مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن ط الراية
ابن الجوزي
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال الشيخ، الإمام، العالم، الكامل، جمال الدين، أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله: الحمد لله الذي أنشأ فأحسن الإنشاء، ثم قدم بالاجتباء ما شاء، وصلى الله على محمد النبي [الأمي] الذي سبق الأنبياء، وعلا على من علا فنال العلاء، وصلى الله على أصحابه الذين فاقوا في الفضل الفضلاء، وعلى عمه العباس الذي أرسل الله [بدعائه] إذ سيل به [سيل] السماء، ونشر من ذريته الأئمة الخلفاء، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد:
فإني كنت أتوق إلى مكة قبل الحج؛ فداويت هذا الداء بالقصد، فزاد الشوق بعد الرجوع على الحد، وعلمت أن كثرة الترداد لا تزيد إلا شوقاً، كما أن لقيا المحبوب لا تزيد نار الوجد إلا وقداً، ثم إني صادفت من هو أشوق مني؛ فشغلني ما رأيت من وجده عني؛ فاتفقنا في أصل الشوق، وافترقنا في [قدر] التوق، ورأيته كما قال الشاعر: أحب الثرى النجدي من أجرع الحمى ... كأني لمن بالأجر عين نسيب إذا هب علوي النسيم رأتني ... أغض جفوني أن يقال مريب وكما قال الآخر: أحن إلى نور اللوى في بطاحه ... وأظمأ إلى ري اللوى في هبوبه وذاك الحمى يغدو عليلاً نسيمه ... ويمسي صحيحاً مآؤه في قليبه وكما قال [آخر] : يرنحني إليك الشوق حتى ... أميل من اليمين إلى الشمال كما مال المعاقر عاودته حميا ... الكأس حالاً بعد حال وتأخذني لذكركم ارتياح ... كما نشط الأسير من العقال وأيسر ما ألاقي أن هماً ... يغصصني بذا الماء الزلال
وكما قال [آخر] : وإني لأغري بالنسيم إذا سرى ... ويعجبني بالأبرقين ربوع ويحني علي الشوق نجدي مزنةٍ ... وبرق بأطراف الحجاز لموع ولا أعرف الأشجان حتى تشوقني ... حمائم ورق في الديار وقوع فلما رأيت الزمان لا يواتي [على المطلوب] ؛ فشرعت في التعلل بذكر المحبوب. ............... ... رب ذكرى قربت من نزحا وها أنا أذكر من أخبار تلك الطريق وفضائل البيت العتيق، وإن كان الذكر سبباً للتشويق، لكنه كما قال القائل: تداويت من ليلى بليلى ... ...................... وقد أتيت بذلك على ترتيب المنازل، وذكرت ما يختص بالمكان والوقت من الفضائل، وبينت فيه المشروع من المناسك، وحليت ذلك بالأحاديث الفائقة والأشعار الرائقة، ثم ذكرت من أخبار المدينة وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم طرفاً يحوي طرفاً، ثم أتبعت ذلك بذكر الاتعاظ بالأجداث، وتلوته بمستحسن ما كتب على القبور، ثم ختمت الكتاب بكلمات من الحكم تتضمن مواعظ بليغة؛ ليكون هذا المجموع جامعاً للفن الذي قصدته مع أني قد أجريت فيه إلا
الاختصار، وحذف كثير من الأسانيد، ولو ذكرت كل ما قيل في هذه المعاني؛ لوقع الملل، غير أني تخيرت الأحسن، ولو رمت إسهاباً؛ لأتى الفيض بالمد، والله الموفق.
باب ذكر تراجم أبواب الكتاب
باب ذكر تراجم أبواب الكتاب باب فرض الحج باب بيان ما يشتمل عليه الحج. بَابُ ذَمِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَتَرَكَهُ من غير عذر. باب ذكر العاجز عن الحج. باب فضل الحج. باب توقان النفس إلى مكة. باب التهيؤ للحج. باب الإفضال على الإخوان في الحج والسفر. باب ما يصنع إذا أراد الخروج من منزله. باب انزعاج مودعي الحاج. باب آداب السير في السفر. بَابُ ذِكْرِ حَنِينِ الْإِبِلِ فِي السَّيْرِ، وَخِطَابِ الواجدين لها ولحاديها،
والأخبار عنها وأنعم بها. باب حج الماشي. باب ذكر بعض المنازل. باب ذكر بعض المنازل المشهورة وذكر بعض ما جرى فيها. باب ذكر الأميال وما جرى عندها وفي الطريق. باب ذكر نبذة من أخبار صالحي أهل البادية. باب ذكر من سقى في الطريق ماءً أو فعل خيراً. باب حدود الحرم. باب ذكر تعظيم حرمة الحرم. أبواب الإحرام: باب المواقيت. باب التمتع والقران والإفراد. باب آداب المحرم. باب ذكر التلبية.
بَابُ مَا يَتَوَقَّاهُ الْمُحْرِمُ وَمَا يُبَاحُ لَهُ. بَابٌ الْإِشَارَةُ فِي الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةُ وَأَفْعَالُ الْحَجِّ. بَابٌ ذِكْرُ أَحْوَالٍ جَرَتْ لِلْخَائِفِينَ مِنَ الْمُحْرِمِينَ. بَابٌ مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ مُحْرِمًا أو غير محرم. باب فضائل العشر. باب ذكر ليلة التروية ويوم التروية. أبواب يوم عرفة: باب في معنى هذه التسمية. باب في ذكر ليلة عرفة. باب في فضائل يوم عرفة. باب ذكر الوقوف بعرفة. بَابٌ فِي كَثْرَةِ الْعِتْقِ وَالْغُفْرَانِ يَوْمَ عَرَفَةَ. باب في ذكر ثواب صائم يوم عرفة. بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ.
بَابُ ذِكْرِ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنِ الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ. باب خوف الصادقين عند وقوفهم بعرفة. بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ اجْتِمَاعِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل والخضر بعرفة. باب ما روى من التقاء إياس والخضر بالموسم. باب ما روي من الصلوات يوم عرفة. بَابُ تَعْرِيفِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فِي الْمَسَاجِدِ تشبهاً بأهل عرفة. باب الدفع من عرفة. باب فضل ليلة النحر. باب ما يصنع بعد فجر النحر. باب ذكر منى. باب رمي الجمرات. أبواب الأضاحي: باب بيان فضل الأضاحي. باب بيان أن الأضحية سنة.
باب في بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُنَّتِ الأَضَاحِي. باب ذكر اختلاف الناس في الذبيح. باب بيان ما يستعمله المضحي من الآداب. باب ذكر الهدي. بَابٌ كَلامُ أَهْلِ الإِشَارَةِ فِي الأَضَاحِي وَالْعِيدِ. باب الحلاق والتقصير. باب مسجد الخيف. باب ذكر التكبير. أبواب ذكر مكة. باب في أسمائها. باب في فضل مكة. بَابٌ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلُ اللَّهِ عز وجل. باب فتح مكة.
باب صعود بلال على الكعبة يوم الفتح [للأذان] . باب كيفية دخول مكة. أبواب ذكر الكعبة: باب في ذكر المشهور من أسمائها. بَابٌ بَيَانُ أَنَّهَا أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. باب تلخيص قصة بناء الكعبة. باب كيفية بناء المسجد الحرام. باب فضل المسجد الحرام. باب كسوة الكعبة [المشرفة] . باب سدانة الكعبة. باب فضل الحجر الأسود. باب ذكر الركن اليماني. باب ذكر الحجر وأنه من البيت. باب ذكر الميزاب. بَابٌ ذِكْرُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وأنه مقابل الكعبة.
باب تلخيص قصة أصحاب الفيل. باب ذكر دخول المسجد الحرام. باب فضل النظر إلى الكعبة. باب انزعاج العارفين عند رؤية الكعبة [أو مكة] . أبواب ذكر الطواف بالبيت: باب الأصل في الطواف. باب أقسام الطواف وما يقال فيه. باب ذكر فضائل الطواف. باب التحريض على الإكثار من الطواف. باب الأدب في الطواف. باب غض البصر في الطواف. باب عقوبة أقوام أساؤوا الأدب عند الكعبة. بَابُ ذِكْرِ مَنْ ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فِي الطَّوَافِ فولدت في الكعبة. باب ذكر الإشارة في الطواف. بَابٌ ذِكْرُ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنِ الطَّائِفِينَ وَأَدْعِيَةٌ وأحوال جرت لهم.
باب طواف الحشرات بالبيت. بَابٌ طَوَافُ سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْبَيْتِ زمن الغرق. باب دخول البيت. باب ما يصنع بعد الطواف. باب ذكر مقام إبراهيم عليه السلام. بَابُ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ الصَّلاةِ عِنْدَ الْمَقَامِ. باب السعي بين الصفا والمروة. باب ما يصنع بعد السعي. باب ذكر زَمْزَمَ. بَابُ فَضْلِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. باب ذكر السقاية والرفادة. باب ذكر العمرة. باب فضل العمرة في رمضان. باب ذكر أسواق العرب التي كانت تقوم بمكة في مواسم الحج.
أَبْوَابٌ فِيهَا نُبَذٌ مِمَّا كَانَ يَجْرِي لِلْعَرَبِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ بِعُكَاظٍ وَغَيْرِهَا: بَابٌ خُطَبُ الفصحاء بمكة. بَابٌ ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ خُطَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمكة. بَابُ ذِكْرِ اجْتِمَاعِ الشُّعَرَاءِ بِسُوقِ عُكَاظٍ وَتَنَاشُدِهِمُ الأشعار. بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ العرب وإجازة الحاج. بَابُ إِيثَارِ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تلك الأماكن على البيع والشرى. باب ذكر أماكن بمكة يستحب الصلاة فيها والدعاء. بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَأُلْهِمَ الْخُرُوجَ لمصلحةٍ. باب طواف الوداع. باب ذكر الملتزم. بَابُ ذِكْرِ أَمَاكِنَ بِمَكَّةَ وَمَا وَالاهَا وَقَرُبَ مِنْهَا مِثْلُ الْحَجُونِ وَالْمُحَصَّبِ وَالْحِجَازِ وَنَجْدَ، ذَكَرَهَا الشعراء في أشعارهم، فأطرب ذكرها السامع.
باب قبول الحاج. باب من آثر أهل فَاقَةٍ بِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ، فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى ملكاً فحج عنه. أبواب ذكر كبراء الحاج وساداتهم: باب ذكر حج الملائكة. باب ذكر حج آدم عليه السلام. باب ذكر حج الأنبياء عليهم السلام. باب ذكر حج الحواريين. باب حج أصحاب الكهف. باب حج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أَبْوَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْخُلَفَاءِ وَبَعْضُ مَا جَرَى لَهُمْ مِنَ الطُّرَفِ: بَابُ ذِكْرِ حَجِّ أَبِي بكر [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] .
باب ذكر حج عمر [رضي الله عنه] . باب ذكر حج عثمان [رضي الله عنه] . باب ذكر حج علي [رضي الله عنه] . بَابُ ذِكْرِ مَنْ حَجَّ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أمية. بَابُ ذِكْرِ مَنْ حَجَّ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي العباس. باب فيه ذِكْرِ طَرَفٍ مُسْتَحْسَنٍ مِنْ أَخْبَارِ الصَّالِحِينَ وَالأَوْلِيَاءِ في الحج. بَابٌ ذِكْرُ مَنْ طَالَ عَلَيْهُ سَفَرُهُ فَاشْتَاقَ إلى وطنه. باب في توديع الرفاق. باب ذكر من حج فزار قبر قرابةٍ له. باب المجاورة بمكة [المشرفة] . باب ذكر أعيان من نزل بمكة. باب فضل صيام رمضان بمكة. باب ذكر أعيان المدفونين في الحرم. باب ذكر من كان يكثر الحج. بَابُ ذِكْرِ ثَوَابِ مَنْ مَاتَ عُقَيْبَ الْحَجِّ. باب في التشوق إلى الحج وأماكنه.
أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: باب في أسمائها. باب في فضلها. باب في كيفية فتح المدينة. باب تحريم المدينة وحدود حرمها. باب ذكر مسجد الرسول عليه السلام. باب في ذكر أصله وبنائه. باب فضل الصلاة فيه. باب ذكر المنبر. باب ذكر حنين الجذع حين انتقل [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عَنْهُ إِلَى الْمِنْبَرِ. باب ذكر الروضة [النبوية] . باب فضل صلاة الجمعة بالمدينة. باب فضل صوم رمضان بالمدينة.
باب ذكر مسجد قباء. باب ذكر أعيان من نزل بالمدينة. بَابٌ ذِكْرُ مَنِ انْتَهَتِ الْفَتْوَى إِلَيْهِ مِنَ التابعين بالمدينة. باب ذكر فضيلة عالم المدينة. بَابٌ ذِكْرُ مَنْ وُعِظَ مِنَ الْخُلَفَاءِ بِالْمَدِينَةِ. بَابٌ ذِكْرُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. باب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم. باب بلوغ سلام المسلمين عليه صلى الله عليه وسلم. بَابُ ذِكْرِ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عِنْ زُوَّارِ قَبْرِهِ [صلى الله عليه وسلم] وأحوال جرت لهم. بَابُ ذِكْرِ الْبَقِيعِ وَصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى الله عليه وسلم] على أهله. باب ذكر بقاعٍ بالمدينة يستحب زيارتها. باب الاتعاظ بالقبور. باب كلام القبر.
بَابٌ مُنْتَخَبٌ مِنْ مَحَاسِنِ مَا كُتِبَ عَلَى القبور. باب من فنون الحكم والمواعظ. فتلك مئة وستون باباً.
أبواب فرض الحج
أبواب فرض الحج
باب فرض الحج
أبواب فرض الحج بَابُ فَرْضِ الْحَجِّ ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ استطاع إليه سبيلاً} . وَالْحَجُّ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الْقَصْدُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: فَتْحُ الْحَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الأَكْثَرِينَ، وَكَسْرُهَا وَهِيَ قراءة حمزة والكسائي. وقوله: {من استطاع إليه سبيلاً} : قَالَ النَّحْوِيُّونَ: ((مَنْ)) بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا بدل البعض، كما تقول: ((ضربت زيداً رأسه)) . و ((السبيل)) في اللغة: الطريق، ويذكر السبيل ويؤنث، وكذلك الطريق، والذراع، والموس، والسوق، والعاتق، والعنق، والحمر، والسلطان، والقليب فِي حُرُوفٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا. 1- وَقَدْ رُوِيَ [عَنِ] ابن مسعود وابن عمر وأنس وعائشة [رضي الله عنها] ، عن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سُئِلَ: مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ:
((مَنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ)) . 2- أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا القطيعي، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا منصور بن وردان، قال: ثنا علي بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البختري، عن علي عليه السلام؛ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ. فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ. ثُمَّ قالوا: أفي كل عام؟ فقال: ((لا، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ؛ لَوَجَبَتْ)) . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تبد لكم تسؤكم....} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
باب بيان ما يشتمل عليه الحج
بَابُ بَيَانِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ الْحَجُّ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: شَرَائِطَ، وَأَرْكَانٍ، وَوَاجِبَاتٍ، ومسنونات، وهيآت. فَأَمَّا الشَّرَائِطُ: فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي مَحَلِّ الْوُجُوبِ وُجُودُ خَمْسَةِ شَرَائِطَ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِسْلامُ، والزاد، والراحلة. أما شَرَائِطُ الأَدَاءِ عَلَى الْعُمُومِ، فَثَلاثَةٌ: [الْأَوَّلُ] : تَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ: وَهُوَ أَنْ لا يَكُونَ مَانِعٌ يَمْنَعُ ما يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُمَكَّنَ الأَدَاءُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا للفعل، أو المسافرة إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
فصل
وَاشْتُرِطَ فِي حَقِّ الضَّرِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ قائد يلازمه. واشترط في حق المرأة: المحرم، و (المحرم) : الزَّوْجُ أَوْ مَنْ لا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا من المناسبين. واختلفت الرواية عن [الإمام] أَحْمَدَ فِي الْمَحْرَمِ، هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؟ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الأَدَاءِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَرْكَانُ: فَفِيهَا ثَلاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ [الإمام] أَحْمَدَ: إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَالسَّعْيُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا ثَلاثَةٌ، وَالسَّعْيُ سُنَّةٌ إِذَا تَرَكَهُ، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أصحابنا: عليه بتركه دم. والرواية الثالثة: أنها رُكْنَانِ: الْوُقُوفُ، وَالطَّوَافُ. فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَنْ وَقَفَ وَزَارَ الْبَيْتَ: عَلَيْهِ دَمٌ وَحَجَّتُهُ صَحِيحَةٌ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ: فَسَبْعَةٌ:
فصل
الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ إِلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيَالِي مِنًى -إِلا لأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَاءِ-، وَالرَّمْيِ، وَالْحَلاقِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَسْنُونَاتُ: فَهِيَ: الاغْتِسَالُ، وَصَلاةُ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ عَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي عَرَفَاتٍ مَا لَمْ يَكُنْ بَدَأَ بِالْوُقُوفِ نَهَارًا، لَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ وَبَيْنَ إِفْرَادِ اللَّيْلِ، فإن وقف بالنهار، وجب عليه أن يقف جزءاً من اللَّيْلِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَالتَّلْبِيَةُ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ، وَاسْتِلامُ الرُّكْنَيْنِ، وَالتَّقْبِيلُ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ إِنْ كَانَ خَارِجًا إِلَى عرفات من مَكَّةَ إِلَى غَدَاةِ عَرَفَةَ، وَسَائِرُ الأَذْكَارِ فِي الحج. فصل وأما الهيآت: فَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ لِلرِّجَالِ، وَالدُّخُولُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَعْلاهَا، وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَالاضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ، وَالسَّعْيُ، وَالإِسْرَاعُ فِي مَوْضِعِ الإِسْرَاعِ وَالْمَشْيُ فِي مَوْضِعِ الْمَشْيِ، وَالْعُلُوُّ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يُشَاهِدَ الْبَيْتَ، وشدة السعي عند محسر، والوقوف على الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ.
فصل
فَصْلٌ فَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا، لَمْ يَتِمَّ نُسُكُهُ إِلا بِهِ، وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ تَرَكَ سُنَّةً أَوْ هَيْئَةً، فَلا شَيْءَ عليه. فصل فإذا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَجَبَ البدار إلى الحج، وهذا قول الحنفية، والمالكية، والداوودية، وأحمد بن حَنْبَلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ: هَلِ الأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ أَمْ لا؟ [فَعِنْدَ] الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي الفور خلافاً للشافعي، ولنا أدلة كثيرة ننتخب منها ها هنا ثلاثة: إحداها: مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ ألا تسجد إذ أمرتك} ، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى التَّرَاخِي، لَمَا حَسُنَ البدار إِلَيْهِ بِالْعِتَابِ. وَالثَّانِي مِنَ النَّقْلِ، وَهُوَ: 3- حَدِيثُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ،
فَلَمْ يُجِبْ، فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: ((أَلَمْ يقل الله عز وجل: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؟)) . وَالَثَّالِثُ: مِنَ اللُّغَةِ: وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الأَمْرِ إنما يعرف من أهل اللُّغَةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: قُمْ فَتَوَقَّفَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ لَوْمُهُ وَعِقَابُهُ. 4- وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ)) . وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ، وَأَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ، لَمَا أَخَّرَهُ. وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ نبيه [صلى الله عليه وسلم] أن لا يموت حَتَّى يَحُجَّ، فَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الإِدْرَاكِ، وهذا عذر يحتاجون فيه إلى إثبات نَقْلٍ، وَلا يَجِدُونَ فِي ذَلِكَ نَقْلا. وَإِنَّمَا أَقَامُوا الاحْتِمَالَ مَقَامَ النَّقْلِ، فَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مُرْتَضًى لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ، وقد كانت له خمسة أعذار: إحداها: الْفَقْرُ. وَالثَّانِي: الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا، كَانَ يُحْرَسُ إِلَى أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والله يعصمك من الناس} . وَالثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رأي أن تقديم الجهاد أولى. والخامس: غلبة المشركين عَلَى مَكَّةَ وَإِظْهَارُهُمُ الشِّرْكَ هُنَاكَ وَمَا كَانَ يمكنه الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَوِيَ الإِسْلامُ، وَبَعَثَ أَبَا بكر [رضي الله عنه] عَلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا، فَنَادَى أَنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ حج لزوال العذر، فتأخيره عليه [الصلاة و] وَالسَّلامُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ، فَلا تُؤَثِّرُ فِي الْأَمْرِ الصَّرِيحِ.
باب ذم من وجب عليه الحج وتركه من غير عذر
بَابُ ذَمِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَتَرَكَهُ من غير عذر 5- أخبرنا عبد الله بن محمد النسفي، قال: أخبرنا عبد الرزاق بن عمر بن شمة، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم بن داران، قال: ثنا أبو عروبة الحراني، قال: حدثني المغيرة بن عبد الرحمن، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سابط، عن أبي أمامة [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قال: ((من لم يحبسه [عن الحج] مَرَضٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نصرانياً)) . 6- أخبرنا الكروخي، قال: أخبرنا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ
الغورجي، قالا: ثنا الجراحي، قال: ثنا المحبوبي، قال: ثنا الترمذي، قال: ثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هلال بن عبد الله، قال: ثنا أبو إسحاق الهمداني، عن علي [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَلَكَ زَادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام وَلَمْ يَحُجَّ، فَلا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أو نصرانياً، وذلك أن الله [تعالى] يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً} . 7- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا أبو عمر بن مهدي، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْمِصْرِيُّ، قال: ثنا بكار بن قتيبة، قال: ثنا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالا: حدثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: مَنْ كَانَ ذَا مَيْسَرَةٍ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وإن شاء نصرانياً. 8- وبه ثنا بكار؛ قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ رُومِيٍّ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: رَجُلٌ مَاتَ وَهُوَ موسر ولم يَحُجَّ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ. وَسَأَلْتُهُ؛ فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، وَسَأَلْتُ عبد الله بن معقل، فَقَالَ: مَاتَ عَاصِيًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
باب ذكر العاجز عن الحج
بَابُ ذِكْرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بَعْدَ الْعَجْزِ، إِمَّا لزمنٍ، أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى زَوَالُهُ بِكِبَرٍ فِي السِّنِّ ونحو ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ، وَتَقَعُ الْحَجَّةُ مُجَزِئَةً عَنْهُ وإن برأ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ الَّذِي [كَانَ] لا يُرْجَى زواله، وذلك إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَمَاتَ، وَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيَبْدَأُ بِالاسْتِخْلافِ مِنْ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الْوُجُوبُ إِنْ كَانَ مِنْ دُوَيْرَتِهِ، فَمِنْ هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ بَعْضَ الْمَسَافَةِ، فَمِنْ حَيْثُ انْتَهَى سَعْيُهُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَنَّهُ إِذَا حَجَّ النَّائِبُ عَنْ هَذَا الْمَعْذُورِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ. [وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْحَاجِّ تَطَوُّعًا، وَلا يَقَعُ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ] ، إِلا ثَوَابُ النَّفَقَةِ. وَيَدُّلُ عَلَى مَذْهَبِنَا: 9- مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) من حديث الفضل بن العباس، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شيخ كبير،
عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، [أفأحج عنه؟] ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَحُجِّي عنه)) .
باب فضل الحج
بَابُ فَضْلِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً ... } إلى قوله [عز وجل] : {ليشهدوا منافع لهم} . قال سعيد بن المسيب: هِيَ منَافِعُ الْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} : إِنَّهُ طَرِيقُ مَكَّةَ. وَالْمَعْنَى: أَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَجِّ. 10- أخبرنا هبة الله بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: أنبأنا سفيان، قال: حَدَّثَنِي سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَتَانِ أَوِ الْعُمْرَةُ إِلَى
العمرة تكفر مَا بَيْنَهُمَا)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . 11- أخبرنا محمد بن محمد الوراق، قال: أخبرنا أبو بكر بن ساووش، قال: أخبرنا أبو حامد الإسفراييني، قال: ثنا إبراهيم بن عبدك، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا العباس بن الوليد النرسي، قال: ثنا سفيان بن عيينة. 12- وأخبرنا علي بن عبد الله، قال: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا ابن مردك، قال: ثنا الحسين بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا الفضيل بن عياض، كلاهما عن منصور بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه)) .
أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . 13- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد الحاكم ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا ابن حبابة، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا هدبة بن خالد، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا الجريري، عن حيان بن عمير، قال: ثنا ماعز، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ عز وجل، وجهاد في سبيله، ثم أرعدت فخذ السائل، ثم قال: مَهْ! قَالَ: ثُمَّ عَمَلٌ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، إِلا كَمِثْلِهِ حَجَّةٌ بَارَّةٌ حَجَّةٌ بَارَّةٌ)) . 14- أخبرنا أبو سعد الزوزني، قال: أخبرنا أبو يعلى بن الفراء، قال: أخبرنا عثمان بن عمرو بن المنتاب، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا الحسين بن الحسن، أخبرنا الهيثم بن جميل، قال: أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
((إِيمَانٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ)) . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ)) . أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . 15- وَفِي أَفْرَادِ البخاري من حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله! ترى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: ((لَكِنَّ أفضل الجهاد حَجٌّ مَبْرُورٌ)) . 16- وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قَالَ: ((حَجٌّ مَبْرُورٌ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلى الْجَنَّةُ)) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بِرُّ الْحَجِّ؟ قَالَ: ((إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ)) . وَسُئِلَ الحسن البصري: ما الحج المبرور؟ فقال: أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا، رَاغِبًا فِي الآخرة.
17- وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قَالَ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا لحج مبرور جزاء إلا الجنة)) . 18- وفي حديث [عمر بن الخطاب] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ مَا بينهما يزيد في العمر والرزق وينفي الذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)) . 19- وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قال: ((دعوة الحاج لا ترد حتى يَرْجِعُ)) . 20- وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ: ((مَنْ أَرَادَ دُنْيَا وَآخِرَةً، فَلْيَؤُمَّ هَذَا الْبَيْتَ، مَا أَتَاهُ عَبْدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ دُنْيَا إلا أعطاه مِنْهَا، وَلا آخِرَةً إِلا ادُّخِرَ لَهُ مِنْهَا)) .
21- وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، أنه قال: ((الحاج وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ سَأَلُوا، أُعْطُوا، وَإِنْ أَنْفَقُوا، أُخْلِفَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ وَلا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ عَلَى شَرَفٍ، إِلا أَهَلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ بِتَهْلِيلِهِ وَتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ مُنْقَطَعَ التُّرَابِ)) . 22- قرأت على محمد بن أبي منصور، عن الحسن بن أحمد، قال: ثنا أبو الفتح الحافظ، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، قال: ثنا أحمد بن روح، قال: ثنا حماد بن المؤمل، قال: ثنا محمد بن عمرو بن الجهم، قال: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ جَاءَ هَذَا الْبَيْتَ حَاجًّا وطاف أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْ مَائِهَا، أخرجه مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) . 23- وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ:
((لك بكل خطوة تخطوها راحلتك حسنة، تحط عَنْكَ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَتُرْفَعُ لَكَ بِهَا دَرَجَةٌ)) . 24- أخبرنا يحيى بن علي، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين السماني، قال: أخبرنا أبو طاهر بن مهدي، قال: حدثنا عثمان محمد السمرقندي، قال: ثنا أبو أمية، قال: ثنا عمر بن عثمان، قال: ثنا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عن علقمة بن مرثد، عن أبي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيَهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ تُضَاعَفُ في سبيل الله الدرهم بسبع مئة)) . 25- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أبو الغنائم بن النرسي، قال: أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا زيد بن جعفر بن حاجب، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الهمداني، قال: ثنا عمر بن الحسن، قال: ثنا محمد بن كامل، قال: ثنا محمد بن إسحاق العكاشي، قال: حدثني
فصل
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ مَكْحُولٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَبَا أمامة وواثلة يَقُولانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ((أربع حق على الله عَوْنُهُمْ: الْغَازِي، وَالْمُتَزَوِّجُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَالْحَاجُّ)) . وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَإِذَا الصَّلاةُ تُجْهِدُ الْبَدَنَ دُونَ الْمَالِ، وَالصِّيَامُ كَذَلِكَ، وَالْحَجُّ يُجْهِدُهُمَا، فَرَأَيْتُهُ أَفْضَلَ. وَكَانَ أَبُو الشَّعْثَاءِ لا يماكس في الكرى إِلَى مَكَّةَ، وَلا فِي الرَّقَبَةِ يَشْتَرِيهَا لِلْعِتْقِ، وَلا فِي الْأُضْحِيَةِ. وَقَالَ: لا يُمَاكَسُ فِي كل شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فصل واعلم أن التكليف ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: تَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِعَقْدِ الْقَلْبِ، وَتَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ، وَتَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَلَيْسَ فِي التكليف قسم رابع.
والصلاة والصوم يجمعان شيئين مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ: عَقْدُ الْقَلْبِ، وَفِعْلُ الْبَدَنِ، والزكاة تجمع شيئين: عَقْدُ الْقَلْبِ وَإِخْرَاجُ الْمَالِ، وَالْحَجُّ يَجْمَعُ الْأَرْكَانَ الثَّلاثَةَ، فَبَانَ فَضْلُهُ، ثُمَّ إنْهَاكُهُ لِلْبَدَنِ أَشَدُّ وَإِجْهَادُهُ لِلْمَالِ أَكْثَرُ، وَيَجْمَعُ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ وَالْمَأْلُوفَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَلِقَاءَ الشَّدَائِدِ، وَهُوَ زِيَارَةُ الْحَقِّ عز وجل، ثم هو [فيه] حُضُورُ الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُ فَضْلِهَا، وَيَتَضَمَّنُ الدُّخُولَ فِي جُمْلَةِ الْمُخْلِصِينَ، وَالاخْتِلاطَ بِالْأَبْدَالِ وَالصَّالِحِينَ، وَالانْغِمَاسَ فِي دُعَاءِ الْمَقْبُولِينَ. 26- أَخْبَرَنَا عُمَرُ بن ظفر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: أخبرنا أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ داود الدينوري يقول: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤي (وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلا) ، قال: كنت في البحر، فانكسر المركب وغرق كل ما كان فِيهِ، وَكَانَ فِي وِطَائِي لُؤْلُؤٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ، وَقَرُبَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ وَخِفْتُ الْفَوَاتَ، فلما سلم الله عز
وجل روحي ونجاني مِنَ الْغَرَقِ، مَشَيْتُ. فَقَالَ لِي جَمَاعَةٌ كَانُوا في المركب: لو توقفت عَسَى يَجِيءُ مَنْ يُخْرِجُ شَيْئًا، فَيُخْرِجُ لَكَ مِنْ رَحْلِكَ شَيْئًا. فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عز وجل ما مر مني وفي وِطَائِي شَيْءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ، وَمَا كُنْتُ بِالَّذِي أُوثِرُهُ عَلَى وقفةٍ بِعَرَفَةَ. فَقَالُوا: وَمَا الَّذِي وَرَّثَكَ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ مُولَعٌ بِالْحَجِّ، أَطْلُبُ الرِّبْحَ وَالثَّوَابَ، حَجَجْتُ فِي بعض السنين وعطشت عطشاً شديداً، فأجلست عبداً لي فِي وَسَطِ الْمَحْمَلِ وَنَزَلْتُ أَطْلُبُ الْمَاءَ، وَالنَّاسُ قد عَطِشُوا فَلَمْ أَزَلْ أَسْأَلُ رَجُلا رَجُلا وَمَحْمَلا محملاً: معكم ماء؟ وإذا بالناس شَرْعٌ وَاحِدٌ حَتَّى صِرْتُ فِي سَاقَةِ الْقَافِلَةِ بميل أو ميلين، فمررت بمصنع مصهرج، وإذا رَجُلٌ فَقِيرٌ جَالِسٌ فِي أَرْضِ الْمَصْنَعِ، وَقَدْ غَرَزَ عَصَاهُ فِي أَرْضِ الْمَصْنَعِ وَالْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ مَوْضِعِ الْعَصَا وَهُوَ يَشْرَبُ، فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ وَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ، وَجِئْتُ إِلَى الْقَافِلَةِ وَالنَّاسُ قَدْ نَزَلُوا، فَأَخْرَجْتُ قِرْبَةً وَمَضَيْتُ فَمَلَأْتُهَا، فَرَآنِيَ الناس فبادروا بِالْقِرَبِ، فَرَوَوْا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمَّا رَوِيَ النَّاسُ وسارت القافلة، وجئت لأنظر وإذا البركة ملأى تلتطم أمواجها، فموسم
يَحْضُرُهُ مِثْلُ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنْ حَضَرَ الْمَوْقِفَ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أُوثِرُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ آلاف، لا وَاللَّهِ وَلا الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. وَتَرَكَ اللُّؤْلُؤَ وَجَمِيعَ قُمَاشِهِ. قَالَ الشَّيْخُ: فَبَلَغَنِي أَنَّ قِيمَةَ ما كان غرق له خمسين ألف دينار.
باب سبب توقان النفس إلى مكة
بَابُ سَبَبِ تَوَقَانِ النَّفْسِ إِلَى مَكَّةَ التَّائِقُونَ إلى مكة على ستة أقسام: القسم الأول: من يكون وَطَنًا لَهُ فَيَخْرُجُ عَنْهَا فَيَتُوقُ إِلَى وَطَنِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَالثَّانِي: مَنْ يَذُوقُ فِي تَرَدُّدِهِ إليها حلاوة ربح الدنيا، فذاك يتوق إِلَى رِبْحِهِ لا إِلَيْهَا، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا؛ تَاقَ إِلَيْهَا. وَالثَّالِثُ: مَنْ يَكُونُ مَحْصُورًا فِي بَلَدِهِ، فَيُحِبُّ النُّزْهَةَ وَالْفُرْجَةَ وَيَرَى مَا يَطْلُبُهُ فِي طَرِيقِهَا، فَيَنْسَى شِدَّةً يَلْقَاهَا لِلَّذَّةِ التي يطلبها، وتبهرج نفسه عليه أنها حب الحج وإنما تحب الراحة. وَالرَّابِعُ: مَنْ تُبْطِنُ نَفْسُهُ الرِّيَاءَ وَتُخْفِيهِ عَنْهُ حَتَّى لا يَكَادَ يُحِسُّ بِهِ وَذَلِكَ حُبُّهَا لقول الناس: قد حج فلان لتلقيبه وتسميته بالحاجي، فهي تتوق إِلَى ذَلِكَ وَتُبَهْرِجُ عَلَيْهِ بِحُبِّ الْحَجِّ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ الْغُرُورِ، فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّ رَجُلا جَاءَهُ فقال: أريد أن أحج. فقال:
كم معك؟ قال: ألفا درهم. قال: أما حججت؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَأَنَا أَدُلُّكَ عَلَى أَفْضَلَ من الحج، اقض دين مدين [و] فَرِّجْ عَنْ مَكْرُوبٍ. فَسَكَتَ. فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: مَا تَمِيلُ نَفْسِي إِلا إِلَى الْحَجِّ. قال: إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَرْكَبَ وَتَجِيءَ وَيُقَالَ قَدْ حَجَّ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَنْ يَعْلَمُ فَضْلَ الْحَجِّ، فَيَتُوقُ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ مضاعفة الثواب في تلك الأماكن تزيد عَلَى غَيْرِهَا وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: تَوَقَانٌ عَامٌّ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إِلا أَنَّ فِيهِ شَائِبَةً مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ أَنَّ أَقْوَامًا يَتُوقُونَ وَيَجِدُونَ قَلَقًا لا يَبْعَثُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ الْمَكَانُ مُسْتَلَذًّا فِي نَفْسِهِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْقَلَقَ، فَهَذَا السِّرُّ الْغَامِضُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى كَشْفٍ. وَلِهَذَا التَّوَقَانِ ثَلاثَةُ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: دُعَاءُ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ قَالَ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تهوي إليهم} . قال ابن عباس: تَحِنُّ إِلَيْهِمْ, قَالَ: وَأَرَادَ حُبَّ سُكْنَى مَكَّةَ، ولو قال: فاجعل أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لَحَجَّهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لكنه قال: {من الناس} .
والثاني: 27- أنه جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَتَحِنُّ الْقُلُوبُ إِلَيْهَا)) . 28- وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تُنْسَخُ فِيهَا الْآجَالُ، وَيُكْتَبُ فِيهَا الْحَاجُّ)) . وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدم بأرض نعمان. 29- فأخبرنا ابن عبد الواحد، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا حسين بن محمد، قال: ثنا جَرِيرٌ (يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ) ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ (يَعْنِي: عَرَفَةَ) ،
فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قَبْلا، قَالَ: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ أَوَّلُ وَطَنٍ، وَالنَّفْسُ أَبَدًا تُنَازِعُ إِلَى الْوَطَنِ، وليس لقائل أن يقول: فهذا شَيْءٌ لا تَتَخَايَلُهُ النَّفْسُ، فَكَيْفَ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ؟ لأن النفس قد كانت في أحوال وتقلبت فَنَسِيَتْ، كَمَا أَنَّ الَإِنْسَانَ قَدْ يَمِيلُ إِلَى شخص ولا يدري لم، ثم يظهر بينهما تشاكل أوجب ذلك أو مناسبة، ثُمَّ لَيْسَ نِسْيَانُ النَّفْسِ لِذَلِكَ الْعَهْدِ بِأَعْجَبَ مِنْ نِسْيَانِهَا لِلْعَهْدِ، وَالْأَوْطَانُ أَبَدًا مَحْبُوبَةٌ. 30- وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه لما سافر إلى المدينة فتذكر مَكَّةَ فِي طَرِيقِهِ، فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: أَتَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) . قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِي فرض عليك القرآن لرادك إلى معادٍ} .
31- أخبرنا هبة الله بن محمد، قال: أخبرنا الحسين بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا يونس، قال: ثنا حماد (يعني: ابن زيد) ، عن هشام [بن عروة] ، عن أبيه، عن عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] ، قَالَتْ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فاشتكى أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امرئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى من شراك نعله فقالت: وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بوادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلٌ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ اللَّهُمَّ الْعَنْ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَقُوا، قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ صَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وانقل حماها إلى الجحفة)) . قال: فَكَانَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ بِالْجُحْفَةِ، فَمَا يَبْلُغُ الْحُلُمَ حَتَّى تَصْرَعَهُ الْحُمَّى.
أخرجاه في ((الصحيحين)) . 32- أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أبو ظاهر بن أبي الصقر، قال: أخبرنا مكي بن نظيف، قال: ثنا طاهر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو محمد بن زبر، قال: ثنا العباس بن محمد، قال: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ أُصَيْلا الْهُذَلِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة، فقال له: ((يَا أُصَيْلُ! كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ؟)) . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَرَكْتُهَا وَقَدِ ابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا، وَاخْضَرَّتْ مسيلاتها (يَعْنِي: شِعَابَهَا) ، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا (وَالْإِمْشَارُ: ثَمَرٌ لَهُ أحمر) ، وَأَعْذَقَ إِذْخِرُهَا (وَالْإِعْذَاقُ: اجْتِمَاعُ أُصُولِهِ) ، وَأَحْجَنَ ثُمَامُهَا وَالْإِحْجَانُ: تَعَقُّفُهُ. فَقَالَ: ((يَا أُصَيْلُ! دَعِ الْقُلُوبَ تَقِرُّ، لا تُشَوِّقْهُمْ إِلَى مَكَّةَ)) . وَمِمَّا يُؤَكِّدُ دَلِيلَ حُبِّ الْوَطَنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا
أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} ، فَسَوَّى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ. وَأَوْصَى الْإِسْكَنْدَرُ إِذَا مَاتَ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى بَلَدِهِ، حباً لوطنه. واعتل اسفنديار فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ قال: شَمَّةً مِنْ تُرْبَةِ بَلْخٍ، وَشَرْبَةً مِنْ مَاءِ وَادِيهَا. وَاعْتَلَّ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ بِالرُّومِ وَكَانَ مَأْسُورًا بِهَا، وَكَانَتْ بِنْتُ مَلِكِهِمْ قَدْ عَشِقَتْهُ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ: شَرْبَةً مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ، وَشَمِيمًا مِنْ تُرَابِ إِصْطَخَرَ، فَغَابَتْ عنه أياماً ثم أتت بِمَاءٍ مِنَ الْفُرَاتِ، وَقَبْضَةٍ مِنْ شَاطِئِهِ، وَقَالَتْ: هذا من دجلة، وهذه من تُرْبَةُ أَرْضِكَ، فَشَرِبَ بِالْوَهَمِ، وَاشْتَمَّ مِنْ تِلْكَ التُّرْبَةِ، فَنَقِهَ مِنْ عِلَّتِهِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا سَافَرَتْ، حَمَلَتْ مَعَهَا مِنْ تُرْبَةِ بَلَدِهَا تَسْتَشْفِي بِهِ عِنْدَ مَرَضٍ يَعْرِضُ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني ضبة: نَسِيرُ عَلَى عِلْمٍ بِكُنْهِ مَسِيرِنَا ... وَعِدَّةِ زَادٍ فِي بَقَايَا الْمَزَاوِدِ ونَحْمِلُ فِي الأَسْفَارِ مِنَّا قبيضة ... من المنتأى النائي لحب الموارد ولَمَّا حُمِلَتْ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ إِلَى عُثْمَانَ بن عفان، كرهت فراق
أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لِأَخِيهَا ضَبٍّ: أَلَسْتَ تَرَى بِاللَّهِ يَا ضَبُّ أَنَّنِي ... مُوَافِقَةٌ نَحْوَ الْمَدِينَةِ أَرْكَبَا أما كان في أولاد عمر بن عامر ... لك الويل ما يفنى الخبأ الْمُحْجِبَا أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ تَمُوتِي غَرِيبَةً ... بِيَثْرِبَ لا تَلْقَيْنَ أُمًّا وَلا أَبَا وَقَالَتِ الحكماء: أرض الرجل ظئره، وداره مهره، والغريب كالفرس الذي زايل أرضه، فهو زاوٍ لا يَنْمَى، وَذَابِلٌ لا يَنْضُرُ. وَفِطْرَةُ الرَّجُلِ مَعْجُونَةٌ بِحُبِّ الْوَطَنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِبِلَ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطَّيْرُ إِلَى أَوْكَارِهَا. وَكَانَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدِ انْتَقَلَ عَنْ وَطَنِهِ، فَنَزَلَ دِيَارًا أعمر من دياره وأخصب، ودانت له المماليك ثُمَّ كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْوَطَنَ يَحِنُّ حَنِينَ الإبل إلى الأعطان. وأنشد فِي هَذَا الْمَعْنَى: مَا مِنْ غَرِيبٍ وَإِنْ أبدى تجلده ... إلا تذكر عند الغربة الوطنا وما يزال حمام باللوى غرد ... يهيج منى فؤدا طال ما سَكَنَا وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَمِنْهُ قَوْلُ بعضهم: إذا ما ذكرت الثغر فَاضَتْ مَدَامِعِي ... وَأَضْحَى فُؤَادِي نَهْبَةً لِلْهَمَاهِمْ حَنِينًا إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي ... وَحُلَّتْ بِهَا عني عقود التمايم وقال آخر:
يَقَرُّ بِعَيْنَيَّ أَنْ أَرَى فِي مَكَانَةٍ ... ذَرَى عطفات الأجرع المتقاود وَأَنْ أَرِدَ الْمَاءَ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ ... طَرُوقًا وقد مَلَّ السُّرَى كُلُّ وَاحِدٍ وَأُلْصِقُ أَحْشَائِي بِبُرْدِ تُرَابِهِ ... وَإِنْ كَانَ مَمْزُوجًا بِسُمِّ الْأَسَاوِدِ وَأَنْشَدَ أَبُو النَّصْرِ الْأَسَدِيُّ: أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ مَا بين صارةٍ ... إلى قفوانٍ أن تسح سحابها بلاد بها نيطت على تمائمي ... وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا وَقَالَ الطَّائِيُّ: كم منزل في الأرض بالغه الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلا لِلْحَبِيبِ الَأَوَّلِ وَقَالَ آخَرٌ: أَقُولُ لِصَاحِبِي وَالْعِيسُ تحدي بنا ... نحو القبيبة فالضمار تزود من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العشية من عرار ألا يا حبذا أرواح نجد ... وديار رَوْضِهِ غِبَّ الْقِطَارِ وَعَيْشُكَ إِذَ يَحِلُّ الْقَوْمُ نَجْدًا ... وَأَنْتَ عَلَى زَمَانِكَ غَيْرُ زَارِي شُهُورٌ ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار (العرار) : نبت طيب الريح. و (القطار) : من القطر وهو المطر. و (الزاري) : العايب. وَفِي (السِّرَارِ) لُغَتَانِ: يُقَالُ هُوَ سِرَارُ الشَّهْرِ وسراره.
