الأمن وعمارة الأرض وجميع وجوه الرقي الاقتصادي، غير أنها ويا للأسف ليست لها تلك الأيادي ولا نصفها في تحسين حال الأهالي العلمي والأدبي، مع أن الذي يناسب سمعة فرنسا ومبادئها ويصدق ما ينادي به خطباؤها ويكون أجمع للقلوب عليها هو أن تعنى بالعباد كما تعنى بالبلاد. إننا نسعى بكل جهدنا لتحقيق هاته الأمنية التي هي حقنا وفيها سعادة الجميع. إن الأمة الجزائرية أمة ضعيفة ومتأخرة فترى من ضرورتها الحيوية أن تكون في كنف أمة قوية عادلة متمدنة لترقيها في سلم المدينة والعمران وترى هذا في فرنسا التي ربطتهها بها روابط المصلحة والوداد، فنحن نخدم للتفاهم بين الأمتين ونشرح للحكومة رغائب الشعب الجزائري ونطالبها بصدق وصراحة بحقوقه لديها ولا نرفع مطالبنا أبدا إلا إليها، ولا نستعين عليها إلا بالمنصفين من أبنائها. وفي جدنا وإخلاصنا وشرف الشعب الفرنسوي وحريته ما يقرب كل أمل بعيد. مبدؤنا التهذيبي: كما تحتاج الأبدان إلى غذاء من المطعوم والمشروب، كذلك تحتاج العقول إلى غذاء من الأدب الراقي والعلم الصحيح، ولا يستقيم سلوك أمة وتنقطع الرذيلة من طبقاتها وتنتشر الفضيلة بينهم إلا إذا تغذت عقول

_ (1) كذا في الأصل الذي به محو مطبعي.

مبدؤنا الانتقادي

أبنائها بهذا الغداء النفيس، فنحن ننشر المقالات العلمية والأدبية وكل ما يغذي العقول من منظوم ومنثور من صحف الشرق والغرب وأقلام كتاب الوطن ومقاوم كل معوج من الأخلاق وفاسد من العادات، ونحارب على الخصوص البدع التي أدخلت على الدين الذي هو قوام الإخلاص فأفسدته. وعاد وبال ذلك الفساد علينا وتأخرنا من حيث يكون تقدمنا وسقطنا بما لا نرتفع إلا به، لما شوهناه بإدخال ما هو ضده عليه، ونحسن ما كان من أخلاق الأمم حسنا وموافقا لحالنا وتقاليدنا ونقبله، ونقبح ما كان منها قبيحا أو مباينا لمجتمعنا وبيئتنا ونرفضه فلسنا من الجامدين في جحودهم ولا مع المتفرنجين في طفرتهم وتنطعهم، والوسط العدل هو الذي نؤيده وندعو إليه. مبدؤنا الانتقادي: في الهيئة الاجتماعية أشخاص تقدموا للأمة وتولوا أو يريدون أن يتولوا قيادتها وتدبير شؤونها الاجتماعية سياسية أو اقتصادية أو علمية أو دينية، ولهم صفات خاصة بأشخاصهم وشؤونهم في أنفسهم وأعمال في دائرتهم وحدهم وصفات بها يباشرون من شؤون الأمة ما يباشرون وأعمال تتعلق بأحوال العموم. فأما صفاتهم الشخصية وأعمالهم الخاصة فلا يجوز لنا أن نعرض لها بشيء، وأما صفاتم وأعمالهم العمومية فهي التي نعرض لها وننقدها فننتقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من يتولى شأنا عاما من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسويين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين فننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه والتنديد بمظالمه كائنا من كان، لأننما ننطر من الناس إلى أعمالهم لا إلى أقدارهم، فإذا قمنا بالواجب فلأشخاصهم منا كل احترام.

وسنسلك في انتقادنا طريق الحقيقة المجردة والصدق والإخلاص والنزاهة والنظافة في الكلام، وننشر كل انتقاد يكون على هذه الصفات، علينا أو على غيرنا، على مبدأ الإنصاف الذي لا يتوصل للتفاهم والحقائق إلا به. هذه مبادؤنا وهي مبادئ الصحافة الحرة الصادقة التي هي قوة لا غنى لأمة عنها، ولا رقي لأمة ناهضة في هذا العصر بدونها. هذه مبادؤنا وسيرضى عنا بها الأحرار المفكرون أصحاب الصدور الواسعة والقلوب الكبيرة من الوطنيين والفرنسويين، وسيغضب بها علينا المستبدون الظالمون والدجالون، المحتالون وصغار الأدمغة وضيقو الصدور من بغاث البشر. ونحن بين الجميع لا نخدم إلا الحق والوطن والدين ولا نسمع إلا لصوت الواجب ولا نسترضي أقواما ولا نستغضب آخرين قائمين حسب الجهد بالواجب الصحافي الشريف صامدين إلى غايتنا السامية وهي: "سعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديموقراطية" صارخين دائما بشعارنا الرسمي وهو: "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء" وعلى الله ثم على اجتهادنا وإخلاصنا ومناصرة أنصار المبادئ الحرة الاعتماد والاتكال (1).

_ (1) المنتقد العدد الأول ص 1ع 1، 2، 3، 4، 5 الخميس 11 ذي الحجة 1343هـ - 2 جويلية 1625م. وقد أمضى هذا المقال بما يلى (النخبة) وهو بدون شك أسلوب باديسي، وفكر حميدي.

تعطيل (السنة) وإصدار (الشريعة)

تعطيل (السنة) وإصدار (الشريعة) للأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جعية العلماء المسلمين الجزائريين ــــــــــــــــــــــــــــــ روعت الأمة بنبأ تعطيل جريدة "السنة" بقرار من وزارة الداخلية، وتقاطرت على الإدارة رسائل الاستياء والتعجب ولم يكن تعجب الناس من تعطيل جريدة دينية بعيدة كل البعد عن السياسة دون استيائهم من عرقلة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن عملها الديني التهذيبي الذي ذاقت الأمة حلاوته وشاهدت جميل أثره. أما نحن فقد شاركنا الأمة في الاستياء ولم نشاركها في التعجب، فقد كنا توعدنا بأشياء هذا التعطيل أحدها (1) فجاء ونحن له متوقعون: غير أن الذي نعحب منه نحن المباشرين لتسيير الجمعية هو التبدل العظيم والانقلاب السريع الذي شاهدناه من بعض الإدارات نحو الجمعية. لقد تجولت وفود الجمعية السنة الماضية في جميع جهات الوطن وألقى وعاظها خطبهم ودروسهم في المحافل العامة، وكثيرا ما كان يحضرها رجال من الحكام وكانوا يلقون من شيوخ البلدان الأميار وحكام الدوائر كل تعضيد وتقدير، وقابلنا بعد تمام الرحل إدارة الشؤون الوطنية بالعاصمة فلم نسمع على خطتنا أدنى إنكار ولم نتلمح أقل إشارة إلى ارتياب في الجمعية أو استثقال لأعمالها، فما الذي بدل العقول وحول النيات، وحمل بريفي العاصمة على ابتداء منازلة الجمعية بقراره المشهو وحمل تلك الإدارات على مناوأة الجمعية

_ (1) كذا في الأصل.

ومضايقة رجالها وعرقلة أعمالها حتى عطلوا جريدة السنة لغير ما سبب إلا أنها جريدة الجمعية ولسان حالها؟! هذا محل سؤالنا ومناط تعجبنا. وبعد فما ينقم علينا الناقمون؟ أينقمون علينا تأسيس جمعية دينية إسلامية تهذيبية تعين فرنسا على تهذيب الشعب وترقيته ورفع مستواه إلى الدرجة اللالقة بسمعة فرنسا ومدنيتها وتربيتها للشعوب وتثقيفها؟ فإذا كان هذا ما ينقمون علينا فقد أساءوا إلى فرنسا قبل أن يسيئوا إلينا، وقد دلوا على رجعية فيهم وجمود لا يتناسبان مع المبادئ الجمهورية ولا مع حالة هذا العصر، أفتكون في الهند جمعيات للعلماء تقوم بأعمالها بغاية الحرية والهناء عشرات من السنين تحت السلطة الإنجليزية الغاشمة القاسية وتضيق صدوركم أنتم عن تكوين جمعية واحدة للعلماء المسلمين بالجزائر تحت المبادئ الجمهورية العادلة المشعة بعلومها على الأمم؟ تناهضوها وهي ما تزال في المهد؟ أفظننتم أن الأمة الجزائرية ذات التاريخ العظيم تقضي قرنا كاملا في حجر فرنسا المتمدنة ثم لا تنهض بجنب فرنسا تحت كنفها، يدها في يدها فتاة لها من الجمال والحيوية ما لكل فتاة انجبتها أو ربتها مثل تلك الأم؟ أخطأتم يا هؤلاء التقدير وأسأتم الظن بالمربي والمربى، وبعدتم عن العلم بسنن الكون في نهضات الأمم بعضها ببعض عند الاختلاط أو التجاور أو الترابط بشيء من روابط الاجتماع. أنظروا شيئا إلى ما حواليكم من الأمم وتأملوا فيما تنادي به الشعوب وما تعلنه من مطالب، فإنكم إذا نظرتم وتأملتم حمدتم لهذه الجزائر الفتية نهضتها الهادئة، وتسمكها المتين بفرانسا، وارتباطها القوي بمبادئها وعدها نفسها جزءا منها وقصرها لطلبها منها على أن تعطى جميع حقوقها كما قامت بجميع واجباتها، وأن لا يتقدمها في أيام السلم من قد لا يساويها في أيام الحرب.

لا، لا أخالكم تنظرون ولا تتأملون فإن الأثرة المستولية على النفوس حجاب كثيف يحول دون رؤية الحقائق كما هي، ويحول دون رؤية مصلحة فرنسا الحقيقية نفسها. وإني لأفهم من مناهضتهم العجيبة للجمعية وهي جمعية دينية تهذيبية بعيدة عن كل سياسة، أنكم لا تريدون من الجزائر إلا أن تبقى جامدة وأن لا تتمتع بشيء من الحق إلا ما لا غناء فيه ولا بقي معه. ولعمر الحق أن من يريد هذا بالجزائر اليوم لمخالف للشريعة والطبيعة، إذ من الطبيعي أن تتحرك الجزائر ضمن الجمهورية الفرنسية في زمان تحرك ما فيه حتى الحجر، ومن الشرعي أن تنال منها من الحقوق كفاء ما قامت به من الواجبات. استكثرتم على الجزائر أن تكون لها جمعية لها منزلتها العظيمة في قلبها، وجريدة لها قيمتها الكبيرة في نظرها؟ فنبشركم أنه سيكون للجزائر الفرنسية (1) جمعيات وصحف وسيكون لها وسيكون … حتى يقف المسلم الجزائري مع أخيه من بقية أبناء فرنسا على قدم المساواة الحقة التي يكون من أول ثمراتها الإتحاد الصحيح المنشود للجميع. أم هالكم أن يكون في أبناء الجزائر الفرنسوية من لا يزحزحه عن مبدئه وعد ولا وعيد ولا يستهويه رنين ولا زخرفة؟ فنبشركم بأن الجزائر المفطورة على مبادئ الإسلام والتغذية بمبادئ فرنسا أنجبت وتنجب رجالا كما رأيتم وفوق ما تظنون، رجالا تفتخر بهم فرنسا كما تفتخر بسائر أبنائها الأحرار. كونوا كما تشاؤون أيها السادة فلكم- وأنتم تمثلون ما تمثلون- كل احترامنا، وظنوا بنا ما تشاؤون فإنا على بصيرة من أمرنا ويقين

_ (1) حسب تعبير الفرنسيين المستعمرين في ذلك العهده

من استقامة خطتنا ونيل غايتنا. ومهما تبدلت اعتقاداقنا في أناس بتبدل معاملاتهم لنا فلن تتبدل ثقتنا بفرنسا وقانونها (1). وعلى خطتنا المستقيمة وهي نشر العلم والفضيلة ومقاومة الجهل والرذيلة. وعلى غايتنا النبيلة وهي تثقيف الشعب الجزائري المرتبط بفرنسا ورفع مستواها العقلي والخلقي والعملي إلى ما يليق بسمعة فرنسا. وعلى ثقتنا بعدالة فرنسا، وحرية الأمة الفرنسية، وديموقراطيتها. أسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأسست جريدة (السنة) المعطلة، وأسسنا اليوم (2) بدلها جريدة (الشريعة المطهرة) وستقوم - إن شاء الله- مقامها وتحل من القلوب محلها والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل. عبد الحميد بن باديس

_ (1) هذا أسلوب سياسي استعمله ليحقق به أهدافه البعيدة. (2) يوم الاثنين، 2 ربيع الأول 1352هـ الموافق لـ 17 جويلية 1933م وجريدة الشريعه أسبوعية تصدر كل يوم اثنين، صدر منها ستة أعداد وآخر عدد صدر بتاريخ 29 ربيع الثاني 1352هـ الموافق لـ 21 أوت 1933م.

رد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

رد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على خطاب ابن غراب ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - لو كان هذا الرجل وجه على الجمعية أضعاف ما وجه عليها من تهم واعتدى عليها بأضعاف ما اعتدى به عليها من سب وإذاية من عند نفسه، وفي مجلس من أي مجالس مثله، لكان محققا من الجمعية أنها لا تسمعه، ولو سمعته لكان حقا عليها أن لا تقول له إلا (سلاما) .. ولكن الرجل كان- عن رضى واختيار- آلة هدم وتخربب، وبوق شر وفساد، في مجلس رسمي قد استدعى له الناس ليقولوا ويحتج بأقوالهم. فلهذا تنازلت الجمعية لرد افتراءات النائب واعتداءاته. زعم أن الفتنة والقلاقل والمشاغب منتشرة في الوطن، وأن سببها هو الجمعية وكذب في الاثنين. فأما الزعم الأول: فإن المشاهد في الوطن كله هو السير المعتاد في الأعمال دون تظاهر ولا تجمهر ولا مصادمة بين قوتين ولا توقف عن أداء حكومي ولا تصدي لأحد بسوء. وإنما الموجود في الوطن حركة هادئة عامة نحو ما وعدت به فرنسا أبناءها الجزائريين من حقوق تعطى لهم في القريب. ولعمر الحق أن تسمية هذا فتنة ومشاغب وقلاقل، لمن الكذب الحبريت والقلب للحقائق اللذين لا يصدران إلا عن ذمة خربة وقلب مريض ونفس شريرة لا تبالي ماذا تجني، أو جاهلة لا تدري ماذا تقول. وإذا كنا نسمي توجه الجزائريين

بمطالبهم في هدوء ونظام إلى فرنسا فتنة، فبماذا نسمي ما قام به أصحاب الأعتاب من التظاهر في بلدان عديدة بعنف وشدة وتهديد حتى عطلوا إحدى الجلسات في النيابة المالية لإظهار استيائهم؟ أن الأشياء- يا هذا- لا تخرج عن حقائقها بما يخلع عليها من الأسماء حسب الأغراض والأهواء. وأما في الزعم الثاني: فإن حركة الجزائريين نحو مطالبهم من دولتهم إنما سببه ما علموه من عناية عظام رجال فرنسا بها وما بلغهم من بروجي م قرني وبروجي م فيوليت، ثم ما شاهدوه من حزم بعض نوابهم وذهابهم إلى فرنسا، أولاً بصورة فردية، وثانيا بصورة عمومية، ثم كان ما كان منهم من استياء من أن نوابهم ردوا ولم يقبلوا وفهموا من عدم قبول نوابهم عدم قبول مطالبهم، ثم أحسوا بضغط من ناحية وضعف من الناحية الأخرى فرجعوا إلى سكوتهم كسابق عادتهم واعتصموا بالاتنظار الذي تعودوه من أمد طويل، فهم ساكتون منتظرون. هذه هي الأسباب المنطقية التي يؤيدها الحس ويجسمها الواقع لما كان من حركة في الأمة ولن يستطيع تمويه غراب ومن لقنه أن يزيد عليها أو ينقص منها. وزعم أن الحكومة ساعدت الجمعية أولاً ورخصت لها. والحكومة ما عرفت منها الجمعية مساعدة خاصة لا أولاً ولا أخيراً، وأي مساعدة شاهدناها من الحكومة وقد أقرت قرار بريفي الجزائر الذي يمنع رجال الجمعية من وعلى العامة وإرشادهم في المساجد، وأي مساعدة والحكومة قد أغلقت مكاتب وامتنعت من الترخيص في مكاتب أخرى لمجرد انتماء المعلمين أو الطالبين للتعليم للجمعية. فمن الأولى مدرسة سيق ومدرسة بلعباس ومدرسة قمار، ومن الثانية مدرسة القنطرة. هذا هو الواقع مع الأسف الشديد. ولكن من الحق الذي يجب أن نقوله وأن نتسلى به أنه ليس كل واحد من رجال الحكومة راضيا

بهذه المعاكسة التي لا مبرر لها والتي هي صد لجمعية إصلاحية تهذيبية عن الإصلاح والتهذيب، وأما ترخيص الحكومة للجمعية فالفضل في ذلك للقانون الفرنسي الحكيم، ولولا ثقتنا بذلك القانون والرجال العظام الساهرين على تنفيذه ما كان لنا أن نصدع بهذه الحقائق التي يريد النائب غراب وملقنوه تغطيتها (1). عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس -2 - زعم أن الجمعية تداخلت في شؤون لا علاقة لها بالتعليم وانفجرت بتعاليم منافية للعلم ومثيرة للأحقاد والتحزبات. كأن الملقنين لهذا الغراب يفهمون من التعليم أنه هو أن يجلس الشيخ في وسط حلقة ثم يلقي عليهم مسائل من النحو ومسائل من كتاب الصلاة، هذا فقط والتعليم، فأما مكتب ابتدائي يعلم فيه أبناء المسلمين وبناتهم مبادئ دينهم ولغتهم ويحفظون فيه من مواطن الفساد ومهاوي الشقاء وبراثن المضللين، ويهيئون للحياة تهيئة صحيحة تكوِّن منهم رجالا مسلمين يخدمون أمتهم ووطنهم ودولتهم ويشرفون سمعتها، وأما إلقاء دروس الوعظ والإرشاد على طبقات العامة التي تفقههم في دينهم وتعرفهم بالفضائل الإنسانية وتحذرهم من الرذائل الحيوانية وتفتح بصائرهم لإدراك حقائق الحياة الدنيا وما يفيدهم في الحياة الأخرى، وتصحيح عقائدهم وتهذيب أخلاقهم وتقويم أعمالهم، حتى يعيشوا بذلك كله سعداء في الدنيا مع أنفسهم وجيرانهم

_ (1) الشريعة: السنة 1، العدد 7، الاثنين 7 جمادى الأولى 1352هـ - 28 أوت 1933م، ص 1، ع 1و 2 و 3، وأسفل صفحة 2.

وحكومتهم، ويكونوا على أقوى الأسباب لنيل السعادة في آخرتهم- فهذا كله شؤون لا علاقة لها بالتعليم، ولهذا لما اشتغلت بها الجمعية- زيادة على دروس رجالها لطلبة العلم- قال هذا المتقول المقول: أن الجمعية تداخلت في شؤؤن لا علاقة لها بالتعليم! أما التعليم، كما يفهمه كل أحد، وكما جاء به الدين، وكما كان عليه سلف المسلمين، فهو نشر العلم لكل أحد، للكبير والصغير والمرأة والرجل: بحلق الدرس ومجالس الوعظ وخطب المنابر وبكل طريق موصل، وهذا ما اشتغلت به الجمعية وتوسلت بالطرق الموصلة إليه، ولن يستطيع الغراب ولا غيره أن يثبت عليها شيئا غير ذلك. ولا نظنه يعني التعاليم المنافية للعلم إلا ما قامت به الجمعية من بناء وعظها وإرشادها على آيات القرآن العظيم وأحاديث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ووصايا أئمة السلف، فإن هذا كله كان مهجورا في هذه الديار، بل وفي غير هذه الديار، فإذا كانت هذه هي التعاليم المنافية للعلم عنده فنحن نشهد الله وملائكته والناس أجمعين أن هذه هي التعاليم المنافية للجهل المغيضة لأهل الجهل الماحقة لكل جهل ودجل، وأنها هي هي مصدر الدين والعلم وكل خير وسعادة للبشر وأرغم الله أنف كل أفاك أثيم. ثم يقول الغراب: إن هذه التعاليم مثيرة للأحقاد والتحزبات! ولقد صدق هنا وهو الكذوب، فقد أثارت علينا هذه التعاليم الأحقاد، وأي حقد أعظم من الحقد الذي أكل قلبه وقلب مثله حتى اعتدى علينا هذا الاعتداء العظيم، وافترى علينا هذا الإفك المبين، وكيف لا يحقد علينا الجهال الذين يعيشون على الجهل ونحن نحارب الجهل والمتعيشين عليه؟ وكيف لا يحقد علينا الذين يقولون للناس كونوا عبادا لنا بفنون من لسان المقال ولسان الحال، ونحن نقول للناس لا تكونوا عبادا إلا لله، وهم يقولون للناس، اعبدونا وارزقونا،

ونحن نقول لهم لا تعبدوا إلا الذي يرزقكم وهو الله وحده لا شريك له. وكيف لا يحقدون علينا من يريدون بقاء المسلمين عضواً أشلاً أو مريضاً في الهيئة الاجتماعية الجزائرية ونحن نريده عضوا حيا عاملا كسائر الأعضاء فيها يفيد ويستفيد يعين ويستعين. فهذه الأصناف كلها وغيرها من أمثالها امتلأت صدورها على الجمعية حقدا حتى انفجرت بالشر أقوالها وأعمالها، وكانت حزبا واحدا في الكيد للجمعية والمكر بها والسعاية عليها والوشاية بها، وموقف هذا النائب الظالم المفتري مظهر من مظاهرها ومشهد من ومشاهدها. وهذه الأصناف وغيرها من أمثالها هي هي الحاقدة المتحزبة دون عموم الأمة وسوادها، التي ظهر للعيان التفافها حول الجمعية وسخطها على أضدادها، وما تملك الجمعية لتلك الأصناف من حقدها وتحزبها إلا أن تسأل الله هدايتها وتقاومها بالطرق المشروعة لترد كيدها وتخنق حقدها، وتدفع شر تحزبها عند ما تدعوها الضرورة لمدافعتها، مثلما دعتها الضرورة للرد على هذا النائب بالحجة والبرهان لا بما سلكه هو- وسلكه أمثاله قبله- من الوشاية والإذاية والكذب والبهتان (1). عن الجمعية الرئيس عبد الحميد بن باديس -3 - ثم يرمي الجمعية بدس الدسائس وقد علم الناس صراحة الجمعية في جميع مواقفها والجمعية التي يلقي رئيسها باسمها تلك الخطبة المشهورة في حفلة النادي بالجمعية في جمع حاشد من جميع الطبقات لا يتصور عاقل أن يكون الدس من خلقها.

_ (1) الصراط: العدد الأول، قسنطينة يوم الاثنين 28 جمادي الأولى 1352هـ الموافق لـ 18 سبتمبر سنة 1933م، س 1، ع 2، ص 5

ثم يرميها بنصب الحيل لجلب الأموال وقد علم الناس ضبط حساب الجمعية الدقيق بما يتلوه في اجتماعاتها العمومية أمين ماليتها وينشره على الناس. ثم يرميها بنشر الشحناء، وكيف هذا وكلمات الجمعية التي كانت وفودها تلقيها على الناس وتلقنهم إياها هي: تعلموا، تحابوا، تسامحوا. وإذا كانت هذه الكلمات تثير الشحناء والعداوة في القلوب المريضة التي لم تألف سماع هذه الكلمات ولم تخلق للاتصاف بها فماذا تملك الجمعية لها. ثم يقول عن الجمعية: "خالطت الطوائف الانتخابية"، وماذا يعني هذا الجاهل بالطوائف الانتخابية؟ ولو كانت في الأمة طوائف انتخابية تسير على برامج منظمة لما كان مثله نائبا يهذي هذا الهذيان! لكن لعله يعني شخصا أو شخصين من النواب العماليين الذين أنطقهم شرفهم وغيرتهم بما يعلمونه عن الجمعية من خدمة الحق والخير، وهؤلاء لم يكن بينهم وبين بعض رجال الجمعية إلاَّ معرفة شخصية ليست أكثر من المعرفة الشخصية التي بين هذا النائب الجهول وبين بعض رجال الجمعية الذين في قسمه. والجمعية نفسها لا خلطة لها، لا بهذا ولا بذالك، ثم كان ماذا لو أن الجمعية اعتمدت على أهل الصدق والشرف والغيرة لترد بهم كيد مثلك يا مسكين؟ فينكر على جمعية سلمية أن تتقوى بالأحرار الصادقين- والنواحي القوية لا تتنزه عن التقوي عند الحاجة بالعبيد الكاذبين؟ إلا أن الجمعية جمعية علم وتهذيب، فهي تتأيد بأهل العلم والتهذيب، جزائريين وفرنسيين، مسلمين وغير مسلمين، وتمقت وتتبرأ من الجهل والوحشية من أي ملة وجنس. ثم يرمي الجمعية بأنها تنشر المذهب الوهابي، أفتعد الدعوة إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وطرح البدع والضلالات

واجتناب المرديات والمهلكات نشرا للوهابية، أم نشر العلم والتهذيب وحرية الضمير وإجلال العقل واستعمال الفكر واستخدام الجوارح- نشر للوهابية؟ - إذاً فالعالم المتمدن كله وهابي! فأئمة الإسلام كلهم وهابيون؟ ما ضرنا إذا دعونا إلى ما دعا إليه جميع أئمة الإسلام وقام عليه نظام التمدن في الأمم أن سمانا الجاهلون المتحاملون بما يشاءون فنحن إن -شاء الله- فوق ما يظنون، والله وراء ما يكيد الظالمون. ثم يقول: "إننا مالكيون" ومن ينازع في هذا وما يقرىء علماء الجمعية إلاَّ فقه مالك، ويا ليت الناس كانوا مالكية حقيقية إذاً لطرحوا كل بدعة وضلالة، فقد كان مالك- رحمه الله- كثيرا ما ينشد: وخير أمور الدين ما كان سنة … وشر الأمور المحدثات البدائع ثم يقول: "إن الأمة الإسلامية منذ قرن وهي متمتعة بحريتها ودينها وعاكفة على دروس علمائها"، ونحن نريد في هذا القرن الثاني أن تزداد تمتعا بحريتها وانتفاعا بفقه دينها واتساعا في دائرة علمها على سنة التطور والرقي والتدريج، فثارت ثائرة هذا الجاهل ومن وراءة ومن كان في الجهل والشر مثله يحاولون إثارة الفتنة، والله يطفئها، ويكيدون للجمعية والله يحفظها، ويكذبون على الجمعية والله يظهر نزاهتها، حتى فضح الله أمرهم وعرفت الأمة أمرهم وعرفت الأمة دخيلتهم وأصبحوا كلهم في غضب من الله وسخط من الناس، والله لا يهدي كيد الخائنين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين (1). عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ (1) الصراط السوي: السنة الأولى، العدد 3، ص 4، ع 1 و 2 و 3 قسنطينة يوم الإثنين 5 جمادي الثانية 1352هـ الموافق لـ 25 سبتمبر 1933م.

حول تصريحات الوالي العام

حول تصريحات الوالي العام لمكاتب "البتي باريزيان" ــــــــــــــــــــــــــــــ نشرنا في العدد الحادي عشر نص هذه التصريحات ونشرنا احتجاج مجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عليها. ثم رأينا من واجب جريدة الجمعية أن تقوم بواجبها في التعليق على تلك التصريحات ومناقشتها، فإن لتلك التصريحات من القيمة بقدر ما لجناب المصَرِّح بها من المنزلة ولا نكون قدرنا تلك القيمة وعرفنا تلك المنزلة إذا نحن سكتنا عنها. قال جناب الوالي العام: "إن الحوادث الدينية التي حدثت أخيرا كان المتسبب في وقوعها أو على الأقل المستغل لما نشأ عنها من منافع سياسية أناس ليست لهم عقيدة راسخة ومنهم فريق لا ديني وأكثرهم غير عاملين بما أتى به الدين". فقد قرر الحقيقة لما جعل الحوادث دينية، فمثار كل ما كان هو تدخل الإدارة في شؤون الدين تدخلا شاذا مخالفا للدين نفسه ولقانون فصل الديانة عن الحكومة، وأما المتسبب في وقوع ذلك فهو عامل عمالة الجزائر بقراره المشؤوم المشهور ثم تقرير الإدارة العليا لذلك القرار وإبايتها من سماع من قصد اتهامها من نواب العاصمة بعد إبايتها من مقابلتهم إلاَّ من وراء وراء. ولا شك أن شعور جنابه بهذه الحقيقة جعله يقول: "أو على الأقل المستغل لما نشأ عنها من منافع سياسية" وأية منافع جناها نواب العاصمة من تلك الحوادث أكثر من أنهم قاموا بما تفرضه عليهم النيابة، فإذا كان من يقرم بواجبه يرمى

بأنه يستغل ذلك الواجب فلا عار من هذا ولا مسبة فيه، وحسبنا من كل من نيط بعهدته واجب أن يقوم به، ولا حق لنا أن نقول له غير أحسنت لقيامك بواجبك. وصف جنابه الذين قاموا بواجبهم بأنهم: "أناس ليست لهم عقيدة راسخة، ومنهم فريق لا ديني وأكثرهم غير عاملين بما أتى به القرآن" أفنسي جنابه الآلاف المؤلفة من العامة الجزائرية المسلمة التي أظهرت استياءها بما قالت وبما فعلت وبما كتبت، وهي الأمة دينية مست في أمر ديني بحت فقامت محتجة مستنكرة، فلو لم يقم هؤلاء الذين وصفهم جنابه بما وصفهم به لكان قيام تلك الآلاف كافيا، وأنا لا أحب أن أناقش جنابه في منزلة أولئك النواب من الدين وحسبي منهم أنهم مسلمون يعيشون عيشة المسلمين ويحملون شعارهم ويألمون آلامهم ويحملون عبء القوانين الاستثنائية مثلهم لا غير، إنني أذكر جنابه في الحقيقة النفسية وهي أن العقيدة الموروثة لا بد أن تثور بصاحبها للدفاع عنها عند مسها، خصوصا إذا كان وسط المشاركين له فيها تؤثر العقيدة في صاحبها هذا التأثير للدفاع عنها عند الشدة، وإن لم تؤثر فيه ما تقتضيه من إعانة وقت الرخاء، فأولئك النواب وإن لم يقوموا بجميع ما تقتضيه العقيدة- نزولا عند قول جنابه- فإنهم ما اندفعوا- زيادة على القيام بالواجب- للعمل إلا بها. ثم تصدى جنابه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فقال: "وهؤلاء السياسيون تمكنوا من صد العلماء عن أعمالهم الطبيعية ومن إدخالهم في ميدان عمل خارج عن دائرة التعليم والتهذيب القرآني" لا بل الذي صد العلماء عن أعمالهم الطبيعية وعن التعليم والتهذيب القرآني هو السلطة التي أوصدت المساجد في وجه وعظهم وإرشادهم وحالت بينهم وبين عامة إخوانهم، وأغلقت كثيرا من المكاتب الابتدائية العربية التي يقوم بالتعليم بها في جهات عديدة أفراد منهم، وأمسكت عن

إعطاء الرخص بفتح المكاتب، هذا هو الذي صد العلماء عن القيام بواجبهم، وأما السياسيون فإنهم ما حاولوا إدخال العلماء في السياسة وما كان العلماء- وقد نصبوا أنفسهم لشيء- أن يتداخلوا في شيء آخر، وقد أوقفوا وفودهم العلمية في الصائفة الماضية عن التنقل في جهات القطر تجنبا لكل رمي بالباطل ومع ذلك لم يسلموا- مع الأسف- من مثل هذا القيل. وبعد فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد وبث الخير والثبات على وجه واحد، والسير في خط مستقيم. وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة وأنفعها للانسانية عامة. ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحيتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها وأن نبلغ من نفوسنا إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمة "إنك مظلومة في حقوقك وإنني أريد إيصالك إليها" يجد منها ما لا يجده من يقول لها: "إنك ضالة عن أصول دينك وإنني أريد هدايتك" فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها، وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا وإننا فيما اخترناه- بإذن الله- لماضون وعليه متوكلون. ثم ما هذا العيب الذي يعاب به العلماء المسلمون إذا شاركوا في السياسة؟ فهل خلت المجالس النيابية الكبرى والصغرى من رجال الديانات الأخرى؟ وهل كانت الأكاديمية الفرنسية خالية من آثار الوزير القسيس رشليو؟ أفيجوز الشيء ويحسن إذا كان من هنالك ويحرم

وقبح إذا كان من هنا؟ … كلا لا عيب ولا ملامة وإنما لكل امرىء ما اختار ويمدح ويذم على حسب سلوكه في اختياره. أما قول جنابه: "وإن غالب هؤلاء العلماء تعلموا في مساجد القاهرة، حيث الإسلام لا تدرس مبادئه وتعاليمه الدينية فقط" فهو مخالف للواقع فإن العلماء الذين يعنيهم جنابه لم يتعلم واحد منهم في مصر والشخص الوحيد الذي تعلم في القاهرة وكان معهم قد انقلب انقلابا قبيحا وهو مرضي عنه تمام الرضا. فالمسألة مسألة جمود وتفكير ونهوض مع الناهضين وموت مع الأموات ليست مسألة القاهرة ولا غيرها، وليس بصحيح أن مساجد القاهرة يدرس فيها ما ليس من الدين وما دروسها ودروس جامع الزيتونة وجامع القرويين ودروسنا بقسنطينة إلا واحدة كلها ترمي إلى المحافظة على علوم الإسلام والعربية ونشر العلم والتهذيب بين طبقات الناس وما هذا إلا أصل المدنية التي تدعو إليها الأمم الراقية في هذا العصر. وكان جنابه أراد أن يخفف من عبء مسؤولية منع العلماء من إلقاء الوعظ والإرشاد في بيوت الله التي ما أسست إلا لذكر الله فقال: "وعلى كل حال فإننا لم نمنعهم من الكلام في الأماكن المدنية أو الدينية غير الدولية" ونحن نحتفظ بهذا التصريح بعدم المنع مما ذكر، ثم قال: إن الأماكن الدينية التي سماها جنابه دولية هي المساجد الإسلامية العامة التي يأتيها الناس المقصود تهذيبهم وإرشادهم وهي التي تناسبها دروس العلماء الدينية ومواعظهم، فأما الأماكن المدنية فليست مما يناسبهم ولا مما أعد لهم وأما الأماكن الدينية غير الدولية - ويعني المساجد الخاصة- فهذه على قلتها لا تكفي عموم الناس، فالحق أن منع العلماء من المساجد العامة منع لهم من القيام بمهمتهم الدينية

على أتم وجوه المنع الذي لا يخففه وجه من وجوه الاعتذار. هذا وإننا مع كل احترامنا لجنابه ما نزال نكرر احتجاجنا على منعنا من المساجد وكل ما نرمى به عن غير تبصر غير آيسين من إتيان يوم تتجلى فيه العدالة لجمعية دينية علمية تهذيبية تعمل لخير الجميع. عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ الصراط السوي: السنة الأولى، العدد 15 قسنطينة يوم الإثنين 8 رمضان 1352هـ الموافق لـ 25 ديسمبر 1933م. ص 4، ع 1 و 2 و 3 وص 5، ع 1 و 2.

في الشمال الأفريقي

في الشمال الأفريقي: سياسة وخز الدبابيس ــــــــــــــــــــــــــــــ لا ننكر أننا من المعجبين بالآداب الفرنسية، ولا ننكر أننا مع المعجبين فوق ذلك بالصحافة الفرنسية الكبرى، وما لها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام، لهذا يؤلمنا ويزعجنا ويملأ أنفسنا حسرة وإشفاقا أن نرى الآداب الفرنسية وأن نرى الصحافة الفرنسية الكبرى تنحط أحيانا إلى دركة الهذر واللغو والسخافة، وتنغمس في حمأة التعصب الممقوت المظلم فتنكر على غيرها ما تستحسنه لنفسها، وتعتبر الفضيلة عندها رذيلة عند غيرها. ثم تلجأ فوق كل ذلك إلى باب الاختلاق والإفك والبهتان فتتهم الأبرياء وهي تعلم أنهم أبرياء، وتقلب الحقائق وهي تعلم أنها تقلب الحقائق، وما ذلك إلا خدمة لغايات انتفاعية، ودفاعا عن مصالح مادية لبعض الهيئات التي تغذي صناديق تلك الصحف الكبرى. وهكذا يقع التدليس والتلبيس على الشعب الفرنسي، فيبقى بفضل صحافته الكبرى المتحاملة عن غرض أو عن استئجار، جاهلا حقيقة ما يجري بالبلاد المرتبطة مع وطنه ارتباطا وثيقا، غالطا في حكمه عليها، غير متصور حقيقة ميولها وعواطفها وآمالها وآلامها. وكلامنا اليوم مع أم الصحف الباريسية الكبرى، العجوز الوقورة جريدة الطان. فقد سولت لها النفس الأمارة بالسوء أن تسود مقالا عن الجزائر والجزائريين بمناسبة الاجتماع الذي عقدته بباريس لجنة البحر المتوسط الجديدة، وهي التي تجمع نواب الوزارات ورجال الحكم في مستعمرات فرنسا وبلاد الحماية والانتداب، ومهمتها النظر

في المشاكل المشتركة التي تهم سياسة فرنسا الاستعمارية لكي تتوحد تلك السياسة وتسير في خطة متماثلة بكل الأقطار التي يخفق على أرضها العلم الذي يقولون أنه يمثل بأحمره وأبيضه وأزرقه الحرية والأخوة والمساواة. فلتحريش أعضاء هذه اللجنة، ولحملهم على سلوك سياسة الشدة والعنف والجبروت مع الرجال الذين دانوا بطاعة فرنسا ما يزيد عن القرن، وسقطوا في كل ميادين القتال ألوفا مؤلفة حول رايتها، ولأجل غايتها، ولتشويه الحقائق والباس الحوادث غير لباسها الطبيعي، كتبت الطان مقالها المأسوف له والمتحسر عليه، ونشرته في عددها الصادر يوم 20 فيفري السالف. فهي تقول وأنف الحقيقة راغم: أن المهيجين الذين هدأ فورانهم أثر زيارة مسيو ريني قد عادوا فجأة إلى ميدان الإثارة، ومن الممكن أن يقودوا الأمة إلى فاجعة كفاجعة قسنطينة المؤلمة. فالدكتور ابن جلول يتهم كي جريدته (الانطانت) الإدارة الفرنسية بأنها تريد أن تغمر الجزائر في ميدان النار والدماء. ويؤيده في هذا الطريق ابن باديس والطيب العقبي وهما على رأس جمعية العلماء التي لمت في نادي الترقي شمل الذين اتفقوا على نسف نفوذ فرنسا باستعمال شتى الطرق. وفي كل مكان نجد نشاط دعاة المذهب الوهابي وأعوان الجامعة العربية الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، والذين يتلقون تعاليمه من لوزان على طريق القاهرة. ومن أهم مطالبهم حرية الوعظ في المساجد وحرية التعليم بدون مراقبة. فمن ناحية يقع الحث على عدم دفع الضرائب. ومن ناحية أخرى تجمع الأموال الطائلة لشراء الديار زعم أنها تستعمل مراكر دينية، وأنها في الحقيقة تستعمل مركزا لتهذيب الناشئة تهذيبا إصلاحيا متعصبا.

ثم وقع استغلال موت الأمير خالد سليل الأمير عبد القادر، وقد توفي بدمشق فرقدت الدعوة لإقامة صلوات عمومية لاستنزال الرحمة على روحه. وهنالك الشيوعية وهي لا تستدرج الناس باسم المذهب الشيوعي. إنما تستدرجهم باسم المصالح المختلفة فتجذب إلى الحزب الشيوعي مستخدمي السكك الحديدية- وبرجال، المراسي والعملة. وجمعية كوكب شمال إفريقيا الشيوعية ترسل أفلاما سينمائية تظهر النظام الشيوعي في أبدع صوره. فناحية قسنطينة وتبسة وهي القريبة لتونس والتي يمكن للدعاة أن يتجولوا بسهولة بينها وبين البلاد التونسية، وناحية تلمسان، وهي مركز التعصب الديني الحاد، هما الناحيتان اللتان تحوم حولهما الريب بشدة واللتان سيدلي مسيو لودو عنهما ببيان أمام اللجنة العليا). هذا كلام جريدة الطان. ولقد كنا نمر كراما بهذا اللغو لو أنه صدر من صحيفة صغيرة، أو جريدة لا تمثل طبقة ممتازة من كبار الفرنسيين، أما وقد صدرت هذه الأقوال المستهجنة من صحيفة الطان، فالسكوت عنها يعد خوراً إن لم يعتبر جريمة. فلنأخذ أقوال الطان من أولها، ولنعمل فيها معول الحقيقة- وللحقيقة معاول هدامة في بعض الأحيان- ولنقل نحن أقوالنا التي تخالف أقوالها على خط مستقيم. ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. نقول نحن أن الهيجان الذي تريد الطان أن تجعله موجوداً الآن بالجزائر، لا وجود له إلا في المخيلة المريضة المخروفة التي أملت ذلك الفصل. نعم هنالك استياء عمومي في طبقة الفلاحين الذين لم يجد أكثرهم من الإعانة الموعود بها إلا ما يجده الصادي في السراب. وهنالك استياء في الرأي العام عن إبطاء الإصلاحات الموعود بها والتي

أجمعت الأمة على المطالبة بها. وهنلك تذمر عمومي من الحالة الحاضرة سواء من ناحيتها السياسية أو من ناحيتها الدينية والاقتصادية. إنما الهيجان الذي تصوره الطان كأنه الغول الهاجم لابتلاع الأرواح، إنما الهيجان التي (1) تقول بأنه سيكون من نوع حوادث قسنطينة المؤلمة، فذلك ما نفي (2) وقوعه بكل قوة وبكل شدة، ولن يكون إلا إذا عملت يد المحرشين الأجانب الأوربيين على إثارته وتهيئة أسبابه، خدمة لأغراضهم الخاصة. والرأي العام الإسلامي لا يتبع كل ناعق، ولا يقدم بسهولة مثل هذه الأعمال إلا إذا استثير وأمعن في استثارته ولم يبق في قوس صبره منزع. ثم لنتول الدفاع متطوعين عن النواب وهم الأغنياء عن دفاعنا، فمتى كانوا مهيجين أو دعاة للفتنة والاضطراب، وهم الذين بحّت أصواتهم في المناداة بوجوب التآخي والتضامن مع الفرنسيين لأجل الإحراز على نفس الحقوق الفرنسية، بواسطة فرنسا وحدها، ولو بتضحية بعض الشخصية الإسلامية- وهذا ما لا نوافق عليه نحن- وأقوالهم أمام وزير الداخلية، وكتاباتهم كلها على هذا المنوال. لكن هؤلاء السادة قد ألفوا منذ أمد طويل سياسة البني وي وي (3) أولئك الذين لم يرتفع لهم صوت ولم تنبس لهم شفة بكلمة في مجال الدفاع عن الحقوق. فإن هم سمعوا كلمة المتذمر وإن هم شاهدوا حركة المستاء، نادوا بالويل والثبور وقالوا أن هذه إلا حركات ضد فرنسا قد نضجت في القلوب وانفجرت بها الصدور.

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: الذي (2) كذا في الأصل وصوابه: ننفي. (3) عبارة جارية فى الجزائر بمعنى الذين يوافقون على كل شيء يصدر من ساداتهم بكلمة نعم (وي).

ثم ما شأن جمعية العلماء في هذا الأمر؟ - إن سمحت الطان لنفسها بحشر ابن جلول في ميدان التهييج السياسي- وهو بريء منه- فالرجل على كل حال رجل سياسة، ويمكن مصادمته، ويستطيع النضال عن نفسه في هذا المدان. أما جمعية العلماء المسلمين وهي الدينية التهذيبية البحتة، وهي البعيدة كل البعد عن السياسة والسياسيين، وهي التي لا علاقة لها مع الشعب إلا في ميدان الإصلاح المديني والتهذيب الاجتماعي ورفع الأمية عن القوم، فما أسخف الطان وما أسخف ذوي السخائم الذين أملوا على الطان تلك الأقوال في شأنها. هذه الجمعية جمعية العلماء صحفها منشورة، وأقوالها مأثورة، وأعمالها مشهورة، فليأت هلؤلاء الأفاكون بكلمة أو قول أو فعل يمكن به إتهام الجمعية أو أفراد الجمعية أو القائمين بأمر الجمعية بأنهم يعمدون إلى التهييج أو يعينون على التهييج- هذا إن فرضنا جدلا أن الهيجان موجود. وإن طالبت الجمعية بإلقاء الوعظ في المساجد، فقدما كانت المساجد مفتوحة في وجه علمائها ودعاتها، وقدماً عقدت الجمعية مجالس الدعوة والإرشاد تحت رعاية ورئاسة رجال الحكومة والبلدية فهل يستطيع أحد من رجال- البوليس أو من رجال البلدية أو الحكومة الادعاء بأن الجمعية قد حادت ولو مرة واحدة في كل حياتها عن سلوك طريق الإرشاد العلمي الديني سواء بالمساجد أو المجتمعات العامة وإشارت على الناس ولو من طرف خفي بتأييد المهيجين وإعانة الهيجان؟ {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}! ثم ما شأن الأمير شاكيب أرسلان، وما شأن الوهابية، وما شأن الجامعة العربية في كل هذا؟ إنهم يعلمون علم اليقين أنه ليس في الحركة الإصلاحية ولا في

الحركة السياسية في القطر الجزائري، من أصبع خارجي كيفما كان أمره ومهما كان مصدره، ولقد قامت لديهم الأدلة والبراهين على ذلك. وتالله لو أنهم وجدوا برهانا ولو ضعيفا على خلاف ذلك، ولو وجدوا حجة ولو واهية على وجود أي شيء من هذا القبيل، لكانوا قد بطشوا بنا قبل اليوم بطشا، ولكانوا قد محقوا هيأتنا من عالم الوجود، بعد محق أشخاصنا. لكن ولاة الأمور قد علموا جلية الأمر، وتميز لهم خبيث القول من الطيب، وتأكدوا أن ليس في حركتنا الدينية ولا في الحركة السياسة من يد خارجية. وإننا لنتحداهم تحدي القوي المؤمن بحقه أن يأتونا- حكومة وأفرادا- بما يثبت للناس خلاف هذا. ونكون عندئذ محجوجين ويكون لهم الحق في كل ما يفعلون. فان لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فمثل هذه الأقوال التي لا قيمة لها، والتي لا يقصد بها إلا حشر أسماء مفزعة في ميدان البحث قصد التهويل والتهويش، ليست لها من قيمة أي قيمة، وإنها لتزيد الذي يأتي بها في حديثه سخفا على سخافته، وضعفا على ضعفه. وقالت الطان: أننا نريد حرية التعليم دون مراقبة. لقد غلطت الطان وغلط الموعزون لها غلطا فاحشا. فنحن نطلب حرية التعليم العربي حقا، إنما نحن نقبل كل مراقبة، فأعمالنا العلمية والتهذيبية تقع علنا في وضح النهار وليس ما نخشاه ولا ما نكتمه. ولو تفضلت الطان وهيأتها الظاهرة والخفية بتعيين مراقب من قبلها للتعليم العربي الحر، لرحبنا به ولحبذنا تعيينه، ولأعقدنا أنه سيكون مقنعا لجريدته بفساد النظرية التي تدافغ عنها اليوم. أما ما أشارت إليه الطان من أمر ابتياع الديار فإنهأ تقصد به الدار التي ابتاعتها جمعية التربية والتعليم، والتي قامت بفضل جهود

الأمة وتضحياتها المثمرة. فتالله لو أن كاتب الطان شاهد الأمة وهي تجود بما لديها من مال قليل، وشاهد تلك الدار وما تحتويه، لخجل من نفسه ولندم على قوله ولكفانا مؤونة الرد عليه … أسست فرنسا في بلادنا وأسست جمعياتها ميات الآلاف من المعاهد والديار التي من هذا القبيل. فقال قائلهم إن الفرنسيين لم يعملوا شيئا مذكورا في هذا الميدان، وطالبوا بالمزيد. ولم يتجاوز ما أسسه الجزائريون أربعة أو خمسة من هذه الديار، فأصبحت هذه الديار متهمة وأصبحت خطرا على المجتمع ونفوذ فرنسا، تؤكد للطان أننا نربد أن نخرج من هذه المعاهد ناشئة مهذبة تعمل جهدها لكي تكون بعيدة عن مثل هذا التعصب الممقوت. ومن أعجب العجب استشهاد الطان الرصينة- عادة- على صحة أقوالها بالدعوة التي انتشرت في البلاد الجزائرية لإقامة الصلوات العامة أو حفلات الذكرى للأمير خالد رحمه الله. فتا الله إن هذا لمؤلم، ومؤلم جد الألم. إذا سلمنا لصحيفة الطان المرتبطة برجال الدين، أن تستهجن مسلكنا الديني، وإذا سمحنا لكتاب الطان الذين أشبعوا روح الحرية أن يقاوموا مطالبنا في الحرية، وإذا سمحنا للذين يدعون الموت في سبيل تحرير الشعوب أن يقاوموا أحراز هذا الشعب أي حق من حقوقه الضئيلة، إذا سمحنا مكرهين بكل هذا، فكيف نسمح لجريدة أمة أقامت في مختلف بلادها فوق الألف تمثل لتخليد ذكرى عظمائها في ميادين الحرب والسياسة والعلم والفن، أن تقاوم أمتنا عندما رأت أن تقيم- لا التماثيل- إنما صلوات عامة وابتتهال لله أن يتقبل خالد برحمته ورضوانه؟

حتى الاعتراف بالجميل، وحتى ذكر الموتى يجب أن ننساه لكي يرضى عنا هؤلاء السادة أصحاب المنطق المستقيم. إسمعوا! إننا لن نرضيكم أبدا وإننا لن نعمل على إرضائكم. إننا لن نخشاكم أبدا ولن نعمل عملا يوقعنا تحت طائلة أيديكم. نحن سائرون على منهاجنا وفي طريقنا. لا يضرنا صراخكم ولا ينفعنا سكوتكم. فقولوا ما شئتم، فلن تنالوا منا منالا ولن نتزعزع عن عقيدتنا. إنما ننصحكم نصيحة خالصة أن لا تعودوا لمثل هذا العمل الممقوت، فسياسة وخز الدبابيس تنتهي غالبا بفقد الشعب لصبره، وإخراج الحليم عن حلمه. وإننا لنسد في أوجهكم هذا الباب إلا أن كسرتموه والأمر بعدئذ لله (1).

_ (1) ش ج 12، م 11 غرة ذي الحجة 1354هـ- مارس 1936م ص 680 إلى 686.

كلمات حكيمة

كلمات حكيمة إنما ينسب للوطن أفراده الذين ربطتهم ذكريات الماضي، ومصالح الحاضر! وآمال المستقبل. والنسبة للوطن توجب علم تاريخه والقيام بواجباته من نهضة علمية، واقتصادية، وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه، وسمعة نبيه. فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه (1). لمنشيء (الشهاب) في جزء جمادي الثانية من سنة 1348

_ (1) أعيدت كتابتها هنا بهذا العنوان: كلمات حكيمة. ش: ج 1، م 11، ص 155 غرة محرم 1345هـ - أفريل 1935م.

في الشمال الأفريقي

في الشمال الإفريقي: كلمة صريحة ــــــــــــــــــــــــــــــ حقا إننا نعيش في وسط سادت الفوضى فيه من جميع جهاته، فمن فوضى في الدين إلى فوضى في الأخلاق، إلى فوضى في الاقتصاد. وزادتنا الأيام على كل ذلك فوضى جديدة ربما كانت أخطر الفوضات وأشدها تأثيراً على حياة الأمة وهي فوضى التكلم باسم الأمة. فما من متكلم في أي مناسبة من المناسبات إلا ورفع عقيرته مدعياً بأنه إنما يمثل الأمة الإسلامية قاطبة في هذه البلاد، وأن الكلمات التي يقولها من عند نفسه إنما هي كلمة الحق وقولها الفصل. ولو أنهم اقتصدوا في القول ولم يلجوا باب الغلو والإسراف، وقالوا إننا نتكلم باسم الفريق الذي انتخبنا، أو باسم الهيئة التي ننتمي إليها، أو باسم الجماعة التي نحن منها أو باسم الذين يشاركوننا في الرأي والتفكير، لكان قولهم أصوب، ورأيهم أصلح، وكلامهم أقرب إلى نفوس السامعين من رجال الحكومة ومن رجال الشعب. وإننا نتكلم اليوم حول هذا الموضوع إثر ما رأيناه من الحملة التي أجمعت الأمة على مجابهة جريدة الطان بها، وإثر اجتماع اللجنة الوزارية الإسلامية بباريس. قال البعض من النواب المحليين، ومن الأعيان ومن كبار المتوظفين بهذه البلاد، أن الأمة الإسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة، لا وطن لها إلا الوطن الفرنسي، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا، ولا أمل لها في تحقيق هذه الرغبة إلا بأن تمد فرنسا يدها بكل سرعة، فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج

التام. بل لقد قال أحد النواب النابهين أنه فتش عن القومية الجزائرية في بطون التاريخ فلم يجد لها من أثر، وفتش عنها في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر، وأخيرا أشرقت عليه أنوار التجلي فإذا به يصيح: فرنسا هي أنا! حقا إن كل شيء يرتقي في هذا العالم ويتطور، حتى التصوف فبالأمس كان يقول أحد كبار المتصوفين: فتشت عليك يا الله … وجدت روحي أنا الله واليوم يقول المتصوف في السياسة: فتشت عليك يا فرانسا … وجدت روحي أنا فرانسا فمن ذا الذي يستطيع بعد اليوم أن ينكر قدرة الجزائري العصر على التطور والاختراع؟ إن هؤلاء المتكلمين باسم "المسلمين الجزائريين" والذين يصورون الرأي العام الإسلامي الجزائري بهذه الصور، إنما هم مخطئون يصورون الأمور بغير صورتها ويوشكون أن يوجدوا حفيرا عميقا بين الحقيقة وبين الذي يجب أن يعرفها. فهم في واد والأمة في واد، ويريدون أن يضعوا رجال الإدارة العليا في واد ثالث. لا يا سادتي! نحن نتكلم باسم قسم عظيم من الأمة، بل ندعي أننا نتكلم باسم أغلبية الأمة فنقول لكم ولكل من يريد أن يسمعنا، ولكل من يجب عليه أن يسمعنا، إن أراد أن يعرف الحقائق ولا يختفي وراء آكام الخيال: نقول لكم إنكم من هذه الناحية لا تمثلوننا ولا تتكلمون باسمنا، ولا تعبرون عن شعورنا وإحساسنا. إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال ولها وحدتها الدينية

واللغوية. ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمة في الدنيا. ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة، والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسية. ثم إن هذا الوطن الجزائري الإسلامي صديق لفرنسا مخلص، وإخلاصه إخلاص قلبي لا إخلاص ظاهري، يخلص لها إخلاص الصديق لصديقه لا إخلاص التابع لمتبوعه. فهو في حالة السلام والأمن يطلب من فرنسا أن تحترم دينه ولغته، وتمهد له السبيل ليرتقي ضمن دينه ولغته وأخلاقه، وتسبغ عليه نعم الحرية والعدل والمساواة حتى يصبح في رقيه وحريته وسعادته نموذجا للإدارة الفرنسية والتعاون الأهلي الفرنسي، وتستطيع فرنسا أن تفاخر به الذين يتباهون بما علموه في مستعمراتهم الحرة. أما في حالة الأزمات العالمية، وحين اشتداد الخطب وإذا تكلم الرصاص وارتقت السيوف فوق منابر الرقاب فالمسلم الجزائري يهب كالليث من عرينه، للدفاع عن الأرض الفرنسية كما يدافع عن أرضه الجزائرية وعن حريمه وأطفاله. ولو لم تجنده فرنسا لسار للدفاع عنها متطوعا. ولنا في مختلف الواجهات الحربية الفرنسية عشرات الآلاف من قبور المتطوعين تشهد بهذا. فنحن الجزائريين المسلمين العائشين في وطننا الجزائري، والمستظلين

اللجنة الوزارية

بالعلم الفرنسي المثلث الألوان، والمتحدين مع الفرنسيين اتحاداً متيناً لا تؤثر عليه الحوادث الطفيفة أو الأزمات السطحية، نعيش مع الفرنسيين، عيش الأصدقاء المخلصين، نحترم حكومتهم وقوانينهم ونطيع أوامرهم ونواهيهم، ونريد منهم أن يحترموا ديننا ولغتنا، ويحفظوا كرامتنا، ويأخذوا بأيدينا في طريق النهضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهكذا نعيش وإياهم أصدقاء مخلصين، وإذا جاءت ساعة الموت في سبيل الدفاع عن الوطن الفرنسي وعن الوطن الجزائري، وجدونا في صفوفهم الأولى لنموت إلى جانبهم موت الأصدقاء المخلصين. وعلى هذا الأساس، توضع الأمور في مواضعها ويحصل التفاهم ويزول كل التباس. اللجنة الوزارية: هذه الفكرة جميلة هي نفسها، فكرة تأليف لجنة من مسلمي الجزائر، يستشيرها رجال الوزارات الفرنسية المختلفة في المسائل التي تهم البلاد الجزائرية، حتى تسير الحكومة الفرنسية في سياستها الجزائرية على هدى وعلى نور الإرشادات الصادقة التي تستمدها من رجال تلك اللجنة. بل إن تشكيل تلك اللجنة يدلنا دلالة صادقة على رغبة حكومة فرنسا في درس المسائل الإسلامية الجزائرية دراسة عميقة، حتى تتقي في المستقبل الأخطاء التي كانت ترتكب من قبل. لكن الفكرة إن كانت جميلة في نفسها، فإنها كانت غير موفقة في تنفيذها، ذلك أن الإدارة العليا لم تلاحظ إلا الفكرة السياسية في انتخاب أعضاء هذه اللجنة وعمدت إلى ذلك الانتخاب بصفة مستعجلة

فكان أعضاء اللجنة من جراء ذلك لا يستطيعون أن يخوضوا في مختلف المسائل المعروضة عليهم، والتي يتطلب الكثير منها معرفة فنية عميقة. لقد استلفت أنظارنا أخيرا خوض هذه اللجنة في مسألة "الترشيد" كما كانت من قبل خاضت في شأنها أثناء جلساتها الأولى، وهذه المسألة علمية فقهية بحتة، يجب لحلها تضلع في الفقه وتعمق في دراسة الكتب الدينية والقوانين الدينية المختلفة مما وضع في استامبول والبلاد المصرية وغيرها. فإلى جانب بعض المستشرقين الذين يحضرون اللجنة والذين لا ننكر عميق اطلاعهم وسعة معلوماتهم، نجد بعض أعيان الباشاغاوات، ولا نطعن فيهم إذا قلنا أنهم ليسوا بأصحاب معلومات فقهية، ونجد بعض الدكاترة وليسوا من أصحاب الموطأ ولا من قراء سحنون، ونجد غيرهم ممن توفرت فيهم بعض شروط سياسية أو اقتصادية، إلا أنهم لا يستطيعون الخوض أي خوض في أي مسألة دينية مهما قل أمرها وصغر شأنها. فهذه المسألة الدينية إذا استثنينا شخص الشيخ ابن الساسي قاضي قسنطينة لا نجد من يستطيع أن يقول فيها كلمة. ونحن اليوم في ساعة بناء وترميم، ولا نريد أن نترك مثل هذه المسائل مهملة فتعتقد فرنسا أنها عملت ما يجب عمله، ويقول لها بعض المتكلمين "باسم الأمة الإسلامية" إنها قد عملت حقا في هذا الباب ما يجب أن يعمل، في الوقت الذي نعتقد نحن فيه أن ما عملته إنما هو عديم الفائدة وقليل الجدوى. نرى نحن أن إصلاح هذه اللجنة أمر واجب وسريع، ونرى أنه إصلاح سهل ميسور. فلكي تمثل هذه اللجنة كل طبقات الأمة، ولكي تستطيع الخوض في جميع المشاكل المعروضة على أنظارها، وتقدم للحكومة إرشادات صائبة يمكن أن تكون أساسا لأعمال موفقة، يجب أن تشمل:

أولا- ثلاثة من كبار العلماء الرسميين تنتخبهم الإدارة من بين رجال القضاء والافتاء بالقطر الجزائري. ثانيا- ثلاثة من كبار العلماء الغير المتوظفين. ثالثا- ثلاثة من رجال مجلس النيابات المالية ينتخبهم رفقاؤهم. رابعا- ثلاثة منتخبون من المجالس العمالية. خامسا- ثلاثة من كبار المتوظفين الإداريين المسلمين تنتخبهم الحكومة. سادسا- ثلاثة من الفلاحين والتجار والصناع. فاللجنة التي تتألف من مثل هؤلاء الرجال، يمكنها أن تتفاوض مع رجال فرنسا في مختلف المسائل والمشاكل الجزائرية، ويمكنها أن تؤلف لجانا فرعية مختصة: لجنة دينية، ولجنة اقتصادية، ولجنة سياسية، ولجنة اجتماعية، الخ- فهذه اللجان التي يباشر أعمالها رجال متخصصون يمكنها أن تدرس المسائل المعروضة عليها دراسة مدققة، ويمكنها أن تنير أفكار الحكومة والوزارات قبل إقدامها على تشريع قوانين تنفذ على الجزائر. وتكون اللجنة كلها أشبه شيء ببرلمان صغير جزائري يعمل إلى جانب حكومة باريس ويكون لها مرشدا ومعينا. فإصلاح اللجنة، سواء في طريقة عملها أو في طريقة جمع أعضائها، ليس من مصلحة الجزائريين فحسب بل هو في مصلحة الإدارة العليا الفرنسية أكثر من ذلك. أما بقاء اللجنة على حالها، واستمرارها على خوض الكثير من المسائل دون استعداد وسابق دراسة، فإننا لا نكتم الإدارة العليا أن هذا العمل الذي يستطيع أن يكون مثمرا، قد يصبح موجبا للازدراء

الإضراب التونسي

ولا تكون له من نتيجة إلا خيبة الآمال التي كانت معلقة من الطرفين عليه. فعسانا نرى من الحكومة التفاتا إلى هذه اللجنة، فتخرجها من دور التكوين إلى دور العمل الصحيح، وتجعلها وسيلة من وسائل التفاهم والعمل المشترك والتعاون الصادق في سبيل المصلحة العامة. الإضراب التونسي: هاجت تونس وحق لها أن تهيج، وأضرب طلبة الجامع الأعظم (1) وحق لهم أن يضربوا، وتظاهروا في الطرق العامة، وكان حقا عليهم أن يتظاهروا، فليست الصدمة التي صودم بها طلبة الجامع المعمور والمتخرجون منه بالصدمة الصغيرة، وليس التهديد الذي جرد سيفه الماضي على رؤوسهم بالتهديد الخفيف. فإن النصوص القانونية التي شملها الأمر العلي المتعلق بالوظائف العمومية، يجعل سائر الطبقات الزيتونية إلى نحو الخمسة أعوام أخرى، بعيدة عن الوظائف العمومية ومناصب الإدارة، وكأنما ذلك الأمر العلي قد صدر خصيصا لإقصاء هذه الطبقة التى هي روح الأمة التونسية عن الوظائف العامة وعن الإدارة التونسية كلها. أرادت هيأة التشريع التونسية المختفية وراء الأوامر العلية، أن يزداد حسن التفاهم بين سائر المتوظفين من فرنسيين وتونسيين، ففرضت على كل راغب وظيفة من التونسيين أن يكون ملما بمبادئ اللغة الفرنسية وكل راغب وظيفة من الفرنسيين أن يكون ملما بمبادئ اللغة العربية، بحيث يستطيع كل منهما أن يقوم بمحادثة بسيطة باللغة الأخرى.

_ (1) جامع الزيتونة.

وقد جاء ما نصه في الأمر المذكور: "لا يمكن لأي متوظف تونسي ما عدا حكام المحاكم الشرعية أن يحرز على تسميته بصفة رسمية إلا إذا أثبت تحصيله على نفس درجة المعارف المذكورة في اللغة الفرنسوية. فمفهوم هذا الفصل ومنطوقه يدلان على أن لن يستطيع التوظف من خريجي المعهد الزيتوني في أي إدارة تونسية إلا من كان محرزا على مبادئ اللغة الفرنسية، وبما أن القانون المذكور لم يترك أجلا في وجه المتعلمين لتعاطي الدروس الفرنسية، وبما أنه لا يوجد بين أساطين الجامع الأعظم شيوخ يلقنون إلى جانب شرح ميارة وحاشية التاودي مبادئ A. B. C. D.، فإن طلبة الجامع الأعظم رأوا أن جهودهم كلها أصبحت عبثاً، وأن آمالهم جميعا قد انهارت وأنه فيما عدا القضاة ورجال الإفتاء وهم رؤساء المحاكم الشرعية، لا يستطيع أن يتطلب منهم التوظيف أحد. أضرب الجامع عن تلقي الدروس، ووقعت المظاهرات الهادئة الرصينة فقلبتها أعمال البوليس مظاهرة حادة دامية، وأوصدت المدينة التونسية أبوابها احتجاجا وتضامنا مع طلبة الكلية الزيتونية، فما كان لذلك من أثر عند الإدارة التونسية إلا أمرها بإبعاد فوج جديد من التونسيين إلى برج لوبوف وتقديم جماعة كبيرة إلى المحاكم الفرنسية فنالوا عقابا صارما من السجن والإبعاد. وهكذا استمر مسيو بيروطون على سياسة العنف الفاشستي إلى آخر لحظة من مدة حمكمه بتونس. أصدرت الحكومة بلاغا تناقض فيه نفسها، وتخفف وطأة قانونها الأخير، فقالت في ذلك البلاغ أن الزيتونيين الذين لا يحسنون الفرنسية قد بقيت أمام وجوههم عدة وظائف يمكنهم التطلع إليها كأعضاء المحاكم الشرعية وأعوانها الإداريين كالعدول المحررين والكتبة والنساخين

والعدول العموميين وخطط قسم الأمور الشرعية بوزارة العدلية وخطط القسم الأول من الوزارة الكبرى وخطط العمال والكواهي وكافة خطط الجامع الأعظم والشعائر الدينية والأوقاف. فالأمر العلي يوصد باب التوظف إلا لحكام المحاكم الشرعية، وهذا البلاغ الحكومي يناقضه ويفتح الباب لهذه الخطط، إنما العمل الرسمي لا يقع إلا بناء على الأوامر، ولا اعتبار للبلاغات فيه. فحركة الإضراب في المسجد المعمور لا تزال جارية إلى أن يصدر أمر جديد يزبل عن الأنفس الحيرة والارتباك، والهيجان لا يزال مستوليا على أنفس كل التونسيين من جراء هذه الضربة الصارمة، والجيش العرمرم من رجال تونس وخير شبانها لا يزال يتضاعف عدده في المنفى ببرج لوبوف حيث الآلام والأسقام، والصحافة التونسية المغلولة اليد لا تتجاسر على قول كلمة أو إبداء إشارة إلا تلميحا أو من طرف خفي، وما تجاسر البعض منها على طلب إرجاع المبعدين إلا عندما تحققت نقلة بيروطون من تونس. والأفواه مكممة بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفتح فمه بانتقاد أو ملاحظة خشية أن ينتزع في منتصف الليل من بين أهله وذويه ويسار به إلى برج لوبوف. والاستياء العام سائد بين سائر الطبقات كالنار تحت الرماد. هذه هي حقيقة الحالة بتونس كما تركها مسيو بيروطون عندما أمرت الحكومة بنقله إلى المغرب الأقصى ليمثلها هنالك بدل مسيو بونسو الذي أخفق في إدارة السلطنة المغربية. وإننا لنتمنى أن يسلك مسيو فيون المقيم الجديد بتونس سياسة اللين والتسامح فيعيد إلى الأنفس اطمئنانها، ويرتق ما فتقه سلفه، معتمدا على المفاهمة والمشاركة الصادقة.

_ (1) ش: ج 1 م 12 قسنطينة غرة محرم 1355هـ - أبريل 1936م ص 45 إلى ص 50.

حول كلمتنا الصريحة

حول كلمتنا الصريحة لقد أحدثت الكلمة الصريحة التي نشرناها بالعدد الاسبق من الشهاب أثرها المطلوب، وكان لها الدوي العظيم الذي كنا نتوقعه لها. فتلك كانت أول مرة فيما نعلم، جوبهت فيها الحكومة وجوبه فيها رجال السياسة بحقيقة ناصحة، هي عين الحقيقة التي تعتقدها الأمة، وفيها بيان لعواطف وإحساس وشعور الأغلبية المطلقة من سكان هذا الوطن الجزائري. فأما الذين طهرت سريرتهم وخلصت نيتهم، فقد حبذوا خطتنا وشكروا لنا صراحتنا، وحمدوا لنا هذا الموقف الذي وقفناه ضد محاولات التجنيس الخائبة، ومحاولات هدم القومية واللغة والدين المجرمة، إذ بينا في جلاء ووضوح أننا مع احترامنا للسلطة الفرنسية، وإطاعتنا لقوانين الجمهورية، نريد ونستطيع أن نحافظ على ذاتيتنا الخاصة، وما فيها من مميزات اللغة والدين والإخلاص والثقافة ولا نريد بأي حال من الأحوال ولا نستطيع أن ننسلخ طوعا واختيارا أو كرها وجبرا على تلك الذاتية، وما فيها من مميزات، وما لها من حقوق. وأما الذين في قلوبهم مرض، والذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأنكروا ما لهذه الأمة من مجد، وما لها من تاريخ، وما لها من روابط تجعل منها أمة متحدة ومتجانسة لها من الاتحاد والتجانس ما لأكثر الأمم تجانسا واتحادا في كل بلاد الأرض فأولئك قوم فزعوا من مقالنا كما تفزع الخفافيش عندما ينبثق نور الفجر، ومنهم من انتقد ومنهم من رد، ومنهم من أفحش وأقذع، وأن إلى الأمة التي أنكروها إيابهم، وأن عليها- مهما تجاهلوها- حسابهم.

إن كلمتنا الصريحة قد وضعت الكثير من الرجال على المحك، فمنهم من ظهرت نفسه من در مكنون، ومنهم من انطوت جوانبه على حمأ مسنون. وإنا لنشهد أن من أكمل الرجال الذين رأينا فيهم بهذه المناسبة، الهمة الحالية، وشرف النفس، وطهارة الضمير، الأستاذ فرحات عباس الصيدلي، والعضو البلدي والعمالي بسطيف. كان هذا الرجل الأبي من أهدافنا في مقالنا (كلمة صريحة) وهو الذي آخذناه عن مقاله (فرنسا هي أنا) وقلنا له ولمن معه إنكم عندما تسمعون لسياسة الاندماج، وتحبذون التجنيس، وترضون ضياع حقوقنا الإسلامية مقابل حق الانتخاب، وتريدون- خلافا للطبيعة- أن يصير جمهور المسلمين بهذه البلاد جمهورا فرنسيا بحتا، لا يختلف عن الجماهير الفرنسية في شيء، إنكم عندما تسعون وتحبذون هذا لا تمثلوننا ولا تتكلمون باسمنا، وإنكم في واد والأمة في واد آخر. فالسيد فرحات عباس، لم يتألم ولم يتكدر، وسلك مسلك كبار رجال السياسة الذين يحبذون النقد وينصاعون لكلمة الحق، فزار إدارة الشهاب، وأكد لها تقديره لجهودها، وجرت له مع صاحب الشهاب محادثة دلت على سمو أدبه وعلو كعبه في عالم السياسة والتفكير. ثم نشر مقالا في جريدة (لا ديفانس) (1) الصادقة الثابتة الجسورة، يبين فيه نظريته، ويشرح فيه فكرته الاجتماعية التي بنى عليها سلوكه السياسي، وسيجد قراؤنا تعريب هذا المقال إثر فصلنا هذا. ولقد تولت بعض الدوائر مهاجمتنا، مستترة وراء جريدة النجاح، ووراء ورقة تدعى (صدى الصحافة الإسلامية)، ولقد كنا ننتظر من تلك الدوائر التي هاجمتنا، مناقشة هادئة تتناسب مع وقارها، وكنا

_ (1) La défense: الدفاع يصدرها المرحوم الأمين العمودي.

ننتظر منها نضالا بأسلحة حادة، لكن خاب أملنا في الأمرين. فالمناقشة كانت صبيانية الشكل والموضوع، والأسلحة كانت عتيقة مفلولة أبلتها كثرة الاستعمال. فأما السلاح الذي استعمل ضدنا في النجاح فهو أسئلة وضعها رجل كبير، وأمضاها رجل صغير وقد حسب الذين قدموا لنا هذه الأسئلة أنهم يحرجوننا بوضع البحث فوق ميدان الاستقلال، كأننا قد رفعنا علم العصيان، ونادينا بفصل الجزائر عن فرنسا من الآن. فهو يسألنا أولا: متى كانت حدود الجزائر على ما هي عليه الآن؟ وإننا نجيبه لنفرض أن حدود الجزائر لم ترسم على صفتها الحالية شرقا وغربا إلا منذ نحو مائة عام، فهل له أن يجيبنا متى كانت حدود فرنسا وألمانيا وإيطالبا والنمسا والمجر ورومانيا ويوغوسلافيا واليونان وبلغاريا كما هي الآن؟ وهل لم تتغير المرات العديدة خلال هذه المائة عام؟ ثم يسألنا: متى كانت بلاد الجزائر مستقلة؟ ونحن نقول له: إن ضربنا صفحا عن الدول الإسلامية المستقلة التي نشأت وازدهرت بالقطر الجزائري، وسلمنا بأن القطر الجزائري بصفته الحالية لم يكن مستقلا في وقت من الأوقات، فهل لحضرة السائل أن يجيبنا: متى كانت دولة تشيكوسلوفاكيا مستقلة؟ وإلى أي عهد يرجع استقلالها؟ ويسألنا أخيرا، ما هي وحدة اللغة التي تكلمنا عنها في كلمتنا الصريحة، فهل هي اللغة العربية، والحال ليس كذلك، كما يقول، أم ماذا؟ فهل نستطيع أن نجيبه بأن لغة هذا الوطن ليست عربية بدليل أن جريدة النجاح تنشر بلغة الصين، وأن الجريدة الرسمية الحكومية تنشر إلى جانب نسختها الفرنسية نسخة بلغة النبط والكلدانيين؟ أم نقول له أن الواقع يثبت بأنه لا يوجد في أرض الجزائر إلا واحد في المائة

فقط من السكان المسلمين لا يتكلم العربية. ثم نسأله: هل لا توجد في فرنسا إلى جانب اللغة الرسمية الفرنسية لغات أخرى ذات آداب ولها صحف سيارة ويتكلمها الملايين من الناس، وخاصة بالألزاس، وبجهات الفلاندر، وببلاد ابروتانيا التي يقوم أهلها بحملة تكاد تكون ثورية لإجبار الحكومة على تعليم لغتهم بالمدارس، وببلاد البروفانس، وضواحي مرسيليا، وبجزيرة كورسيكا؟ وهل توجد وحدة اللغة، كما توجد بالقطر الجزائري، في رومانيا، ويوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا إن لم نتكلم إلا عن هذه البلاد؟ وأما السلاح الذي استعمل ضدنا بصدى الصحافة الأهلية، والذي خرج من معمل جريدة الهك القديمة وكتب بأقلام محرريها، ونحن لا نشرِّفهم بذكر اسمهم، احهتقارا لا جهلا، فهو ذلك الشتم البذيء الرقيع، سلاح الأسافل العاجزين، فصاحب الشهاب عند أولئك السادة: أحمق. مجنون، أخرق، جاهل غبي، مجرم، وهو بوحماره الخارجي الذي أثار إفريقيا قصد تأسيس دولة فوق الخرائب، ولم يتورع الكاتب شلت يمينه عن نبش قبر عبد المؤمن بن علي قدس الله روحه، لتبشيع سياسته والحط بكرامته. ثم يصف ذلك الكاتب الأمة الجزائرية بكل أوصاف الجهل والفوضى، والتهديم والتخريب، حتى ليكاد الإنسان يعتقد أن ذلك الرجل الذي استؤجر لينال منا، إنما استؤجر لكي يقول للناس في العالم أجمع: أنطروا كيف أصبحت حالة المسلمين الجزائريين بعد أن حكمت فرنسا بلادهم نيفاً ومائة من السنين! ولو كنا نستطيع أن ننحطَّ إلى تلك الدركة السافلة، ونجاري أولئك المحررين- في أسلوبهم لقلنا لهم إنهم أنذال، سفهاء ليس لهم ضمير، ولا يعرفون شهامة ولا كرامة. لكننا لا نقول لهم هذا، ولا

نوجه لهم أمثال هذا الكلام، فلنا من آدابنا الإسلامية، ولنا مع شهامتنا العربية ما يمنعنا عن الانغماس في مستنقهم النتن. فدعهم هم والذين يملون عليهم تلك السخافات الرقيعة، يقفون أمام الرأي العام بهذه البلاد، ولننظر كيف يكون حكمه عليهم قاسيا أليما. إننا أكدنا في (الكلمة الصريحة) رغبتنا في الاحتفاظ بكياننا العربي الإسلامي، فوق أرض هي أرض آبائنا وأجدادنا، مع أحترامنا التام للسلطة وخضوعنا لقوانين البلاد. لكن خصومنا، كما قلنا آنفا، أرادوا أن يفهموا من كلامنا أننا نريد الاستقلال ورأوا أنهم يحرجوننا إذا وضعوا البحث على بساط الاستقلال. حتى إذا زل بنا القدم فوق هذا البساط الأملس استنزلوا علينا نقمة الحكومة وطلبوا أن نعامل معاملة الثائرين المهيجين، وأن نذهب (1) ضحية قوانين روني وما سبقها. لكن خابت آمالهم، فنحن قوم لا نتأخر عن الخوض في مثل هذه الميادين، وأنهم لا يزعجوننا أن جرونا للبحث في مسألة الاستقلال. إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا. وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم والمنعة والحضارة، ولسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله ويقولون أن حالة الجزائر الحاضرة ستدوم إلى الأبد. فكما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنها تزداد تقلبا مع التاريخ. وليس من العسير بل إنه من الممكن أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي، وتتغير فيه السياسة الاستعمارية عامة والفرنسية خاصة، وتسلك فرنسا مع الجزائر مسلك

_ (1) في الأصل: ننهب.

إنتهاء الأزمة التونسية

إنكلترا مع أستراليا وكندا واتحاد جنوب إفريقيا، وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة إستقلالا واسعا، تعتمد عليها فرنسا إعتماد الحر على الحر. هذا هو الاستقلال الذي نتصوره- لا الاستقلال الذي يتصوره خصومنا المجرمون، إستقلال النار والدماء- وهذا هو الاستقلال الذي نستطيع أن نحرز عليه مع الوقت، وبإعانة فرنسا وبإرادتها. وإننا لا نخشاه ولا نخشى البحث فيه. إنتهاء الأزمة التونسية: تمت الحوادث ببلاد الخضراء على النمط الذي توقعناه في العدد السالف، فإن مسيو فيون المقيم العام الجديد قد افتتح سياسته، كما افتتحها من قبل لوسيان سان ومانصرون وبيروطون، بالركون إلى جانب الاعتدال، والوعد بسلوك طريق المشاركة الصادقة وإجابة رغائب التونسيين المعقولة. فأول عمل تم إجراؤه هو إرضاء طلبة الجامع الأعظم المعمور، بأن أجيبت طلباتهم المتعلقة بمسألة تعلم اللغة الفرنسية، فوقع العفو على الذين نالهم العقاب الصارم منهم سواء بالسجن أو بالتغريب ثم جمع المقيم العام لجنة قررت من جهة تأخير العمل بذلك الأمر إلى شهر مارس من سنة 1943، ثم قررت من جهة أخرى استثناء الكثير من الأعمال الإدارية والقضائية من ذلك الأمر القاضي بوجوب تعلم مبادئ اللغة الفرنسية لإجراء محادثات بسيطة عادية بها. وهذه الوظائف المستثناة هي: الحكام الشرعيون ورؤساء كتبة المحاكم الشرعية وكتبة المحاكم الشرعية ومستكتبو المحاكم الشرعية والكتبة والنساخون باللغة العربية بالمجالس المذكورة والمنشئون والكتبة والمستكتبون والنساخون باللغة العربية بالقسم الأول من

الوزارة الكبرى وبالإدارة المركزية للعدلية التونسية والمدرسون التونسيون بالمدرسة الصادقية ومدرسو القسم الإسلامي من مدرسة ترشيح المعلمين ومؤدبو المكاتب الابتدائية. كما يخرج من هذا القيد أيضا رغم كونهم لا ينسحب عليهم هذا القانون العمال والكواهي والخلفاء والمشائخ وكتبة الأعمال والمدرسون وسائر متوظفي الجامع الأعظم دام عمرانه وأرباب الشعائر ومتوظفو جمعية الأوقاف والعدل والمنشؤون بالشرع العزيز. وبعد ذلك وقع الالتفات إلى الناحية السياسية، فأمر مسيو فيون بحذف "جهنم الدنيا" برج لوبوف من قائمة الأماكن التي يمكن إبعاد التونسيين إليها ثم أمر بإرجاع 62 من المبعدين السياسيين إلى أهلهم وذويهم، بعد أن ذاقوا من العذاب الأليم وتجرعوا من كؤوس البأساء والضراء ما لم نسمع بمثله إلا في تاريخ محاكم التفتيش. ولقد بقى الزعماء الثمانية أحرارا بمراقبتي قابس وجربة، إلى أن يتفاوض معهم المقيم العام مفاوضة رجل لرجل: وهم السادة: الدكتور محمود الماطري، والأساتذة محيي الدين القليبي، والطاهر صفر، والبحري قيقة، وصالح بن يوسف، والحبيب بورقيبة، ومحمد بوزويته. وأثناء رحلة القيم إلى الجنوب، تقابل مع الثمانية الزعماء، ووقمت ينه وبينهم مفاوضة طويلة، نشر بعدها القيم بلاغا رسميا جاء فيه: أن المقيم أكد لهم بأنه لا يريد أن يرى في المستقبل سياسة هيجان، إذ هو عازم على تنفيذ سياسة الحماية بحذافيرها، باحترام حقوق الدولة الحامية وحقوق سمو الباي، وأنه يريد التعاون الصادق من الجميع حول هذه السياسة، وأجابوه بلسان الدكتور الماطري أنهم لن يسلكوا أبدا سياسة الهيجان، وأنهم لم يهاجموا مبدأ الحماية بل

قصارى مطلبهم الإحراز على الحقوق التي يطلبها التونسيون داخل منطقة النظام الحاضر. ثم أكدُوا للمقيم أنه يستطيع أن يثق بكلامهم وأنه لن يندم على ثقته بهم. هذه خلاصة بلاغ السفير، ونحن نعتقد وإن لم تأتنا الأنباء بعد، بأن المبعدين الثمانية قد رجعوا إلى بلادهم، واسترجعوا حريتهم بعد طول البعاد، وأن تونس ستفتح عصراً جديداً من العمل الهاديء المثمر، خاصة وأن اها في الواجهة الشعبية الفرنسية أصدقاء سيبرهنون على صداقتهم لها، فلعل الدستور والمجلس التشريعي وتحديد العلائق بين الإدارتين تكون من نتائج هذا الدور الذي نرجو أن يكون موفقاً سعيداً.

_ (1) ش: ج 3، م 12، ص 141 - 147 غرة ربيع الأول 1355هـ- جوان 1936.

حقوق الأمة الجزائرية

حقوق الأمة الجزائرية (1) التي تطلبها من الأمة الفرنسوية ــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة: إن الأمة الجزائرية قد شاركت الأمة الفرنسوية في مواقف الموت فمن الحق والعدل أن تساويها في مواقف الحياة. إن الحياة تشترى بالأرواح والأبدان والأمة الجزائرية قد بذلت أرواحها وأبدانها مع الأمة الفرنسوية ومثلها، ومن دفع الثمن فمن الحق والعدل أن يأخذ الثمن. إن الأمة الجزائرية سمعت في أيام الشدة ومواطن البأس من الأمة الفرنسية أنهما يستويان في السلم كما تساويا في الحرب. فأما الذين ماتوا في تلك الأيام فقد ماتوا وقلوبهم تنعم بذلك الأمل المعسول وأما الذين بقوا فبقيت قلوبهم تتجرع الخيبة بعد الخيبة وتنطوي على الألم بعد الألم. إن الأمة الفرنسوية لا تستغني عن الأمة الجزائرية كما لا تستغني الأمة الجزائرية عنها فمن الخير لهما معا أن لا تشعر واحدة منهما من ناحية الأخرى بنقص في الود أو ظلم في الحقوق. وعلى هذا بنينا ما نقدم من الحقوق التالية طالبين من الأمة الفرنسية وخصوصا من الحكومة الشعبية الجديدة التي تمثل الشعب الفرنسوي والمبادئ الجمهورية أصدق تمثيل باسم الحق والعدل تنجيزه.

_ (1) مطالب قدمها ابن باديس سنة 1936 لمكتب المؤتمر.

الأوضاع والمعاملات الخاصة

الأوضاع والمعاملات الخاصة: لا تتحقق المساواة المطلوبة إلا برفع جميع الأوضاع الخاصة مثل المتصرفيات ومجالس (الكريمينال) والمعاملات الخاصة، بل الأنديجينة وأعطيات الجندية وزيادة مدة الخدمة العسكرية، والبرنامج الخاص بالتعليم في المكاتب الابتدائية وغيرها وحرمان عمال الجزائر من كثير مما يتمتع به العمال الفرنساويون. النيابات: لا يمكن للأمة الجزائرية أن تنال حقها من الحياة على الأرض الجزائرية ما دامت لا تمثلها في جميع المجالس الإقليمية فأول مطلب في النيابة هو تسوية نواب الجزائريين بنواب الفرنساويين في جميع المجالس ثم مطلب توحيد النيابة البرلمانية بكلا المجلسين بحيث يشارك في انتخاب النواب البرلمانيين مشاركة فعلية جميع سكان الجزائر على اختلاف أجناسهم وعقائدهم مع بقاء المسلمين على جميع ذاتياتهم الإسلامية. (هذا التصدير قدمه الأستاذ للمؤتمر باسمه الخصوصي على أنه رأى من الآراء يضم إلى نظائره وبعد هذا بين في إيجاز بليغ مطالب جمعية العلماء وقدمها باسمها وهي (1)). اللغة العربية: تعتبر اللغة العربية رسمية مثل اللغة الفرنسية وتكتب بها، مع الفرنسية جميع المناشير الرسمية وتعامل صحافتنا مثل الصحافة الفرنسية وتعطى الحرية في تعليمها في المدارس الحرة مثل اللغة الفرنسية.

_ (1) تعليق الأستاذ الشيخ الإبراهيمي رحمه الله.

الدين

الدين: 1 - المساجد: تسلم المساجد للمسلمين مع تعيين مقدار من ميزانية الجزائر لها يتناسب مع أوقافها، وتتولى أمرها جمعيات دينية مؤسسة على منوال القوانين المتعلقة بفصل الدين عن الحكومة. 2 - التعليم الديني: تؤسس كلية لتعليم الدين ولسانه العربي لتخريج موظفي المساجد من أئمة وخطباء ومدرسين ومؤذنين وقيمين وغيرهم. 3 - القضاء: لا ينظم (1) القضاء بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية يكون انتخابها تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق، وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرج منها رجال القضاء، منها تدريس تلك المجلة، والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية، وطبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها (2).

_ (1) كذا في الأصل ويبد أن "لا" زائدة. (2) الشهاب، ملحق ج 4، م 12 - ربيع الثاني 1355هـ جوليت 1936م ص 210 إلى 212. اخترنا إعادة هذا المقال هنا لأنه يشتمل على مقدمة لا توجد في الأول المنشور في البصائر بتاريخ ربيع الأول 1355هـ- 19 جوان 1936م.

نص المطالب التي قدمها لمكتب المؤتمر

نص المطالب التي قدمها لمكتب المؤتمر رئيس جمعية العلماء خاصة بالدين واللغة العربية ــــــــــــــــــــــــــــــ اللغة العربية: تعتبر اللغة العربية رسمية مثل اللغة الفرنسية وتكتب بها مع الفرنسية جميع المناشير الرسمية، وتعامل صحافتها مثل الصحافة الفرنسية، وتعطى الحرية في تعليمها في المدارس الحرة مثل اللغة الفرنسية. الديانة: 1 - المساجد: تسلم المساجد للمسلمين مع تعيين مقدار من ميزانية الجزائر لها يتناسب مع أوقافها وتتولى أمرها جمعيات دينية مؤسسة على منوال القوانين المتعلقة بفصل الدين عن الحكومة. 2 - التعليم الديني: تؤسس كلية لعلوم الدين ولسانه العربي لتخريج موظفي المساجد من أئمة وخطباء ومدرسين ومؤذنين وقيمين وغيرهم. 3 - القضاء: ينظم القضاء بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية يكون انتخابها تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرج منها رجال المحاكم

- منها تدريس تلك المجلة- والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية وطبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: س 1ع 24 الجزائر يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ لـ: 19 جوان 1936م ص العمود 2 من الصفحة 2. أعيدت كتابة هذه المطالب في الشهاب ملحق ج 4 م 12 بتاريخ ربيع الثاني 1355هـ- جويلية 1936م، ص 210 - 212.

المؤتمر الجزائري الإسلامي العام

المؤتمر الجزائري الإسلامي العام يحقق مبادئ (الشهاب) ــــــــــــــــــــــــــــــ يجد القراء على وجه كل جزء من أجزاء (الشهاب) مبدأه في الإصلاح السياسي هكذا: (الحق والعدل والمؤاخاة، في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات) ونحن نعني بذلك أن الأمة الجزائرية قد قامت لفرنسا بكل ما طلبته منها من نفس ونفيس، فمن الحق الواجب على فرنسا ومن العدل الذي لا يقوم أمة إلا به، ومن مقتضى المؤاخاة الحقيقية التي لا تكون إلا عند ما يشعر الإنسان بأنه غير مغموط الحق ولا مهضوم الجانب من صاحبه- أن تعطي فرنسا للجزائريين جميع حقوقهم دون أي تنقيص لهم عن غيرهم، ولا أدنى تمييز له عنهم، وليس لها أن تطالبهم بالانخلاع عن أقل شيء من مميزاتهم في قوميتهم ودينهم ولغتهم فقد قاموا بما فرضته عليهم من الواجبات وهم على قوميتهم ودينهم ولفتهم فلتعطهم جميع الحقوق وهم على قوميتهم ودينهم ولغتهم. وعلى هذا المبدأ كنا نقاوم بروجي الرجل العظيم الذي لا ننسى فضله م فيوليت لما فيه من عدم التسوية في الحقوق لا بين الجزائريين والفرنسيبن ولا بين طبقات الجزائريين أنفسهم وما فيه من تهئة الطبقة المثقفة للاندماج مع السكوت التام عن الدين واللغة، قاومناه أيام كان الناس كلهم متمسكين به إلا من عارضوه لأغراض معلومة وبإيعازات خاصة، ولم نبال في معارضته- لما كان مخالفا لمبدئنا من المساواة في الحقوق والمحافظة على المقومات الذاتية بكل الذين كانوا يعترضون علينا وقد يجاوزون الإعتراض إلى حد آخر، نعم ثبتنا على تلك المقاومة لأننا نعرف أننا بمبدئنا نعبر عن عقيدة

جمهور الأمة ونعرب عن إحساسها، وجاء المؤتمر وطلبت مني لجنة قسنطينة أن أضع لها ما أراه من المطالب، فوضعت المطالب المنشورة في المقال المتقدم ومن تلك المطالب "السماواة في الحقوق السياسية مع المحافظة التامة على جميع الذاتية" وهذا هو الذي أقره المؤتمر بالاجماع ووجهته رئاسة المؤتمر إلى الحكومة ونشرته الصحف في صدر قرارات المؤتمر، وسقطت به جميع البروجيات، فحققت الأمة بهذا من مؤتمرها العام المبدأ الذي دعا إليه الشهاب لأنه يدرك حقا نفسيتها وينطق صدقا بلسانها، فنحمد الله الذي وفق الأمة إلى ما فيه خيرها وشرفها ونسأله تعالى أن يحيينا ويميتنا في خدمتها، محافظين على قوميتها ودينها ولغتها، ساعين بها ومعها في ترقية العمران وسعادة الإنسان (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 4، م 12، ص 214 - 215 غرة ربيع الثاني 1355هـ- جويلية 1936م.

كلمة قالها ابن باديس

كلمة قالها ابن باديس تلخيص مندوب جريدة الأمة الغراء بمناسبة اجتماع الوفد الجزائري بالشعب ــــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ الرئيس: أيها الجزائري التاريخي القديم، السمام الصميم، كلمته من كلمة الله، وإرادته من إرادة الله، وقوته من قوة الله، أو لست منذ شهر كونت مؤترا كما ينبغي أن يكون جلالا وروعة، فذلك مجلى إرادتك ومظهر قوتك، وكونت هذا الوفد الكريم فحملته مطالبك فاضطلع بها وأدى الأمانة في ثمانية أيام، وهي لا تؤدي إلا في إضعاف ذلك من الأيام، وفد لعمر الله مثلك في قوتك وإرادتك وحياتك وكرمك، وفد متحد متعاون متساند زار الوزارات والأحزاب وأرباب الصحف فعرفك إليها ورفع إليها صوتك. ولقد كدت تكون أيها الشعب مجهولا عندهم تمام الجهل، لكن بأعمالك العظيمة وبما قام به الوفد صرت معلوما لدى من يعرف الحق ويحترم الكريم وينصف المظلوم. أيها الشعب إنك بعملك العظيم الشريف برهنت على أنك شعب متعشق للحرية وهائم بها، تلك الحرية التي ما فارقت قلوبنا منذ ركنا نحن الحاملين للوائها، وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها وكيف نحيا ونموت لأجلها. إننا مددنا إلى الحكومة الفرنسية أيدينا، وفتحنا قلوبنا، فإن مدت إلينا يدها وملأت بالحب قلوبنا فهو المراد، وإن ضيعت فرنسا فرصتها

هذه فإننا نقبض أيدينا ونغلق قلوبنا فلا نفتحها إلى الأبد. أيها الشعب لقد عملت وأنت في أول عملك فاعمل ودم على العمل وحافظ على النظام، واعلم أن عملك هذا على جلالته ما هو إلا خطوة ووثبة ووراءه خطوات ووثبات. وبعدها إما الحياة وإما الممات (1). اهـ

_ (1) ش: ج 6، م 12، ص 272 غرة جمادى الثانية 1355هـ - سبتمبر 1636م.

مع الوفد الإسلامي الجزائري

مع الوفد الإسلامي الجزائري: مشاهدات وملاحظات ـــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: لقد كان مقرراً أن يزور الوفد تلمسان وقسنطينة بعد اجتماع الجزائر الذي وقع في 14 جمادى الثانية أوت ليطلع الأمة على أعماله وآماله وكان مقررا أن يكون السفر لتلمسان مساء ذلك اليوم. ولكن مكيدة قتل ابن كحُّول المشؤومة حالت دون ذلك وما كان ينبغي- في نظرنا- أن تحول. ويالميتها أدت إلى التأخير فقط ولكنها كانت تكاة لمن لم تكن له رغبة في تلك الزيارة في الترك والابطال. ولهذا رأينا أن نطلع قراءنا على شيء مما بقي بأذهاننا مما شاهدنا ولاحظنا، وشيء في الجملة خير من لا شيء. على ظهر الباخرة: كان أعضاء الوفد- من النواب والعلماء والشبان- كأسرة واحدة في الأنس والعطف والاتحاد وكانت أوقات ينفرد فيها الشيوخ الثلاثة فهي التي أتحدث عنها لما فيها من أدب خاص. الأستاذ العقبي: يعرف الناس العقبي واعظا مرشدا يلين القلوب القاسية، ويهد البدع والضلالات العاتية بقوة بيانه وشدة عارضته ولكن العقبي الشاعر لا يعرفه كثير من الناس. فلما ترنحت السفينة على الأمواج وهب النسيم العليل هب العقبي الشاعر من رقدته وأخذ يشنف أسماعنا بأشعاره ويطربنا بنغمته الحجازية مرة والنجدية أخرى.

الأستاذ الإبراهيمي

[صورة: أعضاء وفد المؤتمر الإسلامى الجزائري إلى باريس، في مكتب وزارة (فيوليت)، ويرى رئيس الوزارة نفسه مع أعضاء الوفد] ... ويرتجل البيتين والثلاثة والأربعة في المناسبات- وهاج بالرجل شوقه إلى الحجاز فلو ملك قيادة الباخرة لما سار بها إلا إلى جدة دون تعريج على مرساي، وأن رجلا يحمل ذلك الشوق كله للحجاز ثم يكتبه ويصبر على بلاء الجزائر وويلاتها ومظالمها لرجل ضحى في سبيل الجزائر تضحية أي تضحية. الأستاذ الإبراهيمي: وبينما كان حكيمنا الإبراهيمي يساجل الأستاذ العقبي ذكرياتهما بالحجاز وأيامهما بطيبة الطيبة، ويفيض في الحديث عن أيامه هو بالشام وتعليمه والمدرسة السلطانية بدمشق ويحدث عن رفاقه وأصدقائه من أدباء الشام وشعرائها وعلمائها ورجالها الذين لا تخلو الجرائد اليوم من ذكرهم- إذا به ينتقل إلى فجأة إلى الأندلس. وعجبنا باديء بدء

الأستاذ عبد الحميد

لتلك القفزة من الأستاذ حتى ذكرنا ما بين الشام والأندلس من علاقات في فتحها وانتقال الخلافة الأموية إليها فقلنا أن الأستاذ قد عوضه الله من القوة في عقله ما ضاع عليه في رجله وكدنا نغبطه على عرجه. وهاجت الذكرى الأندلسية بصاحبنا الإبراهيمي وأخذ في الحديث عليها وعلى وطنينا المقرى مؤرخها حتى كاد ينثر علينا "نفح الطيب" من حفظه، وعلمنا أننا سنرى أنوار الأندلس بعد الغروب وبدت لنا بعد صلاة المغرب فطار لب صاحبنا وأخذ يهلل ويكبر ويحوقل ويسترجع. وسبقته إلى قول الشاعر: كبرت نحو ديارهم لما بدت … منها الشموس وليس فيها المشرق فكاد يجن جنونه وأخذ يحدث عن شموس العلم التي بدت من ذلك الأفق وعن الثائر ابن غانية وما يتصل به وقضيناها سهرة أمام تلك الأنوار وأين منها عندنا "نار غالب" أو"نار المحلق". الأستاذ عبد الحميد: هذه هي المرة الأولى والأخيرة أعبر فيها عن نفسي كما عبرت عن رفيقي "الأستاذ" فإن ما كنا نشعر به من الاتحاد الروحي كره إليَّ أن أعبر عن نفسي بغير ما عبرت به عنهما وأنا في قرارة نفسي أبغض التواضع المصنوع كما أبغض الإدعاء الكاذب فلا أعرفه من نفسي ولا مرة واحدة، وأما التواضع المصنوع فمما تنقضي به العادة ويحتمه أصل التربية وقد خرجت عنهما هذه المرة امتثالا للطبع ولن أعود. لقد كنت مأخوذا بأدب الرفيقين ولطفها، وكنت أختم إنشادات العقبي بالآهات والأنات، وتارة بالهزات والوقفات، وكنت أساوق الإبراهيمي الحافظة فيما ينشد من "نفح الطيب" وقد طال عهدي به. ولم تفارقني مهنة المعلم فكنت أجدني عن غير قصد أقرر نكتة في

المقابلات الرسمية

بيت من الشعر أو عبرة في حادثة من التاريخ فيوافق الرفيقان وقد يخالفان. وكنت بحكم مهنتي أيضا، أفكر في تلامذتي وأعدادهم لمثل مقام هذين العالمين الأديبين العظيمين فلن يحفط الإسلام والعربية في الجزائر إلا بأمثالهما فينبعث في عزم على الجد والاجتهاد في التعليم كل ما بقي من حياتي حتى آخر ومضة من الروح وآخر قطرة من الدم. ويمر بذهنبي خاطر مزعج يكدر عليَّ ذلك الصفو ويكاد يضعفه ذلك الأمل. أتدري ما هو الخاطر: هو "صندوق الطلبة" الفارغ المدين، ولكنني سرعان ما أزيله بكلمتي التي ألهمت إلى قولها منذ نحو ربع قرن: "نحن على الفيض الرباني" ولن نزال عليه إن شاء الله. المقابلات الرسمية: استقبلت الوزارات المقصودة كلها الوفد كله، فكان رئيس الوفد الدكتور ابن جلول يقدم الوفد للوزير واحدا واحدا ثم يلقي كلمات في التعريف بالوفد ومقاصده وما يناسب مقام زيارة الوزير ثم يتكلم الوزير بما يدل على الترحيب وحسن القبول ثم يتلو الكاتب العام للجنة المؤتمر الأستاذ ابن الحاج مطالب الوفد وهي التي قررها المؤتمر ويشرحها مطلبا مطلبا شرحا وافيا ثم يجيب الوزير عن تلك المطالب ويناقش في بعضها ثم تكون كلمات من بعض الأعضاء في أثناء الحوار. هذه هي الصورة الإجمالية العامة لجميع المقابلات على ما يختلف من التفصيل في كل وزارة بما يناسبها. عند م. فيوليط: هو أول من زرنا ولما أجاب عن المطالب قال قد أكون نسيت شيئا فذكره الأستاذ العمودي بمطلب حرية التعليم العربي فأخذ في مدح العربية وأنها لغة تاريخية ولغة علم فمن المحال أن أحدا يبغضها أو

عند وزير الداخلية

يقاومها فقلت له: لكن مع الأسف إن اللغة العربية محاربة بالفعل من الإدارة الجزائرية وأن المسلمين يشعرون من أجل ذلك بألم شديد. ونبهت بعض الإخوان إلى أن م فيوليط لما كان يتكلم على المطالب كان يتكلم بفصاحة واسترسال فلما أخذ في الكلام على العربية لم يكن كما كان. فوافقوني على ذلك وقد كانوا تنبهوا له مثلي. صحيح أن م فيوليط يحب الخير للمسلمين ولكنه لا يحب لهم ما يعرقلهم عن الاندماج التدريجي، وليس كل ما يحبه لنا أحد عن حسن نية هو مما نحبه نحن لأنفسنا. وقابلنام فيوليط مرة ثانية- الشيوخ الثلاثة والدكتور ابن جلول والأستاذ القلعي- فوضَّحنا له مطالب المؤتمر في الحرية الدينية وحرية التعليم بالمساجد لكل عالم مسلم وتأسيس جمعيات دينية في كل ناحية باختبار أهلها وذكر له الأستاذ الإبراهيمي الظلم الواقع من الإدار الجزائرية في هذه الناحية من حياة المسلمين، الظلم الذي لم يبق فيه من خفاء كما لم يبق عليه من صبر. فوعد بأنه سينظر المسألة مع رئيس الوزراء. عند وزير الداخلية: ولم تمكن مقابلة نفس الوزير- لتنقلاته في البلدان بسبب الاعتصابات- فقابلنا الكاتب العام للوزارة م أوبو وهو رجل راديكالي صميم وممن كلمه الأستاذ العقبي فقال له: نريد أن نعامل في الجزائر بما يعامل به غيرنا من سكانها من الطليان والأسبان فإننا نعامل بها أدنى من كل جنس. فوعد الوزير بالنظر في الحالة وأنه سيقدم هو إلى الجزائر بنفسه. عند وزير الحربية: م دالاديه راديكالي من يمين الراديكال وقد صارحنا بأنه لا يمكن

عند رئيس الوزراء

أن يوافق على إعطاء النيابة بالبرلمان ما دمنا محافظين على الشريعة الإسلامية في حقوقنا الشخصية وصرح بأنه يكون مع المعارضين إذا عرضت المسألة في البرلمان. والذين يعرفون م دالاديه لا يستغربون منه هذا ورأيه هذا هو رأي الراديكاليين إلا القليل فلو عرضت مسألة النيابة في البرلمان ولقيها م دالاديه وأكثرية حزبه بالمعارضة مع من يعارضها من أحزاب غير الجبهة الشعبية لقضي عليها بالفشل قطعا. عند رئيس الوزراء: لطف وبشاشة وجاذبية: هذه الصفات التي يمتاز بها- مجموعة- م بلوم على كل من لقيناه من رجال الحكومة الفرنسية. بعد خطاب رئيس الوفد وشرح الكاتب لمطالب المؤتمر تكلم كبير الوزراء وافتتح كلامه بقوله: "إنني مسرور بزيارة مسلمين ليهودي وديموقراطيين لديموقراطي وفرانسويين لفرنسوي" وبهذه الروح ألقى جميع خطابه. كلمة لكبير الوزراء: قدمت قبل اليوم مطالب الأمة الجزائرية مرات عديدة بطرق متعددة وكانت تقابل بقبولها للنظر فيها وبالوعد بإنجاز بعضها ثم لا يكون بعد ذلك شيء من الوفاء من الواعدين، ولا شيء من الاستياء من الموعودين. غير أن هذه المرة لم تكن كتلك المرات في جميع ما يحيط بها، وبالطبع لن تكون مثلها فيما ينشأ عنها من نفع عند الوفاء أو ضرر عند الاخلاف. فأحببت أن أصارح كبير الوزراء بالعاقبة السيئة التي تكون لخيبة الأمة الجزائرية في مطالبها هذه المرة إذا خابت، فقلت له- بحضور الوفد كله والمترجم رئيس الوفد-: "الأمة الجزائربة المتألمة ليس ألمها ضد جنس ولا ضد دين ولا ضد فرنسا، وإنما ألمها ضد الظلم، ولهذا لما جاءت الحكومة الشعبية وتوسمت فيها الحرية والعدالة

مقابلات الأحزاب الشعبية

أعطتها كل ثقتها وأعلنت سرورها بها وأرسلت هذا الوفد فإذا رجعنا إليها ببعض مطالبها زادت ثقتها، وإذا رجعنا بأيدينا فارغة انعكس ذلك الفرح وحصل عن انعكاسه ضرر عظيم يستغله أضدادنا وأضداكم" فأجابني- باندهاش-: "كيف ترجعون بأيديكم فارغة وأنا أشتغل وحبيبي فيوليط من الآن في مطالبكم" فقال م فيوليط: "قبل الأحد ينجز العمل" وقد كنا لخصنا من المطالب بعضا منها لينجز ونرجع به في أيدينا وهو الذي دار عليه هذا الحديث. ولكن بعد هذا كله ها نحن قد رجعنا بأيدينا فارغة وما زالت فارغة إلى الآن. نعم فيها وعود وفيها آمال، وسنصبر هذه العطلة الصيفية على كل حال. مقابلات الأحزاب الشعبية: أكبر الأحزاب الشعبية التي تتألف منها الجبهة الشعبية هي الحزب الاشتراكي والحزب الراديكالي والحزب الشيوعي. وقد زار الوفد الأحزاب الثلاثة كلا في قسمه الخاص به من دار البرلمان، فأما الإشتراكيون والشيوعيون فقد كانوا موافقين على مطالب المؤتمر كلها، وأما الراديكاليون فكان منهم الوفاق على جملة المطالب لا على تفصيلها، وظهر منهم احتراز وتريث، وأشاروا إلى إرسال لجنة برلمانية لبحث الحالة وهذا هو الذي قررته الحكومة بعد كما هو معلوم. مقابلة الصحافة: عيَّن رئيس الوفد وقتا لمكاتبي الصحافة الباريسية في قاعة النزل الذي كان به الوفد فاستقبلهم الوفد فيها في الوقت المعين وبينت لهم المطالب وقد كتبت الصحافة بعد كل بحسب مشربه ولكن الأمر الذي كان حاصلا ولا محالة هو لفتها الرأي العام الفرنسي للمسألة الجزائرية الإسلامية لفتا جديا لم يكن قد حصل على هذا الوجه من قبل.

النتيجة المحققة

النتيجة المحققة: 1 - أدى الوفد مطالب مؤتمر الأمة الجزائرية المسلمة بصدق وأمانة وشرف. 2 - عرفت فرنسا حكومتها وأحزابها وصحافتها أن وراء البحر أمة جزائرية إسلامية تطالب فرنسا بحقوقها وتحافط تمام المحافظة على شخصيتها ومقومات شخصيتها. وهذان الأمران- وما حصلا قبل اليوم- لهما قيمتهما في حياة الجزائر وبناء مستقبلها. والأخير منهما هو الأساس الذي يجب أن يبني عليه كل عمل للجزائر والنهج الذي يجب أن يسير فيه كل من يتولى قيادة ناحية من نواحي سيرها في الحياة. وكل من حاد عنه قولا أو عملاً فإنه يعد خائنا للأمة ويجب أن يعامل بما يستحقه الخائنون. وقد رأينا اقتناعا به ممن لم يكن منه من قبل على يقين وسمعنا اعترافا به ممن كان قبل فيه من المتشككين. وإذا كنا نسمع أحيانا نعقات بما يخالفه فهي من شذاذ لا تخلو منهم أمة، ولا يزيدهم ذلك إلا بعداً عن الأمة وإسراعا في دركات السقوط إلى هاوية المقت وقرارة النسيان. العودة إلى الوطن: رجعنا وأكثر الرفاق يظن أن المطالب المستعجلة إذا لم تكن صاحبتنا فإنها لا تتأخر عنا بأكثر من أسبوع وإذا تقاعست وتباطأت فلا أكثر من شهر. أما أنا فلم أكن مع الأسف على هذا القدر من الرجاء. فالجبهة الشعبية تعتمد في بقائها على الراديكاليين وهؤلاء ما يزال فيهم من عرفنا سياستهم الإستعماوية في العهد القديم وهم ما يزالون عليها في العهد الجديد. وقد سمعت منهم حديث لجنة البحث فحق لدي ما ظننته فيهم وتوقعته منهم فكنت أعتقد أن المطالب ستتأخر

واليوم ... !

وأنَّ هذا الصيف لا يكون فيه شيء ولكن لا بد من التمسك بحبل الرجاء إلى حين. وقد صدق الواقع ظننا وها أن الصيف قد مضت، وها أن لجنة البحث قد تعينت وها نحن من المنتظرين. واليوم …! إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته … على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حد السيف من أن تضيمه … إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل (1)

_ (1) ش: ج 7، م 12 ص 304 - 311 غرة رجب 1355هـ - أكتوبر 1636م.

نحن مسلمون وكفى

نحن مسلمون وكفى إن الإسلام الذي ندين به، وهو دين الله الذي أرسل به جميع أنبيائه. وكمل هدايته وعمم الإصلاح البشري به على لسان خاتم رسله، هو دين جامع لكل ما يحتاج إليه البشر أفرادا وجماعات لصلاح حالهم ومآلم، فهو دين لتنوير العقول وتزكية النفوس وتصحيح العقائد وتقويم الأعمال. فيكمل الإنسانية وينظم الإجماع ويشيد العمران ويقيم ميزان العدل وينشر الإحسان. فلا يحتاج بعده إلى ما يتناحر عليه الأوروبيون من مبادئ أحزاب وجمعيات ليس في استطاعة شيء منها أن يصلح حالهم لا في السياسة ولا في الاجتماع دع عنك الأخلاق والآداب. كما أنه لا يسلم واحد منها من قواعد منافية للفطرة أو مجانبة للعدل أو ضعيفة في العقل فالمسلم بطبيعة إسلامه بعيد عن كل هذه الجمعيات والأحزاب. وهذه هي حال السواد الأعظم من المسلمين في جميع الأقطار. يجهل بعض الكتاب الأوروبيين هذه الحقيقة أو يتجاهلونها، فتراهم يرمون المسلمين في كل حركة من حركاتهم بمبادئ الأحزاب الأوروبية ذات النفوذ والشهرة في أوروبا. وللقارىء نموذجا من ذلك: النمسا- الدعاية الهتلرية في إفريقيا الشمالية وفلسطين: فيينا في 2: لمراسل البلاغ الخصوصي- يؤخذ من المعلومات التي أذاعتها صحيفة تلغراف عن نظام الدعاية الهتلرية في إفريقيا الشمالية وفلسطين أن مجموع ما أنفق على هذه الدعاية التي جعل مركزها

الدعاية الألمانية في إفريقيا الشمالية

الأساسي في برلين بلغ 000 ر0 36 ر 3 مارك في الشهر، وقالت أن الغرض من هذه الدعاية هو إثارة العالم الإسلامي ضد اليهود وإنجلترا وفرنسا وإعداد العدة لفتنة تقوم في إفريقيا الشمالية الفرنسية في حالة نشوب الحرب. "البلاغ" الدعاية الألمانية في إفريقيا الشمالية: باريس- نشرت جريدة "الرجل الحر" التي تصدر في باريس فصلا قالت فيه: هل من واجبنا أن لا نغفل هذه المسألة الحيوية بالنسبة لسيادتنا في الشمال الإفريقي. أن مذبحة مدينة قسنطينة والقلاقل الأخيرة التي أثارها الدستور في جهات الساحل بالبلاد التونسية ليست إلا إنذارات يجب علينا ألاَّ نهمل أمرها وألاَّ نغفل نتائجها. ولهذا يجب أن نظهر في هذه الأراضي الإسلامية، وإذا كانت قوانا لا تصل حتى ترتكب الشدة أو الإرهاق فإن عفونا وتسامحنا ليس منشؤهما الضعف. يجب أن يقع تتبع تأثيرات هذه الدعاية الهتلرية أو الوطنية أو الثورية بغاية اليقظة والنشاط، تلك الدعاية التي إذا غفلنا عنها تسببت لنا في متاعب جمة. "الزهرة" ومما يجب أن يلاحظ هنا أن الذي كنا نرمي به هو الدعاية البلشفية، والذي صرنا نرمى به هو الهتلرية، ومن المعروف أن روسيا البلشفية قد دخلت في عصبة الأمم وأخذت كرسيا دائما فيها كسائر الدول العظام وأصبحت معترفا بها كدولة كبرى وكل ما كانت تأتيه "يبس وتحتت وطارت به الأرياح" فلم يبق من وجه لرمينا بالبلشفية والدعاية البلشفية. ولكن هتلر اليوم هو لينين بالأمس، فلتكن الهتلرية

هي الكرة التي ترمى بها الأمة المستضعفة. وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن هذا الرمي بالهتلرية بعد البلشفية لم يكن عن جهل وإنما كان عن مكر وسوء قصد. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (1).

_ (1) ش: ج 11، م 10، ص 482 - 484 غرة رجب 1353هـ- أكتوبر1934م.

ليست الزردة وحدها

ليست الزردة وحدها ولكن وراء الأكمة ما وراءها ... ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: حقا أن الزردة التي أقامها الدكتور بقسنطينة وترأسها ودعا إليها، ونشر عنها المقالات الطويلة أياما متوالية في جريدة (لا ديبش) اليومية، لمنكر طريف، وحادث عجيب، شغل الناس بما فيه من نكر وما فيه من طرافة حتى كاد ينسيهم كل ما أتى به الدكتور من أعمال ضارة وما سلكه من سبل معوجة، فلربما حسب قوم أن الزردة هي كل ما تنقمه الجمعية عليه، ولربما استكثر قوم هذه النقمة على أمر حقير إذ ليس بالخطير ولكن الحقيقة خلاف هذا الظن ووراء هذا الحسبان وليس من النصح أن تبقى الحقيقة مكتومة عن الناس ففي بقائها مكتومة الحيرة والاضطراب والضلال وفي بيانها الهدوء والاطمئنان وإنارة السبيل للعاملين. وها نحن نبيِّنها في الكلمات التالية مكشوفة دون أي تقبيح أو تحسين، حتى يحكم القراء بأنفسهم حكما غير متأثرين فيه إلا بالحقيقة المجردة. كيف كنا معا: لقد كانت الجمعية مضطهدة من الحكومة ومعاكسة في أعمالها من أول نشأتها وكان ما تنقمه الحكومة عليها بعثها النهضة العلمية والدينية في الأمة الجزائزية بعد طول رقادها ويأس القانطين والمقنطين من يقظتها. فلما جاءت الحركة السياسية وتقدم رجال أحرار للنيابة عن الأمة، وكان جميع المنتمين للجمعية- بطبيعة علمهم وبصرهم

كيف افترقنا

لا بوحي جمعيتهم- مع النوابه الأحرار، وفاز النواب الأحرار في أكثر الدوائر، لما كان هذا كله زادت نقمة الحكومة على الجمعية واعتقدت تأييد الجمعية للنواب الأحرار ونسبت يقظة الأمة وحسن اختيارها وعدم امتثالها للإيعازات وعدم خوفها من التهديدات، إلى ما بثته فيها الجمعية من حياة. وأخذت من يوم ذاك هي والصحافة الفرنسية الباريسية والجزائرية تقرن النواب الأحرار والجمعية في قرن عندما تكيد أو تقذف أو تغري أو تهاجم مع تخصيص الجمعية بالقسط الأوفر من الأذى والتهويل والإثارة للفكر الفرنسي العام. ومن العجيب أن الدكتور كان، دون سائر النواب الأحرار، ينفس على الجمعية هذا البلاء ويحسدها على هذا العذاب، ويكره أن تكون لها تلك السمعة في الصحف، وأن يكون للمنتمين إليها ذلك الأثر في فوز النواب الأحرار، وكان يظهر ذلك في مجالسه وأمام من هم معه من الساسة، ولكنهم لا يرون رأيه في الجمعية. وكان كلام الدكتور يبلغنا- ولا محالة- وكنا لا نلقي له بالا حرصا على اتفاق الكلمة وإبقاء على وحدة الأمة. وكنا- رجال الجمعية- لا يكون موقف عام إلا أيدناه، ولا موطن يقتضي التقدم إلا قدمناه. حتى جاء المؤتمر الذي بذل كل جهده في عرقلته وأبى الله إلا أن يتمه، فقدمناه رئيسا عليه. ولما جاء تأسيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر قدمه رئيس الجمعية لرئاستها فوقع الإتّفاق على قوله. ولما رجع الوفد وقفل هو ورئيس الجمعية إلى قسنطينة وخرجت البلدة كلها للقائهما في يوم مشهود، خطب رئيس الجمعية في تلك الجموع وقال لهم: (ثقوا بالله ثم بأنفسكم ثم برئيس المؤتمر) وكنا- علم الله- إلى ذلك اليوم، وبعد ذلك اليوم عاقدي العزائم على العمل معه في ظل المؤتمر إلى غاية ما نستطيع. كيف افترقنا: وقعت حادثة الاغتيال المشؤومة فاغتيل معها- والله- عقل الرجل.

طعنة من الخلف في أخطر الأوقات

وقال وكتب ما سبق به كل أعداء الجمعية إلى توجيه التهمة- تصريحا بالقول وتلويحا بالكتابة- إلى العلماء ورغم ذلك أغضينا وسكتنا. ووقعت حادثة الاعتقال الباغية فاهتبلها فرصة للإيقاع بالجمعية فطار الرجل إلى باريس يحمل معه تصريحاته إلى جريدة (مارساي ماتان) لما نزل بمرسيليا، تلك التصريحات التي لم يقل مثلها- مجتمعة- أحد من أعداء الجمعية والباغين لها الشر على كثرتهم فيها. ووقف على تلك التصريحات السيد طاهرات والسيد ابن الحاج العضوان في الوفد، وقد جاءا باريس مرة ثانية كما جئنا فأظهرا استنكارهما لها ودعواه إلى تكذيبها فوعد بتكذيبها. ووقفنا عليها ونحن بباريس فتريثنا بقدر ما انزعجنا، وانتظرنا التكذيب وانتظرنا، ولكن مضت الأيام والرجل لم يكذب فطلبنا منه التكذيب على لسان جريدة الجمعية وانتظرنا ثم انتظرنا وجاء الاجتماع العام للجمعية وعرضت مسألة تصريحاته على الاجتماع فقرر بالاجماع- إلا الأستاذ العقبي- القرار الذي نشر في العدد 39 من "البصائر" مع تعليق تنفيذ القرار على مضي ثمانية أيام دون أن يكذب. وكاتبه أثر تلك الجلسة الأستاذ العقبي بصفة خاصة يطلب منه كلمة تكذيب ينشرها في البصائر وتنتهي بها المسألة حسبما كان وعده فلم يفعل. فنفذ قرار الاجتماع العام واعتبر ضدا من أضداد الجمعية ليكون لكلامه عنها عند الحكومة وعند الناس قيمة كلام الضد لا قيمة كلام الصديق. طعنة من الخلف في أخطر الأوقات: في الوقت الذي أدخل فيه السجن الأستاذ العقبي ونجمت قرون الشر من كل جهة تنضنض بألسنة الباطل إلى الجمعية. يصرح الدكتور ابن جلول تلك التصريحات التي نعرف نحن وأمثالنا ممن تعودوا البهت الإداري أنه لا يحسن نسجها ولا يتقن وضعها ولا يحويها ذهنه.

آلة في يد الظلم

وإنما هي صنع معامل شيطانية تقدمها لمن يرضى لنفسه باستعمالها فيستعملها فيكون عليه غرمها ولها هي غنمها. أخبرنا نائب عمالي ذو شخصية، أن الدكتور عقد اجتماعا لجمعية النواب قبيل الاعتقال وأظهر من حنقه على الجمعية وعزمه على البطش بها ما أفزع ذلك النائب وتركه ليالي مهتما بما سيكون من الدكتور ضد الجمعية. وسألنا غيره ممن حضر ذلك الاجتماع فحققه لنا. وأخبرني بعض الرفاق في الوفد من النواب لما قدمت باريس بعيد قدوم الدكتور أنه قدم ممتلئا غيظا على الجمعية. وفي طريق قدمته تلك فعل فعلته في "مارساي ماتان". فالدكتور وجد من تلك التصريحات المحصلة لغرض غيره ما يحصل غرض نفسه فطعن بها الجمعية في نكبتها وأحرج أوقاتها طعنة حسبها هي القاضية عليها. فأنى له بعد هذا كله أن يكذب وكيف ينتظر منه أن يكذب؟؟ ولو أن هذه الطعنة لم تكن لها هذه الملابسات من قيمة فاعلها المباشر، ومدبرها المصاول، ووقتها المتخير، لما التفتنا إليها ولا ألزمنا بتكذيبها مثل ما ألزمناه. آلة في يد الظلم: لقد اتخذت لمحاربة هذه الجمعية آلاف … فأسست لأجلها الجمعيات والصحف، واستخدم نواب من ذلك الطراز المعلوم فدسوا الدسائس، وخطبوا في المجالس، وباء الجميع بالفشل والخسران المبين. ولقد قوومت هذه الجمعية بأنواع المقاومة وسوومت للتحول عن خطتها أو التساهل فيها بوجوه المساومة حتى سوومت بنصرها وتأييدها وتقديم رجالها وإجابة مطالبها على أن تتخلى عن النواب الأحرار وتنفض يدها منهم، فكانت إزاء ذلك كله الجبل الأصم الذي

وافق شن طبقة

لا يسمع والطود الأشم الذي لا يتزعزع. وكان جواب رجالها على المساومة الأخيرة أن كونوا المؤتمر الإسلامي الجزائري العام فأوقفوا الأمة كلها خلف النواب الأحرار، ووضعوا على رأسه ابن جلول، وأعلنوا ثقتهم بالحكومة الشعبية وأحزابها. هال هذا الموقف الجدي وهذا المظهر الرائع من الأمة الإسلامية الجزائرية نواحي لا تعيش إلا على فقر هذه الأمة وجهلها وتفرقها وعدته ذنبا جديدا من ذنوب الجمعية أتى على ما قبله وأفزع بما بعده فابتدأ من تلك النواحي موقفها الجديد وسلاحها الجديد، وكان من آثار ذلك الموقف حادثة الاغتيال والاعتقال ورمي الشيخ الحبيباتني بالرصاص، وكان من السلاح الجديد حضرة الدكتور الزعيم …! وافق شن طبقة: فبينما تلك النواحي تحرق الارم على الجمعية التي لم يكفها جمع الأمة على العلم والدين والتهذيب حتى عملت على جمعها على هذا المؤتمر العظيم، وتسف للدنايا لتنسف الجمعية نسفا وتصم رجالها- كذبا وزورا- بكل إفك وشين، إذا بها: تلك النواحي تسمع زمجرة الدكتور ووقيعته في الجمعية وبغيه لها الكيد. وبينما هو الآخر يتحرق من الغيظ على الجمعية التي عملت على تكوين مؤتمر يظهر فيه رجال وتوزن فيه الأعمال، ويسمع فيه الزعيم ما لم يعتد سماعه من انتقاد، إذا به يشاهد أيديا من تلك النواحي تلوح له بالرضاء وما وراء الرضاء، وتوميء إليه بالقضاء على أولئك العلماء المشوشين المتدخلين في السياسة كل القضاء، فأسرع إلى الأحضان وأصبح الحبيب المقرب والصديق الممدح، الذي تفتح له الأبواب، وتفسح له الرحاب، ويدخل بلا استئذان، ويناديه متصرف "بريفي" قسنطينة من نافذة سيارته في طريق سكيكدة "سالي دكتور … "

الأمة حكمت وأبرمت

ويعطيه الماليون المعروفون قناطير الفارينة ورؤوس البقر ليقيم زردة لأموات وجه الأرض على أموات بطنها، وإن كان الذين أوذوا واضطهدوا من جرائه أيام كان- وا أسفاه- ما زالوا من آثار ذلك في الذل والفقر يتخبطون. كل هذا لحضرة الدكتور على أن يعمل على هدم الجمعية وهدم المؤتمر. وقد عمل لذلك بقوله وعمله وكتاباته، وما زال يعمل، ولكنه خائب إن شاء الله. الأمة حكمت وأبرمت: لم تزد الجمعية من يوم أيست من رجوعه عن طعنته لها، على أن أعلنت أمره للأمة وخلت الحكم عليه لها، ولقد شاء الله أن يكون حكم الأمة عليه سريعا فحكمت بإسقاطه من رئاسة مؤتمرها. ثم حاول منذ أيام بمكتوب نشره هو والسيد ابن الحاج أن يجمع لجان المؤتمر من العمالات الثلاث إلى سطيف لتعيد النظر في أمر عزله لأن عزله- زعم- لم يكن بالأكثرية، فكان من تلك اللجان أن أمطرت للسيد ابن الحاج ببرقيات الاحتجاج على استبداده بالدعوة إلى سطيف وظهوره بمظهر الموافق على ذلك الزعم. فما وسع السيد ابن الحاج إلا الرضوخ وحاول أن يتدارك الأمر فأبرق إلى أعضاء تلك اللجان مساء الجمعة الماضية بتحويل الاجتماع إلى الجزائر فأعرضت عنه اللجان وأصبح يوم الأحد الماضي المعين للاجتماع، وهو ينتظر الوافدين في محل بإحدى المقاهي الإفرنجية فما وجد نفسه إلا في سبعة شطرهم جاء للاعتراض فكان هذا من الأمة الممثلة في لجان مؤتمرها بالعمالات الثلاث، إبراما لما كانت حكمت به من عزل الدكتور من رئاسة المؤتمر، وتلك عاقبة الظالمين. وبعد: فهل أدرك الدكتور ضيقة أمره، وشعر بنفسب الأمة عليه

فأخذ يتراجع عن غيه، ويتدارك من خطئه ليعود إلى بعض مقامه عند قومه؟ أم هو ما يزال جادا في سيره حتى يصل من منحدره إلى النهاية. ومن يعص أطراف الزجاج فإنه … يطيع العوالي ركبت كل لهذم (قسنطينة) عبدالحميد بن باديس

_ البصائر: س 1 عدد 43 الجزائر يوم الجمعة 28 شعبان 1305هـ الموافق ليوم 13 نفامبر 1936م الصفحه 1 - 2 والباقي تابع لصفحة 3 في أسفل عمود 1.

الجنسية القومية والجنسية السياسية

الجنسية القومية والجنسية السياسية تختلف الشعوب بمقوماتها ومميزاتها كما تختلف الأفراد. ولا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته ومميزاته كالشأن في الأفراد. فالجنسية القومية هي مجموع تلك المقومات وتلك المميزات. وهذه المقومات والمميزات هي اللغة التي يعرب بها ويتأدب بآدابها، والعقيدة التي يبني حياته على أساسها، والذكريات التاريخية التي يعيش عليها وينظر لمستقبله من خلالها والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات. والجنسية السياسية أن يكون لشعب ما لشعب آخر من حقوق مدنية واجتماعية وسياسية مثل ما كان عليه مثل ما على الآخر من واجبات اشتركا في القيام بها لظروف ومصالح ربطت ما بينهما. ومن الممكن أن يدوم الاتحاد بين شعبين مختلفين في الجنسية القومية إذا تناصفا وتخالصا فيما ارتبطا به من الجنسية السياسية التي قضت بها الظروف واقتضتها المصلحة المشتركة. فإذا لم يرتبطا بالجنسية السياسية فلا بد لهما- مهما طال الأمد- من أحد أمرين: إما أن يندمج أضعفهما في أقواهما بانسلاخه من مقوماته ومميزاته فينعدم من الوجود. وإما أن يبقى الضعيف محافظا على مقوماته ومميزاته فيؤول أمره- ولا بد- إلى الانفصال. وبعد فنحن الأمة الجزائرية لنا جميع المقومات والمميزات لجنسيتنا القومية وقد دلت تجارب الزمان والأصوال على أننا من أشد الناس محافظة على هذه الجنسية القومية وإننا ما زدنا على الزمان إلا قوة

فيها وتشبثا بأهدابها وأنه من المستحيل إضعافنا فيها فضلا عن إدماجنا أو محونا. أما من الناحية السياسية فقد قضى قانون- 1865 - باعتبارنا فرنسيين لكنه تفذ وينفذ تنفيذا جائرا فيفرض علينا جميع الواجبات الفرنسية دون حقوقها فكنا كما قال الشاعر: وإذا تكون كريهة ادعي لها … وإذا يحاس الحيس يدعى جندب أو كما يقول مثلنا الدارج "وقت الدوا هاتوا بو نافع، وقت الشفا طيشوا الدرياس" صبرنا على هذا الحيف طويلا وعالجناه بما استطعنا مرات كثيرة من جهات عديدة حتى جاء الوقت الذي نفد فيه الصبر وأعيا العلاج فقلنا البيت الثاني من قول الشاعر المتقدم: هَذَا وَجِدَّكُمُ الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ … لاَ أُمُّ لِي إِنْ دَامَ ذَاكَ وَلاَ أَبُ فنهضت الأمة نهضتها بمؤتمرها الفخم الجليل وقررت فيه بالإجماع "المحافظة التامة على المميزات الشخصية، والمطالبة بجميع الحقوق السياسية" وأدرك أقطاب الواجهة الشعبية أحقية هذا الطلب وأدركوا أن لا بقاء للأمة الجزائرية مرتبطة بفرنسا إلا إذا أعطيت حقوق الجنسية الفرنسية السياسية مع بقائها على جنسيتها القومية بجميع مميزاتها ومقوماتها فتقدموا لمجلس الأمة الفرنسي بالقانون المعروف اليوم ببروجي بلوم- فيوليط وتلقاه الذين يقدمون مصالحهم الفردية والاستعمارية على مصالح فرنسا الحقيقية بما هو معروف من معارضة بذية ظالمة منكرة وتلقته الأمة الجزائرية التي ترضى بالارتباط بفرنسا في حقوقها وواجباتها- وهي الجنسية السياسية- ما دامت محترمة في جنسيتها القومية وهي تلك المقومات والمميزات بشرط لا بد منه: وهو أن يكون التساوي تاما في جميع تلك الحقوق دون تخصيص لحق دون حق ولا تمييز لطبقة عن طبقة.

ولهذا اعتبرت بروجي بلوم- فيوليط قليلا جدا بالنسبة لحقوقها وإنما تقبله اليوم كخطوة أولى فقط يجب بعد تنفيذها أن يقع الاسراع في بقية الخطوات إلى تحقيق التساوي التام العام الذي هو الشرط الطبيعي في سنن الاجتماع في بقاء الارتباط بصفاء وإخلاص. واذا لم يكن فلا عتب على الزمان، وما شاء الله كان. إننا بكلامنا هذا نعرب عن فكر الأكثرية العظمى من الأمة الإسلامية الجزائرية. ونعلن أن هنالك من لا يرضيهم هذا ومن لهم نظرات أخرى لها حظها من الاعتبار. وإننا نتحقق أن الموقف الذي يقفه البرلمان الفرنسوي يوم تعرض عليه المسألة هو الذي يوجه الأمة الجزائرية إحدى الوجهتين فالمستقبل بيده. والأمر لله من قبل ومن بعد (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 12، م 12 غرة ذي الحجة 1355هـ- فيفري 1637م.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أمام لجنة البحث البرلمانية ــــــــــــــــــــــــــــــ مساء الخميس 5 صفر الجاري 16 أفريل قابلت لجنة البحث البرلمانية بقصر الجمعيات بالعاصمة هيئة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باسم الجمعية. وكانت الهيئة متركبة من الشيخ: عبد الحميد ابن باديس، البشير الإبراهيمي، مبارك الميلي، العربي التبسي، الأمين العمودي. قدم الرئيس كراس المطالب للجنة وتلاه عليها الشيخ العمودي ي وشرح لها بعض نقط فيه. فصل الجزائر عن فرانسا: بادرنا الرئيس بأن للجمعية خصوما كثيرين وأنهم يقولون أن في جريدة الجمعية دعوة إلى فصل الجزائر عن فرنسا. فأجبته بأن هذا الفصل لم يفكر فيه أحد من الجمعية فلا وجود له- قطعا- في جريدة الجمعية. نظرنا في إصلاح الحالة: سألنا عن نظرنا في إصلاح الحالة فأجبته بأنني أحقق لهم قبل كل شيء أمرين وهما: 1 - أن كل محأولة لحمل الجزائريين على ترك جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو تاريخهم أو شيء من مقوماتهم فهي محاولة فاشلة مقضي عليها بالخيبة، والواقع دل على هذا.

