نزول القرآن على سبعة أحرف
مناع القطان
مقدمة
مقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. من موضوعات علوم القرآن التى تتشعب فيها الآراء «نزول القرآن على سبعة أحرف» فهو موضوع شائك، صحّت أحاديثه، وتعدّدت طرقها بما يشبه التواتر، ولكن الإجمال الذى فيها أدّى إلى الاختلاف على النحو الذى سنذكره فى هذا البحث. والكلام فى نزول القرآن على سبعة أحرف يقتضى التمهيد له، ببيان اختلاف اللهجات العربية، واختلاف العلماء فى وجود كلمات أعجمية بالقرآن الكريم، ثم يكون الكلام عن درجة حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وطرق روايته، وتجلية معنى الحرف فى اللّغة، وآراء العلماء فى المراد بالأحرف السبعة، وما يستند إليه أصحاب كل رأى، ثم نناقش هذه الآراء لترجيح ما نرى أنه أقرب إلى الصواب، ونرد على الشبه التى أثارها المستشرقون ومرضى النفوس عن هذا الموضوع، وننهى حديثنا ببيان حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف. وقد رأيت أن أترجم للأعلام ترجمة موجزة تتميما للفائدة. والبحث يعالج الموضوع بالمقاييس العلمية فى عرض الرأى مقترنا بدليله، ويحرر النزاع فى وضوح وجلاء، مع توخى وجه الحق الذى اقتنعت به، والاكتفاء بامهات المسائل التى تغنى عن فضول القول، وتحقق الهدف العلمى المرجو فى الدراسة العلمية.
اختلاف اللهجات العربية
اختلاف اللهجات العربية: اللهجة فى الاصطلاح العلمى الحديث هى مجموعة من الصفات اللّغوية التى تنتمى إلى بيئة خاصة، ويشترك فى هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعا فى مجموعة من الظواهر اللّغوية. وتلك البيئة الشاملة التى تتألف من عدة لهجات هى التى اصطلح على تسميتها باللّغة، فالعلاقة بين اللّغة واللهجة هى العلاقة بين العام والخاص، فاللّغة تشتمل على عدة لهجات، لكل منها ما يميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك فى مجموعة من الصفات اللّغوية التى تؤلّف لغة مستقلة عن غيرها من اللّغات. ويعبّر القدماء عما نسميه الآن باللهجة بكلمة «اللّغة» كثيرا، فيشير أصحاب المعاجم إلى لغة تميم ولغة طيئ ولغة هذيل، وهم يريدون بذلك ما نعنيه نحن الآن بكلمة «اللهجة» وقد يعبّرون بكلمة «اللّسان» وهو التعبير القرآنى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «1». والفرق بين لهجة وأخرى هو بعض الاختلاف الصوتى فى غالب الأحيان، فيروى لنا مثلا أن قبيلة تميم كانوا يقولون فى «فزت» «فزد»، كما يروى أن «الأجلح» وهو الأصلع، ينطق بها «الأجله» عند بني سعد. وتشترك لهجات اللّغة الواحدة في الكثرة الغالبة من الكلمات ومعانيها «2». واللّغة العربية هى لغة جزيرة العرب، ولكن القبائل العربية المتعددة كان لكل قبيلة منها منازلها، ولها كيانها المستقل الذى يعزلها عن غيرها بما لها من
عادات وتقاليد تنمو وتتطور، فأدى هذا إلى نشأة اللهجات العربية التى تتميز كل منها بصفات خاصة. وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف كثيرا من اللهجات، فمن ذلك الكشكشة والكسكسة، وهما تخصان ضمير المخاطبة، إذ كان بعض تميم وأسد يلحقون بكاف المخاطبة شيئا فى الوقف، وفى الوصل أحيانا، فيقولون: رأيتكش وعليكش وبكش، وكانت بعض قبائل ربيعة تلحق السين بدل الشين، فتقول: رأيتكس وعليكس وبكس، وكان منهم من يحذف الكاف ويضع مكانها الشين أو السين. ومن ذلك العنعنة، وهى فى تميم وبعض قيس وأسد، إذ يجعلون الهمزة عينا في بعض الكلمات، فيلفظون «استعدى» بدلا من «استأدى» ويلفظون «أعدى» بدلا من «آدى» «1»، وكان هناك من يقول: «دأنى» عوضا عن «دعنى»، ومن يلفظ «لعل»: «لأن» بإبدال اللام أيضا نونا، وقالوا بدلا من «أن وإن»: «عن وعن». وتقرب من العنعنة الفحفحة، وكانت في هذيل، إذ تبدل الحاء عينا، فيقولون فى «حتى»: «عتى»، وهذه اللهجات جميعا كانت تشيع فى بعض القبائل الشمالية المضرية، ومثلها التضجع، وهو الإمالة، إذ كانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يميلون ... وقد نسب اللّغويون إلى قبائل مضرية وأخرى قحطانية ما سموه الاستنطاء، إذ كانت قبائل هذيل وقيس والأزد والأنصار فى يثرب تبدل العين نونا فى مثل «أعطى» فتقول: «أنطى» ... وهناك لهجات نسبها اللّغويون إلى القحطانيين، من ذلك التلتلة فى قضاعة وبهراء، إذ يكسرون الفعل المضارع فيقولون: «تعلمون وتكتبون وتنجحون».
ومن ذلك العجعجة فى قضاعة، إذ يجعلون الياء المشددة جيما، فيقولون: «تميمج» فى «تميمى». ونسب الرواة إلى قبيلة كلب اليمنية ما سموه الوهم، وهو كسر الهاء فى ضمير الغائبين وإن لم يكن قبلها ياء ولا كسرة فيقولون: «منهم وعنهم وبينهم». واشتهرت حمير وأهل اليمن وبعض عشائر طيئ بالطمطمانية، وهى إبدال لام التعريف ميما، فيقولون فى «السهم والبر والصيام»: «امسهم وامبر وامصيام»، فيعرفون بالألف والميم. وينسب إلى بعض الحميريين أنهم كانوا يجعلون السين تاء فى بعض الكلمات، فيقولون: ب «النات» بدل «الناس». وكانت هناك فروق بين التميميين والحجازيين، فكان التميميون يدغمون الحرف الثانى فى الثالث فى أمر مثل «رد»، بينما كان يفك الحجازيون الإدغام فيقولون: «اردد»، ومما اشتهر بينهما من فروق إهمال «ما» عند التميميين فى نحو: ما زيد قائم، وإعمالها عند الحجازيين فيقولون: ما زيد قائما، ومن ذلك أيضا أن الحجازيين كانوا يجرون «هلمّ» مجرى أسماء الأفعال مثل «صه» فيلزمونها طريقا واحدا فى مخاطبة المفرد والمفردة والاثنين والاثنتين والجماعتين، فيقولون: هلمّ يا رجل، وهلمّ يا امرأة، وهلمّ يا رجلان، وهلمّ يا امرأتان، وهلمّ يا رجال، وهلمّ يا نساء، أما التميميون فكانوا يجرونها مجرى الأفعال، فيقولون: هلم وهلمى وهلما وهلموا وهلممن يا نسوة، وبلغة الحجاز نزل القرآن الكريم فى قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا «1». وتلك اللهجات صار منها ما هو مقبول وحجّة، ومنها ما تدنى عن هذا المستوى وهجره الذوق العربى.
قال ابن جنى «1»: «باب اختلاف اللّغات وكلها حجّة» اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك، ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن لغة التميميين فى ترك إعمال «ما» يقبلها القياس، ولغة الحجازيين فى إعمالها كذلك، لأن لكل واحد من القومين ضربا من القياس يؤخذ به، ويخلد إلى مثله، وليس لك أن ترد إحدى اللّغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، لكن غاية ما لك فى ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد أنسا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، أو لا ترى إلى قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف». هذا حكم اللّغتين إذا كانتا فى الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين، أو كالمتراسلتين. فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسا ... حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن «2»، عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: ارتفعت قريش فى الفصاحة عن عنعنة تميم «3»، وكشكشة ربيعة «4»،
وكسكسة هوازن «1»، وتضجع قيس «2»، وعجرفة ضبة «3»، وتلتلة بهراء «4»، «5». ومعظم الاختلاف- كما ترى- كان يرجع إلى الاختلاف فى إبدال الحروف، أو فى الحركات، أو فى الإمالة والتفخيم، أو فى الإدغام والفك، أو فى الإعراب، وهذا النمط من الاختلاف ليس فيه تباين كلى لما فيه من التقارب. ويقل الاختلاف فى اللّفظ مع اتفاق المعنى: «كالعهن، والصوف» حيث توجد لغتان أو أكثر من اللّغات الفصيحة. وبمرور الزمن وتوافر عوامل الوحدة صارت مكة وما حولها ملتقى للقبائل العربية، إذ يفدون إليها للحج الذى كان معروفا فى الجاهلية قبل الإسلام، كما يفدون إليها للتجارة، ويعقدون المناظرات والمساجلات فى الشعر والخطابة بأسواقهم التى اشتهر منها: «عكاظ» وهو السوق العامة عند العرب، وكانت تعقد حول مكة فى أوائل شهر ذى القعدة، وكانت سوق «مجنة» تعقد بعدها فى أواخر هذا الشهر، ثم تعقد سوق «ذو المجاز» فى أوائل شهر ذى الحجة. وكان الشعراء والخطباء يحرصون على أن يتحدثوا بلغة خالية من فوارق الأصوات اللّغوية، وينتقون الألفاظ، ويختارون العبارات، فمهّد هذا لوحدة لغوية راقية، حيث انسابت جداول الفصاحة العربية وانتهى مصبها فى لغة قريش، فصارت بذلك أفصح العرب، وبلسانها كان نزول القرآن ابتداء على
اختلاف العلماء فى وجود كلمات فى القرآن بغير العربية
الرسول العربى القرشى، وتوجّه الخطاب إلى قومه القرشيين أول الأمر: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1»، حتى يكون هذا أدعى لقوة البيان فى البلاغ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «2»، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3». اختلاف العلماء فى وجود كلمات فى القرآن بغير العربية: وما قيل من أن القرآن اشتمل على كلمات أعجمية غير عربية فإنه مع ندرته موضع خلاف بين العلماء. 1 - فقيل: إن فى القرآن الكريم كلمات بغير العربية، وهى كلمات محدودة، وهذا القول يرجع إلى ما جاء من آثار عن بعض الصحابة والتابعين فسّروا فيها كلمات بغير العربية. فمن ذلك: الطُّورَ: جبل بالسريانية- طَفِقا «4»: أى قصدا بالرومية- القسط والقسطاس: العدل بالرومية- إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ «5»: تبنا بالعبرانية- الرقيم: اللّوح بالرومية- المهل: عكر الزيت بلسان أهل المغرب- السندس: الرقيق من الستر بالهندية- الإستبرق: الغليظ من الديباج بالفارسية- السرى: النهر الصغير باليونانية- طه: يا رجل بالعبرانية- يصهر: أى ينضح بلسان أهل المغرب- سينين: الحسن بالنبطية- المشكاة: الكوّة بالحبشية، وقيل: الزجاجة تسرج- الدرّى: المضيء بالحبشية- الأليم: المؤلم بالعبرانية- ناظِرِينَ إِناهُ «6»: أى نضجه بلسان أهل المغرب- الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ «7»: أى الأولى بالقبطية، والقبط يسمون الآخرة: الأولى،
والأولى: الآخرة- وَراءَهُمْ مَلِكٌ «1»: أى أمامهم بالقبطية- اليمّ: البحر بالقبطية- بطائنها: ظواهرها بالقبطية- الأبّ: الحشيش بلغة أهل المغرب- إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ «2»: قال ابن عباس: نشأ بلغة الحبشة: قام من الليل- كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ «3»، قال أبو موسى الأشعرى «4» رضى الله عنه: «ضعفين» بلغة الحبشة- القسورة: الأسد بلغة الحبشة «5». وينسب هذا الرأى إلى ابن عباس، وتلاميذه: مجاهد «6»، وسعيد بن جبير «7»، وعكرمة «8»، وعطاء «9»، وآخرين من الصحابة والتابعين فيما روى عنهم فى كتب التفسير بالأثر. وذكر السيوطى سوى هذه الكلمات كلمات أخرى أورد روايات فى تفسيرها عن ابن أبى حاتم «10»، وابن جرير، والثعالبى «11»، وآخرين من علماء اللّغة منها:
أباريق: جمع إبريق، والإبريق بالفارسية طريق الماء، أو صب الماء على هينة- الأرائك: السرر بالحبشية- أسفار: هى الكتب بالسريانية، وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك «1» قال: هى الكتب بالنبطية- أكواب: أخرج ابن جرير عن الضحّاك أنها بالنبطية، وأنها جرار ليست لها عرى- أوّاه: أخرج أبو الشيخ «2» من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الأوّاه: الموقن بلسان الحبشة، وأخرج ابن أبى حاتم مثله عن مجاهد وعكرمة. الجبت: أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، وأخرج عبد بن حميد «3» عن عكرمة قال: الجبت بلسان الحبشة: الشيطان- حصب: أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى: حَصَبُ جَهَنَّمَ «4». قال: حطب جهنم بالزنجية- ربانيون: قال أبو عبيدة «5»: العرب لا تعرف الربانيين، وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم، قال: وأحسب الكلمة ليست بعربية، وإنما هى عبرانية أو سريانية. الصراط: حكى النقاش «6» وابن الجوزى «7» أنه الطريق بلغة الروم-
قنطار: ذكر الثعالبى فى فقه اللّغة أنه بالرومية: اثنتا عشر ألف أوقية، وقال الخليل «1»: زعموا أنه بالسريانية: ملء جلد ثور ذهبا أو فضة، وقال ابن قتيبة: قيل: إنه ثمانية آلاف مثقال بلغة أهل إفريقية، وفى المحتسب لابن جنى «2»: السجل: الكتاب، قال قوم: هو فارسى معرّب- هَيْتَ لَكَ «3»: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هيت لك: هلمّ لك بالقبطية، وقال الحسن «4»: هى بالسريانية كذلك، أخرجه ابن جرير، وقال عكرمة: هى بالحورانية كذلك، أخرجه أبو الشيخ، وقال أبو زيد الأنصارى «5»: هى بالعبرانية، وأصله: هينلج، أى تعاله- طوبى: أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس، قال: طوبى: اسم الجنة بالحبشية، وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: بالهندية- طور: أخرج الفريابى «6» عن مجاهد قال: الطور: الجبل
بالسريانية، وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحّاك أنه بالنبطية- غساق: قال الجواليقى «1»، والواسطى «2»: هو البارد المنتن بلسان الترك، وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن بريدة «3»، قال: الغساق: النتن- صلوات، قال الجواليقى: هى بالعبرانية كنائس اليهود، وأصلها صلوتا، وأخرج ابن أبى حاتم نحوه عن الضحّاك- مرجان: حكى الجواليقى عن بعض أهل اللّغة أنه أعجمى- مسك: ذكر الثعالبى أنه فارسى- مزجاة: قال الواسطى: مزجاة: قليلة بلسان العجم، وقيل: بلسان القبط- اليهود: قال الجواليقى: أعجمى معرّب، منسوبون إلى يهوذا بن يعقوب، فعرّب بإهمال الدال «4». وأجاب أصحاب هذا الرأى عن قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «5»، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «6» ... ونحو ذلك، بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيا، كما أن القصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بوجود لفظة فيها عربية. وأجابوا عن قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ «7»، بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمى ومخاطب عربى؟ على وجه الإنكار، والكلمات النادرة لا تجعله أعجميا.