و (السرار) : الْلَيْلَةُ الَّتِي يُسْتَسَرُّ فِيهَا الْقَمَرُ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، فَلا يُرَى، وَرُبَّمَا اسْتَسَرَّ لَيْلَتَيْنِ. وَلابْنِ الرُّومِيِّ: وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إلَيْهِمْ ... مَآرِبُ قَضَاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمْ ... عُهُودُ الصبا فيها فحنو لذالكا وَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ غُمُوضٌ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي ذَوْقٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ مَا يَكْشِفُهُ فِي أَوَّلِهِ، وَأَعْلَمْتُ أَنَّ لِلنَّفْسِ عِلْمًا قَدْ تَنَاسَتْهُ، فَهِيَ تَنْزِعُ بِالطَّبْعِ إِلَى حُبِّ الْوَطَنِ الأول وإن لم تعرف أنه كان وطناً، وَيَقْوَى شَوْقُهَا إِلَيْهِ بِقَدْرٍ حَظِّهَا الْأَوَّلِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ زَادَ شَوْقُ الْقَوِيِّ الْإِيمَانِ عَلَى مَنْ ضَعُفَ إِيمَانُهُ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ ذَكَّرَهُ مَا هُنَاكَ كما قال القائل: لا يذكر الرمل الأحن مغترب له ... بذي الرمل أوطار وأوطان تهفوا إِلَى الْبَانِ مِنْ قَلْبِي نَوَازِعُهُ ... وَمَا بِيَ الْبَانُ بَلْ مَنْ دَارُهُ الْبَانُ أَسُدُّ سَمْعِيَ إذا غنى الحمام به ... ألا يهيج بسر الْوَجْدِ إِعْلانُ وَرُبَّ دارٍ أَوَّلِيهَا مُجَانَبَةٍ ... وَلِي إِلَى الدَّارِ إِطْرَابٌ وَأَشْجَانُ إِذَا تَلَفَّتُّ فِي أطلالها ابتدرت ... للعين والقلب أَمْوَاهٌ وَنِيرَانُ وَقَالَ أَيْضًا:
وأستشرف الأعلام حتى يدلني ... على طيبها مر الرياح النواسم وما أنسم الأرواح إلا لأنها ... تمر على تلك الربا والمعالم ولهذا المعنى الذي شرحته قال ذو النون [المصري] وقد سئل أين أنت من قوله [تعالى] : {ألست بربكم} ، فَقَالَ: كَأَنَّهُ الْآنَ فِي أُذُنِي.
باب التهيؤ للحج
بَابُ التَّهَيُّؤِ لِلْحَجِّ يَنْبَغِي لِمَنْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَظَالِمِ الَّتِي بَيْنَهُ وبين الخلق، وينزع بالتوبة عن الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ، لِيَسْتَقْبِلَ الزِّيَارَةَ نظيفاً عن قاذورات الخطأ. 33- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أنبأ البرمكي، قال: أخبرنا أبو عبد الله بن بطة، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: ثنا أبو ذر البصري، قال: ثنا إسحاق بن وهب، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَدُّ دَانِقٍ من حرام تعدل عند الله سبعين حجة)) .
34- وأخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن ابن خيرون، قال: ثنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا أبو بكر المفيد، قال: ثنا أبو بشر الدولابي، قال: ثنا الحسن بن علي بن السكن، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا دُجَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا حج رجل بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبيك، قال الله لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، هَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْكَ)) . 35- وأخبرناه عالياً ظفر بن علي، قال: أخبرنا أبو مطيع المصري، قال: أخبرنا أبو بكر بن مردويه، قال: ثنا محمد بن محمد المصري، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا دجين بن ثابت، قال: ثنا أَسْلَمُ، عَنْ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فصل
((مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ، فَقَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبيك، قال الله عز وجل له: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ)) . فصل ثم يصلي صَلاةَ الاسْتِخَارَةِ: 36- أَخْبَرَنَا بِهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ، قال: أخبرنا أبو علي بن المذهب قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: ثنا إسحاق بن عيسى، قال: ثنا عبد الرحمن، ابن أبي الموالي، قال: ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر [رضي الله عنه] ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: ((إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخْيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم
فصل
أن هذا الأمر (تسميه بِاسْمِهِ) خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ، ثُمَّ بَارِكَ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ شَرًّا لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثم ارضني به)) . انفرد بإخراجه البخاري. فصل وينبغي أَنْ يُصَحِّحَ قَصْدَهُ لِلْحَجِّ، وَإِنْ أَرَادَ التِّجَارَةَ، فلتكن ضِمْنًا وَتَبَعًا، وَلا تَكُونُ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَكْبَرَ. 37- فقد أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمدويه، قال: ثنا عبد الرحمن بن الحسن السرخسي، قال: حدثني إسماعيل بن جميع، قال: ثنا مغيث بن أحمد البلخي، قال: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ جَعْفَرٍ (يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ) ، قال: ثنا ثابت، عن أنس ابن مَالِكٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فصل
((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَحُجُّ أَغْنِيَاءُ أُمَّتِي لِلنُّزْهَةِ، وَأَوْسَاطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَفُقَرَاؤُهُمْ للمسألة)) . فصل ثم ينبغي له أَنْ يَرُدَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَأَنْ يلتمس رفيقاً صالحاً، وأن الرَّفِيقَ الصَّالِحَ تُفِيدُ رُؤْيَتُهُ وَتَعُودُ بَرَكَتُهُ. 38- أَخْبَرَنَا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا ابن دوست، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حَدَّثَنِي مُخَوَّلٌ، قَالَ: جَاءَنِي بَهِيمٌ (يَعْنِي: الْعِجْلِيَّ) ، فقال لي: تعلم رَجُلا مِنْ جِيرَانِكَ أَوْ إِخْوَانِكَ يُرِيدُ الْحَجَّ ترضاه يرافقني. قلت:
نَعَمْ. فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْحَيِّ له صلاح ودين، فجمعت بينهما، وتواطئا عَلَى الْمُرَافَقَةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بَهِيمٌ إِلَى أَهْلِهِ، فلما كان بعد، أتاني الرجل وقال: يَا هَذَا! أُحِبُّ أَنْ تَزْوِيَ عَنِّي صَاحِبَكَ ويطلب رفيقاً غيري. فقلت: ولم؟ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ بِالْكُوفَةِ لَهُ نَظِيرًا فِي حسن الخلق والاحتمال. قال: وَيْحَكَ، حُدِّثْتُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْبُكَاءِ لا يَكَادُ يَفْتُرُ، فَهَذَا يُنَغِّصُ عَلَيْنَا الْعَيْشَ. فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة، أوما تبكي أنت؟ قال: بلى، ولكنه قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ كَثْرَةِ بكائه. فقلت: اصحبه لعلك تَنْتَفِعَ بِهِ. فَقَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَا فِيهِ، جِيءَ بِالْإِبِلِ وَوُطِّئَ لَهُمَا، فَجَلَسَ بَهِيمٌ فِي ظِلِّ حائط [يبكي] ، فوضع يده تحت لِحْيَتِهِ، ثُمَّ عَلَى صَدْرِهِ حَتَّى وَاللَّهِ رَأَيْتُ دموعه على الأرض، فقال لي صاحبي: يَا مُخَوَّلُ! قَدِ ابْتَدَأَ صَاحِبُكَ، لَيْسَ هَذَا لي رفيق. فَقُلْتُ: ارْفُقْ، لَعَلَّهُ ذَكَرَ عِيَالَهُ وَمُفَارَقَتَهُ إِيَّاهُمْ. وَسَمِعَهَا بَهِيمٌ، فَقَالَ: يَا أَخِي! وَاللَّهِ مَا هو ذاك، وما هو إلا لأني ذَكَرْتُ بِهَا الرِّحْلَةَ إِلَى الْآخِرَةِ. وَعَلا صَوْتُهُ بِالنَّحِيبِ. فَقَالَ لِي صَاحِبِي: مَا هِيَ بِأَوَّلِ عَدَاوَتِكَ لِي، مَالِي وَلِبَهِيمٍ؟! إِنَّمَا كَانَ
ينبغي أن ترافق بين بهيم وبن دَاوُدَ الطَّائِيِّ وَسَلامٍ أَبِي الْأَحْوَصِ حَتَّى يَبْكِيَ بعضهم إلى بعض، فيشتفون أَوْ يَمُوتُونَ. فَلَمْ أَزَلْ أَرْفُقُ بِهِ، وَقُلْتُ: وَيْحَكَ، لَعَلَّهَا خَيْرُ سَفْرَةٍ سَافَرْتَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لا يَعْلَمُ بِهِ بَهِيمٌ، وَلَوْ عَلِمَ، مَا صاحبه، فخرجا ورجعا. فلما [وصلا] جِئْتُ أُسَلِّمُ عَلَى جَارِي، قَالَ لِي: جَزَاكَ اللَّهُ يَا أَخِي عَنِّي خَيْرًا، مَا ظَنَنْتُ أن في هذا الْخَلْقِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ، كَانَ وَاللَّهِ يَتَفَضَّلُ علي في النفقة وهو معدم وَأَنَا مُوسِرٌ، وَفِي الْخِدْمَةِ وَأَنَا شَابٌّ وَهُوَ شَيْخٌ، وَيَطْبَخُ لِي وَأَنَا مُفْطِرٌ وَهُوَ صَائِمٌ. فقلت: فكيف كَانَ أَمْرُكَ مَعَهُ فِي الَّذِي كُنْتَ تَكْرَهُهُ من طويل بكائه؟ قال: ألفت والله ذاك الْبُكَاءَ وَسُرَّ قَلْبِي حَتَّى كُنْتُ أُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَأَذَّى بِنَا الرُّفُقَةُ، ثُمَّ أَلِفُوا ذَلِكَ، فَجَعَلُوا إِذَا سَمِعُونَا نَبْكِي يَبْكُونَ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: مَا الَّذِي جَعَلَهُمْ أَوْلَى بِالْبُكَاءِ مِنَّا وَالْمَصِيرُ وَاحِدٌ؟! فَيَبْكُونَ وَنَبْكِي ثُمَّ خَرَجْتُ من عنده، فأتيت بهيماً فقلت: كَيْفَ رَأَيْتَ صَاحِبَكَ؟ قَالَ: كَخَيْرِ صَاحِبٍ، كَثِيرَ الذكر لله، طويل التلاوة، وسريع الدَّمْعَةِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا.
باب الإفضال على الإخوان والرفقاء في السفر
بَابُ الْإِفْضَالِ عَلَى الْإِخْوَانِ وَالرُّفَقَاءِ فِي السَّفَرِ 39- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: ثنا أبو بكر بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا سليمان بن داود، قال: أخبرنا شعبة عن عبد الله بن عمران، قال: سمعت مجاهد يَقُولُ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أخدمه وكان يخدمني أكثر. 40- أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو محمد الخلال، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد الكاتب، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بن علي بن الحسن بن شفيق، قال: سمعت أبي قال: كان ابن الْمُبَارَكِ إِذَا كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ إِخْوَانُهُ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، فَيَقُولُونَ: نَصْحَبُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: هَاتُوا نَفَقَاتِكُمْ. فَيَأْخُذُ نَفَقَاتِهِمْ، فَيَجْعَلُهَا فِي صُنْدُوقٍ وَيَقْفِلُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَكْتَرِي لَهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ مَرْوَ إِلَى بَغْدَادَ، فَلا يَزَالُ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَيُطْعِمُهُمْ أَطْيَبَ الطعام وأطيب الحلو، ثم يخرجهم
من بغداد بأحسن زي وأكمل مروة، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وإذا صاروا إلى المدينة، قَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: مَا أَمَرَكَ عِيَالُكَ أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ طُرَفِهَا؟ فيقول: كذا وكذا. ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى مكة، فَقَضَوْا حَجَّهُمْ، قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: مَا أَمَرَكَ عِيَالُكَ أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ؟ فَيَقُولُ: كَذَا، وَكَذَا. فَيَشْتَرِي لَهُمْ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ مَكَّةَ، فَلا يَزَالُ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ إِلَى أن يصيروا إلى مرو، فإذا وصل إلى مرو وجصص أَبْوَابَهُمْ وَدُورَهُمْ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ صَنَعَ لَهُمْ وَلِيمَةً وَكَسَاهُمْ، فَإِذَا أَكَلُوا وَشَرِبُوا دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع إلى كل واحد مِنْهُمْ صُرَّتَهُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ عَلَيْهَا اسْمَهُ. قال أبي: أخبرني خادمه أنه عمل آخِرِ سَفْرَةٍ [سَافَرَهَا] دَعْوَةً، فَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ خمسة وعشرين خواناً فالوذج. قال أبي: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ لِلفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: لَوْلاكَ وأصحابك ما اتجرت. قال أبي: وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مئة ألف درهم.
باب ما يصنع إذا أراد الخروج من منزله
باب ما يصنع إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا دِينِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ. فَصْلٌ فَإِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فليقل ما: 41- أخبرنا به ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا حَمَّادٌ (يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ) ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ، عَنِ ابن عمر [رضي الله عنه] ، أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ (يَعْنِي: للسفر) ، كبر ثلاثاً، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا له مقرنين وإنا إلى ربنا
فصل
لمنقلبون} ، ثُمَّ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا السفر، واطو لنا البعيد، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهل [والمال والولد] ، اللهم اصحبنا في سفرنا [هذا] وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا)) . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. فَصْلٌ فإذا ودعه أحد، فليقل له: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ.
باب انزعاج مودعي الحاج شوقا إلى الحج
بَابُ انْزِعَاجِ مُوَدِّعِي الْحَاجِّ شَوْقًا إِلَى الْحَجِّ 42- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا الحميدي، قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: أخبرنا السلمي، قال: قال بعضهم: خرجت أم أيمن بنت علي امرأة أبي علي الروذباري من مصر وَقْتَ خُرُوجِ الْحَاجِّ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَالْجِمَالُ تَمُرُّ بِهَا وَهِيَ تَبْكِي وَتَقُولُ: وَاضَعْفَاهُ، وَتُنْشِدُ عَلَى أَثَرِ قَوْلِهَا: فَقَلْتُ دَعُونِي وَاتِّبَاعِي رِكَابَكُمْ ... أَكُنْ طَوْعَ أَيْدِيكُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْعَبْدُ وَمَا بَالُ زعمي لا يَهُونُ عَلَيْهِمُ ... وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَيْسَ لِي مِنْهُمُ بُدُّ وَتَقُولُ: هَذِهِ حَسْرَةُ مَنِ انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف يكون حَسْرَةُ مَنِ انْقَطَعَ عَنْ رَبِّ الْبَيْتِ. وَقَالَ الرضي في هذا المعنى: أيها الرائح المغد تحمل ... حاجة للمعذب المشتاق أقر مني السلام أهل المصطفى ... فبلاغ السلام بعض التلاق وإذا مررت بالخيف فاشهد ... أنى قَلْبِي إِلَيْهِ بِالْأَشْوَاقِ وَإِذَا مَا سُئِلْتَ عَنِّي فقل نضو ... هوى ما أظنه اليوم باقي ضَاعَ قَلْبِي فَانْشُدْهُ لِي بَيْنَ جَمْعٍ ... وَمِنًى عِنْدَ بَعْضِ تِلْكَ الْحِدَاقِ وَابْكِ عَنِّي فَإِنَّنِي كُنْتُ مِنْ قَبْلُ ... أُعِيرُ الدُّمُوعَ لِلْعُشَّاقِ
وله [أيضاً] : أَلا هَلْ إِلَى ظِلِّ الْأَثِيلِ تَخَلُّصٌ ... وَهَلْ لِثَنِيَّاتِ الْغُوَيْرِ طُلُوعُ وَهَلْ لِلَيَالِينَا الطِّوَالِ تَصَرُّمٌ ... وَهَلْ لِلَيَالِينَا الْقِصَارِ رُجُوعُ وَلَهُ: حَيِّ بَيْنَ النقي وبين المصلى ... وقفات الركائب الأنضاء ورواح الحجيج ليلة جمع ... ويجمع مجامع الأهواء وتذكر عن مناخ مطي ... بأعالي منىً ومرسى خبائي وله من أَبْيَاتٍ: تَعَجَّبَ صَحْبِي مِنْ بُكَائِي وَأَنْكَرُوا ... جَوَابِي ما لم تسمع الأذنان فقلت نعم لم تَسْمَعُ الْأُذُنُ ... دَعْوَةً بَلَى إِنَّ قَلْبِي سَامِعٌ وَجِنَانِي وَيَا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْيَمَانُونَ خَبِّرُوا ... طَلِيقًا بِأَعْلَى الْخَيْفِ أَنَّى عَانِي وَيَا صَاحِبَي رَحْلِي أَقِلا فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ بِقَلْبِي غَيْرَ مَا تَرَيَانِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَيَّامِ جَمْعٍ إِلَى مِنًى ... إلى موقف التجمير غير أماني تعلل دَائِي بِالْعِرَاقِ طَمَاعَةٌ ... وَكَيْفَ شِفَائِي وَالطَّبِيبُ يَمَانِي وَلَهُ فِي أَبْيَاتٍ قَالَهَا وَالنَّاسُ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ: أَقُولُ لِرَكْبٍ رَائِحِينَ لَعَلَّكُمْ ... تَحِلُّونَ مِنْ بَعْدِي الْعَقِيقَ الْيَمَانِيَا
خُذُوا نَظْرَةً مِنِّي فَلاقُوا بِهَا الْحِمَى ... وَنَجْدًا وَكُثْبَانَ اللِّوَى وَالْمَطَالِيَا وَمُرُّوا عَلَى أَبْيَاتِ حَيٍّ بِرَامَةَ ... فَقُولُوا لَدِيغٌ يَبْتغِي الْيَوْمَ رَاقِيَا عَدِمْتُ دَوَائِي بِالْعِرَاقِ فَرُبَّمَا ... وَجَدْتُمْ بِنَجْدَ لِيَ طَبِيبًا مداويا وقولوا لجيراني عَلَى الْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... تُرَاكُمْ مَنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِجِوَارِيَا وَمَنْ وَرَدَ الْمَاءَ الَّذِي كُنْتُ وَارِدًا به، ... ورعى للشعب الذي كنت راعيا فوا لهفي كم إلى الْخَيْفِ شَهْقَةً ... تَذُوبُ عَلَيْهَا قِطْعَةٌ مِنْ فُؤَادِيَا ترحلت عنكم إلى أمامي نظرة ... وعشر وَعَشْرٌ بَعْدَكُمْ مِنْ وَرَائِيَا ولَهُ فِي أَبْيَاتٍ: من معيد لي أيامي بِجِزْعِ السَّمُرَاتِ ... وَلَيَالِي بِجَمْعٍ وَمِنًى وَالْجَمَرَاتِ ... يَا وقوفاً ما وقفنا في ظلال السلمات ... نتشاكى مَا عَنَانَا بِكَلامِ الْعَبَرَاتِ ... آهٍ مِنْ جِيدٍ إِلَى الدَّارِ طَوِيلُ اللَّفَتَاتِ ... وغَرَامٌ غَيْرُ مَاضٍ بِلِقَاءٍ غَيْرِ آتِ ... فَسَقَى بَطْنَ مِنًى وَالْخَيْفَ صوب العاديات ... غرست عندي غرس الشوق بمرو الجنات أين راق لغرامي وطبيب لشكاتي ...
وله: خُذِي نَفْسِي يَا رِيحُ مِنْ جَانِبِ الْحِمَى ... فلاقى بها ليلاً نسيم ربا نجد فإن بذاك الجو حَيًّا عَهَدْتُهُ ... وَبِالرُّغْمِ مِنِّي أَنْ يَطُولَ بِهِ عهدي ولولا تداوي القلب من ألم الهوى ... بِذِكْرِ تَلاقِينَا قَضَيْتُ مِنَ الْوَجْدِ وَيَا صَاحِبَيَّ اليوم عوجاً لنسألا ... ركيباً من الغورين أنضاهم تحدي عز الْحَي بِالْجَرْعَاءِ جَرْعَاءِ مَالِكٍ ... هَلِ ارْتَبَعُوا وَاخْضَرَّ واديهم بعدي شممت بنجدٍ شَيْحَةً حَاجِرِيَّةً ... فَأَمْطَرْتُهَا دَمْعِي وَأَفْرَشْتُهَا خَدِّي ذكرت بِهَا رَيَّا الْحَبِيبِ عَلَى النَّوَى ... وَهَيْهَاتَ ذَا يَا بُعْدُ بَيْنَهُمَا عِنْدِي وَإِنِّي لَمَجْلُوبٌ إِلَى الشَّوْقِ كُلَّمَا ... تَنَفَّسَ شَاكٍ أَوْ تَأَلَّمَ ذُو وجد تعرض رسل الشوق والركب هاجر ... فيوقظني مِنْ بَيْنِ نُوَّامِهِمْ وَحْدِي وَمَا شَرِبَ الْعُشَّاقُ إِلا بَقِيَّتِي ... وَمَا وَرَدُوا فِي الْحُبِّ إِلا على وردي ولمهيار في هذا المعنى: ألا فتى يسأل قلبي ما له ... ينزوا إذا برق الحمى بداله فهب يرجوا خَبَرًا مِنَ الْغَضَا ... يُسْنِدُهُ عَنْهُ فَمَا رَوَى لَهُ أَرَادَ نَجْدًا مَعَهُ بِبَابِلَ ... إِرَادَةً هَاجَتْ له بلباله ولنسيم الريح الصبا ومن له ... بنسمة مِنَ الصَّبَا طُوبَى لَهُ وَيَوْمُ ذِي الْبَانِ وما أشارت ... مِنْ ذِي الْبَانِ إِلا أَنْ أَقُولَ يَا له
وله: وَمَا أَتْبَعْتُ ظَعْنَ الْحَيِّ طَرْفِي ... لِأَغْنَمَ نَظَرَةً فتكون زادي ولكني بعثت بلحظ عين ... وراء الركب يسأل عن فؤادي وله: سَلْ أَبْرَقَ الْحَنَّانَ وَاحْبِسْ بِهِ ... أَيْنَ لَيَالِينَا عَلَى الْأَبْرَقِ وَكَيْفَ بِأَنَّاتٍ بِسَقْطِ اللِّوَى ... مَا لَمْ يَجِدْهَا الدَّهرُ لَمْ تُوَرَّقِ هَلْ حَمَلَتْ لا حَمَلَتْ بَعْدَنَا ... عَنْكَ الصَّبَا عَرْفًا لِمُسْتَنْشِقِ أعناك صواب الدمع عز مِنَّةٍ ... أَحْمِلُهَا لِلْمُرْعِدِ الْمُبْرِقِ دَمْعٌ عَلَى الْخَيْفِ مني جنا مَا جَنَى ... بُكَاءُ حَسَّانٍ عَلَى جِلَّقِ للَّهِ رهن لَكَ يَوْمَ النَّقَا ... لَوْلا وَفَاءُ الْحُبِّ لَمْ يُغْلَقِ يَا سَائِقَ الْأَظْعَانِ رِفْقًا وَإِنْ ... لَمْ يُغْنِ قَوْلِي لِلَعُسُوفِ ارْفُقِ لَوْلا زَفِيرِي خَلْفَ أجمالهم ... وحر أنفاس لم تسبق لا تبردوا بالعذل قلبي ... فما استنجدوا الدَّمْعُ عَلَى مَحْرَقِ سَمَّيْتَ لِي نَجْدًا عَلَى بعدها ... يا وله المشيم بِالْمَعْرَقِ داوٍ بِهَا حُبِّي فَمَا مُهْجَتِي ... أَوَّلَ مخبولٍ بنجدٍ رقي وله:
يا لهوىً لما أطقت حمله ... يوم النخيل سامني لَمْ أُطِقْ فَارَقْتُ حَوْلا أَهْلَ نجدٍ وَالْهَوَى ... ذَاكَ الْهَوَى وَحُرَقِي تِلْكَ الْحُرَقْ فَقُلْ لِمَنْ ظن البعاد سلوة ... لا تنتحل من طَعْمَ شَيْءٍ لَمْ تَذُقِ آهٍ لِقَلْبٍ شُقَّ عنه أضلعي ... من الحمى تخالج البرق الشقق ثَارَ بِهِ الشَوْقُ فَهَبَّ فَهَفَا ... تَطَلُّعًا ثُمَّ ترا ثُمَّ مَرَقْ وَلِأَبِي غَالِبِ بْنِ بِشْرَانَ: وَلَمَّا أثاروا العيس للبين ... بَيَّنَتْ غَرَامِي لِمَنْ حَوْلِي دُمُوعٌ وَأَنْفَاسُ فَقُلْتُ لهم لا بأس بي تعجبوا ... وقالوا الذي أفديته كُلَّهُ بَاسُ تَعَوَّضْ بِأُنْسٍ الصَّبْرِ عَنْ وَحْشَةِ الْأَسَى ... فَقَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ مِنْ قَبْلِكَ النَّاسُ وَلِبَعْضِ الْمُحْدَثِينَ: يَا سَائِقَ الْعِيسِ تَرَفَّقْ وَاسْتَمِعْ ... مني وبلغ إن وصلت عني وقف بأكتاف الْحِجَازِ نَاشِدًا ... قَلْبِي فَقَدْ ضَاعَ الْغَدَاةَ مِنِّي وقل إذا وصلت نحو أَرْضِهِمْ ... ذَاكَ الْأَسِيرُ مُوثَقٌ بِالْحُزْنِ عَرِّضْ بِذِكْرِي عِنْدَهُمْ عَسَاهُمْ ... إِنْ سَمِعُوكَ سَائَلُوكَ عَنِّي قَلْ ذَلِكَ الْمَحبُوُسُ عَنْ قَصْدِكُمْ ... مُعَذَّبُ الْقَلْبِ بكِلِّ فن يَقُولُ أَمَّلْتُ بِأَنْ أَزُورَكُمْ ... فِي جُمْلَةِ الْوَفْدِ فَخَابَ ظَنِّي أَقْعَدَنِي الْخُذْلانُ عَنْ قَصْدِكُمْ ... وَرُمْتُ أَنْ أسْعَى فلَمْ يَدَعْنِي وَقَالَ آخَرُ:
شيعتهم فاسترابوني فَقُلْتُ لَهُمْ ... إِنِّي بُعِثْتُ مَعَ الْأَجْمَالِ أَحْدُوهَا قالوا فما نفس يعلو كذا صعدا ... وما لعينك لا ترقى مآقيها قلت التنفس من إدمان سيركم ... والعين تقذف دَمْعًا مِنْ قَذًى فِيهَا وَوَصَلَنِي كِتَابٌ مِنْ بعض إخواني من الحاج يتضمن الاستيجاش لِي فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَهَيَّجَ شَوْقِي إِلَى تلك الأماكن، فكتبت إليه أبياتاً منها: أتراكم في النقا فالمنحنا يوم ... سلع تذكرونا ذكرنا انقطعنا ووصلتم فَاعْلَمُوا ... وَاشْكُرُوا الْمُنْعِمَ يَا أَهْلَ مِنَى قَدْ رَبِحْتُمْ وَخَسِرْنَا فَصِلُوا ... بِفُضُولِ الرِّبْحِ مَنْ قَدْ غبنا يا سقى الله الحمى أَنْتُمْ بِهِ ... وَرَعَى تِلْكَ الرُّبَا وَالدِّمَنَا سَارَ قَلْبِي خَلْفَ أَجْمَالِكُمْ ... غَيْرَ أَنَّ الْوَهَنَ عَاقَ البدنا ما قطعتم وادياً إلا وقد ... جِئْتُهُ أَسْعَى بِأَقْدَامِ الْمُنَى إِنْ سَقَتْكُمْ دِيمَةٌ هَاطِلَةٌ ... فَدُمُوعِي قَدْ جَرَتْ لِي أَعْيُنَا وَأُنَادِي كلما لبيتم في ... فؤادي أسفى واحزنا بدني نضو شوق لأبدنكم ... والذي أقلقني أني هنا آه واشوقاً إلى ذاك الحمى ... شَوْقُ مَحْرُومٍ وَقَدْ ذَاقَ الْجَنَا
سلموا عني على أربابه ... وأخبروهم أنني خلف الضَّنَا أَنَا مُذْ غِبْتُمْ عَلَى تِذَكَارِكُمْ ... أَتُرَاكُمْ عِنْدَكُمْ مَا عِنْدَنَا عَرْفُكُمْ تَعْرِفُهُ رِيحُ الصَّبَا ... كلما هبت به مر بِنَا دَرَّ دَرُّ الْوَصْلِ مَا أَعْذَبَهُ ... لَيْتَهُ يَرْضَى بِرُوحِي ثَمَنَا زَمَنًا مُذْ زَالَ أُولَى زَمَنَا ... فَأَعَادَ اللَّهُ ذَاكَ الزَّمَنَا
باب آداب السير في السفر
بَابٌ آدَابُ السَّيْرِ فِي السَّفَرِ 43- أَخْبَرَنَا هِبَةُ الله بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ عن سير رسول الله فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: ((كَانَ سَيْرُهُ الْعَنَقَ، فإذا وجد فجوةً، نص)) . [قال هشام] : وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . فَصْلٌ ويكره له أَنْ يَسِيرَ وَحْدَهُ.
فصل
44- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قال: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ [مَا أعلم] ، مَا سَارَ أحدٌ وَحْدَهُ بِلَيْلٍ أَبَدًا)) . فَصْلٌ وَيُكْرَهُ الْجَرَسُ. 45- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((الْجَرَسُ مزامير الشيطان)) . وفي لفظ آخر: ((لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفَقَةً فِيهَا كَلْبٌ أَوْ جرس)) .
فصل
فصل وإذا علا شرفاً كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حال)) .