بروجي فيوليط والحالة الشخصية

2 - وأن الحالة التعيسة التي بلغت إليها الأمة الجزائرية- وقد اطلعتم أنتم عليها أكثر من غيركم- لا يمكن أبدا أن يستمر صبر الأمة الجزائرية عليها أكثر مما صبرت. فالواجب- إذاً- هو إعطاء الأمة الجزائرية جميع الحقوق مع محافظتها على جميع مقوماتها. هنا سألنا أحد أعضاء اللجنة من جماعة اليمين: إذاً فأنتم ترون أن فرنسا والجزائر شعبان اثنان؟ فأجبته بأننا نراهما كذلك، وهما في الواقع وبالطبع كذلك، ولا يمنع هذا من تعاونهما كأخوين لا كسيِّد وعبد. بروجي فيوليط والحالة الشخصية: سألنا عن بروجي فيوليط فأجبته بأن بروجي فيوليط ما حاز القبول الذي حازه إلا لما فيه من التصريح بالمحافظة على الحالة الشخصية، مع أن ما فيه إنما هو نزر قليل جدا من الحقوق المطلوبة. رأينا في إلزام الحكومة المسلمين برفض الأحكام الشرعية: سألنا الرئيس عن رأينا لو أن فرنسا أصدرت أمرا بطرح المسلمين الأحكام الشرعية لتعطيهم الحقوق الفرنسية، فإنهم فهموا من بعض الناس أن المسلمين يصبرون لذلك كما صبروا لقانون إلزامهم بالعسكرية. فأجبته بأن قياس أمر رفض الشريعة الإسلامية على أمر التجنيد الإلزامي، غلط فاحش وقياس مع الفارق. فإن المسلمين لما ألزموا بالجندية علموا أنهم مظلومون أفدح الظلم بتقديمهم للموت مع حرمانهم من حقوق الحياة، ولكنهم صبروا على ذلك لأمرين: الأول أنهم يشعرون ببقاء ذاتيتهم، والثاني أنهم يعتقدون أنه يأتي يوم يدرك فيه رجال من فرنسا فداحة هذا الظلم فيزيلونه بإعطائهم حقوق الحياة

تجزئة الأحكام الشرعية

التي يتمتع بها غيرهم. أما إذا ألزمت فرنسا المسلمين برفض شريعتهم والتخلي عن ذاتيتهم فإنهم يشعرون بالضربة القاضية عليهم بالعدم التام. أنا أعتقد أنكم وأمثالكم تبحثون عن وجه في الإصلاح ينقل الجزائر من حالة اضطراب إلى حالة استقرار. وأنا أحقق لكم أنكم إذا ألزمتم الأمة الجزائرية المسلمة برفض شريعتها والتخلي عن ذاتيتها فإنكم تكونون قد وضعتم أمرا يؤول بالجزائر إلى اضطراب أعظم لا تدرى عاقبته. تجزئة الأحكام الشرعية: سألنا ماذا تقولون لو صدر الأمر بمنع تعدد الزوجات خاصة، فأجبته بأن الشريعة كلٌّ لا يجوز للمسلم تجزئته، فتقبل كلها أو ترد كلها. جبر البكر: سألنا عن جبر البكر فأجبته بأن هذه من الفروع الخلافية التي يسوغ للمسلمين أن يتوسعوا فيها باتباع من شاءوا من أئمتهم. مجلة (الشهاب) ومقاومة الاندماج: جاء أحد الأعضاء بمقالات مترجمة من مجلة (الشهاب) فيها الإشادة بالعروبة والإسلام والمحافظة عليهما، وعدم الاندماج في الأمة الفرنسية، فسألنا الرئيس عما فيها، فأجبته بأن مجلة (الشهاب) ليست مجلة الجمعية وإنما هي مجلتي، وأنا أجيبك عنها بصفتي الخاصة: أولا- أنا لا أثق بترجمة المترجمين في الإدارة لأنني جربت عليهم الخطأ والاقتصار على ما لا يفهم المراد بل يفهم خلافه، لأن الكلام يبين بعضه بعضا. وثانيا- أنا أقول لكم- كما أصرح دائما-: أننا عرب مائة في المائة ومسلمون مائة في المائة لا نتنازل عن شيء من ذلك، ونحن مع فرنسا كأخ مع أخيه لا كسيد مع عبده. وأقر أعضاء هيئتنا ما قلته فكان رأي الجميع.

تقييد في محله

تقييد في محله: لما قلت أننا مع فرنسا قال الشيخ العمودي ما لم تنفرنا هي. وعود نرجو أن تتحقق: وختم المجلس باعراب الرئيس عن اهتمام اللجنة بمعرفة الحقائق لتتوصل إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل، وأن تعمل جهدها لتنال الجزائر رغائبها، فأجبناه بالشكر له ولأعضاء اللجنة كلهم على ما بذلوا من جهد، وأعربنا لهم عما للجزائر فيهم من ثقة وما تعلقه عليهم من أمل. ثم ودعناهم راجين لهم رحلة سعيدة مثمرة يكون لها أثرها المحمود عند الجزائريين. عبد الحميد بن باريس

_ البصائر: السنة الثانية العدد 66 الجمعة 25 صفر 1356هـ، 7 ماي 1937م ص 1 (باقى ص 2 أسفلها).

دعوة وبيان

دعوة وبيان إلى عموم الشعب المسلم الجزائري الكريم ــــــــــــــــــــــــــــــ إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعلم ما تجتازه الأمة اليوم في طريق نهضتها من وقت حرج، ومصاعب جمة، وما يحف بها من أخطار، وما ينصب لها من عراقيل، وما يتجاذبها من عوامل التفريق من الخارج ومن الداخل، وأن الجمعية التي بثت روح النهضة في الأمة بما دعت إليه من الرجوع إلى الكتاب والسنة والمحافظة على الجنس واللغة، والاعتزاز بالإسلام والعروبة حتى عرفت الأمة نفسها، ووجهت للحياة السعيدة رغبتها، ووجد السبيل إلى مخاطبتها وتفهيمها من أراد- بحق أو بباطل- قيادتها أن الجمعية التي بثت هذه النهضة هي حارستها في جميع أطوارها والمدافعة عنها بكل ما لديها، والصابرة على البلاء من القريب والبعيد في سبيلها. إن أعداء الأمة الذين تمثلهم الجرائد الاستعمارية الكبرى هنا وهنالك ويصدع بأمرهم كراسي متنوعة، ما فتئوا يوالون ضرباتهم، ويعيدون هجماتهم على الجمعية لأنهم يرون فيها حياة الأمة ويشاهدون فيها السد الحصين دون ما يرغبون من ذوبان الأمة وانحلالها لإفنائها وابتلائها وتنقصها من أطرافها فكل ما تجتازه الأمة اليوم وما تعانيه وما تلاقيه هو ما تجتازه الجمعية وما تعانيه وما تلاقيه على أبلغه وأشده، لأن الجمعية هي الأمة، والأمة هي الجمعية. إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- كالمسلمين الجزائريين- جبلت على النضال والمقاومة والصبر والمصابرة وقد صبرت لغشم

الحكومة وأذنابها وكيد الاستعمار وجرائده، ولن تزال ثم لن تزال. ولقد ولدت الأيام الجارية والظروف الحاضرة مقاومين جددا ينطحون صخرتها برؤوسهم الحاسرة وينحتون أثلتها بأظافرهم المتآكلة ويضربون على نغمات من تقدمهم من أعداء الأمة والجمعية ويخدمون عن علم أو عن غير علم، مقاصد من يحاربون في الجمعية روح الإسلام والعروبة، فهنالك في عمالة قسنطينة وهنا بعمالة الجزائر من يعملون لرفع أنفسهم بالحط من الجمعية ويموهون على الأمة بما يقولونه عليها وعلى رجالها فمرة يربطون الجمعية بحزب من الأحزاب الأجنبية، والجمعية لا تنتمي لحزب ولا تعادي حزبا إلا من حارب الإسلام والعروبة فإنها تكون عليه- كائنا من كان- بلاء وحربا، ومرة يصمونها بالتدخل في السياسة والجمعية ما تدخلت في سياسة الكراسي والنيابات والمكاتب والممرات … وإنما وقفت الجمعية في مؤتمر الأمة تضع مطالب الدين واللغة وشروط المحافظة على الجنسية والشخصية. ومثلت ذلك كله بلسانها وهيئتها أصدق تمثيل. يا هؤلاء! … إن الجمعية ليست عاجزة عن مقاومتكم وإظهار خطئكم وكشف باطلكم. ولكنها تعلم ما تحتاج إليه الأمة اليوم من اجتماع الكلمة وعدم الفرقة وتوحيد الصفوف، فلهذا تركتكم وتترككم راجية لكم أن تدركوا حقيقة الموقف فتعملوا بما يقتضيه. أيها الشعب الجزائري الكريم! ... قد بينت لك جمعيتك حقيقة الموقف وحرجه، وكشفت لك شيئا مما تعانيه أنت وتعانيه هي من الأقرباء والبعداء وهي تدعوك إلى التبصر والتثبت والاتحاد والتجمع والتنبه والتيقظ، وتحثك على الاعتماد على الله وحده، ثم على نفسك والصادقين من أبنائك، وما الصادقون إلا الذين يحافظون بأقوالهم وأعمالهم ومواقفهم على إسلامك وعروبتك

وجميع مقوماتك، يناضلون بالنفس والنفيس عن جميع حقوقك، وهم فيك اليوم إن شاء الله كثيرون وسيكونون أكثر والله أكبر!. الجزائر 5 جمادى الثانية 1356هـ عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة الثانية العدد 79 الجمعة 12 جمادى الثانية 1356ه 20 أوت 1937 م ص 1 و 12 أسفلها.

نداء

نداء إلى رئيس المؤتمر الإسلامي الجزائري وإلى اللجنه التنفيذية ــــــــــــــــــــــــــــــ لقد علمتم أن الحكومة الفرنسية لم تجب أي مطلب من مطالب المؤتمر رغم وعد رئيس الوزارة يوم زاره الوفد بتنجيز بعضها المستعجل على رجاء أن تكون مطالب المؤتمر من أول ما ينظر فيه. غير أنه قد حدث اليوم ما دل على أن مطالب المؤتر غير ملتفت إليها ولا منظور فيه وذلك بما قررته الحكومة من تكليف اللجنة البرلمانية التي يرأسها قرنيت ببحث جديد لا ينتهي إلا بعد ثمانية عشر شهراً …! وبعد ذلك تأتي الوفود للبحث والسؤال المدقق ... فزيادة على ما في هذا من التسويف والمماطلة فإنه دليل قطعي على أن مطالب المؤتمر لا عبرة بها. وهذا يوجب على اللجنة التنفيذية أن تجتمع لتقرر قرارها الصريح الحازم وتقف موقفا جديا إزاء هذا الحادث الجديد ثم يكون من واجبها أن تدعو إلى عقد مؤتمر عام فوق العادة ليقرر قرارا إجماعيا من طلبات لا يخالف فيها أحد ويقرر قراراً إجماعيا في الموقف الذي تقغه الأمة الجزائرية إذا لم تجب إلى تلك المطالب في أجل محدود. وعليه فإني (كمسلم جزائري) أطلب من سيادة الرئيس أن يأمر اللجنة التنفيذية للمؤتمر بأن تجتمع في الخامس عشر من أوت الجاري.

هذا وأنا الآن قد أديت أول واجب من واجباتي في الوقت الحاضر بهذا النداء. والله المستعان على إتمام الواجبات الأخرى (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 6، م 13، ص 294 غرة جمادى الثانية 1356ه - أوت 1937م. وأعيد نشر هذا النداء في جريدة البصائر السنة الثاتية العدد 78 الجمعة 5 جمادى الثانية و 1356ه - 13 أوت 1937م ص 6، ع 2.

هل آن أوان اليأس من فرنسا؟

هل آن أوان اليأس من فرنسا؟ إن الذين كانوا معنا يوم قابلنا رئيس الوزارة م بلوم باسم المؤتمر في جوليت من السنة الماضية، يعلمون تصريحه بأننا لا نرجع بأيدينا فارغة وأنه سيشرع في الحين القريب في تحضير مطالبنا المستعجلة، ويعلمون قول م فيوليط وهو بجنبة: ستحضر قبل يوم الأحد، ورجال ذلك الوفد يعلمون أنهم رجعوا بأيديهم فارغة. ولم يصدق لا الرئيس ولا الوزير. وقراء (الشهاب) لا ينسون ما كتبه (الشهاب) عن هذا الاخلاف وعن الوفد في عدد رجب وأكتوبر من السنة الماضية، والذين حضروا المؤتمر الثاني هذه السنة يعلمون ما نبهتهم عليه من أن فرانسا لم تجب أي مطلب من مطالب المؤتمر، والناس كلهم اليوم يعلمون ما نشرته الصحافة الفرنسية- رسميا- عن لجنة الثمانية عشر شهراً التي يرأسها م قرنوت وم ستيق وأنها بعد الثمانية عشر شهراً توفد وفوداً تسأل أسئلة مدققة؟! .. فماذا فهم الناس من هذا كله؟ أما الذين ينطرون إلينا من الخارج نظر الحاكم على الأمم بما يبدو من أعمالها وسيرها فإنهم يقولون: إن فرنسا تعد وتخلف لأنها رأت مصلحتها في الاخلاف، ولا يرجى منها إقلاع عنه ما دامت تعتقد مصلحتها فيه. والجزائر تنخدع وتطمع، ويمكن أن يطول انخداعها ويستمر طمعها ويمكن أن ينجلي لها سراب الغرور فتقلع عن الانخداع وتقطع حبل الطمع وتتصل باليأس وما يثمره اليأس ويقتضيه. وأما نحن- الجزائريين- فإننا نعلم من أنفسنا أننا أدركنا هذا الاخلاف العرقوبي وأدركنا مغزاه وأخذ اليأس بتلابيب كثير منا وهو

يكاد يعم، ولا نتردد في أنه قد آن أوانه ودقت ساعته ... ماذا تريد فرنسا من مماطلتنا! لقد أعلن شاعرنا القومي جواب هذا السؤال في قصيدته التي نشرناها في الجزء الماضي حيث قال: ولعل من نظم السيا … سة أن نغش وأن نغر ولعل منها أن يدس … لنا ونجذب للحفر ولعل منها أن يبسس … لنا لنحلب كالبقر ولعل منها أن نما … طل كي يساورنا الفجر كذب رأي السياسة وساء فألها، كلا والله لا تسلمنا المماطلة إلى الضجر الذي يقعدنا عن العمل، وإنما تدفعنا إلى اليأس الذي يدفعنا إلى المغامرة والتضحية. أيها الشعب الجزائري! أيها الشعب المسلم! أيها الشعب العربي الأبي! حذار من الذين يمنونك ويخدعونك، حذار من الذين ينومونك ويخدرونك، حذار من الذين يأتونك بوحي من غير نفسك وضميرك، ومن غير تاريخك وقوميتك، ومن غير دينك وملتك وأبطال دينك وملتك. استوح الإسلام ثم استوح تاريخك ثم استوح قلبك. اعتمد على الله ثم على نفسك، وسلام الله عليك. عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 6، م 13، ص 272 - 273 غرة جمادى الثانية 1356ه - أوت 1937م.

الوطن والوطنية

الوطن والوطنية الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء. ــــــــــــــــــــــــــــــ بهاتين الجملتين منذ نيف وعشر سنين توجنا جريدة (المنتقد) الشهيدة، وجعلناهما شعارا لها تحمله فى رأس كل عدد منها. هذا أيام كانت كلمة الوطن والوطنية كلمة إجرامية لا يستطيع أحد أن ينطق بها، وقليل جدا من يشعر بمعناها. وإن كان ذلك المعنى دفينا في كوامن النفوس ككل غريزة من غرائزها، لا سيما في أمة تنسب إلى العروبة وتدين بالإسلام مثل الأمة الجزائرية ذات التاريخ المجيد. أما اليوم وقد صارت كلمة الوطن والوطنية سهلة على كل لسان وقد يقولها قوم ولا يفقهون معناها، وقد يقولها آخرون بألسنتهم ولا يستطيعون أن ينتسبوا لها في المكتوب من رسمياتهم، ويفزع منها نن يتخيلون فيها ما يعرفون في وطنياتهم، وينكرها آخرون زعما منهم أنها ضد إنسانيتهم وعمومياتهم- فكان حقا لقراء (الشهاب) علينا أن نقول لهم كلمة مختصرة نبين بها حقيقة هذه الكلمة وأقسامها وأقسام الناس إزاءها، ومن أي قسم نحن من تلك الأقسام. من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء وفي البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم وما البيت إلا الوطن الصغير. فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه

ونوازعه ومنازعه- شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته ولما فيه- كما تقدم- من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية. فاذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطنا له وهذا هو وطنه الأكبر. هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه، فلا يعرف ولا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف واجب الوطن الكبير، ولا يعرف ولا يحب الوطن الكبير إلا من عرف وأحب الوطن الصغير. والناس إزاء هذه الحقيقة أربعة أقسام: 1 - قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة، وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان، وهم في الغالب لا يكون منهم خير حتى لأقاربهم وأهل بيتهم. 2 - وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعملون في سبيله كل ما يرون فيه خيره ونفعه ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى بل يعملون دائما على امتصاص دماء الأمم والتوسع في الملك لا تردهم إلا القوة. وهؤلاء شر وبلاء على غير أممهم بل وعلى أممهم فهم مصيبة البشربة جمعاء. 3 - وقسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر وأنكروا وطنيات الأمم- كما أنكروا أديانها- وعدوها مفرقة بين البشر. وهؤلاء عاكسوا الطبيعة جملة وما عرفته البشرية منذ آلاف السنين ودلائل الفشل على تجربتهم حيث أجروا تجربتهم لا تكاد تخفى. 4 - وقسم اعترف بهذه الوطنيات كلها ونزلها منازلها غير عادية ولا معدو عليها، ورتبها ترتيبها الطبيعي في تدرجها، كل واحدة منها مبنية على ما قبلها ودعامة لا بعدها. وآمن- هذا القسم- بأن

الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في يته ووطنه الصغير وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر. وهذا الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة. إذ هي التي تحافظ على الاسرة بجميع مكنوناتها وعلى الأمة بجميع مقوماتها وتحترم الإنسانية في جميع أجناسها وأديانها. فهي تخاطب البشرية كلها في جميع أجناسها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. وتخاطبها في جميع أديانها بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. وتخاطب جميع الأمم والأوطان بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}. وبقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. وهذه هي وطنيتنا معشر المسلمين الجزائريين الأفارقة ووطنية كل مسلم صادق في إسلامه ووطنيته. وقد أعلناها يوم قلنا على رأس جريدة (المنتقد): (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء) وسرنا على مقتضاها إلى اليوم في كل ما قلنا وكتبنا وسنبقى عليها- ككل مسلم جزائري- حتى نلقى الله إن شاء الله. أشعب الجزائر روحي الفدا … لما فيك من عزة عربية بنيت على الدين أركانها … فكانت سلاما على البشرية (1) عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 7، م 13، ص 304 - 307 غرة رجب 1356هـ- سبتمبر 1937م.

في الشمال الإفريقي

في الشمال الإفريقي: اليأس بعد الرجاء ــــــــــــــــــــــــــــــ أحدث المنشور الأول الذي أذاعه صاحب هذه المجلة الأثر الكبير الفعال في النفوس، ذلك لأنه صادف هوى في قلوب الأمة وعبَّر عن إحساسها وشعورها، وترجم عن عاطفتها التي طلقت الأمل في عدالة فرنسا السريعة، وركنت إلى جانب اليأس من ذلك. ولقد لبت اللجنة التنفيذية للمؤتمر ذلك النداء، وقررت عقد اجتماعا يوم 29 أوت 1937م للنظر في الحالة الجديدة التي هي وليدة جمود حكومة باريس عن مباشرة إصلاح أو قبول أي مطلب ووليدة العبث الجديد الذي رفعنا عقيرتنا بالاحتجاج العنيف عنه، ألا وهو تشكيل لجنة "فرنوت" وجعل القضية الجزائرية وأبحاث لجنة "لافروزيلبار" من جملة أعمالها، وتحديد مدة أشغالها بعام ونصف عام ثم اشتداد وطأة الحيف والجور على أهل القطر الجزائري، واشتداد الأزمة بصفة خانقه. ولقد كان صاحب هذه المجلة- ولا يزال- يرى أنه لا يحق للأمة أن تستمر على السياسة القديمة سياسة المطالبة والانتظار، إذ قد ظهرت النوايا جلية واضحة، وتحقق الناس أجمعون أن وعود هذه الحكومة كوعود الحكومة السالفة، إنما هي من فصيلة الوعود التي أمطرت القطر الجزائري منذ أيام الإمبراطورية إلى الآن: وعود هي السراب بعينه. ومن أجل ذلك، ورغبة في تنوير الأذهان وتوجيه آراء اللجنة التنفيذية نحو السياسة الوحيدة التي نرى أنها ربما أحدثت الأثر

نداء إلى الأمة الجزائرية ونوابها

المطلوب بعد حين- حرر صاحب هذه المجلة ونشر فوق أغلب أعمدة الصحف الجزائرية والتونسية هذا النداء (1)! نداء إلى الأمة الجزائرية ونوابها أيتها الأمة الكريمة. أيها النواب الكرام! اليوم وقد آيسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا. اليوم وقد تجوهلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا. اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا يجب أن نقول نحن كلمتنا. اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره علينا، يجب أن تتحد صفوفنا. أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام! بمحضر الوفد كله في وزارة الحربية من السنة الماضية- قال لنا دالاديه وزير الحربية، رئيس الحزب الجمهوري الراديكالي والراديكالي سوسياليست: أقول لكل بكل صراحة "إني أعارض كل المعارضة في إعطائكم النيابة البرلمانية ما دمتم على حالتكم الشخصية الإسلامية". من ذلك الحين تحققت أن هذه النيابة البرلمانية ميئوس منها، وقد أشرت إلى هذا فيما كتبته عن الوفد بعد رجوعنا في مجلة "الشهاب" وها هي الأيام جاءت محققة ذلك اليأس. وها هي الجزائر اليوم تنشد بلسان حالها قول الشاعر العربي:

_ ش: ج 7، م 13، ص، 32 رجب 1356هـ - سبتمبر 1937م.

أَزْمَعْتُ يَأْسًا مُبِينًا مِنْ نَوَالِكُمُ … وَلَنْ تَرَى طَارِدًا لِلْحُرِّ كَالْيَأْسِ أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام! حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى أو ترى أكثريتها ذلك كثيراً عليها …! ويسمعنا كثير منها في شخصيتنا الإسلامية ما يمس كرامتنا ويجرح أعز شيء لدينا. لندع الأمة الفرنسية ترى رأيها في برلمانها ولنتمسك- عن إيمان وأمل- بشخصيتنا ولنطلب بالمساواة التامة في جميع الحقوق في وطننا وأولها المساواة في المجالس النيابية. أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام! قرروا يوم 29 أوت وبعد قرار المؤتمر وجمعيات النواب عدم التعاون في النيابة بجميع أنواعها. قرروا أن لا تعودوا بدون مساواة إليها. قرروا أنه يجب أن يكون كل مسلم جزائري بلغ سن الانتخاب منتخبا وأن يكون عدد نواب المسلمين الجزائريين في كل مجلس مثل عدد الفرنسيين. كونوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها على هذا الأصل. أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام! تناسوا الحزازات، امحقوا الشخصيات، برهنوا للعالم أنكم أمة تستحق الحياة، برهنوا لفرنسا أنكم كما وقفتم معها في الحرب صفا واحدا تدافعون عنها تقفون في السلم صفا واحدا تدافعون الأنانيين منها الذين هم مثل أعدائها. هذا وأنا كمسلم جزائري قد أديت الواجب الثاني من واجباتي في

الوقت الحاضر والله المستعان على القيام ببقيتها وعليكم السلام ورحمة الله من أخيكم (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 7، م 13، ص 325 - 326 رجب 1356 هـ - سبتمبر 1937م.

صدى منشورنا على الأمة والنواب

صدى منشورنا على الأمة والنواب في صحف الاستعمار ــــــــــــــــــــــــــــــ دُعي إلى تسليم النواب ووقع ذلك بالفعل في كثير منهم في عمالة قسنطينة، ولم تهتز لذلك صحف الاستعمار ودوائره. فلما نشر صاحب هذه المجلة منشوره على الأمة ونوابها في الدعوة إلى التسليم والاتحاد والوقوف الوقف الهائل المشرف، قامت القيامة في الدوائر، وظهر ذلك في جريدة "لابريس" التي تصدر بالعاصمة، وجريدة "الريبوبليكان" التي تصدر بقسنطينة. ولما كانت الثانية أصرح بالعداء من الأولى خصصناها بالكتاب التالي: قسنطينة في 8 رجب 1356ه - 14 سبتمبر 1937م. جناب السيد محرر جريدة (الريبوبلكان) المحترم. قرأت في عدد 2 سبتمبر الجاري من جريدتكم منشوري على الأمة ونوابها، فشكرت لكم نقله في جريدتكم ليطلع عليه قسم كبير من الرأي العام الفرنسي خصوصا القسم الذي تمثله جريدتكم. ولم يسؤني ما علقتم به عليه من عبارات الحقد والتحريش، لأن ذلك دليل حصول ما قصدته من تأثير الحق والصدق ممن لم يتعودوا سماعه من المسلمين الجزائريين أمثالكم. ولا ألومكم على ذلك ما دمتم ترونه إخلاصا لأمتكم ووطنكم كما كنت أنا مخلصا في منشوري لأمتي ووطني.

وإنما أريد أن أحقق لكم أن تحريشكم لا يخيف صغارا من تلامذتنا، فمن باب أحرى وأولى أن لا يكون له أدنى تأثير على كبارنا في السير على خطتنا إلى غايتنا. ومما يؤسف له من أمثالكم أنكم لا تدركون تطورات الأمم وتقلبات الأيام، وتفكرون فينا- في القرن العشرين- بأفكار القرون الوسطى. إن الزمان- يا زميلي- يسير ولا يقف، وسنن الكون نافذة لا تتخلف والويل لمن قصد أو تعامى. تقبلوا- سيدي- احترام زميلكم صاحب مجلة الشهاب. عبد الحميد بن باديس

_ ش: الجزء 7 المجلد 13 قسنطينة رجب 1356ه الموافق لسبتمبر 1937م الصفحة 340 - إلى 341.

إجرام الاستعمار

إجرام الاستعمار سجن واضطهاد ــــــــــــــــــــــــــــــ نريد هنا قبل كل شيء أن نسجل ثقتنا في نزاهة وحرية القضاء الفرنسي فما زالت حياة القضاة غير متأثرة بالمؤثرات الخارجية، وغير خادمة لركاب السياسة والأحزاب. فإن كنا هنا نحتج بأقصى ما لدينا من قوة وشدة على المسلك الأهوج الذي تسلكه الإدارة مع رجال حزب الشعب الجزائري، وإلقائها القبض على زعيم الحزب السيد مصالي الحاج محمد، وعمدته السيد الشاعر الكبير مفدي زكرياء، وأعوانهما في العمل السادة بوغرافة والاحول الحسين ومسطول، وهم إنما يعملون أعمالهم جهارا وفي وضح النهار، فما ذلك انتقادا منا لسلوك العدالة التي ستقول كلمتها الفاصلة في الموضوع قريبا، إنما هو انتقاد مرير لسلوك السياسة التي أوجبت هذه الأعمال القاسية الشديدة، مندفعة وراء أغراض حزبية، إنما هي دور من أدوار النزاع والنضال بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. ولا ندري ما المبرر لسجن مصالي ورجال حزبه بدعوى إعادة تشكيل هيأة منحلة إذا كانت الإدارة لم تسجن الكولونيل لاروك وقد أعاد تشكيل صلبان النار في هيئة "الحزب الاجتماعي"، والحزب الاجتماعي أكثر شبهاً بهيئة صلبان النار من حزب الشعب الجزائري بهيئة "نجم شمال أفريقيا". إن دلنا هذا العمل على شيء فهو إنما يدلنا على أن الحكومة عازمة على سياسة الشدة والإرهاق، واليوم دور مصالي، وغدا دور آخرين.

لكنها سياسة- والله- لن تنجح ولن تثمر، فإذا لم تعمد الحكومة لسلوك سياسة امتلاك القلوب، بإجابة الرغائب وقبول الطالب، والمفاهمة مع رجال الأحزاب ومديري حركات الشعب بالتي هي أحسن، فإنها لن تسلك إلا السياسة التي تزيد الخرق اتساعا، فيصحب على أي راقع رتقه.

_ ش: الجزء 7 المجلد 13 قسنطينة: رجب 1356هـ الموافق لسبتامبر 1937م الصفحة 339 إلى 340.

الاستعمار يحاول قطع الصلة بين الإخوان

الاستعمار يحاول قطع الصلة بين الإخوان لما مات الإمام المصلح، العلامة الحافظ، الوزير الكبير، مولانا أبو شعيب الدكالي فخر الأفارقة والمغرب الأقصى- كان من أقل حقوقه علينا أن قامت جماعة من إخواننا المغاربة بإقامة حفلة تأبين في أربعين وفاته، ودعت صاحب هذه المجلة لحضور هذه الحفلة باسم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فلبى الدعوة ووجه للحكومة طلب رخصة السفر فسكت عنه مدة مع قرب أجل الحفلة، فجدد الطلب ثانية فجاءه الجواب بالمنع البات لأن حكومة المغرب لا تأذن في دخوله للمملكة المغربية. إزاء هذا ما وسعنا إلا التخلف والاعتذار لإخواننا المغاربة، ثم الاحتجاج على هذه الحكومات الاستعمارية التي تحاول بمثل هذا العمل أن تقطع الصلة بين الذين ساقتهم الأقدار إلى يدها وهي- في الحقيقة- ما تزيده بهذا إلا ارتباطا وشدة. ليت شعري ماذا تخشى الحكومات الاستعمارية من أمثالنا؟ أتخشى أن نقول؟ إن أعمالها الشاهدة المتكررة أغنت- والله- عن كل قول: حتى لم تدع لقائل ما يقول.

_ ش: الجزء 7 المجلد 13 قسنطينة: رجب 1356هـ الموافق لسبتامبر 1937م الصفحة 341.

كلمات صريحة

كلمات صريحة: الشمال الإفريقي كيف يجب أن يعالج ــــــــــــــــــــــــــــــ يقلق بال السياسة الفرنسية اهتزاز الشمال الأفريقي واضطرابه وتذمره واحتجاجه، ويقلق بال السياسة ذلك من القطر الجزائري على الخصوص. لقد أدى هذا القلق السياسي إلى التفكير الجدي في هذا الشمال وفي الجزائر "الفرنسية"، كما يقولون! وانتهى هذا التفكير إلى آراء في الداء- حسب تسميتهم- وآراء في العلاج وأخطأت كلها في معرفة الداء على وضوحه وفي معرفة العلاج على قربه. فأما الداء- كما يسمون- فقال قوم: هو اليد الأجنبية، وقال آخرون: هو الشيوعية الأفرنسية، وقال غيرهم: هو الاتحاد الإسلامي والوحدة العربية. وماذا نقول نحن في هذه الآراء؟ نقول بكل صدق وصراحة تعرفهما الدوائر الحكومية منا- أولا: إن اليد الأجنبية التي يعنون هي يد موسوليني وهيتلر، بعد ما كانوا يعنون بها قبل التحالف الفرنسي الروسي يد موسكو. وأنا على يقين تام من أن الأوطان الافريقية الثلاث التي تهم فرانسا لم تتصل يوما بيد أجنبية لا من موسكو ولا من روما ولا من برلين. وأعرف عن نفسي وعن رجال هذا الشمال الافريقي إخواني، إننا نأبى أن نكون آلة في يد أي كان من الأمم التي تكيد لفرنسا اباء وترفعا يمليهما علينا عزة الإسلام وشمم العروبة.

وثانيا- أن الشيوعية الفرنسية، وإن فسحت لها الواجهة الشعبية المجال، فإنها لم تستطع ولن تستطيع أن تتمكن من أوساط شعبنا أو تحوز أكثر مما حازته من النزر اليسير جدا من أطرافه، ما دام الشعب يعتقد أن مبادئها الأساسية لا يتفق كثيرا منها مع الإسلام. هذا رغم ما يبديه رجالها مما يستحقون عليه الشكر من العطف على ضعفنا ومقاومة الظالمين لنا، لكن الشكر والاعتراف بالجميل شيء والتأثر بالمبادئ والانقياد للحزب شيء آخر. وثالثا- أن الاتحاد الإسلامي والوحدة العربية بالمعنى الروحي والمعنى الأدبي والمعنى الأخوي هما موجودان، تزول الجبال ولا يزولان، بل هما في ازدياد دائم بقدر ما يشاهد الناس من عمل في الغرب ضد العروبة والإسلام. وأما بالمعنى السياسي والمعنى العملي فلا وجود إلى اليوم لهما. وأما العلاج فقد كادت كلمة القوم تتفق على أنه الضغط والإرهاق واستعمال القوة والشدة .. وماذا نقول نحن في هذا العلاج؟ نقول- بالصدق والصراحة اللذين تعرفهما منا الدوائر الحكومية- أنه علاج قد يسكن الشعب شيئاً ما، حيناً ما، ولكنه يزرع في القلوب بغضا وحقداً ويملأ الصدور ثورة وحماسا، وما مآل ذلك- بطبيعة الامتلاء وطول الزمان- إلاَّ الانفجار، ولا يدري إلا الله على من تكون عواقب ذلك الانفجار. هذا ما يفكره الساسة في الداء والعلاج وقد زيفناه. أما نحن- ونحن أعرف بأنفسنا- فإننا نتيقن أن هذه الأمم الإسلامية العربية استيقظت من سباتها وهبت للنهوض من كبوتها،

نحن الجزائر

وشعرت لكرامتها، وأخذت تذكر ماضيها أيام حريتها واستقلالها، وهو غير بعيد في الماضي عنها، فانبعثت تعمل لفك قيودها ونيل حريتها وتبوء منزلتها اللائقة بها كسائر الأمم التي ليست هي- في قوميتها وتاريخها- دونها. غير أنها تريد أن تكون مع فرانسا وتكون فرانسا معها كأستاذ نصوح وتلميذ بار يتبادلان الصداقة والاحترام ويتعاونان في الرخاء والشدة. هذا- لعمر الله- هو حقيقة نفسية هذه الشعوب، وهذا هو سبب ثورتها على الظلم وإبايتها من استمرار الحال على ما كان. وما من علاج بعد هذا- والله- إلا تبديل السياسة العتيقة الرثة البالية بسياسة جديدة تعترف لهذه الشعوب بكيانها القومي، وتفسح أمامها مجال العمل للتقدم والرقي، وتنيلها أعظم قسط من التحرير، وتشعرها بأنها تساندها لتبلغ رشدها، فتكون بدورها يوم رشدها التام عضدا- وأي عضد- لها. فهل يستطيع الساسة هذا العلاج! نحن الجزائر: فإذا أرادت فرنسا أن تحافظ عليها فلتحافظ على قلوبنا: يكتنف الجزائر اليوم- وأختيها كذلك- خطران عظيمان: موسوليني من شرقها وفرانكو من غربها .. يحيط بها هذان الخطران وتضطرب أمواج البحر الأبيض المتوسط بغواصاتهما، وتدوي جوانب أجوائه بأزيز طياراتهما، وتحتل قواتهما مراكز الحياة من أحشائه، حتى أصبح الذي يريد أن يمتطي متنه في باخرة، أو يتبطن جوه في طيارة، يشعر بالخوف من مبارحته ساحل الجزائر إلى حلوله بساحل مرسيليا.

وقد صرح نواب فرانسوي الجزائر الراديكاليين في المؤتمر الراديكالي المنعقد أخيرا بأنهم ما قطعوا البحر الأبيض المتوسط لحضور المؤتمر إلا تحت رحمة الغواصات والطيارات وأنهم وجلون هلعون من مستقبل اتصال شمال إفريقيا بفرنسا وخائفون أشد الخوف من انفصاله عنها. وقد ابتدأ هذا الانفصال بانقطاع البريد الجوي بينهما. هذا كله بعد ما أنفقت فرانسا وانكلترا- سيدة البحار! - على حماية طرق المواصلات، وجمعتا مجلسا حربياً لذلك، وإشرتا تلك الحماية بالفعل، وخابتا فيها خيبة ظاهرة لا تخفى على أحد. فقد غرقت بعد تلك الحماية بواخر وانتقلت قرصنة المدنية الأوروبية من البحر إلى الجو وجمعت على البشرية البلاء من السماء والأرض: وكان في القرصنة الجوية الجديدة الجواب الخشن والتحذير الحازم من جبروت الفاشيزم إلى الدولتين الديموقراطيتين المتعاونتين. حقيقة أن هذا شيء اضطربت له فرائص فرانسا على اختلاف أحزابها وحسبت له ألف حساب. خصوصا وكل أحد يعلم أن الحرب آتية من دون ريب وأن ميدانها هو البحر الأبيض المتوسط وأن أول ما يعمله أعداء فرانسا هو فصل الشمال الافريقي عنها. والذين يعرفون مقدار ما انتفعت به فرانسا من الشمال الافريقي في الحرب الماضية، يعلمون ما يلحقها من أضرار بانفصاله عنها في الحرب الآتية. كيف تقاوم فرنسا محاولة العدو للفصل؟ وكيف تستطيع المحافظة على الجزائر- وعلى الشمال الافريقي- إذا تم ذلك الفصل! أما فرانسويو الاستعمار بالجزائر والذين يستخدمون فرانسا لتفوقهم ودوام عتوهم وتسلطهم، ولا تهمهم فرنسا بقدر ما تهمهم مصالحهم،

فهؤلاء قد شغلهم التفكير في وسائل الضغط والشدة ضد الجزائريين - وإخوانهم- عن كل تفكير آخر رغم مشاهدتهم لهذا الخطر واضطرابهم له. وأما الرجال المسؤولون فلا شك أنهم مهتمون الاهتمام كله بمقاومة ذلك الفصل وبالمحافظة على الجزائر- وأختيها- إذا وقع. غير أننا- والعجب ملء أنفسنا- لا نسمع في الخارج إلا ما يوافق- في الأكثر- نظرية أولئك الرجعيين الاستعماريين الذين أعمتهم مصالحهم الخاصة عن كل شيء حتى كأن السياسة الفرنسية كلها انصبغت بصبغتهم وأصبحت تحت تأثيرهم! فهم يذكرون لزوم المحافظة على الجزائر ووسائل المحافظة على الجزائر، ولا يذكرون- أبدا- المحافظة على الجزائر ووسائل المحافظة على الجزائريين بل لا يفتؤون يذكرون الشدة على الجزائريين ووسائل الشدة على الجزائريين. أين أنتم أيها السادة؟ نحن الجزائر، وما الجزائر إلا الجزائريون، فإذا كنتم تريدون المحافظة على الجزائر فحافظوا على قلوبنا. تالله إذا ضيعتم قلوبنا فقد ضيعتم الجزائر ولا محالة، ولا ينفعكم في ذلك اليوم العصيب شيء مما تقدرون اليوم. ما يزال في الوقت متسع لتدارك الحال وجبر القلوب والعمل لمصلحة فرانسا العليا إن كنتم حقيقة لها تعملون (1).

_ (1) ش: ج 9، م 13، ص 398 - 406 غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.

كلمة مرة

كلمة مرة لأنها صريح الحق ولباب الواقع ــــــــــــــــــــــــــــــ إن تربيتنا العلمية الدراسية المبنية على بيان الحقيقة واجلائها على ما هي عليه صيرتنا لا نستطيع شيئا من المواربة والتلبيس. نعرف كثيرا من أبنائنا الذين تعلموا في غير أحضاننا ينكرون- وربما عن غير سوء قصد- تاريخنا ومقوماتنا ويودون لو خلعنا ذلك كله واندمجنا في غيرنا. وكنا نرد عليهم بالقول في كل مناسبة تبدو منهم فيه مثل هذة البوادر السامة الخاطئة. ووقع مرة أن كتب بعضهم- وهو ممن له قيمة معتبرة عندنا- ما هو صريح أو كالصريح في ذلك الضلال المهلك، فرأينا من الواجب علينا أن نرد عليه بكلمة صريحة نعرب بها في يقيننا عن الحقيقة التي يعتقدها الشعب الجزائري- إلا الشاذ- في صميم نفسه فقلنا في كلمتنا تلك: الأمة الجزائرية أمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا. ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمم الدنيا. ثم اإن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرانسا، ولا يمكن أن تكون فرانسا، ولا تستطيع أن تصير فرانسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرانسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسوية".

فجلينا بكلمتنا هذه الحقيقة مكشوفة في وضح النهار، وقطعنا الطريق على كل متقول بالباطل وأرحنا كل باحث ومتردد من بحثه وتردده. وإلى ذلك فإننا لم نكن خياليين ننكر الواقع ونكابر في المحسوس فقد ختمنا كلمتنا بإشراف الوالي العام وتعيينه من الدولة الفرنسوية. حقا لقد أثرت كلمتنا الصريحة أثرها وبلغت حيث أردنا أن تبلغ، فمن يوم قلناها إلى اليوم ما زال يتردد صداها في الصحافة الفرنسبة وفي المجالس وفي المؤتمرات، ومن أظهر مظاهر ذلك قيام م. فرسينانق بها في مجلس الشيوخ في السنة الماضية، وإعادتها في المؤتمر الراديكالي المنعقد أخيرا. كل ذلك يحاولون به الاحتجاج بها- وهم يعلمون أنها عبرت حقاً عن حقيقة الأمة الجزائرية وعقليتها- على منع الأمة الجزائرية من نيل حقوقها. لقد أخطأتم خطأً بعيداً أيها السادة! إن الأمة الجزائرية تطالب فرنسا بحقوقها لما دفعته من ثمن من دم أبنائها ولمواقفها الصادقة مع فرانسا في أيام شدتها ولما هي قائمة به لفرانسا من كل ما حمل عليها. وهذا حق لا يستطيع أن ينكره أحد يحترم نفسه ويقدر عواقب التاريخ قدرها. فأما أن تبذل الأمة الجزائرية في نيل تلك الحقوق شيئا من كيانها فهذا ما لا يخطر ببالها ولا يستطيع أحد ممن يتولى شيئا من أمورها من أبنائها أن يعرضه عليها ولو حاول أحد ذلك لنبذته نبذ النواة والحذاء المرقع كما نبذت من نبذت. ونحن بهذا نتحدى كل من يكون على خلاف رأينا. فهل من أحد يستطيع أن يكذبنا؟

نحن والواجهة الشعبية

نحن والواجهة الشعبية أدركنا من يوم تأسست الواجهة الشعبية الفرنسية أن روح السياسة الفرنسية نحو الشعوب المتصلة بفرنسا لا بد أن تتبدل- إلى العدل والتسامح- شيئا ما. وعلمنا أن المبادئ التي أنبنت عليها تلك الواجهة أكثر إنسانية، فكنا أول من أعلن ثقته بها ولزوم انتظار شيء منها. وقلنا يوم ذلك: أن فرنسا- بإجماع العالم- في وضعية جديدة فلننظر إليها نظرة جديدة. وشاهدنا بالفعل طغاة الاستعمار عندنا بالجزائر يناوئون تلك الواجهة ويناصبونها العداء، فازددنا يقينا بما اعتقدنا. ولا يشك من له أدنى مسحة من عقل أن أولئك الطغاة ما أبغضوها ذلك البغض ولا عادوها ذلك العداء إلا لما اعتقدوه فيها من شيء من تخفيف وطأة الظلم والإرهاق عن المستضعفين، وشيء من كف يد العتاة الظالين. ونحن نعترف أن الواجهة الشعبية سارت شطرا من ماضي أيامها بالروح التي تأسست عليها وتنفس الخناق عن المستضعفين شيئا ما وانتعشت الآمال في المستقبل بعض الانتعاش. ولكن ما لبث الطغيان الاستعماري والجبروت الآلي الاستغلالي أن أخذ يتقلب، وأخذت حكومة الواجهة تبعا لذلك تتقلب، حتى انتهت إلى ما انتهت إليه الحكومات قبلها. وحوادث اليوم بالمغرب والجزائر أكبر شاهد. وقد اعترف رجال هذه الواجهة في صحفهم بحقيقة الانقلاب في حكومتهم والغلب الواقعة عليهم. ففي عدد أخير من جريد "البوبيلير" لسان الحزب الاشتراكي الافرنسي مقال عن المغرب بقلم مادلين بار قال فيه: "إنه يمكننا الإفصاح بكلمات وجيزة، ذلك أن كامل الساسة الفرنسوية قد توجهت لحد الآن للاهتمام بحالة المعمرين، وصرفت

أموالاً باهظة بصورة تنم عن تكوين جنة- وهذا هو النعت المناسب للمقام- لفائدة ثلاثة آلاف من الرجال. أي المعمرين خاصة لا يحسنون من الفلاحة إلا وسيلة واحدة وهي الاستثمار، ولا غاية لهم إلا تربية الثروة. هذا ما كان، وأما ما يجب القيام به فهو المبادرة بصدق إلى توجيه السياسة الفرنسية نحو سواد الأهالي". نحن نعرف المبادئ قبل كل شيء، ورأينا في مبادئ الواجهة الشعبية هو رأينا، ولكن رجال تلك المبادئ الحقيقيين- رغم ما كان عندهم في أيامهم الأولى من قوة- كانوا ضعفاء، كانوا صغارا في السياسة أو - على الأقل- كانوا جدداً في كراسي الحكومة. فهاهم اليوم، الحكومة حكومتهم، ولكن روحها غير روح مبادئهم، إسمها لهم ومسماها في يد غيرهم ولم يبق لهم إلا النصح والقول تقدمه - باحتراس كبير- صحفهم أو بعض صحفهم! فإزاء هذا رأينا أن الواجب علينا أن نعلن لشعبنا أن "لا نعتمد إلا على أنفسنا وتتكل على الله". ثم نحن من بعد ذلك سنحتفط للمحسن بإحسانه، وللمسيء بإساءته. "و" الخير أبقي وإن طال الزمان به … والشر أخبث ما أوعيت من زاد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 9، م 13، ص 403 - 406 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.

على هامش (السانطونير)

على هامش (السانطونير) (1) منشور المقاطعة نداء إلى سكان قسنطينة المسليمن ــــــــــــــــــــــــــــــ إخواني القسنطينيين! في مثل هذه الأيام منذ قرن مات أجدادكم المجاهدون المدافعون والفرنسيون المهاجمون في ميدان البطولة والشرف، وطويت صفحة من التاريخ على شهادته بالشجاعة والتضحية للغالب والمغلوب. ومضت مائة سنة كانت كافية لنسيان تلك المأساة، وضمد تلك الجروح وتقريب السكان المتجاورين بعضهم من بعض. لكن قوما من الأنانيين الذين يأبون إلا أن يكونوا سادة متفوقين، وإلا أن يشعروا المسلمين بسلطة الغالبين على المغلوبين، هؤلاء القوم- وليسوا كل الفرنسيين- أرادوا في هذه الأيام أن يقيموا احتفالات عسكرية بدخلة قسنطينة، تثير العواطف، وتمس كرامة الأحياء منا والأموات وتنافي مبادئ الأخوة والرحمة التي ندعو إليها. يحتفلون احتفالاتهم ومطالب الشعب الجزائري بعرقلتهم معطلة، وحقوقه بسعيهم مهملة وسوط القوانين الاستثنائية نازل بيدهم على ظهره في كل يوم. لهذا فقد اجتمعت 14 جمعية إسلامية من جمعيات قسنطينة يوم

_ (1) احتفال فرنسا بمرور مائة سنة على احتلال قسنطينة.

السبت 18 سبتامبر الماضي في نادي الاتحاد وكانت كلها مستنكرة لهذه الاحتفالات عازمة على مقاطعتها فقررت- بالإجماع- ما يلي: نحن- الممثلين لجمعياتنا- نرى احتراما لأنفسنا واحتراما لأجدادنا واحتراما للإنسانية: أولاً- أن لا نشارك في هذه الاحتفالات ولا نحضرها. ثانيا- أن نكون في هدوء تام عام. إخواني القسنطينيين! قد فعل المؤتمر الإسلامي الجزائري واجبه فاحتج على هذه الاحتفالات في اجتماعه العام الأخير وقدم مكتبه ذلك الاحتجاج إلى الوالي العام وقدمه مكتب لجنة القسنطينية إلى مير قسنطينة، وفعلت الجمعيات الإسلامية القسنطينية واجبها بما قررته في قرارها المتقدم. وأخوكم هذا- كقسنطيني- فعل واجبه بنشر هذا المنشور عليكم، فما بقي إلا أن تقوموا أنتم بواجبكم. فقاطعوا هذه الاحتفالات ولا تشاركوا فيها. كونوا في هدوء وسلام. والسلام عليكم من أخيكم عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 9، م 13، ص 427 - 429 غرة رمضان 1356ه - نوفمبر 1937م. والمقال: حرر بالمنصورة حوز تلمسان مساء الثلاثاء23 رجب 1356ه 28/ 9/ 1937م.

مسألة عظيمة

مسألة عظيمة بين رجلين عظيمين ــــــــــــــــــــــــــــــ أما المسألة العظيمة العظيمة فهي الوحدة السياسية للأمة العربية من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلنطيقي. وأما العظيمان فهما الأمير شكيب أرسلان وسعادة سليمان باشا الباروني. ولا تحسبن الكلام دار بينهما في بيان حقيقتها وإمكان تحقيقها وأسباب تحقيقها مما يحتاج رجال النهضة الحربية إلى دراسته والعلم به ليكونوا في سيرهم على بصيرة فلا يتقهقروا ولا يتهوروا. بل كان خطاب من شكيب في شأنها فكان رد من الباروني عليه بإعلان البراءة منه، جزاء إعلانه البراءة من مسلمي المستعمرات، ثم دعا أهل العلم إلى إبداء رأيهم فقال: "ولعل علماء الإسلام الغيورين على دينهم يبدون رأيهم فيمن يعلن البراءة من مسلمي المستعمرات المعذبين لإرضاء أعدائهم ومعذبيهم من المستعمرين لينسد هذا الباب فلا يدخل منه غيره بعد اليوم". الرابطة العربية عدد 77. لم ينقل الباشا نص كلام الأمير، ونصه كا نقلته "الجزيرة" الدمشقية في عددها الصادر في 24 رجب الماضي: "أما طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش فهذه بلاد عربية وإن كان فيها بربر أكثر من العرب، فإن ثقافة هؤلاء البربر عربية وهم على كل الأحوال مسلمون، فهذه الأمة هي منا ومعنا كما أن قلوبنا متحدة بيننا وبينهم، ولكن هناك أسباب حغرافية تمنع اتحادنا معهم اتحاداً فعلياً، وهم ليسوا من برنامجنا

ولا نتكلم على الوحدة معهم لأننا نجعل لنا أعداء أقوياء ونحن في غنى عن ذلك الآن. نحن نريد تحقيق وحدتنا الحربية في آسيا، ولكن وجود وحدة سياسية من إخواننا مسلمي شمالي افريقية (يعني: تكون منهم فيما بينهم) لا يمنع أن يكون بيننا وبينهم وحدة لغوية ثقافية دينية اجتماعية وأن تكون قلوبنا مرتبطة بقلوبهم في السراء والضراء". فأين هي براءة الأمير من مسلمي المستعمرات التي زعمها الباشا. أم كيف يكون متبرئا من يقول "فهذه الأمم هي منا ولنا ومعنا كما أن قلوبنا متحدة بيننا وبينهم" ويقول، بيننا وبينهم وحدة لغوية ثقافية دينية اجتماعية و … قلوبنا مرتبطة بقلوبهم في السراء والضراء". فما بقي إلا أنه لا يرى إدخالهم في برنامج الوحدة السياسية العربية بين الشعوب العربية غير المستعمرة حتى لا يثير ثائرة الأعداء الأقوياء الذين لا حاجة بإثارة عداواتهم الآن ويرى إلى هذا وجود وحدة سياسية من مسلمي شمالي افريقيا. وهذه نظرية سياسية محضة قابلة للأخذ والرد وكل وجوه المناقشة غير أنها لا تعد عند أحد براءة من مسلمي المستعمرات كما زعم الباشا. وقد زار الأستاذ محمد تيسير ظبيان الكيلاني صاحب "الجزيرة" الأمير وأخذ منه تصريحا برأيه في الوحدة العربية نشره في العدد الصادر في 1 شعبان من "الجزيرة" وهو كلام- كما قال الأستاذ- واضح صريح لا يحتاج إلى تفسير أو توضيح. وهذا نصه: "فيما يتعلق بالأمصار الواقعة في شمالي إفريقيا يرى أن يكتفي في الوقت الحاضر بإيجاد صلات معنوية وروابط روحية بينها وبين هذه الأقطار (يعني: غير المستعمرة) التي خطت خطوات موفقة في سبيل

قال سعادة الباشا

الوحدة العربية حتى أصبحت فكرة اتحادها وتضامنها ليست من الأمور الصعبة والمسائل الخيالية كما كان يتوهم الكثيرون. ولكن عطوفته يرى أن إثارة الوحدة السياسية بين هذه المجموعة الآسيوية والمجموعة الإفريقية في هذه الظروف العصييبة، مما يثير علينا مشاكل جمة ومتاعب عديدة لا قبل لنا باحتمالها ودرئها ونحن ما زلنا على عتبة الاستقلال والسلطان القومي". وهذا التصريح جلي في أن الأمير لا يعارض إلا في إثارة الوحدة السياسية في هذه الظروف لما يخشى من مشاكل ومتاعب فأين هذه البراءة التي زعمها الباشا وهول بها؟ نرى واجبا علينا بعد ما نقلنا كلام الأمير واطلع عليه القراء، أن ننقل من مقال الباشا المنشور بعدد "الرابطة العربية" المتقدم ما فيه رمي الأمير بالبراءة من مسلمي المستعمرات ليرى القراء بأنفسهم مقدار مطابقته للواقع ومسافة ما بينه وبين الحقيقة. قال سعادة الباشا: 1 - "وأما شكيب فيعلن (بدون داع وبدون أن يسأله أحد عن رأيه في الاتفاق مع المسلمين المصابين بالاستعمار) براءته من المسلمين كافة من المغرب الأقصى إلى نهاية الهند ومن التركستان إلى البلقان إلا عرب الجزيرة ومصر (الغنية بذهبها الوهاج) ". 2 - "إذ دفع فيها (الخطبة) شكيب بإحدى يديه طرابلس برقة معلنا البراءة منها طلبا لرضاء إيطاليا ودوام ابتسامة موسوليني الذي يتفانى في حبه (وهو لاه عنه) لأدنى مناسبة". 3 - "ويدفع شكيب باليد الأخرى تونس والجزائر ومراكش والسودان تودداً لفرنسا المسيطرة على بلاده معلناً بذلك براءته من الجميع".

4 - "فما معنى براءة شكيب اليوم من مسلمي طرابلس برقة وافريقيا كلها (إلا مصر الغنية بالذهب) وما هي النعمة التي ستزول عنهم والنقمة التي ستحل بهم وتجعلهم يحزنون من إعلان هذه البراءة الجوفاء من طرف شكيب أرسلان. وعلى هذا القياس القول في رجال المغرب والمشرق كله الذي أعلن شكيب براءته منهم إرضاء للمستعمرين". 5 - "وأما افريقيا ففقيرة لا تستحق بعد أن نضب ضرعها الذي كان يدر على كثيرين من دعاة الإسلام لبنا خالصا إلا أن يقال لها اليوم بعداً وسحقا لك فإن رضاء المستعمرين أنفع لنا من رضائك". 6 - "وأن يعاتبوه (المسوريون) على تعليله براءته من مسلمي المستعمرات بأنه لا يتحمل عداوة المستعمرين في سبيل أولئك المسلمين ناسياً أو متناسيا ما كان يتظاهر به من الإنتصار للإسلام ومعتنقيه في كتاباته وخطبه القديمة أيام كان المسلمون أعزة وكرماء". 7 - "واضطر فيه (وقت كهذا) إلى إعلان البراءة من صديق قديم". 8 - "أما وقد تظاهر اليوم بإعلان براءته من المسلمين المستعمرة بلادهم فلم يكن بد من الكلام، إذ قد علل ذلك بأنه لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها ونسي الأخوة الإسلامية التي لا يغفل عن ذكرها". 9 - "ومما يؤسف له أن يعلن شكيب أرسلان براءته على رؤوس الأشهاد في سوريا من المغرب كله تزلفاً لفرنسا". 10 - " … الإهانة التي صوبها إلى إخوانهم رجال شمال إفريقيا الأخ الارسلاني طلباً لرضا إيطاليا وفرانسا". ماذا يقول القراء بعد وقوفهم على الكلامين؟ أما نحن فقد قضينا

- والله- عجبا من هذا البهت والتحامل اللذين لا مبرر لهما ولقد وقفنا قبل أن نكتب لفظتي البهت والتحامل وحاولنا أن نجد غيرهما يقوم مقامهما فلم نجد إلا إذا خالفنا الحقيقة وسمينا الأشياء بغير أسمائها. ولكننا- مع هذا- نلتمس لسعادة الباشا العذر من مرضه الذي هو في حالة نقه منه والحمد لله. بقي في كلمات سعادته ملاحظات ينبغي التعليق بها وها هي مرتبة على حسب الأرقام. 1) نظن ان الذي دعا الأمير إلى ما قاله عن الوحدة السياسية أنه كان بصدد تقرير الوحدة العربية فأراد أن يبين ما يريد من التفريق بين الوحدة السياسية وغيرها حسب نظريته، وأما مصر فإنما أدخلها في الوحدة السياسية وهي إفريقية لأنها مستقلة إلى حد بعيد. وأما ذهبها الوهاج فنظن أنه لا يقدم ولا يؤخر لو لم يكن ذلك القدر العظيم من الاستقلال. 2) نظن أن الأمير لو كان ممن تستبيه الابتسامات لاستبته ابتسامات انكلترا التي لا نشك أنها ابتسمت له كما ابتسمت لغيره ممن يعيشون في مناطق نفوذها … فأعرض عنها فحرَّمت عليه حتى النزول في مصر رغم دستورها واستقلالها. 3) وأما فرنسا فلو كان الأمير يتودد إليها لتودد إليها أيام كانت بلاده تحت نير انتدابها التام وهو مقضي عليه بالإبعاد منها. وكيف يمكن أن يتودد إليها وهو يعلم أن جرائدها إلى يوم الناس هذا تصفه بالعدو وتنسب إليه- زوراً- كثيراً مما هو واقع في مستعمراتها ومن خطاب م سارو أمام لجنة الجزائر والمستعمرات: (شكيب أرسلان ذلك العدو القديم لفرنسا والذي لا تزول عداوته) وكيف يتودد أدنى العقلاء إلى من يصارحه بالعداوة وينسب إليه المناوءة التامة، فكيف بمثل الأمير؟

4) قضى الأمير شكيب أيام غربته في سويسرا محاربا للاستعمار كله في خطبه وكتبه ومقالاته الكثيرة جدا في صحف الشرق والغرب بالعربية والفرنسية وفي مجلته "لا ناسيون آراب" المشهورة في أنحاء المعمور وهو في ذلك كله يغضب المستعمرين ويكربهم ويحز في حلاقمهم هذا وهو طريدهم وبلده في استعبادهم فكيف صار اليوم وقد شاب فوداه وتحررت- إلى حد- بلاده ورجع كما رجع سائر المبعدين إليها يطلب رضا المستعمرين؟ هذا نظن أنه غير معقول. 5) من هم هؤلاء الكثيرون من دعاة الإسلام الذين كانت إفريقيا تدر عليهم لبنا خالصاً؟ أجمال الدين؟ أم محمد عبده؟ أم رشيد رضا؟ أم شكيب أرسلان؟ فإن كان هو شكيب كما قد يزعم الباشا فهو واحد فأين الكثير. إن مثل هذه الكلمة الغالية المتجاوزة تدلنا على أن سعادة الباشا لم يكن يضبط ما يقول. 6) لقد كان شكيب منقطعًا لنصرة المسلمين المستعبدين أينما كانوا كما تشهد بذلك آثاره التي ذكرنا والمسلمون المسعبدون أذلة لمستعبديهم فقيرهم قعد به العجز وغنيهم غل يديه البخل وهم- إلا قليلا- قد فرطوا في واجبهم نحو مشارعهم التي بين أيديهم وأمام أعينهم فضلا عما هو بعيد عنهم كمجلة شكيب الوحيدة في بابها! فمتى كان المسلمون الذين دافع عنهم شكيب طول أيام غربته أعزة كرماء؟ حتى يزعم الباشا أن شكيبا دافع عنهم أيام عزهم وكرمهم يعني وتبرأ منهم اليوم يوم ذلهم وفقرهم. كلا الأمرين بالعكس يا صاحب السعادة فإن المسلمين كانوا أذلة واليوم تنسموا شيئا من العز وكانوا أشحة واليوم نشطت فيهم روح البذل. فما خدمهم شكيب- إذا أنصفنا- إلا أيام ذلهم وشحهم. 7) من المعلوم أن من الواجب في المذهب الإباضي البراءة من المخالفين كما قال صاحب (النيل) في باب فرز دين الله "ويصل لفرزه

باسمه وصفته ومن ينسب إليه من أئمته وولايتهم وبراءة من خالفهم وتخطئته" فلا عجب أن يتبرأ سعادة الباشا من الأمير كسائر المخالفين وإنما نظن أن سعادته يقصد البراءة الخاصة التي توجب الهجران والمقاطعة لارتكاب جريرة. ولكنها براءة في غير محلها لأنه قد تبين أن الأمير لم يقل شيئا مما رماه به الباشا. 8) لم يقل شكيب أنه لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها ولا ينسى الأخوة الإسلامية بل قد صرح بالصلات المعنوية والروابط الروحية واتحاد القلوب وارتباطها في السراء والضراء والوحدة اللغوية والثقافية والدينية والاجتماعية وأننا منهم ولهم ومعهم أفبعد هذا كله يقال عنه- زوراً- إنه: لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها؟ هذا- والله- عظيم. 9) يصمم الباشا على أن الأمير يتزلف لفرنسا بهذه البراءة المزعومة، ولماذا يتزلف لها ولا سلطان لها عليه ولاطمع له في سلطانها، ولمَ يتزلف لها وهي تذيقه علقم البعد عن الأهل والوطن. كيف يتزلف لها اليوم وهو في أهله ووطنه بفضل أمته وحكومتها لا بفضل فرنسا عليه. 10) ليس فيما نقلناه من كلام الأمير شيء تشم منه رائحة الإهانة وكيف يكون من يصرح بتلك الروابط ويشير بالوحدة السياسية لعرب شمالي إفريقيا مهيناً لإخوانه. كلا، وإنما هو خبير مجرب وسياسي محنك يفرق بين ما يمكن وما لا يمكن إلا بعد زمان. ها نحن لبينا دعوة الباشا فأبدينا رأينا في كلام الأمير وكلام سعادته بعد نقلهما بنصهما ولو وجدنا- علم الله- شيئا مما زعمه الباشا في كلام الأمير لوقفنا معه الموقف الذي يوجبه الحق والشرف وأخوة الإسلام دون أدنى هوادة أو لين. وقد اقتصرنا من كلام سعادة الباشا على ما يتعلق بالبراءة المزعومة

دون بقية المقال وإن كنا منكرين لكثير مما فيه، لاأننا لم نقف موقف المدافع عن الأمير إذ له من قلمه ما يغنيه عن دفاع مثلنا. غير أن هناك ملاحظة لا بد من إبدائها وهي أن روح المقال- في نظرنا- روح هدم لماضي شكيب أرسلان برمته وتصويره بصورة الرجل المادي الذي ما كان يحركه إلا حب المال. وعزيز علينا- والله- مثل هذا النكران من رجل عظيم لرجل عظيم، ومحزن لنا- والله- ومفتت لأكبادنا أن نسرع هذه السرعة في هدم عظمائنا سواء أكان الهادم الباروني لأخيه شكيب أو العكس أو غيرهما. وإننا لنعرف هذه الروح الهدامة فينا معشر الشرقيين ولكننا ما كنا نظنها تبلغ المستوى الذي رقيه الباروني ومثله. فياليتها قومنا يذكرون- دائما- قول أبي الحسن ابن الرومي: لا تضع من عظيم قدري وإن كنـ … ـت مشارا إليه بالتعطيم فالشريف العظيم ينقص قدراً … بالتعدي على الشريف العظيم ولع الخمر بالعقول رمي الخمـ … ــر بتنجيسها وبالتحريم بل ليتهم يتأدبون بأدب الله في قوله جل جلاله {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فلا ينكرون الإحسان الكثير لأجل السوء القليل، إن كان هذا السوء القليل. هذا رأينا فيما بين الأمير والباشا أما رأينا في الوحدة السياسية وفي عروبة شمال إفريقيا فسنبديه في العدد الآتي إن شاء الله. هذا وكأنني بـ: م. سارو وغيره يضمون كتابتي هذه إلى حججهم على ما يرمون به الأمير وما يرموننا به. ونحن ما أنكرنا يوما بيننا وبين عظماء أمتنا الإسلامية والعربية من روابط متينة وعلائق قوية وإن لم تكن بيننا معرفة شخصية ولا كتابية.

ونحن نكلف بالعظمة وندافع بالحق، ولو لم تكن منا، فكيف بها إذا كانت منا- وقديما قال شاعرنا أبو عبادة البحتري: وأراني من بعد اكلف بالا شـ … ـراف طرا من كل سنخ وجنس عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 10، م 13، ص 438 - 446 بسكرة النخيل 1 شوال 1356هـ - 12 دسامبر 1937م.

الوحدة العربية

الوحدة العربية هل بين العرب وحدة سياسية ــــــــــــــــــــــــــــــ إذا قلنا العرب فإننا نعني هذه الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلانطيقي غربا، والتي فاقت سبعين مليونا عدّا تنطق بالعربية وتفكر بها وتتغذى من تاريخها وتحمل مقدارا عظيما من دمها وقد صهرتها القرون في بوتقة التاريخ حتى أصبحت أمة واحدة. هذه الأمة العربية تربط بينها- زيادة على رابطة اللغة- رابطة الجنس، ورابطة التاريخ، ورابطة الألم، ورابطة الأمل، فالوحدة القومية والأدبية متحققة بينها ولا محالة. ولكن هل بينها وحدة سياسية؟ هذا هو الموضوع الذي طرقه الأمير شكيب أرسلان وقال فيه كلمة السياسي العملي والخبير المحنك فتعرض له سليمان باشا الباروني بمقال نقضناه عليه في الجزء الماضي وفضحنا ما فيه من خطاأ وتحامل. الوحدة السياسية لا تكون إلا بين شعوب تسوس نفسها فتضع خطة واحدة تسير عليها في علاقاتها مع غيرها من الأمم، وتتعاقد على تنفيذها، وتكون كلها في تنفيذها والدفاع عنها يدا واحدة، فهي مقتدرة على الدفاع عنها كما كانت حرة في وضعها، وأما الأمم المغلوبة على أمرها فهذه لا تستطيع أن تضع أمرا لنفسها فكيف تستطيع أن تضعه لغيرها، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها فكيف تستطيع ان تدافع عما تقرره مع غيرها. وهي لم تستطع أن تعتمد على نفسها في

داخليتها فكيف يعتمد عليها في خارجيتها؟ فالوحدة السياسية بين هذه الأمم أمر غير ممكن ولا معقول ولا مقبول. واذا نظرنا إلى الأمة العربية على ضوء هذه الحقيقة فإنا نجد منها شعوبا مستقلة استقلالا حقيقيا فهذه تمكن بينها الوحدة السياسية وتجب. وقد وقعت في هذه الأيام- والحمد لله- فعلا بين المملكة السعودية والعراق واليمن ومن المنتظر انضمام مصر والشام إليهم يوم يتم استقلالهما. ثم نجد شعوبا أخرى وهي شعوب الشمال الإفريقي المصابة بالاستعمار فهذه لا وحدة سياسية بينها ولا بين غيرها ولا يتصور أن تكون. ومن الخير لها أن تعمل كل واحدة منها في دائرة وضعيتها الخاصة على ما يناسبها من الخطط السياسية التي تستطيع تنفيذها بالطرق المعقولة الوصلة، مع الشعور التام بالوحدة القومية والأدبية العامة والمحافظة عليها والمجاهرة بها، ونحن نعلم أن الواقع اليوم في شمالنا الإفريقي العربي هو هذا بعينه، فنقول- بكل صدق وصراحة- أن كل شعب من شعوب هذا الشمال مستقل تمام الاستقلال بخططه في سياسته، لا نعرف هيئة منهم تتصل بهيئة مع عمل الجميع على تغذية الشعور بالوحدة القومية والأدبية العامة. والأمير شكيب الذي تعده الدول المستعمرة ألد أعدائها وتنسب إليه- ظلما وزورا- كل حركة تقع في الأمم المصابة باستعمارها، يصرح في خطابه بعدم الوحدة السياسية بين شعوب العرب المغلوبة على أمرها وشعوبهم المستقلة، لأنه- وهو أكبر مدافع عن العرب والإسلام في الغرب والمشرق- رجل عملي ليس بخيالي، وسياسي مجرب خبير يعرف ما يقول ويفرق بين العمل المثمر والقول الفارغ الذي يثير الضجيج لينسب صاحبه إلى الغيرة والحماس، وإن كان يثير الغبار ويكدر الجو في نواح أخرى. هذا رأينا في الوحدة

السياسية بين شعوب العرب. ونحن نعتقد أنه هو رأي جميع إخواننا العاملين في هذا الشمال (1). عبد الحميد بن باريس

_ (1) ش: ج 11، م 13، ص 472 - 473 غرة ذي القعدة 1356هـ- جانفي 1938م.

أصول الولاية في الإسلام

أصول الولاية في الإسلام من خطبة الصديق رضي الله تعالى عنه ــــــــــــــــــــــــــــــ لما بويع لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه- بالخلافة رقي المنبر فخطب في الناس خطبة اشتملت على أصول الولاية العامة في الإسلام مما لم تحققه بعض الأمم إلا من عهد قريب على اضطراب منها فيه. وهذا نص الخطبة: "أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم". الأصل الأول: لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل فلا يتولى أحد أمرها إلا برضاها فلا يورث شيء من الولايات ولا يستحق الاعتبار الشخصي. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: "وليت عليكم" أي قد ولاني غيري وهو أنتم. الأصل الثاني: الذي يتولى أمرا من أمور الأمة هو أكفؤها فيه لا خيرها في

الأصل الثالث

سلوكه. فإذا كان شخصان اشتركا في الخيرية والكفاءة وكان أحدهما أرجح في الخيرية والآخر أرجح في الكفاءة لذلك الأمر قدم الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية ولا شك أن الكفاءة تختلف باختلاف الأمور والمواطن فقد يكون الشخص أكفأ في أمر وفي موطن لاتصافه بما يناسب ذلك الأمر ويفيد في ذلك الموطن وإن لم يكن كذلك في غيره فيستحق التقديم فيه دون سواه. وعلى هذا الأصل ولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن العاص غزاة ذات السلاسل وأمدَّه بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح فكانوا تحت ولايته وكلهم خير منه. وعليه عقد لواء أسامة بن زيد على جيش فيه أبو باكر وعمر. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: "ولست بخيركم". الأصل الثالث: لا يكون أحد بمجرد ولايته أمرا من أمور الأمة خيرا من الأمة، وإنما تنال الخيرية بالسلوك والأعمال، فأبو بكر إذا كان خيرهم فليس ذلك لمجرد ولايته عليهم بل ذلك لأعماله ومواقفه، وهذا الأصل مأخوذ أيضا من قوله: "ولست بخيركم"، حيث نفى الخبر عند ثبوت الولاية. الأصل الرابع: حق الأمة في مراقبة أولي الأمر لأنها مصدر سلطتهم وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم. الأصل الخامس: حق الوالي على الأمة فيما تبذله له من عون إذا رأت استقامته فيجب عليها أن تتضامن معه وتؤيده إذ هي شريكة معه في المسؤولية. وهذا - كالذي قبله- مأخوذ من قوله: "إذا رأيتموني على حق فأعينوني".

الأصل السادس

الأصل السادس: حق الوالي على الأمة في نصحه وإرشاده ودلالته على الحق إذا ضل عنه، وتقويمه على الطريق إذا زاغ في سلوكه. وهذا مأخوذ من قوله: "وإذا رأيتموني على باطل فسددوني". الأصل السابع: حق الأمة في مناقشة أولي الأمر ومحاسبتهم على أعمالهم وحملهم على ما تراه هي لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم وهذا كله من مقتضى تسديدهم وتقويمهم عندما تقتنع بأنهم على باطل ولم يستطيعوا أن يقنعوها أنهم على حق. وهذا مأخوذ- أيضا- من قوله: "وإن رأيتموني على باطل فسددوني". الأصل الثامن: على من تولى أمرا من أمور الأمة أن يبين لها الخطة التي يسير عليها ليكونوا على بصيرة ويكون سائرا في تلك الخطة عن رضى الأمة. إذ ليس له أن يسير بهم على ما يرضيه وإنما عليه أن يسير بهم فيما يرضيهم وهذا مأخوذ من قوله: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم" فخطته هي طاعة الله وقد عرفوا ما هو طاعة الله في الإسلام. الأصل التاسع: لا تحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها وعرفت فيه فائدتها وما الولاة إلا منفذون لإرادتها فهي تطيع القانون لأنه قانونها لا لأن سلطة أخرى لفرد أو لجماعة فرضته عليها كائنا من كان ذلك الفرد وكائنة من كانت تلك الجماعة فتشعر بأنها حرة في تصرفاتها وإنها تسير نفسها بنفسها وإنها ليست ملكا لغيرها من الناس لا الأفراد ولا الجماعة ولا الأمم. ويشعر هذا الشعور كل فرد من أفرادها إذ هذه الحرية

الأصل العاشر

والسيادة حق طبيعي وشرعي لها ولكل فرد من أفرادها. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم". فهم لا يطيعونه هو لذاته وإنما يطيعون الله باتباع الشرع الذي وضعه لهم ورضوا به لأنفسهم وإنما هو مكلف منهم بتنفيذه عليه وعليهم فلهذا إذا عصى وخالف لم تبق له طاعة عليهم. الأصل العاشر: الناس كلهم أمام القانون سواء لا فرق بين قويهم وضعيفهم فبطبق على القوي دون رهبة لقوته، وعلى الضعيف دون رقة لضعفه. الأصل الحادي عشر: صون الحقوق حقوق الأفراد وحقوق الجماعات فلا يضيع حق ضعيف لضعفه ولا يذهب قوي بحق أحد لقوته عليه. الأصل الثاني عشر: حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق. فيؤخذ الحق من القوي دون أن يقسى عليه لقوته فيتعدى عليه حتى يضعف وينكسر. ويعطي الضعيف حقه دون أن يدلل لضعفه فيطغى عليه وينقلب معتديا على غيره. وهذا الأصل واللذان قبله مأخوذة من قوله: "ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه". الأصل الثالث عشر: شعور الراعي والرعية بالمسؤولية المشتركة بينهما في صلاح المجتمع، وشعورهما- دائما- بالتقصير في القيام بها ليستمرا على العمل بجد واجتهاد، فيتوجهان بطلب المغفرة من الله الرقيب عليهما وهذا مأخوذ من قوله: "أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم".

هذا ما قاله ونفذه أول خليفة في الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، فأين منه الأمم المتمدنة اليوم؟ فهل كان أبو بكر ينطق بهذا من تفكيره الخاص وفيض نفسه الشخصي؟ كلا! بل كان يستمد ذلك من الإسلام ويخاطب المسلمين يوم ذاك بما علموه وما لا يخضعون إلا له ولا ينقادون إلا به. وهل كانت هذه الأصول معروفة عند الأمم فضلا عن العمل بها؟ كلا! بل كانت الأمم غارقة في ظلمات من الجهل والانحطاط ترسف في قيود الذل والاستعباد تحت نير الملك ونير الكهنوت فما كانت هذه الأصول - والله إذن- من وضع البشر وإنما كانت من أمر الله الحكيم الخبير. نسأله- جل جلاله- أن يتداركنا ويتدارك البشرية كلها بالتوفيق للرجوع إلى هذه الأصول التي لا نجاة من تعاسة العالم اليوم إلا بها (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 11، م 13، ص 468 - 471 غرة ذي القعدة ه - جانفي 1938م.

توضيح

توضيح إننا نفرق جيدا بين الروح الإنسانية والروح الاستعمارية في كل أمة فنحن بقدر ما نكره هذه ونقاومها، نوالي تلك ونؤيدها. لأنَّا نتيقن كل اليقين أن كل بلاء العالم هو من هذه، وكل خير يرجى للبشرية إنما يكون يوم تسود تلك. فلتسقط الروح الاستعمارية ولتندحر. ولترتفع الروح الانسانية ولتنتشر (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 11، م 13، ص 493 غرة ذي القعدة 1356هـ - جانفي 1938م.

الجزائر المسلمة

الجزائر المسلمة تبرهن في أحرج مواقفها على تماسكها بشخصيتها: بإسلامها وعربيتها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كبر على الرجعيين وأشباه الرجعيين بفرنسا أن يعطوا الحقوق الانتخابية البرلمانية لعدد لا يتجاوز خمسة وعشرين ألفا من الأمة الجزائرية، ما داموا محافظين على شخصيتهم وقوميتهم، كما يقتضيه "بروجي فيوليت"، ورأوا أنهم لا يمكن أن ينعموا على الأمة الجزائرية بذه النعمة! إلا إذا رضيت بمحو شخصيتها والانسلاخ عن دينها. ثم منهم من صدر في رأيه هذا عن كيد للأمة الجزائرية لصدها عن نيل الحق الطفيف لأنه يعلم أنها لا تتنازل عن شخصيتها فيجد المبرر لحرمانها، وهذا هو الأكثر. ومنهم من صدر عن حسن قصد مغترا بكلمات طائشة من أفراد قالوها عن غضب أو قلة تبصر فحسب أن الأمة الجزائرية تخضع للأمر الواقع إذا ألزمت بمحو شخصيتها والانسلاخ عن دينها فأراد أن يحسن إليها ويرغم عتاة الاستعمار خصومها. فأصبحت الجزائر من هذين القسمين بين حرمانها من كل حق لها، وسلبها من أعز عزيز عليها، موقف- والله- من أحرج مواقفها. لقد كانت عبار "بروجي فيوليط" قبل "المؤتمر الإسلامي الجزائري" غير صريحة في المحافظة على الشخصية الإسلامية وكان قسم عظيم من الأمة ذاهبا مع تياره رغم ذلك الإبهام فلما انعقد المؤتمر في 17 جوان 1936، كان عمل العلماء فيه المحافظة على تلك الشخصية

حتى أعلن المؤتمر بالإجماع لزوم المحافظة عليها فلما عرض م فيوليت بروجيه على وزارة الجبهة الشعبية الأولى التي كان وزيرا فيها، حور بروجيه- نزولا- عند كلمة الأمة فصرح فيه بلزوم المحافظة على الشخصية الإسلامية. فلما قامت سوق الكلام على هذا "البروجي" في هذه المدة الأخيرة صرح بعض النواب الفرنسيبن من الجزائر أن المحافظة على الشخصية الإسلامية إنما هي وضع العلماء وتطرفت صحيفة استعمارية كبيرة فجعلته من تعصب ابن باديس. لكنه ما كادت الأمة تسمع بالمساومة على شخصيتها حتى قامت من جميع نواحي الوطن بالاعتراض والاستنكار. فنشر العلماء بيانا وتحذيرا للأمة والحكومة في جريدة "البصائر" وأوفدت جمعية النواب لعمالة قسنطينة وفدا وجمعية النواب لعمالة الجزائر وفدا، وجمعية النواب لعمالة وهران وفدا، والنواب الماليون والعماليون غير الداخلين في الجمعيات وفدا. وذهبت تلك الوفود كلها إلى باريس، ومعها وفد من رجال الواجهة الشعبية للمطالبة ببروجي فيوليت مع المحافظة التامة على الشخصية الإسلامية ولو أدى ذلك إلى الحرمان من كل حق. فكانت هذه كلمة الأمة الحازمة الحاسمة، وكانت هي الدليل القاطع على أن العلماء في كل ما يقومون به من خدمة الإسلام والعربية لبقاء الذاتية الإسلامية والشخصية القومية هم باسم الأمة يعملون وبلسانها ينطقون وأن كل من خذلهم في خدمتهم فقد خذل الأمة وكل من أيدهم في خدمتهم فقد أيد الأمة. فنحن نهيب بفرنسا التي لا نرى من مصلحة الجزائر في الوقت الحاضر قطعا أن تتراخى علاقاتها بها أن تحترم الأمة الجزائرية في إسلامها وعربيتها وتنيلها حقوقها. ونلفت نظر كل نائب إلى ما عليه من

واجب في حماية الإسلام والعربية اللذين هما أعز كل عزيز على الأمة التي هو نائب عنها. وكفى بكلمتها الاجتماعية التي قالتها في مؤتمرها وفي هذا الموقف الحرج من مواقفها- دليلا على منزلتهما عندها (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 12، م 13، ص 508 - 510 غرة ذي الحجة 1356هـ - فيفري 1938م.

الخلافة أم جماعة المسلمين

الخلافة أم جماعة المسلمين إن الخلافة هي المنصب الإسلامي الأعلى الذي يقوم على تنفيذ الشرع الإسلامي وحياطته بواسطة الشورى من أهل الحل والعقد من ذوي العلم والخبرة والنظر، وبالقوة من الجنود والقواد وسائر وسائل الدفاع. ولقد أمكن أن يتولى هذا المنصب شخص واحد صدر الاسلام وزمنا بعده- على فرقة واضطراب- ثم قضت الضرورة بتعدده في الشرق والغرب، ثم انسلخ عن معناه الأصلي وبقي رمزا ظاهريا تقديسيا ليس من أوضاع الإسلام في شيء. فيوم ألغى الأتراك الخلافة- ولسنا نبرر كل أعمالهم- لم يلغوا الخلافة الإسلامية بمعناها الإسلامي وإنما ألغوا نظاما حكوميا خاصا بهم وأزالوا رمزا خياليا فتن به المسلمون لغير جدوى. وحاربتهم من أجله الدول الغربية المتعصبة والمتخوفة من شبح الإسلام. علمت الدول الغربية المستعمرة فتنة المسلمين باسم "خليفة" فأرادت أن تستغل ذلك مرات عديدة أصيبت فيها كلها بالفشل. ليس عجيبا من تلك الدول أن تحاول ما حاولت وغاياتها معروفة ومقاصدها بينة. وإنما العجب أن يندفع في تيارها المسلمون وعلى رأسهم أمراء وعلماء منهم، ومن هذا الاندفاع ما يتحدث به في مصر فتردد صداه الصحف في الشرق والغرب وتهتم له صحافة الانكليز على الخصوص يتحدثون في مصر وفي الأزهر عن الخلافة كأنهم لا يرون المعاقل الانكليزية الضاربة في ديارهم ولا يشاهدون دور الخمور والفجور المعترف بها في قانونهم.

كفى غرورا وانخداعا إن الأمم الإسلامية اليوم- حتى المستعبدة منها- أصبحت لا تخدعها هذه التهاويل ولو جاءتها من تحت الجبب وا لعمائم. للمسلمين- مثلما لغيرهم من الأمم- ناحيتان: ناحية سياسية دولية وناحية أدبية اجتماعية. فأما الناحية السياسية الدولية فهذه من شأن أممهم المستقلة ولا حديث لنا عليها اليوم. وأما الناحية الأدبية الاجتماعية فهي التي يجب أن تهتم بها كل الأمم الإسلامية المستقلة وغيرها لأنها ناصية تتعلق بالمسلم من جهة عقيدته وأخلاقه وسلوكه في الحياة في أي بقعة من الأرض كان، ومع أي أمة عاش وتحت أي سلطة وجد، وليست هذه الناحية الإنسانية المحضة دون الناحية الأولى في مظهر الإسلام ولا دونها في الحاجة إلى الحفظ والنظام لأجل خير المسلمين على الخصوص وخير البشرية العام .. إن الأمم الكاثوليكية- مثلا- على اختلاف أوضاعها السياسية وتباين مشاربها وأنظارها فيها، ترجع في ناحيتها الأدبية الدينية إلى مركز أعلى هو بابا روما المقدس الشخص والقول في نظر جميعهم. نعم ليس لنا- والحمد لله- في الإسلام بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم شخص مقدس الذات والقول تدَّعى له العصمة، ويعتبر قوله تنزيلا من حكيم حميد، ولكن لنا جماعة المسلمين وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين من الناحية الدينية والأدبية ويصدرون عن تشاور ما فيه خير وصلاح. فعلى الأمم الإسلاميه جمعاء أن تسعى لتكون هذه الجماعة من أنفسها بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخل الحكومات لا الحكومات الإسلامية ولا غيرها. لقد كنت كاتبت صاحب الفضيلة شيخ الأزهر الشريف بهذا المعنى ولكنني لم أتلق منه جوابا وعرفت السبب يوم بلغنا أن إخواننا الأزهريين

هتفوا- يوما- بالخلافة لملك مصر فاروق الأول. وسيرى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، أن خيال الخلافة لن يتحقق، وأن المسلمين سينتهون يوما ما- إن شاء الله- إلى هذا الرأي (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 2، م 14، ص 61 - 63 غرة ربيع الأول 1357هـ- ماي 1938م.

فلسطين الشهيدة

فلسطين الشهيدة رحاب القدس الشريف مثل رحاب مكة والمدينة، وقد قال الله في المسجد الأقصى في سورة الإسراء: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ليعرفنا بفضل تلك الرحاب. فكل ما هو واقع بها كأنه واقع برحاب المسجد الحرام ومسجد طيبة. حمى الإسلام تلك الرحاب من أيامه الأولى، وحمى جميع مقدسات جميع الملل وكف عادية بعضهم عن بعض وعاش اليهود تلك القرون الطويلة ينعمون برخاء العيش وحرية المعتقد واحترام المعاهد. تزاوج الاستعمار الانكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل وقذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يطاق وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحا لا يندمل. نقول، لقسم كبير من اليهود، لأن هنالك من اليهود عددا كثيرا يستنكر هذا المأتى الجنوني الظلوم، ويعترف بجميل الإسلام والسعادة التي نعم بها اليهود ويهود القدس في ظله الوارف الأمين. فقد قدم رئيس الطائفة السامرية إلى حاكم نابلس عريضة احتج فيها باسم الطائفة على الاعتداءات الاثيمة التي وقعت على العرب في القدس وحيفا ويافا هذانصها: "نحن أفراد الطائفة السامرية رجالا ونساء نستنكر بشدة أعمال الاعتداءات الفظيعة التي يقوم بها أشخاص من اليهود ضد قوم أبرياء في حيفا ويافا والقدس، ونطلب بشدة الحيلولة دون تكرار هذه

الحوادث المروعة ونصرح بأننا- على أقليتنا- نعيش منذ ألوف السنين مع مواطنينا العرب في سلام، ولم يحدث أن اعتدى منهم أحد علينا أو حاول اضطهادنا". هذه هي الحالة العامة التي كانت عليها فلسطين ألوف السنين حتى جاء الزوجان المشئومان الصهيونية والاستعمارية فكان البلاء على فلسطين كلها عربها ويهودها. فليست الخصومة بين كل عرب فلسطين ويهودها، ولا بين كل مسلم ويهودي على وجه الأرض، بل الخصومة بين الصهيونية والاستعمار الانكليزي من جهة والإسلام والعرب من جهة، والضحية فلسطين والشهداء حماة القدس الشريف. والميدان رحاب المسجد الأقصى، وكل مسلم مسؤول أعظم المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يجري هنالك، من أرواح تزهق وصغار تيتم ونساء ترمل وأموال تهلك وديار تخرب وحرمات تنتهك، كما لو كان ذلك كله واقعاً بمكة أو بالمدينة، إن لم يعمل لرفع ذلك الظلم الفظيع بما استطاع. يريد الاستعمار الانكليزي الغاشم أن يستعمل الصهيونية الشرهة لقسم الجسم العربي وحطِّ قدس الإسلام فيملأ فلسطين بالصهيونيين المنبوذين من أمم العالم. ولأجل هذه الغاية الظالمة تجند جنود الانكليز وتجمع أموال الصهيون وتسفك الدماء البريئة وتلطخ بها الرحاب المقدسة. يجري كل هذا وترتفع له أصوات العالم الإسلامي والعالم العربي بالاحتجاج والاستنكار ويخاطب ملوك العرب والإسلام حكومة الانكليز فلا تزيد آذانها إلا صمما ولا قلبها إلا تحجرا. نقول العالم الإسلامي والعالم العربي، لأننا لم نر ولم- نسمع من غيرهما احتجاجا جديا واستنكارا صارخا حتى الذين يقيمون الدنيا

ويقعدونها بصراخهم ويبذلون ما يبذلون من مساعداتهم في أوطان أخرى لم نرهم إزاء فلسطين الشهيدة إلا سكوتا أو شبه سكوت- وشتان ما بين من يريد المقاومة ومن يريد رفع الملام. نحن- المسلمين- أعداء الظلم بطبيعتنا الإسلامية ونرحم المظلوم ولو كان هو ظالما لنا. منذ أيام كنت في حانوت تاجر مسلم- وقد قرأ علي أخبارا عن اضطهادات ألمانية جديدة على اليهود فلما فرغ من القراءة قال لي: "هذا يا شيخ حرام عندنا في الإسلام احنا نخليو الناس كلهم يعيشوا بأموالهم" فقلت له: نعم، وأخذت أبين له كيف عاش اليهود في ظل الإسلام. هذا عامي من أوساط الناس متمسك بدينه ومتألم من حالة القدس الشريف ويعرف أن بلاءها من مهاجرة يهود ألمانيا وغيرهم ومع ذلك يستنكر ما يلحقهم من الظلم. وها هم اليهود اليوم قد شردتهم ألمانيا ومن قوانينها الجديدة عليهم بيع أملاكهم ببرلين بالمزاد العام ومنعهم في المستقبل من الامتلاك، ومنعهم من صناعة الطب بتاتاً، والحكومة اليونانية منعتهم من دخول أرضها ولو على سبيل السياحة، وإيطاليا أخذت في اضطهادهم بأساليب علمية دقيقة وسياسة قاتلة، وفرانسا أيضا قد هبت عليها هبات من هذه السموم ستصيب اليهود أو قد أصابهم شيء من لفحها. هذا حالهم بين الأمم المسيحية وقد عادوا - أو كادوا- كما كانوا في القرون الوسطى لا يطمئنون على أزواجهم وأموالهم وثقافتهم إلا في بلاد الإسلام، وها هم مع ذلك يستمرون على ظلم الإسلام في قدس الإسلام ولا ناهي لهم ولا ناصح ممن يسمعون لنهيه ونصحه. وما يدريهم أن هذا البلاء الذي ابتدئ بصبه عليم هو جزاء ظلمهم لفلسطين ظلم الفعل وظلم الرضا وظلم السكوت عن الاستنكار. وأان الله لينتقم من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من الجميع. إن الدفاع عن القدس من واجب كل مسلم. وقد هب رجلات الإسلام في الشرق للقيام بهذا الواجب. فهنالك من ناحية الحكومات

ما يقوم به وزير مصر ووزير العراق باسم ملوك العرب في لندن، وهنالك اللجنة البرلمانية المصرية للدفاع عن فلسطين تضم فريقا كبيرا من حضرات الشيوخ والنواب المصريين وقد اعتزموا على عقد مؤتمر برلاني عام للبحث في قضية فلسطين على أن يشترك في المؤتمر أيضا زعماء العرب والمسلمين في الأقطار العربية والإسلامية التي لا توجد فيها برلمانات وصح عزم اللجنة على أن يعقد المؤتمر في مدينة القاهرة إن شاء الله يوم الجمعة الموافق لـ 12 شعبان 1357هـ و 17 أكتوبر سنة 1938م. سيكون هذا المؤتمر الأول من نوعه في الشرق العربي وستعرف به الصهيونية والاستعمار البربطاني أنها أمام العالم الإسلامي والعربي لا أمام فلسطين وحدها فعلى المسلمين كلهم أن يؤيدوا هذا المؤتمز برفع أصواتهم إليه، وعلى اليهود الذين ينكرون ظلم الصهيونية وشرها أن يغتنموا هذه الفرصة الفريدة لإعلان استنكارهم. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 6، م 14، ص 1 - 4 غرة جمادى الثانية 1357هـ- أوت 1938م.

حول مساجين العلماء

حول مساجين العلماء هل في سجن "الكدية" ما يذكرنا بـ (الباستيل)؟ ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الباستيل وما أدراك ما الباستيل! وما أحوج الشعوب المستضعفة أن تعرف تاريخ الباستيل ونهاية الباستيل! هو حصن منيع اتخذه ملوك فرنسا المستبدون سجنا يلقون فيه الأحرار المفكرين، فيقضون أيام في ظلمات اقبائه حتى يأتي عليهم الموت، يلقونهم في غيابات هذا السجن الرهيب دون محاكمة ولا جرم معلوم. وفي 14 جوليت سنة 1789 هاجم الشعب الفرنسي الثائر هذا الحصن وضربه بالمدافع واستولى عليه ومثل بحراسه شر تمثيل وأطلق سراح من فيه. كان سقوط هذا السجن رمزا لسلطة الشعب وفوز الأحرار، كما كان قيامه رمزا لاستبداد الملوك وخنق الحرية. لذلك اتخذ يوم سقوطه عيدا للحرية تجدد فرنسا ذكراه في كل عام. وكانت ذكراه في هذه السنة لمرور السنة 150 بالغة أقصى الفخامة والأبهة، اشترك فيها المستعبِدون، والمستعبَدون ... ما هي ميزة هذا السجن بين السجون؟ ميزته إلقاء الأحرار فيه دون محاكمة ولا جرم معلوم. وهذه الميزة لم يبق لها- فيما نعرف- من نظير في البلدان التي تملك أمر نفسها وتسيطر الشعوب فيها على حكومتها.

أما في الأمم المملوكة أو الشعوب التي لا سلطان لها على حكوماتها فما تزال ميزة الباستيل باقية فيها إلى اليوم. وها نحن في الجزائر نرى ذلك ونتجرع آلامه. ففي سجن "الكدية" بقسنطينة قد ألقي أربعة من أعضاء جمعية العلماء المسلين الجزائريين دون جرم معلوم ودون أن يقدموا للمحاكمة، أربعة من العلماء: الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي والشيخ عبد القادر الباجوري والشيخ علي بن سعد والسيد محمد الكامل، مضت عليهم في السجن سنة وأربعة أشهر مع المجرمين! ومن عجب المقارنات أن يحتفل بمرور 150 سنة على سقوط الباستيل وهم ينيؤون تحت ما من مثله أسقط الباستيل. لم يثر هؤلاء العلماء ضد السلطة ولا تداخلوا في أوضاعها الإدارية ولا أسسوا لتقويمها منظمات سياسية. وإنما قاموا بواجبهم الديني في بلادهم سوف (1) وقراها، ينشرون الإسلام ولغة الإسلام وينهضون بإخوانهم في دائرة دينهم وكان أهل تلك البلاد أرق أفئدة وأصفى عقولا وأمتن دينا وأسرع إجابة للحق والخير فانثالوا عليهم يجيبون داعي الله ويقبلون على تعلم الدين ولغة الدين. هذا ما كان والله. لكن الذين لا يرضيهم مثل هذا- وهم أصناف- بيتوا أمرهم وتعاقدوا على قتل هذه الزيادة الدينية العلمية من تلك الديار فصوروها صورتها وأوقعوا بتلك البلاد الآمنة ما أوقعوا مما سبله عليهم التاريخ. وكتب على صفحات القلوب بأقلام الضلوع وحبر الدموع، وسيق الناس إلى السجون والأعمال الشاقة وسيق هؤلاء الشيوخ على الخصوص بتهمة التآمر على أمن الدولة أو الثورة على النظام أو الاتصال

_ (1) بلد في الواحات بالصحراء الجزائرية.

بالأعداء أو ما شئت من مثل هذه التهم التي يتسع لها الخيال، ولم يثبت شيء منها- ولن يثبت- إلى الآن وبعد الآن. إننا لا نطلب العفو والإفراج عنهم، وإنما نطلب تقديمهم للمحاكمة ونشر قضيتهم أمام العدالة والرأي العام. إننا على ثقة من براء أصحابنا، وعلى ثقة من فضيحة هذه المعاملات الاستثنائية التي لا يرتضيها الحق، ولا تقتضيها- خصوصا في هذه الأوقات- مصلحة. وإذا كان من تقديم إخواننا للمحاكمة رفع مَّا للظلم عنا، فإن فيه محوا مَّا لكلفة شوهت وجه عيد الحرية. فإلى المحاكمة إن كنتم تريدون شر العدل وجمال الحرية (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) البصائر: عدد 178 قسنطينة يوم السبت 24 جمادى الثانية 1358هـ - 11/ أوت 1939م ص 1، ع 1 و 2 و 3.

أولو الأمر

أولو الأمر هذه كلمة قرآنية، فمن هم المرادون بها؟ فقد أوجب الله طاعتهم على المؤمنين فمن اللازم شرعا أن يعرفوا ليمتثل أمر الله تعالى فيهم، فمن هم؟ قد اختلف فيهم فقيل هم- العلماء، وقيل هم الأمراء من المسلمين، والصحيح أنهم العلماء والأمراء معا وإليك البيان: لله الخلق والأمر، والأمر أمران: الأمر التكويني، والأمر التشريعي والثاني هو المراد هنا، وما أمر بطاعة أولي الأمر إلا لأنهم يأمرون بأمر الله، فكانت طاعتهم طاعة الله. وأمر الله نحتاج إلى تعيينه وإلى تنفيذه، فبالعلم يعين، وبالسلطان ينفذ، فالعلماء يصدق عليهم أولو الأمر لأنهم الذين يعينون أمر الله بطرائق العلم المقررة، والأمراء يصدق عليهم أولو الأمر لأنهم ينفذونه بحمل الناس عليه بما جعل الله لهم من سلطان. فإذا وجد العلماء دون الأمراء تعطلت الشريعة، وإذا وجد الأمراء دون العلماء ضلوا وأضلوا عن السبيل، ولا يستقيم الحال إلا بوجود الطائفتين وتعاونهما بطريق الشورى التي هي أساس الأمر في الإسلام. وقد بين لنا السلف الصالح رضي الله عنهم هذا بطريقة عملية فكان عمر - رضي الله عنه- وقد جمع بين العلم والسلطان يجمع الصحابة في النوازل الهامة ويستشيرهم ويجعلهم في الشورى على طبقاتهم كما فعل عند ما خرج إلى الشام وسمع بالطاعون والقصة ثابتة في الموطأ وغيره. دعاني إلى كتابة هذا مقال جليل نفيس نشرته مجلة الهداية الإسلامية بقلم أستاذنا العلامة الجليل الشيخ الخضر بن الحسين الطولقي الجزائري التونسي ثم المصري تحت عنوان (العلماء وأولو الأمر) فأحببت أن أنقله إلى قراء (الشهاب) وخشيت أن يفهم من عطف أولي الأمر على

العلماء في العنوان المذكور، إن العلماء لا يصدق عليهم اللفظ القرآني فأحببت أن أبين القول الحق في صدقه على الطائفتين وأحببت أيضا أن تكون مقدمتي هذه الصغيرة أمام ذلك المقال الكبير تذكرة لجلوسي لتلقي تهذيب المنطق بين يدي الأستاذ بجامع الزيتونة- عمره الله- ولسماع دروس من صدر تفسير البيضاوي بدار الأستاذ بشارع باب منارة من تونس الخضراء العزيزة حرسها الله. ولا يخفى أن الأستاذ أبقاه الله ابن أخت العلامة الجليل الشيخ المكي ابن عزوز رحمه الله، وكلاهما من أبناء الطرقية، ولكن العلم سما بهما إلى بقاع التفكير والهداية والإصلاح ولكليهما- أحسن الله جزاءهما- كتابات في التحذير مما عليه الطرقية اليوم تارة بالتصريح وتارة بالتلميح. وإلى القراء الكرام نص مقال الأستاذ أبقاه الله وهو من ذلك الطراز (1)

_ (1) ش: ج 8، م 15 قسنطينة شعبان 1358هـ سبتامبر 1939م ص 368 إلى 869. هذا آخر مقال للشيخ عبد الحميد بن باديس في آخر عدد من الشهاب الذي لم يصدر منه فيما يبدو إلا ملزمة واحدة مما جعل مقال الشيخ الخضر بن الحسين غير كامل فيه لذا لم ننشره.

قسم البرقيات والاحتجاجات

آثار ابن باديس قسم البرقيات والاحتجاجات

شكر عام للإحساس العام

شكر عام للإحساس العام تهاطلت على الإدارة البرقيات والكتب من جميع جهات القطر ومن تونس الشقيقة بالتهنئة بسلامة الأستاذ، والاستياء من توحش الجاني العليوي، مثلما تواردت وفود القسنطينبيبن من جميع طبقاتهم على داره، فجاءنا من جنابه ما يلي: إنني أشكر الشكر الجم الأمة الجزائرية جمعاء على ما ظهرته (1) من العطف والشعور نحو شخصي الضعيف، بما رأيت من القسنطينيين كلهم، وما تلقيته من الكتب والبرقيات من جميع الجهات. وأشكر كذلك الأمة التونسية العزيزة التي لا يفصلنا عنها غير الاعتبارات السياسية من فاصل في الوجود. إنني- وأيم الله- لأرى نفسي أحقر وأقل من هذا الاعتناء، ولكنني أسر وأبتهج عندما أعلم أن هذا الشعور العام دليل على (2) في قلوب المسلمين من المكانة العظيمة لكلمة الحق وكلمة الدين اللذين ما أوذيت إلا في سبيلهما من طائفة تدعي الخصوصية في الإسلام وتبعث أتباعها يسطون على الأبرياء بالظلم والعدوان. فهذا العاجز يكرر شكره بلسان الحق والدين لأهل هذا الشعور الطاهر الشريف، سائلا من الله تعالى أن يزيده رسوخا في قلوبهم على مدى الأيام (3). عبد الحميد بن باديس

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: أظهرته. (2) كذا في الأصل وصوابه: على ما في قلوب .. (3) الشهاب: عدد 76 ص 15 - 16، 18 جمادى الثانية 1345ه - 22 دسامبر 1926م.

احتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

احتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ضد اعتداء النائب المالي غراب وافترائه ــــــــــــــــــــــــــــــ كثر على هذا الرجل مع جهله باللغتين أن يتعرض لجمعية علمية كبرى فيتقول عليها بجمل لا يفهم معناها ومفردات ما جرت على لسانه من قبل- مثلما في خطابه ضد الجمعية الذي نشرناه بالعدد السابق- لولا أنه اعتاد أن يوحى إليه بالأمر فيجريه على لسانه، ويكتب له الكتاب فينسبه إلى نفسه. ولكنه ليس بكثير عليه ولا غريب عنه ولا بعيد عنه أن ينطوي قلبه على البغض والكيد للعلم والعلماء، فيغتنم فرصة اجتماع المستدعين لملاقاة الوالي العام في إدارة الأمور الأهلية فيلقي ما لقي إليه ويتحمل مسؤوليته بعد نشره، لأنه على مقتضى هواه من بغض العلم وأهله والسعي في إلحاق الشر والأذى بهم. ولولا اسم النيابة الذي يحمله- والله يعلم كيف كان حمله- والمجمع الحافل الذي نفث سمومه فيه، والإدارة الرسمية التي كان يلقي خطابه فيها لما بالت به الجمعية ولا أعارت كلامه أدنى التفات، ولكن مراعاة لهذه الوجوه فالجمعية ترفع احتجاجاتها لدى الأمة ولدى ممثل الحكومة الذي ألْقِيَ هذا الخطاب في حضرته. إحتجاجنا لدى الأمة: أيتها الأمة الجزائرية المسلمة! قد دعاك العلماء إلى العلم واحترام العلم واتباع العلم لما دعاك أضدادهم إلى الجهل وما يجر إليه الجهل، قد دعاك العلماء إلى التفكير في الدنيا والآخرة لما دعاك أضدادهم إلى الجمود والخمول في الدنيا والدين،

إحتججنا لدى الحكومة

قد دعاك العلماء إلى العمل والكد والتعاون لما دعاك أضدادهم إلى الكسل والبطالة والتواكل، قد دعاك العلماء إلى الله وعبادته وحده لما دعاك أضدادهم إلى أنفسهم وتقديسهم، قد دعاك العلماء إلى كتاب الله لما دعاك أضدادهم إلى خرافاتهم، قد دعاك العلماء إلى اتباع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- والسلف الصالح- رضي الله عنهم- لما دعاك أضدادهم إلى اتباع أسلافهم وبدعهم وقبيح عاداتهم، قد دعاك العلماء إلى البذل في سبيل الخير العام فالمغرم القانوني لما دعاك أضداده إلى البذل لهم وملء خزائنهم. هؤلاء العلماء - أيتها الأمة الكريمة- الذين دعوك دعوة الحق لا يريدون منك جزاء ولا شكورا، وهم يتحملون في سبيلك ما تعلمين وما لا تعلمين. قد قام هذا النائب الجاهل الذي تشرف بالنيابة عنك وتحملت مسؤولية ما يأتيه باسمك، يوجه مطاعنه الكاذبة ومفترياته السامة إلى جميع العلماء المسلمين الجزائريين يحاول نسفها من أصلها، ويطلب من الحكومة بإلحاح أن تعاملها المعاملة "الشديدة القاسية"، حتى كأنَّ المسكين تخيل نفسه نائب الحق العام أمام قفص الاتهام. فإليك أيتها الأمة التي ما رأت منها الجمعية إلا الإكرام بإكرامها لوفودها، وما رأت منها إلا الإقبال بإقبالها على جريدتها، التي ما راجت جريدة في القطر مثل رواجها، وما رأت منك إلا التأييد بما جاءها من وفودك للاجتماع العام الماضي من أجتماعاتها، فإليك - أيتها الأمة الكريمة- ترفع الجمعية احتجاجها على هذا النائب الجاهل المعتدي المفتري، وأنت تعرفين بعد أين تضعينه ... إحتججنا لدى الحكومة: أيتها الحكومة الفرنسوية، حكومة الجمهورية، المشيدة على العلم، والأمة التي قدس بمعلمة الأمة، ما أسسنا جمعيتنا إلاَّ على مقتضى قوانينك العادلة، وما أردنا إلا مساعدتك على تعليم وتهذيب وترقية

إحتجاجنا إلى ممثل الحكومة في ذلك المجلس

هذه الأمة الجزائرية المرتبطة بك في السراء والضراء مدة قرن، وهي ما زالت تعرف بين الأمم بأنها أمة منحطة جاهلة، وقد خطبنا في الجموع الحاشدة وكتبنا في الصحف المنشرة، وما كانت دعوتنا في كل ما خطبنا وكتبنا إلا إلى العلم والتهذيب وتثقيف العقول وإتقان العمل كل والتعاون مع جميع السكان واحترام القوانين، ثم لم تكمل على تأسيس جمعيتنا سنتان حتى أصبحنا نلقى من الانتفاعيين الذين لا يعيشون إلا على الجهل ما نلقى من وشايات كاذبة تولد تقريرات باطلة، وتجرئ مثل هذا النائب على أن يقول ما قال. فإليك أيتها الحكومة العظيمة، نرفع احتجاجنا على هذا النائب المعتدي على كرامة العلتم، وهي كرامة الانسانية والعالم. إحتجاجنا إلى ممثل الحكومة في ذلك المجلس: أيها الممثل المحترم، قد كان جديراً بمجلسكم الموقر أن ينزه عن توجيه المطاعن الكاذبة لجمعية علمية محترمة في غيبتها. فإذا كان هذا النائب المتقول قد اعتدى على جمعيتنا فقد اعتدى على مجلسكم العظيم، وإذا كنا نحتج عليه لديكم لاعتدائه علينا فإنا نحتج عليكم لديكم لعدم اسكاته ولسكوتكم عليه. فعسى أن لا يجد مثله في المستقبل فرصة أمام أمثالكم للطعن والافتراء. وحسب الحكام العادلين وحسبنا منهم إثبات الحجة وتطبيق القانون، وذلك ما نرجو ونتحقق أنه من ممثلي فرنسا العظام سيكون، ولا نزال نسعى في خطتنا المستقيمة إلى غايتنا الشريفة واثقين مطمئنين وحسبنا الله ونعم الوكييل (1). عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ (1) الشريعة: العدد 6 السنة الأولى، قسنطينة يوم الاثنين 29 ربيع الثاني 1352هـ الموافق 21 أوت 1933م.

تلغراف الاحتجاج

تلغراف الاحتجاج وقع حجز جريدة (السنة) بالعاصمة و المجلس الإداري للجمعية منعقد بها فاتفق المجلس على رفع احتجاج على تعطيله و كلف الرئيس برفعه بعد اتصاله بقرار التعطيل رسميا و لمّا اتصل به رفع الاحتجاج ببرقية هذا نصها: وزير الداخلية: باريس إنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعرب لكم عن استيائها البالغ منتهاه وعن حزنها العميق الذي سببه تعطيل جريدة (2) (السنة) العربية وتحتج بكل ما لها من قوة على قراركم الؤرخ بـ: 22 جوان القاضي بهذا التعطيل الذي ينشأ عنه للجمعية ضرر مادي وأدبي جسيم. وإن عجب الجمعية عظيم جدا ومما يزيد في عظمه أنها تجهل أسباب التعطيل لعدم ذكرها في قراركم وأنها تعلن وتصرح أن الجريدة المعطلة لم تنشر إلا ما كتب في مواضيع دينية بحتة وفي مسائل لا تخرج عن دائرة العقائد والعبادات وتغتنم هذه الفرصة لإلفات نظركم إلى الدسائس التي يدسها لها بعض خصومها الذين لا غاية لهم سوى إنشاء شتى العراقيل في سبيل مشروعها التهذيبي الأخلاقي وتشويه سمعة أعضائها الذي (3) يشهد الواقع بنزاهتهم التامة وبراءتهم من كل تهمة. رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس

_ (1) كذا في الأصل والصواب: تعطيلها. (2) في الأصل: جريد (3) كذا في الأصل وصوابه: الذين.

رفع قضية ضد التعطيل

رفع قضية ضد التعطيل وقد كلفنا محامي الجمعية برفع قضية لدى مجلس الدولة الأعلى ضد قرار التعطيل (1).

_ (1) الشريعة: السنة الأولى، العدد الأول، الإثنين 24 ربيع الأول 1352هـ - 17 جويلية 1933 ص 2.

جمعية العلماء المسلمين الجزائربين وصولاتها الجدد

جمعية العلماء المسلمين الجزائربين وصولاتها الجدد تنبيه إلى رؤساء الشعب ــــــــــــــــــــــــــــــ قرر مجلس إدارة الجمعية الجديد في اجتماعه الأول رفض العمل بباقي وصولات الجمعية المطبوعة أولا، وقرر وضع مثال جديد يطبع عليه وصولات جدد. وقد طبعت الوصولات الجدد وسلمت لأمين المال ليمضيها وسنوجه من مجلداتها إلى رؤساء شعب الجمعية راجين منهم النشاط في العمل للنهوض بالجمعية ماديا وأدبيا (1). من رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس وداع وشكر: وقرر إرسال برقية وداع وشكر لعامل عمالة قسنطينة (م. كارل) وهي هذه: إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المجتمع اليوم بنادي الترقي بلغه بمزيد الأسف نبأ مبارحتكم لهذا الوطن بعد أن عمرتم فيه بشرف ولياقة تامين الوظيف السامي الذي كان قلدتكم إياه

_ (1) الصراط السوي: العدد 2 السنة الأولى قسنطينة يوم الاثنين 28 جمادى الأولى 1352هـ الموافق لـ 18 سبتمبر سنة 1933م ص 4، ع 2.

براءة

الحكومة الجمهورية وقمتم به أحسن قيام مدة سنين عديدة. وأن الجمعية تقدر إحسانكم للأمة الإسلامية الجزائرية وتشكر لكم مواقفكم الشريفة في شتى الظروف والحوادث التي حركت ما كان ساكنا بهذا القطر كما تشكر لكم شكراً خالصا ما أظهرتم لها من العناية وستحفظ لكم بسبب ذلك ذكراً جميلا لا ينسيه تعاقب الأيام. رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس براءة: وقرر إرسال كتاب لجناب الوالي العام وهو هذا: إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد صرحت في ظروف وفرص مختلفة ولا زالت تصرح وتؤكد بأنها بريئة من كل صبغة سياسية وأن خطتها وغاياتها وأغراضها التي لم تحد ولن تحيد عنها قط هي دينية علمية تهذيبية لا غير. كما تصرح وتؤكد لكم من جديد بأنها مستقلة عن كل الطوائف، وكل الأحزاب السياسية وغيرها سواء في ذلك الداخلية منها والخارجية، وهي جمعية جزائرية إسلامية تعمل للأمة الجزائرية الإسلامية في دائرة الديانة الإسلامية والقوانين الفرنسوية خلافا لما قرأناه وفهمناه من التصريحات المنسوبة إليكم في جريدة (البتي باريزيان) في عددها الصادر يوم أول نفامبر سنة 1933م. رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس

إحتجاج ديني إنساني

إحتجاج ديني إنساني: وقرر إرسال برقية احتجاج لوزارة الخارجية وهي هذه: إن الحوادث الدامية التي وقعت أخيراً بفلسطين قد آلمتنا ومست شعورنا الديني وأن تلك البقاع المقدسة عند جميع الأمم والتي هي القبلة الأولى للإسلام مما يجب أن تستنكر الإنسانية وكل روح دينية كل ما يكون فيها من ترتيب يؤدي إلى إثارة الفتنة وسفك الدماء بها فنحن باسم الدين والإنسانية نقدم لوزارة الخارجية الفرنسوية التي هي الممثلة لرعاياها المسلمين في مثل هذه المواقف احتجاجنا ضد ذلك. برقية تألم: وقرر إرسال برقية إلى فضيلة مفتي القدس وهي هذه: آلمتنا كما آلمت كل مسلم الحوادث الدامية الواقعة بفلسطين وإننا رفعنا احتجاجنا ضد ذلك بواسطة وزارة الخارجية الفرنسوية. رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الحميد بن باديس

_ الصراط السوي: السنة الأولى العدد 11 قسنطينة يوم الإثنين 9 شعبان 1352هـ الموافق لـ 27 نوفمبر 1933م الصفحة: 8، ع: 2 - 3.

تلغراف مرسل إلى السيد الوالى العام

تلغراف مرسل إلى السيد الوالى العام إن أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البالغ عددهم ألفين، المجتمعين بعاصمة الجزائر من اجتماعهم العمومي السنوي يعربون عن إخلاصم لفرنسا وارتباطهم بها ويلفتون نظركم بكل احترام نحو الحالة السيئة الناشئة عن منع الوعاظ والمرشدين الأحرار من المساجد وتضييق حرية التعليم العربي وتعطيل الجرائد التي تصدرها الجمعية باللغة العربية ويطلبون منكم مراعاة للصالح العام وتهدئة للأفكار أن ترفعوا كل تحجير وكل منع من النوع المشار إليه وأن تصدروا الأوامر التي تكفل حرية الديانة، وحرية التعليم العربي وحرية الصحافة العربية. رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس

_ ش: ج 9، م 10 (عدد خاص) غرة جمادى الأولى 1353هـ 12 أوت 1934م، ص 430.

حول مقال نشرته جريدة الطان

حول مقال نشرته جريدة الطان بعنوان: "قبل اجتماع اللجنة العليا للبحر المتوسط" وأذاعته عنها جرائد الشمال الإفريقي اليومية الفرنسية ــــــــــــــــــــــــــــــ جريدة الطان الباريسية الكبرى تعمل على إثارة الشعب الجزائري وتهييج الرأي العام بما نشرته من تهم باطلة وأكاذيب ملفقة كنا نحسب أنها ذهبت بذهاب مروجيها وإبعادهم عن إدارة حكومة الجزائر واطلاع الحكومة العليا بباريس على الحقيقة. ترجمة ما يتعلق بالجزائر من مقال الطان: المنشور في عددها الصادر بتاريخ 21 فيفري 1936م إلى العربية. 1 - تأثيره في الرأي العام الجزائري. 2 - إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بواسطة سمو الوالي العام. 3 - رسالة الاحتجاج التي أرسلتها الجمعية إلى (الطان) وطلبت منها نشرها إحقاقاً للحق ورداً للفرية المفتراة. (ترجمة ما يتعلق بالجزائر من مقال لطان) (1) (عدد 21 فيفري 1926م) عندما ألقى مسيو لوبر الوالي العام تقريره على مسامع مسيو سارو

_ (1) اخترنا نقل هذا المقال لبيان الجو الذي كتب فيه الرئيس عبد الحميد برقياته.

أثناء الأسبوع السالف، عزم رئيس الحكومة فجأة على استدعاء اللجنة العليا للبحر المتوسط، ذلك أنه في أيام قليلة، تغير الطقس السياسي في الكثير من الجهات الجزائرية، كأنما ذلك الأمر وقع بناء على أمر ورد من الخارج. فالمهيجون الذين نعرفهم من زمن بعيد، والذين كنا نعتقد أنهم أخلدوا لجانب الهدوء أثر الإنذارات التي تلقوها من مسيو ريني أثناء سياحته بقطر الجزائر سنة 1935م قد عاد إليهم الإقدام، ولعلهم يهيئون الجماعات الأهلية للقيام بنفرة رهيبة كالتي لا تزال آثارها عالقة بأذهان سكان قسنطينة. فالدكتور ابن جلول مؤسس ورئيس جمعية النواب المسلمين والنائب في المجلس المالي والعمالي ونائب شيخ مدينة قسنطينة، يتهم الإدارة علنا في جريدته (الانطانط) بأنها تريد أن تلقي بالجزائر في ميدان النيران والدماء. ويتبعه في هذا الطريق السيدان ابن باديس والطيب العقبي، وهما على رأس العلماء، قد جمعا في نادي الترقي كل الذين يعملون على تحطيم النفوذ الفرنسمي، باستعمال الوسائل المختلفة وبمثابرة ودقة عنصرية. وفي كل جهة نجد دعاة ناشطين للمذهب الوهابي الجديد، وهم أعوان الجامعة العربية الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، يرسلها إليهم من لوزان على طريق القاهرة، وطريقة عملهم غير متوحدة كما أن مطالبهم مختلفة: حرية الوعظ في المساجد والتعليم الحر بدون مراقبة. فهنا يقع حث الفلاحين على عدم دفع الضرائب وهم يقبلون، وهنالك تجمع الإعانات لشراء الديار التي ستكون تحت ستار المعاهد الدينية، مراكز لتعليم وتثقيف الناشئة الإصلاحية المتعصبة، وفي جهة أخرى يقع استثمار موت الأمير خالد حفيد عبد القادر، وقد توفي أخيرا بدمشق، ويقومون بدعوة لإقامة الصلوات العامة عليه.

إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

أما دعاية الأممية الثالثة (الشيوعية) فهي ليست بدعاية مبدئية، فدعاتها لا يبشرون بالشيوعية إنما يختارون أشياء يمكنهم بواسطتها الدعوة إلى حزب الثورة بين عملة السكة الحديد والمراسي وبقية الشغالين، فيدعونهم إلى مقاومة الفاشيستية وإلى تحبيذ سياسة الأعمال الزجرية النهائية (التي قررتها جمعية الأمم ضد إيطاليا) وبلا ريب أن العدالة قد استعملت حقها في زجر الزعماء الذين تقدموا بصفة فاضحة كالمنادي وبارتيل، إنما في غيبة هذين الزعيمين تقوم بالدعوة جمعية "الإعانة الأممية الحمراء" و"أحباب اورس س" الذين بواسطة جمعية "نجم شمال أفريقيا" يبثون في الأوساط الإسلامية أفلاما سنمائية تمجد أعمال الشيوعية، فناحيتا قسنطينة وتبسة القريبتان لتونس والتي يمكن الجولان بسهولة للدعاة بين تونس والجزائر بواسطتها، وتلمسان وهي مركز التعصب الديني القوي، هي النواحي التي تحوم حولها الشكوك بكثرة، والتي تسهر الولاية العامة على مراقبتها، حسبما سيبسطه مسيو لوبو أمام أعضاء اللجنة العليا للبحر المتوسط، انتهى. ... هذا هو المقال الذي نشرته الطان فأقام الجزائر وأقعدها، وصير الأمة الجزائرية ترجع في اتهامها وإساءة الظن بها إلى ما كانت عليه قبل عامين بعد أن هدأت الأفكار وركدت ريح المشاغبات وذهب الله بمن كانوا سببها وسبب كل ما حل ونزل بهذه الأمة الوديعة من جهد وبلاء، أما الاحتجاجات التي أثارها مفعول هذا المقال الذي كان وقعه جد شديد على الأمة كلها فهو كما يلي: إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أبرق رئيس جمعية العلماء إلى سمو الوالي العام على القطر الجزائري "بباريس" إحتجاجا على ما نشرته جريدة (الطان) بالبرقية الآتية:

رسلة جمعية العلماء إلى الطان

سيدي الوالي العام: إن ما رمت به صحيفة (الطان) الأمة الجزائرية جمعاء قد أستاءت له جميع طبقاتها، وهي تعلن لسموكم براءتها من تلك التهم واستياءها من كل ما يورث حكومتها سوء الظن بها، وترجو من سموكم أن تبرئوا ساحتها من تلك التهم الباطلة. عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الحميد بن باديس رسلة جمعية العلماء إلى الطان رئيس تحرير صحيفة الطان المحترم: إن ما نشر بصحيفتكم في شأن الأمة الجزائرية وتصوير علمائها ونوابها وعامتها في صورة العداء لحكومتها الفرنسية ورميها بتهم هي منها بريئة، قد استاء له الفكر العام الجزائري، واعتبر تلك التهم الجارحة استخفافا منكم بكرامتها ونكرانا لمواقفها العديدة الناطقة بإخلاصها لحكومتها الفرنسية. إن نشريات كتلك تعد عند العقلاء تفتينا بين الأمة الهادئة، والحكومة العليا العادلة، وسعيا في إثارة الظنون السيئة وإيغار الصدور الصافية. إن الأمه الجزائرية قد بلغت حالتها ماديا وأدبيا إلى أسوأ ما يتصور. وأنها مع ذلك كله ملازمة لجانب الهدوء التام ومعتصمة بحبل الرجاء والانتظار، وأنها ما تزال مع ذلك تلاقي معاملات قاسية. رئيس التحرير المحترم! إن الإنسانية تقضي بالرأفة والرقة لحالة الأمة الجزائرية وأن النصح

يقضي بمطالبة الحكومة بالإسراع إلى معالجة حالتها الحاضرة بما يرضي الأمة والإنسانية وتحسين سمعة حكومتنا الفرنسية في الداخل والخارخ (1). عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الحميد بن باديس

_ (1) البصائر: س 1، العدد 6، الجزائر يوم الجمعة، 5 ذي الحجة 1354هـ - 28 فيفري 1936م، ص 5، ع 1.

عريضة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

عريضة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى جناب مدير الشؤون الأهلية العام (ميو) ــــــــــــــــــــــــــــــ مما تقرر في الجلسة الأخيرة لهيئة إدارة الجمعية رفع هذه العريضة إلى مدير الشؤون الأهلية العام بعد ترجمتها إلى اللغة الافرنسية، وقد أرسل إلينا رئيس الجمعية بنصها العربي موقعا عليه بإمضائه لتنشر في "البصائر" حسبما تقرر أيضاً، فبادرنا بنشرها حرفيا. (قلم التحرير) جناب السيد المدير العام للشؤون الأهلية والتراب الجنوبي بالولاية الجزائرية العامة! يا جناب المدير! كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- لأول ما استلمتم مقالييد الإدارة الأهلية وتوسمت في شخصكم مخايل الحق والإنصاف- فاوضتكم بواسطة وفدها في حقوقها التي كانت مهضومة، وشرحت لكم النقط التي يشهد الحق أنها كانت وما زالت فيها مظلومة، وتقدمت إليكم بمطالب هي أصول لفروع وكليات لجزئيات. وقد سمع الوفد من جنابكم تصريحا بحقية مطالبها، ووعدا بإنصافها ورفع الظلم عنها. فعدت الجمعية ذلك التصريح منكم تسجيلا لحقوقها، وعدت ذلك الوعد منكم عهداً محقق الوفاء، وعقداً محقق التنفيذ، وأعلنت للأمة المغبونة في حقها، المحرومة من مساجدها، المرهقة في تعلمها وتعليمها، أن تلك القرارات الفردية الجائرة ستلغى، وأن ما مضى من

الظلم لا يعود وأن أول الإنصاف فتح باب المفاهمة بالحسنى، وانتظرت الجمعية، وانتظرت من ورائها الأمة نتيجة هذه المفاهمة واثقة بوعد جنابكم، وخففت الأصوات التي كانت مرفوعة بالشكوى والتظلم تقليلا لأسباب الجفاء، وتمهيدا لتحقيق الوفاء، واعتصمت الجمعية والأمة بالصبر والهدوء تمكينا لجنابكم من اغتنام الفرص وتذليل الموانع التي كلنا يعتقد أنها موجودة وأنها كثيرة، وإن كنا نعتقد أيضا أن الحق موجود وأنه أقوى منها، وأن الذي نطلبه ليس بإيجاد لشيء لم يكن لنا، وإنما هو إرجاع لحق ثابت لنا واغتصب منا، ورجوع من خطإ إلى صواب، ومن ظلم إلى إنصاف، ثم نجز بعد طول الانتظار جزء قليل من وعدكم فأنعش الأمل وقوى الرجاء ولكن الجزء الذي نجز أرب من آراب، وباب من أبواب، وصحيفة من كتاب، وما زال وعدكم بإتمام الباقي يتجدد، والأسباب الداعية للإسراع بالتنجيز تقوى في نظرنا وتتأكد، والموانع العائقة عن رجوع الحق إلى أهله تتلاشى- في اعتقادنا- وتزول من غير أن تنتهي إلى نتيجة ترفع الحيرة وتجلي الموقف وقد مر على هذه الحالة ما يقرب من السنتين، وحدث من الأسباب ما اقتضى تجديد الخطاب، وطلب الفصيح الواضح من الجواب. يا جناب المدير! إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المنعقد بمركزها العام بالجزائر يوم 6 ماي 1936م قد قرر قيام وفوده بجولات الوعظ والإرشاد الديني في العمالات الثلاث في أول جويلية القابل على العادة التي جرى عليها في السنوات الماضية. وهي عادة أصبجت من حقوق الأمة على الجمعية، تنقاضاها الأمة من الجمعية، ويجب على الجمعية الوفاء بها للأمة، ولا تستطيع بحال أن تسقطها أو تقصر فيها. وأن وفود الجمعية في السنة الماضية اضطرت إلى إلقاء دروسها

الدينية على الأمة في أماكن لا تتناسب مع حرمة الدين، ولا مع شرف الجمعية وقدر الأمة وسمعة الحكومة ومبدئها- كل ذلك ومساجد الأمة موجودة، ولكنها مغلقة في وجهها ووجه علمائها. فرأى المجلس بهذه المناسبة أن يلفت نظركم إلى أن أمد الانتظار قد طال، وأن يذكركم باعترافكم الرسمي لوفده بحقية مطالبه، ورأى نفسه مضطرا إلى مصارحتكم بأن الثقة التي وضعها المجلس الإداري في جنابكم، لم تقابل بما يكافئها من النتائج في نظر الجمعية والأمة معا، وأن الرأي العام قوى شعوره بأن المفاهمة طال أمدها ولم تأت بنتيجة تحققها. فالمساجد لا تزال مغلقة في وجوه علماء الأمة، والتضييق على التعليم العربي الحر لم يزل على شدته لم يتبدل في قليل ولا كثير، ورجال الجمعية الذين هم- في الواقع- دعاة خير ورحمة، وحملة أمان وسلام، ووسائل تربية وتهذيب، لم يزالوا محفوفين بالشكوك والريب في دوائرهم الخاصة ولا تزال تنبعث من بعض الجهات الإدارية إيعازات التحريض بهم، والتخويف منهم ومحاولات تصويرهم بغير حقيقتهم. والمجلس الإداري لجمعية العلماء لا يعرف الفرق بين جهة من الإدارة وبين جهة أخرى ولا يعتقد إلا أن تلك الجهات بعضها من بعضها، ولا يفهم معنى للمفاهمة بالحسنى مع بقاء الحالة على ما وصفنا وبعد أن حكم الزمان حكمه وأقام الأدلة على أن باطن هذه الجمعية كظاهرها. ولتعلم- يا جناب المدير- أننا لا نطلب فتح المساجد لنتخذها بيوت سكنى، أو نستعملها في مصالحنا الخاصة، أو لنحتكرها لدروسنا، وإنما نطلبها للأمة لتنتفع بها في فرض ديني هو أحد المقاصد التي أسست لأجلها وهو أن تتعلم أمور دينها على علمائها في مساجدها.

فهل يحسن بسمعة فرنسا أن تساس أمة إسلامية وفيرة العدد بالقرارات الفردية في أخص خصائص دينها؟ وهل يجمل بحكومة الجزائر أن تتوقف كل هذا التوقف في إلغاء قرار فردي ظهر خطاه من يوم وضعه؟ وهل من المعقول أن يكون غير المسلمين أولى من علماء الأمة بإقامة الاجتماعات في المساجد؟ أو يكون غير المسلمين أحرص من علماء الإسلام على احترام المساجد، وأعرف بحقوقها وبما يجوز أن يقال فيها وما لا يجوز؟ يا جناب المدير! إننا نرجو أن يكون جوابكم في هذه المرة إيجابيا عمليا واضح الحدود منطقيا متناسبا مع مكانتكم العلمية ومقامكم الإداري ومركز الجمعية التي تخاطبكم بهذا نيابة عن الأمة. فهل لكم- يا جناب المدير! - أن تحققوا ثقة الجمعية بكم لدى الأمة، وتؤكدوا احترامها لوعودكم؟ وتقبل- يا جناب المدير! - فائق احترامنا لشخصكم وتقديرنا لمساعيكم (1). عن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ (1) البصائر: السنة 1 العدد 21 الجزائر في يوم الجمعة 8 ربيع الأول 1355هـ الموافق ليوم 29 ماي 1936م ص 1 ع 1 من ص 2.

الاحتجاجات

الاحتجاجات على المعاملة السيئة التي عومل بها الحجاج في هذه السنة ــــــــــــــــــــــــــــــ (عومل الحجاج كما أسلفنا في هذه السنة معاملة لم يسبق لها نظير ولذلك ارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذه المعاملة السيئة من كل جهة. وإلى القارىء الكريم نص ما أمكننا الحصول عليه من هذه الاحتجاجات الكثيرة الصارخة التي نشرت جلها جريدة "ليكود الجي") (1) .. برقية الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عنابة 28 جانفي 1937م إلى السيد الوالي العام- باريس: أتشرف بإعلامكم أن عددا كبيرا من حجاج عمالة قسنطينة بقي معطلا بمدينة عنابة حيث أن الباخرة (مندوزة) لا تستطيع أن تحمل الجميع. أسائل فيكم عاطفة العدالة أن تأذنوا بسفر باخرة ثانية لحمل بقية الحجاج الذين تحصلوا على تذاكر السفر، وبذلك يمكنكم أن تخففوا وطأة التأثر المؤلم العميق الذي ساد في الطبقات الإسلامية وتقبلوا انعطافنا. عبد الحميد بن باديس رئيس العلماء

_ (1) ليس من كلام الشيخ الإمام. البصائر: السنة الثانية عدد 54 الجمعة 24 ذو القعدة 1355هـ - 5 فيفري 1937م، ص 3 ع 2.

شكر ووداع

شكر ووداع أودِّع الأمة التونسية الكريمة شاكراً لها ولصحافتها الراقية ما أبدته نحوي من عواطف الود الأخوي الذي فاق كل تقدير. وأن الذي يسرني- حقا- من ذلك هو أنه كان موجها في الحقيقة نحو المبدأ الذي دعوت إليه في خطبي وهو الاحتفاظ بالذاتية العربية الإسلامية في الشمال الإفريقي كله والإعلان بوحدة أقطاره الأربع- طرابلس وتونس والجزائر ومراكش- في الحاضر والمستقبل مثلما هي ثابتة في الماضي. وأفضل الود والإكرام ما كان للمبادئ الخالدة وجاءت فيه الأشخاص الفانية على التبع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1). عبدالحميد بن باديس وأرسلت إلى (البتي ماتان): سيدي مدير (البتي ماتان) المحترم تحية وتقدير، سيدي- أنا كمسلم أدين بالأخوة الإنسانية واحترامها في جميع أجناسها وأديانها، وأسعى للتقريب بين جميع عناصرها، وأجاهد فيما هو السبيل الوحيد لتحصيل ذلك وهو العدل والتناصف والاحترام. فكل ما تفضلتم به في جريدتكم من ذكري فهو موجه إلى هذا المبدأ

_ (1) ش: ج 5، م 13، ص 238 غرة جمادى الأولى 1356هـ - 10 جويلية 1937م.