2 - وذهب الإمام الشافعي «1» وأبو عبيدة، وابن جرير، وابن فارس وآخرون إلى أنه لم يقع فى القرآن شىء بغير العربية «2». يقول الشافعي: «ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب» «3»، ثم يقول: «فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلّا من حيث علموا، وقد تكلّم فى العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلّم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله، فقال منهم قائل: إن فى القرآن عربيا وأعجميا، والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شىء إلّا بلسان العرب» «4». وقال أبو عبيدة فيما حكاه ابن فارس: إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول، قال: ومعناه أتى بأمر عظيم، وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شىء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها، وفى ذلك ما فيه «5». وأجاب ابن جرير الطبرى عن الكلمات التى قال فيها ابن عباس وغيره إنها أعجمية بأنها من الكلمات التى تواردت فى عدة لغات فى العربية وغير العربية، ولا يدل نطق الأعاجم بها على أن العرب اقتبسوها منهم، كما أنهم
لم يقتبسوها من العرب، ولا مانع من أن تتفق لغتان أو أكثر فى بعض الألفاظ، وليس ادعاء أمة بأنها لغتها أولى من ادعاء أمة أخرى، ولم يقل أحد ممن فسّر هذه الكلمات فى القرآن بغير العربية، أنها ليست من كلام العرب. يقول ابن جرير: «إن الذى قالوه من ذلك غير خارج عن معنى ما قلنا، من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما، ولا كان ذاك لها منطقا قبل نزول القرآن ... وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا، ولم تستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس وغير ذلك- مما يتعب إحصاؤه، ويمل تعداده، كرهنا إطالة الكتاب بذكره- مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللّفظ والمعنى، ولعل ذلك كذلك فى سائر الألسن التى نجهل منطقها ولا نعرف كلامها» «1». ثم قال: «وهذا المعنى الذى قلناه فى ذلك هو معنى قول من قال: «فى القرآن من كل لسان» «2»، عندنا بمعنى- والله أعلم- أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الامم التى تنطق بها ... فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن بعض القرآن فارسى لا عربى، وبعضه نبطى لا عربى، وبعضه روميّ لا عربى، وبعضه حبشى لا عربى، بعد ما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآنا عربيا» «3».
3 - وذهب ابن عطية إلى أن فى القرآن ألفاظا أعجمية استعملها العرب بالمخالطة مع غيرهم، وشاع استعمالها حتى صار كسائر الألفاظ عند العربى، فأصبحت بعد تعريبها عربية. وهذا الذى ذهب إليه ابن عطية يجمع بين الرأيين السابقين، وهو الذى يترجح لدىّ، وتميل إليه نفسى. يقول ابن عطية: «والذى أقوله: إن القاعدة والعقيدة هى أن القرآن نزل بلسان عربى مبين، فليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب فلا تفهمها إلّا من لسان آخر، فأما هذه الألفاظ وما جرى مجراها فإنه قد كان للعرب العاربة التى نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة، بتجارات، وبرحلتى قريش، وبسفر مسافر بن: أبى عمرو بن أمية بن عبد شمس «1»، إلى الشام، وسفر عمر ابن الخطاب «2»، وكسفر عمرو بن العاص «3»، وعمارة بن الوليد «4»، إلى
أرض الحبشة، وكسفر الأعشى «1» إلى الحيرة، وصحبته لنصاراها مع كونه حجّة في اللّغة، فعلقت (هوت وأحبت) العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية، غيّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها فى أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربى الصريح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها عربى ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس معنى «فاطر» إلى غير ذلك، فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها فى الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعرّبتها فهى عربية بهذا الوجه». ثم رد على الطبرى فقال: «وما ذهب إليه الطبرى من أن اللّغتين اتفقتا فى لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع فى الأكثر، لأنّا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا» «2». وحكى ابن فارس عن أبى عبيد القاسم بن سلام أنه حكى الخلاف فى ذلك، ونسب القول بوقوعه إلى الفقهاء، والمنع إلى أهل العربية، ثم قال أبو عبيدة: «والصواب عندى مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، إلا أنها سقطت إلى العرب فعرّبتها بألسنتها، وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق» .. قال: «و إنما فسر هذا لئلا يقدم أحد على
الفقهاء فينسبهم إلى الجهل، ويتوهم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله بغير ما أراده الله عزّ وجلّ فهم كانوا أعلم بالتأويل وأشد تعظيما للقرآن» قال ابن فارس: «وليس كل من خالف قائلا فى مقالته ينسبه إلى الجهل، فقد اختلف الصدر الأول فى تأويل آى من القرآن». قال: «فالقول إذن ما قاله أبو عبيد، وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره» «1».
نزول القرآن على سبعة أحرف
نزول القرآن على سبعة أحرف اتضح لنا فيما ذكرنا من قبل اختلاف اللهجات العربية، وأنها قد تسمى باللّغات، وما كان بين كل لهجة وأخرى من فوارق، منها ما اشتهر وفشا استعماله، ومنها ما لم يكن كذلك، وتبيّن أنه كان للعرب لهجات شتّى، تنبع من طبيعة فطرتهم، فى جرسها وأصواتها وحروفها، تعرضت لها كتب الأدب واللّغة بالبيان والمقارنة، فكل قبيلة لها من اللّحن فى كثير من الكلمات ما ليس للآخرين، ولكن قريشا من بين العرب قد تهيأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع العربية الأخرى، من جوار البيت، وسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، والإشراف على التجارة، فأنزلها العرب جميعا لهذه الخصائص وغيرها منزلة الأم للغاتهم، فكان طبيعيا أن يتنزل القرآن بلغة قريش على الرسول صلّى الله عليه وسلّم القرشى تأليفا للعرب، وتحقيقا لإعجاز القرآن حين يسقط فى أيديهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه. وإذا كان العرب تتفاوت لهجاتهم فى المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت، فالقرآن الذى أوحى الله به لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم يكمل له معنى الإعجاز إذا كان مستجمعا بحروفه وأوجه قراءته للخالص منها، وذلك مما ييسر عليهم القراءة والحفظ والفهم. درجة حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: صحّ حديث نزول القرآن على سبعة أحرف من عدة طرق فى الصحاح وفى كتب السنّة. فرواه جمع كثير من الصحابة منهم: أبىّ بن كعب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وابن عباس،
وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وعمر بن أبى سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبو بكرة «1»، وأبو جهم «2»، وأبو سعيد الخدرى «3»، وأبو طلحة الأنصارى «4»، وأبو هريرة، وأبو أيوب «5»، قال السيوطى فى الإتقان بعد أن عدّهم: فهؤلاء واحد وعشرون صحابيا» «6». وأخرج أبو يعلى فى مسنده الكبير «7»، أن عثمان رضى الله عنه قال يوما وهو على المنبر: «أذكّر الله رجلا سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف» لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فقال عثمان رضى الله عنه: «وأنا أشهد معهم» «8».
وهذه الرواية تدل على شهادة الجمع الكثير الذى لا يحصى بهذا الحديث، وأن هذا الجمع لم يكن من الصحابة وحدهم، بل كان من الصحابة والتابعين، إذ يترجح فى عهد عثمان أن يكون الحاضرون من الصحابة والتابعين معا، وهذا يعنى أن رواية العدد الكثير الذى يؤمن تواطؤه على الكذب لحديث «نزول القرآن على سبعة أحرف» ليست قاصرة على طبقة الصحابة. لذا نقل السيوطى عن أبى عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) القول بتواتر هذا الحديث «1»، وعده السيوطى نفسه فى «التدريب» من الأحاديث المتواترة «2». ولا خلاف فى صحة الحديث، فقد رواه البخارى ومسلم وابن حبان والحاكم من طرق كثيرة، وأخرجه أبو داود والنسائى والترمذي وأحمد وابن جرير الطبرى والطبرانى بألفاظ متعددة. والحديث بهذا على مذهب ابن الصلاح (عثمان بن عبد الرحمن- ت 643 هـ) يفيد العلم اليقينى النظرى، فقد عدّ أقسام الحديث الصحيح قائلا: «فأولها: صحيح أخرجه البخارى ومسلم جميعا، الثانى: صحيح انفرد به البخارى، أى عن مسلم، الثالث: صحيح انفرد به مسلم، أى عن البخارى، الرابع: صحيح على شرطهما لم يخرجاه، الخامس: صحيح على شرط البخارى لم يخرجه، السادس: صحيح على شرط مسلم لم يخرجه، السابع: صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما، هذه أمهات أقسامه، وأعلاها الأول، وهو الذى يقول فيه أهل الحديث كثيرا: «صحيح متفق عليه» يطلقون ذلك ويعنون به
اتفاق البخارى ومسلم «1». لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه، لاتفاق الأمة على تلقى ما اتفقا عليه بالقبول. وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقينى النظرى واقع به، خلافا لقول من نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد فى أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ. وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا، ثم بان لى أن المذهب الذى اخترناه أولا هو الصحيح، لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة فى إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبتنى على الاجتهاد حجّة مقطوعا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك «2». فالحديث المتفق على صحته يفيد العلم اليقينى النظرى عند ابن الصلاح، وحديث «نزول القرآن على سبعة أحرف» متفق على صحته، فهو يفيد العلم اليقينى النظرى، وإن لم نقل: إن الحديث متواتر، فكلاهما يفيد العلم اليقينى، والفرق بينهما فى إفادة العلم، أن المتواتر يفيد العلم اليقينى الضرورى الذى يضطر الإنسان إليه دون حاجة إلى استدلال، أما المتفق على صحته فإنه يفيد العلم اليقينى النظرى الذى يحصل بالاستدلال، فالعلم الضرورى يحصل لكل سامع وإن كان عاميا، أما النظرى فإنه لا يحصل إلا لمن له أهلية النظر «3». وبهذا كان حديث «نزول القرآن على سبعة أحرف» مفيدا للعلم اليقينى النظرى
طائفة من أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف
وإن كان حديث آحاد، والأصل فى الآحاد بأقسامه باعتبار طرقه: المشهور، والعزيز، والغريب «1»، أنه يفيد الظن. وذكر الحافظ ابن حجر العسقلانى- أحمد بن على بن محمد (ت 852 هـ) أن الآحاد يفيد العلم النظرى إذا احتفت به قرائن، والمحتف بالقرائن أنواع، منها: ما أخرجه الشيخان فى صحيحيهما مما لم يبلغ حد المتواتر- كما ذكر ابن الصلاح- فإنه احتف به قرائن: منها جلالتهما فى هذا الشأن، وتقدمهما فى تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقى العلماء لكتابيهما بالقبول- وهذا التلقى وحده أقوى فى إفادة العلم ... ومنها: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل ... ومنها: الحديث المسلسل بالأئمة الحفّاظ المتقنين حيث لا يكون غريبا «2». طائفة من أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف: 1 - أخرج البخارى ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي ومالك فى الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستمعت لقراءته، فإذ هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكدت أساوره فى الصلاة «3»،
فتربصت حتى سلّم، فلببته بردائه «1»، فقلت: من أقرأك هذه السورة التى سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله: إنى سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسله، اقرأ يا هشام»، فقرأ عليه القراءة التى كنت سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت»، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التى أقرأنى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه». 2 - وأخرج مسلم والترمذي وأبو داود والنسائى عن أبىّ بن كعب رضى الله عنه- واللّفظ لمسلم- قال: «إن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بنى غفار «2»، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا». وفى رواية أبى داود: «ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب».
وفى رواية للنسائى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أبىّ، أنزل (أى القرآن) على سبعة أحرف، كلها شاف كاف» «1». وفى رواية عند الترمذي، قال أبىّ بن كعب: «لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل، فقال: «يا جبريل، بعثت إلى أمة أميين «2»، فيهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط»، فقال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». قال البغوى فى شرح السنّة: وقوله فى حديث: «كلها شاف كاف» يريد- والله أعلم- أن كل حرف من هذه الأحرف السبعة شاف لصدور المؤمنين، لاتفاقها فى المعنى، وكونها من عند الله وتنزيله ووحية، كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ «3»، وهو كاف فى الحجّة على صدق رسول صلّى الله عليه وسلّم لإعجاز نظمه، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله، والله تعالى أعلم» «4». 3 - وأخرج البخارى ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأنى جبريل على حرف، فراجعته، فزادنى، فلم أزل أستزيده، ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف» ، قال ابن شهاب: «بلغنى أن تلك
السبعة الأحرف، إنما هى فى الأمر الذى يكون واحدا، لا يختلف فى حلال ولا حرام» «1». 4 - وأخرج الإمام أحمد بسنده عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو، أن رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هى كذا وكذا، فذكر ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأى ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا» «2». 5 - وروى الحاكم وابن حبان بسندهما عن ابن مسعود قال: أقرأنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة من آل حم، فرحت إلى المسجد، فقلت لرجل: اقرأها، فإذ هو يقرؤها حروفا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانطلقنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرناه، فتغيّر وجهه، وقال: «إنما أهلك من قبلكم الاختلاف»، ثم أسرّ إلى علىّ شيئا، فقال علىّ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم، قال: فانطلقنا وكل رجل يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه». وروى الطبرى والطبرانى عن زيد بن أرقم قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقرأنى ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد بن ثابت، وأقرأنيها أبىّ بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلىّ إلى جنبه، فقال علىّ: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم، فإنه حسن جميل» «3».
6 - وروى ابن أبى شيبة فى «المصنف» وأحمد بن حنبل فى «مسنده» عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه: «أن جبريل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقرأ القرآن على حرف، فقال له ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين، ثم قال: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف كلها كاف شاف، كقولك: هلم وتعال، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة» «1». 7 - وروى البيهقى فى السنن الكبرى «2»، عن سليمان بن صرد عن أبىّ بن كعب قال: «قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتينا النبى صلّى الله عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى، قال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: كلاكما محسن، قلت: ما كلانا أحسن ولا أجمل، قال: فضرب صدرى وقال: يا أبىّ، إنى أقرئت القرآن، فقيل لى: أعلى حرف أم على حرفين؟ فقال الملك الذى معى: على حرفين، فقلت: على حرفين، فقيل لى: أعلى حرفين أم ثلاثة، فقال الملك الذى معى: على ثلاثة، فقلت: ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، قال: ليس فيها إلا شاف كاف، قلت: غفور رحيم، عليم حكيم، سميع عليم، عزيز حكيم، نحو هذا ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب». قال أبو عبيد: قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة إلا حديثا واحدا يروى عن سمرة بن جندب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنزل القرآن على ثلاثة أحرف» قال أبو عبيد: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة، لأنها المشهورة.
قال أبو شامة «1»: أخرج حديث الثلاثة الحاكم فى مستدركه، فيجوز أن يكون معناه: أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف ك «جذوة» «2»، و «الرهب» «3»، و «الصدفين» «4»، يقرأ كل واحد على ثلاثة أوجه فى هذه القراءات المشهورة، أو أراد: أنزل ابتداء على ثلاثة، ثم زيد إلى سبعة والله أعلم «5». وقد عنى كثير من العلماء بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف وتناولوها بالدراسة منذ زمن قديم، ومنهم: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروى (ت 224 هـ) فى كتابه «غريب الحديث»، وأبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ) فى كتابه «تأويل مشكل القرآن»، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبرى (ت 310 هـ) فى مقدمة تفسيره، ومكى بن أبى طالب (ت 437 هـ) فى كتبه «الإبانة عن معانى القراءة»، وشهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبى شامة المقدسى (ت 665 هـ) فى كتابه «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز».
معنى الحرف فى اللغة
معنى الحرف فى اللّغة: إذا كان حديث نزول القرآن على سبعة أحرف قطعى الثبوت يفيد العلم اليقينى الضرورى عند من ذهب إلى أنه متواتر، أو العلم اليقينى النظرى عند ابن الصلاح وغيره، فإنه ظنى الدلالة للإجمال فى الأحرف السبعة، إذ لا يتعين المراد منها، وقبل أن نذكر آراء العلماء فى المراد بالأحرف السبعة، فإنه يجدر بنا أن نعرف معنى الحرف فى اللّغة، حتى يساعدنا هذا فى بحث آراء العلماء على التنظير والاختيار. قال ابن فارس «1»: «الحاء والراء والفاء ثلاثة أصول: حد الشيء، والعدول، وتقدير الشيء». فأما الحد، فحرف كل شىء حده، كالسيف وغيره، ومنه الحرف، وهو الوجه، تقول: هو من أمره على حرف واحد، أى طريقة واحدة، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «2»، أى على وجه واحد، وذلك أن العبد يجب عليه طاعة ربه تعالى عند السّراء والضرّاء، فإذا أطاعه عند السرّاء وعصاه عند الضرّاء، فقد عبده على حرف، ألا تراه قال تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ «3» ... والأصل الثانى: الانحراف عن الشيء، يقال: انحرف عنه ينحرف انحرافا، وحرفته أنا عنه، أى عدلت به عنه، ولذلك يقال: محارف، وذلك إذا حورف كسبه فميل به عنه، وذلك كتحريف الكلام، وهو عدله عن جهته، قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «4»، وفى المائدة: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ «5».