باب ذكر حنين الإبل في السير، وخطاب الواجدين لها ولحاديها والأخبار عنها، والقسم بها
بَابُ ذِكْرِ حَنِينِ الْإِبِلِ فِي السَّيْرِ، وَخِطَابِ الْوَاجِدِينَ لَهَا وَلِحَادِيهَا وَالْإِخْبَارِ عَنْهَا، وَالْقَسَمِ بِهَا ركب عمر بن الخطاب نَاقَةً فَأَسْرَعَتْ بِهِ، فَأَنْشَدَ: كَأَنَّ رَاكِبَهَا غُصْنٌ بِمَرُوحةٍ ... إِذَا تَدَلَّتْ بِهِ أَوْ شَارِبٌ ثَمِلُ وقال الحارث بن خالد المخزومي: إني وما تحروا غداة منى ... يوم الجمار تؤودها العقل لو بدلت أعلا مساكنها ... سفلاً فأصبح سفلها يعلو فيكاد يعرفه الحنين بها ... فيرده الإقواء وَالْمَحَلُّ لَعَرَفْتَ مَعْنَاهَا لِمَا احْتَمَلَتْ ... مِنِّي الضُّلُوعُ لِأَهْلِهَا قَبْلُ وَقَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ: أَمَا وَالرَّاقِصَاتُ بِذَاتِ عِرْقٍ ... وَمَنْ صَلَّى بِنَعْمَانِ الْأَرَاكِ لَقَدْ أَضْمَرْتُ حُبَّكِ فِي فُؤَادِي ... وَمَا أَضْمَرْتُ حُبًّا مِنْ سِوَاكِ وَلِلصِّمَّةِ الْقُشَيْرِيِّ: وَحَنَّتْ قَلُوصِي آخِرَ الْلَيْلِ حَنَّةً ... فَيَا رَوْعَةَ مَا رَاعَ قَلْبِي حَنِينُهَا فَقُلْتُ لَهَا حِنِّي فَكُلُّ قَرِينَةٍ ... مُفَارِقُهَا لا بُدَّ يَوْمًا قَرِينُهَا
وقلت لها حني رويداً فإنني ... وإياك نخفى عولة سنبينها ولإبراهيم بن صول الْكَاتِبِ: بَاتَتْ تُشَوِّقُنِي بِرَجْعِ حَنِينِهَا ... وَأَزِيدُهَا شَوْقًا برجع حنيني نضوين مغتربين بين مهامة ... طويا الضلوع على هوى مكنون لو سوئلت عنا القلوص لأخبرت ... عن مستقر صبابة المحزون وَقَالَ الرَّضِيُّ: يَا نَاقُ أَدَّاكَ الْمُؤَدِّي يَا ناق ... ما الْمُقَامُ وَالْفُؤَادُ قَدْ تَاقْ ... هَلْ حَاجَةُ الْمَأْسُورِ إلا الإطلاق ... وَلَهُ: أَقُولُ وَقَدْ حَنَّتْ بِذِي الْأَثْلِ نَاقَتِي ... قَرِّي لا يَنَلْ مِنْكِ الْحَنِينُ الْمُرَجِّعُ تَحِنِّينَ إِلا أَنَّ بِي لا بِكِ الْهَوَى ... وَلِي لا لَكِ الْيَومَ الْخَلِيطُ الْمُودِّعُ وَبَاتَتْ تَشْكِي تَحْتَ رِجْلِي ضَمَانَةً ... كِلانَا إِذًا يَا نَاقُ نِضْوٌ مُفَجَّعُ أَحَسَّتْ بنارٍ فِي ضُلُوعِي فَأَصْبَحَتْ ... يخب بها حر الغرام ويوضع وللمتنبي: أركائب الأحباب إن الأدمعا ... تطس الخدود كما تطس الأدمعا
فاعرفن من حملت عليكن النَّوَى ... وَامْشِينَ هَوْنًا فِي الْأَزِمَّةِ خُضَّعَا وَلِمِهْيَارٍ: إِلَى كَمْ حَبْسُهَا تَشْكُو الْمَضِيقَا ... أَثَرَهَا رُبَّمَا وجدت طريقا أحلها نطلب القصوى ودعها ... سدى يرى الْغُرُوبُ بِهَا الشُّرُوقَا وَلَهُ: يَا سَائِقَ الْبَكَرَاتِ استبق فضلتها ... على الرويد فظهر العقر معقور حبس وَلَوْ سَاعَةً يَرْوِي بِهَا مُقَلٌ ... هَيْمٌ وَأَنْتَ عَلَيْهَا الدَّهْرَ مَشْكُورُ فَالْعِيسُ طَائْعَةٌ وَالْأَرْضُ وَاسِعَةٌ ... وإنما هو تقديم وتأخير تغلسوا من زود وَجْهَ يَوْمِهِمْ ... وَحَطَّهُمْ لِظِلالِ الْبَانِ تَهْجِيرُ وَلَهُ: صدق بِنَعْمَانَ عَلَى طُولِ الصَّدَى ... دَعْهَا فَلَيْسَ كُلُّ مَاءٍ مَوْرِدَا لِحَاجَةٍ أَمَسَّ مِنْ حَاجَاتِهَا ... تَخَطَّأَتْ أَرْزَاقَهَا تَعَمُّدَا تَرَى وَفِي شُرُوعِهَا ضَرَاعَةً ... حَرَارَةً على الكبود أبردا عادة عز جذبت نحطمها ... وكل ذي أنفٍ وَمَا تَعَوَّدَا لا حَمَلَتْ ظُهُورُهَا إِنْ حَمَلَتْ ... رجلاً على الضيم تقرا ويدا وله:
يا سائق الأظعان أورد بعض ما تعسف ... فإن بين سيوفها أَفْئِدَةً تُخْتَطَفُ يَا زَمَنِي عَلَى الْغَضَا مَا أتت إلا الأسف ... لهفي عليك ماضياً لو ردك التلهف وَلَهُ: لَيْلُ السُّرَى مِثْلُ نَهَارِ الْمُقَامِ ... مَا خِفْتُ أَنْ تُظْلَمَ أَوْ أَنْ تُضَامِ رَامِ بها الليل فما يسفر النجاح ... إِلا عَنْ نِقَابِ الظَّلامِ مَوَارِقًا عَنْ عُقُلٍ أَشْطَانُهَا ... مُرُوقٌ فُوِقَ السَّهْمِ عَنْ قَوْسِ رَامٍ وَلَهُ: إِذَا فَاتَهَا رَوْضُ الْحِمَى وَجَنُوبُهُ ... كَفَاهَا النسيم البابلي وطيبه فدعها تلبس الْعَيْشَ طَوْعَ قُلُوبِهَا ... فَأَمْرَعُ مَا تَرْعَاهُ مَا تستطيبه وإن الثمار البرض في عز قومها ... لا يقع مِنْ جَمٍّ يُذِلُّ غَرِيبُهُ يَلُومُ عَلَى نَجْدٍ ضنين بدمعه ... إذا فارق الأحباب جفت غُرُوبُهُ وَمَا النَّاسُ إِلا مَنْ فُؤَادِي فُؤَادُهُ ... لأهل الغضا أو من حنيني حَبِيبُهُ وَلَهُ: لِمَنِ الْحُمُولُ سَلَكْنَ فَلَجَا ... يُطْلُعْنَهُ فجا ففجا
يخلطن بالأيدي الطريق ... فما يكدن نجدن نَهْجَا سُودٌ بِمَا صَبَغَ الْهَجِيرُ ... جُلُودَهُنَّ الْحُمُرَ وهجا من حامله الهلال ... بنا عَلَيْهَا الْبَيْنُ بُرْجَا وَلَهُ: أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِنَعْمَانَ ناصحا ... وقلت احبسوها تلحق الحي رائحا فما ربتموني تخبرون اجتهادها ... فأبتم بلا حاج وابن طلائحا وقد صدقتني في الصبا عن مكانهم ... أجابير أرواح سبتي نوافحا لقا على نعمان كان غنيمة ... وهيهات يدنو بعدما فات نازحا دعوني ونعمان الأراك أروده ... تجاوب صوتي طيره المتناوحا عسى سانح من دارميه يا من ... يقنص لي عن شائم طار بارحا وله [في معنى الحنين رحمه الله] : هل لسائق الْغَضْبَانُ يَمْلِكُ أَمْرَهُ ... فَمَا كَلِّ سَيْرِ الْيَعْمَلاتِ وخيد
رُوَيْدًا بِأَخْفَافِ الْمَطِيِّ ... فَإِنَّمَا تُدَاسُ جِبَاهٌ تَحْتَهَا وخدود وله [في المعنى أيضاً] : يقودها الحادي إلى حاجته ... وهمها أخرى إليها لم تقد وإنما تتمها بحاجر ... أيامها بحاجر لم تُسْتَرَدْ لَوْ كَانَ لِي عَلَى الزَّمَانِ إِمْرَةٌ ... مُطَاعَةٌ قُلْتُ أَعِدْهَا لِي أَعِدْ وَكَمْ عَلَى وادي الْغَضَا مِنْ كَبِدٍ ... يَحْكُمُ فِيهَا بِسِوَى الْعَدْلِ الكمد وله: متى رفعت لها بِالْغَوْرِ نارٌ ... وَقَرَّ بِذِي الْأَرَاكِ لَهَا قَرَارُ فَكُلُّ دَمٍ أَرَاقَ السَّيْرُ مِنْهَا ... بِحُكْمِ الشَّوْقِ مَطْلُولٌ جَبَارُ وَلَهُ: تَمُدُّ بِالْآذَانِ وَالْمَنَاخِرِ ... لِحَاجِرٍ كيف بحاجر تغرها عَنْهُ أَحَادِيثُ الصِّبَا ... وَلامِعَاتٌ فِي السَّحَابِ الْبَاكِرِ أرض بها السائغ من ربيعها ... أو شوقها الْمَكْنُونُ فِي الضَّمَائِرِ
وَحَيْثُ دَبَّتْ وَرَبَتْ فِصَالُهَا ... وَبَرَكَتْ تَفْحَصُ بِالْكَرَاكِرِ فَهَلْ لَهَا وَهَلْ لِمَنْ تَحْمِلُهُ ... مِنْ عَائِفٍ بحاجر أَوْ زَاجِرِ فَإِنَّهَا مِنْ حُبِّهَا نَجْدًا تَرَى ... بكثب الغور شفار الجازر يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى تَعِلَّةٌ ... هَلْ بِمِنًى لِعَهْدِنَا مِنْ ذَاكِرِ وَفِي الضُّيُوفِ الْغُرَبَاءِ عِنْدَكُمْ ... قلبٌ يضام ماله من ناصر إما قرى البادي الكريم أو ... فردوه على أربابه بالحاضر وَلَهُ: هَوِّنْ فِي الْلَيْلِ عَلَيْهَا الْغَرَرَا ... أَنَّ العلي مقيدات بالسرى فركبت سبوقها رؤوسها ... حتى تخيلنا الحجول العررا عَلَّمَهَا النَّوْمُ عَلَى رِبَاطِهَا ... ذَلِيلَةً أَنْ تَسْتَطِيبَ السَّهَرَا وَلَهُ: لِمَنِ الظَّعْنُ تَهْتَدِي وَتَجُورُ ... سَائِقٌ منجد وشوق يغور تتبع الْخَطْوَ قَاهِرًا بَيْنَ أَيْدِيهَا ... وَمِنْ خَلْفِهَا هَوًى مقهور
فهي في طاعة التلفت حياء ... وفي طاعة الجبال سطور ووراء الحدوج في البيداء رواح ... الْمُقِيمِينَ فِي الدِّيَارِ تَسِيرُ يَا عَقِيدِي عَلَى الغرام بليل ... ثم وفيا وغيرك المأمور وأعرني إن كان ممن يعار القلب ... إن كُنْتَ أَنْتَ مِمَّنْ يُعِيرُ وَخُذِ الْآنَ كَيْفَ شِئْتَ بِحَبْلِي ... قَدْ كَفَاكَ الْجَذَابَ أَنِّي أَسِيرُ وَلَهُ: نَفَّرَهَا عَنْ وَرْدِهَا بِحَاجِرِ ... شَوْقٌ يَعُوقُ الْمَاءَ فِي الْحَنَاجِرِ وَرَدَّهَا عَلَى الطَّوَى سَوَاغِبًا ... ذُلُّ الْغَرِيبِ وَحَنِينُ الذَّاكِرِ مَغْرُورَةُ الْأَعْيُنِ مِنْ أحبابها ... بِحَالِبِ الْإِيمَاضِ غَيْرِ مَاطِرِ وَلَهُ: أَوْلَى لَهَا أَنْ يَرْعَوِي نِفَارُهَا ... وَأَنْ يَقَرَّ بِالْحِمَى قَرَارُهَا ترعى وتروى ما صفا وَمَا ... صَفَا وَلِلرُّعَاةِ بَعْدَهَا أُسَارُهَا
حتى تروح ضخمة جنوبها ... يحصبها شَاكِرَةٌ أَوْبَارُهَا وَكَيْفَ لا وَمَاءُ سَلْعٍ مَاؤُهَا ... مفلوه وَالْعَلَمَانِ دَارُهَا وَلَهُ: دَعُوهَا تَرِدُ بَعْدَ خَمْسٍ شروعاً ... وارخوا أزمتها والنسوعا وقولا دَعَاءً لَهَا لا عُقِرَتْ ... وَلا امْتَدَّ دَهْرُكِ إلا ربيعا حملن نشاوى بكأس الغرام ... كل غدا لأخيه رضيعا أحبوا فؤادي ولكنهم ... على صيحة البين ماتوا جميعا حموا راحة النوم أجفانهم ... وكسفوا عَلَى الزَّفَرَاتِ الضُّلُوعَا أَسُكَّانَ رَامَةَ هَلْ مِنْ قِرَى ... فَقَدْ دَفَعَ الْلَيْلُ ضَيْفًا قَنُوعَا كَفَاهُ من الزادان تمدوا له ... نظراً وحديثاً وسيعا وله: حب إِلَيْهَا بِالْغَضَا مُرْتَبِعَا ... وَبِالنَّخِيلِ مَوْرِدًا وَمَشْرَعًا وَبِأَثِيلاتِ النقا ضلائلاً ... تَفْرِشُهَا كَرَاكِرًا وَأَذْرُعَا مِنِّي لَهَا لَوْ جَعَلَ الدهر لها ... أن تأمن الطارد والمذعذعا
عزت فما زال بها جور النوى ... وَالْبِيدِ حَتَّى أَذْعَنَتْ أَنْ تَخْضَعَا اللَّهُ يَا سَائِقُهَا فَإِنَّهَا ... جَرْعَةٌ حَتْفٌ أَنْ تَجُوزَ الْأَجْرُعَا أسل بها الوادي رفيقاً إنما ... تَسِيلُ مِنْهَا أَنْفُسًا وَأَدْمُعَا وَلَهُ: يَا سَائِقَ الْأَظْعَانِ إِنَّ مَعَ الصَّبَا ... خَبَرًا لَوْ أَنَّكَ للصبا تتوقف هبت بعارفه تشوق من الحمى ... أُرُجًا بِرِيَّا أَهْلِهِ يُتَعَرَّفُ فَبَرُدَتْ بَيْنَ عُنَيْزَتَيْنِ فصارت ... كَبِدًا إِلَى زَمَنِ الْحِمَى يَتَلَهْفُ وَلَهُ: رَعَتْ من نياله جعداً لفيفاً ... وسبطاً يرق عليها رفيقا وساق لها فارس الانْتِجَاعِ ... مِنْ حَيْثُ حَنَتْ نَمِيرًا وَرِيفَا وَحَنَّتْ لِأَيَّامِهَا بِالْبِطَاحِ ... فَمَدَّتْ وَرَاءَ صَلِيفٍ صَلِيفَا تُرَاوِدُ أيديها في الرويد ... وَيَأْبَى لَهَا الشَّوْقُ إِلا الْوَجِيفَا فَهَلْ فِي الْخِيَامِ عَلَى الْمَأَزُمِينَ ... قَلْبٌ يَكُونُ عَلَيْهَا عَطُوفَا
وهل بان سلع على العهد مسنه ... يحلو ثماراً ويدنوا قطوفاً وله [في الحنين] : در له خلف الغمام فسقى ... ومدمن ظِلٍّ عَلَيْهَا مَا وَقَى تَغَنَّ بِالْجَرْعَاءِ يَا سَائقَهَا ... فَإِنْ وَنَتْ شَيْئًا فَزِدْهَا الْأَبْرَقَا وَاغْنِ عن السِّيَاطِ فِي أُرْجُوزَةٍ ... بِحَاجِرٍ تَرَى السِّهَامَ الْمُرَّقَا وكلما تزجره حُدَاتُهَا ... رَعَى الْحِمَى رَبُّ الْغَمَامِ وَسَقَا حَوَامِلا مِنَّا هُمُومًا ثَقُلَتْ ... وَأَنْفُسًا لَمْ تُبْقِ إِلا رَمَقَا تَحْمِلُنَا وَإِنْ عَرِينَ قِصَبًا ... وَإِنْ دَمَيْنَ أَذْرُعَا وَأَسْوُقَا دَامَ عَلَيْهَا الْلَيْلُ حَتَّى أَصْبَحَتْ ... تَحْسَبُ فَجْرَ ذَاتِ عِرْقٍ شَفَقَا وَرَامِيَاتٍ لا يُؤَدِينَ دَمًا ... وَلا يُبَالِينَ أَسَالَ أَمْ رَقَا وقفن صفاً فرأين شرداً ... من القلوب فرمين طلقا عرج عن الْوَادِي فَقُلْ عَنْ كَبِدِي ... لِلْبَانِ مَا شِئْتَ الجوى والحرقا
وَاحْجُرْ عَلَى عَيْنَيْكَ حِفْظًا أَنْ تَرَى ... غُصْنَيْنِ منه دنوا فاعتنقا فطال ما استظللته مصطحبا ... سُلافَةَ الْعَيْشِ بِهِ مُغْتَبِقَا وَلَهُ: يَا لَزَمَانِي على اللوى عَجَبًا ... أَيُّ زَمَانٍ مَضَى وَأَيُّ حِمَى حَلَفْتُ بالراقصات تجهداً ... عناقاً خفوضاً وأطهر أَسُنُمَا تَحْسَبُ أَشْخَاصَهَا إِذَا اخْتَلَطَتْ ... بِالْأَكَمِ الْوُقْصِ فِي الدُّجَى أَكَمَا تَحْمِلُ شُعْثًا إِذَا هُمْ ذكروا ... ذخيرة الأجر غالطوا السأما عدوا نزاعاً من عامهم وتقى ... أَيَّامُ جُمَعٍ وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمَا حَتَّى أَنَاخُوا بِذِي السُّتُورِ مُلَبِينَ ... بِأَرْضٍ كَادَتْ تَكُونُ سَمَا وَلَهُ: أُجَاذِبُهَا لَوْ أَمْكَنْتُ مِنْ زِمَامِهَا ... أُرِيدُ وَرَاءً والهوى من أمامها فما الحزن إلابين حلمي وخرقها ... وبين زفيري خائفاً ونعامها يعر عليها يومها تَحْتَ كُورِهَا ... بِمَا فَاتَ مِنْ أَيَّامِهَا فِي مسامها
وإن تعلق الرَّطْبَ الْخَلِيطَ بِبَابِلٍ ... مَكَانَ أَرَاكِ حَاجِرَ وَبَشَامِهَا فليت بلاد أشرها فِي قُصُورِهَا ... فِدَاءُ بُيُوتٍ خَيْرُهَا فِي خِيَامِهَا وَلَهُ: رُدُّوا لَهَا أَيَّامَهَا بِالْغَمِيمِ ... إِنْ كَانَ من بعد شقاء نعيم ولا تدلوها فقد أمها ... أدلة الشوق وهادي الشميم وله: أمن خفوق البرق ترزمينا ... حتى فما يمنعك الحنينا أسرى يَمِينًا وَسُرَاكِ شَأَمَةً ... فَضْلَةٌ مَا تَتَلَفَّتِينَا نَعَمْ تشتاقين ونشتاق له ... ونعلن الوجد وتكتمينا وأين منك اليوم أو منا الهوى ... وأين نجد والمغورونا وله: أثرها على حب الوفاء وحسبه ... تَصْعُبُ فِي أَشْطَانِهَا وَتَلِينُ جَوَافِلُ مِنْ طَرْدِ الرماح قَرِيبَةٌ ... عَلَيْهَا فِجَاجُ الْأَرْضِ وَهِيَ شُطُونُ لَهَا وهي خرس تحت غض رحالها ... تشكي إِذَا جَدَّ السُّرَى وَأَنِينُ
وَلَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا مُثِيرَ الظُّعُنِ ... أَوَطَنٌ مِنْ رَامَةٍ بِوَطَنِ حَبِسًا وَلَوْ زَادَكَ مِنْ مضمضه ... بين العرار خَائِفًا وَالْوَسَنِ لَعَلْهَا أَنْ تَشْتَفِي بَائِحَةً ... بِالْعَبَرَاتِ عين مِنْ أَعْيُنٍ كَمْ كَبَدٍ كَرِيمَةٍ فِي بُرَّةٍ ... خزمتها ومهجة في رسن يا قاتل الله الْعُذَيْبِ مَوْقِفًا ... عَلَى ثُبُوتِ قَدَمِي أَزَلَّنِي يَا زمني الخيف بَلْ يَا جِيرَتِي ... فِيهِ وَأَيْنَ جِيرَتِي وَزَمَنِي ليت الذي كان وطار شعباً ... بِهِ الْفُرَاقُ بَيْنَنَا لَمْ يَكُنِ وَلِأَبِي مَنْصُورِ ابن الفضل: تزاوين عن أذرعات اليمينا ... نواشر لسن يطعن البرينا كلفن بنجد كان الرياض ... أَخَذْنَ لِنَجْدٍ عَلَيْهَا يَمِينَا
وَأَقْسَمْنَ يَحْمِلْنَ إِلا نَحِيلا ... إِلَيْهِ وَيُبَلِّغْنَ إِلا حزينا ولما استمعن زَفِيرَ الْمَشُوقِ ... وَنَوْحَ الْحَمَامِ تَرَكْنَ الْحَنِينَا إِذَا جئتما بانة الوادين ... فأرخوا النسوع وحلوا الوضينا فثم علائق من أجلها ... مُلاءُ الدُّجَى وَالضُّحَى قَدْ طُوِينَا وَلَهُ: لِأَيِّ مَرْمَى تَزْجُرُ الْأَيَانِقَا ... إِنْ جَاوَزْتَ نَجْدًا فَلَسْتَ عَاشِقَا وَإِنَّمَا كَانَ بُكَائِي حَادِيًا ... رَكِبَ الْغَرَامَ وزفيري شائقا ولأبي جعفر ابن البياضي: نوق تراها كالسفين ... إذا رأيت الآل بحرا كنت الوجاء بدمائها ... في مهرق البيداء سطرا فكأن أرجلهن تَطْلُبُ ... عِنْدَ أَيْدِيَهُنَّ وِتْرَا يَحْمِلْنَ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى ... شُعْثًا عَلَى الْأَكْوَارِ غُبْرَا لاحَ الْهَجِيرُ وجوههم ... فأحال منها البيض سمرا وللوزير المغربي: ليهن نويقتي شوقي ووجدي ... حزين يعذر الْإِلْفَ الْحَزِينَا إِذَا خَضَعَتْ أَذِنْتُ لَهَا مَلِيًّا ... فقلت رجعها قلبي فنونا
ولو وخدت بِصَاحِي الْقَلْبِ سَالَ ... لِجَاذِبِهَا الَأَزِمَّةُ وَالْبُرِينَا وَلابْنِ الْخَفَاجِي: فِي كُلِّ يَوْمٍ نَشْطَةٌ وَوِثَاقُ ... فَمَتَى يَكُونُ لِدَائِهَا إِفْرَاقُ فَاسْتَبْقِ فَضْلَتَهَا إِذَا دَبَّ الْوَنَا ... فِيهَا فَمَا كُلُّ السُّرَى أَعْنَاقُ وَلَهُ: ثُوَرُهَا نَاشِطَةٌ عِقَالَهَا ... قَدْ مَلَأَتْ مِنْ بَدَنِهَا جِلالَهَا فَلَمْ تَزَلْ أَشْوَاقُهُ تَسُوقُهَا ... حَتَّى رَمَتْ من الوحي رِحَالُهَا مَاذَا عَلَى النَّاقَةِ مِنْ غَرَامِهِ ... لَوْ أنه أنصف أورثا لها أراد أن يشرب مَاءَ حَاجِرٍ ... أَرِيَّهَا يُطْلَبُ أَمْ كَلالُهَا إِنَّ لَهَا عَلَى الْقُلُوبِ ذِمَّةً ... لِأَنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ بلبالها كانت لَهَا عَلَى الصَّبَا تَحِيَّةٌ ... أَعْجَلَهَا السَّائِقُ أَنْ تنالها كم تسأل البارق عن سويقه ... ولا يجيب عَامِدًا سُؤَالَهَا خَوْفًا عَلَى قُلُوبِهَا إِنْ عَلِمَتْ ... إن الغوادي درست أطلالها
وامتدت الفلاة دون خطوها ... كَأَنَّهَا قَدْ كَرِهَتْ زَوَالَهَا فَعَلَّلُوهَا بِحَدِيثِ حاجرٍ ... ولتصنع الفلاة مَا بَدَا لَهَا وَلَهُ: أَمُبِيحَهَا فَضْلَ الْأَزِمَّةِ شُمَّرِ ... فَمَعَ النَّسِيمِ تَحِيَةً مِنْ عَرْعَرِ يَا بَانَتِي إِضْمٍ وَمِنْ دَيْنِ الْهَوَى ... بَثَّ السُّؤَالَ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُخْبَرِ أَعَلِمْتُمَا قَلْبِي أَقَامَ مَكَانَهُ ... أَمْ سَارَ فِي طَلَبِ الصَّبَاحِ الْمُسْفِرِ وَلَهُ: دَعُوهَا تُنَاضِلُ بِالْأَذْرُعِ ... فَأَيْنَ الْعَوَاصِمُ مِنْ لَعْلَعِ وَقُودُوا أَزِمَّتَهَا بِالْحَنِينِ ... فَلَوْلا الصَّبَابَةُ لَمْ تَتْبَعِ وَلِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِعِ: دَعِ الْمَطَايَا تَنَسَّمُ الْجَنُوبَا ... إِنَّ لَهَا لَنَبَأً عَجِيبَا حَنِينُهَا وَمَا اشْتَكَتْ لُغُوبَا ... يَشْهَدُ أَنْ قَدْ فَارَقَتْ حَبِيبَا شَامَتْ بِنَجْدٍ بَارِقًا كَذُوبًا ... أَذْكَرَهَا عَهْدَ هَوًى قَرِيبَا فَغَادَرَ الشَّوْقُ لَهَا حَنِينَا ... يضرم في أكبادها لهيبا ترزم أما استشرفت كثيباً ... كأن بالرمل لها سقوبا ما حملت إلا فتى كئيباً ... يسر مما أعلنت نصيبا
يُمْسِي إِذَا حَنَّتْ لَهَا مُجِيبَا ... لَوْ غَادَرَ الشوق لنا قلوبا إذاً لآثرنا بهن الدنيا ... إِنَّ الْغَرِيبَ يُسْعِدُ الْغَرِيبَا وَلَهُ: مَا عَلَى حَادِي الْمَطَايَا لَوْ تَرَفَّقَ ... رَيْثَمَا أَسْكُبُ دَمْعِي ثم أعنق هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي يَعْرِفُهَا ... بِالْهَوَى مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ أَشْوَقَ وَلِعَلِيِ بْنِ أَفْلَحٍ: دَعْهَا لَكَ الْخَيْرُ وَمَا بَدَا لَهَا ... مِنَ الْحَنِينِ نَاشِطًا عِقَالَهَا وَلا تُعِقْهَا عَنْ عَقِيقِ رَامَةَ ... فإنها ذاكرة أفالها ولا تعللها بجو بَابِلَ ... فَهُوَ أَهَاجَ بِالْجَوَى بِلْبَالَهَا نَشَدْتُكَ اللَّهَ إذا جئت الربا ... فرد أصاها واستظل ضالها وناوح البرق بشجو تأكل ... أطفى لَهَا رَيْبُ الرَّدَى أَطْفَالَهَا وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: وحرمة شعث على كل نضو ... يراهن من ألم ما براني إذا ذكرتها الحداة الهوى ... قطعن البرى قطع وجدي عناني
تطايرن والشوق يدني مِنِّي ... وَكُلُّ الْمُنَى عِنْدَ ذَاكَ الْمَكَانِ فَلَمَّا علون فويق الكثيب ... ترائين ذَاكَ الْبَرِيقَ الْيَمَانِي وَلِي فِي أُخْرَى: لا وشعث فارقوا أوطانهم ... يستلينون السبيل الأوعرا كلما عنا بهم حاديهم ... أخذت عيسهم تفري البرى أَعْصَفَتْ فِي سَيْرِهَا إِذْ طَرِبَتْ ... أَمِنًى ذِكْرُهَا والأجفرا وافقت من حملت في شوقهم ... فتناسب بِالْهَوَى طُولَ السُّرَى
باب حج الماشي
بَابُ حَجِّ الْمَاشِي 46- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي منصور، قال: أنبأ الحسن بن أحمد، قال: ثنا علي بن محمد المعدل، قال: ثنا أحمد بن بنجاب، قال: ثنا محمد بن يونس، قال: ثنا حجاج بن نصير، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَجَّ من أمتي إلى عرفة ماشياً، كتبت له مئة ألف حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ)) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: ((الْحَسَنَةُ بِأَلْفِ حسنة)) .
47- أخبرنا ابن أبي منصور، قال: ثنا عبد القادر بن يوسف، قال: أنبأنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا أبو عبد الله بن بطة، قال: ثنا إسماعيل بن العباس الوراق، قال: ثنا أبو بدر، قال: ثنا حجاج بن نصير، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عباس، قَالَ: مَا أَجِدُنِي آسَى عَلَى شيءٍ لَمْ أَعْمَلْهُ، إِلا أَنَّنِي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا. فَقِيلَ له: من أين؟ قال: من مكة حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لِلرَّاكِبِ سَبْعُونَ حسنة، وللماشي سبع مئة حَسَنَةٍ)) . 48- أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الملك وعبد الرحمن بن محمد، قالا: أخبرنا عبد الصمد بن المأمون، قال: ثنا الدارقطني، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا علي بن سعيد بن مسروق، قال: ثنا عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ زَاذَانَ، قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عَبَّاسٍ مرضاً شديداً، فدعى وَلَدَهُ فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: ((من حج من مكة مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ اللَّهُ له بكل خطوة سبع مئة حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ)) .
قِيلَ لَهُ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: ((بِكُلِّ حسنة مئة أَلْفِ حَسَنَةٍ)) . 49- قَرَأْتُ عَلَى الْحَرِيرِيِّ عَنِ الْعُشَارِيِّ، قال: ثنا أحمد بن إبراهيم بن الحصين، قال: ثنا عمرو بن جعفر بن مسلم، قال: ثنا محمد بن يونس، قال: ثنا موسى بن هارون، قال: ثنا يحيى بن محمد المديني، قال: ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتُصَافِحُ رُكْبَانَ الْحَاجِّ وَتَعْتَنِقُ الَمُشَاةَ)) . 50- وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ سَاجٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَجَّ عَلَى رِجْلَيْهِ سَبْعِينَ حَجَّةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَجَّ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ ماشيين. 51- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قال: أخبرنا أبو محمد
الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا ابن معروف، قال: ثنا ابن الفهم، قال: ثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ خَلادِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسَ عَشْرَةَ حَجَّةً مَاشِيًا، وَإِنَّ النجائب لتنقاد معه، وخرج من ماله لله مرتين، وقاسم الله ما له ثلاث مرات، حتى إنه كان يعطي نَعْلا وَيُمْسِكُ نَعْلا. 52- أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: أخبرنا ابن جهضم، قال: حدثني عبد العزيز بن الحسين، قال: حدثني ابن كيلويه، قال: حدثني سمنون، قال: حدثني علي بن شعيب السَّقَّا (وَكَانَ قَدْ حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْ نَيْسَابُورَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ حَجَّةً) . 53- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أبي منصور، عن الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: ثنا عبد الله بن محمد، قال: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَافَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ إِلَى مَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَفَرًا حَافِيًا مُحْرِمًا صَائِمًا.
54- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: ثنا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ يَقُولُ: حَجَجْتُ ثَمَانِينَ حَجَّةً عَلَى قَدَمِي. 55- قَرَأْتُ عَلَى أبي القاسم الحريري، عن أبي طالب العشاري، قال: ثنا مبادر بن عبد اللَّهِ الصُّوفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَزْهَرِ عَبْدَ الْوَاحَدِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيَّ، قَالَ: لَقِيتُ إِبَرَاهِيمَ الجيلي بِمَكَّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ وَتَزْوِيجِهِ بِابْنَةِ عَمِّهِ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ الْبَادِيَةَ حَافِيًا، فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ وَتَزَوَّجَ، شُغِفَ بِابْنَةِ عَمِّهِ شَغَفًا شَدَيدًا حَتَّى مَا كَانَ يُفَارِقُهَا لَحْظَةً. قَالَ: فَتَفَكَّرْتُ لَيْلَةً فِي كَثْرَةِ ميلي إليها، فقلت: ما يحسن لي أَنْ أَرِدَ الْقِيَامَةَ وَفِي قَلْبِي هَذَه، فَتَطَهَّرْتُ وصليت ركعتين وقلت: سيدي رُدَّ قَلْبِي إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى وَتُوُفِّيَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَنَوَيْتُ الْخُرُوجَ حَافِيًا مِنْ وَقْتِي إلى مكة. 56- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا ابن أبي صادق، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الشيرازي، قال: أخبرنا أبو القاسم بن ثابت، قال: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قال: سمعت عباس بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ أَبُو حَمْزَةَ الصُّوفِيُّ مِنْ قَزْوِينَ مُحْرِمًا رَاجِلا فَحَجَّ وَرَجَعَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا خرجت إلا لأسأل الله ألا يَرْزُقَنِي [مِنَ الدُّنْيَا] فَوْقَ قُوَّتِي. 57- أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد، قال: ثنا عبد الله الشيرازي، قال: ثنا أحمد بن عطاء، قال: ثنا محمد بن عبيد الله بن نصر، قال: ثنا إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ، قَالَ: سَمِعْتُ حَسَنًا أَخَا سِنَانٍ الدينوري يقول: حججت ستة عشر حَجَّةً رَاجِلا حَافِيًا بِغَيرِ زَادٍ. 58- أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو سعيد الصيرفي، قال: ثنا أبو عبد الله الأصفهاني، قال: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَجَّ سَعِيدُ بْنُ وَهْبٍ مَاشِيًا، فَبَلَغَ مِنْهُ وَجَهِدَ، فَقَالَ: قَدَمَيَّ اعْتَوِرَا رمل الكثيب ... وطرقا الآجن من ماء القليب رب يَوْمٌ رُحْتُمَا فِيهِ عَلَى ... زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَفِي واد خصيب
وَسَمَاعٍ حَسَنٍ مِنْ حَسَنٍ صَخِبَ ... الْمُزْهِرُ كَالظَّبْيِ الربيب فاحتسبا ذَاكَ بِهَذَا وَاصْبِرَا ... وَخُذَا مِنْ كُلِّ فَنٍ بِنَصِيبِ إِنَّمَا أَمْشِي لِأَنِّيَّ مُذْنِبٌ ... فَلَعَلَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ ذُنُوبِي
باب ذكر المنازل وما يقال فيها
بَابٌ ذِكْرُ الْمَنَازِلِ وَمَا يُقَالُ فِيهَا 59- أَخْبَرَنَا ابن عبد الواحد، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: ثنا أحمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا حجاج، قال: أخبرنا ليث، قال: حدثني يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ الْحَارِثِ، بْنِ يعقوب، أن يعقوب بن عبد الله حدثه أَنَّهُ سَمِعَ بِشْرَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنزِلِهِ ذَلِكَ)) . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وليس لخولة فِي ((الصَّحِيحِ)) غَيْرُهُ. 60- وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كَانَ إِذَا غَزَا أَوْ سَافَرَ فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، قال:
فصل
((يَا أَرْضُ! رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ أَسَدٍ وَأَسْودَ وَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ، وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ شَرِّ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)) . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ ساكن الْبَلَدِ: الْجِنَّ. وَالْبَلَدَ: مَا كَانَ مَأْوَى الْحَيَوَانِ، ولم يَكُنْ فِيهِ بِنَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بالوالد إبليس. وما ولد: الشياطين. فصل فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. 61- فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
باب ذكر المنازل المشهورة وبعض ما جرى فيها
باب ذكر الْمَنَازِلِ الْمَشْهُورَةِ وَبَعْضِ مَا جَرَى فِيهَا ذِكْرُ الكوفة: 62- أخبرنا محمد بن أبي منصور؛ قال: أخبرنا أبو الغنايم بن النرسي، قال: أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن حاجب، قال: أخبرنا محمد بن هارون، قال: ثنا علي بن الحسين بن أحيد، قال: ثنا علي بن إبراهيم الكرخي الحافظ، قال: ثنا محمد بن الحسن الحلواني، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَزْوِينِيُّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَمَرَرْنَا بِالْكُوفَةِ، فَإِذَا بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ يَهْذِي، فَقُلْتُ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَسَكَتَ، فَلَمَّا حَاذَاهُ الْهَوْدَجُ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! حَدَّثَنِي أيمن بن نائل، قال: ثنا قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى عَلَى جَمَلٍ وَتَحْتَهُ رَحْلٌ رَثٌّ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ طرد، ولا
ضَرْبٌ وَلا إِلَيْكَ إِلَيْكَ. قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّهُ بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ. قَالَ: قَدْ عَرَفْتُهُ، قُلْ يَا بُهْلُولُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَبْ أَنَّكَ قَدْ مَلَكْتَ الْأَرْضَ طُرًّا ... وَدَانَ لك البلاد فَكَانَ مَاذَا أَلَيْسَ غَدًا مَصِيرُكَ جَوْفُ قَبْرٍ ... ويحثو الترب هذا ثم هذا قال: أجدت يا بهلول! أفغيره؟ قال: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ جَمَالا وَمَالا فَعَفَّ فِي جَمَالِهِ وَوَاسَى فِي مَالِهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْأَبْرَارِ، قَالَ: فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا. قَالَ: فَإِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ دَيْنِكَ. قَالَ: لا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَقْضِ دَيْنًا بِدَيْنٍ، ارْدُدِ الْحَقَّ إلى أهله، واقض دَيْنَ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ. قَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا أَنْ يُجْرَى عَلَيْكَ. قَالَ: لا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا يُعْطِيكَ وَيَنْسَانِي، أَجْري عَلَى الَّذِي أَجْرَى عَلَيْكَ، لا حَاجَةَ لِي في جرايتك.
ذكر العذيب: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَفَاجِيُّ: وَدَعِ النَّسِيمَ يُعِيدُ مِنْ أَخْبَارِهِ ... فَلَهُ حواشٍ لِلْحَدِيثِ رِقَاقُ مَا تم من علق العذيب بِغَائِبٍ ... إِلا وَقَدْ شَهِدَتْ بِهِ الْآمَاقُ وَلَهُ [إذ يقول] : وَمُهَوِّنٌ لِلْوَجْدِ يَحْسَبُ أَنَّهَا ... يَوْمَ الْعُذَيْبِ مَدَامِعُ وَخُدُودُ سَلْ بَانَةَ الْوَادِي فَلَيْسَ يَفُوتُهَا ... خَبَرٌ يطول به الجوى ويزيد وانشر معي ضوء الصباح وقل له ... كم تستطيل به الليالي السود وإذا هبطت الواديين وفيهما ... دمن حبسن عَلَى الْبِلَى وَعُهُودُ فَاخْدَعْ فُؤَادِي فِي الْخَلِيطِ لعله ... يهفوا على آثارهم ويعود أصبابة بالجذع بعد سويقة ... شغل لعمرك يا أميم جدير ولي من قصيدة:
في شغلٍ عن الرقاد وشاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل يا صاحبي هذي رياح ربعهم ... قد أخبرت شمائل الشمايل نسيمهم سحيري الريح ما ... تشبهه روايح الأصايل مَا لِلصَّبَا مُولَعَةٌ بِذِي الصِّبَا ... أَوَ صَبَا فَوْقَ الْغَرَامِ الْقَاتِلِ مَا لِلْهَوَى الْعُذَرِيِّ فِي دِيَارِنَا ... أَيْنَ الْعُذَيْبُ مِنْ قُصُورِ بَابِلِ لا تطلبوا ثَارَاتِنَا يَا قَوْمَنَا ... دِمَاؤُنَا فِي أَذْرُعِ الرَّوَاحِلِ لله در العيش في ظلالهم ... ولى وكم أسار في المفاصل واطربا إِذَا رَأَيْتِ أَرْضَهُمْ ... هَذَا وَفِيهَا رَمَيْتُ مُقَاتِلِي يا طرة الشيخ سُقِيتِ أَدْمُعِيِ ... وَلا ابْتُلِيتِ بِالْهَوَى تَمَايُلِي مَيْلُكِ عن زَهْوٍ وَمَيْلِي عَنْ أَسًى ... مَا طَرَبُ الْمَخْمُورِ مِثْلُ الثَّاكِلِ ذِكْرُ فِيدَ: 63- قَالَ أَبُو بَكْرِ بن الأنباري: أنشدنا أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ:
سَقَى اللَّهُ حَيًّا بَيْنَ صارةٍ وَالْحِمَى ... حِمَى فيد صوب المرجنات المواطر آمين وادي الله ركباً إليهم ... بخير ووقاهم حَمَامَ الْمَقَادِرِ ذِكْرُ الْحَاجِرِ: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: الْحَاجِرُ مِنَ الْحَجَرِ، وَهُوَ مَحْبَسُ الْمَاءِ، والجمع حجران. 64- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا علي بن أبي صادق، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ فَارِسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ خَيْرَ النُّسَّاجِ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ وَقَدْ رَجَعَ مِنْ سفره وكان غاب عني سنين، فقلت [له] : ما الذي أصابك في سفرتك؟ فَقَالَ: عَطِشْتُ عَطَشًا شَدِيدًا حَتَّى سَقَطْتُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، فَإِذَا أَنَا بِمَاءٍ قَدْ رُشَّ على
وَجْهِي، فَلَمَّا أَحَسَسْتُ بِبَرْدِهِ فَتَحْتُ عَيْنَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ وَالزِّيِّ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ عَلَى فَرِسٍ أَشْهَبَ، فَسَقَانِي حَتَّى رَوِيتُ، ثُمَّ قَالَ: ارْتَدِفْ خَلْفِي وَكُنْتُ بِالْحَاجِرِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ، قَالَ: أَيْشِ تَرَى؟ قُلْتُ: الْمَدِينَةَ. قَالَ: انْزِلْ وَاقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنِّيَ السَّلامَ، وَقُلْ: أَخُوكَ الْخَضِرُ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ. وَقَدْ رُوِيَتْ لَنَا هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَفِيهَا: قُلْ لَهُ: رِضْوَانُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ كَثِيرًا. وَقَالَ مِهْيَارٌ فِي ذِكْرِ الْحَاجِرِ: يَا قَلْبُ صَبْرًا عَسَاكَ حِينَ ... حُرِمْتَ الْوَصْلَ تُعْطَى مَثُوبَةَ الصَّابِرِ حِجْرٌ عَلَيْكَ الْإِطْرَابُ بَعْدَ لَيَالِيكَ ... اللَّوَاتِي انْطَوَتْ عَلَى حَاجِرِ ذَلِكَ عَهْدٌ تأسى بشاشته ... أسعد حظاً مِنَ الذَّاكِرِ وَلَهُ: أَهْفُو لِعُلْوَى الرِّيَاحِ إِذَا جرت ... وأظن رامه كل دار أقفرت ويشوقني روض الحمى متنفساً ... يصف الترايب وَالْبُرُوقَ إِذَا سَرَتْ
يَا دِينَ قَلْبِي مِنْ لَيَالِي حَاجِرٍ ... مَكَرَتْ به يوماً عَلَيْهِ وَانْقَضَتْ وَلَهُ: أَسِفْتُ لِحُلْمٍ كَانَ لِي يَوْمَ بَارِقٍ ... فَأَخْرَجَهُ جَهْلُ الصَّبَابَةِ عَنْ يَدِي وَمَا زِلْتُ أَبْكِي كَيْفَ حُلَّتْ بِحَاجِرٍ ... قُوًى جَلَدَى حَتَّى تَدَاعَى تَجَلُّدِي تَحَرَّشَ بِأَحْقَافِ اللِّوَى عُمِّرَ سَاعَةً ... وَلَوْلا مَكَانَ الرَّيْبِ قُلْتُ لَكَ ازدد وقل صاحب لي ضَلَّ بِالرَّمْلِ قَلْبُهُ ... لَعَلَّكَ أَنْ يَلْقَاكَ هَادٍ فيهتدي وسلم على ما بِهِ بَرَدُ غُلَّتِي ... وَظِلِّ أَرَاكٍ كَانَ لِلوَصْلِ مَوْعِدِي وَقُلْ لِحَمَامِ الْبَانَتَيْنِ مُهَنِّئًا ... تَغَنَّ خَلِيًّا من غرام وَغَرِّدِ أَعِنْدَكُمْ يَا قَاتِلِينَ بَقِيَّةٌ ... عَلَى مُهْجَةٍ إِنْ لَمْ تَمُتْ فَكَانَ قَدِ وَيَا أَهْلَ نجد كيف بالغور بعدكم ... بَقَاءُ تِهَامِيٍّ يَهِيمُ بِمُنْجِدِ مَلَكْتُمْ عَزِيزًا رِقُّهُ فَتَعَطَّفُوا ... عَلَى مُنْكِرٍ لِلذُّلِ لَمْ يَتَعَوَّدِ وَلَهُ: يَا لَيْلَتِي بِحَاجِرٍ ... إِنْ عَادَ مَاضٍ فَارْجِعِي أرض بِأَخْبَارِ الرَّيَاحِ ... وَالْبُرُوقِ الْلُمَّعِ وَأَيْنَ مِنْ بَرْقَ اللوى ... شايمه بلعلع
ولأبي فراس: لولا تذكر مَنْ ذَكَرْتُ بِحَاجِرٍ ... لَمْ أَبْكِ فِيهِ مَوَاقِدَ النيران يا واقفين معي على الدار طلبا ... غيري لها إِنْ كُنْتُمَا تَقِفَانِ مَنَعَ الْوُقُوفَ عَلَى الْمَنَازِلِ طارق ... أمر الدموع بمقلتي ونهاني إنا ليجمعنا الْبُكَاءِ وَكُلُّنَا ... نَبْكِي عَلَى شَجَنٍ مِنَ الْأَشْجَانِ ذِكْرُ شَجَرِ أُمِّ غَيْلانَ: قَالَ شَاهُ بْنُ شُجَاعٍ الْكِرْمَانِيُّ: دَخَلْتُ الْبَادِيَةَ، فَرَأَيْتُ غُلامًا أَمْرَدَ وكأنه مُوَسْوَسٌ لا يَأْلَفُ أَهْلَ الْقَافِلَةِ، فَسَاعَةً يُشِيرُ إِلَى السَّمَاءِ، وَسَاعَةً يَصِيحُ، فَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ فِي شأنه، وأين معاشه، وما كان معه زاد ولا غطاء ولا وطاء، فراقبته يوماً، فدخل وسط أشجار أُمِّ غَيْلانَ، فَتَبِعْتُهُ، فَإِذَا هُوَ يَجْنِي مِنْ شجرة شيئاً يأكله، فلما بصرني أَنْشَأَ يَقُولُ: بِاعْتِزَالِي عَنْكُمُ فِي الْخَلَوَاتِ ... صَارَ طعمي التمر وسط الفلوات
باب ذكر الأميال وما جرى عندها وفي الطريق
باب ذكر الأميال وما جَرَى عِنْدَهَا وَفِي الطَّرِيقِ 65- أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظفر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: أخبرنا ابن جهيم، قال: حدثني عبد العزيز بن الحسين، قال: حدثني أحمد بن محمد بن كيلويه، قال: حدثني سمسون، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السَّقَّا (وَكَانَ قَدْ حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْ نَيْسَابُورَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ حَجَّةً، وَكَانَ عَادَتُهُ الرُّكُوعَ عِنْدَ كُلِّ مِيلٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِتَشْهَدَ لَهُ الْبِقَاعُ) ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى مِيلٍ أُصَلِّي، فَلَمَّا اسْتَفْتَحْتُ الصَّلاةَ وَرَفَعْتُ يَدَيَّ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحَرَامِ، دَاخَلَنِي شَيْءٌ مِنْ جنس القرب، فزال عَقْلِي، فَمَكَثْتُ فِي مَوْضِعِي ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَدَخَلْتُ الْمَنْزِلَ، فَوَجَدْتُهُ آخِرَ الشَّهْرِ. 66- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبي منصور، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحسن ثمك بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلَّوْشَ الدَّيْنَوَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُزَنِيُّ يَقُولُ: كُنْتُ مُجَاوِرًا بِمَكَّةَ، فَخَطَرَ لِي
خَاطِرٌ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجْتُ، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ أَمْشِي، فَإِذَا أَنَا بِشَابٍّ مَطْرُوحٍ إِلَى جَانِبِ مِيلٍ عَلَيْهِ خِرْقَتَانِ وَهُوَ يَنْزِعُ، فَقَعَدْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ إِلَيَّ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَنَا إِنْ مِتُّ والهوى حشو قلبي ... فبداء الهوى يموت الكرام وشهق فيها شهقته كَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، فَكَفَّنْتُهُ فِي أَطْمَارِهِ وَرَجَعْتُ. 67- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا ابن باكويه الشيرازي، قال: ثنا عبد الواحد بن بكر الورثاني، قال: ثنا أبو بكر أحمد بن محمد المارستاني، قال: ثنا محمد بن عيسى القرشي، قال: حَدَّثَنِي أَبُو الْأَشْهَبِ السَّائِحُ، قَالَ: رَأَيْتُ بَيْنَ الثعلبية والخزيمية غلاماً قائماً
يصلي عند بعض الْأَمْيَالِ قَدِ انْقَطَعَ عَنِ النَّاسِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قطع صَلاتَهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: مَا مَعَكَ مُؤْنِسٌ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: أَمَامِي ومعي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعنْ شِمَالِي وَفَوْقِي، فَعَلِمْتُ أَنَّ عِنْدَهُ مَعْرِفَةً. فَقُلْتُ: أَمَا مَعَكَ زَادٌ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: الْإِخَلاصُ لله عز وجل، والتوحيد له، وَالْإِقْرَارُ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيمَانٌ صادق، وتوكل واثق. قلت: هل لك في مرافقتي؟ قَالَ: الرَّفِيقُ يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ وَلا أُحِبُّ أَنْ أُرَافِقَ أَحَدًا فَأَشْتَغِلُ بِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. قُلْتُ: أَمَا تَسْتَوْحِشُ فِي هَذِهِ البَرِّيَّةِ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْأُنْسَ بِاللَّهِ قَطَعَ عَنِّي كُلَّ وَحْشَةٍ حَتَّى لَوْ كُنْتُ بَيْنَ السِّبَاعِ ما خفتها ولا استوحشت منها. قلت: فَمِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ قَالَ: الَّذِي غَذَّانِي فِي ظلم الأرحام صغيراً قد تَكَفَّلَ بِرِزْقِي كَبِيرًا. قُلْتُ: فَفِي أَيِّ وَقْتٍ تَجِيئُكَ الْأَسْبَابُ؟ فَقَالَ لِي: حَدٌّ مَعْلُومٌ وَوَقْتٌ
مَفْهُومٌ إِذَا احْتَجْتُ إِلَى الطَّعَامِ أَصَبْتُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كُنْتُ، وَقَدْ عَلِمَ مَا يُصْلِحُنِي وهو غير غافل عني. قلت: لك حاجة؟ قال: نعم، إن رأيتني لا تُكَلِّمْنِي ولا تُعْلِمْ أَحَدًا أَنَّكَ تَعْرِفُنِي. قُلْتُ: لك ذلك، فهل حاجة غيرها؟ قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تَنْسَانِي فِي دُعَائِكَ وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ إِذَا نزلت بك، فافعل. قلت: كيف يدعوا مِثْلِي لِمِثْلِكَ وَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي خَوْفًا وَتَوَكُّلا؟ فَقَالَ: لا تَقُلْ هَذَا، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ لله قَبْلِي وَصُمْتَ قَبْلِي، وَلَكَ حَقُّ الْإِسْلامِ وَمَعْرِفَةُ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: فَإِنَّ لِي أَيْضًا حَاجَةً. قَالَ: وما هي؟ قلت: ادع الله [تعالى] لِي. قَالَ: حَجَبَ اللَّهُ طَرْفَكَ عَنْ كُلِّ معصية، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه؛ حَتَّى لا يَكُونَ لَكَ هَمٌّ إِلا هُوَ. قُلْتُ: يَا حَبِيبِي مَتَى أَلْقَاكَ وَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِلِقَائِي فِيهَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ، فَإِنَّهَا مَجْمَعُ الْمُتَّقِينَ، فإياك أن تخالف الله [عز وجل] فيما أمرك وندبك إليه وإن كنت تبغي لقائي، فاطلبني مع الناظرين إلى الله تعالى في زمرتهم.