الإسلامي الإنساني الذي تساهم فيه جريدتكم بنصيب وافر. فشكراً لكم- سيدي- بلسان هذا المبدأ السامي وأهله، ثم بلسان شخصي الضعيف الفاني. لكم احترامات معظمكم (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 5، م 13، ص 238. غرة جمادى الأولى 1356هـ - 10 جويلية 1937م.

الشقيقة الجزائرية

الشقيقة الجزائرية تهنيء شقيقتها تونس بعودة الزعيم ــــــــــــــــــــــــــــــ وردت علينا من العاصمة الجزائرية البرقية التالية من فضيلة العلامة الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس باسم جمعية العلماء الجزائريين يهنيء بها الزعيم الجليل والأمة التونسية بعودة زعيمها إليها وهذا فحواها. عاصمة الجزائر: إن جمعية العلماء الجزائريين تحيي بكل فرح وسرور عودتكم من منفاكم وتساهم بقسط وافر في فرح وسرور إخوانها التونسيين المحتفلين بالزعيم المحبوب المحترم الذي ضرب المثل الأعلى في الإخلاص والتضحية (1). الرئيس عبد الحميد بن باديس نادي الترقي بعاصمة الجزائر

_ (1) ش: ج 5، م 13، ص 270 غرة جمادى الأولى 1356هـ - 10 جويلية 1937م.

سير الجمعية وأعمالها

سير الجمعية وأعمالها: في الاجتماع الإداري الأخير ــــــــــــــــــــــــــــــ برقية تهنئة برجوع الزعيم الكبير الأستاذ عبد العزيز الثعالبي إلى تونس. برقية احتجاج على تعطيل القراءة بجامع الزيتونة وإهمال النظر في مطالب تلامذته حتى اليوم. برقية احتجاج على تعطيل حكومة "مراكش" الإحتمال بالمولد النبوي بها. لائحة استنكار لعرقلة التعليم وتعطيل سيره. مما تقرر بمجلس إدارة "جمعية العلماء المسلمين" في اجتماعه الأخير المنعقد في الأيام 12 و 13 و 14 جويليت ونفذ بالفعل إرسال هذه البرقيات الثلاث، وإلى القراء هي بنصها العربي المبين. الشيخ عبد العزيز الثعالبي: بإدارة جريدة "الزهرة" بتونس: إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحييكم بسرور بمناسبة رجوعكم من المنفى وتشارك مشاركة تامة الإخوان التونسيين في ابتهاجهم بعودة الزعيم المحبوب المحترم الذي أصبح مثال الإخلاص والتضحية. رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي

وزير الخارجية بباريس والمقيم العام بتونس

وزير الخارجية بباريس والمقيم العام بتونس إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين متألمة جد الألم لما حدث بكلية الزيتونة وترغب منكم أن تبادروا بفعل اللازم لتنتهي الحالة الاسيفة التي أقلقت جميع المسلمين عموما ومسلمي شمال إفريقيا خصوصا وفي أملها أن تتخذ عزما كل الوسائل لإرضاء التلاميذ والتعجيل بفتح الدروس من جديد. رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي وزير الخارجية بباريس والقيم العام بالرباط إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحتج بكل شدة وبالنيابة عن كافة المسلمين ضد منع الاحتفالات التي نوى إقامتها مسلمو مراكش بمناسبة موسم المولد النبوي الشريف وتعتبر هذا المنع إعتداء فادحا على الحرية الدينية وعلى شرف مسلمي المغرب الأقصى والعالم بأسره وتعلمكم بأن تكرر حادث من هذا القبيل يقضي على عواطف المسلمين بلا استثناء نحو دولة فرنسا. عبد الحميد بن باديس- في نادي الترقي ومما تقرر أيضا تقديم لائحة إلى سمو الوالي العام تستنكر بها الجمعية عرقلة التعليم العربي وتوقيف سيره حتى في المكاتب القرآنية وهي كما يلي: الجزائر يوم 13 جولييت سنة 1937م إلى جناب الوالي العام على القطر الجزائري سيد الوالي العام! أتشرف بتقديمي لكم اللائحة الآتية المصادق عليها بالإجماع من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين متألم ومتأسف حد الأسف للمظالم والاعتداءات المتكررة على رؤساء وأعضاء جمعيات التهذيب والتعليم العربي. وبما أن جميع طلبات الرخص لفتح المكاتب تلغى بغير سبب أو لا يجاب أصحابها. وحيث أن طالبي الرخص لما يشاهدون هذا الحيف وهذا الجفاء ويرون في ذلك ما يعاكس رغبتهم في تعليم أبنائهم ويضيع ما بذلوه من الجهود في هذا السبيل- يفتحون المكاتب ممتثلين تمام الامتثال لقانون 18 أكتوبر سنة 1892م ومحسنين الظن بالحكومة عسى أن تقدر كما ينبغي رغبتهم في تعليم الأولاد وتعتبر ما ضحوا به لهذا الغرض الشريف. وحيث أن الذين يفتحون المكاتب بهذه الكيفية وبهذه الطريقة المعقولة يحاكمون كلهم ويساقون أمام المجالس العدلية كأنهم جناة. وحيث أن هذا العمل الممقوت تكرر في عدد كثير من المدن والقرى بالعمالات الثلاث كوهران والأغواط وشرشال وبجاية وعدة بليدات بناحية قالمة وأوراس. وحيث أن المسلمين يتعسر عليهم فهم ما يقصد من هذه المعاملات القاسية الشاذة التي تعرقل سير التعليم وتثبط مساعي الرجال الذين ينهضون لعلاج الحالة السيئة الناشئة عن قلة عدد المكاتب الرسمية ويتعذر عليهم تصور الأسباب التي تقاوم بها الحكومة رغبتهم الشديدة في نشر التعليم عوض أن تشجع هذه الرغبة وتعينهم على تنفيذها. لهذه الأسباب والوجبات يلتمس المجلس الاإداري من السيد الوالي العام ويطلب منه بكل إلحاح أن يرسل حينا إلى الحكام المحليين الأوامر

والتعاليم اللازمة ليسهلوا فتح المكاتب القرآنية التي تبقى لا محالة تحت مراقبة الحكومة في دائرة العدل والإنصاف وليكفوا عن محاكمة الذين فتحوا بعض المكاتب بغير مخالفة للقوانين المتعلقة بالموضوع. وتقبلوا سيدي الوالي فائق احترامي. رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة الثانية العدد 76 الجمعة 14 جمادى الأولى 1356ه - 23 جوليت 1937م، ص 1 و 2 ع 1.

إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على تقسيم فلسطين ــــــــــــــــــــــــــــــ وزير الخارجية الفرنسية: باسم الأمة الإسلمية الجزائرية أرفع احتجاجي الشديد ضد مشروع تقسيم فلسطين ذلك القطر العربي الذي ضمنت له العهود والمواثيق الدولية حفظ كيانه واستقلاله، واعتبر هذا المشروع ضدية قاضية على حياة شعب ضعيف دافع طيلة سنين عديدة دفاع الأبطال عن شرفه وحريته، واعتداء شنيعا على جميع الشعوب العربية الإسلامية، وانتهاكا لحرمة الأماكن المقدسة عند سائر المسلمين، ولي الأمل في تدخل الحكومة الفرنسية بكل سرعة لمنع هذا التقسيم. عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

_ البصائر: السنة الثانية العدد 79 الجمعة 12 جمادى الثانية 1356ه 20 أوت 1937م ص 6 ع 2 و 3.

إحتجاج جمعية العلماء

إحتجاج جمعية العلماء على انتهاك حرمة الدين بغرداية ــــــــــــــــــــــــــــــ نحن باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نحتج بكل قوة ضد الاعتداء الفظيع والامتهان الجارح لكرامة الدين الإسلامي وحرمة القرآن العظيم في شخص إخواننا بني ميزاب باعتقال سيدين منهم في السجن وهما الأستاذ صالح با بكر رئيس جمعية الإصلاح ومدير مدرستها بغرداية. والسيد بغياغة أحمد بن حم نائب الرئيس والعضو العامل بجماعة الضمان. وبتغريم ستة من أعضاء جماعة الضمان في وقت أدائهم لواجب ديني محض من قراءة القرآن الكريم وتوزيع الصدقات وتضرع إلى الله أن يغيث خلقه بوابل رحمته وأن يزيح عنهم كابوس القحط النازل على البلاد. كما نحتج بكل قوانا ضد القرار الذي وضعته إدارة غرداية في 17 ماي 1937م وصادقت عليه الولاية العامة في 11 جوان 1937م ذلك القرار الموجه ضد حرمة الدين المقدس القاضي بمنع أي اجتماع ما عدا موكب الجنائز. ونرجو باسم عدالة فرانسا وإنصافها أن تلغي هذه القوانين الاستثنائية الجارحة التي تنافي سائر تعهداتها والتزاماتها لرعاياها المسلمين، وتمس كرامة الإسلام في الصميم. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة الثانية العدد 80، الجمعة 26 جمادى الثانية 1356هـ - 3 سبتمبر 1937م، ص 5، ع 3، ص 6، ع 1.

إحتجاج رئيس جمعية العلماء

إحتجاج رئيس جمعية العلماء على حادث مسجد قنزات ــــــــــــــــــــــــــــــ قسنطينة 24 أكتوبر سنة 1937م سيدي الوالي العام. سيدي عامل عمالة قسنطينة. أتشرف بتقديمي لكم احتجاجي الصارم على ما ارتكبه بعض الجندرمة وأعوان الحكومة من انتهاك حرمة مسجد قنزات (1)، وهاكم تفاصيل الحادث كما وقع بغير زيادة ولا نقصان. يوم الجمعة 22 أكتوبر بينما كان أحد الشبان المثقفين، الشيخ الفضيل الورتلاني يفسر آية من آيات كتاب الله أمام جم غفير من مسلمي القرية المذكورة إذ دخل عليهم في المسجد أعوان السلطة بدون استئذان ولا مراعاة لما توجبه قواعد النظام على من يريد دخول المعابد على اختلاف أنواعها، كفاكم أنهم لم يتنازلوا حتى لخلع نعالهم. ولما أبدى لهم إمام المسجد ملاحظة لطيفة على هذا الصنيع المزري أجابوه بأن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فعله وأسمعوه من بذيء القول ما جرح عواطفه ومس بشرفه. في أملي أن مجرد إخباركم بهذا الاعتداء على الآداب العامة يكفي لاستصدار ما يلزم من أوامركم العادلة بزجر مقترفي هذا العمل الشنيع لكيلا تتكرر أمثاله. وتقبلوا سيدي فائق احترامي (2). رئيس جمعية العلماء المسلمين عبد الحميد بن باديس

_ (1) بلدة بين مدينة سطيف غربا وبين برج بوعي يريخ شمال شرقيها. (2) البصائر: السنة 2 العدد 85 الجمعة 1 رمضان 1356هـ - 5 نفامبر 1937م ص 7، ع 1.

برقية تهنئة ورجاء

برقية تهنئة ورجاء إلى أبي الدستور الأستاذ عبد العزيز الثعالبي ــــــــــــــــــــــــــــــ قسنطينة 18 رمضان 1356هـ الموافق لـ 21 نوفامبر 1937م الأستاذ عبد العزيز الثعالبي: تونس أهنئكم بفتح النادي العظيم، راجيا أن يكون به فتح جديد لتونس العزيزة وأفريقيا الشمالية، دمتم للإسلام والعروبة والعلم والفضيلة (1). عبد الحميد بن باديس مدير مجلة ((الشهاب))

_ (1) ش: ج 9، م 13، ص 427 غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.

برقية شكر وتهنئة

برقية شكر وتهنئة إلى الدكتور الماطري رئيس الحزب الدستوري التونسي ــــــــــــــــــــــــــــــ الدكتور الماطري تونس بلسان افريقيا الشمالية والجزائر أشكركم وأشكر الحزب الدستوري وأشكر تونس على عطفكم الأخوي الصادق، وأهنئكم بفوزكم بإعلان تضامن إفريقيا الشمالية بالفعل لأول مرة (1). عبد الحميد بن باديس رئيس مجلة ((الشهاب))

_ (1) ش: ج 9، م 13، ص 426 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.

عيد الفطر المبارك

عيد الفطر المبارك تهنئة به إلى الأمة الجرائرية الكريمة ــــــــــــــــــــــــــــــ كنا قبل اليوم نهنيء الأمة الجزائرية بمثل هذا العيد، وليس لها من مظاهر السعادة ما تهنأ به إلا ما نرجوه لها ونأمل. أما اليوم فإننا نهنئها وهي في طور جديد من أطوار حياتها هو أساس سعادتها، طور سامت به شقيقاتها هنا وهنالك فنهنئها، ومن أبنائها من هو سجين في سبيل العلم والهداية، ومن هو سجين في سبيل السياسة والحقوق المغصوبة. أمة أخذت تقدم الضحايا في سبيل سعادتها، حقيقة بأن تنال السعادة، وبأن تهنأ بها، فتهانينا إليها بعيدها وسعادتها، وتهانينا- على الخصوص- إلى أولئك الأبطال الأماجد السيد الحاج مصالي ورفاقه والشيخ عمر دردور. حياهم الله وعجل بسراحهم، وجعل فيهم القدوة الحسنة في الصبر والتضخية. وتهانينا إلى العالم الإسلامي والمربي الناهض للسعادة والكمال (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 9، م 13، ص 430 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.

شكر على تعزية

شكر على تعزية عبد الحميد بن باديس ــــــــــــــــــــــــــــــ يشكر ويجزي بالخير كل السادة الذين عزوه في فقد أخيه سليم رحمه الله والمسلمين أجمعين، حافظاً لهم عواطفهم الجميلة، راجيا من الله لهم حسن المثوبة والجزاء. ويرجو من كرمهم أن يعتبروا هذا الكتاب خاصا بكل واحد منهم إذ قد حالت الأشغال دون إمكان ذلك التخصيص. والسلام عليكم ورحمة الله (1).

_ (1) ش: ج 1، م 13، ص 467. غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.

برقية جمعية العلماء

برقية جمعية العلماء إلى المؤتمر البرلماني من أجل فلسطين ــــــــــــــــــــــــــــــ أبرقت جمعية العلماء إلى المؤتمر البرلماني ببرقية هي خلاصة ما يلي: مكتب علوبة باشا القاهرة - مصر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- باسم المسلمين الجزائريين- تحي في شخصكم مؤتمركم العظيم، وتضم صوتها إلى صوتكم، وتوافق على ما يستقر عليه رأيكم وتؤيدكم بكل ما تستطيع في سبيل قضية فلسطين التي هي قضية الحق والإنسانية والسلم العام. الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة الثالثة، عدد 135 قسنطينة: يوم الجمعة 20 شعبان 1357هـ الموافق لـ 14 أكتوبر 1938م الصفحة 7 في آخر العمود الأول.

قسم الإجتماعيات

آثار ابن باديس قسم الإجتماعيات

سيهزم الجمع ويولون الدبر

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحدين، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيين المصلحين، ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحداً ندعو دعوتك ونباهل مبالتك، ونؤازرك لله، وبالله. فليتقدم إلينا الحلوليون وشيخهم ومن لف لفهم وكثر سوادهم في اليوم الموعود والمكان المعين لهم، وليبادروا بإعلان ذلك في جريدتهم إن كانوا صادقين، فإن لم يفعلوا- وأحسب أن لن يفعلوا- فقد حقت عليهم كلمة العذاب وكانوا من الظالين والحمد لله رب العالمين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) الشهاب عدد 97 - 17 ذي القعدة 1345هـ - 20 ماي 1927م كتب الشيخ عبد الحميد هذه الكلمة يشكر الشيخ الطيب العقبي على المقال الذي كتبه بنفس العدد من الشهاب يرد فيه على طائفة العليوية، الطرقية (الصوفية) يدعوها للمباهلة التي قد بدأت هي بالدعوة إليها وبالقول بأن السلفيين لا يستجيبون لها.

رسائل ومقلات

رسائل ومقلات: الرجل المسلم الجزائري ألقيت محاضرة في هذا الموضوع بنادي الترقي بالعاصمة في شهر ربيع الأول. وفيما يلي أكتبها على ما بقي في ذهني، كنت ألقيتها ارتجلا وإذا شذ عني شيء فلا يكون إلا قليلا. ــــــــــــــــــــــــــــــ سبب اختياري للموضوع: كنت- وأنا قادم للعاصمة من مصيف "حصن الماء" - أحوم على موضوع أختاره للمحاضرة التي اقترحها عليَّ أعضاء النادي المحترمون. فوقع فكري على المرأة وحالتها وواجباتها وحقوقها. وبينما أنا أفكر فيها وأجمع أطراف الحديث في شأنها إذا أنا برجل مسلم جزائري ببرنوسه وقنوره وقف أمامي- لم يقف أمام حسي ولكن وقف أمام خيالي- وأخذ ذلك الرجل يخاطبني بشدة وعنجهية ويقول: "أنتم تفكرون في تعليم المرأة فلمن تعلمونها؟ لي أنا الرجل الجاهل ليقعن لها ما يقع للعالم الضعيف المغلوب من الجاهل القوي الغالب. ومن يعلمها؟ أنا الجاهل! كيف أترك نفسي وأعلمها؟ أتنم تفكرون في نزع حجابها وخلطها بالمجتمعات! ألا تخافون عليها غيرتي؟ فلأقاتلن عليها! ألا تخافون اغارتي؟ فلأضايقنهن ولترين مني كل أنواع التعدي والأذى. إاذا أردتم التفكير الصحيح والإصلاح المنتج ففكِّروا فيَّ قبلها، فأنا أبوها، وزوجها، ووليها ومصدر خيرها وشرها. وإذا أردتم إصلاحها الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل

المراد من الموضوع

أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها. وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانا عالياً في العلم وهن متحجبات. فليت شعري ما الذي يدعوكم اليوم إلى الكلام في كشف الوجوه قبل كل شيء …! ". فأمام هذا الرجل الخيالي المرعب وحُججه الدامغة ما وسعني إلا العدول عن التفكير في المرأة إلى التفكير في الرجل فاخترت موضوع المقالة: "الرجل المسلم الجزائري". المراد من الموضوع: هذا موضوع مجمل، فالرجل المسلم الجزائري موضوع بحوث طويلة من نواح عديدة لكنني أتكلم عليه من نواح ثلاث: رجولته، إسلاميته، جزائريته. الرجل: خلق الرجل قويا، متهيئا بما منح من القوة للقيام بما يقتضيها من - عظائم الأمور وجلائل الأعمال، للإنسانية التي هو فرد منها، للوطن الذي هو من نباته، وللبلد الذي هو من سكانه، للبيت الذي هو رئيسه. هو رئيس البيت، و {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} فعليه واجب الرعاية: بالسعي والتكسب، بالتهذيب والتعليم، للزوجة، للأبناء، للبنات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وله حق الولاية {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، درجة الولاية بالنظر والتدبير، والتنظيم والتسيير، فهو السيد في بيته ليكون سيِّداً في قومه. والسيادة الحقيقية إنما هي بالنفع والعمل المنتج .. فسيِّد البيت هو الأكثر عملاً

المسلم

والأجلب نفعا له، وسيد الوطن هو الأعمل والأنفع في سبيله. فالسيادة حظ العاملين على درجاتهم في الأعمال. المسلم: هو المتدين بالإسلام. والإسلام عقائد وأعمال وأخلاق بها السعادة في الدارين. أما تحصيلها لسعادة الأخرى فما بها على أحد من خفاء. وأما تحصيلها لسعادة الدنيا فقد صار في هذه العصور المتأخرة عند كثير من الناس مما يخفى، مع أن دعوته إلى تحصيل السعادة والسيادة في الدنيا في آيات القرآن العظيم كثيرة جداً. فدعا إلى العلم بمثل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وللفلاحة بمثل قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وإلى الصناعة واتقانها بمثل قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} وإلى التجارة بمثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، كما سمى العبادة ابتغاء من فضل الله. فقال تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}. وهو إلى هذا دين السلامة و "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ودين المحبة "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ودين الترقي بالعلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ودين السيادة بالعدل، والسعادة بالإحسان {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. الجزائري: إنما ينسب للوطن أفراده الذين ربطتهم ذكريات الماضي، ومصالح

طريق العلم بهذا والعمل به

الحاضر، وآمال المستقبل. فالذين يعمرون هذا القطر وتربطهم هذه الروابط هم الجزائريون. والنسبة للوطن توجب علم تاريخه، والقيام بواجباته، من نهضة علمية، واقتصادية، وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه، وسمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحاف! ظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه. طريق العلم بهذا والعمل به: هذه الحقائق التي ذكرناها، بها يكون الرجل رجلا، والمسلم مسلما، والجزائري جزائريا، فتهذيب الرجل وتعليمه لا يكون إلا بالعلم والعمل بها. وما ذلك إلا ببثها: بالمحاضرات في النوادي، بالدروس العامة في المساجد، بالخطاب الجمعية على المنابر. وإذا كانت هذه طريقنا للتعليم العام فعلينا أن نجعلها في أول ما نهتم به من شؤون إصلاحنا إذ لو كانت هي كما يجب أن تكون وقامت بواجبها كما يجب أن تقوم لكنا على حال غير ما نحن عليه اليوم. وفي كثير من الرجال المتصلين بها لنا أعظم الآمال. شقيقة رجل وشريكه: إن العناية بالرجل تستلزم العناية بالمرأة شقيقته في الخلقة والتكليف وشريكته في البيت والحياة. هما زوجان متلازمان لا تكمل الوحدة البشرية إلا بكمالهما. وما الوحدة البشرية في ضرورية الزوجين لتكوينها إلاَّ كسائر المخلوقات الساري عليهما قانون الزوجية العام. ويبتدئ ذلك في أصغر جزء وأول مادة للتكوين، وهو الجوهر الفرد في اللسان العلمي القديم، والكهرب في اللسان العلمي الحديث، فإنه مركب من قوتين زوجين

هو الأول، وهي الثانية

موجبة وسالبة. مصداق قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ويعم هذا القانون جميع المخلوقات ومنها الإنسان، كما قال تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} هذا دليل الخلقة على ما بين الرجل والمرأة من لحمة اتصال، وما لكل واحد منهما على الآخر من توقف لبلوغ الكمال. أما أدلة ذلك من الشرع فآيات عدة. منها قوله تعالى: {هوَ الذِي خَلَقَكمْ مِنْ نَفْس وَاحدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليسْكنَ إلَيهَا} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}. هو الأول، وهي الثانية: هما- على ما بينهما من هذا التشارك والتلازم والاتصال- فإنه هو المقدم عليها، والقيوم على شأنها، والمسؤول عن إنهاضها. تشهد بهذا الفطرة الظاهرة في ضعف خلقها، والتاريخ البشري بما فيه من مدنيات قديمة وحديثة كلها قامت على كواهل الرجال. ويشهد به الدين في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}. المرأة المسلمة الجزائرية: نرى حقا علينا بعد ما تكلمنا على الرجل المسلم الجزائري أن نتكلم شيئا عن المرأة المسلمة الجزائرية من نواحيها الثلاث أيضا.

المرأة

المرأة: خلقت لحفظ النسل، وتربية الإنسان في أضعف أطواره {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فهي ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضى هذه الخلقة للقيام به. فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، ونربيها على الأخلاق النسوية التي تكون بها المرأة امرأة لا نصف رجل ونصف امرأة. فالتي تلد لنا رجلا يطير خير من التي تطير بنفسها. المسلمة: {لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فعلينا أن نعلمها ما تكون به مسلمة، ونعرفها من طريق الدين ما لها وما عليها ونفقِّهها في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. الجزائرية: بدينها ولغتها وقوميتها فعلينا أن نعرفها حقائق ذلك لتلد أولادا منا ولنا، يحفظون أمانة الأجيال الماضية للأجيال الآتية، ولا ينكرون أصلهم وإن أنكرهم العالم بأسره، ولا يتنكرون لأمتهم ولو تنكر لهم الناس أجمعون. الطريق الموصل إلى هذا: هو التعليم: تعليم البنات تعليما يناسب خلقتهن ودينهن وقوميتهن.

فالجاهلية التي تلد أبناءً للأمة يعرفونها مثل أمهاتنا- عليهن الرحمة- خير من العالمة التي تلد للجزائر أبناء لا يعرفونها، تعليم كل واحد لأهله بما عنده من علم. ويوم نسلك هذا الطريق في تعليم المرأة، والطريق السابق في تعليم الرجل سلوكا جديا نكون- بإذن الله- قد نهضنا بهما نهضة صحيحة نرجو من ورائها كل خير وكمال (1).

_ (1) ش: ج 10، م 5، ص 9 - 14 غرة جمادى الثانية 1348هـ - نوفمبر 1629م.

لا فضل بالمال

لا فضل بالمال لمن كان ذا فضل فيه ــــــــــــــــــــــــــــــ الفضل هو الزيادة، والفاضل هو الذي زاد على غيره، والمفضول هو الذي زاد عليه سواه، والتفضيل هو الزيادة لغيرك أو اعتقادك الزيادة فيه. والله تعالى قد فضل بين عباده- بحكمته- في العطاء: في الجسم، في العلم، في العمل، في المال، فزاد بعضهم على بعض في ذلك، وفضل بينهم- بعدله- في القدر والمنزلة دنيا وأخرى كذلك. ومما يكون فيه التفضيل من أنواع العطاء ما جعله الله سببا للتفضيل في القدر والمنزلة، ومنه ما لم يجعله سبباً. فالفضل في الجسم والفضل في العلم سببان في فضل القدر والمنزلة وبهما فضل طالوت على بني إسرائيل واختير عليهم ملكاً. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}. وليس المراد هنا من الجسم كبره وضخامته بل المراد صحَّته وقوته بقوة فؤاده، فإن ضخامة الجسم مع السقم أو ضعف القلب بلاء على صاحبها. وفضل القدر والمنزلة المتسبب عن فضل الجسم والعلم هو فضل يستحق به التقديم في هذه الدنيا، وأما نيل الفضل بهما في منازل الأخرى فمتوقف على العمل بهما.

والرجل فضل على المرأة في قوة العقل وقوة البدن وكانت قوتاه هاتان سببين في فضله في القدر والمنزلة والتقديم عليها في هذه الدنيا قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وظاهو التسبب هنا من حرف الباء. وأما الفضل في العمل فإنه سبب في فضل القدر والمنزلة دنيا وأخرى قال تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وتعليق الحكم هو التفضيل بالمشتق؛ وهو المجاهدين، مؤذن بعلية ما منه الاشتقاق وهو الجهاد فيستفاد من سببيته في الفضل و التقديم في القدر والمنزلة. وأما المال فلم يكن- أبداً- سببا في فضل القدر والمنزلة ولذا قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} فجعل التفضيل فيه فيزيد فيه حظ بعض الناس على بعض ولم يقل "بالرزق" لأن الرزق ليس سبباً لتفاضل الناس في الأقدار والمنازل لا دنيا ولا أخرى لأن منازل الآخرة يتفاضلون فيها بما قدموا من صالح الأعمال ومنازل الدنيا يتفاضلون فيها- على الحق والعدل- بالكفاءات والأخلاق والأعمال. وقدر الله تعالى على بني إسرائيل لما قالوا في طالوت: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} منكرين استحقاقه للملك بأنه ليس من بيت الملك ولا بذي مال لاعتقادهم أن الفضل بمنزلة الملك إنما يتسبب عن النسب والمال. رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ليبين لهم أن منازل الفضل في هذه الدنيا بالكفاءات الشخصية لا بما هو خارج عنها من النسب والمال.

فالفضل في منازل الدنيا والآخرة إنما هو بما هو منك، من جسمك وأخلاقك وعلمك وعملك لا بما هو باين عنك ومباين لك من هذا الحطام. حتى إذا حصلته من حله، وأنفقته في محله، كان لك الفضل العظيم بما كان لك فيه من أعمال.

_ (1) ش: ج 11، م 5، ص 4 - 6 غرة رجب 1348هـ - ديسمبر 1929م.

ذكرى المولد النبوي الشريف

ذكرى المولد النبوي الشريف على صاحبه وآله الصلاة والسلام ــــــــــــــــــــــــــــــ في هذا الشهر الكريم يهتز العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها فرحا وسروراً وتتعدد احتفالاته وتتنوع ولائمه طربا وحبوراً. ذلك لإحياء ذكرى مولد النبي الأعظم والرسول الأكرم سيدنا ومولانا محمد عليه وآله الصلاة والسلام. فالشهاب يقدم لهذا العالم العظيم ولقرائه الكرام تهنئة الأخ الصادق والخادم المخلص، سائلاً من الله تعالى أن يعيد عليهم أمثال هذه الذكرى الطيبة بالخيرات والبركات، وأن يفقِّههم فيما فيها من الآيات البينات والعبر والعظات، حتى تستنير عقولنا وتزكو نفوسنا وتستقيم أعمالنا كما امتلأت بمحبة نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- قلوبنا (1).

_ (1) ش: ج 7، م 6، ص 368 غرة ربيع الأول 1349هـ- أوت 1930م.

كتاب: "امرأتنا"

كتاب: "امرأتنا" للشيخ الطاهر الحداد ــــــــــــــــــــــــــــــ كان صاحب هذا الكتاب حدثنا عنه أيام إقامتنا بتونس بالصيف الماضية ففهمنا من حديثه أنه يتكلم فيه عن النهوض بالمرأة نهوضا صحيحا وتعليمها تعليما مفيداً في حدود إسلامها التي هي بنظر كل عاقل منصف حدود الإنسانية الكاملة. وما توقعنا منه أنه يكون ممن يدعون إلى الذهاب بها في تيار المدنية الغربية إلى ما يخرجها عن حدود دينها ووظيفة أنوثتها. فإذا بنا لما أهدى إلينا كتابه وطالعناه وجدنا ما هو أدهى من ذلك وأمر، وجدناه يدعو إلى إبطال أحكام عديدة من أحكام القرآن الصريحة القطعية الإجماعية، وتعطيل آيات عديده من آياته بدعوى أنها غير لائقة بالنساء في هذا العصر. وهذا هو الجحود نفسه لبعض القرآن، وجحود بعضه كجحود كله في مفاوقة الإسلام. أفيجهل هذا الأصل الشيخ الحداد أم رضي لنفسه بانطباقه عليه؟؟ نحن لا نخشى على المسلمين من دعوته شيئاً لأنه من المعلوم الضروري عندهم أن جحود شيء من القرآن كفر به، وإنما نخشى عليه هو أن يستمر على عقيدته فيكون من الهالكين. وربما عدنا إلى الكتاب في فرصة أخرى (1).

_ (1) ش: ج 11 م 6 غرة رجب 1349هـ ديسمبر 1930م ص 714 و3 سطور من ص 715.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى السادة الأعضاء العاملين والأعضاء المؤيدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ــــــــــــــــــــــــــــــ أما بعد فبناء على انتهاء السنة الأولى للجمعية، وبناء على الفصل التاسع بالقسم الخامس من قافون الجمعية الأساسي الذي يقول: "ينعقد الاجتماع العام لسائر الأعضاء العاملين مرة في السنة وينعقد هذا الاجتماع بمدينة الجزائر باستدعاء من الرئيس" ويقول أيضا: "وبعد أن يتفاوض أعضاء الجمعية في أثناء الإجتماع العمومي العادي في برنامج الجمعية وتعرض عليهم أعمال الجمعية وما قررته في السنة السبقة- تنعقد جلسة ثانية يحضرها الأعضاء العاملون والأعضاء المؤيدون ويعلم هؤلاء الآخرون بحالة الجمعية الأدبية والمالية ثم يباشر الأعضاء العاملون فقط انتخاب الهيئة الإدارية ولجنة العمل الدائمة" بنإء على ما تقدم فإن رئيس الجمعية يدعو جميع الأعضاء العاملين والمؤيدين للحضور بمركز الجمعية الاجتماعي بنادي الترقي الكائن ببطحاء الحكومه عدد 9 بمدينة الجزائر الساعة التاسعه من صبيحة يوم الإثنين السابع عشر من محرم عام 1351 - الموافق للثالث والعشرين من مايس سنة 1932م. إن الجمعية لتبدي شدة رغبتها لأعضائها العاملين والمؤيدين أن يلبوا دعوتها ويكونوا حاضرين في الوقت المذكور. وإنها لترجو ممن يكون لهم عذر في التخلف أن يكتبوا باعتذارهم إلى رئيس لجنة العمل الدائمة السيد عمر إسماعيل بنادي الترقي حيث

يكون عنده قبل تاريخ الاجتماع لتتلى الاعتذارات على المجتمعين. وبحضور من حضر واعتذار من يعتذر تعرف الجمعية المعتنين بها والمخلصين لها وتظهر بمظهرها اللائق بها من الشعب الجزائري الكريم (1). رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس الكاتب العام: الأمين العمودي

_ (1) ش: ج 5، م 8، ص 296 - 297 غرة محرم 1351هـ - ماي 1932م.

على ذكرى المولد النبوي الشريف

على ذكرى المولد النبوي الشريف التجدد في كل مولد ــــــــــــــــــــــــــــــ ما كانت هذه الدار الدنيا دار بقاء وإنما هي دار فناء. وما بقيت عناصرها المادية في الوجود إلا بما أجراه الله عليها من سنة التجديد في الخلق ليقوم الجديد مقام ما أتى عليه الفناء. وهذا الإنسان المثال المصغر من العالم الأكبر قال فيه العلماء: إنه في كل سبع سنوات تفنى جميع أجزائه المادية وتخلفها أجزاء أخرى. فلذاته على رأس السنوات السبع اللاحقة، غير ذاته على رأس السنوات السبع السابقة، وهكذا حتى يستكمل ما قدر له من البقاء في الدنيا. وتاريخ البشرية من أقدم عصورها يدل على أنها لم تفارقها هذه السنة: سنة التجديد إثر الفناء. وقد كان الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، هم أساس كل تجديد في تاريخ البشرية كلٌّ في الأمة التي أرسل إليها. حتى إذا كان الفساد العام في شؤون الدنيا بطواغيت الملك، وفي شؤون الدين بطواغيت الكهنوتية، وفنيت معالم الحضارة بمثل الحروب الرومانية الفارسية واندثرت حقائق الدين وشوهت بالمجادلات المذهبية، والرسوم والأوضاع البدعية- حتى إذا كان هذا الفساد والفناء العامان أرسل الله تعالى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رحمة للعالمين بالتجديد العام. فيوم ولادته- صلى الله عليه وآله وسلم- هو يوم ولد في العالم ولادة جديدة.

فلنجعل يوم ولادته من كل عام يوما نعزم فيه على تجديدنا تجديداً روحياً وعقلياً وأخلاقياً وعملياً وتاريخياً تجديداً إسلامياً محمدياً في جميع ذلك. لنولد في عامنا الجديد ولادة جديدة وهكذا نجدد ونتجدد في كل ذكرى مولد. علينا أن نتفقد عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا ونعزم فيما اندثر منها على التجديد ولنعين بعضها ولنجعله على الخصوص محل العناية الكبرى بالتجديد منا حتى نحاسب أنفسنا عليه في الذكرى الآتية. أما كاتب هذه السطور فقد عزم على تجديد ما فني من قلوب المسلمين من عقيدة: "إنهم بالإسلام هم أفضل الأمم" ليدعوهم بذلك إلى التمسك بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام وعدل الإسلام وإحسان الإسلام. إذ في ذلك سعادتهم وسعادة البشرية كلها ممهم وافه المستعان (1) ..

_ (1) ش: ج 7، م 10، ص 300 - 301، غرة ربيع الأول 1353ه - 14 جوان 1934م.

عيد الحرية

عيد الحرية حق كل انسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدي عليه في شيء من حريته المتعدي عليه في شيء من حياته، وكما جعل الله للحياة أسبابها وآفاتها جعل للحرية أسبابها وآفاتها، ومن سنة الله الماضية أنه لا ينعم بواحدة منهما إلا من تمسك بما لها بن أسباب وتجنب وقاوم ما لها من آفات. وما أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وما أنزل عليهم الكتب وما شرع لهم الشرع إلا ليعرف بني آدم كيف يحيون أحرارا وكيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية وكيف يعالجون آفاتها وكيف ينظمون تلك الحياة وتلك الحرية حتى لا يعدو بعضهم على بعض وحتى يستثمروا تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى حدود الاستثمار النافع المحمود المفضي بهم إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. فرسل الله وكتب الله وشرائع الله كلها ضد لمن يقف في طريق بني آدم دون هذه الغاية العظيمة بالتعدي على شيء من حياتهم أو شيء من حريتهم ولقد كانت هذه الشريعة المحمدية، بما سنت من أصول وما وضعت من نظم وما فرضت من أحكام- أعظم الشرائع وأكمل الشرائع في المحافظة على حياة الناس وحريتهم، وما كان انتشارهم ذلك الانتشار العظيم في الزمان القليل على يد رجالها الأولين- إلا لما شاهدت فيها الأمم من تعظيم للحياة والحرية ومحافظة عليهما وتسوية بين الناس فيهما مما لم تعرفه تلك الأمم من قبل لا من ملوكها ولا من أحبارها ورهبانها. والحياة والحرية محبوبان للناس بالطبع ومرغوبان لهم بالفطرة فأسرعوا لتلبية الدعوة بالدخول في الإسلام أو الإستظلال

بظله. فما أحق أبناء هذا الدين، ووراث رجاله الأكرمين، أن يكونوا أعرف الناس بقدر هذه الحياة وهذه الحرية، وأكثر الناس احتراما لهما وأشدهم رعاية لحقوقهما وواجباتهما لا لأنفسهم فقط بل للبشربة جمعاء ... الحياة حياتان حياة الروح وحياة البدن والحرية كذلك. وحياة الروح وحريتها هما أصل حياة البدن وحريته، وشرائع الإسلام كل منتظمة لذلك كله. ومما شرعه الله لتحصيل حرية الروح صوم هذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. يترك فيه المؤمن طعامه وشرابه وشهوات بدنه ويقبل على التهليل والتحميد والتسبيح فيحرر روحه من سلطة الشهوة وسلطان المادة ويسمو بنا إلى عالم علوي ملكي من الطهر والكمال، ثم إقبل على تلاوة القرآن- بتدبر- فينير قلبه وروحه ويحرر عقله من ربقة الجهل وقيود الأوهام والخرافات، فما يأتي عليه الشهر إلا وقد ذاق طعم الحرية الروحية العقلية وخرج بحيوية قوية وحرية نيرة. فحق عليه أن يحمد الله على نعمته ويظهر آثار تلك النعمة عليه ويفرح بفضل الله ورحمته. وذلك كله باحتفاله بهذا العيد الفطر بما يقوم به في يومه من صلاة وصدقة وصلة رحم وتسامح وتزاور وما يتجمل به من الزينة الحلال وما يأتيه من أسباب السرور واللهو البرىء ومظاهر البهجة بالحرية والحياة. فهذا العيد- إخواني المسلمين- عيد حريتنا: حرية أرواحنا وعقولنا، وإذا حررنا أرواحنا وعقولنا فقد حررنا كل شيء. فالحمد لله على هذه النعمة ولنحافظ عليها ولنعمل على تكميلها والازدياد منها ذاكرين قول الله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. نسأل الله لإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في هذا

العيد السعيد حياة السعداء، وحرية الرشداء، وعاقبة المتقين، والأمن والسلامة والهداية للناس أجمعين (1).

_ ش: ج 10، م 11، ص 546 - 548 غرة شوال 1354ه - جانفي 1936م.

ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان

ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان هذه هي الكلمة التي ختمنا بها الخطاب الذي ألقيناه أثر ما خطب الشيخ يحيى حمودي باللغة القبائلية ليلة مأدبة النادي لجمعية العلماء فاهتز لها الحفل ودوَّت القاعة بالهتاف والتصفيق، وددت لو ذكرت الخطاب فنشرته كله، ولكنني سأكتفي بالكلمة التالية فقد تكون أوفى منه في المعنى وأجمل في التنسيق. إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصراً مسلما جزائرياً، أمه الجزائر وأبوه الإسلام. وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم. فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم؟ لولا الظنون الكواذب والأماني الخوادع يا عجبا! لم يفترقوا وهم الأقوياء، فكيف يفترقون وغيرهم القوي كلا والله، بل لا تزيد كل محاولة للتفريق بينهم إلا شدة في اتحادهم وقوة لرابطتهم (ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم) والإسلام له حارس، والله عليه وكيل. نعم إننا نتحد لننفع أنفسنا، وننفع إذا استطعنا غيرنا، ومعاذ الله والإسلام أن نتحد على أحد، أو نتفق على باطل، أو نتعاون على إثم أو عدوان. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ

بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1). عبد الحميد بن باديس الصنهاجي

_ (1) ش: ج11، ص 605 غرة ذي القعدة- فيفري 1936م. نشرت هذه الكلمة عينها في البصائر السنة الأولى العدد 3 ص 2، ع 2، 3. بتاريخ الجمعة 22 شوال 1354ه - 17 جانفي 1936م.

نصيحة وإرشاد

نصيحة وإرشاد من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى وفد الله من إخواننا المسلمين الجزائريين ومن بلغه كلامنا من إخواننا المسلمين. ــــــــــــــــــــــــــــــ قد جرت عادة الناس من قديم عند قدومهم من الحج أن يمكثوا في بيوتهم أياماً ثلاثة أو سبعة يقتبلون الزائرين والمهنئين وينفقون في ذلك ما قد يبلغ شطر ما أنفقوا في الحج أو يقاربه أو يجاوزه بحسب حالهم وعدد معارفهم، ويحسبون أنهم بذلك يعظمون الحج والحجاج ويتقربون إلى الله بذلك التعظيم. وفي هذا مفسدتان عظيمتان، أحداهما: بالقعود عن مساجد الجماعات وذلك من شأن المنافقين الذين همَّ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يحرق عليهم بيوتهم، وقبيح- والله- بمن جاء من بيت الله وحرم الله أن يتخلف عن بيوت الله ويكون في حال أهل هذا الوعيد. الثانية بارتكاب الإسراف والتبذير في غير طاعة، مما يعقب اللوم والحسرة، وبغض الله الذي لا يحب المسرفين. ونحن ننصح لإخواننا المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة الذميمة والبدعة الضالة التي يزداد قبحها ويعظم إثمها بصدورها من وفد الله وضيوفه الذين رجعوا- إن شاء الله تعالى- برحمته ومغفرته وإكرامه. ونرشدهم إلى ما يحصل لهم ولأحيائهم بركة الاجتماع في غير رياء ولا إثم ولا تبذير. ذلك بأن يصبح الحاج في مسجد قريته أو حومته من بلدته يؤدي تحية المسجد أو يؤدي فريضته ويتلقى أحبابه فيه، وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إذا قدم من سفر ابتدأ

بالمسجد، وما أسست المساجد إلا لذكر الله وجمع المسلمين على صلواتهم ودروسهم ومصالحهم. ففي هذا- إن شاء الله تعالى- الأجر الكثير، والنفع الغزير في الدنيا والدين. ... قد تواترت الأخبار المشرقية بما يقاسيه سكان المدينة المنورة من جهد ومشقة واحتياج. فنحن ندعو إخواننا وفد الله إلى اغتنام هذه الفرصة العظيمة والمبرة الكريمة بالإحسان إلى سكان طيبة الطيبة وجيران سيد المرسلين- صلى الله وسلم عليه وعليهم وآله كل أجمعين- وعمار حرمه الأمين ومسجده الكريم، وغذا وفقوا- وهم موفقون إن شاء الله- إلى استبدال هذا الإنفاق المشكور المبرور بذلك التبذير المذموم الموزور، استجمعوا الخير من طرفيه، وحصلوا الأجر بسببيه، فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ورضي الله عنهم- إن شاء الله- ورضوا عنه. ... هذه نصيحتنا إليكم- إخواننا- جعلها الله سبب الأجر والمثوبة لكم ولنا. وإن الجمعية عازمة- بإذن الله- في الأعوام القابلة على إيفاد عضو من رجالها يذكر الحجاج ويفقههم ويكون مرجعا لهم في أمر دينهم وأعمالهم. والله نسأل التوفيق إلى الخير والعون عليه والإخلاص فيه لوجهه آمين والحمد لله رب العالمين. عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة الأولى العدد 7 الجمعة 21 ذي القعدة 1354ه 14 فيفري 1936م الصفحة: 6 ع 1 و 2.

التسامح الإسلامي

التسامح الإسلامي: نظر المسلمين إلى غير المسلمين ونظر غيرهم إليهم ــــــــــــــــــــــــــــــ يقرر الإسلام بطلان سائر الملل وأن لا دين عند الله إلا الإسلام. ويعرض ذلك في بيان من الاحتجاج والاستدلال على ما انبنى عليه الإسلام من الحق وما جاء به للبشرية من الخير، وعلى ما انبنت عليه الملل الأخرى من الباطل أو ما أدخل عليها منه وما أصيبت به كتبها من الضياع والتحريف حتى يكون المسلم على بينة ويقين فيما أخذ من حق وما رد من باطل، وحتى يمتليء قلبه بمحبة الإسلام والاطمئنان إليه، وبالكره لغيره والنفرة منه، فهو يكره أن يعود إلى الكفر بعد الإسلام كما يكره أن يقذف في النار. ومن شأن البشر أنهم إذا كرهوا الشيء كرهوا أهله والمنتمين إليه، ودفعهم ذلك الكره إلى مدِّ يد العدوان إلى ذلك الشيء المكروه وأهله، فأوقعوا به وبهم أنواع الأذى والظلم، وإذا لم يستطيعوا مد أيديهم لذلك بقيت صدورهم تتأجج بنيران الحقد والبغضاء وصارت أفواههم فوهات لتلك البراكين تقذف بالحمم والنيران، بالشتيمة والاستنقاص، وما يؤرج تلك الضغائن والأحقاد. هذا هو حال البشر إذا تركوا سجيتهم الحيوانية دون أن يبصَّروا بسنن الله في الخلق وحكمته في أخلاقهم وحكمه العادل بما لكل منهم من الحق في الحياة على ما اختار لنفسه من دين. وهكذا مضت الأحقاب على البشرية ورؤساء كل ملة يذكون تلك السجية الحيوانية في الإنسان ويوقعون بين أفراده وأممه بسبب ذلك

الحقد الديني والتعصب على المخالف أنواعا من الشرور والبلايا والفتن تشيب من هولها الولدان حتى جاء الإسلام ينشر راية التسامح العام ويقلع جذور الحقد الديني من قلوب متبعيه ويكفهم عن التعصب على المخالف لهم في الدين. قرر الإسلام محبة الإسلام في قلوب المسلمين وكره ما سواه ولكنه بيَّن لهم أنه كره يحملهم على مجانبة عقائد غير الإسلام وأعماله التي أبطلها الإسلام دون أن يحملوا حقدا على مخالفيهم أو يمسوهم بأذى من سب أو تحقير لهم أو لمعتقداتهم، أو يكرهوهم على شيء من الدين. لأجل أن يقتلع الإسلام جذور الحقد الديني والتعصب على المخالف من قلوب اتباعه ويزرع فيها التسامح- عرفهم أن اختلاف الأمم وتباينهم في نحلهم هو بمشيئة الله وما كانت مشيئته إلا حكمة وصوابا فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وعرفهم بوجه الحكمة في هذا الاختلاف وهي أن تباين أعمالهم بتباين مشاربهم ومداركهم مما هو ضروري لنمو العمران وتقدم الانسان وظهور حقائق الأفراد والأمم بالابتلاء والاختبار فيما أوتيت من عقول وإرادات وقوى وأعمال. فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ثم أقر المخالفين على ما ينتحلون ويعتبرونه دينا وسماه دينا وحكم بأن يترك لهم فقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وأقر معابدهم وذكرها بما يقتضي وجوب احترامها بما يذكر فيها من اسم الله وقرنها بالمساجد تأكيداً لذلك الاحترام فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ

بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وأقر كتبهم لهم وسماهم أهل الكتاب وأقر ما يعملونه من دينهم وسماه عملا فقال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وأقر أحكامهم فيما بينهم ومنع من التعرض لهم إلا إذا جاءوا بطوعهم واختيارهم متحاكمين إلى الإسلام فقال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}. فأنت ترى كيف أبقى لهم الإسلام كل كيانهم الديني وجميع مقوماته وأحاط دينهم بسياج من الاحترام بعد ما عرَّف المسلمين أن ما هم عليه من تلك الأديان هو من مقتضى مشيئة الله وحكمته وفي صالح البشرية والعمران وأن الجزاء على ذلك إنما هو لله وحده يوم يرجع إليه العباد فقال: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم أمر بعد ذلك كله بالعفو والصفح عنهم مع العلم بحقيقة قصدهم فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ببيان هذه الحقائق من سنن الله وحكمته، وتقرير هذه الأحكام من شريعته، ربَّى الإسلام المسلمين على التسامح وكوَّن نظرهم لغيرهم من أهل الملل فهم لا يرون في اختلاف تلك الملل إلا شيئاً قد قضاه الله واقتضته حكمته لعمارة هذه الدار وتلك الدار وظهور آثار عدله وفضله وإحسانه ورحمته، فسلمت قلوبهم من الحقد الديني الممقوت والتعصب

عن الصدى الكنسي لقسنطينة وبونة

المذموم وجرت معاملتهم لهم في أيام قوة المسلمين وأيام ضعفهم على سنن التسامح والاحترام، اللهم إلا وقائع نادرة جدا كانت أيام ضعف المسلمين وطغيان غيرهم عليهم فانتقموا انتقام المظلوم المهان لا انتقام الحقود المتعصب. ولا يسعني من هذه المقالة أن أعدد أيادي المسلمين على غيرهم من أهل الملل فقد ملأ ذلك سجلات التاريخ مما كتبه غير المسلمين فضلا عما كتبه المسلمون. ومن مظاهر التسامح الإسلامي عند المسلمين وخلو قلوبهم من الحقد الديني الذي طهرها منه الإسلام بما حكم وبما علَّم، إنك لا تجد في صحافتهم ومجلاتهم الفصول العريضة والمقالات الطويلة في البحث في النصرانية ومقدار انتشارها وأسباب انتشارها ومقاومة انتشارها وما تكون به تلك المقاومة مثل ما تجد ذلك على أتمه وأبلغه، وتارات على أفظعه، في صحف الغرب ومجلاته. وفي العالم الإسلامي كثير من المجلات التي يصدرها رجال من أهل العلم الديني وفي مقدمتها "مجلة الأزهر" لا تجدها تعرض للبحث في النصرانية إلا إذا اضطرت للدفاع عن المطاعن التي يوجهها من حين إلى آخر أعداء الإسلام. أما الهيئات الدينية النصرانية فإن لكل هيئة منها مجلتها ويكاد لا يخلو عدد منها من الكلام على الإسلام، وتصويره بالصورة المنفرة البغيضة المثيرة للأحقاد والحاملة على التعصب حتى أنهم قد يجعلون لأتباعم دعوات تكرر في أوقات مخصوصة ضد الإسلام والمسلمين. ولأجل التحقق مما نقول ننشر فيما يلي نص صلاة من الصلوات اليومية. عن الصدى الكنسي لقسنطينة وبونة الأحد 9 فبراير 1936م الصلاة اليومية: يا قلب يسوع الإلهي أتقدم إليك بقلب مريم الدامي، بصلواتي

وأعمالي وآلامي في هذا النهار، وأقدم إليك صلواتي من أجل الغاية التي أنت ساع في سبيلها كل يوم على المذبح، وأقدم إليك صلواتي بصفة أخص، من أجل اتخاذ كل الكاثوليك ومن أجل محاربة الإسلام. غاية التبشير: النضال ضد الإسلام. L'ECHO DU DIOCESE DE CONSTANTINE ET D'HIPONE 6° Année No 3 - Dimanche 9 Février 1936 OFFRANDE QUOTIDIENNE: Divin cœur de Jésus, je vous offre, par le cœur immaculé de Marie, les prières, les œuvres et les souffrance de cette journée, en réparation de nos offences et à toutes les intensions (1) pour lesquelles vous vous immolez continuellement sur l'autel, Je vous les offre, en particulier, pour l'union entre les catholiques et pour la lutte contre l'Islam. Résolution apostolique ; Prier avec le Christ pour que nous soyons vraiement un. Adhère à tout mouvement de prière et d'action qui tend à l'union. Intension (1) missionaire. (LA LUTTE CONTRE L'ISLAM). N. B: (1) conforme à l'original فكيف تكون نظرات من يغذون هذه التغذية السامة، نحو الإسلام؟ وتد نعود إلى هذا الموضوح في الجزء الآتي إن شاء الله (1).

_ (1) ش: ج 2، م 12، ص 51 - 55 غرة صفر 1355هـ- ماي 1936م.

التسامح الإسلامي- 2

التسامح الإسلامي- 2 صلاة وصلاة ــــــــــــــــــــــــــــــ إن الإسلام الذي قرر التسامح مع أهل الملل أصلا من أصوله يجد فيما يتلوه المسلمون من آياته ودعواته وأذكاره ما يقوي تمسكهم بذلك الأصل ويرسخه فيهم. ونحن نذكر هنا على سبيل المثال دعاء القنوت الذي يدعو به قسم عظيم من المسلمين في صلاة الصبح وهو: ((اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخنع لك ونخلع، ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق)) ويزيد قسم عظيم منهم قوله: ((اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما أعطيت، نستغفرك ونتوب إليك)). أرأيت هذا التوحيد لله والإخبات والتعظيم له والاعتزاز والاعتماد عليه؟ فلما تعرض الدعاء للكافرين لم يزد على تركهم في قوله: ((ونترك من يكفرك)) فالمسلم يتمسك بدينه ويترك غير أهل دينه ودينهم وهذا من باب قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ولما ذكر عذابهم في قوله: ((إن عذابك بالكافرين ملحق)). جعله الله فهو الذي يعذب من كفر به من عباده فلم يرج رحمته ولم يخف عذابه. وهذا من باب قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. فالمسلم بهذه التغذية الشريفة الطيبة لا يكون إلا نقي القلب من

الحقد الديني واسع الصدر عظيم التسامح. وإذا رأيت ما يدعو به المسلم ربه في صلاته وعلمت ما يتركه ذلك الدعاء في نفس المسلم وما يربيه عليه فانظر إلى ما ينشره رجال الكنيسة بين أتباعهم من الصلوات اليومية وما تشتمل عليه من آثارة للحقد الديني وتقوية له ودعوة صريحة إليه، ففي الصلاة اليومية التي نقلناها في العدد الماضي عن (الصدى الكنسي لقسنطينة وبونة) يقول: "وأقدم إليك صلواتي بصفة أخص، من أجل اتحاد كل الكاثوليك ومن أجل محاربة الإسلام". بهذا تغذي الكنيسة مؤمنيها وهم في وسط إسلامي لا تمكن سعادته وهناؤه إلا بتعاون سكانه فيه بروح التسامح والتواد، وتملأ صدورهم بهذا التعصب الممقوت ضد قوم مسالمين ومستضعفين. فلا يدري إلا الله كم أثمرت هذه التغذية الخبيثة من علقم كان وزر من جرعه ومن تجرعه على من بثوه في النفوس ومكنوه من القلوب. حاشا الأصول الأولى لتلك الملة أن تأمر بهذا فقد عرفوا ما جاء في "متى" (5: 44) "وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لأعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" ولكن الرؤساء الذين يريدون المحافظة على مصالحهم ويرون أن محبة أتباعهم لهم تكون بقدر بغضهم للإسلام، هم الذين يتحملون مسؤولية هذا ويبوءون بإثمه. نكتب هذا ليطلع قراؤنا على حقائق واقعية تتصل بالحياة الاجتماعية بينهم وبين من يساكنونهم في وطنهم. وليعلم إخواننا المسلمون عظيم نعمة الله عليهم بما شرعه لهم من أصل التسامح العظيم فيزدادوا به تمسكا فيعيشوا سالمي الصدور من داء الحقد الديني والتعصب الممقوت وليعرف الذين يبثون تلك السموم أن أعمالهم لا تخفى على غيرهم فعسى أن يقلعوا عنها ويرجعوا للعمل معنا على بث التسامح بين عباد الله. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.

سيرة الإصلاح الإسلامي

سيرة الإصلاح الإسلامي: بعد مصر والعراق علم قراؤنا مما كنا نشرناه في جزء سابق ما كان من النهضة الإسلامية في مصر بصفة رسمية من حكومة مصر ومن جماعة كبار العلماء بالأزهر، وقد تلت العراق مصر في هذه النهضة. كان القائم بالإصلاح الإسلامي في بلاد الرافدين هو الجمعيات الإسلامية، مثل جمعيات الشبان المسلمين وجمعية الهداية الإسلامية. وقد جاهدت هذه الجمعيات- وما زالت- في سبيل الإصلاح جهادا كبيرا. أما اليوم فإن الحكومة العراقية نفسها أخذت تعمل لذلك فقد أوفدت الأستاذ بهجت الأثري إلى مصر ليطلع على نظمها في الأوقاف الإسلامية وفي التعليم الديني وقبيل سفره قابله الأستاذ يونس بحري "السائح العراقي الذي كان زار الجزائر وتشرفنا بمعرفته" وسأله باسم جريدة "البلاغ" أسئلة فأجابه عنها. وقد نشرناها ملخصة فيما يلي: - ما هي المهمة التي ستسافرون من أجلها إلى مصر فأجابه: - إني مسافر إلى مصر درة الإسلام، في مهمة رسمية أرجو أن أوفق فيها هي الإطلاع على شؤون الأاوقاف العامة هناك ودرس نظم التعليم في المعاهد الدينية على اختلاف درجاتها ومناهجها والنظر في كيفية تطبيقها تطبيقا عمليا في العراق، وكل ذلك تمهيدا لما تعتزمه الحكومة العراقية من إصلاح أوقافها ومدارسها الدينية، وإجاد طبقة مستنيرة من العلماء تتولى إرشاد المسلمين وتهذيبهم من طريق العلم الصحيح. - ما هي الغاية التي تقصدها حكومة العراق من وراءه هذا الإصلاح؟

- نحن نرمي إلى توحيد الثقافة الدينية العامة بين الأقطار العربية خاصة والإسلامية عامة، والعمل على تغيير عقلية بعض المسلمين الذين صورت الأغراض لهم الإسلام الحنيف تصويرا عكسيا مخالفا لحقيقته فابتعدوا عنه وأصبحوا عالة عليه. فلا بد من مواصلتنا السعي لرفع مستوى هؤلاء المسلمين العقلي والروحي، على النمط الذي يرضيه روح الإسلام، وبهذا يخلق الله الأمة خلقا جديدا يمكنها من استعادة مجدها بين الأمم (1).

_ (1) ش: ج 3، م 12، ص 108 - 110 غرة ربيع الأول 1355هـ- جوان 1936م.

جواب عن كتاب

جواب عن كتاب إلى الأخ الشيخ الطاهر الحركاتي رئيس شعبة باتنة- وعليكم السلام ورحمة الله. وبعد فكلنا نعلم أن أهل باتنة كانوا وما زالوا من أنصار الجمعية والمؤيدين لها في خطتها الدينية العلمية، وأن ما بينهم اليوم من خلاف إنما نشأ من أيام الانتخابات البلدية ثم استمر إلى أيام المؤتمر وفي أثناء هذا ما رأيت من الشعبة ورئيسها وأهل باتنة وفي جانب الجمعية إلا خيراً ولم يكن مني في جانب الجمعية إلا الدعوة إلى الصلح أو المهادنة على الأقل كان هذا مني مع كل من اجتمعت به من تلك الناصية فلما أيست من أمر الصلح لازمت الحياد وكاتبتكم بكتاب آخر أمركم فيه بالحياد التام وهو الكتاب الوحيد الذي كاتبت به باتنة من هذه المدة كلها- وها هو نص الكتاب الذي أنشره ليطلع عليه الجميع وليعلم منه موقف الجمعية في مثل ما بينته من خلاف. نص الكتاب بعد الافتتاح: "وبعد فلما كانت الجمعية واقفة في الخلاف الواقع بين أهل باتنة موقف الحياد، لا تؤيد أحدا ولا تعارض أحدا حتى ينجلي الموقف على خير إن شاء الله- فيلزم إذا وقفتم في موقف عام أو خاص في شأن من شؤون باتنة الخلافية أن تعلنوا للناس أنكم لا تتكلمون باسم الجمعية مثل ما نفعل نحن في المواقف الخارجة عن نطاق الجمعية. إنني أؤكد عليكم بهذا وأرجو أن يبلغني صداه. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة الثانية العدد 74 الجمعة 30 ربيع الثاني 1356هـ - 9 جوليت 1937م، ص 7، ع 3.

إحياء ليلة المعراج النبوي الشريف

إحياء ليلة المعراج النبوي الشريف ليلة الثلاثاء 27 رجب الجاري ــــــــــــــــــــــــــــــ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله وأسرى بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- إليه، وكان معراج محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الملكوت الأعلى منه، وهو اليوم بين مسايل الدماء [ ... ] (1) الاألاء، وانقاض النسف والتخريب بالنار والحديد. وان سكان أرضه من جميع الملل والأجناس الذين عاشوا قرونا آمنين أصبحوا اليوم بسبب الاستعمار الانكليزي الغاشم والمذهب الصهيوني الطامع في عذاب أليم. وإن إخوانكم الذين يحفظون ذلك الحرم المقدس، ويعمرون أرضه ويردون عنه العدوان، قد رملت الآلاف من نسائهم، ويتم مثلها من أبنائهم، وضاع عجزتهم ومرضاهم، فأكلتهم الفاقة، وأنهكتهم الأوصاب، وأحاط بهم البلاء من كل جانب. وإننا نرى غيرنا يبذل الجهد في إغاثة المنكوبين من إخواننا بتلك الأرض المقدسة، بل نرى أحزابا وجمعيات تجتهد في إغاثة المنكوبين في جهات أخرى، فلنبادر للقيام بالواجب علينا نحو إخواننا في كل مناسبة تعرض لنا، وأن من أعظم تلك المناسبات وأفضلها ليلة المعراج النبوي الكريم واليوم الذي يليها، فلنذكر فيهما أولئك المنكوبين نذكرهم بالدعاء لرفع البلاء والعطاء لتحصيل القوت والدواء. وقد دعت جمعية العلماء في السنة الماضية المسلمين إلى هذا الإحسان الإسلامي الإنساني فلبَّى المسلمون دعوتها وهي اليوم تجدد

_ (1) كلمة غير واضحة محيت من الاصل.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقوم بواجبها الديني وشعورها الإنساني

لهم الدعوة بنصر ما دعتهم به في السنة الماضية راجية منهم الإجابة وسائلة لهم التوفيق. وهذا نص دعوتها الماضية: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقوم بواجبها الديني وشعورها الإنساني: 1 - تدعو المسلمين عموما وأئمة المساجد خصوصا إلى إحياء ليلة المعراج بالتضرع والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء ليرفع البلاء عن ذلك الحرم المقدس وساكني رحابه، وأن يرفع عدوان الظالمين عن المظلومين، وأن يرجع لتلك البلاد عهدها السابق الذي تمتع فيه جميع السكان بالأمن والسلام. 2 - كما تدعو كل مسلم أن يذكر في تلك الليلة أولئك الأيتام والأرامل والمنكوبين فيخصص لإعانتهم ما استطاع من المال. (وأمين مال لجنة إغاثة منكوبي القدس الشريف المؤسسة بقسنطينة في عيد الأضحى السابق السيد كرماني الحاج حموش) مستعد لقبول ما يرد عليه ليرسله إلى لجنة الإغاثة بمصر وينشره بالصحف. 3 - كما تدعو المسلمين أن يكونوا ليلتهم في هدوء وخشوع مناسبين للدعاء والابتهال، لا يرى ولا يسمع منهم جيرانهم من اليهود والنصارى إلا ما أمر به الإسلام من العدل والإحسان والله المستعان. بيان ما أرسل للمنكوبين: فرنكات ............ 24200 .......... اجتمعت من دعوة الجمعية ليلة المعراج من السنة الماضية وأرسلت بواسطة أمين لجنة الجزائر العاصمة في ديصامبر 1938 وتحت يده وثيقتها. 21155 ......... من جلود الضحايا وأرسلت بواسطته في أفريل 1939 وتحت يده وثيقتها. 24500 .......... اجتمعت من جلود الضحايا وأرسلت بواسطة أمين لجنة قسنطينة في 19 ماي 1939 وتحت يده وثيقتها.

تنبيه

تنبيه لما اعتذر أمين لجنة الجزائر عن الاستمرار على القيام بالعمل فقد قبل أمين مال لجنة قسنطينة بالقيام به شكر الله الجميع. فالمرغوب الإرسال إليه على هذا العنوان: C/c 264 - 85 ALGER KERMANI HADJ HAMOUCHE 37 RUE C Ah 33 oreau والله يتولى الجميع بالعون والتوفيق. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: السنة 4 ع 180 ص 1، قسنطينة: يوم الجمعة 9 رجب 1358هـ الموافق ليوم 25 أوت 1936م. 499

غرداية

غرداية "وادي ميزاب" ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا العاجز- كما يعلم الناس كلهم- كان ولا زال من دعاة التوحيد والاتحاد. وكنت ولا زلت أقول في مجالسي ودروسي أن المذاهب الفقهية غير الأربعة المشهورة هي كالأربعة تتفق وتختلف عن نظر واجتهاد. وكان لكلامي هذا- بحمد الله- أثره الطيب المقصود. فلما قرأ الناس في الصحف الدورية خبر منع إخواننا الإباضية إخوانهم المالكية بغرداية من شعيرة الأذان كثر منهم من سألني: ماذا تقول؟ وأين ما كنت تقول؟ كأن من يدعو إلى الاتحاد مسؤول عما يأتيه من يدعو ويفعل ما يدعو إلى التفريق! لا، أنا لست مسؤولاً عن هذا- وإن كنت أعظمَ متألمٍ منه- بل المسؤول عنه هم أولئك الإخوان المتنوِّرون الذين أعرفهم هنا وهنالك من أهل وادي ميزاب. فإليهم يتوجه الرجاء في حسم هاته المسألة بالحق والنصفة بين أولئك الإخوان المتنازعين- ذاكرين قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1).

_ (1) ش: ج 5، م 6 غرة محرم 1349هـ جوان 1930م، ص 317 - 316.

بين المسلمين في غرداية

بين المسلمين في غرداية جاء كتاب من جماعة من المالكية بغرداية يقولون فيه ما ملخصه: إن لنا مسجدين بداخل بلدة غرداية تقام فيهما الصلوات الخمس وتصلى فيهما الجمعة أحدهما بحارة عرش المذابيح وثانيهما بحارة بني مرزوق وكلاهما أسس لمالكية وادي ميزاب من منذ برهة زمانية. وقد كان إخواننا الإباضية منعونا من الأذان بهما فوق سطحيهما فسلمنا الأمر بسبب ضعفنا، وصارت عادتنا في يوم الجمعة نؤذن بداخل المساجد وقت جلوس الإمام على المنبر. والآن قام بعض طلبتهم وأهل المخزن منهم واستنصروا بحاكم الإدارة علينا في إبطال الأذان حتى بداخل المساجد. وفعلا استدعانا بالحضور وأمرنا في الحال بإبطال الأذان من مساجدنا وتعويضه بكلمة الصلاة لا غير وبشرط أن لا يبعد المنادي بهاته الكلمة من المحراب أكثر من ميترة واحدة وعندنا نسخة من رسالة الحاكم الموجهة إلى قائد غرداية في هذا الشأن. (ش) قد تقدمت كلمتنا على هذا الخبر في باب المجتمع الجزائري صفحة 316 من هذا الجزء (1).

_ (1) ش: ج 5، م 6، غرة محرم 1349هـ - جوان 1930م ص 327

للحق والنصفة

للحق والنصفة حول منع الإباضية إخوانهم المالكية من الأذان بغرداية ــــــــــــــــــــــــــــــ كنا من أول من كتب في هذه المسألة بأسف وحسرة، وأحلنا بإصلاح ذات البين فيها على الأدباء والفضلاء من إخواننا الإباضيين الذين نعرفهم بقسنطينة وبالعاصمة وبميزاب، ثم رأينا الأمر لا يزداد إلا تفاقما والفتنة لا تزداد إلا اتقادا رغم سعي بعض الفضلاء بالعاصمة في إصلاح ذات البين ورغم كتابة كاتب الشرق والإسلام التي تؤثر في الصم الصلاب. فلما رأينا ذلك لزمنا السكوت لعلمنا أن الكلام بعدئذ لا يرتق الفتق بل يزيده وسعا. فسكتنا منتظرين لطف الله في إلهام الفئتين رشدهما وتنزيل أسباب الرحمة والأخوة بينهما، غير أن هذا السكوت لم يرض واحدة من الفئتين. فأما إخواننا الإباضية فإننا التقينا بالشيخ إبراهيم أطفيش بقالمة فوجدناه يحمل حنقا شديدا على"الشهاب" وصاحبه لأنه علم أن المالكية جعلوا "مؤتمرات في الأغواط" وأن صاحب، الشهاب، حضرها ولأن الشهاب لم ينشر ما يبين به الحق في المسألة، فأقنعناه أن مسألة المؤتمرات وحضورنا لها اختلاق محض كان على حضرته أن يتثبت في نقله قبل أن يسيء مقابلتنا به وأن "الشهاب" لا يتوخى فيما ينشر إلا إصلاح ذات البين ووعدناه بأن نقول كلمة خير للجميع إذا وجدنا لها مناسبة. وأما إخواننا المالكية فقد جاءنا كتاب منهم من العاصمة من جماعة كثيرة يعتبون ويلومون على " الشهاب" في سكوته، وبلغ بهم الحمق

"وشيء آخر" أن عرضوا بأن "الشهاب" يراعي الإباضيين لأجل اشتراكاتهم فأجبتهم بأننا دعاة إصلاح واتحاد بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وإننا ندين- قولا وعملا واعتقادا- بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} حسب جهدنا وطاقتنا، ونستغفر الله تعالى مما يكون منا في ذلك من تقصير. وأما اشتراكات الإباضيين التي عرضوا بها فإنها لا تتجاوز الثلاثين، وأن "الشهاب" لو كان يراعي الخواطر في سبيل المال لكان له وفر ولكنه- علم الله والناس- أنه ليس كذلك وإننا لو كنا نريد المال لكان لنا- بحمد الله- فيما قسمه الله لنا من فضله لأسرتنا فوق الكفاية أو لكان لنا في أبواب التجارة والفلاحة المعرضة لنا- بإذن الله- أسباب إليه متينة ونعوذ بالله من تعريض سيِّء يؤدينا إلى مثل هذا الكلام. واليوم- وقد اتفق الجانبان على إنكار سكوتنا وحمل الحنق علينا وسوء الظن فينا- فإننا نقول كلمتنا للحق والنصفة غير منحازين بها إلى إحدى الفئتين بالغة ما بلغت في إرضاء من رضي وإسخاط من سخط حيث كنا نعتقد أننا أرضينا بها- الحق والوجدان فنقول: قد ثبت عندنا أن بعض الإباضية بغرداية منذ زمان بعيد بنى مسجدا وجعل له مأذنة واحدث فيه أذانا ثانيا فاتفقت كلمة جماعة الإباضيين على منعه وهدم مأذنته. فعلمنا بهذا أن الإباضية لم يمنعوا مالكية غرداية من الأذان تعصبا عليهم لأنهم مالكية- كيف وقد منعوا قبل ذلك الإباضية مثلهم وهدموا الصومعة- وإنما منعوهم لأنهم يرون الاكتفاء في البلد بأذان واحد. فنحن بهذا قد برأنا الإباضية من تعصبهم على المالكية لأنهم مالكية. ولكننا من ناحية أخرى نرى أنه حق عليهم أن يرجعوا في

هذه المسألة عن رأيهم ويسمحوا لإخوانهم المالكية بالأذان. أولا- إصلاحا لذات البين بين المسلمين، وهي من الإسلام من أول ما تجب وتتأكد المحافظة عليه والقيام به. ثانيا- حفظا للوحدة الإسلامية بحفظ القلوب غير متصدعة بداء الفرقة القَتَّال المعدود في الإسلام من أكبر المحرمات المهلكات. ثالثا- مجاملة لبقية إخهوانهم المالكية بالقطر الذين تربطهم بهم رابطة الدين والوطن والمصلحة. هذه كلمتنا نقولها بعهد الله لا نقصد بها إلا القيام بواحب الصدع بالحق والدعوة إليه والإصلاح بين المسلمين فإن كانت صوابا فمن الله الكريم الرحيم وإن كانت خطأً فمنا وإلينا وليست بالأولى من خطئنا (1).

_ (1) ش: ج 12م 6 غرة شعبان 1349هـ جانفي 1931م. ص 768 - 770.

قسم الخطب

آثار ابن باديس قسم الخطب

ذكرى المولد النبوي الكريم

ذكرى المولد النبوي الكريم في (نادي الترقي) بالعاصمة ــــــــــــــــــــــــــــــ ألقى صاحب المجلة في هذه الذكرى خطابا إرتجله ارتجالا في ذلك المقام وقد نشرناه فيما يلي حسبما بقي في الذهن فكان طبق أصله إلا في القليل. -1 - بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى اسم الجزائر الراسخة في إسلامها، المتمسكة بأمجاد قوميتها وتاريخها- افتتح الذكرى (1) الأولى بعد الأربعمائة والألف من ذكريات مولد نبي الإنسانية ورسول الرحمة سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- في هذا النادي العظيم الذي هو وديعة الأمة الجزائرية عند فضلاء هذه العاصمة ووجهائها. لسنا وحدنا في هذا الموقف الشريف لإحياء هذه الذكرى العظيمة، بل يشاركنا فيها نحو خمسمائة مليون من البشر في أقطار المعمور كلهم تخفق أفئدتهم فرحا وسرورا وتخضع أرواحهم إجلالا وتعظيما لمولد سيد العالين. قلوب خمسمائة مليون! هذه قوة كبيرة في هذا العالم مرتبطة

_ (1) نحن في سنة 1348 من الهجرة وعاش هو-صلى الله عليه وآله وسلم- 53 سنة في مكة قبل الهجرة فتلك: 1401 سنة فمولد هده السنة هو الواحد بعد الأربعمائة والألف كما ذكرنا. (المؤلف)

بالحب متدرعة بالإيمان فلو شعرت حقيقة الشعور ببعضها لأثمرت للإنسانية فوائد كبرى وعملتلها أعمالا عظيمة. بل تشاركنا في موقفنا هذا الإنسانية كلها وإذا لم يكن بلسان مقالها فبلسان حالها. فمن الإسلام الذي جاء به صاحب هذه الذكرى عرفت الإنسانية وذاقت حرية العقول والرقاب، ومنه عرفت وذاقت العدل على أتم معناه، ومنه عرفت وذاقت المساواة بين العباد فيما هم متساوون فيه، وبهذه الأصول العظيمة أمكن اشتراك أمم كثيرة تحت راية الإسلام في خدمة العلم والمدنية حتى أزهرت رياضهما وسمت صروحهما في الشرق والغرب واغترفت من معينهما أبناء الإنسانية جمعاء. نقلت المدنية الإسلامية أصول المدنيات السابقة نقل الأمين، ونخلتها نخل الناقد البصير، وزادت عليها من نتائج أفكارها وثمار أعمالها ما كان الأساس المتين لمدنية اليوم. هذا الذي نقوله يعترف به العلماء المنصفون من الغربيين أنفسهم ويشهد به مثل قانون ابن سينا الذي لا زال يدرس إلى القرن الثامن عشر في جامعاتهم ومثل مقدمة ابن خلدون التونسي تلميذ مواطنينا شيوخ تلمسان، واضع علم الاجتماع المترجمة إلى جميع لغاتهم. كنا نسمع هذا الاعتراف من الأفراد ولكننا اليوم صرنا نسمعه من الأمم ففي العام الماضي كان احتفال إسبانيا أمتها وحكومتها بانقضاء ألف سنة على تأسيس الخلافة الإسلامية في قرطبة، ومعنى ذلك الاعتراف لهذه الخلافة الإسلامية العربية بفضلها على مدنية اليوم، ورفعها منار العلم والعمران أيام كانت أمم الغرب في همجية عمياء، وفي هذه السنة كان الاحتفال في جامعة ألمانيا ببرلين بذكرى أبي القاسم الزهراوي الأندلسي الطبيب الجراح الذي لا تزال نظرياته واستنباطاته

معتمدا عليها إلى اليوم، وكان الاحتفال في القاعة الكبرى التي لا يحتفل فيها إلا بأكابر العلماء الذين خدموا الإنسانية خدمة جليلة. ومعنى هذا الاعتراف لعلماء العرب بخدمة العلم والإنسانية في ظل الإسلام منذ قرن. فالإسلام الذي جاء به صاحب هذه الذكرى هو أبو المدنية أمس واليوم- وأعني بمدنية اليوم المدنية من جهة العلم والعمران، لا من جهة الأخلاق والاجتماع فهنالك ما يتبرأ منه الإسلام. لا عجب بعد هذا البيان أن نقول أن الإنسانية تشاركنا بالاحتفال في هذا المقام. ما الداعي إلى إحياء هذه الذكرى؟ المحبة في صاحبها. إن الشيء يحب لحسنه أو لإحسانه وصاحب هذه الذكرى قد جمع - على أكمل وجه- بينهما فله من الحسن ما كان به أكمل الناس حتى اضطلع بالقيام بأعباء ما جاء به ويعرف ذلك الكمال من درس أي خلق من أخلاقه وأي يوم من أيامه. وله من الإحسان ما أنقذ به البشرية وكان رحمة خاصة وعامة، وعم الإنسانية جمعاء على ما قدمنا في البيان. فمن الحق والواجب أن يكون هذا النبي الكريم أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا ومن الناس أجمعين ولو لم يقل لنا في حديثه الشريف «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وكم فينا من يحبه هذه المحبة ولم يسمع بهذا الحديث؟ فهذه المحبة تدعونا إلى تجديد ذكرى مولده في كل عام. ما الغاية من تجديد هذه الذكرى؟

إستثمار هذه المحبة. إن محبتنا فيه تجعلنا نحب كل خلق من أخلاقه وكل عمل من أعماله. ففي ذكريات مولده نذكر من أخلاقه ومن أعماله ما يزيدنا فيه محبة ويحملنا على الاقتداء به فنستثمر تلك المحبة بالهداية في أنفسنا، ونشرها في غيرنا، تلك الهداية التي لا يسعد العالم سعادة حقة إلا إذا تمسك بها. ماذا نريد أن نذكر في مجلسنا هذا منها؟ عندما أصل إلى هذا المقام وأقف أمام أخلاقه وأعماله- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- أجدني أمام ما يتقاصر عنه علمي ويتضاءل أمامه شخصي وأنشد ما قاله شاعرنا العربي: هو البحر من أي الجهات أتيته … فلجته المعروف والجود ساحله ومن أين لعاجز مثلي أن يفي خلقا من أخلاقه أو عملا من أعماله حقه من البيان؟ لكنني سأقول على كل حال حسب جهدي، وأقتصر على ذكر خلقين من أخلاقه أراهما ركنين أساسيين في حياته وفي شريعته وهما: الرحمة ……… والقوة إذا أراد الله تعالى شيئاً هيأ أسبابه. فمع علمنا بأن ما كان له - صلى الله عليه وآله وسلم- من الرحمة والقوة هو من العطاء الرباني والفيض الإلهي الذي تقصر عنه وسائل العباد، فإننا لا نمتنع من ذكر ما هيأ الله له من أسباب مناسبة لهذين الخلقين. فمن العبادة الفكرية النظر في صنع الحكيم العليم في ربط الأمور بعضها ببعض واقترانها في الوجود والتقدير. فلنبحث في هذين الخلقين وما هُيِّء لهما من حال مناسب، وما نشأ عنهما من أخلاق فاضلة وما كان لهما

بقية الخطاب الذي ألقاه صاحب المجلة في النادي

من ثمار محمودة، ومظاهر في حياته وشريعته جليلة جلية، لنزداد بصيرة في العلم، وهداية في الاقتداء فنقول (1): بقية الخطاب الذي ألقاه صاحب المجلة في النادي -2 - مبدأ رحمته: كان- صلى الله عليه وآله وسلم- يتيما في صغره مات أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن بضع سنوات فأورثه ذلك اليتم رقة في قلبه. وما كانت كفالة جده ولا عمه، ولا حضانة نسائهم بمغنية عن عطف الأم وحنانها، ولا جابرة صدع القلب من فقدها، وهذه الرقة هي فيه أساس الرحمة. مبدأ قوته: وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- ابن بيت عظيم، يشهد مجالس جده عبد المطلب شيبة الحمد وأعمامه من حوله، ويرى هيبتهم ومكانتهم في قومهم فأورثه ذلك عظمة وعزة نفس: عزة أنفة وإباءة، وعظمة وشرف وكرم وترفع عن الدنايا. ولا ينكر تأثير اسم العائلة وتاريخها ومشاهدة حال أفرادها في أبنائها. وأنا أعرف شخصاً ما قرأ العلم ولا اجتهد فيه- في أول أمره- إلا لعلمه بأن أجداده كانوا علماء. وهذه العظمة هي أساس القوة. مظاهر رحمته: كانت رحمته بالمرسل إليهم: فأدمي ساقه، وشج وجهه، وكسرت

_ (ش): ج 9، م 5، ص 6 - 9 غرة محرم 1348هـ - أكتوبر 1929م.

مظاهر قوته

رباعيته- وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقال تعالى في رحمته بمن أرسل إليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ "قاتل" نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وكان كما قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ورحمته للعالم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. مظاهر قوته: كانت قوته لتحمُّل أعباء الرسالة وتبليغها للخلق، قوة أدبية وقوة حربية. فمن الأولى ثباته في مواقف التبليغ، كقوله لعمه أبي طالب - وقد فهم منه أنه ضعف عن نصره وأنه مسلِّمُه-: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». ومن الثانية ثباته في ميادين القتال ومواقف البأس كما ولى عنه الناس يوم حنين- وهو يقول راكباً على البغلة التي لا يركبها إلا من لا يفر-: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ … أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» معلناً مكانه مظهراً نفسه أمام الأعداء الآتين من كل صوب. آثار القوة والرحمة في أخلاقه: كان- صلى الله عليه وآله وسلم- صادقاً أميناً عادلاً، معروفاً بهذه الصفات بين قومه قبل نبوته. الأمانة: هي حفظ الشخص ما استودع، وأول ذلك حفظه نفسه فيثق به الناس في حفظ ما يستودعونه. وقد كانت قريش- وهي كافرة به- تودع عنده أموالها. ولما خرج مهاجراً ومعه الصديق رضي الله تعالى عنه خلف ابن عمه حيدرة علي بن أبي طالب كرم اللهُ وجهه لينام على فراشه معرضا نفسه لسيوف

الصدق

قريش المتآمرين على قتل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في تلك الليلة، وليرد أمانات الناس إليهم ويلحقه بأهله. الصدق: هو قول الحق في جميع المواطن. وقد شهد له أبو سفيان- وهو إذ ذاك أكبر عدو له- في مجلس قيصر بالصدق: سأله قيصر هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. قال قيصر: قد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. العدل: وهو الإنصاف في الحكم. وقد رضيت به قريش حكماً بين كبرائها لما تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى محله أيام جددوا بناء الكعبة، ذلك لما عرفوا من عدله. والرحمة والقوة أساسان لهاته الأخلاق. فمن الرحمة بالنفس وبصاحب الشيء، ومن القوة على النفس وعلى النزعات والعواطف تكون الأمانة، ومن الرحمة بالمظلوم والقوة على الظالم يكون الحكم العادل، فإن القاسي العديم الرحمة لا يبالي بالمظلوم وأن الضعيف تكسره رهبة الظالم عن الصدع بالحكم ويقصر عن تنفيذه. وضعيف القلب تؤثر عليه المؤثرات حتى مرققات العواطف، ولهذا قال جمهور أئمة الإسلام: أن المرأة لا تصلح للحكم لرقة عواطفها وضعف قلبها، فقد تخدعها الدموع الكواذب، وقد تميل بها عاطفة الحب والقرابة. والصدق- وهو من مقتضيات الأمانة لأنه حفط اللسان- لا يقوم به إلا رحيم بالسامعين يشفق عليهم لا يخدعهم قوي شجاع لا يبالي في قول الحق بهم. إهتمامه بالخلق: كان هذا العظيم النفس الرقيق القلب، الرجل القوي الرحيم، يرى

إنقباضه عنهم

انحطاط قومه في المعتقد والأخلاق والمجتمع فتسمو به نفسه العظيمة عن البقاء في تلك البيئة المنحطة والوسط المريض، وتأبى عليه رحمته أن يتركهم فيما هم عليه فكان دائم الاهتمام بهم، دائم التفكير في الطريق الذي يسلكه لإنقاذهم. إنقباضه عنهم: كان ينعزل عنهم ويذهب إلى غار حراء الليالي العديدة حاملاً عبء همه غارقاً في تفكيره. ولم يكن اختلاؤه في غار حراء مثل اختلاء متصوفة الهند الذين ينعزل أحدهم عن الناس ويذهب في أودية الخيال لتحصيل حالة نفسية خاصة به يعدها نعيماً روحياً. بل كان اختلاؤه وانعزاله للتفكير في طريق خلاص العالم من الضلال والقيام بخدمة عظيمة عامة البشر، وشتان ما بين الحالتين. نبوءته: جاءه جبريل بالوحي وهداه الله بالنبوة إلى طريق الخلاص، وشرح صدره لما جاءه من الحق، ووضع عنه عبء ذلك الهم الثقيل وبعثه للعالمين بشيراً ونذيراً. الرحمة والقوة في شريعته: ولو تتبعت أصول شريعته وفروعها وآدابها لوجدتها كلها مبنية على أساسي الرحمة والقوة. فليس من الإسلام ذلك التماوت وذلك التمسكن الذي يتظاهر به بعض الناس. وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- وقد رأى قوما من هذا الصنف: "لا تميتوا علينا ديننا، أماتكم الله"، وقالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- وقد رأت قوما يتماوتون في مشيتهم، من هؤلاء؟ فقيل لها قوم من القراء، فقالت: "لقد كان عمر سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع".

ولو بحثت عن أسباب انتشار المملكة الإسلامية المبنية على الشريعة المحمدية لوجدت أصل تلك الأسباب هذين الأساسين: الرحمة والقوة. فإن الضعيف مغلوب، وإن القاسي مبغوض. ولا يسود ويحب- كما كان للإسلام- إلا القوي الرحيم. رزقنا الله القوة في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا وأبداننا، وأشعرنا الرحمة بأنفسنا وببعضنا وبغيرنا، إنه القوي المتين، الرحمن الرحيم (1).

_ (1) ش: ج 10، م 5، ص 5 - 8 غرة جمادى الثانية 1318ه - نوفمبر 1929م.

خطبتان لصاحب المجلة

خطبتان لصاحب المجلة في اجتماع جمعية العلماء المسلمين بالعاصمة ــــــــــــــــــــــــــــــ في الجزء الماضي نشرنا، كما نشرت الزميلات الأخرى، المحضر الرسمي لجلسات الجمعية وقد لخص فيه أخي الأستاذ البشير الإبراهيمي الخطاب الرئيسي الذي ارتجلته أحسن تلخيص ثم رغب مني جماعة أن أنشر لهم نفس الخطاب فاعتذرت بأنني لم أكتبه قبل إلقائه فاكتفوا بنشر ما بقي بذهني منه، فأنا أنشر بغاية التحرير ما كنت ألقيته. وهذا نص الخطبة التي ألقيتها في الاجتماع الأخير الذي كان حفلة شاي دعي إليها الأعيان والنواب وعدة من طبقات الناس: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. باسم جمعية العلماء المسلمين أفتنح هذا الاجتماع وأقدم الشكر إلى أهل العاصمة أجمعين الذين أحسنوا وفادة الجمعية وأكرموا ضيافتها فبرهنوا على أنهم أهل لأن تكون العاصمة بهم رأس القطر وقلبه. وأنهم باعتنائهم بالعلم وإكرامهم للعلماء أحيوا لنا ذكرى عواصمنا العلمية الزاهرة في التاريخ مثل تلمسان وبجاية وتيهرت وقلعة بني حماد. ثم أقدم الشكر لرجال نادي الترقي الذين فتحوا أبواب ناديهم للجمعية وفسحوا لها مكانا رحبا فيه وجعلوه لها موئلا. فلله هذا النادي الذي هو في العاصمة كالعاصمة في القطر. ثم أقدم الشكر للسادة الشيوخ الذين لبوا دعوة اللجنة المؤسسة وأقبلوا من جميع جهات القطر.

ثم أشكر السيد عمر إسماعيل الساعي في تأسيس الجمعية والعامل على تكوينها وأن شكري له شكر لجميع الذين أيدوه وآزروه من أعضاء اللجنة التأسيسية وغيرهم من رجال العاصمة. ويجب أن أذكر بالشكر جميع الذين فكروا في هذه الجمعية ودعوا إليها. ولقد كان لجريدة الشهاب في سنتها الثانية والثالثة دعوة إلى مثل هذه الجمعية وكان كتاب الشهاب إذ ذاك قد كتبوا في هذا الموضوع وكانت تلك أفكاراً وأقوالاً تمهيداً للعمل حتى جاء السيد عمر إسماعيل بالأمر قولا وعملا، وقد سرنا أن يتم هذا في العاصمة وعلى يد رجالها. ثم أقدم الشكر للسيد ميرانت لحسن قبوله لرئيس اللجنة المؤسسة السيد عمر اسماعيل يوم زاره ودعاه لحضور حفلتنا هذه ورياستها فاعتذر بغيابه وتلطف جنابه فطلب من السيد عمر اسماعيل أن ينوب عن جنابه في إبلاغ اعتذاره إلى الجمعية الموقرة. ولا عجب في هذه الأخلاق العالية والآداب اللطيفة من ذلك الرجل الإداري العظيم الذي يعرف أن المسلمين الذين برهنوا على حسن سلوكهم دائما في جميع المواطن يجب أن يعاملوا اليوم بغير ما كانوا يعاملون به أمس- وذلك المستشرق العالم بالعربية أنه لا شك أن ذلك يجعل له عطفا خاصا على أبنائها. ثم أقدم الشكر لكم أيها السادة الذين لبيتهم الدعوة وشرفتهم الجمع. ثم أعرفكم بما تم من أعمال الجمعية في جلساتها هذه الثلاثة الأيام فقد عرضت القانون الأساسي على الأعضاء الحاضرين كلهم فأقروه وعينت مجلس الإدارة على الصورة الآتية:

الأستاذ عبد الحميد بن باديس .......... رئيس الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي ........ نائبه الأستاذ محمد أمين العمودي ........... كاتب الأستاذ الطيب العقبي .................. معاونه الأستاذ مبارك الميلي ................... أمين المال الأستاذ إبراهيم بيوض .................. معاونه الأستاذ المولود الحافظي ............... مستشار الأستاذ مولاي ابن الشريف ............. مستشار الأستاذ الطيب المهاجي ................ مستشار الأستاذ السعيد اليجري ................ مستشار الأستاذ حسني الطرابلسي .............. مستشار الأستاذ عبد القادر القاسمي ............ مستشار الأستاذ محمد الفضيل اليراتني .......... مستشار كل أعضاء الجمعية في العضوية وفي حق الإشراف والمناقشة سواء وإنما عين هؤلاء الشيوخ ليتحملوا مسؤولية الإدارة. ولما كان أعضاء مجلس الإدارة من جهات متفرقة والعمل بالمركز بالعاصمة لا بد أن يكون له من يباشره باستمرار لزم تعيين لجنة للعمل دائمة تكون من سكان العاصمة أو ضاحيتها فعينت على هذه الصورة: السيد عمر إسماعيل ................ رئيس " محمد المهدي ................... كاتب " ايت سي أحمد عبد العزبز ......... امين مال " محمد الزمرلي .................... عضو " الحاج عمر العنق ................. عضو أما غاية الجمعية فهي إصلاح الفاسد وتقويم المعوج وإرشاد الضال

بالهداية والحكمة في دائرة المحبة والوئام وإصلاح شؤون أهل العلم ولم شعثهم وتنظيم هدايتهم، فهي تسعى في إزالة كل شر يحرمه الشرع والقانون مما هو منتشر فينا ويضيق المقام عن تعداده ونشر كل قمع وخير. هنا قد انتهيت من بيان ما يجب أن يعرف عن الجمعية، ثم أوجه الآن خطابي لإخواني من طلبة العلم: أيها السادة: قد أنجزتم أمراً عظيما وأسستم مستقبلاً عظيما ولقد جئتم من أنحاء القطر ملبين داعي الاجتماع، ناسين كل أسباب الافتراق فبرهنتم على أن علماء الجزائر متصفون بما يجب أن يتصف به العالم الحقيقي الذي صار العلم له صفة روحية وحياة قلبية من سعة الصدو والتسامح ونسيان الفكر الخاص أمام الصالح العام، أن ما أسسناه لا يكفي فيه اجتماعنا هذا فعلينا أن نوالي الاجتماع مهما دعينا إليه وعلى كل واحد منا أن يكون داعية للجمعية بقوله وعمله وأن يكون ممثلاً لفكرتها في الاتفاق والتآخي ونشر الخير وأن يطرح كل واحد منا فكره الخاص عندما تجيء مصلحة الجمعية. حسبنا ما مضى، كفى ما تقاتلنا على الكلمات فكلمة "فرق" قد ماتت من بيننا، وما بقي إلا العمل على الوفاق والوئام لنبلغ غاية المرام. إخواني إنني قد تخلفت عن جمعكم العظيم اليوم الأول والثاني فحرمت خيراً كثيراً وتحملت إثما كبيراً، ولعلكم تعذروني لما لحقت في اليوم الثالث. وأذكر لحضراتكم ما تحلمونه من قصة أبي خيثمة الأنصاري لما تخلف عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في غزوة تبوك ثم لحقه فقال الناس هذا راكب يرفعه الآل ويضعه فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- كن أبا خيثمة فقالوا هو أبو خيثمة فاعتذر إلى النبي- صلى الله عليه واله وسلم- فقبل عذره ودعا له

بخير. ومثلكم من كان له في رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- القدوة الحسنة ثم أعتذر لكم عن زميلي وصديقي الشيخ عبد الحفيظ ابن الهاشمي مدير النجاح فإنه ما تخلف إلا لعذر علمت أنه لا فسحة فيه. والآن أيها الأساتذة نحمد الله الذي يسر لنا هذا الجمع المبارك ونسأله تعالى كما أذاقنا حلاوة هذا النعيم أن يديمه لنا ويتم لنا به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم عقدنا اجتماعا بعد تمام الاحتفال من خصوص أعضاء مجلس الإدارة ولجنة العمل الدائمة فألقيت عليهم هذا الخطاب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. إخواني إنني ما كنت أعد نفسي أهلاً للرئاسة لو كنت حاضراً يوم الاجتماع الأول فكيف تخطر لي بالبال وأنا غائب. لكنكم بتواضعكم وسلامة صدوركم وسمو أنظاركم جئتم بخلاف اعتقادي في الأمرين فانتخبتموني للرئاسة وأنا غائب. إخواني إنني كنت أعد نفسي ملكاً للجزائر، أما اليوم فقد زدتم في عنقي ملكية أخرى فالله أسأل أن يقدرني على القيام بالحق الواجب، إخواني إنني أراكم في علمكم واستقامة تفكيركم، لم تنتخبوني لشخصي وإنما أردتم أن تشيروا بانتخابي إلى وصفين عرف بهما أخوكم الضعيف هذا: الأول: إنني قصرت وقتي على التعليم فلا شغل لي سواه فأردتم أن ترمزوا بانتخابي إلى تكريم التعليم إظهارا لقصد من أعظم مقاصد الجمعية وحثاً لجميع الأعضاء على العناية به كل بجهده. الثاني: أن هذا العبد له فكرة معروفة وهو لن يحيد عنها ولكنه يبلغها بالتي هي أحسن فمن قبلها فهو أخ في الله ومن ردها فهو أخ في الله فالأخوة في الله فوق ما يقبل وما يرد فأردتم أن ترمزوا بانتخابي

إلى هذا الأصل: وهو أن الاختلاف في الشيء الخاص لا يمس روح الأخوة في الأمر العام، فماذا تقولون أيها الإخوان؟ فأجابوا كلهم بالوفاق والاستحسان، وقال أخي الأستاذ العقبي: أما الوصف الأول فإني أسلمه للأخ الرئيس وأما الوصف الثاني فهو لنا كلنا، فكلنا نقول أفكارنا مع المحافظة على الأخوة والوداد. فقلت: بكلمة الأستاذ العقبي كان الختم الرسمي على هذا الكلام، ثم رفعت الأكف للدعاء والابتهال للكبير المتعال. حقق الله الآمال وسدد الأقوال والأعمال آمين. هذا ما بقي بذهني مما قلته وقد ندت جمل عن الذاكرة لطول العهد (1).

_ (1) ب 6، م 7، ص 351 - 356 غرة صفر 1350ه - جوان 1931م.

خطاب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

خطاب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ عبد الحميد بن باديس الذي ألقاه في الاجتماع العام ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فمرحباً بأبناء الجزائر وأفلاذ كبدها. مرحبا بورثة مجدها التالد وحماة مجدها الآتي الذي تتخبط به أحشاء الأيام. مرحبا بكم أيها الإخوان الوافدون من أنحاء الوطن على جزائر مزغنا وآثار بلكين وعاصمتها الجمهورية العظيمة- مرحبا بالوفود جاءت تخدم العلم وتؤيد العلماء وتمثل الروح العلمية السماوية في الأمة الباعثة لها على اكتساب المعارف الإنسانية من جميع نواحيها والحاثة لها على تلبية دعوة العلم والانضواء تحت لوائه. مرحبا بوفود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أعضائها العاملين والمؤيدين. فبلسان الأمة الجزائرية الممثلة فيكم وبلسمان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الممثلة في مجلسها الإداري وبلسان مجلس الإدارة الذي أنطق باسمه أقدم لكم الشكر الوافر على إجابتكم دعوة الجمعية وحضوركم هذا الاجتماع الذي ملأ العيون والقلوب وأقام البرهان القاطع والدليل المشاهد على أن الجمعية جمعية الأمة وأنها تمثلها أصدق تمثيل. وأقدم مثل ذلك الشكر للإخو أن الكثيرين الذين تخلفوا واعتذروا بالبرقيات والكتب وهم الذين سمعتم أسماءهم من الأخ الكاتب العام آنفاً.

أيها الإخوان: سأعرض عليكم في هذا الخطاب حالة الجمعية في السنة الماضية وأعمالها والحالة الحاضرة وموقفها فيها وما تنويه من الأعمال في المستقبل بإعانة الله. فأما السنة الماضية فلقد كانت منشطرة إلى شطرين فأما شطرها الأول فقد أوفدت الجمعية من رجالها للوعظ والإرشاد وفوداً لبلدان القطر في العمالات الثلاث وقامت تلك الوفود بمهمتها خير قيام وكانت تتلقي من رجال الحكومة كما تتلقي من الأمة بكل إكرام. وأما الشطر الثاني منها وهو الذي يبتدىء بصدور قرار منع العلماء من الوعظ والإرشاد بالمساجد، فقد كان شطر بلاء وعناء على الجمعية ورجال مجلس إدارتها، فمن تنمر وجوهٍ إلى إلصاق تُهمٍ، إلى خلق عراقيل إلى استثمار ذمم، ومن وعد وترغيب إلى وعيد وترهيب كل هذا والجمعية ورجال مجلس إدارتها ثابتون ثبوت الجبال ثقة من أنفسهم بأنهم دعاة حق وقصاد خير وعمال صالح هذا الوطن بأمته وحكومته وجميع ساكنيه، فانسلخت هذه السنة وأعمال الجمعية هي هذه، ما قام به وفودها من وعظ وإرشاد، وما قام به رجالها من تعليم في عدة بلدان، وما نشره كتابها في جريدة الجمعية جريدة السنة النبوية المحمدية التي لقيت- بحمد الله- من المسلمين غاية الإقبال: هذا كله قام به رجال الجمعية، ولا غرابة أن يقوموا به فهم من أهل العلم وما أهل إلا الذين ينشرون العلم بدروسهم ومحاضراتهم وخطبهم ومنشوراتهم. ولكن الذي قام به رجال الجمعية وضربوا به المثل الرفيع للناس هو تضامنهم في الشدة كتضامنهم في الرخاء وثباتهم على يقينهم رغم كل زعزعة وإعصار وتضحيتهم بالمصلحة الخاصة في سبيل الصالح العام

وثقتهم التامة بالله ثم بأنفسهم ثم بالمبادئ الجمهورية الفرنسوية التي كتبت بدماء أبناء فرنسا الأحرار. فهذا الدرس العملي مرجو من فضل الله أن يكون أثره في الأمة وكل من يتقدم لقيادتها في ناحية من نواحي الحياة أبلغ الأثر وأقواه وأبقاه. أيها الإخوان: إن جمعيتكم جامعة للناس فيما تفرقوا فيه من دين الله وهادية لهم فيما ضلوا من سبيله وقد عرف الناس حقيقتها ولكن نجا أقوام وهلك آخرون. وإذا كان في استطاعة الجمعية أن تعظ وترشد فليس في استطاعتها أن تخلق التوفيق في نفوس كتب لها الضلال وما التوفيق إلا من الله. وإن جمعيتكم هذه من الأمة وإلى الأمة وكل ما لها أو عليها فهو للأمة وعليها، وإنما قام بحمل أمانتها إخوانكم أعضاء مجلس الإدارة فقاموا بواجب أشهد بثقله وأشهد بأنهم قاموا به خير قيام وأنهم لا يرجون من الأمة إلا أن تعرف ما يدعون إليه عن بصيرة فتتبعه عن بصيرة إنما يدعونها إلى واضح لا إلى مشتبه، وإلى حق لا إلى باطل وإلى هدى لا إلى ضلال وإنما يدعونها إلى الأعلام الهادية من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- وهدي السلف الصالح من أمته- رضي الله تعالى عنهم- يدعونها إلى هذا من أمور دينها ويدعونها إلى مجاراة السابقين في الحياة وأخذ حظها موفوراً من أسباب الحياة لتكون حية بدينها وحية في دنياها ولتكون سعيدة فيهما. إن جمعيتكم تفخر بأنَّها قامت بإحياء فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت قل القائمون فيه بهاتين الفريضتين، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما مرجع الفضائل الإسلامية ومنبعها، وقامت بإحياء هدي سلفنا الصالح في وقت طمت فيه البدع، والأهواء على ذلك الهدي حتى خيف عليه الإندثار، وأن أول من رفع صوته بكلمة الحق في هذا الوطن وبلزوم الرجوع من بنيات الطريق إلى نهج

الاسلام الواضح، وبوجوب التماس الهداية من كتاب الله وما صح من سنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- وما أثر عن سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم- هم رجال هذه الجمعية قبل أن تكون الجمعية جمعية، فلهم الفضل يوم كانوا فرادى مستضعفين، ولهم الفضل يوم مدُّوا أيديهم إلى بعضهم فأصبحوا أقوياء متعاونين وللأمة الفضل يوم سمعت نداء الحق فاستجابت ولها الفضل حين تشابهت السبل فما شكَّت وما استرابت ولها البشر من الله حين غاب المخلَّفون عن مشهد الحق فما غابت. إن جمعيتكم جمعية علمية دينية تدعو إلى العلم النافع وتنشره وتعين عليه وتدعو إلى الدين الخالص وتبينه وتعمل لتثبيته، وتقوية وازعه في نفوس هذه الأمة، فوظيفتها هي وظيفة المعلم المرشد الناصح في تعليمه وإرشاده، الذي لا يبتغي من وراء عمله أجراً ولا محمدة. وقد أراد إخوانكم رجال مجلس إدارة الجمعية- وهم حاملو فكرة الإصلاح الديني والعاملون لها والمنفقون لأوقاتهم في سبيلها- أرادوا أن يكونوا أمثلة للأجيال في التضحية في الثبات على الحق في الجهر به، وكما كانوا أمثلة فقد ضربوا الأمثال بأعمالهم، وها هي دروسهم في جهات القطر ينبع منها التفسير الصحيح لكتاب الله والتأويل الحقيقي لكلام نبيه والشرح الكاشف لهدي السلف الصالح من أمته، وهذه محاضراتهم في جهات القطر تتدفق منها البلاغة العربية وتتجلى فيها أسرار الله في خلقه وتنكشف فيها حقائق هذا الكون، ويعرض فيها داء هذه الأمة ودواؤها، وها هم أولاء يحملون الأمانة الإسلامية فيحسنون حملها ويؤدونها فيحسنون تأديتها ويحملون الأمانة العلمية فكل شيء عندهم بدليله، وكل شيء يطلب من سبيله. وهذه منشورات في الصحف وعليها مسحة من نفوسهم: تبيين محكم، ورد مفحم، وحجاج مقنع.

هذه وسائلهم الثلاث التي سلكوها وسمحت بها الظروف إلى ساعتكم هذه والتي نرجو لها بفضل الله وبهمتكم- أيها الإخوان- أن تزداد كل يوم رقياً وتقدماً. أيها الإخوان- إننا نعمل في النهار الضاحي والليل المقمر لمبدأ لا يقل عنهما وضوحا واستنارة بوسائل لا تقل وضوحا واستنارة. كذلك فلا نعجب لمن يعارض ويكائد ويماري ولكننا نعجب لأنفسنا ولكم إذا أقمنا لتلك (1) المعارضات والمكائد وزناً أو شغلنا بها حيزاً من نفوسنا أو أضعنا فيها حصة من أوقاتنا وأن أدنى ما يغنمه المبطل أن يضيع الوقت على الحق. وإنني أوصيكم ونفسي في هذا المقام بأن يكون في حقكم شاغل لكم عن باطل المبطلين فإذا قام حقكم واستوى قضيتم على المبطلين وباطلهم وإننا نشهد الله والمنصفين من الأمة على أننا ماضون في بيان الحق وأن مبدأنا الإصلاحي التهذيبي قد ملك علينا حواسنا وأوقاتنا. فإذا بدر منا في بعض الأوقات كلام على باطل المبطلين فليس ذلك عن قصد له وحفل به، ولكن لأنه صادمنا وتوقف إثبات (2) حقنا على نفيه. وما حيلة من يسلك سبيلاً فتعترضه الصخور حتى لا يجد عنها محيداً- أن الضرورة تقضي عليه أن يجهد في نزعها وإماطتها ثم لا يكون جهده في ذلك إلا كتماديه في السير. أيها الإخوان: إن جمعيتكم تغتبط كل الاغتباط بهذه النتائج التي حصلت عليها في خلال سنتين من عمرها مع ما تخللها من العراقيل والمثبطات وهي تحمد الله على ما وفق إليه وأعان عليه وتشكر الأمة الجزائرية المسلمة على ما بذلت من تنشيط ومساعدة وتعد أكبر مساعدة قدمتها الأمة للجمعية هي عرفانها للحق الذي تدعو إليه- ونسأل الله

_ (1) في الأصل: لتك (2) في الأصل: ائبات

الهداية لكل من ضل عن الحق، وأن جمعيتكم سائرة في عملها وهي تستقبل سنتها الثالثة بما ختمت به ما قبلها من دعوة إلى العلم الصحيح والدين الخالص راجية أن يكون يومها خيراً من أسمها وغدها خيراً من يومها. أيها الإخوان: كثر حديث الناس عن جمعيتكم المباركة وكثر خوض الخائضين فيها مدحا وقدحا، وأن كثرة التحدث عن الشيء لعنوان صادق على الاهتمام به وأن الاهتمام به لآية على إكباره وإعظامه أو- في الأقل- على كبره في نفسه وعظمه في الواقع. ... كثر الحديث عن هذه الجمعية واختلفت منازع المتكلمين فيها وأن جمعية كهذه الجمعية في أمة كهذه الأمة في وطن كالوطن الجزائري لحقيقة بالتنازع فيها واختلاف المنازع في شأنها، وقد اختلفت فيها الأنظار يوم تأسيسها فهي في نظر البعض شيء غريب، وفي نظر البعض شيء مريب، وفي نظر البعض شيء حسن ولكن أوانه غير قريب. فأما الذين استغربوها فهم طائفة من السذج يقيسون الحقيقة الإنسانية بوجودهم ويقيسون التاريخ الإنساني بأعمارهم ويقيسون أسرار الاجتماع الإنساني ببيت تجمع زوجاً وزوجة وأولاداً يفرقهم الصباح للكد على القوت ويجمعهم المساء للنوم تحت السقف. فأي نقطة في الحياة عند هؤلاء تحتاج إلى مظاهر الحشد والاجتماع وضم رأى لرأي، وبهذا القياس يقيسون الدِّين فهو عندهم إسم متعارف بين المسلمين وصلاة مفروضة تؤدى أو لا تؤدى وانتساب إلى الإسلام يجري مجرى القانونيات في زمننا هذا والاعتقاد بجنة ونار من وسائلهما الأمل ولو بلا عمل فأية نقطة في الدين تحتاج إلى شيء اسمه جمعية العلماء المسلمين.

ومن عجائب صنع الله لهذه الجمعية أن كل واحد من هذه الطائفة الساذجة قدر له أن يحضر درسا أو يسمع محاضرة يصبح بفضل الله مسلما اجتماعيا يعرف حقيقة الإسلام ويدرك المنزلة التي أرادها له الإسلام. وأما المرتابون فهم طوائف شتى تجمعهم صفة واحدة وهي اعتقاد أن هذه الجمعية تعارض مصالحهم أو فيها ما يعارض مصالحهم وقد كشفت الخطوة الأولى لهذه الجمعية عن مقاصدهم وكشفت لهم عما كانوا يرتابون فيه وأخرجتهم من الارتياب إلى التحقيق فكان منهم ما رأيتموه من السخط عليها والكيد لها ولو أنصفوا لجمع الحق بيننا ولكن الإنصاف قليل. وإذا كان في أنصار هذه الجمعية من يضيق ذرعه بهؤلاء الكائدين الساخطين، ويرى أن ظهورهم بما ظهروا به يعرقل سير الجمعية ويبطىء بها عن الوصول إلى الكمال، فإننا نرى عكس هذا الرأي نرى أن وجود هؤلاء الساخطين الكائدين هو جزء متمم للجمعية، وأن سخط الساخط عليها كرضى الراضي، كلاهما تثبيت للجمعية، وأن ذلك كله تدافع يظهر الله به الحق ويثبت قلوب أنصاره. وأما الطائفة الثالثة فهي طائفة قويٌّ اشفاقها على هذه الأمة ورحمتها بها ورأت أن عوامل الانحطاط فيها قوية، وقد أراها الله من هذه الجمعية كيف يسرع لطف الله إلى قلوب الخائفين وكيف تقرب رحمته من المحسنين فقوي رجاؤها وثبت يقينها ودخلت في العمل الصالح عن إيمان وبصيرة. وهذه الطائفة هي أكثرية الأمة وهي التي تمثلونها أنتم أكثر الله عددكم وثبتكم على الحق وأحيانا وإياكم عليه حتى نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين آمنين يا رب العالمين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 10، م 9، ص 387 - 393 غرة جمادى الأولى 1352ه - سبتمبر 1933م.

خطبة منبرية

خطبة منبرية سر الضحية ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله الواحد الأحد في ربوبيته وألوهيته، مبتديء الخلق برحمته الداعي إليه بنعمته وحجته، شرع الشرائع بالحكمة والعدل لسعادة الإنسان، وأودعها أسراراً وفوائد يعظم منها النفع ويزداد بها الإيمان. وأرسل إلينا محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه القرآن آية بينة، وحجته (1) باقية، وهداية شاملة، وعلمه ما لم يعلم وكان فضله عليه عظيماً. وأيده بروح منه حتى أدَّى الرسالة، وبلغ الأمانة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وأبقى لنا من بعده كتاب الله وسنته هداية للمهتدين وتذكرة للذاكرين وتبصرة للناظرين. ووفقنا إلى تلبية دعوته، واتباع شريعته، والتزام سنته. لا غلو الغالين- إن شاء الله- ولا تقصير المقصرين. فالحمد لله على جميع نعمه وعلى هذه النعمة، والصلاة والسلام على جميع رسله، وعلى إمامهم وخاتمهم محمد رسول الرحمة، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا يوم الحج الأكبر، والموسم الأشهر، جعله الله عيداً للمسلمين وشرع فيه ما شرع من شعائر الدين، تزكية للنفوس وتبصرة

_ (1) كذا في الأصل والصواب حجة.

للعقول، وتحسيناً للأعمال، وتذكيراً بعهد إمام الموحدين وشيخ الأنبياء والمرسلين، إبراهيم الخليل عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين. فقد كسر الأصنام وحارب الوثنية وحاجَّ قومه وما كانوا يدعون من دون الله، وقام يدعو ربه وحده طارحا ما سواه، وحاج الملك الجبار حتى بهت الذي كفر، وقذفوا به في النار، فما بالى بهم ولا بها وثبت وصبر، حتى نجاه الله وجعل الذين أرادوا به كيداً هم الأخسرين. وأوحى الله إليه بذبح ابنه فامتثل، واستشار ابنه إسماعيل فأجاب وقبل، فطرحه للذبح وأسلما لله في القصد والعمل، ففداه الله بذبح عظيم، وترك عليه في الآخرين سلام على إبراهيم، وأبقى سنة الضحية في الملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية، تذكاراً بهذا العمل العظيم، والإسلام الصادق لرب العالين، ليتعلم المسلمون التضحية لله بالنفس والنفيس، وليعلموا أن المسلم من صدق قوله فعله، ومن إذا جاء أمر الله كان لله كله. فتدبروا أيها المسلمون في هذا السر العظيم ومرنوا أنفسكم على التضحية في كل وقت في سبيل الخير العام بما تستطيعون ولا تقطعوا عن التضحية ولو ببذل القليل، حتى تصير التضحية خلقا فيكم في كل حين واجعلوا قصة هذا النبي الجليل نصب أعينكم، وتدبروا دائما ما قصه الله منها في القرآن العظيم عليكم، وأحيوا هذه السنة ما استطعتم، وأسلموا لله رب العالمين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ

فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}. طلب منا كثير من إخواننا خطبة لعيد الأضحى ليخطبوا بها فلعل هذه الخطبة تقبل لديهم فيخطبون بها على الناس. (ابن باديس)

_ (1) ش: ج 4، م 10، ص 139 - 141 غرة ذي الحجة 1352ه الموافق لمارس 1934م.

ذكرى الشاعرين

ذكرى الشاعرين: شوقي وحافظ ــــــــــــــــــــــــــــــ في شوال من السنة الماضية شاركت الأمة الجزائرية الأمم العربيهّ في الاحتفال بذكرى شاعري العربية العظيمين وتألفت لذلك لجنة من الأدباء بالعاصمة وأقامت حفلة حافلة بنادي الترقي ألقيت فيها الخطب وأنشدت القصائد وتواردت فيها برقيات المشاركة من جميع نواحي القطر، وقد نشرت الصحافة خبر هذه الحفلة في وقتها واليوم رأينا أن ننشر في "الشهاب" ما اتصلنا به مما قيل في تلك الليلة، فيكون كإحياء الذكرى مرة أخرى. ((خطبة صاحب هذه المجلة)) (1) الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى أيها الإاخوان: إذا كانت الأمم اللاتينية- على ما بينها من تزاحم وتخاصم وتقاتل وتناحر- ترتبط برابطة اللاتينية وتتفاخر بثقافتها، وتعقد المجتمعات العظيمة لتقوية روحها وتمتين حبل التمسك بها، فنحن- أبناء العربية- وليس بيننا شيء من تلك المفرقات بل ما بيننا إلا ما يقرب بعضنا من بعض من المؤلفات والمحزنات، أحق بأن نفعل مثلهم وأكثر منهم في لغتنا العربية. وفوق هذا فإن اللغة اللاتينية ليست لغة العلم والأدب المشتركة

_ (1) ابن باديس والمجلة هي الشهاب.

ما بينهم مثل العربية التي هي (1) العلم والأدب ما بين سبعين مليونا من أبناء الضاد. وليست اللاتينية قريبة من عامياتهم مثل قرب العربية الفصحى من عاميتنا. حتى أنه لو قام خطيب يخطب باللاتينية لما وجد من يفهمه إلا قليلا من أهل القلم منهم، ونحن نلقي دروسنا ومحاضراتنا وأكثر خطبنا بالعربية الفصحى فلا يبقى على بعض السامعين إلا قليل من القول. فإذا كانت العناية باللاتينية من واجب خاصتهم، فإن العناية بالعربية من واجبنا عامة وخاصة إذ هي لغتنا أجمعين وإذا كان تمسكهم برابطتهم اللاتينية لم يخرج أي واحد منهم عن وضعيته الاجتماعية الخاصة، فإن تمسكنا بهذه الرابطة العربية لا يخرجنا عن وضعيتنا الخاصة وما لنا من ارتباطات أخرى يرتبط بها المجتمع الجزائري! أيها السادة: إن من حقنا ومن الواجب علينا- نحن معاشر المسلمين الجزائريين- الذين تشربت عروقنا هذه اللغة الكريمة من معين قوميتنا الشريفة وتغذت أرواحنا من بيانها العذب بالشربي (3) المصفى، من ديننا العظيم، واستنارت عقولنا من شمسها المضيئة بالأنوار الساطعة من تاريخنا الجليل، من حقنا الواجب علينا أن نكرم العربية. ومن يكرم العربية وخصوصا من خدم العربية بعقله وروحه وحياته مثل شاعرينا الكريمين؟ ومن حقنا- أيضا- أن نرتبط بأبناء العربية ارتباط القلب واللسان، ارتباط العقل والتفكير، ارتباط الشعور والتقدير خصوصا عندما يتحرر الشعور العام لأمر هام وتتوجه القلوبه العربية لتكريم عظيم، أو إحياء ذكرى عزيز مثل احتفالنا هذا مع العالم العربي لتكريم الشاعرين العظيمين وإحياء ذكراهما العزيزة الخالدة.

_ (1) كذا في الأصل ولعل الصواب: التي هي لغة العلم. (2) هذه كلمة غير واضحة.

أيها السادة: إننا باحتمالنا هذا بذكرى شاعرَي العربية العظيمين شوقي وحافظ، نكرم سبعين مليوناً من أبناء العربية الذين يعدون العربية لغتهم القومية. ونكرم خمسمائة مليون من أبناء الإسلام الذين يعدونها لغتهم الدينية ونكرم الأمم المتمدنة جمعاء التي يعترف أكابر علمائها المنصفين بمزية اللغة العربية التاريخية على العلم والمدنية. أيها الإخوان: ليس الشاعران الخالدان بالمحتاجين للتعريف بهما. ولست بالباحث الأديب الذي يستطيع أن يعرض عليكم في بلاغة وإيجاز صوراً (1) فتانة من أدبهما. غير أنني ربما أستطيع أن أقول شيئا من وجوه العبرة والقدوة في حياتهما، ووجوه من النعمة العظيمة من الله تعالى على العربية بهما: قد اتحد الشاعران في الموطن وتقاربا في المولد والوفاة ولكنهما تباينا في البيئة والنشأة والمعيشة، فنشأ شوقي في بيت الأمارة، وفي بيئنه الخاصة، وعاش عيشة الترف والنعمة، ونشأ حافط في بيت أبيه، وفي بيئة عامة، وعاش عيشة البؤس والشدة. فكان من نعمة الله أن قسمت الحياة بينهما هذا التقسيم ليؤدي كل منهما للعربية رسالته من ناحيته ومؤثراتها الخاصة به. فلقد أخرجت بيت الأمارة المرتبطة بالخلافة من شوقي، شاعر الإسلام والعرب والأحداث الإسلامية الكبرى والتاريخ الإسلامي العام وتاريخ العرب. وأخرجت البيئة العامة الرازحة تحت نير الظلم والمتجرعة لألوان الشقاء، والمتقلبة في دركات الانحطاط من حافظ

_ (1) في الأصل: صور.

شاعر الأخلاق والاجتماع والوطنية ولا غناء لواحد من العرب عما جاء به كل واحد من الشاعرين في ناحيته. ولو لم يخلق الله إلا أحدهما لما تمت النعمة من الناحيتين. كانت العربية القرآنية قد تنوسيت أساليبها وانقطع سند الأمة العربية عنها فجدد الشاعران من شبابها، وأعادا من بيانها، ما حسب الناس أنه مات مع الأيام الزاهرة للعرب بالمشرق والمغرب. حسب قوم أن العربية لا تتسع لما جدَّ من المعاني إلا إذا خلعت عنها ثوب القرآن، ولبست- مثلهم- منسوجات "لانكشير" وأخوات "لانكشير"، فجاء الشاعران- خصوصا شوقي في العقد الأخير من عمره، من قصائدهما العصرية المعاني القرآنية اللغة والأسلوب والتراكيب- بأوضح الرد وأبلغ التكذيب. عاش الشاعران كل على ما قسم له من الحياة حتى جاءت العرب العالمية الكبرى ووضعت أوزارها فإذا بشوقي يخرج إلى العالم من قفص دار الامارة، وإذا بحافط يدخله بؤسه إلى قفص الوظيف في دار الكتب المصرية. فماذا كان من الشاعرين العظيمين بعد؟ كان منهما ما يجب أن تكون فيه أبلغ العبرة، فإن شوقي اتسعت شاعريته العالمية، وقويت نزعته الوطنية، وأما حافط فقد سكت، سكت إلا عن قليل كان أكثره رثاء! ولعمر الحق ما اسكته إلا الوظيف الذي ينسى به الشرقي- حتى مثل حافظ ويا للأسف- نفسه، وأمته، وملته، إلا ما شاء الله. أيها الإخوان: إن مما نفع شوقي اطلاعه على آداب أمم أخرى في لغة أوروبية

هي الفرنسية وأن مما نفع حافظا ما مسه من الألم مع قومه. وقد كان يطالع "الاغاني" و"العقد الفريد" ويعيد مطالعتهما المرة بعد المرة، فعلى أدباء الجزائر وشعرائها أن يدرسوا آدابهم العربية، وأن يطالعوا الآداب الغربية في اللغة الفرنسية وأن يمازجوا قومهم ليألموا وينعموا - إن كان نعيم- معهم، لتكون لهم منزلة أدبية عالمية، وآثار بارزة في الحياة الجزائرية. أيها الإخوان: إن حياة الشاعرين العظيمين قد اخمدت نوابغ وأماتت قرائح وإن موتهما بما نشاهد من تكريم العالم العربي لهما ستحيي ملكات، وتبعث همما، فكونوا- وأنتم أنتم- في أول الرعيل. أيها الإخوان: ليس للجزائر من حافظ إلا ما للأوطان العربية الأخرى من شعره وأدبه وفنون قوله، أما شوقي فقد قدر له أن يزور هذه الجزائر في شبابه وينزل بعاصمتها أربعين يوما للاستشفاء، ويقول عنها، "ولا عيب فيها سوى أنها قد مسخت مسخا، فقد عهدت مساح الأحذية فيها يستنكف النطق بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلا بالفرنسوية". فاعجبوا للاستدلال على حالة أمة بمساح الأحذية منها! ولا يجمل بي أن أزيد في موقفي هنا على هذا، إلا أن فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأي آخر، ولعلم أن الأمة التي صبغها الإسلام، وهو صبغة الله، وأنجبتها العرب، وهي أمة التاريخ، وأنبتتها (1) الجزائر، وهي العاتية على الرومان والفاندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام، ونوائب الأيام.

_ (1) في الأصل: وأثبتتها.

أيها الإخوان: باسمي الضئيل، وباسم الجزائر الكبير، وباسم جمعكم الكريم، أرفع التحيات الزكية للفقيدين الخالدين في مرقدههما ولجميع العاملين لإحياء العربية وأدبها من بعدهما. فليعش العرب، ولتعش العربية، وليعش المحبون لهما من الناس أجمعين (1) و (2). عبد الحميد بن باديس

_ (1) حررت وألقيت ليلة 27 من شوال 1351ه بنادي الترقي بالعاصمة (المؤلف). (2) ش: ج 4، م 10، ص 142 - 146 غرة ذي الحجة 1352ه - مارس 1934م.

خطاب رئيس الجمعية

خطاب رئيس الجمعية الذي ألقي في صباح اليوم الأول من أيام اجتماعها العام ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله العليم الحكيم، رب البرية، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء بالتعلم والتعليم، لتكميل البشرية، وعلى آله وصحبه ذوي العقل الصحيح والخلق الكريم، والنفوس الأبية، وعلى التابعين لهم في هديهم الصالح وطريقهم المستقيم وسيرتهم الرضية. أما بعد، فباسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تمثل الجزائر المسلمة العالمة والمتعلمة، أرحب بكم أيها الأخوان وأحيي وفودكم الكريمة، وأشكر لكم ما تحملتم من تعب وانفقتم من مال حتى حضرتم هذا الاجتماع الذي ملأ العيون مهابة وجلالا، والقلوب محبة وسرورا، وأعطى من الجزائر صورة صادقة في جمعكم الحافل الكريم. وأشكر معكم في ذلك الترحيب وذلك الشكر وتلك التحية الإخوان الكثيرين الذين تخلفوا واعتذروا بالبرقيات والكتب التي تلاها عليكم الأخ الكاتب العام آنفا. ولا أفي بالشكر والتحية تلك النفوس الطاهرة، التي تحب الجمعية وتتعلق بالجمعية من العامة الأمية الكثيرة، التي شاهدت وشاهد غيري من رجال الجمعية جموعها الحاشدة في جميع القرى والمداشر عندما نرد عليها أو نقف فيها للوعظ والإرشاد. ولولا الفقر والأمية قعدا بها لكانت حضرت أو كاتبت واعتذرت. أيها الأخوان، ها هي السنة الثالثة للجمعية قد مضت فماذا عملت

[صورة: أخذت أثناء خطبة الرئيس فى المأدبة التي أقامتها جماعة نادي الترقى لأعضاء جمعيه العلماء المسلمين الجزائريين] ... الجمعية فيها وأين بلغ أثرها، وماذا لقيت فيها الجمعية من الله تعالى ومن الناس. نشرت الجمعية صحيفة السنة، فصحيفة الشريعة فصحيفة الصراط فلقيت كلها من الأمة من الإقبال والرواج ما لم تلقه صحيفة قبلها، وما أحبها المؤمنون حتى أحبها الله، ولا يوضع الحب في الأرض حتى يوضع في السماء، ولكنها لقيت من ناحية إدارية خاصة البغض والتنكر والاضطهاد فسقطت الصحيفة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، وقرن تعطيل الثالثة بمنع الجمعية من إصدار أي صحيفة منعا سيبقى لطخة سوداء في جبين حرية القول والتفكير في تاريخ الصحافة في القرن

العشرين الذي يسمونه عصر الحرية والنور. عزمت الجمعية على إرسال الوفود إلى الجهات من أول السنة ولكنها رأت لما أرادت أن تباشر ذلك ما كانت عليه الأمة من استياء واضطراب بما أصابها من ناحية المطالبة بحقوقها وإخفاق مساعيها فرأت الجمعية أن تتريث وأن تنتظر رجوع السكون والحالة الاعتيادية تباعدا عن كل ما ليس من خطتها وتفاديا من أن ترمى- وهي التي طالما رميت بالباطل- بما يخالف أعمالها ومقاصدها. واكتفت بما كان يقوم به كل ذي علم من رجالها من نشر الهداية في ناحيته وفي آخر السنة تنقل رئيس الجمعية في بلدان من عمالة قسنطينة ونائب الرئيس في بلدان ... [صورة: أخرى لمأدبة العشاء التي أقامتها جماعة نادي الترقي لأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وقد أخذت الصورة من الناحية المقابلة]

[صورة: الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي عقد بنادي الترقى سنة 1353ه - 1934م. وقد أخذت بعد انتخاب مجلس الإدارة] ... من عمالة وهران فكان إقبال الناس بقدر ما كانوا فيه من تعطش للعلم وشوق لأهه. أما الاعتناء بالتعليم فهذا هو الذي انقطعت إليه الجمعية وقامت به قيامها ففي قسنطينة وفي ميلة وفي الميلية وفي جيجل وفي بجاية وفي بسكرة وفي تبسة وفي بلدة الجزائر وفي بني ورتلاب وبني يعلى وفي تلمسان وفي غيرها في كثير من البلدان تجد رجال مجلس إدارة الجمعية وغيرهم من ذوي العالمية يقضون ليلهم ونهارهم في الدروس العلمية الفقهية والدروس العلمية الإرشادية وتلقين مبادئ الدين واللغة لمن استطاعوا

إليه سبيلا من النشء الصغير ولو أن التعليم كان حرا ولو أن الرخص كانت تعطى لمن يطلبها لكان التعليم اليوم قد عم القطر كله. فأثر الجمعية العلمي والإرشادي قد بلغ من الأمة هذه السنة بحمد الله- رغم العراقيل- فوق ما كانت الجمعية تظن وتتوقع فكان إقبال الطلبة على مناهل العلم كثيرا وكان اهتداء الأمة عظيما. نعم لقد لقيت الجمعية في سبيل ذلك ما لقيت فقد تضافرت قوى على مقاومتها، وصنعت بأيد خفية أشباح- كأشباح "القنيول" ولكنها من العجين- لمعاكستها وأنفقت أموالا لصدها والصرف عنها ولكن ما أتى العام ولا أكثر العام- أيها الإخوان- حتى انتكثت تلك القوى وانتفض غزلها، وزالت تلك الأشباح فلا هي ولا خيالها ولا ... [صورة: أخذت هذه الصورة في الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي عقد بنادي الترقي. سنة 1353ه - 1934م]

[صورة: أخذت هذه الصورة في الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الذي عقد بنادي الترقي سنة 1353ه - 1934م. الجالسون من اليمين الشيوخ: عبد القادر بن زيان، العربى التبسي، الأمين العمودي، عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، مبارك الميلي، الطيب العقبي الواقفون من اليمين الشيوخ السعيد الزاهري، محمد خير الدين، يحيى حمودي، أبو اليقظة. ... من كان يحركها وضاعت تلك الأموال وكانت حسرة وغلبا على أصحابها. ووالله إنني لأعتقد أن هذا ليس من صنعنا، ولا مما كنا نبلغ إليه لكل ما نبذل من جهدنا، ولكنه من صنع الله ومن غلب الله، ليزداد الذين آمنوا إيمانا وليعلم الناس أن الله ناصر من ينصره وأن حزبه

هم الغالبون وليعلم كل ذي موسى ان موسى الله أحد، وكل ذي ساعد أن ساعد الله أشد وكل متريب ومتكبر أن لا إله إلا الله والله أكبر. أيها الأخوان: هذه حالة الجمعية في سنتها الثالثة عرضتها باختصار عليكم. وهي في يومها الحاضر كما كانت في ماضيها وكما تكون إن شاء الله في مستقبلها سائرة في خطتها الإصلاحية الدينية العلمية المحضة تنشر العلم والفضيلة وتحارب الجهل والرذيلة عن نور القرآن العظيم والسنة النبوية، وهدي السلف الصالح من الأمة، تخدم بذلك الإسلام والمسلمين وجميع المساكين بالجزائر، وتؤدي بذلك واجبها نحو الإنسانية جمعاء. والله نسأل دوام التوفيق في القصد والعمل والوصول إلى الخير العميم، على الصِّراط المستقيم. عبد الجميد بن باديس

_ (1) ش: ج 9، م 10، ص 377 - 379 غرة جمادى الأولى 1353ه - 12 أوت 1934م.

خطاب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

خطاب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي ألقاه في الاجتماع العام بمركز الجمعية بنادي الترقي بالعاصمة يوم الأحد 11 رجب 1355ه و27 سبتامبر 1936م. ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيا أيها الوفود الكرام قدمتم خير مقدم. جمعتكم عقيدة الحق والخير، وقادتكم فكرة الواجب وساقكم شوق النفوس الزكية إلى مشاهد الفضل، ومواقف المجد، ومطارح العمل الصالح الذي يرضي وينفع المخلوق فجئتم من أطراف القطر معتزين بالإسلام ممثلين للجزائر مكرمين للعلم، كل ذلك بحضوركم اجتماع جمعيتكم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فحياكم الإسلام الذي حفظتموه فحفظكم، وحيتكم الجزائر التي تأبون إلا أن تكونوا أبناءها وتأبى إلا أن تكون - بحق- أمًّا لكم، وحياكم العلم الذي هو أساس سعادتكم بإسلامكم وجزائريتكم، وحياكم الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية من عند الله مباركة طيبة والله أكبر .. أيها الإخوة: خمس سنوات قطعناها معلنين بدعوة الجمعية سائرين إلى غايتها فما جمجمنا يوما بتلك الدعوة، ولا حدنا مرة عن ذلك القصد، فأغنى الناس بيان دعوتهم وإيضاح وجهتهم هم رجال هذه الجمعية لكن الشمس في رابعة النهار قد يخفى في بعض الجهات جرمها ويجهل- إلا

غاية الجمعية

عند القليل- مكانها إذا تراكمت السحب، وهزم الرعد وكاد البرق يخطف الأبصار فلا عجب أن تخفى حقيقة هذه الجمعية في بعض الأحيان على بعض الناس عندما أظلم الجو بسحب الباطل والتجأت طوائف من الناس إلى تبادل رعود الوعيد وبروق الوعود. وإذ كنا في فترة من الزمن هي على هذه الحال فأرى من الواجب أن أحدثكم عن غاية الجمعية ودعوتها وإن كنتم بها جد عالمين ليعلمها من كان بها جاهلا ويقمع من كان عليها من الكاذبين. غاية الجمعية: أرأيتم- أيها الأخوان- الزرع كيف ينبت ويخضر ويورق ويسنبل فيؤتي أكله، وقد تصيبه آفة وهو حب في الأرض فلا ينبت، وقد تصيبه وقد نبت فلا يورق ولا يسنبل وقد تصيبه وقد سنبل فلا تجنى منه حبة! والناس كالنبت معرضون في حياتهم إلى عدة آفات، يكادون لا يسلمون منها، فمنها ما يصيب العقول، ومنها ما يصيب الأبدان، ومنها ما يصيب الأموال، ومنها ما يعم ذلك كله، ولا يسلم المجتمع البشري إلا بمحاربة هذه الآفات كلها- وذلك نص الفصل الرابع من قانونها الأساسي الذي يقول: "القصد من هذه الجمعية هو محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والفجور، فكل ما يفسد على الناس عقولهم أو يضيع عليهم أموالهم فهو من الآفات. ولهذا حاربت الجهل والجمود والدجل والخرافة وكل أنواع الأباطيل، وحاربت كل واقف في طريق التعلم والتعليم أي نوع من أنواع التعلم والتعليم، وحاربت "الزردات والوعدات والفدوات" وبدعة المآتم ومنكرات الولائم وكل وجوه السرف وأكل أموال الناس بالباطل، وحاربت أثرة ذوي المال بما جعلهم الله مستخلفين فيه، وقعودهم عن تأسيس المشاريع الاقتصادية وقبض أيديهم عن المشاريع العلمية والخيرية لأن ذلك من أسباب البطالة والفجور.