والأصل الثالث: المحراف: حديدة يقدّر بها الجراحات عند العلاج ... وزعم ناس أن المحارف من هذا، كأنه قدّر عليه رزقه كما تقدّر الجراحة بالمحراف. ومن هذا الباب: فلان يحرف لعياله، أى يكسب، وذلك من حرف واحترف، أى كسب» «1». والذى معنا هنا من الأصل الأول فيما ذكره ابن فارس. ويقول الراغب فى مفرداته «2»: «حرف الشيء: طرفه، وجمعه أحرف وحروف، يقال: حرف السيف، وحرف السفينة، وحرف الجبل، وحروف الهجاء: أطراف الكلمة». وفى القاموس المحيط: «الحرف من كل شىء طرفه، وواحد حروف التهجى .. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «3» أى وجه واحد، وهو أن يعبده على السرّاء، لا الضرّاء، أو على شك، أو على غير طمأنينة على أمره، أى لا يدخل فى الدين متمكنا، ونزل القرآن على سبعة أحرف: سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون فى الحرف الواحد سبعة أوجه، وإن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر، ولكن المعنى: هذه اللّغات السبع متفرقة فى القرآن». وفى لسان العرب لابن منظور: «الحرف من حروف الهجاء، معروف واحد حروف التهجي، وكل كلمة تقرأ على الوجوه من القرآن تسمى حرفا، تقول: هذا فى حرف ابن مسعود، أى فى قراءة ابن مسعود، قال ابن سيدة (على بن إسماعيل- ت 458 هـ): والحرف: القراءة التى تقرأ على أوجه، وما جاء فى الحديث من قوله عليه السلام: «نزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف»
أراد بالحرف اللّغة، قال أبو عبيدة وأبو العباس «1»: نزل على سبع لغات من لغات العرب، قال: وليس معناه أن يكون فى الحرف الواحد سبعة أوجه، هذا لم يسمع به، قال: ولكن يقول هذه اللّغات متفرقة فى القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة أهل اليمن، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة هذيل، وكذلك سائر اللّغات ومعانيها فى هذا كله واحد، وقال غيره: وليس معناه أن يكون فى الحرف الواحد سبعة أوجه، على أنه قد جاء فى القرآن ما قد قرئ بسبعة وعشرة، نحو: «ملك يوم الدين»، و «عبد الطاغوت»، ومما يبين ذلك قول ابن مسعود: إنى قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال وأقبل، قال ابن الأثير (مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزرى- ت 606 هـ): وفيه أقوال غير ذلك، هذا أحسنها، والحرف فى الأصل: الطرف والجانب، وبه سمى الحرف من حروف الهجاء «2». وروى الأزهرى (محمد بن أحمد بن الأزهر الهروى- ت 370 هـ)، عن أبى العباس أنه سئل عن قوله: «نزل القرآن على سبعة أحرف» فقال: ما هى إلا لغات، قال الأزهرى: فأبو العباس النحوى، وهو واحد عصره، قد ارتضى ما ذهب إليه أبو عبيد واستصوبه ... وإلى هذا أومأ أبو العباس النحوى وأبو بكر بن الأنبارى (محمد بن القاسم بن محمد بن بشار- ت 328 هـ) فى كتاب له ألّفه فى اتباع ما فى المصحف الإمام، ووافقه على ذلك أبو بكر بن مجاهد (أحمد بن موسى بن العباس التميمى- ت 324 هـ) مقرئ أهل
آراء العلماء فى المراد بالأحرف السبعة
العراق وغيره من الأثبات المتقنين، قال: ولا يجوز عندى غير ما قالوا، والله تعالى يوفقنا للاتباع، ويجنبنا الابتداع». وقال ابن قتيبة: «والحرف يقع على المثال المقطوع من حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، ويقع الحرف على الكلمة بأسرها، والخطبة كلها، والقصيدة بكمالها. ألا ترى أنهم يقولون: قال الشاعر كذا فى كلمته، يعنون: فى قصيدته، والله جلّ وعز يقول: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ «1»، وقال: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «2»، «3». ويتضح مما ذكر آنفا، أن الحرف يطلق حقيقة على أحد حروف التهجى، ويطلق مجازا على كلمة من إطلاق الجزء وإرادة الكل، مجاز مرسل علاقته الجزئية، لأن الكلمة تتركب من حروف، أو على اللّغة، لأن ألفاظها تتكوّن من حروف، أو على وجه من وجوه اللّغة للاختلاف فى طريقة النطق وكيفيته. آراء العلماء فى المراد بالأحرف السبعة: ذهبت آراء العلماء فى المراد بالأحرف السبعة مذاهب كثيرة، وقال ابن العربى «4»: لم يأت فى معنى هذا السبع نفى ولا أثر، واختلف الناس فى تعيينها. وقال الحافظ أبو حاتم بن حبان البستى «5»: اختلف الناس فيها على
سبب اهتمام العلماء بهذا الموضوع
خمسة وثلاثين قولا، وقال: وقفت منها على كثير «1»، ونقل القرطبى (محمد ابن أحمد المفسر- ت 671 هـ) عنه ذلك فى مقدمة التفسير، ولكنه لم يذكر منها سوى خمسة فقال: «وقد اختلف العلماء فى المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا، ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستى، نذكر منها فى هذا الكتاب خمسة أقوال» «2»، وقال المنذرى (عبد العظيم بن عبد القوى ت 656 هـ) أكثرها غير مختار، وعلّق ابن حجر على ذلك فقال: ولم أقف على كلام ابن حبان فى هذا بعد تتبعى مظانه من صحيحه «3». ولكن السيوطى (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد- ت 911 هـ) فى «الإتقان» نقل اختلاف العلماء فى معنى حديث «نزول القرآن على سبعة أحرف» على نحو أربعين قولا، وذكر منها خمسة وثلاثين قولا، ثم قال: «قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولا لأهل العلم واللّغة فى معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهى أقاويل يشبه بعضها بعضا، وكلها محتملة، ويحتمل غيرها» «4»، وهذا النص يدل على أن السيوطى اطلع على كلام ابن حبان فى كتب من كتبه، ونقله فى كتابه «الإتقان». سبب اهتمام العلماء بهذا الموضوع: وقد اهتم العلماء بهذا الموضوع وعنوا به حتى كثرت فيه الأقوال، وتعددت الآراء، واختلفت وجهات النظر، ويرجع ذلك إلى أمور:
الأول: أنه موضوع وثيق الصلة بالقرآن الكريم، وهو أساس الدين الذى قام عليه أمر الأمة، ومصدر التشريع الذى تصوغ عليه حياتها، وكلام الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. والنقل المتواتر هو دعامة قطعية ثبوت القرآن. الثانى: أن الأحاديث الواردة فى نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف مع كثرتها وتعدد رواياتها جاءت مجملة، لا تكشف عن حقيقة المراد بهذه الأحرف، ولم يأت نص صحيح صريح يبينها، فكان الاجتهاد فى تحديد المراد بها مدعاة للاختلاف. الثالث: أن تخاصم الصحابة فى هذا الأمر وتحاكمهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء الجواب عنه برد كل واحد إلى ما قرأ وتصويبه، ولم تبين الأحاديث الاختلاف الذى كان بين كل قراءة وأخرى، وهذا يدل على أن الأمر صار معروفا لدى الصحابة رضى الله عنهم، فلم يحتاجوا إلى بيان، ولو خفى عليهم لسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يبيّن لهم، فينبغى البحث لمعرفة ذلك، وهو الذى حدا العلماء على التعمق فى دراسة أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف رغبة فى ادراك المراد بهذه الأحرف. الرابع: أن الروايات الواردة فى مجموعها يشوبها بعض الغموض والإبهام، فليس فيها ما يبيّن بجلاء نص الآية أو الكلمة التى وقع الاختلاف فى قراءتها، ولا نوع الخلاف فى تلك القراءات، أكان خلافا صوتيا يمكن أن يعزى إلى تباين اللهجات فى النطق وطريقة الأداء مع وحدة اللّفظ، أم كان اختلافا فى اللّفظ مع وحدة المعنى؟ وإذا أنعم الباحث النظر فى تلك الآراء التى وردت فى كتب علوم القرآن، يجد بعضها غير معزو إلى قائله، وبعضها الآخر استنباطا بعيد المأخذ، ومنها آراء كثيرة ذات مضمون واحد أو متقارب وإن تفاوت التعبير عنها، مما جعل
الرأى الأول
ابن سعدان النحوى «1» يرى أن الحديث مشكل، إذ يقول: «معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» مشكل لا يدرى معناه، لأن العرب تسمى الكلمة المنظومة حرفا، وتسمى القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على الحرف المقطوع من الحروف المعجمة، والحرف أيضا: المعنى والجهة، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «2»، أى على جهة من الجهات ومعنى من المعانى» «3». لذا فإنى سأورد ما كان من تلك الآراء ذا بال، وأشير إلى ما قاربها من رأى. الرأى الأول: ذهب كثير من العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبعة: سبع لغات من لغات العرب فى المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب فى التعبير عن معنى من المعانى يأتى القرآن منزّلا بألفاظ على قدر هذه اللّغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتى بلفظ واحد أو أكثر، فهى أوجه سبعة من المعانى المتفقه بألفاظ مختلفة، بما يعرف بالاشتراك المعنوى، أو الترادف اللّفظى نحو: أقبل، وهلم، وتعال، وأسرع، وعجّل.
وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة «1»، وعبد الله بن وهب «2»، وابن جرير الطبرى «3»، والطحاوى «4»، وغيرهم فالأحرف السبعة أوجه من اللّغات فى المعنى الواحد، بألفاظ مختلفة. ونسب ابن عبد البر «5» هذا الرأى لأكثر العلماء. قال أبو عمر: وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» سبع لغات، وقالوا: هذا لا معنى له، لأنه
الرأى الثانى
لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض فى أول الأمر، لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم ينكر عليه، وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشى مكى، وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما محال أن يقرئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واحدا منهما بغير ما يعرفه من لغته، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا، وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعانى المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل، وتعال، وهلمّ، وعلى هذا أكثر أهل العلم» «1» ثم ذكر الأحاديث في ذلك. الرأى الثانى: وقال قوم: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه فى جملته لا يخرج فى كلماته عن سبع لغات هى أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، أو ثقيف، أو هوازن، أو كنانة، أو تميم، أو اليمن، فهو يشتمل فى مجموعه على اللّغات السبع. وهذا الرأى يختلف عن سابقه، لأنه يعنى أن الأحرف السبعة إنما هى أحرف سبعة متفرقة فى سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة فى كلمة واحدة مع اتفاق المعانى.
وإلى هذا ذهب أبو عبيد «1» وثعلب «2» والزهرى «3» وآخرون، واختاره ابن عطية «4» وصحّحه البيهقى فى الشعب. قال أبو عبيد فى كتاب «غريب الحديث»: «قوله: سبعة أحرف يعنى سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون فى الحرف الواحد سبعة أوجه، هذا لم نسمع به قط، ولكن نقول: هذه اللّغات السبع متفرقة فى القرآن، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه نزل بلغة هوازن، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة أهل اليمن وكذلك سائر اللّغات، ومعانيها فى هذا كله واحدة» «5». وقال فى كتاب «فضائل القرآن»: «وليس معنى تلك السبعة أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه، هذا شىء غير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات متفرقة فى جميع القرآن من لغات العرب، فيكون الحرف منها بلغة قبيلة، والثانى بلغة أخرى سوى الأولى، والثالث بلغة أخرى سواهما، كذلك إلى سبعة، وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض، وذلك بيّن فى أحاديث تترى».
وقال ابن عطية: معنى قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»: أى فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز فى اللّفظ، ألا ترى أن «فطر» معناه عند غير قريش ابتدأ. فجاءت فى القرآن فلم تتجه لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1»، وقال أيضا: ما كنت أدرى معنى قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «2» حتى سمعت بنت ذى يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أى أحاكمك، وكذلك قال عمر بن الخطاب، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ «3»: أى على تنقص لهم، وكذلك اتفق لقطبة بن مالك، إذ سمع النبى صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فى الصلاة: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ «4» ذكره مسلم فى باب القراءة فى صلاة الفجر ، إلى غير ذلك من الأمثلة» «5». ووردت روايات محتملة للرأيين السابقين: الأول والثانى لما فيها من إجمال. فعن علىّ بن أبى طالب «6» ، وابن عباس «7»، رضى الله عنهما قالا: نزل القرآن بلغة كل حى من أحياء العرب.
وفى رواية عن ابن عباس أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان يقرئ الناس بلغة واحدة، فاشتد ذلك عليهم، فنزل جبريل فقال: «يا محمد، أقرئ كل قوم بلغتهم» «1». فهذا يفيد نزول القرآن باللّغات المعروفة عند العرب، ولا يتبين من ذلك ما إذا كان المراد نزول القرآن بهذه اللّغات فى المعنى الواحد حيث يكون هناك اختلاف فى اللّفظ- وهو الرأى الأول- أو كان المراد نزول القرآن فى مجموعه بهذه اللّغات، فلا تخرج كلماته عنها- وهو الرأى الثانى. وقد علّق ابن حجر «2» فى «الفتح» على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف تعليقا مجملا فقال: «وهذه الأحاديث تقوّى أن المراد بالأحرف اللّغات، أو القراءات، أى أنزل القرآن على سبع لغات أو قراءات، والأحرف جمع حرف، مثل: فلس وأفلس، فعلى الأول يكون المعنى على سبعة أوجه من اللّغات، لأن أحد معانى الحرف فى اللّغة الوجه، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «3». وعلى الثانى يكون المراد من إطلاق الحرف على الكلمة مجازا لكونه بعضها «4». ولعل الحافظ ابن حجر فى هذا يشير إلى الرأيين السابقين، ويعبّر عن الرأى الأول بقوله: «سبعة أوجه من اللّغات» كأنه يعنى اتفاقها فى المعنى وإن اختلفت الألفاظ، ويعبّر عن الرأى الثانى بالقراءات، باعتبارها كلمات متفرقة
تحديد اللغات السبع
من لغات سبع، فيكون إطلاق الحرف على كل كلمة منها على سبيل المجاز، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. تحديد اللّغات السبع: واختلف أصحاب هذين الرأيين فى تحديد اللّغات السبع: (أ) فقال أبو حاتم السجستانى «1»: نزل القرآن بلغة قريش، وهذيل، وتميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. قال أبو على الأهوازى «2»: سمعت أبا عبد الله محمد بن المعلى الأزدى «3» بالبصرة يقول: سمعت أبا بكر محمد بن دريد الأزدى «4» يقول: سمعت أبا حاتم سهل بن محمد السجستانى يقول: معنى سبعة أحرف: سبع لغات من لغات العرب، وذلك أن القرآن نزل بلغة قريش، وهذيل، وتميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر «5»
واستنكر هذا القول ابن قتيبة «1»، فيما نقله عنه ابنه، محتجا بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «2»: ما لم تكن هذه اللّغات السبع فى بطون قريش. قال أبو علىّ الأهوازى: سمعت أبا الحسن علىّ بن إسماعيل بن الحسن القطان «3»، يقول: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم «4» يقول: سمعت أبى يقول: عن أبى حاتم السجستانى- وهذا القول عظيم من قائله، لأنه غير جائز أن يكون فى القرآن لغة تخالف لغة قريش، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ إلّا أن يكون القائل لهذا أراد ما وافق من هذه اللّغات لغة قريش «5». ويؤيد هذا الاعتراض ما جاء فى حديث جمع القرآن الكريم فى عهد عثمان رضى الله عنه، حين ندب لهذا الأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقال للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم «6».