قلت: وكيف علمت ذاك؟ قَالَ: بِغَضِّ طَرْفِي لَهُ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ، وَاجْتِنَابِي فِيهِ كُلَّ مُنْكَرٍ وَمَأْثَمٍ، وَقَدْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَجْعَلَ جَنَّتِيَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ صَاحَ وَأَقْبَلَ يَسْعَى حَتَّى غَابَ عَنْ بَصَرِي. 68- أَخْبَرَنَا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، قال: ثنا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حُكِيَ أنَّ بَعْضَ المترفين مال إلى طريقة المتصوفة، واستشرف لِصُحْبَتِهِمْ وَالاخْتِلاطِ بِهِمْ، فَشَاوَرَ فِي هَذَا بَعْضَ مَشْيَخَتِهِمْ، فَرَدَّهُ عَمَّا تَشَرَّفَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا وحذره، فأبت نفسه الإجابة مَا جَذَبَتْهُ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَمَالَ إِلَى فَرِيقٍ من هذه الطائفة فعلق بِهِمْ، ثُمَّ صَحِبَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَجِّ فَعَجَزَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَنْ مُسَايَرَتِهِمْ وَقَصَّرَ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ، فَمَضَوْا وَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ، فَاسْتَنَدَ إِلَى بَعَضِ الْأَمْيَالِ إِرَادَةَ الاسْتِرَاحَةِ مِنَ الإعياء والكلال، فمر به الشَّيْخُ الَّذِي شَاوَرَهُ فِيمَا حَصَلَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَتَسَنَّمَهُ، فَنَهَاهُ وَحَذَّرَهُ، فقال هذا الشيخ مخاطبا له: إن الذين بخير كنت تذكرهم ... قضو عليك وعنهم كنت أنهاكا فقال له الفتى: فما أصنع الآن؟ فقال له: لا تطلبن حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
69- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بن أحمد النجار، قال: سمعت أبو بَكْرٍ الْكَتَّانِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فإذا أنا بهميان مملوء، تلتمع منه الدنانير، فهممت أن آخذه وأحمله إِلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ مِنْ وَرَائِي: إِنْ أَخَذْتَهُ سَلَبْنَاكَ فَقْرَكَ. 70- أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا ابن باكويه، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ الرُّوذْبَارِيُّ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْبَادِيَةِ عَلَى جَمَلٍ، فَغَاصَتْ رِجْلُ الْجَمَلِ فِي الرَّمْلِ، فَقُلْتُ: جَلَّ اللَّهُ، فَقَالَ الْجَمَلُ: جَلَّ الله. 71- أخبرنا أبو بكر، قال: أخبرنا أبو سعد، قال: ثنا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الفارس، قال: أخبرني أبو علي الروذباري، قال: سمعت بنان الْحَمَّالَ يَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَرِّيَّةَ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ وحدي، فاستوحشت، فإذا بهاتف يهتف بي: يا بنان نقضت العهد، لم تستوحش؟ أليس
حبيبك معك؟ 72- أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: ثنا عبد العزيز القرمسيني، قال: ثنا ابن جهضم، قال: ثنا الخلدي، قال: ثنا ابْنُ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، إِذْ رَأَيْتُ رَجُلا مَغْرِبِيِّا عَلَى بَغْلٍ، وَبَيْنَ يديه مناد ينادي: من أصاب همياناً له ألف دينار؟ فإذا إنسان أعرج عَلَيْهِ، أَطْمَارٌ رَثَّةٌ يَقُولُ لِلمَغْرِبِيِّ: أَيْشِ عَلامَةُ الهميان؟ فقال: كذا وكذا وفيه بضائع لقوم، وَأَنَا أُعْطِي مِنْ مَالِي أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ الْفَقِيرُ: مَنْ يَقْرَأُ الْكِتَابَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: اعْدِلُوا بِنَا نَاحِيةً. فَعَدَلْنَا، فَأَخْرَجَ الْهِمْيَانَ، فَجَعَلَ المغربي يقول: حبتين لفلانة بنت فلان بخمس مئة دينار، وحبة لفلان بمئة دِينَارٍ، وَجَعَلَ يَعُدُّ، فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ، فحل المغربي هميانه، وقال: خُذْ أَلْفَ دِينَارٍ الَّتِي وَعَدْتُ عَلَى وِجَادَةِ الهميان. فقال الأعرج: لَوْ كَانَ قِيمَةُ الْهِمْيَانِ عِنْدِي بَعْرَتَيْنِ مَا كُنْتَ تَرَاهُ؟ فَكَيْفَ آخُذُ مِنْكَ أَلْفَ دِينَارٍ على ما هذه قِيمَتُهُ، وَمَضَى وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ عبد الله بن خالد الطوسي لَمَّا خَرَجَ الرَّشِيدُ إِلَى مَكَّةَ، فُرِشَ لَهُ من العراق إلى الحجاز اللبود والمرغزي، وَكَانَ حَلَفَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًّا رَاجِلا فَاسْتَنَدَ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَ إِلَى مِيلٍ، فَإِذَا بِسَعْدُونَ الْمَجْنُونُ قَدْ عَارَضَهُ وَهُوَ يَقُولُ: هَبِ الدُّنْيَا تُوَاتِيكَ ... أَلَيْسَ الْمُوتُ يَأْتِيكَ
فما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيك أيا طَالِبَ الدُّنْيَا ... دَعِ الدُّنْيَا لِشَانِيكَ كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْرُ ... كَذَاكَ الدَّهْرُ يُبْكِيكَ فَشَهَقَ الرَّشِيدُ شَهْقَةً [و] خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَتْهُ ثَلاثُ صَلَوَاتٍ.
باب ذكر نبذة من أخبار صالحي أهل البادية
باب ذكر نبذة من أخبار صَالِحِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ 73- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، قال: أخبرنا علي بن عبد الله الحيري، قال: ثنا ابن باكويه الشيرازي، قال: ثنا إبراهيم بن محمد المالكي، قال: ثنا يوسف بن أحمد البغدادي، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَوَارِيِّ، قَالَ: حَجَجَتُ أَنَا وأبو سليمان [الداراني] ، فِبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرِ، إِذْ سَقَطَتِ السَّطْيحَةُ مِنِّي وكان برداً شديداً، فأخبرت أبا سليمان، فقال: سلم وصل على محمد، وقل: يا راد الضالة ويا هادياً من الضلالة رد الضالة، فإذا بواحد ينادينا، من ذهبت له سطيحة، فأخذتها منه. فقال لي أبو سليمان: لا تتركنا بلا ماء، فبينا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ عَلَيْهِ طِمْرَانَ رثان وقد درعنا بِالْفِرَاءِ مَنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَهُوَ يَرْشَحُ عَرَقًا. فقال له: يا شيخ! ألا ندثرك ببعض ما معنا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا دَارَانِيُّ!
الحر والبرد خلقان لله، إِنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَغْشَيَانِي، أَصَابَانِي، وَإِنَّ أَمْرَهُمَا أَنْ يَتْرُكَانِي، تَرَكَانِي، يَا دَارَانِيُّ! تَصِفُ الزُّهْدَ وتخاف من البرد، وأنا شيخ فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً مَا انْتَفَضْتُ وَلا ارْتَعَدْتُ، يُلبِسُنِي فِي الْبَرْدِ فَيْحًا من محبته، ويلبسني في الصيف مَحَبَّتِهِ، ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: يَا دَارَانِيُّ! تَبْكِي وَتَصِيحُ وَتَسْتَرِيحُ إِلَى التَّرْوِيحِ. فَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَمْ يَعْرِفْنِي غَيْرُهُ. 74- أَخْبَرَنَا أَبُو بكر، قال: أخبرنا علي، قال: ثنا ابن باكويه، قال: أخبرنا أبو الحسن الحنظلي، قال: أخبرنا أحمد بن علي الإصطخري، قال: أخبرنا أَبُو عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلاءِ إِلَى مَكَّةَ، فَمَكَثْنَا أياماً فلم نَجِدْ مَا نَأْكُلُ، فَوَقَعْنَا إِلَى حَيٍّ فِي البرية، فإذا أعرابية وَعِنْدَهَا شَاةٌ، فَقُلْنَا لَهَا: بِكَمْ هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالَتْ: بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا. فَقُلْنَا لَهَا: أَحْسِنِي. فَقَالَتْ: بِخَمْسَةِ دِرَاهِمَ. فَقُلْنَا لَهَا: تَهْزَئِينَ؟ فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ سَأَلْتُمُونِي الْإِحْسَانَ، وَلَوْ أَمْكَنَنِي لَمْ آخُذْ شَيْئًا. فَقَالَ ابْنُ الْجَلاءِ: أَيْشِ مَعَكُمْ؟ قلنا: ست مئة دِرْهَمٍ. فَقَالَ: أَعْطُوهَا وَاتْرُكُوا الشَّاةَ عَلَيْهَا. فَمَا سَافَرْنَا سَفْرَةً أَطْيَبَ مِنْهَا. 75- أَخْبَرَنَا الْمُحَمَّدَانِ، ابْنُ عبد الملك وابن ناصر، قالا: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، قَالَ: قَرَأَ عَلَى ابْنِ شَاذَانَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ أخبرهم، قال: ثنا محمد بن يونس، قال: ثنا الأصمعي، قال: ثنا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ، قَالَ: كُنَّا بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَبَيْنَ أَيْدِينَا سُفْرَةٌ لَنَا نَتَغَدَّى فِي يَوْمٍ قَائِظٍ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيٌّ
وَمَعَهُ جَارِيةٌ لَهُ زِنْجِيَّةٌ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ! أفيكم أحد يقرأ كلام الله [عز وجل] حتى يكتب لي كتاباً؟ قال: قلت: أصب من غذائنا حَتَّى نَكْتُبَ لَكَ مَا تُرِيدُ. قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَعَجِبْنَا مِنْ صَوْمِهِ فِي تِلَكَ البَرِّيَّةِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ غَدَائِنَا، دَعَوْنَا بِهِ فَقُلْنَا: مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ! إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ كَانَتْ وَلَمْ أَكُنْ فِيهَا، وَسَتَكُونُ وَلا أَكُونُ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَعْتِقَ جَارِيَتِي هَذِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لِيَوْمِ العقبة. تدري ما يوم العقبة؟ قوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فك رقبة} . اكتب ما أقول لك ولا تزيدن علي حرفاً: هذه فلانة خادم فلان، قد أعتقها لوجه الله تعالى وَلِيَوْمِ الْعَقَبَةِ. قَالَ شَبِيبٌ: فَقَدِمْتُ الْبَصْرَةَ وَأَتَيْتُ بغداد فحدثت بهذا الحديث المهدي، فقال: مئة نَسَمَةٍ تُعْتَقُ عَلَى عُهْدَةِ الْأَعْرَابِيِّ. 76- أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بن علي، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: ثنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: ثنا ابن الجنيد، قال: ثنا محمد بن الحسين، قال:
حدثني الصلت بن حكيم، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ السَّمَّاكِ عَنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: لَوْ تَطَالَعَتْ قُلُوبُ المؤمنين بفكرها إِلَى مَا ادُّخِرَ لَهَا فِي حُجُبِ الْغُيُوبِ مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ، لَمْ يَصْفُ لَهُمْ عَيْشٌ، وَلَمْ تَقَرَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَيْنٌ. 77- أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، وأخبرنا عمر بن ظفر، قال: أخبرنا أبو محمد بن السراج، قالا: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سمعت الْخُلْدِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَبَقِيتُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لا أَطْعَمُ فِيهَا طَعَامًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، رَأَيْتُ كُوخًا وَفِيهِ غُلامٌ، فَقَصَدْتُ الْكُوخَ، فَرَأَيْتُ الْغُلامَ قائماً يصلي، فقلت في نفسي بالعشي يجيء إِلَى هَذَا طَعَامٌ فَآكُلُ مَعَهُ. فَبَقِيتُ تِلْكَ الليلة، والغد وبعد غد ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَجِئْهُ أَحَدٌ بِطَعَامٍ، فَقُلْتُ: هذا شيطان ليس هذا من الناس، فتركته وانصرفت، فلما كان بعض وَقْتٍ أَنَا قَاعِدٌ فِي مَنْزِلِي إِذَا دَاقٌّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ ادْخُلْ. فَدَخَلَ علي الغلام، فقال: يَا جَعْفَرُ! أَنْتَ كَمَا سُمِّيتَ جَاعَ فَرَّ. 78- أنبأنا عبد الوهاب، قال: أنبأنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب، قال: ثنا أبي، ثنا أحمد بن مروان، قال: ثنا
عبد الرحمن بن مرزوق، قال عبد الرزاق: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ: حَجَّ الْحَجَّاجُ فَنَزَلَ بَعْضَ الْمِيَاهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فدعا بالغداء. وقال لحاجبه: انظر من يتغذى مَعِي وَاسْأَلْهُ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ، فَنَظَرَ نَحْوَ الْجَبَلِ، فَإِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ بَيْنَ شَمْلَتَيْنِ مِنْ شَعْرٍ نَائِمٍ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: ائْتِ الْأَمِيرَ، فأتاه. فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغذ مَعِي. فَقَالَ: إِنَّهُ دَعَانِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى دَعَانِي إِلَى الصَّوْمِ فَصُمْتُ. قَالَ: فِي هَذَا الْحَرِّ الشَّدِيدِ؟! قَالَ: نَعَمْ، صُمْتُ لِيَوْمٍ هُوَ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ: فَأَفْطِرْ، وَتَصُومُ غَدًّا. قَالَ: إِنْ ضَمِنْتَ لِيَ الْبَقَاءَ إلى غد. قال: ليس ذاك لِي. قَالَ: فَكَيْفَ تَسْأَلُنِي عَاجِلا بِآجِلٍ لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: إِنَّهُ طَعَامٌ طَيِّبٌ، قَالَ: لَمْ تُطَيِّبْهُ أَنْتَ وَلا الطَّبَّاخُ، وَلَكِنْ طَيَّبَتْهُ العافية. 79- أخبرنا عمر بن ظفر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا علي بن عبد الله الصوفي، قال: ثنا محمد بن داود الدينوري، قال: حدثني أبو زكريا الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: تُهْتُ فِي بَادِيَةِ الْعِرَاقِ
أَيَّامًا كَثِيرَةً لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَرْتَفِقُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ، رَأَيْتُ فِي الْفَلاةِ خباء شعر مضروب فَقَصَدْتُهُ، فَإِذَا بَيْتٌ وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مُسْبَلٌ، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ مِنْ دَاخِلِ الْخِبَاءِ، وَقَالَتْ: يا إنسان! من أين أنت أَقْبَلْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ مَكَّةَ. قَالَتْ: وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: الشَّامَ. فَقَالَتْ: أَرَى شَبَحَكَ شَبَحَ إِنْسَانٍ بَطَّالٍ، أَلا لَزِمْتَ زَاوِيَةً تَجْلِسُ فِيهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيكَ الْيَقِينُ ثُمَّ تَنْظُرُ هَذِهِ الْكِسْرَةَ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُهَا؟ ثُمَّ قَالَتْ: تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: اقْرَأْ عَلَيَّ آخِرَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فَقَرَأْتُهَا فَشَهِقَتْ وَأُغْمِيَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفَاقَتْ بعد هوى، قرأت هي الآيات فأخذت قراءتها مني أَخْذًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَتْ: يَا إِنْسَانُ! اقْرَأْهَا ثَانِيَةً، فَقَرَأْتُهَا فَلَحِقَهَا مَثْلُ مَا لَحِقَهَا فِي الْأَوَّلِ وَبَقِيَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمْ تُفِقْ. فقلت: كيف استكشف حالها مَاتَتْ أَمْ لا؟ فَتَرَكْتُ الْبَيْتَ عَلَى حَالِهِ وَمَشَيْتُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ مِيلٍ، فَأَشْرَفْتُ عَلَى وَادٍ فِيهِ أَعْرَابٌ، فَأَقْبَلَ إِلَيَّ غُلامَانِ مَعَهُمَا جَارِيَةٌ، فَقَالَ أَحَدُ الْغُلامَيْنِ: يَا إِنْسَانُ! أَتَيْتَ البيت فِي الْفَلاةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قلت: نعم. قال: قتلت العجوز ورب الكعبة، فرجعت معهم حتى أتيت البيت، فدخلت الجارية فكشفت عنها وإذا هِيَ مَيْتَةٌ، فَأَعْجَبَنِي خَاطِرُ الْغُلامِ، فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: مَنْ هَذَانِ الْغُلامَانِ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ أُخُتُهُمْ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً مَا تَأْنَسُ بِكَلامِ النَّاسِ، تَأْكُلُ فِي كُلِّ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَكْلَةً وَشَرْبَةً.
80- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا عبد الملك بن محمد البزوغاني، قال: أخبرنا أبو الحسن القزويني، قال: أخبرنا يوسف القواس، قال: ثنا أبو الفضل الخراساني، قال: ثنا أبو سعيد بن علي، قال: ثنا الأصمعي، قال: كنت في البادية أُعَلِّمُ الْقُرْآنَ، فَإِذَا أَنَا بِأَعْرَابِيٍّ بِيَدِهِ سَيْفٌ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي لِيَأْخُذَ ثِيَابِي، قَالَ لِي: يَا حَضَرِيُّ! مَا أَدْخَلَكَ الْبَدْوَ؟ قُلْتُ: أُعَلِّمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَمَا الْقُرْآنُ؟ قُلْتُ: كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَلِلَّهِ كَلامٌ؟ قلت: نعم. قال: فأنشدي مِنْهُ بَيْتًا. قُلْتُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا توعدون} . قال: فرمى بالسيف مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، رِزْقِي فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا أَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ! ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ فِي الطَّوَافِ، فَقَالَ: أَلَسْتُ
صَاحِبَكَ بِالْأَمْسِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَأَنْشِدْنِي بَيْتًا آخَرَ. قُلْتُ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مثلما أنكم تنطقون} . فوقف، وبكى، وجعل يقول: من أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى سَقَطَ مَيِّتًا. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيُّ، قال: بينا أنا أسير في بعض الطرق إذ أَنَا بِغُلامٍ وَاقِفٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقِّي. قُلْتُ: وَمَا حَقُّكَ؟ قَالَ: أَنَا غُلامٌ عَلَى مذهب إبراهيم الخليل عليه السلام لا أتغذى وَلا أَتَعَشَّى حَتَّى أَسِيرَ الْمِيلَ وَالْمِيلَيْنِ فِي طلب ضيفٍ، فأجبته إلى ذاك، فرحب بي وسرت معه حتى قريباً من خيمة، فصاح: يا أختاه! فأجابته: يا لبيكاه. قال: قُومِي إِلَى ضَيْفِنَا. فَقَالَتْ: حَتَّى أَبْدَأَ بِشُكْرِ الْمَوْلَى الَّذِي سَبَّبَ لَنَا الضَّيْفَ، فَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ وَأَخَذَ الْغُلامُ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَ عِنَاقًا، فَلَمَّا جَلَسْتُ في الخيمة، نظرت على جارية من أحسن الناس وجهاً وكنت أُسَارِقُهَا النَّظَرَ، فَفَطِنَتْ فَقَالَتْ: مَهْ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ نُقِلَ إِلَيْنَا أَنَّ زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، فَلَمَّا نِمْتُ بِالْلَيْلِ، سَمِعْتُ دَوِّيَ الْقُرْآنِ طُولَ الْلَيْلِ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قُلْتُ لِلْغُلامِ: مَنْ كَانَ ذلك؟ قَالَ: أُخْتِي تُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَى الصَّبَاحِ. فَقُلْتُ: يَا فَتَى! أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا مِنْ أُخْتِكَ لِأَنَّكَ رَجُلٌ وَهِيَ امْرَأَةٌ. فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ وَمَخْذُولٌ.
باب ثواب من سقى في طريق مكة ماء أو فعل خيرا
باب ثواب من سقى في طريق مكة ماء أَوْ فَعَلَ خَيْرًا اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ مَا وَافَقَتْ فَاقَةَ مُحْتَاجٍ، وَفِعْلُ الْخَيْرِ فِي تلك الطرق أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ فِي غَيْرِهَا، لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ، ثَمَّ أَشَدُّ مِنْ مسها في غيره. والثاني: أنه لا بلد [ثم] يُلْجَأُ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ لِقُوَّةِ بُخْلِهَا بِالشَّيْءِ مَخَافَةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: لِأَنَّهُ إِعَانَةُ الْقَاصِدِينَ عَلَى الْقَصْدِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُفَضَّلُ هُنَالِكَ ما بالحاجة إِلَيْهِ أَمَسُّ، كَسَقْيِ الْمَاءِ، وَحَمْلِ الْمُنْقَطِعِ. 81- أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، قال: حدثني الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ لَفْظًا، قَالَ: وَجَدْتُ بخط أبي
الفتح القواس: ثنا صدقة بن هبيرة، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الزَّمَنُ: رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ؟ قالت: غفر الله لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي وَجْهِكِ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بشر المريسي زفرت جهنم عليه زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تلك الزفرة.
باب ذكر حدود الحرم
باب ذكر حدود الحرم حدود الحرم من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت غفار على ثلاثة أميال، ومن طريق اليمن طرف أضاءة لبن على سبعة أميال، ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على أحد عشر ميلاً كذلك، ذكره الأزرقي. وقال غيره: على سبعة أميال، ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمنقطع، ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد على تسعة أميال، ومن طريق جدة منقطع الأعشاس على عشرة أميال. فصل وَأَوَّلُ مَنْ نَصَبَ حُدُودَ الْحَرَمِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَلَعُوهَا فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم] ، فجاءه جبريل، فقال: يَا مُحَمَّدُ! اشْتَدَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أما إنهم سيعيدونها. فرأى
رجل منهم في المنام قائلاً يقول: حرم أعزكم اللَّهُ بِهِ نَزَعْتُمْ أَنْصَابَهُ، الآنَ تَخَطَّفَكُمُ الْعَرَبُ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِهِمْ فَأَعَادُوهَا. فَجَاءَ جبريل وقال: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ أَعَادُوهَا. قَالَ: أَفَأَصَابُوا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: مَا وَضَعُوا مِنْهَا نَصْبًا إِلا بِيَدِ مَلَكٍ. 82- وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: نَصَبَ إبراهيم أنصاب الحرم يريه جبريل، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجددها، ثُمَّ لَمْ تُحَرَّكْ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، فَبَعَثَ عَامَ الْفَتْحِ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَهَا، ثُمَّ لَمْ تُحَرَّكْ حَتَّى كَانَ عُمَرُ بن الخطاب، فبعث أربعة من قريش فجددوها، [وهم] : مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأَزْهَرَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ، ثم جددها معاوية ثُمَّ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِتَجْدِيدِهَا.
فصل
فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا السَّبَبُ فِي أن بعض حدود الحرم يقرب من مكة وبعضها يبعد، ولم لم تجعل على قانون واحد؟ ففيه أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: 84- مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جبير عن ابن عباس، قَالَ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ خَرَّ سَاجِدًا يَعْتَذِرُ، فأرسل الله تعالى إليه جبريل بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَقَدْ قُبِلَتْ تَوْبَتُكَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّمَا أَتَلَهَّفُ عَلَى مَا فَاتَنِي مِنَ الطَّوَافِ بِعَرْشِكَ مَعَ مَلائِكَتِكَ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِّي سَأُنْزِلُ إليك بيتاً أجعله قبلة، فأهبط الله إليه الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَكَانَ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا، وَلَهُ بَابَانِ شَرْقِيٌّ وَغَرْبِيٌّ، قَدْ نُظِّمَتْ حِيطَانُهُ بِكَوَاكِبَ بِيضٍ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْبَيْتُ فِي الْأَرْضِ، أَضَاءَ نُورُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَنَفَرَتْ لِذَلِكَ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ وَفَزِعُوا فَارْتَقَوْا فِي الْجَوِّ يَنْظُرُونَ مِنْ أَيْنَ ذَلِكَ النُّورُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ مِنْ مَكَّةَ، أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ الاقتراب إليه، فأرسل الله تعالى مَلائِكَةً فَقَامُوا حَوَالَيِ الْحَرَمِ فِي مَكَانِ الْأَعْلامِ اليوم فمنعتهم، فمن ثم ابتدئ اسم الحرم.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ اشتد بكاؤه، فوضع الله [عز وجل] لَهُ خَيْمَةً بِمَكَّةَ مَوْضِعَ الْكَعْبَةِ قِبْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْخَيْمَةُ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِيهَا ثلاث قَنَادِيلَ، فِيهَا نُورٌ يَلْتَهِبُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ ضَوْءُ النُّورِ يَنْتَهِي إِلَى مَوَاضِعَ الْحَرَمِ، وَحَرَسَ الله تعالى تلك الخيمة بملائكة، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه ويذودون عن سُكَّانَ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ، رَفَعَهَا إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ، قَالَ لإسماعيل: أَبْغِنِي حَجَرًا أَجَعَلُهُ لِلنَّاسِ آيَةً. فَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ [عليه السلام] ورجع ولم يأته بشيء، وَوَجَدَ الرُّكْنَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لك هذا؟ قال: جاء بِهِ مَنْ لَمْ يَكِلْنِي إِلَى حَجَرِكَ، جَاءَ به جبريل فوضعه إبراهيم فِي مَوْضِعِهِ هَذَا، فَأَنَارَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَيَمِينًا وشمالاً، فحرم الله الحرم حيث انتهى نور الركن وإشرافه مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
والرابع: أن آدم عليه السلام لما أهبط إِلَى الْأَرْضِ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فاستعاذ بالله تعالى فأرسل الله تعالى مَلائِكَةً، حَفُّوا بِمَكَّةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَوَقَفُوا حَوَالَيْهَا، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَمَ مِنْ حَيْثُ كانت الملائكة وقفت. قال عبد الله بن عمر: وَالْحَرَمُ حَرَامٌ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كانوا يرون أن العرش على الحرم.
باب ذكر تعظيم حرمة الحرم
باب ذكر تعظيم حرمة الحرم قال الله عز وجل: {ومن دخله كان آمناً} لَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ فِيمَنْ جَنَى قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ، إِلا أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَنَى فِيهِ لا يُؤَمَّنُ لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَرَدَّ الْأَمَانَ، فَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ فِيمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ. وَقَدِ اختلف الفقهاء في ذلك: فقال أحمد: رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: إِذَا قَتَلَ، أَوْ قَطَعَ يَدًّا أَوْ أَتَى حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَهُ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَكِنْ، لا يُبَايَعْ وَلا يُشَارَى وَلا يُؤَاكَلْ حَتَّى يَخْرُجَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذا قتل ثم لجأ، لم يُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فإنه يقام عليه الحد وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: يقام عليه الحد في النفس وفيما دُونَ النَّفْسِ، وَفِي الْآيَةِ دَلَيلٌ عَلَى صِحْةِ مَذْهَبِنَا، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحَيَوَانَ البهيم
تعظيم الحرم، فإن الظبي يجتمع مع الكلب فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا خَرَجَا عَنْهُ؛ تَنَافَرَا. وَإِنَّ الطير لا يعلوا على البيت إلا أن يستشفي مريضاً به.
أبواب الإحرام
أبواب الإحرام
باب المواقيت
أَبْوَابُ الْإِحَرَامِ بَابُ الْمَوَاقِيتِ الْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: الْجُحْفَةُ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. وَالثَّالِثُ: يَلَمْلَمُ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَالرَّابِعُ: قَرْنٌ (بِتَسْكِينِ الرَّاءِ) , وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدَ، وَرُبَّمَا فَتَحَ رَاءَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لا يُعْرَفُ. وَالْخَامِسُ: ذَاتُ عِرْقٍ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَشْرِقِ. 85- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدَ قَرْنًا، وَإِنَّهُ جورٌ عَنْ طَرِيقِنَا، فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَأَتِيَ قَرْنًا، شُقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. قَالَ: فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. وَأَرَادَ بِالْمِصْرَيْنِ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي حَدَّ ذَاتَ عِرْقٍ، وَإِنَّمَا حَدَّهَا لَهُمْ، لِأَنَّهَا حذو قرن [أي] تحاذيها.
فصل
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: 86- فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ [عَائِشَةَ] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ. 87- وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أبي داود، أنه قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ وَقَّتَهَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتِ الْعِرَاقُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا: 88- مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) من حديث ابن عمر وابن عباس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الْأَرْبَعَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ. فَصْلٌ فَهَذَهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَمَنْ مَرَّ عَلَيْهَا ممن يريد النسك، لزمه ألا يجاوزها حتى يحرم، فإن جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ، ثُمَّ أَحْرَمَ دُونَهُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ سَوَاءٌ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ أو لم يعد.
باب في التمتع والقران والإفراد
باب في التمتع والقران والإفراد لا خلاف في جواز التمتع والقران والإفراد. و (التمتع) : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَيَدْخُلَ مَكَّةَ وَيَطُوفَ وَيَسْعَى، وَيَفْعَلَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّلَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى عَرَفَةَ وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ الحج. و (الإفراد) : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ يَقِفَ بِعَرَفَةَ وَيَفْعَلَ أَفْعَالَ الْحَجِّ. فَإِذَا تَحَلَّلَ، خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَفَعَلَ أَفْعَالَهَا. و (القران) : أَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَيَطُوفَ لهما ويسعى، وكله جَائِزٌ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذلك: فمذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] .
وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ فِي آخَرِينَ، وهو قول الشافعي القديم، غير أنهم ما ينصرونه. وعند أبي حنفية أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُدَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ. وَمَنْبَعُ الْخِلافِ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: اخْتَلافُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ، هَلْ تمتع، أو قرن، أو أفرد؟ فإنه يجري الْأَفْضَلَ فِي فَرْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِرَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْأَصْلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْأَصْلُ الْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ رُخْصَةٌ. وَالثَّالِثُ: الْبَحْثُ عَنْ دَمِ التَّمَتُّعِ، فَعِنْدَنَا أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ لا دَمُ جُبْرَانٍ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ دم القران دم نسك، إِلا أَنَّهُ يَقُولُ: الْقِرَانُ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْأَفْعَالِ وَالتَّعَبُّدِ، لَأَنَّ عِنْدَهُ لا يُجِزِئُ الْقَارِنَ طواف واحد ولا سعي واحد، وعندنا يجزئه. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الدَّمَ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دَمُ جُبْرَانٍ، وَالْعِبَادَةُ الْمَجْبُورَةُ أَنْقَصُ مِنَ الَّتِي لا تَفْتَقِرُ إِلَى جَبْرٍ. 89- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
فصل
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ. فَصْلٌ وَلا يجب دم التمتع إلا بشرائط: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمَرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَحُجَّ من سَنَتِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَيَنْوِيَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ مُتَمَتَّعٌ، وَلا يَكُونُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلا يُسَافِرُ بَيْنَ الحج والعمرة سفراً يقصر فِي مِثْلِهِ الصَّلاةُ.
باب آداب المحرم وما يلزمه
بَابُ آدَابِ الْمُحْرِمِ وَمَا يَلْزَمُهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحَرَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَنَظَّفَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، يَتَيَمَّمْ وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الْمَخِيطِ، فَيَلْبَسَ إِزَارًا وَرِدَاءً أَبْيَضَيْنِ نَظِيفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزاراً، لبس السراويل، وكذلك إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، لَبِسَ الْخُفَّيْنِ وَلا فدية عليه، وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ. فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ لإحرام، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، إِلا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَطَيَّبَ بِمَا يَبْقَى بَعْدَ الإحرام، فعليه الفدية، وشبهه أصحابه باللباس يستصحب بعد الإحرام، والفارق بينما جَمَعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرقه بِفِعْلِهِ بَيْنَ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَكَانَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ينزع اللباس، وكان يتطيب. وقال مالك: لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ، وَإِنْ فَعَلَ غَسَلَهُ، فَإِنِ اسْتَدَامَهُ، فَلا كَفَّارَةَ.
فصل
90- وفي ((الصحيحين)) من حديث عائشة [رضي الله عنها] ، قالت: طيبت رسول الله لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ. فَهَذَا حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَنَا. فَصْلٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُحْرِمُ عُقَيْبَهُمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، أَحْرَمَ. والصحيح عن أحمد الإحرام عُقَيْبَ الصَّلاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَ أَنَّ الْإِحَرَامَ عُقَيْبَ الصَّلاةِ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الرَّاحِلَةُ وَإِذَا بَدَأَ بِالسَّيْرِ سَوَاءٌ. فَصْلٌ وَيَنْوِي الْإِحْرَامَ بِقَلْبِهِ ثم يلبي، فَإِنْ لَبَّى أَوْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا أَحَرَمَ بِهِ وَيَشْتَرِطُ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ النُّسُكَ الْفُلانِي، فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْ مِنِّي، وَمَحَلِّي حَيْثُ حَبِسْتَنِي. فَعِنْدَنَا وَعِندَ الشَّافِعِيِّ أن المحرم إذا اشتراط فِي ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ أَنَّهُ إِذَا مَرِضَ تَحَلَّلَ، جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ عِنْدَ وَجُودِ الشَّرْطِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ اشْتِرَاطَهُ لا تأثير له، فأبو حنيفة يقول: لا يحل إلا بالهدي، ومالك يقول: يَسْتَفِيدُ التَّحَلُّلَ أَصْلا. وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا: 91- مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عائشة [رضي الله عَنْهَا] ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لها: ((لعلك أردت الحج؟)) . قالت: والله ما أجدني إِلا وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: ((حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي)) . 92- وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَزَادَ فِيهِ: ((فَإِنَّ ذَلِكَ لَكِ)) . وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْمَرَضَ لا يُبِيحُ لِلْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ، إِلا أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَطَ خِلافًا لِأَبِي حنيفة فِي قَوْلِهِ: الْمَرَضُ يُبِيحُ التَّحَلُّلَ، وَلَوْ كَانَ يبيح،
لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ هَذَهِ الْمَرْأَةَ بِالاشْتِرَاطِ مَعْنًى. فَإِنْ قَالُوا: فَائِدَةُ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَنَا أَنْ لا يلزمها الهدي، ولو لم يشترط، لَزِمَهَا. قُلْنَا: الْحُكْمُ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّرْطِ التَّحَلُّلُ، ولم يجر للهدي ذكر، ثُمَّ عِنْدَكَمْ يَجُوزُ لَهَا التَّحَلُّلُ قَبْلَ الْهَدْيِ، فَمَا قُلْتُمْ بِالْحَدِيثِ؟
باب ذكر التلبية
بَابُ ذِكْرِ التَّلْبِيَةِ أَصْلُ التَّلْبِيَةِ الْإِجَابَةُ لِنِدَاءِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ. 93- أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد القزاز، قال: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا رضوان الصيدلاني، قال: ثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: ثنا يُونُسُ بْنُ بَكِيرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لما قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ [عَلَيْهِ السَّلامُ] : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} . قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَجِيبُوا رَبَّكُمْ. فَصَعِدَ الجبل فنادى: أَيُّهَا النَّاسُ! أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبيك، فكان هذا أول التلبية. 94- وبه ثنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يقول: لما أمر الله إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج، استقبل المشرق فدعى إِلَى اللَّهِ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ المغرب
فصل
فدعى إِلَى اللَّهِ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الشَّامَ، فَدَعَا إِلَى اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْيَمَنَ فَدَعَا إِلَى الله [عز وجل] ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. فَصْلٌ وَالتَّلْبِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ أحمد والشافعي. قال أبو حنيفة: التَّلْبِيَةُ وَاجِبَةٌ فِي ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ بِتَرْكِ التَّلْبِيَةِ دَمٌ. فَصْلٌ فَأَمَّا لَفْظُ التَّلْبِيَةِ؛ فَهُوَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. فصل ويستحب للرجل رفع الصوت بالتلبية.
فصل
95- أخبرنا عبد الأول، قال: أخبرنا الداوودي، قال: أخبرنا ابن حمويه، قال: ثنا إبراهيم بن خزيم، قال: ثنا عبد بن حميد، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عن خالد بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل وقال لِي: مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهُ من شعار الحج)) . فصل ولا يستحب تكرير التلبية في حالة واحدة، وتسن التَّلْبِيَةُ فِي حَقِّ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ عُقَيْبَ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا عَلا نَشَزًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَإِذَا لَقِيَ رَكْبًا، وَفِي إِقْبَالِ الْلَيْلِ وَالنَّهَارِ وَبِالْأَسْحَارِ، وَإِذَا سَمِعَ مُلَبِّيًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا، وَفِي جَمِيعِ مَسَاجِدِ الْحَرَمِ وَبِقَاعِهِ.
وَلا يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ التَّلْبِيَةِ فِي الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِ الأمصار، إنما هو مسنون في الصحاري والقفار، وقال مالك: يُكْرَهُ إِظْهَارُهَا فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والشافعي: يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا فِي الْأَمْصَارِ وَغَيْرِهَا.
باب ما يتوقاه المحرم وما يباح له
بَابُ مَا يَتَوَقَّاهُ الْمُحْرِمُ وَمَا يُبَاحُ لَهُ فَصْلٌ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ: لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَشَمُّ الطِّيبِ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ، وَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ، وَدُونَ الفرج، والمباشرة لشهوة. فَصْلٌ فَإِنْ لَبِسَ نَاسِيًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا فِدْيَةَ فِي النِّسْيَانِ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلَهُ، فَإِنْ لَبِسَ بَعْضَ يَوْمٍ، وَجَبَتْ، وَقَالَ أبو حنيفة: لا تَجِبُ، بَلْ تَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ. فَصْلٌ وَلا يَجُوزُ لَهُ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهَلْ يجوز له تغطية وجهه؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، وهي قول أبي حنيفة ومالك، ولا يجوز له تَظْلِيلُ الْمَحْمَلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ ظُلِّلَ، فِفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ.
فصل
وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز وَلا فِدْيَةَ، فَإِنْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا، أَوْ نَصَبَ حِيَالَهُ ثَوْبًا يَقِيهِ الشَّمْسَ وَالْبَرْدَ، أو جلس في خيمة أو ظِلِّ شَجَرَةٍ أَوْ تَحْتَ سَقْفٍ؛ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ طَيَّنَ رَأْسَهُ أَوْ عَصَبَهُ لِوَجَعٍ أَوْ جُرْحٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا فِيهِ دَوَاءٌ أَوْ خِرْقَةً، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. وَيَجُوزُ لِلمُحْرِمِ أَنْ يَتَّشِحَ بِالرِّدَاءِ وَالْقَمِيصِ وَلا يَعْقِدُهُ، وَيَتَّزِرُ بِالْإِزَارِ ويعقده، فإن طرح على كتفيه القباء، فعليه الفدية وإن لم يدخل يديه فِي كُمَّيْهِ، وَيَجُوزُ لَهُ لُبْسُ الْهِمْيَانَ وَيُدْخِلُ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَلا يَعْقِدُهَا، فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ، عَقَدَهَا، وَلا يَلْبَسُ الْمِنْطَقَةَ، فَإِنْ لبسها، افتدى. ويجوز للمرأة لبس القميص والسراويل وَالْخِمَارِ وَالْخُفِّ، وَلا تَلْبَسُ الْبُرْقُعَ وَلا النِّقَابَ ولا القفازين، فإن أَرَادَتْ سَتْرَ وَجْهِهَا، سَدَلَتْ عَلَيْهِ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْبَشْرَةِ، لِأَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا كَشْفُهُ، كَمَا أَنَّ إِحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ. فَصْلٌ فَإِنْ طَيَّبَ الْمُحْرِمُ بَعْضَ عُضْوٍ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وقال أبو حنيفة: لا تجب بل تلزمه صدقة، فإن تطيب ناسياً، فعليه الْفِدْيَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا فِدْيَةَ فِي النِّسْيَانِ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلَهُ.
والحناء ليس بطيب، وقال أبو حنيفة: هُوَ طِيبٌ، فَإِنْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ، فَلا فِدْيَةَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُ ثَوْبٍ مُبَخَّرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. فَأَمَّا إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا كَانَ مُطَيَّبًا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا رُشَّ عَلَيْهِ مَاءٌ فَاحَ الطِّيبُ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَإِذَا ادَّهَنَ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتِ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إن دهن رأسه أو وجهه. وَقَالَ فِي بَقِيَّةِ الْبَدَنِ: لا فِدْيَةَ، وَيَحْرُمُ عليه شم جميع الأدهان المطيبة، وأكل ما فيه طيب تظهر ريحه أو طعمه فِي فَمِهِ، وَشَمُّ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّعْفَرَانِ والورس. وهل يلزمه الْفِدْيَةُ بِشَمِّ شَيْءٍ مِنَ الرَّيَاحِينِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: وَلا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ منه الطِّيبِ كَالْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ، وَبَيْنَ مَا لا يُتَّخَذُ منه كالبرم والثمام أنه على الروايتين. وللشافعي في شم الذي لا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ قَوْلانِ، وَيَجُوزُ لَهُ شَمُّ السَّفَرَجَلِ وَالتُّفَّاحِ وَالْبَطِّيخِ وَالْأُتْرُجِّ وَالشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ، فَإِنْ مَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا
فصل
يَعْلَقُ بِيَدِهِ كَالْغَالِيَةِ وَمَاءِ الْوَردِ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ مَسَّ مَا لا يَعْلَقُ بِيَدِهِ كَإِقْطَاعِ الْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ، فَلا فِدْيَةَ، فَأَمَّا شَمُّ ذلك، ففيه الفدية لأنه كذلك يَسْتَعْمَلُ بِخِلافِ مَا لَوْ شَمَّ الْعُودَ فَإِنَّهُ لا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ قصداً لِشَمِّ الطِّيبِ أَوْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي وَقْتِ تطيبها لِشَمِّ طِيبِهَا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَصْلٌ فَإِنْ حَلَقَ ثَلاثَ شَعَرَاتٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي أَرْبَعِ شعراتٍ دَمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يَجِبُ الدَّمُ إِلا فِي حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ فَصَاعِدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ فِيمَا يَحْصُلُ بِزَوَالِهِ إماطة الأذى، فإن حلق ما دون الثلث، ففي كل شعر مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: ثُلُثُ دَمٍ، وَالثَّانِي: مُدٌّ، وَالثَالِثُ: دِرْهَمٌ، فَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرُمُ شَعْرَ حلالٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: يلزمه صَدَقَةٌ، فَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ شَعْرَ مُحْرِمٍ بِإِذْنِهِ، فَلا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَإِنْ حَلَقَ الْحَلالُ شَعْرَ الْمُحْرِمِ نَائِمًا أَوْ مُكْرَهًا، فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى الْمَحْلُوقِ، فَإِنْ خَرَجَ فِي عينه شعر يؤلمه فأزاله أو ترك شعره، فغطى عينه فَقَصَّ مِنْهُ مَا نَزَلَ، أَوِ انْكَسَرَ ظِفْرُهُ فَقَصَّ مَا انْكَسَرَ، فَلا فِدْيَةَ، فَإِنْ قَلَعَ جلده من رأسه أو يديه وعليها شعر، فلا فدية عليه.
فصل
فصل إذا غسل المحرم رأسه بالسد والخطمى، فهل يلزمه الفدية؟ فيه روايتان: فإن قلم ثلاثة أظافير، لَزِمَهُ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا دَمَ إِلا فِي خَمْسَةِ أَظَافِيرَ مِنْ عُضْوٍ واحدٍ، وَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ، وَلا يُصْلِحُ شَعَثًا، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ لِبَرْدٍ، أَوْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ لِحَرٍّ، أَوْ إِلَى الطِّيبِ، أو الحلق لمرض، أو ذبح الصيد للجماعة، جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. فَصْلٌ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ عَقْدَ نِكَاحٍ لا لِنَفْسِهِ وَلا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَهُ لِغَيْرِهِ، وقال أبو حنيفة: يصح في الحاليين. وَهَلْ تَصِحُّ مُرَاجَعَتُهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِالتَّصْحِيحِ قَالَ مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَتُكْرَهُ لَهُ الْخِطْبَةُ وَالشَهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ فِي الفرج ودونه لشهوة وَالاسْتِمْنَاءُ، فَإِنْ فَعَلَ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ جَامَعَ قبل الوقوف، وجبت عليه بدنة.