ثمرة هذه الغاية

ثمرة هذه الغاية: هي سلامة المسلمين من تلك الآفات وأمثالها حتى يمكنهم أن يترقوا في جميع نواحي الحياة إلى أقصى ما تترقى إليه الأمم، فيكونوا محترمين من أنفسهم ومن غيرهم يفيدون ويستفيدون ويعرفون كيف يسوسون وكيف يساسون فتربح بهم الإنسانية عضوا من خير من عرفت من أعضائها. دعوة الجمعية: أيها الإخوة هذا العالم عالم الكون والفساد فكل كائن فيه هو معرض للخروج عن حالته الأصلية واختلال أصل نظامه، وتلك هي حالة الفساد، وإرجاعه إلى حالته الأصلية هو الإصلاح فالمسلمون اليوم بما دانوا به من عقائد الإسلام وفضائله وأعماله ونظمه على خير لكنهم خرجوا عن أكثر ما دانوا به فكانوا بذلك الخروج في حالة فساد فلا بد من إصلاحهم بإرجاعهم إلى ما خرجوا عنه، والجمعية تدعو إلى هذا الإصلاح فدعوتها إصلاحية محضة، وقد صرح بهذه الدعوة الفصل الثامن من قانونها. ثمرة هذه الدعوة: هي رجوع المسلمين إلى عقائد الإسلام المبنية على العلم، وفضائله المبنية على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان، ونظمه المبنية على التعاون بين الأفراد والجماعات والتآلف والتعامل والتعاون، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، ومن اتقى الله فهو أنفع الخلق لعباد الله. ما حصلنا من الثمرتين: أيها الإخوة ما بين تلك الآفات وأنصارها وبين خصوم هذه

الجمعية وأنواع من يتصل بها

الدعوة وعوارضها، ثبتت الجمعية ثبوت الجبال، وتتسع دائرتها في كل يوم، ويكيد أعداؤها لها ليصرفوا عنها، فيزداد التمسك بها ويكثر الالتفاف حولها، إن هذا أيها الأخوة لدليل عملي على نجاح دعوتها الصادقة ودنوها من غايتها الشريفة الواضحة ومتى كانت جمعية تلقى ما لقيته هذه الجمعية وتبقى بقاء هذه الجمعية لولا عقائد صحت، وأخلاق متنت وأفكار استنارت فأثمرت كلها العمل الصالح والصبر والثبات وكان اجتماعكم هذا في ختام هذه السنة وعلى أثر مرير حوادثها وشنيع كوارثها عنوان ذلك كله في الأمة ومبين مقدار ما جنت الجمعية من ثمار غايتها ودعوتها وأنه- والحمد لله- لكثير في هذا الزمن الصعب القصير فلنسر ولنرج من الله المزيد. الجمعية وأنواع من يتصل بها: تتصل الجمعية بنواح عدة مما يقضي به عملها ويستدعيه مركزها وتقتضيه سنن الاجتماع، فتسير مع كل ناحية بما تقتضيه خطة الجمعية وما يناسب غايتها ودعوتها، وسنذكر مواقف الجمعية مع كل ناحية منها ليكون كل أحدعلى علم بها. الجمعية والأمة: إذا كانت الجمعية بلغت- بتوفيق الله- إلى شيء من غايتها فذلك لأنها أتت هداية الأمة من بابها فخاطبتها بلسانها وقادتها بدينها الذي هو زمام روحها والجزء الأعظم الذي تتكون منه، وتحيا به شخصيتها، فعالجتها بالكتاب والسنة، وهدى صالح سلف الأمة حيث يتوجه كل مسلم منشرح الصدر مطمئن النفس، وحيث تنضوي كل المذاهب والفرق فيقل الخلاف أو يخف أو ينعدم، فلو كان في الجزائر جميع مذاهب الإسلام لوسعتهم هذه الجمعية بعلاجها الناجع النافع- بإذن الله- للجميع.

الجمعية وأهل الطرق

الجمعية وأهل الطرق: ها هو القانون الأساسي للجمعية كما وضع أول مرة منذ خمس سنوات وقد كان الذين وضعوه شطرهم مع الطرقيين، ولكنهم ما أكملوا السنة الأولى حتى فروا من الجمعية وناصبوها العداء واستعانوا عليها بالظلمة ورموها بالعظائم وجلبوا عليها من كل ناحية بكل ما كان عندهم من كيد، ذلك لأنهم وجدوا كثيراً من الآفات الاجتماعية التي تحاربها الجمعية هم مصدرها وهي مصدر عيشهم، ووجدوا قسماً منها مما تغضب محاربته سادتهم ومواليهم وقد شاهدوا مظاهر الغضب بالفعل منهم فما رفضتهم الجمعية ولا أبعدتهم ولكنهم هم أبعدوا أنفسهم، وكانوا والجمعية كما قال كثير: وكنا سلكنا في صعود من الهوى … فلما توافينا ثبت وزلت وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا … فلما تواثقنا شددت وحلت { ... فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. الجمعية والحكومة: لقد لقيت هذه الجمعية الإصلاحية من الحكومة العنت والبلاء ولم تبال في سبيل إرهاق الجمعية بكرامة المسلمين في دينهم وحرمة مساجدهم فأوصدت المساجد في وجوه العلماء وشحَّت برخص التعليم العربي القرآني وأعملت أصابعها في شؤون المساجد ورجالها والجمعيات الدينية وإعطائها بواسطة من لا يدينون بالإسلام ولا يشعرون شعوره ولا تهمهم مصلحته مما لا نعرف له نظيراً في أمة من الأمم وصورت رجال الجمعية بصورة الأعداء لتبعد عنهم كل من يعيش معها أو يرجو مصلحة لديها، كل ذلك والجمعية تصبر على البلاء وترد بأعمالها وأقوالها كل افتراء وتوالي الاحتجاجات على تكرر السكوت والإعراض ...

الجمعية والأحزاب

هكذا كانت الحكومة وهكذا ما زالت في الجزائر إلى اليوم، ولكننا نرجو أن تنجلي هذه البلايا في عهد الحكومة الشعبية إذا صدق عزمها صدقت نيتها في إعطاء الجزائر حقوقها. وأن ثقتنا التي كنا منحناها في كل مثل اجتماعنا هذا، من السنة الماضية، لفرط حسن ظننا فيه، وانتظرناه، حتى خاب ذلك الظن- لنمنحها اليوم للحكومة الشعبية وأحزابها مستنجزين وعودها منتظرين فاتحة سنتها آملين أن لا يخيب ظننا هذه المرة وإذا خاب ظننا- لا قدر الله- فنحن عباد الله والله أكبر. الجمعية والأحزاب: إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي حياته لسعادته ورقيه وقد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مباديء الإسلام، فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة فليس للجمعية إذاً من نسبة إلا إلى الإسلام، وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر والبلوغ بها- إن شاء الله- إلى أرقى درجات الكمال. وإلى هذا فنحن نشكر ونعترف بالجميل لكل من يؤيدنا في سيرنا نصرة للمظلوم ومقاومة للجبروت، وخدمة للإنسانية في جميع أجناسها. الجمعية والمؤتمر الإسلامي الجزائري العام: مطالب الأمة الجزائرية كانت معروفة قبل اليوم وقد قدمت للحكومات المتعددة غير ما مرة وكان منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكان من أولها محافظة الأمة على شخصيتها ولسانها وديانتها وقد كانت الأمة تخشى دائما أن تمس في شخصيتها وأن يتساهل بعض المتساهلين فيها، فلما جاء المؤتمر كان العلماء أحد عناصره لما فيه من تقديم المطالب الاجتماعية والاقتصادية لتطمئن الأمة على شخصيتها

الجمعية وخصومها

ولتظهر الأمة مقدار اهتمامها بدينها ولغتها وما ترجوه من الحرية فيهما ولتعلم الحكومة أن مطالب الجمعية هي مطالب الأمة كلها الممثلة في مؤتمرها وقد قامت الجمعية بواجبها كعضو في مؤتمر وستبقى إن شاء الله على تأييده ورد كل عادية عنه. الجمعية وخصومها: يالله ما أكثر خصوم هذه الجمعية، غير أنهم، بحمد الله كثيرون في العد، قليلون في الحسب العد، وهم على تفاهتهم في خصومتها يختلفون فيما خاصموها لأجله، فمنهم الظالم الذي خاف على سيطرته ومنهم المتريب بنفسه وبأصله الذي خاف على (خبزته) ومنهم المتشبع لما لم يعط فهو يخاف من افتضاح حقيقته. وقد حاربوها بأنواع السلاح وأصناف المكائد حتى انتهى بهم الأمر إلى تدبير حادثة الاغتيال والاعتقال. والجمعية- بحمد الله- ثابتة لهم صابرة لامتحان الله بهم. وقد عودها الله عاقبة الصابرين ورد عنها كيد الظالمين، والحمد لله رب العالين. إخواني إني أحييكم وأحيي جميع إخوانكم الذين خلفهم العذر. ثم أسكب عبرة الأسى على ما تلقاه أرض القدس الشريف من عسف الاستعمار الغاشم الذي فرق بين الإخوة الذين عاشوا في هناء وصفاء منذ قرون كما لطخ تاريخهم من هذه الفعلة بكل نقيصة مخزية ومردية، ولطخ تلك الرحاب المقدسة بالدماء البربئة، فبلسانكم ولسان الجزائر كلها من الأجنة في بطون الأمهات إلى الذين في الأجداث أرفع الشكوى إلى الله ثم الاحتجاج إلى كل من فيهم إنسانية من جميع الأمم (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 8، م 12، ص 352 - 358 غرة شعبان 1355ه - نوفمبر 1936م.

خطبة رئيس الجمعية

خطبة رئيس الجمعية التي ارتجلها في الاجتماع العام بعد تجديد مكتب الإدارة والفضل للأستاذ العقبي في كتابتها ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد للة معطي الفلج لباذلي المهج، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله الذي جاءنا بها حنيفية سمحة لا إصر فيها ولا حرج وعلى آلة الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه فرسان الرهج، الذين أقاموا بالحق كل عوج، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين عدد من دب ودرج، أما بعد: فيا أيها الإخوان إنني بلسان إخوانكم أعضاء المجلس الإداري لجمعيتكم أقدم لكم الشكر على ما بذلتموه في هذا المجلس من ثقة، وبلسانهم أعدكم أنهم يسيرون بالجمعية في مستقبلها كما ساروا بها في ماضيها وإن كنا نسأل الله أن يكون هذا المستقبل أحسن من الماضي. فلقد سار إخوانكم بهذه الجمعية في سنواتها في أهوال أي أهوال؟ حتى انتهوا بها في اجتماعكم هذا سالمة من كل كيد، محصلة على السمعة الحسنة والزيد كل الزيد، وهذا ما جعلكم تبذلون لها ثقتكم لأنكم تقدرون الرجال بأعمالهم وليس هذا لعمر الحق بالعجيب من أمثالكم الذين لا يراعون إلا الحق ولا يخافون إلا الله، ولا يطمعون إلا فيما عنده. وأعضاء المجلس الإداري الذين انتخبتموهم وقد عرفتموهم قد أبقوا هيأتهم الإدارية على ما كانت عليه من الرئاسة ونيابة الرئاسة والكتابة وأمانة المال والرقابة. وكذلك لجنة العمل الدائمة بقيت كما هي: الرئيس (الشيخ أبو يعلى الزواوي) والكاتب (الشيخ الرشيد

بطحوش) وأمين المال (السيد محمد بن الباي) ومستشاران اثتان هما السيد (محمد بن مرابط) والسيد (عباس التركي محمد وعلي) رفيق الأستاذ (الشيخ الطيب العقبي) في السجن بتلك التهمة الآفكة والمكيدة المدبرة. ثم إن هذا العبد الضعيف يقدم بلسان العجز الشكر لأعضاء الإدارة إخوانه أن قدموه للرئاسة وجددوا له ثقتهم به هذا مع علمه بعبء الرئاسة الثقيل وما يلزم لها من التضحية التي هي أول شرط الرئاسة. ولقد قال الهذلي (1): وَإِنَّ سِيَادَةَ الْأَقْوَامِ فَاعْلَمْ … لَهَا صَعْدَاءُ مَطْلَعُهَا طَوِيلُ وأن هذا العبد الضعيف لثقته في الله وقوته بالله واعتزازه بقومه واعتماده بعد الله على إخوانه لمستعد لهذه الصعداء وإن طال مطلعها وطال. أيها الإخوان! إن أعظم لذة يشعر بها ذو الضمير الحي أن تكون له قيمة عند قومه. وأن لحصول الثقة منكم للذة أعظم من كل لذة، وأنها لتقع بعد لذة الإسلام والإيمان. ثقة القوم بأخيهم هي التي يسعى إليها من يعرف قيمة نفسه وقيمة قومه. وأنتم تعلمون ما هي قصة من أوذي في سبيل الله حيا ودخل الجنة بعد موته فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فإنه في حب الله لم تكن لهم به ثقة بل كان فيما بينهم من المكذبين. ولذلك حينما نال ما نال، تمنى أن يكون يعلم به قومه حتى يعلموا ما صار إليه من حسن حال وسمو مقام.

_ (1) هو حبيب الأعلم كما في ديوان الهذليين 2/ 87.

إخواني قدمتموني للرئاسة وهذا اعتراف منكم بأني أبقى على ما كنت عليه. فأنا رجل مسلم ورجل وطني، كل حواسي وكل عقلي هو لخدمة وطني، نعم أخدمه وأدرجه حتى لا يكون هنالك اندحار ولا انهيار. إن ميدان العمل في هذه الجمعية لميدان واسع وهنالك للعمل ميادين أخرى لا أدخلها باسمها، ولكن "إن كان فيها منفعة" أدخلها باسمي- إن كان عند قومي قيمة لاسمي- وأرجو أن يعينني الله عليها. أيها الإخوان! إن على كل رئيس حقا، وقد قال الأحنف بن قيس: إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئيِسٍ حَقًّا … أَنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا والصعدة هي الرمح يريد أنها تخضب بالدماء أو تنكسر وتندق في يده أثناء محاربته للأعداء. ولكن صعدتنا التي نخضبها هي القلم (وخضابه الحِبْرُ) ولكنه لا يندق هذا القلم حتى تندق أمامه جبال من الباطل (تصفيق عال وهتاف بكلمة الله أكبر). وإن من الحق أن نتأدب بالأدب النبوي، ومنه أن لا نتمنى لقاء العدو، فإذا لقيناهم فلنصبر والله معنا. إخواني! إن لنا آمالا تتبعها أعمال، ونسأل الله أن يجعلنا حي أعمال لا حي أقوال. صدق الله أعمالنا وأقوالنا والله المستعان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 8، م 12، ص 359 - 361 غرة شعبان 1355ه - نوفمبر 1936م.

خطاب الرئيس الجليل

خطاب الرئيس الجليل الأستاد الشيخ عبد الحميد بن باديس في عرض حالة الجمعية الأدبية ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله الذي فضلنا بالعقل وكملنا بالعلم وجملنا بالفضيلة، وأسعدنا بالهداية والتوفيق. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الكامل بالفطرة، المكمل بالعصمة، المبعوث إلى الخلق رحمة، الداعي بالحكمة والموعظة الحسنة إلى أقوم طريق. وعلى آله المنبثقين من أكرم نبعة والمنحدرين من أطهر مزنة، والنابتين من أطيب تربة، فنعم الفريق ذيَّاك الفريق. وعلى أصحابه الذين نشروا الملة فبينوها بأسلات الألسن، وحملها بأسل الأسنَّة، حتى تبحبح الناس من الإسلام والسلام في روض أنيق. وعلى التابعين لهم من جميع الأمة، المقتفين آثارهم بحق وقوة، المجددين عهدهم بعلم وحكمة المصطحبين من طريق سعادتهم- من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح خير رفاق. أما بعد فحياكم الله أبناء العروبة والإسلام وأنصار العلم والفضيلة. حوربت فيكم العروبة حتى ظن أن قد مات منكم عرقها، ومسخ فيكم نطقها، فجئتم بعد قرن تصدح بلابلكم بأشعارها فتثير الشعور والمشاعر وتهدر خطباؤكم بشقاشقا فتدك الحصون والمعاقل ويهزُّ كتَّابكم أقلامها فتصيب الكُلى والمفاصل.

وحورب فيكم الإسلام حتى ظن أن قد طمست أمامكم معالمه، وانتزعت منكم عقائده ومكارمه فجئتم بعد قرن ترفعون علم التوحيد وتنشرون من الإصلاح لواء التجديد وتدعون إلى الإسلام كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وكما يرضى الله، لا كما حرَّفه الجاهلون وشوَّهه الدجالون ورضيه أعداؤه. وحورب فيكم العلم حتى ظن أن قد رضيتم بالجهالة وأخلدتم للنذالة ونسيتم كل علم إلا ما يرشح به لكم أو ما يمزح بما هو أضر من الجهل عليكم فجئتم بعد قرن ترفعون للعلم بناء شامخاً وتشيِّدون له صرحا سامقا فأسستم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة جمعيتكم هذه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وحوربت فيكم الفضيلة فسمتم الخسف وديثتم بالصغار حتى ظن أن قد زالت منكم المروءة والنجدة وفارقتكم العزة والكرامة فرئمتم الضيم ورضيتم الحيف وأعطيتم بالمقادة، فجئتم بعد قرن تنفضون غبار الذل وتهزهزون أسس الظلم، وتهمهمون همهمة الكريم المحنق وتزمجرون زمجرة العزيز المهان وتطالبون مطالبة من يعرف له حقاً لا بد أن يعطاه أو يأخذه. فبحق قلت: حياكم الله أبناء العروبة والإسلام وأنصار العلم والفضيلة. نعم- أيها الإخوان- نهضنا بعد أن صهرتنا بنار الفتنة والابتلاء حوادث الزمان، وقارعتنا وقارعناها الخطوب ودافعتنا ودافعناها الأيام {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. نعم نهضنا بعد قرن بعد ما متنا وأقبرنا أحيينا وبعثنا سنة كونية

فقهناها من القرآن ونعمة ربانية تلقيناها من الملك الديان {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا - إلى - يَشْكُرُونَ}، {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ - إلى - قَدِيرٌ}، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ- إلى-الْحَكِيمُ}. نعم نهضنا نهضة (بنينا على الدين أركانها فكانت سلاماً على البشرية) لا يخشاها- والله- النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته بل ولا المجوسي لمجوسيته ولكن يجب- والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته. العروبة والإسلام، والعلم والفضيلة، هذه أركان نهضتنا وأركان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي هي مببعث حياتنا ورمز نهضتنا، فما زالت هذه الجمعية منذ كانت تفقهنا في الدين وتعلمنا اللغة وتنيرنا بالعلم وتحلينا بالأخلاق الإسلامية العالية وتحفط علينا جنسيتنا وقوميتنا وتربطنا بوطنيتنا الإسلامية الصادقة، ولن تزل كذلك بإذن الله ثم بإخلاص العاملين. كانت جمعية العلماء فكانت نهضة الأمة دوى صوت العلم فأيقظها من رقدتها، وكذلك عرفت الأمم من تاريخها لا تنهض إلا على صوت علمائها، فهو الذي يحل الأفكار من عقلها، ويزيل عن الأبصار غشاواتها ويبعث الهمم من مراقدها ويرفع بالأمم إلى التقدم في جميع نواحي الحياة ولهذا ترى أعداء النهوض من كل عصر ومصر يبذلون لإخفات هذا الصوت كل جهودهم ويكيدون له كل كيد {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}. وما كانت جمعية العلماء حتى كان العلماء القرآنيون الذين فقهوا

الدين والدنيا بفقه القرآن وعرفوا السنن الأقوم بمعرفة سنة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- وهدوا واهتدوا بما كان عليه السلف الصالح ورجال الإسلام العظام. هذه- أيها الإخوان- نهضتنا وأركانها وأسبابها واضحة للعيان محفوظة للتاريخ خالدة للأجيال نورثها أبناءنا الذين سيقولون- إن شاء الله- فينا مثلما قلنا في أسلافنا: إِنَّا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا … لَسْنَا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا … تَبْنِي وَنَفْعَلُ فَوْقَ مَا فَعَلُوا أيها الإخوان، هذا يوم الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولكنني أريد أن أسميه بعيد نهضة المسلمين الجزائريين فهل أنتم موافقون (أصوات بالإجماع: موافقون). فلنتعاهد في هذا اليوم العظيم، والعيد القومي العلمي الكريبم على خدمة مبادئ الجمعية وتوسيع نطاق أعمالها ونشر هدايتها ونصر كل عامل من رجالها بصبر وتضحية ونزاهة وثبات، فهل أنتم معاهدون (أصوات بإجماع: معاهدون). {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. أيها الإخوان تنتظرون مني الآن أن أبين لكم مواقف الجمعية من بعض الجهات التي تعاصرها وتلتقي بها في محجة السير وميدان الحياة. أما موقفها من الحكومة فهو هو: المطالبة والاحتجاج من ناحية الجمعية والصد والإعراض من الناحية الأخرى، ولقد كنت في خطاب السنة الماضية علقت رجاء الجمعية على الحكومة الشعبية وحسنت الظن بها، وأنا أعلن اليوم- مع الأسف المر- خيبة ذلك الظن ووهن ذلك

الرجاء فحسبنا إيماننا بالله وثقتنا بأنفسنا فذلك- والله- أجدى لنا وأعود بالخير علينا. وأما موقف الجمعية مع الأحزاب فأعيد فيه نص ما قلته بالسنة الماضية. "إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه جميع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقيه وقد دلت تجارب الحياة كثيراً من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة فليس للجمعية إذاً من نسبة إلا إلى الإسلام، وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر، والبلوغ بها - إن شاء الله- إلى أرقى درجات الكمال. وإلى هذا فنحن نشكر ونعترف بالجميل لكل من يؤيدنا في سيرنا نصرة للمظلوم ومقاومة وخدمة للإنسانية في جميع أجناسها". وأزيد اليوم: إن الجمعية لا توالي حزباً من الأحزاب ولا تعادي حزباً منها، وإنما تنصر الحق والعدل والخير من أي ناحية كان وتقاوم الباطل والظلم والشر من أي جهة أتى. محتفظة في ذلك كله بشخصيتها ومبادئها محترسة في جميع مواقفها مقدرة للظروف والأحوال بمقاديرها. وأما موقفها مع المؤتمر فقد أوكلته لمن شاء من رجالها ليحافط فيه على اللغة والقومية والمطالب الدينية والعلمية، يعمل فيه على مسئوليته لا على مسئوليتها. وأما مواقف الجمعية مع خصومها فإنها تعلم أن الأمة اليوم تجتاز طوراً من أشق أطوارها وأخطرها فهي تتناسى كل خصومة وتعمل لجمع الكلمة وتوحيد الوجهة ولا تنبذ إلا أولئك الرؤوس رؤوس الباطل

والضلال الذين لا تجدهم الأمة في أيام محنتها إلا بلاء عليها ولا يتحركون إلا إذا حركوا الغايات عكس غايتها، فرقوا المسلمين بددا وصيروهم قددا، وقد هد الله- والحمد لله- ركنهم المنهار وفضح أمرهم في رابعة النهار، وصيرهم أقل من أن يعتني بهم وأحقر من أن يضيع الوقت في الحديث عليهم. هذه مواقف جمعيتكم- أيها الإخوان عرضتها عليكم في إيضاح وإيجاز، والله أسأل أن يثبت أقدامنا في مواقف الحق كلها في الدنيا وفي مواطن السؤال والجزاء في الأخرى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. آمين يا رب العالين.

_ البصائر: السنة 2 العدد 83 الجزائر يوم 25 رجب 1356ه 30 سبتامبر 1937م ص 1 ع 2 و 3 ص 2 ع 1 و 2 و 3 ونشر هذا الخطاب أيضا بالشهاب: ج 8، م 13، ص 357 - 361 غرة شعبان 1356ه - أكتوبر 1937م.

خطاب الرئيس في الاجتماع العام

خطاب الرئيس في الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بنادي الترقي صبيحة يوم السبت 29 رجب ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله الذي قضى بابتلاء عباده ليظهر حقائقهم فيجازيهم على أعمالهم، والصلاة والسلام على أشرف من قاد الخلق وساقهم إلى سعادتهم وكمالهم وعلى آله الذين كرم الله أصولهم وجمل أخلاقهم وبرهنوا على النسب الشريف بجميل حالهم. وعلى أصحابه الذين لم يخلق الله من فاقهم بل ولا من ماثلهم في حالهم ومآلهم، وعلى كل من تبع طريقهم، وتحلى من بعدهم بخلالم. أما بعد، فسلام عليكم يا أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أجمعين، وسلام على مساجينكم في المساجين وسلام على متهميكم في المتهمين، وسلام على منكوبيكم في المنكوبين، سجون واتهامات ونكبات ثلاث لا تبنى الحياة إلا عليها ولا تشاد الصروح السامقه للعلم والفضيلة والمدنية الحقة إلا على أسسها. فاليوم وقد قضى الله للجمعية بهذه الثلاث- أثبتت الجمعية في تاريخ الإسلام وجودها، وسجلت في صحيفة الخلود رسمها، ونقشت في قلوب أبناء المستقبل أسمها، وبرزت في ذلك كله أسماء أولئك المسجونين والمتهمين والمنكوبين نجوما متألقة تأخذ بالأبصار. هذا الأستاذ العقبي برأته العدالة من التهمة الباطلة ثم أبت تلك النواحي المظلمة من الحياة الجزائرية إلا أن تعود به إلى التهمة، ولا نشك أنه لم تنتصر مرة أخرى في تبرئته العدالة فستفضح تلك النواحي في العالم شر فضيحة.

وهذا الأستاذ الإبراهيمي سيق إلى المحاكمة على حفلة علمية وقضي عليه بالغرامة فلم يكتف في حقه بذلك فرفعت القضية للإعادة وهو ينتظر ما يكون. وهذا الشيخ عمر دردور سجن في سبيل نشر العلم والفضيلة، ثم أنصفته العدالة فأطلقت صراحه فأبت تلك النواحي إلا أن تعود به إلى القضاء وهو ينتظر إلى اليوم فصله. وهذا الشيخ عبد الحفيظ الجنان عزل من وظيفة قيم بالجامع الأخضر لأنه من جمعية العلماء. وهؤلاء أهل (سوف) قد ذاقوا من التغريم والنفي والسجن ما ذاقوا وروعوا في ديارهم وأهليهم أفظع ترويع ثم لم يثبت عليهم شيء مما رموا به إلا رغبتهم في العلم وطرحهم لسربال الطرقية الوسخ الثقيل. وهذا الشيخ عبد العزيز الهاشمي والشيخ علي بن سعد والشيخ عبد القادر الياجوري والسيد عبد الكامل في ظلمات السجن إلى اليوم، وقد رمي الشيخ عبد العزيز بالثورة ضد أمن الدولة وبالصلة الأجنبية فلم يثبت لدى البحث النزيه إلا أنه عقد مظاهرة بدون رخصة، طلب الناس فيها حرية التعليم، والإعانة بالخبز، وشكوا من ظلم بعض القادة. وهؤلاء رجال التعليم في بجاية وباتنة وغيرهما يساقون إلى المحاكمة المرة بعد الأخرى، ويغرمون من أجل التعليم ويهددون بالسجن. وهذه مدرسة دار الحديث بتلمسان مغلقة إلى اليوم وكم أذكر وكم أعدد، فلقد هبت الأمة لتعلم دينها ولغة دينها في جد ونشاط فاق السنوات المتقدمة فعوجلت بهذه البلايا والمحن. حقا لقد كانت سنتنا الماضية سنة عمل وسنة ابتلاء، وأي عامل صادق في عمله مخلص فيه لا يبتلى؟

وفيم هذا كله؟ على من ثرتم؟ وإلى من أساتم؟ وأي حدود تعديتم! وماذا تبغون! لا والله ما ثرتم إلا على الجهل والرذيلة. وما أسأتم إلا للأثرة والجبرية، وما تخطيتم إلا حدود الجمود والخرافة، ولا تبغون إلا الحق والخير والعدْل والإحسان. ألا في سبيل الله ما لقيتم، ألا في سبيل الله ما أنتم لاقون. أيها الإخوان، إن جمعيتكم أمينة على حفظ الإسلام ولغة الإسلام في هذه الديار فإن قانونها الاساسي ينص على أنها جمعية تهذيبية إرشادية، تحارب الآفات الاجتماعية، وكل ما يحرمه صريح الشرع. وتتدرع لغايتها بكل ما تراه صالحا نافعا غير مخالف للقوانين المعمول بها، وأي وسيلة أقرب إلى تهذيب المسلمين. وأي دواء أنجع في علاجهم، من دينهم الإسلام الكريم؟ وبأي شيء يفهمون هذا الدين ويصلون منه إلى ما فيه من تربية وتهذيب إلا بالعربية لغة القرآن العظيم؟ وتعلم الإسلام ولغة الإسلام مباح في أصل القوانين. ولقد صدمت هذه القوانين الأصلية بمعاملات استثنائية رامية في فهم جميع المسلمين إلى فهم جميع المسلمين إلى مقاومة الإسلام ولغة الإسلام. وذلك هو المشاهد من آثارها في التغليق والتعطيل. لقد قامت الجمعية بالدفاع إزاء هذا كله، وقامت معها جميع الهيئات أو جلها حتى تبين أن المسألة مسألة أمة لا مسألة جمعية، وأن المسلمين لا يسكتون عن تعلم دينهم ولغة دينهم بحال. وقد جيش على الإسلام من ناحية أخرى، فوضعت الذاتية الإسلامية في المساومة، فرفعت الجمعية صوتها بالتحذير والتبيين، ووجدت من ممثلي الأمة آذانا صاغية، ففشلت تلك المساومة وقبرت المسألة من ذلك اليوم. والمجد والخلود للإسلام وهكذا لا تفتأ جمعيتكم أن

شاء الله دائبة في سبيل الإسلام والعربية لغة الإسلام في دائرة القانون العام، ولو لحقها في ذلك ظلم وعدوان. أيها الإخوان قد تعاهدنا في مثل هذا العيد من السنة الماضية، تعاهدنا على خدمة مبادئ الجمعية وتوسيع نطاق أعمالها، ونشر هدايتها، ونصر كل عامل من رجالها، بصبر وتضحية وثبات، وقد وفينا- والفضل لله- بهذا العهد أو بما استطعنا في السنة الماضية، فهل أنتم على هذا العهد فيما نستقبل من سنتنا؟ "أصوات بإجماع: معاهدون". {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. أيها الإخوان قد اعتدنا في كل اجتماع عام من اجتماعاتنا أن نرفع شكوانا واحتجاجنا إلى الولاية العامة وإلى الحكومة العليا، ولم يرد لنا جواب مرة واحدة، بلى يكون الجواب بزيادة الإرهاق وتضييق الخناق. فصدر قانون النوادي الذي يرمي إلى أخلائها وحرمان الكبار من التهذيب في نواديهم، بعد ما حرموا منه في مساجدهم وصدر قانون 8 مارس الذي يرمي إلى غلق المدارس وحرمان المسلمين من تهذيبهم وتلقين دينهم وآداب فنهم ولغة دينهم وصار من شروط إعطاء الرخصة للقليل الذي أعطيت له أن يعلم على الكيفية القديمة الخالية من كل تهذيب ذات العصا والفلقة والحصير، في العصر الذي تتقدم الأمم كل عام في أساليب التعليم نرد نحن إلى الوراء فاسمع وتعجب يا عصر المدنية والنور. وصدر أمر الولاية العامة بتحجير القسم الجنوبي من الوطن على كل منتسب للعلماء بينما تعطى الإعانات وتمنح التسهيلات للبعثات غير

الإسلامية لتنصير أبناء وبنات المسلمين وصدرت الإيعازات- وخصوصا في الدوائر الممتزجة إلى القياد ومن إليهم بالابتعاد عن رجال العلم مما أحدث تباعدا في كثير من النواحي بين أبناء العرش الواحد بينما نحن نسعى للتقريب والتأليف بين جميع المتساكنين، هذا هو الجواب العملي عن شكوانا واحتجاجنا. وكذلك في أكثر اجتماعات المجلس الإداري كنا نصدر البيان إثر البيان عن خطتنا وغرضنا وأن غايتنا من أول أمرنا هي تهذيب المسلمين بدينهم ولغة دينهم في دائرة القانون، وإننا نريد من ذلك رفع مستوى المسلمين الجزائريين العقلي والأخلاقي، ليتعاونوا مع من يساكنونهم بكفاءة وتآخ واحترام، وإننا نعمل لذلك بواجب ديننا ووحي ضمائرنا وأن كل ما أصابنا هو في سبيل تعليم الدين ولغة الدين فلم يرد علينا بجواب واحد، بلى يرد علينا بقلب الحقائق واختلاق التهم وترويج الأباطيل وبعث الأراجيف، فيكون ذلك هو الجواب العملي. أيها الإخوان فنحن مع بقائنا على جميع ما قلنا وبينا، واستمرارنا في موقفنا كما كنا لا نريد اليوم أن نرفع شكوانا ولا أن نقدم احتجاجنا. وحسبنا في هذه السنة السكوت. وكفى بالسكوت احتجاجا عند من عرف وأنصف، وحسبنا الله ونعم الوكيل (1). عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الرئيس: عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 4، م 14، ص 100 - 104 غرة شعبان 1357ه - أكتوبر 1938م.

قسم الشعر

آثار ابن باديس قسم الشعر

السياسة في نظر العلماء

السياسة في نظر العلماء هي التفكير والعمل والتضحية ــــــــــــــــــــــــــــــ أشعب الجزائر روحي الفدى … لما فيك من عزة عربية بنيت على الدين أركانها … فكانت سلاماً على البشرية خلدتم بها وبكم خلدت … بهذي الديار على الأبدية فدوموا على العهد حتى الفنا … وحتى تنالوا الحقوق السنية تنالونها بسواعدكم … وإيمانكم والنفوس الأبية فضحوا وها أنا بينكم … بذاتي وروحي عليكم ضحية بهذه الأبيات ختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابه التاريخي في الجلسة الختامية للمؤتمر الثاني الأخير (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) المؤتمر الثاني لجمعية العلماء في سنة 1937 ش: ج 6، م 13، ص 274 غرة جمادى الثانية 1356ه - أوت 1937م.

تحية المولد الكريم

حديقة الأدب من المنثور والمنظوم، اليوم وقبل اليوم تحية المولد الكريم ألقيت ليلة حفلة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة ــــــــــــــــــــــــــــــ حييت يا جمع الأدب … ورقيت سامية الرتب ووقيت شر الكائدين … ذوي الدسائس والشغب ومنحت في العلياء ما … تسمو إليه من أدب ... أحييت مولد من به … حيي الأنام على الحقب أحييت مولده بما … يبري النفوس من الوصب بالعلم والآداب والأ … خلاق في نشء عجب ... نشء على الإسلام أسـ … ـس بنائه السامي انتصب نشء بحب محمد غـ … ـذاه أشياخ نجب فيه اقتدى في سيـ … ـره وإليه- بالحق انتسب وعلى القلوب الخافقا … ت إليه رايته نصب بالروح يفديها وما … يغري النفوس من النشب وبخلقه يحمي حما … ها أو ببارقة الغضب حنى يعود لقومه … من عزهم ما قد ذهب ويرى الجزائر رجعت … حق الحياة المستلب ***

يا نشء يا ذخر الجزا … ئر في الشدائد والكرب صدحت بلابلك الفصا … ح فعم مجمعنا الطرب وأذقتنا طعما من الـ … ـفصحي ألذ من الضرَب وأريت للأبصار ما … قد قررته لك الكتب شعب الجزائر مسلم … وإلى العروبة ينتسب من قال حال (1) عن أصلـ … ـه أو قال مات فقد كذب أو رام إذ ما جاله … رام المحال من الطلب يا نشء أنت (رجاؤنا) (2) … وبك (الصباح) (3) قد اقترب خذ للحياة سلاحـ … ـها وخض الخطوب ولا تهب وارفع منار العدل والإ … حسان واصدم من غصب وأذق نفوس الظالمين … السم يمزج بالرهب واقلع جذور الخائنين … فمنهم كل العطب واهزز نفوس الجامديـ … ـن فربما حيي الخثسب يا قوم هذا نشؤكم … وإلى المعالي قد وثب كونوا له يكن لكم … وإلى الأمام إبناً وأب نحن الأولى عرف الزمان … قديمنا الجم الحسب ومعين ذاك المجد في … نسل العروبة ما نضب وقد انتبهنا للحياة … آخذين لها الأهب لنحل مركزنا الذي … بين الأنام لنا وجب فنزيد في هذا الورى، … عضواً شريفاً منتخب

_ (1) ويروى: حاد. (2) و (3) يقصد: فرقتا الكشافة بقسنطينة.

[صورة: جمعية الكشافة الإسلامية] ندعو إلى الحسنى ونو … لي أهلها منا الرغب من كان يبغي ودنا … فعلى الكرامة والرحب أو كان يبغي ذلنا … فله المهانة والحرب هذا نظام حياتنا … بالنور خطَّ وباللهب هذا لكم عهدي به … حتى أوسد في الترب فإذا هلكت فصيحتي … تحيا (الجزائر) و (العرب) (1) عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 4، م 13، ص 200 - 202 قسنطينة يوم الإثنين 31 ربيع الأول 1356ه 11 جوان 1937م

القومية والإنسانية

حديقة الأدب من المنثور والمنظوم، اليوم وقبل اليوم القومية والإنسانية ألقيت ليلة احتفال جمعية التربية والتعليم الإسلامية بالمولد الشريف ــــــــــــــــــــــــــــــ المجد لله ثم المجد للعرب … من أنجبوا لبني الإنسان خير نبي، ونشروا ملة في الناس عادلة … لا ظلم فيها على دين ولا نسب، وبذلوا العلم مجاناً لطالبه … فنال رغباه ذو فقر وذو نشب، وحرروا العقل من جهل ومن وهم … وحرروا الدين من غش ومن كذب، وحرَّروا الناس من رق الملوك ومن … رق القداسة باسم الدين والكتب، قومي هم وبنو الإنسان كلهم … عشيرتي، وهدى الإسلام مطلبي، أدعو إلى الله لا أدعو إلى أحد … وفي رضى الله ما نرجو من الرغب (1) عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 3، م14، ص 113 غرة ربيع الأول 1357ه - فيفري 1938م.

انتهى الجزء الأول من المجلد الثاني من هذا الكتاب، وقد اشتمل على قسم الإصلاح والثورة ضد البدع، وقسم التربية والتعليم، وقسم السياسة، وقسم البرقيات والاحتجاجات، وقسم الاجتماعيات وقسم الخطب، وقسم الشعر. ويليه الجزء الثاني من المجلد الثاني وفيه بقية أقسام الكتاب وكامل فهارس المجلد الثاني.

كتاب آثار ابن باديس الجزء الثاني من المجلد الثاني مقالات اجتاماعية تربوية أخلاقية دينية سياسية إعداد وتصنيف دكتور عمّار الطالبي الشركة الجزائرية

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1388 هجرية = 1968 ميلادية الطبعة الثانية 1403 هجرية = 1983 ميلادية الطبعة الثالثة 1417 هجرية = 1997 ميلادية

آثار ابن باديس 4

آثار ابن باديس 4

ـ[صورة]ـ العلامة الثائر الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر ــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا هو الجزء الثاني من المجلد الثاني والأخير من كتاب آثار ابن باديس، وهو يشتمل على المقلات التالية: التاريخ، العرب في القرآن، التراجم، القصص الديني والتاريخي، الرحلات، تطور الشهاب، الصلاة على النبي، الفقه والفتاوى. وقد قامت لجنة من كبار علماء دمشق بالإشراف على تصحيح هذا الكتاب القيِّم أثناء طبعه، ليأتي سليماً من الأخطاء، خالياً من كل تحريف، وذلك بالنظر لأهميته المبالغة في النهضة الإسلامية العربية الحديثة في المغرب الإسلامي.

قسم التاريخ

آثار ابن باديس قسم التاريخ

تبليغ الرسالة

تبليغ الرسالة تلخيص المحاضرة التي ألقاها صاحب هذه المجلة بنادي الترقي بالعاصمة في حفلة المولد الشريف ــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. أيها السادة الحياة ماض ومستقبل وحال. وما أقل حظنا من الحياة لو حظنا منها هو الحال خاصة، ذلك الجزء اليسير من الزمن الذي ما يجيىء حتى يذهب، ولا يثبت حتى يزول، ولكن حظنا من الحياة عظيم بالماضي المديد، والمستقبل البعيد، بالماضي إذا كانت لنا ذكريات نشعر بها، وبالمستقبل إذا كانت لنا آمال نتوق إلى تحقيقها، وإنه- لتتسع حياة الشخص الماضية بقدر ما تمتد ذكرياته في سوالف الأزمان وتمتد آماله في غابرها، حتى يكون كأنه- وهو شخص واحد- قد عاش أعمار الأجيال والأمم من السابقين واللاحقين. فالذكريات والآمال- أيها السادة- هي مقياس الأعمار. ذكريات الشخص وآماله في حياته الخاصة لا تجعله يتجاوز نطاق ما قدر له أن يعيش من أمد محدود قصير جداً بالنسبة إلى عمر

المقصد

التاريخ الطويل. ولكن الذكريات والآمال الخارجة عن حياته الشخصية هي التي تجعله كأنه قد عاش الدهور الطوال. فنحن في حفلنا هذا بذكرى المولد النبوي الكريم التي هي الثانية بعد الأربعمائة والألف من ولادة محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وآله وسلم- نشعر بالحياة الإسلامية في هذه القرون كلها حتى كأننا عشناها فعلاً. ونريد أن نحلي شعورنا بهذه الذكرى بذكر ناحية من نواحي حياة هذا النبي الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- ليبعث فينا العلم بتلك الناحية آمالاً عظيمة في المستقبل الإسلامي القريب والبعيد ويدفعنا إلى تحقيق تلك الآمال بما استطعنا، فنكون كأننا نعيش مع الأجيال الآتية من أبناء الإسلام. المقصد: الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- جاء بالرسالة من الحق لهداية الخلق فكيف بلغ هاته الرسالة، هاته هي الناحية التي نريد الكلام عليها. فصل علمي: قد بلغ- صلى الله عليه وآله وسلم- رسالة ربه بالقول والعمل إلى آخر رمق من حياته، وكان تبليغه كما أمره ربه على درجات حسب التدريج الذي هو من سنة الله في خلقه وفي شرعه. الدرجة الأولى الأمر بالتبليغ المطلق: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من الوحي بالرؤيا الصادقة التي هي تلقي الروح من عالم الملائكة عند تخليها بعض التخلي عن الجسد في حالة النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق

الدرجة الثانية الأمر بتبليغ العشيرة

الصبح، ثم جاءه الملك بالوحي، فكان أول ما أنزل من القرآن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. ولم يكن في هذا أمر بالتبليغ لغيره. فرجع إلى بيته فأعلم زوجته خديجة رضوان الله عليها فصدقته، وقوته بذكر صفاته العالية وأخلاقه الكريمة الطيبة التي لا يجازي الله صاحبها إلا بالكريم الطيب وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فقالت له: فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فكانت هي أول مصدق له. ثم فتر الوحي، ثم رأى الملك المرة الثانية ولم يكن قد اعتادت بشريته رؤية الملائكة، فرجع إلى أهله يقول لهم: دثروني دثروني! فدثروه أي غطوه بثياب فأنزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. فكان هذا أول أمر بالتبليغ والإنذار فكان تبليغه لزوجته وهي مصدقة له وكان يبلغ الفرد والفردين وكان أبو بكر الصديق أول من آمن من الناس، وكان علي كرم الله وجهه في كفالته مستمسكا بأذياله ما عرف باتباعه فكان من أول من آمن به. الدرجة الثانية الأمر بتبليغ العشيرة: ثم أمر بإنذار قومه قريش بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فخرج حتى صعد إلى الصفا ثم نادى يا صباحاه وكانت

الدرجة الثالثة الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة

العرب إذا دعا الرجل بياصباحاه اجتمحت إليه عشيرته. فاجتمعت إليه عشيرته، فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها، فقال لهم: أرايتكم لو أخبرتهم أن خيلا تخرج من سفح الجبل وأن العدو مصبحكم أو ممسيكم، كنتم مصدقين؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ثم قال: يا آل كعب بن لؤي، يا آل مرة ابن لؤي، يا آل قصي، يا آل عبد شمس، يا آل عبد مناف، يا آل هشم، يا آل عبد الطلب، يا صفية أم الزبير- وهي عمته- يا فاطمة بنت محمد. أنقذوا أنفسهم من النار إني لا أملك لكم من الله شيئا. فكانت هذه دعوته العامة لقومه من قريش. الدرجة الثالثة الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة: ثم كان أمره بأن ينذر العرب خارج مكة بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}. فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج إلى أن كانت بيعة العقبة وإيمان الأنصار. الدرجة الرابعة الأمر بالتبليغ العام لمن في عصره ولمن بعدهم: ثم أمر بالتبليغ العام بمثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. فكاتب الملوك خارج جزيرة العرب كسرى وقيصر والقوقس وغيرهم. وقد بلغ من جاء بعده من الأمم بما ترك لهم من كتاب الله لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. أي لأنذركم بالقرآن وأنذر من بلغ القرآن فعم ذلك كله من بلغه.

فصل عملي

فصل عملي: كل من آمن بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فهو مأمور بتبليغ رسالته على الخصوص والعموم، لمقتضى ما نطالب به من التأسي والاقتداء به - صلى الله عليه وآله وسلم- ولقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. فجعل من اتبعه داعيا معه إلى الله على بصيرة. ولقد عرف السلف هذا فكانوا دعاة إلى الله بأقوالهم وأعمالهم المطابقة لها، حتى انتشر الإسلام في أقل من ربع قرن في المعمور. أما نحن فقد قصرنا في هذا الواجب غاية التقصير، فتركنا تبليغ الدين إلى الأمم، حتى لنخشى أن يكون من أوزارنا بقاء الأمم الضالة على ضلالها لتقصيرنا في التبليغ إليها. وأكبر من هذا تقصيرنا في تبليغ الدين إلى أنفسنا بإهمالنا جانب التعليم الديني والوعظ والإرشاد. واليوم وقد عرفنا كيف بلغ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- رسالة ربه، فلنعقد العزم على الاجتهاد في التبليغ، ولنبدأ بأهلينا ومن إلينا، ولنفكر ثم لنعمل في تبليغ الدين كما جاء به النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أمة الإجابة وأمة الدعوة. وليكن تفكيرنا في هذا واهتمامنا به ثمرة إحيائنا لهذه الذكرى الكريمة، وعلمنا بهذا النزر من حياة ذلك النبي الكريم، ولنا- بعد عون الله تعالى- من الإيمان والمحبة فيه ما يعيننا على ذلك ويقوي أملنا فيه ويبلغنا إليه. الخاتمة: أيها السادة قد عدنا من هذه الذكرى بمسألة تبليغ الرسالة، وعدنا بأمل تبليغ الهداية، وقد انبثق من هذه الذكرى في صدورنا نور،

وجددت مننها في قلوبنا قوة. ولن تستطيع ظلمات، ظلم الحياة، وإن كثفت، أن تطفيء ذلك النور، ولن تستطيع نكبات الزمان وإن جلت أن تبطل تلك القوة. أبداننا للأيام فلا بد لها من تصرفاتها. أما قلوبنا فهي لنا، لنا مؤمنة مطمئنة بدين الله ومحبة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-. وأن قلوبا وضعنا فيها اسم الله واسم محمد لهي بمأمن من عمل الظالمين وكيد الخائنين. فجددوا نورها وقوتها بمثل هذه الذكرى، واعملوا لتحقيق ما تحييه فيكم الذكريات من أمل ورجاء، واقصروا أعمالكم وجملوها بالإحسان والتقوى. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1).

_ (1) ش: ج 9، م 6، ص 535 - 539 غرة جمادى الأولى 1349ه - أكتوبر 1930م

محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-

محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رجل القومية العربية ــــــــــــــــــــــــــــــ لا يستطيع أن ينفع الناس من أهمل أمر نفسه. فعناية المرء بنفسه- عقلا وروحاً وبدناً- لازمة له ليكون ذا أثر نافع في الناس على منازلهم منه في القرب والبعد، ومثل هذا كل شعب من شعوب البشر لا يستطيع أن ينفع البشرية ما دام مهملا مشتتا لا يهديه علم، ولا يمتنه خلق، ولا يجمعه شعور بنفسه ولا بمقوماته ولا بروابطه. وإنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي. وأصلح من شأنه في الحال، ومد يده لبناء المستقبل يتنأول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه معرضا عما لا حاجة له به أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته. فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وهو رسول الإنسانية، كانت أول عنايته موجهة إلى قومه وكانت دعوته على ترتيب حكيم بديع لا يمكن أن يتم إصلاح إنسانيا أو شعبيا إلا بمراعاته. فكان "أول دعوته- صلى الله عليه وآله وسلم- لعشيرته لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فلما نزلت صعد الصفا ثم نادى «يا صباحاه» - وكان دعوة الجاهلية إذا دعاها الرجل اجتمعت إليه عشيرته- فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها، فعمَّ وخصَّ فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أكنتم مصدقي. قالوا ما جربنا

عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. يا بني كعب ابن لؤي يا بني مرة بن لؤي يا آل عبد شمس يا آل عبد مناف يا آل هشام يا آل عبد المطلب ياصفية يا فاطمة، سلوني من مالي ما شئتم، وأعلموا أن أوليائي يوم القيامة المتقون، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذلك. وإياي، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم فأصد بوجهي عنكم فتقولون يا محمد فأقول هكذا - وصرف وجهه إلى الشق الآخر- غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا .. ثم وجه دعوته إلى بقية العرب لقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} وهم عامة العرب فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج وما يتصل بها من أسواقهم ثم عمم دعوته لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فكاتب ملوك الأمم وقد عمت دعوته العرب وتهيأ أمرهم لعموم دخولهم في الإسلام وكان ذلك أيام هدنته مع قريش قبيل فتح مكة. ثم تجد أكثر السور المكية قد وجه فيها الخطاب إلى قريش وإلى العرب وعولجت فيه مفاسدهم الاجتماعية وضلالاتهم الشركية وما كان منهم من تحريف وتبديل لملة إبراهيم فكان أول الإصلاح متوجها إليهم ومعنيا بهم حتى ينتشلوا من وهدة جهلهم وضلالهم وسوء حالهم وتستنير عقولم وتتطهر نفوسهم وتستقيم أعمالهم فيصلحوا لتبليغ دين الله وهدى رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- للأمم بالقول والعمل. ثم لأجل أن يشعروا بأن القرآن هو كتاب هداية لهم كلهم وأن الرسول لهم كلهم، أنزل القرآن على سبعة أحرف، فعم جميع لهجاتهم، وكان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يخاطبهم بتلك اللهجات وينطق بالكلمات منها ليس من لهجة قريش. وكان في هذا ما أشعرهم بوحدتهم بالتفافهم حول مركز واحد ينتهون كلهم إليه ويشتركون فيه. وقد نبه على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ

وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فأخبره أن القرآن شرف له ولقومه- نزل بلغتهم ونهض بهم من كبوتهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهيأهم لهداية الأمم وإنقاذها من الهلاك وقيادتها لعزها وسعادتها- وأنهم يسئلون عن هذه النعمة. يقول هذا ليعملوا بالقرآن ويعلموا أن شرفه إنما هو للعالمين. على أن العرب رشحوا لهداية الأمم، وإن الأمم التي تدين بالإسلام وتقبل هدايته ستتكلم بلسان الإسلام وهو لسان العرب فينمو عدد الأمة العربية بنمو عدد من يتكلمون لغتها، ويهتدون مثلها بهدي الإسلام. علم هذا فبيَّن أن من تكلم بلسان العرب فهو عربي وإن لم يتحدر من سلالة العرب، فكان هذا من عنايته بهم لتكثير عددهم لينهضوا بما رشحوا له. بين هذا في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" فما بال هذا "يعني الفارسي والرومي والحبشي ما يدعوهم إلى نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه" فقام إليه معاذ بن جبل- رضي الله عنه - فأخذ بتلبيسه "ما على نحره من الثياب" ثم أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبره بمقالته فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مغضبا يجر ردائه "لما أعجله من الغضب" حتى أتى المسجد ثم نادى: الصلاة جامعة، ليجتمع الناس"، وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «أيها الناس، الرب واحد والأب واحد، وأن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي» فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النار» فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل.

تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد: ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شامياً وجزائرياً- مثلا- ينطقان باللسان العربي ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم. فانظر بعد هذا إلى ما قرره هذا النبي الكريم، رسول الإنسانية ورجل القومية العربية، في الحديث المتقدم فقضى بكلمته تلك على العصبية العنصرية الضيقة المفرقة، فنبه على تساوي البشر في أنهم كلهم مخلوقون لله فربهم واحد وأنهم كلهم كل من عنصر واحد فأبوهم آدم واحد، وذكر بأخوة دين الإسلام دين الأخوة البشرية والتسامح الإنساني، ثم قرر قاعدة عظمى من قواعد العمران والاجتماع في تكوين الأمم. ووضع للأمة العربية قانونا دينيا اجتماعيا طبيعيا لتتسع دائرتها لجميع الأمم التي رشحت لدعوتها إلى الإسلام بلغة الإسلام. وقد كان ذلك من أعظم ما سهل نشر الهداية الإسلامية وتقارب عناصر البشرية وامتزاجها بعضها ببعض حتى كان ثمرة اتحادها وتعاونها ذلك التمدن الإسلامي العربي الذي أنار العالم شرقا وغربا، وكان السبب في نهضة الغرب والأساس لمدنية اليوم. وبذلك أيضا كانت الأمة العربية اليوم تجاوز السبعين مليونا عدا لا تخلو منهم قارة من قارات المعمور. كوَّن رسول الإنسانية ورجل القومية العريبة أمته هذا التكوين المحكم العظيم ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المتسولين

باسم الملك أو باسم الدين. ولم يكونها لتستخدم الأمم في مصالحها، ولكن لتخدم الأمم في مصالحهم. ولم يكونها لتدوس كرامة الأمم وشرفها ولكن لتنهض بهم من دركات الجهل والذل والفساد، إلى درجات العز والصلاح والكرامة. وبالجملة: لم يكونهم لأنفسهم بل كونهم للبشرية جمعاء. فبحق قال فيهم الفيلسوف العظيم غوستاف لوبون: لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب، نعم لأنهم فتحوا فتح هداية لا فتح استعمار، وجاءوا دعاة سعادة لا طغاة استعباد. هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية الذي كان له الفضل- باذن الله- عليهما ويشهد المنصفون من غير العرب وغير المسلمين له بهذا الفضل ويتغنى العرب غير المسلمين بذكره. وكم دبجت أقلام الكتاب والشعراء من إخواننا نصارى العرب بالشرق من حلل البيان في الثناء عليه والإشادة بفضله. هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه، ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون ... وخدع المخدوعون ... واضطرب المضطربون ... وإلى أعتابه الكريمة نتقدم بهذه الكلمة في مولده الشريف، الذي هو عيد الإسلام والعروبة والإنسانية كلها. عاد الله فيه باللطف والرحمة على الجميع (1).

_ (1) ش: ج 3، م 12، ص 103 - 107 غرة ربيع الأول 1355ه - جوان 1936م.

شكوى الجزائر وبلواها

بين الماضي والحاضر شكوى الجزائر وبلواها منذ ستة وأربعين سنة ــــــــــــــــــــــــــــــ عثرنا في أوراق عمنا السيد حميدة بن باديس الذي كان نائبا عماليا عن قسنطينة في عهد من حياته، على تقرير عن الحالة بالجزائر في ذلك العهد، حرره هو بلعربية وأمضاه معه زملاؤه بالمجلس العمالي السادة: محمد الطاهر بن الحاج علي معيزة، عمار بن احمد، وذو إمضاء لم أفكه. وترجه م. ميرسي تحت رقم 245 ر 16 وقدمه لأحد رجال السينا الذي قدم للبحث عن الحالة. ونظرة فيه تدلنا على المظالم الثقيلة التي اثقلت كاهل الأمة من قديم، وعلى اجتهاد رجال من نوابها في ذلك العهد في إظهار حقيقة حالها للحكومة الفرنسية العليا دون مبالاة ولا محاباة، وعلى أن الحالة كانت معلومة عند الحكومة الفرنسية تمام العلم دون حاجة إلى تتابع الوافدين على الجزائر للبحث والتنقيب. وقد رأينا- بمناسبة ما تقوم به لجنة البحث البرلمانية اليوم في الوطن- أن ننشره على القراء كوثيقة تاريخية يعتبرون بها ويقارنون بين الماضي والحاضر. • • • لقد جاءت من فرنسا جماعات وأفراد من وزراء ونواب وكبار موظفين مرات عديدة من ذلك العهد البعيد إلى اليوم. تعاقبوا كلهم على البحث عن الجزائر وحالة المسلمين ولكن بدون جدوى ولا تخفيف للبلوى ولا أدل على ذلك من الحالة التعيسة التي بلغنا إليها اليوم،

من جهل وفقر وسقم وقهر وظلم وإذلال. لا جرم أن حصل للجزائر- بعد هذا كله- يأس وقنوط من بحث كل باحث ووعد كل واعد، بل ومن الحكومة الفرنسية نفسها. وما رجع للنفوس شيء من الأمل ضئيل إلا يوم جاءت هذه الحكومة الشعبية وأعلنا نحن ثقتنا بها للناس من أول يوم سعينا في تأسيس المؤتمر الإسلامي الجزائري وذلك لما نعرفه في أحزابها من احترام ما، للأمم المرتبطة بفرنسا، واتساع حرية في الفكر والإنسانية، ولما رأينا من أخذها في التفكير في شأننا والحديث عنا. وبتلك الثقة وبذلك الأمل تلقت الأمة الجزائرية لجنة البحث البرلمانية التي تجول اليوم في أنحاء الوطن. وهي- والحق يقال- لجنة ممتازة عن كل لجنة كما امتازت الحكومة الشعبية عن كل حكومة. فقد تقصت في البحث واتصلت بجميع الناس وتباعدت عن المظاهر الإدارية وقابلتها الأمة بكل ما يعينها على مهمتها فأطلعتها على جميع نواحي بؤسها وشقائها. مرتجية فيها أن تطلع فرنسا: شعبها ونوابها وحكومتها على ذلك كله حاثة للجميع على المبادرة بالعلاج الحاسم لتلك الأدواء كلها من جميع النواحي كلها، مبينة للجميع أن كل محأولة للتسكين بغير الدواء الحقيقي لا تزيد الأدواء إلا استفحالا، ولا الحالة إلا ارتباكا واضطرابا إلى عواقب سيئة لا يعلمها إلا الله. • • • وهذا نص المقال الذي ذكرناه: الحمد لله لما بلغنا اشتغال الدولة الفرنسية بتأسيس أمور المسلمين سكان بر الجزائر وإصلاح حالهم وجلب المنفعة لهم ودفع المضار عنهم وتحقق عندنا ذلك بقدوم المعظم السيد فرانك شفو أحد الأعضاء بالسينا لبلدنا

ودعائه إيانا للحضور لديه بواسطة السيد البريفي وحضرنا نحن وجماعة بيرو الكونساي جنرال وسمعنا ما وقع من الكلام من أولئك السادات وعرفنا من لسان السيد السنتو المذكور المسائل التي نحن مسؤولون عنها ومحتاجون للجواب عليها وطلبنا منه أن يأذن لنا بالجواب عنها بالكتابة وأباح لنا ذلك على سبيل الإطلاق بحيث يمكننا أن نتكلم فيها أو في غيرها من الحقوق وكنا نحن وكلاء على عامة المسلمين سكان عمالة قسنطينة، وكان الواجب بطريق الشرع والسياسة على الوكيل أن يقوم بحق موكله بالجد وغاية الجهد ولا يبالي بقول قائل ولا بلوم لائم، فشرعنا حينئذ في التأمل والتدبر فيما يجب في الجواب عن كل مسألة بكلام مختصر مفيد. ولا شك أن عقول أرباب الدولة الراسخة تفهم شرحه وإيضاحه فنسأل الله- تعالى- الإعانة والإلهام للصواب ونقول المسألة الأولى حال المسلمين مع الكولون الفرانسويين فالجواب عنها أن المسلمين سكان إقليم الجزائر مثلهم كمثل الأغنام التي رعاتها عاجزون عن القيام بها على الوجه الأكمل وسبب ذلك أن الحكام الآن مربوطة أيديهم على صرف الأموال في المصالح العمومية ولا يقدرون أن يحدثوا شيئا إلا بمساعدة وموافقة من أعضاء الديوان العام في العمالة المعبر عنه بالكونساي جنرال وأنه لا يكون فيهم إلا الخمس أو السدس من المسلمين وأن الكثير من الأعضاء الفرنسويين لا يكترثون بعامة المسلمين ولا يبالون بمنافعهم ويعز عليهم صرف المال في مصالح المسلمين الخاصة بهم فلا يكون حينئذ للمسلمين ناصر ولا معين لأن كلمة إخوتهم المسلمين في الكونساي جنرال كل شيء ومع هذا فإن الكونساي جنرال يطلب المرة بعد الأخرى إبعاد المسلمين عنهم وإخراجهم من بينهم. نعم قد يكون بعض الأعضاء الفرانسويين راغبا في مصالح المسلمين ولكن لا يجد سبيلا لذلك لقلتهم بالنسبة لغيرهم وربما لا تسعهم مخالفة إخوانهم، ومثلهم الحاكم فإنه مربوط اليد على التوصل إلى جانب

المنفعة للمسلمين والأصل في ذلك كله أن الكثير من الكولون سكان إقليم الجزائر ضد المسلمين ولا يحبون لهم إلا الضعف والتلاشي والهلاك ووكلاؤهم في الديوان العمومي يسيرون على حسب غرضهم وقصدهم. وأما الحكام مع كونهم مربوطة أيديهم كما ذكرنا فإذا ظهرت منهم الحمية على المسلمين (1) توجه لهم الكولون بالإذاية والذم في الجرنالات وغيرها فمنهم من يصبر لذلك ومنهم من يتقلق ويكره وظيفته، ويرغب في الرجوع لفرنسا وها نحن نبين سبب حقد بعض الكولون أو الكثير منهم على المسلمين وذلك السبب أمر باطني يعتقدونه في عقولهم ويظنون أن المسلمين منتصبون دائما لإيقاع الإذاية لهم والأضرار بهم في أموالهم أو ذواتهم ويزعمون أن دين الإسلام هو الذي يحرضهم على ذلك وخصوصا القرآن وقد رأينا في بعض الجرنالات كلاما منسوبا لبعض السادات في السينا يوافق ما يعتقده الكولون في جانب المسلمين من أن القرآن يحرضهم على الجد في إذاية الفرنسويين وذلك غلط صراح. أما أولا فإن الركن الأعظم في الدين الإسلامي الصلاة خمس مرات بين اليوم والليلة وهي لا تقام إلا بقراءة القرآن، وإلا تكون باطلة فهذا هو السبب الذي أوجب على المسلمين قراء القرآن وتعليم أولادهم له في الكاتب ليحصلوا بذلك معرفة القلم العربي ومعرفة اللسان العربي الخالص الذي تكتب به الكتب ويتوصلون إلى حفظ القرآان وقراءته في الصلوات. وثانيا فإن دين الإسلام يوجب على المسلمين الوفاء بالعهود وعدم الغدر والمكر وعدم الفساد في الأرض، ولولا خوف الإطالة لجلبنا النصوص الدالة على صدق قولنا من الكتاب والسنة. ومن جملة ما يقوي الحقد في قلوب الكولون أنه مهما تقع من مسلم جناية إلا ويسبون بها جميع جنس المسلمين ويعيرونهم بذلك

_ (1) هذا ما فعلوه مع م. فيوليت تماما، فما أشبه الليلة بالبارحة (المؤلف)

في الجرنالات وغيرهم ولم يتأملوا في أن ما يفعله أصحاب الجنايات المعروفين بالجرأة هو من طبعهم من زمن ولاية الإسلام ومع ذلك فإن كثير ما يصدر منهم يقع على إخوانهم المسلمين. وأيضا فإن الجنايات لا يخلو وقوعها في كل بلد وفي كل أمة والحاصل أن الذي يعتقده المسلمون وخصوصا ذوو الخبرة بأحوال الدول أن الدولة الفرنسوية أشد رفقا وحنانة على رعيتها وأنها تراعي جنس الخليقة الآدمية من غير نظر للمخالفة في الدين أو في الطبيعة وأنها ترغب دائما في تبديل طبيعة أهل الغلاظة وجلبهم إلى التمدن وإتقان الخدمة وحسن العيش والامتزاج والمؤاخاة ولكن لم يتم ذلك المراد لبعضهم عن المسلمين وعدم اطلاعهم على أحوالهم فلو كان الفرنسويون المقيمون بإقليم الجزائر مجتهدين فيما هو غرض للدولة ومساعدون للحكام على صرف الأموال في الأمور التي تصلح حال المسلمين وتخرجهم من الظلمة إلى الضوء وتسدد أحوالهم ولا يبخلون بصرف الأموال في الأسباب التي ينتج منها ما ذكر كاستعمال المدارس ونحو ذلك فلا شك أن قصد الدولة يتم والمرض الذي في المسلمين يزول ويعم الخير والنجاح جميع الناس في أمد قليل فيتخلص مما ذكرنا أن المسلمين إن نالوا خيرا بسبب اجتهاد الحكام وتعبهم في ذلك كما وقع ذلك مرات من بريفي عمالة قسنطينة وخصوصا وقت المسغبة ونزول الجراد فيهم فرحوا واستبشروا وإذا نزل بهم أمر مضر صبروا على مصيبتهم التي تؤديهم إلى الفقر والخصاصة وسوء الحال ولم يجدوا ناصرا (1) كضيق الأرض عليهم وانتزاعها من بعضهم وثقل المغرم عليهم وإجراء الأحكام على من تراخى في دفع المغرم أو عجز بالخطية والحبس على حسب ما يقتضيه قانون لانديجينا وغير ذلك مما يطول شرحه وخصوصا واقعة السكيسطر على التهمة بإيقاد النار من غير حجة قاطعة فينبغي للدولة أن تتنبه لهذه الآمور

_ (1) أنظر هذه المظالم فهي ما لا نزال نقاسيه إلى اليوم.

وتتخذ طريقا يتوصل بها المسلمون إلى حقوقهم ويستعملون لهم نوابا في المجالس الكبرى على المنوال الذي يتأتى ويمكن على طريق السداد. ونرغب من السيد السينتور أن يتأمل في البرشور الذي كنا استعملناه في شرح (1) حال العرب في تاريخ الرابع والعشرين من أفريل عام 1882 المسألة الثانية إدخال المسلمين جملة في "الناطور اليزاسيون" وإعطاؤهم الحرية الكاملة في اختيار أعضاء النواب عنهم في ديوان العمالة أعني "الكونساي جنرال". الجواب عن هاته المسألة لا يخفى على أحد أن المسلمين وخصوصا سكان البوادي قليلا ما يكون منهم من يدرك المقصود من كل حاجة وما ينتج منها وكثير هم في غاية الجهل والغلاظة حتى أنه إذا أظهر لهم بعض الأفراد بحسب عقله الفاسد أن القصد من هذه الحوادث الإضرار بهم وإفساد دينهم أو غير ذلك رسخت تلك المقالة في أذهانهم وجزموا بها وحصل لهم غاية الخلق بخلاف الناس العقلاء العارفين للأمور فإنهم يعلمون ويتحققون أن قصد الدولة من إدخالهم في "الناطور اليزي" توقيرهم واحترامهم وتسهيل الطريق للتوصل إلى حقوقهم. لكنهم (2) لا يرغبون في ذلك مراعاة لما يقع من الحلل في مسائل دينية كالميراث والنكاح والطلاق وغير ذلك، فبهذا السبب لا تجد إلا أفرادا قليلة يرغبون في "الناطور اليزي" وأما انتخابهم للنواب عنهم فلا يليق بهم لجهلهم للأمور وكونهم (3) مربوطين دائما لكبرائهم من حكام أو غيرهم فينتج حينئذ أن اختيار

_ (1) ش: فهذا النائب وزملاؤه كانوا شرحوا الحالة منذ ثمان سنوات قبل تقريرهم هذا وبقي الحال على الحال ولكنهم كتبوا هذا التقرير لأنهم لم يصلوا إلى حالة البؤس بعد ما أصبرنا معشر الجزائريين على البلاء وما أطمعنا في معسول الوعود (المؤلف). (2) ش: فرفض الطورين قديم (المؤلف). (3) ش: قد شاهدنا هذا عيانا فى عصرنا هذا وإن كنا نرجو أن يخف في المستقبل (المؤلف).

النواب يكون على حسب غرض بعض الأفراد لا على حسب غرض العامة وربما يتولد بينهم الهرج (1). والمناقشة فبهذا السبب ينبغي أن يكون أمرهم في ذلك مفوضا لحكام الدولة لأنهم بحسب الجهل الموجود في كثيرهم والاعتماد في أمورهم على رأي غيرهم صاروا كالمحاجير نعم إنما يليق بهم بعد زمان وذلك حين تنتقل طبيعتهم من الغلاظة إلى التمدن لكن ينبغي للدولة أن تزيد في عدد نواب المسلمين في "الكونساي جنرال" وأن تجعل لبعض أولئك النواب مدخلا في مجمع "الكونساي سبريور". وإذا أرادت الدولة الجد في نفع المسلمين فينبغي أن تجعل لهم نوابا (2) بالقامرة من أبناء جنسهم، إن أمكن أو من الفرنسويين ويكون اختيار النواب الفرنسويين بنظر نواب العامة من المسلمين في الكونساي جنرال مع شخص أو شخصين من أعضاء "الكونساي منسبال" المسلمين يعينهم "الكونساي منسبال" من كل "كمون" وينبغي للدولة إدخال أعضاء "الكونساي منسبال" من المسلمين في اختيار "المير" كما كان الأمر في السابق (3) لأن "المير" وخصوصا في الفلاجات هو الحاكم في كل شيء وكثير من سكان الكمون هناك مسلمون بأضعاف فكيف يمنعون من اختيار من يليق بهم ويعرف أحوالهم؟ المسألة الثالثة: إلزام المسلمين بالدخول في خدمة العسكر بالجبر على حسب الترتيب الجاري في فرنسا، الجواب عن هاته المسألة أنها ثقيلة على كافة المسلمين لا يرضون بها ويتألمون منها غاية بحسب ما يراعيه ويخممه كل طائفة منهم وخصوصا الجبر والإلزام وحيث يكون الأمر كذلك

_ (1) ش: قد شاهدنا هذا عيانا في عصرنا هذا وإن كنا نرجو أن يخف في المستقبل (المؤلف). (2) ش: فطلب النيابة في البرلمان قديم ليس ابن اليوم (ابن باديس) (3) ش: اذاً قد كان المسلمون ينتخبون المير ثم منعوا .. (ابن باديس)

فالأولى والأليق فتح الباب للناس في الدخول في عسكر الطريور فإنه يوجد العدد الكثير ويحصل المقصود بالغرض وطيب النفس. نعم قد جرت العادة أنه إذا احتاج جانب المخزن للإستعداد للحرب في نازلة يطلب من سكان الأعراش الإعانة في ذلك ويعين على كل فريق عددا معلوما فينقادون لذلك بلا كلفة فغالب الظن إذا طلب جانب المخزن من كل عرش عدداً معلوما يحملون السلاح ويتعلمون الحرب والسفر أمدا معلوما فإنهم لا يبخلون بذلك وأيضا فينبغي التأمل في أنه إذا صار أهل البادية كلهم حاملين السلاح ربما تقع منهم بعض الفتن، ولو مع بعضهم بعضاً، ألا ترى أن من جملة عوائدهم الفاسدة إذا تشاجر أحد من عرش مع واحد من عرش آخر قامت الفتنة بين الفريقين وتضاربوا بما يجدونه بأيديهم وربما تقع بينهم الموت فانظر إذا صارت أيديهم عامرة بالسلاح مع هاته الطبيعة. المسألة (1) الرابعة: في ذكر ما نزل بالعرب من الفقر وسوء الحال بسبب انتزاع الأرض منهم وعدم قدرتهم على مفارقتها، والرضى بالبقاء فيها بالكراء الغالي الذي يوقعهم في ضعف الحال وذهاب المال وذلك أن كثير الكونون لا يأخذون الأرض ولا يقدرون على خدمتها والقيام بها وتحصيل الفائدة منها يؤول أمرهم إلى إكرائها إلى العرب بالسعر الذي لا يقدر المكتري على تحصيله وتحصيل معاشه والمغرم اللازم له فيتلاشون ويعجزون عن الحرث ولا يجد رب الأرض لمن يكريها فيبيعها إن أمكنه أو يتركها وينتقل وبهذا السبب لم تتم عمارة "الفلاجات" كما ينبغي، ويوجد كثير أراضيها خاليا والعذر محقق للكولون في العجز عن تعمير الأرض لأن أرضنا وإن كان ترابها جيدا فإنها معدومة الماء إلا في مواضع قليلة وإن الحمى لا تفارق النواحي الكثيرة منها وتضر الذوات التي نبتت الأرض الجيدة الصحيحة

_ (1) ش: تأمل في هذه المسألة والتي بعدها الحيل الشيطانية التي يرتكبها الاستعمار لنزع الأراضي من أهلها (ابن باديس).

كأرض فرنسا وبالجملة فكثير أرضنا بالنسبة لقلة الماء كذات بلا روح. المسألة الخامسة في كيفية تمليك أراضي العرش لأربابها وتمكينهم بالعقود الذين يتوصلون بها إلى البيع والرهن وغير ذلك. الجواب عنها أن ذلك الترتيب وإن كان فيه عدل وإنصاف ووفاء بالحقوق لكنه لا يناسب حال الأعراش وما جرت عليه عادتهم من الداخل في بعضهم بعضا والانتفاع بالمرعى مع بعضهم. ولما وقع ما ذكر، أولا: تمزقت أراضيهم ودخلها الأجانب وحصل لهم ضيق في انتفاعهم بأراضيهم ضد ما كانوا عليه سابقا ولا شك أن الأليق بهم لو أبقتهم الدولة على حالهم السابق من الانتفاع بالأرض فقط كالحبس، وليس لهم البيع ويدفعون الحكر الذي هو منزل كالرنط على الكونسيسيون فبذلك يستقيم حالهم ويكونون في غاية الهنا في عيشهم ولا يقدر واحد أن يضر بأخيه، وأما إذا صار هذا يبيع قطعة من ناحية وهذا يبيع قطعة من أخرى انحلت عليهم أبواب الهرج والاختلاط مع من لا يناسب قصده طبيعتهم. وأيضا ففي بقائهم على حالهم منفعة لجانب البايلك من حيث أنهم يدفعون الحكر. المسألة السادسة: قضية الشريعة، الجواب عنها أن الدولة الفرانسوية كانت احترمت شريعة الإسلام وأمرت بإجرائها على أصلها ونصبت القضاة في كل ناحية وضبطت أمورهم بقوانين مؤسسة على أحسن ما يكون وأباحت لمن شاء من المسلمين إعادة النظر في خصومته لدى مجا لس "الطريبو نال" و"الاكور" واستمر الحال على منوال حسن إلى أن برز القانون المؤرخ بسبطامبر سنة 1886 فردت خصومات المسلمين إلى "الجوج" على أن يحكم بينهم بمقتضى شريعتهم. ولم يكن ذلك، وصارت الأحكام تقع بين المسلمين على خلاف شريعتهم ولأجل ذلك يقع كثيرا تكسير أحكام الجوج في مجالس "الطريبو نال" إذ تعاد. ومع هذا فلما كانت أشغال الجوج كثيرة ولا ينتصب لحوائج المسلمين إلا مرة في الجمعة ويحتاج في فهمه للقضية بواسطة الترجمان إلى زمان طويل

ويحتاج أيضا طالب الخصومة إلى المصروف الذي يبلغ في كثير من الأوقات إلى أزيد من الحق الذي يطلبه ويتعطل طالب الخصومة على أشغاله بسبب تردده إلى محل الحكم، وتأجيل خصومته إلى جمعة بعد جمعة، فضاعت الحقوق وصار الناس يأكلون حقوق بعضهم ويقع بينهم بسبب ذلك الحقد والإذاية لبعضهم بعضا. والحاصل أن القانون المذكور أضر بالمسلمين غاية الضرر وخصوصا من جانب إبطال الأسيسورات وعدم تسمية من مات أو عزل وحط درجة من لا زال موجودا من المشاركة في النظر إلى المشورة فقط مع أن "الأجواج" الفرنسويين محتاجون للإستعانة بهم فإذا أمكن الدولة أن تبطل العمل به وتأمر بالعمل بالقانون البارز عام 1866 ففي ذلك خير للمسلمين وإن لم يمكن ذلك بدلته ولم تبقه على حاله. ولو تتبعنا شرح المسائل التي أضرت بالمسلمين بسبب القانون المذكور في شريعتهم وقعنا في الإطناب في الكتابة. المسألة السابعة: قضية المغرم على المسلمين، الجواب عنها: لا يخفى على أحد أن المسلمين يدفعون الغرم على طريقين واحدة على حسب عادة الإسلام في الزمان السابق وواحدة على حسب السيرة الجارية بفرنسا ولا شك أن في ذلك ثقل (1) لأن الرجل صار حاملا لحملين وقد حصل للناس ضرر وخصوصا من جانب ما جرى به العمل من أن الرجل ينسب له ما لا يملكه من الحيوان وغيره ويلزم بأداء المغرم عنه وإن عجز أو تراخى عن الدفع يقع عليه الحكم بالخطية والحبس. وآخر ما نختم به كلامنا أن تأسيس إقليم الجزائر مثل بناء قصر عظيم والبناء يحتاج إلى أساس والأساس يحتاج إلى صانع عارف بالبناء ويحتاج إلى الآلات كالجير والحجر والرمل وغيرها. أما الآلات (2) تيسر العيش للناس ونشر

_ (1) كذا (2) ش: تأمل هذا الختام جيدا فإنه مشتمل على المطالب وعلى فكرة الكاتب في عاقبة قبولها وعدم قبولها، فأما المطالب فهي: (1) تيسير >>>

العلم والصناعات بينهم ليتحولوا إلى التمدن والرفق بهم والتسوية بين الفريقين فإذا تمت هذه الأمور كمل بناء الأساس ووجب شكر الصانع الذي خدمه وهم الحكام ويكون بعد ذلك تمام القصر وزينته حصول المؤاخاة بين الناس، وصفو الباطن وتمام العافية والرفاهية في العيش. ونرغب من وقف على غلط في شيء مما قلناه فيصفح كما هو شأن الكرام والسلام (1). حرر في العاشر من أفريل عام 1891م محمد الطاهر بن الحاج علي معيزة حميدة بن باديس عمار بن أحمد

_ <<< أسباب العيش (2) نشر العلوم والصناعات. (3) الرفق بهم. (4) المساواة بينهم وبين الأوروبيين- وأما فكرة الكاتب فهي أن المؤاخاة وصفاء القلوب وحصول العافية للجميع لا تكون إلا إذا قبلت هذه المطالب. وإذا لم تقبل فلا مؤاخاة ولا صفاء قلوب ولا عافية لأحد. ولقد صدق فيما قال إذ ما قال إلا ما هو طبيعة الإنسان في جميع الأزمان والبلدان. (1) ش: ج 2، م 13، ص 62 - 71 صفر 1356ه - أفريل 1937م.

محمد عثمان باشا داي الجزائر

ثمار العقول والمطابع: محمد عثمان باشا داي الجزائر سنة (1766 - 1791) ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا اسم السفر الجليل الذي ألفه- أخيرا- الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني، لخص فيه تاريخ الجزائر في العصر التركي، وبيَّن حالتها الاجتماعية والأدبية والسياسية بأسلوب بديع جمع الفصاحة والتناسق، وعرض للتاريخ بين دلائل العلم ومناهج الفن، وبروح إسلامية لا تعرف إلا الصدق عربية لا تفارقها العزة والشهامة، وإذا (1) كان "الوطن هو تاريخ الوطن" كما يقول الأستاذ عبد الرحمن صدقي، و"لا حياة لأمة إلا بإحياء ماضيها" كما يقول الدكتور هيكل، فالأخ الأستاذ المدني بكتابه هذا لم يكن كاتبا بليغا ومؤلفا مبدعا ومؤرخاً حكيماً فحسب، بل كان فوق ذلك من خير من بعثوا أوطانا وأحيوا أمماً. إن من جنايات الإستعمار الأوربي على البشرية أنه قلب حقائق التاريخ على الناس فقد صور الأمم التي ابتليت به وأصيبت بشره بصور من الهمجية والوحشية والتأخر والانحطاط لا أبشع منها ذلك ليبرز استيلاءه عليها، ومنَّ عليها بما زرعه فيها من عمران، وإن كان هو المستغل لذلك العمران والمستبد به. فأميركا- مثلا- يصورها الاستعمار ويصور سكانها الأصليين بأقبح الصور حتى هب من أبنائها الأصليين ومن العلماء المنصفين من رد ذلك التصوير وزيفه. وهاك بعضا مما يبين

_ (1) راجع المقالين المنشورين في هذا الجزء في باب المجتنيات. (المؤلف).

لك هذا ذكره الأستاذ محمد كرد علي في آخر كتابه "الإسلام والحضارة العربية" قال الأستاذ: "ذكر أحد الباحثين في جريدة الكوتيدين Le Quotidien الباريسية تحت عنوان (تاريخ الأمم المغلوبة على أمرها لم يكتب) إن المجلس الأعلى لبقايا هنود أمريكا في الولايات المتحدة أرسل إلى شيخ مدينة شيكاغو احتجاجا جاء فيه (إن الكتب الدرسية المستعملة الآن في الولايات المتحدة صورت قبائل الهنود في صورة مخالفة للحقيقة التاريخية) قال الكاتب وليتنا نفكر قليلا فيما كانت عليه أمريكا قبل أن يفتحها كلومبس، ونقرأ ما قصه الفاتحون الأولون وأرباب الرحلات الأقدمون من الأقاصيص الغربية، ونلقي رائد الظرف على المدن القديمة في العالم الجديد وما بلغته عن الإزدهار وما غصت به من المعابد العظيمة التي تضاهي بعظمتها معابد مصر، وتماثيلها العظيمة المحلاة بالذهب، وما كان هناك من متاحف وخزائن كتب ومراصد فلكية. وإذا كتب لنا أن نتوغل في المكسيك ومدينة الماياس في يوكتان ولانكاس في الانو- إذا رأيت كل هذا استنتجت- والدهشة آخذة منك- أن فتح أميركا كان من أعظم جنايات أوروبا" ا. ه. هذا هو نفس ما وقع بالجزائر من تشويه تاريخها وتصويرها في جميع عصورها خصوصا في العصر العثماني- بأقبح الصور في الكتب التي تدرس في المكاتب الفرنسية وتدرس- يا للبلية يا للحسرة لأبنائها! - غير أن الجزائر ليس فيها جمعية تحتج على هذا التشويه الباطل القبيح، بلى: من أبنائها- المثقفين بالإفرنسي طبعا- من ينكر تاريخها جملة ويزعم أن لا شخصية لها. لكن لا يمكن للحقيقة أن تبقى مستورة بالأباطيل فهي كالشمس لا بد أن تظهر ولو توالت أيام الدِّجن والغيوم. فقد جاء الأخ أحمد توفيق المدني بكتابه هذا يبين ما كانت عليه الجزائر من القوة والعمران قبل الاحتلال الفرنسي

وما أصابها من التخريب والتقتيل أيام الاحتلال وبعيد الاحتلال ناقلا له من كتب ووثائق أفرنسية لا غبار عليها. هذا إلى بيان ما كانت تتمتع به من حرية في دينها وقضائها ولغتها وتعليمها وبيان غير ذلك من أحوالها. لا تتسع هذه الصفحات لعرض كل ما في الكتاب ولكني أقول بكلمة واحدة: (إنه يتحتم على كل مسلم جزائري أن يقرأ هذا الكتاب). وإنك إذا ختمته- أيها المسلم الجزائري- لا بد أن تخرج منه تحب من يجب أن تحب ... وتبغض من يجب أن تبغض ... والحب والبغض سلاحان لازمان في الحياة ولا بقاء لأمة بدونهما إذا استعملتهما في محلهما. وحقيق عليَّ أن أذكر بالإعجاب والسرور المطبعة العربية للأخ الشيخ أبي اليقظان التي أخرجت الكتاب في حلة فنية جذابة تدل على تقدم الجزائر في الفن المطبعي وأن أذكر بالثاء المكتبة المصرية لحضرة محمود نسيم أفندي التي تولت نشره. جازى الله العاملين على نشر العلم وإحياء الأمم بكل إحسان وجميل (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 7، م 13، ص 319 - 321 شعبان 1356ه - سبتمبر 1937م.

كلمة عن الجامع الأخضر

كلمة عن الجامع الأخضر عمره الله ــــــــــــــــــــــــــــــ الجامع الأخضر أحد الجوامع الثلاثة الجمعية الباقية بعد الاحتلال الفرنسي بقسنطينة. أما مؤسسه فهو حسين بك بن حسين 1149 - 1167ه 1736 - 1754م فحكم البلاد 17 عاما مقتفيا أثر سلفه في سياسة التعمير والإنشاء فنظم المدينة وخطط شوارعها وأنشأ منازل رفيعة وبناءات ضخمة لكامل أعيان البلد، وحافظ على توطيد الأمن طيلة مدة حكمه. وكما كان له ولع بالعمارة كانت له عناية فائقة بالعلم (1) فقد وجد في المحفوظات الكتابية إذن صدر منه لعائلة ابن وادفل في تأسيس مدرسة عليا للحقوق بالمسجد الذي أمرهم بتأسيسه في عين فوا. وبني الجامع الأخضر للتعليم كما هو منقوش فوق مدخل بيت الصلاة وهذا نصه: "أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم، وتشيبد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم ذو القدر العلي والتدبير الكامل وحسن الرأي، أميرنا وسيدنا حسين باي أدام الله أيامه. وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ست وخمسين ومائة وألف" ودفن مؤسسه- رحمه الله- في التربة المجاورة للجامع مع عائلته وبعض العلماء رحمهم الله أجمعين". والجامع لهذا العهد ليس له مدرس رسمي أما في المهد الماضي

_ (1) راجع ترجمته في كتاب قسنطينة تحت البايات باللسان الفرنسي

فلا شئه أنه كان به من يدرس العلم إذ لا شك أن مؤسسه- وقد كان مشهورا بنشر العلم وبنى مسجده للتعلم- لا بد أن يكون أوقف أوقافا للتعليم فيه فاستولت عليها السلطة كما استولت على سائر الأوقاف. أما بداية تعليمي فيه فقد كانت أوائل جمادي الأولى عام 1232ه وكان ذلك بسعي من سيدي أبي لدى الحكومة فأذنت لي بالتعليم فيه بعد ما كانت منعتني من التعليم بالجامع الكبير بسعي المفتي في ذلك العهد الشيخ المولود بن الموهوب. وقد يسر الله لنا بفضله القيام بالتعليم فيه إلى اليوم والله نسأل أن يجازي كل من أعاننا فيما قمنا به كل خير وأن ييسر لنا القيام بخدمة العلم فيما بقي من العمر، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 4، م 14، ص 303 - 304 غرة ربيع الثاني وجمادى الأولى 1357ه - جوان جويلية 1938م.

فاجعة قسنطينة

فاجعة قسنطينة كتبنا في الجزء الماضي كلمة مختصرة جامعة في هذه الفاجعة وأردنا الاكتفاء بها، لكن كثيرا من قراء الشهاب بقسنطينة وغيرها طلبوا منا أن نكتب الحقائق التي نعلمها بالصدق والصراحة التي تعودوها من مجلتهم فرأينا الصواب فيما طلبوا فعدنا للكتابة في هذا الجزء معتمدين في تصوير الواقع على ما شاهدناه بأنفسنا وما شهده من يكون محل ثقة عندنا. إبتداء الاعتداء: ليلة السبت بينما كان الناس في ميضأة الجامع الأخضر أثر صلاة العشاء ليلة السبت وعددهم نحو الإثني عشر، إذا باليهودي الياهو خليفي يفاجئهم مطلا عليهم من نافذة الميضأة مدعيا عليها كشف العورة عند الوضوء ومبادرا لهم بقوله "نعل دينكم وصلاتكم وجامعكم والكبرا انتاعكم" فأجابه بعض الحاضرين: "نحن لا نكشف عورتنا عند الوضوء وديننا نهانا عن كشف العورة دائما ولا نلوموك (1) لأنك سكران" فاجاب: "لا راني بعقلي وراني عسكري نعـ .... النبي نتاعكم". خرج الناس في غاية الاستياء فأشار عليهم قيم المسجد- لأجل تهدئتهم- بتقديم شكاية للكوميسارية وهي برحبة الصوف أمامهم، فامتثلوا وذهب شرطيان، الزواوي وابن عريوة، ودعا عليه الباب بأنهما من أعوان الشرطة وأن عليه أن يجيب الكوميسارية وأنه لا خوف

_ (1) كذا في الأصل.

عليه من شيء، فأبى أن يجيبهم (1) بكلمة، ومرت فرقة الجند المتجولة فأعلمها الشرطيان بالواقعة وطلبا منها إخراج الجاني، فأبى من الامتثال لها، كما أبى من الامتثال للشرطة، ففرق الشرطيان الناس وقالا لهم هذا شغلنا فتفرقوا ولم يبق إلا القدر المعتاد في رحبة الصوف وذهبا. بعد ذهابهما وقف اليهودي وزوجته في نافذة محلهما وأخذا في السب مثل السب الأول فأرسل الناس القيم إلى المفتي ليقوم بكف عادية هذا المعتدي بواسطة الحكومة وانتظر الناس المفتي على أحر من الجمر وهم يسمعون في السب من المعتدي. رجع الشرطيان فوجدا الناس متجمهرين، فلما سألاهم لماذا رجعتم قالوا لهما: إنه عاد إلى السب كما تسمعان، وكان هو وزوجته إذ ذاك ما زالا في النافذة على حالهما وكان غيرهما قد شاركهما في السب، وسمع الشرطيان بعض الناس يقول نهجم على داره فذهبا ووقفا عند بابها يحرسانها. في هذه الساعة ابتدأ اليهود المجاورون برمي الكوانين والبيادين فأجابهم المسلمون برمي الحجارة فشرع اليهود في الرمي بالرصاص. أثناء هذا جاء المفتي بعد ما أرسل الناس إليه مرة ثانية من أتوا به أو وجدوه آتيا فوقف يهدي الناس باذلا غاية جهده في ذلك فلم ينفع شيئا وقال له بعض الناس من برودتكم لحقنا هذه الإهانات كلها حتى وصلنا لهذه الحالة. إثر هذا جاء الدكتور جلول وقد كان خارج البلد في معالجة بعض مرضاه فوقف يهدئ الناس، والرصاص مازال ينصب من نوافذ اليهود، واستطاع بعد الجهد الجهيد أن يسكن الناس ويفرقهم وانتهت المصيبة نحو الساعة الثالثة.

_ (1) كذا فى الأصل، والصواب: يجيبهما.

استنتاجات من حوادث هذه الليلة

استنتاجات من حوادث هذه الليلة: رغم ما سمعه المسلمون من سب الياهو الأول لدينهم وصلاتهم وجامعهم وكبرائهم لم يهتاجوا وأجابوه بكل تعقل وعذروه بأنه سكران وهذا دليل قطعي على تسامحهم وعدم حملهم لحقد ديني على اليهودي وعدم استعدادهم لفرصة الانتقام. أما هو فإنه نفى عن نفسه السكر واعتز بانه عسكري وأعاد السب بأقبح من الأول. وهذا دليل على أنه كان شاعرا بما يقول ويفعل، وعلى اغتراره بالحرمة العسكرية وعلى قصده إلى المبالغة في الإذاية، والاغترار بالحرمة والقصد إلى المبالغة في الإذاية هما الأمران الشاهدان مات عامة اليهود دائما في معاملتهم للمسلمين. امتثل الناس لقيم المسجد وقدموا شكايتهم للكوميسارية وهذا دليل على أنهم لم يكونوا يريدون أن ينتقموا لأنفسهم وإنما يريدون أن يتوصلوا لحقهم على يد العدالة. إقتناع الياهو المعتدي من إجابة الشرطة ومن إجابة فرقة الجند المتجولة دليل على تمرده حتى على رجال الحكومة المدنية والعسكرية وما تجرأ على هذا إلا لعلمه بأن نازلته مع المسلمين وقد تعود هو وأمثاله أن نوازل تعديهم على المسلمين في الغالب- تكلاصا: تطرح وتهمل. لما فرق الشرطيان الناس تفرقوا وهذا دليل آخر على انقياد الناس لأوامر دائرة حفط الأمن واعتمادهم عليها ودليل آخر على أنهم لم يكونوا يفكرون أن يجعلوا ما وقع من المعتدي سببا للانتقام. بعد عودة اليهودي للسب هو وزوجته من نافذة دارهما لم يفعل المسلمون شيئا غير ارسالهم للمفتي وهذا دليل آخر على ضبطهم

صبيحة السبت4 أوت

لعواطفهم وعدم قصدهم للانتقام وتصميمهم على انتظار الإنصاف من طرف الحكومة ودائرة الأمن العام. شارك المعتدي غيره من يهود الحومة في السب بدل أن يكفوه عنه وهذا دليل على الروح المتفشية في عوام طائفته من الاستهانة بالمسلمين والتمالؤ على إذايتهم وعدم احترام الحكومة في ناحيتهم. وقف الشرطيان المسلمان عند باب اليهودي يحرسان داره، وهذا دليل على ما يتحلى به المسلم من احترام واجبه وقيامه به وعلى شدة محافظة أعوان الشرطة المسلمين على الأمن والنظام. رغم ما رأى المسلمون وما سمعوا فقد استمروا ماسكين لأيديهم حتى ابتدأهم اليهود برمي البيادن والكوانين وهذا دليل واضح على تحمل اليهود لمسؤولية الشر بالقول والفعل. استطاع الدكتور جلول بعد ما بذل جهد الأبطال أن يسكن ثائرة الناس وهذا أول مواقفه العظيمة في إطفاء هذه الفتنة وهو دليل على مكانته عند الأمة وعلى حسن استعماله لهذه المكانة في الخير. صبيحة السبت4 أوت: جئت إلى إدارة الشهاب الساعة الثامنة فعلمت بالواقعة وأعلمت باستدعائي من طرف مدير الشرطة م. فيزرو مثلما استدعي غيري. اجتمعنا عنده فكان مما قال لنا أنني دعوتكم لتعينوني على تنزيل العافية فابتدأته أنا فقلت له: "وترجم عني السيد يحيى أحمد" أن فطرتنا الإسلامية وعقائدنا الدينية واحترامنا لرجال الحكومة كل هذه تحملنا على معاونتكم فيما ذكرتم ولكن بمزيد الأسف أن الدين الذي نهذب به الناس ونربيهم وننزل في قلوبهم الرحمة قد وصلت الإهانة والتعدي إليه ومع ذلك فإننا سنبذل غاية المجهود. ورأى الجماعة أن

يقابلوا القائم مقام البريفي فطلب لهم الكوميسار مقابلته وذهبنا كلنا إلى دار العمالة. خرج علينا م. لنديل القائم مقام "البريفي" فألقى خطابا طويلا ترجمه السيد عمر بن الموفق، كله تأسف على ما وقع وتوصية بلزوم العافية وتهوين لما كان من اليهودي السكران ووعد بأن العدالة ستقتص منه وبعد ما فرغ من خطابه سأل هل من يريد الكلام فابتدأته أنا فكان مما قلت: أن هذا الاعتداء ليس هو الإعتداء الأول وإننا معشر المسلمين نحب السلم بطبعنا وقد بات مفتينا ونائبنا يهدئان الناس وأن المسلمين لا يستطيعون الصبر دائما على التعدي على أمر دينهم وإننا نستطيع أن نمسك بغضب المسلمين إلا إذا أهينوا في دينهم فإن الأمر حينئذ يصعب علينا وأن اليهودي المعتدي على الجامع إذا كان هو سكران فإن زوجته وجيرانه الذين شاركوه في السب وابتدأوا بالضرب ليسو بسكارى وبينت له أن الشيء الذي جرأ اليهود على هذه التعديات المتكررة هو ما يحملون من السلاح، مع علمهم بأن المسلمين لا سلاح لهم وأنهم ما داموا يحملون السلاح ويطلقون الرصاص لأدنى شيء فإن الشر لا ينتهي وطلبت منه لذلك نزع السلاح منهم فاعتذر بأن هذا لا يمكنه معهم لأنهم "سيطويان" وطلبت منه أن يقوم بتوصيتهم والتأكيد عليهم في كف عامتهم عن الشر فأجاب بأنه يفعل ذلك أو قد فعله. ثم استدعى جماعتهم فيهم أعيانهم ونوابهم وحبرهم وخطب على الجميع بلزوم التسامح والنسيان لما مضى فابتدأته أنا بالكلام فمما قلت له: أن المسامحة الحقيقية لا تكون إلا بعد العتاب الودي المبني على الحقائق الواقعة وتوجهت لمخاطبة الجماعة الإسرائيليين فذكرتهم باعتداءاتهم المتكرر التي من أقربها اعتداء أولادهم على ولد ابن البجاوي من تلامذة "الليسي" حتى كسروا ساقه، وقبيلها اعتداؤهم عليَّ

مساء السبت

وعلى مدير مجلة الشهاب السيد أحمد بوشمال وذكرتهم بمسامحتنا وسترنا للواقعة حتى لا يقع بسببها شر. كل ذلك لما نحن مصممون عليه من منع كل فتنة بين السكان وذكرت لهم أنهم غير ما مرة اجتمعوا مع جماعة المسلمين أمام رجال دار "البريفي" وفي كل مرة تعدون بكف سفهائكم ولكن الاعتمداء يتجدد، فهذا إما لأن عامتكم لا تحترمكم ولا تنقاد إليكم وإما لأنكم أنتم لم تصدقوا في تهدئتهم وكفهم عن الشر وإذا كانت عامتكم لا تنقاد إليكم والحكومة لا تنزع منها السلاح فمن الذي يكفها ويرد عنا شرها؟ انتهى المجلس باعتذارهم عما وقع ووعدهم- كالعادة- بكف سفهائهم، وتصافح الجميع وتصافت الخواطر وخرج المجتمعون كلهم متواعدين على العمل على تنزيل العافية وتوطيد الأمن. مساء السبت: اجتمعت بالدكتور جلول فاتفقنا على أن نخطب في الناس لتهدئتهم، ورأينا وجوب المبادرة بذلك قبل دخول الليل وكان هذا في آخر النهار نحو الخامسة ونصف فأمرنا من نادى في الناس بالاجتماع في الجامع الكبير على الساعة السابعة فما جاءت الساعة السابعة حتى امتلأ الجامع الكبير بالناس من جميع طبقاتهم رغم ضيق ما بين وقت المناداة ووقت الاجتماع وكان الناس في تهيج شديد وتأثر بالغ فقد ضرب اليهود بعض أفراد في ذلك المساء وقبل أن أصعد على كرسي الخطابة نادى جماعة بأن اليهود ما زالوا يحملون السلاح لقتلنا وقد ضربوا وجرحوا في هذا المساء منا فبادرت بالصعود على الكرسي وافتتحت الخطاب واستطعت- بإذن الله- التغلب على تلك العواطف الثائرة، وأظهروا الطاعة والقبول فنزلت عن الكرسي وصعد الدكتور جلول فألقي خطابا مؤثرا فازداد الناس قبولا وخرج ذلك الجمع الذي يقدر بالآلاف هادئا

استنتاجات من حوادث يوم السبت وليلة الأحد

مهدئا بعد ما كان متأثرأ هائجا ووقفنا في الطريق العام نفرق الجموع ونطلب منهم أن يذهب كل واحد إلى محله وأن يعلم غيره بما دعوناهم إليه من لزوم الهدوء، وما تفرق الناس حتى أقسمت لهم أنني لا أذهب حتى يذهبوا. وكنا عند الخروج من الجامع قد جاءنا خبر صحيح بجرح ولث صغير مكفول لاحد الناس فاستطعنا- باذن أدثه- ان نقف الخبر عن الانتشار وأن نهدىء من بلغه الخبر وكافل ذلك الصغير. تفرق الناس وخلت منهم الطرقات ونزل الهدوء التام وباتت البلدة في أمن وأمان وسهرت أنا والدكتور جلول وبعض النواب إلى منتصف الليل نتجول في بعض الشوارع فشاهدنا بأنفسنا هدوءاً شاملا للبلدة كلها. استنتاجات من حوادث يوم السبت وليلة الأحد: في قول من قال قبل الشروع في الخطبة "أن اليهود مازالوا يحملون السلاح لقتلنا، وقد ضربوا وجرحوا في هذا المساء منا"، دليل على ما كان لبقاء السلاح عند اليهود من الأثر السيء في إدخال الروع في القلوب مما يقوي في النفس غريزة الدفاع عن الحياة، وعلى ما كان من عود اليهود إلى الضرب الذي فرغ ما عند المسلمين من الصبر عليه. وفي هدوء المسلمين بعد ما سمعوا مني ومن الدكتور جلول دليل على انقيادهم لمن يكون محل ثقتهم وتمسكهم بأسباب العافية حتى في أحرج الأوقات. وكانت ليلة الأحد بتمامها أصدق دليل وأقواه على ذلك. يوم الأحد 5 أوت: أصبح الناس يوم الأحد على أحسن حال لا فرق بينه وبين سائر

كيف ابتدأت الفتنة وكيف انتهت

الأيام وأصبحت المعاملات التجارية بين المسلمين واليهود في سوق الخضر وغيره كعادتها. مررت نحو الثامنة ونصف أمام دار "المير" نازلا إلى باب الوادي، فالتقيت بسي سليم البوليس السري فسألني هل عندكم اجتماع هذه الصبيحة في الصنوبر فأجبته بالنفي وذكرت له أن الإجتماع الذي أردناه قد وقع أمس عشية بالجامع الكبير وأننا اخترنا بالأمس الجامع الكبير ليكون أعون لنا على ضبط الناس وقد حصل مقصودنا من تهدئة الناس باجتماع أمس فلماذا نعقد إجتماعا آخر؟ وكيف يكون في الصنوبر. وصلت إلى إدارة الشهاب نحو الساعة التاسعة فجاء من أخبرني أن بعض الناس اجتمعوا في الصنوبر وقيل لي أن هؤلاء لما سمعوا بالاجتماع ولم يعلموا بوقوعه أمس ظنوا يقع اليوم وبعد نحو ربع ساعة جاء من أعلمني بأنهم افترقوا. نحو الساعة العاشرة ذهبت إلى جمعية التربية والتعليم لألقي محاضرتي على أعضائها فما كدنا نشرع في المحاضرة حتى جاءنا من أخبرنا أن اليهود أطلقوا الرصاص في جهة رحبة الصوف وأن الفتنة قد وقعت وأخذنا إثر ذلك نسمع في طلق الرصاص المرات الكثيرة فمكثنا كلنا بالجمعية إلى الساعة الثانية عشرة، فسرحت التلامذة مثنى وثلاث وأمرتهم بأن لا يصعدوا إلى رحبة الصوف التي كنا نحسب إذ ذاك أن الفتنة قاصرة عليها. ونحو الساعة الواحدة بعد الزوال صعدت إلى دارنا بنهج القصبة محروسا بفرقة من الجند. كيف ابتدأت الفتنة وكيف انتهت: من الشائع المتواتر الذي عرفته حتى الجرائد الباريسية فنشرته جريدة "لاكسيون فرانسيس" أن الفتنة ابتدأت بسبب طلق أبناء

استنتاج وتعليل

الزاوي اليهود الرصاص ثم كان اهتياج الناس بقدر ما يتزايد إطلاق الرصاص من اليهود الحاملين السلاح. حضر الدكتور جلول لرحبة الصوف والفتنة على أشدها فدخل المعمعة يهدىء الناس من ناحية ويضمد الجراح من ناحية أخرى وكانت حالة الناس- وهم يسمعون دوي الرصاص ويشاهدون الجرحى يتساقطون منهم- أعظم من أن تهدأ. ومع ذلك فقد استطاع الدكتور جلول أن يرد الناس عن الهجوم على الشارع حومة اليهود ولولاه لكان ذلك الجمع مصبحا اليهود في شارعهم شر صباح. انتشر الخبر في البلد وماجت الأنهج بالناس وكثر ضرب اليهود بالرصاص من النوافذ فانكب الناس على دكاكين اليهود التي كانت مقفلة يوم الأحد يكسرون أبوابها ويمزقون ما فيها من قماش ويهشمون ما فيها من أثاث ويمزقون الأوراق المالية وأطلقوا النار في بعضها وقتلوا نيفا وعشرين نفسا وفرغوا من عملهم نحو الساعة الثانية. استنتاج وتعليل: فتح أسواق الخضر الإسلامية كعادتها، وتعاطى المسلمون البيع والشراء مع اليهود واليهوديات دليل قاطع على أن المسلمين كانوا قد اطمانوا وأمنوا وعلى أنهم ما كانوا عازمين على شيء من الشر لليهود. ابتدأ أبناء الصائغي بضرب الرصاص، ورؤية الناس المسلمين السلاح بيد اليهود والرصاص يتهاطل من نوافذهم وهم لا سلاح لهم بعث فيهم الرعب والحنق فاندفعوا ذلك الإندفاع القوي السريع المحطم. غريزة الدفاع عن النفس فطرية في الإنسان بل في جميع الحيوان فإذا أحس بالخطر فإنه يعمل أعمالا عن غير وعي لا يستطيع أن يعملها لولا ما أحس به من الخطر وما تحرك فيه من غزيرة الدفاع عن النفس

فقد يجري الإنسان فاراً أمام حيوان يريد افتراسه بمقدار من السرعة لا يستطيعه أبدا في غير تلك الحال فالإنسان الأعزل الذي لا سلاح معه عندما يرى خصمه مسلحا ويشاهد الرصاص منطلقا من سلاحه يحس بخطر محقق داهم فتتحرك فيه غريزة الدفاع عن النفس فينبعث عن غير وعي فينقض على خصمه انقضاض المستميت فربما قضى عليه رغم سلاحه. هذا في الفرد من الناس أما في الجموع منهم فإن المسألة تكون أروع لأن الجماعة لا تعمل عن عاطفة فإذا خافت على أنفسها واندفعت بغريزة الدفاع عنها فإنها تأتي في تلك الحالة بما لا تتصوره العقول. بهذا التقرير العلمي النفسي نعلل ما كان من الجماعة المسلمة العزلاء من السلاح أمام اليهود المسلحين في اندفاعها وما أتت به من أعمال مروعة. ولعلمنا بهذه الحقيقة العلمية النفسية كنا حريصين أمام القائم مقام" البريفي" على نزع السلاح من اليهود، وقد أمرت السلطة أعوانها بنزع السلاح من المارة في الأزقة ولكن بعد فوات الوقت. فالذين قاموا بتلك الأعمال من المسلمين لم يكونوا مندفعين إليها بحقد على اليهود ولا بعامل ديني ولا ببغض جنسي وإنما كانوا مندفعين بغريزة الدفاع عن النفس أمام الخطر المسلح. نعم كان المسلمون يسمعون دائما سب دينهم ونبيهم من اليهود وخصوصا من النساء وكانوا يلقون منهم سوء معاملة خصوصا من النساء في سوق الخضر وكانوا يشعرون بتسلطهم في دوائر الحكومة وعلى رجال بارزين من الساسة الفرنسيين ويعلمون تغلبهم في الوظائف حتى على الفرنسيس أنفسهم وحسبك أن موزعي البريد ببلدة قسنطينة منهم ثلاثون ونيف ومن الفرنسيس خمسة ومن المسلمين واحد ولكن

المصائب على الجانبين

هذا كله ما كان ليبعثهم على ما انبعثوا إليه لو لم تتحرك فيهم غريزة الدفاع عن النفس أمام الخطر المسلح. بل كان ذلك كله مما أسكن في قلوبهم الخوف والاستسلام للواقع. قتل من اليهود نيف وعشرون كان منهم خمس نسوة وستة من الصبيان وكان المعتدون لما يشتد الرمي بالرصاص من النوافذ ومن أيدي بعض النساء في بعض الجهات يصعدون للمنازل فيبطشون بمن فيها عن غير تمييز. وكان قتل النساء والصبيان دليلا على أن المعتدين لم يكن اندفاعهم عن عقيدة الإسلام الذي معلوم مشهور عند أهله أنه يحرم قتل النساء والصبيان حتى في الحرب المشروعة وعلى أن تلك الفظاعة هي من آثار الجهل، وتلك الحالة النفسية الخاصة الطارئة، لا من آثار الإسلام. المصائب على الجانبين: إذا كانت دكاكين اليهود قد أصيبت لما أصيبت، فإن دكاكين المسلمين التي في حومة اليهود قد أصيبت كذلك، وإذا كانت خسائرها قليلة فذلك لأنها قليلة ولأنها ضعيفة كأصحابها الضعفاء، بخلاف دكاكين اليهود فقد كانت خسائرها كثيرة لأنها هي كثيرة ولأنها قوية كأصحابهما الأقوياء. وإذا كان القتلى من اليهود نيفا وعشرين ومن المسلمين اثنين فالفضل لمسدسات اليهود التي خانتهم عند الضرب فالمطر الوابل من الرصاص الذي نزل من مسدساتهم ما قصدوا به إلا القتل وإزهاق الأرواح بلا فرق بين من في الأنهج من رجال ونساء وشيوخ وصبيان وجنود، وقد جرحوا بالفعل نحو الأربع من الصبيان، وجرحوا جنديين أو ثلاثة فلو صحت من اليهود في الرمي زنودهم، كما صحت في القتل قصودهم، لكان القتلى من المسلمين- كبارا وصغارا- يعدون

ليلة الإثنين ويومها

بالمئات وليس من قصد القتل وارتكب سببه ولم يتم له ما قصد لمانع، دون من قتل بالفعل في الجرم. أما عدد الجرحى فقد تساوى أو تقارب من المسلمين ومنهم فكان من الجانبين نيفا وعشرين وكان كثير من جرحى المسلمين بسلاح الجند مما يدل على أن الجنود وإن لم يطلقوا الرصاص لعدم الإذن لهم بذلك فقد دفعوا الناس بالسلاح الأبيض. ليلة الإثنين ويومها: أعلنت حالة الحصار ومنع المرور بالأنهج إلا بورقة المرور. وفي مساء الإثنين رغبت مني دار "البريفي" بواسطة إنسان له مقام عندي، أن أذهب إلى عين البيضاء لتهدئة الناس. ولما كان هذا من أعمال الخير التي وقفت لها نفسي، أجبت الطلب وصحبني السيد عمر بن الموفق ليباشر هو الناحية الإدارية ورجالها وأباشر أنا ناحية الأمة. ولما وصلنا إلى عين البيضاء في منتصف الليل بقيت السيارة ونزل السيد عمر إلى دار "المير" وبعد نحو ساعة رجع إلي يقول أن بعض النواب يرون أنهم قد قاموا بتهدئة الناس وأن دخول غيرهم ربما يشعر بتقصيرهم هم في واجبهم، فقفلنا راجعين. وقد علمنا بعد ذلك من حوادث عين البيضاء أن شرطيا يهوديا أطلق الرصاص على ولد صغير مسلم أرسله أبوه لشراء الغاز وهذا الولد جيء به إلى مستشفى قسنطينة وتوفي به. وأن النائب العمالي س. بوماليي قدم استعفاءه للبريفي احتجاجا على تكليف غيره بتهدئة الناس. في ليلة الإثنين جدد اليهود اعتداءهم على بيوت الله: يقع مسجد سيدي الكتاني في رحبة سوق المصر في وسط حومة

استنتاجات وملاحظات

اليهود ففي ليلة الإثنين هاجمه اليهود فكسروا أربعة أو خمسة من نوافذه وهشموا التخاريب التي على أحد أبوابه وقد حققت ذلك إدارة الأمن وأثبتت فيه تقريرا رسميا. استنتاجات وملاحظات: أجبنا رغبة الحكومة لما دعتنا إلى فعل الخير ومددنا يدنا للتعاون معها على ذلك فهل علمت من ذلك أننا دعاة خير وسعاة إحسان، وهل هي بعد ذلك تستطيع أن تخلي بيننا وبين ما نقوم به مما هو أصل كل خير إلا وهو نشر العلم والدين؟. أما النواب الذين زعموا ذلك الزعم فأحسب أن الأنانية حالت بينهم وبين فهم معنى التعاون وإلا فإن القائم بواجبه مهما كان مقدار قيامه فإنه لا يألف من إعانته فيه محبة في تحقيق ذلك الواجب على أكمل وجوهه لكن هذا إذا كان قيامه بالواجب لأجل الواجب نفسه، لا لشائبة من حظه وغرضه. وأما النائب الذي قدم استعفاءه وتحمس فإننا كنا نود أن لو كان عنده هذا الحماس وهذه الغيرة والحمية في مواطن أخرى كان فيها حضرته باردا ومبردا، ولا حاجة لنا إلى تعريفه بهذه المواطن فالناس كلهم على علم بها وعلى ذكر منها. ونحن وإن كنا نرى حماسته هذه في غير محلها فإنا نتفاءل لحضرته بها خيرا ونرجو أن تدوم له في مواقفه القادمة في حياته العامة إن قدر له العود إليها. قتل اليهودي الشرطي ولداً صغيرا رميا بالرصاص!! وهل نحتاج بعد هذا إلى دليل على روح العداء والتحدي؟ ومن الثابت أيضا أن بعض الشرطة اليهود بقسنطينة أطلقوا الرصاص وأن شرطيا اسمه علوش سكر قال سأضرب وأفعل فعزل من الشرطة المثبوت ذلك عليه. فأذكر هنا ما تقدم عن ليلة السبت بقسنطينة وكيف وقف الشرطيان المسلمان

صبيحة الثلاثاء

أمام دار اليهودي الياهو أصل الشر والبلاء يحرسانها وقس بين الروح والروح والتربية والتربية. صبيحة الثلاثاء: استدعى الوالي العام وفداً من المسلمين وألقى عليهم خطاباً دلَّ على وقوفه موقف الحاكم العادل الذي يريد أن يعرف الحقيقة لذاتها. وأذن للجماعة بالكلام فقدموا الدكتور جلول فألقى خطاباً جامعاً صوَّر فيه الواقعة تصويراً فوتوغرافياً نظن أنه أبلغ وأصدق ما سمعه الوالي العام عن صورة الحالة. سأل الوالي الدكتور عن سبب اجتماع الناس في الصنوبر صبيحة الأحد فأجابه الدكتور بأن الذين اجتمعوا بالصنوبر هم الذين سمعوا مساء السبت بالإجتماع على الساعة السابعة فحسبوها صباحا وأوقعهم في هذا الغلط ضيق ما بين وقت الإعلام بالإجتماع الذي وقع بالجامع الكبير ووقوعه. ثم قدموا الأستاذ مختار ابن الحاج سعيد المحامي فألقى خطابا بليغاً دافع فيه عن الحقيقة بصدق وإنصاف، ثم تكلم النائب المالي السيد محمد المصطفى ابن باديس وقال أنه موافق على كل ما قاله الدكتور جلول والأستاذ مختار. ثم أعاد الوالي الحديث وسأل الوفد هل يستطيعون أن يعدوه بكف المسلمين فأجابه السيد ابن باديس أن المسلمين منكفون بالفعل وأننا نعد بكفهم، وأننا نستطيع ذلك بشرط أن ينكف اليهود الذين قد تكرر منهم الاعتداء فأجاب الوالي العام بأنه يعتمد عليهم وأنه سيكلم اليهود مثل ما كلمهم. وفاء الوفد بوعده: خرج ذلك الوفد الإسلامي الحافل المتركب من النواب والأعيان وبعض أهل العلم فارتأوا أن يبادروا بوفاء وعدهم للوالي العام بأن يتجولوا في الأنهج الإسلامية ويعرفوا الناس بمقابلتهم للوالي العام وما طلب منهم وما التزموا به عن إخوانهم المسلمين واتفقوا على أن أقوم

يوم السبت 11 أوت

خطيباً في كل نهج من الأنهج الكبرى الإسلامية لأخطب في الناس بذلك فوقفنا بضعة عشر موقفاً ألقيت فيها بضع عشرة خطبة أخاطب فيها الناس باسم الوفد وأدعوهم إلى الهدوء والسكينة وأذكرهم بآداب الإسلام وأعرفهم بما كان من طلب الوالي العام وما كان من إلتزام نوابهم، وكان الله- وله الحمد- يفتح في كل موقف بفن من فنون التذكير، وكان إخواني المسلمون- جعلني الله فداءهم- يلتفون بنا في كل موقف ويبدون من الاستماع للوعظ والانقياد للخير ما عرفني بما تنطوي عليه تلك الصدور المحمدية الطيبة من الروح الإسلامية الشريفة، والآداب الدينية العالية الكامنة فيهم، التي لا يحتاج في إظهارها إلا لكلمة صادقة عن نية خالصة. وكان كل موقف يختم بإعطاء كلمتهم بأن لا يكون منهم سوء وبالدعاء للجميع. عملت تلك الخطب- بإذن الله- عملها في قلوب كانت متفرقه فاتحدت وأرواح كانت متناكرة فتعارفت وما انتهينا إلى آخر مواقفنا - وكان أمام مكتب وعيادة الدكتور ابن جلول- حتى تصافح هو والسيد محمد المصطفى بن باديس وصعد النواب كلهم إلى مكتب الدكتور، فأعدتهم إلى النهج ليحضروا آخر موقف وليسمعوا آخر خطاب، ولم أكتف بوقوفهم بنوافذ المكتب المطلة على النهج فلما نزلوا خطبت في الجمع خطابا يشتمل على أصل ما ألقيت الخطب لأجله وعلى ما ناسب ذلك الموقف الذي تجلت فيه روح الإخاء والصفاء، وكان ذلك الموقف لمواقفنا- والفضل لله- خير ختام. يوم السبت 11 أوت: صبيحة السبت قابل وفد المسلمين عامل العمالة ودار الحديث في الحوادث التي وقعت ورأينا من عاملنا الجديد رجلا يحمل روحاً فرنسية لطيفة ويتحلى بآداب الموظف العالي. أبدى تأسفه أن وجد قسنطينة

تنظير بين المسلمين واليهود

أول قدومه في هذه الفاجعة وأظهر رغبة في رجوع الأمور إلى مجاريها.: بعدما تكلم الدكتور جلول والطبيب زرقين وغيرهما تكلم النائب المالي ابن باديس فذكر للسيد العامل أن الأمن من ناحية المسلمين قد استتب وأن جماعة المسلمين قد استطاعوا بما قاموا به أن يهدئوا إخوانهم على كثرة عدد المسلمين وانتشارهم، وأن جماعة اليهود من ناحيتهم لم يقوموا بشيء مما قام به جماعة المسلمين على قلة عدد اليهود وسهولة إبلاغ الصوت إليهم ولذا فإن المسلمين لم يتجدد منهم شيء من يوم الحادثة وأما اليهود فقد تجدد منهم الإعتداء مراراً وذكر له الولد بياع الجرائد الذي جرحوه برحبة الصوف وولداً آخر صب عليه المادة الملتهبة الفيتريول والرجل الذي أطلقوا عليه الرصاص بنهج فرانس كل هذا ما بين يوم الأربعاء والسبت فوعد العامل بأمرهم بالكف والتأكيد عليهم به. تنظير بين المسلمين واليهود: نريد أن نعرض الطبقات من المسلمين واليهود لنعرف موقفهم من هذه الفتنة اعتماداً على المعلومات المتقدمة. النواب: وقف الدكتور جلول النائب العمالي ليلة السبت برحبة الصوف وقفة المهدىء للجمع المسكن للثائرة ومعه السيد محمد أمزيان النائب البلدي يمينه على ذلك ويبذل جهده مثله. وحضر النائب العمالي اليهودي لولوش فبدلا من أن يهديء قومه ويأتي باليهودي المعتدي ويدخله حبس الكوميسارية وكان في استطاعته ذلك ولو فعله لأطفأ تأثر المسلمين في الحين، لأنهم ما كانوا يريدون إلا عقاب ذلك المعتدي على دينهم ونبيهم وجماعتهم ومسجدهم، بدلا من أن يفعل هذا كان تارة يستبعد وقوع ما وقع من الإعتداء وتارة

مفتي المسلمين وحبر اليهود

يستبكر على المسلمين تأثرهم من ذلك الإعتداء إن وقع. ولم يظهر منه أدنى شيء في التهدئة والتسكين. كان الدكتور جلول صبيحة الأحد ينتقل من مكان إلى مكان مهدئاً للناس مداوياً للجرحى معرضاً نفسه للخطر، وممن شهد له بمواقفه في ذلك اليوم التقرير الرسمي للجندرمة. أما النائب العمالي لولوش فقد اختار السلامة التي ذاق حلاوتها أيام أبقته الأعذار بقسنطينة عن ميادين الحرب الكبرى. أبدى النواب المسلمون في كل ما كتبوا ونشروا وتكلموا أمام الحكام غاية التعقل والرصانة والحكمة، وأعلنوا ثقتهم بالحكومة وبالعدالة وكرروا دعوتهم إلى تناسي الماضي والعمل لخير المستقبل وجددوا تأسفهم بعبارات دالة على كمال في الإنسانية وسمو في الدين. أما النائب لولوش وغيره فقد كانت تقاريرهم وخطبهم ومنشوراتهم - وخصوصاً رابور لولوش- تهجمات حتى على الحكومة وتقولات بالباطل والكذب (1) على النواب المسلمين مما ينم عن أمراض قلبية - والعياذ بالله- ويدل على قلة أدب وإفلاس سياسة. طاف النواب الأنهج الإسلامية وخطبوا في الناس بلسان من قدموا لذلك ووفوا بوعدههم للوالي العام. ولم يفعل شيئاً (2) من ذلك النواب اليهود. مفتي المسلمين وحبر اليهود: جاء المفتي ليلة السبت وبذل جهده. أما حبر اليهود فلم يأت لا هو ولا واحد من طرفه.

_ (1) في الأصل: تكذب (2) في الأصل: شيء

الشرطة

الشرطة: قام الشرطة المسلمون بواجبهم ولم تغلب عواطفم على أمانتهم حتى تقدم منهم من حرس باب المعتدي الأثيم الياهو خليفي. أما الشرطة اليهود فقد كان منهم من أطلق النار ومنهم من قتل وهو شرطي عين البيضاء. الأمة: وفى المسلمون بوعدهم لجماعتهم فلم يكن منهم أي اعتداء، أما اليهود فما زال الاعتداء يتكرر منهم على من ينفردون به وحده كما فعلوا ببعلي سليمان بن لخضر. ومن أقرب ذلك رمى صبيانهم نوافذ من جامع سيدي الكتاني فكسروها. نقول هذا ونحن على ثقة من تعقل إخواننا المسلمين وعدم التفاتهم إلى هذه الأفعال الطائشة التي تتولى أمرها العدالة وأنهم يبلغون كل ما يلحقهم إلى العدالة لتقوم بواجبها نحو المعتدين كما طلبنا منهم في خطبنا ووعدوا به وهم الموفون بما وعدوا. القتلى: دفن اليهود قتلاهم في مشهد حافل، أما قتلانا- وهم الرجل الذي قتل يوم الأحد والصبي الذي قتله الشرطي بعين البيضاء والذي مات من جراحه بعد ذلك- فإنهم دفنوا دون أن يشيعهم أحد، ودون أن تقال عليهم كلمة ودون أن تراق عليهم دمعة. علمنا أنهم يدفنون هكذا وسكتنا- لا لهون المصاب علينا ولا لقلة ألمنا وحزننا- ولكن موافقة للإدارة على تجنب كل ما قد يثير العواطف ويكون مخيف العاقبة، وعلمت الأمة بهذا ورضيت به انقياداً لرجالها لما لها بهم من الثقة وإظهاراً لما عندها من الرغبة في الهدوء والسكينة والتغلب على العاطفة أمام ما فيه مصلحة عامة.

الخاتمة

الخاتمة: كتبنا هذا التقرير عن الحالة كما شاهدنا فيما شاهدنا، وكما تحققنا فيما بلغنا من الثقات عندنا، وإننا بعد ذلك نأسف ونألم على ما يصيب الإنسان من أخيه الإنسان وعلى أن تجري هذه الحوادث بين عنصرين ساميين إبراهيميين عاشا قروناً في وطن واحد دون أن يشهدا مثلها ونسأل الله تعالى أن يبطل كيد الظالمين، ويرد شر المعتدين عن الخلق أجمعين، وأن يرحم المستضعفين وينصر المظلومين من جميع العالمين. وصدق الله العظيم في كتابه الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 10، م 10، ص 438 - 461 غرة جمادي الثانية 1353ه - 11 ديسمبر 1934م.

قسم العرب في القرآن

آثار ابن باديس قسم العرب في القرآن

العرب في القرآن -1 -

العرب في القرآن الخطاب الذي ارتجله الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماعها العام بنادي الترقي لهذه السنة. وموضوعه (العرب في القرآن) وقد حافظنا على معانيه وعلى الكثير من ألفاظه، وهيهات هيهات لما نود من نقله للقراء بألفاظه وجمله. فإنه خطاب عظيم في موضوع خطير لا يضطلع به غير أستاذ في علمه بفنون القرآن وغوصه على مغازيه البعيدة ونفاذه في معانيه العالية. وعلى كل فإننا نرجو أننا قدمنا الموضوع للقراء كامل المعاني وحسبنا هذا (1). ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - حق على كل من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيتهم وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام ذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام ولعناية القرآن بهم ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض فأما أنهم قد ارتبط تاريخهم بالإسلام فلأن العرب هُيِّئوا تاريخيا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، ولأن الله الحكم العدل الذي يضع الأشياء في مواضعها بحكمة ويأمرنا أن ننزل الناس منازلهم في شريعته، ما كان ليجعل هذه الرسالة العظيمة لغير أمة عظيمة، إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلا الجليل من الأمم والرِّجال. ولا يقوم بالعظائم إلا العظام من الناس.

_ (1) تعليق ناسخ المحاضرة.

وأما عناية القرآن بالعرب فلأجل تربيتهم لأنهم هم الذين هُيِّئوا لتبليغ الرسالة فيجب أن يأخذوا حظهم كاملا من التربية قبل الناس كلهم, ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنية في مراميها البعيدة إصلاحا لحال العرب وتطهيرا لمجتمعهم وإثارة لمعاني العزة والشرف في نفوسهم, ومن هذا الباب الآيات التي يذكر بها العرب أن هذا القرآن أنزل بلسانهم مثل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب. ومن أول القصد إلى العرب والعناية بلسانهم وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة، جلبا لهم حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم قبل الناس كلهم. إنّ العرب قوم يعتزون بقوميتهم وهم ذوو عزة وإباء خصوصاً في الجاهلية فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم ويقرب بعيدهم بأن هذا القرآن أنزل بلسانهم. ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية وتختلف في غير ذلك. وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها, لأن اللسان الذي أنزل به لسانها. وهذا هو ما يقصده القرآن, ومن هذا الباب أيضاً إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية. فمن الطبيعة العربية الخالصة أنها لا تخضع للأجنبي في شيء لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها, ولذلك ترى القرآن يذكرها بالشرف ويحدثها كثيرا عن أمة اليهود التي لا يناديها إلا بيا بني إسرائيل تذكيراً لها بجدها الذي هو مناط فخرها كل ذلك لأنها أمة تحيا بالشرف والسمو والعلو - ويذكرها بالذكر - وهو في لسانها الشهرة الطائرة

والثناء المستفيض يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. والأنبياء لم يبعثوا إلا في مناسب الشرف ومنابع القوة ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها. وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدين. فقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني أنه شرف لكم وقومه هم العرب لا محالة. ويقول بعد ذلك: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} ليُشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم ولا شك أن ثمن المجد غال. وهذا الشرط الذي ذكره الله وذكر به العرب هو شرط واجب الاعتبار والتنفيذ. لأن الأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه. ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها. وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم إلا ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق, وإن أعداء البشرية اليوم وقبل اليوم يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله ويهينوا منه ما كرم الله. والخلاصة أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هيئوا له من سياسة البشر. وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله للعرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل.

وهذا السر هو أنهم ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم. وانظروا واعتبروا ذلك بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب وهي أمة إسرائيل فإنها لم تكن مهيأة لإنقاذ غيرها. وإنما هيئت لإنقاذ نفسها فقط لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى تلك الدرجة العليا: ولذلك عانى موسى معها ما عانى مما قصه القرآن علينا لنعتبر به في الحكم على الأمم. ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلا وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين. وقد تقولون إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين, والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنبوة والدين في أول أطوارهما وأضيق أدوارهما وهذا هو الواقع فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله وأن تظهر دين الله على الدين كله, وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا حتى بأنفسهم وإنما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلا بعد موسى بزمن مع اتصال حبل النبوة فيهم ومغاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم. فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بحديث القرآن عنهما وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان, في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ

فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}. فالسر المتجلي من هذه الآية هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا العالم الإنساني من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم وهو إخراج الضد من الضد وإخراج الحي من الميت وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئاً من وسائل القوة الروحية ولا من وسائل القوة المادية، من العباد الأقوياء المتألهين فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخالب أقوى الأقوياء وجعل المستضعفين أئمة وارثين، وسادة غالبين، والتمكين لهم في الأرض، وإراءة الأقوياء المستعلين في الأرض عاقبة باطلهم لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكيناً لهذا المعنى في نفوسهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. وإلى هذا المثل العملي تشير الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. وأمّا العرب فإنهم اختيروا لوظيفة عالمية عامة لما فيهم شرف متأصل واستعداد كامل وصفات مهيأة ولهذا كان منبع الرسالة بمكة وشأنها عند العرب هو شأنها، فهم مجمعون على تخليصها ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم. وكل أطراف الجزيرة لم تخل من لوثة في الطباع وعجمة في الألسنة، جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على

مقومات الأمم من العروق الدساسة. فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم, والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية. فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة المقومات، ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلا صميم الجزيرة ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام وهذا الوسط وإن كان عريقا في الصفات التي تسمى العصر لأجلها جاهليا, ولكنه كان بعيدا عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس والجاهل يمكن أن تعلمه والجافي يمكن أن تهذبه. ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال. هذا توجيه موجز مقرب لاختيار الله تعالى العرب للنهوض بالرسالة العامة. وشيء آخر يرتبط بهذا وهو أن الله كما اختار العرب للنهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرسالة وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدا بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها وهذا جانب لا أتحدث عنه فقد كفانا مؤنته أخونا الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في محاضرته التي سمعتموها بالأمس (1).

_ (1) ش: ج 1، م 15، ص 21 - 25 غرة محرم 1358ه - فيفري 1936م.

العرب في القرآن -2 -

العرب في القرآن -2 - أيّها الإخوان: جعلنا عنوان الخطاب ((العرب في القرآن)) وقلنا في أول كلمة منه أن العناية بالعرب حق على كل مسلم لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام. فما هو حظ العرب من القرآن من الناحية التاريخية بعد أن سمعتم هذه التوجيهات العامة. والعرب مظلومون في التاريخ فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجا لا يصلحون لدنيا ولا دين حتى جاء الإسلام فاهتدوا به فأخرجهم من الظلمات إلى النور. هكذا يتخيل الناس العرب بهذه الصورة المشوَّهة، ويزيد هذا التخيل رسوخاً ما هو مستفيض في آيات القرآن من تقبيح ما كان عليه العرب ليحذرنا من جاهلية أخرى بعد جاهليتهم. والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي أنَّ القرآن وحده هو الذي أنصف العرب. والناس بعد نزول القرآن قصَّروا في نظرتهم التاريخية إلى العرب فنشأ ذلك التّخيل الجائر عن القصد. والتاريخ يجب أن لا ينظر من جهة واحدة بل ينظر من جهات متعددة وفي العرب نواح تجتبى ونواح تجتنب, وجهات تذم وتقبح وجهات يثنى عليها وتمدح. وهذه هي طريقة القرآن بعينها. فهو يعيب من العرب رذائلهم النفسية كالوثنية ونقائصهم الفعلية كالقسوة والقتل.