كما يؤيد هذا الاعتراض كذلك ما روى من إنكار عمر رضى الله عنه على ابن مسعود قراءته: «عتى حين» أى: حَتَّى حِينٍ «1»، وكتب إليه: إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، أخرجه ابن عبد البر من طريق أبى داود «2» بسنده، وذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة «3». وفى سنن أبى داود أن عمر كتب إلى ابن مسعود: أما بعد .. فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابى هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، قال ابن عبد البر أبو عمر: ويحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذى قرأ به ابن مسعود لا يجوز، قال: وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل عندى، والله أعلم «4». (ب) وقيل: نزل القرآن بلغة مضر خاصة، وقال أصحاب هذا الرأى: هذه اللّغات كلها السبع، إنما تكون فى مضر، واحتجوا بقول عثمان رضى الله عنه: نزل القرآن بلسان مضر، وروى نحوه عن عمر، وعيّنوا اللّغات السبع من مضر فقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة «5». ومنها لقيس، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب «6».
ويرد على هذا الرأى كذلك ما استنكره ابن قتيبة، وما ذكرناه آنفا مما يساند اعتراضه. كما يرد عليه أن فى مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها، مثل كشكشة قيس «1»، وعنعنة تميم «2». ويجاب عن ذلك: بأن معنى قوله تعالى: إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «3» إلا بلغة قومه، وقومه هم العرب، فالآية تشمل لغات العرب كلها. وعن أيوب السختيانى «4» أنه قال: معنى قوله تعالى: إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ: أراد العرب كلهم. قال أبو شامة: فعلى هذا القول لا يستقيم اعتراض ابن قتيبة على ذلك التأويل. والمراد بقول عمر وقول عثمان رضى الله عنهما: أن القرآن نزل بلغة قريش، أو بلسان مضر، أن ذلك كان أول نزوله، ثم كان التيسير بعد ذلك على العرب
فجاز لهم أن يقرؤه بلغاتهم، أما غير العربى فالأولى له أن يقرأه بلغة قريش لأفضليتها. قال أبو شامة: «أشار عثمان رضى الله عنه إلى أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهّله على الناس، فجوّز لهم أن يقرءوه على لغاتهم على ما سبق تقريره، لأن الكل لغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربى مبين. وأما من أراد من غير العرب حفظه فالمختار له أن يقرأه على لسان قريش، وهذا إن شاء الله تعالى هو الذى كتب فيه عمر إلى ابن مسعود رضى الله عنهما: «أقرئ الناس بلغة قريش» لأن جميع لغات العرب بالنسبة إلى غير العربى مستوية فى التعسر عليه، فإذا لا بد من واحدة منها، فلغة النبى صلّى الله عليه وسلّم أولى له، وإن أقرئ بغيرها من لغات العرب، فجائز فيما لم يخالف خط المصحف، وأما العربى المجبول على لغة فلا يكلّف لغة قريش لتعسرها عليه، وقد أباح الله تعالى القراءة على لغته، والله أعلم» «1». (ج) وقيل: اللّغات السبع، خمس منها فى هوازن: لسعيد، وثقيف، وكنانة، وهذيل، وقريش- أو ثقيف، وبنى سعد بن بكر، وبنى نصر بن معاوية، وبنى جشم، ولغتان على جميع ألسنة العرب، وتخصيص لغات هوازن لقربهم وجوارهم من منزل الوحى. قال الأهوازى: وقال بعضهم: خمس منها بلغة هوازن، وحرفان لسائر لغات العرب، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربّى فى هوازن، ونشأ فى هذيل. وقال أبو القاسم الهذلى «2» فى كتابه «الكامل» نقلا عن أبى عبيد: وقيل: خمس لغات فى أكناف هوازن، لسعيد، وثقيف، وكنانة، وهذيل، وقريش.
قال ابن عبد البر: وقد روى الأعمش «1»، عن أبى صالح «2»، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، صار فى عجز هوازن منها خمسة. قال أبو حاتم: عجز هوازن: ثقيف، وبنو سعد بن بكر، وبنو جشم، وبنو نصر بن معاوية، قال أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، ومنزل الوحى، وإنما مضر وربيعة أخوان، قال: وأحب الألفاظ واللّغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش، ثم أدناهم من بطون مضر. وروى الكلبى «3»، عن أبى صالح عن ابن عباس قال: «القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن». قال أبو عبيد: والعجز هم: سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهذه القبائل هى التى يقال لها: عليا هوازن، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء «4»: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم، فهذه عليا هوازن، وأما سفلى تميم فبنو دارم، فهذه سبع قبائل «5».
وجه تخصيص لغات تلك القبائل
(د) وقيل: إن اللّغات السبع ترجع إلى كعبين: كعب بن قريش، وكعب ابن خزاعة لتجاورهما فى المنزل. قال أبو عبيد: وكذلك يحدّثون عن سعيد بن أبى عروبة «1»، عن قتادة «2»، عمن سمع ابن عباس يقول: أنزل القرآن بلغة الكعبين: كعب بن قريش، وكعب ابن خزاعة، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة. قال أبو عبيد: يعنى أن خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم. وقال أبو شامة: والكعبان: كعب بن لؤى من قريش، وكعب بن عمرو من خزاعة. وجه تخصيص لغات تلك القبائل: وقد أوضح ابن عطية وجه تخصيص لغات تلك القبائل فقال: «فأصل ذلك وقاعدته قريش، ثم بنو سعد بن بكر، لأن النبى عليه السلام قرشى، واسترضع فى بنى سعد، ونشأ فيهم، ثم ترعرع وعقت تمائمه وهو يخالط فى اللّسان كنانة، وهذيلا، وثقيفا، وخزاعة، وأسدا، وضبة، وألفافها لقربهم من مكة، وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما، وقيسا، ومن انضاف إليهم وسط جزيرة العرب، فلما بعثه الله تعالى ويسّر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي التى قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهى اختلافاتها فى العبارات حسبما تقدم .. وهذه الجملة هى التى انتهت إليها
ما تدل عليه النصوص بعامة وما جاء عن لغة قريش بخاصة
الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدخيل، ويسّرها الله لذلك ليظهر آية نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها أنها فى وسط جزيرة العرب فى الحجاز ونجد وتهامة، فلم تطرقها الأمم، فأما اليمن وهى جنوبى الجزيرة فأفسدت كلام عربه خلطه الحبشة والهنود، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد، قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التى نزل القرآن بلسانها .. وأما ما والى العراق من جزيرة العرب، وهى بلاد ربيعة، وشرقى الجزيرة فأفسدت لغتها مخالطة الفرس والنبط ونصارى الحيرة، وغير ذلك. وأما الذى يلى الشام، وهو شمالى الجزيرة، وهى بلاد آل جفنة، وابن الرافلة، وغيرهم، فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بنى إسرائيل. وأما غربى الجزيرة فهى جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم، وأكثرها غير معمور، فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللّغات، لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم .. فمعنى قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أى فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز فى اللّفظة .. فأباح الله تعالى لنبيه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل فى عرضاته على الوجه الذى فيه الإعجاز وجودة الوصف «1». ما تدل عليه النصوص بعامة وما جاء عن لغة قريش بخاصة: وأيا كان الاختلاف فى معرفة اللّغات السبع بعينها باعتبارها الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن، فإن دراسة النصوص الواردة فى ذلك، وفيما يناقضها فى الظاهر من نزول القرآن بلغة قريش تدل على أربعة أمور:
أحدها: أن اللّغات السبع ليست بالضرورة فى كل كلمة من القرآن، أو فى كلمة بعينها، بل حيث يوجد فى لغات العرب تفاوت فى الألفاظ الدالة على معنى واحد ينزل القرآن باللّغات السبع أو ببعضها، وحيث لا يوجد فلا. ثانيها: أن بعض هذه اللّغات كان أشهر من بعض، وأعلاها لغة قريش، والشأن فيها جميعا أن تكون من اللّغات الأكثر انتشارا وذيوعا. ثالثها: أن القراءة بهذه اللّغات كانت على سبيل الاختيار عند الصحابة، حتى يسهل على كلّ أن يقرأ بما تيسر له. رابعها: أن اللّغات السبع- أى الأحرف السبعة على ما سبق- انتهت بجمع عثمان رضى الله عنه المصحف على حرف واحد قطعا لدابر الخلاف. وعلى هذا يحمل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود رضى الله عنهما، قال بعضهم: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزّل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم فى الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربى إذا فارق لغته التى طبع عليها يدخل عليه الحميّة من ذلك، فتأخذه العزة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منا منه عزّ وجل، لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء فى القرآن مخالفة ألفاظ المصحف المجمع عليه، كالصوف، وهو «العهن» «1»،
وزقية، وهى: «صيحة» «1»، وحططنا وهى: «وضعنا» «2»، وحطب جهنم، وهى: «حصب» «3»، ونحو ذلك، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكل رجل منهم متمسك بما أجازه له صلّى الله عليه وسلم، وإن كان مخالفا لقراءة صاحبه فى اللّفظ، وعوّل المهاجرون والأنصار ومن تبعهم على العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على جبريل فى العام الذى قبض فيه، وذلك أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان يعرض عليه فى كل سنة مرة جميع ما أنزل عليه فيها إلّا فى السنة التى قبض فيها فإنه عرض عليه مرتين. قال أبو شامة: «وهذا كلام مستقيم حسن، وتتمته أن يقال: أباح الله تعالى أن يقرأ على سبعة أحرف ما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن، وعلى دونها ما يحتمل ذلك من جهة اختلاف اللّغات وترادف الألفاظ توسيعا على العباد، ولهذا كان النبى صلّى الله عليه وسلم يقول لما أوحى إليه أن يقرأ على حرفين وثلاثة: «هوّن على أمتى» على ما سبق ذكره فى أول الباب، فلما انتهى إلى سبعة وقف، وكأنه صلّى الله عليه وسلم علم أنه لا يحتاج من ألفاظه لفظة إلى أكثر من ذلك غالبا، والله أعلم» «4». إن أبا شامة بهذا الكلام يرى: 1 - أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان فيما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن، لا فى كل لفظ من ألفاظه.
2 - وأن هذا يرجع إلى اختلاف اللّغات وترادف الألفاظ توسيعا على العباد. 3 - وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى فى طلبه إلى سبعة أحرف لعلمه بأن أمته على اختلاف لغات العرب لا تحتاج فى لفظة من ألفاظ القرآن إلى أكثر من ذلك. أما ما روى من أن القرآن أنزل بلسان قريش فإنه يحمل على أحد وجهين جمعا بين الروايات: أحدهما: أن يكون المراد بذلك أن القرآن نزل فى الابتداء بلسانهم، ثم أبيح بعد ذلك أن يقرأ بسبعة أحرف. وثانيهما: أن معظم القرآن نزل بلسانهم، فإذا وقع الاختلاف فى كلمة فوضعها على موافقة لسان قريش أولى من لسان غيرهم. وكان هذا سائغا قبل جمع الصحابة المصحف حتى يسهل على الأمة حفظ القرآن، يحفظ كل بلغته، ثم إن الصحابة رضى الله عنهم بعد أن ظهر الاختلاف فى القراءة وكثر حفظة القرآن أدركوا أن القراءة على حرف من الحروف السبعة كانت رخصة أول الأمر لتيسير القراءة، أما وقد كثر الحفّاظ فإنه لم يعد هناك حاجة لهذه الرخصة، ولا سبيل لتجاوز الاختلاف إلا بجمع الناس على حرف واحد، وهذا هو ما ألهمه الله عثمان رضى الله عنه، فحسم مادة الخلاف بنسخ القرآن على اللّفظ المنزّل به فى لغة قريش دون اللّفظ المرادف له، وفق ما استقرت عليه القراءة فى السنة التى توفى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن عارضه به جبريل فى تلك السنة مرتين، وأجمع الصحابة معه على ذلك، وأصبحت القراءة قاصرة على ما وافق رسم المصحف فى جمع عثمان، وما عدا ذلك فهو قراءة شاذة. وصحّ عن زيد بن ثابت رضى الله عنه وعن غيره أنه قال: «إن القراءة سنّة» .
قال البيهقى معلّقا على ذلك: أراد أن اتباع من قبلنا فى الحروف سنّة متبعة، لا يجوز مخالفة المصحف الذى هو إمام، ولا مخالفة القراءات التى هى مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغا فى اللّغة، أو أظهر منها. قال أبو بكر بن العربى: سقط جميع اللّغات والقراءات إلا ما ثبت فى المصحف بإجماع من الصحابة، وما أذن فيه قبل ذلك ارتفع وذهب، والله أعلم «1». وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون فى القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، فقال: «وليس يوجد فى كتاب الله تعالى حرف قرئ على سبعة أوجه يصح فيما أعلم» «2». ورد عليه ابن الأنبارى «3» بمثل: عَبَدَ الطَّاغُوتَ «4» (المائدة: 60)
الرأى الثالث فى المراد بالأحرف السبعة
فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «1» (الإسراء: 23)، وَجِبْرِيلَ «2» (البقرة 97، 98، التحريم 4)، ويَرْتَعْ وَيَلْعَبْ «3» (يوسف: 12). قال أبو شامة: «وقال القتبى: لا نعرف فى القرآن حرفا يقرأ على سبعة أحرف، وقال ابن الأنبارى: هذا غلط، فقد وجد فى القرآن حروف تقرأ على سبعة أحرف، منها قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «4»، وقوله تعالى: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ «5» وذكر وجوها. كأنه يذهب فى تأويل الحديث إلى أن بعض القرآن أنزل على سبعة أحرف، لا كله». وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلام ابن الأنبارى ينصرف إلى الاختلاف فى وجوه النطق، لا إلى الاختلاف فى الألفاظ مع اتفاق المعنى، وعامة وجوه القراءات فى الأمثلة التى ذكرها تتفاوت فى الاشتقاق والإعراب، ومادة الكلمة واحدة. الرأى الثالث فى المراد بالأحرف السبعة: ذكر بعضهم أن المراد بالأحرف السبعة أنواع سبعة، والقائلون بهذا اختلفوا فى تعيين السبعة: فقيل: أمر، ونهى، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. وقيل: أمر، ونهى، ووعد، ووعيد، وجدل، وقصص، ومثل.
قال أبو شامة «1»: ذهب قوم فى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف، فمنها زاجر، ومنها آمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها محكم، ومنها متشابه، واحتجوا بحديث يرويه سلمة بن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه «2»، عن ابن مسعود «3»، عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «كان الكتاب الأولا أنزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به، كلّ من عند ربنا» «4». وروى ابن جرير عن أبى قلابة «5» قال: «بلغنى أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل» «6». وقال القاضى أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسى: وقال فريق
من العلماء: إن المراد بالسبعة الأحرف معانى كتاب الله تعالى: وهى: أمر، ونهى، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال» «1» وقريب من هذا ما ذكره القاضى أبو بكر بن الطيب «2» أن أبيّا رضى الله عنه روى عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أبىّ، إنى أقرئت القرآن على حرف أو حرفين، ثم زادني الملك، حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت: غفور رحيم، سميع عليم، أو عليم حكيم، وكذلك ما لم تختم عذابا برحمة، أو رحمة بعذاب» «3». وهذا اختصار لحديث رواه أبو داود «4» عن أبىّ بن كعب «5» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبىّ؛ إنى أقرئت القرآن، فقال لى: على حرف؟ فقال الملك الذى معى: قل على حرفين، قلت: على حرفين، فقيل لى: على حرفين، فقال الملك الذى معى: قل على ثلاث، فقلت: على ثلاث، حتى بلغت سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب» «6». وروى البيهقى فى السنن الكبرى نحوه «7».