فصل
وقال أبو حنيفة: تجب عليه شاة، فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عليه بدنة ولا يفسد حجه، فَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَفْسُدْ حجه، وهل تلزمه بدنة أم شَاةٌ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَيَسْتَأْنِفُ إِحْرَامًا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَيَأْتِي بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَبِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَبَقِيَّةِ أَفْعَالِ الحج، وهذا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لا يحتاج إلى استئناف إحرام وَلا عُمْرَةٍ، وَإِنَّمَا نَأْمُرُهُ نَحْنُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ يُؤْتَى بِهِ فِي الْإِحْرَامِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ إِحْرَامٌ صَحِيحٌ كَالْوُقُوفِ. فَصْلٌ فإن كرر المحرم النظر فأنزل، لزمه دم في مذهب أحمد رضي الله عنه، وَهَلْ ذَلِكَ الدَّمُ بَدَنَةٌ أَمْ شَاةٌ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لا دَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَطِئَ نَاسِيًا، فَسَدَ حجه، وللشافعي قولان: أحدهما لا يفسد، [وفي] اللواط وأتيان البهيمة في موضع المكروه يفسد الحج، وقال أبو حنيفة: لا يفسد، فإن أفسد العمرة بالوطئ، لزمه شاة.
فصل
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ، فَإِنْ وَطِئَ الْقَارِنُ، لزمه دم واحد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دَمَانِ، فَإِنْ أَفْسَدَ الْحَجَّ أو العمرة، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسَدِهِمَا. وَقَالَ دَاوُدُ: يخرج منها كَمَا يَخْرُجُ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. فَصْلٌ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ، فَإِنْ صَادَ صَيْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ وَعَلَى مُلْكِهِ صَيْدٌ، لَمْ يَزُلْ مُلْكُهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ من الْمُشَاهِدَةِ دُونَ الْحَكَمِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَزُولُ مُلْكُهُ عَنْهُ، فَإِنْ أَدَخَلَ الْمُحِلُّ صيداً إِلَى الْحَرَمِ، لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ من النعم، فيجب فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ وَالْإِبِلِ وَالْوَعْلِ وَالْثَيْتَلِ بَقَرَةٌ، وَفِي الضَّبُعِ وَالظَّبْيِ كَبْشٌ، وَفِي الْغَزَالِ وَالثَّعْلَبِ عَنْزٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عِنَاقٌ، وَالْعِنَاقُ: اسْمٌ لَهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ جَذْعَةً، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ وَهِيَ الْعِنَاقُ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي الضَّبِ جَدْيٌ، وَفِي الصَّغِيرِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ صَغِيرٌ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ، فَإِنْ كَانَ
الصَّيدُ لا مِثْلَ لَهُ كَالْعَصَافِيرِ وَالْقَنَابِرِ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ، إِلا الْحَمَامَ وَمَا عَبَّ وَهَدَرَ مِثْلَ الفواخت والقطا وَالْقَبْجِ، فَفِي الْوَاحِدَةِ شَاةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ الْكُلَّ بِقِيمَتِهِ، فَإِنْ جَنَى عَلَى صَيْدٍ، ضَمِنَهُ بِمَا نَقَصَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: لا يَضْمَنُهُ، فَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا خَطَأً، فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ رِوَايَتَانِ، فَإِنْ دَلَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَقَالَ مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لا يلزمه، فإن اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي صَيْدٍ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَمَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ كَالسَّبُعِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ، إِلا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الاتِفَاقُ عَلَى قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ. 96- فَإِنَّهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ على المحرم في قتلهن به جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأَرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ)) . وذكر هذه الخمس قَدْ نَبَّهَ عَلَى قَتْلِ كُلِّ مُضِرٍّ، فَيَجُوزُ له أن
يقتل: الفهد، والنمر، والذئب، وَالصَّقْرَ، وَالشَّاهِينَ، وَالْبَاشَقَ، وَالزُّنْبُورَ، وَالْبَرْغُوثَ، وَالْبَقَّ، وَالْبَعُوضَ، وَالْوَزَغَ، وَالذُّبَابَ، وَالنَّمْلَ إِذَا آذَاهُ. فَأَمَّا الْقُمَّلُ والصئبان، ففي قتلهن روايتان، فإن صال الصيد عَلَى الْمُحْرِمِ، فَقَتَلَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لا جَزَاءَ، ويجب الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ، خِلافًا لِدَاوُدَ، وَإِذَا رأى المحرم صيداً على غُصْنٍ فِي الْحِلِّ وَأَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ، فَهَلْ يَضْمَنُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَيَبْقَى الضَّمَانُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ رَمَى وَهُوَ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا في الحل، فهل يضمنه؟ فيه روايتان: إحداهما: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَانِيَّةُ: لا يَضْمَنُهُ وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، فَهُوَ مَيْتَةٌ خِلافًا لِأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنْ ذَبَحَ الْحَلالُ صيداً في الحرم، فعندنا أنه ميتة أيضاً. قال أَكْثَرُ الَحْنفِيَّةِ: يُبَاحُ، فَإِنِ اضْطَرَّ الْمُحْرِمُ إِلَى أَكْلِ صَيْدٍ وميتةٍ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَأَكُلُ الصَّيْدَ وَعلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُ مَا صِيدَ لَأَجْلِهِ، وَقَالَ أبْو حَنِيفَةَ: لا يَحْرُمُ، فَإِنْ أَكَلَ، فَعِنْدَنَا أَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ خِلافًا لِأَحَدِ قَوْلَيِ الشافعي.
فصل
فَصْلٌ وَقَطْعُ شَجَرِ الْحَرَمِ مَضْمُونٌ خِلافًا لِدَاوُدَ، وتضمن الشَجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِالْقِيمَةِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَرْعَى حَشِيشَ الْحَرَمِ خِلافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَيَجُوزُ قَطْعُ مَا أَنَبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الشَّجَرِ بِالْحَرَمِ، فَأَمَّا ما نبت بنفسه، فلا، وإن قطعه، ضمنه سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: مَا أَنْبَتَهُ النَّاسُ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ، فَلا ضَمَانَ فِي قَطْعِهِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُنْبِتُهُ النَّاسُ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ إِذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ أَنْبَتَهُ آدمي، فلا جزاء. وقال الشافعي: يَجِبُ الْجَزَاءُ بِإِتْلافِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ قَطْعُ الشجر اليابس والعوسج والشول والإذخر ولا ضمان [عليه] . فَصْلٌ فَإِنْ كَرَّرَ الْمُحْرِمُ الْمَحْظُورَ مَثْلَ أَنْ حَلَقَ ثُمَّ حَلَقَ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ أنه إِنَ كَرَّرَهُ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَبِسَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِلْبَرْدِ. وَفِي أَوْسَطِهِ لِلْحَرِّ، وَفِي آخِرِهِ لِمَرَضٍ، فَكَفَّارَاتٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ التَّكْرَارُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحَدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ، فَكَفَّارَاتٌ.
فصل
فَصْلٌ وَيُجْزِئُ فِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْجُبْرَانِ الْجِذْعُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ دَخَلَ فِي السَّابِعِ وَالثَّنِيُّ مِمَّا سواه، فالثني مِنَ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَةٌ وَقَدْ دَخَلَ في الثانية، ومن البقر ما له ثلاثة أعوام وقد دخل في الرابع، وَمِنَ الْإِبِلِ مَا لَهُ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ وَقَدْ دخل في السادس. فَصْلٌ وَمَا وَجَبَ مِنَ الدِّمَاءِ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ شَمِّ الطِّيبِ ولبس المخيط، جاز نَحْرُهُ حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهُ مِنْ حِلٍّ أَوْ حرم، وكذلك الهدي الواجب بالإحصار في رواية، وفي رواية أن الواجب بالإحصار يختص الحرم. وأما ما وجب من الدِّمَاءِ لِتَرْكِ نُسُكٍ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْهَدْيِ الْمَنْذُورِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ نَحْرُهُ وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْحَرَمِ، وَلا يَأْكُلُ مِنَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِحْرَامِ إِلا مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَيَأْكُلُ مِنَ التَّطَوُّعِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ في أصح الروايتين وهي قول أبي حنيفة، والثانية: لا يؤكل من النذر ولا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وقال مالك: يَأْكُلُ مِنَ الْهَدْيِ كُلِّهِ إِلا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يُؤْكَلُ إِلا مِنَ التَّطَوُّعِ.
باب الإشارة في الإحرام والتلبية وأفعال الحج
بَابٌ الْإِشَارَةُ فِي الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةُ وَأَفْعَالُ الْحَجِّ يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَصَوَّرَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَعِنْدَ تَجَرُّدِهِ مِنَ الْمَخِيطِ لُبْسَ الْكَفَنِ، وَعِنْدَ التَّلْبِيَةِ نِدَاءَ الْحَقِّ، وَمَنْ تَلَمَّحَ الْعِبَادَاتِ بعين التفهم، علم أَنَّهَا مُلازَمَةُ رَسْمٍ يَدُلُّ عَلَى بَاطِنٍ مَقْصُودُهُ تَزْكِيَّةُ النَّفْسِ وَإِصْلاحُ الْقَلْبِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّعَبُّدِ هو صرف القلب إلى الرب عز وجل، فَلَمَّا كَانَ طَبْعُ الْآدَمِيِّ يَنْبُو عَنِ التَّعَبُّدِ شغلاً بالهوى، وظفت له وَظَائِفَ تُدَرِّجُهُ لِيَتَرَقَّى مِنَ الْفَرَائِضِ إِلَى الْفَضَائِلِ، واعتبر بجميع العبادات، منها: الحج فإنه إنما وظف لِلتَدْرِيجِ إِلَى حَمْلِ الْمَشَاقِّ، فَنَبَّهَ الْمُسَافِرَ عِنْدَ ترك الأهل على قطع العلائق الشاغلة، لينفرد بخدمة الحق، فيفكر في ذلك، وانظر بأي بدن تقصد وَبِأَيِّ بَاطِنٍ تَحْضُرُ، فَإِنَّهُ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَإِذَا أَمَرَكَ الْحَزْمُ بِإِكْثَارِ الزَّادِ خَوْفَ العوز، فاعلم أن سفر القيامة أطول، وعطش الحشر أَقْطَعُ، وَتَذَكَّرْ بِقَطْعِ الْعِقَابِ الْأَهَوَالَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْقِفِ (مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ) وَبِالتَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ
تمسك المذنب بذيل الملك، وبين ما يسعى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الْفِرَارَ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ حَجُّ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَخَايَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، تَجَدَّدَ لَهُمُ الْقَلَقُ هَيْبَةً لِلْمَخْدُومِ وَخَوْفًا مِنَ الرَّدِّ.
باب ذكر أحوال جرت للخائفين من المحرمين
بَابٌ ذِكْرُ أَحْوَالٍ جَرَتْ لِلْخَائِفِينَ مِنَ الْمُحْرِمِينَ حَجَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا أَحْرَمَ وَاسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَارْتَعَدَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ أن يلبي، فقيل: ما لك؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ يَقُولَ لِي: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، فَلَمَّا لَبَّى، غُشِّيَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا حَجَّ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، فَأَرَادَ أَنْ يُلَبِّيَ، تَغَيَّرَ وجهه، فقيل: ما لك يا ابن رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُلَبِّيَ، فَأَخَافُ أَنْ أَسْمَعَ غَيْرَ الْجَوَابِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَوَارِيِّ: كُنْتُ مَعَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، فَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى سِرْنَا ميلاً، ثم غشي عليه وأفاق وَقَالَ: يَا أَحْمَدُ! أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى موسى أن ظَلَمَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا يَذْكُرُونِي، فَإِنِّي أَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَنِي مِنْهُمْ بِاللَّعْنَةِ، وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ، بَلَغَنِيَ أَنَّ مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، ثُمَّ لَبَّى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يديك، فما نأمن أَنْ يُقَالَ لَنَا ذَلِكَ. 97- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن حبيب، قال: أخبرنا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي صادق، قالا: ثنا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ الدَّيْنَوَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْجَلاءِ يَقُولُ: كُنْتُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَشَابٌّ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا رَبِّ! أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبيك، فأخشى أن تجيبني بلا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ (يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا) ، ثُمَّ يقول: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ وَخَرَجَتْ رُوحُهُ.
باب من مات في طريق مكة محرما أو غير محرم
بَابٌ مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ مُحْرِمًا أو غير محرم 98- أخبرنا يحيى بن علي، قال: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا أبو الحسن بن الجنيدي، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا محمد بن بكار، قال قيس بن الربيع: حدثنا عن سالم الأفطس، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلا عَرَضَتْ لَهُ نَاقَتُهُ، فَوَقَصَتْهُ، فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن يغسل بماء وسدرٍ، ويكفن فِي ثَوْبَيْهِ وَلا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلا يُغَطُّوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعثُ يَومَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِحْرَامِ لا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ: يَنْقَطِعُ. وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا: 99- أَخْبَرَنَا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا محمد بن أحمد المقرئ، قال: أخبرنا عبد الملك بن محمد بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: ثنا محمد بن السماك، عن عائذ بن نسير، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ مَاتَ فِي هَذَا الطَّرِيقَ مِنْ حَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ، لَمْ يُعْرَضْ، وَلَمْ يُحَاسَبْ، وَقِيلَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ)) . 100- وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ ضَمَانُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، من مات منهم أدخله الله الجنة، ومن قبله، قبله مغفورا له)) .
باب فضائل العشر
بَابُ فَضَائِلِ الْعَشْرِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {والفجر. وليالٍ عشرٍ} . (الْفَجْرُ) : انْفِجَارُ الظُّلْمَةِ عَنِ الصُّبْحِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: هو فَجْرُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ مجاهد: فجر يوم النحر خاصة. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: الليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وقوله [عز وجل] : {والشفع والوتر} ، في كسر واو الوتر وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، فَالْكَسْرُ: لِقُرَيْشٍ وَتَمِيمٍ وَأَسَدٍ، وَالْفَتْحُ: لِأَهْلِ الْحِجَازِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَلِلمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ عِشْرُونَ قَوْلا: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ لَيْلَةُ النَّحْرِ. 101- رواه أبو أيوب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عرفة. 102- رواه جابر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ: الصَّلاةُ مِنْهَا الشَّفْعُ وَمِنْهَا الوتر. 103- رواه عمران بن حصين عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الشَّفْعَ صَلاةُ الْغَدَاةِ وَالْوَتْرَ صَلاةُ الْمَغْرِبِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الشَّفْعَ الْخَلْقُ كُلُّهُ، وَالْوَتْرَ اللَّهُ تعالى. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الوَتْرَ آدَمُ شُفِعَ بِزَوْجِهِ. وَالْأَقْوَالُ الثلاثة عن ابن عباس. والسابع: الشفع يومان بعد يوم النَّحْرِ وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَالْوَتْرَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وهو النفر الأخير، قاله ابن الزبير.
وَالثَّامِنُ: الشَّفْعُ الرَّكْعَتَانِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَالْوَتْرَ الثَّالِثَةُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الْعَدَدَ مِنْهُ شفع ومنه وتر، قاله الحسن. والعاشر: أنه الْخَلْقَ كُلَّهُ مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ، قَالَهُ ابن زيد. والحادي عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْوَتْرَ أيام منىي الثلاثة، قاله الضحاك. والثاني عشر: أن الشفع هو الله تعالى لقوله: {إلا هو رابعهم} ، والوتر هو الله تعالى، لقوله: {قل هو الله أحدٌ} ، قاله سفيان بن عيينة. والثالث عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْوَتْرَ اللَّهُ عز وجل، قاله مقاتل بن سليمان. والرابع عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ الْأَيَّامُ وَالْلَيَالِي، وَالْوَتْرَ الْيَوْمُ الذي لا ليلة بعده، قاله مقاتل بن حيان. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ دَرَجَاتُ الْجِنَانِ، لِأَنَّهَا ثَمَانٍ، وَالْوَتْرُ دَرَكَاتُ النَّارِ، لِأَنَّهَا سَبْعٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ. وَالسَّادِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، والوتر البيت.
وَالسَّابِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ مَسْجَدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْوَتْرُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَالثَّامِنَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْقِرَانُ فِي الْحَجِّ، وَالْوَتْرُ الْإِفْرَادُ. وَالتَّاسِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْعِبَادَاتُ المتكررة كالصلاة والزكاة والوتر والحج، حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْأَرْبَعَةَ الثَّعَلَبِيُّ. وَالْعِشْرُونَ: الشَّفْعُ تضاد أوصاف المخلوقين: من عِزٍّ وَذُلٍّ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَحَيَاةٍ وموت. والوتر: انفراد صفة اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ عِزٌّ بِلا ذُلٍّ، وَقُدْرَةٌ بلا عجز، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الوراق. قوله: {والليل إذا يسر} : قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرَمَةُ: هِيَ لَيْلَةُ جَمْعٍ. 104- أَخْبَرَنَا هبة الله بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ (يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ)) ) .
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلا الْجِهَادُ فِي سبيل الله عز وجل؟ قَالَ: ((وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. 105- أَخْبَرَنَا علي بن عبيد الله الفقيه، قال: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا ابن مردك، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: ثنا أحمد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا أصبغ، قال: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الَّلهِ وَلا أَعْظَمُ مَنْزَلةً مِنْ خَيْرِ عَمَلٍ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى)) . فَقِيلَ: يَا رسول الله! وَلا مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؟ قَالَ: ((وَلا مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، إِلا مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بنفسه)) . 106- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن علي بن أبي عثمان، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: أخبرنا حمزة بن محمد، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا يوسف بن موسى، قال: ثنا محمد بن فضيل، قال: ثنا
يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ التَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ)) . 107- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن علي، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: ثنا أحمد بن الفضل بن خزيمة، قال: ثنا هبة الله بن أحمد الدورقي، قال: ثنا فضيل بن الحسين الجحدري، قال: ثنا عاصم بن هلال، قال: ثنا أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله [الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ)) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ((إِلا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ)) . 108- أَخْبَرَنَا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن علي، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: أخبرنا حمزة بن محمد، قال: ثنا أبو بكر القرشي،
قال: ثنا محمد بن رفيع القيسي، وأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو عمر بن مهدي، قال: أخبرنا محمد بن مخلد العطار، قال: ثنا عمر بن شبة، قال: ثنا مسعود بن واصل، والمعنى واحد، قال: ثنا النَّهَّاسُ بْنُ قَهْمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ذَكَرَ أَن ّالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامٌ أحب إلى الله أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، يعدل صيام كل مِنْهَا صِيَامَ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا كقيام ليلة القدر)) . 109- أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا علي بن محمد بن أبي طيب، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: ثنا ابن عبدك، قال: ثنا أحمد بن محمد الرازي، قال: ثنا عثمان بن هارون، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا ابن أبي عمر المكي، قال: ثنا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ يَعْدُلُ صِيَامَ سَنَةٍ)) .
110- أخبرنا إسماعيل بن أبي بكر، قال: أخبرنا ابن أبي عثمان، قال: ثنا ابن رزقويه، قال: ثنا حمزة بن محمد، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا شجاع بن مخلد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا خالد، قال: ثنا أَبُو عُثْمَانَ، قَالَ: كَانُوا يُفَضِّلُونَ ثلاثَ عَشَرَاتٍ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ من شهر رمضان، والعشر الأول من المحرم. 111- وبه حدثنا القرشي، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَا مِنَ الشهور شهر أَعْظَمُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. 112- أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا محمد بن عبيد الله الحافظ، قال: ثنا الحسين بن علي الحافظ، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الدينوري، قال: حدثني العباس بن الوليد الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
((ما من أيام أفضل عند الله [عز وجل] ولا العمل فيهن أَحَبُّ إِلَى الَلهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، أَيَّامِ العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير، فإنها أيام تهليل وتكبير وَذِكْرَ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ يَعْدِلُ بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَالْعَمَلُ فِيهِنَّ يُضَاعَفُ بِسَبْعِ مئة ضعف)) . 113- أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ وَأَبُو الْحَسيَنِ بْنُ الطيوري وأبو طاهر الباقلاني، قالوا: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان العباداني، قال: ثنا محمد بن عبدة القاضي، قال: حدثني إسحاق بن وهب، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُحْرِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] تَقُولُ: كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُحِبُّ السَّمَاعَ (يَعْنِي: الْغِنَاءَ) ، فَكَانَ إِذَا أَهَلَّ هِلالُ ذِي الْحِجَّةِ، أَصْبَحَ صَائِمًا فَاتَّصَلَ الْحَدِيثُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْضَرَ
الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا حَمَلَكَ عَلَى صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ؟)) . قَالَ: يَا رِسُولَ اللَّهِ! إِنَّهَا أَيَّامُ الْمَشَاعِرِ وَأَيَّامُ الْحَجِّ، فَأَحْبَبَتُ أَنْ يُشْرِكَنِي اللَّهُ عَزَّ جل فِي دُعَائِهِمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَكَ بِعَدَدِ كُلِّ يَوْمٍ تَصُومُهُ عتق مئة رقبة، ومئة بدنة تهديها، ومئة فرس يحمل عليها في سبيل الله تعالى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَلَكَ عِتْقُ أَلْفِ رَقَبَةٍ، وَأَلْفُ بَدَنَةٍ تُهْدِيهَا، وَأَلْفُ فَرَسٍ تَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَلَكَ عِتْقُ أَلْفَيْ رَقَبَةٍ، وألفي بدنة تهديها، وألفي فرس تحمل عليها في سبيل الله، وصيام سنة قبلها وسنة بعدها)) . هكذا الإسناد في هذه الرواية. 114- وقد أخبرناه عبد الوهاب وابن ناصر، قالا: أخبرنا علي بن محمد بن الخطيب، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: ثنا عبد الصمد بن علي، قال: ثنا أبو مسعود الحارثي، قال: ثنا إسحاق بن وهب، قال: ثنا منصور بن المهاجر، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُحْرِمِ، فَذَكَرَهُ وَهُوَ أَشْبَهُ.
115- أخبرنا المبارك بن علي، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: أخبرنا أبو الحسن الحمامي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن الصواف، قال: ثنا محمد بن عثمان، قال: ثنا أبي، قال: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: اخْتَارَ الله الزمان، فأحب الزمان إلى الله تعالى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَاخْتَارَ الْأَشْهُرَ، فَأَحَبُّ الْأَشْهُرِ إِلَى الله ذُو الْحِجَّةِ، وَأَحَبُّ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى اللَّهِ العشر الأول.
باب ذكر ليلة التروية ويوم التروية
بَابُ ذِكْرِ لَيْلَةِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ 116- أَنْبَأَنَا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أبو سعيد الكنجروذي، قال: أخبرنا أبو سعيد البصري، قال: أخبرنا محمد بن إدريس، قال: أخبرنا سويد بن سعيد، قال: ثنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جبل [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحْيَا الْلَيَالِيَ الْأَرْبَعَ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ، وَلَيْلَةَ عرفة، وليلة النحر، وليلة الفطر)) . 117- أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا علي بن محمد الأنباري، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: أخبرنا جعفر بن محمد ابن بنت حاتم، قال: ثنا أحمد بن محمد بن حميد المقرئ، قال: ثنا أبو بلال الأشعري، قال: ثنا
علي بن علي المجيري عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَامَ العشر، فله بكل يوم صوم شَهْرٌ، وَلَهُ بِصَوْمِ التَّرْوِيَةِ سَنَةٌ، وَلَهُ بِصَوْمِ عَرَفَةَ سَنَتَانِ)) . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قبله ثواب صوم [يوم] التروية. 118-[و] أيضاً به قرأت على محمد بن أبي منصور، عن الحسن بن أحمد الفقيه، قال: ثنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: ثنا عمر بن أحمد، قال: ثنا أحمد بن نصر بن طالب، قال: ثنا أحمد بن إسماعيل بن شكاب، قال: ثنا المعافى بن سليمان، قال: ثنا موسى بن أعين، عن إسحاق (يعني: ابن رَاشِدٍ) ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: إِنَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سُمِّيَّ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، لِأَنَّ عَرَفَاتٍ لَمْ يَكُنْ لها ماء، فكانوا يتروون من الماء إليها.
أبواب يوم عرفة
أبواب يوم عرفة
باب في معنى هذه التسمية
أبواب يوم عرفة باب في معنى هذه التسمية [قد] اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ آدم أُهْبِطَ بِالْهِنْدِ، وَأُهْبِطَتْ حَوَّاءُ بِجَدَّةَ، فَتَعَارَفَا عِنْدَ أرض عرفة، فسميت لذلك. والثاني: لأن جِبْرِيلَ [عَلَيْهِ السَّلامُ] كَانَ يُرِي إِبْرَاهِيمَ [عَلَيْهِ السَّلامُ] الْمَنَاسِكَ فَيَقُولُ: عَرَفْتَ، فَسُمِّيَتْ لِذَلِكَ.
باب ذكر ليلة عرفة
بَابُ ذِكْرِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ 119- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أبي منصور، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد، قال: ثنا محمد بن المظفر الحافظ، قال: ثنا أحمد بن كعب، قال: حدثني محمد بن عبد الوهاب، قال: ثنا سعيد بن عيسى، عن معن، قال: ثنا مالك، عن هشام، عن عمرة، عن عائشة، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((يفتح الله الْخَيْرُ فِي أَرْبَعِ ليالٍ سَحًّا: الْأَضْحَى، وَالْفِطْرِ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ عَرَفَةَ إِلَى الأذان)) .
باب ذكر فضائل يوم عرفة
بَابُ ذِكْرِ فَضَائِلِ يَوْمِ عَرَفَةَ 120- أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأول بن عيسى، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداوودي، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، قال: أخبرنا إبراهيم بن خزيم، قال: ثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ محمد، قال: الحسن بن علي قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي واللفظ له، قالا: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً؟ فقال: وأي آية هي؟
قَالَ: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عليكم نعمتي [ورضيت لكم الإسلام ديناً] } . فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. زَادَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ نَزَلَتْ على رسول الله بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحَجَّةَ الَّتِي حَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِوَاهَا. وقد قيل: إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة، غُفِرَ لِكُلِّ أَهْلِ عَرَفَةَ.
باب ذكر الوقوف بعرفة
بَابُ ذِكْرِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ زَمَانُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى وَقَتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النحر، وأي وَقْتٍ حَصَّلَ بِعَرَفَةَ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ، فَإِنْ وَقَفَ نَهَارًا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ دم.
باب في كثرة العتق والغفران يوم عرفة
بَابٌ فِي كَثْرَةِ الْعِتْقِ وَالْغُفْرَانِ يَوْمَ عَرَفَةَ 121- أخبرنا أبو الحسين الأنصاري، قال: أخبرنا علي بن عبد الله النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الغافر بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن عيسى بن عمرويه، قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال: ثنا مسلم بن الحجاج، قال: ثنا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالا: ثنا ابن وهب؛ قال: أخبرني مخرمة بن بكير. 122- ح. وأخبرناه عالياً سعيد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو القاسم بن البسري، قال: ثنا المخلص، قال: ثنا يحيى بن محمد، قال: ثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن كبير، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة)) .
زاد مسلم: ((فيقول: ما أَرَادَ هَؤُلاءِ؟)) . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. 123- أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن علي بن أبي عثمان، قال: ثنا ابن رزقويه، قال: ثنا حمزة بن محمد، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا أبو كريب، قال: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ مَرْزُوقٍ مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، ينزل الله تعالى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي: أَتَوْنِي شُعُثًا غُبُرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّي قَدْ غَفَرْتُ لهم. فتقول الملائكة: فيهم فلان وَفُلانَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنْ يوم عرفة)) .
124- وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابر، فيه: ((ولا يغفر لمختال)) . 125- وبالإسناد ثنا القرشي، قال: ثنا إسحاق بن بهلول، وأخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: ثنا علي بن محمد بن لؤلؤ، قال: ثنا عمر بن محمد القافلاني، قال: ثنا محمد بن خلف، قالا: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الصَّبَّاحُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ ابْنِ عمر، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لا يَبْقَى أَحَدٌ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا غفر الله له)) . فقال رجل لأهل معرفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: ((لا، بل للناس عامة)) . 126- وبه حدثنا القرشي، قال: ثنا إسحاق بن حاتم، قال: ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، قال: أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رئي الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ وَلا أَحْقَرُ وَلا أَدْحَرُ وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلا أَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فِيهِ فَيَتَجَاوَزُ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ)) .
127- أخبرنا ابن أبي منصور، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: ثنا أبو الحسن الحمامي، قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي، قال: ثنا محمد بن عثمان، قال: ثنا عبادة بن زياد، قال: ثنا قيس، عن سعد الخفاف، عن الأصبغ، عن أبي أيوب، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يوم عرفة، فقال: ((يا أيها الناس! إن الله باهى بكم هذا اليوم، فغفر لكم عامة)) . 128- وأخبرنا به المبارك بن علي، قال: أخبرنا علي بن أحمد العلاف، قال: أخبرنا أبو الحسن الحمامي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الصواف، قال: ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا عبادة بن زياد، فذكر الحديث. وعبادة هَذَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ. 129- وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((إِذَا وَقَفْتَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَوْ كانت عليك ذنوب الناس أو مثل عَالِجٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ)) .
130- أخبرنا محمد بن محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أحمد بن المظفر والمبارك بن علي، قالا: أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمُعْتُ أَبَا بكر المفيد، قال: ثنا الحسن بن إسماعيل، قال: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: نَظَرَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إِلَى نَشِيجِ النَّاسِ وَبُكَائِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ هَؤُلاءِ صاروا إلى رجل، فسألوه دانقاً، كان يَرُدُّهُمْ؟! قِيلَ لَهُ: لا. قَالَ: وَاللَّهِ لَلْمَغْفِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنُ مِنْ إِجَابَةِ رَجُلٍ لَهُمْ بِدَانِقٍ.
باب في ذكر ثواب صائم يوم عرفة
باب في ذكر ثواب صائم يوم عرفة 131- أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا ابن النقور، وأخبرنا أحمد بن محمد الزوزني، قال: أخبرنا أبو يعلى بن الفراء، قالا: ثنا عيسى بن علي، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا كامل بن طلحة، قال: ثنا مهدي بن ميمون، قال: ثنا غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ معبد، عن أبي قتادة [رضي الله عنه] ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ صيام يوم عرفة؟ قال: ((احتسب على الله [عز وجل] أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْبَاقِيَّةَ وَالْمَاضِيَّةَ)) . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مسلم. 132- أخبرنا هبة الله بن محمد، قال: أخبرنا أبو علي التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، أَنَّ
فصل
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] وَهِيَ صَائِمَةٌ وَالْمَاءُ يُرَشُّ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: أَفْطِرِي. فَقَالَتْ: أُفْطِرُ! وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ العام الذي قبله)) ؟ فصل واعلم أن صوم يوم عَرَفَةَ يُكْرَهُ لِلحَاجِّ، لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَحْسُنُ صَوْمُ الضَّيْفُ عند المضيف. والثاني: يتقوى عَلَى الدُّعَاءِ. 133- أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَدِينِيُّ، قال: أخبرنا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قالا: أخبرنا المخلص، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا ابن بهلول، قال: ثنا إسحاق الأزرق، قال: ثنا سفيان بن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ. 134- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الناس شكوا في صيام رسول الله يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِحِلابٍ وَهُوَ وَاقِفٌ في
الموقف فشرب، والناس ينظرون إليه. 135- وَفِي أَفَرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ زوج العباس نحو حديث ميمونة، قَالَتْ: شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ فشربه.
باب ما روي من الدعاء يوم عرفة
بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ 136- أخبرنا أبو الفتح الكروخي، قال: أخبرنا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ وَأَبُو نَصْرٍ التِّرْيَاقِيُّ وَأَبُو بكر الغورجي، قالوا: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا الترمذي، قال: ثنا مسلم بن عمرو الحذاء، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ حماد بن أبي حُمَيْدٍ، عَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن جده [رضي الله عنه] ، أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) . 137- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي منصور، قال: أخبرنا نصر بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله بن عبيد الله البيع، قال: ثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال: ثنا الصاغاني، قال: أخبرنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: ثنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبيه، عن جده [رضي الله عنه] ، قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ
لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. 138- وبه حدثنا المحاملي، قال: ثنا يوسف بن موسى، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن علي عليه السلام، قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي قَلْبِي نُورًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاشْرَحْ لِي صَدْرِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من وسواس الصدر، وَمِنْ شَتَاتِ الْأَمْرِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي الْلَيْلِ، وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ، وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ، وَشَرِّ بَوَائِقِ الدهر. 139- أخبرنا إسماعيل بن أبي بكر، قال: أخبرنا ابن أبي عثمان، قال: ثنا ابن رزقويه، قال: أخبرنا حمزة بن محمد الدهقان، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن عمرو بن الحكم، قال: عمرو بن عاصم الكلابي قال: ثنا كَثِيرُ بْنُ مَعْقِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مروان من بني عامر بن دهل، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِعَرَفَاتٍ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب عليه السلام بعرفات، فقال علي عليه السلام: لا أَدَعُ هَذَا الْمَوْقِفَ مَا وَجَدْتُ إِلَيْهِ سَبِيلا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ يَوْمٌ إِلا لله فيه عتقاً مِنَ النَّارِ، وَلَيْسَ يَوْمٌ أَكْثَرَ فِيهِ عِتْقًا لِلرِّقَابِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَأَكْثِرْ فِيهِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ اعْتِقْ
رقبتي من النار، وأوسع لي مِنَ الرِّزْقِ الْحَلالِ، وَاصْرِفْ عَنِّي فَسَقَةَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّهُ عَامَّةُ مَا أَدْعُو بِهِ الْيَوْمَ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ يَمْلَأُ الْوَقْتَ مِنْ بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، من أَحَبَّ، أَخَذَ بِهِ. 140- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الحافظ، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن عثمان، قال: ثنا محمد بن علي بن زيد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم الجصاص، قال: ثنا محمد بن المنذر، قال: ثنا عبد الله بن عمران العابدي، قال: ثنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَأَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عنه] وابن مسعود [رضي الله عنه] ، قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ((ليس في الموقف بعرفة قَوْلٌ وَلا عَمَلٌ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ، وأول من ينظر الله عز وجل إلى صاحب هذا القول، إذا وقف بعرفة، فليستقبل الْبَيْتَ الْحَرَامَ بِوَجْهِهِ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ كَهَيْئَةِ الدَّاعِي، ثُمَّ يُلَبِّي ثَلاثًا، وَيُكَبِّرَ ثَلاثًا وَيَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، يقول ذلك مئة مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله العلي العظيم، أشهد أن لا إله إلا اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، يَقُولُ ذَلِكَ مئة مرة، ثم يتعوذ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَيَبْدَأُ فِي كُلِّ
مَرَّةٍ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي آخِرِ فاتحة الكتاب يقول كُلِّ مَرَّةٍ: آمِينَ، ثُمَّ يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ الله أحد مئة مرة، يقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة على النبي يقول: صلى الله وملائكته على النبي الأمي وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ثم يدعو لنفسه ويجتهد فِي الدُّعَاءِ لِوَالِدَيْهِ وَلِقَرَابَاتِهِ وَلِإِخْوَانِهِ فِي اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ، عاد في مقالته هذا يقول ثَلاثًا لا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَوْقِفِ قَوْلٌ ولا عمل حتى يمسي غير هذا، فإذا أمسى، باهى الله بِهِ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي اسْتَقْبَلَ بَيْتِي وَكَبَّرَنِي وَلَبَّانِي وَسَبَّحَنِي وَحَمِدَنِي وَهَلَّلَنِي، وَقَرَأَ بِأَحَبِّ السُّوَرِ إِلَيَّ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ قَبِلْتُ عَمَلَهُ وَأَوْجَبْتُ لَهُ أَجْرَهُ، وَغَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَشَفَّعْتُهُ فِيمَنْ شَفَعَ لَهُ، وَلَوْ شَفَعَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ، شَفَّعْتُهُ فِيهِمْ.
باب ذكر كلمات حفظت عن الواقفين بعرفة
بَابُ ذِكْرِ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنِ الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ 141- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، قال: أخبرنا محمد بن سلامة، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب، قال: ثنا ابن دريد، قال: أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًا يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبِي لَمْ تُبْقِ لِي إِلا رَجَاءَ عَفْوِكَ وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إليك، فامتن عَلَيَّ بِمَا لا أَسْتَأْهِلُهُ، وَأَعْطِنِي مَا لا أستحق بطولك وفضلك. 142- أنبأنا محمد بن الحسين القرظي، قال: ثنا أبو بكر محمد بن علي الخياط، قال: ثنا أحمد بن محمد العلاف، قال: ثنا ابن صفوان، قال: ثنا عبد الله بن محمد، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبَّرِ، قال: ثنا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: إنا لوقوف بجبل عرفات، فإذا شابان عَلَيْهِمَا الْعَبَاءُ الْقَطَوَانِيُّ نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يَا حَبِيبُ، فَأَجَابَهُ الْآخَرِ: لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْمُحِبُّ، قَالَ: ترى الذي تحاببنا فيه وتواددنا فيه معذبنا غداً في القيامة؟ قال: فسمعنا مُنَادِيًا سَمِعَتْهُ الْآذَانُ وَلَمْ تَرَهُ الْأَعْيُنُ يَقُولُ: ليس
بِفَاعِلٍ. 143- قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ نَاصِرٍ عَنِ الْحَسَنِ بن أحمد الفقيه، قال: ثنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: ثنا محمد بن أحمد الوراق، قال: ثنا خالد بن محمد، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الحارث: قال: رأيت على جبال عرفة رجل قد ولع بِهِ الْوَلَهُ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنَا بِالْعُيُونِ لَهُ ... عَلَى شَبَا الشَّوْكِ وَالْمَحْمِيِّ مِنَ الْإِبَرِ لَمْ نَبْلُغِ الْعُشُرَ مِنْ مِعْشَارِ نعمته ... وَلا الْعُشَيْرَ وَلا عُشُرًا مِنَ الْعُشُرِ هُوَ الرَّفِيعُ فَلا الْأَبْصَارُ تُدْرِكُهُ ... سُبْحَانَهُ مِنْ مَلِيكٍ نافذ القدر سبحان من هو أنسي إذ خلوت به ... في جوف ليلى وفي الظلمات وَالسَّحَرِ أَنْتَ الْحَبِيبُ وَأَنْتَ الْحِبُّ يَا أَمَلِي ... مَنْ لِي سِوَاكَ وَمَنْ أَرْجُوهُ يَا ذُخْرِي ثم أنشد أيضاً: كم قد زللت لم أَذْكُرْكَ فِي زَلَلِي ... وَأَنْتَ يَا سَيِّدِي فَي الْغَيْبِ تَذْكُرُنِي لَأَبْكِيَنَّ بِدَمْعِ الْعَيْنِ مِنْ أسفٍ ... لَأَبْكِيَنَّ بُكَاءَ الْوَالِهِ الْحَزِنِ قَالَ: ثُمَّ غَاصَ فِي خِلالَ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهْ، فَسَأَلْتُ عنَهُ، فقيل لي: هذا أبو عبيدة الخواص مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. 144- أَخْبَرَنَا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ
وعلي بن أبي صادق، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: ثنا أحمد بن عطاء، قال: ثنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: قَالَ الْمَأْمُونُ: قَالَ إبراهيم بن أدهم: قَالَ لِي أَبُو عَبَّادٍ الرَّمَلِيُّ: حَضَرْتُ عَرَفَاتٍ فَوقَفْتُ أَدْعُو، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى قَدَ أَقْبَلَ نَحْوِي، فَقَالَ أَقْوَامٌ يَصِلُونَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعَ يَكُونُ فَيهِمْ مِنَ الْفَضْلِ، مَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْحَوَائِجَ أَلا جَعَلُوا حَوَائِجَهُمْ فِي حَيَاةِ قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَنْتَ أَبُو عَبَّادٍ الَّذِي تَرَكْتَ الْشهَوَاتِ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً، فعند تركك أفدت فائدة، فبكيت وقلت: ما أدبي؟ فَقَالَ: هَيْهَاتَ، أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَخَائِرَهُ لِمَنِ الدُّنَيَا وَالْآخِرَةُ فِي قَلْبِهِ. 145- أَخْبَرَنَا عُمَرُ بن ظفر، قال: أخبرنا ابن السراج، قال: ثنا الأزجي، قال: ثنا أبو الحسن الصوفي، قال: حدثني عبيد الله بن محمد الرسغي، قال: ثنا محمد بن المؤمل العدوي، قال: حدثني أبو زرعة الجنبي، قَالَ: كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبُسْرِيُّ بِعَرَفَةَ وِإِلَى جنبه ابنه، فقال له: يهنيك الفارس. فقال له: يا أبه! وأي فارس قال لذلك الساعة غلام؟ قال: فلما صرنا إلى بسرى وجدت زوجي قَدْ وَلَدَتْ غُلامًا يَوْمَ عَرَفَةَ.
باب خوف الصادقين عند وقوفهم بعرفة
بَابُ خَوْفِ الصَّادِقِينَ عِنْدَ وُقُوفِهِمْ بِعَرَفَةَ 146- أَخْبَرَنَا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: ثنا ابن باكويه، قال: ثنا محمد بن هارون، قال: ثنا ابن مسروق، قال: ثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا وادع بن مرجان، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، قَالَ: وَقَفَ مُطَرِّفٌ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ: اللَّهُمَّ لا تَرُدَّهُمُ الْيَوْمَ مِنْ أَجْلِي، وَقَالَ بَكْرٌ: مَا أَشْرَفَهُ مِنْ مَوْقِفٍ وَأَرْجَاهُ لِأَهْلِهِ، لَوْلا أَنِّي فِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الثَّكْلَى الْمُحْتَرِقَةِ، فَلَمَّا كَادَتِ الشَّمْسُ تَسْقُطُ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السماء، وقال: واسوأتا مِنْكَ وَإِنْ عَفَوْتَ. 147- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ علي بن هزامرد
الصُّوفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَحْبُوبٍ تِلْمِيذَ أَبِي الْأَدْيَانِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَدْيَانِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ خَائِفًا إِلا رَجُلا وَاحِدًا، كُنْتُ بِالْمَوْقِفِ فرأيت شاباً مطرقاً منذ وَقَفَ النَّاسُ إِلَى أَنْ سَقَطَ الْقُرْصُ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا! ابْسُطْ يَدَيْكَ لِلدُّعَاءِ، فَقَالَ لِي: ثَمُّ وَحْشَةٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَهَذَا يَوْمُ الْعَفْوِ عن الذنوب. قال: فبسط يديه، ففي بسط يديه وَقَعَ مَيْتًا. وَقَالَ الرِّيَاشِيُّ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ المعدل في الموقف يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ وَقَدْ ضَحَّى لِلشَّمْسِ، فَقُلْتُ: أَبَا الْفَضْلِ! لَوْ أَخَذْتَ بِالتَّوْسِعَةِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: ضَحَيْتُ لَهُ كَي أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إِذَا الظِّلُ أَمْسَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا فَوَا أَسَفَا إِنْ كَانَ سَعْيُكَ بَاطِلا ... وَيَا حَسْرتَا إِنْ كَانَ حَظُّكَ نَاقِصَا أَحْمَدُ هُوَ أَخُو عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُعَدَّلِ، وَكَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ.