وينوه بصفاتهم الإنسانية التي شادوا بها مدنياتهم السالفة واستحقوا بها النهوض بمدنية المدنيات. ولنذكر عاداً فهي أمة عربية ذات تاريخ قديم ومدنية باذخة ذكرها القرآن فذكرها بالقوة والصولة وعزة الجانب ونعى عليها الصفات الذميمة التي تنشأ عن القوة قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}. فالنظرة التاريخية المجردة في هذه الآية وفيما ورد في موضوعها ترينا أن عاداً بلغت من القوة والعظمة مبلغاً لم تبلغه أمة من أمم الأرض في زمنها حتى أن الله جل شأنه لم يتحد قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} إلا بقوته الإلهية التي يذعن إليها كل مخلوق، ولو كانت في أمم الأرض إذ ذاك أمة أقوى منهم لكان الأبلغ أن يتحداهم بها. وإن أمة تقول هذه الكلمة بحالها أو مقالها لهي أمة معتدة بقوتها وعظمتها. ومن هذه الآية وحدها نستفيد أن عاداً كانت أشد الأمم قوة وأنها ما بلغت هذه الدرجة من القوة إلا بمؤهلات جنسية طبيعية للملك وتعمير الأرض وأن تلك المؤهلات فيها وفي غيرها من شعوب العرب هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية. وإن القرآن لا ينكر عليهم هذه المؤهلات وإنما ينكر عليهم لوازمها ولا ينكر عليهم القوة والعظمة وإنما ينكر عليهم أن يجعلوها ذرائع للباطل والبغي ومحادة الله بدليل قوله لهذه الأمة: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} فهو يضمن لهم أنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات يزيد قوتهم تمكيناً وبقاء, ومحال أن ينكر القرآن على

الناس القوة وهو الداعي إليها والمنفر من الضعف وإنما شرع القرآن بجنب الدعوة إلى القوة أن تكون للحق وللخير وللرحمة والعدل. وكذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (1) فإن هذه الآية - زيادة عن إفادتها لمعنى ما قدمناه - تكشف لنا نواح (2) من تاريخ هذه الأمة العربية ومبلغ مدنيتها وتعميرها فهي تدل على أنهم كانوا بصراء بعلم تخطيط المدن والأبنية وهو علم لا يستحكم إلا باستخدام الحضارة في الأمة ومأخذ هذا من قوله: {بِكُلِّ رِيعٍ}. والآية في قوله آية هي بناء شامخ يدل على قوتهم أو هي آية هادية للسائرين وهي على كل حال بناء عظيم يدل على عظمتهم وقوتهم وما زالت عظمة البناء تدل على عظمة الباني. ولم ينكر عليهم نبيهم نفس البناء الذي هو مظهر القوة. وإنما أنكر عليهم الغاية المقصودة لهم من ذلك البناء الشامخ فمحَطُّ الإنكار قوله: {تَعْبَثُونَ}، ولا شك أن كل بناء شامخ لا يكون لغاية شريفة محمودة فهو عبث ولهو وباطل. والمصانع، يقول المفسرون أنها مجاري المياه أو هي القصور, وعلى القولين فهي دليل على معرفتهم بفن التعمير علماً وعملاً وبلوغهم فيه مبلغاً عظيماً فهي من شواهدنا على ما سقنا الحديث إليه. ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى المصنع اللفظي الاشتقاقي والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع

_ (1) 26/ 128 - 131 (2) كذا في الأصل والصواب: نواحي.

جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران. وهل كثير على أمة توصف بما وصفت فيه في الآية، أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بلى وإن المصانع لأوَّل لازم من لوازم العمران وأول نتيجة من نتائجه. ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع إلا تفسير بعضهم للسائحين والسائحات بالصائمين والصائمات والحق أن السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار والقرآن الذي يحث على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود. ولا يقولن قائل إذا كانت المصانع ما فهمتم فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها فإن المصانع التي تشيد على القسوة والقسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية. وأي عاقل يرتاب في أن المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة ووسائل تدمير لا تعمير فهل يحمدها على عمومها وإن دلائل حضارة ومدنية كانت. ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر ولرحمتهم ومن لوازم ذلك أن تراعى فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة. {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} لا بد لكل أمة تسود وتقوى من بطش ولكن البطش فيه ما هو حق بأن يكون انتصافا وقصاصا وإقامة لقسطاس العدل بين الناس وفيه ما هو بطش الجبارين والجبار هو الذي يجبرك على أن تعمل بإرادته لا بإرادتك فبطشه إنما يكون انتقاما لكبريائه وجبروته وإرضاء لظلمه وعتوه وتنفيذا لإرادته الجائرة التي لا تبنى على شورى وإنما تبنى على التشهي وهوى النفس

لذلك لم ينقم منهم البطش لأنه بطش وإنما نقم منهم بطش الجبابرة الذي كله ظلم. وفي القرآن ما هو كالتتمة لبحثنا عن حضارة العرب وكالعلاقة لحضارة عاد بعينها وهي حكاية عاد إرم ذات العماد. فهذا الوصف البليغ الذي نقرؤه في سورة الفجر صريح بألفاظه ومعانيه في أنه وصف لحضارة عمرانية لا نظير لها, فالعماد لا تكون إلا في القصور والأبنية الباذخة والمدن المخططة على نظام محكم, وقد قال تعالى وهو العالم بكل شيء أنه: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ومدينة هذا وصفها لا تشيدها إلا أُمة لا نظير لها في القوة وآثار الحضارة يتبع بعضها في الضخامة والعظم والوصف القرآني لها وإن سيق للاتعاظ بعاقبتهم يدل الباحث التاريخي على أنهم بلغوا في الحضارة غاية لا وراءها, وهم أمة عربية. فهذه المدينة شيدت في جزيرة العرب لا محالة. وأن الأقرب في التذكير بهم والاتعاظ بمصيرهم أن تكون الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} علمية لأن التذكير عام لمن تتيسر له رؤية العين ولمن لم تتيسر له, ولو ائتمرت الأمم الإسلامية بأوامر القرآن لنشأ فيها رواد يرودون الجزيرة ويجوبون مجاهلها ولو فعلوا لأمكن أن يعثروا على آثار هذه المدينة أرض عاد وهي معروفة ويجمعوا بين الرؤية البصرية والرؤية العلمية وبين العلم والاتعاظ وإننا لا نعبأ في مقام البحث العلمي بما حف هذه الحكاية من أساطير. ولا بما وقع فيه شيخ المؤرخين ابن خلدون حينما تعرض لنقض تلك الأساطير (1).

_ (1) ش: ج 2، م 15 ص 70 - 74 غرة صفر 1358ه - مارس 1939م.

العرب في القرآن -3 -

العرب في القرآن من الخطاب الذي ألقاه رئيس جمعية العلماء في اجتماعها العام الماضي ــــــــــــــــــــــــــــــ -3 - وأمة أخرى من الأمم العربية وهي ثمود، وهي أمة عربية نلعنها بلعن القرآن لها ولكننا نذكرها بما ذكرها به القرآن من قوة وتعمير وحضارة, فصالح رسول هذه الأمة يقول في دعوتها إلى الله وتعريفها بنعمه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}. فأمة أية أمة لا تعمر الأرض إلا إذا ملكت وسائل التعمير وهي كثيرة ومجموعها هو ما نسميه الحضارة أو المدنية. وقد كشفت لنا عن هذا الإستعمار الثمودي عدة آيات بليغة الوصف، ولكن أبلغها وصفا وأدقها تصويرا قوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}. أما المغزى الذي سيقت هذه الآية لأجله فهو النفي عليهم. كيف يستعينون بنعم الله التي يسرها لهم على الكفر به، وإنذارهم أن الكفر بها وبمؤتيها سيكون سببا في زوالها وفي ضمن هذا عرفنا حالتهم التي كانوا عليها في تعمير الأرض. وهي حالة أمة بلغت النهاية في الحضارة المادية وفنونها من زرع الأرض وتلوينها بأصناف الشجر منظمة وتقسيم المياه على تلك الغروس إلى ما يستلزمها كل ذلك من علم

بحال الأرض وطبائعها وأحوال الأشجار المغترسة وطبائعها وأحوال الفصول الزمنية وأحوال الجو وأحوال التلقيح والآبار والجني وعلم بأصناف التمتع من مناظر ومجالس ومقامات ومآكل. ثم القيام على حفظ ذلك العمران من إفساد الأيدي السارقة وكل هذا مما يستلزمه وصف القرآن لحالهم لأجل تذكيرهم والتذكير بهم, وقد ذكرهم القرآن في مواضع بإتقانهم لنحت الحجر, والشجر والحجر آيتا الحضارة المبصرتان, ومن يعرف الحضارة الرومانية بهذا الوطن يعرف أنها ما قامت إلا على نحت الحجر وغرس الشجر. وإن نحت الحجر ليستدعي حاسة فنية ويستدعي مع ذلك قوة بدنية وقد نعتهم القرآن في نحتهم للحجر بحالة ملابسة فوصفهم مرة بأنهم آمنون ومرة بأنهم فرهون، والفاره هو الذي يعمل بنشاط وخفة ولا يأتيه ذلك إلا من خبرته بما يعمل وعلمه بدقائقه واعتياده له. ومعنى هذا أن أصول هذه الصناعة التي اشتهر بها المصريون القدماء والرومان قد رسخت فيهم ولكن التاريخ المنقول ظلم العرب وبخسهم حقهم كما قلت لكم في طالعة هذا الخطاب. هاتان أمتان من الأمم العربية أثبت القرآن حالهما فكان لنا مصدرا تاريخيا معصوما في إثبات حضارة الشعوب العربية التي بزت فيها الأمم. ولننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي الجزيرة العربية وهي اليمن التي عرفها اليونان وغيرهم وعرفوا المدنيات التي قامت فسموها بالعربية السعيدة وإننا إذا انتقلنا إلى هذه الناحية من الجزيرة نجد العز القدموس والمجد الباذخ والماضي الزاهر لهذه الأمة التي نفتخر بالانتساب إليها ونباهي الأمم بمدنياتها بالحق والبرهان. وإننا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن.

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}. ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور. وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة لا أظن غير اللسان العربي يتسع لحملها كقوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} وكقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}. وكقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، حتى إذا وصل القارئ إلى مصير هذه الأمة التي سمع ما هاله من وصفها واجهه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}، وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة. اللهم إن السلامة في الساحل وإننا لا نعدو موضوعنا تصور حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله. الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة

الأدوات ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته وعلم كما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال. ويمين من؟ وشمال من؟ إنه ولا شك يمين السائر في تلك المدن أو الأراضي وشماله ومعنى هذا أن طرق السير كانت منظمة تبعا لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها والاكتشافات الأثرية اليوم التي كان لليمن حظ ضئيل منها وإن كان على غير يد أهلها - تشهد بأن أمم الحضارات اليمنية كانوا من أسبق الأمم إلى بناء السدود المنيعة لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض, وإقامة السدود لا تتم بالفكر البدوي .. والعمل اليدوي, بل تتوقف على علوم فكرية منها الهندسة والهندسة تتوقف ثمراتها على علوم كثيرة وعلوم العمران كعروق البدن يمد بعضها بعضاً فهي مترابطة متماسكة متلاحمة - فما يكون السبإيون بلغوا في الهندسة مبلغاً أقاموا به سد مأرب حتى يبلغوا في غيره من علوم العمران ذلك المبلغ. ولكن لما كفروا بأنعم الله واستعملوها في ما يسخطه سلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم وأباد حضارتهم وذلك قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ... } الخ. ويقول في وصف عمرانهم: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً}، يعني أن عمرانهم لم يكن محدودا، وإنما كان متصلاً بعضه ببعضه. فالقرى والمدن يظهر بعضها من بعضها لقربها وتلاحمها فلا يكاد المسافر يبرح مدينة حتى تبدو له أعلام الأخرى, ولا يكون هذا إلا إذا كان العمران متصلاً. وهذا هو معنى الظهور في الآية فهو ظهور خاص. وتقدير السير هو أن يكون منظماً ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالساعات والطرق محدودة بالعلامات التي

تضبط المسافة, وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام وأن الأمن كان ما دار رواقه على هذا العمران. ولا يتم العمران إلا بالأمن ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدينة الزاخرة بسياج الإيمان والشكر والفضيلة والعدل وكل مدينة لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب, والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها, فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم حتى لا نغتر بمظاهرها وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين كما لم تتخلف في الأولين. وأما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟ والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا إلا بألسنتهم وإنما هو نتيجة أعمالهم, ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة. ولا زال الناس - على عاميتهم - يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل: أنه يقول اقتلني أو اضربني, وهو لم يقل ذلك وإنما أعماله هي التي تدعوا إلى ذلك، فالمعنى أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول فكأن ألسنتهم قالت ذلك ويؤيد هذا في القرآن كثير ومنه قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به ولا يقولن قائل: القول يقع مدلوله في القلب حالاً ولا كذلك العمل فقد يتأخر جزاؤه طويلا ً- لأن الجزاء إذا كان محقق الوقوع يصير كأنه حاصل بالفعل وكل عاقل يقطع بأنه إذا وقع الظلم من الظالم فقد استحق عليه الجزاء ولا يلاحظ مسافة ما بين الظلم وجزائه.

وأما المباعدة بين أسفارهم التي اقتضاها كفرهم بأنعم الله, فهي كناية عن محو العمران وخراب القرى التي كانت ظاهرة متقاربة حتى لا يبقى منها إلا القليل فيتباعد ذلك القليل بالطبع بخراب الكثير. وأين العمران المتلاحم الذي يرتاح فيه المسافر لضبط المسافة وتعدد المشاهد من الخراب الذي يوحش فيزيد المسافة بعداً على بعد. وملكة سبأ وعرشها العظيم وملكها وما قصه القرآن من نبئها أعظم وأروع فمخبر سليمان عليه السلام يقول عنها: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وما وصف عرش ملكة سبأ بالعظيم عند سليمان نبي الله الذي سخر له الجن والريح - إلا وهو في نفسه عظيم. أيها الإخوان: إن في قصة ملكة سبأ في القرآن لدرساً تتفجر منه ينابيع العظة والعبرة وإرشاداً إلى ما تقوم به الأمم ولولا أن هذا الخطاب قد طال لآثرنا منها العبر وأثرنا بها العبر. ولكن لا يفوتنا أن نلخص منها إشارات وما عليكم بعد ذلك إلا أن تتدبروا الآية ففيها نظام الشورى صريحاً لا مواربة فيه وفيها أن بناء الأمم إنما يعتمد على القوة وقد تكون مؤنثة فلا بد أن يسندها بأس شديد. وفيها أن الملأ هم الأشراف وأهل الرأي وهم أعضاء المجالس الشورية ولعلهم كانوا بالانتخاب العرفي وهو نظام مدني ولعلهم كانوا بالانتخاب الطبيعي أو الوراثي وهو لا يكون إلا في الأمم التي شبت عن طوق البداوة. ولعل كاتباً من كتابنا يتناول هذا البحث بحث الانتخاب في الإسلام ولئن استرشد القرآن في هذا الباب ليرشدنه.

هذه مدنيات ضخمة غيرت في هذه الأمة التي أهلها الله لحمل الرسالة الإلهية إلى العالم وهذه بعض خصائص هذه الأمة التي هيأها الله للنهوض بالعالم وإنقاذه من شرور الوثنية وبنياتها ومن ضلال العبودية بجميع أصنافها. وإن القومية العربية موضوع مترامي الأطراف. وليس من الممكن الإحاطة به في مثل هذا الخطاب. وحسبي أن أكون قد خدمتها من هذه الناحية التي هي خدمة للإسلام والقرآن وعليكم السلام. (1).

_ (1) ش: ج 3، م 15، ص 119 - 124 غرة ربيع الأول 1358ه - أفريل 1939م.

قسم التراجم

آثار ابن باديس قسم التراجم

رجال الإسلام ونساؤه

رجال الإسلام ونساؤه ش. " هذا باب جديد فتحناه في (الشهاب) أردنا منه أن يطلع القراء على تراجم بعض رجالنا ونسائنا من سلفنا الصالح وما لهم من صفات أكسبهموها الإسلام وما كان منهم من أعمال في سبيله، ففي ذلك ما يثبت القلوب ويعين على التهديب، ويبعث على القدوة، وينفخ روح الحياة وما حيي خلف إلاَّ بحياة سلف، وما حياة السلف إلا بحياة تاريخهم ودوام ذكرهم، ولسنا هنا لتتبع الأخبار واستيعاب الحوادث وإنما نقتصر على ما يحصل أصل القصد، ويفي لأكثر القراء بالغرض، ويبعث همم الطلاب إلى التوسل في هذا العلم، ويبعث رغباتهم إلى الازدياد منه، وليس هذا الباب مقصوراً على قلم تحرير المجلة فلكل كاتب أن يعرض فيه ما عنده من حديث عن رجل أو امرأة من أبناء أو بنات الإسلام. واليوم لما جاء ذكر عبارة بن الصامت وزوجه أم حرام في صدر هذا الجزء فإنا رأينا لهذه المناسبة أفتتاح هذا الباب بذكرهما رضي الله عنهما". ــــــــــــــــــــــــــــــ

عبادة بن الصامت

عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ أنصاري خزرجى من السابقين الأولين. بايع ليلة العقبة وعينه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بها نقيباً، شهد بدراً وجميع المشاهد بعدها. ممن جمع القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وروى عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- كثيراً، فكان بما حفظ من كتاب الله وروى من حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقيهاً في دين الله - ولا والله ما فقه الإسلام ممن لم يفقه الكتاب والسنة، وما كان فقه الصحابة والتابعين وأئمة الدين إلا بالفقه فيهما- ولفقهه بعثه عمر - رضي الله عنه - ومعاذ وأبا الدرداء إلى أهل الشام يعلمونهم القرآن ويفقهونهم، وهكذا كانو يبعثون الفقهاء لتعليم الناس أمر دينهم وتفقيههم فيه، وهو ما أخدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على نفسها القيام به، وهو ما قامت النواحي التي تستغل جهل المسلمين تقاومها من أجله- فأقام عبادة بحمص ثم بفلسطين، وبها مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنين وسبعين سنة. كان عبادة قويا في دين الله لا تأخذه في الحق لومة لائم، فكان له مع معاوية - وهو أمير على الشام - مواقف في الإنكار عليه، وكان معاوية يعترف له بالتقدم عليه بالفقه، ثم تبرم منه فشكاه إلى عمر -رضي الله عنه- وارتحل إلى المدينة فرده عمر إلى الشام وقال له: قبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية أن لا إمرة لك على عبادة. كان صلبا في دينه يوالي في الله ويعادي فيه: كان يهود

بني قنقاع حلفاءه فلما رأى عدواتهم للإسلام وتربصهم بأهله جاء إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له: أن لي موالي من اليهود كثيراً عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم، وأتولى الله ورسوله. وكان لعبد الله بن أبيِّ رأس المنافقين من الولاية فيهم مثل ما لعبادة، فبقي على ولايتهم واعتذر من بقائهم على ولائهم بأنه يخاف الدوائر. وفيها نزل قول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} - إقرأ مع هذه الآية قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فكان عبادة بن صامت أول من سن سنة رفض ولاية موالية لما رأى منهم الشر وتولى الله ورسوله، ومن سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجْرُها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فرحمه الله الهادين المهتدين

أم حرام بنت ملحان

أم حرام بنت ملحان - رضي الله عنها - ــــــــــــــــــــــــــــــ النجارية الأنصارية خالة أنس بن مالك، وأخت أم سليم وزوجة عبادة بن الصامت. كان النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يكرمها ويزورها في بيتها، وما كان ذلك إلاَّ لكمالٍ في دينها وصلاحها، وقد ظهر أثر هذا الدين والصلاح في مبادرتها لطلب الدعاء من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن تكون من الغزاة في البحر لما ذكر لها ما عرض عليه في نومه من أناس من أمته، كالملوك على الأسرة، غزاة في البحر، وعودها إلى الطلب لما ذكر لها مثلهم في المرة الثانية حتى قال لها: أنت من الأولين. امرأة تسمع بالغزو وفي البحر ولا يهولها الغزو وما فيه من مشقة وما وراءه من القتل، ولا البحر وأهواله وهي امرأة لم تعتد ركوبه ولا تعرف عنه إلاَّ أنه خلق عظيم ذو هول كبير وخطر شديد قريب، لا يقف أمامها لا هذا ولا ذاك، وإنما يقف أمامها ويستولي على نفسها ويحيط برغبتها منزلة الشهادة وما فيها من الأجر والمثوبة، وما وراءها من الخير والكرامة، فتحرص ذلك وتؤكد الطلب، وتعود إليه مرة بعد أخرى، هذا - والله- الإيمان حقاً، والرغبة في العمل الصالح صدقاً وبذل أعز ما عند الإنسان لخالقه في طلب مرضاته. صدقت أم حرام قولها بفعلها، فلما خرج زوجها مع معاوية لغزو جزيرة قبرص خرجت معه وماتت في تلك الغزاة لما خرجت من البحر ونزلت أرض الجزيرة ودفنت بها. وذكر هشام بن عمار الخطيب المقرئي الثقة أنه رأى قبرها بقبرص ووقف عليه، فرحمة الله عليها من امرأة صالحة ومؤمنة صادقة في نساء المسلمين (1).

_ (1) ش: ج 1، م 10، ص 14 - 16 غرة رمضان 1352ه - جانفي 1934م.

سعد بن الربيع

سعد بن الربيع - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ أنصاري خزرجى، شهد بيعة العقبة الأولى والثانية، أحد النقباء الإثني عشر. شهد بدرا واستشهد يوم أحد، كرم اخوته ومراعاته لحقوقها لما قدم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار لتقوية الرابطة العامة بالرابطة الخاصة فآخى بين سعد بن الربيعة وعبد الرحمن بن عوف. وكان سعد أكثر من الأنصار مالا وكان متزوجاً امرأتين فرأى من حق هذه الأخوة بينه وبين أخيه المهاجري أن يشاطره ما عنده فقال لعبد الرحمن:"إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها" فقال له عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق" (1) فلم يكتف سعد بالنزول لأخيه عن شطر ماله حتى أراد النزول له عن إحدى زوجتيه لأنه يعلم أن الأخوة ليست وصفاً يكفي أن يثبت بالألسنة بل هي رابطة وعقيدة لا تحققها إلا الأفعال وهذه حقيقة الأخوة خاصة كانت أو عامة فالمسلم الذي يشعر بأخوة الإسلام شعوراً صحيحاً ويعتقدها اعتقاداً صادقاً هو الذي يشاطر المسلمين في سرائهم وضرائهم ويشركهم معه فيما عنده من خير بقدر ما استطاع فأما من لم يهتم بأمورهم وقبض يده عن مواساتهم وشح بالفرض والمستحب من الصدقة عليهم فهو كاذب في أخوته جاهل بحقيقة الأخوة وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ

_ (1) البخاري.

صدق ما عاهد الله عليه

فِي الدِّينِ}. وقال -صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها». صدق ما عاهد الله عليه: كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص وكان هذا الصحابي من أبطال ذلك اليوم وممن أبلوا فيه البلاء الحسن وجاهد حتى سقط مطعوناً باثنتي عشرة طعنة وتفقده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يره في الناس، فقال من يأتني بخبر سعد بن الربيع فقال رجل - هو أبي ابن كعب - أنا، فجعل يطوف بين القتلى فقال له سعد بن الربيع ما شأنك، فقال الرجل: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لآتيه بخبرك، قال: "إذهب إليه فأقرأه مني السلام وأخبره بأنني طعنت اثنتي عشرة طعنة وإني أنقذت مقاتلي، وأخبر قومك أنهم لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وواحد (1) منهم حي". فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم ينسه ما هو فيه من مصاب عظيم في ذلك اليوم من تفقد أصحابه وهذا السيد الجليل لم ينسه ما فيه من ألم الجراح وحالة الاحتضار من إبلاغ سلامه للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن النصح لقومه بما عليهم من حفظ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى آخر واحد منهم وفاء بما عاهدوه عليه ليلة العقبة. فالمسلم لا ينسيه ألم يصيبه في سبيل الله ما بقي عليه من الواجبات لدينه ولا يترك النصح حتى في أشد الأحوال ويبذل في سبيل الوفاء على ما عاهد الله عليه نفسه راضياً مغتبطاً. هكذا كان الصحابة يبذلون في حفظ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أرواحهم والتابعون لهم من المسلمين هم الذين يبذلون في

_ (1) الموطأ.

حفظ دينه من بعده كل عزيز فحياته -صلى الله عليه وآله وسلم- في أمته ببقاء دينه فيهم قائماً. والحمد لله أنه لا تزال طائفة قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون (1).

_ ش: ج 2، م 10، ص 61 - 62 غرة شوال 1352ه - جانفي 1934م.

الحجاج بن علاط

الحجاج بن عِلاَط - رضي الله تعالى عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ نسبه: الحاج بن عِلاطَ (ككتاب) السلمي. إسلامه ووفاته: أسلم عام خيبر وتوفي في أول خلافة عمر - رضي الله عنه -. مسكنه وإقامته: أقام بالمدينة ثم نزل الشام فسكن حمص. حاله في الجاهلية: كان تاجراً كثير المال وكان يستخرج الذهب من معادن بني سليم. حاله في الإسلام: هو أول من بعث إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بصدقة من معدن بني سليم فما ذخل الإسلام قبله حتى خرج منه ذلك الشح الذي يلازم في الغالب أرباب الأموال فبادر بإرسال صدقة معدنه طائعاً طيبة بها نفسه وهكذا يفعل الإيمان عندما تخالط بشاشته القلوب. كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أمراء الآفاق أن يبعثوا إليه من كل عمل رجلا من صالحيها فبعثوا أربعة من البصرة والكوفة والشام ومصر، فاتفق أن الأربعة من بني سليم وهم الحجاج بن عِلاَط، وزيد بن الأخنس، مجاشع بن مسعود وأبو الأعور. فكان الحجاج أحد هؤلاء الأربعة المشهود لهم من عموم أهل أقطارهم بالصلاح خدعه لقريش حتى نجا بماله: لما فتحت خيبر وكان هو قد أسلم خشي (1) أن تسمع قريش بإسلامه فتستولي على

_ (1) في الأصل: خيشي

الأسوة

ماله الذي كان متفرقا على تجارها وغيرهم، فاستأذن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذهب إلى مكة كاتماً إسلامه ليعمل على تخليص ماله ونجاته به من قريش، فإذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ورأى أنه لا بد أن يحتاج في خداع قريش إلى شيء من النقول بخلاف الواقع فقال للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم: "أنه لا بد لي - يا رسول الله - من أن أقول" قال: "قل". فخرج حتى أتى قريشا فاسألوه عن النبي -صلى الله عليهوآله وسلم- وأصحابه فقال لهم هزم شر هزيمة وقتل أصحابه شر قتل وأخد أسيرا وقال أهل خيبر لا نقتله حتى نبعته إلى أهل مكة فيقتلوه بما قتل من رجالهم. فصدقته قريش فقال لهم أنه يريد أن يعجل إلى خيبر قبل أن يسبقه التجار إليها فأعانوه على جمع ماله حتى نجا به وانطلت عليهم حيلته. وكان قبل أن يفارق جاءه العباس يسأله عما جاء به من الخبر فأخبره بالحقيقة على وجهها واستكتمه حتى يمضي على خروجه من مكة ثلاثة أيام فلما مضت الثلاثة الأيام لبس العباس حلته وجاء فطاف بالكعبة فلما رأته قريشاً على تلك الحالة الطيبة قالوا له هذا والله التجلد على المصيبة يعنون ما جاءهم به الحجاج من الخبر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبرهم العباس بجلية الأمر وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- افتح خيبر وتزوج ببنت ملكهم وأن الحجاج أخد أموالهم ليلحق به فاشتد عليهم ذلك وبلغ منهم المبلغ العظيم من الأسف والحنق. وحديث الحجاج هذا قال الإمام عبد البر: "صحيح من رواية ثابت البناني وغيره عن انس" ورواه من الأئمة أحمد وغيره. الأسوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

أذن له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في التقول والأخبار بخلاف الواقع عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لا يجوز أن يقال عليه من الهزيمة والأسر -لأن ذلك كله من خدع الحَرب لأجل التوصل إلى افتكاك مال الحجاج منهم حتى لا يتقووُّا به وإدخال الغيط عليهم وإحداث الوهن في قلوبهم. فكان ذلك منه -صلى الله عليه وآله وسلم- شرعاً عاماً وحُكماً باقياً في مثل تلك الحال مقدراً بذلك المقدار (1).

_ (1) ش: ج 3، م 10، ص 103 - 104 ذو القعدة 1352ه - فيفري 1934م.

أبو ذر الغفاري -1 -

أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - كيف كان إسلامه: من السابقين الأولين وقصة إسلامه كما جاءت في صحيح البخاري - مع الشرح - في مواضع هكذا:"بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لأخيه أنيس: إركب إلى هذا الوادي - يعني مكة - فأعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء فانطلق حتى أقدم مكة وسمع من قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وسمعت منه كلاما ما هو بكلام الشعر. فقال أبو ذر: ما شفيتني مما أردت. فتزود وحمل شنة من ماء وجراباً من طعام وعصا وسار حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - وهو لا يعرفه وهو كره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فعرف أنه غريب فقال له كأن الرجل غريب فقال نعم فقال له علي فانطلق معي إلى المنزل فانطلق معه لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء فبات عنده فلما أصبح عاد إلى المسجد فقضى اليوم الثاني كالأول ورآه علي واستصحبه إلى منزله فلما أصبح عاد إلى المسجد ومضى عليه اليوم كسابقيه واستصحبه علي معه كالسابق وسأله ألا تحدثني ما الذي أقدمك قال أبو ذر إن أعطيتني عهداً وموثقاً لترشدنني فعلت؟ فأعطاه علي العهد والميثاق فأخبره بالذي أقدمه. قال علي: فإنه حق وهو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا أصبحت

فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف منه عليك قمت كأنني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي فانطلق أبو ذر يقفوا أثر علي حتى دخل علي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فدخل أبو ذر فسمع من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأسلم مكانه فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقال أبو ذر والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله) فقامت إليه قريش فضربوه ضرب الموت حتى أضجعوه على الأرض وأتى العباس فأكب عليه وقال لقريش ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار أن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم فأنقده منهم ثم عاد أبو ذر من الغد إلى مثلها فثاروا عليه وضربوه فأكب عليه العباس وأنقذه منهم كالأول فرجع أبو ذر إلى قومه. كانت المرحلة الأولى من مراحل الدعوة فردية سرية وما أعلنت الدعوة للعموم إلا بعد نزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وكان ذلك في السنة الثالثة ولكنها مع خفيتها كان الخبر يتسرب خارج مكة حتى بلغ أبى ذر فأرسل أخاه ولم يكفه الخبر عن العيان فقدم بنفسه وأبا أن يسأل على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أحداً من قريش، لأنهم كانوا يصدون الناس عنه بالكذب عليه والتزهد فيه وبالأذية لمن يرون منه تصديقه. وكان من صنع الله له- ومن تاقت نفسه لمعرفة الحق أعين عليه - أن ساق إليه علياً فاستضاف على عادة العرب في استضافة الغريب فكان علي دليله إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وحارسه في طريق الوصل إليه من أن تصيبه قريش بأذى كما كان أبو ذر متستراً خوفاً على نفسه. فلما دخل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وشاهد وسمع منه ما حصل له به اليقين

أنه رسول الله بادر بالاسلام وأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- بكتمان أمره حتى لا تؤذيه قريش وبالرجوع إلى قومه ليخبرهم لعلهم يهتدون. وفي هذا دليل على أن من كان في مثل ذلك الحال من خوف وعدم القدرة على العدو يجوز له أن يتكتم ودليل على أن من هداه الله كان حقاً عليه أن يسعى في هداية قومه. لكن أبا ذر الذي كان متكتماً خائفاً من يوم قدومه إلى مكة إلى ساعة إسلامه أبى بعد إسلامه أن يبقى متكتماً وأصبح لا يخاف قريشاً ولا يبالي بما يلحقه منها من أذى وأقسم أن يعلن إسلامه وسط مجامع قريش وأقره النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على ذلك وفيه دليل على من أراد أن يتحمل الأذى ويعرض نفسه للهلاك في سبيل إعلان كلمة الحق وإظهار قوة الإيمان وإدخال الرعب والغيظ على قلب العدو كان ذلك حسناً من فعله. وبر أبو ذر في قسمه فقصد إلى المسجد حيث نوادي قريش ومجتمع الملأ منهم وصاح بكلمتي الشهادة. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} في لحظة تبدل أبو ذر من الخائف المتكتم إلى المعلن الذي لا يبالي بالموت، ولقد كادت قريش تقتله لولا أن أنقذه منها العباس بما خوفها به على أموالها من قبيلة غفار ولكن أبا ذر القوي الإيمان الصادق الإسلام أراد أن يعود إلى إرغامهم وإغاظتهم بعد ما ذاق وتحقق من إذايتهم ليعلمهم أنه أقدم على ما كان أقدم عليه عالماً بإذايتهم غير مبال بها فعاد إلى الإعلان وعادوا إلى ضربه وعاد العباس إلى إنقاذه فرجع بعدئذ إلى قومه- وقد استنار قلبه بالإيمان واشتفى من قريش- خير قافل بخير هدية فدعاهم إلى الإسلام فأسلم على يده أخوه وأمه وكثير من قومه (1).

_ (1) ش: ج 1، م 11، ص 14 - 16 محرم 1354ه - أفريل 1935م.

أبو ذر الغفاري -2 -

أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ -2 - عمله: العلم ثمرة النظر الصحيح والفهم الثاقب ودوام التحصيل. وقد كان حظ أبى ذر موفورا من هذه كلها ففي الجاهلية قبل أن يلتقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى لله وتوجه وحده رواى مسلم في صحيحه (1) عن عبد الله بن الصامت في قوله:" وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث سنين قلت: لمن قال: قال لله قلت فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي. اصلي العشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت (انطرحت) كأني خفاء (الغطاء من الكساء أو غيره من الثياب) حتى تعلوا الشمس " فالنظر الصحيح والفهم الثاقب هما أدياه - بإذن الله -إلى هذا الأمان وتوحيد في تلك العبادة وجاهلية والجهلاء، وساقاه إلى البحث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وسرعة الأيمان في السباقين الأولين. أما مداومته لتحصل لانه صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من يوم قدم المدينة - وكان قدومه إلى الخندق إلى بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان (2) يوازي ابن مسعود في العلم (3) وقال فيه علي

_ (1) كتاب الفضائل. (2) الإصابة. (3) الإصابة عن سنن ابن داود.

زهده وورعه

بن أبى طالب - رضي الله عنه - "أبو ذر وعاء ملىء علماً ثم أوكئ (ربط فم الوعاء بالوكاء وهو الرباط) عليه". كان أبو ذر يأخد نفسه بأعلى درجات الزهد والتقلل من الدنيا ويريد حمل الناس على ذلك بشدة في الحق وصراحة فيه فلم يستطع الناس ذلك وما كانوا ليستطيعوه فكانوا يبتعدون منه وكان هو يحب الانفراد عنهم فلم يتأت نشر علمه فيهم. وهذا هو الذي عناه علي - رضي الله عنه - بقوله: "ثم أوكئ عليه". زهده وورعه: خرج من الدنيا ولم ينشب (يتعلق) منها بشيء وكان يتحرى عيشة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا يمسك من المال ما يزيد على ما لا بد له منه لقوته وقوة عياله (1). شبهه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعيسى عليه السلام وقال فيه يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم. وهذا يدل على أن المنزلة التي كان يلتزمها ليست مما يستطيعه جميع الناس ولا مما يكون تكليفا لازما عاما لهم. صدقه وصدعه بالحق: قال فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم (2) - «ما أظلت الخضراء (السماء) ولا أقلت (رفعت) الغبراء (الأرض) من ذي لهجة (لسان) اصدق ولا أوفى من أبي ذر» فكان كما وصفه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول الحق على الوفاء والتمام صراحة دون تورية ولا تعريض ولا مسامحة لشيء فيه مع أي أحد من الناس ولو استاءوا وغضبوا وقد كان هذا حاله من يوم إسلامه إلى أخر أيامه وقد ذكرنا في الجزء

_ (1 و2) الترمذي.

الماضي إعلانه في بإسلامه بين ظهراني المشاركين وكانت مواقفه بعد ذلك مع معاوية - رضي الله عنه - وغيره في مسألة المال كما سيأتي إن شاء الله مما لم يراع فيه خليفة ولا أميراً من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم ورزقنا الاقتداء بهم (1).

_ (1) ش: ج 2، م 11، ص 82 - 83 غرة محرم 1354ه - ماي 1935م.

أبو ذر الغفاري -3 -

أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ -3 - تربيته: تثبت الصحبة بمطلق الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع الإيمان به والموت على ذلك ولكن خواص أصحابه هم الذين لازموه وتفقهوا عليه وتربوا تحث رعايته، وهؤلاء هم هم الذين ثبتوا على الإسلام لما ارتد العرب بعد موته وثبت الله بهم الإسلام وكان ذلك - بإذن الله - من آثار الفقه في الدين والتربية النبوية. كان أبو ذر ممن لازموا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتفقهوا وتربوا وظهرت آثار تلك التربية في حياته بعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم. كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرف أخلاق أصحابه ونفسياتهم ومقدار استعدادهم فكان يعالج كل قسم بعلاجه ويوجهه في الحياة حسب استعداده، وقد تختلف أجوبته في بيان المقدم من أشياء بحسب حال السائل وحاجته وقد يحذر أحدا من شيئ ويقدم غيره إليه حسب قدرة هذا عليه وضعف ذلك عنه. وفي تربيته لأبي ذر مما سنذكره ما يبين ذلك: كان في أبى ذر شدة وكان لا يتسع صدره لما يرى مما يكره فكان يحب الوحدة والإنفراد (1). وأول ما كان من شدته في أول

_ (1) محبته للوحدة قالها ابن عباس، الطبري ج 5 ص 67.

أمره أنه ساب راحلا من الموالي - ذكر بعضهم أنه بلال -فعيره بأمه وقال له يا ابن السوداء فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم (1) "يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية" فأنكر عليه تعييره بأمه وبين له أن فيه خلقا من أخلاق الجاهلية وهوا التعظم بالأنساب ثم بين له أدب الإسلام -دين الأخوة والعدل والإحسان الذي لا يفرق بين الأجناس ولا يفضل أحدا على أحد إلا بتقوى الله- فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - له: «إخوانكم خولكم (خدمكم) جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» فتربى أبو ذر بهذه التربية النبوية فلم تبقى له شدة إلا في الحق وكان يعامل مملوكه بما ندبه به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان يلبسه مثل لباسه فلقيه المعرور بالربدة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسأله عن ذلك إذ العادة جارية بأن لباس الغلام دون لباس مولاه فأجابه أبو ذر بالحديث المتقدم ليبين له أنه عامل بالوصاية النبوية. كان أبو ذر شديدا في الحق وكان من مقتضى شدته أن لا يتسع صدره لما يرى مما يكره، فكان بهذا لا يستطيع معاشرة الناس ولا معاملتهم إذ لا بد أن يكون في الناس ما لا يرضيه منهم فهو لهذا يحب الانفراد عنهم وهو لهذا وذاك ضعيف عن القيام بالحكم بين الناس وعن الولاية على المال والرعاية للأيتام فلما قال للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ألا تستعلمني (2) قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها». فحذره من

_ (1) البخاري ومسلم. (2) رواه مسلم.

الأمارة وبين له أنه ضعيف عنها فإن صدره لا يتسع لما يرى من الخصوم ولددهم وتغالبهم بالحق وبالباطل. وقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرة أخرى: «يا أبي ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم» فنهاه عن أقل الإمارة الإمارة على اثنين وزاد فنهاه عن ولاية مال اليتيم إذ ولاية المال تقتضي حفظه وتثميره وذلك يجر إلى المعاملة والخلطة وهو ضعيف بخلقه عنهما وعنى - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «إني أحب لك ما أحب لنفسي» ما يحبه لنفسه من جلب النفع ودفع الضر لا عين ما نهاه عنه بسبب ضعفه. وهكذا تربى أبو ذر وبهذه التربية النبوية المراعي فيها طبعه وحاله فكان بعيدا عن الإمارة وما إليها زاهدا في الدنيا زهدا أبعده عن جميع أسبابها وأبنائها حتى لقي الله، رحمه الله. (1)

_ (1) ش: ج 3، م 11، ص 149 - 151 غرة ربيع الأول 1354ه - جوان 1935 م.

أبو ذر الغفاري -4 -

أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ -4 - مذهبه في المال: أوجب الله الزكاة وجوبا عينيا على من وجدت لديه أسبابها وتوفرت فيه شروطها فهي الحق الثابت في الأموال المقدرة المعلوم وفي المال حقوق أخرى للقيام بالمصالح العامة كفك الأسير وتجهيز الميت وغير ذلك فإذا لم يتول ذلك بعض الناس ليسقط الطلب عن جميعهم تعين عليهم كلهم أن يعطوا كل بحسب ما عنده لتحصيل ذلك الواجب على جماعتهم فهذا الحق الثابت في المال ليس مقدرا لأنه يختلف باختلاف الأحوال. وقد كان معلوما بنقل التواتر وإجماع أئمة الأمصار أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كان يأخذ جزءا من المال ويترك الباقي لصاحبه وقد صحَّ عنه قوله -صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس فيما دون خمس أوراق صدقة» أي زكاة. لكن (1) أبا ذر كان يرى أنه لا يجوز إدخار الذهب والفضة بعد أداء زكاتهما ويحتج على ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}

_ (1) أنظر أحكام الجصاص فى تفسر الآية.

جواب الأئمة عن استدلاله

وبقوله (1): - صلى الله عليه وآله وسلم - له: «ما يسرني أن لي أحداً ذهبا تأتي ثالثة (أي ليلة) وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين علي». وبأحاديث أخرى في هذا المعنى. جواب الأئمة عن استدلاله: لما جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بأن الأخذ إنما يكون لبعض الأموال وجب رد الآية المتحملة إليها. فقول الله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} معناه ولا ينفقونها كلها وهؤلاء هم الذين لم يعطوا شيئا منها وهم مانعو الزكاة فلا تصدق الآية على الذين أنفقوا بعضها وهم المزكون. وأما الأحاديث فهي محمولة على الترغيب في البدل وهي حالة فضل لا تجب على الناس ولو وجبت عليهم لما استطاعوا. والواجب هو الذي يعم وأما الفضل فإن الناس يرغبون فيه ويأتي كل منهم بما استطاع وهم على ذلك متفاوتون وقد قبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أبي بكر - رضي الله عنه - التصدق بجميع ماله ورد على من أراد التصدق بمقدار بيضة من ذهب بعين كل ما يملك صدقته بجميع ما يملك ونهى عن ذلك (2) فأصاب أبو ذر فيما اختاره لنفسه من الزهد وعدم الادخار ولكنه أخطأ فيما أراد من حمل الناس على حالة فضل لم يوجبها الله تعالى عليهم ويستطيعوها. إعلانه رأيه وإثارته الفقراء: كان أبو ذر الغفاري يعلن برأيه في مجامع الناس بالشام ويندد بالأغنياء غير مكتف منهم بإخراج الزكاة ويقول: "يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في

_ (1) مسلم. (2) سنن أبي داوود فى كتاب الزكاة.

حرية النظر

سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم" (1) فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وحتى شكا الأغنياء لمعاوية - وهو أمير الشام من طرف عثمان - رضي الله عنه - ما يلقونه من الناس. ولو لم يبادر عثمان - رضي الله عنه - باستقدام أبي ذر - رضي الله عنه - إلى المدينة لاتسع نطاق الفتنة بالشام. حرية النظر: قد خلف أبو ذر إجماع الصحابة بنظريته السابقة مع قيام الدليل القطعي من النقل المتواتر والنصوص القرآنية الكثيرة المتضافرة على خلاف رأيه، وكان خلافه هذا في مسألة من كبريات المسائل. ومع ذلك تركوا له حرية نظره ولم يلق منهم من أجلها أدنى ضغط ولا أقل تحقير فكانوا بذلك منفذين لما جاء به الإسلام من احترام الآراء وحرية النظر والتفكير. النتيجة: فأبو ذر بمذهبه هذا في المال كان شاذاً بين الصحابة - رضي الله عنه - مخالفا لإجماعهم ولم يتعرضوا له في نظره واجتهاده إلا عندما خشوا من بثه الفتنة على الناس. وقد كان أبو ذر بمذهبه الشاذ هذا أول اشتراكي في المال من المسلمين في أول عصور الإسلام وإن لم يعمل بمذهبه في سائر عصوره (2).

_ (1) الطبري ج 5، ص 66 (2) ش: ج 3، م 11، ص 209 - 211 غرة ربيع الثاني 1354ه - جوان 1635م.

أبو ذر الغفاري -5 -

أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ -5 - استقدام عثمان - رضي الله عنه - له من الشام: كان أبو ذر بالشام وكان معاوية أميرا بها لعثمان وكان أبو ذر يتكلم في المجامع ينكر على معاوية أن يقول مال الله يتهمه بأنه يريد أن يمحو عنه اسم المسلمين ليحتجنه دونهم ويندد بالأغنياء أن يقتنوا الأموال وحدثت بسبب ذلك فتنة من الفقراء على الأغنياء وأعضل الأمر على معاوية فكتب إلى عثمان يخبره بالحال، ويشكو إليه أبا ذر، فكتب إليه عثمان أن أبعث أبا ذر، ووصاه بتزويده والرفق به، فلما دخل على عثمان قال له: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذَربَك (حدة لسانك)؟ فصارحه بما كان ينكر عليهم وعلى معاوية فقال له عثمان: "يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي، وآخر ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد". فقه عثمان: في أسفار التاريخ كلمات كبيرة كثيرة لرجال سلفنا من الخلفاء والأمراء والقواد تدل على عظيم فقه في الدين وكبير علم بسياسة الأمة وتدبير شؤونها مما يجمع بين تفقيه الدين وتعليم للحكم والتبدير. منها كلمة عثمان هذه لأبي ذر فقد بينت ما على الأمير في نفسه وما عليه في رعيته وأنه لا يجوز حمل الرعية وجبرها على ما لم

_ (1) الطبري ج 5، ص 66.

توضع عليه الفطرة العامة في البشر من الكمالات الإنسانية كعدم التوسع في اقتناء المباحات من الأموال. وأنه إنما على قادة الأمة أن يدعوها إلى تلك الكمالات ويرغبوها فيها، فيرغبوها في الاجتهاد في العمل والاقتصاد في الاقتناء للأموال - في مسألة أبي ذر -فبذلك يتربى الناس على العمل والاجتهاد فلا يمدون أعينهم لما في أيدي الناس ويتربون على البذل والسخاء فيما يحصلون من ثمرات كدهم فيجمعون بين العمل والغنى والسخاء. والأمة التي تبني حياتها على هذه الأوصول هي الأمة التي تترقى بجميع طبقاتها في ماديتها وروحانياتها فكلام هذا الإمام العظيم المأخود من أصول الإسلام قانون عظيم في سياسة الأمة وتربيتها ومثل من يفقه هذا الفقه هو الذي يصلح لولاية أمر العامة. وأبو ذر - وإن كان فقيها في الدين - فإنه بطبعه الإنفرادي ونفرته من الناس لم يكن ليفكر في هذا ولا ليتفطن له ولذا لم يكن صالحا لشيء من الإمارة. وقد قدمنا نصح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له أن لا يتأمر على اثنين فسبحان من قسم الأخلاق والأرزاق، والعلوم والفهوم، ثم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونوجه كلا لما هو أهل له وله مقدرة عليه. فقهنا الله في ديننا وعرفنا بأقدارنا واستعملنا فيما نبلغ فيه إلى رضاه (1).

_ (1) ش: ج 5، م 11، ص 282 - 283 غرة جمادي الأولى 1354ه - أوت 1935م.

أبو ذر الغفاري -6 -

أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ -6 - خروجه إلى الربذة: أدرك أبو ذر بعد قدومه على عثمان أنه لا يستطيع مخالطة الناس فاستأذن عثمان في الخروج إلى الربذة فأذن له أو أن عثمان قال له: "أو اعتزلت" عرض عليه ما رآه أصلح له فاختار الربذة وعلى كلتا الروايتين لم يأمره عثمان بالخروج حتى يقال فيه أنه قد نفاه كما يقوله المتجنون على عثمان رضي الله عنه. خرج أبو ذر الربذة (1) فخط بها مسجدا واقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين أرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيا. وقد نهوا عن التعرب بعد الهجرة لما في التبدي والانقطاع عن الجماعة عن الجماعة ومشاهد العلم والدين من الجفوة. تحذير: قد ابتلى عثمان بأنواع من البلايا منها ما ينقمه عليه قوم بالباطل فمن ذلك نقمتهم عليه نفيه أبا ذر وقد رأيت فيها ذكرنا أنه لم ينفه. ثم هبه نفاه بالنظر المصلحي كان ماذا؟ (2) فقد روي أن عمر - رضي الله عنه - سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استشهد فأطلقهم عثمان وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن الرسول الله

_ (1) الطبري ج 5 ص 66. (2) العواصم ج 2 ص 106.

وفاته

صلى الله عليه وسلم وهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - نقم على عثمان أنه لم يدخله في كتابة المصحف، وقدم زيد ابن ثابت - رضي الله عنه - مع أن عثمان قد كان مقتديا بأبي بكر - رضي الله عنه - وقد قدم زيد بن أبي ثابت لجمع المصحف دون ابن مسعود ولم يقل يوم ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - عنه شيئاً وقد راجع ابن مسعود الحق وقبل ما صنع عثمان. فعلى النظر في تاريخ عثمان - رضي الله عنه - أن يتثبت ويتحرى حتى لا يقع في ظلم وباطل في حق هذا الإمام الشهيد العظيم. وفاته: توفي بالربذة في ذي الحجة من السنة الثامنة من خلافة عثمان وحضر دفنه ابن مسعود في ركب كانوا قافلين من الحج وضم عياله عثمان إلى عياله. وطويت بوفاته صفحة من حياة زكية فاضلة شاذة في عصر الخير والفضل بين فضلاء أخيار من أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بتشدد في الزهد ونظريته في المال ما كرهوا له منهما إلا ما أراده من تعميمها في الناس. فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة التي كانت تمثل الكمالات الإنسانية بأنواعها، وتتفاوت في بلوغ الغايات منها لتكون قدوة لمن يجيء بعدها كل بما فيه من استعداد لما خلق له من أنواع الكمال. فجازاهم الله خير الجزاء ورزقنا الاقتداء بهم ولزوم جماعتهم حتى نلقاه ... جل جلاله ... غير مبدلين ولا مغيرين (1).

_ (1) ش: ج 6، م 11، ص 349 - 350 غرة جمادى الثانية 1354ه سبتمبر 1935م.

سيدنا بلال الحبشي

سيدنا بلال الحبشي - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ نسبه: هو ابن رباح مولود بمكة وأصله من الحبشة وأمه (1) حمامة من السابقات كانت تعذب في الله مثله. إسلامه: لما دعى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الإسلام أجابه ضعفاء الناس سنة الله في إخوانه الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلم- من قبله. قال (2) عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد, فأما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول:"أحد أحد". وليس في هؤلاء المستجيبين لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -من نفس قريش إلا أبو بكر وبقيتهم بين مولى وحليف وقد كان بلال أسبق هؤلاء بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

_ (1) البخاري. (2) في الصحيحين.

تعذيبه في الله وصبره

تعذيبه في الله وصبره: عدت قريش على المستضعفين تعذبهم وتفتنهم لِتَصرفهم عن الإسلام فكان أمية بن خلف الجمحي يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال كذلك حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيصبر بلال على ذلك العذاب ويقول وهو في ذلك البلاء: "أحد أحد". ويأبى أن يقول كلمة الكفر بلسانه وقد علم أنه لا إثم على من يقولها بلسانه إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ويأبى أن يترخص كما ترخص إخوانه المستضعفون وأن يواتي ويوافق كفار قريش ولو بكلمة واحدة. ترجيح واقتداء: الحالة التي كان فيها بلال من الصبر والثبات والإباية من شيء من الترخص- أرجح من حالة الترخص وإن كانت هذه سائغة جائزة إذ في الحال الأولى إقامة التوحيد وإرغام المشركين وتثبيت للدعوة وجلب إليها وتقوية لقلوب المستجيبين لها وضرب المثل لكل من أصيب وعذب في الحق ولو أن جميع المبتلين ترخصوا لخفتت كلمة التوحيد وطغت كلمة الشرك وازداد ظلم أهلها ولتزلزلت الدعوة واضطربت قلوب ضعفاء الإيمان وأعرض عنها كل من لم يكن قد استجاب. ولا شك أن حالة الصبر وعدم الترخيص هي حالة الأنبياء- صلوات الله عليهم- وحالة الكبَراء من أصحابهم حتى قتل منهم من قتل وعذب منهم من عذب كما قص أخبارهم القرآن العظيم. عتقه: كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - داعية الإسلام من يوم أسلم وكان بلال ممن استجاب له فلما رأى ما حل به من عذاب اشتراه

جهاده

فأعتقه فكان سبباً في عتقه من الرق وعتقه من العذاب وعتقه من الكفر. كما اشترى أمه حمامة وأعتقها في آخرين من العبيد الذين عذبوا في الله. فيا له من عتيق معتق رضي الله عنه. جهاده: شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المشاهد كلها وبعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - خرج إلى الشام مجاهداً حتى مات بها مرابطاً. والتقى في غزوة بدر بأمية بن خلف وقد أسره عبد الرحمن بن عوف قبل أن يجمع الأسرى فقتله فمكنه الله من عدوه الذي كان يعذبه ذلك العذاب حتى قتله بيده. وظيفته: كان أول من أذن في الإسلام واستمر يؤذن حياة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحياة أبي بكر - على إحدى الروايتين - وأذن مرة بالشام لما قدمها عمر فبكى وأبكى: ذكر الناس بأذانه عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. جزاء الحكيم: كان بلال- وهو يقاسي العذاب الشديد- يلهج باسمه تعالى: "أحد" فيخف ما يلقاه من ألم التنكيل بلذة التوحيد فكان من جزاء الله الحكيم له أن جعله مؤذن نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- وأول من رفع عقيرته بكلمة التوحيد في الآذان. عرف الله في الشدة. فعرفه الله في الرخاء لم يترك اسم أحد في أصعب أوقات حياته فألزمه الله التعبد بالجهرية على الناس معظم حياته. فكان الجزاء من جنس العمل من الحكيم العليم.

ثناء عمر - رضي الله عنه -

ثناء عمر - رضي الله عنه -: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا" يعني بلالا فقرنه بأبي بكر في سيادتهم اعترافاً له لما كان من سبقه للإسلام وصبره على البلاء فيه وما كان عليه في دينه وفضله ومكانته عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد كان عمر - رضي الله عنه - شديد التعظيم للسابقين الأولين والتقديم لهم وخصوصاً أهل المنازل الخاصة عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قال لابنه عبد الله بن عمر لما رجح عليه أسامة بن زيد في العطاء: كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منك وكان أبوه أحب إليه منك هذا وإن كانت منزلة عمر - رضي الله عنه - معروفة في الفضل لكنهم هذه أخلاقهم - رضي الله عنهم - ينسون أنفسهم عندما يتحدَّثون على فضل غيرهم حتى كأنهم لا يعرفون لأنفسهم فضلاً. تبشيره بالجنة: راى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة أنه دخل الجنة وسمع (1) خشف نعْلي بلال بين يديه في الجنة فقال له حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فقال بلال ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي (2) وكان لا يحدث إلا توضأ وصلى. فكان يصل الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة فلا يكون إلا على طهارة ولا تنفصل طهارته عن الصلاة فهذه الطَّهارة الدائمة والصلاة الملازمة هي التي عدها أرجى أعماله في الإسلام عنده منفعة. ذلك

_ (1) صوتها عند تحركها في المشي. (2) في مسند أحمد.

سنه ووفاته

لأن هذه الطهارة الدائمة في الظاهر دليل الطهارة الدائمة في الباطن. وعلى طهارة الباطن تنبني جميع الأعمال وقد عمل هو هذا العمل يرجو منفعته عند الله - كما هي وضعية الإسلام للطاعات كلها - فحقق الله رجاءه. وكان ما رآه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من وجوده في الجنة بين يديه بشارة له بأنه من أهل الجنة وأنه بمنزلة القريبة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكما كان خادماً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يمشي بين يديه في الدنيا كذلك رآه في الجنة تنبيها على أن كل خير ناله - مثل كل من نال شيء من الخير - هو من أتباعه للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والقيام بخدمته. وفي هذا كله منقبة عظيمة له بجليل عمله. وبشرى صادقة بعظيم ثوابه عند ربه رضي الله عنه. سنه ووفاته: مات بالشام في طاعون عمواس سنة عشرين وقد ناهز السبعين، ودفن بمقبرة دمشق وقيل بحلب فرحمه الله وجمعنا به في دار النعيم آمين (1).

_ (1) ش: ج 9، م 11، ص 501 - 504 غرة رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.

عكاشة بن محصن

وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» عكاشة بن محصن - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ إسمه ونسبه: العكَّاشة، بشد الكاف وتخفيفها، العنكبوت وبه سمي وهو ابن محصن من بني أسد بن خزيمة حليف لبني أمية. سبقته ومشاهده: من السابقين الأولين، شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد، واستشهد في حروب الردة قدمه خالد بن الوليد هو وثابت بن أقرم العجلاني طليعة يوم بزاخة لقتال طليحة الأسدي، تعاون عليه طليحة وأخوه سلمة فقتلاه بعد ما قتل سلمة ثابتا، فمات شهيداً - رحمه الله -. أخبار تتعلق به: 1 - سبقك بها عكاشة: ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر» فقام عكاشة بن محصن فقال: أدع الله أن يحعلني منهم. فقال: «اللهم اجعله منهم»، ثم قام رجل آخر فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «سبقك بها عكاشة»، فجرت هذه الكلمة النبوية مثلاً يضرب لمن أراد أمراً قد سبقه به غيره.

بيان

بيان: كانت ساعة إجابة وانقضت فبردت الدعوة لصاحبها أو كان يستحق الدعوة من سبق إليها برغبته مبتدئا دون من جاء ثانيا تابعا. وفضيلة السبق لها أثرها. 2 - سيفه الذي يسمى العون: كان عكاشة قد أبلى البلاء الحسن يوم بدر فضرب بسيفه حتى انقطع في يده فناوله رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- جذلا من حطب وقال قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه وهزه عاد في يده سيفاً صارماً طويلاً. بيان: ذكر هذا إبن إسحاق وغيره. وانقلاب الجذل سيفا هو من جنس ما تواتر تواتراً معنوياً أمن تأثر المواد الجامدة بلمسه أو دعائه. والذي كمل الله روحه حتى تزكت على يده نفوس تلك الأمة الأمية المنغمسة في حمأة الشرك، والوثنية حتى كان منها في أقرب وقت هداة البشرية ليس بكثير في حقه أن تتأثر بلمسه الجمادات. إقادة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- له من نفسه: روى أبو نعيم في "الحلية" حديثا في وفاة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- مطولاً وفيه ان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أعطى قضيباً لعكاشة ليقتصَّ لنفسه من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بضربة كان ضربه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إياها بذلك القضيب، وهو حديث موضوع. قال السيوطي: آفته عبد المنعم. وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع لا محالة. كافأ الله من وضعه، وقبح من شين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد والكلام الذي لا يليق بالرسول ولا بالصحابة، والمتهم عبد المنعم بن ادريس. قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على

تنبيه وتحذير

وهب، وقال: يحبئي كذاب خبيث، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على أبيه وعلى غيره اهـ. تنبيه وتحذير: ذكرنا هذا الحديث الموضوع الذي رواه أبو نعيم في كتابه (حلية الأولياء) لننبه على وضعه ولنحذر قرَّاء "الحلية" وقد طبعت منها أجزاء، من الاعتماد على كل ما فيها فإن كثيراً من المنتسبين للعلم يغترون باسم الكتاب واسم المؤلف فيتناولون كل ما فيه من الأحاديث بالقبول والتسليم كأنه ثابت صحيح مع أننا نجد فيه مثل هذا الحديث الموضوع الذي قد قال فيه ابن الجوزي ما قال. القدوة: هذا الصحابي البدري الجليل قد دل بسؤاله الدعاء أن يكون من السبعين على حرصه على الكمال ورغبته في الفوز بأعلى الدرجات، وخوفه من الحساب، ولم يكن سؤاله ذلك منافياً لإخلاصه لله في عبادته ولا حاطًّا شيئاً من درجته، بل كان سبباً لفوزته بتلك الدعوة ونيله تلك المنزلة، فنعم القدوة هو -رضي الله عنه- في العمل لله مع الرجاء في فضله وطلب المزيد منه، والخوف من عقابه وطلب البعد عنه. هذه هي سنة عباد الله الصالحين وفيها أبلغ الرد على المتنطعين المتكلفين. رزقنا الله اتباعهم في هديهم هدي محمد- صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي عنهم وأرضاهم (1).

_ (1) ش: ج 1، م 13، ص 9 - 11 غرة محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.

الربيع بنت معوذ

الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ - رضي الله عنها - ــــــــــــــــــــــــــــــ إسمها ونسبها: هي الربيع بنت معوذ من بني عدي بن النجار الأنصارية. سابقتها ومشاهدها: ممن حَضرن بيعة الرضوان وكانت ممن يغزون مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من النساء كن يخدمن الجيش ويسقين الماء ويقمن على الجرحى فيداوينهم ويحملنهم فيرددنهم إلى المدينة. قدرها ومنزلتها: كان لها قدر عظيم ومنزلة رفيعة فقد كانت من بيت شهد عدة من رجاله بدراً ومنهم من استشهد بها وهي من الغازيات كما تقدم. ومن قدرها هذا أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- جاءها غداة عرسها فقعد على فراشها وجعلت جويريات من الأنصار يضربن بالدف ويذكرن من قتل من آبائها يوم بدر، وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- يسمع ويقرهن على ضربهن وغنائهن حتى قالت إحداهن: "وفينا نبي يعلم ما في غد" فقال لها: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين». حكاية طريفة عنها: كانت يوماً في نسوة فدخلت عليها أسماء بنت مخربة تبيع العطر - وأسماء هذه أم أبي جهل- والربيع أبوها أحد من قتل أبا جهل-

الفوائد والأحكام

فلما عرفتها أسماء قالت لها: أنت ابنة قاتل سيده؟ قالت الربيع، بل قاتل عبده: فقالت أسماء: حرام علي أن أبيعك من عطري شيئاً، قالت الربيع: حرام على أن أشتري منه شيئاً، وقالت- لتغضبها-: ما وجدت لعطرتنا نمير عطرك، وافترقتا على غضب وقطيعة. الفوائد والأحكام النساء في الحرب: ما كانت تقوم به الربيع ومن معها من النسوة في الغزو أصل لتأسيس فرقة النسوة الممرضات في الجيش، ويستتبع ذلك لزوم تهيئتهن لذلك بتعليمهن- غير مخلطات بالرجال- ما يحتجن إليه في الحرب من القيام بعملهن والدفاع عن أنفسهن واستعمال ما يقيهن من الهلاك مع تدريبهن على ذلك كله وتمرينهن عليه، لأن الشارع قد أقر هذه المصلحة فكل ما تتوقف عليه في أصلها أو كمالها وإتقانها فهو مشروع. إقرار الحق وإنكار الباطل: الضرب بالدف والغناء في العرس وذكر الأموات بمحامدهم ومقاماتهم- كل هذا مشروع، فأقر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الجويرات عليه. أما علم أحد من الخلق: الأنبياء فمن دونهم بما يكون في المستقبل فباطل ممنوع، قوله واعنقاده، ولهذا نهاهن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- عنه وأمرهن أن يعدن إلى ما كنَّ فيه، ولا ينافي هذا أن الله قد يطلع أنبياءه- عليهم الصلاة والسلام- على بعض ما يكون في المستقبل لأنه علم محدود في شيء مخصوص، كان باعلام الله فلا يتجاوز علمهم إلى ما عداه مما في أحشاء المستقبل من الغيب، ولا لما في الحال منه مما لم يعلموا به، وهكذا كانت سنته

حزازات النفوس

- صلى الله عليه وآله وسلم- يقر الحق ويرتضيه وينكر الباطل وينفيه. حزازات النفوس: لم تستطع الأيام ولا الدخول في الإسلام، أن تمحو أثر حزن أسماء على قتل أبي جهل أبيها فما عرفت ابنة أحد قاتليه حتى نفثت بما في صدرها ولم تستطع أن تعامل- بالبيع والشراء- من رأت في وجهه وجه قاتل أبيها، ولا يقدح هذا في إسلامها لأن ما كان منها كان عن طبع لا تقوى خلقة الأنثى على مقاومته. ومن هنا نعلم أن مما تتحتم مراعاته في النساء هو هذه الناحية الضعيفة الحساسة فيتحرز دائماً من عدم إثارة ما يحرك ما تبقى آثاره كامنة في نفوسهن من فقد عزيز أو لحوق مكروه. القدرة: هؤلاء السيدات الصحابيات رضي الله عنهن قد كن يشاركن الرجال في الحرب وهي أبعد الأشياء عن طبعهن ويقمن معهم بما يليق بهن فلنا فيهم وفيهن القدوة الحسنة أن نشرك معنا نساءنا فيما نقوم به من مهام مصالحنا ليقمن بقسطهن مما يليق بهن في الحياة- على ما يفرضه عليهن الإسلام من صون وعدم زينة وعدم اختلاط، ولن تكمل حياة أمة إلا بحياة شطريها: الذكر والأنثى. نسئل الله أن ينهض بنا رجالاً ونساء في خدمة الإسلام وفي دائرة الاسلام إنه القريب المجيب (1).

_ (1) ش: ج 3، م 13، ص 81 - 83 صفر 1356ه - 13 أفريل 1937م.

سمية بنت خياط

سمية بنت خياط - رضي الله عنها - ــــــــــــــــــــــــــــــ بيتها: هي أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، زوَّجها لحليفه ياسر العنسي، فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة، فبيتها يرتبط- ولاء وحلفا- ببني مخزوم من قريش. إسلامها وسابقتها: من السابقين الأولين هي وزوجها وولدها. تعذيبها واستشهادها: كانت هي وزوجها وابنها يعذبون أشد العذاب في الله فيأمرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: «صبراً يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». فقتل زوجها في العذاب وأعطى عمار بلسانه ما سأله منه المشركون وفيه وفي مثله نزل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وأما هي فإن أبا جهل طعنها بالحربة في قُبُلها حتى قتلها، وهي يوم ذاك عجوز كبيرة ضعيفة فكانت أول شهيد في الإسلام. أوليات النساء في الإسلام: لا تقوم الحياة إلا على النوعين اللذين يتوقف العمران عليهما، وهما الرجال والنساء، وفي الإسلام كتابه وحياة رسوله- صلى الله

الأسوة

عليه وآله وسلم- وتاريخ بدايته- آيات وأنباء ووقائع تدل على ذلك وتدعو إلى اعتباره والعمل بموجبه. وانظر إلى حظ المرأة في السَّبق إلى تأييد الإسلام بالنفس والمال، والعطف والحنان، فأول مال وجده رسول الإسلام- صلى الله عليه وآله وسلم- هو مال خديجة، وأول عطف لقيه، وأول قلب انفتح لسماع كلمة النبوة- كما في حديث بدء الوحي- هو عطف خديجة وقلب خديجة، وأول شهيدة في الإسلام - كما اتفق عليه علماء السيرة- هو سُمية. فلن ينهض المسلمون نهضة حقيقية إسلامية إلا إذا شاركهم المسلمات في نهضتهم في نطاق عملهن الذي حدده الإسلام وعلى ما فرضه عليهن من صون واحتشام. الأسوة: هي سنة الله عرفناها في تاريخ البشرية، لا بد في سبيل الحق من ضحايا. ولقد كانت هذه العجوز الضعيفة مثلاً رائعاً في الصبر والثبات واليقين حتى فازت بتلك الأولية. وكانت في ذلك أحسن قدوة - لا لخصوص النسوة- بل لأهل الرجولة والقوة. فاللهم إيماناً كإِيمان هذه العجوز وصبراً كصبرها، وشهادة كشهادتها، آمين يا رب العالين (1).

_ (1) ش: ج 2 م 13، ص 125 - 126 غرة شعبان 1356ه - ماي 1937م.

هند بنت عتبة

هند بنت عتبة - رحمها الله - ــــــــــــــــــــــــــــــ هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف زوجة أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس وأم معاوية بن أبي سفيان، أسلمت يوم فتح مكة بعد إسلام زوجها. كيف أسلمت: بات المسلمون الليلة الموالية ليوم الفتح يصلون بالمسجد الحرام فرأت هند منهم ما لم تعهد، فقالت والله ما رأيت الله عبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً. وأرادت المجيء إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وخافت من ماضيها في الجاهلية فذهبت إلى عمر فجاء معها فاستأذن لها فدخلت وهي متنقبة فأسلمت ولما بايع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- النساء وهي معهن ومن الشرط فيها، أن لَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ، قالت هند: وهل تزني الحرة وتسرق يا رسول الله؟ فلما قال: وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ، قالت: قد ربيناهم صغاراً وقتلتهم ببدر كباراً. ثم رجعت إلى بيتها فجعلت تضرب صنماً لها بالقدوم حتى فلذته فلذة فلذة وتقول: كنا معك في غرور. صدق إسلامها: أسلمت متأثرة بما رأت من حال المسلمين وبادرت إلى كسر صنمها وأصبحت تريد أن تعرف ما يحل لها وما يحرم في الإسلام فشكت إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت أنَّ أبا سفيان رجل مسيك بخيل وأنه لا يعطيها من الطعام ما يكفها وأولادها إلا ما أخذت منه بغير

أخلاقها

علمه فهل عليها من حرج؟ فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك أنت وولدك، فما كانت تفعله قبل إسلامها ولا تتحرج منه أصبحت بعده متحرجة تسأل عن حكم الله فيه وما ذلك إلا من صدق إِسلامها وإخلاصها فيما آمنت به. أخلاقها: كانت امرأة لها نفس وأنفة وفيها صراحة وجرأة واعتداد بنفسها وقصتها في الجاهلية مع أول أزواجها الفاكه بن المغيرة وقصة اختيارها للأزواج وغيرها مظهر من مظاهر هذه الأخلاق. وما في حديث إسلامها من مراجعتها للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- من تلك الأخلاق، وأهل هذه الأخلاق إذا كفروا كفروا وإذا أسلموا أسلموا بصدق وكذلك كانت هند في جاهليتها وإسلامها. عبرة وقدوة: أنظر إلى الإسلام الصادق كيف تظهر آثاره في الحين على أهله وكيف يقلب الشخص سريعاً من حال إلى حال وبه تعرف إسلاماً من إسلام. وانظر إلى حلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كيف قابل هذه المرأة التي كان منها ما كان في يوم أحد من أقوال وأعمال فضرب عن ذلك كله صفحاً وكيف واجهته بما واجهته به عند قوله: ولا يقتلن أولادهن، ثم أعرض عن ذلك كأنه لم يسمعه كل هذا حلماً وكرماً وحرصاً على هداية العباد فصلى الله عليه وآله وسلم من نبي كريم بالمؤمنين رؤوف رحيم خير قدوة للعالمين (1).

_ (1) ش: ج 2، م 15، ص 66 - 67. غرة صفر 1358ه - مارس 1939م.

نعيمان بن عمرو النجاري الانصاري

نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرٍو النِّجَارِي الأَنْصَارِي - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ سابقته ومشاهده: شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها. ظرفه ونوادره: كان ظريفاً كثير الدعابة والمزاح حتى يبلغ به ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- كان لا يدخل المدينة طُرفة إلا جاء بها إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيقول ها أهديته لك. فإذا جاء صاحبها يطلب الثمن أحضره إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال اعط هذا ثمن متاعه فيقول- صلى الله عليه وآله وسلم- أو لم تهده لي فيقول أنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله فيضحك - صلى الله عليه وآله وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه. وخرج مرة مع أبي بكر في تجارة إلى بصرى ومعهما سويبيط ابن حرملة البدري وكان سويبيط متولياً على الزاد فجاءه نعيمان فقال: أطعمني. فقال: لا، حتى يجيء أبو بكر. فقال: لأغيظنك، فذهب إلى قوم ممن جلبوا إبلا إلى السوق فقال لهم ألا تبتاعون مني غلاماً عربياً فارها وهو ذو لسان، ولعله يقول لكم أنا حر فإن كنتم تتركونه لذلك فدعوه من الآن ولا تفسدوا علي غلامي فقالوا بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها وأقبل بالقوم حتى عقلها ثم قال دونكم هو هذا. فقال القوم لسويبيط قد اشتريناك من سيدك فقال هو كاذب أنا رجل حر. قالوا قد أخبرنا خبرك، وطرحوا الحبل في رقبته وذهبوا به،

الإسلام دين السماحة والسجاحة

وجاء أبو بكر وأصحاب له فأدركوا القوم وردوا إليهم القلائص وعرفوهم الحقيقة. فضحك رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم من هذه النادرة مدة عندما يتذكرونها. وقدم أعرابي فدخل على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأناخ ناقته بالفناء فقال بعض الصحابة للنعيمان لو عقرتها فأكلناها فإنا قد قرمنا إلى اللحم. ففعل، فخرج الأعرابي فصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال من فعل هذا فقال النعيمان فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير واستخفي في سرب لها وجعل عليه السعف والجريد. فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول ما رأيته يا رسول الله ويشير بأصبعه حيث هو فأخرجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- وقد تغير وجهه بالسعف الذي سقط عليه وقال له ما حملك على ما صنعت. قال الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني فجعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يمسح عن وجهه ويضحك ثم غرمها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- للأعرابي. الإسلام دين السماحة والسجاحة: هؤلاء هم خيار الأمة، وهم أهل الصدق والجد، وذوو القوة في الحق والصلابة في العقيدة، وهكذا كانوا أهل سماحة وسهولة وسجاحة ولين في الحالة الاعتيادية. حتى ينفق بينهم مثل هذا الظرف والمزح والدعابة، فإذا الجد فهم هم، فالتزمت والعبوس خشونة ويبوسة في الخلقة، أو تكلف ورياء، وحسبك بهما من شرين. وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقاً فلا يبلغ المزاح بكبار الناس إلى ما بلغ إليه نعيمان ولكن لا تضيق أخلاقهم بمثله.

نقص رجح به الكمال

نقص رجح به الكمال: كان نعيمان رجلا صالحاً وكان يصيب من الشراب فيجاء به إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيقيم عليه الحد فقال له رجل مرة: لعنه، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: لا تفعل إنه يحب الله ورسوله. قد كان الحد له طهرة، وكانت التوبة له مرجوة، وكان عنده من محبة الله ورسوله ما رجح بذلك النقص والبلية، ولعن المعين لا يجوز. أتقول كيف كان يحب الله ورسوله ويشرب الخمر؟ فنقول: قد برهن على صدق حبه لله ورسوله ببذله نفسه في تلك المشاهد العظيمة التي شهدها والجود بالنفس أقصى غاية الجود. وأي دليل أدل على صدق الحب من بذل النفس. وأين تقع عبادة ذلك المتعبد الجثامة المنزوي الحريص على الحياة، من ذلك المسلم العادي الذي نصب نفسه هدفا للبلايا والمحن، واقتحم أسباب الهلاك في سبيل الله على هنات فيه؟ هذا، والله، أنفع لعباد الله، وأصدق حبا لله، وأقرب إلى رضوانه، وأدنى إلى المتاب عليه. لأنه من الذين باعوا لله أنفسهم وأموالهم، فاستبشروا ببيعهم الذي بايعوا به: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1).

_ (1) ش: ج 3، م 15، ص 113 - 115 غرة ربيع الأول 1358ه - أفريل 1939م.

الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية

الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ سابقتها: أسلمت قبل الهجرة، وكانت من المهاجرات الأول. منزلتها الشخصية: كانت من عاقلات النساء وفضلياتهن، وكانت تحسن الكتابة، وهي التي قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «ألا تعلمين هذه- حفصة- رقية النملة كما علمتها الكتابة». منزلتها في المجتمع: كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يرعاها ويفضلها ويقدمها في الرأي. تقديراً لسابقتها وعقلها ومعرفتها وفضائلها، وكان ربما ولاها شيئاً من أمر السوق. الإقتداء: تتعلم المرأة الكتابة، وتعلم غيرها، وتتولى تدبير أملاكها وتجارتها، وما تستطيعه من عمل عام. كما تولت الشفاء أمر السوق في بعض الأحيان، ولا شك أن مما أهَّلها لذلك عند عمر معرفتها بالكتابة. تحذير: يجري على الألسنة ما رواه الطبراني عن الأوسط: عن عائشة مرفوعاً: "لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل

وسورة النور" قال الشوكاني: في سنده محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب، وكثيراً ما تكون هذه الأخبار الدائرة على الألسنة باطلة في نفسها معارضة لما صح في غيرها فيجب الحذر منها. وقد قدمنا ؤي الجزء الماضي من أدلة تعلم النساء الكتابة ما فيه الكفاية (1).

_ (1) ش: ج 4، م 15، ص 168 - 169 غرة ربيع الثاني 1358ه - ماي 1939م.

النعمان بن عدي العدوي

النّعمان بنُ عديّ العدويّ - رضي الله عنه - ــــــــــــــــــــــــــــــ نسبه: النعمان بن عدي بن نضلة القرشي العدوي من قوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. سابقته: هاجر هو وأبوه عدي إلى الحبشة ومات أبوه بها. ولايته وعزله: ولاه عمر ميسان - بين البصرة وواسط - ثم عزله فنزل البصرة فلم يزل بها يغزو مع المسلمين حتى مات. وهكذا كانوا - رضي الله عنهم - لا يؤثر عليهم العزل فهم يعملون للإسلام في سبيل الله في أيام العزل مثل أيام الولاية. خاصتان له: الأولى: أنه هو أول وارث في الإسلام وأبوه الذي مات في الحبشة أول مورث. والثانية: أنه هو الوحيد من بني عدي الذي ولاه عمر ولم يول عمر رجلا من قومه سواه قطعاً لكل قالة سوء وبعداً عن ((المحسوبية)) ومحاباة الأقربين. أدب وقدوة: لما ولاه عمر ميسان أراد زوجته على الخروج معه فأبت عليه

فكتب إليها بهذه الأبيات ليثير غيرتها فيحملها على اللحوق به: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها … بميسان يسقى في زجاج وحنتم (1) إذا شئت غنتني دهاقين (2) قرية … وصناجة (3) تجذو (4) على كل منسم (5) فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني … ولا تسقني بالأصغر المُتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه … تنادمنا في الجوسق (6) المتهدم فلما بلغ ذلك عمر كتب إليه: بسم الله الرحمن الرّحيم {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أما بعد فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين البيت, وايم الله لقد ساءني ذلك وقد عزلتك. فلما قدم على عمر وسأله قال والله ما كان من ذلك شيء، وما كان

_ (1): جرار خضر. (2): النجار ورؤساء الأقاليم. (3): مغنية تضرب بالصنج وهو قرصان من نحاس تضرب إحداهما بالأخرى. (4): تقعي على أطراف أصابعها منتصبة القدمين. (5): أصله أحد ظفري البعير. (6): القصر.

إلاّ فصل من شعر وجدته, وما شربتها قط, فقال عمر: أظن ذلك ولكن لا تعمل لي عملا أبداً. برأ نعمان نفسه فصدقه عمر ولم يذكر له شأنه مع زوجته تكرماً وكانوا على مكانتهم في الدين يتوسعون في الأدب ويقرضون الشعر على حكم الخيال والفن, ولم ينكر عليه عمر ذلك, وإنما كره أن يكون من أميره ما يكون من سائر الناس وللإمارة هيبتها اللازمة للضبط والتنفيذ, أو أن يجد من أحد ولاته سبيلا للطعن، ولو بشبهة والولاية يجب أن تكون بعيدة عن المطاعن والشبهات فما يسوغ لعموم الناس قد لا يحتمل لبعضهم بحكم المقام والمنصب. وقد قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وأمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن ينزل الناس منازلهم (1).

_ (1) ش: ج 5، م 15، ص 211 - 213 غرة جمادى الأولى 1358ه - جوان 1939م.

التعريف بكتاب العواصم من القواصم

التعريف بكتاب العواصم من القواصم للإمام ابن العربي ــــــــــــــــــــــــــــــ إن العالم لا يكون إماماً في الإسلام حتى يكون إماماً في فقه العربية، إماماً في فقه القرآن، إماماً في فقه السنة، إذ بدون هذه لا يفقه الإسلام، فتلك لغته التي بها أنزل، وذلك كتابه الذي عليه يعول، وتلك (1) بيانه ممن به أرسل. وأن العلماء الذين بلغوا هذه الذروة في الثلاثة في كل عصر ومصر قليلون وفي درجات هاته المنزلة متفاوتون. إذا نظرنا في آثار ابن العربي التي تركها لنا في كتاب أحكام القرآن وقد نشر. وكتاب المسالك على موطأ مالك ومنه نسخة خطية في المكتبة العمومية بالعاصمة، وكتاب القبس على موطأ مالك بن أنس ومنه نسخة عتيقة أندلسية في خزانتنا- وسننشرها إن شاء الله، وعارضة الأحوذي على جامع الترمذي (2) وكتاب العواصم من القواصم الذي بين أيدينا- إذا نظرنا في هذه الآثار علمنا أن هذا الإمام ممن بلغوا تلك الذروة وأنه جمع إلى الإمامة في تلك الأصول الإمامة في الأصلين، وفي الفقه، وفي علوم الحديث، والتبحر في سائر العلوم الإسلامية المعروفة في عصره ومصره الراقيين المزدهرين والبصر بأقوال الفرق الإسلامية بذلك العهد، والخبرة بأحوال الناس والزمان. وأنه كان في استقلاله العلمي كما قال عن نفسه في هذا الكتاب: "هل

_ (1) يقصد بذلك السنة. (2) طبع بمصر سنة 1350ه.

أنا إلا ناظر من النظار أدين بالاختيار وأتصرف في الأصول بمقتضى الدليل". قد كتب هذا الإمام في علوم الإسلام الكتب الممتعة الواسعة وسار فيها كلها على خطة البحث والتحقيق والنظر والاستدلال بعلم صحيح وفكر ثاقب وعارضة واسعة وعبارة راقية في البلاغة وأسلوب حلو جذاب في التعبير. وهذا كتاب (العواصم من القواصم) من آخر ما ألف قد سار فيه على تلك الخطة، وجمع فيه على صغر حجمه بين سائر كتبه العلمية فوائد جمة وعلوماً كثيرة، فتعرض فيه لآراء في العلم باطلة، وعقائد في الدين ضالة، وسماها قواصم، وأعقبها بالآراء الصحيحة والعقائد الحقة مؤيدة بأدلتها النقلية، وبراهينها العقلية المزيفة لتلك الآراء والمبطلة لتلك العقائد وسماها عواصم، فانتظم ذلك مناظرة الفلاسفة السفسطائيين والطبائعيين والإلاهيين، ومناظرة الباطنية والحلولية، وأرباب الإشارات من غلاة الصوفية وظاهرية العقائد، وظاهرية الأحكام، وغلاة الشيعة والفرقة المتعصبة للأشخاص باسم الإسلام واستتبع ذلك ذكر ما وقع في الصدر الأول من الفتن، والكلام على الخلافة والإمامة وبيان فضل ألصحابة واندرج في أثناء ذلك كله تحقيقات تاريخية ومباحث حديثية وتفسيرية ولغوية ونصائح علمية وإرشادات تذكيرية كلها في إفادة وإيجاز حتى لا تخلو صفحة من صفحات الكتاب مما تشد عليه يد الضنين. سالكاً في سبيل الاحتجاج لعقائد الإسلام، وإبطال العقائد المحدثة عليه من المنتمين إليه السبيل الأقوم الأرشد، سبيل الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي أدلة نقلية في نصوصها عقلية برهانية في مدلولها، وهذه الطريقة التي أرادها بقوله في هذا

الكتاب (وهكذا هي حقيقة الملة من أراد أن يدخل فيها داخلة رد عنها إليها بأدلتها) وهي طريقة القرآن الذي اتضح به كمال الشريعة في عقائدها وأدلتها. وإذ لم يكن بد من الخطأ لغير المعصوم فليس تفاضل الناس في السلامة منه، وإنما تفاضلهم في قلته وكثرة الصواب التي تغمره. وللإمام ابن العربي في كتابه هذا مما ذكرناه في وصفه من كمال ما يذهب بما قد يكون فيه من بعض خطأ يسير لا يسلم منه بشر، وحسب كتابه هذا أن يكون مورداً معيناً لطلاب العقائد الإسلامية الحقة بأدلتها القاطعة، وأصول الإسلام الخالية مما أحدثه المحدثون من خراب وتدجيل، وأن يكون أنموذجاً راقياً في التحقيق في البحث والتعمق في النظر والاستقلال في الفكر والرجوع إلى الدليل والاعتضاد بانظار الأئمة الكبار. وأن يكون صفحة تاريخ صادق لما كانت عليه الحالة الفكرية للمسلمين بالشرق والغرب في عصر المؤلف وهو القرن الخامس الهجري، وكفى بهذا كله باعثاً لنا على طبعه ونشره وتعميم فائدته. أول سماعي بهذا الكتاب وفضله كان من العلامة الكبير أستاذنا الشيخ محمد النخلي أحد أساطين جامع الزيتونة المعمور، والنهضة الفكرية بتونس، فاستعرت نسخة من خزانة الجامع وكانت هي النسخة الوحيدة للكتاب بها. كتبت هذه النسخة بخط أندلسي قديم في القالب الربعي وكتب في آخرها: (تمت العواصم من القواصم بحمد الله وعونه يوم الأربعاء في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة). كانت هذه النسخة في خزانة الجامع كالكنز الدفين، يمنع من الاستفادة التامة منها صعوبة خطها وتخليط أوراقها وأظن أن المسفر لما جمع أوراقها عند التفسير جمع كما اتفق ففككت سفرها وبذلت

الجهد في ترتيبها حتى كملت كما هي بدون أن تنقص منها ورقة ثم بعد سنوات عزمت على نشرها فاستعرت النسخة من خزانة الجامع المذكور واستنسخت منها بنفسي نسخة قدمتها للطبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة وأبقيت النسخة الأصلية لأراجعها عند التصحيح وقد بذلت الجهد في النقل والتصحيح رغم صعوبة الخط ومواضع المحو والتخريج ثم راجعت الجزأين بعد تمام طبعهما فألحقت بكل واحد منهما (1) جدول الخطأ والصواب وإذا بقيت بقايا قليلة فإنها لا تخفى على اللبيب. والله أسأل قبول العمل وغفران الزلل ونفع المستفيدين إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

_ (1) في الأصل منها.

ترجمة الإمام ابن العربى

ترجمة الإمام ابن العربى بقلم الناشر معتمدا على ما في الديباج لابن فرحون ونفح الطيب للمقري ــــــــــــــــــــــــــــــ نسبه وأوليته: هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد ابن العربي المعافري الإشبيلي الأندلسي. عرفنا من أوليته أباه، فقد كان فيها من فقهاء بلدة إشبيلية، ذا مكانة ورياسة وحظوة عند ملوكها بني عباد. قال عنه صاحب المطمح: (كان ... بإشبيلية بدراً في فلكها، وصدراً في مجلس ملكها. واصطفاه معتمد بني عباد، اصطفاء المأمون لابن أبي ذؤاد، وولاه الولايات الشريفة. وبوأه المراتب المنيفة، فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتحلت رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستكنافه، فلم يسترد ذاهبا، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا، ففاء إلى الرواية والسماع، وما استفاد من آمال تلك الأطماع. وقال عنه ابن فرحون: (سمع ببلده من أبي عبد الله بن منظور وأبي محمد بن خزرج، وبقرطبة من أبي عبد الله محمد بن عتاب وأبي مروان بن سراج، وحصلت له عند العبادية أصحاب إشبيلية رئاسة ومكانة، فلما انقضت دولتهم خرج إلى الحج مع ابنه القاضي أبي بكر يوم الأحد مستهل ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة). وبعد ما مكث بالمشرق بضع عشرة سنة توفي بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين.

نشأته

نشأته: نشا أبو بكر في كنف أبيه- وقد عرفت من هو- فأرضعه أخلاف الأدب وأحضره مجالس العلم فتأدب وقرأ القراءات وسمع من أبيه وخاله أبي القاسم الحسن الهوزني، واستكمل العلم وحصل أسباب الإمامة بعد رحلته إلى المشرق مع أبيه. وقال هو عن نفسه: حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه وتمرنت في الغريب والشعر واللغة ثم رحل بي أبي إلى المشرق. رحلته: رحل مع أبيه في التاريخ المذكور وسنه إذ ذاك سبعة عشر عاما، وقال صاحب المطمح عن سنه وحاله أيام الغربة مع أبيه: "وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب مادَّوح، وفي روض الشباب زهر ماصوَّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقا إليها وحاديا، حتى استقرت به مجالسه. واطردت له مقاييسه فجد في طلبه، واستجد به أبوه متمزق إربه، وبقي أبو بكر متفرداً، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيدا، ولم تجد عنه الرئاسة محيداً". دخل الشام والعراق وبغداد وحج سنة تسع وثمانين وعاد إلى بغداد ثم صدر عن بغداد وأقام بالإسكندرية ثم انصرف منها إلى الأندلس سنة خمس وتسعين بعد عامين من وفاة أبيه فقدم بلده إشبيلية. وقال صاحب المطمح عن قفوله إلى وطنه: "فكر إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلدها ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها".

أشياخه

وإذا كان رحل سنة خمس وثمانين وسنه سبعة عشر عاما ورجع سنة خمس وتسعين فقد قضى في الغربة ت عشرة أعوام وقفل إلى وطنه إماماً عظيماً وسنه سبعة وعشرون عاما. أشياخه: سمع بالأندلس أباه وخاله وأبا عبد الله السرقسطي وببجاية أبا عبد الله الكلاعي وبالمهدية أبا الحسن بن الحداد الخولاني وبالإسكندرية من الأنماطي وبمصر من أبي الحسن الخلعي ولقي بها أبا الحسن بن مشرف ومهديا الوراق وأبا الحسن بن داوود الفارسي. ولقي بالشام أبا نصر المقدسي وأبا سعد الزنجاني وأبا سعيد الرهاوي وأبا القاسم ابن أبي الحسن القادسي والاكفاني وابن الفرات الدمشقي. وسمع ببغداد من أبي الحسن الصيرفي والبزاز وابن طرخان ومن النقيب أبي الفوارس الزينبي وجعفر بن أحمد السراج زكريا التبريزي ببغداد أيضا الشاشي والإمام أبا بكر وأبا حامد الطوسي الغزالي والإمام أبا بكر الطرطوشي. تلامذته: أشهر من أخذت عنه القاضي عياض والإمام السهيلي صاحب الروض الأنف والحافظ ابن بشكوال في كثيرين غيرهم. منزلته في العلم والفضل: ونريد أن نتعرفها ممن ترجموا له من تلامذته والقريبين من عصره. قال الحافظ ابن بشكوال فيه: "الإمام الحافظ ختام علماء الأندلس، كان موصوفا بالعلم والكمال" وقال ابن سعيد: "هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب"، وقال ابن الزبير: "قيد الحديث وضبط ما روي واتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام

على أئمة هذا الشأن وكان فصيحها حافظاً أديباً شاعراً كثير الملح مليح المجلس" ثم قال ابن الزير: "قال القاضي عياض بعد أن وصفه بما ذكرته: ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس الكلام وطعنوا في حديثه". من يعني القاضي عياض بالناس الذين أكثروا الكلام وطعنوا في حديث ابن العربي؟ قطعاً لا يعني بهم العلماء لأننا سمعنا فيما تقدم ما وصفوه به ومنهم القاضي عياض نفسه. وإنما عني بهم العامة وأشباه العامة ممن تضيق أذهانهم عن تصور ما لم تره أبصارهم من مثل ما شاهده ابن العربي في مدن الشرق ومدنيته الزاهرة في ذاك العهد، وتقصر مداركهم عما تحيط به عقول العلماء المتوسعين في العلم الراسخين فيه مثل ابن العربي "خزانة العلم وقطب المغرب". وهاك واقعة دالة على سعة علم ابن العربي وتحامل أهل القصور عليه حتى جاء إمام عظيم فبين صدقه وقصور أولئك المتحاملين: قال الزرقاني في شرحه على المواهب في غزوة الفتح: وروى ابن مسدي أن أبا بكر بن العربي قال لابن جعفر بن المرخي حين ذكر أن مالكا تفرد به "حديث أنس في دخول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مكة وعلى رأسه المغفر" قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك فقالوا له أفدنا الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا. وقال الحافظ في نكته: "إستبعد أهل إشبيلية قول ابن العربي حتى قال قائلهم: يا أهل حمص ومن بها أوصيكم … بالبر والتقوى وصية مشفق فخذوا عن العربي أسمار الدجى … وخذوا الرواية عن إمام متقي إن الفتى ذرب اللسان مهذب … إن لم يجد خبراً صحيحاً يخلق وأراد بأهل حمص أهل إشبيلية" قال الحافط: "وقد تتبعت طرقه

ولايته للقضاء

فوجدته كما قال ابن العربي بل أزيد" فعد ستة عشر نفساً غير مالك رووه عن الزهري وعزاها لمخرجيها قال: "ولم ينفرد الزهري به بل تابعه يزيد الرقاشي عن أنس. أخرجه أبو الحسن الموصلي في فوائده ولم ينفرد به أنس بل تابعه سعد بن أبي وقاص وأبو برزة الأسلمي في سنن الدارقطني وعلي بن أبي طالب في المشيخة الكبرى لأبي محمد الجوهري وسعيد بن يربوع والسائب بن يزيد في مستدرك الحاكم" قال: "فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري عن أنس، فكيف يحل لأحد أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا إطلاع" انتهى. لله در ابن العربي لما وعدهم ولم يخرج لهم شيئا، لقد ضن بعلمه على المعاندين ولم يعدم حقه من ينصره ولو كان ذلك بعد قرون، وجزى الله الحافط ابن حجر عن العلم وأئمته خير جزاء. ولنعد إلى نقل كلام مترجميه فيه، قال ابن فرحون: "وقدم بلده إشبيلية بعلم كثير لم يأت به أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق، وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها متقدماً في المعارف كلها متكلما في أنواعها نافذاً في جميعها حريصا على أدائها ونشرها ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها. ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود". ولايته للقضاء: ولي قضاء قضاة كورة بلده إشبيلية فقام فيه بالعدل والقوة ولحقه من جراء ذلك بلاء ومحنة أبقت ثناء وذكراً ثم صرف عنه. قال ابن الزبير: "وولي القضاء مدة أولها سنة ثمان "لعله بعد الأربعمائة" (1) فنفع الله به لصرامته ونفوذ أحكامه، والتزام الأمر

_ (1) الصواب أنه ولي القضاء سنة 508ه لأن سفره إلى الشرق كان سنة 485ه. 136

محنته

بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله فأحسن الصبر على ذلك كله ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه". وقال القاضي عياض: "واستقضى ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة". وقال المقري في نفح الطيب: "وقام بأمر القضاء أحمد قيام مع الصرامة في الحق والقوة والشدة على الظالمين والرفق بالمساكين، وقد روي عنه أنه أمر بثقب أشداق زامر" ولعل هذا من الأحكام الغريبة التي أشار إليها القاضي عياض. محنته: قد عرفنا مما تقدم أن ابن العربي أصابته محنة في قضائه بسبب شدته في الحق وصرامته في الأحكام. وقد ذكر هو هذه المحنة في كتاب العواصم وأنها كانت بسبب إلزامه الناس للصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال المقري: "وما برح معظما إلى أن تولى خطة القضاء ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهة منه ولم يكن بها مال متوفر ففرض على الناس جلود ضحاياهم وكان ذلك في عيد أضحى فأحضروها كارهين. ثم اجتمعت العامة العمياء وثارت عليه ونهبوا داره" ولا منافاة بين هذا وما قبله فإن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر كان متكررا وعند هذه الواقعة- والأمر فيها عام- قامت عليها العامة ولا شك أنها لا تخلو من إيعاز من حساد ابن العربي من الخاصة. وهكذا من يريد أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه التنفيذ، مقدر له أن يلقى هذه وأمثالها. تصانيفه: كان هذا الإمام من المصنفين المكثرين المجيدين قال ابن الزبير-

ونقله عنه ابن فرحون-: "وصنف في غير فن تصانيف مليحة كثيرة مفيدة. منها أحكام القرآن كتاب حسن (مطبوع بمصر) وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك (منه نسخة في مكتبة الجزائر بها نقص وعندنا منه جزء فيه ما يكمل ذلك النقص) وكتاب القبس (سنمثله للطبع إن شاء الله) وعارضة الأحوذي على كتاب الترمذي (منه نسخة بجامع الزيتونة) (1) والعواصم من القواصم، والمحصول في أصول الفقه، وسراج المريدين، وسراج المهتدين، وكتاب المتوسط، وكتاب المتكلمين (كذا في ابن فرحون وأراه المشكلين مشكل الكتاب والسنة) وله تأليف في حديث أم زرع وكتاب الناسخ والمنسوخ وتخليص التلخيص وكتاب القانون في تفسير القرآن العزيز وله غير ذلك من التآليف. وقال في كتاب القبس أنه ألف كتابه المسمى أنوار الفجر في تفسير القرآن في عشرين سنة ثمانين ألف ورقة وتفرقت بأيدي الناس (قلت): - ابن فرحون- وأخبرني الشيخ الصالح يوسف الحزام المغربي بالإسكندرية في سنة ستين وسبعمائة قال رأيت تأليف القاضي أبي بكر بن العربي في تفسير القرآن المسمى أنوار الفجر كاملا في خزانة السلطان الملك العادل أمير المسلمين ابن عنان فارس ابن السلطان أمير المسلمين أبي الحسن علي ابن السلطان أمير المسلمين ابن سعيد عثمان بن يوسف بن عبد الحق. وكان السلطان إذ ذاك بمدينة مراكش، وكانت له خزانة كتب يحملها معه في الأسفار وكنت أخدمه مع جماعة في حزم الكتب ورفعها فعددت أسفار هذا الكتاب فبلغت عدتها ثمانين مجلدا ولم ينقص من الكتاب المذكور شيء. قال أبو الربيع: "وهذا المخبر يعني يوسف ثقة صدوق رجل صالح كان يأكل من كده" وذكر المقري من تصانيفه: كتاب مراقي الزلف وكتاب الخلافيات وكتاب نواهي الدواهي وكتاب

_ (1) مطبوع بمصر سنة 1350ه.

مولده ووفاته

النيرين في الصحيحين وكتاب الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا وكتاب في الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب وكتاب العقد الأكبر للقلب الأصغر وتبيين الصحيح في تعيين الذبيح وتفصيل التفضيل بين التحميد والتهليل ورسالة الكافر في أن لا دليل على النافر، وكتاب السباعيات وكتاب السلسلات وكتاب التوسط في معرفة صحة الاعتقاد، والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد وكتاب شرح غريب الرسالة وكتاب الأنصار (1) في مسائل الخلاف عشرون مجلدا وكتاب حديث الإفك وكتاب شرح حديث جابر في الشفاعة وكتاب ستر العورة وكتاب أعيان الأعيان وكتاب ملجاة المتفقهين إلى غوامض النحويين وكتاب ترتيب الرحلة وفيه من الفوائد ما لا يوصف. مولده ووفاته: ولد ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة. وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة (عاصمة مراكش) بعد دخول الموحدين مدينة إشبيلية فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا فأدركته منيته فحمل ميتا إلى مدينة فاس فدفن بتربة القائد مظفر خارج باب المحروق وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة رحمه الله ونعمه (2).

_ (1) كذا في الأصل والصواب الإنصاف. (2) من كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي رحمه الله تعالى، ج 2 من أ إلى ع. وهي المقدمة التي وضعها ابن باديس رحمه الله لهذا الكتاب واقتضاه الأمر أن يجعلها في ذيل الجزء الثاني من الكتاب المذكور.

عبد العزيز الثعالبي

عبد العزيز الثعالبي هكذا أذكره دون لقب أو صفة فإن هذا الإسم لم يبق علما على ذات مشخصه تحتاج إلى صفاتها وألقابها، بل صار في أذهان الناس علما على الرجولة والبطولة والزعامة، وعلى التفكير والعمل والتضحية وعلى الإسلام والشرق والعروبة وعلى وحدة إفريقيا. فإذا قلت عبد العزيز الثعالبي فقد قلت هذا كله. أسرة الثعالبي جزائرية، وهو مولود بالجزائر وجده ممن شاهد بعضا من معارك الجزائر في رد الحملة الفرنسية وأصيب برصاص العدو، وبقيت آثاره في صدره، فكان يكشف عن ذلك الصدر لعبد العزيز في صغره ويذكر له الجزائر والاستيلاء عليها وهجرته هو وغيره من الجزائريين من ذلك الاستيلاء. نشأ الثعالبي تونسيا ودرج للعلم زيتونيا وتعدت به عبقريته دائرة الكتب الزيتونية الدراسية الضيقة فأخذ يتناول كل ما تصل إليه يده من خزانة الجامع ومكتبة العبدلية وكانت مبائته بضع سنوات عدة. وكان ذهنه الحاد وحافظته القوية ورغبته الملحة مواهب أكسبته مما درس وقرأ نبوغا في الفهم والخطابة والكتابة: فبرز من جامع الزيتونة نابغة عبقريا غريبا شاذا بين أهل عصره شأن كل نابغة عبقري. لقي عبد العزيز من الجامدين والمستبدين- وما زالا على الدهر متوالين- ما يلقاه مثله فعوكس وأوذي وسجن ولكنه لم يتزحزح قيد شعرة عما حبس نفسه عليه من إصلاح المجتمع من جميع نواحيه. رحل الثعالبي للأزهر وحضر دروس البشري، وعاد إلى تونس وقد فتحت له الرحلة عالما آخرا وابتدأ تكونه العالمي بعد الإقليمي ورحل إلى

[صورة: الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ عبد العزيز الثعالبي] ــــــــــــــــــــــــــــــ الجزائر والمغرب فتم تكونه الإفريقي. أعطى الثعالبي تونس حقها ووضع لها كل أسس نهضتها ثم فارقها في رحلته الأخيرة ليعطي حق الشرق والعروبة والإسلام فكان نظام العقد وعنوان الوحدة وروح الاتصال والعلم الإفريقي الخفاق الذي لفت أنظار الشرق إلى الشمال الإفريفي وإلى تونس عروس ذلك الشمال. وكان الثعالبي في الشرق من جهة أخرى برهانا ساطعا ودليلا متنقلا على ظلم الاستعمار واستبداده، وما يلاقيه الأفارقة من كيده وبلائه، ويكذب كل ما يتظاهر به هنالك حيث لم ترسخ قدمه ولم يتم سلطانه. شعرت فرانسا- أخيرا- بعظيم ضرر ذلك على سياستها في الشرق العربي والإسلامي فأذنت للثعالبي في العودة لوطنه.

فالإستعمار هو انفى الثعالبي لمصلحته هنا والاستعمار هو رد الثعالبي لمصلحته هنالك. وأبى الله إلا أن يستفيد الشرق والعروبة والإسلام من الثعالبي هناك ويستفيد الشرق والعروبة والإسلام من الثعالبي هنا. فاعتبروا يا أولي الأبصار! عاد الثعالبي فاهتزت فرحا إفريقيا الشمالية كلها وتونس وطنه والجزائر مسقط رأسه ووطن أسلافه ورأت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في قدومه اعتزاز الإصلاح الإجتماعي الإسلامي من ناحية الفكر والعلم والأخلاق والسلوك في الحياة- وهذا ما تعمل له الجمعية- فأبرقت تهنئه وتهنيء الأمة التونسية الشقيقة به، ثم رأت أن تعرب عن سرورها بقدومه وإعجابها بمواهبه وتعظيمها لجانبه بذهاب رئيسها لتحيته وتهنئه بقدومه وإبلاغه كل ما تحمله الجمعية والجزائر العربية المسلمة من الحب والاحترام والتعظيم لشخصه. ذهبت يوم الخميس 14 جمادى الأولى إلى تونس وزرت الثعالبي في داره وبلغته عن الجمعية رسالتها فقابلها بالشكر والثناء وتلقاها بالفرح والسرور وأي سرور هو؟ سرور من وقف نفسه على الإصلاح وفارق الشمال الإفريقي ولا دعوة للإصلاح فيه، ثم جاءه بعد مدة من الدهر فوجد للإصلاح جندا قويا وقيادة منظمة وصوتا عاليا وكلمة نافذة وتقديرا لأمثاله من الرجال المصلحين. انتهت بهذه المقابلة مهمتي كرئيس للجمعية وموفد من طرفها. وكانت بعد ذلك المجالس والاجتماعات والحفلات والزيارات في دار الشيخ وغيرها مع الشيخ ودونه- كانت وكنت فيها كجندي بسيط من جنود العروبة والإسلام. فما شئت من أنس، ونعيم نفس، وكل ما يغذي الروح ويحيي الوجدان ويرضي العروبة والإسلام.

وَحَدِيثٍ أَلَذُّهُ هُوَ مِمَّا … تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ يُوزَنُ وَزْنَا مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا … ناً وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْناً (1) عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 7 م 13، ص 316 - 318 رجب 1356ه - سبتمبر 1937م.

أبناء المغرب العربي

وحدة الشمال الإفريقي: أبناء المغرب العربي في الشرق العربي ــــــــــــــــــــــــــــــ حيثما توجهنا إلى ناحية من نواحي التاريخ وجدنا هذا المغرب العربي- طرابلس، تونس، الجزائر، مراكش - يرتبط بروابط متينة روحية ومادية تتجلى بها وحدته للعيان. ولسنا نريد هنا أن نتحدث عن التاريخ القديم وإنما نريد أن نعرض صفحة من التاريخ الحديث الجاري. مضت حقبة من الدهر كاد فيها الشرق العربي أن ينسى هذا المغرب العربي وإلى عهد قريب كانت صحافة الشرق- غالبا- لا تذكره إلا كما تذكر قطعة من أواسط أفريقية ومجاهلها، بل في هذه الأيام يغمط حقه ويتجاهل وجوده في كتب لها قيمتها كـ"ضحى الإسلام" وغيره. ولكن هذا المغرب العربي- رغم التجاهل والتناسي من إخوانه المشارقة- كان يبعث من أبنائه من رجال السيف والقلم من يذكرون به، ويشيدون باسمه، ويلفتون نظر إخوانه المشارقة إلى ما فيه من معادن للعلم والفضيلة، ومنابت للعز والرجولة، ومعاقل للعروبة والإسلام، ناهيك بالأمير عبد القادر المجاهد الجزائري وأبنائه الذين شاركوا في مشانق جمال وثورة الغوطة وبحفيده الأمير خالد زعيم الجزائر الذي مات بمنفاه بالشام- وبسليمان باشا الباروني الطرابلسي والشيخ السنوسي الطرابلسي الجزائري الأصل وبالشيخ طاهر الجزائري الأصل وبالشيخ عبد العزيز الثعالبي زعيم تونس الجزائري الأصل والشيخ الخضر حسين التونسي الجزائري الأصل

[صور: الشيخ الخضر بن الحسين، الأستاذ الهلالي، الشيخ إبراهيم أطفيش] ــــــــــــــــــــــــــــــ والشيخ تقي الدين الهلالي المراكشي وغيرهم. فقد كان هؤلاء السادة الأعلام كما يرفعون اسم المغرب العربي في الشرق العربي يمثلون وحدة هذا المغرب، وقد دعانا إلى تحرير هذا والتنعم به ما رأيناه في عدد (الفتح) الممتاز من ذكر ورسم لبعض هؤلاء السادة الذين ذكرنا. فقد أصدر الأخ المجاهد الأستاذ محب الدين الخطيب عددا ممتازا من مجلته الراقية بمناسبة دخولها في السنة الثانية عشرة من سني جهادها وذكر عددا من الذين شاركوه في الجهاد أو كان منهم تأييد له فيه ونشر رسومهم فكان من جملتهم خمسة يمثلون المغرب العربي هم الشيخ طاهر الجزائري وسليمان باشا الباروني الطرابلسي والشيخ الخضر بن الحسين التونسي والشيخ تقي الدين الهلالي المراكشي. والشيخ إبراهيم أطفيش الجزائري. ونحن نحلي جيد هذا الجزء برسومهم وننشر ما كتبه الأخ الأستاذ محب الدين عنهم فيما يلي:

[صورة: السيد سليمان باشا البارونى]

[صورة: الشيخ طاهر الجزائري]

شيخي

شيخي: هو الذي ربى عقلي، وهو الذي حبب إلي هذا الاتجاه الفكري منذ كنت طفلا إلى أن صرت رجلا، ولا أعرف مؤلفا ولا حامل قلم نشأ في ديار الشام إلا وقد كانت له صلة بهذا المربي الأعظم واستفادة من عقله وسعة فضله إما مباشرة أو بواسطة الذين استفادوا منه. وكل الذين جاهدوا هناك لأجل الحرية، وفي سبيل المعارف، ولإحياء علوم السلف، ولإعادة مجد العروبة والإسلام، إنما كانوا من إخوانه وهو واسطة عقدهم ورأس مجالسهم أو من طبقة تلاميذه، وهو قدوتهم ومطمح أنظارهم أو من الذين أخذوا عن تلاميذه وهو مضرب المثل عندهم في كمال العقل وسعة الاطلاع التي لا حد لها، وبالإجمال هو جرثومة الخير الأولى من أيام ولاية مدحت باشا على سوريا إلى أن هاجر الرجل العظيم إلى مصر حوالي سنة 1325ه فكان موضع حرمة كل من يعرف الفضل من أهلها كتيمور باشا وأحمد بك الحسيني وأحمد زكي باشا والشيخ علي يوسف وأمثالهم وأهم كتب السلف النافعة التي نشرها الناشرون إنما نشروها بإشارته وتحريضه. وأنا وكل ما نشرته لسنا إلا قطرة من بحر الخير الذي كان يتدفق من صدر هذا العالم العامل الذي كانت الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، وليس له فيها من أمنية إلا أن يرى عز الإسلام يعود كما كان في أيام القوة والعدل والعلم وتقوى الله عز وجل. إني لأرمي نفسي بالعقوق وإنكار الجميل كلما فكرت في إبطائي حتى الآن عن القيام بحقه عليَّ للتاريخ ولكن إذا عظم المطلوب خارت القوة دونه، وحياة الشيخ طاهر الجزائري حياة دور من أدوار الإصلاح بل هي تاريخ الأمة في حقبة

السيد محمد الخضر حسين

من حياتها. ولا بد أن أقوم بهذا الواجب في يوم من الأيام. رحمة الله عليه ومغفرته ورضاه. السيد محمد الخضر حسين: العلامة الجليل الأستاذ السيد محمد الخضر حسين في مقدمة الأفاضل الذين أمدوا هذه الصحيفة بآثار فضلهم من سنتها الأولى إلى الآن، فما هوجم الإسلام في وقعة إلا وكان للأستاذ حفظه الله دفاع أمتن من الفولاذ، وأرسخ من الجبال الراسيات. والسيد حفظه الله محبوب من كل محب للإسلام، معروف فضله لكل من اتصل به من أبناء الشرق والغرب، وقد تعود من صدر حياته أن يحمل دنياه على آخرته، وأن يضحي بالأولى في سبيل الأخرى إذا تعارضتا. نرجو الله أن يمد في حياته، وأن يزيده قوة على الخير. جانب عامر من جوانب القيادة: نحن نشكوا دائما ضعف القيادة في العالم الإسلامي وللضعف مظاهر وأعراض ذات ألوان مختلفة وكلما وجدنا جانبا من جوانب القيادة عامرا بالاستقامة والصلابة والإخلاص كان حقا علينا أن نحمده ونعلن اغتباطنا به. وصاحب السعادة سليمان باشا الباروني من أعيان هذه الأمة الذين تحلوا بمزية الاستقامة والإخلاص إلى أبعد حد. عرفنا ذلك فيه منذ كان نائبا عن طرابلس الغرب في مجلس المبعوثان العثماني ثم ازددنا بذلك علما عند ما رأينا جهاده المجيد في سبيل الله والوطن بعد حادث الاختطاف الذي كان من إيطاليا لطرابلس الغرب وبرقة، وقد نشرنا في العدد 525 من (الفتح) صورة شمسية لوثيقة صادرة

صديقنا

من دائرة حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسن تثبت إصرار سليمان باشا الباروني على إعادة ستة آلاف جنيه قدمت إليه من الإعانات الطرابلسية فردها وقال: "إن الإعانات للمجاهدين والآن لا جهاد" مثل هذه المنقبة الممتازة يحملنا على تزيين هذا العدد الممتاز بصورة القائد المجاهد سليمان باشا الباروني، مغتبطين بما نشرناه له في العدد 532 من كلمات الرضا عن الفتح وخطته. مد الله في حياته وأدام المحبة بين المسلمين. صديقنا: هبط صديقنا الأستاذ العلامة الشيخ إبراهيم أطفيش وادي النيل مهاجراً إليه من وطنه الجزائر من قبل أن يولد الفتح، واكتسبنا صداقته من السنة الأولى التي اتخذ فيها الوطن المصري وطنا ثانيا له، فكنا نحن وجميع أفاضل المصريين نعجب بصدقه وصلابة دينه واستعداده للمشاركة في كل خير، فما قامت لخير الإسلام جماعة من ذلك الحين، ولا أرسل المنادون إلى الفلاح صوتهم في أمر، إلا كان الأستاذ أبو إسحاق الشيخ إبراهيم أطفيش في مقدمة المعينين على ذلك. ومقالاته المتعددة في هذه الصحيفة وفي أختها الزهراء شاهد على فضله، ودليل على حسن بلائه في سبيل وحدة المسلمين. جزاه الله خيراً. الأستاذ الهلالي: الفاضل فاضل حيثما كان، كما أن الشمس شمس شرقت أم غربت. والأستاذ العلامة السيد محمد تقي الدين الهلالي- صاحب الفصول الممتعة والبحوث الجليلة في صحيفة الفتح- من أفاضلنا الذين أجمع على الاعتراف بفضلهم الشرق والغرب، والعرب والعجم،

والمسلمون وغير المسلمين، فهو في الحجاز نار على علم شهرة وفضلا، وفي الهند تبوأ منصة التدريس في أرقى جامعاتها وفي العراق معروف بدؤو به على خدمة هذه الأمة وحرصه على خيرها، وهو الآن في ألمانيا موضع الحرمة من أركان جامعة بن التي يتولى التدريس فيها. فالأستاذ الهلالي رجل عالمي واسع النظر واقف على أحوال الشرق والغرب، لذلك كان ما يقرره في بحوثه من حقائق يأتي ناضجاً مفيداً ممتعاً، ومن حسن الحظ أن قراءنا يقدرون رجالهم كما نقدرهم وكل ما يكتبه الأستاذ الهلالي وأضرابه في الفتح يأتي بالفائدة المرجوة منه والحمد لله (1).

_ (1) ش: ج 5، م 13، ص 220 - 225 غرة جمادى الأولى 1356ه - جويلية 1937م.

قصة الشهر

قصة الشهر: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ طاهر الجزائري: هذا الأستاذ العظيم من أبناء الجزائر الكثيرين الذين ظهر نبوغهم في غير وطنهم فدلوا على أن الطينة الجزائرية طينة علم وذكاء إذا واتتها الظروف. ألقى الأستاذ محمد كرد علي وزير المعارف بسورية محاضرة عن حياة هذا الأستاذ الكبير ونشرتها مجلة المجمع العلمي العربي فرأينا نقلها لقراء "الشهاب" لما فيها من فوائد علمية وعبر تاريخية للمتأملين (1). -1 - أصله ونشأته: هو طاهر بن صالح بن أحمد بن موهوب السمعوني الجزائري هاجر والده الشيخ صالح من الجزائر إلى دمشق في سنة 1263ه وكان من بيت علم وشرف معروف في بلاده، ولما جاء دمشق تولى قضاء المالكية وولد له ولد في شهر ربيع الثاني سنة 1268ه دعاه "الطاهر". قال والده في حاشية المجموع الفقهي للعلامة الأمير المالكي "طهره الله من رجس دنياه ودينه وبارك في عمره ورزقه العلم والعمل به" واستجيب دعاء والده فنشأ ابنه طاهر على حب الفضائل والتناغي بالعلم والعمل.

_ (1) فضلنا كتابة هذه الترجمة لأن الشيخ ابن باديس نشرها وعلق عليها.

دخل الشيخ طاهر المدرسة الجقماقية الاستعدادية فتخرج بأستاذه الشيخ عبد الرحمن البوشناقي، وكان مربيا شديد الشكيمة، وتعلم العربية والفارسية والتركية ومبادئ العلوم ثم اتصل بعالم عصره الشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي الفقيه الأصولي النظار. وكان واسع المادة في العلوم الإسلامية بعيد النظر واسع العقل وهو الذي حال بإرشاده في حادثة سنة 1860م بدمشق دون تعدي فتيان المسلمين على جيرانهم المسيحيين في محلته فأنقذ بجميل وعظه وحسن تأثيره بضعة ألوف من القتل في تلك المذابح المشؤومة. وكان الشيخ الميداني على جانب عظيم من التقوى والورع الحقيقي، يمثل صورة من صور السلف الصالح فطبع الشيخ طاهر بطابعه وأنشأه على أصح المبادىء العلمية الدينية. وكانت دروسه دروساً صافية المشارب يرمي فيها إلى الرجوع بالشريعة إلى أصولها والأخذ من آدابها بلبابها، ومحاربة الخرافات التي استمرأتها طبقات المتأخرين وإنقاذ الدين من المبتدعين والوضاعين. وإذ جمع الشيخ طاهر إلى سلامة الفطرة وسلامة البيئة جودة النظر وبعد الهمة جاء منه بالدرس والبحث عالم مصلح وفيلسوف إلهي أشبه الأوائل بهديه، وتمثل بالأواخر في نظره ووفرة مادته. ولم يغفل الأستاذ خلال سني الدراسة عن درس العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية والتاريخية والأثرية، أخذها عن علماء من الترك وغيرهم. فكان إذا رأى أعلم منه بفن أخذ عنه فنه وأفاده فيما لايحسنه من فنون العلم. ومن مثل لعينيه كيف كان محيطه محيطاً أوائل النصف الأخير من القرن الماضي أيام كان يتهم بالمروق كل من تعاطى علماً لا يعرفه المتفقة يدرك ما عاناه الأستاذ لتلقف هذه العلوم المادية. ولم يبلغ الثلاثين من عمره حتى غدا يتقن العربية والفارسية والتركية وينظم بالفارسية كالعربية وكان نظمه بالعربية أرقى من شعر الفقهاء ودون شعر نبغاء الشعراء. وألف السجع لأول أمره ثم تخلى عنه

وأصبح يكتب مترسلا بلا كلفة ولا تعمل، وتعلم الفرنسية والسريانية والعبرانية والحبشية والقبائلية البربرية لغة بلاده الأصلية. ومما ساعده على فتح صدره الرحب لجماع المعارف البشرية غرامه منذ نشأته بجمع الكتب وهو لما يزل في المدرسة الإبتدائية فقد أخذ يبتاع الدشوت والرسائل المخطوطة من دريهمات كان يرضخ بها له والده لخرجه. وكانت الكتب والرسائل تباع في الكلاسة شمالي الجامع الأموي على مقربة من ضريح صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكلما أحرز الشيخ شيئاً من الأوراق والأسفار طالعه بإمعان وخبأه وحرص عليه فاستنار عقله وكثرت معلوماته واجتمعت له بطول الزمن خزانة مهمة من الأسفار قدرتها بستة آلاف مجلد فيها كثير من النوادر المخطوطة. تولى التعليم لأول أمره في المدرسة الظاهرية الإبتدائية ولما أسست الجمعية الخيرية من علماء دمشق وأعيانها سنة 1294ه دخل في عداد أعضائها وكان من أكبر العوامل فيها ثم استحالت هذه الجمعية "ديوان معارف" فعين مفتشاً عاماً على المدارس الابتدائية التي أنشئت على عهد المصلح الكبير مدحت باشا والي سورية سنة 1295ه. وكان للشيخ الأثر العظيم في تأسيسها بمعاونة صديقه بهاء الدين بك أمين سر الولاية، وهو أديب تركي كان يحب نهضة العرب كما يحب العلم والأدب. وفي هذه الحقبة ظهر نبوغ شيخنا وعبقريته في تأسيس المدارس واستخلاصها من غاصبيها وحمل الآباء على تعليم أولادهم ووضع البرامج وتأليف الكتب اللازمة للمدارس، كن يقوم بهذه الأعمال المهمة ولا يفتأ يزداد كل يوم علما وتجربة وتفانيا في نهضة البلد وتحسين الملكات وصقل الأخلاق والعادات. وأنشأ على ذلك العهد أيضا بمعاونة بضعة من أصدقائه "دار الكتب الظاهرية" بدمشق وجمع فيها سنة 1296ه ما تفرق من المخطوطات

علمه وعمله

العظيمة في عشر مدارس تحت قبة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولقي ممن استحلوا أكل الكتب والأوقاف مقاومة شديدة وهددوه بالقتل إن لم يرجع عن قصده فما زادوه إلا مضاء وانكماشا، ولا تزال هذه الدار أثراً من آثاره في الشام وقد أنشأ مثلها في القدس باسم الشيخ راغب الخالدي وسماها "المكتبة الخالدية" وأضاف إليها بعد ذلك آل الخالدي خزائنهم الخاصة. علمه وعمله: رأينا منهاج الدروس الواسع الذي أخذ الشيخ نفسه بدراسته منذ حداثته وأنه ليندر في المتأخرين من علماء دور الانحطاط الفكري نبوغ رجل مثله وعى صدره من ضروب المعارف ما وعي وطبق مفاصل الشريعة مع علوم المدنية فقد كان متضلعا من علوم الشريعة وتاريخ الملل والنحل منقطع القرين في تاريخ العرب والإسلام وتراجم رجاله ومناقشات علمائه ومناظراتهم وتآليفهم ومراميهم، ساعده على التبريز في هذا المضمار قوة حافظته التي لا تكاد تنسى ما يمر بها مهما طال العهد. وكان إماماً في علوم الأدب واللغة إذا سألته حل مسألة تظن الشيخ لا يعرف غير هذا العلم وإذا استرشدته في الوقوف على مظان موضوع تريده أطلعك من ذلك في الحال على ما لا يتيسر لغيره الظفر به بعد الكشف عنه أياماً، وهكذا هو في علوم الشريعة ولا سيما التفسير والحديث والأصول. وكان يعرف السياسة وما ينبغي لها وحالة الغرب واجتماعه والشرق وأممه وأمراضه معرفة لا تقل عن معارف عالم أخصائي من علماء الغرب لعهدنا، ولا يكاد جليسه يصدق إذا انكفأ الشيخ يتكلم في هذه الموضوعات خصوصاً إذا كان غربيا أن محدثه شيخ من شيوخ المسلمين يعيش في أمة لا ثقيم وزناً لهذه المعارف.

اتسع صدر الشيخ لجماع علوم المدنية الحديثة إلا الموسيقى والتمثيل فلم يكن له حظ فيهما وربما قاوم سراً المشتغلين بهما مخافة أن تكون سلماً إلى التبذل وخلع ثوب الحياء والوقار، وكان لا يرى فيهما إلا مدرجة اللهو والصبوة. وهذا مما لم يدخله الشيخ في جريدة أعماله ولذلك لا يفتي بالتسامح مع القائمين عليهما مهما أوردوا له من الحجج على نفعهما. وصعب أن يتخلى المرء عن جميع ما أورثه إياه أهله وأساتذته ومحيطه، وصعب على من حلف أن يعيش عيش جد وتبتل أن يتساهل في الصغائر لئلا تؤدي إلى الكبائر. أما الرسم والتصوير والنقش فكانت مما يتسامح فيه لكنه يغمزه عرضاً، وكثيراً ما يقول أن أجيال الفرنجة في هذا العصر أفرطوا في الغرام بالتصوير والتعويل عليه في كل أمر فأضعفوا بذلك قوة التفكير والتصوير. وسياسة الشيخ في التعليم محصورة في تلقف المسلمين أصول دينهم والاحتفاظ بمقدساتهم وعاداتهم الطيبة وأخلاقهم القديمة القويمة وأن يفتحوا قلوبهم لعامة علوم الأوائل والأواخر من فلسفة وطبيعي واجتماعي على اختلاف ضروبها ويقاوم المتعصبين على هذه العلوم المنكرين غناءها في الجتمع مقاومة حكيم عاقل وذلك بتكثير سواد الدارسين لها وإرشادهم إلى طرقها العملية المنتجة لا الوقوف بها عند حد الأنظار فعمَّ المسلمين في الشام درس علوم نرى اليوم الأخذ بحظ منها من البديهيات اللهم إلا عند بعض الجامدين من المشايخ ممن جهلوها، ومن جهل شيئاً عاداه. وكانت للشيخ طرق مبتكرة في معنى بث الأفاكار التي تخالف معتقد الجمهور يبثها في الحقول بدون جعجعة ولا مظاهرة ويقرب منالها من المستعدين لأخذ النفس بها وذلك بتلقينهم أمهات مسائلها أثناء الحديث على صورة لا ينفرون منها ولا يخطر لهم أنها بالبدع المنكر. مثال ذلك أنه أولع في صباه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمبة وكانت

جمهرة الفقهاء في عصره تكفر ابن تيمية تعصباً وتقليداً لمشايخهم فلم ير الشيخ لتحبيبهم بابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون. فكان يستنسخ رسائله وكتبه ويرسلها مع من يبيعها في سوق الوراقين بأثمان معتدلة لتسقط في أيدي بعضهم فيطالعونها وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة. هذا وليس الشيخ في مذهبه على الحقيقة حنبلياً ولا مالكياً ولا حنفياً بل هو مسلم يأخذ من أصل الشريعة باجتهاده الخاص ويحسن ظنه بأئمة المذاهب المعروفة، ويتجهم لمن يجرأ على النيل من أحدهم. يعمل بما صح له من الدليل في الكتاب والسنة ولطالما أعطى الحق لعلماء الشيعة أو الإباضية أو المعتزلة في مسائل تفردوا بها وضيق فيها أهل السنة. أما الفلسفة أو الحاكمة القديمة والفلسفة الحديثة فكان يعطف فيها عليها وعلى المشتغلين بها وينحي باللائمة على المتأخرين الذين أوصدوا بابها فأظلمت العقول وضعف مستواها. كان الشيخ ينكر على الظالمين سيرتهم ويقبح الظلم وإن نال عدوه وينصف الناس من نفسه بعض الشيء وكان الحكم معه في بلية يعرفون أنه ينزع إلى القضاء على سلطتهم الغاشمة ولا يستطيعون أن يقلبوا له ظهر المجن ويظهروا العداء له. وكذلك كان المشايخ معه يبغضون أفكاره ولا يجرأون على مقاومته بسلاحه سلاح العلم والبرهان فكان كثيراً ما يقول ما لنا ولأناس ليس لهم من السلطان علينا غير سلاطة ألسنتهم وكلمات ينفسون عنهم بها وهي لا تخرج إلى أبعد من سقوف بيوتهم وحجرهم، وحدث لبعض أغمارهم أن استعانوا غير مرة بالسلطة الزمنية على توقيف تيار أفكاره وأفكار أنصاره فكان الشيخ يصدهم لما له من التأثير في أهل الحل والعقد ممن كانوا يتمثل لهم عقل الرجل وضعف المبغضين له وكان يحسن مخاطبتهم بلسانهم والقائمون عليه لا يحسنون محاورتهم حتى ولا بلغتهم الأصلية،

وسلاحهم دسائس يحوكونها وتعصبات ينفتونها. ولم يزل جهال الناس كما قال ابن المقفع يحدون علماءهم وجبناءهم، شجعانهم ولئامهم كرماءهم وفجارهم، أبرارهم وشرارهم خيارهم، من أجل هذا كان الأستاذ يتفنن في بث أفكاره بين الخاصة والعامة على صور شتى ويتفانى في نشر العلم والتهذيب والأخذ من القديم والحديث، وكم من عامي أصبح بتعاليمه وتلقينه بالعمل مسائل بسيطة من العلم محدوداً من المتعلمين في جلسات قليلة جلسها معه وسمع مذكراته ومن هذه الطبقة أناس ما فتىء على تنشيطهم حتى ألفوا وطبعوا ولم يكونوا قبله في العير ولا في النفير. وكم من جريدة أو مجلة أو كتاب أو رسالة نشرت في مصر والشام بإرشاده وكان له أسلوب جرى عليه خصوصاً في تفتيش المدارس وهو أن يعلم المعلم ولا يشعره بأنه يعلمه بل يوهمه أنه يذاكره في مسائل التربية والتعليم أو أنه يحاول أن يتعلم هو منه. وكم من أديب أو عالم أرشده إلى السبيل السوي في أدبه وعلمه وعلمه المظان وأساليب المراجعة، وكثير عدد من اشتغلوا بالآداب أو تعلموا التعليم الثانوي أو العالي في القطر الشامي إن لم يكونوا استفادوا منه مباشرة فبالواسطة، وتلاميذه ومريدوه يعدون بالعشرات من المسلمين وأكثرهم اليوم يشغلون مقامات سامية في دور العلم والحكم وفي التجارة والزراعة. ولم يحد المترجم له عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ نعومة أظفاره ودعا الناس إلى إنتاجها حتى آخر أيامه. وخطته الإخلاص والعمل على النهوض بالأمة من طريق العلم وبث الملكات الصحيحة في أهل الإسلام، وثورته ثورة فكرية لا مادية ويقول أن هذا الطريق يطول أمرها ولكن يؤمن فيها العثار والسلامة محققة ثابتة. بحق ما قيل في الشيخ أنه معلمة (أنسيكلوبيديا) سيارة وكيف لا يكون كذلك من آتاه خالقه حافظة قوية وذهنا وقاداً وعقلاً

يستعمله على الدوام، فقد قرأ جميع ما طالت يده إليه من الكتب العربية التي طبعت في الشرق والغرب، أما المخطوطات التي طالعها ولخصها في كنانيشه وجزازاته فتعد بالألوف، وقل أن يدانيه أحد في علم الكتب ووصفها ومؤلفيها وحوادثها وأماكن وجودها، ولطالما رحل من بلد إلى بلد بعيد ليطلع على مخطوط حفط في بعض الخزائن الخاصة، وبالنظر لإحاطته بالمظان وتدوينه في الحال كل ما يقع استحسانه عليه من الفوائد، كان يسهل عليه التأليف فيما ترتاح إليه نفسه من الموضوعات، وقد يؤلف الكتاب في بضعة أسابيع على شرط أن يوقن أنه سيطبع. فهو واسع الرواية واسع الدراية، أو كما قال صديقه العلامة أحمد زكي باشا في برقية أبرقها إلى الشام بالتعزية به: "كنت أرى فيه الأثر الباقي والمثال الحي والصورة الناطقة لما كان عليه سلفنا الصالح من حيث الجمع بين الرواية والدراية في كل المعارف الإسلامية وبين الدأب على نشرها بعد التدقيق والتمحيص واستثارة خباياها وإبراز مفاخرها هذا إلى التفاني في توسيع نطاقها بقبول ما تجدد عند الأمم التي تلقت تراث العرب باليمين والدعوة إلى الإقبال عليه مضموماً إلى آثار الأبناء ومآثر الأجداد. وهكذا قضى الشيخ عمرا أولا وثانيا وثالثا في خدمة العلم والدعوة إليه بالقلم واللسان وبالقدوة الحسنة حتى تم له شيء كثير مما أراد بين الأنداد والتلاميذ والمحبين والمريدين فهم مناط الأمل وفيهم خير خلف لذلك يغتبط قاسيون بضم رفاته والحنو عليها (1) ".

_ (1) ش: ج 5، م 5، ص 27 - 33 غرة محرم 1348ه - ماي 1926م.