وعلّق القاضى أبو بكر الباقلانى على ذلك فقال: «وهذه أيضا سبعة غير السبعة التى هى وجوه وطرائق، وغير السبعة التى هى قراءات ووسع فيها، وإنما هى سبعة أوجه من أسماء الله تعالى» «1» وفسّر البيهقى هذا فقال: «أما الأخبار التى وردت فى إجازة قراءة «غفور رحيم» بدل «عليم حكيم» فلأن جميع ذلك مما نزل به الوحى، فإذا قرأ ذلك فى غير موضعه فكأنه قرأ آية من سورة، وآية من سورة أخرى، فلا يأثم بقراءتها كذلك، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، ولا آية رحمة بآية عذاب» «2». ولا ينبغى أن يحمل ما جاء فى هذه الرواية على أنه يجوز للناس أن يبدّلوا اسما لله فى موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه، فإن الوقوف عند اللّفظ القرآنى المتواتر واجب، وغاية ما فى الحديث أن أسماء الله تعالى وردت على أوجه فى مواضع متعددة بالقرآن الكريم. ولذا اعتبر ابن عبد البر آخر الحديث مفسّرا لأوله فقال: «إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التى نزل القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون فى شىء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده، كالرحمة التى هى خلاف العذاب وضده» «3». ومن ذلك القبيل ما ذهب إليه بعضهم من أن المراد: علم القرآن يشتمل على سبعة أشياء:
علم الإثبات والإيجاد، كقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1». وعلم التوحيد، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2»، وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «3» وعلم التنزيه كقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ «4»، وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «5». وعلم صفات الذات كقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ «6»، وقوله: الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ «7». وعلم صفات الفعل كقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ «8»، وقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ «9» وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ «10»، وقوله: لا تأكلوا الربا «11». وعلم العفو والعذاب، كقوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ «12» وقوله: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «13». وعلم الحشر والحساب، كقوله: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ «14» وقوله: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «15».
وعلم النّبوات كقوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ «1»، وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «2». وعلم الإمامات كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3»، وقوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ «4» وقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «5»، «6». ويبدو من هذه النماذج أن المقصود ضرب المثل بما يمكن أن تحمل عليه الأحرف السبعة، على أن المراد بها المعانى والوجوه والأنواع، وليس المراد الحصر، فهى سبعة أنواع. وحرص علماء كل فن على أن يجعلوا هذا متصلا بفنهم. فيقول الفقهاء: المراد المطلق والمقيد، والعام والخاص، والنص، والمؤول، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والمحكم والمتشابه، والاستثناء وأقسامه. ويقول أهل اللّغة: المراد الحذف والصلة، والتقديم والتأخير، والقلب والاستعارة، والتكرار والكناية، والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر، والظاهر والغريب. ويقول النحاة: إنها التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والتصريف والإعراب، والأقسام وجوابها، والجمع والتفريق، والتصغير والتعظيم، وإختلاف الأدوات مما يختلف فيها بمعنى، وما لا يختلف فى الأداء واللفظ جميعا.
الرأى الرابع فى المراد بالأحرف السبعة
ويقول القرّاء: إنها من طريق التلاوة وكيفية النطق بها، من إظهار وإدغام، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومد وقصر، وتخفيف وتليين، وتشديد. ويقول الصوفية: إنها الزهد والقناعة مع اليقين، والحزم والخدمة مع الحياء، والكرم والفتوة مع الفقر، والمجاهدة والمراقبة مع الخوف، والرجاء والتضرع والاستغفار مع الرضا، والشكر والصبر مع المحاسبة والمحبة، والشوق مع المشاهدة «1». وهذه الأقوال يحرص فيها أصحاب كل علم على أن يرفعوا من مكانة علمهم، واصطلاحات فنهم، فيحملون الأحرف السبعة على وجوه العلم لديهم، وهى أقوال لا سند لها من الأثر، ولا وجه لها من النظر، والدافع لها عصبية أهل الفن لفنهم، واعتزازهم به، وتقوية أواصره بالقرآن الكريم اعتزازا بعلمهم. الرأى الرابع فى المراد بالأحرف السبعة: وذهب جماعة إلى أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير السبعة التى وقع فيها الاختلاف، وهى الوجوه التى ذكرها ابن قتيبة حيث قال: «وقد تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءات فوجدتها سبعة أوجه» ثم عدّها وضرب أمثلة لها «2». وأخذ كلام ابن قتيبة ونقّحه آخرون، وحكى نظيره القرطبى «3» عن القاضى أبى بكر الباقلانى «4»، ونقل هذه الوجوه كلها ابن الجزرى «5» فى كتابه «النشر» «6».
وهذه الوجوه التى يقع بها التغاير هى: 1 - اختلاف الأسماء بالإفراد والتذكير وفروعهما: التثنية والجمع والتأنيث كقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ «1» قرئ «لأماناتهم» بالجمع، وقرئ «لأمانتهم» بالإفراد، ورسمها فى المصحف «لأمنتهم» يحتمل القراءتين، لخلوها من الألف الساكنة، ومآل الوجهين فى المعنى واحد، فيراد بالجمع الاستغراق الدال على الجنسية، ويراد بالإفراد الجنس الدال على معنى الكثرة، أى جنس الأمانة، وتحت هذا جزئيات كثيرة. 2 - الاختلاف فى وجوه الإعراب: كقوله تعالى: ما هذا بَشَراً «2»، قرأ الجمهور بالنصب على أن «ما» عاملة عمل «ليس» وهى لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن، وقرأ ابن مسعود: «ما هذا بشر» بالرفع على لغة بنى تميم، فإنهم لا يعملون «ما» عمل «ليس» «3». وكقوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «4»، برفع «آدم» ونصب تاء «كلمات» بالكسرة- وقرئ بنصب «آدم» ورفع «كلمات»: «فتلقى آدم من ربه كلمات». 3 - الاختلاف فى التصريف: كقوله تعالى: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا «5»، قرئ بنصب «ربنا» على أنه منادى مضاف، و «باعد»
بصيغة الأمر- وقرئ «ربنا» بالرفع، و «باعد» بفتح العين، على أنه فعل ماض،- وقرئ «بعد» بفتح العين مشددة، مع رفع «ربنا» أيضا. ومن ذلك ما يكون بتغيير حرف، مثل: «يعلمون» و «تعلمون» بالياء والتاء، و «الصراط» و «السراط» فى قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1». 4 - الاختلاف بالتقديم والتأخير: إما فى الحرف، كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ «2»، وقرئ: «أفلم يأيس» - وإما فى الكلمة، كقوله تعالى: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ «3»، بالبناء للفاعل فى الأول، وللمفعول فى الثانى، وقرئ بالعكس، أى بالبناء للمفعول فى الأول، وللفاعل فى الثانى. ومثّل ابن قتيبة لهذا الوجه من الاختلاف بقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ «4»، وقرئ: «وجاءت سكرة الحق بالموت» «5». وهى أوضح فى الاستدلال، ولكنها قراءة آحادية أو شاذة، لم تبلغ درجة التواتر. 5 - الاختلاف بالإبدال: سواء أكان إبدال حرف بحرف، كقوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها «6»، قرئ بالزاى المعجمة مع ضم النون، وقرئ بالراء المهملة مع فتح النون- أو إبدال لفظ بلفظ، كقوله تعالى: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ «7»، وقرأ ابن مسعود وغيره «كالصوف المنفوش» - وقد يكون هذا الإبدال مع التقارب فى المخارج، كقوله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ «8»، وقرئ «طلع» ومخرج الحاء والعين واحد. فهما من حروف الحلق.
6 - الاختلاف بالزيادة والنقص: فالزيادة كقوله تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ «1»، قرئ «من تحتها الأنهار» بزيادة «من» وهما قراءتان متواتران- والنقصان كقوله تعالى: «قالوا اتخذ الله ولدا» بدون واو، وقراءة الجمهور: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «2» بالواو- وقد يمثّل للزيادة فى قراءة الآحاد بقراءة ابن عباس «وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا» بزيادة «صالحة» وإبدال كلمة «أمام» بكلمة «وراء»، وقراءة الجمهور: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً «3» - كما يمثل للنقصان بقراءة ابن مسعود «والذكر والأنثى» بدلا من قوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «4». 7 - اختلاف اللهجات بالتفخيم والترقيق والفتح والإمالة والإظهار والإدغام والهمز والتسهيل والإشمام ونحو ذلك، كالإمالة وعدمها فى مثل قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «5»، قرئ بإمالة «أتى» و «موسى» - وترقيق الراء فى قوله: خَبِيراً بَصِيراً «6»، وتفخيم اللام فى «الطلاق»، وتسهيل الهمزة فى قوله: قَدْ أَفْلَحَ «7» - وإشمام الغين ضمة مع الكسر فى قوله تعالى: وَغِيضَ الْماءُ «8» ... وهكذا. ولا يرى ابن الجزرى هذا من وجوه الاختلاف، حيث يقول: «وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام والروم والإشمام والتفخيم والترقيق والمد والقصر والإمالة والفتح والتحقيق والتسهيل والإبدال والنقل مما يعبّر عنه بالأصول،
فهذا ليس من الاختلاف الذى يتنوّع فيه اللّفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة فى أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا» «1». وجاءت آراء قريبة من هذا الرأى متداخلة معه على نهج آخر: اختار أبو على الأهوازى طريقة أخرى فقال: «قال بعضهم: معنى ذلك، هو الاختلاف الواقع فى القرآن، يجمع ذلك سبعة أوجه: الجمع والتوحيد، كقوله تعالى: «وكتبه» و «وكتابه» «2». والتذكير والتأنيث، كقوله تعالى: «لا يقبل» و «لا تقبل» «3». والإعراب، كقوله تعالى: «المجيد» و «المجيد» «4». والتصريف، كقوله تعالى: «يعرشون» و «يعرشون» «5». والأدوات التى يتغير الإعراب لتغيرها، كقوله تعالى: «ولكن الشياطين» و «ولكنّ الشياطين» «6». واللّغات، كالهمز، وتركه، والفتح، والكسر، والإمالة، والتفخيم، وبين بين، والمد، والقصر، والإدغام، والإظهار، وتغيير اللّفظ والنقط باتفاق
الخط، كقوله تعالى: «ننشرها» و «ننشزها» «1». ونحو ذلك، قال: وهذا القول أعدل الأقوال وأقربها لما قصدناه، وأشبهه بالصواب. ثم ذكر وجها آخر فقال: قال بعضهم: معنى ذلك سبعة معان فى القراءة: أحدها: أن يكون الحرف له معنى واحد، تختلف فيه قراءتان تخالفان بين نقطة ونقطة مثل: «تعملون» و «يعملون» «2». الثانى: أن يكون المعنى واحدا وهو بلفظتين مختلفتين، مثل قوله تعالى: «فاسعوا» و «فامضوا» «3». والثالث: أن تكون القراءتان مختلفتين فى اللّفظ إلّا أن المعنيين متفرقان فى الموصوف، مثل قوله تعالى: «ملك» و «مالك» «4». والرابع: أن تكون فى الحرف لغتان، والمعنى واحد، وهجاؤهما واحد، مثل قوله تعالى: «الرشد» و «الرشد» «5». والخامس: أن يكون الحرف مهموزا وغير مهموز، مثل «النبيء» و «النبى».
والسادس: التثقيل والتخفيف، مثل «الأكل و «الأكل» «1». والسابع: الإثبات والحذف، مثل «المنادى» و «المناد» «2». قال أبو على: وهذا معنى يضاهى معنى القول الأول الذى قبله، وعليه اختلاف قراءة السبعة الأحرف. وهذان الوجهان اللّذان ذكرهما أبو على الأهوازى نسبا إلى غيره: أما الوجه الأول: فنسبه الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد «3» إلى أبى طاهر بن أبى هاشم «4»، ثم قال عقيبه: «وهذا أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى» قال: وقد روى عن مالك بن أنس «5» أنه كان يذهب إلى هذا المعنى. وقال أبو بكر محمد بن على بن أحمد الأدفوي «6» فى «كتاب الاستغناء فى
علوم القرآن» فيما نقله عن أبى غانم المظفر بن أحمد بن حمدان «1». قال: «القرآن محيط بجميع اللّغات الفصيحة، وتفصيل ذلك أن تكون هذه اللّغات السبع على نحر ما أذكره: فأول ذلك تحقيق الهمز وتخفيفه فى القرآن كله، فى مثل «يؤمنون» «2»، وك «مؤمنين» و «النبيين» «3»، و «النسيء» «4»، و «الصابئين» «5» و «البرية» «6»، و «سأل سائل» «7»، وما أشبه ذلك، فتحقيقه وتخفيفه بمعنى واحد، وقد يفرّقون بين الهمز وتركه بين معنيين، فى مثل «أو ننسها» من النسيان أو «ننسأها» «8» من التأخير، ومثل «كوكب درى» و «درئ» «9». ومنه إثبات الواو وحذفها فى آخر الاسم المضمر، نحو «ومنهمو أميون» «10».
ومنه أن يكون باختلاف حركة وتسكينها فى مثل «غشاوة» و «غشوة» «1»، و «جبريل» «2»، و «ميسرة» «3»، و «البخل» «4»، و «سخريا» «5». ومنها أن يكون بتغيير حرف نحو «ننشرها» «6» و «يقض الحق» «7»، و «نصفين» «8». ومنه أن يكون بالتشديد والتخفيف، نحو «يبشّرهم» و «بشرهم» «9». ومنه أن يكون بالمد والقصر، نحو «زكرياء» و «زكريا» «10».
الرأى الخامس فى المراد بالأحرف السبعة
ومنه أن يكون بزيادة حرف من «فعل» و «أفعل» مثل «فاسر بأهلك» «1» و «نسقيكم» «2». واختار نحو هذه الطريقة فى تفسير الأحرف السبعة القاضى أبو بكر محمد بن الطيب فى كتاب «الانتصار» «3». الرأى الخامس فى المراد بالأحرف السبعة: ذهب بعضهم إلى أن العدد سبعة لا مفهوم له، وإنما هو رمز إلى ما ألفه العرب من معنى الكمال فى هذا العدد، فهو إشارة الى أن القرآن فى لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله مع بلوغه الذروة فى الكمال، فلفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة والكمال فى الآحاد، كما يطلق السبعون فى العشرات، والسبعمائة فى المئين، ولا يراد العدد المعيّن، والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد، بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر، قال تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ «4»، وقال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «5». وإلى هذا جنح القاضى عياض «6» ومن تبعه.