باب ما روي من اجتماع جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر بعرفة
بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ اجْتِمَاعِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل والخضر بعرفة 148- أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا الأزهري، قال: ثنا أبو الطيب بن حمدان، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا عياش الدوري، قال: ثنا عبيد بن إسحاق العطار، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَشِّرٍ الْقَيْسِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ علي عليه السلام قَالَ: يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَالْخَضِرُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَيَقُولُ جبريل: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ. فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِيكَائِيلُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، كُلُّ نعمة من الله. فيرد عليهما إسرافيل فيقول: مَا شَاءَ اللَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ، فيرد عليه الخضر فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لا يَدْفَعُ السُّوءَ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ، فَلا يَجْتَمِعُونَ إِلَى قَابِلٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
باب ما روى من التقاء إلياس والخضر بالموسم
باب ما روى من الْتِقَاءِ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرِ بِالْمَوْسِمِ 149- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أبي منصور وعلي بن أبي عمر، قالا: أخبرنا علي بن الحسين بن أيوب، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا
إبراهيم بن محمد المزكي، قال: ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن أحمد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن عاصم، قال: ثنا الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عطاء، عن ابن عباس [رضي الله عنه] ، قَالَ: لا أَعْلَمُهُ إِلا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كل واحدٍ منهما رأس صاحبه ويتفرقان عَنْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، لا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. قال: وقال ابن عباس: مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلاثَ مرات، أمنه الله من الغرق والحرق والسرق. قال: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَمَنِ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ. 150- أخبرنا عبد الله بن علي المقرئ، قال: أخبرنا الحسين بن
أحمد بن طلحة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الجبائي، قال: ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الختلي، قال: حدثني عثمان بن سعيد الأنطاكي، قال: ثنا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ الْمِصِّيصِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ سَلامٍ الطَّوِيلِ، عَنْ دَاوُدَ بن يحيى مولى عون الطُّفَاوِيِّ، عَنْ رَجُلٍ كَانَ مُرَابِطًا فِي بَيْتِ المقدس وبعسقلان، قال: بينا أنا أسير في وادي الأردن، قال: إذا أنا برجل من ناحية الوادي قائم يصلي، فإذا سحابة تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ إلياس النبي صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَانْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ، فَرَدَّ علي السلام، فقلت له: من أنت رحمك اللَّهُ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَأَعَدْتُ الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ: أَنَا إِلْيَاسُ النَّبِيُّ، فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، خَشِيتُ عَلَى عَقْلِي أَنْ يَذْهَبَ، فَقُلْتُ له: إن رأيت رحمك اللَّهُ أَنْ تَدْعُوَ لِي أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنِّي مَا أَجِدُ حَتَّى أَفْهَمَ حَدِيثَكَ. فَدَعَا لِي بِثَمَانِ دَعَوَاتٍ، قَالَ: يَا بَرُّ يَا رَحِيمُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَنَّانُ يا منان، ياهيآ شراهيا فَذَهَبَ عَنِّي مَا كُنْتُ أَجِدُهُ. فَقُلْتُ لَهُ: إلى من بعثت؟ قال: إِلَى أَهْلِ بَعَلْبَكَ. قُلْتُ: فَهَلْ يُوحَى إِلَيْكَ بها الْيَوْمَ فَقَالَ: مُنْذُ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ
النَّبِيِّينَ فَلا. قُلْتُ: فَكَمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْحَيَاةِ؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ: أَنَا وَالْخَضِرُ فِي الْأَرْضِ، وَإِدْرِيسُ وَعِيسَى فِي السَّمَاءِ. قُلْتُ: فَهَلْ تَلْتَقِي أَنْتَ وَالْخَضِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلِّ عَامٍ بِعَرَفَاتٍ. قَلْتُ: فَمَا حَدِيثُكُمَا؟ قَالَ: يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِي وَآخُذُ مِنْ شَعْرِهِ. قُلْتُ: فَكَمِ الْأَبْدَالُ؟ قَالَ: هُمْ سِتُّونَ رَجُلا، خَمْسُونَ مَا بَيْنَ عَرِيشِ مِصْرَ إِلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَرَجُلانِ بِالْمِصِّيصَة، وَرَجُلٌ بِأَنْطَاكِيَّةَ، وَسَبْعَةٌ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، بِهِمْ يستقون الْغَيْثَ، وَبِهِمْ يُنْصَرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَبِهِمْ يُقِيمُ اللَّهُ أَمْرَ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يهلك (يعني: الدنيا) أماتهم جميعاً. قلت: أما ذكر الْخَضِرِ بِالنُّبُوَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ: كَثِيرٌ مِنَ الناس يذهب إلى أنه كان نبياً. أما قوله: ياهيا شراهيا، فكذا ضبطناها عن شيخنا أبي المنصور اللُّغَوِيِّ. وَذَكَرَ لَنَا عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، أَنَّهُ قال: أظن أصله بالسريانية، وَقَدْ فَسَّرَهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: يَا حَيُّ! يَا قيوم!
باب ما روي من الصلوات يوم عرفة
باب ما روي من الصلوات يوم عرفة قد رويت له صلاتان: إحداهما: لَمْ يُعَيَّنْ لَهَا وَقْتٌ. 151- قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بن أبي منصور، عن الحسن بن أحمد، قال: ثنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: ثنا يحيى بن محمد المديني، قال: ثنا عبد الله بن عمران العابدي، قال: ثنا عبد الرحمن بن زيد بْنِ أَنْعُمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَأَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب وعبد الله بن مسعود، قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى يَوْمَ عَرَفَةَ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ (يَعْنِي: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَلاثَ مرات، في كل مرة يبدأ بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَخْتِمُ آخِرَهَا بِآمِينَ، ثُمَّ يقرأ بقل يا أيها الْكَافِرُونَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مئة مَرَّةٍ، يَبْدَأُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ)) . الصَّلاةُ الثَّانِيَةُ: معينة الوقت. 152- أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد
الفقيه، قال: أخبرنا هلال بن محمد، قال: ثنا علي بن أحمد الحلواني، قال: ثنا موسى بن عمران، قال: ثنا يوسف بن موسى، قال: ثنا محمد بن نافع، قال: ثنا مسعود بن واصل، قال: ثنا النَّهَّاسُ بْنُ قَهْمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى يَوْمَ عَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مَرةً وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أحد خمسين مرة، كتب الله تعالى له ألف أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خمس مئة عَامٍ، وَيُزَوِّجُهُ اللَّهُ بِكُلِّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ حَوْرَاءَ، مَعَ كُلِّ حَوْرَاءَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَائِدَةٍ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لَوْنٍ مِنْ لَحْمِ طَيْرٍ خُضْرٍ، بَرَدُهُ بَرَدُ الثَّلْجِ، وَحَلاوَتُهُ حَلاوَةُ الْعَسَلِ، وَرِيحُهُ رِيحُ المسك، لم تمسه نار ولا حديد، تجد لآخره طعماً كما تجد لِأَوَّلِهِ، ثُمَّ يَأْتِيهِمْ طَيْرٌ جَنَاحَاهُ مِنْ يَاقُوتَتَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وَمِنْقَارُهُ مِنْ ذَهَبٍ، لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ، فَيُنَادَى بصوتٍ لَذِيذٍ لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِمِثْلِهِ: مَرْحَبًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ، (قَالَ: وَيَسْقُطُ ذَلِكَ الطَّيْرُ فِي صَفْحَةِ الرَّجُلِ مِنْهُمْ، فَيَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ جَنَاحٍ مِنْ أَجْنِحَتِهِ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَطِيرُ، فَإِذَا وُضِعَ فِي
قَبْرِهِ. أَضَاءَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ نورٌ حَتَّى يَرَى الطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، مِمَّا يَرَى مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ.
باب تعريف من لم يحج في المساجد تشبها بأهل عرفة
بَابُ تَعْرِيفِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فِي الْمَسَاجِدِ تَشَبُّهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ 153- أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الحافظ، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد إذناً، قال: أخبرنا الأزهري، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: ثنا شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (يَعْنِي: اجْتِمَاعَ النَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ) فِي المساجد. 154- أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا أبو طالب بن يوسف، قال: أخبرنا عمر بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن بخيت، قال: ثنا أبو حفص الجوهري، قال: ثنا الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عرفة، فقال: أرجو ألا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، الْحَسَنُ، وَبَكْرٌ، وَثَابِتٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسَجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
باب الدفع من عرفة
بَابُ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دفع من عرفة إلى المزدلفة عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزَمَيْنِ، وَحَدُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَا بَيْنَ الْمَأْزَمَيْنِ وَوَادِي مُحَسِّرٍ، وَيَسِيرُ وَعَلَيْهِ السَّكَيِنَةُ وَالْوَقَارُ، فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، صَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَبْلَ حَطِّ الرحال، وإن صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ أَجْزَأَهُ، ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَيَأْخُذُ مِنْهَا حَصَى الْجِمَارِ، وَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ جَازَ، وَيَكُونُ الْحَصَى أَكْبَرَ مِنَ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ، وَعَدَدُهُ سَبْعُونَ حَصَاةً. وَهَلْ يُسَنُّ غَسْلُهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: فَإِنْ دَفَعَ بَعْدَ نِصْفِ الْلَيْلِ، جَازَ، وَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ الليل، لزمه دم، وإن وَافَى مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ الْلَيْلِ، فَلا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَافَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَيْهِ دم.
باب فضل ليلة النحر
بَابُ فَضْلِ لَيْلَةِ النَّحْرِ 155- قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من أحيا الليالي الأربع، وجبت له الجنة)) ، فذكر منهم لَيْلَةَ النَّحْرِ. 156- وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عنها] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: ((يَفْتَحُ اللَّهُ الْخَيْرَ فِي أَرْبَعِ ليالٍ سحاً)) ، فذكر منهم ليلة الأضحى. وقد سبق إسناد الحديثين. 157- وأخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا علي بن محمد بن أبي طيب، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: ثنا عبدك، قال: ثنا أحمد بن محمد الرازي،
قال: ثنا عثمان بن هارون، قال: ثنا أبو عمرو القناد، قال: ثنا ابن أبي عمر المكي، قال: ثنا عطاء، عن ابن عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْلَةُ جَمْعٍ تَعْدِلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ)) . 158- وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ: لِمَ سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ بِذَلِكَ؟ قَالَ: لازْدِلافِ النَّاسِ إِلَيْهَا مِنْ عَرَفَاتٍ. قَالَ: فَلِمَ سُمِّيَتْ جمع جمعاً؟ قال: لأن الله تعالى لما أهبط آدَمُ وَحَوَّاءُ مِنَ الْجَنَّةِ فَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَاجْتَمَعَا بِالْمَشْعَرِ. وَقَالَ مِهْيَارٌ فِي ذِكْرِ جَمْعٍ: يَا هَلْ لِلَيْلاتٍ بِجَمْعٍ عَوْدَةٌ ... أَمْ هَلْ إِلَى وادي منى نظرة
ذكر صلاة رويت ليلة النحر
أبغي الشفا بذكره من مسقمي ... عجباً لمن هو علتي وتعلتي ذِكْرِ صَلاةٍ رُوِيَتْ لَيْلَةُ النَّحْرِ اعْلَمْ أَنَّهَا مِنَ الْلَيَالِي الَّتِي تُحْيَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ [رضي الله عنهما] يحييها. 159- وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، أنه قال: ((ومن أحيا ليلتي الْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ فيه الْقُلُوبُ)) . فَأَمَّا الصَّلاةُ المختصة بها: 160- فأخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا محمد بن علي النرسي، قال: أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا محمد بن أبي الجراح، قال: أخبرنا أبي، قال: ثنا إسحاق بن أحمد، قال: ثنا أحمد بن محمد بن غالب، قال: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ النَّحْرِ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، [فَإِذَا سَلَّمَ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، واستغفر الله خمسة عَشْرَةَ مَرَّةً] ، جَعَلَ اللَّهُ اسْمَهُ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَغَفَرَ لَهُ ذُنُوبَ السِّرِّ وَذُنُوبَ الْعَلانِيَةِ، وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ آيَةٍ قَرَأَهَا حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سِتِّينَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَإِنْ مَاتَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، مَاتَ شَهِيدًا)) . وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: كُنْتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ أُحْيِي اللَّيْلَ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ تُصَلِّي إِلَى الصَّبَاحِ وَمَعَهَا شيخ، فسمعته يقول: اللهم إنا قد جئنا مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ، وَحَجَجْنَا كَمَا أَمَرْتَنَا، وَوَقَفْنَا كما دللنا، وَقَدْ رَأَيْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا إِذَا شَابَ الْمَمْلُوكُ في خدمتهم، تذمموا أن يبيعوه، وَقَدْ شِبْنَا فِي خِدْمَتِكَ، فَأَعْتِقْنَا.
باب فضل يوم النحر
بَابُ فَضْلِ يَوْمِ النَّحْرِ 161- رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمُ النَّحْرِ، ثم يوم الفطر)) . 162- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن علي بن أبي عثمان، قال: أخبرنا ابن رزقويه، قال: ثنا حمزة بن محمد، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا أيوب بن محمد، قال: ثنا عبد القاهر بن التستري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى لأمته عشية عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَأُجِيبَ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ما خلا الظَّالِمَ، فَإِنِّي آخِذٌ لِلمَظْلِومِ مِنْهُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ! إِنَّ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْخَيْرِ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ، فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ،
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أو قال: تبسم. فقال أبو بكر وعمر: إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ؟ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ) . قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ [عَزَّ وَجَلَّ] قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي وَغَفَرَ لِأُمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ، وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، أَضْحَكُ مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ جزعه.
باب ما يصنع بعد فجر يوم النحر
باب ما يصنع بعد فجر يوم النحر يصلي صلاة الصبح بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلاةِ، ثُمَّ يَأْتِي المشعر الحرام فيرقى عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلا، وَقَفَ عِنْدَهُ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُهَلِّلُهُ وَيُكَبِّرُهُ وَيَدْعُو، وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللهم كما وقفتنا فِيهِ وَأَرَيْتَنَا إِيَّاهُ، فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ: وَقَوْلُكَ الحق: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر..} ، يقرأ إلى قوله: {غفور رحيم} ، فإذا أسفر دفع قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا بَلَغَ وَادِي محسرٍ سعى إن كان ماشياً، وحرك إِنْ كَانَ رَاكِبًا قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ.
باب ذكر منى
بَابُ ذِكْرِ مِنًى حَدُّ مِنًى مِنْ جَمْرَةِ العقبة إلى وادي محسر: 163- وقد رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ: لِمَ سُمِّيَتْ مِنًى؟ فَقَالَ: لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ دِمَاءِ الذَّبَائِحِ وَشُعُورِ النَّاسِ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمَنِّيًا للأمان من عذابه. وقال ابن فارس اللغوي: منى من قولك: مني الشيء وقدر كأنه قدر فيها النحر. وإذا وَصَلَ إِلَى مِنًى بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَيَرْمِي إِلَيْهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، يَكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَعْلَمُ حُصُولَهَا فَي الْمَرْمَى، فَإِنْ رَمَى بِغَيِرِ الْحَصَى مِثْلَ الْكُحْلِ وَالرُّخَامِ وَالْبِرَامِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ أَخَذَ حَجْرًا مِنَ المرمى قد رمي به فرمى به لم يجزه، ويرفع يده في الرمي حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، فَإِذَا رَمَى السَّبْعَ، لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا. وَيَرْمِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنْ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، أجزأه.
ومما قالت الشُّعَرَاءُ فِي ذِكْرِ مِنًى: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَبِثُوا ثَلاثَ مِنًى بِمَنْزِلَ قَلْعَةٍ ... فَهُمْ عَلَى غَرَضٍ لَعَمْرُكَ مَا هُمُ مُتَجَاوِرِينَ بِغَيْرِ دَارِ إِقَامَةٍ ... لَوْ قَدْ أَجَدَّ رَحِيلُهُمْ لَمْ يَنْدَمُوا وَلَهُنَّ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لُبَانَةٌ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُنَّ لَوْ يَتَكَلَّمُ لَوْ كَانَ حَيَّا قَبْلَهُنَّ ظعائناً ... حي الْحُطَيْمُ وُجُوهَهُنَّ وَزَمْزَمُ وَقَالَ الْعَرْجِيُّ: عُوجِي عَلَيَّ فسلمي جبرٌ ... فِيمَ الْوُقُوفُ وَأَنْتُمُ سَفْرُ مَا نَلْتَقِي إلا ثَلاثَ مِنًى ... حَتَّى يُفَرِّقُ بَيْنَنَا النَّفْرُ الشَّهْرُ ثُمَّ الْحَوْلُ يَتْبَعُهُ ... مَا الدَّهْرُ إِلا الْحَوْلُ وَالشَّهْرُ وَلابْنِ الْمُعْتَزِّ: لِلَّهِ دَرُّ مِنًى وَمَا جمعت ... وَبُكَاءُ الْأَحِبَّةِ لَيْلَةَ النَّفْرِ ثُمَّ اغْتَدَوْا فِرَقًا هُنَا ... وَهُنَا يَتَلاحَظُونَ بِأَعْيُنِ الذِّكْرِ مَا لِلمَضَاجِعِ لا تُلائِمُنِي ... وَكَأَنَّ قَلْبِي لَيْسَ فِي صَدْرِي
ومن أبيات للرضي: أعاد لي عيد الضنا ... جِيرَانَنَا عَلَى مِنًى كَمْ كبدٍ مَعْقُورَةٍ ... لِلعَاقِرِينَ البدنا نخفى تباريح الجوى ... وقد عنا ما عنا وبارق أشيمه ... كالبرق أَغْضَى وَرَنَا ذَكَّرَنِي الأَحَبَابَ وَالذِّكْرَى ... تُهَيِّجُ الْحُزْنَا من بطن مرو السرى ... تَؤُمُّ عُسْفَانَ بِنَا وَبِالْعِرَاقِ وَطَرَى ... يَا بُعْدَ مَا لاحَ لَنَا وَلِمِهْيَارٍ: وَمَا بِنَا إِلا هَوًى حَيَّ ... عَلَى خَيْفِ مِنًى يَا حُسْنَ ذلك موقفاً ... إن كان شيئاً حسنا منى لَعَيْنِي أَنْ تَرَى ... تِلْكَ الثَّلاثَ مِنْ مِنًى يَا قَلْبُ مِنْ مَوَاطِنَ ... لَمْ يَرْضَ مِنْهَا وَطَنَا وَيَوْمَ سَلْعٍ لَمْ يَكُنْ ... يَوْمِي بسلعٍ هَيِّنَا وَقَفْتُ أَسْتَسْقِي الظَّمَا ... فِيهِ وَأَسْتَشْفِي الضَّنَا
وَفَضَحَتْ سِرَّ الْهَوَى ... عَيْنِي فَصَارَ عَلَنًا وَيَوْمَ ذي البان تبايعنا ... فجزت الْغَبَنَا كَانَ الْغَرَامُ الْمُشْتَرَى ... وَكَانَ قَلْبِي الثَّمَنَا 164- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشيباني: لما ظهر من المجنون مَا ظَهَرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ مَا ابْتُلِيَ بِهِ، اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: لو خرجت إِلَى مَكَّةَ فَعَاذَ بِبَيْتِ اللَّهِ وَزَارَ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] رَجَوْنَا أن يرجع عقله، فخرج أَبُوهُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَجَعَلَ يَطُوفُ بِهِ ويدعوا الله له بالعافية وهو يقول: دعى المحرومون اللَّهَ يَسْتَغْفِرُونَهُ ... بِمَكَّةَ وَهَنًا أَنْ تُمْحَى ذُنُوبُهَا وناديت أن يا رب أول سولتي ... لِنَفْسِي لَيْلَى ثُمَّ أَنْتَ حَسِيبُهَا فَإِنْ أُعْطَ ليلى في حياتي لا يثيب ... إِلَى اللَّهِ خَلْقٌ تَوْبَةً لا أَتُوبُهَا حَتَّى إذا جاز منى، نادى منادي من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فمر قيس مَغْشِيًا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ، وَنَضَحُوا عَلَى وَجْهِهِ الْمَاءَ، وَأَبُوهُ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ أفاق وهو يقول: وداعٍ دعى إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... فَهَيَّجَ أَطْرَابَ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِي دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فكأنما أطن ... بليلى طائراً كان في صدري
باب الأصل في رمي الجمرات
باب الأصل في رَمْيِ الْجَمَرَاتِ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَمَّا فَرَغَ إبراهيم من البيت، أتاه جبريل فَأَرَاهُ الطَّوَافَ، ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فعرض له الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعًا، وَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم [عليه السلام] سبعاً، فقال لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى الجمرة القصوى، ففعلا كذلك. هذا الأصل في شروع الرمي، كما أن الأصل فِي شُرُوعِ السَّعْيِ سَعِيِ هَاجَرَ بَيْنَ الصَّفَا والمروة على ما سيأتي في حيث زمزم [إن شاء الله تعالى] . وَكَذَلِكَ أَصْلُ الرَّمْلِ: 165- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قدم وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ
يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جَلَدَهُمْ. وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . ثُمَّ زَالَتْ تِلْكَ الأَشْيَاءِ وَبَقِيَتْ آثَارُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَرُبَّمَا أُشْكِلَتْ هَذِهِ الأمور على من يرى صورها ولا يَعْرِفْ أَسْبَابَهَا، فَيُقُولُ: هَذَا لا مَعنَى لَهُ، فَقَدْ بَيَّنْتُ لَكَ الأَسْبَابَ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ، وَهَا أَنَا أُمَهِّدُ لَكَ مِنَ الْمَعْنَى قَاعِدَةً تَبْنِي عَلَيْهَا مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا. اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ مَعْقُولٌ، وَهُوَ ذُلُّ الْعَبْدِ لِمَوْلاهُ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ الصَّلاةَ فِيهَا مِنَ التَّوَاضُعِ وَالذُّلِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَبُّدُ. وَفِي الزَّكَاةِ إِرْفَاقٌ وَمُوَاسَاةٌ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ. وَفِي الصَّوْمِ كَسْرُ شهوة النفس لتنقاد طائعة إلى مخدومها. وفي تشريف البيت ونصبه مقصداً وجعل له ما حواليها حرماً تفخيماً له، وإقبال الخلق شُعُثًا غُبُرًا كَإِقْبَالِ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلاهُ ذَلِيلا مُعْتَذِرًا أَمْرٌ مَفْهُومٌ، وَالنَّفْسُ تَأْنَسُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِمَا تَفْهَمُهُ، فَيَكُونُ مَيْلُ الطَّبْعِ إِلَيْهِ مُعِينًا عَلَى فِعْلِهِ، وَبَاعِثًا؛ فَوُظُّفَتْ لَهَا وَظَائِفُ لا يفهمها، ليتم انقيادها كالسعي والرمي، فإنه لاحظ فِي ذَلِكَ لِلنَّفْسِ، وَلا أُنْسَ فِيهِ لِلطَّبْعِ، وَلا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى مَعْنَاهُ، فَلا
فصل
يَكُونُ الْبَاعِثُ إِلَى امْتِثَالِ الأَمْرِ فِيهِ سِوَى مُجَرَّدِ الأَمْرِ وَالانْقِيَادِ الْمَحْضِ، وَبِهَذَا الإِيضَاحِ تُعْرَفُ أَسْرَارُ الْعِبَادَاتِ الْغَامِضَةِ. 166- أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو عبد الله الأصفهاني، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الفاتحاني، قال: ثنا جدي أبو أمي عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا أَبُو شَيْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عَنِ الْحَجِّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ((فَإِذَا رَمَيْتَ الْجِمَارَ، فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ تَرْمِي بها تغفر لَكَ بِهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَاتِ الْمُوبِقَاتِ)) . فَصْلٌ وَرَبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الحاج خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَيَحْتَاجُ كُلُّ مِنْهُمْ أَنْ يَرْمِيَ سَبْعِينَ حَصَاةً، وَهَذَا مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَالْمَرْمَى مَكَانٌ صَغِيرٌ، ثُمَّ لا يَجُوزُ أَنْ يرمي بحصاة قد رمي بها، ونرى الْحَصَى فِي الْمَرْمَى قَلِيلا، فَمَا وَجْهُ
ذلك؟ فالجواب: 167- ما أخبرناه ابن أبي منصور، قال: أخبرنا ابن بيان، قال: أخبرنا ابن شاذان، قال: ثنا أبو محمد بن الحكم، قال: ثنا الكديمي، قال: ثنا أبو عاصم، عن عبيد اللَّهِ بْنِ هُرْمُزٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الْحَصَى قُرْبَانٌ، فَمَا قُبِلَ مِنْهُ رُفِعَ، وما لم يقبل، بقي.
أبواب الأضاحي
أبواب الأضاحي
باب بيان فضل الأضاحي
أبواب الأضاحي باب بَيَانِ فَضْلِ الأَضَاحِي 168- أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى الْهَرَوِيُّ، قال: أخبرتنا أم عزة بنت عبد الصمد الهرثمية، قال: أخبرنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيُّ، قال: ثنا عبد الله بن محمد، قال: ثنا داود بن رشيد، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثنا إِبْرَاهِيمُ (يَعْنِي: ابْنَ يَزِيدَ) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دينار، عن طاووس، عن ابن عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أُنْفِقَتُ الْوَرِقُ فِي شيءٍ أَفْضَلَ مِنْ نحيرةٍ فِي يَوْمِ عيدٍ)) . 169- أنبأنا أبو بكر بن محمد بن الحسين، قال: أخبرنا أبو منصور العكبري، قال: أخبرنا أبو الحسن الحمامي، قال: ثنا أبو قيس، قال: ثنا أبو
بكر القرشي، قال: ثنا يحيى بن المغيرة، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ عَمَلٍ أَحَبُّ إلى الله عز وجل من إهراقه دَمٍ، وَإِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً)) . 170- أخبرنا أبو سعد الزوزني، قال: أخبرنا أبو يعلى بن الفراء، قال: ثنا عيسى بن علي، قال: ثنا إسماعيل بن العباس، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي، قال: ثنا داود بن عبد المجيد، قال: ثنا عمر بْنُ قَيْسٍ الْمَلائِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سعيد [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لفاطمة: ((قُومِي إِلَى أُضْحِيَتِكِ فَاشْهَدِيهَا، فَإِنَّ لَكَ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا أَنْ
يغفر لك ما سلف من ذنوبك)) . قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَهَذَا لَنَا خَاصَّةً أَهْلَ الْبَيْتِ، أَمْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: ((بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً)) . 171- وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا هَذِهِ الأَضَاحِي؟ قَالَ: ((سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)) . قَالُوا: فَمَا لنا منها؟ قَالَ: ((بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ)) . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ كَانَ لا يُمَاكِسُ فِي ثَمَنِ الأُضْحِيَةِ، وَيَقُولُ: لا يُمَاكَسُ فِي شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. 172- أَخْبَرَنَا أَبُو غَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الماوردي، قال: أخبرنا أبو علي التستري، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن أحمد التوزي، قال: ثنا أبو إسحاق الهجيمي، قال: ثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ،
قَالَ: خَرَجَ أَبُو نُوَاسٍ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يريد يشتري أُضْحِيَةٍ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْمِرْبَدِ، إِذَا هُوَ بأعرابي قد أدخل شاءً له يقدمها كبش فرآه فقال: لأخبرن هَذَا الأَعْرَابِيَّ فَأَنْظُرُ مَا عِنْدَهُ، فَإِنِّي أَظُنُّهُ عاقلاً، فقال أبو نواس: أيا صاحب الشاء الذي قد يسوقها ... بكم ذاكم الكبش الذي قد تقدما فقال الأعرابي: أبيعكه إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يُرِيدُهُ ... وَلَمْ تَكُ مَزَّاحًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمَا فَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: أَجَدْتَ رَعَاكَ اللَّهُ رَدَّ جَوَابِنَا ... فَأَحْسِنْ إِلَيْنَا إِنْ أَرَدْتَ التكرما فقال الأعرابي: أحط من العشين خمساً فإنني ... أراك ظريفاً فاقبضنه مسلما قال: فدفع إليه خمس عشرة دِرْهَمًا، وَأَخَذَ كَبْشًا يُسَاوِي ثَلاثَينَ دِرْهَمًا.
باب بيان أن الأضاحي سنة
بَابٌ بَيَانُ أَنَّ الأَضَاحِيَ سُنَّةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الأُضْحِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بَوَاجِبَةٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ الْحَاضِرِ. 173- وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ((إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره)) . وَسَنَذْكُرُ الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً، لَمَا عَلَّقَهَا بِالإِرَادَةِ.
باب بيان السبب الذي من أجله سنت الأضاحي
بَابٌ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُنَّتِ الأَضَاحِي وَهُوَ مَا جَرَى لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ وولده، وتلخيص القصة إن شاء اللَّهَ تَعَالَى: أَمَرَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي منامه بذبح ولده، فقال: يَا بُنَيَّ! انْطَلِقْ نُقَرِّبُ قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَخَذَ سِكِّينًا وَحَبْلا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى إِذَا ذَهَبَا بَيْنَ الْجِبَالِ، قَالَ لَهُ الْغُلامُ: أَيْنَ قُرْبَانَكَ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ! إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. فَقَالَ لَهُ: اشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لا أَضْطَرِبَ، وَاكْفُفْ عَنِّي ثيابك حتى لا يتنضح عليها من دمي، فتراه أمي فتحزن، وأسرع من السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي، لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ، فإن أَتَيْتَ أُمِّي، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنِّي، فَأَقْبَلَ عليه إبراهيم [عليه السلام] يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي وَيَقُولُ: نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، فَلَمْ تَحُكَّ شَيْئًا وَانْقَلَبَتْ، فَقَالَ لَهُ: اطْعَنْ بِهَا طَعْنًا. فطعن بها فنبت (أي: ارتفعت) وَعَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمَا
الصِّدْقَ فِي التَّسْلِيمِ. فَنُودِيَّ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، هَذَا فِدَاءُ ابْنِكَ، فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فإذا جبريل مَعَهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَذَبَحَهُ. فَهَذَا كَانَ الأَصْلُ في سنة الذبح.
باب ذكر اختلاف الناس في الذبيح
بَابُ ذِكْرِ اخْتِلافِ النَّاسِ فِي الذَّبِيحِ اخْتَلَفَ العلماء في ذلك، فذهب خلق كثير منهم، علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَنَسٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَعْبُ الأَحْبَارِ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي آخَرِينَ إِلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ أَصْحَابُنَا. 174- أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: أخبرنا عبد الصمد بن المأمون، قال: أخبرنا علي بن عمر السكري، قال: ثنا أحمد بن كعب الواسطي، قال: ثنا عبد الله بن عبد المؤمن، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الْوَارِثُ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عبد المطلب [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ)) .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ، ابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، والشعبي، ومجاهد، والقرظي، وابن سابط إلى أنه إسماعيل. واختلفت الرواية عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة أنه إسحاق [عليه السلام] . وروى عنه عطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران، أنه إسماعيل [عليه السلام] . وروى عنه سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْقَوْلَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.
باب بيان ما يستعمله المضحي من الآداب
باب بيان ما يستعمله المضحي من الآداب فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَلا من بشره شَيْئًا. 175- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ وَعَلِيُّ بْنُ أبي عمر، قالا: أخبرنا علي بن الحسين بن أيوب، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر
النجاد، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ الْمَلِكِ بن محمد وأنا أسمع، قال: ثنا يحيى بن كثير، قال: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] ، أَن ّالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ)) . 176- وأخبرناه عَالِيًا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عبد الباقي، قالا: أخبرنا الصريفيني، قال: أخبرنا أبو حفص الكتاني، قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، قال: ثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: ثنا معاذ بن معاذ، قال: ثنا محمد بن عمرو، وقال: ثنا عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ ذبحٌ يَذْبَحُهُ، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن مِنْ شَعْرِهِ وَلا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يضحي)) .
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَمِنْ ذَلِكَ: ذَبْحُهَا بِيَدِهِ. 177- أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا عبد الصمد بن المأمون، قال: أخبرنا ابن حبابة، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا أبو نصر التمار؛ قال: ثنا أبان بْنُ يَزِيدَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنّ رَسُول اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم] ذبح أضحيته بيد نفسه، وكبر عليها. 178- أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا ابن مالك، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا شعبة، عن قتادة، قال: ثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَكَانَ يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ وَاضِعًا عَلَى صِفَاحَهُمَا قَدَمَهُ.
فصل
أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . وَالأَمْلَحُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، غَيْرَ أَنَّ الْبَيَاضَ فِيهِ أكثر. قال الشاعر: لكل دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتَ أَثْوُبَا ... حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا ... أَمْلَحَ لا لَذًّا وَلا مُحَبَّبَا ... فَصْلٌ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الذَّبْحَ، فَالأَفضْلُ أَنْ يشهدها. 179- وقد ذكرنا قوله عليه السلام لفاطمة: ((قُومِي إِلَى أُضْحِيَتِكِ فَاشْهَدِيهَا ... )) . وَالأَفْضَلُ فِي الأَضَاحِي عِنْدَنَا: الإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْغَنَمُ. وَمَذْهَبُ مالك على العكس، فإنه يقدم الغنم، وأفضل الْهَدَايَا وَالأَضَاحِي: الشُّهُبُ، ثُمَّ الصُّفُرُ، ثُمَّ السُّودُ، ويجزئ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ عَنْ وَاحِدٍ، وَالْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُرِيدُوا الْقُرْبَةَ أو يريد بعضهم القربة، وبعضهم يريد اللحم، وهذا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وقال أبو حنيفة: إن كانوا متقربين، صَحَّ الاشْتِرَاكُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ، لَمْ يَصِحَّ، وَيُجْزِئ فِي الأَضَاحِي مَا يُجْزِئ في الدماء الواجبة في الجبران، وقد بيناه في باب الإحرام. ولا يجزئ في الهدي والأضحية ما فيه عيب تنقص به اللحم، وهن خمس: العضباء القرن والأذن، وهي التي ذهب أكثر أذنها وقرنها. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: هِيَ الَّتِي ذَهَبَ ثُلُثُ قَرْنِهَا وَأُذُنِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَقْطُوعَةُ الأُذُنِ يجوز، وَالْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِذَا لَمْ يُدْمِ قَرْنُهَا جَازَ. فأما الجماء، فهل يجزئ؟ لأصحابنا فيها وجهان. والعوراء: الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَهِيَ الَّتِي قَدِ انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا وذهبت. والعجفاء: التي لا تنقي، وهي الهزيلة التي لا نقي لها، والنقي: المخ. والعرجاء: البين ظلعها، فَلا تَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ مَعَ الْغَنَمِ، وَلا عَلَى مُشَارَكَتِهِنَّ فِي الْعَلَفِ.
وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا: وَهِيَ الْجَرْبَاءُ، لأَنَّ جَرَبَهَا يفسد اللحم. فأما قول علي عليه السلام: لا تضحي بمقابلة ولا مدابرة وَلا خَرْقَاءَ وَلا شَرْقَاءَ، فَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ، والإجزاء يقع. والمقابلة: التي قطع شَيْءٌ مِنْ مَقْدَمِ أُذُنِهَا، وَبَقِيَ مُعَلَّقًا. وَالْمُدَابِرَةُ: التي قطع مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ خَلْفِ أُذُنِهَا. وَالْخَرْقَاءُ: الَّتِي قد نقب الكي أذنها. والشرقاء: التي شق الكي أذنها. ويجرئ الخصي، ويستحب أن تنحر الإبل قائمة معلقة، ويذبح ما سواها. وأيام النحر [عند أحمد] ثَلاثَةٌ يَوْمُ الْعِيدِ بَعْدَ صَلاةِ الْعِيدِ أَوْ قَدْرَ الصَّلاةِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، فَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ النَّحْرِ، ذَبَحَ الْوَاجِبَ قَضَاءً، فَإِنْ ذَبَحَ التَّطُوُّعَ، كان صدقة بلحم أضحية.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَيَّامَ النَّحْرِ إِلَى آخَرِ أَيَّامِ مِنًى إِلَى الْمَغِيبِ. وَهَلْ يَجُوزُ ذَبْحُ الأَضَاحِي والهدي بالليل؟ فيه عن أحمد روايتان: أصحهما: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ: لا يجزئ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَلا يَجُوزُ بَيْعُ جُلُودِ الهدايا والأضاحي، ولا جلالها، بل يتصدق به، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُشْتَرَى بِهِ مَتَاعُ الْبَيْتِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: كَالْغُرْبَالِ وَالْمُنْخُلِ، وَلا يُشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ. وَالْمَشْرُوعُ عندنا في الأضحية أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ.
باب ذكر الهدي
بَابٌ ذِكْرُ الْهَدْيِ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ نَحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَهْدَى إِلَى الْبَيْتِ إِلْيَاسُ بْنُ مُضَرَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ: قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: الْهَدْيُ اسم لما يهدى إلى بيت اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ شَاةٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاءِ: الْهَدْيُ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ هَدْيَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: هُوَ الْهَدِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمَطَايَا ... وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَدْيُ يُجْمَعُ أَهْدَاءُ وهدياً وهدياً. وَيُسْتَحَبُّ إِشْعَارُ الْهَدْيِ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَفِي صِفَةِ الإِشْعَارِ قَوْلانِ:
أَحَدَهُمَا: أَنْ يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الأَيْمَنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: الأَيْسَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يوسف ومحمد، وعن أحمد كالقولين وعنه رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي شَقِّ أَيِّ الجانبين شاء. وَتَقْلِيدُ الْغَنَمِ مَسْنُونٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أن تقليدها نَعْلا، أَوْ أُذُنَ قِرْبَةٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ.