أخلاقه وعاداته

-2 - أخلاقه وعاداته: قلنا أن سيرة الشيخ طاهر كانت نمطاً واحداً طول حياته هكذا كان متعلماً ومعلماً وعالماً يحب العمل ويدعو إليه قبل النظر، جد في حركته لا يبالي بالعوائق أمامه مهما عظمت وكلما حاول أعداؤه أن يقفوا دون انبعاث دعواته يزداد قوة وعرامة شأن كل الدعوات، وكلما حاربتها زدتها انتشاراً ونبهت الناس إليها. ألغت الحكومة وظيفة التفتيش بالمدارس علها تخفف من شدته في بث أفكاره بين الأساتيذ والتلاميذ فزاد نشاط الشيخ، وكان مدرساً في المدرسة الإعدادية بدمشق وهو من جملة مؤسسيها فاستقال ثم عرضت عليه وظائف كبرى في غير السلك العلمي فأبى لأنه كان يعرف أنه لا بد له من مشايعة الظلمة والجهَّال على أعمالهم، وجعل جل اعتماده في عيشه آخر أيامه على الكتب التي اقتناها طول حياته بأثمان بخسة، وأخذ يبيع منها بالتدريج ولا سيما إذا تأكد أنها تحفط في معاهد عامة كدار الكتب المصرية والخزانتين التيمورية والزكية في القاهرة فإن معظم نفائس خزانته نقلت إليها وتمزز الشيخ أثمانها نحو أربع عشرة سنة، وكان اشتراها في صباه بأثمان بخسة فارتفعت أسعارها عشرة أضعاف أو أكثر. كان الشيخ على ضيق ذات يده أحيانا يتصدق على الفقراء في السر وربما كزت يده عن لباسه وطعامه وأطعم جائعاً وعال معوزاً، يصلي الصلوات لأوقاتها ويقيم شعائر الإسلام حتى في غير بلاده فقد زار مرة أحد معارض باريز فكان إذا أدركته الصلاة صلى في الحديقة العامة لا يبالي بإنتقاد الناس هناك ولا استغرابهم حركاته وسكناته، وحج مرة وطبق مناسك الحج على ما يفعل العلماء العاملون، وكان مفطوراً على الرحمة يأرق لجاره أو صاحبه إذا علم أنه أصيب ببائقة

في ماله أو أهله أو جاهه خصوصا إذا كان الرجل ممن تريضه سيرته في الجملة. كان الشيخ يستنكف أن يأخذ شيئاً من أحد بلا مقابل مهما كان الواهب، فقد عرض عليه صديقه الأستاذ أحمد زكي باشا أن يوقع على طلب وهو يتعهد له براتب جيد من الأوقاف المصرية على عهد الخديوي عباس الثاني فتنصل واعتذر ولما اشتد صديقه في تقاضيه انتهره حتى لقد قال الأستاذ زكي باشا لو كنت أعتقد أن رجلاً يعيش من تحت السجادة لاعتقدت ذلك في الشيخ طاهر لأنه يقيم في بلد كمصر يشكو فيه الأغنياء من الغلاء ولا يحب أن يأخذ من أحد شيئاً يستعين به. وكأنه يشير بحركته إلى ما قاله القاضي علي بن عبد العزيز في عزة نفس العالم: يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا … رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ … وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا … بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي … وَلَا كُلُّ مَنْ لَاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا إِذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى … وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا أُنزِّهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَشِينُهَا … مَخَافَةَ أَقْوَالُ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لَمَا؟ وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي … لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً … إِذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ … وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا … مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا لا أكون إلى المبالغة إذا قلت أن عزة النفس وهو الخلق الذي ندر في علماء المسلمين لعهدنا كان مما تفرد به، ففيه إباء الملوك وزهد الزهاد

والعباد، لم يظاهر- ظالماً لغنم يصيبه، ولا صحب غنياً للانتفاع بغناه، وكان يؤثر الخمول وعدم الظهور ولا تهمه الشهرة استفاضت أم لم تستفض لأنه يهزأ في باطنه بمظاهر الأبهة والرفعة ويزهد في اعتبارات كثيرة يتفانى الناس في تحصيلها. يزهد حتى في نسبته إلى الشرف ولم يذكر ذلك إلا مرة واحدة ذكره فيه أحد صلحاء الجزائريين أمامي وسألته بعد ذلك عن نسبة بيتهم إلى الشرف فقال (هكذا يقولون) ولا عجب فشرف العلم أشرف نسبة. هاجر الشيخ من دمشق لما كثر إرهاق العلماء في العصر الحميدي فنزل القاهرة من سنة 1225ه 1907م إلى سنة 1238ه 1920م وظل فيها طول هذه المدة على تقشفه والحرص على عاداته، ولما نشر القانون الأساسي في المملكة العثمانية (1908) رأى الشيخ بنظره الثاقب أن عهد الحرية الحقيقية بعيد وكان لا يغتر بقوانين الترك ولا بثرثرة السياسيين فانزوى في مصر حتى استحكم منه مرض (الربو) وقفل راجعا إلى مسقط رأسه قبيل وفاته بأشهر قليلة فعين مديراً لدار الكتب التي كان أنشأها في صباه وعضواً في المجمع العلمي العربي وناداه ربه إلى جواره يوم 14 ربيع الثاني سنة 1338ه (5 كانون الثاني سنة 1920م) فدفن حسب وصيته في سفح قاسيون جبل دمشق، وقبيل وفاته برح به الألم فاقترح على الطبيب أن يعطيه دواء يميته حالاً قائلاً أن في الشرع ما يبيح ذلك وهذا من أغرب ما سمع من عاقل. أما الطبيب فركن إلى الفرار وحلف أن لا يعود لتمريض الشيخ. كان الشيخ فيلسوفاً بكل ما في الفلسفة من معنى شريف لا تلتوي أخلاقه ولا ينزل بحال عن عاداته متشدداً في دينه زاهداً في دنياه لم تبهره زخارف الحياة ولم يتزوج حتى لا يشغل ذهنه بزوج وأولاد وليكون أبداً مطلق العنان يسيح في الأرض متى أراد أو يقبع في كسر داره وسط كتبه ودفاتره، ولئن خلا من هم نفسه فما خلا ساعة من

الاهتمام بأمر المسلمين وتحبيب العلم والعمل إليهم. وعقد له صلات مستديمة مع علماء عصره على اختلاف أديانهم وأجناسهم، صحب صديقه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كما صحب صديقه العالم المجري (غيولد صهري) اليهودي. وكثيراً ما كانت صلاته بعلماء المشرقيات باعثة على تخفيف حملاتهم على الإسلام ولو قليلاً، وهذا جل ما كان يهتم له ثم يهمه من أمر المستعمرين من المستشرقين توفرهم على خدمة آدابنا بنشرهم كتبنا النفيسة وكان يعاونهم فيما هم بسبيله إذا استطلعوه طلع رأيه ومتى استفتوه أفتاهم بما يتعذر وقوفهم عليه. ومن عادة الشيخ أن يصحب الفرق المختلفة مهما كان لون طريقتهم ونحلتهم حتى الملاحدة وأرباب الطرق، رأى ذات مرة جماعة يتألفون على طريقة لهم يحبونها وأذكار مأثورة يقيمونها وشهد في بعض أفرادهم استعداداً للعلم، فما زال بشيخهم، وكان من أصحابه وتلاميذه حتى حمل الجماعة على أن يشغلوا الوقت في مطالعة كتاب من كتب القوم في التصوف وكان هذا الكتاب في الأدب العالي والأخلاق الفاضلة، ورأيت الشيخ يحتمل كثيراً من تجهم بعض أولئك المتألفين فيدخل في مجلسهم متظاهراً بأنه طالب استفادة حريص على درس أستاذهم وهو يحمل إليهم النسخ المخطوطة من الكتاب لمعارضتها بالمطبوع يحاول أن يعلم بعضهم صورة المراجعة في كتب اللغة حتى تسلم العبارة من الخطأ، ويخدم الكتاب الخدمة اللائقة، وبذلك تيسر له أن ينقل بعض أرباب الاستعداد منهم من كتب التصوف إلى كتب العلم والأدب. وسمعت بعضهم يتبرمون بقراءة تفسير ابن جرير الطبري وتبسطه في شرح الكتاب العزيز فجاء من هذه الزمرة أدباء نافعون بعد أن كانت نفوسهم مشبعة بالكشف والخيالات والمنامات. وأدخل النور على كثير من أذكياء العلماء من أصحابه وكان منهم الذين ذرفوا على

الستين فما استطاعوا أن يؤثروا الأثر المطلوب في مريديهم ومنهم منساعدهم الطالع أن كانوا في سن الشباب فعالجوا التأليف والوعظ والتعليم فانتفع بهم الناس كل النفع ومنهم من لم يتمرنوا على الكتابة والالقاء فبقيت لهم أفكارهم في دائرة القوة لم يتعد أثرها المحتفين بهم من الأصحاب والمريدين. ولقد كانت له صداقة أكيدة بالعالم المطران يوسف داود السرياني يتسامران ويتحدثان ويتهامسان ويتناقشان. وما أدري إن كان المطران أثر في الشيخ أو أثر الشيخ في المطران؟ سمعت الشيخ يثني الثناء المستطاب على صديقه المطران، وقد طالت به صحبته وعشرته. وهكذا كان له اتصال بالأرمن واليهود واليسوعيين الكاثوليك والأميركان البروتستانت. وكان يغضي عن كثير من النقد على رجال الدين من غير المسلمين ويقول هم أقرب الناس إلينا يعتقدون بالله واليوم الآخر وخلود النفس. وكانت جميع الطوائف تستلطفه وتحب عشرته على ما بينها وبينه من التخالف الظاهر في الزي والعادة والخلق والمذهب ويطلعونه من سرائرهم على ما لا يبوحون به لأقرب الناس إليهم وسمعته غير مرة يقول: "الحمد لله لقد سالمنا كل الفرق". صحب بعض الزنادقة وما زال يصبر على ما ينبو عنه سمعه من تصريحهم وتعريضهم وما فتيء يلقنهم أفكاره بالتؤدة مدة حتى عاد بهم إلى حظيرة الدين وهم لم يشعروا فيما أحسب بما دخل على عقولهم من التبدل وصحب كثيراً من غلاة الشيعة والطوائف الباطنية فما برح يلطف لهم حتى أضعف من غلوائهم وأبدلهم بعد الجفوة أنسا وغير من انقباضهم وانقباض الناس عنهم، ليعيشوا في هناء وسط المجتمع الإنساني الأكبر. وكان يتفنن في بث الأفكار الصحيحة وإخراج قومه من الأمية

المميتة ويحمل خاصته ومن يصل صوته إليهم على تعليم أولادهم الممكن من ضروب العلم الذي يتناسب مع حالتهم الاجتماعية. وقال لي مراراً إذا أردت إدخال الإصلاح إلى بيوت الأعيان وفيهم الجاه والمال فأجهد لأن يتعلم ولو فرد واحد من كل أسرة تقلب به كيانها. وكثيراً ما قال لنخرجن من بيوت الأغنياء أولاداً يحاربونهم بسلاح التربية الصحيحة وقد وفق إلى ذلك بعض الشيء، وكان يقول لو طلب مني اليهود أن أعلمهم ما تأخرت ساعة عن إجابة طلبهم لأن في تعليمهم تقريبا لهم منا مهما كانت المباينة والفوارق بيننا وبينهم. ما رأيت الشيخ يبغض إنساناً بغضه لشقيقين دمشقيين جعلا شعار العلم على رأسيهما وكان إذا ذكر أحدهما أو كلاهما في مجلسه يقول (دعونا) وتنقبض نفسه انقباضا دونه كل انقباض ولو علمت أن بغضه لهما- وكانا بغيضين للناس- كان ناشئاً من كونهما أعطيا عهداً على أنفسهما أن يصدا الناس عن طلب العلم لبطل عجبك. وأكد الأستاذ أن الأخوين قد وفقا بدعايتهما الضارة إلى أن قطعا عن الدرس نحو أربعين طالباً، كان يرجى أن يكون منهم متعلمون بل علماء عاملون وكان من عادة بعض أدعياء العلماء من الشيوخ أن يرغبوا الناس عن الدرس ليخلو لهم الجو ويستمتعوا وحدهم بالمناصب الدينية والأوقاف والمدارس والجوامع لا ينازعهم أحد في شؤونهم ما خلا أبناء بيوت محدودة معروفة ممن هم على شاكلتهم في غش الأمة والاستئثار بمرافقها. فكان شأن هؤلاء في الاستئثار الممقوت شأن كهنة قدماء المصريين لا يسمحون لغير فئة خاصة بالتعلم أو شأن أصحاب الطبقات من الهنود أو اللاويين عند اليهود لا يدخل أهل طبقة في طبقة غيرها مهما تبدل من حالتها. من أجل هذا كان من رأي الشيخ أن يتعلم كل طالب علم (العلم الإسلامي) صناعة أو تجارة أو نحو ذلك من أسباب المعاش مما يغنيه

عن الناس وعن تكفف العظماء لتعزف نفوسهم عن التناول من الأوقاف والتمرغ في حمأة القضاء والإفتاء، وينشأوا على استقلال النفس، لأن هذا العلم يطلب لذاته وفائدته في الدارين لا للتكسب به عند السلاطين والحكومات. وفي سيرة بعض علمائنا الأقدمين ممن كانوا يحترفون ويتجرون عبرة لأهل هذا الشأن وأي عبرة. ولطالما تفرس الشيخ في إنسان الشر وأعرض عنه وحذر أصحابه من الدنو منه فيناله من نقد غير العارفين ما يناله ويقولون أن الشيخ صاحب أطوار وغرائب والشيخ ساكت يقول: "هم أحرار ونحن لا نكم أفواه الناس عن التحدث بما يروقهم" ولا تلبث الأيام بعد حين أن تكشف نفس ذاك الشرير على صورة مستغربة وكثيراً ما كنت أسأله عن الأشخاص من حيث علمهم أو أخلاقم فيجيب (الأمر مجهول) فأفهم بالتعريض أن في معلوماتهم م أو سلوكهم نظراً، فيظهرون بعد لأي بمظهر الجهل أو الخيانة وقد خدعوا السذج من أصحاب الصدور السليمة ومن قلت تجاربهم في المجتمع أعواما غير قليلة. ومن فراساته الغريبة يوم حدث الاعتداء على ولي عهد النمسا في مدينة سراجيفو سنة 1914م أن حرباً أوربية طاحنة ستنشب لا محالة فأبعد في تصوره خطورة الموقف إلى ما لا يتعداه غير أعاظم المفكرين العارفين بنتائج الحوادث. كان يصدع بالحق ولا يماري إذا دخل مجلساً ورأى فيه بعض الظالمين أو المخرفين غلب عليه الجلال فلا بنطق بكلمة، وإذا رأى من أحد الحاضرين تمويها في أمر وخروجاً عن الصدد جبهه واحتد فيخرج عن مألوف الناس في الملاينة والملاطفة وهذا سر من أسرار ازورار بعض الناس منه. واتفق أن أحد أترابه ارتقى في الدولة العثمانية حتى أصبح الحاكم المتحكم في العهد الحميدي فقاطعه الشيخ مقاطعة بلا سبب ظاهر فتوسط صاحبه أحد أقاربه ليعود الشيخ إلى مراسلته ووعد الشيخ ومناه فأغضى الشيخ عن إجابته ثم ألح الوسيط

بعد مدة ليعرف الداعي إلى إعراض الشيخ عن صاحبه فقال: "اكتبوا له أننا لا نتعرف إليه ما دام لا يعرف أمته ومتى فكر في إسعادها وتخفيف البلاء عنها عدنا اخوانه واخذانه"، وحدث أن صديقه الأستاذ أحمد زكي باشا نال بواسطة المرحوم أحمد حشمت باشا وزير معارف مصر اعتماداً بعشرة آلاف جنيه لطبع مجموعة من الكتب العربية القديمة النادرة تبلغ فيما أذكر سبعة وعشرين كتابا ومنها ما يدخل في بضعة مجلدات فتباطأ زكي باشا في الطبع ومضت السنة فقيد المبلغ في نظارة المعارف على حساب السنة المقبلة ولم يخرج الباشا شيئاً وهكذا حتى ألغي الاعتماد باستقالة حشمت باشا فغضب الشيخ غضبة مضرية من عمل زكي باشا وصارحه بقوله: "لقد أسأت إلى الأمة العربية بإبطائك في إخراج الكتب للناس وإذا ادعيت أنك كنت تقصد نشرها سالمة من الخطأ مشفوعة كلها باختلاف النسخ والتعاليق فالتأنق لا حد له ويكفي أن ينتفع الناس بالموجود" وظل الشيخ أشهراً لا يكلم صديقه الزكي إلا متكلفا كأنه عبث به وعمل الضرر إلى مصلحته مباشرة. وأي مصلحة أعلق بقلبه من نشر آثار السلف وإذ كان الشيخ عصبي المزاج يحب إتمام كل عمل لساعته وكان يستشيط غضبا من رجل قال له إن لك عندي كتاباً ولكني أنسيته في داري أو حانوتي أو مدرستي وكثيراً ما كان يحمل من يشغله بكتاب جاءه على أن يفتح محله مهما كان بعيداً أو مهما كان الحديث في ساعة متأخرة من الليل. ويقصد الشيخ في ذلك أن يعلم الناس العناية بمصالح غيرهم أيضا. وكان يقول في مثل هذه الأحوال ولعل في الكتاب أمراً مستعجلاً يستدعي أن يجاب عليه في الحال (1).

_ (1) ش: ج 6 م 5 ص 22 و29 غرة صفر 1318ه - جوليت 1929م.

غريب عاداته

-3 - غريب عاداته: كان سمت الشيخ وهندامه سمت العوام وهندامهم وعمامته من الأغباني في جبة بسيطة وقفطان قطن وزنار مزدوج يخبأ فيه بعض الدراهم وألبسته من صنع الوطن إلا النظارتين والطربوش ويختار من القمصان والسراويل ما خف ثمنه ليطرحه إذا اتسخ ولا يشغل ذهنه بغسله وكثيرا ما يلبس قميصين وسروالين وقفطانين وصدريتين وجبتين ليكون على أتم الاستعداد لما يطرأ على أحد الزوجين فيطرحه حالا ويستعيض عنه بأخيه دون انتظار شيء آخر ويقل استعماله للمناديل المتعارفة المعمولة من القطن فيعمد إلى اتخاذ مناديل من الورق الغليط يضم بعضه إلى بعض ويخيطه فيكون دفترا يلقي به الشيخ بعد أن يتسخ كله. وكان يطهر جسمه ولا ينظف ثيابه كثيرا. أصيب بهذه الخلة خصوصا بعد أن فقد والدته في صباه ولم يبق له من رحمه امرأة تتعهده أبدا بنظافة ثيابه والعناية بظواهره وأنى له هوان يسد مسد أمه في ذلك وفكره مشغول بمطالب عالية أخرى قد لا يتسع لمثل هذه الجزئيات في رأيه. ورأيت في بعض تعليقاته في ترجمة عبد الله بن الخشاب وكأنه بنقله لها ترجم نفسه فقال بلسان الحال، وهذا رجل مثلي كان إلى الخمول قال: "كان وسخ الثياب ما تأهل ولا تسرى له معرفة بالحديث والمنطق والفلسفة والهندسة بل بكل فن، وكان يترك عمامته أشهرا ولا يغسلها ويلبسها كيف اتفق فإذا قيل له في ذلك يقول ما استوت العمة على رأس عاقل قط" وشيخنا رحمه الله كان من هذا الطراز. والعبقرية على ما يظهر تكمل من صاحبها ناحية واحدة وتنقص منه من الناحية الأخرى بقدرها. أراد الشيخ أحد أصحابه في القاهرة

خلال الحرب العامة على أن يغير جبته لأنها بليت بعض أطرافها فسكت الشيخ عن إجابته، فلما ألح عليه مرتين وثلاثا أجابه "يا فلان تريدني على اقتناء جبة جديدة وأهل الشام اليوم تموتون من الجوع". وأضافه أحد أصدقائه في بيروت وأخذ ذات يوم ثيابه بدون استئذانه ليغسلها وعوضه عنها ثيابا جديدة فحنق الشيخ وما زال بمضيفه حتى أعاد إليه ثيابه الوسخة وذلك لئلا يشغل فكره في ثيابه ريثما تغسل وتنشف ولئلا يلبس ثيابا غير ثيابه. وغضب مرة على أحد أصحابه ومساكنيه في القاهرة لأنه افترص غيابه فنزع من غرفة الشيخ جميع الكتب والفراش المملوء بالبق وكنس الغرفة ونفض الغبار عن الكتب والأواني وغسلها ووضع سماً لقتل البق في السرير حتى لا يصل إلى الشيخ فيقرصه وأعاد كل شيء إلى مكانه فلما رأى الشيخ ذلك عرف ما دبر له ولم تطب نفسه بهذه التعزيلة وانحى على صاحبه باللوم والتقريع. ورأيته مراراً نتأ مسمار أو مسامير عن حذائه فكان يخصف من ورق الشجر يجعله في الحذاء لينقي ضغط المسمار على رجليه ولا تحدثه نفسه أن يذهب إلى الحذاء يصلح له حذاءه وإذا قلت له في ذلك أجابك أن الوقت لا يساعدني. وكان مداسه متسعاً في الشتاء يجرف من الأرض طيناً كثيراً يعلق بجبته فيصبح وجهها شكلا وقفاها شكلا آخر. ولطالما تبرم بزيارته أيام المطر بعض ربات البيوت مخافة أن يعلق طين جبته في المقعد الذي يقعد عليه. وكان إذا اشتد الحر استثقل الجوربين فنزعهما من رجليه وعوضهما أوراقاً هشة ملونة جعلها خفاً في نعله لتمتص العرق بزعمه. وأنت لا تملك نفسك من الضحك إذا رأيت رجليه وتستغرب من عظيم كهذا يهزأ بعادات مجتمعه إلى هذا الحد ولا يبالي النقد ولا الملام ولطالما قال أنا شاذ ولا أحب أن يقتدي بي أحد. ومن عادة الشيخ أن يحمل في جيوبه وعبابه بعض الدفاتر والرسائل

بل أقلاما ودواة ومقراضا وسكينا وأبرا وخيوطاً وشيئا مما يحمل من النواشف والخبز والجبن والزبدة والتين والزبيب وفي بعضها مادة دهنية دسمة يخشى أن تسيخ كالشواء وما دخله سمن أو زيت من المآكل يضع ذلك في مقوى أو ورق غليظ ويستعمله عندما يريد ويطعم منه أصحابه إن أحبوا، أما الدخان والسكر والمربى فيحمل منه مؤونة أيام أحيانا، وقد يطبخ القهوة في داره كمية وافرة ويعمل منها ما يكفيه أسبوعا حتى لا يضيع وقته بطبخها كلما أراد تناول فنجان منها وهكذا يشربها باردة بائتة أياماً لئلا يشتغل بها كل ساعة عن مطالعته. وقال لي مرة أنه ابتاع أرطالا من البرتقال وضعها في داره ومن الغد بدا له أن يسافر وتذكر وهو على أذرع قليلة من البيت أنه يجب أن يستصحب في حقيبته شيئا من البرتقال وتذكر ما اشتراه منه بالأمس فآثر أن يبتاع برتقالا من الطريق لئلا يضيع وقته بالرجوع إلى الدار بعد إزماعه الخروج منها ولم يعد الشيخ إلى داره إلا بعد ستة أشهر وفرح أن رأى برتقالاته تضمر وتنشف. وكان مغرما بالتدخين منعه الطبيب منه وأراده على إبطاله فتعذر عليه ذلك فقال الطبيب إن كان لا بد من التدخين فلف بنفسك لفائفك حتى يمضي جانب من الوقت في اللف وكان الشيخ لا يحسن صنع لفائفه فتجيء واحدة دقيقة وأخرى غليظة وثالثة متوسطة وعندئذ يبدأ الشيخ بتجاربه ليضع اللفافة في البز (الفم) الذي يلائمها وكان في جيب الشيخ بضعة من هذه الابزاز يتخيرها من القصب أو غيره من أنواع الخشب وهكذا كان يتلهى عن الإكثار من التدخين ولو بضع دقائق وإذا قلت له بإبطال التدخين ينهرك ويعرض عن حديثك هذا وهو صاحب إرادة قدت من حديد أو صخر. ومن عادة الشيخ خلال الأربعين السنة الأخيرة من حياته أن لا ينام إلا إذا صلى الصبح يساهر بعض أصحابه هزيعا من الليل ثم يغشى

حجرته يطالع ويؤلف وكان لا يراعي أوقات بعض أحبابه فيوقظهم أحياناً بعد الهزيع الثاني من منامهم ليسمر عندهم أما من كان لهم مواعيد ويعرفون التوقيت لساعات الليل والنهار فكان يصونهم عن غشيان منازلهم موهنا ولا يطرق أبوابهم بعد الأوقات المعينة للسمر والسهر. كان يحب السباحة والعوم وله مسبح خاص في بيروت وآخر في صيدا ومسابح في بعض أنهر دمشق وربما لبس سراويله مبللة بعد الخروج من سباحته ويهوى السير على الأقدام للتريض ولطالما قطع عشرات الأميال بين المدن والقرى والجبال والأودية سائراً على قدميه. وقد يراه في الطريق بعض أصحابه أو من لا يعرفه ويدعونه إلى الركوب في مركباتهم أو على متون دوابهم فيأبى لأنه لا يحب أن ينقض أمراً أبرمه ونفسه تتوق إلى السير ماشيا فأي معنى للركوب. ومن أغرب أطواره أنه إذا استعدت نفسه للقيلولة قال وهو وسط إخوانه يتذاكرون ويتدارسون. يقيل وهو قاعد ويضع على وجهه منديلا وربما أتم إغفاءته عند إنجاز الدرس والمذاكرة ولم يكن يحب أن يطول الدرس أكثر من نصف ساعة لأنه يتبرم بالجد في هذه المجالس وهو يقضي الساعات في مطالعاته الخاصة (1). -4 - كان الشيخ لا يعرف الهجر ولا يشتم شتما ينبو عن حد الأدب مع حدة فيه ظاهرة وألم من من أكثر أحوال المجتمع وكان إذا صفا ذهنه تفصح عبارته في محاضرته وإلا فيعتريها شيء من اللهجة المغربية ممزوجة بالعامية الدمشقية وله تعبيرات خاصة وأساليب في مصطلحاته

_ (1) ش: ج 7، م 5، ص 21 - 24 غرة ربيع الأول 1348ه، أوت 1929م.

ونبراته لطيفة تحلو من فمه، يمزج أحماضا من الجد وما أحصى عليه أن نطق يوما بفحش أو هراء أو استعمل ما ينافي الأدب والمروءة وكان يميل إلى بعض من فيهم البلاهة ممزوجة بالذكاء وتصدر عنهم غرائب الأفكار والتصورات وربما قصدهم كل سنة من بلد إلى بلد ليقطع بينهم أياما يخرج فيها من الجد ويدخل معهم في حديث قد يروقه للتسلية. حدثني أحد لداته قال: كنا في دمر إحدى قرى دمشق نقضي فيها يوما للنزهة وكنا في نحو الثلاثين من العمر فاعتزل الشيخ طاهر في ناحية من الحديقة يطالع ويكتب في ظل شجرة وكنا حراصا على أن يكون معنا طول النهار وكانت في البستان فتاة إسرائيلية جميلة الطلعة فاقترحنا عليها أن تذهب إلى الشيخ المستظل بالشجرة وتأتينا به ونحن نكرمها بالمال فصدعت بالأمر ولما رفع رأسه من كتابه أخرج لها في الحال قطعة من قمر الدين (معجون المشمش) وقال لها: "إيه بارك الله أتأكلين قمر الدين يا قمر الدنيا" وصرف الفتاة بهذا التقريظ وهذا كل ما أثر عن الشيخ في باب التصابي. وسأله أحد الطلبة عن حكم التقبيل وما إليه فأجابه هذا موضوع لا أعرفه سل غيري وتكلم أحد أصحابه بعيداً عن الحشمة في حضرته فأشاح بوجهه وتصام كأنه ما سمع ولا دهش لهذا الغريب من الحديث على حين كان مغرما بالغرائب ولكن لا من هذا البحر والقافية. سأله أحد الفقهاء ممن ألفوا كتباً دينية حشوها بما لا يقره الشرع الصحيح ولا العقل الصريح كيف تجد كتبي يا شيخ طاهر؟ فأجابه في الحال متخلصا أجمل تخلص "اشتغلوا ونحن نشتغل لنرى لمن تكون النتيجة" وكان يكره المتشدقين من المؤلفين والكاتبين خصوصا في الدين والسياسة بل يكره كل من يقول بغير علم ويحاسب الذين يرمون الكلام على عواهنه حسابا غير يسير ويسميهم الحشوية كما

يكره الجلجلوتين والقبوريين والجامدين والمماحكين. وسمعته يقول إن فلاناً بردِّه على الماديين وهو لا يحسن العلوم المادية فتح علينا أبوابا يصعب سدها وفلانا بمقالاته السياسية المطولة يفتح بقلمه كل حين مشاكل صعبة الحل. وكان ينهر من يوردون أحاديث تفت في عضد السامعين وتلقي في قلوبهم الرعب والوهم لأن من مذهبه تقوية القلوب وإزالة غشاء الأوهام من الأحلام وأن يصمد المرء لكافحة الحوادث ولا يحب الاستقراء والاستنتاج إذا كانا في غير محلهما حتى لا يؤدي التزيد والتفلسف إلى تزييف الوقائع وإلباس الحقائق غير صورها ولذلك كان يستلطف من الإنكليز السكسونيين إيجازهم في أحاديثهم وكتبهم ويوحشه من اللاتينيين تبسطهم في أقوالهم ومكتوباتهم. كان يرفق بالضعفاء ويرفع من قدر الصعاليك ويحمل على العظماء ويترفع عن ملابستهم وكثيرا ما كان يحدث العامة برفق وتؤدة ويخاطبهم خطاب إخوانهم لهم. ولطالما قال أن من الحكمة أن لا تجعلوا بينكم وبين العامة حجابا كثيفا إذا أحببتم هدايتهم والانتفاع بهم في المجتمع وعليكم أن توهموهم أن ليس بينكم وبينهم من الدرجات إلا قليل يوشكون هم إذا اشتغلوا قليلا أن يساموكم أو يفوقوكم فهو بهذا كالطبيب الحاذق يعطي المريض الجرعة التي تناسبه ويتدرج به في المقويات درجة درجة وهكذا كان مع كل طالب ومستفيد، تحقق لدى الشيخ أن ابن أخيه، وكان من نوابغ الشبان، ابتلي بآخرة بالشراب يتعاطاه، فقطع مكاتبته مع شدة حبه له وظل لا يكلمه ولا يبحث عنه مدة اثنتي عشرة سنة وهو يكتم السبب في إعراضه عن نجل شقيقه حتى أشار مرة لبعض خاصته بما يرتكبه المغضوب عليه من أخذ المسكر، وعد عليه في جملة هناته أنه أتعب نفسه في المدرسة زيادة على المطلوب فضعف بصره حتى ينال رتبة علية وكان عليه لو سمع

نصائح عمه أن لا يرهق نفسه ويكتفي من المنافسة مع أقرانه بما توصله إليه الطبيعة بدون إعنات ولا إنهاك بدن وهذا من قوة نفسه وصدق حدسه. كان يكره الاستعمار كرها شديدا ويحب المدنية ويحث على تعلم لغات الغرب ويكره السياسة العثمانية ويقول أن استيلاء الترك على بلاد العرب أضر بها وأزال مدنيتها وغير أخلاقها ولم يكن ينكر على الأتراك أدبهم في عشرتهم ونظامهم في بيوتهم وحسن معاملتهم لكبرائهم. وكان يحب من أهل المدنيات الحديثة كل أمة ترفق بالمسلمين في الجملة ويحب من الناس من يصرف في خدمة المسائل العامة شيئا من وقته وماله. وكان يقول وهو على فراش الموت عدوا رجالكم واغفروا لهم بعض زلاتهم وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد البلاد منهم ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم يقول هذا رجل أخلص كل الإخلاص في خدمة أمته وتفانى في حبها ومعالجة أدوائها الاجتماعية وكان جماعا ما كافأته به في حياته عبوسا وانقباضا وتنغيصا وغصصا ثم عصيانا على إصلاحه الناجع كالطبيب النطاسي يريد الخير بمريضه المعربد وكلما ناوله الدواء عضه وأدماه وشتمه وآذاه "أريد حياته ويريد قتلي". وكان الشيخ كثيراً ما ينشد قول البهاء زهير: يا أيها الباذل مجهوده … في خدمة أف لها خامة إلى متى في تعب ضائع … بدون هذا تأكل اللقمة تشقى ومن تشقى له غافل … كأنك الراقص في الظلمة ويشبه الشيخ من كثير من الوجوه غاندي الفيلسوف الهندي المعاصر وإن لم يكن له ما لهذا من الشجاعة وذلك أن الشيخ لا يحب الأذى ولا العنف ويحاول إحياء كل ما هو آسياوي من اللغات والتقاليد وتعليم الناس الصنائع وعدم الغفلة عما عند الأمم الغربية من مقومات

العلم. ولا عجب فالعقل واحد مهما اختلفت الأعصار وتباينت الأفكار العقل السليم في هذا الشرق القريب وفي ذلك الشرق الأوسط وما وراءه من الشرق الأقصى لا يختلف في مظاهره الحقيقية عما هو عليه في أوروبا وأميركا وإفريقيا. نعم لم يكن الشيخ طاهر كالمهاتما غاندي في حملاته حتى ولا في تصريحاته، المبدآن متفقان إلا قليلاً، ولكن ابن الوثنية جسر على العمل بمداه أكثر من ابن الإسلام. شعار غاندي "هندوسا كنا أم بارسيين نصارى أم يهوداً أياً كنا يجب إذا تاقت نفوسنا إلى أن نعيش أمة واحدة أن تكون مصلحة الفرد مصلحة الجماعة ولا عبرة إلا لعدل مطالبه" أما الشيخ الجزائري فكان يتوقع من القوم أن يقولوا هذا وهو لا يدعوهم إليه إلا بالإشارة والمثال البعيد. والحكيم الهندي قال ما اعتقده غير مجمجم فتخلص من قيود كثيرة وأراد أمته علنا أن تنهج سبيله فكانت شهرته شهرة عالمية وانحصرت شهرة الشيخ في بعض أصقاع العرب. وكان بعضهم يقول أن الشيخ ضنين بالإفادة حتى ادعى بعضهم "أن الشيخ طاهر بئر علم ولكن لا ينتفع بها" والحقيقة أنه يصعب على الشيخ مجاملة من يشتهى ولا مأرب له إلا أن يقال عنه أنه باحث وطالب فوائد فلا يرى أن يتعب نفسه في إفهام فضولي يسأله في الفلسفة العليا أو في مسائل تعلو عن محيط عقله على حين هو في حاجة إلى أن يتعلم القراءة والكتابة فكان في ضنانته هذه حكيما أيضا لا يظلم الحكمة فيلقي دررها بين أرجل من لا يعرف قدرها ولا يتأتى له أن يحسن الانتفاع بها. أما المستعدون للتلقي والترقي فكان يجهد أن يختصر لهم طريق الوصول إلى ما يريدون ويبعث كل حين عقليتهم ويفيض من واسع علمه (1) على أذهانهم وكلما

_ (1) في الأصل عمله.

تآليفه ورسائله

رآهم يحرصون جد الحرص على التفاعل فوائده جاد عليهم بما يعلم إلا إذا كان ثمة شيئاً (1) لا يعرفه فإنه يقول "لا أدري" غير مبال بنقد من يذهبون إلى استقلال علمه وعدم إحاطته. فكان الآخذون عنه بالنظر لتحريه الصدق على ثقة من العلم الذي يسمعونه ويستملونه منه لان الشيخ إلى التصريح بعدم معرفته أقرب منه إلى إيهام الناس أنه يعلم كل شيء شأن المموهين والجامدين ولذلك لم يحسب عليه أن بدت مقاتله لأنه مرة يقول بعد التحقيق ويكره التلفيق (3). -5 - تآليفه ورسائله: ليست تآليف الشيخ مما يتناسب كل التناسب مع علمه الواسع لأن بعضها مما ألفه في صباه لنفع المدارس وهو مفيد جدا في بابه وفي حينه ومن تآليفه المطبوعة (الجواهر الكلامية في العقائد الإسلامية) و (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) و (مد الراحة إلى أخذ المساحة) و (مدخل الطلاب إلى فن الحساب) و (الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام) ورسالة في النحو وأخرى في البديع وثالثة في البيان ورابعة في العروض، وكتاب (تسهيل المجاز إلى فن المعمَّى والألغاز) وشرح ديوان خطب ابن نباتة. ومن كتبه (إرشاد الألباء إلى طريق ألف باء) ورسالة وجداول جدارية في الخطوط القديمة والحديثة. و (التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن) وهي المقدمة الصغرى من مقدمتي تفسيره. ومقدمة سماها الكافي في اللغة وهي

_ (1) كذا في الأصل والصواب: شيىء. (2) ش: ج 8، م 5، ص 20 - 24 غرة ربيع الثاني 1348ه سبتمبر 1929م.

مقدمة معجم ضاع أكثره. و (التقريب إلى أصول التعريب) و (توجيه النظر إلى علم الأثر) ومختصر أدب الكاتب لابن قتيبة ومختصر أمثال الميداني ومختصر البيان والتبيين للجاحظ. هذا هو المطبوع. أما المخطوط فتفسيره الكبير ويدخل في أربعة مجلدات مخطوطة محفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق مع جميع ما ظفرنا به (1) من أوراقه .. ومن المحفوظ أيضاً كنانيشه وفيها خلاصة مما طالعه من الأسفار وعرض له من الأفكار. وله من المخطوطات كتاب (الإلمام بأصول سيرة النبي عليه الصلاة والسلام) و (مقاصد الشرع) وغير ذلك. وقد أحيا بالطبع عشرات من الكتب منها إرشاد المقاصد لا بد ساعد الأنصاري وروضة العلماء لابن حيان البستي والأدب والمروءة لصالح بن جناح والأدب الصغير لابن المقفع وأمنية الألعي وتفصيل النشأتين الراغب الأصفهاني والفوز الأصغر لابن مسكوية إلى غير ذلك من مقالاته في المجلات العلمية وإملااءت جمة كتبت بتواقيع مستعارة لو جمعت لجاءت في مجلدين أو ثلاثة. وألف الشيخ معظم هذه الكتب والرسائل بحسب الدواعي خصوصا مبادىء العلوم ووضعها في زمن كانت فيه الكتب المدرسية في حكم المعدوم وذلك لينهض بالتعليم الابتدائي ويخلص الناشئة من غلطات المتأخرين المعروفة وحواشيهم وشروحهم المملة المضيعة لأوقات الطالب ومعنى هذا أن الشيخ انتبه قبل غيره إلى فساد طريقة التعليم القديمة وأدرك أن الزمان يتقاضى أهل العلم أن يخرجوا الناس من ربقة القيود الثقيلة العائقة عن التحصيل كما انتبه إلى كثرة سريان الحشو واللغو إلى كتب الدين التي خلط فيها كثير من المتأخرين. من أهم كتب الشيخ المطبوعة شرح خطب ابن نباتة وإرشاد الألباء

_ (1) راجع وصف هذا التفسير والأوراق والكنانيش في المجلد الثالث صفحة 171 من مجلة المجمع.

والتبيان والتقريب وتوجيه النظر ففيها لباب علمه وأثر من آثار قريحته تجلت فيها روح بحثه وغوصه على مسائل دقيقة قل أن تسنى نغيره من المعاصرين الوصول إليها. وليس معنى هذا أن سائر ما طبعه الشيخ غير مفيد، المقصود أنه كتب لغرض خاص أريد به تثقيف الناشئة وهذه الكتب هي التي ظهرت فيها شخصية الشيخ وثقوب ذهنه وسعة مداركه وتلطفه في إبلاغ المعاني إلى العقول وحرصه على أن يحيل في الأكثر على عالم تقدمه. لأن الناس في المادة يقدسون الأموات أكثرمن الأحياء. والشيخ وإن كان في مذهبه الديني إلى الاجتهاد لكنه في مذهبه التأليفي أقرب إلى التقليد ينشيء على مذاهب القدماء ولكن بتنسيق وتقسيم بدون أن يشوش القارىء. ولو تيسر للأستاذ أن يسير على نظام أكمل من الذي سار عليه في معيشته وساعده الزمان والمكان على تجويد مصنفاته والصبر عليها قبل نشرها لخلف كتبا وخصوصا في العشرين سنة الأخيرة من عمره تقرأ فيها صورة عظيمة من جهاده ونبوغه. وبلغني أنه دون بعض الوقائع التي شهدها ولم نعثر عليها بين أوراقه الخاصة التي سرق بعضها وقت انتقاله من مصر إلى الشام. ويقيني أن الرجل لو وفق إلى طابعين أغنياء فضلاء يحملونه على العمل على ما خص به من النشاط وشدة الحركة لأنتجت قريحته أكثر مما أنتجت في الفروع المختلفة التي طرقها ووزع قواه فيها ولكن تفانيه في الإسراع بحمل النور إلى العقول وفدح التبعة التي أخذها على نفسه في الإسراع بإنهاض أمته دعواه إلى أن يكتفي بما تهيأ له وضعه وتأليفه ناظرا فيه إلى مصلحة الناس لا إلى مصلحته الخاصة وشهرته في حياته وبعد مماته. كان محيط الشيخ الذي عمل فيه على عهد الشباب والكهولة ضيق المضطرب لا يتسع لانبعاث همته وكانت المطالب التي يتقاضاها منه حرصه على بث الإصلاح والتعليم كثيرة لا يقوى الفرد على حملها

رسائله الخاصة

كلها، ولوف قدر له أن عاش منذ نشأته في محيط أوسع كمحيط مصر وخلا من مدافعة المشاكسين والظالمين ورأى شيئا من الطمأنينة وسعة العيش لتضاعف عمله لا محالة وعم نفعه مصر وغير مصر وربما كان ظهوره في الشام والعهد عهد ظلمة وجهل أبرك عليها وأنفع لها لأن ما اضطلع به وحده لا يضطلع به عشرة علماء على شريطة أن يكونوا في درجته من الإخلاص وشدة الشكيمة وعزوف النفس عن المطامع والدنايا. وبعد فهذه صورة صحيحة من صور الأستاذ الحكيم عجيبة في خطوطها وتقاطيعها، جميلة بألوانها وأشكالها، عرضتها لغرابتها لأنه ندر جدا في المعاصرين من الأحياء ظهور رجل يماثله في أطواره وحركته وسعة حيلته وبسطته في العلوم، اللهم إلا إذا كان ممن لم يبلغنا خبره في البلاد النائية والزمان بخيل بمثل هؤلاء النوابغ في كل عصر وقد لا ينبغ اضرابهم في قرون يفادون بكل ما يتفانى الناس من التهالك عليه من مال وجاه ورفاهية وتنحصر لذائذهم في بث أفكارهم وآرائهم ويسعدون السعادة كلها إذا نهضوا بإنارة عقول أهل جيلهم وقبيلهم. رسائله الخاصة: وإلى القارئ الآن جملا من كتب دارت بيني وبين أستاذنا فيها شيء من مبادئه العلمية وروحه السامي ربما ترجمت عنه لقلتها مثل ترجمتنا وزيادة. وكتابة المرء نمامة على علمه وعقل الكاتب في قلمه واختياره قطعة من عقله. وقد صدرت هذه الرسالل من القاهرة المعزية ومن أجمل ما فيها كونها كتبت على البديهة لا كلفة فيها شاْن الشيخ في كتبه ومفكراته. وربما كتب إلى أصحابه كتابا وبعثه في البريد بدون أن يطالعه ثانية، ولذلك رأينا بعض كتبه غفلاً من التاريخ أيضاً. سالته مرة عن منشأ الشعوبية فأجاب: "وأما الزمن الذي ظهرت

فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أوائل الأمة زال عنه الشك في هذه المسألة. ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس مما يقصد به الوقوف على الحقائق فإن هذا نوع آخر. إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة. وأظن أنه لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم وكتب في خصائص البلاد كما ألفت كتب في خصائص اللغات تجعل من الفنون التي يعني بها وتميز عن غيرها ولا تذكر بطريق العرض إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره. وكل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار الغالط فيه. هذا وكما حدث بعض عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية وهما الفريقان اللذان يجمعهها اسم العرب. ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار ولم يزل أثر ذلك باقيا في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا هذا وقد رأيت في بعض بلاد أناسا يقولون إلى الآن نحن قيسية وآخرين يقولون نحن يمانية. كتبت لك ما كتبت والقلم لا يكاد يجري لما حدث لي من الفترة من نحو ثلاثة أسابيع. وسبب ذلك أني اختبرت أحوال كثير من الولايات فوجدتها منقسمة إلى حزبين كل منهما يباين الآخر في كل شيء ولم يظهر حزب ثالث يكون معتدلا ومعدلا لهما. وإذا دام الحال هكذا

تأخرت البلاد عما كانت عليه من قبل. وقد نصحت كثيرا من المحدثين من الأحرار بأن يعدلوا مشربهم وحذرتهم عواقب الأمر غلبوا أم غلبوا فأبوا إلا الإصرار على فكرهم وما قلت لهم رأيي إلا بعد أن ألحوا علي في بيانه وحضر اناس منهم من مركز جمعيتهم وطلبوا مني التفصيل بعد أن بينت لهم ذلك إجمالا فرأيت أنهم يوافقونني في البدء ويخالفونني في النهاية فامتنعت في إتمام البيان وتشاغلت عنهم. فإني رأيتهم يظنون أن حلهم لبعض مسائل الجبر والمقابلة يحل لهم مسائل إدارة البلاد. إن كثيراً ممن كنا نزدري برأيهم في السياسة من تلاميذ المدارس في مصر هم أرقى منهم في ذلك. وقد اجتمع بنا في هذه الليلة أحد المرسلين منهم وسمع منا هذه العبارة وهي ملقاة على صورة تحتمل الجد والهزل فدهش وعرف أنها الى الجد أقرب منها إلى الهزل وكان يتكتم فاضطر إلى الانطلاق فيما يراه من الأخطار التي يصعب تداركها ... إني متشوق لاخبار كثيرة من الولايات لعلنا نسمع بظهور الحزب الأوسط في واحدة منها فيسري ذلك في غيرها شيئا فشيئا. وهذا الحزب يلحقه في أول الأمر أشد اضطهاد لأن الحزبين المتطرفين يبغضانه أكثر مما يبغض أحدهما الآخر لاعتقادهم بأنه أقرب إلى انضمام كثير من الحزبين إليه. وقال من كتاب عن القاهرة في 19 صفر سنة 1328: " وبعد فقد وصلني كتابكم الكريم منبئا بعودكم من بلاد أوربا فسررت بذلك سرورا شديدا وكنت أتمنى لكم هذه الرحلة من زمن قديم لما اتيقنه من الفائدة التامة العامة في ذلك فإن الاقتباس من الأمم المترقية دليل على النباهة لا كما يظن البله من أن في الاقتباس غضاضة ونريد بالاقتباس ما يشعر به هذا اللفط من تلقي الأمور النافعة لا كما يظنه المتكايسون من أن الأمم الراقية ينبغي أن يؤخذ منها كل شيء

حتى أداهم الأمر إلى أن يقلدوهم في الأمور التي يودون هم أن يخلصوا منها. وأما ما يتعلق بخزائن الكتب في الآستانة فقد خطر في بالي خاطر يرتفع به محذور الامتعاض في جمعها وذلك بأن تبقى كل مكتبة في موضعها لينتفع بها المجاورون لها غير أنه ليؤخذ منها الكتب النادرة وهي في الغالب لا تلزمهم ولا يهمهم أمرها وتوضع في موضع معد لها يكون في وسط البلدة. ومن اطلع على دفاتر مكاتبها وجد إمكان إجراء ذلك بدون اعتراض يعقل. ولما عملت برنامجا لكتبها النادرة رأيت أن بعض المكاتب قد يوجد فيها نسخ متعددة من كتاب نادر فلو أخذ أحد النسخ المكررة لم يكن في ذلك ما يقال. وقد كنت ذاكرت بهذا الأمر بعض أعضاء الجمعية فاستحسنه جدا وذكر لي أنه سيسعى في إبرازه من القول إلى الفعل. ثم عرضت شواغل عاقت عن ذلك. وأما مصر فقد دخلت في الدور المجهول وسيكون إما لها وإما عليها. وهذا الدور لابد منه لكل أمة تريد النهوض بعد العثرة فإن ساعدها الزمان والمكان والا مكان نالت مناها والا كان لها تعلل بسوء البخت بعد التشبث بالأسباب الظاهرة جعل الله سبحانه العاقبة خيرا". وكتب ناصحا وواضعا خطة للإصلاح بتاريخ 1 جمادى الأول 1337: "ومما يهم الأمر فيه إصلاح العادات فإن في الشرق كثيراً من العادات التي ينبغي إبطالها كما أن فيه كثيرا من العادات التي ينبغي المحافظة عليها غير أنه لا نبغي أن يستعمل التنكيت في ذلك بل يستعمل مجرد البيان الدال على حسن الشيء أو قبحه. ولا يتيسر الإقدام على هذا الأمر إلا لمن لا يهمه أمر المدح والذم العاجلين بل يهمه حسن الأثر. ومن العادات الرديئة جدا أن الكاتب قد يمكنه أن يكتب في

إصلاح عادة لكنه يرى أن الكلام في ذلك يكفي فيه عشرة أسطر فيرى أن الناس يزدرون بذلك وينسبونه لقلة القدرة على الإنشاء فيترك الكتابة فيه أو يسهب إسهابا لا داعي له من سرد مقدمات معلومة مسلمة لو تركها لكان أقرب إلى الفهم وأبعد من الوهم وما ذلك إلا من تأثير الحشوية فيهم وقولهم أن الناس نسبوك لعدم الاقتدار على الكتابة. فينبغي أن يكون في المجلة ولو مقدار صفحة تبحث في العادات على اختلاف أنواعها وتعليم ذلك للبنين والبنات. هذا ومن جهة رأي الناس في حقكم فإن النبهاء المنصفين منهم يجعلونكم ممن ثبت في حين الشدة ولا تعبأوا بمن يلوم عن جهل وغباوة فإن ذم هؤلاء أقرب إلى المدح من ثنائهم. وكتب إليَّ يقوي عزيمتي على العمل: "وأرجو أن يكون ما حصل لكم من المروعات زائدا في نشاطكم في إفادة الأمة، فإنها في احتياج شديد إلى من يبين لها الطريق الأقوم من أرباب الوقوف والإخلاص وأعظم ما تحتاج إليه هو أمر الأخلاق وما يتعلق بها ومعرفة الأمور العمرانية على وجه لا يكون فيه إخلال بمعالي الأمور وتنبيههم على عدم التعويل على المدنية التي كان الغربيون قديماً يفتخرون بها ويزدرون بمن لا يتابعهم عليها مما هو مبني على مجرد مراعاة الأمور المادية دون غيرها وهي التي جلبت هذه المصائب الحاضرة وقد أشرتم بطرف خفي إلى ذلك في محاضرتكم التي ألقيتموها في مصر حين فراركم من دمشق إليها وقد صرحنا في ذلك في قصيدتنا البائية المطبوعة في الجزء الرابع من منتخبات الجوائب. وقد كان أناس يقرؤونها ويعدونها من آراء حشوية الشرق فما زالوا على ذلك حتى صرح فلاسفة الغرب بذلك. ومما ينبغي أن تحثوا عليه تعلم صنعة ما أي صنعة كانت ولا يكون أحد خاليا عنها ويجعل هذا مبدأ جديدا لهذا العصر والتعويل على الرياضة الجسمانية".

وكتب في غرض الأعراض عن المثبطين من رسالة: "وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي تنبه فيه الغافل فضلا عن غيره موهمين الشفقة. وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع. ولم ير أحد من المثبطين قديما أو حديثا أتى بأمر مهم. وينبغي للجرائد المهمة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة والتحذير منها ليخلص منها من لم تستحكم فيه وينبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم. وقد ذاكرني منذ ليلتين أحد نجباء الأبناء في هذه المسألة وشكا كثيراً منها وعجب لعدم اكتراث المصلحين ببيانها بياناً كافيا شافيا فقلت له: المأمول أن يكون الأوان قد آن لإصلاح هذه العادة التي تهبط بالأمة إلى الدرك الأسفل أصلح الله الأحوال" (1). -6 - وقال من كتاب في غرض التربية: وأؤكد في هذا الكتاب بأمور: 1 - إدخال مبادىء الصنائع في المدارس الابتدائية ويمكن تجربة ذلك أولا في مدرسة واحدة. 2 - إدخال التربية العملية فيها وذلك بتعويد التلميذ على الصدق وأن لا يتكلم في شيء إلا بعد أن يختبره فإن الشرقي اعتاد أن يدعي كل شيء وأن لا يقول في شيء لا أعلم وهذا جعله لا شيء عند الغري.

_ (1) ش: ج 9، م 5، ص 2 - 29 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.

3 - السعي في مدرسة للقراءات السبع مثل ما كان من قبل. ولا ينبغي أن توضع هذه الأشياء في المذاكرة وأن يخطب فيها، فإن مثل ذلك ينبغي أن يخطب فيها بعد أن تصير. وقال في موضوع التعليم وقد رجوته إرشادي برأيه فيها في المدارس ورأيه في البحث في المخطوطات: "ومما زاد فيه سروري شيئان أحدهما الاعتناء بتربية الأنجال، فإن أكثر الآباء يرجون من حيث يدرون ولا يدرون مصلحة أنفسهم وما ذكرتم فهو موافق. والأولى أن يضم إلى ذلك صنعة كالخياطة والتفصيل ونحو ذلك وعرفوني بعد حين البروغرام الذي يظهر لكم. وينبغي أن تتولوا بنفسكم بعض التعليم ولو مدة ربع ساعة على طربق أحد المغاربة فإنه كان يطلب من ولده أن يفيده بعض مسائل بعد أن يشعره بطرف خفي بمظانها فيلقيها الإبن على الأب كأنه يفيده. واما الذين يريدون أن يخفضوا ما رفع الله شأنه ويرفعوا ما خفضه فعما قليل ليصبحن نادمين والزمان يضحك منهم وكذلك الأئمة الغربيون الذين يمتون إليهم بوسيلة التقليد لهم فلا يكن في صدرك حرج منهم فهم اغرار وينبغي أن تمحو من لوح الفكر لفظ اليأس فإنه أضر شيء، وأثبت ففي الثبات جل الحكمة إن لم نقل كلها. الثاني استفسارك عن وصف الكتب فإنه دل على أنك قوي حسن الظن بنا حتى تكاد تعتقد أننا لا نقول شيئا جزافا كما أن أناسا يعتقدون أننا لا نقول شيئا إلا جزافا. وهنا أذكر لك حكاية سمعتها مرارا ممن أثق بهم وهي أن أحد (1) من جمع له بين العلم وغيره من الصفات العالية أرسل إلى أحد من يميل إليه من النبهاء وقال له أريد أن تنشر بين جماعتنا العلم الفلاني فقال لا أعرفه وإنما أعرف العلم الفلاني. فأعاد

_ (1) كذا في الأصل وصوابه: أحداً.

عليه العبارة المسؤول قوله لا أعرفه. فأعاد عليه السائل ما قال أولاً فأراد المسؤول أن يجيبه فأشار إليه بعض الحاضربن إشارة خفية أن يظهر الامتثال ثم قاموا من عنده فقال له المشير: أن فلانا لم يقل لك ما قال إلا وهو يعلم أنه ممكن وإذا تحقق الإمكان فما عليك إلا أن تسعى في إخراج الأمر من القول إلى الفعل فسعى وتم الأمر. وحصلت شائدة عظيمة من إحياء أمر كان دارسا. ونرجع إلى أصل المسألة فنقول: من أراد وصف كتاب ينبغي له أن ينظر فيما قاله مؤلفه في مقدمته أو في خاتمته أو فيهما معا ويأخذ خلاصة ذلك والوصف عندهم ليس عبارة عن النقد بل بيان موضوع الكتاب والداعي إلى تأليفه. وما في الكتاب من الخصائص وعلى ذلك يتيسر وصف الكتب بأسرها حتى كتب الطب فإذا زاد الواصف فصلا من الفصول ليكون كالنموذج كان أحسن وكثيرا ما يكون وصف الكتاب على هذه الطريقة سبب نشره. وأكثر وصف المؤلفين لكتبهم إما مطابقة للواقع أو قريب منه. أما المموهون فقليل في الطبقات القديمة. ومن العجيب أن هذا الأمر لا يشعر به كثير من نبهاء هذا القطر ولفظ الكثير هنا مجاز وجربوا نفسكم في غير التاريخ ونحوه ففي الحديث يمكنكم أن تصفوا هذه الكتب. "في دار الكتب الظاهرية بدمشق". نمره 356 اللطائف في علوم المعارف للمديني. "362 أسماء الضعفاء للعقيلي". "387 معرفة الرجال لابن معين". "390 المشتبه للغساني". "393 الكفاية في علم الرواية".

وهذا أمر يفيد الناس أكثر من كثير من المقالات التي حررها أناس ليس لهم تتبع ولا معرفة بجعل نتيجة للمقالة حتى صار المطالعون يضيق صدرهم من ذلك وقد سألني منذ مدة أرباب المجلات عن أحسن المجلات فقلت أصغرها حجماً. "في 15 ذي القعدة 1328" وقال من رسالة: "مما يهم جدا إدخال مبادئ الصنائع في جميع المكاتب الابتدائية وقد جرب ذلك في بعض المدن فتبين أن ذلك مما يعين على التحصيل أيضا والفائدة في ذلك مهمة. ومما يهم جدا إدخال التربية العلمية في المدارس لا سيما المدارس الإبتدائية. ومن ذلك أن يعود التلميذ على أن لا يتكلم بما لا يعلم وأن يتفكر قليلا إذا سئل عن شيء لم يسبق له به اختبار. وهذا أمر ممكن قريب الأخذ قد عمله أناس فنجحوا فيه- وأرجو أن لا تقرأ أفكاري على أناس من الحشوية أو الفلاسفة الخياليين فإني أربأ بها عنهم. نعم هؤلاء ينبغي أن يعرفوا ذلك بعد العمل به. ونصيحتي لكل محب أن لا يشتغل بمثل هؤلاء فإنه أنفع. "في 21 ربيع الأول سنة 1337" "هذا وقد سرني كثيرا زوال المباينة بينكم وبين الذين نود عدم مباينتهم. وهذا أيضا من أثر النشاط فإن النشاط إذا زال لحق المرء الملل من كل شيء وإذا حصل قويت الهمة ورأى البعيد قريبا وأقام للناس أعذارا ونفعهم وانتفع بهم. • • • قد جرى منذ أسبوعين مذاكرة سرية في طريقة ترجمة إحدى دوائر المعارف الفرنسوية فإن الناس في احتياج لذلك. وقد تبين من

المذاكرة أن أمر المال سهل فإن أحد الحاضرين تعهد بذلك وقال أن له أخواناً لا يتوقفون في الإمداد، ولكن المهم وجود مترجمين كافيين يتعهدون بالقيام بذلك إلى النهاية فقلت أن هذه المسألة تحتاج إلى تفكر وبحث شديد. وقد استقر الرأي على أن تدرس في نحو ثلاثة أشهر ووعدت بالكتابة لكم في ذلك فابحثوا في المسألة فيما بينكم وبين نفسكم ثم فيما بينكم وبين إخوانكم الذين يناسب البحث معهم في ذلك على صفة خاطر قد خطر وكان معنا في المذاكرة الفاضل المقدام السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار وهو يأمل أن يوجد بإرشادك نحو سبعة مترجمين. وقد تشبث بهذا الأمر منذ سنين أناس ظنوا أن المال يأتي بكل شيء فتبين لهم غلطهم وأعرضوا عن الأمر وهذا أمر بعيد جدا ولكن هو في درجة الأمكان القريب من الوقوع وإنما يحتاج إلى الهمة ومعرفة الطريق وقد كان بعض الحاضرين يريد أن يجعل زمام الأمر في يد الحكومة، فطلبنا أن يكتم ذلك عنها، فإنه لا يؤمل أن تقدر عليه فإن هذا الأمر محتاج إلى الحكمة أكثر من احتياجه إلى الحكومة. وقال في رسالة وقد سألته عن التاريخ الهجري وانتقاد بعضهم على استعمالنا له: عجبت لمن يسعون في أن نهجر التاريخ الهجري ويفاتحوننا في ذلك كأنهم لا يعلمون أنا نعلم ما يرمون إليه عن بعد. لكل أمة شعار إذا تركته طمع فيها واستضعف جانبها وربما صارت بعد مدمجة في غيرها. وقد سعى أناس منذ عهد بعيد في أن يضعفوا ما يقوي أمر الإسلام عموماً والعرب خصوصاً فنجحوا بعض النجاح، فطمعوا في أن يقضوا عليه فلم يجدوا أقرب إلى ذلك من إضعاف أمر اللغة العربية والسعي في تبديل خطها والتزهيد في الكتب التي كتبت به جعلوا ذلك دأبهم وديدنهم حتى أثروا في كثير من أبناء جلدتنا الذين يظنون أنهم

على غاية من الذكاء والوقوف على أسرار الأمم فكان ما كان مما هو معروف ثم زاد الأمر فطمعوا في تبديل التاريخ الهجري وساعدهم على ذلك، جبت مصر ففرحوا فرحاً لا مزيد عليه. وقال بعضهم: الآن شفينا الغليل من هذه الأمة غير أن كثيرا ممن انتبه لهذا الأمر سعى في إعادته على قدر الإمكان فامتعض أولئك القوم وصاروا يلمزون كل من يسعى في ذلك. وهذه المسألة نظرا لتعلقها بتاريخ تأخر الشرق لا يتيسر أن يكتب فيها أقل من تاريخ نحو ثلاثين صفحة نحو ثلاثين يوما. وليت شعري كيف يلام المسلم على أن يؤرخ كتابه بالتاريخ الهجري فهل انقرض التاريخ الهجري وهل يريدون أن ينقرض وأصحابه أحياء؟ فإن قالوا أن المقصود توحيد التاريخ في الأمم وأوربا هي القوية الآن قيل أن أوروبا لها تاريخان أحدهما شرقي والآخر غربي وكل يؤرخ به قوم منهم فهل أوقف ذلك التجارة أو أثر في المدنية شيئا. ولم لا يكلفون تغيير مكاييلهم وموازينهم وأذرعهم لتتحد المقاييس في الأمم. وتغيير ذلك ليس فيه غضاضة بخلاف التاريخ. وقد رأيتهم يعتذرون عنهم ويعدون ذلك متانة في الأخلاق فانظر ما وصلنا إليه. وهذا الكتاب يدلنا على أشياء كثيرة من سيرة الشيخ ومرماه ونصاعة حجته وجميل مناقشته لخصوم مشربه. وكتب: "كان كثير من الحشرية يلومونني في تنبيه المؤلفين والطابعين على ما يلزمهم ويقولون أن هذا لا يفيد غير العداوة وأنت تضرب في حديد بارد وما دروا أني ممن يقول بأن العداوة في محلها أجدى عندي من أن أكسب المحبة من غير وجهها وأن معاداة الغاشين لي مما يسرني كما أن محبتهم لي مما يسوءني غير أن الزمان أبان أن كل نصيحة لا تخلو من تأثير ولو بعد حين فإن كثيرا ممن لحقتهم صدمة منا ومن

إخواننا الذين أعطوا هنا عهدا أن لا يغشوا الأمة قد صاروا يراجعون بعض مراجعة غير أن التأثير في المطابع كان أكثر. وأما أمر التصحيح فلم يهتد المصلحون إلى طريقة في إصلاحه. بحيث أن بعض الناس طلب إلينا أن نبحث له عن مصحح لكتاب المحكم لابن سيده وهو أكبر من لسان العرب ليشرع في طبعه فبعد بحث كثير تبين أنه لا يقوم بتصحيحه إلا فلان وهو أحد إخواننا الذين لا يساعدهم- نظرهم في أملاكهم الجمة على التفرغ لمثل هذا الأمر. فأرجيء الآن طبع الكتاب لهذا الأمر. فانظر إلى الحال التي وصلت إليه مصر. فما قولك في غيرها إلا أن الذي يسر في مصر انتباهها لنقصها بخلاف الأقطار الأخرى والانتباه للنقصهو نوع من الكمال. أرانا الله سبحانه الكمال على حقيقته بمنه عليكم بالرياضة الجسمانية والرياضة الروحانية. ويدخل في الرياضة الروحانية التباعد عن سماع الأخبار التي أولع بها المرجفون. فإنه لا قيمة للزمان عندهم وهو عند الحكيم أغلى من الجوهر. "17 رمضان سنة 1326" وكتب من رسالة: "قد سرني في مصر في هذه المدة أن العقلاء بدأوا يجتمعون في الفكر والتعاون على صفة يقتضيها الموقع وهو عدم التظاهر من أول الأمر كما يفعله طالبو الشهرة وهذا أمر لا يشعر به إلا من اطمأنوا إليه. وقد كانوا قبل ذلك يقول كل واحد منهم نفسي نفسي. وإذا استنجده أحد لأمر نافع قال ولو بلسان الحال "عليك بخويصة نفسك". قد اجتمعت في هذا النهار بعالم أورباوي قد حل الخط الثمودي الموجود في مدائن صالح وأخبرني أن كتابه قد تم طبعا وهو الآن يسعى لجمع لغة أهل نجد فإنه وجد أن أكثر الكلمات العربية لم تزل

باقية عندهم وكان قد ساح في تلك الجهات وهو ممن يتعصب للغة الكتاب العزيز أكثر مما يتعصب أهلها لها. كان قد أسس في أميركا مدرسة يقرأ بها الطالب وهو في بلده، وقد كنت رأيت في سورية أحد طلبتها وهو يدرس فيها فنا دقيقا وأظن أنها تسمى المدرسة الكوتشوكية، وقد كان ترجم قديماً إلى العربية بعض قوانينها وطبعت ثم نفدت النسخ بحيث أني بحثت عنها فلم أجد نسخة بل لم أجد من يعرفها فإن وجدتم كتابا بالفرنسوية يتعلق بها فترجموا منه ما تيسر مما يوافق البلاد. وقد سعى بعض الواقفين على ذلك من نحو عشر سنين في بث هذا المقصد إلا أنه على وجه خفي حيث كان نشر العلم إذ ذاك يعد من أعظم الإجرام، والآن لم يبق مانع ومجرد نشر أسلوبها وقوانينها يفيد فضلا عن التشبث بشيء من ذلك. وقال في كتاب: "وقد وقفت على كثير من الجرائد الجديدة فوجدت جل مباحثها في بيان فوائد الحرية ورأيت الناس قد ملوا هذا البحث لأن الحرية إن كانت على المعنى الذي يقول به الحكماء فهي مما لا يختلف فيه اثنان من ذوي النباهة، وإن كانت على وجه آخر فربما كان ضررها أكثر من نفعها. ولست أعني بالحكماء هنا أمثال الحكيم الذي كان يقال لكم أنه تعلم الحكمة في سويسرة في ثلاثة أشهر لأن مثل تلك الحكمة مما يزيد خبالاً. وما أرى أكثر الفتن التي وقعت في كثير من الولايات إلا من مثل هؤلاء لا سيما أن ضم إلى دعوى الحكمة دعوى الحرية وهو لا يملك نفسه. وقد كان أرباب الحدس يتصورون أنها تكون أشد إلاَّ أن الألطاف الإلهية حفت فخفت ولله الحمد. "23 شوال سنة 1326"

ذكر في جملة كتاب حوى مسائل كثيرة في نسخ الكتب وأخذها بالتصوير الشمسي والعناية بوضع فهرس لكتب رومية باللغة العربية ثم قال: "من أغرب ما في القدس امتزاج المسلمين من النصارى على وجه غريب بحيث لم تؤثر فيهم الطريقة التي اتخذها المستبدون في تمشية أمرهم وإن هلك الحرث والنسل. وقد رأى بعض الباحثين أن هذا أمر دبره صلاح الدين الأيوبي برأيه الثاقب منعاً لما حدث من قبل بسبب سوء سياسة الغبيديين الذين كانوا بمصر تغمده الله برضوانه. خذوا على نفسكم عهداً بأن لا تؤخروا جوابا مكتوباً (1) لأحد وخذوا العهد على من كان على شاكلتكم بذلك فإن في ذلك فوائد جمة والمكتوب يسوغ أن لا يزيد على خمسة أسطر. "4 شوال سنة 1337" وقال أيضا: "وأرجو أن لا تقصروا في كتابة نبذ تتعلق بالتربية وتدبير المنزل وإصلاح العادات وما أشبه ذلك وأؤكد عليكم في أن لا تشتغلوا بشيء من الجدل فإن الجدل يبطيء عن العمل، وخذوا من عنان قلمكم لئلا يجري إلى غير مدى والاعتدال أقرب لحصول ما يبتغى. وذكر في رسالة أن الكتب التي يجب أن توصف: 1 - أرجوزة ابن سيده في الأدب وهي من قبيل الملح اللغوية في نمرة 1 من الأدبيات المنظومة مع ديوان أبي العتاهية تزاد فيها نثراً في الآخر الصاحب وما يميل إليه من دواوين الشعر والكتب وما يتقنه من العلوم والصنائع أو ما يتجر به وما يؤثره من الأخلاق ونحو ذلك ويتيسر عمل ذلك في جدول في صفحتين أو أربع.

_ (1) في الأصل: جواب مكتوب.

2 - الجمل في اللغة في الظاهرية نسخة منه ناقصة من الطرفين. 3 - المغرب للمطرزي. 4 - رد ابن السيد على رد ابن العربي على شرحه لديوان المعري. 5 - أعتاب الكتاب لابن الابار. 6 - عروض ابن معطي وبديعيته. 7 - بغية المؤانس من بهيجة المجالس والأصل لابن عبد البر. 8 - قانون البلاغة لأبي طاهر محمد بن جبلة البغدادي في الظاهرية. 9 - مختصر إصلاح المنطق. 10 - الأربعين السلفية وهي مرتبة على البلدان، وممن سمعها على السلفي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ووالده نجم الدين أيوب ابن شادي بقراءة القاضي سناء الملك هبة الله بن جعفر بن سناء الملك محمد بن هبة الله بن محمد الأسدي (1). ينقل صورة السماع فقط. ا ه. محمد كرد علي

_ (1) ش: ج 10، م 5، ص 25 أسفل صفحة 33. غرة جمادى الثانية 1348ه نفامبر 1929م.

رزء الإسلام

رزء الإسلام وفاة مجتهد العصر الأستاذ رشيد رضا ــــــــــــــــــــــــــــــ نعت أخبار مصر وفاة هذا الإمام وقد كانت وفاته إثر رجوعه من مشايعة الأمير سعود إلى الإسكندرية فابتدأه الألم أثناء الطريق وما بلغ إلى مصر حتى وافاه الأجل وقد شيعت جنازته في مشمهد عظيم ودفن بجوار الأستاذ الإمام محمد عبده، لقد كان الأستاذ نسيج وحده في هذا العصر فقهاً في الدين وعلماً بأسرار التشريع وإحاطة بعلوم الكتاب والسنة ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسير العمران والاجتماع وكفى دليلاً على ذلك ما أصدره من أجزاء التفسير وما أودعه مجلة المنار في مجلداتها التي نيَّفت على الثلاثين وما أصدره من غيرهما مثل (الوحي المحمدي) الذي كان أحب كتبه إليه، وإن ما كان يقوم به من عمل في تفسير القرآن لا تستطيع أن تقوم به من بعده إلا لجنة من كبار العلماء، فهل يكون من رجال الأزهر من يتقدمون لخدمة الإسلام بتتميم هذا العمل الجليل، إننا نتمنى أن تتوجه عناية الأستاذ مصطفى المراغي إلى هذا فيكون من أعظم أعماله. أجر الله الإسلام والمسلمين في هذه المصيبة وخلف عليهما خيراً منها ورحم الله الأستاذ حجة الإسلام وجازاه خير ما جازى به عباده الصالحين (1).

_ (1) ش: ج 6، م 11، ص 396 - 397 غرة جمادى الثانية 1354ه - سبتمبر 1935م.

السيد محمد رشيد رضا -1 -

حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - كتبنا كلمة عن وفاته في الجزء الماضي ونريد اليوم أن نكتب شيئاً من ترجمته معتمدين في ذلك على ما نشره هو منها مجموعاً ومفرقاً في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام وكتاب (المنار والأزهر). مولده: ولد في حدود 1291ه 1865م بقرية القلمون من قرى لبنان. بيته: بيت شرف ودين وعلم وفضل وصلاح يعرفون بالمشائخ من قريتهم وإليهم يرجع أهلهم في الدين وإصلاح الشؤون. نشأته: نشأ في هذا البيت الطاهر نشأة علم ودين وتقوى وشعور بواحبات القيام بحاجات الناس وإيصال الخير إليهم. تعلمه وشيوخه: قرأ القرآن وتعلم الخط والحساب في كتاب قريتهم وحبب إليه من الكتب كتب الأدب والتصوف فكان يقرأ كتاب الإحياء لحجة الإسلام الغزالي فطبعه بطابع الزهد والتدين وأكسبه ملكة العربية

الكتب التي خرجته

الفصيحة والأسلوب المرسل في البيان. ثم أدخل مدرسة ابتدائية جميع التدريس فيها باللغة التركية فلم يقم فيها إلا سنة ثم في سنة 1302ه دخل مدرسة الأستاذ حسين الجسر وكان هذا العملامة أنشأ مدرسته لتعليم علوم الدين واللغة العربية واللغات الأجنبية والعلوم الدنيوية على الطريقة العصرية مع التربية الإسلامية الوطنية، فتخرج في العلوم العربية والشرعية والعقلية على الأستاذ الجسر في مدة ثمان سنوات وكتب له شهادة العالمية. وتشبع بروحه في ضرورة الجمع بين علوم الدين وعلوم الكون المادية والاجتماعية والعمرانية مع التربية الإسلامية لنهضة الأمة، وأخذ الحديث وفقه الشافعية عن شيخ الشيوخ العلامة محمود نشافة وحضر قليلاً من كتاب نيل الأوطار للشوكاني على العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي واستفاد كثيراً من معاشرته في العلم والأدب والتصوف وتلقى بعض كتب الحديث على العالم المحدث الشيخ محمد القوقجي. الكتب التي خرجته: شغف بكتاب الإحياء فطالعه كله وأعاد مطالعته فكان له الأثر الصالح في زهده وأخلاقه وإخلاصه في العلم وتقواه في العمل وكان طريقه منه في فهم الدين أنه دين روحاني أخروي فقط وأن إرشاد المسلمين محصور في (تصحيح عقائدهم ونهيهم عن المحرمات، وحثهم على الطاعات وتزهيدهم في الدنيا). ثم اتفق له في أثناء مدة طلبه للعلم- وهو يقلب أوراقاً علمية لأبيه- أن وجد عددين من جريدة العروة الوثقى التي كان يصدرها حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فقرأهما بشوق ولذة بعثاه على البحث عن بقية أعدادها فلما قرأ ما وجد منها المرة بعد المرة أحدثت فيه أثراً جديداً ونقلته من طور إلى طور وصار طريقه في فهم الإسلام أنه

تنسكه

(دين روحاني جسماني أخروي دنيوي من مقاصده هداية الإنسان إلى السيادة في الأرض بالحق ليكون خليفة الله في تقرير المحبة والعدل) وأن إرشاد المسلمين يجب أن يكون- مع تصحيح عقائدهم ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات- إلى المدنية والمحافظة على ملكهم ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة. تنسكه: حبب إليه كتب الإحياء مجاهدة نفسه على طريقة الصوفية بترك أطيب الطعام والإكتفاء بقليله والنوم على الأرض وغير ذلك وأخذ أوراد الشاذلية عن شيخه أبي المحاسن القاوقجي أعبد عباد شيوخ الطريق في وقته ورغب منه أن يسلكه الطريق على الأصول العملية إذ لم يعجبه أن يسلك الطريق على وجه صوري من تلاوة الأوراد وحضور الاجتماعات فقال له الشيخ (يا بني إنني لست أهلاً لما تطلب فهذا بساط قد طوي وانقرض أهله) ثم تلقى الطريقة النقشبندية وقطع مراتبها كلها فكان تنسكه- أولاً - تصوفا طرقيا شاذليا فنقشبنديا بما فيه من حق وباطل وهدى وضلال. تخلص نسكه من الباطل والضلال: دعاه شغفه بكتاب الإحياء إلى اقتناء شرحه الجليل للإمام المرتضى الحسيني فلما طالعه ورأى طريقته الأثرية في تخريج أحاديث الإحياء فتح له باب الاشتغال بعلوم الحديث وكتب السنة وتخلص مما في كتاب الإحياء من الخطأ الضار- وهو قليل - ولا سيما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية والغلو في الزهد وبعض العبادات المبتدعة، وترك أوراد الشاذلية لما علم أن قراءتها (من البدع التي جعلت من قبيل الشعائر والشرائع التي شرعها الله تعالى على ما فيه (أي ورد

تعليمه وإرشاده

السحر وأمثاله) من الأمور والأقسام المنتقدة شرعاً، واستبدل بها قراءة القرآن وورداً آخر في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- (ليس فيه شبهة بدعة من توقيت وجهر وصيغ منكرة ومضاهاة للشعائر الموهمة للمأثور عن الشارع) كما ترك أوراد النقشبندية وذكرها (غير المشروع المخالف لجميع ما ورد في الذكر المأثور) وبين ما في رابطتها من شرك أو بدعة. فتخلص نسكه- بعد طرح ذلك كله للتنسك الإسلامي من تجريد التوحيد وتزكية النفس وتقويم الأعمال وتصحيح النية ومحاسبة النفس ومراقبة الله في جميع الأعمال والزهد في الدنيا والعمل للآخرة والمبالغة في العبادات المشروعة والاعتصام بالورع موزونا ذلك كله ومضبوطاً بالكتاب والسنة وما كان عليه أهل القرون الثلاثة الصحابة والتابعون وأتباع التابعين رضي الله عنهم أجمعين. وهذا هو الذي يراد بالتصوف إذا جاء إسم التصوف في كلام علماء السنة والأثر، وقد كان السيد محمد رشيد رضا رحمه الله من أئمتهم، فهذا هو تنسكه وهذا هو تصوفه. تعليمه وإرشاده: تصدى للتدريس في مسجدهم، حيث كان عمه- كأسلافه- يقوم بالإمامة والخطابة والتدريس فكان يقرىء للرجال دروساً في الفقه الشافعي ودروساً في التوحيد بالسنوسية ولما رأى صعوبتها عليهم وضع لهم عقيدة سهلة وكان يربيهم في تعليمهم بما يحثهم عليه من القيام بالشعائر الدينية وكان يلقي عليهم المواعظ الدينية معتمداً فيها على آيات القرآن العظيم، ثم لم يكتف بما يقوم به من التعليم والإرشاد في المسجد فكان يذهب إلى مقهى يجتمع فيه العوام فيعظهم ويرشدهم حتى هدى منهم من هدى الله، ورأى أن على المرشد هداية النساء

أمره بالمعروف وتغييره للمنكر

مثل ما عليه هداية الرجال فكن يجتمعن في دار أسرته فيلقي عليهن العقائد والأحكام والآداب في عبارات سهلة بدون كتاب وكان يأمرهن بتغيير زيهن بما هو أستر وأطهر حتى تكون المرأة في الشارع كما تكون في الصلاة. أمره بالمعروف وتغييره للمنكر: كان بعد ما قرأ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كتاب الإحياء يأمر وينهي لا يخاف لومة لائم وأول حادثة صدع فيها بالنهي عن المنكر في حفل عظيم من الناس- كانت يوم شهد حفلة للطريقة المولوية ورأى رقصهم وحلقة غلمانهم فصاح فيهم بما معناه (أيها المسلمون إن هذا منكر لا يجوز النظر إليه، ولا السكوت عنه، لأنه إقرار له وأنه يصدق على مقترفيه قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} وإنني قد أديت الواجب فأخرجوا رحمكم الله) وخرج مفارقا لهم. ما وقع بينه وبين شيخه الجسر بسبب هذا الإنكار: كان الشيخ الجسر على علمه بالعلوم الشرعية وإلمامه بالعلوم العصرية شيخا في الطريقة الخلوقية فكان ينصح لتلميذه بأن يكف عن أهل الطريق ولكن لا يأتيه على ما يفعلونه مما يبتدعونه في الإسلام ويشرعونه لأنفسهم مما لم يأذن به الله بدليل. وكان السيد يقول له (أقنعني بما تقول بالدليل ليصير عقيدة لي أرجع إلى قولك) فكان يجيبه الشيخ بقوله (أنت أهل علم وصاحب حجة وليس لك عندي غير ما قلته) وكما كان ينكر على العامة كان ينكر على الحكام والكبراء ما يراه منهم لا يخص بإنكاره أحداً دون أحد وكذلك كل ما كان عن عقيدة ولوجه الله من الأعمال لا يتركه صاحبه على كل حال. هذه ترجمة السيد قبل هجرته إلى مصر وقد رأينا أنه صار عالماً

معلماً مرشداً ذا منزلة رفيعة في العلم والتقوى والنصح للمسلمين وهو بعد في أول العقد الثالث من عمره وسيعرض في الجزء الآتي- إن شاء الله تعالى- لترجمته بعد رحلته (1).

_ (1) ش: ج 7، م 11، ص 409 - 413 غرة رجب 1345ه - أكتوبر 1935م.

السيد محمد رشيد رضا -2 -

الاعتبار بما كنا نشرناه من القسم الأول من حياة حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا ــــــــــــــــــــــــــــــ -2 - لقد بلغ السيد رشيد من الفقه الديني، والتمكن من علوم الكتاب والسنة والخبرة بأحوال الزمان منزلة ما نخال أنها تتاح لأحد من بعده إلا في دهر طويل، لأن الأسباب التي يسرت له لا نراها اليوم مجتمعة في مكان غير أن هذا لا يمنعنا من الاعتبار بحياته والأسباب التي أتيحت له لنأخذ بها ونحث على الأخذ بها وهذه أهم النواحي التي كان لها ذلك الأثر في مقامه العظيم. البيئة المنزلية: البيت هو المدرسة الأولى والمصنع الأصلي لتكوين الرجال. وتدين الأم هو أساس حفظ الدين والخلق. والضعف الذي نجده من ناحيتهما في رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت بسبب جهل الأمهات وقلة تدينهن، والسيد رشيد كانت متانة خلقه وقوة دينه من أثر أمه التي كانت- كما قال هو- على جانب عظيم من الدين مع العلم الكافي لمثلها، ولبيئة بيته، فإذا أردنا أن نكون رجالاً فعلينا أن نكون أمهات دينيات ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليماً دينياً وتربيتهن تربية إسلامية وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكون لنا عظماء الرجال. وشر من تركهن جاهلات بالدين إلقاؤهن حيث يربين تربية تنفرهن من الدين أو تحقره

أثر المعلم

في أعينهن فيصبحن ممسوخات لا يلدن إلا مثلهن ولئن تكون الأم جاهلة بالدين محبة له بالفطرة تلد للأمة من يمكن تعليمه وتداركه خير بكثير من أن تكون محتقرة للدين تلد على الأمة من يكون بلاء عليها وحرباً لدينها. فنوع تعليم البنات هو دليل من سيتكون من أجيال الأمة في مستقبلها، وقد تفطنت لهذا بعض الأمم المالكة لزمام غيرها فأخذت تعلم بناتهم تعليما يوافق غايتها، فمن الواجب علينا- ولنا كل الحق في المحافظة على ديننا ومقوماتنا- أن نعني بتعليم بناتنا تعليماً يحفظ علينا مستقبلنا ويكون لنا الرجال العظماء والنساء العظيمات، وإلا فالمستقبل ليس كالماضي فقط بل شر منه لا قدر الله. أثر المعلم: أغلب المعلمين في المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر لا يتصلون بتلامذتهم إلا اتصالاً عاماً لا يتجاوز أوقات التعليم فيتخرج التلامذة في العلوم والفنون ولكن بدون تلك الروح الخاصة التي ينفخها المعلم في تلميذه- إذا كانت للمعلم روح- ويكون لها الأثر البارز في أعماله العلمية في سائر حياته، والسيد رشيد وفقه الله للتعلم على الشيخ حسين الجسر- كما قدمنا وكان لهذا الشيخ روح واتصل به السيد عزيزا مثل تلك الروح في تلك الأيام فكان لها أثرها في حياة السيد ومن آثارها تشوقه- وقد نال شهادة العالمية من شيخه- إلى ملاقاة الأستاذ الإمام. فعلى المعلم الذي يريد أن يكون من تلامذته رجالاً أن يشعرهم - واحداً واحداً- أنه متصل بكل واحد منهم اتصالاً خاصاً زيادة على الاتصال العام وأن يصدق لهم هذا بعنايته خارج الدرس بكل واحد منم عناية خاصة في سائر نواحي حياته حتى يشعر كل واحد منهم أنه في طور تربية وتعليم في كفالة أب روحي يعطف عليه ويعني به مثل أبيه أو أكثر.

التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي

التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي: فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها- هذا هو المقصود من الدرس على الشيوخ فأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعاته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير وعلى هذه الخطة سار السيد رشيد في تحصيله فإنه حصل قواعد العلوم في ثمان سنوات ثم استمر على مطالعة الكتب حتى بلغ إلى ما بلغ. يحسب كثير من الناس أن تحصيل العلم لا يكون إلا بقراءة كتبه فتطول سنوات تعلمهم ثم لا يبقى عندهم إلا أمهات القواعد وتضيع عليهم تلك السنون ويكسبهم الاستمرار على كتاب واحد مطول جهودا في العلم وانحصاراً في دائرة ذلك الكتاب. فلا تدعوهم أنفسهم إلى مطالعة غيره. ثم إن الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم وتبقى فنون كثيرة من فنون العلم يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده أو مع بعض رفاقه فلا ينتهي من مدة دراسته العلمية في الدروس إلا وقد اتسع نطاق معلوماته بفنون كثيرة كما كان السيد رشيد في مطالعته لكتاب الإحياء وكتاب الأدب وكتاب العروة الوثقى، ونرى الطلاب اليوم في أكبر المعاهد- كالزيتونة- لا يخرج الطالب عن كتبه الدرسية إلى مطالعة شيء بنفسه مما يكسبه علماً أو خبرة بالحياة فيخرج الطالب بعد تحصيل الشهادة وهو غريب عن الحياة. فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم ويوسعوا نطاق التفكير. تعيين الغاية والاستعداد لها: على كل ذي سعي في الحياة أن يعين غايته التي يقصد إليها ويستعد

التفكير والاستقلال فيه

بكل ما يساعده على الوصول إليها، وغاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره وقد كان السيد رشيد وضع هذه الغاية نصب عينيه فكان في تحصيله الدرسي والنفسي يعمل لها فيزكي نفسه ويتزود بما يزكي به غيره. أما أكثر الطلاب فمنهم من تكون غايتهم الوظيف فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم، ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم فهو مثل الأول فأما الغاية الحقيقية التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم ولا اهتمام بها من المعلمين. وحق على كل طالب أن تكون هي غايته وهو مع ذلك نائل العلم ونائل ما يؤهله للوظيف أن أبى إلا أن يكون الوظيف من قصده ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه ويكون مصدر هداية للناس في مستقبل أيامه ولكن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون لهذه الغاية ويعملون لها ويوجهون تلامذتهم إليها. وما أعز هذا الصنف من الشيوخ. التفكير والاستقلال فيه: إذا كان التفكير لازماً للإنسان في جميع شؤونه وكل ما يتصل به إدراكه فهو لطلاب العلم الزم من كل إنسان فعلى الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة تفكيراً صحيحا مستقلاً عن تفكير غيره وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به ثم لا بد له من استعماله فكره هو بنفسه. بهذا التفكير الاستقلالي يصل الطالب إلى ما يطمئن له قلبه ويسمى - حقيقة- علماً، وبه يأمن الوقوع فيما أخطأ فيه غيره، ويحسن التخلص منه إن وقع فيه، وبهذا التفكير الاستقلالي استطاع السيد رشيد رضا أن يتخلص مما في كتاب الإحياء من الخطأ الضار- وهو قليل- كما قدمنا وبه استطاع أن يتفطن لما في الطريق التي دخلها من

بعده من الوظيف

ضرر فتخلص منها جميعها للزهد الإسلامي الصحيح والتنسك المشروع وبه استطاع أن يناظر شيخه حسين الجسر في البدع الطرقية ويسلم من تأثيره عليه بما له عليه من حق وفضل، فالتفكير التفكير يا طلبة العلم فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد وخير منهما الجاهل البسيط. بعده من الوظيف: كل مسلم عليه أن ينفع بما استطاع في أي حالة كان وما كان الوظيف من حيث هو وظيف بمانع لأحد يحترم نفسه من النفع والخير غير أنه في أنواع من الحكومات والأصناف كثيرة من الناس صار الوظيف قيداً في اليد وغلا في العنق، ونحن نعلم أن الإصلاح الديني ما تأخر في القطر المصري والقطر التونسي إلا لأن جميع المتسمين بالعلم متوظفون أو مرشحون للوظيف أو طامعون فيه وكان مما مكن للسيد رشيد رضا في قيامه بما قام به بعده عن الوظيف. ونحن نرى حتما لزاماً على كل من كان يعد نفسه لخدمة الإسلام بنشره والدعوة إليه وبيان حقائقه لأبنائه وغير أبنائه أن يبتعد عن كل وظيف. نعم كان الشيخ عبده موظفا في الحكومة المصرية ولكنه قال هو عن نفسه (لولا ما أرجوه من إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية ما قبلت الوظيف) ومن أين لنا أن نجد مثل هذا القصد أو أن نستطيع أن ننفع بالوظيف أو أن نتغلب عليه؟ إن السلامة من سلمى وجارتها … أن لا تحل على حال بواديها هذا ما عن لنا من الاعتبار في هذا القسم من حياة هذا الرجل العظيم وسننشر القسم الثاني في الجزء الآتي إن شاء الله (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 8، م 11، ص 444 - 453.

السيد محمد رشيد رضا -3 -

حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا بعد هجرته إلى مصر ــــــــــــــــــــــــــــــ -3 - سبب الهجرة إلى مصر: ما كانت البلاد العثمانية في عهد استبداد عبد الحميد لتتسع لمثل السيد رشيد فيما يريده من إصلاح عام وما كان هو ليستطيع الصبر على القعود عما اعتقد وجوبه وجوباً حتمياً من النهوض بالإصلاح فكان لزاماً عليه أن يفكر في الخروج، ولم يكن يصلح لمقصده إلا مصر. هذا إلى ما كان له من الرغبة في الاتصال بالأستاذ محمد عبده والأخذ عنه والتكمل به. سبب تعلقه بالأستاذ الإمام وأول تعرفه به: كاذت مطالعته لمجلة العروة الوثقى باعثاً لإعجابه بالإمام جمال الدين الأفغاني وشغفه والشوق إلى لقائه وكان كاتبه وهو بالأستانة في ذلك ولم يساعده القدر على لقائه وكان حُبه للإمام جمال الدين مستلزماً لحبه لتلميذه ومعينه ووارث علمه وحكمته، ومحرر العروة الوثقى الشيخ محمد عبده. وكان السيد قد التقى به ببلدة طرابلس من أرض الشام وتعرف به وحضر مجلسه فازداد به شغفه وتعلقه، فلما توفي السيد جمال الدين سنة 1314 (1) عزم على الهجرة إلى مصر والإتصال بالأستاذ الإمام.

_ (1) 1897م.

آثار اتصاله بالأستاذ الإمام

آثار اتصاله بالأستاذ الإمام: جاء السيد رشيد إلى مصر وهو عالم مفكر وكاتب متبصر فصحب الأستاذ الإمام صحبة العالم الصغير للعالم الكبير فكان من أول آثار ذلك إصداره للصحيفة الإصلاحية التي كان يستمد روحها من الأستاذ الإمام ثم رغبته منه في إلقاء دروس التفسير التي كانت أساساً لتفسير المنار ورغبته إليه في إقراء علم البلاغة من كتابي أمامها (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) فكانت قراءتهما فتحاً جديداً في العربية كما كانت دروس التفسير فتحاً جديداً في الدين. وفاء السيد للأستاذ الإمام في حياته وبعد وفاته: كان السيد الساعد الأيمن والعضد الأشد للأستاذ الإمام في جميع ما قام به كما كان الترجمان الصادق عن أفكاره والمدره الصمصام في الدفاع عنه. واستمر السيد على وفائه للأستاذ الإمام بعد وفاته كما كان له في حياته وما عرف المصريين وغير المصربين قدر الأستاذ الإمام وحفط عليهم أمانته وخلد لهم آثاره إلا السيد رشيد وكان إلى آخر حياته- قد فاق أستاذه في نواح عديدة من العلم- لا يفتر يلهج بأستاذه حتى كاد ينسى الناس نفسه وأثره الخاص في الدين والعلم والإصلاح. مواقفه بعد الأستاذ الإمام: مضى السيد الرشيد بعد الأستاذ الإمام مضطلعا بأعباء خطته الإصلاحية واتسعت آفاق أعماله إلى العالم الإسلامي كله وكان لا بد له من أن يصطدم بالحالة السياسية التي عليها العالم الإسلامي والتي هي بطبيعتها العقبة الكؤود في سبيل كل إصلاح فأصبح السيد رشيد من الفرسان المعلمين في ميدان الإصلاح الديني والاجتماعي وكان في كليهما يصدر عن إيمان ويجالد بقوة ويناظر بحكمة ويفحم ببرهان.

غايته السياسية

غايته السياسية: لقد كانت غايته السياسية الكبرى إيجاد دولة إسلامية كبرى مرهوبة الجانب تكون مركزاً للأمم الإسلامية في العالم بصفة دينية إذا لم تكن بصفة سياسية، وعلى هذه الفكرة ولهذه الغاية ناصر الدستور العثماني وجمعية الإتحاد والترقي فلما تبينت له منهم النعرة الملية الضيقة ناوأهم وعمل على إيجاد مملكة عربية إسلامية مستقلة عن الدولة العثمانية التي كان يرى الإتحاديين سائرين بها إلى الإنهيار فانضم إلى الجمعية العربية العاملة في مصر وأوربا لهذا الغرض. ولهذه الغاية كان مع الشريف حسين يوم أعلن الثورة العربية حتى إذا تبين غدر الحلفاء بما كان من معاهدة (سايس- بيكو) ورأى الشريف حسين لا يرجع عن اغتراره بهم نفض يده منه وانقلب عليه وعلى البيت الهاشمي كله. ولغايته التي ذكرنا كان ساير إمام اليمن يوما حتى تبين له أن نطاق المذهب الزيدي لا يتسع لأمم الإسلام، وفي أثناء هذا أخذت لوامع الدولة السعودية تلوح في الأفق حتى فاجأت العالم بإزالة العرش الهاشمي المتداعي وانتصابها مكانه بمكة الكرمة، فوجد فيها السيد رشيد ضالته من دولة إسلامية تنفذ الشرع الإسلامي وتقف عند حدوده وتحيي سنته وتقاوم كل ما ألصق به من بدع وضلالات وتنتمي إلى أحد المذاهب الأربعة الكبرى فشمر عن ساق الجد لمؤازرتها وتأييدها وإرشادها ووجد من ملكها الملك عبد العزيز آل سعود الرجل المسلم الذي يحمل للدين وينتصح لكل ناصح فيه فسار معه السيد رشيد إلى غاية واحدة حتى قضى وهو في طريق رجوعه من تشييع ولي عهده. فإذا كان يظهر من السيد رشيد تبدُّل في سيره السياسي فإنما هو تنقل من طريق إلى طريق في سبيل الوصول إلى غاية معينة فلما وجد الطريق اللاحب المبين سلكه حى مات رحمة الله عليه.

أثر السيد رشيد في العالم الإسلامي

أثر السيد رشيد في العالم الإسلامي: إن السيد رشيد بما نشر من تفسير القرآن الحكيم على صفحات المنار وما كتب في المنار وغير المنار، هو الذي جلَّى الإسلام بصفاته الحقيقية للمسلمين وغير المسلمين وهو الذي لفت المسلمين إلى هداية القرآن وهو الذي دحر خصوم الإسلام من المنتمين إليه وغير المنتمين إليه وهتك استارهم حتى صاروا لا يحرك أحد منهم أو من أشباههم يده إلا أخذ بجنايته. فهذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى اليوم في العالم إصلاحا وهداية، بيانا ودفاعا، كلها من آثاره فرحمه الله وجزاه أفضل ما يجزى العاملين (1).

_ (1) ش: ج 9، م 11، ص 508 - 510 رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.

العلامة الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي

العلامة الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي - رحمه الله - ــــــــــــــــــــــــــــــ ما كاد يندمل جرح العالم الإسلامي بوفاة حجة الإسلام السيد رشيد رضا حتى فجع بوفاة مفتي الإسلام الشيخ محمد بخيت المطيعي في رجب الماضي. ونحن نكتب اليوم كلمة عن فضيلته كما كتبنا من قبل عن السيد رشيد رضا وما كان قلمنا القاصر ليوفي واحدا منهما حقه. منزلته العلمية: نال شهاد، العالمية من الدرجة الأولى سنة 1393ه وتصدى لخدمة العلم والازدياد منه بالتدريس بجد منقطع النظير، ومداومة ليس فيها فتور فكان علما في سائر العلوم الأزهرية. وكان ممتازا بين كبراء الأزهر بتحقبق الأصلين: علم الكلام وأصول الفقه وكان بسعة علمه وقوة إدراكه وتمييزه يرفع الخلاف في كثير من أمهات المسائل ويبين أن الخلاف فيها لفظي وأن أصل المسألة محل اتفاق. منزلته في القضاء والفتوى: دعى إلى الاشتغال بالقضاء فتقلد وظائفه وتنقل بينه وبين الفتوى حتى بلغ أعلى درجاتهما فلما بلغ سن التقاعد تفرغ للإفتاء العلمي فكانت ترد عليه الأسئلة من جميع أقطار العالم الإسلامي فيجيب عنها وكان له كتاب يتولون له كتابة ما يحرره ويمليه ويرسلونه إلى السائلين وينفق هو على ذلك كله من خالص ماله.

موقفه من الإصلاح الديني

[صورة: الشيخ محمد بخيت المطيعى] ــــــــــــــــــــــــــــــ موقفه من الإصلاح الديني: كان زميلا للشيخ محمد عبده في الطلب وهو الوحيد من شيوخ الأزهر الذي كان يساميه وينال معه حظاً من الشهرة خارج مصر وكان - على معارضته له في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين.

إنصافه للأستاذ الإمام وشهادته له

إنصافه للأستاذ الإمام وشهادته له: لما رمى بعض حساد الشيخ عبده أيام تصديه لأخذ شهادة العالمية بالتهاون بالصلاة شهد له الشيخ محمد بخيت عند مشيخة الأزهر فقال (1): "إننا دائماً نقدمه فيؤمنا في صلاة الجماعة لتقواه وصلاحه". ولما عقدت أول حفلة لذكرى الشيخ محمد عبده وكانت يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة 1345ه - بالجامعة المصرية (2) كانت تحت رئاسة الشيخ محمد بخيت فخطب في تلك الحفلة ومن جملة ما قال عن الأستاذ الإمام (3): "ترك فراغاً عظيماً كان يشغله وحده، لم يستطع أحد أن يشغله بعده"، فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة والنفوس الكبيرة. علاقتي به: لما رجعت من المدينة المنورة على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة 1332ه جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها رحمه الله، جئت من عنده بكتاب إلى الشيخ بخيت وكان قد عرفه بالاسكندرية لما مر بها مهاجراً، فعرجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان مع صديقي الأستاذ إسماعيل جغر المدرس اليوم بالأزهر فلما قدمت له كتاب شيخنا حمدان قال لي: "ذاك رجل عظيم". وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده. رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزى العاملين الناصحين (4). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ج 1، ص 1043 تاريخ الأستاذ الإمام. (2) بالجامعة المصرية، ج 1 ص 1052. (3) جريدة المقطم الصادرة في 18 ذي القعدة 1340. (4) ش: ج 11، م 11، ص 606 - 607 غرة ذي القعدة 1354ه - فيفري 1936م.

مصطفى كمال

مصطفى كمال رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــ في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث, وعبقري من أعظم عباقرة الشرق, الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو. وإذا قلنا بطل غاليبولي فقد قلنا قاهر الإنكليز أعظم دولة بحرية الذي هزمها في الحرب الكبرى بشر هزيمة لم تعرفها في تاريخها الطويل وإذا قلنا بطل سقاريا فقد قلنا قاهر الإنجليز وحلفائهم من يونان وطليان وافرنسيين بعد الحرب الكبرى ومجليهم عن أرض تركيا بعد احتلال عاصمتها والتهام أطرافها وشواطئها. وإذا قلنا باعث تركيا فقد قلنا باعث الشرق الإسلامي كله فمنزلة تركيا التي تبوأتها من قلب العالم الإسلامي في قرون عديدة هي منزلتها فلا عجب أن يكون بعثه مرتبطا ببعثها، لقد كانت تركيا قبل الحرب الكبرى هي جبهة صراع الشرق إزاء هجمات الغرب ومرمى قدائف الشره الاستعماري والتعصب النصراني من دول الغرب. فلما انتهت الحرب وخرجت تركيا منها مهشمة مفككة تناولت الدول الغربية أمم الشرق الإسلامي تمتلكها تحت أسماء استعمارية ملطفة، واحتلت عاصمة الخلافة وأصبح الخليفة طوع يدها وتحت تصرفها وقال

المارشال اللنبي -وقد دخل القدس- "اليوم انتهت الحروب الصليبية" فلو لم يخلق الله المعجزة على يد كمال لذهبت تركيا وذهب الشرق الإسلامي معها، لكن كمالا الذي جمع تلك الفلول المبعثرة فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة، ونفخ من روحه في أرض الأناضول حيث الأرومة التركية الكريمة وغيل ذلك الشعب النبيل وقاوم ذلك الخليفة الأسير وحكومته المتداعية، وشيوخه الدجالين من الداخل، وقهر دول الغرب وفي مقدمتها إنكلترا من الخارج، لكن كمالا أوقف الغرب المغير عند حده وكبح من جماحه وكسر من غلوائه، وبعث في الشرق الإسلامي أمله وضرب له المثل العالي في المقاومة والتضحية فنهض يكافح ويجاهد. فلم يكن مصطفى محي تركيا وحدها بل محي الشرق الإسلامي كله. وبهذا غير مجرى التاريخ ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوين جديد. فكان بحق من أعظم عباقرة الشرق العظام الذين أثروا في دين البشرية ودنياها من أقدم عصور التاريخ. إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك "أبي الترك" مما يقصر عنه الباع، ويضيق عنه المجال، ولكنني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرِّف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف فمن هم هؤلاء المسؤلون؟ ... المسؤولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به. هؤلاء هم خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء

الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها. اما خليفة المسلمين فيجلس في قصره تحت سلطة الإنجليز المحتلين لعاصمته ساكتا ساكنا. مستغفرا لله، بل متحركا في يدهم تحرك الآلة لقتل حركة المجاهدين بالأناضول، ناطقا بإعلان الجهاد ضد مصطفى كمال ومن معه، الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين ... وأما شيخ الإسلام وعلماؤه فيكتبون للخليفة منشورا يمضيه باسمه ويوزع على الناس بإذنه، وتلقيه الطائرات اليونانية على القرى برضاه يبيح فيه دم مصطفى كمال ويعلن خيانته ويضمن السعادة لمن يقتله. وأما شيوخ الطرق الضالون وأتباعهم المنومون فقد كانوا أعوانا للإنجليز وللخليفة الواقع تحت قبضتهم. يوزعون ذلك المنشور ويثيرون الناس ضد المجاهدين. وأما الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها فمنها -إلا قليلا- من كانوا في بيعته فانتفضوا عليه ثم كانوا في صف أعدائهم وأعدائه، ومنها من جاءت مع مستعبديها حاملة السلاح على المسلمين شاهرة له في وجه خليفتهم. فأين هو الإسلام في هذه (الكليتيات) كلها؟ وأين يبصره مصطفى الثائر المحروب، والمجاهد الموتور منها؟ لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة ولكنه لم يكن على الإسلام وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين. فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم وعلي نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه،

فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون كما تتعاهد وتتعاون الأمم ذوات السيادة والسلطان. أما الإسلام فقد ترجم القرآن لأمته التركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه، وتستقيه من نبعه. ومكنها من إقامة شعائره فكانت مظاهر الإسلام في مساجده، ومواسمه تتزايد في الظهور عاما بعد عام حتى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصلاة عليه تغمده الله برحمته. لسنا نبرر صنيعه في رفض مجلة الأحكام ولكننا نريد أن يذكر الناس أن تلك المجلة المبنية على مشهور وراجح مذهب الحنفية ما كانت تسع حاجة أمة من الأمم في كل عصر لأن الذي يسع البشرية كلها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه لا مذهب واحد أو جملة مذاهب محصورة كائنا ما كان وكائنة ما كانت، ونريد أن يذكر الناس أيضا أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم وما كانت حواصلهم الضيقة لتتسع لأكثر من ذلك. كما يجب أن يذكروا أن مصر بلد الأزهر الشريف ما زالت إلى اليوم الأحكام الشرعية -غير الشخصية- معطلة فيها. ومازال (كود) نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم. وما زال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء -غير المذهب الحنفي- مهجورا كذلك إلا قليلا جداً. نعم! إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية وليس مسؤولا في ذلك وحده وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا ولكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض. وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره. ثم إخوانه المخلصون. فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود) نابليون فماذا أعطوا أمتهم؟ وماذا قال علماؤهم؟.

فرحم الله مصطفى ورجح ميزان حسناته في الموازين، وتقبل إحسانه في المحسنين. وإلى الأمة التركية الشقيقة الكريمة الماجدة، التي لنا فيها حفدة وأخوال، والتي تربطنا بها أواصر الدين والدم والتاريخ والجوار، والتي تذكر الجزائر أيامها بالجميل، وترى شخصها دائما ماثلا فيما تركت لها من مساجد ومعاهد للدين الشريف. والشرع الجليل، إلى تركيا العزيزة نرفع تعازي الجزائر كلها مشاركين لها في مصابها راجين لها الخلف الصالح من أبنائها، ومزيد التقدم في حاضرها ومستقبلها. وإلى هذا فنحن نهنيها برئيس جمهوريتها الجديد عصمت إينونو، بطل (إينونو) ومؤتمر لوزان وثني مصطفى كمال. وأن في إجماعها على انتخابه لدليلا على ما بلغته تركيا الكريمة من الرشد في الحياة الذي تبلغ به- إن شاء الله- من السعادة والكمال. ما يناسب مجدها القدموس، وتاريخها الحافل بأعاظم الرجال، وجلائل الأعمال (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 9، 14، ص 130 - 134. غرة رمضان 1357ه - نوفمبر 1938م.

قسم القصص الديني والتاريخي

آثار ابن باديس قسم القصص الديني والتاريخي (1)

_ (1) كان يجعل عنوان هذه القصص تارة "القصص الديني" وأخرى "قصة الشهر".

محاورة الرشيد مع محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} محاورة الرشيد مع محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ((نروي هذه القصة ليرى القارىء كيف كان علماء السلف يعتزون بعلمهم أمام ذوي القوة والسلطان، وكيف كان الخلفاء يستشيرون أهل العلم عملا بأصل الشورى الذي قرره الإسلام. ونرى التسامح الديني في علماء المسلمين الذين يمتازون به في أيام دولتهم عن جميع علماء الملل، فقد أنقذ محمد بن الحسن نصارى بني تغلب بإشارته من بطش الرشيد وقرر لهم حريتهم الدينية في تعميد أبنائهم. هذا أيام كانت الأمم الأخرى لا ترى لمخالفيها- بتدبير أحبارها ورهبانها- إلا السيف والنار)). ــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو عبيد- يعني القاسم بن سلام-: كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد فقام الناس كلُّهم إلاَّ محمد بن الحسن فإنه لم يقم، ودخل الخليفة ودخل الناس من أصحابه، فأمهل الرشيد يسيرأ ثم خرج الاَذن، فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابه له، فأدخل فأمهل، ثم خرج طيب النفس مسرورأ ثم قال لي: ما لك لم تقم مع الناس؟ فقلت: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة منه، وان ابن عمك- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار»، وأنه إنما أراد بذلك العلماء. فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو، ومن قعد اتباعا للسنة التى عنكم أخذت فهو زين لكم! قال: صدقت

يا محمد. ثم شاورني نقال: إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب على أن لا ينصروا أولادهم، وقد نصروا أبناءهم وحلت بذلك دماؤهم، فما ترى؟ قلت: إن عمر أمرهم بذلك، وقد نصروا أولادهم بعد عمر، واحتمل ذلك عثمان وابن عمك- يعني علياً-، وكان من العلم بما لا خفاء به عليك وجرت بذلك السنن. فهذا صلح من الخلفاء بعده، ولا شيء يلحقك في ذلك. وقد كشفت لك العلم ورأيك أعلى. قال: لا -يعني لا ننقض صلحهم (1) - ولكنا نجريه على ما أجروه إن شاء الله. إن الله جل اسمه أمر نبيه بالمشورة تماماً لما به من الأخلاق التي جعلها الله له، فكان يشاور في أمره فيأتيه جبريل بتوفيق الله. ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك، ومر أصحابك بذلك، وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أصحابك. قال: فخرج له مال كثير ففرقه (2).

_ (1) روى القصة مسندة الجصاص في الأحكام. (2) ش: ج 1، م 5، ص 15/ 16 غرة رمضان 1347ه فيفري 1929م.

الخنساء وبنوها

الخنساء وبنوها أثر الإسلام في النفوس ــــــــــــــــــــــــــــــ من يجهل بكاء الخنساء على صخرها؟ فقدضربت العرب بحزنها عليه الأمثال، وشعرها الخالد من أبلغ ما قالته العرب في مرارة اللوعة البالغة، وتحرق العاطفة الشديدة. وقد كانت الخنساء قبل أن تصاب تقول البيتين والثلاثة، فلما أصيبت بفقد أخيها عمر، ثم بفقد أخيها صخر، الذي أنساها ما قبله، اندفعت بعوامل الحزن فأكثرت من الشعر وأجادت. هذه المرأة التي بلغ بها الحزن على فقد أخوتها في الجاهلية ما بلغ، وانتهى بها الجزع إلى ما انتهى، عادت في إسلامها تقدم أبناءها، أفلاذ كبدها، الأربعة إلى الموت، وتحثهم على خوض غماره، وتحمد الله أن قتلوا كلهم في مشهد واحد، وتصبر محتسبة مصابها لله، مصدقة بوعوده. أين إخوان من أربعة أبناء؟ وما ذلك الجزع عن ذينك وهذا الصبر عن هؤلاء؟ وما الذي قلب طباع هذه النفس من جزوعة مضطربة إلى مطمئنة راضية؟ هو -والله- الإسلام، الإسلام الصحيح كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ديناً فطرياً، فأثر في فطر معتنقيه من العرب الأميين. وإذا لم يؤثر في أقوام مثل هذا التأثير فلأنهم فهموه فهماً معكوساً، أو لبسوه لبساً مقلوباً. ولا وربك لا تتأثر به فطر معتنقيه في كل عهد إلا إذا تناولوه على فطرته في ذلك العهد كما تناوله سلفهم الأولون. • • •

قدمت الخنساء بنت عمرو بن الشريد على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قومها من بني سُلَيْم فأسلمت معهم، فذكروا أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان يستنشدها فَيُعْجِبُه شعرها وكانت تُنْشِده وهو يقول: هيه يا خُنَاس، ويومىء بيده. وهاك قصتها مع بنيها ملخصة باختصار من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر (1): "حضرت حرب القادسية ومعها بنوها، أربعة رجال، فجمعتهم ليلة الوقعة وقالت لهم: يا بني، أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجَّنْت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وذكرتهم بآيات الوعد بجزيل الثواب، للصابرين في مواطن الضراب. وقالت لهم: فإن أصبحتم غدا- إن شاء الله- سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوِّكم مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب شمَّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على ساقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالخلد (2) والكرامة، في دار الخلد والمقامة. فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وباشروا القتال واحداً بعد واحد، حتى قتلوا كلهم، وكل واحد أنشد قبل أن يستشهد رجزاً: فأنشد الأول: لا إخوتي إن العجوز النَاصِحَة … قد نصحتنا إذ دَعَتنا البارحة مقالة ذات بيان واضحة … فباكِرُوا الحرب الضروس الكالحة وإنما تَلقَوْنَ عند الصائحة … من آل ساسان الكلابَ النابحة

_ (1) الإستيعاب 4/ 1827، وانظر خزانة الأدب 1/ 395. (2) في الإستيعاب 1828: (بالغنم).

قد أيقنوا منكم بوَقع الجائحة … وأنتم بين حياةٍ صالحة أو ميتة تورثُ غنما رابحة وأنشد الثاني: إنَّ العجوزَ ذات حَزْم وجلد … والنظر الأوفق والرأي السدد وقد أمَرَتتَا بالسداد والرشد … نصيحة منها وبِرًّا بالولد فباكِروا الحرب حماة في العدد … إمَّا لِفَوْزِ بارد على الكبد أو ميتة تورثكم عِزُّ الأَبَدْ … في جنة الفِرْدَوْس والعيش الرغد وأنشد الثالث: والله لا نَعصى العجوزَ حَرْفاً … قد أمَرتنا حرباً وعطفاً نًصْحاً وبرَّا صادقاً ولطفا … فبادروا الحربَ الضروسَ زَحفا حتى تلفوا آلَ كسرى لَفا … أو يكشفوكم عن حِمَاكم كَشْفا إنا نرى التقصير منكم ضَعفا … والقتل فيكم نَجدة وزلفى وأنشد الرابع: لست لخنساء ولا للأخرم … ولا لعَمروٍ ذي السناء الأقدم إن لم أردفي الجيش جيش الأعجم … ماض على الهول خِضَّم خضرم إما لفَوْزٍ عاجل وَمغْنَم … أو لوفاةٍ في السبيل الأكرم فلما بلغ الخبر الخنساء، أمهم قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني في مستقر رحمته" (1).

_ (1) ش: ج 2، م 5، ص 22 - 24 غرة شوال 1347ه - مارس 1929م.

كيف كان بناء الكعبة المشرفة

كيف كان بناء الكعبة المشرفة اليوم- وقد هوت أفئدة من استجيبت فيهم دعوة إبراهيم - عليه السلام- إلى حج بيت الله الحرام - ننشر لقراء الشهاب قصة بناء البيت كما أخرجها أهل الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنهما - كما تلقاه من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم: وفي هذه القصة بيان، أصل بناء البيت المحرم وحفر زمزم، وبيان ما يذكر به السعي من سعي هاجر، وما يذكر به الطواف من طواف إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- لبناء البيت ورفع قواعده، وتذكير بما كان من إبراهيم وزوجه وابنه من سرعة الامتثال لأمر الله والصبر على البلاء فبم سبيله، وبما كان من حسن جزاء الله لهم على ذلك من البر المعجل والأثر الخالد، والذكر الباقي، والثواب المدخر الجزيل. وفي ذلك كله آيات لكل صبار شكور. ــــــــــــــــــــــــــــــ روي عن ابن عباس من طرق: أن أول من سعى بين الصفا والمروة أم إسماعيل، وأن أول من جرَّت الذيل أم إسماعيل، وذلك أنه لما فرَّت هاجر من سارة أرخت ذيلها لتعفو أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد. وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء. فوضعها هنالك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقا. فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: ألله أمرك بهذا؟

قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا الله. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (حتى بلغ) يَشْكُرُونَ}. وجعلت أم اسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال يتلظى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل إلى الوادي، رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحد! فعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: فلذلك سعى الناس بينهما. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها. ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت من الماء في سقائها وهو يفور بقدر ما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت ماء زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا. قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأن الله لا يضيع أهله. وكانت البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، وكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جِرْهم مقبلين من طريق كِداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائقاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن

ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فألفت ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة فيهم. وماتت أم اسماعيل فجاء إبراهم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة. وشكت إليه، قال: أفإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته، أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن اقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، إلحقي بأهلك. فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم تجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ فقالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: لم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته إنَّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم،

هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذلك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك؟ قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قال: فجعلا يبنيان حتى تدور حول البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا (الآية) (1).

_ (1) ش: ج 3، م 5، ص 22 - 24 غرة ذي القعدة 1347ه، أبريل 1929م.

ملك العرب

ملك العرب ((كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء، فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبد العزيز آل سعود، الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت العظيم في هذا العهد، ومد تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص عن ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين. وأن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير. كتب هذه المقالة التاريخية كاتب شهير في عالم الصحافة الألمانية، وهو الأستاذ ليوبولد وايس ألماني، أسلم منذ أعوام وتسمى باسم محمد أسد الله، وهو الآن يقيم بالحجاز، ونشرتها له جريدة ((الشورى)) الغراء فنقلناها عنها)). ــــــــــــــــــــــــــــــ أدعو ملك العرب صديقي، وإن كان ملكا وكنت مجرد صحافي، وليس سبب ذلك أنه مثلا أطلعني على مكنون فؤاده، فهذا ما لا يفعله قط، وليس سببه أيضا أنه أراني قلبا كريما وأبدى نحوي وداً صحيحا في مدى العامين الذين قضيتهما في بلاد العرب، واللذين لم يخلوا من ألم، فإنه يبدي العطف والود نحو الجميع، فليفهم القارىء ما أقوله تمام الفهم، فإني لا أزعم إن عبد العزيز بن السعود يدعوني صديقه، ولكني أعده صديقي، ويغريني بذلك أمر بسيط وهو طيبة الرجل، ولست أقصد أنه طيب القلب فهذا شيء رخيص، ولكنه يوصف بالطيبة

كما يوصف بها مثلا سلاح من صنع ولدف (1) بأنه طيب يعجب به، لأنه جمع كل الصفات التي تنشد في مثله. وعلى هذا المعنى أقول: إن ابن سعود رجل طيب. وهو عميق الغور يميل للوحدة ولا يتبع في أعماله سوى الدوافع المنبعثة من أعماق نفسه، وقد يخطيء فيما يفعله ولكنه لا يخطيء قط الرغبة في الشرف أمام ضميره، فهو ملك على نفسه قبل أن يكون ملكا على العرب. ولد عبد العزيز بن سعود قبل خمسين سنة تقريبا في الرياض (وسط بلاد العرب) وهو وليد فرع من الأسرة المالكة التي أخضعت لحكمها جزءاً كبيراً من شبه جزيرة العرب، ثم أخذت في الاضمحلال حتى اضطرت في آخر الأمر إلى أن تنزل عن البقية الباقية من ملكها إلى أسرة ابن رشيد التي كانت قديما من اتباعها والتي نشأت في حايل (في شمال بلاد العرب). وكان ابن سعود إذ ذاك في باكورة طفولته ونشأ في كبريائه وتحفظه، وهو يرى أميرا أجنبيا يحكم الرياض مسقط رؤوس آبائه نائبا عن ابن رشيد، ومكث عبد العزيز بن سعود وذووه يعيشون من راتب تفضل به ابن رشيد عليهم، يحتملهم ولا يكاد يخشى من جانبهم ضرا. ولكن ذلك شق على عبد الرحمن والد عبد العزيز رغم ميله إلى السكون، فهاجر مع أولاده وما يملكه إلى الكويت ليقضي بقية حياته في بيت سلطانها. وكانت بينهما مودة ولكنه لم يكن يدري شيئا عن مستقبل ولده والميول التي تجيش في صدره. ولعل أحداً من الناس لم يتبين قلب عبد العزيز في عاطفته وخفقه، ولم يدرك شيئا من طموح نفسه وعظمة مستقبله إلا عمته العجوز، والظاهر أنها كانت تحبه كثيرا وترعاه وهو صغير فإذا ألفت نفسها في

_ (1) بلدة بالأندلس مشهورة قديما بصنع أجود السلاح وذلك في أيام العرب.

خلوة معه أحتضنته، وأخذت تحدثه بعظائم الأمور التي يجدر به أن يقوم بها ذات يوم، وكانت لا تفتأ تقول له وهي تدلّله: "ينبغي لك أن تصير رجلا عظيما". وقد مكثت هذه الكلمة في نفس الطفل في حياة ونماء حتى أمست كالنار في رأس العلم. ثم بدأت وحدته وهو في الكويت، فإنه وهو لا يزال ولداً، نما جسمه سريعا وسبق طوله سنه، وهو مع ذلك رفيع القامة، فجعل أولاد الناحية يسخرون منه ويهزأون منه ويهزأون به، وكان يستحي من طول قامته الذي جعله هدف الأنظار، وكان يخفض من رأسه حتى يبدو أقصر من حقيقته حين يمشي في شوارع الكويت، أو في غرف القصر المكتظة بالناس، وكان يؤلمه أن يكون شاذا في الوسط المحيط به، ولكن لم يجد سبيلا للتوفيق بينه وبين هذا الوسط، لأن اختلافه عنه لم يكن في مظهره وحده، ولقد غلبه القدر وخلق له قلقا واضطرابا. ولكنه أدرك ذلك تدريجا بما لديه من شعور الشباب، وانبثت كبرياؤه في نفسه، وأخذ ينظر إلى ما فوق ذلك الوسط، وجاء إلى أبيه يقول له: "كيف تصبر على تحكم آل ابن رشيد في وطنك؟ أحمل عليهم وأجلهم عن ديارك فإنك أنت وحدك صاحب الحق في الرياض" ولنذكر هنا أنَّ ابن رشيد كان في ذلك الوقت أقوى عاهل في شبه جزيرة العرب، وكانت دولته تمتد من صحراء سوريا بادية الشام- حماه إلى الربع الخالي: وكانت جميع قبائل البدو ترتعش خوفا من قبضته الحديدية. فلا عجب بعد ذلك إذا رد عبد الرحمن وهو في سنه المتقدمة به، وفي منفاه وضعفه، مطلب ابنه على أنه خيال لا يمكن تحقيقه. وقد مضت أعوام على ذلك، وكانت عاطفة الإبن فيها أشد وأقوى من جمود الوالد. فرضخ عبد الرحمن في آخر الأمر واستعان بصديقه سلطان الكويت على جمع بعض قبائل بدوية باقية على الولاء له وخرج، كعادة العرب في الغزوة بالهجن والأعلام والبنادق، وهاجم

ابن رشيد. ولكنه لم يلبث حتى هزم وارتد إلى الكويت. ولعله كان مرتاحا في قرار نفسه إلى هذه النتيجة، وأنبأ ابنه أنه لا فائدة من أمثال تلك المحاولة، وأنه يريد أن يقضي بقية حياته في سكون ولا يطلب حقه في عرش نجد. بيد أن ابنه عبد العزيز لم ينزل عن حقه فدعا أصدقاءه إليه، وجمع بعض البدو والذين يعول عليهم. ولما صارت جماعته أربعين رجلا خرجوا من الكويت خفية، كإحدى عصابات اللصوص، ودون اعلام أو أناشيد، وجعلوا يسيرون ليلا مسرعين متجنبين سبل القوافل المطروقة، حتى بلغوا مقربة من الرياض فعسكروا في واد منعزل. وفي ذلك اليوم نفسه اختار ابن سعود خمسة من الأربعين وخطب الباقين قائلا: "لقد وضعنا مصيرنا بين يدي الله، وسنذهب نحن الستة إلى الرياض، فإما استحوذنا عليها وإما فقدناها إلى الأبد، فإذا سمعتم صوب الحرب في المدينة فلتبادروا إلى عوننا. أما إذا لم تسمعوا شيئا منا حتى مغرب الغد فاعلموا أننا متنا إلى رحمة الله، وعودوا إلى الكويت سرا بالطريق الذي أتينا به". وكذلك سار الستة على أقدامهم حتى بلغوا الرياض عند ابتداء الليل، ودخلوها من منفذ أسوارها كان ابن رشيد قد أمر بثقبه في نشوة انتصاره على المدينة، ومشوا قدما وأسلحتهم مخبأة تحت أرديتهم إلى أن وصلوا لبيت الأمير من قبل آل الرشيد (1)، وكان مغلقاً لأن الأمير اعتاد على قضاء الليل في الحصن المقابل للبيت خوفا من أهالي المدينة التي دانت له، فقرعوا الباب وفتحه أحد العبيد، فتغلبوا عليه دون جلبة وشدوا وثاقه، وكذلك فعلوا بغيره ممن كانوا في البيت إذ ذاك، ولم يكونوا إلا بعض الرقيق والنساء. ثم جعل الستة

_ (1) اسمه عجلان.

يترقبون انبثاق الفجر وقضوا بقية الليل في قراءة القرآن لكي يبعث في قلوبهم قوة على أداء عملهم. وفي الصباح فتحت أبواب الحصن وخرج الأمير يحيط به عدد من الخدم والأرقاء مسلحين، فاندفع ابن سعود ورفاقه الخمسة شاهرين سيوفهم هاتفين باسم ابن سعود وباغتوا الأمير وحراسه، ورمى عبد الله بن جلوى ابن عم عبد العزيز (وهو الآن أمير الحسا) بحربته (شلفته) نحو الأمير، ولكن هذا انحنى في اللحظة المناسبة وثقبت حائط الحصن في قوة هائلة ولا تزال عالقة به حتى اليوم. وقد فر الأمير إلى باب الحصن، وبينما يتبعه عبد الله إلى داخله هجم ابن سعود ورفاقه بسيوفهم المشهورة على حاشية الأمير، فلم تكد تدافع عن نفسها رغم تفوقها في العدد، لفرط الذعر الذي استولى عليها من هذه المباغتة. وهنا بدأ الأمير فوق سطح الحصن صارخا، وقد سد عليه عبد الله بن جلوى المسالك، وكان يطلب منه الرحمة حتى سقط أخيراً عند حافة السقف منهوك القوى، وتلقى طعنة مميتة في عنقه. وكان ابن سعود يصيح في اللحظة نفسها: "إليَّ يا رجال الرياض. ها أنا ذا عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود أميركم صاحب الحق عليكم". وكان رجال الرياض يمقتون مرهقيهم من أهل الشمال من أعماق قلوبهم، فلبوا النداء وجاءوا بأسلحتهم وركب رفاق ابن سعود الخمسة والثلاثون فاقتحموا أبواب المدينة يزيحون كل شيء أمامهم كالريح العاتية، وبعد ساعة واحدة صار ابن سعود سيد المدينة دون منازع. وكان ذلك في سنة 1901م وبه ينتهي دور الشباب من حياة ابن سعود وبدأ الدور الثاني الخاص برجولته وإمارته. وبعد ذلك شرع ابن سعود في فتوحاته وفق خطة منظمة وقد برهن على أنه لا يشبه غزاة العرب في شيء، فإن اتساع ملكه كان يجري

تبعا لنظام محدود، وكان ثمة أركان حرب وخريطة حربية كما في الغرب. ولكنه شخص ابن سعود كان وحده أركان الحرب، ثم إنه لم يكن قد رأى خريطة حربية من قبل له، وقد اتخذت فتوحاته شكل حركة حلزونية تبدأ من مركز لا يتبدل وهو الرياض. وكان لا يخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يؤمن ما سبق فتحه ويوطد فيه موقفه من الوجهة الحربية. وعلى ذلك احتل بالتدريج كل الأقاليم التي في شرق الرياض وشمالها. ثم استولى في سنة 1904 على إقليم القصيم، وبه عنيزة وبريدة، وهو إقليم ذو ثروة وتجارة هامة. ثم أخضع منطقة الأحراش التي في الغرب، والتي يسكن الجزء الأكبر منها قبائل عتيبة الكثيرة العدد. وفي سنة 1914 أقدم على مهاجمة إقليم الحسا على خليج العجم، وكان في الأيام الماضية تابعا لنجد، ولكنه وقع في أيدي الأتراك منذ خمسين عاما حين اضمحلت أسرة ابن سعود، وقد استحوذ على قاعدته الهفوف بعد قتال قصير، ووطد سلطته فيه. وأرادت الحكومة العثمانية أن تبعث إليه خطبة أدبية ولكن نشوب الحرب العالمية حال دون ذلك. وفي سنة 1921م سقط في يده جبل شمر ومدينة حايل، مهبط أسرة ابن رشيد. وبهذا فقدوا آخر عماد لملكهم ويئسوا من حكم بلاد العرب يأسا قد يكون إلى الأبد. وبين سنتي 1924 و1925م توج فتوحاته بالاستيلاء على الحجاز بما فيه مكة والمدينة وجدة وضمه إلى مملكته الواسعة. إن ابن سعود ما كان يكتفي بإخضاع الشعوب مثل غزاة الشرق القدماء، ولكنه في فتوحاته يكوِّن (دولة) وينظر إلى جميع أجزائها كأنها أخوة متساوية الحقوق ما دامت تخلص الرغبة في التعاون، وهو يسعى دائما لأن يكسب الود الخالص ممن يقهرهم وأن يرغمهم على محبته، إذ يريهم أنه لا يهتم بمصالحهم أقل من اهتمامه بأهل موطنه. ولم يفعل ذلك حاكم عربي غيره منذ عهد الخليفة العظيم

عمر بن الخطاب. وهو منذ زمن بعيد لا يعد رجلا من الرياض بل تخطى روابط القبائل الضيقة المدى وصار رجل الجميع. وقد عرف كيف ينمو في داخل نفسه مع نمو سلطانه. وهو لم يخرج قط من بلاد العرب ولا يعرف فوق وطنه غير البحرين والكويت والبصرة، ولا يدري من اللغات غير اللغة العربية، ولم يقرأ من الكتاب إلا الدينية منها وبعض كتب التاريخ العربية. ولكنه رغم كل ذلك يمتد بصره إلى مدى لم يماثله فيه ملك عربي من قبل فهو يعرف أحوال البلاد الإسلامية في العصر الحاضر خير معرفة، يعرف مثلا الأحزاب السياسية في مصر أو جاوه أو الهند، كما يقف على شؤونها والرجال المشتغلين بالسياسة في هذه البلاد. وهو يفهم المستحدثات الهندسية في الغرب كالطيران أو التلغراف اللاسلكي كما يفهمها الغربيون ويستحسنها كذلك وإن كان كثير من العرب ومن المتعلمين فيهم يعدونها من السِّحْر. ولا يزال ابن سعود مع ذلك مسلما قوي الإيمان، وأساس اعتقاده أن كل ما يحدث من الله، ولذلك يمثل الرأي القائل بأن كل تقدم في الأمور المادية لا فائدة منه إذا لم يصحبه التعمق في العقيدة. فمن الطبيعي أن يبني حكمه على القواعد الدينية. وابن سعود يعتنق معتقدات (الوهابية) وهي حركة إصلاح في الإسلام ترجع إلى العلامة النجدي العظيم (محمد بن عبد الوهاب) الذي عاش في بداءة القرن الثامن عشر. وترمي إلى تطهير الإسلام من جميع البدع والخرافات التي لصقت به مع مر الزمن والسمو به عن عبادة الأولياء. والوهابية أشد طوائف الإسلام ومبدؤها الأعلى أن على المؤمنين أن يتمثلوا في البساطة والنظام. والواقع أن الغربيين يجهلون الإسلام لأنهم يحكمون عليه تبعا

لأحوال أكثر البلاد الإسلامية في العصر الحاضر كما تبدو لهم، ولكن الإسلام في تلك البلاد تغير عن أصله، منذ وقت طويل إذ غطته طبقة من الخرافات غير المعقولة، ودخل فيه تقديس الأولياء والقبور الذي يناقض أصل الدين، واعتوره الجمود وعدم الاكتراث اللذان لا تقرهما تعاليم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الأصلية الخالصة كما لا يعرفهما الغربيون الآن. وليس الإسلام هو السبب في انحطاط البلاد الإسلامية بل الحقيقة عكس ذلك تماما، فقد أفسد أهلها أصل الإسلام وهجروه دون أن يستطيعوا الإتيان بخير منه، وهكذا لبسهم الروح الشرقي العتيق. فهو المسؤول عن تدهور الشرق ولا يسأل الإسلام عن ذلك. ولو نفذ الإسلام بتمامه في نظام عملي متبع لأتى بمجتمع إنساني كامل لا احتكاك فيه ولا نقص مما لم يأت به أي نظام اجتماعي آخر. وفي الإمكان تحقيق ذلك من الوجهة العلمية لأن الإسلام يوافق على كل تقدم في المدنية والحضارة، ولأن تعاليمه لا تناقض الحقائق التي دلت عليها العلوم الحديثة. وهذه الفكرة التي ترمي إلى تكوين دولة إسلامية صحيحة تكون الأولى في نوعها منذ عهد الصحابة، هي الدافع لابن السعود في جميع أعماله، وهو لا يخدم نفسه ولكن يخدم فكرته ولذلك لا ينظر إلى نفسه إلا خلف عمله وهو من هذه الوجهة حاكم عصري يختلف جد الاختلاف عن سلاطين الشرق الذين يعتبرون شعوبهم كلها مجرد خدم لأشخاصهم، ولا شك أن الأجنبي الذي يرى ابن سعود لأول مرة يبتسم لبساطة هذا الملك وعدم تمدنه، إذ يبصره في ثوب عادي في غرفة ذات أثاث غير أنيق، وإذ يشهده يقوم لكل قادم ويمد يده لتحيته، وإن كان بدويا من أفقر البدو، ويأكل طعامه في حضرة وزرائه وكتابه وسائق سياراته ولكن الابتسامة لا تلبث حتى تفارق ثغر الأجنبي حين يدرس رأس هذا الرجل ويدرك العظمة الحقة الماثلة في تلك البساطة.