قال أبو بكر بن العربى شيخ السهيلى «1». فى كتاب «شرح الموطأ»: «لم تتعين هذه السبعة بنص من النبى صلّى الله عليه وسلم، ولا بإجماع من الصحابة، وقد اختلفت فيها الأقوال، فقال ابن عباس: اللّغات سبع، والسموات سبع، والأرضون سبع- وعدّد السبعات- وكان معناه أنه نزل بلغة العرب كلها» «2». ومال إلى هذا الرأى كذلك جمال الدين القاسمى «3» فى مقدمة تفسيره «محاسن التأويل» وعزاه إلى السيوطى فى «الإتقان» بما يوهم اعتماده إذ يقول: «ليس المراد بالسبع حقيقة العدد المعلوم، بل كثرة الأوجه التى تقرأ بها الكلمة على سبيل التيسير والتسهيل والسعة .. كذا فى الإتقان، والأظهر ما ذكرنا من إرادة الكثرة من السبعة لا التحديد، فيشمل ما ذكره ابن قتيبة وغيره ... » «4». وإليه ذهب مصطفى صادق الرافعى «5» فقال: «والذى عندنا فى معنى الحديث: أن المراد بالأحرف اللّغات التى تختلف بها لهجات العرب، حتى يوسع على كل قوم أن يقرءوه بلحنهم، وما كان العرب يفهمون من معنى الحرف فى الكلام إلا اللّغة، وإنما جعلها سبعة رمزا إلى ما ألفوه من معنى الكمال فى هذا العدد، وخاصة فيما يتعلق بالإلهيات: كالسماوات السبع، والأرضين
السبع، والسبعة الأيام التى برئت فيها الخليقة، وأبواب الجنة والجحيم، ونحوها، فهذه حدود تحتوى ما وراءها بالغا ما بلغ، وهذا الرمز من ألطف المعانى وأدقها، إذ يجعل القرآن فى لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله» «1». وبعض علماء اللّغة يرى أن عدد السبعة يدل على الكمال لأن السبعة جمعت العدد كله، لأن العدد أزواج وأفراد، والأزواج فيها أول وثان، والاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان، والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثان، فإذا اجتمع الزوج الأول مع الفرد الثانى، أو الفرد الأول مع الزوج الثانى كان سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذى هو أصل العدد مع الستة التى هى عند الحكماء عدد تام يكون منهما السبعة التى هى عدد كامل، لأن الكمال درجة فوق التمام، وهذه الخاصة لا توجد فى غير السبعة، ولذلك يفصلون بينها وبين الثمانية بالواو، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية وتسعة وعشر ... إلخ، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «2» ويسمون هذه الواو «واو الثمانية»، ذكر هذا أبو حيان وغيره «3». وليس الأمر كذلك، وإنما أفادت هذه الواو الإيذان بأن الذين قالوا إنهم
سبعة تثبتوا من قولهم، ولم يكن قولهم رجما بالغيب كقول من سبقهم، إنما كان عن علم» «1». يقول العكبرى «2» فى دخول هذه الواو: «دخلت لتدل على أن ما بعدها مستأنف حق، وليس من جنس المقول برجم الظنون» «3». ويقول الزمخشرى «4»: «فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ ولم دخلت عليها دون الأوليين؟ قلت: هى الواو التى تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة فى نحو قولك: جاءنى رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفى يده سيف، ومنه قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «5»، وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هى التى آذنت بأن الذين قالوا: «سبعة وثامنهم كلبهم»، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ «6» وأتبع القول الثالث قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ «7» وقال ابن عباس رضى الله عنه:
الرأى السادس فى المراد بالأحرف السبعة
حين وقعت الواو وانقطعت العدة، لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات» «1». الرأى السادس فى المراد بالأحرف السبعة: قال جماعة: «إن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، وحكى هذا عن الخليل بن أحمد، وأنه فسّر الحرف بالقراءة. يقول الزركشى «2»: «الثانى- وهو أضعفها- أن المراد سبع قراءات، وحكى عن الخليل بن أحمد، والحرف هاهنا القراءة» «3» ونقل هذا ابن عطية فيما حكاه القاضى أبو بكر بن الطيب: «قال القاضى: وزعم قوم أن كل كلمة تختلف القراءة فيها فإنها على سبعة أوجه، وإلا بطل معنى الحديث، قالوا: وتعرف بعض الوجوه بمجيء الخبر به، ولا يعرف بعضها إذا لم يأت به خبر» «4». الترجيح والمناقشة الرأى المختار: والراجح من هذه الآراء جميعها هو الرأى الأول، أى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب فى المعنى الواحد نحو: أقبل، وتعال، وهلمّ، وعجّل، وأسرع، فهى ألفاظ مختلفة لمعنى واحد. وهذا الرأى هو الذى ذهب إليه سفيان بن عيينة، وابن جرير، وابن وهب، وغيرهم، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء كما سبق.
ويدل عليه ما جاء فى حديث أبى بكرة: «أن جبريل قال: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين ... حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلمّ، وتعال، وأقبل، وأسرع، وعجّل» «1». قال الطبرى: «فقد أوضح نص هذا الخبر أن اختلاف الأحرف السبعة، إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك: «هلمّ، وتعال» باتفاق المعانى، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام، وبمثل الذى قلنا فى ذلك صحّت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف» «2». أى أن ابن جرير يرجّح هذا القول. وقال ابن عبد البر فى تعليقه على هذه الرواية: «إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التى نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون فى شىء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده، كالرحمة التى هى خلاف العذاب» «3». وعلى هذا فهو من قبيل الترادف، حيث يختلف اللّفظ ويتفق المعنى. وبهذا يفسّر ما نقله أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب «غريب الحديث» من قول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنى سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم، إنما هو كقول أحدكم: «هلمّ، وتعال»، وكذلك قال ابن سيرين «4»: إنما هو كقولك: هلمّ وتعال وأقبل» ثم فسّره ابن سيرين فقال:
«فى قراءة ابن مسعود: «إن كانت إلّا زقية واحدة»، وفى قراءتنا: صَيْحَةً واحِدَةً «1» فالمعنى فيهما واحد، وعلى هذا سائر اللّغات «2». ويؤيد هذا الرأى أحاديث كثيرة منها: 1 - قرأ رجل عند عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فغيّر عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يغيّر علىّ، قال: فاختصما عند النبى صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: «بلى»، قال: فوقع فى صدر عمر شىء، فعرف النبى صلّى الله عليه وسلم ذلك فى وجهه، قال: فضرب صدره وقال: «أبعد شيطانا» - قالها ثلاثا- ثم قال: «يا عمر، إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابا، أو عذابا رحمة» «3». ووجه الدلالة: أن هذا الاختصام فى القراءة، وما يتبعه من الرجوع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبقاء شىء فى صدر عمر بعد تصويب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يكون إلا عن اختلاف اللّفظ فى القراءة. 2 - وعن بسر بن سعيد «4»: «أن أبا جهيم الأنصارى «5»، أخبره أن رجلين اختلفا فى آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنها، فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا فى القرآن، فان المراء فيه كفر» «1». ووجه الدلالة فى هذا الحديث كوجه الدلالة فى الحديث السابق، ويزيد عنه أن المراة الذى يصل إلى الكفر لا يكون فى الاختلاف فى التصريف، أو فى الإعراب، أو فى الإفراد والتذكير وفروعهما، أو نحو ذلك من وجوه كيفية النطق. 3 - وعن الأعمش قال: «قرأ أنس «2» هذه الآية: «إنّ ناشئة اللّيل هى أشدّ وطا وأصوب قيلا» «3»، فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هى وَأَقْوَمُ فقال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد» «4». ووجه الدلالة فى هذا الحديث- وإن كان مرسلا- نصية، حيث جاء النص فى التمثيل بالألفاظ المختلفة الدالة على معنى واحد، وهو ما ندّعيه. 4 - وجاءت آثار أخرى دالة على ذلك منها: (أ) جاء عن أبىّ بن كعب أنه كان يقرأ: لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا «5»:
«مهّلونا، أخّرونا، أرجئونا»، وكان يقرأ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ «1»: «مرّوا فيه، سعوا فيه» «2». وهذا معناه أن أبىّ بن كعب كان يقرأ: لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا، و «للذين آمنوا مهّلونا»، و «للذين آمنوا أخّرونا»، و «للذين آمنوا أرجئونا» وكان يقرأ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، و «كلما أضاء لهم مرّوا فيه» و «كلما أضاء لهم سعوا فيه» وهذا كله اختلاف فى اللفظ مع اتفاق المعنى فهى ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، وهو المدّعى. (ب) وعن أبى بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل عليه السلام: استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلمّ وتعال» «3». فقد أوضح نص هذا الخبر أن اختلاف الأحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك: «هلمّ، وتعال» باتفاق المعانى، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام. (ج) وقال عبد الله بن مسعود: «إنى قد سمعت الى القراء، فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم، وإياكم والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلمّ، وتعال» «4».
مناقشة الرأى الثانى
مناقشة الرأى الثانى: ويجاب عن الرأى الثانى الذى يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه فى جملته لا يخرج فى كلماته عنها فهو يشتمل فى مجموعه عليها- بأن لغات العرب أكثر من سبع، وبأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشى من لغة واحدة، وقبيلة واحدة، وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، فدلّ ذلك على أن المراد بالأحرف السبعة غير ما يقصدونه، ولا يكون هذا إلّا باختلاف الألفاظ فى معنى واحد، وهو ما نرجّحه. وكان عمر شديدا فى الأمر بالمعروف إذ يقول: «فلببته بردائه» أى جمع عليه ثيابه عند لبته لئلا ينفلت منه، وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه فى الإسلام وسابقته بخلاف هشام، فإنه كان قريب العهد بالإسلام، فهو من مسلمة الفتح، فكان النبى صلّى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرا، فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرة عمر بالإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» إلا فى هذه الواقعة. قال ابن جرير الطبرى بعد أن ساق الأدلة مبطلا هذا الرأى: «بل الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن هن لغات سبع فى حرف واحد، وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإلىّ، وقصدى، ونحوى، وقربى، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعانى، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذى روينا آنفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعمن روينا عنه ذلك من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك: «هلم وتعال وأقبل» وقوله: «ما ينظرون إلّا زقية»، وإِلَّا صَيْحَةً. وأجاب الطبرى عن تساؤل مفترض: ففي أى كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الألفاظ متفقات المعنى؟ أجاب: بأننا لم ندّع أن
ذلك موجود اليوم، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» على نحو ما جاءت به الأخبار التى تقدّم ذكرنا لها، وهو ما وصفنا، دون ما ادعاه مخالفونا فى ذلك، للعلل التى قد بينّا. فإن قال- المتسائل- فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة إن كان الأمر فى ذلك على ما وصفت، وقد أقرأهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلّى الله عليه وسلم؟ أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الامة، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه؟ أم ما القصة فى ذلك؟ قيل له: لن تنسخ فترفع، ولا ضيّعتها الامة، وهى مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيّرت فى قراءته وحفظه بأى تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا هى حنثت فى يمين وهى موسرة، أن تكفر بأى الكفّارات الثلاث شاءت، إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظرها التكفير بأى الثلاث شاء المكفّر، كانت مصيبة حكم الله، مؤدية فى ذلك الواجب عليها من حق الله، فكذلك الأمة، أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيّرت فى قراءته بأى الأحرف السبعة شاءت- فرأت- لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد- قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف السبعة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له فى قراءته به. فإن قال: وما العلّة التى أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟ قيل: حديث رواه زيد بن ثابت «1»، قال: لما قتل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم
باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبى بكر «1» رحمه الله- فقال: إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافت الفراش فى النار، وإنى أخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا- وهم حملة القرآن- فيضيع القرآن وينسى، فلو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فتراجعا فى ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه وعمر محزئل «2»، فقال أبو بكر: إن هذا قد دعانى إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحى، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقنى لا أفعل، قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمة: «وما عليكما لو فعلتما ذلك»؟ قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شىء والله، ما علينا فى ذلك شىء، قال زيد: فأمرنى أبو بكر فكتبته فى قطع الادم وكسر الأكتاف والعسب «3»، فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك فى صحيفة واحدة، فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة «4»، زوج النبى صلّى الله عليه وسلم، ثم إن حذيفة بن اليمان «5» قدم من غزوة كان غزاها بمرج أرمينية، فلم يدخل بيته
حتى أتى عثمان بن عفان «1»، فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! فقال عثمان: «وما ذاك»؟ قال: غزوت مرج أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبىّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفّرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام فتكفّرهم أهل الشام، قال زيد: فأمرنى عثمان بن عفان أكتب لهم مصحفا، وقال: إنى مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلىّ، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص «2» ... ثم أرسل عثمان رضى الله عنه إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا فى شىء، فردها إليها، وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر «3» فى الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها، فغسلت غسلا، وروى أن عثمان حين دعا إلى كتابة المصحف قال: «اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما» وكتب إلى أهل الأمصار: «إنى قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندى، فامحوا ما عندكم». والآثار دالة على أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه، جمع المسلمين على مصحف واحد وحرف واحد، وحرق ما عدا المصحف الذى جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذى جمعهم عليه
مناقشة الرأى الثالث
أن يخرقه، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أنّ فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التى عزم عليها إمامها العادل فى تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفّت آثارها، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شىء منها، ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها، فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذى اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية. وإنما جاز ترك سائر الأحرف لأن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقراءة بها لم يكن فرضا، وإنما كان أمر إباحة ورخصه، ولو كانت القراءة بها فرضا لوجب نقلها بمن تقوم بهم الحجة، ويزيل الشك من قرأة الأمة، وفى تركهم هذا النقل دليل على أنهم كانوا فى القراءة بها مخيّرين، بعد أن يكون فى نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة «1». مناقشة الرأى الثالث: ويجاب عن الرأى الثالث الذى يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه: من الأمر، والنهى، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، وما هو فى معنى ذلك من الوجوه والأنواع والمعانى- بأن عماد هذا الرأى هو الحديث الذى يرويه سلمة بن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود عن النبى صلّى الله عليه وسلم، وقد قال فيه أبو عمر بن عبد البر: «هذا حديث عند أهل العلم لم يثبت،
وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس ممن يحتج به، وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده، وقد ردّه قوم من أهل النظر، منهم أحمد ابن أبى عمران «1»، فيما سمعه الطحاوى منه قال: من قال فى تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه، أو يكون حلالا لا ما سواه، لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله، قال أبو عمر: ويرويه اللّيث «2» عن عقيل «3»، عن ابن شهاب عن سلمة بن أبى سلمة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا» «4». وما روى عن أبى قلابة، قال فيه الشيخ أحمد شاكر: هذا حديث مرسل، فلا تقوم به حجّة «5». وسائر ما روى فى هذا الباب لا يخرج عن أن يكون بيانا لأسماء الله تعالى التى وردت فى مواضع متعددة من القرآن، أو تأويلا للحديث بحمله على أنواع من العلوم دون سند أو دليل بتكلف وتمحل. وظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة إلى سبعة توسعة للأمة، والشيء الواحد لا يكون حلالا وحراما فى آية واحدة، والتوسعة لم تقع فى تحريم حلال، ولا تحليل حرام، ولا فى تغيير شىء من الوجوه والمعانى المذكورة.
والذى ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن الصحابة الذين اختلفوا فى القراءة احتكموا إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوّب جميعهم فى قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال صلّى الله عليه وسلم للذى ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: «إن الله أمرنى أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف». ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك، لو كان تماريا واختلافا فيما دلّت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، لكان مستحيلا أن يصوّب جميعهم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته فى ذلك على النحو الذى هو عليه، لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحا وجب أن يكون الله جلّ ثناؤه قد أمر بفعل شىء بعينه وزجر عنه- فى تلاوة الذى دلت تلاوته على النهى والزجر عنه- وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله، ولمن شاء منهم أن يتركه تركه، فى تلاوة من دلت تلاوته على التخيير. وذلك من قائله- إن قاله- إثبات ما قد نفى الله جلّ ثناؤه عن تنزيله ومحكم كتابه فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1». وفى نفى الله جلّ ثناؤه ذلك عن محكم كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بحكم واحد متفق فى جميع خلقه لا بأحكام فيهم مختلفة «2».