باب كلام أهل الإشارة في الأضاحي والعيد
بَابٌ كَلامُ أَهْلِ الإِشَارَةِ فِي الأَضَاحِي وَالْعِيدِ 180- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعيد الحيري، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: أخبرني أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ الْفَتْحِ الْحَلَبِيُّ يَوْمَ الْنَحْرِ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! أَرَى النَّاسُ يتقربون إليك بألوان الذبائح، وإني تقربت إِلَيْكَ بِحُزْنِي، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ، ثُمَّ قال: إلهي! إلى متى ترددني فِي دَارِ الدُّنْيَا مَحْزُونًا، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، فَوَقَعَ مِنْ سَاعَتِهِ مَيْتًا. 181- أَنْبَأنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، قال: أخبرنا أبو سعد الماليني، قال: أخبرنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَابِتٍ الخطاب يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ: رَأَيْتُ فتحاً الموصلي في يوم عيد الأضحى وقد شم ريح القنار، فدخل إلى أن أفاق، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِقُرْبَانِهِمْ، وَأَنَا أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِطُولِ حُزْنِي يَا مَحْبُوبُ، كَمْ تَتْرُكُنِي فِي أَزِقَّةِ الدُّنْيَا
مَحْزُونًا، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ وَحُمِلَ، فَدَفَنَّاهُ بَعْدَ ثَلاثٍ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: ضَحَّى الْحَبِيبُ بِقَلْبِي يَوْمَ عِيدِهِمُ ... وَالنَّاسُ ضَحُّوا بِمِثْلِ الشَّاءِ وَالنَّعَمِ إِنَّ الْحَبِيبَ الَّذِي يُرْضِيهِ سَفْكُ دَمِي ... دَمِي حَلالٌ لَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلنَّاسِ حِجٌّ وَلِي حِجٌّ إِلَى سَكَنِي ... تُهْدَى الأَضَاحِي وَأُهْدِي مُهْجَتِي وَدَمِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ قَوْمٌ لَوْ بِجَارِحَةٍ ... بِالْحُبِّ طَافُوا لأَلْهَاهُمُ عَنِ الْحَرَمِ يَا لائِمِي لا تلمني في هواه فلو ... عاينت منه الذي عاينت لم تلم 182- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد بن أبي صادق، قال: ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو الحسن الحنظلي، قال: سمعت الشلبي ينشد يوم العيد: ليس عيد المحب قصداً لمصلى ... وَانْتِظَارُ الْجُلُوسِ وَالسُّلْطَانِ إِنَّمَا الْعِيدُ أَنْ يَكُونَ لدى ... الحب كَرِيمًا مُقَرَّبًا فِي أَمَانِ وَيُرْوَى عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ يَوْمَ عيدٍ:
عِيدِي مُقِيمٌ وَعِيدُ النَّاسِ مُنْصَرِفُ ... وَالْقَلْبُ مِنِّي عن اللذات منحرف ولي قرينان ما لي منهما خلفٌ ... طول الحنين وعيني دَمْعُهَا يَكْفُ 183- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قال: أخبرنا هَنَّادٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: كَانَ الشِّبْلِيُّ يَوْمَ الْعِيدِ يَنُوحُ وَيَصِيحُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ سودٌ وَزُرْقٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَسَأَلُوهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: تَزَيَّنَ النَّاسُ يَوْمَ الْعِيدِ لِلْعِيدِ ... وَقَدْ لَبِسْتُ ثِيَابَ الزُّرْقِ وَالسُّودِ وَأَصْبَحَ الْكُلُّ مسروراً بعيدهم ... ورحت فيكم إلى نوحٍ وتعديد فالناس فِي فرحٍ وَالْقَلْبُ فِي ترحٍ ... شَتَّانَ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فِي الْعِيدِ 184- أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي منصور، قال: أخبرنا الحميدي، قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: أخبرنا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ يَوْمَ عِيدٍ: الناس بالعيد قَدْ سُرُّوا وَقَدْ فَرِحُوا ... وَمَا سُرِرْتُ بِهِ والواحد الصمد لما تيقنت أني لا أعيانكم ... غَمَّضْتُ طَرْفِي فَلَمْ أَنْظُرْ إِلَى أَحَدِ وَأَنْشَدَ الشِّبْلِيُّ يَوْمَ عيدٍ: إِذَا مَا كُنْتَ لِي عِيدًا ... فَمَا أَصْنَعُ بِالْعِيدِ جَرَى حُبُّكَ فِي قَلْبِي ... كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي الْعُودِ
185- أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الحميدي، قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: أخبرنا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلاءِ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لأَبِي عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيِّ: غَدًا الْعِيدُ فَغَيِّرْ مِنْ زِيِّكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: قَالُوا غَدًا الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لابِسُهُ ... فقلت خلعة ساق حبه جرعا فقر وضرهما ثوبان تَحْتَهُمَا ... قَلْبٌ يَرَى إِلْفَهُ الأَعْيَادَ وَالْجُمُعَا أَحْرَى الملابس أن يلقى الْحَبِيبَ بِهَا ... يَوْمَ التَّزَاوُرِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي خلعا الدهر لي مأتم إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي ... وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْءًا وَمُسْتَمَعَا
باب الحلاق والتقصير
بَابُ الْحِلاقِ وَالتَّقْصِيرِ إِذَا ذَبَحَ، حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، لا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ في إحدى الروايتين، وفي الأخرى يجزئه بعضه، كالمسح، فإن لم يكن له شعر، استحب أن يمر الموس عَلَى رَأْسِهِ، وَالْمَرَأَةُ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا قَدْرَ الأُنْمُلَةِ وَلا تَحْلِقُ. وَمَنْ قَدَّمَ الْحِلاقَ عَلَى الرمي أو على النحر جاهلاً بالسنة في ذلك، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فهل عليه دم؟ فيه روايتان. وكذلك إن أخر الحلاق من أَيَّامِ مِنًى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. 186- وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن رجلا من الأنصار سأله عن الحج، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ((وَأَمَّا حَلْقُ رأسك، فإن لك بكل شعرة نوراً)) . وفي لفظ: ((فإذا حَلَقْتَ رَأْسَكَ تَنَاثَرَتِ الذُّنُوبُ كَمَا يَتَنَاثَرُ الشَّعْرُ، بِكُلِّ شَعْرَةٍ ذَنْبٌ)) . 187- أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعْمَرِ الأَنْصَارِيُّ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو محمد الخلال، قال: ثنا أحمد بن محمد بن القاسم الرازي،
قال: ثنا أحمد بن محمد الجوهري، وقال: ثنا إبراهيم بن سهل المدائني، قال: حَدَّثَنِي سَيْفُ بْنُ جَابِرٍ الْقَاضِي، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثابت: أَخْطَأْتُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ، فَعَلَّمَنِيهَا حَجَّامٌ، وَذَلِكَ أَنِّي حِينَ أَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ رأسي وقفت عَلَيَّ حَجَّامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: بِكَمْ تَحْلِقُ رَأْسِي؟ فقال: أعراقي أنت؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: النُّسُكُ لا يُشَارَطُ عَلَيْهِ، اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ مُنْحَرِفًا عَنِ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ لِي: حَوِّلْ وَجْهَكَ إِلَى الْقِبْلَةِ. فَحَوَّلْتُهُ وَأَرَدْتُ أَنْ أحلق رأسي مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ، فَقَالَ: أَدِرِ الشِّقَّ الأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِكَ. فَأَدَرْتُهُ وَجَعَلَ يَحْلِقُ وَأَنَا سَاكِتٌ، فقال لي: كَبِّرْ، فَجَعَلْتُ أُكَبِّرُ حَتَّى قُمْتُ لأَذْهَبَ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: رَحْلِي. قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ امْضِ. فَقُلْتُ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا رَأَيْتَ مِنْ عَقْلِ هَذَا الْحَجَّامِ. فقلت له: مِنْ أَيْنَ لَكَ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَفْعَلُ هَذَا. 188- أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا ابن المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا ابن سويد، قال: ثنا ابن الأنباري، قال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الفضل بن
فصل
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَّ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فطلب حلاقاً، فجاء، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتَحَيَّرَ ودهش وقال: هذه الألف، أمضي إلى أم فلانة أُبَشِّرُهَا. فَقَالَ: أَعْطُوهُ أَلْفًا آخَرَ. فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ حَلَقَ رَأْسَ أَحَدٍ بَعْدَكَ. فَقَالَ: أَعْطُوهُ أَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ. فَصْلٌ وَلِلْحَجِّ تَحَلُّلانِ: فَالأَوَّلُ: يَحْصُلُ بِشَيْئَيْنِ مِنْ ثَلاثَةٍ: بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ، أَوْ بِالرَّمْيِ وَالْحِلاقِ، أَوْ بِالْحِلاقِ وَالطَّوَافِ، فَإِذَا وَجَدَ ذلك، حل له سائر المحظورات إِلا النِّسَاءَ. فَإِذَا وُجِدَ الثَّالِثُ: تَحَلَّلَ التَّحَلُّلُ الثاني، وحل له كل شيء.
باب ذكر مسجد الخيف
باب ذكر مَسْجِدِ الْخَيْفِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: (الْخَيْفُ) : مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْوَادِي وَانْحَدَرَ مِنَ الْجَبَلِ. 189- أنبأنا الحريري، عن العشاري، قال: ثنا أبو بكر الهاشمي، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا الأزرقي، قال: حدثني جدي، قال: ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًا كُلُّهُمْ مَخْطُمُونَ بِاللِّيفِ. قَالَ مروان: يعني رواحلهم. 190- أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو طالب العشاري، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: ثنا ابن صفوان، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني عيسى بن عبد الله التميمي، قال: ثنا ابن إدريس، قال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: كان يلتقي هو والحسن البصري في المواسم كُلَّ عَامٍ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ وَنَامَتِ الْعَيْنُ، وَمَعَهُمَا جُلاسٌ لَهُمَا يَتَحَدَّثُونَ إِلَيْهِمَا، فَبَيْنَمَا هُمَا ذَاتَ لَيْلَةٍ
يَتَحَدَّثَانِ مَعَ جُلَسَائِهِمَا، إِذْ أَقْبَلَ طَائِرٌ لَهُ حَفِيفٌ حَتَّى وَقَعَ إِلَى جَانِبِ وَهْبٍ فِي الْحَلَقَةِ، فَسَلَّمَ، فَرَدَّ وَهْبٌ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَعَلِمَ أنه من الجن، فقال وهب: من الرجل؟ قال: مِنَ الْجِنِّ، مِنْ مُسْلِمِيهِمْ. قَالَ: فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: وَتُنْكِرُ أَنْ نُجَالِسَكُمْ وَنَحْمِلَ عَنْكُمْ إِنَّ لكم فينا رواة كثيرة، وَإِنَّا لَنُحَاضِرُكُمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ صَلاةٍ وَجِهَادٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَنَحْمِلُ عَنْكُمُ الْعِلْمَ. فَقَالَ وَهْبٌ: فَأَيُّ رُوَاةِ الْجِنِّ عِنْدَكُمْ أَفْضَلُ؟ قَالَ: رُوَاةُ هذا الشيخ، وأشار إلى الحسن. وَمِمَّا قَالَتِ الشُّعَرَاءِ فِي ذِكْرِ الْخَيْفِ: قَوْلُ عمر بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: قُلْ لِلْمَنَازِلِ بِالْكَدِيدِ تَكَلَّمِي ... درست وعهد جديد لم يقدم
دار الَّتِي تَبَّلَتْ فُؤَادُكَ غُدْوَةً ... بِالْخَيْفِ لَمَّا الْتَفَّ أَهْلُ الْمَوْسِمِ وَلِمِهْيَارٍ: لَيْتَ بَيْتًا بِالْخَيْفِ أَمْسَ اسْتَضَفْنَاهُ ... قِرَانًا وَلَوْ غَرَامًا وَوَجْدَا لا عَدَا الروح من تهامة أنفاساً ... إذا استروحت تمنت نَجْدَا وَلَهُ: يَا مَنْ رَأَى بِالْعَقِيقِ بَارِقَةً ... تحسر منها الربا وتعتم تقدح زند الجنوب جذوتها ... وسدفة الليل تحتها فحم يذكرني لمحة زماناً على الخيف ... تقضى كَأَنَّهُ الْحُلْمُ هَلْ لَكَ بِالنَّازِلِينَ أَرْضَ مِنًى ... يا علم الشوق بعدنا علم جرت مع الرسم لي مُحَاوِرَةٌ ... فَهِمْتُ مِنْهَا مَا قَالَهُ الرَّسْمُ وَلِعَلِيِّ بْنِ أَفْلَحَ: هَذِهِ الْخَيْفُ وَهَاتِيكَ مِنًى ... فَتَرَفَّقْ أَيُّهَا الْحَادِي بِنَا وَاحْبِسِ الرَّكْبَ عَلَيْنَا سَاعَةً ... تندب الرَّبْعَ وَنَبْكِي الدِّمَنَا فَلِذَا الْمَوْقِفِ أَعْدَدْنَا الْبُكَا ... ولذا اليوم الدموع تقتنا زَمَنًا كَانَ وَكُنَّا جِيرَةً ... يَا أَعَادَ اللَّهُ ذاك الزمنا بيننا يوم ائتلاف النَّقَا ... كَانَ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بَيْنَنَا
باب ذكر التكبير
بَابُ ذِكْرِ التَّكْبِيرِ أَمَّا الْمُحْرِمُ: فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ عُقَيْبَ سَبْعَ عَشْرَةَ صَلاةً: أَوَّلُهَا صَلاةُ الظُّهْرِ من يَوْمَ النَّحْرِ، وَآخِرُهَا صَلاةُ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أيام التشريق. وأما المحل: فيبتدئ بالتكبير عقيب صلاة الفجر يوم عرفة، ويقطعه بعد صلاة العصر آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ لا يُفَرِّقُ بين المحل والمحرم. وصفة التكبير: شفع اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ. وَهَلْ يكبر المنفرد؟ فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: يُكَبِّرُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَنَا: أَنَّهُ لا يُكَبِّرُ عُقَيْبَ النَّوَافِلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُكَبِّرُ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ الْمُسَافِرُ، خِلافًا لأَبِي حنيفة.
أبواب ذكر مكة
أبواب ذكر مكة
باب في ذكر المشهور من أسمائها
أَبْوَابُ ذِكْرِ مَكَّةَ بَابٌ فِي ذِكْرِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَسْمَائِهَا قَدْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءَ: مَكَّةُ، وَالْبَلَدُ، وَالْقَرْيَةُ، وَأُمُّ القرى. فأما مكة: فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيديكم عنهم ببطن مكة} . فأما الكلام في هذا الاسم: فقال الزجاج: مكة لا تنصرف، لأَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اشتقاقها كاشتقاق بكة، لأن الميم تبدل من الْبَاءِ. يُقَالُ: ضَرَبَهُ لازِمٌ وَلازِبٌ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اشْتِقَاقُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ مَا في ضرع الناقة، إذا مص مصاً شديداً حتى لا يُبْقِي فِيهِ شَيْئًا، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ ازدحام الناس فيها.
وقال ابن فارس: يقال: تمككت العظم إذا أخرجت مخه، والتمكك: الاستقصاء. 191- وفي الحديث: ((لا تمككوا على غرمائكم)) . وَفِي تَسْمِيَةِ مَكَّةَ بِهَذَا الاسْمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لأَنَّهَا مَثَابَةٌ يَؤُمُّهَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، فَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْذِبُهُمْ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ مَا فِي ضَرْعِ الناقة. والثاني: أنها من قولهم: مككت الرجل إذا رددت نخوته، فَكَأَنَّهَا تَمَكُّ مَنْ ظَلَمَ فِيهَا، أَيْ: تُهْلِكُهُ. وأنشد: يَا مَكَّةُ الْفَاجِرَ مُكِّي مَكًّا ... وَلا تَمُكِّي مذ حجاً وَعَكَّا وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِيِّتْ بِذَلِكَ؛ لِجَهْدِ أَهْلِهَا. وَالرَّابَعُ: لِقِلَّةِ الْمَاءِ بِهَا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أن مكة اسم لجميع البلدة، وَاخْتَلَفُوا فِي بَكَّةَ عَلَى
أربعة أقوال: أحدها: أنها اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا الْكَعْبَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَمَكَّةُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمَسْجِدُ وَالْبَيْتُ وَمَكَّةُ اسْمٌ لِلْحَرَمِ كُلِّهِ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ بَكَّةَ هِيَ مَكَّةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاحَتَّجَ لِتَصْحِيحِهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّ الْبَاءَ تُبْدَلُ مِنَ الْمِيمِ، يُقَالُ: سَبَدَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ، وسمد رأسه، إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، وَشَرٌّ لازِمٌ وَلازِبٌ. فَأَمَّا اشْتِقَاقُ بَكَّةَ، فَمِنَ الْبَكِّ، يُقَالُ: بَكَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بعضاً، أي: دفع. وفي تسميتها ببكة ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لازْدِحَامِ النَّاسِ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: لأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ، أي: تدقها، فما قصدها جبار إلا وقصه اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَالثَّالِثُ: لأَنَّهَا تَضَعُ مِنْ نَخْوَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْبَلَدِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا أقسم بهذا البلد} ، يَعْنِي: مَكَّةَ. وَالْبَلَدُ فِي اللُّغَةِ: صَدْرُ القرى. وأما تسميتها بالقرية: فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمنةً
مطمئنةً} : يُشِيرُ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ أَمْنٍ، يأمن أهلها أن يغار عليهم. مطمئنة: أَيْ: سَاكِنَةً بِأَهْلِهَا، لا يَحْتَاجُونَ إِلَى الانْتِقَالِ عَنْهَا لخوفٍ أَوْ ضِيقٍ، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} ، و (الرغد) : الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْكَثِيرُ. يُقَالُ: أَرْغَدَ فُلانٌ، إِذَا صار في خصبٍ وسعة. {فكفرت بأنعم الله} ، فكذبت مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لباس الجوع والخوف} ، وَأَصْلُ الذَّوْقِ بِالْفَمِّ، وَلَكِنَّهُ اسْتِعَارَةٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ أن الله تعالى عَذَّبَ كُفَّارَ مَكَّةَ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ الْمُحْرَقَةَ، وَكَانُوا يَخَافُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَمَنْ سَرَايَاهُ. وَالْقَرْيَةُ: اسْمٌ لِمَا يَجْمَعُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْعِ، تقول: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، إِذَا جَمَعْتُهُ فِيهِ، ويسمى ذلك الحوض مقراةً. فأما تسميها بأم القرى، فقد قال عز وجل: {ولتنذر أم القرى} ، يعني: مكة.
وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لأن الأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لأَنَّهَا أَقْدَمُهَا. وَالثَّانِي: لأَنَّهَا قِبْلَةٌ يَؤُمُّهَا جَمِيعُ النَّاسِ. وَالثَّالِثُ: لأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرَى شَأْنًا. وَالرَّابِعُ: لأَنَّ فِيهَا بَيْتَ اللَّهِ عز وجل، ولما اطردت العادة بأن بَلَدَ الْمَلِكِ وَبَيْتَهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الأَمَاكِنِ، سُمِّي أُمًّا، لأَنَّ الأُمَّ مُتَقَدِّمَةٌ.
باب فضل مكة
بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ 192- أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، قال: أخبرنا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قال: أخبرنا المخلص، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا ابن أبي نزة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت، قال: ثنا عبد الله بن أبي رَبَاحٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي وفدٍ وَفِينَا أبو هريرة فذكر عن أبي هريرة في حديث ذَكَرَهُ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، أَتَتْهُ الأَنْصَارُ فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَقُولُ: ((وَاللَّهِ، لَقَدْ عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ)) . 193- أَخْبَرَنَا يحيى بن علي وعبد الوهاب، قالا: أخبرنا أبو محمد الصريفيني، قال: أخبرنا أبو بكر بن عبدان، قال: ثنا عبد الواحد بن المهتدي
بالله، قال: ثنا أيوب بن سليمان الصغدي، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شُعَيبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِّي بْنِ الْحَمَرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزُورَةِ مِنْ سُوقِ مَكَّةَ: ((وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أرض الله تبارك وتعالى إلى الله، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ)) . 194- أَخْبَرَنَا المبارك بن علي، قال: أخبرنا ابن العلاء، قال: أخبرنا أبو الحسن الحمامي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الصواف، قال: ثنا محمد بن عثمان، قال: ثنا أبي، قال: ثنا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: اخْتَارَ الله البلاد، وأحب الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ الْبَلَدُ الْحَرَامُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حُدِّثْنَا أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدَتْ فِي الرُّكْنِ كتاباً بالسريانية، فلم تدر ما هو حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رجلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِذَا فِيهِ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ، خَلَقْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بسبعة أملاك حنفاء، ولا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن. الأخشبان: الْجَبَلانِ، وَهُمَا أَبُو قُبَيْسٍ وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الأَحْمَرُ، وَكَانَ يُسَمَّى الأَعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُشْرِفُ وَجْهُهُ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَمَكَّةُ
بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا لِمَ قِيلَ لِلْجَبَلِ أَبُو قُبَيْسٍ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ من نهض يبني فيه رجل من مذحج يُقَالُ لَهُ أَبُو قُبَيْسٍ، فَلَمَّا صَعِدَ بِالْبِنَاءِ فِيهِ، سُمِّيَ جَبَلُ أَبِي قُبَيْسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اقْتُبِسَ مِنْهُ الرُّكْنُ، فَسُمِّيَ لِذَلِكَ. وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. 195- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: ((إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ، بِحُرْمَةِ الله إلى يوم القيامة، وأنه لا يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولا يُحِلَّ لِي إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حرام يحرمه اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعَضَّدُ شَوْكُهُ، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لُقَطَتُهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ)) . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهُ! إِلا الإِذْخَرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: ((إِلا الإِذْخَرَ)) .
الْخَلا: مَقْصُورٌ هُوَ الْحَشِيشُ، فَإِذَا مُدَّ، فَهُوَ الْمَكَانُ الْخَالِي. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ فَضْلِ مَكَّةَ مضاعفة الحسنات بها، والسيئات أيضاً، حتى أنه لو هم فيها الإِنْسَانُ بِسَيِّئَةٍ كُتِبَتْ عَلَيْهِ بِخِلافِ غَيْرِهَا مِنَ الْبِقَاعِ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلا هَمَّ بِقَتْلِ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَهُوَ بَعَدَنَ أَبْيَنَ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم. وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بِالْخَطِيئَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِأَرْضٍ أُخْرَى، فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ ولم يَعْمَلْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَلْ تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إِلا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: صوم يوم بمكة بمئة ألف، وصدقة درهم بمئة ألف، وكل حبة بمئة أَلْفٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ إِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ أَنْ لا يَخْرُجُوا حَتَّى يَخْتِمُوا الْقُرْآنَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، أَنَّهُ قَالَ: لا تَحْتَكِرُوا
الطَّعَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ احْتِكَارَ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ بظلم. 196- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا أبو عبد الله بن باكويه، قال: ثنا عبد العزيز بن الفضل، قال: ثنا علي بن محمد التميمي، قال: ثنا جعفر بن القاسم الخواص، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مُخَالَطَةُ الْوَلِيِّ للناس ذل، وتفرده عز، وقل ما رأيت ولياً لله إلا منفرداً. وإن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحٍ كَانَ رَجُلا لَهُ سَابِقَةٌ جَلِيلَةٌ، وَكَانَ يَفِرُّ مِنَ النَّاسِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بلدٍ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَطَالَ مُقَامُهُ بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ طَالَ مُقَامُكَ بها. فقال: لِمَ لا أُقِيمُ بِهَا؟ وَلَمْ أَرَ بَلَدًا تنزل فيه الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، وَالْمَلائِكَةُ تغدوا فِيهِ وَتَرُوحُ، وَإِنِّي أَرَى فِيهِ أَعَاجِيبَ كَثِيرَةً، أرى الملائكة يطوفون على صور شتى ولا يَقْطَعُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ قُلْتُ لَكَ كُلَّ مَا رَأَيْتُ لَصَغُرَتْ عَنْهُ عُقُولُ قَوْمٍ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. فقلت له: أسألك، إِلا أَخْبَرْتَنِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى صَحَّتْ وِلايَتُهُ إِلا وهو يحضر هذا البلد في كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ، لا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَمُقَامِي هَاهُنَا لأَجْلِ مَنْ أَرَاهُ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ
رجلاً يقال له: مالك بن القاسم حبلي وَقَدْ جَاءَ وَيَدُهُ غَمِرَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قريب عهد بالأكل؟ فَقَالَ لِي: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، فَإِنِّي مُنْذُ أُسْبُوعٍ لم آكل، ولكن أطعمت والدي وَأَسْرَعْتُ، لأَلْحَقَ صَلاةَ الْفَجْرِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الذي جاء منه سبع مئة فَرْسَخٍ، فَهَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَانِي مُؤْمَنًا مُوقِنًا. وَفِي هذه الحكاية: ((جاء ويده غمرة)) ، وهذه إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ اللَّحْمِ خَاصَّةً. 197- أَخْبَرَنَا ابْنُ أبي منصور، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا عبد الغافر، قال: الخطابي قال: أخبرني أبو عمر، قال: ثنا ثَعْلَبٌ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: يدي من الوحل لثقةٌ، ومن اللحم غمرةٌ، ومن السمك صمرة، ومن اللبن والزبد شثرةً، ومن
العجين ورخة، ومن الدم سلطة وسلطة، ومن الثريد مردة، ومن الحمأة ذوطة، وَمِنَ الأَشْنَانِ قَضِضَةٌ، وَمِنَ الْمِدَادِ وَحِدَه، وَمِنَ الْمَاءِ بَلِلَة، وَمِنَ الْبَزَرِ وَالنَّفْطِ نَمِسَةٌ وَنَسِمَةٌ، ومن الزعفران ردعة، ومن العطر عبقة.
باب بيان أن أهل مكة أهل الله عز وجل
بَابٌ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ 198- لَمَّا اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ، قَالَ: ((يَا عَتَّابُ! أَتَدْرِي عَلَى مَنِ استعملتك؟ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَوْصِ بِهِمْ خَيْرًا (يَقُولُهَا ثَلاثًا)) ) . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِيمَا مَضَى يُلْقَوْنَ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَهْلِ اللَّهِ. وَكَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَرْوِي أَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: مَنْ أَمَّنَ أَهْلَ الْحَرَمِ، اسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ أَمَانِي، وَمَنْ أَخَافَهُمْ، فَقَدْ أَخْفَرَنِي فِي ذِمَّتِي، وَلِكُلِّ مَلِكٍ حِيَازَةٌ مِمَّا حَوَالَيْهِ، وَبَطْنُ مَكَّةَ حَوْزَتِي الَّتِي اخْتَرْتُ لِنَفْسِي، أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ، أَهْلُهَا جِيرَتِي، وَجِيرَانُ بَيْتِي، وَعُمَّارُهَا وَزُوَّارُهَا وَفْدِي وأضيافي، وفي كنفي وأماني، ضامنون علي في ذمتي وجواري.
باب ذكر فتح مكة
باب ذِكْرُ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ لِلْعُمْرَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَسَاقَ بُدْنًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ جَلَّلَ الْبُدْنُ وَأَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا وَأَحْرَمَ وَلَبَّى، وَبَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجُهُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى صَدِّهِ، وَخَرَجُوا فَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحٍ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الحديبية، وقفت به رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: حَلْ حَلْ (يَزْجُرُونَهَا) ، فَأَبَتْ، فَقَالُوا: خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ: مَا خَلأَتْ، وَلَكِنْ حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسئلوني الْيَوْمَ خُطَّةً فِيهَا تَعْظِيمُ حُرْمَةِ اللَّهِ، إِلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها، فقامت، ثم ولى رَاجِعًا حَتَّى نَزَلَ عَلَى ثمدٍ مِنْ أَثْمَادِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَاءَ الْقَوْمُ فَصَالَحُوهُ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، وَشَرَطُوا أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعَامِ المقبل، فيدخل مكة ويقيم ثلاثاً، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فأعانت قريش بعد ذلك عَلَى خُزَاعَةَ، ثُمَّ نَدِمُوا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِذَلِكَ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا عَنْوَةً في رمضان.
199- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ الله عنه] ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاث مئة وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بعودٍ كَانَ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: ((جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الباطل كان زهوقاً، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) . ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى حنين وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ يُصَلِّي بهم، ومعاذ بن جبل يُعَلِّمُهُمُ السُّنَنَ وَالْفِقْهَ. وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ، وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَةَ وَهِيَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ صَنَمٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا شَجَرَةٌ كَانَتْ لِغَطْفَانَ يَعْبُدُونَهَا، وَبَعَثَ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ صنم عمرو بن جهينة الدوسي، وبعث عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِيَّ إِلَى مَنَاةَ. قال الضحاك: هو صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ كَانَتْ مَنَاةُ لِلأَنْصَارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيَدَةَ: كَانَتِ اللاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ أَصْنَامًا مِنْ حِجَارَةٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَعْبُدُونَهَا.
باب أذان بلال على ظهر الكعبة يوم الفتح
بَابٌ أَذَانُ بِلالٍ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الفتح 200- أنبأنا الحريري عن العشاري، قال: أخبرنا أبو الهاشمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا أبو الوليد الأزرقي، قال: أخبرني جدي عن محمد بن إدريس الشافعي، عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: جاءت الظُّهْرُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلالا أَنْ يُؤَذِّنَ بِالظُّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَقُرَيْشٌ فَوْقَ الْجِبَالِ وَقَدْ فر وجوههم وتغيبوا خوفاً أن يقتلوا، منهم من يطلب الأَمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أُومِنَ، فَلَمَّا أَذَّنَ بلال ورفع كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ، فَلَمَّا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ: قَدْ لَعَمْرِي رَفَعَ لَكَ ذِكْرَكَ، أَمَّا الصَّلاةُ، فَسَنُصَلِّي، وَوَاللَّهِ مَا نُحِبُّ مَنْ قَتَلَ الأحبة.
وقال خالد بْنُ أُسَيْدٍ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَكْرَمَ أَبِي، فَلَمْ يَسْمَعْ بِهَذَا الْيَوْمَ (وَكَانَ أُسَيْدٌ مَاتَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِيَوْمٍ) . وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: واثكلاه! يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ بِلالا يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: هذا والله الحدث الجليل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة. وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطاً لله، فَسَيُغَيِّرُهُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: أَمَّا أَنَا، فَلا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ قُلْتُ شَيْئًا، لأخبرته هذه الحصاة. فأتى جبريل النبي [صلى الله عليه وسلم] فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا فُلانُ، فَقُلْتَ كَذَا، وَأَمَّا أَنْتَ يَا فُلانُ، فَقُلْتَ كَذَا، وَأَمَّا أَنْتَ يَا فُلانُ، فَقُلْتَ كَذَا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أما أنا يا رسول الله، فما قُلْتُ شَيْئًا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
باب كيفية دخول مكة للحاج
بَابٌ كَيْفِيَةُ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَاجِّ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَهَا مِنْ أَعْلاهَا مِنْ ثَنِيَةِ كَدَاءَ، فَإِذَا خَرَجَ، خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ ثَنِيَةِ كُدَى. 201- فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَن ّالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، وَرُبَّمَا خَلَطُوا فِي ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنِّي أَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ بِمَكَّةَ ثَلاثَةَ أَمْكِنَةٍ أَسْمَاؤُهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ، فَلِذَلِكَ تَشْتَبِهُ: فَالأَوَّلُ: كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ مَعَ الْمَدِّ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ إِذَا صَعَدَ فِيهِ الآتِي من طريق العمرة، وما هنالك انحدر به إِلَى الْمَقَابِرِ وَإِلَى الْمَحْصَبِ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ الدخول منه. والثاني: كداء بضم الكاف مع القصر، وَهُوَ أَسْفَلُ مَكَّةَ يَدْخُلُ فِيهِ الدَّاخِلُ بَعْدَ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْ ذِي طُوَى وَهُوَ بِقُرْبِ شعب الشافعين عِنْدَ قُعَيْقِعَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ.
وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: كُدَيٌّ بِضَمِّ الْكَافِ مَعَ تَشْدِيدِ مصغر، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْيَمَنِ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ المقدمين في شيء، وهذا هو ضَبْطُ الْمُحَقِقِّينَ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عم الْعُذْرِيُّ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْحُمَيْدِيُّ.
أبواب ذكر الكعبة
أبواب ذكر الكعبة
باب في ذكر المشهور من أسمائها
أبواب ذكر الكعبة باب في ذكر المشهور من أسمائها قال الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} . وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالْكَعْبَةِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: لأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَيُقَالُ: بُرْدٌ مُكَعَّبٌ إِذَا طُوِيَ مُرَبَّعًا. وَالثَّانِي: لِعُلُوِّهَا وَنُتُوئِهَا، يُقَالُ: كَعَبَتِ الْمَرْأَةُ كَعَابَةً فَهِيَ كاعبٌ إِذَا نَتَأَ ثَدْيُهَا. وَسُمِّيَ الْبَيْتُ حَرَامًا، لأَنَّ حُرْمَتَهُ انْتَشَرَتْ، فَلا يُصَادُ عِنْدَهُ وَلا حَوْلَهُ، وَلا يُخْتَلَى مَا عنده مِنَ الْحَشِيشِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَأَرَادَ بِتَحْرِيمِ الْبَيْتِ سَائِرَ الْحَرَمِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هَدْيًا بالغ الكعبة} وأراد الحرم.
قالوا: وَالْقِيَامُ بِمَعْنَى الْقِوَامُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا قِوَامُ دِينٍ، وقوام دُنْيَا، فَلا يَزَالُ فِي الأَرْضِ دِينٌ مَا حجت وعندها المعاش والمكاسب. فأما تَسْمِيَتُهَا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ. 202- رَوَى عبد الله بن الزبير [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قال: ((إنما سمى الله البيت العتيق، لأن الله عز وجل أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليهم جَبَّارٌ قَطُّ)) . وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَتِيقَ بِمَعْنَى الْقَدِيمِ، قاله الحسن. والثالث: لأنه لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالرَّابِعُ: لأَنَّهُ أعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب.
باب بيان أنه أول بيت وضع للناس
باب بيان أنه أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوَّلَ بيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي ببكة مباركاً} . وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ افتخروا، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية، قاله مجاهد. واختلف العلماء في معنى كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ كَانَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ كَيْفَ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حين خلق الله عز وجل الأرض، فخلقه قَبْلَهَا بِأَلْفَيْ عَامٍ وَدَحَاهَا مِنْ تَحْتِهِ. قَالَ أبو هريرة [رضي الله عنه] : كانت الأرض حشفة عَلَى الْمَاءِ، عَلَيْهَا
مَلَكَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ عام. وقال ابن عباس [رضي الله عنه] : لَمَّا كَانَ الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يخلق الله تعالى السماوات والأرض، بعث ريحاً فصفقت الماء، فأبرزت عن حشفة في موضع البيت كَأَنَّهَا قُبَّةٌ، فَدَحَى الأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا، فَمَادَتْ، فأوتدها بالجبال. وعن ابن عباس: قَالَ: وُضِعَ الْبَيْتُ فِي الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ غُثَاءً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْهَا دُحِيَتِ الأَرْضُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَإِنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلى. (وَالثَّانِي) : أَنَّ آدَمَ حِينَ أُهْبِطَ اسْتَوْحَشَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إليه: ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ، فَاصْنَعْ حَوْلَهُ نَحْوَ مَا رَأَيْتَ الْمَلائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي، فَبَنَاهُ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(وَالثَّالِثُ) : أَنَّهُ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ، فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ، رُفِعَ، فَصَارَ مَعْمُورًا فِي السَّمَاءِ، وَبَنَى إبراهيم أثره، قاله قتادة. القول الثاني: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ كَانَتْ قبله بيوت، قاله علي عليه السلام.
باب تلخيص قصة بناء الكعبة
باب تلخيص قصة بناء الكعبة في المبتدى بِبِنَاءِ الْبَيْتِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تعالى وَضَعَهُ لا بِبِنَاءِ أَحَدٍ، وَفِي زَمَنِ وَضْعِهِ إِيَّاهُ قَوْلانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ وَضَعَهُ قَبْلَ خَلْقِ الدنيا، وقد ذكرناه عن ابن عباس. 203- وقد أَنْبَأنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مسعدة، قال: أخبرنا أبو إبراهيم النصراباذي، قال: أخبرنا المغيرة بن عمرو بن الوليد، قال: ثنا المفضل بن محمد الجندي، قال: ثنا عبد الله بن أبي غسان اليماني، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عن ابن عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ هُبُوطِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَاقُوَتَةً مِنْ يَوَاقِيتِ الجنة
وَكَانَ لَهُ بَابَانِ مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، بَابٌ شَرْقِيٌّ وَبَابٌ غَرْبِيٌّ، وَفِيهِ قَنَادِيلُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لا يَعُودُونَ فِيهِ إلا يَوْمِ الْقِيَامَةِ حِذَاءَ الْكَعْبَةِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ مِثْلُ الْفُلْكِ مِنْ شِدَّةِ رَعْدَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهُوَ يَتَلأْلأُ كَأَنَّهُ لُؤْلُؤَةٌ بَيْضَاءُ، فَأَخَذَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَنِي آدَمَ مِيثَاقَهُمْ فَجَعَلَهُ فِي الْحَجَرِ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ الْعَصَا، ثم قال: يا آدم! تخطأ فَتَخَطَّا، فَإِذَا هُوَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، فَمَكَثَ هُنَالِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَوْحَشَ إِلَى الْبَيْتِ. فَقِيلَ لَهُ: احْجُجْ يَا آدَمُ، فَأَقْبَلَ يَتَخَطَّى، فصار مَوْضِعِ كُلِّ قَدَمٍ قَرْيَةً، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مفازة حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَلَقِيَتْهُ الْمَلائِكَةُ، فَقَالُوا: بِرَّ حَجَّكَ يَا آدَمُ، لَقَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ حَوْلَهُ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لله والله أكبر، وكان آدَمُ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ قَالَ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَكَانَ آدَمُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَسَابِيعَ بِاللَّيْلِ، وَخَمْسَةَ أَسَابِيعَ بِالنَّهَارِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ! اجْعَلْ لِهَذَا الْبَيْتِ عُمَّارًا يَعْمُرُونَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِي، فأوحى الله تعالى إليه أن معمره نبياً مِنْ ذُرِّيَّتِكَ اسْمُهُ
إِبْرَاهِيمُ أتَّخِذُهُ خَلِيلا، أَقْضِي عَلَى يَدَيْهِ عِمَارَتَهُ، وأنيط لَهُ سِقَايَتَهُ، وَأُرِيهِ حِلَّهُ وَحَرَمَهُ وَمَوَاقِفَهُ، وَأُعَلِّمُهُ مَشَاعِرَهُ وَمَنَاسِكَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ نَادَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِلَّهِ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فأسمع من بين الخافقين، فقال آدم: يا رب! اسلك مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ ذُرِّيَّتِي لا يُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا أَنْ تُلْحِقَهُ بِي فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: يَا آدَمُ! مَنْ مَاتَ فِي الْحَرَمِ لا يُشْرِكْ بِي شَيْئًا، بَعَثْتُهُ آمِنًا يوم القيامة)) . والثاني: أنه أهبط مع آدم، وقد ذكرناه عن قتادة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ المْلائِكَةَ بَنَتْهُ. 204- فَرَوَى جَعْفَرُ بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، قَالَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلائِكَةِ: {إني جاعلٌ في الأرض خليفةً} فـ {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} ، غضب عَلَيْهِمْ فَعَاذُوا بِالْعَرْشِ، فَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: ابْنُوا فِي الأَرْضِ بَيْتًا يَعُوذُ بِهِ كُلُّ مَنْ سخطت عليه، ويطوف حوله كما فعلتم بعرشي، فَبَنَوْا هَذَا الْبَيْتَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ آدَمَ بَنَاهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عنه] ، وقد
روى عطاء عن ابن عباس أَنَّ آدَمَ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ مِنْ لبنان وطور سيناء وطور زنيا والجودي وحراء. وقال عثمان بن ساج: حدثت أن آدم لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ، قَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ لكل عامر أجر، وَإِنَّ لِي أَجْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَرُدَّنِي من حيث أخرجتني. قال: ذلك لك. قال: وَمَنْ خَرَجَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ ذُرِّيَّتِي، يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمِثْلِ الَّذِي أَقْرَرْتُ بِهِ مِنْ ذُنُوبِي أَنْ تَغْفِرَ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَلِكَ لَكَ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا رفعت الخيمة التي وضعها الله لآدم مكان البيت، ومات آدم وبنى بنو آدم من بعده مكانها بَيْتًا بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعْمُورًا يَعْمُرُونَهُ هُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى كَانَ زَمَنُ نُوحٍ، فنسفه الغرق. قال مجاهد: وكان مَوْضِعُ الْبَيْتِ بَعْدَ الْغَرَقِ أَكَمَةً حَمْرَاءَ لا تعلوها السيول، وَكَانَ يَأْتِيهَا الْمَظْلُومُ وَيَدْعُو عِنْدَهَا الْمَكْرُوبُ، فَقَلَّ مَنْ دَعَا عِنْدَهَا إِلا
اسُتُجِيبَ لَهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَحُجُّونَ إِلَى مَوْضِعِ البيت، حتى بوأ الله مكانه إبراهيم. قال أهل السير: فلما ولد للخليل إسماعيل، أمره الله تعالى ببناء الْبَيْتِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! بَيِّنْ لِي صِفَتَهُ، فأرسل الله سحابة على قدر الْكَعْبَةِ، فَسَارَتْ مَعَهُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَقَفَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَنُودِيَ: ابْنِ عَلَى ظِلِّهَا، لا تَزِدْ وَلا تَنْقُصْ. فَكَانَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يناوله الحجارة، فلما فرغا منه، أوحى الله تعالى إليه: {وأذن في الناس بالحج} ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ: عليك الأذان وعلي البلاغ، فعلا ثبير، ونادى يا عباد الله! إن لله بيتاً فحجوه. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَبَّى كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَأُسْمِعَ من بين المشرق والمغرب، فأجابوه: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَإِنَّمَا يَحُجُّ الْيَوْمَ مَنْ أَجَابَ يومئذٍ. ثُمَّ إِنَّ الْبَيْتَ انْهَدَمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ، فَبَنَتْهُ جُرْهُمٍ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ، وَكَانَ بِنَاءُ قُرَيْشٍ لِلْبَيْتِ وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلامٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلُمَ، أجمرت امرأة الكعبة، فطارت شرره، فَأَحْرَقَتْ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ، فَوَهَى الْبَيْتُ، فَنَقَضَتْهُ قُرَيْشٌ وبنته، فلما
أَرَادُوا وَضْعَ الرُّكْنِ، اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَرْفَعُهُ مِنَ القبائل، فاجتمع رأيهم إلى أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى أَوَّلِ دَاخِلٍ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلامٌ، فَحَكَّمُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا ثَوْبًا. فَأَخَذَ الرُّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ أَنْ يَأْخُذَ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ: ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَلَمَّا رَفَعُوهُ وَضَعَهُ [صلى الله عليه وسلم] بيده. 205- أنبأنا الحريري، قال: أخبرنا أبو بكر الخياط، قال: أخبرنا ابن دوست، قال: ثنا صفوان، قال: ثنا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الحسين، قال: حدثني أبو محمد السناط، قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ يَقُولُ: لَمَّا هُدِمَتِ الْكَعْبَةُ، أَصَابُوا فِي طُوبَةٍ (يَعْنِي: آجُرَةٍ) مكتوب بِالْعِبْرَانِيَّةِ: احْذَرُوا سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لا يُغْلَبُ، وَسَاكِنَ الأَمْوَاتِ لا يَرْجِعُ، وَمَلَكَ الْمَوْتِ مأمور لا يَعْصِي. ثُمَّ إن ابن الزبير هدم الكعبة وبناها على أساس إبراهيم، وكانت قريش
قَدْ قَصَّرَتْ عِنْ ذَلِكَ وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ في البيت، وجعل لها بابين، شرقيا وغربيا، ثم نقضها الحجاج بعد ذلك وأعادها إلى البناء الأول. 206- وفي ((الصحيحين)) من حديث عائشة [رضي الله عنها] عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((ألم تر أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟)) . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْلا حَدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَفَعَلْتُ)) . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجَرَ، إِلا أَنَّ البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. قالت عائشة: فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: ((فعل ذلك قومك، ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا)) . وَفِي لَفْظٍ: ((لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس منه، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ مِنْهُ)) .
فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. 207- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُومَانَ قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هدمه وأدخل فيه من الحجر، ورأيت أساس إبراهيم حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. 208- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لها: ((لولا أن قومك حديثو عهد بشرك؛ لهدمت الكعبة، فألزقتها بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ، شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ)) . وَفِي لَفْظٍ: ((خَمْسَ أَذْرُعٍ)) . وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ [رضي الله عنها] : ((هَلُمِّي لأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ)) . فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.
باب كيفية بناء المسجد الحرام
باب كيفية بناء المسجد الحرام اعلم أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كَانَ صَغِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جِدَارٌ، إِنَّمَا كَانَتِ الدُّورُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَبَيْنَ الدُّورِ أَبْوَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ الْمَسْجِدُ، فَاشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] دُورًا فَهَدَمَهَا، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ جِدَارًا قَصِيرًا، ثُمَّ وَسَّعَ المسجد عُثْمَانُ [بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، وَاشْتَرَى من قوم، ثم زاد ابن الزبير [رضي الله عنه] في المسجد واشترى دوراً وأدخلها فِيهِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَ إِلَيْهِ أَسَاطِينَ الرُّخَامِ وَسَقَّفَهُ بِالسَّاجِ الْمُزَخْرَفِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ زَادَ الْمَنْصُورُ فِي شِقِّهِ الشَّامِيِّ، ثُمَّ زَادَ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي جَانِبٍ، فَأَحَبَّ أَنْ تَكُونَ وَسَطًا، فَاشْتَرَى مِنَ النَّاسِ الدُّورَ ووسطها.
باب فضل المسجد الحرام
باب فضل المسجد الحرام 209- ثنا يحيى بن إبراهيم السلماني، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي، قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَكُمْ أبو نصر أحمد بن محمد القارئ، قال: ثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله البزار، قال: ثنا النقاش، قال: ثنا أحمد بن فياض، قال: ثنا أبو محمد أخو الإمام، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أفضل من مئة أَلْفِ صَلاةٍ)) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: فَحَسَبْتُ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَبَلَغَتْ صَلاةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عُمْرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصَلاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ عُمْرُ مئتي سنة وسبعين سنة وسبعة أَشْهُرٍ وَعَشْرِ ليالٍ.