بدأ ابن سعود عمله في تشديد الأمن العام في بلاده، بواسطة القوانين الصارمة وحملات التأديب القاسية. ومن قبله كانت شبه جزيرة العرب كلها شبكة من اللصوص وكانت قبائل البدو يشن بعضها الغارة على بعض وتنهب القوافل وكانت الطرق غير آمنة، فلما جاء ابن سعود حرم على البدو أن يتقاتلوا وأمر بأن تحل الخلافات بين القبائل بقضائه أو قضاء أمرائه فيها وجعل المجرمين يشعرون بكل ما في الشريعة من شدة، فالقاتل يضرب عنقه والسارق تقطع يده اليمنى، والسارق الذي يستعين بسلاح تقطع يده اليمنى وقدمه اليسرى، وقد أجدى ذلك بعض النفع، غير أن ابن سعود لم يلبث حتى أيقن أن الإكراه وحده لا يكفي ليجعل من الوحوش بشرا، فشرع يبث في نفوس شعبه أخلاق الإسلام وفضائله، وبعث بالمعلمين والوعاظ إلى مختلف القبائل ليعلموا البدو القراءة والكتابة ويحثوهم على التمسك بالدين وآدابه في عزم وإخلاص وكانت ثمرة ذلك صغيرة في السنوات الأولى، ولكنها نمت تدريجا وأينعت وأتت أكلها. وهكذا تمت في بلاد العرب إحدى الغرائب وأصبحت مملكة ابن سعود ومساحتها مثل مساحة ألمانيا وفرانسا وإيطاليا معا، وفيها الأمن العام مستتب بشكل لا يوجد في أية دولة متمدنة من الدول الغربية، والآن يستطيع كل شخص أن يسافر بمفرده في الصحراوات الواسعة وسط بلاد العرب دون أن يحمل سلاحا أصلا وإن كان يحمل الأثقال من الذهب فلا يصيبه ضر أو أذى. وقد كان الناس قبلا لا يقطعون تلك الجهات إلا جماعات مسلحين. وقد هدأت الحروب وامتنعت المعارك بين القبائل التي في مملكة ابن سعود مع أنها كانت من قبل من الحوادث التي تحدث كل يوم ولكنها لم تنقطع في سوريا أو العراق اللذين تحكمهما دول غربية متمدنة. بيد أن ابن سعود لم يقنع بكل ذلك بل وضع عمله لتحضير البلاد على أساس أكبر، وكان منذ خمس عشرة سنة قد شرع يفكر في

إستيطان البدو إذ اتضح له أن تنقل القبائل من جهة إلى أخرى كل حين يمنع تقدم المدنية بينها ويحول دون ما هو أهم من ذلك عنده وهو تمكين الدين من نفوسها. وعلى ذلك أخذ يبث هذه الفكرة في البدو ولم تكن بلاد العرب تعرفها من قبل. وقد نجح في هذا نجاحا أكبر مما ارتقبه، بدأت القبائل واحدة إثر أخرى تدرك فائدة المعيشة المستقرة في ناحية معلومة، ومنحت أراضي ثابتة الحدود لتسكنها وبنت فيها البيوت وخططت القرى وزرعت النخل، وقد أعانها الملك بكل أنواع العون في دور انتقالها من حياة القرى والرعاة الرحالة إلى حياة الزراع، إذ أعطاها الأموال والغذاء والبذور، ولا يزال يبذل هذا العون للقبائل الأخرى التي تختار الاستقرار. والآن وقد مضت خمس عشرة سنة على هذه الحركة تستطيع أن تقدر على وجه التقريب عدد البدو من أهل نجد الذين استوطنوا الأراضي وتركوا حياة الرحالة بثلث مجموعهم. ولا تزال هذه الحركة سائرة في طريقها في جد وحزم. ولا شك أن هذا العمل الذي يقوم به ابن سعود سوف تقدر أهميته من وجهة الحضارة وأن التاريخ سوف يفرد لهذا الملك صفحة بين صفحات العظماء الذين خطوا بالإنسانية خطوات إلى الأمام. وهؤلاء المستقرون الذين كانوا منذ جيل واحد لصوصا لا ضمائر لهم قد شعروا يحسون تدريجا أنهم حاملو علم تقدم عظيم، وقد أثار التعليم الديني الذي أتاهم ابن سعود به عاطفة إطلاق الدين المتغلغلة في نفوس العرب، وأدركوا أن دولة إسلامية في دور النشوء في بلادهم وأن عليهم أن يضعوا لها الأعمدة والأسس، وكذلك أصبحوا أصدق النصراء للإسلام بعد أن كانوا لا يعلمون إلا قشورا منه، وصاروا ينظرون إلى نجد نظرتهم إلى معقل الإسلام، وأنهم لمحقون في ذلك. وقد تركوا اعتبارات العصبية المحدودة وسموا أنفسهم (إخوانا) أي إخوان كل من يسلم قلبه لله دون قيد وشرط، واتخذوا شارتهم العمامة

البيضاء متمثلين بالنبي بعد أن تركوا العقال العربي المتورث من قديم الأزمان. وللإخوان أهمية عظيمة بالنسبة لدولة ابن سعود لأنهم في حالة الحرب يتطوع منهم كل رجل قادر على القتال ويدخل في جيش ملكهم وملء قلبه النخوة والحماسة. وإذ أنهم يعتبرون أنفسهم الممثلين الصادقين للدين الحق ولا يقاتلون إلا في سبيله. فحربهم إذن هي حرب دينية، ومن تعاليم الإسلام أن خير ميتة يموتها المسلم وسط الجهاد في سبيله، ولذلك لا يرهب الإخوان الموت بل يرحبون به، ولكن دون أن يزدروا الحياة. وهم أكثر جيوش العالم شجاعة وصبرا وسرعة في الحركة. ولو مدوا بالأسلحة الهندسية الحديثة لاستطاعوا أن يفتتحوا دولا عظيمة. وهم في وقت السلم مشتتون في أنحاء البلاد ولكن إذا دعاهم الملك لم ينقض شهر واحد حتى يجتمعوا كلهم في المكان المعين لهم، وكل منهم آت على هجينه مسلحا بالأسلحة الحديثة التي غنمها ابن سعود في حروبه المختلفة وبالخناجر والسيوف. وكل مجاهد يحمل زاده معه وهو عبارة عن قليل من الأرز وحقيبة من البلح، ولا يعطيهم الملك أجرا ولكن يمنحهم الهدايا بين وقت وآخر، وإنما يعتمدون على الغنائم التي يغنمونها من الأعداء، وهذا الجيش المتطوع المتحمس القليل الكلفة يجعل ابن سعود أقوى من أي حاكم عربي قبله. وهذا كله عمل رجل واحد هو عبد العزيز بن سعود ففي رأسه تنمو جميع الخطط وعلى كتفيه مهمة تنظيم مملكته الكبيرة وتنحصر مساعدة أمرائه- ومنهم رجال ذوو شخصيات كبيرة- في حسن تنفيذهم للخطط التي يضعها فهو وحده الذي يفكر ويعمل وكلهم أيد له وإنه ليحمل عبئا عظيما من العمل. وهو يشتغل طوال اليوم من باكورة الصباح إلى قسط من الليل،

ما عدا فترات يقضيها في الصلاة وبرهات قصيرة يرتاح فيها بين أهله. وهو يتلقى كل يوم مئات الخطابات والتقارير ويقرأها بنفسه ويملي مئات من أمثالها على كتابه. ويفد عليه كل يوم كثير من البدو والوفود من أنحاء الدولة يعرضون عليه شكاواهم ورغباتهم ويتلقون منه أوامره وجميعهم ينزلون ضيوفا عليه طول مكثهم بالرياض، وهو يولم الولائم لنحو ألف نفس كل يوم، ويعطي كلا منهم عند رحيله ثوبا تبعا لعادة العرب وكذلك قطعة من النقود حسب مكانته. ونفقات الملك الشخصية جد قليلة لأنه لا يعرف الترف في حياته الخاصة وإنما له عدد من السيارات لا بد منها لحسن القيام بشؤون الحكم في هذه المملكة المترامية الأطراف. وابن سعود طويل القامة جدا ذو جمال رجولي وله جبهة عالية وأنف قليل الإنحناء وثغر صغير عليه شفتان ممتلئتان تدلان على الحماسة والذكاء في آن واحد. وكل من يراه دون فكرة سابقة عنه ويشهد ابتسامته العذبة لا بد أن يحبه. وقليل جدا من الناس في مملكته الكبيرة لا يحبونه. لقد قارن البعض هذا الملك بنابليون ذات مرة. أما أنا فأفضل أن أقارنه بكيروس (1) كما وصفه لنا (كسينوفون) (2) في روايته "كيروبايديا" فإنه مثله حاكما متبصراً حكيماً يعمل لمصلحة شعبه لا لنفسه ويقدر الرجال حق قدرهم ويقرأ ما بقرار نفوسهم قبل أن ينطقوا ببنت شفة ويسعى دائما لإرضاء من يعملون معه فيعطيهم أكثر مما يرتقبونه، إذ يمنحهم الأمن على حياتهم، والهدايا الخالصة من القلب والحب لمن يستحقه. ولكن رغم كل ذلك يبقى ابن سعود وحيداً بينهم لأن له نفسية عالية.

_ (1) هو كيروس الأكبر ملك العجم ومؤسسها. (2) مؤرخ يوناني قديم مشهور من تلاميذ سقراط.

ان ابن سعود في وحدة عميقة وإن كان حوله أناس كثيرون لأنه ليس منهم أحد يستطيع أن يستشف ما وراء ابتساماته الساحرة أو ما وراء حركات يديه حين يتحدث في شؤون الدولة أو في مسائل الدين. ولا يدري أحد ماذا سيفعل غدا بل يحيط الظلام والإبهام بنواياه في المستقبل وإن كان يومه وأمسه شفافين لا سر فيهما. وتلك وحدة العظماء الذين لا يقودهم في سبيلهم غير أذهانهم المتوقدة (1).

_ (1) ش: ج 4 م ه، ص 25 - 36 غرة ذي الحجة 7431ه - ماي 1929م. نقلنا هذا المقال نظرا لتعليق الأستاذ الإمام عليه واهتمامه بالحركة الوهابية.

مناظرة بين سلفي ومعتزلي في مجلس الواثق

مناظرة بين سلفي ومعتزلي في مجلس الواثق ان اختلاف الأفكار والطباع، مع اختلاط الأمم في الزمن الطويل- أدى بالفرق الإسلامية إلى كثير من الاختلاف. وكان من بين ذلك- لا محالة- بدع دينية في الاعتقادات والأعمال. وكل ذي بدعة- لا بد- معتقدا فيها صوابا، ومتلمساً لها دليلا. ولا يقف بالجميع عند حد واحد، إلا دليل واحد. وهو إلتزام الصحيح الصريح مما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكان عليه أصحابه. فكل قول يراد به إثبات معنى ديني لم نجده في كلام أهل ذلك العصر نكون في سعة من رده وطرحه وإماتته وإعدامه، كما وسعهم عدمه. ولا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم. وكذلك كل فعل ديني لم نجده عندهم وكذلك كل عقيدة. فلا نقول في ديننا إلا ما قالوا، ولا نعتقد فيه إلا ما اعتقدوا ولا نعمل فيه إلا ما عملوا. ونسكت عما سكتوا. فهم- كما قال الشافعي في رسالته البغدادية-: "أدوا إلينا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عاما وخاصا وعزما وإرشادا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم وأجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا". ونرى كل فتنة كانت بين الفرق الإسلامية ناشئة عن مخالفة هذا الأصل. ومنها فتنة القول بخلق القرآن التي ــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلنا في المناظرة عليها القصة التالية عن كتاب ((الإعتصام)) للإمام الشاطبي. وقد كان الفلج فيها لمن التزم هذا الأصل على من خالفه. ــــــــــــــــــــــــــــــ ذكر أبو اسحاق الشاطبي إن هذه القصة حكاها المسعودي، وحكاها الاجري- في كتاب الشريحة- بأبسط مما ذكره المسعودي. ونقلها هو عن المسعودي- قال- مع إصلاح بعض الألفاظ. قال (1): "ذكر صالح بن علي الهاشمي قال: حضرت يوما من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رفع طرفه إليَّ أطرقت، فكأنه علم ما في نفسي. فقال لي: ياصالح، أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره - قال- فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأمسك. فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح، ونهض فجلست جلوسا طويلا، فقمت إليه وهو على حصيرة الصلاة فقال لي: يا صالح، أتحدثني بما في نفسك؟ أم أحدثك؟ فقلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن. فقال: كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا. فقلت: أي خليفة خليفتنا! إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن. فقال المهتدي: قد كنت على ذلك برهة من الدهر، حتى أقدم عليَّ الواثق شيخاً من أهل الفقه والحديث من "أذنه" من الثغر الشامي، مقيداً طوالا، حسن الشيبة، فسلم غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرَّحمة عليه. فقال (الواثق): يا شيخ، أجب أبا عبد الله أحمد بن دؤاد عما

_ (1) الإعتصام 1/ 242 - 244.

يسألك عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة؛ فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضبا عليه. فقال: أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك؟ فقال: هوِّن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه؟ فقال له الواثق: قد أذنت لك. فأقبل الشيخ على أحمد فقال: يا أحمد إلامَ دعوت الناس؟ فقال أحمد: إلى القول بخلق القرآن، فقال له الشيخ: مقالتك (1) هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها؟ قال: نعم. قال الشيخ: فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- دعا الناس إليها أم تركهم؟ قال: لا. قال له: يعلمها أم لم يعلمها؟ قال علمها. قال: فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلبم- إليه وتركهم منه؟ فأمسك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة. ثم قال له: أخبرني يا أحمد، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} " الآية. فقلت أنت: الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله- تعالى عز وجل- صدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك؟ فأمسك، فقال: يا أمير المؤمنين! هذه ثانية. ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله

_ (1) "ش": كلام الشيخ على مقالة ابن أبي دؤاد ينطبق على كل مقالة لم يدع إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس. وقام لها من بعده دعاة.

- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الأمة أم لا؟ فأمسك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين! وهذه ثالثة. ثم قال بعد سىاعة: أخبرني يا أحمد لمَّا علم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها: اتسع له عن أن أمسك عنهم أم لا؟ قال أحمد: بل اتسع له ذلك. فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر؟ وكذلك لعمر؟ وكذلك لعثمان؟ وكذلك لعلي؟ رحمة الله عليهم. قال: نعم. فصرف (الشيخ) وجهه إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين! إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولأصحابه فلا وسع الله علينا. فقال الواثق: نعم! لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولأصحابه فلا وسع الله علينا. ثم قال الواثق: إقطعوا قيوده، فلما فكت جاذب (1) عليها. فقال الواثق: دعوه. ثم قال يا شيخ لم جاذبت عليها؟ قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي (2) وكفني، ثم أقول: يا ربي! سل عبدك: لم قيدني ظلما وارتاع (3) بي أهلي؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر. ثم قال له الواثق: يا شيخ! إجملني في حلٍ. فقال: يا أمير المؤمنين! ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلٍ إعظاما لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولقرابتك منه. فتهلل وجه الواثق وسر. ثم قال له: أقم عندي آنس بك، فقال له: مكاني في ذلك الثغر أنفع، وأنا شيخ كبير، ولي حاجة. قال: سل كل ما بدا لك. قال: يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع

_ (1) "ش" أبى أن يتركها. (2) كذا بالأصل والظاهر بين بدني وكفني. (3) الصواب أراع أو روع.

الذي أخرجني منه هذا الظالم (1). قال: قد أذنت لك. وأمر له بجائزة فلم يقبلها (2)، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة. وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها. قال أبو إسحاق الشاطبي بعد نقل ما تقدم. "فتأملوا هذه الحكاية ففيها عبرة لأولي الألباب. وانظروا كيف مأخذ الخصوم في إحجامهم (3) لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم-" (4).

_ (1) يعني ابن أبي دؤاد. (2) هذا قول المهتدي بعد تمام الحكاية. (3) كذا بالأصل والظاهر إفحامهم. (4) ش: ج 11، م 5، ص 24 - 28 غرة رجب 1348ه - ديسمبر 1929م.

هذه نعلي ونعل آبائي محافظة الرشيد على زي قومه

هذه نعلي ونعل آبائي محافظة الرشيد على زي قومه ((القومية والشخصية لهما مقومات ومميزات. والمحافظة عليهما والاعتزاز بهما مما جبل عليه الناس كما جبلوا على حب البقاء. لكن قد يطرأ على بعضهم سوء ظن فيهما لجهل أو ضعف، فيتخلى عنهما فيكون ذلك التخلي نذير الفناء، وفي القصة التالية نرى اعتزاز الرشيد بقوميته ومحافظته على مميزاتها حتى في أقل الأشياء كالنعل. وكان ذلك منه على قدر ما لديه من عظمة وقوة، وما عنده من علم بمجد قومه العرب الأكرمين)). ــــــــــــــــــــــــــــــ قال الأصمعي: تصرفت بي الأسباب على باب الرشيد مؤملا الظفر به والوصول إليه، حتى صرت حديثا لبعض حرسه، فأني في بعض ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد إذ خرج أحد الخدم فقال: أما بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، رب قيد مضيق قد حله التيسير، فقال لي الخادم: أدخل فلعلها أن تكون ليلة في صباحها الغنى ان فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين. فدخلت فواجهت الرشيد في مجلسه، والفضل بن يحيي إلى جانبه، فوقف بي الخادم حيث يسمع التسليم فسلمت فرد علي السلام ثم قال: يا غلام، أرحه ليفرخ روعه إن كان وجد للروعة حسا. فدنوت قليلا ثم قلت: يا أمير المؤمنين أضاءة مجدك وبهاء كرمك مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية. فقال: أدن، فدنوت. فقال: أشاعر أم راوية؟ فقلت: راوية لكل ذي جد وهزل بعد أن يكون محسنا. فقال:

تالله ما رأيت ادعاء أعظم من هذا؟ فقلت: أنا على الميدان فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين. فقال (قد أنصف القارة من راماها) ثم قال: ما المعنى بهذه الكلمة بديئا؟ فقلت: فيها قولان: القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة والملك إذ ذاك أبو حسان فوافق عسكره عسكر السغد فخرج فارس من السغد قد وضع سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة الحرب؟ فقال العرب: قد أنصف القارة من راماها. فقال لي الرشيد: أصبت. ثم قال: أتروي لرؤبة بن العجاج والعجاج شيئا؟ فقلت هما شاهدان لك بالقوافي، وأن غيبا عن بصرك بالأشخاص فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال: انشدني: …أَرَّقَنِي طَارِقُ هَمٍّ أَرَّقَا… فمضيت فيها مضي الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي. فلما صرت إلى مديحه لبني أمية ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس السفاح في قوله: …"قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ"… فلما رآني عدلت من أرجوزة إلى غيرها، قال: أعن حيرة أم عن عمدٍ؟ قلت: عن عمد تركت كذبه إلى صدقه، فيما وصف به جدك من مجده. فقال الفضل: أحسنت بارك الله فيك، مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس، فلما أتيت على آخرها قال الرشيد: أتروى كلمة عدي بن الرقاع: عَرَفَ الدِّيَارَ تَوَهُّمَا فَاعْتَادَهَا … مِنْ بَعْدِ مَا شَمَلَ البِلَى أَبْلَادَهَا قلت: نعم. قال: هات، فمضيت فيها حتى إذا صرت إلى وصف

الجمل قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب، فقال له الرشيد: أسكت فالإبل هي التي أخرجتك من دارك واستلبت تاج ملكك ثم ماتت وعملت جلودها سياطا ضربت بها أنت وقومك. فقال الفضل: عوقبت على غير ذنب، فالحمد لله. فقال الرشيد: أخطأت، الحمد لله على النعم. ولو قلت: أستغفر الله، كنت مصيبا. ثم قال لي: إمض في أمرك فأنشدته حتى إذا بلغت إلى قول عدي: تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ … قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا إستوى جالسا ثم قال: أتحفط في هذا ذكرا؟ قلت: نعم. ذكرت الرواة أن الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته قلت لجرير: مسرا إليه نسخر من هذا الشامي؟ فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال: تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ وعدي كالمستريح قال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا؟ فقال الفرزدق يالكع، إنه يقول: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا فقال عدي: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا فقال جرير: أكان سمعك مخبوءاً في صدره. فقال له: أسكت شغلني سبك عن جيد الكلام فلما بلغ إلى قوله:

وَلَقَدْ أَرَادَ اللهُ أَنْ وَلاَّكَهَا … مِنْ أُمَّةٍ أَصْلَاحُهَا وَرَشَادُهَا قال الرشيد: ما تراه حين أنشده هذا البيت؟ قلت: قال كذاك أراد الله فقال الرشيد: ما كان في جلالته ليقول هذا أحسبه، قال ما شاء الله. قلت: وكذا جاءت الرواية فلما أتيت على آخرها قال: أتروي لذي الرمة شيئا؟ قلت الأكثر، قال فماذا أراد بقوله: مُمَرٍّ أَمَرَّتْ فَتْلَهُ أَسَدِيَّةٌ … ذِرَاعِيَّةٌ حَلَّالَةٌ بِالْمَصَانِعِ قلت وصف حمار وحش اسمه بقل روضه، تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثم في الذراع من ذلك، فقال الرشيد: أرح فقد وجدناك ممتعا وعرفناك محسنا. ثم قال: أجد ملالة، ونهض وأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني يا غلام، فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم إما أنها لو كانت سندية لما احتاجت إلى هذه الكلمة. فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي، كم تعارض فلا تترك من جواب ممض. ثم قال: يا غلام، يؤمر صالح الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولا يجب في المستأنف. فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره، لأمرت لك بمثل ما أمر لك، وقد أمرت لك به إلا ألف درهم، فتلق الخادم صباحا. قال الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم (1).

_ (1) ش: ج 2، م 6، ص 104 - 106 غرة شوال 1348ه - مارس 1930م.

العامة المتعلمة

العامة المتعلمة ((إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر صحيحة العقيدة بصيرة بالدين فتكمل هي في نفوسها ولا تهمل- وقد عرفت العلم وذاقت حلاوته- تعليم أبنائها. وهكذا ينتشر العلم في الأمة ويكثر طلابه من أبنائها وتنفق سوقه فيها. أما أنا خلت المساجد من الدروس كما هو حالنا اليوم - في الغالب- فإن الأمة تعفى عن العلم والدين وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه، فتجسو نفسها وأبناءها وتمسي والدين فيها غريب. وقد عرف أسلافنا - رحمهم الله تعالى- هذه الحقيقة فحبسوا لأحباس الطائلة على التدريس في المساجد، التدريس الديني الجامع بين العلم والتهذيب ولو دام ما أسسوه لكانت حالة عامتنا على غير ما نراها عليه اليوم. وفيما يلي ننقل من (أحكام) الإمام ابن العربي قصة تبين ما كان عليه عامة بغداد من العلم أيام كانت مساجدها معمورة بالدروس. وكان العلم منتشرا في جميع طبقاتها)). ــــــــــــــــــــــــــــــ "كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام فكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحداً مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضاً من الطلب وعزم على الرحيل شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أنَّ واحدة منها يقرأها في وقت وصولها

ما تكن (1) بعدها من تحصيل حرف من العلم فحمد الله تعالى، ورحل على دابته قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان وتقدمه الكرى بالدابة وأقام هو على عامي يبتاع منه سفرته فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لعامي آخر أي قل، أما سمعت العالم يقول يعني الواعظ أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة لقد اشتغل بالي بذلك منه منذ سمعته يقول، وظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحاً لما قال الله تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذ قل إن شاء الله سمعته يقول ذلك قلت بلد يكون العاميون به من العلم في هذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة لا أفعله أبداً واقتفى أثر الكرى وحلله من الكراء وصرف رحله وأقام بها حتى مات رحمه الله (2).

_ (1) كذا في الأصل والصواب: ما تمكن. (2) ش: ج 11، م 6، ص 692 - 693 غرة رجب 1349ه - ديسمبر 1930م.

النجاة من العطب بقليل من الأدب

النجاة من العطب بقليل من الأدب خرج الإمام ابن العربي في صغره إلى المشرق مع أبيه وكاد البحر يوما يغرقهم وكاد الجوع والبرد بعد خروجهم من البحر أن يهلكهم لولا أن الله تعالى بسبب طريف أنقذهم. وقد قص الإمام ذلك في كتابه: ((ترتيب الرحلة)) ونقله عنه المقري في ((نفح الطيب)) ونقلناه عنه فيما يلي لما فيه من عجيب لطف الله ونفع المعرفة على كل حال في جميع المواطن قال الإمام: ــــــــــــــــــــــــــــــ "وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بزوله (1)، ويغرقنا في هوله، فخرجنا خروج الميت من القبور، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم. ونحن من السغب، على عطب، ومن العري، في أقبح زي، قد قذف زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (2)، ودسمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أزرا، واشتملناها ألفافا (3) تمجنا الأنظار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا - بأمر حقير ضعيفه، وفن من العلم ظريف. وشرحه: أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه (4) فعل السامد (5) اللاه، فدنوت منه

_ (1) الزول: العجب. (2) المنيئة: الجلد أول ما يدبغ. (3) الفاف: ج لف بمعنى الحزب والطائفة. (4) الشطرنج. (5) الغافل الساهي.

في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته (1) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار (2)، ووقفت بإزائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم-. إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة- في خلس البطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أن كانت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدناني فدنوت منه وسألني هل لي بما هم فيه خبر، فقلت لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرك تلك القطعة ففعل كما أشرت وعارضه صاحبه كذلك فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير فقالوا ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه … وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي فقال لعن الله أبا الطيب أويشك الرب، فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير إنما أراد بالرب ههنا الصاحب. يقول: ألذُّ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به .. كما قال: إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا … فأين حلاوات الرسائل والكتب وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي إبرام وانتقاض، ما حرك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض وأقبلوا يتعجبون مني،

_ (1) البياذقة الرجالة والمراد خدمه وأتباعه. (2) ج غمر غير المجرب.

ويسألونني كم سني، ويستكشفونني عني، فبقرت (1) لهم حديثي، وذكرت لهم نجيتي (2)، وأعلت الأمير أن أبي معي فاستدعاه وأقمنا الثلاثة (3) إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه (4)، وجاء كل خوان، بأفنان وألوان (5)، فانظر إلى هذا العلم (6) الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب، وهذا الذكر يرشدكم- إن عقلتم- إلى المطلب (7) اهـ.

_ (1) فتحته ووسعته. (2) ما بطن من أمري. (3) هو وأبوه والأمير. (4) أسال علينا خراته. (5) ذكر هنا صاحب النفح أن الإمام وصف ما نالهم من كرم الأمير ولم يذكره هو. (6) علم الشطرنج. (7) هو الرغبة في العلم والحرص على تحصيله. ش ج 2، م 7، ص 112 - 114 غرة شوال 1349ه، مارس 1931م.

أباة الضيم يزيد بن المهلب

أباة الضيم يزيد بن المهلب بيت المهلب من أكبر البيوت التي استقامت عليها دعائم ملك بني أمية، والمهلب هو الذي قطع دابر الخوارج عليهم بالعراق بعد ما كان قد أعياهم أمرهم. حتى قال الحجاج للمهلب- لما قدم عليه بعد الظفر وقد أجلسه معه وبالغ في إكرامه-: "يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب". ولما قدم قدمته هذه ولى ابنه يزيد كرمان، ثم كانت ولايته على خراسان وفتح في خلافة سليمان بن عبد الملك دهستان وجرجان وطبرستان. ولما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز سجنه وطالبه بأموال كان كاتب عليها سليمان فأنكرها ومكث في السجن حتى هرب منه قبل وفاة عمر بقليل خوفا من أن يقع في يد يزيد بن عبد الملك ولي عهد عمر وكان يزيد أيام ولايته قد عذب آل أبي عقيل أصهار يزيد لأنه كان متزوجا ببنت أخي الحجاج. فقصد البصرة وبدأ فتنته منها وكان من نهاية أمره ما قصه ابن أبي الحديد فيما يلي: ــــــــــــــــــــــــــــــ ومن أباة الضيم يزيد بن الهلب كان يزيد بن عبد الملك ينشؤه قبل خلافته لأسباب ليس هذا موضع ذكرها، فلما أفضت إليه الخلافة وخلعه يزبد بن المهلب ونزع يده من طاعته وعلم أنه إن ظفر به قتله وناله من الهوان ما القتل دونه فدخل البصرة وملكها عنوة وحبس عدي بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشاً كثيفاً يشتمل على ثمانين ألفاً من أهل الشام والجزيرة

وبعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان أعرف الناس بقيادة الجيوش وتدبيرها وأيمن الناس نقيبة في الحرب وضم إليه ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك فسار يزيد بن الهلب من البصرة فقدم واسطا فأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر واشتملت جريدة جيشه على مائة وعشرين ألفاً وقدم مسلمة بجيوش الشام فلما تراءى العسكر أن وشبت الحرب أمر مسلمة قائداً من قواده أن يحرق الجسور التي كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا فقيل ليزيد بن المهلب قد انهزم الناس قال ومم انهزموا هل كان قتال ينهزم الناس من مثله فقيل له أن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا فقال قبحهم الله يقال دخن عليه فطار ثم وقف ومعه أصحابه فقال أضربوا وجوه المنهزمين ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه واستقبله منهم أمثال الجبال فقال دعوهم قبحهم الله غنم عدا في نواحيها الذئب وكان لا يحدث نفسه بالفرار وقد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط فقال له: فعش ملكاً أو مت كريماً فإن تمت … وسيفك مشهور بكفك تعذر فقال ما شعرت فقال: إن بني مروان قد بار ملكهم … فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه نزل عن فرسه وكسر جفن سيفه واستقبل فأتاه آت فقال إن أخاك حبيباً قد قتل فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل قال لا خير في العيش بعد حبيب والله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة وقد ازددت لها بغضاً أمضوا قدماً فعلم أصحابه أنه مستميت فتسلل عنه من يكره القتال وبقي معه جماعة خشية فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها وهو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب وحالت

خيول أهل الشام بينهما وعطفت على يزيد بن الهلب فجالدهم بالسيف مصلتاً حتى قتل وحمل رأسه إلى مسلمة وقتل معه أخوه محمد بن الهلب وكان أخوهما الفضل بن الهلب يقاتل أهل الشام في جهة أخرى ولا يعلم بقتل أخويه يزيد ومحمد فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب وقال له ما تصنع وقد قتل يزيد ومحمد وقبلهما قتل حبيب وقد انهزم الناس وقد روي أنه لم يأته بالخبر على وجهه وخاف أن يخبره بذلك فيستقتل ويقتل فقال له أن الأمير قد انحدر إلى واسط فاقتص أثره فانحدر المفضل حينئذ فلما علم بقتل إخوته حلف أن لا يكلم أخاه عبد الملك أبداً وكانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج فقال فضحني عبد الملك فضحه الله ما عذري إذا رآني الناس فقالوا شيخ أعور مهزوم إلا صدقني فقتلت ثم قال: ولا خير في طعن الصناديد بالقنا … ولا في لقاء الناس بعد يزيد فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة أخرجوا عدي بن أرطاة أمير البصرة من الحبس فقتلوه وحملوا عيالهم في السفن البحرية ولججوا في البحر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا عليه قائد من قواده فأدركهم في قندايل فحاربهم وحاربوه وتقدم بنو المهلب بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وهم الفضل ابن المهلب وزياد بن المهلب ومروان بن المهلب وعبد الملك بن المهلب ومعاوية ابن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمرو والغيرة ابنا قبيصة بن المهلب وحملت رؤوسهم إلى مسلمة إن عبد الملك وفي أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه واستأسر الباقون في الوقعة فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام وهم أحد عشر رجلا فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة فأنشد: حليم إذا ما نال عاقب مجملا … أشد العقابِ أو عفا لم يثرب

فعفوا أمير المؤمنين وحسبة … فما تأته من صالح لك يكتب أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر … وأفضل حلم حسبه حلم مغضب فقال يزيد أطت بك الرحم يا أبا صخر لولا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم ثم أمر بقتلهم فقتلوا وبقي منهم صبي صغير فقال اقتلوني فلست بصغير فقال يزيد بن عبد الملك أنظروا هل أنبت فقال أنا أعلم بنفسي، فقد احتلمت ووطئت النساء، فاقتلوني فلا خير في العيش بعد أهلي فأمر به فقتل، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وأسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا وهم أحد عشر مهلبيا المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل والمنجاب بنو يزيد بن المهلب ودريد والحجاج وغسان وشبيب والفضل بن المفضل بن المهلب لصلبه والفضل بن قبيصة بن المهلب. قال: لم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية إلا أبو عيينة بن المهلب وعمرو بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتنيل ثم أمنوا بعد ذلك (1).

_ (1) ش: ج 4، م 7، ص 255 - 258 غرة ذي الحجة 1349ه - أفريل 1931م.

أعظم قائد

أعظم قائد يرجع إلى رأي جندي (1) ــــــــــــــــــــــــــــــ ارتحل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من مبيته صبيحة يوم بدر حتى نزل على أدنى ماء إليه وبقي الماء أمامه لو جاء العدو لنزل عليه فيكون الجيشان على ماء. وكان الصحابة يعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يتصرف بالوحي فيكون تصرفه حتما ويتصرف بالنظر في السياسة والحرب فيشاور ويراجع وهو المعصوم فلا يقر على الخطأ فانبرى الحباب بن المنذر بين الجموع يبدي رأيه وما يعتقده صوابا في مكان النزول فقال: (يا رسول الله أرأيت المنزل هذا أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة)؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال الحباب: "إن هذا ليس بالنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نعور ما وراءه من القُلُب (1) ثم نبني عليه حوضاً نملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون". أراد أن يستولي الجيش على الماء ويمنع منه العدو فيكون ذلك أنكى فيه وأعون عليه وهذا هو الرأي الموافق لما تقتضيه الحرب من تضعيف العدو ومكايدته بالأسباب التي تسرع بقهره وظهر

_ (1) من سيرة ابن هشام وغيرها. (2) القلب ج قليب وهو بير غير مطوية أي مبنية وعور القليب إذا ردمه بالتراب.

هذا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له: "لقد أشرت بالرأي" ونهض بالناس حتى نزل المنزل الذي أشار به الحباب وفعل ما أشار به ورجع أعظم قائد إلى رأي جندي من جنوده لما ظهر له صواب إشارته. قد عصم الله نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يستقر أمره في جميع سياسته وتدبيره إلا على أحسن الوجوه بما يهدي إليه من نفسه- وهو الكثير- وما يرجع إليه مما يشير به أصحابه- وهو القليل- والحكمة في هذا القليل أن يسن لأمته حرية إبداء الرأي في الشؤون العامة من الكبير والصغير، والرجوع للصواب إذا ظهر من أي أحد كان. هذا الأصلان: حرية إبداء الرأي من جميع أفراد الرعية والرجوع إلى الصواب من رعاتها، عليهما تنبني سعادة الأمة وعظمتها، وبهما تشعر الأمة والوحدة بين الرعية ورعاتها، ومنهما تستمد الأمة النظم اللازمة لها في حياتها، وقد قررهما الإسلام وبينهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تبييناً عملياً في هذه القصة (1).

_ (1) ش: ج 1، م 11، ص 17 - 18 غرة محرم 1354ه - أفريل 1935م.

ضلال شيخين واهتداء غلام

ضلال شيخين واهتداء غلام كانت مدينة الطائف- وما زالت- مصطاف أهل مكة وكان بين البلدين صلة وقرابة. حتى قرنتا في قول المشركين الذي حكاه الكتاب: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، فخرج النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إليها بعد وفاة أبي طالب واشتداد الأذى من قريش عليه. يدعو أهلها ثقيفاً ويلتمس عندهم النصرة والمنعة بهم من قومه فلقي من أذاهم أشد مما كان يلقى فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط مصطاف لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة القرشيان الأمويان وهما فيه ينظران إليه ويريان ما لقيه من سفهاء ثقيف لم يغيرا من ذلك شيئا وكان ذلك الجمع من العبيد والسفهاء لما رأوه التجأ إلى حائط فيه رجلان من قومه قريش ومن بني عبد مناف رجعوا عنه فعمد إلى ظل حبلة (كرمة) من عنب فجلس فيه. رأى ابنا ربيعة ما لقي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، وهما من بني عبد مناف، فتحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه عدَّاس فقالا له خذ قطفاً (عنقوداً) من العنب فضعه في الطبق إذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. جاء عدَّاس بالقطف في الطبق فوضعه بين يدي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- باسم الله وتناول منه، فسمع عدَّاس ما لم يكن يسمعه في تلك الأرض من المشركين فنظر في وجه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال

له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذا البلاد، فعرف النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه ليس من تلك الأرض فسأله عن بلده وعن دينه فقال له أنه نصراني وأنه من أهل قرية نينوى من قرى الموصل فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فدهش عدَّاس، وقال له- صلى الله عليه وآله وسلم-: وما يدريك ما يونس بن متى وإنني فارقت نينوي وما يعرفه من أهلها إلا قليل فمن أين عرفت أنت هنا هذا وأنت أمي في أمة أمية فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي. كان عدَّاس على يقين بما خبر من أهل تلك الأرض وعرف من جهلهم وأميتهم، من أنهم بعداء كل البعد عما شاهده من أدب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عند الأكل بذكر اسم الله، وما سمعه منه من العلم بيونس وبلدته فتحقق أن هذا ما وصل إليه إلا بوحي من الله فلم يتردد في تصديقه والإيمان به وأكب على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقبل رأسه ويديه وقدميه. لم يكن عند عدَّاس مال يطغيه ولا جاه ينفخه ولا رئاسة يتعالى ويتعاظم بها ولا سلطة كهنوتية تفسد عليه إدراكه وتغل فكره فلذلك نظر نظراً صحيحاً وفكر تفكيراً مستقيماً فاستنتج من علم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم يعلمه الناس في أرض جهل وأمية أنه نبي موحى إليه من الله وكل من سلم من تلك القواطع التي سلم منها عدَّاس فهو أقرب الناس إلى قبول الحق واتباعه وما يتباطأ من يتباطأ عن قبول الحق والإذعان لأدلته إلا من تلك الموانع ويكون تباطؤه بقدر ما عنده منها. بينما كان الغلام الصحيح العقل النقي القلب السليم الصدر الحر الضمير يستعمل فكره فيشرح الله صدره فيهتدي إلى الإسلام- كان

ذانك الشيخان الضالان اللذان أطغاهما المال ونفخهما الجاه وأعماهما الحرص على الرياسة، عتبة وشيبة- يقول أحدهما للآخر: (أما غلامك فقد أفسده عليك). رجع عدَّاس- وقد اهتدى- إلى الشيخين الضالين فقالا له: (ويلك يا عدَّاس ما لك تقبل رأس هذا الرجل- يتجاهلانه- ويديه وقدميه) فقال لهما: "يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي" فقالا له: "ويحك يا عدَّاس لا يصرفنك عن دينك- وقد كان عدَّاس نصرانياً- فإن دينك خير من دينه". لا يسوءهما أن يكون عدَّاس على أي ملة وإنما يسوءهما أن يتبع محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يحسدانه ويخافان منه على رياستهما فحاولا أن يصرفاه عنه ويصداه عن اتباعه بما قالاه له، لكن عدَّاساً الذي عرف الحق بالدليل، وذاق حلاوة الإيمان وبرد اليقين، لم يقم لكلامهما وزناً، ولم يحر لهما جواباً، وأعرض عنهما كما يعرض عن الجاهلين وثبت على الدين الحق. وكذلد الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب (1).

_ (1) ش: ج 2، م 11، ص 79 - 81 غرة صفر 1354ه -1935م.

الراعي

الراعي من هذا الغلام العربي في عباءته؟ من هذا الراعي الصغير في غنيمته؟ من هذا الصبي الناشيء على الحمل والرعاية من طفولته؟ من هذا اليافع الذي يأبى إلا أن يعيش من كد يمينه، ويأكل خبزه إلا بعرق جبينه؟. هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يتيم الأبوين مكفول عمه أبي طالب، الذي كان يرعى غنما لأهل مكة لقومه وأهل بلده بالقراريط حتى لا يكون كلا على عمه. هذا هو المهيأ برعايته الغنم، لرعاية الأمم، هذا هو المنشأ على الكد في العمل الصغير، إعداداً له للنهوض بأعباء العمل الكبير، هذا هو العربي على العمل بالفلس، ليشب على خلق الاعتماد على النفس، هذا هو المعد لختم النبوة والرسالة وإظهار أكمل مثال للبشربة، يحمل أعظم آية من وحي الله، ويدعو إلى السعادة الدنيوية والأخروية وأقصى ما يمكن أن يصل إليه الناس من كمال. شب محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- يتيما في كفالة عمه، وكان عمه مقتراً في شظف من العيش، فأخذ محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- يعمل بأجرة ليخفف على عمه ولما شب ضرب في الأرض تاجراً كعادة قومه، فلما ولد لأبي طالب عليٍّ كفله. وهو في الثلاثين، جزاء على كفالته. فكان في طفولته وشبابه وكهولته كواحد من قومه في عيشته وكسبه وأميته. وإن كان ممتازاً بينهم لخلقه وفضله حتى بعثه الله نبياً ورسولا بما يستحيل- وقد عرفوا طفولته وشبابه وكهولته- أن يكون شيء منه من عنده، ولذا أمره الله أن يحتج عليهم بقوله:

{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ميسراً من طفولته لما كان عليه اخوانه من الأنبياء والمرسلين- صلوات الله عليهم- قبله محفوظا مما حفظوا ملهماً ما ألهموا وقد ألهم الله الأنبياء قبله لرعي الغنم وهي حيوان ضعيف تمريناً على القيام على الضعاف بالحلم والرفق والشفقة وحسن الرعاية باختيار مسارحها ودفع العوادي عنها ودوام تعهدها وذلك كله تهيئة لم إلى ما يوكل إليهم من سياسة أمتهم. وقد ذكر هو- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا العهد من طفولته وهذه العادة الربانية في مثله من إخوانه اعترافا بنعمة الله وتنبيهاً على ما في ذلك من الحكمة وما فيه من حسن القدوة فقال يوماً لأصحابه: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» رواه البخاري من طريق أبي هريرة- رضي الله عنهم- (1).

_ (1) ش: ج 3، م 11، ص 152 - 153 ربيع الأول 1354ه - جوان 1935م.

خلوا بيني وبين ناقتي

خلوا بيني وبين ناقتي كان الأعراب يجيئون للنبي- صلى الله عيه وآله وسلم- يسألونه ويستجدونه في غلظة وجفوة من القول فكان يعطيهم ويتجاوز عن جفائهم ويعذرهم ببداوتهم. فجاءه أعرابي يطلب منه شيئاً فأعطاه إياه ثم قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- «أأحسنت إليك؟» ليعرف ما عنده من الاعتراف بالإحسان أو ليعرف اكتفاءه بما أعطاه فقال له الأعرابي: (لا ولا أجملت) أي ما أتيت لا بحسن ولا بجميل. فغضب المسلمون وقاموا إليه ليوقعوا به جزاء سوء أدبه فأشار إليهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن كفوا ثم قام النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئا ثم قال له: «أأحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: "نعم. فجازاك الله به من أهل وعشيرة خيراً". هكذا توسل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى تأديبه واستخراج الاعتراف بالجميل منه ليتربى عليه وحمله على النطق بالكلام الطيب بزيادة الإحسان إليه. فاعترف بالإحسان ودعا الله بالجزاء للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بسبب إحسانه وشعر بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان له أهلا وعشيرة وهذه كلها معارف وآداب وشعور طيب جاء بها هذا الأعرابي الجافي بسبب تربيته بزيادة الإحسان إليه. وأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا يتركه يرى بين الصحابة- رضي الله عنهم- بالعين التي كانوا يرونه بها لجفائه وسوء أدبه وأن لا يترك في قلوبهم شيئاً عليه، فقال له: «إنك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابي شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في

صدورهم عليك» دعاه بألطف القول وألينه دون أمر ولا إلزام فقال الأعرابي: "نعم" فلما كان الغد أو العشي جاء الأعرابي لمجلس النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي. أكذلك، قال نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً». ثم أراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يضرب مثلا لأصحابه- رضي الله عنهم- يبين لهم به كيف يكون رد الشارد وجذب النفور وتأليف الجافي، وأن المتصدي لتربية الناس أعرف من غيره بما يصلحهم وأن الرئيس المتبوع أعرف بطباع أتباعه وأحق بتأليفهم وتربيتهم من الاتباع بعضهم في بعض، فقال لهم- صلى الله عليه وآله وسلم-: «مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أوفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت (بركت) وشد عليها رحلها واستوى عليها» ثم قال لهم: «وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» فقد استحق النار لو مات على تلك الحال فأشفق عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعالجه بما أنقذه منها وهكذا تكون رعاية الأفراد والأمم باللين والإحسان والإنقاذ من مصارع السوء والحمل بالرفق والعلم على السير في أحسن السبل فصلى الله عليه وسلم من نبي حريص على الخير رفيق بالخلق عليم بطبهم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (1)} (2).

_ (1) ذكرها فى الشفاء وأصلها في البزار كلما ذكره الشراح. (2) ش: ج 4، م 11، ص 207 - 208 غرة ربيع الثاني 1354ه - جوان 1935م.

كن خير آخد

كن خير آخد قام قائم الظهيرة وأصهرت الأرض شمس الصحراء، فنزل الجيش ليقيل، وتفرق الصحابة تحت أشجار البادية يستظلون بها، وانتبذ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن أصحابه تحت ظل شجرة وانفرد بها فنزع سلاحه وعلق سيفه في غصن من أغصانها ونام. كان غورث بن الحرث أحد شجعان العرب وفتاكهم يتتبع الجيش متخفياً، يتحين فرصة انفراد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للفتك به، وقد واتته تلك الفرصة الآن، فجاء حيث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نائم وسيفه معلق بالشجرة، فاخترط السيف فانتبه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وغورث قائم على رأسه والسيف صلتا بيده. فصاح الفاتك بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: "أتخافني؟ " فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا» قال: "ومن يمنعك مني" فقال: «الله». الاسم الأعظم ينطق به الرسول الأعظم، وهو أعزل من سلاحه إلا سلاح الإيمان، وقد شهر الباطل سيفه بيد ضال مغرور، يريد أن يصيبه في سيد أنصاره وأعظم أبطاله. فلو كان هذا الفاتك جبلا وقد صدعت كلمة ‹الله› سمعه لخشع وتصدع ولو كان قلبه من حديد لذاب وسال. انخلع قاب الفاتك واضطربت يده وسقط السيف منها، فتناول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- السيف ورفعه على رأسه وقال لغورث: من يمنعك عني؟ فقال له غورث: كن خير آخذ. إلتجأ الفاتك إلى حُلم الني- صلى الله عليه وآله وسلم- وعفوه

وكرمه ودعاه إلى أن يكون خير آخذ لعدوه، وخير الآخذين هو الذي يعفو بعد القدرة، ويسمح بعد الغلب، وما دعى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى خير إلا أجاب ولا وقع بين أمرين إلا اختار أفضلهما، وما انتقم لنفسه قط، فترك غورثا وعفا عنه فرجع إلى قومه يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس. في هذه القصة تجلت الثقة بالله في أجلى مظاهرها واندحرت قوة السيف أمام قوة الإيمان إيمان من لا يخاف إلا الله ولا يخاف غيره. ولو كان السيف صلتا على رأسه وضرب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- المثل الكامل في العفو والتجاوز وحسن التآلف للناس وجلبهم إلى الإيمان فلهذا العفو ولقول غورث لقومه: جئتكم من عند خير الناس، من الأثر في القلوب ما لا تفعله الجيوش من فتحها للإسلام أو كفها عن أذى المسلمين (1). رزقنا الله الاقتداء بهذا النبي الكريم ذي القلب الرحيم والخلق العظيم (2).

_ (1) أصل القصة في الصحيحين والشفاء ومسند أحمد وقد اختلف في إسلام غورث. (2) ش: ج 5، م 11، ص 284 - 285 غرة جمادى الأولى 1354ه - أوت 1935م.

لا أثر للعبودية مع الأحرار

لا أثر للعبودية مع الأحرار أغارت خيل بني القين على أبيات بني معن فاحتملوا فيما غنموا زيد بن حارثة الكلبي، وقد جاء مع أمه سعدى عند أخواله، وهو غلام يفعة، فسبوه وباعوه في سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد فلما تزوجت بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وهبته له فصار عبداً لمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بتلك الهبة. قدم ناس من قوم حارثة مكة فرأوا زيداً فعرفوه فلما رجعوا. أخبروا أباه وكان قد وجد على فقده وسبيه وجدا شديدا وكان دائم البحث عنه فما أن بلغه نبأ وجوده بمكة حتى خرج هو وأخوه كعب قاصدين إلى مكة ليفتديا زيداً من مالكه بما استطاعا من المال. قدما لمكة وسألا عن محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يملك ابنهما فدلا عليه في المسجد بفناء الكعبة فدخلا عليه فقالا: (ابن عبد المطلب يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك تمن علينا وتحسن إلينا في فدائه، قال: من هو؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال: فهلا غير ذلك، قالا ما هو إلا ذاك، قال أدعوه فأخبراه فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي اختار على من أختارني أحداً، قالا قد رددتنا إلى النصف وأحسنت، فدعاه، فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وهذا عمي، قال فأنا من قد علمت وقد رأيت محبتي فاخترني أو اخترهما؟ قال: زيد: ما كنت بالذي أختار عليك أحداً أنت مني مكان الأب والعم، فقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على

الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك، قال نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً. كان زيد بحكم العادة عبداً مملوكا ولكنه لم يشعر مع محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- سيد الأحرار- وهذا قبل نبوته- بشيء من آثار العبودية. إنه لا يستبد بالناس، ويمتهنهم ويدوس كرامتم إلا من لم يستكمل معنى الإنسانية ولم يكن هو في نفسه حراً أما من كملت إنسانيته وخلصت حريته فإنه لا يستطيع أن يمتهن الإنسانية ولا يذل كرامتها وأن الوصايا التي أوصى بها الإسلام في شأن المملوك والخدم لا يشعر معها المملوك والخادم بشيء من العبودية وانحطاط المقام ومحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- المفطور على الرحمة والإحسان سيد الناس وسيد الأحرار لم يشعر معه زيد بشيء من أثر العبودية واختار البقاء معه على الأب والعم والأقارب. جازى محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- زيداً على اختياره له على أبيه وعمه وأهله فأعلن بتبنيه فصار يدعى زيد بن محمد حتى أبطل الله التبني بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} وزيد أحد السابقين للإسلام وما ظنك بمن ربي تحت جناح محمد- صلى الله عليه وآله وسلم (1) -

_ (1) ش: ج 6، م 11، ص 351 - 352 غرة جمادى الأولى 1354ه - أوت 1935م.

من خان قوما فليس منهم

من خان قوما فليس منهم ضربت الجيوش المحمدية نطاق الحصار على بني قريظة بعدما كانت نقضت عهدها يوم الأحزاب ورأت قريظة أنها مأخوذة وأنه نازلبها من الله عقاب الخائنين. بعثوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي، وقد كانوا حلفاء الأوس ليستشيروه في أمرهم فلما جاءهم أبو لبابة قام إليه الرجال وجهِش إليه النساء والصبيان بالبُكاء وكانت عليهم منه رقة وبعث مشهدهم في قلبه رحمة أنسته ما كان منهم من خيانة لعهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- والمسلمين، ومؤازرة العدو عليهم حتى أحيط بالمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم وحتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. استشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول من حصنهم على حكم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال لهم نعم. وعلم أنهم استحقوا بخيانتهم القتل وأنهم مقتولون فأشار لهم بيده إلى حلقه إشارة فهموا منها أنهم يذبحون. قال أبو لبابة: "فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله" وذهب على وجهه وقد عرف عظم الجرم الذي ارتكب فذهب إلى المسجد النبوي وربط نفسه بسلسلة إلى عمود من عمده وأقسم لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه وأقام على ذلك لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى يخر مغشياً عليه، وكانت تأتيه زوجته أو ابنته فتحله إذا حضرت الصلاة ثم يعود. مضت عليه بضع عشرة ليلة أو سبعة أيام ورسول الله- صلى الله

العبرة

عليه وآله وسلم- يراه فيقول لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. ففي سحر ليلة نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- توبة الله التواب الرحيم على أبي لبابة وهو في بيت أم سلمة- رضي الله عنها- فبشر بالتوبة وثار الناس إليه ليطلقوه فأبى حتى يطلقه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بيده فلما مر به رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عند خروجه لصلاة الصبح أطلقه. فرح أبو لبابة بتوبة الله عليه وجعل من توبته أن عاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا- وكانت له بها أموال- وأن لا يرى في بلد خان فيه الله ورسوله، وقال لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن من توبتي أن أهجر الدار التي أصبت فيها الذنب وأن انخلع من مالي، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يجزئك الثلث يا أبا لبالة. العبرة: إشارة خفيفة لقوم مغلوبين فيها بيان ما يقصد بهم، عدها هذا الصحابي البدري النقيب الجليل في هذه المنزلة من الخيانة حتى فزع لها هذا الفزع وخاف منها هذا الخوف وما اطمأن حتى تحقق توبة الله عليه فشكر ذلك بهجران موطن الخيانة وتصدق بثلث ماله، ذلك لاأنها خيانة في أمر عام وفي موقف حربي بين المسلمين وعدوهم وأعظم الخيانة ما كان في مثل ذلك وكان أبا لبابة رأى نفسه بتلك الخيانة للمسلمين لم يبق كواحد منهم فربط نفسه منفرداً عنهم حتى يطهر بالتوبة وفي الحق أن من خان قوماً فليس منهم بل هو شر عليهم من أعدائهم. فرضي الله عن أبي لبابة عدد سخطه ومقته للخائنين (9).

_ (1) ش: ج 9، م 11، ص 499 - 500 غرة رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.

من ذكريات بدر

من ذكريات بدر حماس الشباب (1) ــــــــــــــــــــــــــــــ قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع (2) منهما. فغمزني (3) أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي، قال: أخبرت أنه يسب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده (4) حتى يموت الأعجل (5) منا فتعجبت لذلك. فغمزني الآخر فقال لي مثلها. فلم أنشب (6) أن نظرت إلى أبي جهل يجول (7) في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه (8) بسيفيهما يضربانه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله وقضى

_ (1) القصة وهى في عيون الأثر 1/ 262 رواها مسلم عن يحيى بن يحيى عن يوسف بن الماجشون. (2) أقوى وأشد. (3) أشار له بطرفه أو وضع عليه يده. (4) شخصي شخصه. (5) الأقرب أجلا. (6) البث. (7) ينتقل بينهم لا يثبت في موضع يتفقدهم لأنه كان رأسهم. (8) أسرعا إليه فناجزاه.

بيان وإيضاح

بسلبه (1) لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وهما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح". بيان وإيضاح: شابان ملأ الإيمان قلوبهما، وعظمت على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غيرتهما، واشتد على مؤذيه حنقهما فهانت عليهما في سبيل الانتصار له والانتقام من عدوه الظالم نفوسهما، وكل واحد منهما يريد أن يفوز بهذا المقام من إرضاء الله ورسوله فيسأل الرجل الكهل الواقف ينهما ويكتم سؤاله عن صاحبه ويقسم أنه لو رأى عدو الله أبا جهل لما فارقه حتى يقتل أحدهما صاحبه. فيقف هذا الرجل الكهل الذي كان استصغرهما واستضعفهما وود لو كان بين رجلين أقوى منهما- متعجباً آمن أمرهما وما ظهر له من قوة قلبهما وتواردهما في السؤال على غاية واحدة لا يبالي كل واحد منهما في سبيلها بالموت الزؤام. وأراد الله أن يبلغهما تلك الغاية وأن يرى ذلك السيد الكهل تصديق فعلهما لقولهما فرأى أبا جهل يتنقل في الناس فأراهما إياه إراءة واحدة فانقضا عليه كبازيين على الفريسة فأغمدا فيه سيفيهما وشفيا- في الله- منه غيظهما وجاءا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يخبرانه بقتل رأس الكفر وأعظم الأعداء وأشدهم أذى يدخلان الفرح عليه ويبتغيان مرضاة الله ورسوله، وكل واحد منهما يرى أنه قد قتله لما علم من أثر سيفه فيه وصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- دعوى كل واحد منهما لما رأى من أثر دم عدو الله على سيفيهما وأعطى السلب أحدهما ولم يكن السلب قصدهما فخص- باختياره- من شاء منهما فذهبا طيبة بما صنعا نفوسهما راضية برضى الله ورسوله عنهما.

_ (1) ما عليه من ثياب وسلاح.

هذا هو الشباب الحي وهذا هو حماسه الدال على قوة حيويته وصدق عقيدته وهذا هو اندفاعه الذي ميزه الله به عن الكهول والشيوخ وهذه مظاهر حزمه ونشاطه في الإنجاز والتنفيذ، فنعم الشباب أولئك الشبان، ينقضون كالصواعق، ونعم الكهول أولئك الكهول، يثبتون كالجبال (1).

_ (1) ش: ج 11، م 11، ص 594 - 595 غرة ذي القعدة 1354ه - فيفري 1936م.

بئس حامل القرآن أنا إذا

بئس حامل القرآن أنا إذاً كان يوم اليمامة في حرب بني حنيفة- قوم مسيلمة الكذاب- من أشد أيام حروب الردة، وكان للقراء حملة القرآن فيه الموقف المشهودة، وكان القائد الأعلى سيف الله خالد بن الوليد- رضي الله عنه- يختار منهم من يعطيه على قسم من الجيش الراية، وحامل الراية لا تسقط من يده حتى يسقط ميتا، ولا تؤخذ منه حتى تؤخذ روحه فى دونها، وكانت راية المهاجرين مع عبد الله بن حفص بن غانم القرشي فثبت معها حتى قتل فأعطيت الراية لسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه فقال لهم: ما أعلمني لأي شيء أعطيتمونيها؟ قلتم صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟ قالوا: أجل فانظر كيف تكون أتخشى علينا من نفسك شيئا؟ قال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. تناول سالم الراية وهو يرى تناولها عهدا بينه وبين الله والمسلمين أن لا يفر حتى يصرع دونها فصدق ما عاهد الله عليه وجرى على سنة حملة القرآن إخوانه من قبله، فأمسكها بيمينه حتى قطعت يمينه، فأخذها بيساره حتى قطعت يساره فاعتنقها حتى صرع، فسأل أصحابه وهو صريع: ما فعل أبو حذيفة؟ يعني مولاه، فقالوا قتل فقال: أضجعوني بجنبه فجمعهما بطن الأرض شهيدين كما عاشا على ظهرها على الإسلام والهجرة والنصرة مجتمعين رضي الله عنهما. العبرة: القرآن راية الإسلام، فحامل القرآن حامل راية الإسلام، فلذلك كان يتقدم حملته لحمل الرايات تحت بارقة السيوف، يجودون بأنفسهم،

والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ففي جميع مواطن البلاء، والشدة ومواقف الفزع والمحنة، هم أهل المتقدم إلى الأمام. هؤلاء هم حملة القرآن الذين حملوه حمل فهم وعلم وعمل، فاعتزوا به وأعزوا به الإسلام فأعزهم الله. وخلفت من بعدهم خلوف اتخذوه حرفة وتجارة، وجاءوا بقراءته على الأموات بوجوه من البشاعة والمهانة والحقارة فأذلوا أنفسهم وأذلُّوا اسم حامل القرآن بقبيح أعمالهم فأذلهم الله: على أن الله- ولله الحمد- لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة، ومستجيب لداعي الله في سلوك المحجة، فقد أخذ كثير من حملة القرآن يعرفون قيمة ما حملوا. وينهضون بما حمِّلوا، ويعملون لعز الإسلام ورفع راية القرآن، راية الحق والعدل والأخوة والإحسان لبني الإنسان. أيدهم الله وأنقذ بهم الإنسانية ومد بهم رواق السلام (1).

_ (1) ش: ج 1، م 13، ص 12 - 13 غرة محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.

هكذا تكون النزاهة

هكذا تكون النزاهة رضي الله عنك يا عمر ــــــــــــــــــــــــــــــ كان أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- أميراً بالبصرة من طرف عمر- رضي الله عنه- فمر به عبد الله وعبيد الله ابنا عمر قافلين من الغزو في جيش كان بالعراق فرحب بهما وسهل وقال وددت لو أقدر على شيء أنفعكما به. ثم اهتدى إلى وجه نفعهما فقال: عندي مال من مال الله أريد أن أبعثه إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتباعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فيكون لكما الربح وتؤديان رأس المال لأمير المؤمنين فقبلا ذلك منه وكتب لعمر يعلمه. فلما قدما المدينة باعا ما اشتريا من العراق وربحا وجاءا لأمير المؤمنين برأس المال وأمسكا ربحهما. رأى عمر أن أبا موسى حاباهما وأنه راعى جانب عمر أمير المؤمنين فيهما ولذا خصصهما بذلك دون غيرهما. وما كان عمر ليرضى أن يستغل مركزه في الأمة لنفعه بذلك الخاص ولا أن يستغله أحد من أهله فأراد أن يأخذ من ابنيه رأس المال والربح ويعرفهما أن أبا موسى حاباهما فقال لهما: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما.!! أدِّيا المال وربحه، فأما عبد الله وهو أفقه الإبنين- فسكت وأما عبيد الله- وهو أشدهما- فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو هلك هذا المال أو نقص لضمناه، فقال عمر: أدياه فراجعه عبيد الله ورأى أحد جلساء عمر أن يقطع النزاع بوجه يرضي عمر ويبعده عن المحاباة، فقال: يا أمير

الأسوة الحسنة

المؤمنين اجعله قراضا فقال عمر: قد جعلته قراضا فأخذ رأس المال وشطر الربح لبيت مال المسلمين، وأخذ ابناه- كعاملين في القراض- الشطر الآخر. الأسوة الحسنة: كل ذي علم أو إمارة أو منزلة عند الناس، ترى الناس يسرعون في مرضاته فينجر إليه وإلى من إليه فوائد ما كانت لتتجر لولا مكانه الخاص. فعلى الذين لا يحبون أن يأخذوا من الناس أكثر مما يعطونهم، ولا يحبون أن يستغلوا مراكزهم، أن يحتاطوا من هذه الناحية حتى لا ينالوا ولا ينال بأسمهم شيء زائد على ما يناله كل أحد من الناس مثلما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- وليس هذا من الورع الذي قد يكون المقصر فيه معذورا بعض العذر، بل هو من الواجب الذي يتحتم على كل ذي منزلة وقدر بين الناس فإن استغلال المنزلة والاختصاص بالمنافع العامة دون سائر الناس من الأكل بالباطل نسأل الله أن يجعل فينا ما ينفع عباد الله وأن يجعل ما نعطي أكثر مما نأخذ وما نعمل أكثر مما نقول آمين يا رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 2، م 13، ص 84 - 85 صفر 1356ه - أفريل 1937م.

رقية الله

رقية الله كان ضماد- وهو رجل من أزد شنؤة- من أطباء العرب في الجاهلية وكان يعالج بالطب والرقية. قدم مرة مكة، وقد بلغه نبأ الدعوة الجديدة فلما قدمها سمع من سفهائها ما كانوا يرمون به صاحب هذه الدعوة من الجنون فود لو رآه فرقاه لعل الله يشفيه على يديه، فعمل لذلك حتى لقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح - ريح الجنون- وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فما أجابه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بكلمة ترد عليه وما زاد على أن قال: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد" فما تركه ضماد يشرع فيما بعد أما بعد، فقد عملت هذه الكلمات الجوامع عملها من نفسه وأثرت أثرها في قلبه فبادره بقوله: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء فأعادها عليه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثلاث مرات فتجلى لضماد من توحيد الله وتنزيهه والثقة به والاعتماد عليه والحمد له ما بهره منه المعنى الكبير الكثير، في اللفط البين القليل، وعرفه أن هذا لا يخرج من قلب مجنون. وكيف؟ وهو لم يطرق سمعه مثلهن فيما سمع من كلام الناس فقال، معلنا لإيمانه مبيناً لدليله وبرهانه: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاعوس البحر (كقاموس عمق البحر ولجته) ثم قال: هات يدك أبايعك على الإسلام فبايعه، فقال

العبرة

له رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: وعلى قومك؟ فقال: وعلى قومي (1). العبرة: جاء الضماد لا يحمل في قلبه على محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- حقداً ولا بغضاً، بل كان ينظر إليه بعين الشفقة نظر الطبيب إلى المريض. فلما سمع الحق بلغ من قلبه ذلك المبلغ. فأعظم ما يحول بين الحق وبين الناس وما تنطوي عليه قلوبهم من بغض أو حقد على من دعاهم إليه. فعلى من يريد أن يعرف الحق أن يخلي قلبه- ما استطاع- من كل إحنة على من يريد أن يعرف ما عنده من الحق عندما يريد أن يعرف، وعلى كل داع إلى الحق أن يبذل كل جهده أن لا يظهر بمظهر العدو أو البغض لمن يدعوه. فإنه إذا سلم القلب، وحصل الفهم أثرت كلمة الحق أثرها لا محالة. الأسوة: كتاب الله ومثل هذا الكلام النبوي الوارد في هذه القصة المأخوذة، من كتاب الله، هو الدواء الناجع من أدواء النفوس وأمراض القلوب، وهو الرقية الشافية، - رقية الله- من وساوس الأهواء وهواجس الضلال، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يزد في استشفاء ضماد على أسماعه ذلك الكلام الجامع المختصر. فعلى الدعاة إلى الحق أن تكون دعوتهم بكلام الله ومثل هذه الكلمات من حديث رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فإن في ذلك الاتباع والانتفاع، وحصول الهداية إن شاء الله آمين (3).

_ (1) القصة في صحيح مسلم. (2) ش: ج 3، م 13، ص 127 - 128 غرة شعبان 1356ه - 2 ماي 1937م.

نعوذ بالله من السلب بعد العطاء

نعوذ بالله من السلب بعد العطاء كان ممن قدم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من بني حنيفة سنة الوفود الرَّجَّال بن عنفوة فأسلم وقرأ وفقه في الدِّين. وكان يرى عليه من الخشوع والخير وملازمة قراءة القرآن شيء عجيب. حتى بعثه معلما لأهل اليمامة وبينما هو جالس يوما من الأيام في رهط من الصحابة منهم أبو هريرة خرج عليهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: "لضرس أحدكم- أيها المجلس- في النار يوم القيامة أعظم من أحد". فلما ارتدت بنو حنيفة باليمامة وتبعت مسيلمة الكذاب أرسل أبو بكر إلى الرَّجَّال فأوصاه بوصيته وبعثه يشغب على مسيلمة وهو يظن منه الصِّدْق فلما لحق باليمامة لحق بمسيلمة وشهد له أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أشركه في الأمر وأن هذا نبي وهذا نبي فاستجاب له من كان أسلم من بني حنيفة وصدَّقوه وكان أشد وأعظم فتنة عليهم من مسيلمة نفسه، بما كانوا يعلمون من حاله وثبت على ردته حتى قتل، قتله زيد بن الخطاب. قال أبو هريرة: "مضى أؤلئك الرهط لسبيلهم وبقيت أنا والرجال فما زلت لها متخوفا حتى سمعت بمخرج الرجال فآمنت وعرفت أن ما قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- حق". هذا سلف الناكصين- وبئس السلف لبئس الخلف- وهذه عاقبتهم جكمة الله وعدله فيهم: يسلبهم ما أعطاهم وهو أعلم بهم،

ويجعلهم فتنة لمن عداهم ليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم الصادقين ويعلم الكاذبين ثم تكون العاقبة للمتّقين (1).

_ (1) ش: ج 2، م 5، ص 68 - 69 غرة صفر 1358ه - مارس 1939م.

وأنا أغتنمها ...

وأنا أغتنمها ... المصلحة العمومية فوق الحزازات الشخصية ــــــــــــــــــــــــــــــ رجل عظيم له أثر جليل في فتح الجزائر "المغرب الوسط" فهو أول من وطئت معه خيول الإسلام هذه الأرض، ولكنه مغمور في التاريخ، لا يجرى ذكره على الألسنة، ولا تعني بتفصيل حياته الكتب. ذلك هو أبو المهاجر دينار مولى مسلمة بن مخلد الأنصاري رحمه الله. إستعمله مولاه مسلمة بن مخلد- والي مصر من قبل معاوية- على فتح إفريقيا وعزل عقبة بن نافع عنها. كان المغرت الأدنى قد تم فتحه فوجه أبو المهاجر همه إلى فتح المغرب الأوسط، بعد أن تولى الأمر من يد عقبة وأساء عزله ولكنه خلاه حراً طليقاً. كان كسيلة من ملوك الأمازيغ بالمغرب الأوسط قد جمع جموعاً كثيرة وزحف بها لقتال المسلمين فكانت بينه وبين أبي المهاجر معارك انتهت بانتصار المسلمين وانهزام كسيلة وجموعه وظفر أبي المهاجر به. أسلم كسيلة فاستبقاه أبو المهاجر وقربه، وانتهى أبو المهاجر من غزوه إلى تلمسان وقفل راجعاً إلى القيروان العاصمة الإسلامية التي كان أسسها عقبة، فبنى مدينة أخرى قربها نقل إليها مركز الجيش والإمارة، فصارت القيروان في حكم الخربة. أفضت الخلافة إلى يزيد بن معاوية فأعاد عقبة إلى إمارة إفريقيا فقدمها سنة 62 فتناول الإمارة من يد أبي المهاجر وعزله وزاد فاعتقله ونكب صاحبه كسيلة الذي كان اعتصم بالإسلام ورجع مركز الجيش والإمارة إلى القيروان. سار عقبة في جيشه في المغرب الوسط وكانت له فيه حروب،

العبرة

إذ لم تكن غزوة أبي المهاجر إلا تمهيداً للفتح، ثم توجه إلى المغرب الأقصى حتى انتهى إلى المحيط الأطلانطيقي، ولم يكن هذا الفتح السريع المدهش قد استأصل قوة جموع الوطن أيضاً، ففي عودة عقبة إلى القيروان من هذا الفتح هبطت إليه كاهنة جبل أوراس في جموع كثيرة وهو في قلة من أصحابه فكانت الوقعة الكبرى التي استشهد فيها عقبة وصاحبه وقال فيها أبو المهاجر كلمته الكبيرة الخالدة التي جعلناها عنوانا لهذه القصة. كان عقبة في فتوحه مستصحباً معه أبا المهاجر وصاحبه كسيلة معتقلين، وكان يذيق كسيلة أنواع الإهانة والإذلال وكان أبو المهاجر يحذره عاقبة تلك المعاملة المخالفة لما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في معاملته للأسرى ولعظماء الناس. لقد صدق ظن أبي المهاجر فإن كسيلة لما رأى قلة جماعة عقبة لرجوع الجيوش قبله إلى القيروان أرسل إلى قومه يعلمهم بذلك فجرأهم ذلك على ملاقاته والنزول إلى قتاله بعد ما كان الخوف والرعب قد ألجأهم إلى شعاب الجبال، فكانت تلك الوقعة. علم عقبة أنه مستشهد لا محالة فسرح أبا المهاجر من معتقله وأمره باللحوق بالقيروان ليتولى أمر الناس لعلمه بسهولة الوصول عليه لحسن علاقته مع كسيلة وحسن سمعته عند قومه ويغتنم عقبة الشهادة فنسي أبو المهاجر كل ما كان فيه وكل ما لحقه من عقبة وقال له: "وأنا أغتنمها أيضا" ونزل المعترك كأصحابه واختاروا الموت الشريف على الأسر والهوان (1) فاستشهدوا عن آخرهم وكانوا زهاء ثلائمائة من الصحابة والتابعين رضي الله. العبرة: عندما تكمل في القادة أخلاق الرجولة ويتحدون في الإيمان

_ (1) راجع "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" للأستاذ الميلي.

القدوة

بالمصلحة المشتركة العليا، وفي السعي لغاية واحدة - لا يحول بينهم وبين القيام بجلائل أعمالهم والبلوغ إلى غاياتهم، ما تقل السلامة منه بين البشر من الحزازات الشخصية وإن نالهم من ذلك ما لا بد منه من أثره السيء في طريق سعيهم وسرعة وصولهم. فسوء معاملة أبي المهاجر لعقبة كانت نتيجة معاملة عقبة له التي تجاوزتها في الإهانة، حتى ارتكب عقبة ذلك المركب القبيح الوخيم العاقبة في معاملة كسيلة، لكن القائدين العظيمين كانا يؤمنان إيمانا واحدا بالمصلحة المشتركة العليا، ويعملان لغاية واحدة هي إعلاء كلمة الإسلام واغتنام الشهادة في سبيله، فلم يأل أبو المهاجر في نصح عقبة وهو تحت قيود الاعتقال ولم يتوقف عقبة في سراح أبي المهاجر ليتولى الإمارة بالقيروان ولكن الغاية الكبرى عند أبي المهاجر- كما هي عند مثله- هي الموت في سبيل الله والفوز بالشهادة فقال: "وأنا أغتنمها أيضاً" وما كانت تلك الوقعة التي خسر بها الجيش الإسلامي أولئك الأبطال إلا أثراً لازماً لتلك الحزازات الشخصية والنقائص البشرية. ولكل شيء أثره في هذه الحياة. القدوة: ضرب أبو المهاجر القائد العظيم أسمى مثل في نسيان النفس، والزهد التام في الحياة الدنيا ورئاستها، والرغبة الصادقة في نيل الشهادة، كما ضرب أسمى مثل في الشجاعة والإقدام والتضامن التام مع الأصحاب في وقت الشدَّة، وطرح كل أمر شخصي إزاء الصالح المشترك العام. فرحمه الله وجازاه الله وجازى من معه عن الإسلام وعنا خير الجزاء (1).

_ (1) ش: ج 3، م 15، ص 116 - 118 غرة ربيع الأول 1358ه - أفريل 1939م.

مصرع ظالم

مصرع ظالم ولي يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف وكاتبه إمارة إفريقية من قبل يزيد بن عبد الملك الخليفة الأموي، فقدمها سنة إحدى ومائة, فأراد أن يسير في الأمازيغ سيرة مولاه الحجاج فيمن أسلم من أهل سواد العراق، فإن الحجاج ردهم من الأمصار إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم كما كانت تؤخذ منهم قبل أن يسلموا، فلما عزم يزيد على ذلك في أهل إفريقية تآمروا على قتله فقتلوه، وولوا مكانه عليهم محمد بن يزيد مولى قريش الذي كان عاملاً عليهم قبل يزيد، وكتبوا إلى أهل يزيد بن عبد الملك: "إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة ولكن يزيد ابن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى به الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك". إباء وعدالة: سيم خطة خسف شنيعة هؤلاء الأفارقة فيما أرادهم به هذا العامل الظالم فأبوا وأوردوه مورد الظالمين أمثاله. ورأى الخليفة صدق طاعتهم وعدل حكمهم فأقرهم على ما فعلوا, في قتل من قتلوا وولاية من ولوا. ولقي هذا الظالم من الأفارقة ما لم يلقه مولاه وأستاذه الحجاج بالعراق. عبرة في مقتله: كان الوضاح بن أبي خيثمة حاجب عمر بن عبد العزيز الخليفة

الأموي الراشد. فلما مرض عمر أمره بإخراج المحابيس فأخرجهم سوى يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاز وكان إذ ذاك سجيناً، فلما مات عمر هرب الوضاح إلى إفريقية خوفاً من يزيد بن عبد الملك الخليفة بعد عمر فبينما هو بإفريقية إذ قيل قدم يزيد بن أبي مسلم والياً فهرب منه الوضاح لما يعلم من حقده عليه من يوم تركه في السجن دون سائر المحابيس فطلبه يزيد حتى ظفر به فلما حمل إليه ورآه قال له طالما سألت الله أن يمكنني منك فقال له الوضاح: وأنا طالما سألت الله أن يعيذني منك، فقال له يزيد: ما أعاذك الله والله لأقتلنك, ولو سابقني فيك ملك الموت لسبقته، ثم دعا بالسيف والنطع فأتي بهما وأمر بالوضاح فأقيم بالنطع وكتف وقام وراءه رجل بالسيف وأقيمت الصلاة فخرج يزيد إليهما فلما سجد أخذته السيوف سيوف أولئك الأباة من الأفارقة فقتلوه جزاء ظلمه وخروجه فيهم عن حكم الإسلام، ثم أدخل على الوضاح من قطع كتافه وأطلق سراحه. وهكذا جاء الفرج بعد الشدة, وقلب الله أمر الرجلين في فترة قصيرة جداً, فأمسى الأمير قتيلاً, والمكتوف في النطع حراً طليقاً، ونجَّى الله حاجب الإمام العادل، وأهلك الظالم مولى الظالم. والحمد لله رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 4 م 15، ص 169 - 170 غرة ربيع الثانى 1358ه - ماي 1939م.

السر كل السر في الأرواح

السر كل السر في الأرواح قد ينبثق الفرعان من أصل واحد ويهبط الإخوان من صلب واحد وتجمعهما رحم واحدة ويعيشان عيشة واحدة ثم يكون هذا في مستوى وهذا في مستوى دونه بمنازل. ما ذلك الإختلاف مع ذلك الإتفاق إلا لسر في النفس هو خفي كحقيقة النفس .. وهذه القصة التي ننقلها عن ابن أبي الحديد في الأخوين الكريمين الشريفين العظيمين: أبي الحسن الرضي وأبي القاسم المرتضى- عبرة بالغة في ذلك. قال: "حكى أبو حامد بن محمد الأسفرايني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوماً عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة "من بني بويه" فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه وأجله ورفع من منزلته وخلى ما كان بين يديه من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم- رضي الله عنه- فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الإكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها وتوقيعات يوقع بها فجلس قليلاً وسأله أمراً فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد: فتقدمت إليه وقلت: أصلح الله الوزير، هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما، وإنما أبو الحسن شاعر. قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة وكنت مجمعاً على الإنصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن انفضَّ الناس

واحداً فواحداً فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه دعا بالطعام فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي، إتصل بي أنه قد ولد له ولد فنفذت إليه ألف دينار وقلت هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فأقرأه. قال أبو حامد: فقرأته فإذا هو اعتذار عن الرد ومن جملته: "إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة". قال الوزير: فهذا هذا، وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادوريا "بالجانب الغربي من بغداد" تقسيطاً نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكاً للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهماً ثمنها دينار واحد، وقد كتب إليَّ منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب، فأقرأه. قال أبو حامد: فقرأته فإذا هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه. قال الوزير فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل، هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟ فقلت وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقاً، والله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه، ولا أحله إلا في محله، وقمت فانصرفت. وفي هذه القصة إلى ما قصدناه منها نموذج من مجالس الوزراء

وآدابهم ومعاملتهم للناس على منازلهم وضبطهم لمكاتبهم والعناية بالري وحفر الأنهار مما ازدهر به عماران (1) العراقي من الناحية في تلك العصور أي ازدهار وآثار تلك العناية باقية على الزمان إلى اليوم (2).

_ (1) كذا في الأصل ولعله: عمران العراق. (2) ش: ج 5، م 15، ص 213 - 215 غرة جمادى الأولى 1358ه - جوان 1939م.

قسم الرحلات

عاآثار ابن باديس قسم الرحلات

للتعارف والتذكير

للتعارف والتذكير عرفتني تنقلاتي في بعض قرى ما في قلوب عامة المسلمين الجزائريين من تعظيم للعلم وانقياد لأهله إذا ذكروهم بحكمة وإخلاص. ما حللت بقعة إلا التف أهلها حولي يسألون ويستمعون في هدوء وسكون وكلهم أو جلهم منتمون للطرق من مقدم وشاوش وخوني. ما كنت أدعوهم في جميع مجالسي إلا لتوحيد الله والتفقه في الدين والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ورفع الأمية والجد في أسباب الحياة من فلاحة وتجارة وصناعة وإلى اعتبار الأخوة الإسلامية فوق كل مذهب وطريقة وجنس وبلد، وإلى حسن المعاملة والبعد عن الظلم والخيانة مع المسلم وغير المسلم، وإلى التزام القوانين الدولية التي لا بد منها لحفط النظام. كنت أذكرهم بهذا كله وأقرأ على وجوههم سمات القبول والإذعان وأنا على يقين من بقاء أثر نافع لذلك بصدق وعد قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}. الحروش: بهاته القرية مسجد السيد لمعاوي علي ولكن القرية تقتضي جامع جمعة فذكرناهم في شأنه واتفقت كلمة الجمع على أن الذي يقدر على إنهاض الناس لبنائه هو السيد أحمد بن حربي والسيد بوقادوم فوعدا بالعمل وفقهم الله لإنجازه. زيادة على المجالس العامة كان التذكير في المسجد إثر الظهر بفقه

عزابة

تكبيرة الإحرام والسلام، وبعد العصر بالاهتمام بالشؤون العظيمة وأخذ ذلك من قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} واستطردنا إلى تفسير سورة: {أَلَمْ نَشْرَحْ}. عزابة: لقينا إلى محطة السانشارل في سيارتين قاضيها العلامة الشيخ صالب علاوة بن الجودي وبعض النواب البلديين وأعيانها فيممناها إلى حانوت الأديب السيد محمد جلواجي وحانوته مجمع أهل الفضل من القرية ونواحيها ولا نطيل بتفصيل ما لقيناه من إكرام وعناية نكل ثوابهم عليهما إلى الله وإنما نذكر ما يتعلق بالتذكير والإرشاد. كان الدرس العام بعد العشاء بالمسجد وهو- محل مكترى- في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} واستطردنا إلى مظاهر تلك الأخوة في الصلاة وحكمة بناء المساجد، وذكرناهم بإتمام ما كانوا وضعوا أساسه من بناء جامع الجمعة، وقد علمنا بعد سفرنا أنهم شرعوا في العمل وفقهم الله للتمام. كنت أجيب عندما أسأل عن المقدمين بأن الذي يستحق التقديم هو من يكون عارفاً معرفاً داعياً إلى التوحيد والاتحاد متمسكاً بالسنة وأشرح لهم ذلك ولقد لقيت من المقدمين من هو موصوف بهذه الصفات أو عامل على أن يتصف بها فمنهم السيد حسن ابن سيدي حمادي ومنهم السيد معطي الله محمود وقد دعانا السيد حسن إلى منازله خارج عزابة وكان التذكير بدرس في الأصول العشرة التي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا بها وهي مما لا تختلف فيه فرق الإسلام. وكان الشيخ قائماً بنفسه على خدمتنا داعيا أتباعه إلى الاهتداء بما أمليناه عليهم من دلائل الكتاب والسنة.

سكيكدة

ودعانا السيد بومعيزة بلقاسم قائد دوار الزاوية وهو من أعيان بيت بومعيزة الشهيرة في تلك النواحي، وهو رجل مرضي عليه من جميع الناس هنالك في دينه وأخلاقه ومخزنيته. سكيكدة: كان غالب جلوسنا في حانوت السيد محمد قلمين النائب البلدي وكان الناس من جميع طبقاتهم يترددون علينا للسؤال وسماع التذكير وكان المكلف بدعوة الناس للمسجد وقع له شغل فلم يقم بما عهد إليه فلم يكن درس عام. سانطارنو (1): حللنا بالبناية التي أسسها الشاب الأديب السيد محمد بن الموفق للتعليم والتهذيب بتأييد فضلاء البلد وهنا هيئة بارزة منهم فيهم العلامة الشيخ القاضي معيزة أحمد والسيد البجاوي حسن والسيد حكيمي أحمد والسيد ابن دالي مصطفى وغيرهم ينسى أسماؤهم الذهن ولا ينسى ودَّهم القلب. كان التذكير في مجلس عام بالسوق في اسمه تعالى: {الصَّمَدُ} وفي تفسير مختصر لسورة الفاتحة، وكان التذكير ليلا في مجلس حافل بالمدرسة الموفقية في لزوم التعلم ورفع الأمية واستطردنا إلى تفسير صدر سورة العلق. مجاز الدشيش- وسيدي مزريش: لقينا في سيارة إلى محطة الحروش آل بوصاع القائد عمار والسيد بولخراص والشيخ محمد بن دويدة ووصلنا إلى مجاز الدشيش فنزلنا

_ (1) تسمى هذه البلدة الآن بالعلمة.

عين مليلة

عند السيد الزيتوني بوصاع وسألنا عن الإسلام الصحيح فأجبنا بأنه ما في القرآن والسنة بَيَّنا القرآن وَبَيَّنا أثر القرآن في العرب وكيف تطوروا به ذلك التطور الغريب السريع من انحطاط الجاهلية إلى رقي الإسلام وما يناسب هذا من التذكير. ثم امتطينا السيارة إلى قرية سيدي مزريش فوجدنا الناس قد جاءوا من الجهات للقائنا فكانت مجالس عديدة للتذكير وكانت الصلاة في مسجد القرية الذي أسسه القائد عمار بوصاع من خالص ماله وحبس عليه ما يقوم بنفقته. وألقينا به أثر صلاة العصر درساً في فقه أعمال الصلاة وحكمها وسمعت هذا الرجل وهو قائد يخاطب الناس يا أولادي ورأيتهم يعتبرونه كأب فتراه- مع شدة احترامهم له ونفوذ كلمته التامة لهم- كأنه واحد منهم يجلس في مجالس التذكير في أخريات الناس. حقاً إن الاحترام الحقيقي هو احترام القلوب التي لا تملك إلا بالإحسان. لقد كان الفضلاء الذين نحلُّ عندهم يقومون بأنفسهم لجمع اشتراكات "المجلة" ممن له قدرة وعنده رغبة بدون أن نتحمل أدنى تعب في ذلك. منهم السيدان الواعر محمد وكربوش السعيد بالحروش والسيد جلواجي والشيخ حسن بعزابة والسيدان محمد بن عيسى وبلقاسم بن عبادة بالسكيكدة والسيدان محمد بن الموفق وبدور اسماعيل وغيرهما بسانطارنو والسيد محمد قرفي بسيدي مزريش فشكر الله لهم سعيهم (1). عين مليلة: حللت لها يوم السباق فوجدتها تموج بالخلق موجا وكان نزولي

_ (1) ش: ج 7، م 5، ص 37 - 41 غرة ربيع الأول 1348ه - أوت 1929م.

بالمكتب القرآني الذي أسسه السيد أحمد بن المولود في محل تبرع به للتعليم السيد المعراضي الميزابي الشهير فرأيت من تلامذة المكتب ذَكاة وإقبالا لو كان مثله عند جميع سكان البلدة لما كفى أبناءهم أكبر من ذلك المكتب أضعافا. اجتمع عليَّ بذلك المكتب أعيان البلدة وأهل العلم الذين صادفتهم بها فاقترح السيد أحمد بن المولود إلقاء درس في قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «الدين النصيحة» فلما فرغت منه ألقى الشيخ عبد اللطيف القنطري المتطوع بجامع الزيتونة والشيخ الشريف حجازي والشيخ الحاج مسعود القسني والشيخ بلقاسم البسكري المقري السبعي والشيخ أحمد بن المولود خطابات بمقاصدي من هذه الرحلة والدعوة إلى الاستفادة منها. وختم الحفلة السيد دنيا زيدان بأبيات في الحث على التعلم والاتحاد والتنويه رقيقة كان لها أجمل وقع في قلوب الحاضرين وهي هذه: إلى فائق الأنداد مجداً وسؤدداً … أزف قصيداً كاد أن يبلغ المدى أعرني بياناً- أيها الحبر- كافياً … يكون لديَّ الشعر منه مؤيدا فأربو على ذاك الفخور بقوله … (إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا) فيالك من شيخ حكيم مفضَّل … نضا لخطوب الدهر سيفاً مجردا وقام بدين الله في كل موقف … ينادي ألا يا قوم سيروا إلى الهدى، وحارب جيشاً للجهالة عاملا، … بعلم كموج البحر فاض وأزبدا وجيش من قول فصيح فيالقا … تخرُّ لها الأعداء في الأرض سجدا فصان حقوق الله من كل جائر … ولم يخش قول المفسدين من العدا وأسكت "أشيلي ربير" مبيناً … فضائل ذا الإسلام شرعة أحمدا إذا ما رماه الدهر يوما بريبة … تنادى شجاعا: ايه يا دهر بالردى فأهلا بندب حل بلدتنا التي … تمد إلى"عبد الحميد" يد الندا

أم لباقي

ورغب الجماعة مني إلقاء محاضرة في النادي فألقيتها من الغد في ضرورة الاجتماع للبشر وفوائده وتطبيق ذلك على قواعد الإسلام الخمس وكان لها- إن شاء الله- أثرها الحسن المقصود. في عين مليلة جامع جمعة أسسه منذ سنوات السيد عمر بن شعلال دار حوله كلام لعدم تسجيل التحبيس تسجيلا قانونيا حتى عزم جماعة من أهل البلدة برئاسة السيد المعراض على تأسيس جامع آخر وعينوا الأرض وشرعوا بالفعل في جمع المال فلما اجتمع بنا السيد عمرو حادثناه في ذلك أكد لنا أنه عازم على التسجيل الرسمي وأنه فوض توفيق الرسم للعلامة الشيخ الصالح بن الموفق قاضي الخروب فقلنا لمن حضر من الجماعة إذا تم عمل السيد عمر كما أردتم فإننا لا نرى وجهاً لتأسيس جامع آخر مستغنى عنه. وخير للبلدة لو أسسوا بدله مكتبا نظاميا للتعليم. مكثت يومين في البلدة ضيفا على السيد أحمد بن المولود ودعيت للغداء في اليوم الثاني عند السيدين بكير وسليمان أبناء السيد إبراهيم وهما من أصدق من رأيت في محبة التآخي والاتحاد. أم لباقي: قد رأيت في عدة بلدان سوء أثر الانتخابات بالفرقة التي تركتها بين المسلمين ولكن أقبح مظهر رأيته منها هو مظهر هاته البلدة فهي على حزبين متعاديين متقاطعين وهما حراكتة بنو أصل واحد، وقد شملت هذه الفرقة طلبة العلم الذين ينتظر منهم إزالتها فكانوا من صلاتها. ويقول هؤلاء الطلبة أنهم لو سعوا في الصلح وأظهروا تسامحا مع "العدو" لنبذهم قومهم وربما آذوهم. وهم لا يستطيعون تحمل الأذى في سبيل الله. ولو كان لهذه القرية جامع لأمكن- بإذن الله- تقريبهم من بعضهم بتذكيرهم بالله، ولكن هذه القرية لا جامع لها،

عين البيضاء

بلى لها جامع هو رمال وحجارة مكدسة على قطعة أرض منذ سنوات حالت أدواء الفرقة بين القوم وبين المبادرة في بنائه. وهو اليوم في عهدة رئيس جمعية الجامع السيد معمر بن غراب النائب المالي لقسم- البيضاء تبسة خنشلة- وفقه الله إلى تنجيز بنائه فهو أفضل أعماله. تلقاني للمحطة السيد بلقاسم الزغداني التلميذ بجامع الزيتونة ضيفا في دار أبيه السيد محمد الطاهر أحد أعيان الحراكتة وفضلائهم وذوي الدين ومحبة العلم والتعليم منهم. وتغذيت من الغد عند القائد السيد الباشا من آل بني حسين أعيان "الخنقة" بيت مجد قديم يروون عن أوائلهم اتصال نسبهم ببني أمية والقائد يمثل بأخلاقه وسيرته المجمع على حسنها وامتيازها- ما يصدق ذلك المجد وينميه. صادفت بهاته القرية افتتانا برجل جريدي ذى لباس وسخ مستقذر زعموا أنه يحدثهم عن ماضيهم وسوابقهم وأنه كان بقسنطينة معظما عند أعيانها وحُكامها وأنه من الأولياء الصالحين وأنه ... وأنه ... فألقيت على من حضر العشاء في بيت السيد الزغداني من القياد والأعيان درسا في بيان معنى الولي وأنه لا يكون إلا مؤمنا تقيا وأن حظ كل أحد من ولاية الله على قدر حظه من الإيمان والتقوى وأن الأخبار عن الماضي من عمل الكهان وهم ملعونون ملعون من يأتيهم. وفارقت القرية والرجل فيها. فلما بلغت إلى قرية أخرى كبيرة وجدت أخباره فيها عما سلبه من أموالهم بالدجل عليهم وهم يعضون أصابع الندم على ما كان من غفلتهم وغرورهم- حاشا بعضهم- به. وصفة هذا الدجال أنه أسمر اللون مربوع القامة عريض الأكتاف قذر الثياب لهجته جريدية، فليكن الناس منه ومن مثله على حذر. عين البيضاء: عاصمة الحراكتة ومركز تجارتهم. حللتها ضيفاً على الأديب السيد

العربي موسوى الصايغي الوكيل الشرعي بها وأنزلني ببيث الضيوف من جامعها الذي كانت توسعته وتأثيثها من آثار هذا الرجل ومن وازره من أهل الخير والدين كما ضفت عند فضيلة الشيخ القاضي سيدي عبود الونيسي آخ شيخي وأستاذي العلامة الفقيه سيدي حمدان الونيسي دفين الطيبة عليه الرحمة والرضوان. وعند الشاب السري السيد عبد الرحمن بن الشيخ الكامل بن عزوز رحمه الله. في هذه البلدة جماعة من أهل العلم والأدب منهم الشيخ السعيد الزموشي المدرس- تطوعا- بجامعها ومنهم الشيخ حسن بولحبال ومنهم الشيخ الطاهر بن الأمين ومنهم السيد العربي المذكور ومنهم الشيخ عبود الونيسي قاضيها والشيخ الزواوي بن معطي إمام الجامع وغيرهم وبها نشء علمي متهيء لطلبه. إقترح الأستاذ السعيد الزموشي علي إلقاء درس في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} فألقيت درساً بالجامع في الآية المذكورة فبينت دعوة الله عباده إليه ودعوة الخلق إلى خالقهم ودعوتهم خالقهم وأن الدعاء عبادة وأن العبادة لا تكون إلا لله فدعاء غير الله ضلال ودعاء غيره معه شرك وسأل الشيخ المدني الخنقي عن التوسل وهو قول الداعي "اللهم إنني أتوسل إليك بفلان" فأجبنا جواز ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- لحديث الأعمى وأما غيره فلا نقيسه عليه. وبينت أن المراد من دعاء الكافرين عبادتهم ودعاؤهم لطواغيتهم وأما دعاء الكافر إذا كان مظلوما فإنها مستجابة كدعوة كل مظلوم لأن الله تعالى حرم الظلم من كل أحد على أي أحد. بعد ما فرغ السيد موسوي العربي من إصلاح المسجد الجامع أخذ

مسكيانة

في إصلاح مسجد آخر كان زاوية، وهو من حبس السيد خليفة حمه علي أبي شاعر الشباب السيد محمد العيد فأزال منه الصناجق والأعلام التي كان وجودها ذريعة لتمسح العوام بها كما يتمسحون بتوابيت المقابر وأحجارها مما هو بدعة منكرة شبيهة بأعمال الوثنيين سرت إلينا من اليهود الذين يقبلون القبور والستور. ولولا العزم على السفر ولزوم تخفيف الإقامة لإتمام برنامج الرحلة لأتممت للسيد العربي رغبته في إلقاء درس بهذا المسجد، ولبينت للناس حسن صنيعه به. مسكيانة: أخذني من البيضاء إلى مسكيانة الشاب المهذب الماجد السيد السعيد بن زكرى خوجة حاكمها ونزلت في بيت جامعها ولقيت مزيد العناية من إمامه الشيخ مامي الشريف وأضافنا قائدها السيد إبراهيم آل بن بو زيد بيت الحراكتة من قديم والسيد أحمد بن فجني معين الطبيب وبالغ أهلها في الاحتفاء والاعتناء وكانت لنا مجالس في عدد من محلاتهم التجارية لم تخل من تعليم وتذكير. وألقيت بجامعها بعد العشاء الليلة الأولى درساً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى- فَاصْبِرْ} فذكرت حاجة الأعمال العظيمة إلى الجد والنهوض والصبر والثبات وإن أعظم محصل للصبر هو إخلاص العمل لله، وما يجب لله من تكبير وما يجب للخلق من نفع وما يجب للنفس من تطهير حسي ومعنوي وما في الآية من بديع الترتيب. وألقيت الليلة الثانية درساً في قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} وذكرت شرف هذا الإسم وهذه التسمية وما تقتضيه من صفات السِّلم والسلامة والإسلام أي الإنقياد بالأعمال الشرعية لله والإخلاص فيها له (1).

_ (1) ش: ج 9، م 5، ص 40 - 44 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.

جولة صحافية

جولة صحافية عقدنا رحلة بالشهر الماضي إلى الناحية الغربية من العمالة لخدمة المجلة وكانت الرحلة على هذا الترتيب: سطيف. البرج. تازمالت. آقبو. زاوية سيدي عبد الرحمن اليلولي بسيدي عيش (1). بجاية. عزازقة، تيزيوزو. دلس. تاقزيريت. آزفون. فورناسيونال. (الأربعاء): ميشلي (عين الحمام) إلى تازمالت. محطة القطار إلى قسنطينة. ولقد لقينا في كل محل دخلناه ما عرف به شعبنا الجزائري العظيم من كرم وأريحية. وخصوصا من أهل سيدي عيش بني وغليس الأكارم ومن أهل آقبو ومن أهل دلس. فلهم شكرنا وجميل دعائنا دعاء المؤمن لأخيه. وما كان أشد أسف الناس في جميع هاته البلدان لما كنت أرد طلبهم من إلقاء بعض الدروس الدينية، معتذرا بالمنع الحكومي الذي كنا نشرناه وقد كنا بالسنة الماضية ننشر ما نلقيه من الدروس على صفحات المجلة تعميما للفائدة وليكون ما نقول معلوما عند الحكام أما هذه المرة فلم ننشر شيئا لأننا لم نقل شيئا وهذا هو جوابنا لبعض المحبين الذين (2) رغبوا مني أن ننشر لهم مثل السنة الماضية. وقد شرف الإدارة عدد الأفاضل (3) في أيام غيبتي فأسفت لعدم الاجتماع بهم منهم الشيخ محمد الثميني ومنهم السيد مدير رصيفتنا جريدة

_ (1) كذا في الأصل وهى واقعة في قمة جبال جرجرة بالقبائل الكبرى. (2) في الأصل: الذي. (3) كذا في الأصل ولعله: عدد من الأفاضل.

[صورة: الشيخ الإمام ابن باديس بين جمع من رجال الإصلاح في بجاية بجبل أم فراية] ... البلاغ الجزائري الغراء. وتأخرنا عن رد مكاتبات وإجابة أسئلة بسبب هذه الغيبة فنعتذر لأصحابها (1).

_ (1) ش: ج 7، م 6، ص 444. غرة ربيع الأول 1349ه - أوت 1930م.

في بعض جهات الوطن -1 -

في بعض جهات الوطن تكرر الطلب علينا من أصدقائنا ومريدينا أن ننشر لهم شيئا عن رحلاتنا الصيفية فلخصناها فيما يلي: ــــــــــــــــــــــــــــــ -1 - بعد ما انتهينا من دروس السنة الماضية وقبل انعقاد مجلس إدارة جمعية العلماء في شهر ربيع الأول رأينا أن نعقد رحلة من العاصمة الجزائر إلى وهران فما بينهما من البلدان فاخترت للرفقة من أبنائي التلامذة السيد الفضيل آل الشيخ الحسين الورتلاني والسيد محمد آل الصادق الجندلي فأممنا من قسنطينة العاصمة فأقمنا بضعة أيام ثم شرعنا في رحلتنا فأتممناها في نحو عشرين يوما، وحللنا في مليانة ثم خميس مليانة، ثم الأصنام، ثم غيليزان، ثم مستغانم، ثم أرزيو، ثم وهران وكان الحديث في مجالسنا حيثما حللنا يدور على جمعية العلماء ومقاصدها ومنافع الأمة منها والتنويه بفضل الحكومة بالإذن بتأسيسها مع ما يتخلل ذلك من تذكير بالله وتنبيه على مصالح الدنيا والآخرة وتحريض على التآخي والتآزر وحسن الجوار والمعاملة مع جميع الأجناس المتساكنة في هذا الوطن، وكنا نرى في جميع المجالس إقبالاً وقبولاً مما لا شك معه في بقاء الأثر الطيب في القلوب إن شاء الله. بعض التفصيل: مليانة: ممن عرفنا بها المفتي الشيخ وكال محمد عالم قرأ سنوات بالأزهر وأعجبني منه أنني وجدته يطالع شرح تجريد أحاديث البخاري

خميس مليانة

فشكرت له عنايته بالسنة وقلت له أننا نعرف عقلية الرجل من معرفتنا بالكتب التي يطالعها فمن لا نرى له عناية بكتب السنة فإننا لا نثق بعلمه في الدين، واجتمعنا بالعالم المفكر المثقف الثقافة الصحيحة الشيخ أحمد السبيع الباش عدل وبالعالم الزكي الخبير الشيخ أحمد آل حاج حمو القاضي وبغيرهما من الفضلاء وأضافنا الشيخ السبيع والسيد عبد القادر بن عبد الوهاب وكان مجلس التذكير في بيت الشيخ المفتي أولا ثم كان قبيل المغرب بالمسجد. وقد ظهر لي أن عامة مليانة قليلة الرغبة في العلم فيها فتور وخمود قيض لهم من يوقظهم. خميس مليانة: ممن عرفنا بها السيد عليش من طلبة العلم النشيطين وهو داعية من دعاة النهوض بالعلم في تلك النواحي بعقل صحيح وعقيدة سليمة، والشيخ الفقيه ابن علي الإمام بالمسجد وأممنا المسجد، فكان المجلس غالباً معموراً بالسامعين، وكان الشيخ ابن علي متصدياً لإلقاء الأسئلة العديدة المتنوعة بأسلوب هو غاية في الأدب واللطف وعقدنا مجلساً عاماً للتذكير حضره جمع غفير من الناس فأزال عنا ما شاهدناه في الخميس من النشاط والرغبة والإقبال ما حملناه من الهم من فتور عامة مليانة وخمودهم، وأضافنا بالخميس السيد عليش والسيد بن علي والسيد عمر بن خلادي والسيد بوكراع الحاج محمد النائب البلدي. الأصنام: ممن عرفنا من فضلائها مفتيها العالم الماجد الشيخ الوانوغي بن الشيخ بومزراق الزعيم المقراني المشهور والشيخ يمثل شهامة أسرته وكرمهم وهمتهم إلى معارف أكسبته إياها الأسفار والتجارب وهو القائم بالخطبة والتدريس في جامعها، والعلامة الألمعي الشيخ طالب شعيب القاضي بها (والقاضي الآن بالعاصمة) فما شئت من علم وأخلاق وفصاحة واطلاع على شؤون الوقت وعدالة ونزاهة وعقدنا مجلس التذكير بساحة الجامع مساء بحضرة الشيخ المفتي

غليزان

والعلامة الشيخ ابن عشيط واغتنم الشيخ المفتي فرصة الاجتماع فذكر للشيخ ابن عشيط مسائل شاذة جداً كان يقول بها وناقشه فيها فأبى الشيخ ابن عشيط إلا التمسك بها فقلت له أنني أعظمك وأحبك ولتلك المحبة أرغب منك أن تسكت عن هذه المسائل فلا تذكرها ولا تتحمل مسؤوليتها فرأيت من حضرته انعطافا لقولي وقبولا له. وبلدة الأصنام بلدة تجارية وفي أهلها ذكاء وفهم وقبول للتعليم، وأضافنا فيها قاضيها ومفتيها المعظمان .. غليزان: أول من اجتمعنا به من فضلائها الأخ الشيخ مولاي محمد أحد أهل العلم وشيخ الزاوية بها وهذا من شيوخ الزوايا الذين لهم رغبة في نشر العلم وهداية الناس وسعة صدر في سماع الحق وأدلته وذهب بنا إلى دكان التاجر النشيط المهذب السيد ابن منصور مصطفى التلمساني ثم اجتمعنا بقاضي البلد العالم الماجد الهمام الشيخ بوخلوه آل بوعبد الله، رجل شهامة وعمل وكرم، واجتمعنا بالسيد المنور كلال رجل يتقد ذكاء ويفيض معرفة ويفوح أدباً ولطفاً، وكنت مشتاقاً للإجتماع بالشيخ سيدي الحاج العربي التواتي وبلغني أنه كان بغليزان ثم بلغني أنه سمع بنا ورآنا ولم يشأ أن يجتمع بنا فعجبنا لذلك وأسفنا ثم زال عجبنا لما بلغنا أن في قلبه شيئاً على جمعية العلماء، وقاها الله شر كل ذي شر- وقلنا لية تنازل فاجتمع بنا فكنا لا نفترق- بإذن الله تعالى- إلا على محبة وخير ورجوع للحق، ولهذا الأخ الشيخ العربي كتاب عندنا يعاتبنا فيه على دعوتنا للتوحيد ويخلط فيه بين دعاء المخلوق وطلب المؤمن الدعاء من أخيه ولعلنا نجد فرصة لنشر هذا الكتاب والتعليق عليه، ووجدنا بغليزان السيد مهدي بن الشيخ بوعبد الله آل بوعبد الله في انتظارنا وهو شاب نجيب تلميذ بجامع الزيتونة فرافقنا إلى تمام الرحلة بوهران ورأينا منه آداباً وأخلاقاً شريفة .. وزارنا في المنزل الأخ العالم الفاضل الشيخ محمد آل سيدي عدة

مستغانم

فأكد علينا في القدوم إلى تيارت وقد كنت عازماً على الذهاب إليها من قبل واستدعانا إلى النزول ضيوفاً عندهم فشكرنا له كرمه ولطفه ووعدناه بالقدوم إليهم. واستدعانا إخواننا المزابيون إلى محلهم وأقاموا لنا احتفالاً حضره جميع أفرادهم واستدعوا بعض أعيان البلد فشاهدنا من أدبهم وكرمهم وحسن اقتبالهم لجمعية العلماء ما سرنا بهم كثير السرور وبلدة غليزان مثل بلدة الأصنام من ناحية التجارة بل أكثر ومثل مليانة من ناحية المعارف، وقد أضافنا فيها فضيلة الشيخ القاضي والشيخ مولاي محمد. مستغانم: قصدنا من المحطة إلى مسجد الأخ الشيخ بلقاسم ابن حلوش لما بيننا من سابق المعرفة بالمكاتبة وروابط المودة المتأكدة ولأن ابنه الشيخ مصطفى أحد مريدينا ومن أعزهم علينا فتلقيانا بالحفاوة والسرور الزائدين وأنزلنا على الرحب والسعة ومن غده دعا للعشاء معنا أعيان البلد منهم فضيلة الشيخ المفتي سيدي عبد القادر بن قارة مصطفى وسماحة الشيخ سيدي أحمد بن عليوة شيخ الطريقة المشهورة وكان هذا أول تعرفنا بحضرتهما فكان اجتماعاً حافلاً بعدد كثير من الناس، ولما انتهينا من العشاء ألقيت موعظة في المحبة والأخوة ولزوم التعاون والتفاهم على أساسهما وأن لا نجعل القليل مما نختلف فيه سبباً في قطع الكثير مما نتفق عليه، وأن الإختلاف بين العقلاء لا بد أن يكون ولكن الضار والممنوع المنع البات هو أن يؤدينا ذلك الاختلاف إلى الافتراق وذكرنا الدواء الذي يقلل من الاختلاف ويعصم من الافتراق وهم تحكيم الصريح من كتاب الله والصحيح من سنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم-. فاستحسن الشيوخ الحاضرون ذلك وحل من الجميع محل القبول، والحق يقال أن أغلب الناس ممن رأينا صاروا يشعرون بألم الافتراق وينفرون منه ويصغون إلى دعوة الوفاق والتحاب، وما افترق المجلس حتى دعانا الشيخ سيدي أحمد بن عليوة

إلى العشاء عنده والشيخ الحاج الأعرج بن الأحول شيخ الطريقة القادرية إلى الغداء فلبينا دعوتهما شاكرين، فكانت حفلة الغداء في دار الشيخ سيدي الحاج الأعرج ثم كانت حفلة العشاء عند الشيخ سيدي أحمد بن عليوة حضرها من أعيان البلد ومن تلامذة الشيخ ما يناهز المائة وبالغ الشيخ في الحفاوة والإكرام وقام على خدمة ضيوفه بنفسه فملأ القلوب والعيون وأطلق الألسنة بالشكر، وبعد العشاء قرأ القارىء آيات، ثم أخذ تلامذة الشيخ في إنشاد قصائد من كلام الشيخ ابن الفارض بأصوات حسنة ترنحت لها الأجساد، ودارت في أثناء ذلك مذاكرات أدبية في معاني بعض الأبيات زادت المجلس رونقا. ومما شاهدته من أدب الشيخ مضيفنا وأعجبت به أنه لم يتعرض أصلاً لمسألة من محل الخلاف يوجب التعرض لها على أن أبدي رأيي وأدافع عنه فكانت محادثاتنا كلها في الكثير مما هو محل اتفاق دون القليل الذي هو محل خلاف. لكن السيد أحمد بن اسماعيل صاحب مخازن الاتاي- وكان جالسا على شمالي في المجلس- شاء أن يخرق هذا السياج ويدخل في موضوع ليس حضرته- وله الاحترام- من أهل الكلام فيه فقال: "هؤلاء المفسدون الذين يسمون أنفسهم مصلحين ينكرون الولاية" فرأيت في وجه الشيخ أحمد بن عليوة الإنكار لهذا الكلام الخارج عن الدائرة ووجدت نفسي مضطراً للبيان فقلت له: "إسمع يا سيد أحمد الولاية الشرعية قد جاءت فيها آية صريحة قرآنية" وتلوت له قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الآية وتكلمت على شيء من معناها فمن أنكر هذه الولاية. فلفظة مفسد قليل في حقه وحقه أن يقال فيه ملحد. وأما لفحظة مصلح فهي أعلى من هذا وأشرف من هذا كله، وأن المسألة ليست هنا وإنما المهم هو أن جميع علماء الإسلام من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين وشيوخ الزهد المتقدمين تتسع صدورهم لأن يؤخذ

من كلامهم ويرد إلا العامة المنتمين إلى التصوف فإنهم يأبون كل الإباء أن يسمعوا كلمة نقد أو رد في أحد من الشيوخ مع أن غير المعصوم معرض للخطأ دائما في قوله وأفعاله فكأنهم بهذا يعتقدون فيهم العصمة. وقد سئل إمام الطائفة الجنيد: أويزني الولي؟ فأطرق ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} فهذا يدلنا على ما كان عليه شيوخ الزهد من تعليم الناس بأنهم غير معصومين دفعاً لغلو الغالين وعلى أن فكرة العصمة أو ما يقرب منها موجودة في الأذهان وهي مثار مثل هذا السؤال، فلو أن إخواننا المنتمين للتصوف قبلوا أن يوزن كلام الشيوخ بميزان الكتاب والسنة مثل غيرهم من علماء الإسلام ورضوا بالرجوع الحقيقي لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} لبطل الخلاف أو قل" فرضي أهل المجلس هذا الكلام وسكت السيد أحمد بن اسماعيل وقال الشيخ سيدي أحمد هذا مما لا يخالف فيه أحد فقلت له مثلكم من يقول هذا وتكلم الشيخ المفتي بما فيه تأييد لما قلناه ثم عاد المجلس إلى الإنشاد والمذاكرات الأدبية حتى انتهت السهرة وانصرف المدعون ونحن من جملتهم شاكرين فضل حضرة الشيخ وأدبه ولطفه وعنايته كما شكرنا أدب تلامذته وعنايتهم بضيوف أستاذهم وخصوصا الشيخ عبده ابن تونس تلميذ الشيخ الخاص. أهل مستغانم أهل ذكاء وحسن نية وإقبال على العلم والشيخ مصطفى بن حلوش قائم في مسجده بالتعليم والإرشاد للعامة بدروس ليلية وساع في تحصيل رخصة من الحكومة لتعليم الصغار. وقد أضافنا فيها الشيخ ابن حلوش أبو مثوانا والشيخ الحاج بن الأعرج والشيخ أحمد بن عليوة والسيد الجيلاني التدلوتي عائلة دين وفضل وعمل، ولو اتسعت المدة لكنا تشرفنا بكثير غيرهم منهم صاحب الفضيلة

زاوية الشيخ ابن طكوك

الشيخ المفتي العالم المطلع المنصف الذي كاد أن لا يسامحنا بالسفر في اليوم الذي عيناه. في اليوم الأول من وصولي قصدت إلى دار الحكومة لزيارة السيد السوبريفي م ماصلو الذي كان كاتباً عاماً بدار العمالة بقسنطينة فلقينا ببشر ولطف وسأل عن أهل قسنطينة مما يدل على ما يحمله لهم من الذكر الجميل فأبلغناهم كذلك عواطفهم ودار الحديث على سبب الرحلة ومقصود الجمعية فكان مما قلنا له أننا نريد للمسلمين أن يبلغوا في المعارف والفلاحة والتحارة والصناعة إلى مستوى إخوانهم الفرنسويين ليتعاون الجميع بقوى متكافنة على خدمة الجزائر تحت الراية الفرنسوية ويكونوا مثل جيرانهم اوادم (1) على الحقيقة وتكون حالتهم مناسبة لسمعة فرنسا أم الرقي والمدنية ثم انصرفنا من عنده شاكرين له ما رأينا منه من إقتبال. زاوية الشيخ ابن طكوك: لزاوية الشيخ ابن طكوك في مستغانم وكيل بلغه أنني أرغب في الذهاب إلى الزاوية للتعرف بأهلها وتعريفهم بالجمعية ومقاصدها فجاءنا بالسيارة إلى المنزل فامتطيناها إلى الزاوية في بوقرات فتلاقانا السيد الحاج مصطفى أحد الإخوة الثلاثة أصحاب الزاوية وشيخ الزاوية السيد عبد القادر كان غائباً وأخوه الشيخ محمد كان متمرضاً فأكرم نزلنا وبتنا ليلة وودعناهم في صبيحتنا، وحدثناه عن الجمعية فأظهر ابتهاجه بها وقدم مائتي فرنك لإعانتها. واحتفل بنا في مستغانم جماعة إخواننا الإباضية ولقينا منهم من الإكرام مثل ما كنا نلقاه دائماً منهم في رحلتنا (2).

_ (1) كذا في الأصل. (2) ش: ج 11، م 7، 663 - 671 غرة رجب 1350ه - نوفمبر 1631م.

في بعض جهات الوطن -2 -

في بعض جهات الوطن -2 - قرية آرزيو: نزلنا ضيوفاً على العالم الأديب الشيخ أبو عبد الله آل أبي عبد الله، عالم فصيح اللسان صحيح الإدراك مستقيم الفكر مهيب الطلعة معترف له بالعلم والفضل، وصادف قدومنا يوم الجمعة فصليناها خلفه وألقينا درساً أثرها وتوافد الناس علينا مساء من تلك النواحي فوسعهم كلهم كرم الشيخ أبي عبد الله وباتوا في ضيافته وقدم إلينا فضيلته قصيدة بليغة في ذكر جمعية العلماء سنحلي بها بعض الأجزاء القادمة. وهران: لما وصلنا وجدنا في انتظارنا جمعاً من أعيانها منهم فضيلة المفتي الشيخ الحبيب بوخالفة وفضيلة الشيخ الطيب المهاجي وغيرهما، وكانت حفلة الفطور في بيت آل المهاجي الكريم وكانت حفلة العشاء عند الجمعية الخيرية الإسلامية بمحلها وكانت حفلة حفلى دعيت إليها طبقات الناس وكنا يومنا الثاني في ضيافة الشيخ المفتي، وكنا في كل حفلة من هذه الحفلات نلقي ما يسر الله من الوعظ والتذكير وخصوصا في حفلة الجمعية الخيرية وكان الذي افتتح الحفلة مرحباً بالضيوف بلسان الجمعية العالم الألمعي السلفي الشيخ الطيب المهاجي. ولقد رأيت من أهل هذه العاصمة الغربية لقطرنا الجزائري تعطشا للعلم وإقبالاً على سماعه ولقيت فيها نخبة الفضلاء ذوي المعارف المتعلمين

بالفرنسية على جانب من الدين والقومية، وما كان اليومان اللذان أقمناهما بتلك العاصمة الكبيرة، ليكفيا في التعرف عليها وكمال الغرض من الاجتماع بفضلاء أهلها وقفلنا منها إلى الجزائر العاصمة لنحضر اجتماع مجلس إدارة جمعية العلماء، وقصصت على إخواني بالمجلس حديث رحلتي وما كان من نشر دعوة الجمعية وما كان من إقبال الناس عليها وما كان من شبه عرضت لبعض فيها فأزلناها لما سألونا عنها (1).

_ (1) ش: ج 12، م 7، ص 773 - 774 غرة شعبان 1350ه - ديسمبر 1931م.

رحلتنا إلى العمالة الوهرانية

رحلتنا إلى العمالة الوهرانية باسم الجمعية ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: لما كان مقصود الجمعية هو محاربة الآفات الاجتماعية وكانت طريقة الوعظ والإرشاد بالهداية القرآنية هي أنجع دواء لذلك عند المسلمين قررت أن ترسل أفراداً من أهل العلم بنواحي القطر للقيام بهذه المهمة العظيمة ورأت أن تبتدىء بالعمالة الوهرانية، فكلفت هذا العاجز أن يقوم بذلك وأن يستعين في رحلته بكل من يكون في طريقه من أهل العلم فقبلت بذلك واستعنت بالله. تاريخ بداية الرحلة ونهايتها: سافرت من العاصمة يوم الأربعاء 27 محرم وحللت بها صبيحة الثلاثاء 1 ربيع الأول. البلدان التي زرتها: المدية البرواقية، قصر البخاري، الجلفة، الأغواط، آفلو، سوقر، تيارت، فرنده، معسكر، سعيده، البيض، وهران، سيدي بلعباس، تموشنت، تلمسان، مغنية، الغزوات، ندرومه، آرزيو، بريقو، مستغانم، زاوية الشيخ ابن طكوك، غليزان. ماذا كنت أقوم به في كل بلدة: كنت أزور في الأكثر قبل كل شيء المسجد لأن البداءة به هي السنة ولألفت نظر الأمة إلى حرمة المسجد وفضله وأنه هو الأحق بأن يقصد

موضوع الدرس ومادته

عند الملمات للوقوف بين يدي الله والحصول على أقرب أحوال العبد إلى مولاه وهي السجود فإن العامة فيما رأيت من كثير منهم يفزعون إلى البناءات المضروبة على الأضرحة ويظهرون فيها من الخشوع والخضوع ما لا أراه منهم في بيوت الله ومن ذا الذي يسوي بيت الخالق ببيت المخلوقين لولا انتشار الجهل وكثرة الغفلة والسكوت عن الحق وقعود من لا يجوز لهم القعود عن التعليم والتبيين ثم أزور ممثل الحكومة في البلدة من بريفي أو سوبريفي أو متصرف ثم أزور ممثل الأمة الفرنسية والعربية وهو المير إذا كان بالبلدة مير ثم ألقي الدرس العام في المسجد. موضوع الدرس ومادته: كانت الدروس كلها حثاً على الفضائل وتنفيراً من الرذائل وبياناً لحقائق الدين التي بمعرفتها يكمل الإنسان في إسلامه وفي إنسانيته ودعوة للتوحيد والاتحاد والإحسان إلى جميع العباد وحثاً على التآلف والتعاون مع جميع السكان على اختلاف الأجناس والأديان، وكانت مادة الدرس دائما آية من كتاب الله مشفعة بحديث رسوله عليه وآله الصلاة والسلام، وكنت بعد الدرس أعرف الناس بالجمعية ومقاصدها حسبما هو مبين في قانونها الأساسي، وألخص لهم وصايا الجمعية في هذه الكلمات الثلاث: تعلموا- تحابوا- تساموا- وأشرحها لهم وأذكر لهم فوائدها ثم أبين لهم أن الجمعية للجميع وأنها ليست ضداً لأحد لا للزوايا ولا لغيرها وأن غرضها هو نشر العلم والفضيلة بين الجميع ثم أذكر لهم فضل الحكومة التي أذنت لهذه الجمعية وفضل رجالها الذين لاقينا منهم حسن المقابلة والتأييد. الإشاعات الباطلة: قد منيت هذه الجمعية بمن يحاربها بالباطل ويعرقلها بالإفك ويستحل

الأسئلة والأجوبة

في إذايتها العظائم فأشاعوا عنها كل إشاعة شنيعة ورموها بكل نقيصة ورذيلة حتى قالوا أنها جمعية تنكر البعث والنشور دع ما هو دون ذلك، ولكننا كنا- والحمد لله- لا نفرغ من الدرس العام حتى تنحل عقد الشيطان كلها ويقول الناس بلسان قالهم أو حالهم: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. الأسئلة والأجوبة: أكثر ما سئلنا عنه بوجه عام هو التصوف والولاية والكرامة والتوسل فكنا نجيب بأن ما كان من باب تزكية النفس وتقويم الأخلاق والتحقق بالعبادة والإخلاص فيها فهو التصوف المقبول وكلام أئمته فيه ككلام سائر أئمة الإسلام في علوم الإسلام لا بد من بنائه على الدلائل الصحيحة من الكتاب والسنة ولا بد من الرجوع عند التنازع فيه إليهما وكنت أذكر ما يوافق هذا من كلام أئمة الزهد المتقدمين كالجنيد وأضرابه، وكنا نجيب بأن الولاية من الإيمان فأكمل الناس إيماناً أكملهم ولاية وأن الكرامة حق بحقيقتها وشروطها المذكورة في كتب الأئمة وأن تحققها هو التوقف على وجود الصلاح الشرعي فيمن ظهرت على يده لا أن تحقيق الصلاح متوقف عليها وكنا نجيب بأن الدعاء هو العبادة وأنه مخ العبادة كما جاء في الحديث الأول عند أصحاب السنن وأحمد من حديث النعمان بن بشير والثاني عند الترمذي من حديث أنس وكل عبادة لا تكون إلا لله فالدعاء لا يكون إلا لله فلا يدعى غير الله ولا يدعى أحد مع الله ولكن يجوز أن تدعو الله وتتوسل إليه برسول الله عليه وآله الصلاة والسلام كما في حديث الأعمى الذي كنا كتبنا عليه في جزء مضى من الشهاب. طريفتان في الموضوع: الأولى: من العجيب أن بعض أهل العلم أبى أن يسلم أن الدعاء

مظاهر الاتحاد

هو العبادة رغم أنه صريح الحديث مع أن أهل المجلس من غير أهل العلم أدركوا بفطرتهم العربية ما في لفط الحديث من البيان الصريح وإن لم يعرفوا كيف يعبرون عن الحصر وطرقه فزادني هذا يقينا بما كنت أقوله كثيراً في دروسي ومجالسي: من نعمة الله عليكم أيها الجزائريون (1) أنكم تنطقون بالعربية وأن أساليبها لا تزال مستعملة في ألسنتكم فهذا مما يقربكم من فهم كلام الله وكلام رسوله عليه وآله الصلاة والسلام، فيسهل عليكم الاهتداء بالكتاب والسنة. الثانية: أن أحد الشيوخ المنتمين إلى الطريق لما سمعني أستدل بكلام الجنيد على لزوم وزن الأعمال والأقوال والأحوال والفهوم بالكتاب والسنة قال لي: "وما الجنيد إلا واحد من الناس" وما صار الجنيد واحداً من الناس إلا يوم استدللت بكلامه ومن العجيب أن هذا الذي يقول هذا ليرد ما ذكرته من كلام الجنيد الذي هو ثابت في نفسه بأدلته من كلام الله وكلام رسوله- يريد أن يثبت التصوف في الكون للمخلوقات حتى في قفزة الهر على الفأر مستنداً في ذلك إلى كلام رجل لا مستند له من كتاب ولا سنة وينسى أن يقول فيه أنه واحد من الناس، وبعد هذا فأنا غير آيس من مثل الأخ الأول والأخ الثاني أن تكون مذاكرتنا معهما منبهة لهما على لزوم فهم الدين بفهم الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح من الأئمة وفهم كلام العرب وأساليب العربية فمثلهم من اعتنى بذلك واهتدى به ودعا إليه. مظاهر الاتحاد: كنا إذا حللنا بلدة فيها من إخواننا الميزابيين يهرعون إلينا مثل بقية إخوانهم من أهل البلدة وفي بعض البلدان تسبق ضيافتهم ضيافة غيرهم ثم تجد الضيافة عندهم تشمل أهل البلدة وأعيانها وتجد الضيافة عند

_ (1) في الأصل (الجزائريين).

تعلق الأمة بحكومتها

غيرهم تشملهم كذلك فتشاهد في مجامع الكرم أبناء الإسلام ترفرف على رؤوسهم روح الأخوة والاتحاد، هذا بين المسلمين، ثم إننا في أكثر البلدان أجد النواب المسلمين مع مير البلدة في غاية الوئام والمودة وكثيراً ما حضر معنا أفراد من الفرنسيين واليهود في مجالس القهوة والشاي وبعض الضيافات فنرى مصافاة واتحاداً، ولا شك أن ما كنا نقوله في مجالسنا ودروسنا مما يزيد ذلك الاتحاد قوة ومتانة. تعلق الأمة بحكومتها: إرتباط الجزائر بفرنسا اليوم صار من الأمور الضرورية عند جميع الطبقات فلا يفكر الناس اليوم إلا في الدائرة الفرنسية ولا يعلقون آمالهم إلا على فرنسا مثل سائر أبنائها ورغبتهم الوحيدة كلهم هي أن يكونوا مثل جميع أبناء الراية المثلثة في الحقوق كما هم مثلهم في الواجبات وهم إلى هذا كله يشعرون بما يأتيهم من دولتهم مما يشكرونه ومما قد ينتقدونه وقد كنا نؤكد لهم هذا التعلق ونبين لهم فوائده ونبين لهم في المناسبات أن فرنسا العظيمة لا بد أن تعطيهم يوما- ولا يكون بعيداً- جميع ما لهم من حقوق وكنا لا نرى منهم لهذا إلا قبولا حسنا وآمالاً طيبة. كرم الأمة وإقبالها: لقد كان تنازع الناس على ضيافتنا كتزاحمهم على دروسنا ومجالسنا وكان تسارعهم إلى إكرامنا يضاهي تسارعهم إلى مقابلتنا وقد كان أكثر البلدان يتلقانا أهلها قبل الوصول إليها ويشيعونا (1) إلى البلدة التي تليها فلله هذه الأمة المسلمة العربية في تعظيمها للعلم وإكرامها للضيف تراثاً جليلا حافظت عليه أجيالا وأحقاباً، وأن أمة تحافط على

_ (1) كذا في الأصل والصحيح (وشيعوننا).

فضل الحكومة ورجالها

أخلاقها الكريمة وسجاياها الموروثة مثل هذه المحافظة لجذيرة بالمدح والثناء حقيقة بالخلود والبقاء خليقة بالخدمة والاعتناء. فضل الحكومة ورجالها: العلم والفضيلة هما كل ما يحتاج إليه الإنسان في كماله وسعادته وهما كل ما ترمي إليه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بسعيها، فللحكومة الفضل العظيم بفتحها السبل لهذه الجمعية حتى تتوصل إلى نشرهما باتصال رجالها من أهل العلم بالأمة في مساجدهم ومجامعهم وحيثما كانوا فللحكومة في هذا من الفضل بقدر ما فيه للأمة من النفع ولقد كان رجال الحكومة الذين لقيناهم في جميع البلدان يلاقوننا بمزبد الإكرام ويزودوننا بعبارات التأييد والتنشيط ويقول لنا الكثير منهم إننا مستعدون لمساعدتكم في كل ما تريدونه بدائرتنا ولا شك أنهم يتكلمون بلسان الحكومة ويعربون عن نياتها ومقاصدها، وأي مقصد أشرف وأي نية أنفع من تعاون الحكومة من العلماء لتهذيب الأمة وتعليمها هذا أعظم ما قامت به فرنسا في أول القرن الثاني نحو أبنائها المسلمين الجزائريين الذين كانوا معها في جميع المواقف مواقف الحياة ومواقف الموت. فضل الصحافة العربية والفرنسية: كانت الصحف الفرنسوية تتبع رحلتنا وتنشر الفصول عنها وتذكر الجمعية بكل تعظيم وتبجيل مثل ما كانت تفعله مع أكبر جمعية فرنسوية ورئيسها فبرهنت على أن الفكر العام الفرنسي يقدر للمسلمين مشاريعهم ويساعدهم عليها ويرد لهم الرقي والتقدم، وقد كانت الصحافة العربية النجاح والنور والمرصاد قامت بواجبها نحو قومها وملتها فلجميع الرصيفات الفرنسية والعربية شكر الأمة والوطن وشكر الجمعية والعلم. وإذا كانت ثم صحيفة واحدة شذت عن الجميع فإننا نقابلها بالمسامحة

فضل الرفاق علينا

والتجاوز لأننا نرى واجباً على من وقف نفسه لخدمة أمة أن يتلقى بالقبول كل ما يأتيه منها من مدح أو قدح من حق أو باطل، من عقل أو غيره ويستعمل ميزان عقله ويستعين بأهل الرأي من المخلصين معه في قبول ما يجب من أي ناحية جاء ورد ما يجب رده من أي شخص كان فللرصيفات كلها - إذاً جميل الشكر والإكرام. فضل الرفاق علينا: رافقني من بداية الرحلة إلى آخرها إبننا الشيخ محمد الصادق الجندلي ومن معسكر إلى غليزان الشيخ عبد القادر آل زيان ومن معسكر إلى آرزيو الأديب الكبير الشيخ السعيد الزاهري ومن وهران إلى غليزان العالم النفاع الشيخ عبد القادر المهاجي ومن أرزيو إلى باريقو العالم الجليل الشيخ أبو عبد الله البوعبدلي ومن سيق إلى تموشنت ثم أرزيو الشيخ فرحات الليشاني ومن تلمسان إلى أرزيو الشريف الغطريف الشيخ مولاي علي الحسني وغيرهم ممن رافقنا في بعض الطريق وقد كانوا كلهم الرفقة الكريمة الموفقة نسينا بهم الأهل والمقر واستطبنا معهم عناء السفر فجازاهم الله أحسن ما جازى رفيقاً عن رفيقه وصديقا عن صديقه. خدماتنا بهذه الرحلة: قد خدمنا الأمة الإسلامية بما دعوناها إليه من علم وفضيلة ومحبة وتسامح وما عرضناه على اسماعها من علوم القرآن وهدايته وما رغبناها فيه من قراءته وتفهمه والعمل به وخدمنا المسلمين وغيرهم بما دعونا إليه من اتحاد وتعاون وتراحم وتفاهم والتزام للأمن والنظام واحترام للقوانين الدولية وأوامر الحكام، وخدمنا الحكومة بما نوهنا به من فضلها بفتح باب العلم بما أذنت به من تأسيس هذه الجمعية وما أذنت به من فتح مكاتب عربية وما سهلت من سبيل لاتصال علماء

دفع توهم

الأمة ومرشديها بها لوعظها وإرشادها وخدمنا الجمعية بما بينا من أغراضها وما دفعنا من الإشاعات الباطلة عنها وما قربنا من منزلتها وما رفعنا من قدرها في قلوب الأمة وحكومتها. حاصل ما تيقنته من هذه الرحلة: أولا: إستعداد الأمة لكل خير. ثانيا: مساعدة الحكومة عليه. ثالثا: تمركز الجمعية عندهما وثقتهما بها. هذا كلام موجز على الرحلة على وجه العموم، وسنتكلم- إن شاء الله تعالى- في الجزء الآتي على البلدان التي زرناها بالتفصيل. دفع توهم: الإسلام يدعو إلى النظام وينهي عن الفوضى فلا بد للمسلمين من التزام القوانين الدولية التي بها حفط النظام وصلاح المجتمع والضرب على أيدي المجرمين نقول هذا وندعو إليه دفعا لا توهم من بعض ما نشر في جزء ماضي- على أنه عند صادق التأمل لا يبقى وجه للتوهم (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 8، م 8، ص 401 - 409 غرة ربيع الأول 1351ه - أوت 1632م.