مناقشة الرأى الرابع
مناقشة الرأى الرابع: ويجاب عن الرأى الرابع- الذى يرى أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير الذى يقع فيه الاختلاف «1»، بأن هذا وإن كان شائعا مقبولا لكنه لا ينهض أمام أدلة الرأى الأول التى جاء التصريح فيها باختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى. وبعض وجوه التغاير والاختلاف التى يذكرونها ورد بقراءات الآحاد، ولا خلاف فى أن كل ما هو قرآن يجب أن يكون متواترا، وأكثرها يرجع إلى شكل الكلمة أو كيفية الأداء مما لا يقع به التغاير فى اللّفظ، كالاختلاف فى الإعراب، أو التصريف، أو التفخيم والترقيق والفتح، والإمالة والإظهار والإدغام والإشمام، فهذا ليس من الاختلاف الذى يتنوّع فى اللّفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوّعة فى أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا. وأصحاب هذا الرأى يرون أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها، بمعنى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من هذه الأحرف، فآية: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ «2» التى تقرأ بصيغة الجمع، وتقرأ بصيغة الإفراد، جاءت فى الرسم العثمانى: «لأمنتهم» موصولة وعليها ألف صغيرة، وآية: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا «3»، جاءت فى الرسم العثمانى: «بعد» موصولة كذلك وعليها ألف صغيرة ... وهكذا. وهذا لا يسلم لهم فى كل وجه من وجوه الاختلاف التى يذكرونها، كالاختلاف بالزيادة والنقص فى مثل قوله تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ
«1». وقرئ: «من تحتها الأنهار» بزيادة «من»، وقوله: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «2»، وقرئ: «والذكر والأنثى» بنقص «ما خلق». والاختلاف بالتقديم والتأخير فى مثل قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ «3»، وقرئ: «وجاءت سكرة الحق بالموت». ولو كانت هذه الأحرف تشتمل عليها المصاحف العثمانية لما كان مصحف عثمان حاسما للنزاع فى اختلاف القراءات، إنما كان حسم هذا النزاع بجمع الناس علي حرف واحد من الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن، ولولا هذا لظل الاختلاف فى القراءة قائما، ولما كان هناك فرق بين جمع عثمان وجمع أبى بكر. والذى دلت عليه الآثار أن جمع عثمان رضى الله عنه للقرآن كان نسخا له على حرف واحد من الحروف السبعة حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد، حيث رأى أن القراءة بالأحرف السبعة كانت لرفع الحرج والمشقة فى بداية الأمر، وقد انتهت الحاجة إلى ذلك، وترجّح عليها حسم مادة الاختلاف فى القراءة، بجمع الناس على حرف واحد، ووافقه الصحابة على ذلك، فكان إجماعا. ولم يحتج الصحابة فى أيام أبى بكر وعمر إلى جمع القرآن على وجه ما جمعه عثمان، لأنه لم يحدث فى أيامهما من الاختلاف فيه ما حدث فى زمن عثمان، وبهذا يكون عثمان قد وفّق لأمر عظيم، رفع الاختلاف وجمع الكلمة، وأراح الأمة. قال محيى السنّة الإمام البغوى: «جمع الله تعالى الأمة بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد، وهو آخر العرضات على رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان
أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه أمر بكتابته، جمعا بعد ما كان مفرقا فى الرقاع ليكون أصلا للمسلمين، يرجعون إليه ويعتمدون عليه، وأمر عثمان بنسخه فى المصاحف، وجمع القوم عليه، وأمر بتحريق ما سواه قطعا لمادة الخلاف، فكان ما يخالف الخط المتفق عليه فى حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع منه باتفاق الصحابة، والمكتوب بين اللّوحين هو المحفوظ من الله عزّ وجلّ للعباد، وهو الإمام للأمة، فليس لأحد أن يعدو فى اللّفظ إلى ما هو خارج من رسم الكتابة والسواد» «1». وقد نقل أبو شامة عن القاسم بن ثابت العوفى «2» ما يؤيد ذلك فقال: «إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلّى الله عليه وسلم والعرب متناءون فى المحال والمقامات، متباينون فى كثير من الألفاظ واللّغات، ولكل عمارة لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاس والأعرابى القح، ومن لو رام نفى عادته وحمل لسانه على غير ذرّيته تكلّف منه حملا ثقيلا، وعالج منه عبئا شديدا، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط عنهم تبارك وتعالى هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عاداتهم، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذى يستعملون بما طوّقه الله من ذلك، وشرح به صدره وفتق به لسانه وفضله على جميع خلقه». ثم ذكر حديث نزول القرآن على سبعة أحرف من عدة طرق بروايات مختلفة، وقال:
«وهذه الأحاديث الصحاح التى ذكرنا بالأسانيد الثابتة المتصلة تضيق عن كثير من الوجوه التى وجهها عليها من زعم أن الأحرف فى صورة الكتابة وفى التقديم والتأخير والزيادة والنقصان، لأن الرخصة كانت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والعرب ليس لهم يومئذ كتاب يعتبرونه، ولا رسم يتعارفونه، ولا يقف أكثرهم من الحروف على كتبه، ولا يرجعون منها إلى صورة، وإنما كانوا يعرفون الألفاظ بجرسها، أى بصوتها، ويجدونها بمخارجها، ولم يدخل عليهم يومئذ من اتفاق الحروف ما دخل بعدهم على الكاتبين من اشتباه الصور، وكان أكثرهم لا يعلم بين الزاى والسين سببا، ولا بين الصاد والضاد نسبا» «1». وقد قال بهذا أبو حاتم السجستانى، وابن قتيبة، والباقلانى، والرازى «2»، وابن الجزرى وأقوالهم جميعا متقاربة. وانتصر لهذا الرأى من المحدثين الشيخ محمد بخيت المطيعى «3»، والشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى «4». حكى الزرقانى أقوال هؤلاء، واختار هذا الرأى لاعتماده على الاستقراء التام، وادعى أن جميع الأحرف السبعة موجودة بالمصاحف العثمانية، ورد الآراء الأخرى، وضعّف ما ذهب إليه ابن جرير الطبرى ومن لفّ لفه- حسب تعبيره.
مناقشة الرأى الخامس
ولم يرد فى الأحاديث والآثار التعبير بالأوجه، وإنما ورد التعبير بالأحرف، وتأويل الأحرف بالأوجه تكلف لا حاجة إليه، ومعظم علماء اللّغة يفسّرون الأحرف باللّغات. وغاية ما يدل عليه الاستقراء هو استنباط وجوه اختلاف القراءات أو اللّغات، وحمل هذا على الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن يحتاج إلى دليل، ولا دليل، وهو استقراء ناقص لا يفيد الحصر فى سبعة، ولذا تفاوتت وجوه الاختلاف المستنبطة وتعددت عند القائلين بهذا الرأى. مناقشة الرأى الخامس: ويجاب عن الرأى الخامس- الذى يرى أن العدد سبعة لا مفهوم له- بأن الأحاديث تدل بنصها على حقيقة العدد وانحصاره: «أقرأنى جبريل على حرف، فراجعته، فزادنى، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف» «1». «يا أبىّ، أرسل إلىّ: أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هوّن على أمتى، فرد إلىّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هوّن على أمّتى، فرد إلىّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف» «2». فهذا يدل على حقيقة العدد المعيّن المحصور فى سبعة. ويتضح هذا تفصيلا من رواية الإمام أحمد: عن أبىّ بن كعب قال: «سمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: انطلق إليه، فأتيت النبى صلّى الله عليه وسلم، فقلت: استقرئ هذا،
فقال: «اقرأ»، فقرأ، فقال: «أحسنت»، فقلت له: أو لم تقرئني كذا وكذا، قال: «بلى»، وأنت قد أحسنت، فقلت بيدى: قد أحسنت مرتين! قال: فضرب النبى صلّى الله عليه وسلم بيده فى صدرى، ثم قال: «اللهم أذهب عن أبىّ الشك»، ففضت عرقا، وامتلأ جوفى فرقا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبىّ، إنّ ملكين أتيانى، فقال أحدهما: اقرأ على حرف، فقال الآخر: زده، فقلت: زدنى، قال: اقرأ على حرفين، فقال الآخر: زده، فقلت: زدنى، قال: اقرأ على ثلاثة، فقال الآخر: زده، فقلت: زدنى، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدنى، قال: اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدنى، قال: اقرأ على ستة، قال الآخر: زده، قال: اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف» «1». فهذه الاستزادة المتتابعة العدد تقطع بأن المراد بالأحرف السبعة حقيقة السبعة الواقعة بين الستة والثمانية، ولا تحتمل تأويلا، وكلها نزل بها الوحى حرفا حرفا. وقد رد ابن المنير «2» على من قال بواو الثمانية فى مثل قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «3» مؤيدا من أنكر ذلك فقال: «وهو الصواب، لا كمن يقول: إنها واو الثمانية، فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم، ويعدون من هذه الواو قوله فى الجنة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «4» بخلاف أبواب النار، فإنه قال فيها: فُتِحَتْ أَبْوابُها «5»، قالوا: لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب
مناقشة الرأى السادس
النار سبعة، وهب أن فى اللّغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد فى أبواب الجنة حتى ينتهى إلى الثامن فتصحبه الواو، وربما عدوّا من ذلك: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «1»، وهو الثامن من قوله: التَّائِبُونَ وهذا أيضا مردود، بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التى هى: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ لما بينهما من التناسب والربط، ألا ترى اقترانهما فى جميع مصادرهما ومواردهما، كقوله: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «2»، وكقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ «3»، وربما عدد بعضهم من ذلك الواو فى قوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «4»، لأنه وجدها مع الثامن، وهذا غلط فاحش، فإن هذه واو التقسيم، ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا، لم يسند الكلام، فقد وضح أن الواو فى جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء، والله الموفق» «5». مناقشة الرأى السادس: ويجاب عن الرأى السادس- الذى يرى أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع- بأن القرآن غير القراءات، فالقرآن هو الوحى المنزل على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز المنقول إلينا تواترا، والقراءات: جمع قراءة، وهى فى اللّغة مصدر سماعى لفعل «قرأ»، وهى وجه من وجوه كيفية النطق بألفاظ الوحى، «فالقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، القرآن هو الوحى المنزّل على الرسول صلّى الله عليه وسلم الذى دفع به التحدى وكان الإعجاز، والقراءات هى اختلاف ألفاظ الوحى المذكور فى كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرها» «6».
وعرّف ابن الجزرى القراءات بقوله: «علم القراءات، علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة». وقد نقل القرآن إلينا بلفظه ونصه كما أنزله الله على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم نقلا متواترا، ولكن كيفية أدائه قد اختلف فيها الرواة الناقلون، فكل منهم يعزو ما يرويه بإسناده إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وإن لم يكن متواترا. قال أبو شامة: «وقد ظن جماعة ممن لا خبرة له بأصول هذا العلم أن قراءة هؤلاء الأئمة السبعة هى التى عبّر عنها النبى صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» فقراءة كل واحد من هؤلاء حرف من تلك الأحرف، ولقد أخطأ من نسب إلى ابن مجاهد «1» أنه قال ذلك» «2». وقال الطبرى: «وأما ما كان من اختلاف القراءة فى رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة فمن معنى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف» بمعزل، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن- مما اختلفت القراء فى قراءته بهذا المعنى- يوجب المراء به كفر الممارى فى قول أحد من علماء الأمة، وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر من الوجه الذى تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهر عنه بذلك الرواية» «3».
ولعل الذى أوقعهم فى هذا الخطأ الاتفاق فى العدد سبعة، فالتبس عليهم الأمر، قال ابن عمار: «1» «لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغى له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قلّ نظره أن هذه القراءات هى المذكورة فى الخبر، وليته إذا اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة» «2». وقال ابن الجزرى: «أول إمام معتبر جمع القراءات فى كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة، وتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين» .. ثم قال: «وكان فى أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وتوفى أربع وعشرين وثلاثمائة» .. ثم قال: «وإنما أطلنا فى هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هى التى عن هؤلاء السبعة، وأن الأحرف السبعة التى أشار إليها النبى صلّى الله عليه وسلم هى قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهّال أن القراءات الصحيحة هى التى فى الشاطبية والتيسير» .. ثم قال: «وكان من جواب الشيخ الإمام مجتهد ذلك العصر أبى العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية- رحمه الله- «3»: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التى ذكر النبى صلّى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القرّاء، السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد» «4».
زيادة بيان فى ترجيح الرأى الأول
وقال مكى بن أبى طالب: «1» «هذه القراءات كلها التى يقرأها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة إنما هى جزء من الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن، ووافق اللّفظ بها خط المصحف الذى أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه وعلى اطراح ما سواه، ولم ينقط ولم يضبط فاحتمل التأويل لذلك» «2». زيادة بيان فى ترجيح الرأى الأول: وبتلك المناقشة التى أوردناها على رأى يتبين لنا أن الرأى الأول- الذى يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب فى المعنى الواحد تختلف فى الألفاظ وتنفق فى المعنى- هو الرأى الذى يتفق مع ظاهر النصوص وتسانده الأدلة الصحيحة. عن أبىّ بن كعب قال: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله أمرنى أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: ربّ خفّف على أمتى، فأمرنى أن أقرأ على حرفين، فقلت: ربّ خفّف عن أمتى، فأمرنى أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة، كلها شاف كاف» «3». قال الطبرى: والسبعة الأحرف هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة، والأبواب السبعة من الجنة، هى المعانى التى فيها، من الأمر والنهى والترغيب والترهيب والقصص والمثل، التى إذا عمل بها العامل، وانتهى إلى حدودها المنتهى، استوجب به الجنة، وليس- والحمد لله- فى قول من قال ذلك من
المتقدمين خلاف لشيء مما قلناه، ومعنى: «كلها شاف كاف» كما قال جل ثناؤه فى صفة القرآن: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «1»، جعله الله للمؤمنين شفاء، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته» «2». وقد نقل الإمام البغوى ما ذكره أبو عبيد عن الأحرف السبعة، وبيّن أن الاختلاف فيها لا يدخل تحت قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3»، إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء فيما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها كلام الله، نزل به الروح الأمين على الرسول صلّى الله عليه وسلم، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» فجعل الأحرف كلها منزّلة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعارض جبريل فى كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله فيه ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسّر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم، وكان يعرض عليه فى كل عرضة وجها من الوجوه التى أباح الله له أن يقرأ القرآن به، وكان يجوز لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى أن يقرأ ويقرئ بجميع ذلك، وهى كلها متفقة المعانى، وإن اختلف بعض حروفها. وكان الأمر على هذا حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبعد وفاته كانوا يقرءون بالقراءات التى أقرأهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولقّنهم بإذن الله عزّ وجل، إلى أن وقع الاختلاف
بين القرّاء فى زمن عثمان بن عفان، واشتد الأمر فيه بينهم، حتى أظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وخافوا الفرقة، فاستشار عثمان الصحابة فى ذلك، فجمع الله سبحانه وتعالى الأمة بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد، هو آخر العرضات من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجمع عثمان القوم عليه وأمر بتحريق ما سواه قطعا لمواد الخلاف، فكان ما يخالف الخط المتفق عليه فى حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع منه باتفاق الصحابة» «1». وهذا الرأى الذى اخترناه هو رأى جماعة من الأئمة الأعلام الثقات، الذين لا يساورنا شك فى سبقهم وعلمهم وفقههم وإمامتهم: سفيان بن عيينة، وابن وهب، وابن جرير الطبرى، والطحاوى. وعليه كثير من العلماء. أبو طاهر عبد الواحد بن أبى هاشم: «وذلك أن أهل العلم قالوا فى معنى قوله عليه السلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» : أنهن سبع لغات، بدلالة قول ابن مسعود رضى الله عنه وغيره: إن ذلك كقولك: هلم وتعال وأقبل. فكان ذلك جاريا مجرى قراءة عبد الله: «إن كانت إلا زقية واحدة» «2» و «كالصوف المنفوش» «3». ثم ذكر أن الأمر بقراءة القرآن على سبعة أحرف كان أمر تخيير، وعلل ذلك بقوله: «فثبتت الأمة على حرف واحد من السبعة التى خيّروا فيها، وكان سبب ثباتهم على ذلك ورفض الستة ما أجمع عليه صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين خافوا على الأمة تكفير بعضهم بعضا أن يستطيل ذلك إلى القتال وسفك الدماء وتقطيع
الأرحام، فرسموا لهم مصحفا، أجمعوا جميعا عليه، وعلى نبذ ما عداه لتصير الكلمة واحدة، فكان ذلك حجّة قاطعة، وفرضا لازما. وأما ما اختلف فيه أئمة القراءة بالأمصار من النصب والرفع والتحريك والإسكان والهمز وتركه والتشديد والتخفيف والمد والقصر وإبدال حرف بحرف يوافق صورته فليس ذلك بداخل فى معنى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف». وذلك من قبل أن كل حرف اختلفت فيه أئمة القراءة لا يوجب إطراء كفرا لمن مارى به فى قول أحد من المسلمين، وقد أثبت النبى صلّى الله عليه وسلم الكفر للممارى بكل حرف من الحروف السبعة التى أنزل بها القرآن». فإن قيل: فما السبب فى اختلاف هؤلاء الأئمة بعد المرسوم لهم، ذلك شىء تخيّروه من قبل أنفسهم، أم ذلك شىء وقفوا عليه بعد توجيه المصاحف إليهم؟ قيل: لما خلت تلك المصاحف من الشكل والإعجام وحصر الحروف المحتملة على أحد الوجوه وكان أهل كل ناحية من النواحى التى وجّهت إليها المصاحف قد كان لهم فى مصرهم ذلك من الصحابة معلمون، كأبى موسى بالبصرة، وعلىّ وعبد الله بالكوفة، وزيد وأبىّ بن كعب بالحجاز، ومعاذ «1» وأبى الدرداء «2» بالشام، فانتقلوا عما بان لهم أنهم أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم، وثبتوا
شبهات المستشرقين
على ما لم يكن فى المصاحف الموجهة إليهم مما يستدلون به على انتقالهم عنه» «1». شبهات المستشرقين: الاستشراق: مصدر «استشرق» استفعل من الشرق مقابل الغرب، والشرق: هو الجهة التى تشرق منها الشمس، يقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وبابه نصر ودخل، وأشرقت: أضاءت، والمشرق ناحية الشروق، والغرب والمغرب: واحد كذلك، يقال: غربت الشمس غروبا، من باب دخل، والشرق والغرب: إذا قيلا بلفظ التثنية فإشارة إلى مطلعى ومغربى الشتاء والصيف، وإذا قيلا بلفظ الجمع فهذا باعتبار مطلع كل يوم ومغربه، أو مطلع كل فصل ومغربه، والتشريق: الأخذ فى ناحية الشرق، يقال: شتّان بين مشرق ومغرب، وشرّقوا: ذهبوا إلى الشرق، أو أتوا الشرق «2». وعلى هذا فالاستشراق معناه التحول والانتقال إلى الشرق، ثم أصبح بمعنى طلب علوم أهل الشرق ولغاتهم، ويقال لمن عنى بذلك من الإفرنج «مستشرق»، والجمع «مستشرقون». وغلب إطلاق المستشرقين على الكتّاب الغربيين الذين يكتبون عن الإسلام ولغته وحضارته، وعامتهم يلتمس المطاعن ويثير الشبه لتوهين الثقة فى الإسلام وأمته. والدراسة التى يقوم بها المستشرقون تخضع للمصطلح السياسى الذى يقسّم العالم إلى شرق وغرب، ويقسّم الشرق إلى الشرق الأقصى: وهو البلاد التى تقع فى أقصى شرق آسيا، والشرق الأوسط: وهو المنطقة الجغرافية التى تضم
اليوم: تركيا، وإيران، والعراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن، ومصر، والسودان، وشبه جزيرة العرب، وقبرص، والشرق الأدنى: ويشمل بلاد المغرب العربى. وترجع هذه التسمية بهذا التقسيم إلى ما تعارفت عليه الدول الاستعمارية التى قسّمت مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية فى تلك البلاد، ويظل الغرب رمزا للسيادة عليها، ولذا فإن الدراسات الشرقية قلّما تتناول اليهودية والنصرانية مع وجودهما فى هذه المناطق، وإنما تعنى الإسلام. وقد أثار المستشرقون- فيما أثاروه- شبهات حول القراءات ونزول القرآن على سبعة أحرف. 1 - اتهم «جولد زيهر» «1» النص القرآنى بالاضطراب وعدم الثبات لاختلاف وجوه القراءة، وزعم أن هذا لا يوجد فى أى كتاب منزّل سوى القرآن. يقول «جولد زيهر»: «لا يوجد كتاب تشريعى اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزّل أو موحى به يقدم نصه فى أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد فى نص القرآن» «2». لقد غاب عن «اجناتس جولد تسيهر» ما عرف عن نصوص الشرائع السابقة، فإن ما وصلنا من هذه النصوص وصلنا بروايات مختلفة متضاربة،
ولا يجد القارئ نسخة من التوراة متفقة مع نسخة أخرى من كل وجه، كما أن الإنجيل كذلك، اختلفت نصوصه باختلاف رواته من الحواريين، وهذا الاختلاف أو ذاك لا يقتصر على وجوه النطق مع اتفاق المعنى، ولكنه اختلاف فى اللّفظ والمعنى معا، فهو اختلاف تضاد، وذلك هو الجدير بأن يوصف بالاضطراب وعدم الثبات فى النص. وليس هذا شأن القرآن كما ادعى «جولد زيهر» فإن القراءات المتعمدة فى القرآن الكريم مع ثبوت نسبتها تتفق فى المعنى وإن اختلفت فى اللّفظ، ويظاهر بعضها بعضا، وليس بينها شىء من التضارب، حتى يوصف القرآن بالاضطراب وعدم الثبات أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1». 2 - وادعى «جولد زيهر» أن المسلمين مالوا إلى توحيد النص القرآنى فى كتابة مصحف عثمان رضى الله عنه، ولكنهم لم يحرزوا تقدما كبيرا. يقول «جولد زيهر»: «وفى جميع الشوط القديم للتاريخ الإسلامى لم يحرز الميل إلى التوحيد العقدى للنص إلا انتصارات طفيفة .. فليس هناك نص موحّد للقرآن، ومن هنا نستطيع أن نلمح فى صياغته المختلفة أولى مراحل التفسير، والنص المتلقى بالقبول (القراءة المشهورة) الذى هو لذاته غير موحّد فى جزئياته، يرجع إلى الكتابة التى تمت بعناية الخليفة الثالث «عثمان»، دفعا للخطر الماثل من رواية كلام الله فى مختلف الدوائر على صور متغايرة ... بيد أن هذه الرغبة لم يصادفها التوفيق على طول الخط» «2». ولم يثبت أن أحدا من المسلمين مال إلى توحيد نص القرآن حيث لا يوجد اختلاف فى نصه المنزّل، ولو وقع هذا النقل إلينا لتوافر الدواعى على نقله.
أما جمع عثمان رضى الله عنه للمصحف، فلم يكن رغبة فى توحيد النص- كما توهمه «جولد زيهر»، إنما أراد عثمان أن يجمع المسلمين على مصحف واحد، هو المتفق على إنزاله المقطوع به، وهو ما كتب بأمر النبى صلّى الله عليه وسلم، أو ثبت عنه أنه قرأ به، وترك ما عدا ذلك مما كانت القراءة به جائزة توسعة على الناس وتسهيلا عليهم، حتى لا تتسع شقة الخلاف بما يفضى إلى المماراة ويؤدى إلى تكفير بعضهم بعضا، وأحرق ما سوى ذلك من المصاحف تحقيقا لهذا الهدف الأسمى، بإجماع من الصحابة، حتى قال علىّ رضى الله عنه حين حرق عثمان المصاحف: «لو لم يصنعه هو لصنعته». وعن مصعب بن سعد «1»، قال: «أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك منهم أحد» «2». 3 - وعزّز «جولد زيهر» مزاعمه بما كتبه أستاذ له فقال: «وقد عالج هذه الظاهرة علاجا وافيا وبيّن علاقتها بفحص القرآن زعيمنا الكبير «تيودور نولدكه» فى كتابه الأصيل البكر «تاريخ القرآن» الذى نال جائزة أكاديمية النقوش الأثرية بباريس» «3». و «تيودور نولدكه» من كبار المستشرقين الألمان، كان يحسن اللّغات الشرقية كلها، كالعربية، والعبرية، والآرامية، والصابئية، والحبشية وغيرها، من مؤلفاته «تاريخ القرآن» و «حياة النبى محمد» توفى سنة 1349 هـ «4»، وإذا استشهد به «جولد زيهر» فإنه يستشهد برجل على شاكلته، فلا يعتد برأيه.
حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف: تتلخص حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف فى أمور
4 - ثم عاد «جولد زيهر» وتكلم عن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وأنه يبدى شبها كبيرا برأى التلمود «1»، فى نزول التوراة بلغات كثيرة فى وقت واحد، وأشار إلى تفسير الحرف بالقراءة، أو أن يكون العدد سبعة لا مفهوم له «2». وسبق لنا مناقشة ما أشار إليه «جولد زيهر» من هذين القولين. 5 - وزعم «جولد زيهر» أن الاختلاف فى القراءات كان تصحيفا، لأن مصحف عثمان كتب بغير نقط ولا شكل، والقراءات سنّة متّبعة، نقلت بالرواية والمشافهة من فىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم تكن وليدة خط أو رسم أو عدم شكل لكتاب الله تعالى. 6 - ولم تخرج شبهات المستشرق الفرنسى «بلادشير» «3»، فى كتابه «مدخل إلى القرآن» عن شبهات «جولد زيهر» بما يغنى عن الرد عليه «4». حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف: تتلخص حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف فى أمور: 1 - تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لكل قبيل منهم لسان، ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلا عن أن يكون ذلك مما ألفوه، وهذه الحكمة نصّت عليها الأحاديث فى عبارات:
عن أبىّ قال: «لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال: «إنى بعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام، والخادم، والشيخ العاس، والعجوز، فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف» «1». «إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه». «إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك». «إنّ الله أمرنى أن أقرأ القرآن على حرف، فقلت: اللهم ربّ خفّف عن أمتى». «أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه: أن هوّن على أمتى». قال ابن قتيبة: «ولو أن كل فريق من هؤلاء- أى من قبائل العرب- أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلّا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله- برحمته ولطفه- أن يجعل لهم متسعا فى اللّغات، ومتصرفا فى الحركات، كتيسيره عليهم فى الدين حين أجاز لهم على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته فى فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر أمور دينهم» «2». وقال أبو جعفر الطحاوى: «كانت هذه السبعة للناس فى الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها، لأنهم كانوا أميين، لا يكتبون إلّا القليل منهم،
فكان يشق على كل ذى لغة منهم أن يتحوّل إلى غيرها من اللّغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسّع لهم فى اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك، حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، ولم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت فى وقت خاص، لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد». قال أبو عمر: «وهو الذى عليه الناس فى مصاحفهم وقراءاتهم من بين سائر الحروف، لأن عثمان رضى الله عنه جمع المصاحف عليه» قال: «وهذا الذى عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه، وتجوز الصلاة به، وبالله العصمة والهدى» «1». فالواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزّل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم فى الألفاظ، واتفاقهم فى المعنى، ولم يكلّف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربى إذا فارق لغته التى طبع عليها يدخل عليه الحميّة من ذلك، فتأخذه العزّة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منّا منه عزّ وجلّ لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء فى القرآن ألفاظ مخالفة ألفاظ المصحف المجمع عليه، كالصوف، وهو: كَالْعِهْنِ «2»، وزقية، وهى: صَيْحَةً «3»، وحططنا، وهى: وَضَعْنا «4»،
وحطب جهنم، وهى: حَصَبُ ونحو ذلك، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكل رجل منهم متمسك بما أجازه به صلّى الله عليه وسلم، وإن كان مخالفا لقراءة صاحبه فى اللّفظ، وعوّل المهاجرون والأنصار ومن تبعهم على العرضة الأخيرة التى عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام فى العام الذى قبض فيه، وهى التى كتب بها مصحف عثمان. 2 - تيسير قراءة القرآن على المسلمين جميعا فى كل عصر: فالإسلام هو دين الله للبشرية كافة، ولم تكن رسالة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم لجنس دون جنس، ولا لوطن دون وطن، بل كانت رسالته للإنسانية كلها على اختلاف الجنس والوطن واللّغة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «1». والقرآن الكريم هو دستور الإسلام، وكلام الله المنزّل على رسوله صلّى الله عليه وسلم، ليبلغه للناس يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «2». وإذا كانت حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف تتجلى فى تيسير الله تعالى لنبيه بأن يقرئ كل أمة بلغتهم على اختلاف اللهجات العربية، أما يوحى هذا بأن نتجاوز عن بعض الخلافات الصوتية اليسيرة لدى جميع المسلمين فى بقاع الأرض، عربا وعجما، ما دام كل واحد منهم يبذل غاية جهده فى النطق الصحيح، ولا يقدر على غيره، دون إخلال جوهرى باللّفظ العربى، أو لحن فاحش لا يغتفر؟ إننى لا أرى بأسا بهذا إذا كان لا يعدو النواحى الصوتية، من اختلاف فى مخرج الصوت، وتباين فى صفته، بين جهر وهمس، أو شدة ورخاوة، أو تباين فى موضع النبر من الكلمة، أو مقاييس أصوات اللين، إلى غير ذلك مما يعرف فى علم الأصوات اللّغوية، لأن لكل شعب من الشعوب صفات صوتية تميّزه.
والإسلام يفرض على المسلمين جميعا لا على العرب وحدهم قراءة بعض آيات القرآن بالعربية فى صلاتهم، فإذا انحرفت الألسنة بعض الانحراف عن النطق الصحيح لمشقة وعسر، فإن هذا يكون معفوا عنه، متى صدرت تلك القراءات عن قلب طاهر، وإيمان قوى، وبذل الجهد فى تحرى الصواب، إذ لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها. والتفاوت الصوتى فى النطق قد نجده بين أبناء اللّغة الواحدة إذا اختلفت البيئة، ولا نعد ذلك لحنا، فكيف بأبناء اللّغات والبيئات فى أصقاع الأرض من المسلمين؟ والخلافات الصوتية فى النطق للاعتبارات السابقة لا تعدو أن تكون قراءة فردية، لا تكاد تجاوز بضع آيات من القرآن الكريم، يقوم بها أفراد المسلمين فى جميع أنحاء الدنيا على قدر استطاعتهم فى النطق، وليست القراءة التى تحتذى. وهناك عوامل عضوية وبيئية ونفسية واجتماعية للتفاوت الصوتى بالنطق، كاختلاف أعضاء النطق فى بنيتها واستعدادها، ومنهج أدائها لوظائفها، لاختلاف الحناجر والحبال الصوتية والألسنة والحلوق وسائر أعضاء النطق. وكاختلاف الشعوب وبيئتها وتنوع الخواص الطبيعية والوراثية فى أعضاء النطق وتأثرها بالبيئة. وكاختلاف الحالات النفسية والاجتماعية التى لها أثرها على أصوات الكلمة فى النطق بها. لهذا كان التجاوز اليسير فى القراءة أمرا مقبولا ما توافرت دواعيه. 3 - تمييز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السابقة: فللقرآن خصائص كثيرة، منها أنه انماز بخصيصة نزوله بسبعة ألسن من لغات العرب، كل منها
هو وحى الله المنزّل، وليس تفسيرا ولا تأويلا، أما الكتب السماوية السابقة فنزل كل كتاب منها بلسان واحد، وإذا عدل عنه فإنه يكون من باب الترجمة والتفسير، وليس بالذى أنزل الله. قال أبو جعفر الطبرى: «أخبر النبى صلّى الله عليه وسلم عما خصّه الله تعالى به وأمته من الفضيلة والكرامة التى لم يؤتها أحدا فى تنزيله. وذلك أن كل كتاب تقدّم كتابنا نزوله على نبى من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حوّل إلى غير اللّسان الذى نزل به، كان ذلك ترجمة له وتفسيرا، لا تلاوة له على ما أنزل الله. وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأى تلك الألسن السبعة تلاه التالى كان له تاليا على ما أنزل الله، لا مترجما ولا مفسرا، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ- إذا أصاب معناه- له مترجما، لا تاليا على ما أنزله الله به. فذلك معنى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «كان الكتاب الأول نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف» «1». 4 - إعجاز القرآن للفطرة اللّغوية عند العرب: فتعدد مناحى التأليف الصوتى للقرآن تعددا يكافئ الفروع اللسانية التى عليها فطرة اللّغة فى العرب، حتى يستطيع كل عربى أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطرى ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذى تحدى به الرسول صلّى الله عليه وسلم العرب، ومع اليأس من معارضته، لا يكون إعجازا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازا للفطرة اللّغوية نفسها عند العرب، وإعجاز الفطرة اللّغوية إعجاز لا يحده زمن، بل يمتد دائما مع اللّغة ما دامت هذه اللّغة قائمة.
5 - إعجاز القرآن فى معانيه وأحكامه: فإن تقلب الصور اللّفظية فى بعض الأحرف والكلمات يعطى مزيدا من المعانى التى يدل عليها اللّفظ، وبتهيإ معه استنباط الأحكام التى تجعل القرآن ملائما لكل عصر، يلبى حاجات البشرية ويقيم حياتها على نهج الله الأقوم، ولهذا احتج الفقهاء فى الاستنباط والاجتهاد فى معرفة الأحكام بقراءات الأحرف السبعة. وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين. مناع بن خليل القطان الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمشرف على الدراسات العليا