في تونس العزيزة

في سبيل الوحدة: في تونس العزيزة ــــــــــــــــــــــــــــــ حقا أن لتونس هوى روحياً بقلبي لا يضارعه إلا هوى تلمسان أعرف ذلك من انشراح في الصدر، ونشاط في الفكر، وغبطة في القلب، لا أجد مثلها إلا في ربوعهما. ومن نعم الله عليَّ في العهد القريب أن يسر لي التردد بين الخضراء والبهجة مرتين، وقد كانت أخراهما في تونس ذات مظهر ممتاز ومغزى سام. حللت بتونس في منتصف أشرف ربيعي العام لأحضر حفلة الذكرى التي أقيمت للرجل العظيم السيد البشير صفر رحمه الله، وكنت ممن تشرفوا فيها بالخطابة ثم دعتني جمعية التلامذة الجزائريين الزيتونيين والجمعية الودادية الجزائرية بتونس إلى الخطابة فما وسعني إلا الإجابة وحظيت بلقاء الكثيرين من رجال العلم والأدب والسياسة ورجال الأعمال والعمال، من كل من كانت تونس بهم وبأمثالهم عروس الشمال الإفريقي وواسطة عقد وحدته وقد كانت من الأمة التونسية الكريمة وصحافتهما وبعض الصحافة الفرنسية عناية ظاهرة بما كان ظاهرا من مقاصد الرحلة، وقد رغب إليَّ بعض الإخوان أن أنشر عليهم ما ألقيته في الخطبة الأولى والثانية فاعتذرت عن نفس النص لأنني لم ألقهما إلا ارتجالا ولكنني رجحت إلى ما نشرته منهما وعنهما بعض الرصيفات الكريمة فأثبته هنا تخليداً له- لما اشتمل عليه من مبدأ وغاية- في هذه المجلة التي ما أسست إلا على ذلك المبدأ ولتلك الغاية. قالت (النهضة) الناهضة: "ثم تلاه ضيف تونس الأستاذ ابن باديس الذي وفد خصيصاً

[صورة: منصة الاحتفال بإحياء ذكرى البشير صفر بتونس] ... من القطر الجزائري الشقيق ليحضر هذه الحفلة وألقى خطاباً ارتجالياً بفصاحة نادرة وامتلاك لناصية الموضوع أثر كثيراً على الحاضرين وهز مشاعرهم وذكرهم ببعض خصال الفقيد المحتفل بذكراه لأن الخطيب هو من تلاميذه المعترفين بفضله والمقرين بجميله الذي لا يزول وبعد هذا الخطاب الذي قوبل بعاصفة من الهتاف الحار جاء دور شيخ الأدباء الأستاذ الشيخ العربي الكبادي". قالت (الزهرة) الزاهرة: "وأحيلت الكلمة إلى حضرة الأستاذ الجليل والمصلح الكبير فضيلة الشيخ السيد عبد الحميد بن باديس (ممثل الجزائر) فتقدم وارتجل خطاباً فياضاً بالشعور الإسلامي الصميم والعاطفة الإفريقية السامية.

إفتتحه بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه ورسوله ومصطفاه وآله وصحبه ومن والاه. ثم قال: أيها الإخوان الكرام أيتها الأخوات الكرائم: أرجو أن تعتبروني جنديا من جنود الإسلام والعروبة في القطر الجزائري لا أكثر ولا أقل وإني أحمل تحيات الأمة الجزائرية إلى شقيقتها الأمة التونسية ومشاركة الجزائر لتونس في هذه الذكرى الطيبة وهذا الحفل الكريم، كما أقدم مشاركتي الخاصة. وأن الروابط عديدة بين تونس والجزائر، بل بين المغرب العربي بصفة عامة: طرابلس، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، كالروابط العلمية والروابط السياسية التي ذاقت بها هذه الأقطار حلاوة الاستقلال تحت ظل الإسلام والتاريخ يشهد بذلك. وأنا شخصياً أصرح بأن كراريس البشير صفر الصغيرة الحجم الغزيرة العلم هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جندياً من جنود الجزائر. وهذه الذكرى التي تقام اليوم إنما هي تقام لرجل واحد كان سببا في حياة أمة والقصد منها هو اعتراف بالجميل وهو من أعظم مظاهر الكمال الإنساني والشكر كما لا يخفاكم سبب في المزيد عند الله عز وجل، وعند عباده. وطالما وصفت الأمم الشرقية بكفران النعم، وعدم تقديرها لعظمائها. وها نحن نقيم الدليل بهذه الذكرى وأمثالها على أننا من الشاكرين للنعم لا الكافرين بها!

ثم أخذ الأستاذ ابن باديس بعد هذه المقدمة المفيدة في ذكر نواحي الفقيد المحتفل بذكراه فقال: إن لهذا السيد العظيم البشير صفر نواحي ثلاثا جديرة بالتنويه أذكرها لكم فيما يلي: أولا- أنه رجل بنى ما أخذه من العلوم باللغات الأجنبية على ثقافة إسلامية عربية، وبذلك استطاع أن يخدم أمته وأن يحتل قلبها. ثانيا- أن هذا الرجل لما تخرج من الصادقية ورجع بما رجع به من الديار الباريسية من العلم عرض عليه الوظيف فأباه ..... ولم يقبله حتى أشار عليه بقبوله الوزير المرحوم السيد العزيز بوعتور فقبل إذ ذاك الوظيف وجعله آلة لنفع أمته لا آلة لإشباع معدته. ثالثا- أنه دخل الوظيف فلم يكن الوظيف له سجنا أو قفصا أو قيداً - كما قد يقصد به- إذ الوظيف لا يكون إلا (1) بمثابة السجن والقيد إلا للصغار من الناس لا لعظماء الرجال. فلقد أدى السيد البشير صفر- وهو في الوظيف- للصحافة والفلاحة والمعارف أجل الخدمات. فهذه هي نواحي الكمال الثلاث التي يمجد بها الرجل. لكنه لما دخل العمل المخزني قصر في العمل، ولعله كان معذورا وقد عذرته الأمة. وختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابه الارتجالي البليغ ببسطة عن مشاركة المرحوم الشيخ النخلي للفقيد في تشييد النهضة العلمية المباركة ومقاومة الركود والجمود وقال: هذان الرجلان العظيمان نقدمهما لأبنائنا لينحوا نحوهم ويقتفوا أثرهم لنصل إلى سعادة البشرية كلها لا سعادة الشمال الإفريقي أو تونس فقط. والسلام عليكم ورحمة الله.

_ (1) كذا في الأصل ويمكن أن يكون التعبير: لا يكون بمثابة السجن والقيد إلا للصغار.

وبأثر انتهاء خطاب الشيخ السيد عبد الحميد بن باديس الذي قوبل وقوطع بعواطف متوالية من تصفيق الاستحسان" (1).

_ (1) كذا في الأصل والجملة غير تامة. ش: ج 5، م 13، ص 225 - 228 غرة جمادى الأولى 1356ه - جوليت 1937م.

محاضرة الأستاذ عبد الحميد بن باديس

محاضرة الأستاذ عبد الحميد بن باديس: الحركة العلمية والسياسية في القطر الجزائري الشقيق لمندوبنا الخاص (نقلا عن جريدة "الزهرة" الغراء عدد 21 و22 ربيع الأول) ــــــــــــــــــــــــــــــ عشية يوم السبت قام حضرة ضيف تونس الكريم الزعيم الإسلامي العظيم الأستاذ الكبير الشيخ السيد "عبد الحميد بن باديس" بمحاضرة فائقة بقصر الجمعيات الفرنسية تحت إشراف كل من جمعية الطلبة الجزائريين بتونس والجمعية الودادية الجزائرية الإسلامية بتونس. وقد وقع إقبال عظيم جداً على سماع هذه المحاضرة الكبرى. وكان الأستاذ ابن باديس يتوسط المسرح وعن يمينه حضرة العالم الفاضل الشيخ السيد الشاذلي بن القاضي صاحب وصيفتنا (المجلة الزيتونية) الفيحاء والسري الأمثل السيد حسان بوجدرة. كما كان عن يسار الأستاذ المحاضر رئيسا الجمعيتين المذكورتين السيدان الشاذلي المكي، وقلش الزين. وقبل أن يشرع الأستاذ المحاضر في الكلام قام الأديب السيد الشاذلي المكي وارتجل كلمات لطيفة قال فيها: إن الشيخ ابن باديس لا يحتاج لتقديم إذ هو أشهر من أن يترجم له أو يقدم. وقد افتتح الأستاذ محاضرته بحمد الله والصلاة على الرسول الكريم،

وذكر أن هاتين الجمعيتين قد طلبتا منه القيام بهذه المحاضرة- وهو يشعر بتعب- ولكنه لم يسعه إلا تلبية دعوة الجمعيتين إذ هما لسان الشباب ومن الواجب تلبية نداء الشباب الذي هو نتيجة الماضي وزهرة الحاضر وآمال المستقبل وعدة الحياة. ثم قال الأستاذ: إن الجمعيتين اختارتا أن يكون الكلام عن الجزائر، وأنا أحب أن يكون الحديث عن عموم المغرب العربي لأني أؤمن بأن هذا الشمال الإفريقي لا ينهض إلا بتضامنه مع بعضه بعضا. لكن إذا تحدثت عن الجزائر فإنما أتحدث عن جزء من كل وأذكر عن الأخ ما يسر إخوانه. وكلامنا اليوم عن العلم والسياسة معاً وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة. مع أنه لا بد لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بجد. وإني أحدثكم لا بصفتي رئيساً لجمعية العلماء الجزائريين تلك الجمعية الدينية المحضة التي لا دخل لها في السياسة، وإنما أحدثكم اليوم بصفتي شخصا خدم الصحافة 12 عاما وخدم العلم 25 سنة فباسمي الخاص فقط أتكلم. ثم بيَّن الأستاذ المحاضر أن الجزائر لم تقصر عن إخواتها بلاد الشمال الإفريقي وأشار إلى أن عواصمها الزاهرة شاهدة بذلك، كما أشار إلى العهد القريب أيام كان أبناء الجزائر يتولون أعلى المناصب مع الأتراك وعرج على نبغاء الجزائر وبين أنهم منتشرون- في الماضي والحاضر- في أرضها وفي الشمال الإفريقي وفي بلاد المشرق. وبمد أن أنهى الأستاذ بسط مقدمته المحكمة وعرج بالثناء الجزيل على الزعيم الكبير الأستاذ عبد العزيز الثعالبي وبين أنه ليس بزعيم

الحالة العلمية

تونسي فحسب بل هو زعيم عالمي. شرع في التحدث عن النقطة الأولى من محاضرته فقال مرتجلا: الحالة العلمية: العلوم في الجزائر كما أظنها في غيرها، منها علوم تؤخذ باللسان العربي وهي علوم الدين واللسان، ومنها علوم تؤخذ باللسان الأجنبي وهي علوم الأكوان والعمران. وقد كان الذين يزاولون العلوم الأولى على جمود تام كما كان الذين يزاولون العلوم الثانية على تيه وضلال. فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجاراً ... وأولئك يعتبرون هؤلاء كفاراً ... هكذا كانت الجزائر في الحركة العلمية إلى أن مرت عليها مائة عام وأنشئت جمعية العلماء الجزائريين فتولت إفهام كل طرف قيمة الطرف الآخر وبينت للجميع أنهم مهما نطقوا بأي لسان فهم من الجزائر وإلى الجزائر ولا تنهض الجزائر إلا بهم ولا ينهضون إلا بها. ولقد وضعت هذه الجمعية برنامجا صالحا لتعليم الصغار اللسان العربي وتكميل معلومات من تعلموا باللسان الأجنبي كما خصصت درواسا للكبار. ولكن ما كادت هذه الجمعية تخطو خطوتها حتى تنكرت لها الحكومة وأقيمت أمامها العراقيل حتى من طرف بعض المسلمين فأوذيت وصودمت وأصبحت حديث الجرائد الكبرى الفرنسية حتى اليوم ولكن الجمعية كانت تقابل هذه المقاومات بالثبات العظيم. وقد تأسست رغم تلك المقاومات المدارس وفتحت الأندية لإلقاء المحاضرات وزرعت نواة الكلية وما زالت المبحثات العلمية تتكون وتتوالى إلى جامع الزيتونة المعمور.

الحالة السياسية

والخلاصة أن الحالة العلمية بالجزائر اليوم هي علم مبني على روح إسلامية عربية لا يمكن أن يقاومها مقاوم أو يعارضها معارض ولا يمكن للظلم أن يقف في طريقها! الحالة السياسية: كانت مطالب الجزائر قبل انعقاد المؤتمر الجزائري الشهير مطالب متفرقة يقوم بها أفراد موزعون. ولما تأسس المؤتمر الجزائري في السنة الفارطة توجهت الأمة بمطالب عامة- سياسية، اقتصادية، علمية، عربية قومية- ومطالب الجزائر لا تزال في حيز الانتظار إلى الآن كما لا تزال مطالب تونس في حيز الانتظار. ورحم الله من قال: ونحن في الشرق والفصحى ذوو رحم … ونحن في الجرح والآلام إخوان. وقد حدث شيء بعد ذلك وهو مشروع فيوليت الذي هو شيء واحد من المطالب التي قدمناها وهو يعطى حق الانتخاب لعشرين ألف وبضعة آلاف وحق التصوت في جملة الفرنسويين. ولقد صعب تنفيذ هذا المشروع لما اشترطه المؤتمر من المحافظة على الصفة الشخصية الإسلامية العربية، وها هو الآن في مهب الريح يمكن أن يتم ويمكن أن لا يتم. ومسيو فيوليت رجل فرنسي قبل كل شيء، رأى من مصلحة فرنسا أن يقرب إليها الجزائريين ووجد برنامجه للمعارضة من طرف الكولون المعمرين لأنهم تأبى نفوسهم أن نجتمع معم على مائدة واحدة فكيف يرضون أن نجتمع بهم في البرلمان؟ كما أنهم لما رأوا أن المؤتمر وضع

ثقته في الواجهة الشعبية خافوا أن يصير نواب الجزائر كلهم من أنصار الواجهة الشعبية. وقد قبلت أكثرية الأمة مشروع فيوليت بالشرط المذكور وباعتباره أقل المطالب، أما الأقلية فقد أبت قبوله تماما لأنها تخشى بعض الألاعيب التي لا تدري متى تكون. ونحن نحترم رأي هذه الأقلية ونؤمل بقاءها على رأيها، وهي تطالب بالاستقلال وأي إنسان يا سادة لا يحب الاستقلال؟ إن البهيمة تحن إلى الاستقلال الذي هو أمر طبيعي في وضعية الأمم. أما موقف الحكومة التي أعطيناها ثقتنا من أول يوم فهو موقف التريث والتردد، تشاهد المعارضة من الرجعيين أصحاب المال الأقوياء، ونشاهد مطالب الجزائريين الضعفاء فتارة تعد كما قال م. فيانو وتارة تتوعد كما قال م. أوبو الذي يقول إذا أردنا الاحتفاظ على الشمال الإفريقي فلنحافط على القوة وقد أخطأ في ذلك، ولو كانت الحكومة تقبل نصيحتي كإنسان لنصحتها باستعمال الإحسان، الذي يمكنها به المحافظة على صداقة هذا الشمال الإفريقي. والخلاصة أننا قلنا نحن لنا ثقة في الواجهة الشعبية ولا زلنا نقول ذلك، وقلنا ننتظر وها نحن ننتظر، ولكن للإنتظار حد محدود، وإذا خاب أمل الأمة الجزائرية فإنها لا تخيب وحدها بل تخيب معها فرنسا أيضا. وختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس محاضرته الكبرى بقصيدة من شعره البليغ مطلعها: شعب الجزائر مسلم … وإلى العروبه ينتسب من قال حاد عن أصله … أو قال مات لقد كذب أو رام إدماجا له … رام المحال من الطلب

ومنها: من كان يبغي ودنا … فعلى الكرامة والرحب أو كان يبغي ذلنا … فله المهانة والعطب وقد ختمها بهذا البيت الرائع: فإذا هلكت فصيحتي: … تحيا الجزائر والعرب! وقد قوبلت المحاضرة والقصيدة بعواصف من التصفيق والهتاف. وما كاد الأستاذ المحاضر ينتهي من كلامه حتى وقف الشاب الأديب السيد الشاذلي المكي رئيس جمعية الطلبة الجزائريين بتونس وقال: لئن اعتاد الخطباء شكر المحاضرين بعد انتهائهم من محاضراتهم فأنا قد اعتدت بأثر كل محاضرة لأستاذي العزيز الشيخ عبد الحميد بن باديس أن أضع على جبينه قبلة حارة. ثم تقدم وقبله باسم الطلبة الجزائريين فقام الأستاذ الطيب بن عيسى وطلب منه أن يقبله مر ثانية باسم التونسبين فكان ذلك ودوت القاعة بالتصفيق والهتاف المتواليين. وبأثر ذلك وقف حضرة العالم الفاضل الأستاذ الشيخ السيد الشاذلي بن القاضي المدرس بالجامع الأعظم دام عمرانه وصاحب رصيفتنا (المجلة الزيتونية) الغراء وارتجل خطابا قيما قدم فيه خالص الشكر للأستاذ ابن باديس بالنيابة عن الريتونيين وأثنى على هذا المصلح الكبير والزعيم الإسلامي العظيم الذي تتمثل فيه الناحيتان العلمية والسياسية، وقال في هذا الصدد أن الجزائر إذا اعتمدت اليوم فإنما تعتمد على هذا الشيخ الجليل. ثم قال الأستاذ بن القاضي: ونحن إن شاء الله مقتفون خطوات هذا الأستاذ في خدمة العروبة

والإسلام، وإذا قال الأستاذ أن العلم يجب أن ترافقه السياسة، فإننا نقول أن لنا علماء ضربوا في الحركة السياسيه بسهم مصيب. وأذكركم بأن أول كلمة صدرت في بناء الدستور كان مصدرها العالم الكبير الأستاذ الشيخ السيد الصادق النيفر. وختم خطابه بقوله: فتونس تحيا بحياة رجالها وحياة معهدها أدام الله لها رجالها وأدام لها معهدها (1).

_ (1) البصائر: السنة الثانية العدد 71 الجمعة 9 ربيع الثانى 1356ه 18 جوان 1937م. ص4، ع 1 و2 و3 وص 5، ع 1 و2.

الشيخ عبد الحميد بن باديس في قالمة

الشيخ عبد الحميد بن باديس في قالمة يوم الخميس 29/ 1/ 57 و31/ 3/ 38 على الساعة العاشرة صباحا نزل بقالمة فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قادما من قسنطينة إلى قالمة بقطار الضحى إجابة لدعوة أهل المدينة. وقد تلقاه بالمحطة عند النزول بعض أعيان المدينة وطلبتها، وبعد التحية والترحيب بفضيلته توجه الجميع إلى مركز شعبة الجمعية حيث تقرر على أثر الوصول برنامج أعمال الرئيس التي قدم خصيصا لها في ذلك اليوم وليلته المقبلة. ونظراً لضيق حجم هذه الجريدة وكثرة موادها فإني أستسمح القراء الكرام أن أغفلت وصف مهرجانات الاحتفاء والاحتفال بقدوم الرئيس العظيم الأستاذ ابن باديس إلى قالمة وإكرامهم مثواه فقد كان اقتبال أهل قالمة له وسرورهم به بالغا الغاية وكان لما أسدى إليهم اليوم من نصائح وإرشادات قيمة في محاضرته ودرسه الجامعين المانعين الأثر الحميد في نفوسم، وإلى القراء الأفاضل خلاصة المقصود من زيارة الأستاذ إلى قالمة وما عمله بها. إن القصد من زيارة الأستاذ ابن باديس قالمة اليوم- وفق رغبة سكانها المسلمين- هو حث عامة هذه النواحي على التآخي والتعاون على الخير ونصرة المشاريع الإسلامية النافعة والتضامن في كل ما يهم المسلمين ونبذ كل خلاف ينسيهم روابط الأخوة الإسلامية التي جمعهم الله بها على الهدى والحق وأن يعلموا حق العلم أن لا حزبية بينهم إزاء

القضايا العامة والمشاريع الهامة التي هم مسؤولون أمام الله ورسوله والناس أجمعين عن حقها عليهم وما حقها عليهم سوى تعاونهم على إحيائها تعاونا مستمدا من وحي الضمير! بعد ظهر اليوم المذكور نادى مناد في المدينة أن الأستاذ ابن باديس يلقي محاضرة بفسحة إلى السينما بعد صلاة العصر، وما أزفت الساعة المعينة حتى اكتظت ردهة المحل وشغلت جميع كراسيه بالوافدين الذين من بينهم من جاءوا من أماكن بعيدة لسماع محاضرة الأستاذ وعلى أثر ذلك صعد فضيلته منصة الخطابة وشرع يمتع السامعين بما تهفو إليه أرواحهم وتنجذب إليه عواطفهم وتستعذبه مشاعرهم من خالص النصح وسديد الإرشاد وبديع الخطاب. بدأ الأستاذ محاضرته بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم تطرق إلى التحدث إلى سامعيه عن محاسن الإسلام التي تجل عن الوصف فأبان لهم ما يجب عليهم للمحافظة على الإسلام الثمين وكتابه الإلهي ذي اللسان العربي المبين. بيانا هو الشمس وضوحا والحق نوراً فقال: إن هذا الإسلام هو رحمة من الله لبني آدم فانظروا رحمكم الله قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كيف كرر الله عز وجل لفظ الرحمة أربع مرات في موطن واحد ولم يقل لنا "القهار الجبار" مع أنه عز وجل قهار جبار كل ذلك لنستشعر سعة رحمة الله بخلقه، فإذا كان رب الناس الذي هو المالك لهم على الحقيقة يعامل عباده بمقتضى هذه الرحمة التي وسعت كل شيء فأحرى أن يتخلق عباده بأخلاقه وتظهر عليهم آثار هذه الأخلاق في معاملة بعضهم لبعض وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من لا يَرحم لا يُرحم».

ثم إن الإسلام بقدر ما فيه من رحمة للبشرية ورأفة واحترام لها فهو يمقت الظلم والجبروت والطغيان أشد المقت ويندد بالمتصفين بهذه الصفات من العباد أمر تنديد فهو لا ربوبية فيه لأحد على أحد، لا ربوبية بالمال ولا ربوبية بالعلم ولا ربوبية باسم الدين بل الربوبية الحقيقية هي لرب العالمين وحده على عباده، وهذا هو السر في سرعة انتشار الإسلام في جل أقسام المعمورة في مدة 25 عاما، وبفضل هذا الإسلام، أيها السادة اهتدى أوائلنا العظام واهتدينا نحن! لما تضمنته مبادئه السامية من رحمة وسماحة وعدل يغبط عليه، نعم بفضل هذه الخصال الكريمة ونظائرها في الإسلام تحول العرب من الجهل إلى العلم، والقسوة إلى الدين، ومن الهمجية إلى المدنية التي مدنوا بها الأمم يومئذ، وكان للعرب بها الفضل على سواهم رغم أنف من جحد منهم وما يجحد بها إلا كُلُّ أفَّاك أثيم. وفي ما كان للعرب من رحمة أكسبها إياهم الإسلام السمح، قال قوستاف لوبون: (لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من المسلمين)! فهذا الإسلام أمانة عندنا وبه سعادتنا وعزنا فلنحافظ عليه وذلك بالمحافظة على كتابه الكريم ولسانه العربي المبين تعلماً وتعليماً، أيها السادة كما تلقيناه من آبائنا وأجدادنا، وكل من عارضنا في هذا التعليم رددنا معارضته رد الأباة الكرام وأولى الناس بالمحافظة على القرآن هم حفاظه الذين استحقوا به لقب"السياد" أن عملوا!. إن قواعد الإسلام التي شرعها الله لعباده جعلت عواطفنا وشعورنا مطبوعة على أن لا نحس إلا احساساً متحداً {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}؟ فالصائمون- مثلا - يحسون إحساساً واحداً بما ينشأ لهم من الصوم من جوع وعطش وقس على ذلك فديننا دين الرحمة والاتحاد على الخير ونحن مسلمون لا نتحد على الشر أبدا ولا نضمره لأحد من الناس، كما لا نقبله من أي أحد منهم كائنا من كان.

هذه محاضرة الأستاذ ابن باديس نقلناها نقلا اختزاليا أثناء إلقائها لها على المنصة وحافظنا على ألفاظها ومعانيها حتى لا يفلت من ذلك شيء وهي نفس الخطاب الذي ألقاه ليلا بنادي الشباب الإسلامي القالمي بعد أن أفرغها في قالب يناسب طبع الشباب ومزاجه الكهربائي الذي عبر عنه الأستاذ بالشعلة المقدسة وتفنن فيه ما شاء له البيان وأراد وزاد على ذلك مخاطبا الشبان ومرغبا في الاستزادة من العلم النافع بأي لغة كان ومن أي شخص وجد، والاعتراف (1) بجميل من يكون لهم واسطة في نيل العلم خالصا من شوائب المس والدس فقال: إن طلاب العلم عندنا ثلاثة أقسام، قسم طلبوا العلم من الغير فنالوه إلا أن الغير طبعهم بطبعه فهو عوض أن يأتونا به مطبوعاً بطابعنا الفطري الذي هو حبل الاتصال بين أفراد أمتنا وبين جامعتهم القومية أصبحوا متأثرين بطابع الغير. وقسم نالوا العلم ولم يحسنوا التصرف فيه لنفع مجتمعهم ووسطهم. وقسم نالوا العلم من الغير وأحسنوا التصرف فيه ونفعوا به بلادهم وقومهم فهذا الفريق هو الذي نحتاجه اليوم وعلى يديه يكون رقي البلاد وخيرها. فأرجوكم أيها الشبان الحازمون أن تأخذوا العلم بأي لسان كان وعن أي شخص وجدتموه وأن تطبعوه بطابعنا لننتفع به الإنتفاع المطلوب كما أخذه الأروباويون من أجدادنا وطبعوه بطابعهم النصراني وانتفعوا به وهم إذا أنكر بعضهم اليوم فضلنا عليهم فذلك شأنهم أما نحن فلا ننكر فضل من أسدى إلينا الخير الخالص ونعترف له بالجميل الذي لا يراد به سوى الجميل ولا علينا فيمن {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا

_ (1) في الأصل: ولا اعتراف.

نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولا يكن في صدرنا من حالهم حرج فصدورنا بالإيمان بالله والثقة به أوسع وعقولنا أرجح وديننا أرحم وأكمل (1). ( ..... ) (2)

_ (1) البصائر عدد 109 السنة الثالثة. قسنطينة يوم الجمعة 21 صفر 1357ه الموافق ليوم 22 أفريل 1938م الصفحة 3 كلها. (2) لم يذكر الناقل لهذا الخطاب اسمه.

قسم تطور الشهاب

آثار ابن باديس قسم تطور الشهاب

خاتمة المجلد الخامس

خاتمة المجلد الخامس بهذا الجزء تمت أجزاء المجلد الخامس إثنى عشر جزءاً. وانقضى عام على "الشهاب" مجلة شهرية، وإذا لم يكن يجب أن يكون فقد كان على نهاية ما استطاع، وقد كان قرر أن يشعر قراءه بروح الأخوة الإيمانية التي تربط بينهم مهما اختلفت أفكارهم، وقد نجح في هذا إلى حد بعيد. فهو بهذه النعمة الربانية جد مغتبط ومسرور. معتزما على شكرها باستمرار العمل حاسبا إياها أعظم جزاء على ما عمل، وأكبر معز ومصبر عما يلقاه من مكاشحة"العدو" وتقصير الصديق. علم الله أننا لا نجني من هذه المجلة ثمرة مادية، وإنما نعود عليها بمالها. ولو كثر مالها لكبر حجمها وغزرت موادُّها، ورغم ذلك فقد بلغت صفحاتها ستة وخمسين بعد ما كانت اثنتين وثلاثين في الجزء الأول، وستصدر في سنتها الجديدة- إن شاء الله تعالى- في أربعة وستين، وسنوسع في أبوابها حسبما نستطيع من التوسيع. ليس لنا- بعد عون الله تعالى- إلا همم إخواننا المسلمين عموما والمشتركين معنا في المجلة خصوصاً، فنحن ندعوهم إلى مؤازرتنا على ما نتوخاه لِلْجَميع من خير وصلاح، ونستحث المقصِّرين والمتخلفين إلى أداء واجب اشتراكهم القليل. وقد رأينا- والحمد لله- من كثير من إخواننا مؤازرة ومساعدة، شكرا لله لهم ما عملوا وأثابهم عليه ووفق غيرهم إلى الاقتداء بهم فيه، والله ولي العون والتوفيق للجميع (1).

_ ش: ج 12، م 5، ص 56. غرة شعبان 1368ه - جانفي 1930م.

فاتحة المجلد السادس

فاتحة المجلد السادس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. نحمد الله الذي أمدنا بروح، منه حتى قطعنا السنة الماضية، وأبقى فينا الثقة والرجاء لقطع السنة الحالية، والسنوات التالية، ثم نتقدم لقراء "الشهاب" ومشتركيه ومناصريه الفضلاء الأكارم بالإشادة بحسن الثناء، والدعاء بجميل الجزاء، واعدين حضرتهم بالمضي على ما عرفوا من خطتتا: ننشر هداية القرآن وندعو إليها، ونعتصم برابطة الأخوة ونحافظ عليها. داعين إلى العلم والعمل والتقدم في نظام وسلام قاصدين الخير وساعين فيه لصالح الجميع. ثبت الله القصد، وأيد العمل، وقرب الغاية، إنه الولي النصير.

_ ش: ج 1، م 6، ص 1 - غرة رمضان 1348ه - فيفري 1930م.

خاتمة المجلد السادس

خاتمة المجلد السادس قد انتهى بهذا الجزء المجلد السادس، فالحمد لله على نعمته وتيسيره وما أمكن لنا إنهاؤه بعد ذلك إلا بهمم أولئك الأخوان الكرام المشتركين والمؤازرين الذين لولا مثلهم لما كان لمجلة علمية أن تعيش في الجزائر إلى اليوم، فهم أصحاب هذه المجلة وهم أصحاب الفضل بها. وإذا كان حقا علينا أن نذكر هؤلاء السادة الذين يعملون على حياة هذه المجلة فإن حقا آخر علينا أن نذكر قوماً آخرين من الذين يعملون على قتلها من حيث لا يشعرون وأولئك هم الذين يتأخرون بدفع بدل الإشتراك الزهيد بعد مكاتبتهم وتذكيرهم السبع والثماني مرات فلا هم يدفعون ولا هم يعتذرون ولاهم يجيبون فيحملون الإدارة ة بمصاريف المكاتبة مع بدل الإشتراك المتأخر ضغثا على ابالة وليست هذه الأبالات ذوات الأضغاث بالشيء القليل الذي يتحمله كاهل الإدارة على ضعفها بل هي بمجاوزتها للمائتين قد صارت عبئا ثقيلا لا تنوء به الإدارة إلا بجهد جهيد. لقد كنا- لولا هؤلاء السادة المتأخرين- عازمين على زيادة توسعة وتحسين في نطاق المجلة ووضعها. ولكنهم تأخروا فتأخرنا، وعسى الله أن يجعل بعد العسر يسرا وبعد الشح سخاءا وبعد الإهمال اعتناء فنبلغ بهذه المجلة حيث نأمله لها من رقي في خدمة الدين والعلم والوطن. والله يسدد خطى الأمة- ونحن في جملتها- إلى ما فيه سعادتنا وفلاحها في الدنيا والآخرة بلطف منه وتيسيره إنه اللطيف الخبير (1).

_ (1) ش: ج 12 م 6 غرة شعبان 1349ه - جانفي 1930م ص 782.

تنبيه

تنبيه ما ينشر في باب رسائل ومقلات هو على عهدة كاتبيه فمن رأى فيه ما لا يوافق عليه فليباحث فيه صاحبه وباب المباحثة والمناظرة في المجلة مفتوح لهما. لا نقول هذا تبريا من كتابنا أو فرارا من مسئولياتهم وإنما نقوله: أولا- لثقتنات بكفائتهم في تحمل مسؤولية كتاباتهم والجواب عن أنفسهم بالعلم والأدب والإنصاف. ثانيا- لفتح مجال البحث والمناقشة العلمية النزيهة بين الكتَّاب فنعم المشحذ للذهن والمظهر للحقيقة هي: دعانا إلى كتابة هذا أن بعض الناس اندهش مما كتبه صاحب مناظرة المصلح والمحافط في مسألة الأفعال النبوية، ومسألة تقسيم البدعة، ومسألة لزوم الحق لجانب الكثرة وعوض أن يوجه بحثه وسؤاله إلى كاتب المناظرة وجهه إلى صاحب "الشهاب" الذي وقف اسمه كالشجا في حلقه فلم يسطع أن يذكره. وصاحب "الشهاب" يرد لو أن هذا الباحث يوفق إلى الإتيان إلى قسنطينة فيفيده هذه المسائل من كتبها بدلائلها وأقوال الأئمة فيها ويعتقد أنه لو وفق إلى هذه السفرة لحمد غب سراه وعدها من خير أيامه ويعيذه بالله من أن ينفخ الشيطان في أوداجه فينكبر عن الرحلة للعلم وتحصيله. وأما الجواب في الصحيفة فإنه يدعه لصاحب المناظرة لأنه يرى أن الجواب على بحث يتعلق بمناظرته تعد عليه خارج عن سياج الأدب. والأمر المهم أكثر من هذا كله الذي يجب علي أن أنبهك عليه

وحرم علي إقرارك عليه هو كذبك وافتراؤك- والله يغفر لك إن تبت- في الحديث الشريف فإنك قلت هكذا بالحرف: "وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن أمتي لم تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم" وهذا المتن لا وجود له في البخاري ولا في مسلم البتة. فبأي شيء نسمي صنعك هذا وجرأتك عليه ومن كان قدوتك فيه ... أأنت الذي سميت نفسك في إمضائك (أحد كتاب أهل السنة) ترتكب هذا الافتراء على السنة أهكذا كتاب السنة يكونون؟ أهذا هو القدر الذي عندك من السنة التي أضفت نفسك إليها؟ هداك الله أيها الأخ وعرفك قدرك ورزقك احترام السنة التي ألصقت نفسك بها ثم بعد ما نبهتك فهل تعترف بالحق وتنشره حيث نشرت الباطل؟ أم تسكت أنت الآخر. ويخنقك الكبر عن لفظ الحقيقة نصيحتي لك أيها الأخ ولأمثالك أن تقرأوا العلم وتلتزموا الصدق وتتقدموا حينئذ للعمل فأما هذا الخبط وهذا الكذب وهذا التجري فشيء نعوذ بالله منه، ونسأل الله أن يقينا والمسلمين شر غائلته وسوء عاقبته (1).

_ (1) ش: ج 12، م 8، ص 623 - 624 غرة شعبان 1351ه - ديسمبر 1932م.

فاتحة المجلد التاسع

فاتحة المجلد التاسع بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ يخطو الشهاب خطوته التاسعة، نحو غايته الشريفة السامية، بقدم ثابتة- إن شاء الله تعالى- وأمل كبير يذكر أنصاره ومؤازريه، بالثناء الجميل ويرجو لهم ولغيرهم كل خير يدعو في مستقبله كما دعا في ماضيه- إلى الله، بكتاب الله وسنة رسول الله مهتديا- إن شاء الله- هدى السلف الصالحين والأئمة الهادين المهديين ويعرض للمسائل الجزائرية في حق ونزاهة وشيء كثير من الرفق واللين، داعيا إلى المساواة بين جميع المتساكنين، داعيا إلى التعارف والتقارب والتفاهم بين سكان الجزائر أجمعين، داعيا إلى حفظ النظام، ومراعاة الجوار واحترام القوانين سائلا من الله تعالى العون والتوفيق للعمل الخالص المثمر النافع للجميع (1).

_ (1) غرة رمضان 1351ه جانفي 1933م، الجزء 1، المجلد 9 ص 1.

مجلة الشهاب والحركة الإصلاحية

مجلة الشهاب والحركة الإصلاحية الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأبنائه ــــــــــــــــــــــــــــــ وبعد فإن مجلة (الشهاب) تفخر بأنها أنشئت للحركة الإصلاحية ورافقتها في جميع مراحلها وأنها هاجمت البدع في معاقلها وواثبت الخرافات في أيام عزها واشتدادها، وساورت الأباطيل على احتفالها واستعدادها لم تهن لها عزيمة في موقف من المواقف التي تخور فيها العزائم وترجف الأفئدة، ولم يكتب لها قلم في ميدان من الميادين التي تنعقد فيها الألسنة وتجبل القرائح. وهي اليوم تعلن فخرها واغتباطها بما وصلت إليه الحركة الإصلاحية من نتائج اتسع مداها وطبق الخانقين صداها، مكتفية من الجزاء بهذه الغاية ومن الآيات على إثمار عملها بهذه الآية وقد كان من الاجتماع السنوي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في هذه السنة ما أقام على ما ادعيناه الدليل- وقطع على المكابرين السبيل، وعلى ذلك فمجلة الشهاب تعد من المساهمة لجمعية العلماء المسلمين إلى الابتهاج بالنتائج الصالحة التي تجلت في اجتماعها الأخير، أن تتقدم إلى قرائها بهذا العدد خاصا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومخلدا لوصف ذلك الاجتماع الرهيب، وما قيل فيه كما تقدمت إليهم بالعدد الذي قبله خاصا بالطلبة تنشيطا لهم وتقوية لعزائمهم واستفزازا للهمم لإعانتهم في جهادهم العلمي (1).

_ (1) ش: ج 9، م 10، ص 370 غرة جمادى الأولى 1353ه - 12 أوت 1934م.

بعد عقد من السنين

بعد عقد من السنين في يوم النحر من ذي الحجة خاتمة شهور عام ثلاثة وأربعين وثلاثمائة وألف برزت جريدة "المنتقد" تحمل فكرة الإصلاح الديني بتنزيه الإسلام عما أحدثه فيه المبتدعون وحرفه الجاهلون. وبيانه كما جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة وعمل به السلف الصالحون معلنة أن المسلمين بذلك وحدة تصفو عقائدهم وتزكو نفوسهم وتستقيم أعمالهم وينبعثون عن قوة وبصيرة في الأخذ بأسباب الحياة الراقية والمدنية الطاهرة. مشاركين لأمم الدنيا في خدمة الإنسانية وترقية وتوسيع العمران، سالمين مما تشكو منه أمم الحضارة التي غلبت عليها المادية والأنانية وتفشت فيها أمراض ليست من التمدن الحقيقي في كثير ولا قليل. برزت جريدة (المنتقد) تحمل هذا وتلفت الجزائريين المسلمين إلى حقيقة وضعيتهم بين الأمم بأنهم أمة لها قوميتها ولغتها ودينها وتاريخها فهي بذلك أمة تامة الأهمية لا ينقصها شيء من مقومات الأمم. وأنهم إلى ذلك مرتبطون بأمة عظيمة ذات تاريخ مجيد ومدنية راقية وحكومة منظمة وأن عليهم أن يراعوا هذا كله في حياتهم فيحترموا قوميتم ولغتهم ودينهم وتاريخهم والأمة التي هم مرتبطون بها والحكومة التي هم مسيرون بقوانينها. ثم ما كاد يبرز العدد الثاني منها حتى ظهر في الجزائر كتابه لم يجدوا مجالاً لأقلامهم قبلها فانضموا إلى تحريرها وأوجدوا بهيئتهم أول حزب المصلحين. مضت الجريدة على خطتها حتى سقطت في الميدان بقرار التعطيل

بعد ما برز منها (18) ثمانية عشر عددا كانت في بنيان النهضة ثمانية عشر سندا. صدرت جريدة (الشهاب) إثر تعطيل المنتقد على مباديه وخطته فلاقت ما لاقت في سبيلهما من العناء والبلاء فثبتت وصبرت وصابرت وثابرت على العمل تشتمد مرة وتلين أخرى وصدمتها في سنتها الرابعة أزمة مالية كادت تقضي عليها فصدرت مجلة شهرية فوق ما كانت يوم ذلك تستطيع قوتها ثم تدرجت حسب تيسير الله حتى تممت اليوم العقد الأول من حياتها. فالحمد لله وشكرا لمن عاشت هذه الصحيفة بإيمانهم ومؤازرتهم وإذا كان لها أثر فيما دعت إليه من إصلاح وما أعلنته وخدمته من حقيقة وضعية هذه الأمة. فالفضل في ذلك لله ثم لهم وإذا كان من شيء وراء ذلك الأثر تغتبط به فهو- أولا- أنها كانت تقصد الصواب عن نظر وصدق وإخلاص فإذا ظهر لها خطأ رجعت وأعلنت عن خطئها واعترفت به. كان هذا بضع مرات مع أصحابها وخصومها وثانيا- أنها ما خطت حرفا إلا بوحي ضميرها واقتناع منها لا بوحي ناحية ولا لإرضائها وما انفقت فلسا إلا من مالها وكيسها لا من مال ذى غاية ولا من كيس أية هيئة. وها هي اليوم تخطو إلى العقد الثاني من عمرها على خطتها ومبدئها مستعينة بالله متكلة عليه معتضدة برجالها وأنصارها العاملين الصادقين، والله ولي الجميع (1).

_ (1) ش: ج 1، م 11، ص 1 - 3 محرم 1345ه - أفريل 1935م.

في العشيرة الصحافية

في العشيرة الصحافية: ثناء كرام ــــــــــــــــــــــــــــــ (لا يجوز أن نعمل للثناء، ولكن الثناء الذي يأتي عفوا من أهل الصدق والخبرة يسرنا، إذ يشعرنا بأن معنا في طريق العمل من يرانا ويسمعنا ويتبع أعمالنا، فيدعونا ذلك إلى الجد في العمل والإتقان، وشدة التوقي للخطأ والزلل، على أن ما يقال في المجلة ليس خاصا بفرد ولكنه يصيب كل المشاركين في النهوض بها. وعلى هذا الذي قلنا رأينا نشر ما قالته بعض الرصيفات الكريمات في هذه المجلة شاكرين للرصفاء الفضلاء عطفهم وتشجيعهم). • • • ما جاء في "البلاغ" الذائع نفحة من الجزائر: وصل إلى يدي عدد من مجلة الشهاب، وهو العدد الخاص بالاجتماع السنوي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو عدد طريف يشتمل على فوائد كثيرة تصور الحياة العلمية في الجزائر ومن أدق ما فيه ما قرأته من إصرار العلماء هناك على إلقاء عظاتهم باللغة الفصيحة، واحتجاجهم بأن البلاغة تلقن عن طريق السماع كما تكتسب بالدرس، ومعنى ذلك أن العامة يكتسبون الذوق الأدبي بفضل الإكثار من سماع الكلام الفصيح، كما يكتسبه المتعلمون بكثرة الاطلاع على الكلام الفصيح. ذلك يقع في الجزائر، والعامية هناك بعيدة بعدا شديدا من اللغة

ما جاء في "القلم" البليغ

الفصيحة، فليعرف ذلك الواعظون في مصر، وعامية أهل هذه البلاد قريبة كل القرب من الكلام المعرب الفصيح. وفي ذلك العدد من الشهاب قصائد تدل على أن هناك نهضة شعرية منها هذه الأنشودة التي ألقاها الأستاذ أبو اليقظان: أهزار الروض غرد … بنشيد الوطنية أحكام الأيك غن … بحياة العربية بلبل الدوح تنغم … لي بألحان شجية فوق لبات الغصون … أهد للجمع التحية وهي أنشودة طويلة، ومنها قصيدة الأستاذ الهادي السنوسي في خطاب أعضاء الجمعية: حياك شعبك إقليما وسكانا … يا هيئة قد زكت علما وعرفانا ادركت من روحه الطهرى حشاشته … من بعد ما قيل حين الشعب قد حانا شعب أضاع كثيرا من مفاخره … لولاك أصبح في الأيام نسيانا وحرص أهل الجزائر على اللغة العربية هو من أظهر ما هم عليه من الشهامة والرجولة والإباء. فإليهم، على بعد الدار، أطيب التحيات. - زكي مبارك- • • • ما جاء في "القلم" البليغ وصلنا عدد خاص من مجلة الشهاب الغراء التي تصدر في قسنطينة بالجزائر وقد زين العدد المذكور بصور طلبة صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحميد بن باديس وقد تصدر حضرته الصورة الأولى من تلك الصور فإذا بنا نرى جلالا ومهابة في وجه الشيخ ذي الأيادي

ما جاء في "الزهرة" الزاهرة

البيضاء على العلم واللغة في تلك البلاد المنكودة الحظ التي لولا حضرة الشيخ وأمثاله لماتت اللغة العربية في الجزائر لا محالة. فإلى حضرة الشيخ الفاضل الكريم تحيتنا القلبية وتمنياتنا الطيبة. • • • ما جاء في "الزهرة" الزاهرة الشهاب النير في عقده الثاني الحفيل إستقبلت رصيفتنا "الشهاب" الزاهرة التي تصدر عن قسنطينة من القطر الجزائري الشقيق عامها الحادي عشر أو عقدها الثاني بعدد حافل بالمواضيع المهمة والبحوث المفيدة في تحرير نفيس وأسلوب ممتع كثيرا ما ألف لها ولحضرات السادة محرريها وبالمقدمة حضرة العالم الجليل صديقنا الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس السلفي الصميم. والعدد على ورق صقيل في 64 صفحة متقن الطبع جميع التنسيق طيه صور شمسية للأستاذ ابن باديس تمثله ممسكا لمصحف إيماءة لطيفة إلى لزوم التمسك بالقرآن الكريم وتعاليمه الحكيمة وتتقدم ذلك كلمة المجلة وما تضمنته: (فالحمد لله وشكرا لمن عاشت هذه الصحيفة بإيمانهم ومؤازرتهم وإذا كان لها أثر فيما دعت إليه من إصلاح وما أعلنته وخدمته من حقيقة وضعية هذه الأمة فالفضل في ذلك لله ثم لهم). تهنئة حارة للزميلة فيما توفقت لانتهاجه نحو إشاعة الإسلام وبث تعاليمه وما غنمته الجزائر بآثارها البارزة في ميادين العرفان المنبثقة عن أشعة ذلك (الشهاب النير ومشكاته الوضيئة وفي الوقت نؤمل له مزيد التقدم واطراد الرواج حتى يثمر الأمل المرغوب). • • •

ما جاء في " الزهو" العذبة

ما جاء في " الزهو" العذبة مجلة "الشهاب" الغراء إستأنفت الصدور هذه المجلة الراقية بعد أن أدخلت عليها إدارتها تحسينات جمة وترقيات صيرتها من أرقى المجلات في العالم العربي وقد قررت طبع هدايا مع كل عدد بمناسبة دخولها لعامها (11) لأشهر مشاهير القطر الشقيق الجزائري وجاء فعلا مع الجزء المتحدث عنه رسم جميل للأستاذ العلامة المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيس تحرير (الشهاب) فنهني الزميلة الكريمة بعامها ونرجو لها طول العمر وعظيم الرواج والانتشار في كافة الأقطار (1).

_ (1) ش: ج 2، م 11، ص 103 - 106 غرة صفر 1354ه - ماي 1935م.

فاتحة العام الثاني من العقد الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم فاتحة العام الثاني من العقد الثاني ــــــــــــــــــــــــــــــ على اسم الله نخطو هذه الخطوة نحو الغاية التي نعمل إليها من ترقية المسلم الجزائري في حدود إسلاميته التي هي حدود الكمال الإنساني، وحدود جزائريته التي بها يكون عضوا حيا عاملا في حقل العمران البشري. وليس ما ندعو إليه ونسير على مباديه من الإصلاح بالأمر يخص المسلم الجزائري ولا ينتفع به سواه، كلا، فإن صحة العقيدة، واستنارة الفكر، وطهارة النفس، وكمال الخلق، واستقامة العمل- وهذا هو الإصلاح كله- مما يشترك في الانتفاع به جميع المسلمين بل جميع بني الإنسان. وإنما نذكر المسلم الجزائري لأنه هو الذي قدر أن يكون منا ونكون منه كما يكون الجزء من كله والكل من جزئه فحاجته أشد وحقه أوجب، فكان المقصود بالقصد الأول. على أنه لم يذكر لتخصيصه وإنما ذكر ليشعر بنفسه فيعمل لإسلامه وجزائريته فيكون ذا قيمة ومنزلة في الجموع. عمل الماضي: ونحن- بحمد الله- ما عزمنا على مد خطوة إلى الأمام والتفتنا إلى ما كان من أثر سيرنا وما مضى من خطواتنا- إلا وجدنا ذلك الشعور قد نما وألفينا العمل بمقتضاه قد زاد. وها نحن نعرض صورة السنة الماضية لنرى فيها مصداق ما قلناه:

التعليم

التعليم: ولا أدل على وجود روح الحياة في الأمة وشعورها بنفسها ورغبتها في التقدم من أخذها بأسباب التعليم: التعليم الذي ينشر فيها الحياة ويبعثها على العمل ويسمو بشخصيتها في سلم الرقي الإنساني ويظهر كيانها بين الأمم. وقد تأسست في السنة الماضية جمعيات وفتحت مكاتب وتأسست نوادي ونهض المصلحون في العاصمة بابي النوادي كلها، نادي الترقي، نهضة جديدة إصلاحية خالصة. وطلبت عدة جهات معلمين للمساجد غير الحكومية واشتريت بتلمسان وقسنطينة وميلة دور للتعليم وتزايد عدد الوافدين من الطلاب على الجامع الأخضر وعلى جامع الزيتونة وعلى الجهات التي فيها دروس منتظمة. وهذا والمساجد ما تزال مغلقة في وجوه العلماء ورخص التعليم الحر ما تزال غير معطاة لهم ولولا ذلك لكانت النهضه العلمية أكثر بكثير مما كانت. الإصلاح: بقدر ما كان تمسك الأمة بأسباب العلم كان رفضها للجمود والخمود والخرافات والأوضاع الطرقية المتحدرة للفناء والزوال حتى أصبح القطر الجزائري كله يكاد لا تخلو بيت من بيوته ممن يدعو إلى الإصلاح وينكر الجمود والخرافة ومظاهر الشرك القولي والعملي وأصبحت البدع والضلالات تجد في عامة الناس من يقاومها وينتصر عليها. ومن أجمل مظاهر انتشار الإصلاح وانتصاره أن خصومه بعد ما كانوا يقاومون ما يدعو إليه من نشر التعليم بالعرقلة والتزهيد أصبحوا لا يستطيعون أن يظهروا للأمة إلا بمظهر المعلمين. فهم لأجل

أمل المستقبل

حفط مراكزهم اليوم مضطرون لتأييد العلم- ولو ظاهرا- العلم الذي يقضي عليهم في المستقبل بإذن الله. نعم هنالك طائفة من المنتسبين للعلم ومن طلبة القرآن معروفون عندنا بأسمائهم يتسترون باسم العلم والقرآن، ويبثون في الناس ما يتبرأ منه العلم والقرآن ولعل هذه السنة تكون سنتهم فيستنزلهم المصلحون للميدان ليعرفوا الحق فيكونوا من أنصاره أو يكابروا فيه فيعرفهم الناس فيحذروهم ويتقوا شرهم. أمل المستقبل: إذا نطرنا في عمل الماضي الذي قدمنا انبعث فينا الرجاء والأمل فيما نستقبل، وأصدق الأمل ما انبنى على عمل، فنتقدم- بإذن الله- للعمل في سبيل ترقية المسلم الجزائري داعين إلى العدل والإحسان والألفة والرحمة بين جميع المتساكنين بهذا القطر وإلى التفاهم والتعاون على ما فيه هناء وسعادة الجميع (1).

_ (1) ش: ج 1، م 12، ص 1 - 4 غرة محرم 1355ه - أبريل 1936م.

فاتحة السنة (13)

فاتحة السنة (13) بسم الله الرحمن الرحيم- وصلى الله على محمد وآله وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ بهذا الجزء نستفتح السنة الثالثة عشرة من سنوات هذه المجلة، حامدين الله تعالى على ما يسر من عمل للإسلام والجزائر، شاكرين لكل من أعان على هذه الخطوات في هذه السبيل. وسنخطو هذه الخطوة- إن شاء الله تعالى- على ما عرفه الناس من مبدئنا في الإصلاح الديني من ناحية العقائد والأخلاق والأفكار والأعمال، تصحيحا وتهذيبا وتنويرا وتقويما. كل ذلك في دائرة الإسلام كما نزل به القرآن وبينته السنة ومضى عليه- علما وعملا- السلف الصالح من هذه الأمة. وعلى ما عرفوه من مبدئنا في الإصلاح السياسي، وهو المحافظة التامة على جميع مقوماتنا ومميزاتنا كأمة لها مقوماتها ومميزاتها، والمطالبة بجميع حقوقنا السياسية والاجتماعية لجميع طبقاتنا دون الرضى بأي تنقيص أو أي تمييز كما قمنا بما أوجب علينا. والتعاون على هذين الأساسين مع كل أحد من أي جنس وأي دين مدَّ يَدَهُ للتعاون معنا. وقد بلغنا- والحمد لله- من النجاح في الإصلاح الديني أن أصبح الذين كانوا يعارضوننا لا يستطيعون أن يروجوا لأنفسهم إلا باسم العلم والكتاب والسنة. وفقهم الله إلى ما يصدقهم. وبلغنا- والحمد لله- من النجاح في الإصلاح السياسي أن أصبح أمر المحافظة على شخصيتنا أمرا اجماعيا حتى ممن كان لا يباليه أو لا يشعر به، ومعترفا به- رسميا- شيئا ضروريا في كل برنامج يوضح للجزائر.

هذا وإذا كان شيء يؤلمنا حقا ويوجب شكوانا لمن يهمهم بقاء هذه المجلة- فهو تأخر نحو شطر المشتركين عن أداء اشتراكهم أكثر من سنة مع علمهم بأن هذه المجلة لا مورد لها إلا منهم فقط، وقد عزمنا على قطعها- مع الأسف- عن جميع المتخلفين إلا المعتذرين. وإلى هذا فنحن نجدد شكرنا لأولئك الذين وازرونا- ماديا وأدبيا- حتى أمكننا- بإذن الله- البقاء إلى اليوم. وإننا عندما نشعر بثقتنا بالله ثم بهم نجد في أنفسنا القوة التي نندفع بها إلى الأمام في جميع الأعمال. والله المستعان، وعليه التكلان (1).

_ (1) ش: ج 1، م 13 1 محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.

بيان واعتذار

بيان واعتذار وردت علينا رسائل من قراء الشهاب الأفاضل المعتنين بجمع مجلداته طالبين للأجزاء المتأخرة فوجب علينا أن نبين ما صدر من الأجزاء في المجلد الرابع عشر. صدر الأول في 19 صفر 1357 صدر الثاني في 28 ربيع الأول 57 صدر الثالث في 7 جمادى الأولى 57 صدر الرابع والخامس خصصا لما قيل وما كتب بمناسبة ختم التفسير وقد تم طبعه وهو الآن بين يدي الأستاذ الإبراهيمي للمراجعة. وصدر الجزء السادس في 5 رجب 57 وصدر الجزء السابع في 17 شعبان 57 وصدر الجزء الثامن في 19 رمضان 57 وصدر الجزء التاسع في 8 ذي القعدة 57 وبه أنهينا المجلد الرابع عشر ودخلنا المجلد الخامس عشر عازمين على إصدار كل جزء في وقته وستكون أجزاؤه عامرة- إن شاء الله- تعوض على القراء وترضي ضميرنا بما لهم من الحق علينا (1).

_ 11) ش: ج 9، م 14، ص 174 غرة رمضان 1357ه - نوفمبر 1938م.

فاتحة السنة الرابعة عشرة

فاتحة السنة الرابعة عشرة بسم الله الرحمن الرحيم- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــ بحمد الله وتوفيقه وإعانته ثم بشكر المشتركين بعقولهم أو مالهم وتأييدهم- نخطو خطوة جديدة بهذه المجلة في ميدان الحياة، على ما عرفه القراء منا من صراحة في الرأي، وصلابة في الحق، ورغبة في الخير نعمل لصلاح الأمة في دينها ودنياها على نور الكتاب والسنة وهدى السلف الصالح فتتمسك الأمة بإسلامها وعروبتها وتحافظ على قوميتها وتاريخها وتتناول أسباب الحياة والتقدم من كل جنس وكل لغة، وتحمل مع كل عامل لخير البشربة وسعادة الإنسان. على هذه الأصول وفروعها مضت الثلاث عشرة سنة من حياة هذه المجلة وقد شاهدت من آثار تلك الأصول في الأمة- بحمد الله- ما زادها إيمانا بهذه الأصول وفروعها وثباتاً فيها وصبراً على ما تلقاه في سبيلها. ولأجل أن يشاركنا الجدد من قرائنا في هذا الإيمان نعرض شيئا من تلك الآثار نقتطفها من الماضي بنظرة مختصرة. الشباب: أعلن "الشهاب" من أول يومه- و"المنتقد" الشهيد قبله- أنه "لسان الشباب الناهض في القطر الجزائري" ولم يكن يوم ذاك من شباب إلا شباب أنساه التعليم الاستعماري لغته وتاريخه ومجده وقبح له دينه وقومه، وقطع له من كل شيء- إلا منه- أمله، وحقره في نفسه تحقيراً، وإلا شباب جاهل أكلته الحانات والمقاهي والشوارع، ومن وجد العمل منه لا يرى نفسه إلا آلة متحركة في ذلك العمل

الوطن

لا هم له من ورائه في نفسه فضلاً عن شعوره بأمر عام. وإلا شباب حفظه الله للإسلام والعروبة فأقبل على تعلمها لكنه تعلم سطحي لفظي خال من الروح لا يعتز بماض، ولا يألم بحاضر، ولا يطمع لمستقبل اللهم إلا أفراداً قلائل جداً هنا وهنالك. أما اليوم فقد تأسست في الوطن كله جمعيات ومدارس ونواد باسم الشباب والشبيبة والشبان ولا تجد شابا- إلا نادرا- إلا وهو منخرط في مؤسسة من تلك المؤسسات وشعار الجميع: الإسلام، العروبة، الجزائر. الوطن: وأعلن (الشهاب) من أول يومه- و (المنتقد) الشهيد من قبله- أن (الوطن قبل كل شيء) وما كانت هذه اللفظة يومئذ تجري على لسان أحد بمعناها الطبيعي الاجتماعي العام لجهل أكثر الأمة بمعناها هذا وعدم الشعور به، ولخوف أقلها من التصريح به. أما اليوم فقد شعرت الأمة بذاتيتها وعرفت هذه القطعة من الأرض التي خلقها الله منها ومنحها لها، وأنها هي ربتها وصاحبة الحق الشرعي والطبيعي فيها، سواء اعترف لها به من اعترف أم جحده من جحد، وأصبحت كلمة (الوطن) إذا رنت في الآذان حركت أوتار القلوب، وهزت النفس هزاً. فرنسا: أعلن (الشهاب) من أول يومه- و (المنتقد) الشهيد من قبله- أنه (يعمل لسعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرانسا الديموقراطية) فصور بكلمته هذه الحقيقة الواقعة عارية من براقش الخيال وحجب التلبيس والتضليل، فوضع الأمة الجزائرية بإزاء الأمة الفرنسية، إذ كل منهما لها ذاتيتها ومقوماتها ومميزاتها القلبية والعقلية والنفسية

الإدارة

والتاريخية، التي يستحيل معها أن تندمج في أمة أخرى، وضعها بإزائها على أنها تابعة لها مرتبطة بها محتاجة إلى مساعدتها. على هذه الحقيقة ناهض (الشهاب) التجنس والاندماج وناضل عن الشخصية الإسلامية غير مبال بما يعترضه من غلاة الاستعمار أكلة الأمم، ولا من صرعاهم من ضعاف النفوس، ولا من صنعائهم خربي الذمم، حتى أصبحت الأمة اليوم وهي مجمعة بجميع طبقاتها على لزوم المحافظة على شخصيتها وعدم التنازل عن شيء منها ولو حرمت كل حق بيد الظلم والعدوان، مع بقائها على فكرة الارتباط بفرنسا ومطالبتها بإنصافها قبل أن تنصفها الأيام وقبل أن تحل نقمة الله الذي جرت سنته بالانتقام من الظالم للمظلوم ولو طال الزمان. الإدارة: عانى (الشهاب) من الإدارة بسبب صراحته وجرأته ما عانى، ولكنه صبر حتى ألفت الإدارة تلك الصراحة وتلك الجرأة، وقد عرفتها الأيام أن صراحة (الشهاب) صراحة الحق والصدق وأن لا غرض وراءها إلا خدمة الصالح العام، وأن جرأته جرأة الواثق بصدق قوله وحسن قصده لا المغتر بنفسه ولا المستهين بمقام غيره، وهي اليوم تعتني بالشهاب عناية خاصة، وتتولاه أقلام للترجمة عديدة، أعلاها قلم الأستاذ ماسينيون في وزارة الداخلية، وقد اشترك فيه م سارو لما أنيطت به إدارة إفريقيا الشمالية ونحن نعلم أنه يعتبر في الدوائر الحكومية العبر الحقيقي عن الجزائر العربية المسلمة، الذي لا يثنيه عن تصوير الحقيقة خوف ولا طمع، ولا يحجبها عنه غرض، ولا يبعده عنها خيال. وأن (الشهاب) ليغتبط بهذا ويرجو من الله تعالى أن يثبته عليه حتى يخدم أمته من هذه الناحية لدى الحكومة ويكون أداة تعريف صحيح وواسطة خير للجميع.

الأمة

الأمة: برغم ما في الأمة الجزائرية من أصول الحيوية القومية، فقد عركتها البلايا والمحن حتى استخذت وذلت، وسكتت على الضيم، ورئمت للهوان، وبرغم ما بينها من روابط الوحدة المتينة- فقد عملت فيها يد الطرقية المحركة تفريقاً وتشتيتاً، حتى تركتها أشلاء لا شعور لها ببعضها ولا نفع، تتخطفها وحوش البشرية من هنا ومن هنالك بسلطان القوة على الأبدان، أو شيطان الدجل على العقول والقلوب. أما اليوم فقد نفضت الأمة عن رأسها غبار الذل وأخذت تنازل وتناضل، وتدافع وتعارض، وشعرت بوحدتها فأخذت تطرح تلك الفوارق الباطلة، وتتحلى بحلل الأخوة الحقة، وتنضوي أفواجاً أفواجاً تحت راية الإسلام والعروبة والجزائر. العلماء: كان الذين يتسمون بالعلم- إلا قليلا- بين جامد خرافي تستخدمه الطرقية وما يحرك الطرقية في التخدير والتضليل، وقد لا يدري المسكين ما يدس به للأمة من كيد، وحاذق دنيوي قد غلبه الوظيف واستولى حبه على قلبه فأنساه نفسه وأنساه ذكر الله. وكان العلماء الأحرار المفكرون- على قلتهم- مغمورين مشتتين، فلما برز (المنتقد) الشهيد فـ (الشهاب) هب أولئك العلماء الأحرار المفكرون للعمل، وتكونت النواة الأولى لجمعية العلماء، وأصبح اليوم اسم العلماء يحمل في أثنائه كل معاني الجد والتضحية في سبيل الحياة الحقيقية دنيا وأخرى. النواب: مجلدات (الشهاب) الماضية سجل يحفط اسم كل نائب وقف موقفاً مشرفاً، يطلب حقا أو يدافع باطلا فـ (الشهاب) ينوه بكل عامل

المصلحون

ويشيد بذكره ويهيب دائماً بلزوم المحافظة على شخصية الأمة وعدم التساهل في شيء منها والمصارحة في كل موقف بأنها أمة لها لغتها ولها دينها ولقد كان من يرى السكوت عن هذه الناحية أقرب للمجاملة، وكان من يرى التسامح فيها والمساهلة، وكان من يصارح ويتصلب في هذه الناصية وإن تساهل في ناحية أخرى. أما اليوم فقد أصبحت الأمة ولا يستطيع أحد أن يتقدم للنيابة عنها إلا إذا أقنعها بالمحافظة على شخصيتها والدفاع عن دينها ولغتها. وإننا لنغتبط جد الاغتباط أن نرى نواب الأمة- إلا قليلا- قد أخذوا يشعرون بما عليهم من المسؤولية في الدفاع عن الإسلام والعربية، وأن نسمعهم- وقد سمعنا بعضهم- يرصعون خطبهم العامة بكلمات: إسلام، عربية، تاريخ، وطن، أمة وإنا لنرجو أن تكون لهم مواقف في هذه الناحية كما كانت لهم مواقف في النواحي الأخرى هذه الناحية في نظر الأمة، وفي الواقع أجل وأعز منها. المصلحون: ليس المصلحون حزبا- وربما يكونونه يوما من الأيام- وإنما هم العاملون على الأصول التي ذكرناها آنفا، وتحدثنا عن آثارها. كانوا يوم رفع (الشهاب) وقبله (النتقد) الشهيد دعوة الإصلاح قليلا، وهم اليوم لا يأخذهم العدو لا تخلو بقعة من نواحي القطر منهم، قد ملأوه من أقصاه إلى أقصاه، وقد تجلت قوتهم في الانتخابات الكثيرة بعمالة قسنطينة وعمالة وهران وهم لم ينتظموا انتظام الأحزاب فكيف لو انتظموا؟ الطرقية: كان الناس كأنهم لا يرون الإسلام إلا الطرقية، وقد زاد ضلالهم

ما كانوا يرون من الجامدين والمغرورين من المنتسبين للعلم من التمسك بها والتأييد لشيوخها، فلما ارتفعت دعوة الإصلاح في (المنتقد) و (الشهاب) حسب الناس أن هدم تلك الأضاليل التي طال عليها الزمان، ورسخها الجهل، وأيدها السلطان، محال. ولقد صمد (الشهاب) للطرقية يحارب ما أدخلته على القلوب من فساد عقائد وعلى العقول من باطل أوهام، وعلى الإسلام من زور وتحريف وتشويه، إلى ما صرفت من الأمة عن خالقها بما نصبت من أنصاب، وشتت من كلمتها، بما اختلقت من القاب، وقتلت من عزتها، بما اصطنعت من إرهاب، حتى حقت للحق على باطلها الغلبة، فهي اليوم معروفة عند أكثر الأمة حقيقتها، معلومة غايتها، مفضوحة دوافعها ... إذا دعاها داعي السلطان لبت خاضعة مندفعة، وإذا دعاها داعي الأمة ولت على أعقابها مدبرة. ومن نكاية الله بها أن جعل أكبر فضيحتها على يد من يريد ممن توالتهم من دون الأمة مددها بما لها من مزايا عليه. لا يهمنا اليوم أن تجهز على الجريح المثخن الذي لم يبق منه إلا ذماء، وإنما يهمنا أن نبين موقفنا مع البقية من شيوخها ونسمعهم صريح كلمتنا. حاربنا الطرقية لما عرفنا فيها- علم الله- من بلاء على الأمة من الداخل ومن الخارج فعملنا على كشفها وهدمها مهما تحملنا في ذلك من صعاب، وقد بلغنا غايتنا والحمد الله وقد عزمنا على أن نترك أمرها للأمة هي التي تتولى القضاء عليها ثم نمد يدنا لمن كان على بقية من نسبته إليها لنعمل معاً في ميادين الحياة على شريطة واحدة وهي: أن لا يكونوا آلة مسخرة في يد نواح اعتادت تسخيرهم، فكل طرقي مستقل في نفسه عن التسخير فنحن نمد يدنا له للعمل في الصالح العام. وله عقليته لا يسمع منا فيها كلمة وكل طرقي- أو غير طرقي- يكون أذنا سماعة، وآلة مسخرة فلا هوادة بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله.

قد نبذنا إليكم على سواء ... {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}. هذا عرض سريع لصور من الماضي والحاضر، لنواح عديدة من الأمة والوطن وما يتصل بهما، يبين ما كان من تأثير تلك الأصول الإسلامية التي تمسك بها "الشهاب" فيها. فالله نرجو أن يثبتنا على الحق ويعيننا على الصدع به، وصدق تنفيذه، وحسن تبليغه، حتى يبلغ المسلمون كل خير وسعادة وكمال (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 2، م 14، ص 1 - 7 غرة محرم 1357ه - مارس 1938م.

فاتحة السنة الخامسة عشرة

فاتحة السنة الخامسة عشرة الحمد لله وحده والصلاة والسلام على الرسول وآله. ــــــــــــــــــــــــــــــ وهذه أول خطوة نخطوها- إن شاء الله تعالى- إلى العام الخامس عشر من حياة هذه المجلة حامدين الله على عونه وتوفيقه وتيسيره، شاكرين لأسرة المجلة- من مشتركيها ومحرريها وطابعيها وناشريها- أعمالهم التي هي أعمال في سبيل الإسلام والعروبة والجزائر، ذاكرين كل ذي خير بكل خير. هذا وإننا نجدد العهد بيننا وبين قرائنا على السير على ما عرفوه فينا من صدق وصراحة وقصد للخير، غير متملقين لأحد ولا متحاملين عليه، مع المحافظة التامة على شخصيتنا وكل مقوِّماتنا الكريمة مما به كنا- وبه بقينا، وبه نكون، دون تفريق في العدل والإحسان بين الأجناس والأديان. والمجد للإسلام والعروبة والجزائر، والسعادة للعاملين من الأفراد والأمم لخير الإنسان (1).

_ (1) ش: ج 1، م 15؛ ص 1 غرة محرم 1358ه - فيفري 1939م.

قسم الصلاة على النبي

آثار ابن باديس قسم الصلاة على النبي

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -1 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -1 - تمهيد، مكانتها، ثمرتها. القسم العلمي، معناها لغة، معناها شرعا، مزية لفظها، من تكون منه، من تكون عليه، نفي الاشتراك عنها، تفسيرها باللازم. ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أصول الأذكار في الإسلام ومن أعظمها، فإن الله- تعالى- أمر بها المؤمنين على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب، وجعلها من الأذكار اليومية المتكررة في الصلوات، وهي ذكر لساني بتلاوة لفظها، وقلبي بتدبر معانيها، ومثرة لرسوخ الإيمان وشدة المحبة وتمام التعظيم له- صلى الله عليه وآله وسلم- المثمرين لأتباعه، المحصل لمحبة الله عبده، وتلك غاية سعادة المخلوق ونهاية كماله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فمما يتأكد على كل مسلم أن يكون على شيء من العلم بهذا الكنز العظيم، وسنأتي من ذلك بما يفتح الله تعالى به في هذا المقال. القسم العلمي: الصلاة في لسان العرب قبل الإسلام وردت بمعنى الدعاء، قال الأعشى:

وصَهْبَاءَ طَافَ يَهُودِيُّهَا … وأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا … وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ قال صاحب اللسان: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد. وقال الأعشى أيضاً: عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي … يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا أي دعوت، فالدعاء هو معناها اللغوي الأصلي وعليه جاءت كلمات كثيرة في الكتاب والسنة فمنها "وصلوات الرسول" أي دعواته "وصل عليهم"، أي أدع لهم وحديث «إذا دعي أحدكم لطعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل» أي فليدع لأرباب الطعام و"الصلوات لله" أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله هو مستحقها لا تليق بأحد سواه كما في "اللسان". جاءت هذه الكلمات وأمثالها على المعنى اللغوي الأصلي، وجاء مثل قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقوله- صلى الله عليه وسلم- «لا صلاة لجار المسجد في غير المسجد» مراداً به عبادة مخصوصة ذات أقوال وأفعال وتروك على هيئة خاصة من جملة أجزائها الدعاء، ولا شك أن إطلاقها على هذا المعنى إنما هو إطلاق شرعي ولكنه غير خارج عن أساليب كلام العرب فإنه من باب تسمية الشيء باسم جزئه فإطلاق هذا اللفظ على هذه العبادة المخصوصة حقيقة شرعية مجاز لغوي وليس هذا هو مرادنا هنا. وقد كان الظاهر لما كانت بمعنى الدعاء أن تتعدى بالكلام ولكنها تعدت بعلى لما فيها من معنى العطف فصلى عليه يؤدي معنى قولنا: دعا له عاطفاً عليه وهذا هو السر في اختيار لفظها على لفظه لتؤدي

المعنيين: الدعاء والعطف، وإن كان لفظ الدعاء يقتضي عطفاً فذلك بطريق الاستلزام، وهو دون دلالة التضمن. تكون هذه الصلاة من المخلوق على المخلوق ومن الخالق على المخلوق. فمن الأول صلاة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على المؤمنين كما في آيتي سورة التوبة المتقدمتين ومنها قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «اللهم صل على آل أبي أوفى» فقد دعا لهم وسأل الله تعالى أن يصلي عليهم. وصلاته على نفسه في تشهده في الصلاة، ومنه صلاة الملائكة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كما في آية الصلاة من سورة الأحزاب، وصلاتهم على المؤمنين كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ويفسر هذه الآية قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} وهذا منهم دعاء عام. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}. وهذا دعاء خاص. وكما في حديث «من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة عشرا» وحديث «إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه». ومنه صلاة المؤمنين على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الأنبياء وعلى الملائكة وعلى عامة المؤمنين بطريق التبع فهي سؤالهم من الله تعالى ودعاؤهم إياه أن يصلي على نبيه ومن ذكر قبل معه فهذه كلها من القسم الأول وهو صلاة المخلوق على المخلوق وكلها لم تخرج عن معنى الدعاء. وأما القسم الثاني وهو صلاة الخالق على المخلوق فمنها صلاته

على المؤمنين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. وصلاته على الصابرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. وعلى نبيه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. قد تنوعت عبارات العلماء سلفاً وخلفاً في تفسير صلاته تعالى على من ذكر من خلقه ففسرت بالرحمة- والجمع في قوله {صَلَوَاتٌ} باعتبار أنواع آثارها ومواقعها وقوله بعدها {وَرَحْمَةٌ} نوع منها خاص- وفسرت بالمغفرة، وفسرت بثنائه عند ملائكته على المصلي عليه- من باب ذكرته في ملاء خير منه- وفسرت بإعطائه وإحسانه، وفسرت بتعظيمه، ولا خلاف في الحقيقة بين هذه التفاسير، فإن مغفرته من رحمته وأن ثناءه من رحمته وأن إعطاءه وإحسانه من رحمته وأن تعظيمه من رحمته. فرجعت كلها إلى تفسيرها بالرحمة. لو قلنا بعد هذا أن الصلاة لها معنيان الدعاء والرحمة لكانت من باب المشترك، والاشتراك خلاف الأصل فلذا نقول- كما قال جماعة من المحققين- إن الصلاة معناها واحدة وهو الدعاء فأما من المخلوق فبدعائه الخالق وهو ظاهر، وأما من الخالق فبدعائه ذاته لإيصال الخير والنعمة للمصلي عليه على تفاوت المراتب، ومن لازم هذا رحمته له بالمغفرة والثناء والتعظيم وأنواع العطاء والإحسان. فالذين فسروا الصلاة من الله بالرحمة فسروها باللازم والذين فسروا بغير الرحمة،

فسروا بمقتضيات ذلك اللازم فلها إذن معنى واحد وهو الدعاء ولكنه يحمل في كل واحد من الجانبين على ما يليق به (1).

_ (1) ش: ج 5، م 5، ص 1 - 5. غرة محرم 1348ه - جوان 1929م.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -2 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -2 - تاريخ مشروعيتها، آية مشروعيتها، شيء من تفسير الآية. ــــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أذكار الصلاة ولكنها لم تشرع يوم شرعت الصلاة بمكة بل كانت مشروعيتها بعد بضع سنوات من الهجرة، وذلك يوم نزلت آية الأمر بها من سورة الأحزاب وهي سورة مدنية، ففي الترمذي وغيره- عن كعب بن عجرة-: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ... الآية} قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، فعلمهم حينئذ كيفيتها كما يأتي بيانه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، هو آية الأمر بالصلاة على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب. فمن التأكد للأمر التوطئة له بجملتين: الجملة الإسمية المصدرة بحرف التأكيد، والجملة الفعلية الندائية، ومن أعظم الترغيب في امتثال هذا الأمر جعل امتثاله اقتداء بالله وملائكته. وفي عطف الملائكة عليه تعالى تنبيه على ثمرة الامتثال والاقتداء، وهي نيل أشرف المنازل العليا، فإن الملائكة- عليهم السلام- بإمتثالهم أمر ربهم واقتدائهم به- جل اسمه- في الصلاة على أكرم خلقه-

صلى الله عليه وآله وسلم- نالوا شرف اقتران اسمهم باسمه، وفي هذا ووراءه من الشرف والسعادة ما فيه. وقوله- تعالى-: {يُصَلُّونَ}، على معناه اللغوي والأصلي وهو الدعاء، غير أن الملائكة يدعون ربهم له - صلى الله عليه وآله وسلم- والله تعالى يدعو نفسه، والمراد- وتذكر ما قدمنا- لازم ذلك وهو إنعامه الخاص الذي يرضاه لأكرم خلقه، وتقصر عقولنا عن الإحاطة به وقد عبر الناس عنه بعبارات نقلنا بعضها في القسم الأول. وفي صيغة الفعل المضارع دليل على تجدد هذه الصلاة. فالملائكة- عليهم السلام- لا يفتؤون يصلون ويدعون، والله- تعالى- لا تنقطع انعاماته على النبي الكريم، وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- بتلك الإنعامات الربانية لا يزال أبدا مترقيا في درجات الكمال، ويؤيد هذا عموم قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. وفي هذا ترغيب للمؤمنين في مداومة الصلاة عليه حسب الجهد والطاقة في الصلاة وغيرها. وقيل هنا {عَلَى النَّبِيِّ} ولم يقل على الرسول. وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- نبي ورسول. ذلك لأن الرسول هو المبعوث لأداء الرسالة من الخالق إلى الخلق فالجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى التلقي والأخذ عن الذي أرسله، والنبي هو المخبر المبلغ للرسالة إلى الخلق من الخالق، والجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى إعلام الخلق وإرشادهم وهدايتهم بما جاء به من عند خالقهم. فاختير اسم النبي هنا على اسم الرسول لوجهين. الأول: التنبيه على أنه قام بأعباء الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الخلق ونفعهم فجازاه الله على هذا العمل العظيم بهذا الجزاء العظيم وكما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- معلنا بتوحيد الله

وتسبيحه وتقديسه وحمده أمام العالم بأسره، كذلك أعلن الله فضله ومكانته بصلاته عليه أمام جميع خلقه، وفي هذا تنييه للمؤمنن على عظم الجزاء عند عظم العمل، وعلى إعلائه- تعالى- شأن العاملين على إعلاء كلمته على قدر جهادهم في سبيله وإخلاصهم في ابتغاء مرضاته. الثاني: أنه بذلك التبليغ قد جلب للمؤمنين أعظم النفع وأكمل الخير وهو سعادة الإيمان في العاجل والآجل. فمن بعض حقه عليهم أن يقوموا- لتعظيمه وتكريمه- بالصلاة عليه. فتكون صلاتم عليه- وهي سبب أجر عظيم ونفع كبير لهم- كالجزاء لعظيم إحسانه، والاعتراف بجزيل جميله. فاسم {النَّبِيِّ} بهذين الوجهين، أنسب بالمقام، وأدخل في التأكيد والترغيب ولهذا اختير. وقوله- تعالى-: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أمر ثان معطوف على الأمر الأول فيفيد النَّسق طلب الجمع بين مدلوليهما في الامتثال. ولذاكره العلماءُ إفراد الصلاة عن السلام. وسلم: يأتي بمعنى الانقياد ويتعدى باللام، ومنه قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ويأتي بمعنى قال له السلام عليكم ويتعدى بعلى ومنه قوله- تعالى-: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}، ومنه هنا {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي حيوه بتحية الإسلام. وقد ثبت عن الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم لما سألوه عن كيفية الصلاة،

قالوا له السلام قد علمنا فبين لهم كيفيتها وقال لهم والسلام كما قد علمتم، وقد كان علمهم كيفية السلام في التشهد وهي: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته))، كما في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح. وبعد هذا لا يبقى وجه لتجويز حمل التسليم هنا على معنى الانقياد كما زعمه الجصاص وغيره، ويا لله من الجري وراء الاحتمالات، والغفلة عن التفسير النبوي الصحيح الثابت المأثور. وقوله تعالى: {تَسْلِيمًا}، مصدر مؤكد، والتأكيد بالصدر يكون لرفع احتمال المجاز كما في "قتلته قتلا" دفعا لتوهم المجاز عن الضرب الشديد، ويكون لتثبيت معنى الفعل من جهة الحدث ببيان أنه فرد كامل من نوعه لا نقص فيه كما في "أكرمت زيدا إكراماً" بمعنى أن الذي كان منك له هو إكرام لا شبهة فيه- والتأكيد هنا من هذا النوع- فإن المسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكمل سلامه إلا إذا طابق قلبه ولسانه وجرى على مقتضاهما عمله، فلم تكن منه للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا السلامة في دينه وكتابه وأمته، وهذا هو الذي يقال فيه أنه سلم تسليما. ونظير هذا ما في الآية الأخرى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فيكون منهم الإنقياد التام لحكمه في الظاهر والباطن بلا أدنى شبهة في العقل ولا أدنى حزازة في القلب ولا أدنى توقف في العمل. فقد أمرنا بالآيتين بالتسليم الكامل بمعنييه، ليكون هو الغاية التي نرمي إليها، ونسعى في تحصيلها، وحتى إذا أخطانا مرة أصبنا مرات وإذا انحرفنا رجعنا إلى الجادة من قريب ومن داوم على القصد أعين على الوصول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. ومن لازم التوبة أتحف بالقبول، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

وفي قول المربي الأكبر، عليه وآله الصلاة والسلام: «استقيموا ولن تحصوا»، وقوله «سددوا وقاربوا»، جماع السلوك الإسلامي كله إلى غايات الكمال، والله المستعان (1).

_ (1) ج 6، م 5، ص 1 - 5 غرة صفر 1348ه - جويلية 1929م.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -3 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -3 - توقف الصحابة- رضي الله عنهم-، وجوه توقفهم، سؤالهم، أول من سأل منهم، ما يستفاد من هديهم في هذا المقام، لزوم الاقتداء بهم، حديث بيان الكيفية، رواته، ألفاظه، الجمع بينها، الإقتصار على الصحيح من الروايات، كلام الحافظ ابن العربي. ــــــــــــــــــــــــــــــ لما سمع الصحابة- رضي الله عنهم- الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- من الآية المتقدمة فهموا أنهم أمروا بالدعاء له لأن الدعاء هو معنى الصلاة لغة كما قدمنا. وإنما الذي أشكل عليهم هو كيفية هذا الدعاء، ووجه هذا الإشكال أمور: الأول: - علمهم بكمال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ورفعة مقامه عند ربه، وجزيل إنعامه لديه فلم يدروا ما هو النوع الأكمل من الإنعام اللائق بمنصبه الرفيع ليدعوا له به. الثاني: - إن ألفاظ الدعاء كثيرة وصفاتها مختلفة فما هو أنسبها بمقامه الشريف؟ الثالث: - إن الصلاة عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- أمر تعبدي والعبادات لا سبيل إليها إلا التوقف. وأكد لهم هذا أن الصلاة قد قرنت بالسلام وقد تقدم لهم التوقيف في السلام فترقعوا مثله في الصلاة.

فلما أشكل عليهم الأمر طلبوا منه- صلى الله عليه وآله وسلم- البيان. ففي الترمذي عن كعب بن عجرة لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} الآية، قلنا يارسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، وقوله: "لما" يفيد أن سؤالهم كان عند النزول وقوله "قلنا" يفيد أن السؤال كان من جميعهم ولو كان السائل المتكلم واحد فإنه يتكلم بلسان الجميع لأنهم له موافقون. ومثل هذا قول أبي حميد "إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك" وقول أبي سعيد "قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي" وأول من سأله- فيما أرى- بشير بن سعد الأنصاري- لأنه لما سأله- صلى الله عليه وآله وسلم- كيف نصلي عليك"- سكت ثم أجابه بالبيان. والظاهر أن سكوته كان لانتظار الوحي إليه فلما أوحى إليه بالبيان، بين. وجاء البيان متأخرا عن نزول الآية واقعا بعد سؤالهم لأنه من البيان التفسيري وجائز تأخره على الصحيح وهذا من أمثلته. وهنا نكت من هدى الصحابة- رضوان الله عليهم- في هذا المقام ينبغي التنبه لها والتدبر فيها، فمنها شدة تعظيمهم للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وتمام تحريهم في إجلال ذكره واحترام كل ما يتصل بجنابه. ومنها حرصهم على الإتيان بعين ما يختاره الله لهم ويرضاه منهم عن اللفط الأكمل الأفضل الذي يتقربون به إليه في تعظيم حبيبه ومصطفاه- صلى الله عليه وآله وسلم-. ومنها شدة تحريهم لدينهم بتوقفهم فيما كان عندهم محتملا ولم يقطعوا فيه بشيء. ومنها شدة عنايتهم بالعلم، فبادروا إلى طلب البيان ومنها وقوفهم في باب العبادة عند حد التوقيف لأنه لا مجال فيها للرأي ولا مدخل فيها للقياس. كل هذا من هديهم- رضوان الله عليهم- حق على المسلمين أن يتدبروه ويتبعوهم فيه وينظروا في أمورهم ما هو منها موافق لهديهم

أو قريب منه وما هو مباين له بعيد عنه فلا وربك لا يكون الخير إلا في موافقتهم ولا غيره إلا في مخالفتهم. وكل امرئ- بعد هذا- بنفسه بصير. عدنا إلى حديث بيان كيفية الصلاة. ونقتصر من متونه على الصحيح الثابت المتفق عليه مما في الوطأ والصحيحين. وقد جاء فيها عن أربعة من الصحابة- رضوان الله عليهم-. الأول: أبو حميد الساعدي عند الثلاثة والشيخان خرجاه عنه من طريق مالك، قال- رضي الله عنه- "إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" وفي رواية مسلم "وعلى أزواجه" بزيادة"على" في الموضعين. الثاني: أبو مسعود الأنصاري في الموطأ وصحيح مسلم ومن طريق مالك رواه مسلم قال: "أتانا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد "ابن ثعلبة" أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك قال فسكت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تمنينا أنه لم يسأله "لأنهم كانوا يكرهون كل ما يرونه أنه يكرهه أو يشق عليه" ثم قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم". وفي بعض روايات الموطأ "كما صليت على إبراهيم" و"كما باركت على إبراهيم" بدون لفظة"آل" في الموضعين وفي بعضها بدونها في الأول. الثالث: كعب بن عجرة في الصحيحين قال- رضي الله عنه-

"سألنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" هكذا أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء من كتاب بدع الخلق. وخرجه في سورة الأحزاب من كتاب التفسير وفي كتاب الدعوات هكذا: "كما صليت على آل إبراهيم" و "كما باركت على آل إبراهيم" بدون "على إبراهيم" في الموضعين وعلى هذا الوجه خرجه مسلم. الرابع: - أبو سعيد الخدري عند البخاري في أحاديث الأنبياء والتفسير قال- رضي الله عنه-: "قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وفي رواية أخرى للبخاري "كما صليت على آل إبراهيم" بزيادة لفظة "آل" وليس في آخرها وعلى آل إبراهيم. وهذه المتون الصحيحة كلها قد اتفقت واختلفت اتفقت في عمود الكلام وصلب المعنى ومعظم الكلمات واختلفت في كلمات قليلة. فمنها لفظة "على" كما في حديث أبو حميد وهي كلمة ذكرها كحذفها من جهة المعنى لأن حرف العطف مغن عنها فقد تكون في الأصل وأسقطها الراوي نسيانا أو اختصارا وقد لا تكون وزادها من زادها نسيانا أو بيانا ومنها لفظة "الآل" في حديث أبي مسعود فهي ثابتة في رواية من أثبتها وتحتمل السقوط على وجه النسيان في رواية من أسقطها ويحتمل أنه كذلك سمع بدونها وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مرة ذكرها ومرة حذفها. ومنها زيادة عبدك ورسولك

في حديث أبي سعيد وزايدة في العالمين في حديث ابن مسعود وذكر الأزواج والذرية، بدون الآل في حديث أبي حميد. والظاهر في هذه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنوع بيانه في المقامات فاختلفت الروايات وهي مختلفة غير متناقضة فتفيد المعاني المتغايرة غير المتضاربة. وهي بهذا نظير اختلاف القراءات في صحيح الروايات. هذا الذي ذكرناه من الروايات هو الصحيح المتفق على صحته وثبوته ووراءها روايات ليست في درجتها رأينا الاكتفاء بالصحيح عنها. وقد قال الإمام الحافظ ابن العربي في تفسير سورة الأحزاب من أحكامه، بعدما ذكر ثماني روايات- من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما روى مالك "حديث أبي حميد وحديث أبي مسعود فاعتمدوه". ورواية من روى غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها "غير الرحمة" لا يقوى. وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم وهم لا يأخذون في البيع دينارا معينا وإنما يختارون السالم الطيب. كذلك في الدين لا يؤخذ من الروايات عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا ما صح سنده لئلا يدخل في خبر الكذب على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين". وسنتكلم على كيفية استعمال هذه الروايات المتقدمة عند الذكر والصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في القسم العملي، إن شاء الله تعالى وبه المستعان (1).

_ (1) ج 7، م 5، ص 1 - 6 غرة ربيع الأول 1348ه - أوت 1929م.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -4 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -4 - صيغ الصلاة الثابتة، تفسير الصيغ، لفظ البركة، الأزواج، الذرية، الآل، معناه، اشتقاقه، موارد استعماله، توجيه الخلاف في تفسيره، الراجح منها، آل إبراهيم، تفسيره، دخول إبراهيم فيه، توجيه في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــ قد حصل لنا مما تقدم في روايات حديث بيان الصلاة أربع صيغ لها: الأولى: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". الثانية: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين. إنك حميد مجيد". الثالثة: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". الرابعة:، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على

إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم". فأما الصلاة المطلوبة من الله تعالى في جميع هذه الصيغ فهي مغفرته وثناؤه وتعظيمه وإحسانه وإعطاؤه وكلها ترجع إلى رحته- كما تقدم. وأما البركة المطلوبة في جميعها أيضا فهي- لغة- النماء والزيادة والمقصود هنا زيادة الخير والكرامة وتكثير الأجر والمثوبة. وفسرت بدوام ذلك وثباته لأن أصل مادة بارك يدل على الثبوت ومنها بروك الإبل وثبوتها على الأرض. وقد يعتبر في الشيء الثابت قوته وزكاوة أصله فيستلزم ذلك كثرته ونماؤه. وعلى هذا الاعتبار جاء لفظ البرك (كحبل) اسما للإبل الكثيرة، في قول متمم بن نويرة: إِذَا شَارِفٌ مِنْهُنَّ قَامَتْ وَرَجَّعَتْ … حَنِيناً فَأَبْكَى شَجْوُهَا الْبَرْكَ أَجْمَعَا فتفسيرها بالنماء والزيادة مأخوذة فيه ثباتها ورسوخها فلا يكون خارجا عن المعنى الأصلي للمادة. وأما أزواجه في الصيغة الأولى فهن أمهات المؤمنين الطيبات الطاهرات عليهن الرضوان. وأما ذريته فيها أيضا فهم من كان للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، ولادة عليه من ولده وولد ولده ممن آمن به. وأما الآل في جميعها فهو- لغة- أهل الرجل وعياله، وهو أيضا الاتباع ومن الأول قوله - صلى الله عليه وآله وسلم- "إن الصدقة لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس" ولا خلاف أن المراد بالآل هنا ذوو قرابته من بني هاشم والمطلب أو من بني هاشم فقط أو من بني قصي أو قريش كلها على اختلاف بين الفقهاء في تحديد القرابة المرادة. ومن

وفسر بقرابته

الثاني قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} والمراد هنا اتباعه في ملته وملكه وسلطانه. ومنه قول الأعشي: فَكَذَّبُوهَا بِمَا قَالَتْ فَصَبَّحَهُمْ … ذُو آلِ حَسَّانَ يُزْجِي السَّمَّ والسَّلَعَا قال في "اللسان" يعنى جيش تبع. وفسر هنا بجميع أمته ممن آمن به، وإليه ذهب مالك، قال النووي: وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين. وفسر بقرابته: وفسر بأهل بيته- صلى الله عليه وآله وسلم- أزواجه وذريته. وتحقيق هذه المسألة أن لفظة "آل" أصله أول من مادة- ا- و-ل- وقد ثبت تصغيره على أويل فرد التصغير ألفه إلى الواو أصلها فعرفت بذلك مادته المذكورة. وزعم بعضهم أن أصله أهل وادعوا أنه صغر على أهيل. ولا حجة لهم في ذلك لأننا نسلم مجيء أهيل عن العرب وتمنع أن يكون تصغيرا لآل بل هو تصغير لأهل. وكونه تصغيرا لأهل ظاهر ملفوظ وكونه تصغيرا لآل دعوى لا دليل عليها. وما كان في نفسه دعوى بلا دليل لا يصلح أن يكون دليلا لدعوى أخرى فلم يقم حينئذ دليل على أن آل أصله أهل يعارض الدليل الذي قام على أن أصله أول. وإذا ثبت أن آل من مادة- ا- و-ل-، وهي بمعنى الرجوع- تقول آل إلى خير بمعنى رجع إلى خير- فئال الشيء هو ما يرجع إلى ذلك الشيء وينتهي إليه بوجه من الوجوه. وعلى هذا جاء استعماله في كلام العرب.

قال الفرزدق: نَجَوْتَ وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْكَ طَلَاقَةً … سِوَى رَبَّةُ التَّقْرِيبِ مِنْ آلِ أَعْوَجَا عني فرسا من نسل اعوج وهو فحل مشهور في خيل العرب تنسب إليه الاعوجيات فئاله نسله لأنه يرجع إليه بالنسب. وقال عبد المطلب بن هاشم- في قصة أبرهة الحبشي لما جاء لهدم البيت داعيا ومستنصرا الله على أبرهة وجنده: لا هم ان العبد يمـ … ـنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم … ومحالهم غذوا محالك وانصر على آل الصليب … وعابديه اليوم آلك فئال الصليب هم الحبشة النصارى عباد الصليب فرجعوا إليه بوجه العبادة والتعظيم. وآل الله هم قريش سدنة بيته وقطان حرمه، وأواة حجيجه فرجعوا إلى الله تعالى بهذه الأسباب فاتباعه- صلى الله عليه وآله وسلم- وأقاربه وأزواجه وذريته- كل يصدق عليه آل لأنهم كلهم يرجعون إليه. وإنما الخلاف في ترجيح المعنى الذي ينبغي حمل اللفط عليه في أحاديث الصلاة فمن فسره بالأزواج والذرية قال لأنهم هم المصرح بهم في الرواية الأولى فحمل إحدى الروايتين على الأخرى. ومن فسره بالأقارب حمل حديث الصلاة على حديث تحريم الصدقة. والآل هنالك بمعنى الأقارب فلا خلاف. فرجع بالمخنلف فيه إلى المتفق عليه. ومن فسره بالاتباع رأى أن أتباعه بالإيمان به أمر لا بد منه في

الدخول تحت لفط الآل هنا، فإن من كان من أقاربه غير متبع له- كأبي لهب- غير داخل في لفط الآل هنا قطعا. فحمل اللفظ على الاتباع لأنه المعنى المشتمل على الوصف الذي لا بد منه في هذا المقام. وروى أيضا أن هذا المعنى أعم فهو الأنسب بمقام الدعاء. وكما أن مساق حديث الصدقة عيَّن معنى الأقارب هنالك كذلك مقام الدعاء يرجح معاني الاتباع هنا. ولا معارضة بين الروايات التي فيها لفط الآل مراد به الاتباع، والرواية التي فيها الأزواج والذرية، لأن تلك جاءت بالمعنى العام وهذه خصصت بالذكر نوعا من ذلك العام لمزية فيه. فأزواجه وذريته- رضوان الله تعالى عليهم- مصلى عليهم في اللفظ العام على وجه العموم، وباللفظ الخاص على وجه الخصوص لما لهم من مزيد الاختصاص. ولهذه الأدلة نرى هذا التفسير ارجحها. وأما آل إبراهيم فقد قال قوم هم ذريته وقال ابن عباس- رضي الله عنه- هم اتباعه على ملته. ونزع بقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} واقتصر على قوله ابن جرير الطبري في تفسير الآية من تفسيره الكبير. فابن عباس في تفسيره الآل بالاتباع هو سلف مالك في تفسيره له بذلك. وابن جرير في ترجيحه لقوله هو سلفنا في الترجيح. قال الإمام ابن عبد البر: "آل إبراهيم يدخل فيه إبراهيم وآل محمد يدخل فيه محمد". ومن هنا جاءت الآثارة مرة بإبراهيم ومرة بآل إبراهيم وربما جاء ذلك في حديث واحد. ومعلوم أن قوله تعالى:

{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أن فرعون داخل فيهم. وهذا من طريق مفهوم الإضافة الأحروي لأن المضاف إذا تعلق به حكم بعلة الإضافة فالمضاف إليه أحرى بذلك الحكم وأولى كما تقول: - ما ثبت للتابع بعلة التابعية فالمتبوع أحرى به وأولى. فإذا كان آل إبراهيم مصطفين ومصلى عليهم لأنهم آله أي اتباعه- فهو مصطفى ومصلى عليه بطريق الأحرى للوجه الذي ذكرنا (1).

_ (1) ج 8، م 5، ص 1 - 6 غرة ربيع الثانى 1348ه - سبتمبر 1929م.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -5 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -5 - معنى العبد في اللغة، استعماله فيها، ما أقره الإسلام وما أبطله، معنيا الملك. عموم العبودية، وجها إضافة العبد لله، معنى العبادة، لمن تكون؟ مقام العبودية، أكمل العباد، أصدق وصف المخلوق، تواضعه، معنى الرسول، توجيه الترتيب. حديث الإطراء ومعناه. ــــــــــــــــــــــــــــــ أما قوله "عبدك" في حديث أبي سعيد عند البخاري فالعبد - قال الأئمة- "خلاف الحر" والحر من لا ملك لأحد عليه، فالعبد هو المملوك، والعبودية هي طاعته مع الخضوع والتذلل (1). والملوكية التي هي أصل المعنى مستلزمة لها. وجاء في كلامهم مضافا إضافة ملك للبشر فقالوا عبد زيد أي مملوكه. وإلى الخالق تعالى مالك الجميع فقالوا عبد الله، وإلى معبوداتهم الباطلة فقالوا عبد العزى وعبد اللات بناء على شركهم وزعمهم أن طواغيتهم تملك مع الله وإن كان هو مالك الجميع، كما كانوا يقولون في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". جاء الإسلام فأقر إضافتين وأبطل واحدة، وذلك أن الملك أما ملك

_ (1) قال بعضهم أن العبد مأخوذ من الطريق المعبد أي المدلل بوطيء الأقدام. وهذا ليجعلوا الذل من مفهوم العبد. وأنا أرى أن الذل لازم لمفهوم العبد وهو المملوك وأنه هو أصل المادة وأن المعبد- اسم مفعول مشتق- هو المأخوذ منه فمعبد معناه مذلل كما يذلل العبد.

حقيقي ثابت بالخلق والحفظ والإنعام وهذا ليس إلا لله فكل أحد فهو عبد الله. وأما ملك مجازى متنقل بسبب معاوضة أو عطية أو إرث وهذا هو ملك العباد وعلى هذا المعنى يقال عبد زيد أي مملوكه. وأما الطواغيت فلا ملك لها بالوجهين فلا تجوز إضافة العبد إليها. وقد جاء في إضافة الملك المجازي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله ولكن ليقل فتاي، ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي" والنهي عن هذا لما فيه من التطاول والتعاظم والارتفاع ولا بأس به إذا كان في النادر للبيان والتعريف. العبودية لله وصف عام ثابت في كل مخلوق، فكل مخلوق هو عبد لله مملوك له، في دائرة خلقه، وقبضة أمره، خاضع ذليل منقاد لتصرفات قدره. والعبد يضاف لله تعالى بهذا المعنى إضافة عامة لا فرق فيها بين بر وفاجر، وقد قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. ويضاف إليه إضافة خاصة إذا كان العبد قد عرف عبوديته لربه علماً، وقام بواجبها عملاً، فأطاع مولاه طاعة المملوك لمالكه عن علم واختيار. بذل وخضوع وانكسار، بلا امتناع ولا اعتراض ولا استكبار، وقد جاء على هذا قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ومنه قوله {عبدك} هنا.

والعبد المضاف إلى الله تعالى بهذا الوجه هو المملوك المطيع، وطاعته بذل وخضوع هي عبادته. ولما كان ليس مملوكا إلا لله فلا تكون طاعته إلا لله فلا يجوز لأحد أن يطيع أحداً إلا في طاعة الله فتكون طاعته في الحقيقة لله، فطاعتنا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هي- بالقطع- طاعة لله، وطاعتنا لغيره لا تجوز إلا إذا عرفنا أنها في مرضاة الله. وقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» رواه الشيخان وأبو داوود والنسائي عن علي رضي الله عنه وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه، عن عمران والحكم بن عمر والغفاري رضي الله عنه. ولما كانت الطاعة- التي هي العبادة- بها يحصل الكمال الإنساني للفرد في عقله وأخلاقه وأعماله، وللنوع في اجتماعه وعمرانه، وهذا الكمال هو سعادة الدنيا- المفضية إلى السعادة الكبرى في الحياة الأخرى - كانت العبودية أشرف حال وأعظم مقام وأفضل وصف للإنسان، وكان أفضل إنسان أرسخ الناس قدما في هذا المقام. ولما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك كان أفضل الخلق وكان- كما قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «سيد ولد آدم ولا فخر» - ولهذا ذكر بوصف العبودية في مقام التقريب والتكريم في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وفي مقام الترفيع والتعظيم في آية الإسراء وجعل على مقتضى ذلك وصفه به في ذكر الصلاة ومقام الثناء والدعاء. ولفط العبد كما أنه أكمل وصف للإنسان على ما بينا- هو أصدق وصف له وأشده بعدا عن الكبرياء والعظمة والترفع.

ولذا لما خير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بين أن يكون نبياً عبداً، فإن الملك لا بد له من مظاهر السيادة والسلطان، وإن كان بعدل وحق كملك داوود وسليمان- عليهما الصلاة والسلام- فاختار النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكون نبيا بدون هذا المظهر وكان الذي اختار أفضل. وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- في جميع حياته على أكمل حال في التواضع الذي هو من مظاهر كمال عبوديته لربه وكان يقول - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد». وأما قوله "ورسولك" في الحديث المذكور فإن الرسول هو من بعثه الله تعالى- فضلا منه- ليبلغ شريعة، وقيامه بأعباء الرسالة هو من طاعته وعبوديته لربه. فقدم لفط العبد على لفط الرسول تقديم العام على الخاص، وتقديم (1) الشرط على المشروط فإن الرسالة لا يفضل بها الله تعالى إلا أكمل عباده و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وتقديم الترتيب لأنه كان عبداً قبل أن كان رسولاً، ولأن العبودية للخالق، والرسالة فيها انصراف- بأمر الله- للخلق. والعبودية والرسالة هما الوصفان اللذان أمرنا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا نتجاوز حدهما في الثناء عليه. فقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» فنهانا عن إطرائه في المدح وهو

_ (1) لا تنس أن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود فلا يلزم من وجود كمال العبادة- فرضا- وجود الرسالة لأن النبوة لا تكتسب.

المبالغة والغلو بوصفه بما لا يجوز كما غلت النصارى في عيسى- عليه الصلاة والسلام- فادعت فيه الألوهية ونسبت إليه ما لا يكون إلا لله، وبين لنا طريقة مدحه- صلى الله عليه وآله وسلم- بذكر كل ما لا يخرج به عن كونه عبداً من كل كمال، وبذكر كل ما يليق برسالته من عظيم الخصال. عليه وآله الصلاة والسلام (1).

_ (1) ش: ج 9، م 5، ص 1 - 5 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -6 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -6 - مبلغ صلاة الله على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- وجهان في معنى التشبيه، نكتة التشبيه، سؤال على الوجه الثاني وجوابه، نكتة أخرى في التشبيه، معنى في العالمين، معنى حميد مجيد، نكتة الختم بهذه الجملة. ــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: "كما صليت على آل إبراهيم" و"كما باركت على آل إبراهيم" في حديث أبي حميد وابن مسعود. و"كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" و"كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" في حديث كعب بن عجرة- يفيد أن المصلي يسأل من الله تعالى صلاة وبركة لمحمد وآله في المستقبل مثل ما كان منه تعالى من صلاة وبركة على إبراهيم وآله في الماضي، هذا يسأله المصلي في كل مرة من صلاته ويستجاب سؤاله كلما سأل، فكم تكون صلوات الله تعالى وبركاته على محمد وآله في المستقبل، وهي أثر كل صلاة مصل تكون مثل ما حصل في الماضي منه تعالى لإبراهيم وآله، أن مقاديرها - على هذا- تبلغ إلى ما تعجز عن حصره العقول، وهي لا تزال متزايدة بقدر صلاة المصلين تزايداً فوق متصور البشر. والكاف في قوله "كما" تفيد التشبيه والإلحاق وهذا يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يكون ذلك في أصل الصلاة بقطع النظر عن مقدارها فلكل ما يناسب مقامه في الفضل والأفضلية من المقدار.

كما تقول لمن تقدمت منه عطية لبعض أقاربه: أعط هذا القريب الأقرب كما أعطيت ذاك القريب، تقصد أصل العطاء دون مقداره ضرورة أن ما يستحقه القريب الأقرب أكثر مما يستحقه القريب، وجاء على هذا الأسلوب قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. فالمقصود أن يكون منه إحسان كما كان من الله تعالى إليه، ولا يمكن أن يكون ما يصدر منه من إحسان مماثلاً لما لله عليه منه. وتكون نكتة التشبيه إلحاق المتأخر وهو الصلاة والبركة المسؤولتان لمحمد وآله بالسابق المشتهر وهو الصلاة والبركة المعطاتان لإبراهيم وآله، فالمقصود أن تكون هاته ظاهرة مشتهرة في الخلق كما كانت تلك فيهم. الوجه الثاني: أن يكون التشبيه في مقدار الصلاة والبركة ويكون المطلوب هو المقدار المماثل كما تقول لمن أعطى زيدا عشرة دراهم: أعط عمرا كما أعطيت زيدا. ونكتة التشبيه في هذا الوجه هي نكتته في الأول. وعلى هذا الوجه يقال كيف يطلب له- صلى الله عليه وآله وسلم- صلاة وبركة مثلما حصل لغيره وهو أفضل من غيره وبمقتضى كونه أفضل لا يطلب له إلا ما هو أفضل، ويجاب بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان شديد التعظيم لأبيه إبراهيم- عليه السلام- والتواضع في جانبه، فكان هذا الطلب على مقتضى ذلك التعظيم وذلك التواضع، وفي ذلك تعليم وتأديب لأمته. ثم في هذا التشبيه إشادة بذكر إبراهيم- عليه السلام- وإبقاء له على ألسنة هذه الأمة، وفي هذا اعتراف بفضل هذا النبي القانت الحنيف الذي هو على ملته، واحتجاج على أهل الكتاب الذين يعظمونه مثلنا وقد حادوا عن ملته الحنيفية بذهابهم في أودية الشرك واتخاذ بعضهم

بعضاً أرباباً من دون الله، وجزاء له - عليه السلام- في دعوته لنبينا فيما حكاه القرآن بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وقوله "في العالين" أي في أجناس الخلق- يفيد أن صلاته تعالى وبركاته على إبراهيم وآله كانت ظاهرة مشتهرة- علماً وأثراً- في أجناس المخلوقات، وقد سئل في صيغة الصلاة أن تكون صلاته وبركاته على محمد وآله مثل ذلك. ولفط "في العالين" مذكور في القسم الثاني قسم البركة دون القسم الأول قسم الصلاة وأرى ذلك من الإيجاز بالحذف من الأوائل لدلالة الأواخر. وقوله "حميد" من الحمد إما بمعنى حامد، حول ليفيد التكثير وهو جل جلاله يحمد فعل الخير من عباده ويثيبهم على القليل بالكثير. ومناسبة اسم "حميد" لختم هذه الصلاة أن هؤلاء من عبادك المتقين الذين تتفضل عليهم بحمدك، فمن حمدك لهم أن تصلي وتبارك عليهم. وإما بمعنى محمود ومناسبته حينئذ أنك ذو الكمال والإنعام اللَّذين تحمد عليهما فمن إنعامك وإحسانك صلاتك وبركتك. وقوله "مجيد" من المجد والشرف بمعنى ماجد يفيد عظمة مجده وشرفه في ذاته وصفاته وأفعاله. ومناسبته للإسم السابق أن حمده لخلقه- وطاعتهم بفضله وتيسيره- من مجده وشرفه، أو أن كماله وإنعامه اللذين يحمد عليهما هما فوق كل كمال وفوق كل إنعام على ما يليق بمجده وشرفه.

ومناسبة ختم الصلاة بهذا الإسم أن من مجده وشرفه- جل جلاله- هذه الإنعامات العظيمة والخيرات الجسيمة المتوالية على مخلوقاته ومنها هذه الصلاة والبركة المسؤولتان لأكرم خلقه وجميع آله. وبهذا التقرير يظهر أن جملة "إنك حميد مجيد" هي تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما هو عام ومشتمل على معناه- فإن الصلاة والبركة من مقتضى الحمد والجد- نظير قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1).

_ (1) ش: ج 10، م 5، ص 1 - 5 غرة جمادى الثانية 1348ه - نوفمبر 1929م.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -7 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -7 - القسم العملي: حكمها، القصد بها، أفضلها، استعمال صيغها المحافظة على الوارد منها، التحذير من الغفلة، من اللحن، من تركها عند ذكره، من ذكرها للغضبان، من ذكرها للزغرته، من هجر الوارد، من كتاب التنبيه. ــــــــــــــــــــــــــــــ القسم العملي: الصلاة عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- واجبة مرة في العمر، وذهب الشافعي إلى وجوبها في التشهد الثاني من الصلاة وقيل بوجودها عند ذكره، وثبت الترغيب فيها أثر حكاية الأذان ويوم الجمعة وليلتها، وعند الدعاء ثم ما شاء حسب الطاقة. ويقصد المصلي بصلاته امتثال أمر الله ورجاء ثوابه والتقرب إليه بذكر نبيه على وفق أمره وقضاء بعض حقه والمكافأة بقدر جهدنا لبعض إحسانه وإظهار تمام المحبة فيه والاحترام له وصحة العقيدة في دينه. وصيغ الصلاة كثيرة والأمر فيها واسع وأرفعها قدراً وأعظمها نفعاً هي الصيغة التي قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه - وقد سألوه- في معرض البيان وبيانه لهم بيان لجميع الأمة بعدهم وهو أعلم الناس بما ينفع وأحرص الناس على جلبه لأمته، فلا أنفع ولا أرفع مما جاء به من عند ربه واختاره لأمته.

التحذير

والأكمل أن يحفط الصيغة النبوية بروايتها ويستعملها مرة برواية ومرة بغيرها حتى يكون قد استعملها كلها ولو اقتصر على بعضها لكان كافياً. وعندما يأتي بالصلاة النبوية بإحدى رواياتها يحافظ على لفظها بدون زيادة شيء من عنده عليها ولا أن ينقص شيئا منها لأن الصيغة الواردة توقيفية متعبد بها والتوقفي في العبادات يؤتى بنص لفظه بلا زيادة ولا تنقيص ولا تبديل. وأصل هذا حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- في الصحيح لما قال: "وبرسولك الذي أرسلت" قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا، وبنبيك الذي أرسلت» فلم يقره على تبديل لفظ النبي بلفظ الرسول على تقاربهما لأن الصيغة متعبد بها والحديث في باب "إذا بات طاهراً" من كتاب الدعوات من صحيح البخاري. التحذير: مظهر الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كسائر الأذكار وهو اللسان وثمرتها في الأعمال ومنبتها هو القلب فليحذر المصلي من الغفلة عند جريان الصلاة على لسانه. والصلاة النبوية صيغة تعبدية فليحذر من اللحن فيها. وجاء وعيد فيمن تركها عند ذكر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فليحذر من تركها عنده وخصوصاً من اعتياد تركها. وقد اعتاد بعضهم أن يقول لصاحبه عند الغضب "صل على النبي" وهذا وضع لها في غير محلها وتعريض للإسم الشريف إلى ما لا يليق من قد يكون عند جنون الغضب من تقصير أو سوء أدب فليحذر من هذا ومثله.

وقد جرت عادة بعض الناس في ليالي زرداتهم أن يرفعوا أصواتم مرة على مرة "الصلاة على النبي" فتجيبهم النساء من وراء الحجاب برفع أصواتهن بالزغرتة حتى يرتج المكان، ومن أبشع المنكر أن تستعمل عبادة من أشرف العبادات في إثارة هذه المعصية النسوانية فليحذر من ذلك وليغيره بما قدر عليه. وقد هجر الناس الصلاة النبوية التوقيفية واقتصروا على غيرها، وزاد بعضهم فقال أن غيرها أنفع منها، فليحذر من هذا الهجر ومن هذا القول، فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أنفع الخلق وأرفعهم، وفعله أرفع الأفعال وأنفعها، وقولها أرفع الأقوال وأنفعها، فليجعل أصل صلاته الصلاة النبوية المروية وليجعل بعدها ما شاء. ومن الكتب المشهورة بين الناس في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كتاب تنبيه الأنام وفيه موضوعات كثيرة لا أصل لها فبينما قارئه في عبادة الصلاة إذا هو في معصية الكذب فليكن منه على حذر. والله يفتح علينا في العلم ويوفقنا في العمل له الحمد في الأولى والآخرة رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 11، م 5، ص 7 - 9 غرة رجب 1348ه - ديسمبر 1929م.

قسم الفقه والفتاوى

آثار ابن باديس قسم الفقه والفتاوى

الأسئلة والأجوبة

الأسئلة والأجوبة -1 - 1 - س: هل يجوز كراء الأسواق العامة، وأخذ ثمن الدخول على أرباب المواشي والسلع؟ (سائل من الميلية) ج: المعروف أن هذه الأسواق هي ملك للبلدية وإذا قلنا هي ملك للبلدية فهي ملك للعامة التي تنوب عنها البلدية فللبلدية أن تبيع منفعتها بثمن معلوم إلى أجل معلوم فيجوز اكتراؤها منها ذلك. ويجوز للمكتري أن يكري الانتفاع بها كذلك فيجوز له أن يأخذ على كل داخل لماشيته أو سلعته أجرا في مقابلة انتفاع ذلك الداخل بالمكان الذي يحل فيه والذي هو مملوك المنفعة لصاحب السوق. ونظيره من اكترى اصطبلا ثم يأخذ على أرباب المواشي أجرة بقاء مواشيهم في إصطبله مدة محدودة. 2 - س: إمام جمعة يسكن بقرية بعيدة عن قرية الجمعة بنحو خمسة وثلاثين كيلو، هل تصح إمامته بالقرية التي يؤم بها للجمعة وهو ليس من سكانها؟ (سائل من فج مزالة) ج: المسافر هاته المسافة لا يقصر الصلاة فإذا حل بقرية جمعة فالجمعة عليه واجبة فتصح إمامته بها. والمسافر الذي لا تصح إمامته للجمعة هو الذي يكون مسافرا مسافة القصر لأن الجمعة حينئذ لا تجب عليه، فإمامته بها تصير صلاة أهل القرية خلفه كصلاة مفترض خلف متنقل وذلك لا يصح، ولهذا إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام صحاح

وجبت عليه الجمعة وصحت منه الإمامة (1). -2 - 3 - س: هل يجوز تولي خطة الكتابة عند القائد وأخذ الأجرة عليها، وهل يجوز كذلك ما في معناها من رتبة الدائرة والعساس أم لا يجوز؟ (سائل من القرارم) ج: كل خطة من مثل ما ذكر في السؤال إذا لم يكن فيها ظلم ولا إعانة ظالم فجائز توليها وأخذ الأجرة في مقابلة القيام بها. 4 - س: إذا ضرب إنسان دجاجة أو شاة بحجر أو عمود فأصابها وبقيت تتخبط من ذلك الضرب فبادر إليها الضارب أو غيره فذبحها فهل تؤكل أم لا؟ (منه أيضا) ج: إذا أدركها غير منفوذة المقاتل فإنه يذكيها ويأكلها اتفاقا. وإذا كانت منفوذة القاتل فالذكاة لا تفيد فيها في مشهور مذهب مالك وتفيد فيها في مذهب الشافعي وجماعة من المالكية وهي فسحة ينبغي اعتمادها. 5 - س: هل نصاب الزيت معتبر بالحب أو بالزيت وما هو مقدار نصابه والقدر الذي يخرج من حبه أو زيته؟ (منه أيضا) ج: النصاب معتبر بالحب وهو خمسة أوسق وفي الوسق ستون صاعا وفي الصاع أربعة أمداد والمد ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين وهذا تقريب فيه تسهيل على الناس في هذا الأمر العام

_ (1) ش: ج 1، م 6، ص 58. غرة رمضان 1348ه - فيفري 1930م.

ليس فيه تشديد بالنقير والقطمير والحبة والقمحة فلا تكن من المتنطعين. والإخراج يكون من زيته إلا أن يكون باعه حبا فيخرج من ثمنه أو أهداه أو أكله حبا فيخرج من قيمته والقدر المخرج هو العسر إلا إذا كان سقاه بآلة فنصف العشر. 6 - س: هل يجوز للمرأة أن تستعمل دواء يمنعها من الحمل لأنها ضعيفة بالمرض؟ (منه أيضا) ج: أصل هذه المسألة هو العزل أي عدم إنزال الرجل المني في الفرج وهذا كرهه بعض، والمشهور في المذهب جوازه بإذن المرأة الحرة لحقها في الوطء والإنزال من تمام لذتها وفي العزل منع للولادة فيقاس عليه شرب الدواء لمنع الولادة فيجوز ما لا يلحق ضررا بالجسم إذا كان بإذن الزوج لأن له حقا في الولد وإذا كانت ضعيفة عن الولادة فلا تتوقف على إذنه. 7 - س: هل يجوز للمرأة الحامل المطلقة أن تتزوج في عدتها قبل وضع حملها إذا لم تجد ما ينفق عليها؟ (سائل من جبل عياض) ج: إن المواعدة في العدة حرام وكذلك النفقة عليها لأنها في حكم صريح المواعدة فكيف بالتزوج فهو حرام بلا خلاف لنص الآية. تنبيه: وقع لنا في السؤال الثاني في الجزء الماضي خطأ، وصوابه أن من كان خارجا عن فرسخ من قرية الجمعة لا تصح إمامته إلا إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح سواءا كان بعيدا على مسافة القصر أو دونها (1).

_ (1) ش: ج 2، م 6، ص 128 - 129 غرة شوال 1348ه - مارس 1930م.

المباحثة والمناظرة

المباحثة والمناظرة: كراء الأسواق من الإجارة لا من المكس (1) -1 - المكس في اللغة هو النقص ويطلق على ما يؤخذ من بائع السلعة ظلماً والمكاس هو الآخذ لذلك، وجاء في شأنه من الوعيد حديث «لا يدخل الجنة صاحب مكس» رواه أبو داوود وغيره. وقد كانت الأسواق ملكاً مشاعا بين الناس يقفون فيها بسلعهم فكان أخذ فرد المكس منهم ظلما لهم هذه هي حالة الأسواق في العهد القديم، أما اليوم فإن أوضاع الأسواق صارت على شكل آخر وذلك أن العامة الذين هم ملاك الأسواق وغيرها من الأماكن العامة يحتاجون في القيام بمصالحهم المدنية من تنظيف أقنية وإنارة شوارع وتعبيد طرقات ونظام أمن، وغير ذلك من المرافق التي تتولاها المجالس البلدية فكانت البلدية تتصرف في الأسواق التي هي ملك للعامة في مصلحة العامة وكانت العامة المالكة لتلك الأسواق قد نوبت عنها نوابا فوَّضت لهم أن يتصرفوا في ممتلكاتها لأجل مصلحتها فأولئك النواب الذين هم وكلاء العامة هم أعضاء البلدية يعرض السوق للكراء بالمزاد فيكتريه زيد أو عمر فهذا المكتري قد اكترى شيئا معينا بثمن معين من نواب مالكيه، وهم العامة فقد وجدت أركان عقد الإجارة كلها فكان هذا العقد لذلك صحيحا جائزاً.

_ (1) أعيد هذا المقال في ش: ج 3، م 9، ص 151 - 153 غرة ذي القعدة 1351ه - مارس 1933م.

ثم إن هذا المكتري يقف عند باب سوقه في أيام السوق، فكل من يريد الدخول لمحله- وهو السوق الذي يملك منفعته بالعقد السابق - يدفع أجرة الانتفاع بالبقعة التي يقف فيها بسلعته مدة بقاء السوق في ذلك اليوم سواء أباع تلك السلعة أم لم يبعها، فهذا أيضا عقد على الانتفاع بالبقعة مدة معلومة بثمن معلوم فهو صحيح جائز. لا يقال إن المكتري لا يلاحط منفعة البقعة وإنما يلاحظ ما يأخذه عن ثمن المبيعات لأننا نرى أن البقعة هي المقصودة لا ثمن المبيعات بدليل أنه يأخذ أجرة البقعة سواء أباع أم لم يبع وسواء أباع بالقليل أم بالكثير. ولا يقال أن المكتري للسوق يأخذ عن كل ما يأتي للبلد ولو كان بعيدا عن السوق لأن كلاً منا فيمن يأخذ عن الموضع الذي اكتراه بحدوده وأما الأخذ في غير المكان المكتري بحدوده فهو غير داخل في كلامنا. وليس الفتوى فيه. ولا يقال أن العقد الأول فيه غرر لأن مكتري السوق قد تساعده الأحوال فيربح وقد تعاكسه فيخسر لأننا نقول! هذا الشأن في التجارة بيعاً واكتراء، ولا يضر هذا إذا كان ثمن البيع والكراء معلوماً كما هو في موضوعنا، ومثل هذا من اكترى فندقاً فإنه قد يربح وقد يخسر ولا يقال أنه فرق بين كراء بقعة لتقف فيه الدابة حتى يأتيها صاحبها، ويكون صاحب البقعة حارساً لها، وبين كراء البقعة لتقف فيها الدابة لتباع وصاحبها هو حارسها-، لأننا نقول المقصود هو الانتفاع يالبقعة منفعة صحيحة سواء كانت وضع سلع أو وقوف دابة لأي غرض كان، إذ الجميع انتفع بالبقعة، ودعوى الفرق بين ثمرات الانتفاع لا وجه لها. من هذا البيان يعلم أننا لا نريد تحليل المكس "عياذاً بالله" وإنما نريد أنه غير منطبق على كراء الأسواق واكتراء الانتفاع بالوقوف فيها يوم السوق، وأن العقد الأول ما بين صاحب السوق ونواب العامة والثاني بين صاحب السوق ومريد الوقوف فيه بسلعته، من عقود الإجارة الصحيحة الجائزة.

الدواء لمنع الحمل والعزل

الدواء لمنع الحمل والعزل: قيل لنا أنكم أجزتم الدواء لمنع الحمل للمرض والضعف وعدم القدرة على الحمل قياساً على جواز العزل مع أن العلة وهي المرض والضعف وعدم القدرة على الحمل موجودة في المقيس دون المقيس عليه. فقلنا وجود هذه العلة في الفرع يجعله أحرى بالجواز من أصله. فسقط السؤال ولو لم تكن هذه العلة المذكورة لما كان فرق بين العزل واستعمال الدواء للامتناع من الحمل. اللهم إلا أن يكون من جهة أن الدواء قد يؤدي إلى ضرر بدني أو إلى منع الحمل بتاتا وحينئذ يكون منع استعمال الدواء لسبب آخر، غير أصل استعماله وهذا ليس هو الواقع في السؤال الذي كان عليه الجواب (1).

_ (1) ش: ج 4، م 6، ص 234 - 236 غرة ذي الحجة 1348ه ماي 1930م.

كراء الأسواق -2 -

كراء الأسواق -2 - تكلمنا على هذه المسألة في جزء رمضان سنة 1348 ثم في جزء ذي الحجة من السنة نفسها وكنا نعلم أن المسألة نظرية تحتاج إلى أخذ ورد بين أهل العلم وكنا ننشر ما يأتينا منهم لو أتانا منهم شيء كما هي عادتنا. واليوم بعد مضي ثلاث سنوات نشر الشيخ الحافظي مقالا في المسألة ونحن نرحب بكل بحث علمي مخلص نزيه غير أننا نقول لحضرة الشيخ ما أخَّرك عن إبداء رأيك في المسألة إلى اليوم والشهاب من أقرب الصحف إليك، وقد نشر لك في هذه السنوات الثلاث عدة مقالات. وقد استشعرت هذا السؤال الذي يتبادر من نفسه إلى ذهن كل أحد فقلت في مقالك هكذا: "قد كان لزاما أن يرد عليها في الحال لو أن هذا العدد من المجلة موجود تحت يدي والآن حيث عثرت عليه بادرت إلى إبطال هذا القول" سبحان الله ما هذا الجواب يا حضرة الأستاذ؟. إن الشهاب من يوم تأسيسه ما زال يرسل هدية إليكم إلى يومنا هذا فكيف يغيب عنكم إلى اليوم، دعنا من هذا فللناس عقول تعرف بها وتميز. ولما كان كلامنا في المسألة قد نشر منذ مدة طويلة فإننا نعيد نشره لتعلم وجهة نظرنا ولينظر أهل العلم في المسألة وأقوال الطرفين فيها ويكتبوا ما يظهر لهم ونحن نتكفل بنشره. وإليك نص السؤال وجوابه من جزء رمضان سنة 1348ه

1 - س: هل يجوز كراء الأسواق العامة، وأخذ ثمن الدخول على أرباب المواشي والسلع؟ للسائل من الميلية. ج: المعروف أن هذه الأسواق هي ملك للبلدية وإذا قلنا هي ملك للبلدية فهي ملك للعامة التي تنوب عنها البلدية فللبلدية أن تبيع منفعتها بثمن معلوم إلى أجل معلوم فيجوز اكتراؤها منها ذلك. ويجوز للمكتري أن يكري الانتفاع بها كذلك فيجوز له أن يأخذ على كل داخل لماشيته أو سلعته أجراً في مقابلة انتفاع ذلك الداخل بالمكان الذي يحل فيه والذي هو مملوك المنفعة لصاحب السوق ونظيره من اكترى اصطبلا ثم يأخذ على أرباب المواشي أجرة بقاء مواشيهم في إصطبله مدة محدودة.

_ ش: ج 3، م 9، ص 151 غرة ذي القعدة 1351ه - مارس 1933م.

قسم الفتوى -1 -

قسم الفتوى -1 - سؤال: سادتي العلماء الأعلام، حمال الشريعة، ما قولكم حفظكم الله وأعلى مناركم في عرش من سكان البادية يحتوي على مائتين وخمس وثلاثين دارا "قرى صغيرة وديارا متفرقة"، وستمائة رجل متوغلين في البداوة ذوي غلظة وفظاظة يخاف الراكب أن يجوب وأصقاعهم نهارا. رأى بعض المصلحين أن ينقذهم مما هم فيه ويستل منهم أخلاقا فاسدة وعوائد ممقوتة ولا سبيل إلى ذلك إلا ببناء مسجد يجمعهم ومعلم حادق يعلمهم واجبات دينهم ويربيهم تربية شرعية إصلاحية ويغرس في نفوسهم روحاً وطنية وشهامة عربية وأخلاقاً دينية، فعود الشيوخ وأن عسى، فإن فنن الكهول لين وغصن الشباب لا زال رطباً مياداً تهزه نسمات الصبا ولا يحرك عواطفه ريح السموم فأرشدهم إلى بناء مسجد يصلون فيه، ويتعلمون واجبات دينهم فأجاب كلهم بالسلب إلا أن تصح وتقام فيه الجمعة، ورأى أن لا بد من إجابة رغبتهم وإلا فإنهم لا يرجعون عما هم فيه ولأن الجمعة هي التي تجمعهم، فبنوا مسجد جمعة منذ عامين وأقاموا فيه درارا (1) ومدرسا قام فيهم بالوعظ والإرشاد والدروس العلمية النافعة فحصلت النتيجة والحمد لله، فقام بعض من يبغونها عوجا ويودون لو يبقى هذا العرش المسكين في غفلة

_ (1) كذا في الأصل ولعله: دارا.

الجواب

وتيه من الجهالة ليأكل من لحمه ويشرب من دمه ويودع فيه سمومه القتالة وأمراضه الوبئة شأن من ينتسب إلى الولاية المزعومة والدعاية الفارغة وحكم ببطلان الجمعة محتجا بأن المسجد لم يكن وسط القرية ولم ينعكس عليه دخانها. المسجد وإن لم يكن في وسط القرية حقيقة فهو فيها حكما لأن ديار العرش وقراه مسترسلة وحائطة بالمسجد من كل جهة هذه أثر هذه وأقرب دار إليه تبعد عنه بعشر مترات. وما هي فائدة انعكاس الدخان إذا حصل المطلوب، أو قرب الدار إذا لم يكن نافعا. على أن قرب الدار ليس بنافع … إذا لم يكن للمرء في الدين وازع والمسجد لا ينفك مفعما بالمصلين مملوءة بهم رحابه، والعرش إن حكمنا عليه ببطلان الجمعة تفرق شذر مذر ورجع إلى سيرته الأولى. وعاثت فيه يد الدجالين بالسلب والنهب. أفيدونا الجواب أجركم الله لينزجر الكائد ويطمئن الرائد. برج الغدير: مسترشد الجواب: ليس في اشتراط اتصال بنيان القرية حديث وإنما ترجع المسألة للنظر، وقد أفتى بعض الفقهاء باشتراط الاتصال ولكن الإمام الآبي تلميذ ابن عرفة بعد ما ذكر هذه الفتوى في شرحه على صحيح مسلم فقال: "والأظهر أنهم إن كانوا من القرب بحيث يرتفق بعضهم ببعض في ضرورياتهم والدفع عن أنفسهم جمعوا لأنهم- وهم كذلك- بحكم القرية المتصلة البنيان" وما قاله الآبي نقظه الحطاب وسلمه وزاده

تأييدا بما نقل من جزم صاحب الطراز بعدم اشتراط الاتصال واستدلاله بأن بعض بيوت القرية قد يخرب فيحصل الانفصال ومع ذلك لا يضر ما لم يبعد ما بين البيوت، وما كان المقصود من القرية هو الترافق والتعاون فإذا حصلا فأهل تلك البيوت قرية وإن انفصلت بيوتها فهي في حكم الاتصال، فالقرية الواقعة في السؤال إذا كانت بيوتها على هذا الوجه فإنها تجمع ولا يضرها الانفصال. عبد الحميد بن باديس

_ البصائر: س 1 العدد 30 الجزائر يوم الجمعة 12 جمادى 1/ 1355ه الموافق ليوم 31 جوليت 1936م، الصفحة: 6 العمود 3 والأول من ص 7.

قسم الفتوى -2 -

قسم الفتوى -2 - "كنا أعلنا حسب قرار المجلس الإداري للجمعية أن من أراد السؤال عن أي مسألة تهمه فليراجع فيها الأستاذ (عبد الحميد بن باديس) وهو يتولى الجواب عن سؤاله إما بالكتابة إليه رأسا أو بنشره على صفحات هذه الجريدة، ولكن لا يزال كثير من الناس يوجهون أسئلتهم إلينا ونحن بالطبع نحيلها إلى الأستاذ ابن باديس ولذلك قد يتأخر الجواب عنها، وقد جاءنا من الأستاذ الأجوبة الآتية عن أسئلة موجهة إلينا ننشرها فيما يأتي، (1): سؤال عن حديث: يا بن آدم مرضت فلم تعدني. الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد فالمراد من الحديث تأكيد حقوق العباد على العباد بأنها من حقوق الله وأن الله آمر بها ومجاز عليها ووجه التأكيد هو جعل ما يكون منهم من الطلب كأنه منه وأنه حاضر عند الإحسان وذلك بحضور جزائه وسرعته والله أعلم. قاله وكتبه خادم العلم وأهله: عبد الحميد بن باديس

_ (1) ليس من كلام ابن باديس.

وسأل سائل عن جواز لباس الرجال مثل لباس النساء، وظهورهم في زيهنَّ على خشبة المسرح، فكان الجواب من رئيس الجمعية كما يلي: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لعن الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل، رواه أبو داوود وغيره بسند رجال الصحاح وروى أصحاب السنن عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهون (1) من الرجال بالنساء، وبهذه الأحاديث النبوية علم أن تزيي الرجل بزي المرأة الواضح من السؤال حرام لأن اللعن لا يكون إلا على المحرم. عبد الحميد بن باديس وسأل آخر هل اتصال البنيان في القرية شرط في صحة الجمعة فكان الجواب ما يأتي: ليس في اشتراط اتصال بنيان القرية حديث إنما مرجع المسألة للنظر وقد أفتى بعض الفقهاء باشتراط الاتصال ولكن الإمام الآبي تلميذ ابن عرفة بعد ما ذكر هذه الفتوى في شرحه على صحيح مسلم قال: والأظهر أنهم إن كانوا من القرب بحيث يرتفق بعضهم ببعض في ضرورياتهم والدفع عن أنفسهم جمعوا. لأنهم- وهم كذلك- بحكم القرية المتصلة البنيان. وما قاله الآبي نقله الحطاب وسلمه وزاده تأييدا بما نقله من جزم صاحب الطراز بعدم اشتراط الاتصال واستدلاله بأن بعض بيوت القرية قد يخرب فيحصل الانفصال ومع ذلك لا يضر ما لم يبعد ما بين البيوت، ولما كان المقصود من القرية هو الترافق والتعاون فإذا حصلا فأهل تلك البيوت قرية وإن انفصلت

_ (1) كذا فى الأصل وصوابه: والمتشبهين.

بيوتها فهي في حكم الاتصال، فالقرية الواقعة في السؤال إذا كانت بيوتها على هذا الوجه فإنها تجمع ولا يضرها الانفصال. عبد الحميد وسأل أحد أهالي بلدة (ميشلي) عن أبناء التجنسين بالجنسية الفرنسوية هل يجوز دفنهم في مقابر المسلمين فكان الجواب منه حسبما يلي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد فابن (المطورني) إذا كان مكلفا ولم يعلم منه إنكار ما صنع أبوه والبراءة منه فهو مثل أبيه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وإن كان صغيرا فهو مسلم على فطرة الإسلام يدفن معنا ونصلي عليه. قاله وكتبه خادم العلم وأهله عبد الحميد بن باديس الجزائر 25 جمادى الأولى 1354ه

_ البصائر: السنة الثانية العدد 79، ص 6 ع 1 و2، الجمعة 12 جمادى الثانية 1356ه - 20 أوت 1937م.

§1/1