باب ذكر كسوة الكعبة
بَابُ ذِكْرِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ 210- أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ العشاري، قال: ثنا أبو بكر الهاشمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا أبو الوليد الأزرقي، قال: حدثنا جدي، قال: ثنا إبراهيم بن محمد، عن همام بن محمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ نَهَى عَنْ سَبِّ أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيِّ وَهُوَ تُبَّعٌ، وَكَانَ أول من كسا الكعبة. وقال جماعة من أهل العلم: كَانَ قَدْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَهَا، فكساها الأنطاع، ثم أري أن كساها فَكَسَاهَا الْوَصَائِلَ ثِيَابٌ حِبرَةٌ مِنْ عَصْبِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا نَشَأَ أَبُو زَمْعَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أنا أكسوها وَحْدِيَ الْكَعْبَةَ سَنَةً،
وجميع قريش سنة، فكان يأتي بالحبرة الجيدة، فَيَكْسُوهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، فَسَمَّتْهُ بِهَا قُرَيْشٌ الْعَدْلَ، لأَنَّهُ عَدَلَ فِعْلُهُ بِفِعْلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا. وأول عربية كست الكعبة الحرير والديباج: بتيلة بنت حباب أُمُّ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. 211- وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حنيفة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُسَيَ الْبَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الأَنْطَاعَ، ثُمَّ كَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الثياب اليماني، ثم كساه عمر وعثمان [رضي الله عنهما] القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. ويقال: أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ الدِّيبَاجَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ويقال: ابن الزبير، ويقال: عبد الملك [بن مروان] . وَأَوَّلُ مَنْ خَلَّقَ جَوْفَ الْكَعْبَةِ ابْنُ الزُّبَيْرِ [رضي الله عنه] . 212- وروى ابن أبي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رضي الله عنه] كسى الْكَعْبَةَ الْقَبَاطِيَّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَجْرَى لَهَا مُعَاوِيَةُ وَظِيفَةَ الطِّيبِ
كُلَّ صَلاةٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهَا عَبِيدًا يَخْدِمُونَهَا. 213- أَنْبَانَا الحريري، عن العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر الهاشمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا أبو اليد الأَزْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ تُكْسَى فِي كُلِّ سَنَةٍ كِسْوَتَيْنِ: كِسْوَةَ دِيبَاجٍ، وَكِسْوَةَ قَبَاطِيٍّ، فَأَمَّا الدِّيبَاجُ، فَتُكْسَاهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَيُعَلَّقُ الْقَمِيصُ وَيُدَلَّى وَلا يُخَاطُ، فَإِذَا صَدَرَ النَّاسُ مِنْ مِنًى، خِيطَ الْقَمِيصُ وَتُرِكَ الإِزَارُ حَتَّى يَذْهَبَ الْحَاجُّ لِئَلا يَخْرِقُوهُ، فَإِذَا كَانَ العاشور، علق الإزار فوصل بالقميص، فلا تَزَالُ هَذِهِ الْكِسْوَةُ كِسْوَةُ الدِّيبَاجِ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَتُكْسَى الْقَبَاطِيَّ للفطر. فَلَمَّا كَانَتْ خِلافَةُ الْمَأْمُونِ، رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ الديباج يبلى ويتحرق قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ عِيدَ الْفِطْرِ، وَيُرَقَّعُ حَتَّى يسمج، فسأل مبارك الطَّبَرِيَّ مَوْلاهُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى بَرِيدِ مَكَّةَ وصوافها: في أي الكسوة الْكَعْبَةُ أَحْسَنُ؟ فَقَالَ لَهُ: فِي الْبَيَاضِ، فَأَمَرَ بِكِسْوَةٍ مِنْ دِيبَاجٍ أَبْيَضَ، فَعُمِلَتْ سَنَةَ
ست ومئتين وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ، فَصَارَتِ الْكَعْبَةُ تُكْسَى ثَلاثَ كُسِيًّ: الدِّيبَاجُ الأَحْمَرُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَالْقَبَاطِيُّ يوم هلال رجب، وجعلت كسوة الديباج التي أحدثها المأمون يَوْمَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ لِلْفِطْرِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْمَأْمُونِ أَنَّ إِزَارَ الدِّيبَاجِ الأَبْيَضِ يتخرق فِي أَيَّامِ الْحَجِّ مِنْ مَسِّ الْحَاجِّ قَبْلَ أَنْ يُخَاطَ عَلَيْهَا إِزَارُ الدِّيبَاجِ الأَحْمَرِ الَّذِي تخاط في العاشور، فبعث بفضل إزار ديباج أَبْيَضَ تُكْسَاهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ يَوْمَ سَابِعٍ، فَيُسْتَرُ بِهِ مَا تَخَرَّقَ مِنَ الإِزَارِ الَّذِي كسته لِلْفِطْرِ إِلَى أَنْ يُخَاطَ عَلَيْهَا إِزَارُ الدِّيبَاجِ الأحمر، ثم رفع [إلى] المتوكل أَنَّ إِزَارَ الدِّيبَاجِ الأَحْمَرِ يَبْلَى قَبْلَ هِلالِ رجب من مس الناس، فزادها إزارين مع الإزار الأول، وأسبل قميصها الديباج الأحمر حَتَّى بَلَغَ الأَرْضَ، ثُمَّ جَعَلَ الإِزَارَ فَوْقَهُ كُلَّ شَهْرَيْنِ إِزَارٌ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ ومئتين، ثم كتب الحجبة أَنَّ إِزَارًا وَاحِدًا مَعَ مَا أُزِيلَ مِنْ قميصها يجزئها، فصار يبعث بإزار واحد.
باب سدانة البيت
باب سدانة البيت كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: إِنَّهُ كَانَ وُلاةُ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَكُمْ طَسْمٌ، فَاسْتَخَفُّوا بحقه واستحلوا حرمته، فأهلكهم الله، ثُمَّ وَلِيَتْهُ بَعْدَهُمْ جُرْهُمُ، فَاسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ وَاسْتَحَلُّوا حرمته، فأهلكهم الله. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ لَمَّا اسْتَخَفَّتْ جُرْهُمُ بِحَقِّهِ، شَرَدَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَلِيَتْهُ خُزَاعَةُ، ثُمَّ وَلِيَ بعد خزاعة قصي بن كلاب ولي حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ وَأَمْرَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَعْطَى وَلَدَهُ عَبْدَ الدَّارِ السَّدَانَةَ وَهِيَ الْحِجَابَةُ وَدَارَ النَّدْوَةِ وَاللِّوَاءَ. وَسُمِّيَتْ دَارُ النَّدْوَةِ لاجْتِمَاعِ النَّدَى فِيهَا يجلسون لإبرام أمورهم ومشاورهم، وَأَعْطَى عَبْدَ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، ثُمَّ جَعَلَ عَبْدُ الدَّارِ الْحِجَابَةَ إِلَى ابْنِهِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يزل الأمر ينقل إِلَى الأَوْلادِ حَتَّى وَلِيَ الْحِجَابَةَ عُثْمَانُ بْنُ طلحة. 214/أ- قَالَ عُثْمَانُ: كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ والخميس، فجاء
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً يريد أن يدخل مع الناس [إلى الكعبة] فَنِلْتُ مِنْهُ وَحَلُمَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ! لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ؟)) . فَقَلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلَّتْ. قَالَ: ((بَلْ عَزَّتْ)) . وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ وَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قَالَ، وَأَرَدْتُ الإِسْلامَ، فَإِذَا قَوْمِي يَزْبُرُونِي زَبْرًا شَدِيدًا. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْقَضِيَّةِ، غَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَدَخَلَنِي الإِسْلامُ، وَلَمْ يعزم لي أَنْ آتِيهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَزَمَ لِي الْخُرُوجَ إِلَيْهِ فَأَدْلَجْتُ، فَلَقِيتُ خَالَدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَاصْطَحَبْنَا فَلَقِينَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فاصطحبنا الْمَدِينَةَ، فَبَايَعْتُهُ وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، قَالَ: يَا عُثْمَانُ! ائْتِ بِالْمِفْتَاحِ. فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مني، ثم دفعه إلي، فقال:
((خذوها يا بني أبي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً، لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظالم)) . وقال ابن عباس: لَمَّا طَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، فَهَمَّ أَنْ يُنَاوِلَهُ إياه، قال له العباس: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ، فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْعَبَّاسَ، فقال النبي: ((هَاتِ الْمِفْتَاحِ)) . فَأَعَادَ الْعَبَّاسُ قَوْلَهُ وَكَفَّ عُثْمَانُ، فقال النبي: ((أَرِنِي الْمِفْتَاحَ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر)) . فقال: هاكه يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، فَأَخَذَ الْمِفْتَاحَ وفتح البيت. فنزل جبريل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عُثْمَانُ يَلِيَ فَتْحَ الْبَيْتِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ ابْنُ عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة.
باب فضل الحجر الأسود 214/ب- أخبرني الكروخي، قال: أخبرنا الغورجي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: ثنا المحبوبي، قال: ثنا الترمذي، قال: ثنا قتيبة، قال: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بن جبير، عن ابن عباس [رضي الله عَنْهُمَا] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَدَّتْهُ خَطَايَا بني آدم)) . قال الترمذي: هذا حديث [حسن] صَحِيحٌ. 215- أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ وَأَبُو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري، قال: ثنا أبو أحمد الغطريفي، قال: ثنا أبو خليفة، قال: ثنا شاذان بن فياض، قال: ثنا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:
((الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ حِجَارَةِ الْجَنَّةِ)) . 216- أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بن علي، قال: أخبرنا علي بن محمد بن العلاف، قال: ثنا علي بن أحمد الحمامي، قال: أخبرنا أحمد بن عثمان الآدمي، قال: ثنا موسى بن الحسن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا رجاء أبو يحيى، قال: ثنا مُسَافِعُ بْنُ شَيْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن عمرو بن العاص يقول: أَشْهَدُ بِاللَّهِ ثَلاثًا (وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ) ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن الله طمس نُورَهُمَا، لأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)) . 217- أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا عبد الصمد بن المأمون، قال: أخبرنا ابن حبابة، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا شيبان، قال:
ثنا عقبة بن عبد الله الرفاعي، قال: ثنا قَتَادَةُ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الحجر، فقال: كان ياقوتة من ياقوت الْجَنَّةِ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مَا سَوَّدَتْهُ خَطَايَا الْمُشْرِكِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّضَهُ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ، فَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، فَقَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ ذَلِكَ، ثم أَمَا عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُعْتَرِضُ أَنَّ السَّوَادَ يَصْبِغُ وَلا يَنْصَبِغُ، وَالْبَيَاضُ يَنْصَبِغُ وَلا يَصْبِغُ، هَذَا قَوْلُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَا مِنَ الجواب: إن إبقاء أَثَرُ الْخَطَايَا فِيهِ وَهُوَ السَّوَادُ أَبْلَغُ فِي باب العبرة والعظة من تغيير ذَلِكَ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْخَطَايَا إِذَا أَثَرَّتْ فِي الْحَجَرِ فَتَأْثِيرُهَا فِي الْقُلُوبِ أَعْظَمُ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ [أن] تجتنب. 218- وقد أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا حمزة بن محمد الربني قال: أخبرنا أبو محمد الخلال، قال: ثنا علي بن عمرو بن سهل، قال: ثنا محمد بن حميد المقرئ، قال: ثنا عبد الله بن محمد؛ قال: ثنا منصور بن أبي مزاحم، قال: ثنا الهذيل بن بلال، عن عمرو بْنِ سَيْفٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ
أَبْيَضَ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَحَرُوا بُدْنَهُمْ، لطخوه بالفرث الدم. 219- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَبَّلَ الحجر الأسود، وقال: إني أعلم أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلا تَضُرُّ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يُقَبِّلُكَ، مَا قَبَّلْتُكَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ عُمَرَ نَبَّهَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ الأَحْجَارِ، وَأَخْبَرَ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِلسُّنَّةِ لا لِعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِ بَيَانُ مُتَابَعَةِ السُّنَنِ، وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ لَهَا عَلَى عِلَلٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتْ عِلَّتَانِ فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَلَمْسِهِ. إحداهما: 220- أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ، كَمُصَافَحَةِ الْمُلُوكِ لِلْبَيْعَةِ وَتَقْبِيلِ الْمَمْلُوكِ يَدَ الْمَالِكِ.
221- أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي الحربي، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، قال: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ خَلْدُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عمر العدني، قال: ثنا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ بَيْعَةَ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَمَسَحَ الْحَجَرَ، فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. 222- وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي لَفْظٍ آخَرَ، قَالَ: الرُّكْنُ الأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ، يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا يُصَافِحُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ. والعلة الثانية: أن الله عز وجل لَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ، كَتَبَ كِتَابًا عَلَى الذُّرِّيَّةِ فَأَلْقَمَهُ هَذَا الْحَجَرَ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ بِالْوَفَاءِ، وَعَلَى الْكَافِرِ بِالْجُحُودِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب عليه السلام. قَالَ العْلُمَاءُ: وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ يَقُولُ: لامَسَهُ، إِيمَانًا بِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ. 223- أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
محمد، قالوا: ثنا عبد الصمد بن المأمون، قال: أخبرنا علي بن عمر السكري، قال: ثنا أحمد بن الحسين الصوفي؛ قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ [رضي الله عنهما] يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيُبْعَثَنَّ هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، ويشهد على من استلمه بحق)) .
باب ذكر الركن اليماني
باب ذكر الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ 224- أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي عثمان، قال: ثنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: ثنا عمرو بن إسحاق، قال: ثنا سهل بن شاذويه، قال: ثنا عمر بن محمد بن الحسين، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عِيسَى بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ كُرْزِ بْنِ وَبَرَةَ، عَنْ طاووس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ، فَقُولُوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حسنة وقنا عذاب النار} ، فإنه يقول: آمين آمِينَ)) . 225- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ ناصر، قالا: أخبرنا ابن
العلاف، قال: ثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: ثنا الهيثم بن خارجة، قال: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي سويد، قال: سمعت ابن هشام يَسْأَلُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي أبو هريرة [رضي الله عنه] ، أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَمَنْ قَالَ: أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حسنة وقنا عذاب النار} ، قالوا: آمين)) . 226- أخبرنا ابن عيسى الهروي، قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز، قال: أخبرنا ابن أبي شريح، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: ثنا علي بن عراب، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ (يَعْنِي: ابْنَ هُرْمُزٍ) ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ خده عليه. 227- أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا عاصم بن الحسين، قال:
أخبرنا أبو عمر بن مهدي، قال: ثنا أبو عبد الله المحاملي، قال: ثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثني أبو بكر، قال: حدثني أبو غزية، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامر بن ربيعة، عن أبيه [رضي الله عنه] ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَسْتَلِمُ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ، إِلا الْيَمَانِيَّ، وَالأَسْوَدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِلامَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَسْنُونٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُسَنُّ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.
باب ذكر الحجر
بَابُ ذِكْرِ الْحِجْرِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ. 228- وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((الْحِجْرُ مِنَ البيت)) . فيدخل بهذا تحت قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} ، فعلى هذا يلزم الطواف بالحجر، فإنه تَرَكَهُ فِي طَوَافِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مالك والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال أبو حنيفة: يجزئه. وَقَدْ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْحِجْرِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يتعاهدون فيه. 229- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا ابن أبي صادق، قال: ثنا
ابن باكويه، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، قال: ثنا إسماعيل بن القاسم البرذعي، قال: ثنا عبد الله بن منبويه، قال: ثنا عبد الرحيم الدبيلي، قال: حدثني عثمان بن عمارة، قال: وردت الحجر مرة، فَإِذَا أَنَا بِمُحَمَّدِ بْنِ ثَوْبَانَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أدهم وعباد المنقرئ وهم يتكلمون بكلام لا أَعْقِلُهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ، إِنِّي شَابٌّ كَمَا تَرَوْنِي أَصُومُ النَّهَارَ، وَأَقُومُ اللَّيْلَ، وَأَحُجُّ سَنَةً، وَأَغْزُو سَنَةً، ما أرى في نفس زِيَادَةً، فَشُغِلَ الْقَوْمُ عَنِّي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا كَلامِي، ثُمَّ حَانَ مِنْ واحدٍ مِنْهُمُ الْتِفَاتَةٌ، فَقَالَ: يَا غُلامُ! إِنَّ هَمَّ الْقَوْمِ لَمْ يَكُنْ فِي كَثْرَةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، إِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْقَوْمِ فِي نَفَاذِ الأَبْصَارِ حتى أبصروا. 230- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: ثنا ابن باكويه، قال: ثنا عيسى بن عمر، قال: ثنا أحمد بن محمد القرشي، قال: ثنا إبراهيم بن عيسى، قال: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، بَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بالبيت، إذ أنا بِامْرَأَةٍ جَهِيرَةٍ فِي الْحِجْرِ وَهِيَ تَقُولُ: أَتَيْتُكَ مِنْ شقةٍ بَعِيدَةٍ مُؤَمِّلَةً لِمَعْرُوفِكَ، فَأَنِلْنِي مَعْرُوفًا مِنْ مَعْرُوفِكَ تُغْنِينِي بِهِ عَنْ مَعْرُوفِ مَنْ سواك يا معروفاً بالمعروف. فَعَرَّفْتُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيَّ، فَسَأَلْنَا عَنْ مَنْزِلِهَا وَقَصَدْنَاهَا وسلمنا عليها،
فَقَالَ لَهَا أَيُّوبُ: قُولِي خَيْرًا رَحِمَكِ اللَّهُ. قالت: وما أقول؟ أشكوا إِلَى اللَّهِ قَلْبِي وَهَوَايَ، فَقَدْ أَضَرَّا بِي وَشَغَلانِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي قُومَا، فَإِنِّي أُبَادِرُ طَيَّ صَحِيفَتِي. قَالَ أَيُّوبُ: فَمَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِامْرَأَةٍ قَبْلَهَا، فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَزَوَّجْتِ رَجُلا يُعِينُكِ عَلَى مَا أَنْتِ عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: لَوْ كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ أَوْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ ما أردته! فقلت: أَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَهَذَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ. فَقَالَتْ: أُفٍّ لَكُمَا، لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَشْغَلُكُمَا ذِكْرُ اللَّهِ عَنْ مُحَادَثَةِ النِّسَاءِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَى صَلاتِهَا. فَسَأَلْنَا عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ مُلَيْكَةُ بِنْتُ المنكدر.
باب ذكر الميزاب
بَابُ ذِكْرِ الْمِيزَابِ 231- رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، أنه كان إذا حاذا مِيزَابَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَفْوَ عِنْدَ الحساب)) . وقال ابن عباس [رضي الله عنه] : صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شَرَابَ الأَبْرَارِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا مُصَلَّى الأَخْيَارِ؟ قال: تحت الميزاب. قيل: وما شرب الأَبْرَارِ؟ قَالَ: مَاءُ زَمْزَمَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنْ قَامَ تَحْتَ مَثْعَبِ الْكَعْبَةِ فدعى، اسْتُجِيبَ لَهُ وَخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه.
باب ذكر البيت العتيق المعمور الذي في السماء وأنه مقابل الكعبة
باب ذكر البيت العتيق الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ مُقَابِلُ الْكَعْبَةِ 232- أخبرنا موهوب بن أحمد الجواليقي، قال: أخبرنا أبو القاسم بن البسري، قال: أخبرنا أبو الحسن بن الصلت، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، قال: ثنا أبو الوليد الأزرقي، قال: حَدَّثَنِي جَدِّي عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((البيت الَّذِي فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، وَهُوَ مِثْلُ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، لَوْ سَقَطَ، سَقَطَ عَلَيْهِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا)) . 233- أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا ابن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال:
ثنا عفان، قال: ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ((فَلَمَّا خَلُصْتُ (يَعْنِي: إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ) إِذَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ البيت المعمور)) . 234- قال قتادة: وحدثنا الحسن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه أري الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك، ثم لا يَعُودُونَ فِيهِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. 235- وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب [رضي الله عنه] : هو فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.
باب تلخيص قصة أصحاب الفيل إذ قصدوا تخريب الكعبة فأهلكهم الله عز وجل
باب تلخيص قصة أصحاب الفيل إذ قصدوا تخريب الكعبة فأهلكهم الله عز وجل كان أبرهة بن الأَشْرَمِ قَدْ بَنَى بَيْعَةً، وَقَالَ: لأُضَيِّفَنَّ إِلَيْهَا حِجُّ الْعَرَبِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَدَخَلَهَا لَيْلا، فَأَحْدَثَ فِيهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ، فَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَيَهْدِمَنَّهَا، فَسَارَ بِجُنُودِهِ، وَاسْتَصْحَبَ الْفِيلَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ، أمر أصحابه بالغارة على نعم النَّاسِ، فَأَصَابُوا إِبِلا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ بَعْضَ جُنُودِهِ، فَقَالَ: سَلْ عَنْ شَرِيفِ مَكَّةَ وأخبره أني لم آت لقتال، إنما جِئْتُ لأَهْدِمَ هَذَا الْبَيْتَ. فَانْطَلَقَ، فَلَقِيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لأُخْبِرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِلا أَنْ تُقَاتِلُوهُ، إِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْكُمْ. فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَا لَهُ عِنْدَنَا قتال، وما لنا به يد أن سَنُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ [عليه السلام] ،
فإن منعه، فهو بيته، وإن نخلى بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا بِهِ قُوَّةٌ. قَالَ: فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ، فانطلق، فلما دخل على أبرهة، أكرمه وَأَجَلَّهُ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ علي مئتي بعير أصابها. فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، وَلَقَدْ زَهِدْتُ الآنَ فِيكَ، جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ لأَهْدِمَهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ وَكَلَّمْتَنِي فِي إِبِلٍ أَصَبْتُهَا. فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنَا رَبُّ هَذِهِ الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، فأمر بإبله، فردت عليه، فخرج فأخبر قريشاً وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ورؤوس الجبال تخوفاً عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلَ، فَفَعَلُوا، وَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وجعل يقول: يا رب لا أرجوا لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... امْنَعْهُمْ أَنْ يخربوا قراكا
وقال أيضاً: لا هم إن ألم بمنع رحله ... وحلاله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحا ... لهم عدواً محالك جروا جموع بِلادِهِمْ وَالْفِيلَ ... كَيْ يَسْبُوا عِيَالَكَ عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ جَهْلا ... وَمَا رَقَبُوا جَلالَكَ إِنْ كُنْتَ تَارِكُهُمْ وَكَعْبَتَنَا ... فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكَ ثُمَّ إن أبرهة أصبح متهيباً للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه، فأبى، فضربوه، فأبى، فوجهوه إلى اليمن راجعاً، فهرول، ووجهوه إلى الشام، فَهَرْوَلَ، وَإِلَى الْمَشْرِقِ، فَكَذَلِكَ، فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ، فأبى، وأرسل اللَّهُ تَعَالَى طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي صفتها، فقال ابن عباس [رضي الله عنه] : كَانَتْ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الكلاب. وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الْخَطَاطِيفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَلْوَانِهَا عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أحدها: أنها كانت خضراً، قاله عكرمة.
والثاني: سوداً، قاله عبيد بن عمير. والثالث: بيضاً، قاله قتادة. قال: وكان مع كل طائر ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ: حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وحجرٌ فِي مِنْقَارِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحِجَارَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ كَأَمْثَالِ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عمير: كان الحجر كرأس الرجل، وكالجمل، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْقَوْمَ، أَرْسَلَتْهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تُصِبْ الْحِجَارَةُ أَحَدًا، إِلا هَلَكَ، وَكَانَ الْحَجَرُ يَقَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ، فَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ، فَهَلَكُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى أَبْرَهَةَ دَاءً فِي جَسَدِهِ فَتَسَاقَطَتْ أَنَامِلُهُ، وَانْصَدَعَ صَدْرُهُ قِطْعَتَيْنِ عَنْ قَلْبِهِ، فَهَلَكَ، وَرَأَى أَهْلُ مَكَّةَ الطَّيْرَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ نَاحِيَةِ البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غَرِيبَةٌ، ثُمَّ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى فرس لينظرن فَرَجَعَ يَرْكُضُ وَيَقُولُ: هَلَكَ الْقَوْمُ جَمِيعًا، فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابُهُ، فَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَقِيلَ: لَمْ ينج منهم إلا أبو يَكْسُومَ، فَسَارَ وَطَائِرٌ يَطِيرُ مِنْ فَوْقِهِ، وَلا يَشْعُرُ بِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَصَابَ الْقَوْمَ، فَلَمَّا أَتَمَّ كَلامَهُ، رَمَاهُ الطائر فمات.
باب دخول المسجد الحرام
بَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، وَزِدْ مَنْ عَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، الْحَمْدُ للَّهِ رب العالمين كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلالِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَنِي بَيْتَهُ وَرَآنِي لِذَلِكَ أَهْلا، وَالْحَمْدُ للَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ دَعَوْتَ إِلَى حَجِّ بَيْتِكَ وَقَدْ جِئْنَاكَ لِذَلِكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي واعف عني، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لا إِلَهَ إِلا أنت (يرفع بذلك صوته) .
باب فضل النظر إلى الكعبة
باب فضل النظر إلى الكعبة 236- قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وجل على هذا البيت عشرين ومئة رحمة [ستون منها للطائفين وأربعون للمصلين، و] عشرون للناظرين. 237- وروى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((النَّظَرُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ عِبَادَةٌ)) . 238- أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ عن العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر الهاشمي، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا أَبُو الوليد الأَزْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَاسِينُ، عَنْ أبي بكر المديني، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس [رضي الله عنهما] يَقُولُ: النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ مَحْضُ الإِيمَانِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، خَرَجَ مِنَ الْخَطَايَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه. وقال عطاء: الناظر إلى البيت بمنزلة الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الْمُخْبِتِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله، ونظرة إلى البيت تعدل عِبَادَةَ سَنَةٍ قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا. وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ الْمَدَنِيُّ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ إِيمَانًا وتصديقاً، تحاتت عنه الذنوب كما تتحات الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ.
باب انزعاج العارفين عند رؤية الكعبة أو مكة
باب انزعاج العارفين عند رؤية الكعبة أو مكة كَانَ أَرْبَابُ الْمَعْرِفَةِ يَنْزَعِجُونَ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ أو لاحت لَهُمُ الْكَعْبَةُ، لأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنْزِلِ تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهِ. حَجَّتِ امْرَأَةٌ عَابِدَةٌ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي، أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ لَهَا: الآنَ تَرَيْنَهُ، فَلَمَّا لاحَ الْبَيْتُ، قَالُوا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ، فَاشْتَدَّتْ نَحْوَهُ فَأَلْصَقَتْ جَبِينَهَا بِحَائِطِ الْبَيْتِ، فما رفعت إلا ميتةً! وحج الشبلي، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ جَعَلَ يَقُولُ: أَبَطْحَاءُ مَكَّةَ هَذَا الَّذِي أَرَاهُ عِيَانًا وَهَذَا أَنَا، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ دارهم وأنت محب ... ما بَقَاءُ الدُّمُوعِ فِي الآمَاقِ وَقَالَ الرَّضِيُّ فِي هذا المعنى: إذا هزنا الشوق اضطربنا لهزه ... عَلَى شُعَبِ الرَّحْلِ اضْطِرَابَ الأَرَاقِمِ فَمِنْ صَبَوَاتٍ يستقيم بِمَائِلٍ ... وَمِنْ أُرَيْحِيَاتٍ تَهُبُّ بِنَائِمِ وَاسْتَشْرِفِ الأَعْلامَ حتى يدلني ... على طيبها مر الرياح النواسم وما أنسم الأرواح إلا لأنها ... تمر على تلك الربا والمعالم
أبواب ذكر الطواف بالبيت
أبواب ذكر الطواف بالبيت
باب الأصل في الطواف
أبواب ذكر الطواف بالبيت باب الأصل فِي الطَّوَافِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ، فَقَدْ سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، فقال: لما قال الله تعالى لِلْمَلائِكَةِ: {إِنِّي جاعلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتجعل فيها من يفسد فيها.. قال إني أعلم ما لا تعلمون} ، ظنت الملائكة أن ما قالوا رد عَلَى رَبِّهِمْ، فَلاذُوا بِالْعَرْشِ وَطَافُوا بِهِ إِشْفَاقًا مِنَ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، فَوَضَعَ لَهُمُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، فَطَافُوا بِهِ ثُمَّ بَعَثَ مَلائِكَةً، فَقَالَ: ابْنُوا لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ بِمَثَالِهِ، وَأَمَرَ اللَّهُ تعالى أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَهُوَ لِيَاذٌ بِالْمَخْدُومِ، وَخِدْمَةٌ لَهُ.
باب أقسام الطواف وما يقال فيه
بَابٌ أَقْسَامُ الطَّوَافِ وَمَا يُقَالُ فِيهِ الطَّوَافُ بالبيت في الحج على أربعة أَقْسَامٍ: مَسْنُونٌ: وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ. وَفَرْضٌ: وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ. وَوَاجِبٌ: وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ. وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ. وَالنِّيَّةُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الأطوفة، وإذا ابتدأ بطواف القدوم، اضطبع بردائه، فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن، ويطرح طرفه على عاتقه الأيسر، ويبتدأ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ بِيَدِهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيُحَاذِيهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلا، اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يده، فإن لم يمكنه، أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَيَطُوفُ، فَإِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ وَلَمْ يُقَبِّلْهُ. وَظَاهِرُ كَلامِ الْخِرْقِيِّ: أَنَّهُ يُقَبِّلُهُ وَيَقُولُ عِنْدَ اسْتِلامِ الْحَجَرِ فِي الطواف:
بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَطُوفُ سَبْعًا، يُرْمِلُ في الثلاثة الأول منه، (وَالرَّمْلُ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا) ، وَيَمْشِي في الأربعة، وكلما حاذى الحجر الأسود والركن اليماني، استلمهما، ويقول في رمله كلما حاذى الحجر الأسود: اللَّهُ أَكْبَرُ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. وَيَقُولُ فِي بَقِيَّةِ الرَّمْلِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا. وَيَقُولُ فِي بَقِيَّةِ الأَرْبَعَةِ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمْ، وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار، وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ بَيْنَ ذَلِكَ. وَلا تَرْمُلُ الْمَرْأَةُ وَلا تَضْطَبِعُ، وَلا يَرْمُلُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَالأَفْضَلُ أَنْ يَطُوفَ رَاجِلا، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا، أَجَزَأَهُ وَلا دَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الإِعَادَةُ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ، أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ. وعن أحمد: أنه لا يجزئه إلا لعذر، فإن حَمَلَهُ مُحْرِمٌ وَنَوَيَا جَمِيعًا، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بِالْمَحْمُولِ عُذْرٌ، أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عذر، فعلى الروايتين، فأما الحامل، فلا تجزئه رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَلْزَمُ الطَّائِفُ أَنْ يَكُونَ
مُتَطَّهِرًا، فَإِنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ وَالنَّجَسِ عِنْدَنَا لا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أنه يصح ويلزمه دم، وهو في قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ إِنْ طَافَ مَكْشُوفَ العورة فيه روايتان: إحداهما: لا يصح. والثانية: يجزئه، ويجبره بدم، فَإِنْ نَكَّسَ الطَّوَافَ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ على يَمِينِهِ، أَوْ طَافَ عَلَى جِدَارِ الْحِجْرِ، أَوْ عَلَى شَاذَرُوَانِ الْكَعْبَةِ، أَوْ تَرَكَ مِنَ الطَّوَافِ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ لم ينو.
باب ذكر فضائل الطواف
باب ذكر فضائل الطَّوَافِ 239- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَاكِمُ ويحيى بن علي المديني، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا ابن حبابة، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا هدبة، قال: ثنا [حماد بن الجعد] ، قال: ثنا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ أن مولى لعبد الله بن عمران حدثه عن عبد الله بن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: (( (مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، فَهُوَ عَدْلٌ مُحَرَّرٌ) . 240- أَخْبَرَنَا يحيى بن علي، قال: أخبرنا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ وعبد الباقي بن محمد، قالوا: ثنا المخلص، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا عبد الله بن عمران، قال: ثنا يوسف (وهو ابْنُ السَّفَرِ) ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كل يوم وليلة عشرين ومئة رحمة تنزل على هذا البيت؛ فستون لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ)) . 241- أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن علي وابن ناصر، قالا: أخبرنا ابن العلاف، قال: ثنا عبد الملك بن بشران، قال: ثنا محمد بن الحسين الآجري، قال: ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: ثنا يحيى بن أيوب العابد، قال: ثنا محمد بن صبيح السماك، عن عائذ بن نسير، عن عطاء، عن عائشة [رضي الله عنهما] ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يباهي بالطائفين)) . 242- وبالإسناد ثنا الآجري، قال: ثنا محمد بن الليث الجوهري، قال: ثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يَقُولُ: ((مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمًا ولم يضع الأخرى، إِلا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا حسنة وحط بها عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً)) . وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَنْ أَحْصَى أُسْبُوعًا، كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ)) . 243- أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الأصفهاني، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد العانجاني، قال: ثنا جدي أبو أمي عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا أَبُو شَيْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَوَابِ الْحَجِّ وَمَا لَهُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم] :
((بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ دَرَجَةٌ تُرْفَعُ وَحَسَنَةٌ تُكْتَبُ وَسَيِّئَةٌ تُكَفَّرُ، فَإِذَا صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَعَدْلُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ تَعْتِقُهَا، وَمَلَكٌ يَضْرِبُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ يقول: كفيت ما مضى، فاعمل لما بقي)) . 244- وبه حدثنا آدم، قال: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الرُّكْنَ لِيَسْتَلِمَهُ، خَاضَ [فِي] الرَّحْمَةِ، فَإِذَا اسْتَلَمَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، كَتَبَ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَحَطَّ عَنْهُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرُفِعَ لَهُ سَبْعِينَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَشُفِّعَ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بيته، فإذا أتى مقام إبراهيم صلى عليه فصلى عنده ركعتين إيماناً واحتساباً، كتب الله لَهُ عِتْقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مُحَرَّرًا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
245- وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قال: ((إذا خرج المرء يُرِيدُ الطَّوَافَ أَقْبَلَ يَخُوضُ [فِي] الرَّحْمَةِ، فَإِذَا دَخَلَهُ، غَمَرَتْهُ، ثُمَّ لا يَرْفَعُ قَدَمًا وَلا يضع قدماً، إلا كتب الله له بكل قدم خمس مئة حسنة، وحط عنه خمس مئة سيئة (أو قال: خطيئة) ، ورفع له خمس مئة دَرَجَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُبُرَ الْمَقَامِ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه، وكتب له أجر عتق عَشْرِ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَاسْتَقْبَلَهُ مَلَكٌ عَلَى الرُّكْنِ. فَقَالَ لَهُ: اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فِيمَا بَقِيَ فَقَدْ كُفِيتَ مَا مَضَى، وَشُفِّعَ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)) . 246- وَرُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: ((وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّكَ تَصْدُرُ حِينَ تَصْدُرُ وَأَنْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)) . وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل ينظر في كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى أَهْلِ
الأرض، وأول من ينظر إليه من أهل الأرض أَهْلُ الْحَرَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَنْ رَآهُ طَائِفًا، غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ رَآهُ مُصَلِّيًا، غَفَرَ له، ومن رآه نائماً مستقبل الكعبة، غفر له، وأنه لا تغرب الشمس يَوْمٍ إِلا وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ رَجُلٌ مِنَ الأَبْدَالِ، وَلا يَطْلُعُ فَجْرُ لَيْلَةٍ إِلا طَافَ بِهِ وَاحَدٌ مِنَ الأَوْتَادِ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ، كَانَ سَبَبُ رَفْعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفْرَ يَعُودُ مُسْتَوْلِيًا على ذلك المكان، فينقضون البيت. 247- كما أخبرنا ابن عيسى السجزي، قال: ثنا محمد بن عبد العزيز، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، قال: ثنا ابن صاعد، قال: ثنا عبد الله بن شبيب، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الْعَزِيزُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةَ)) . أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
باب التحريض على الإكثار من الطواف
بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ الطَّوَافِ 248- جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((اسْتَكْثِرُوا مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّهُ أقل شَيْءٍ تَجِدُونَهُ فِي صُحُفِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَغْبَطُ عمل تجدونه)) . 249- أخبرنا سعيد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو القاسم بن البسري، قال: أخبرنا المخلص، قال: ثنا يحيى بن صاعد، قال: ثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّةً، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) . 250- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أبي منصور، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد،
قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قال: ثنا شريح، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ طَارِقٍ في الطواف، قد انفرج له أهل الطواف، وعليه نعلان مطرقان، فحزروا طَوَافَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ يَطُوفُ في اليوم والليلة عشرة فراسخ.
باب الأدب في الطواف
باب الأدب في الطواف ينبغي للطائف حول البيت حسن الأدب، فإنه في صلاة. 251- رَوَى ابْنُ عَبَاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلاةِ، إِلا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ، فَلا يَتَكَلَّمُ إلا الخير)) . 252- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ ناصر، قالا: أخبرنا علي بن محمد بن العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: ثنا أبو بكر الآجري، قال: ثنا المفضل بن محمد الجندي، قال: ثنا صامت بن معاذ قال: ثنا عَبْدُ الْمَجِيدِ (يَعْنِي: ابْنُ أَبِي رُوَّادٍ) ، قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ خَاشِعِينَ ذَاكِرِينَ كَأَنَّ عَلَى رؤوسهم الطَّيْرَ وَقَعَ يَسْتَبِينُ لِمَنْ رَآهُمْ أَنَّهُمْ فِي نسك وعبادة.
قال أبي: وكان طاووس مِمَّنْ يُرَى فِي ذَلِكَ النَّعْتِ. 253- وَبِهِ حَدَّثَنَا الآجري، قال: ثنا عبيد الله بن محمد بن عبد الحميد، قال: ثنا أحمد بن محمد بن أبي بزة، قال: ثنا محمد بن يزيد بن خنيس، قال: ثنا وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ، قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ أَنَا وسفيان الثوري بالبيت لَيْلا، فَانْقَلَبَ سُفْيَانُ وَبَقِيتُ فِي الطَّوَافِ، فَدَخَلْتُ الحجر، فصليت تحت الميزاب، فبينما أنا ساجد، إذ سَمِعْتُ كَلامًا بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَالْحِجَارَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ! أَشْكُو إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَيْكَ مَا يَفْعَلُ هَؤُلاءِ الطَّائِفُونَ حَوْلِي مِنْ يفكههم فِي الْحَدِيثِ وَلَغَطِهِمْ وَسَهْوِهِمْ. قَالَ وُهَيْبٌ: فَأَوَّلْتُ أن البيت شكا إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ. 254- وَبِهِ حَدَّثَنَا الآجُرِّيُّ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْبَرْذَعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ علي الْمُوَفَّقِ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ رَقَدَ فِي الْحِجْرِ، فَسَمِعَ الْبَيْتَ يَقُولُ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الطَّائِفُونَ حَوْلِي عَنْ مَعَاصِي الله، لأَصْرُخَنَّ صَرْخَةً أَرْجِعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جِئْتُ منه.
باب غض البصر في الطواف وغيره
باب غض البصر في الطواف وغيره اعْلَمْ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، ولكم جلب إطلاقه من آفة وخصوصاً فِي زَمَنِ الإِحْرَامِ وَكَشْفِ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ، فَيَنْبَغِي لمن يتقي الله عز وجل أَنْ يَزْجُرَ هَوَاهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، تَعْظِيمًا لِلْمَقْصُودِ، وَقَدْ فَسَدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِإِطْلاقِ أبصارهم هنالك. 255- أخبرنا المبارك بن علي، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: ثنا عبد الملك بن بشران قال: ثنا أحمد بن إبراهيم الكندي قال: أخبرنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: ثنا المبرد، قال: ثنا هِشَامٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، قال: حج عبد الملك بن مروان وحج معه خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مِنْ رِجَالاتِ قُرَيْشٍ الْمَعْدُودِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ عند عبد الملك، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، إِذْ بَصُرَ بِرَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَعَشِقَهَا عِشْقًا شَدِيدًا، فَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْقُفُولَ، هَمَّ خَالِدٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! رَمْلَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ رَأَيْتُهَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ قَدْ أَذْهَلَتْ عَقْلِي، وَاللَّهِ مَا أَبْدَيْتُ لَكَ مَا بِي حَتَّى عِيلَ صبري، فلقد
عَرَضْتُ النَّوْمَ عَلَى عَيْنِي فَلَمْ تَقْبَلْهُ، وَالسُّلُوَّ عَلَى قَلْبِي فَامْتَنَعَ مِنْهُ، فَأَطَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ التَّعَجُّبَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ الْهَوَى يَسْتَأْسِرُ مِثْلَكَ. فَقَالَ: وَإِنِّي لأَشَدُّ تَعَجُّبًا مِنْ تَعَجُّبِكَ مِنِّي، وَلَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ: إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس: الشُّعَرَاءِ وَالأَعْرَابِ، فَأَمَّا الشُّعَرَاءُ، فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوا قُلُوبَهُمُ الْفِكْرَ فِي النِّسَاءِ وَالْغَزَلَ، فَمَالَ طَبْعُهُمْ إِلَى النِّسَاءِ فَضَعُفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ دَفْعِ الْهَوَى، فَاسْتَسْلَمُوا إليه منقادين، وأما الأعراب، فإن أحدهم يخلوا بِامْرَأَتِهِ فَلا يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ غَيْرَ حُبِّهِ لَهَا، وَجُمْلَةُ أَمْرِي مَا رَأَيْتُ نَظْرَةً حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَزْمِ وَحَسَّنَتْ عِنْدِي رُكُوبَ الإِثْمِ مِثْلَ نَظْرَتِي هَذِهِ. فَتَبَسَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ: أوكل هذا قد بلغ منك؟ فقال: والله ما عرفتني هذه البلية قَبْلَ وَقْتِي هَذَا. فَوَجَّهَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ رَمْلَةَ عَلَى خَالِدٍ، فَذَكَرُوا ذلك لها فقالت: لا والله، أويطلق نساءه؟ فطلق امرأتين كانتا عنده، فظعن بِهَا إِلَى الشَّامِ، وَفِيهَا يَقُولُ: أَلَيْسَ يَزِيدُ الشوق كل ليلة ... وفي كل يوم من حبيبنا قربا
خليلي ما من ساعة نذكر أنها ... من الدهر إلا فرجت عن الْكُرَبَا أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِ طُرًا لِحُبِّهَا ... وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبَا تَجُولُ خَلاخِيلُ النِّسَاءِ وَلا أَرَى ... لِرَمْلَةَ خَلْخَالا يَجُولُ وَلا قُلْبَا وَقَالَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْفَضْلِ فِي هَذَا المعنى: النجاة النجاة مِنْ أَرْضِ نَجْدَ ... قَبْلَ أَنْ يَعْلَقَ الْفُؤَادُ بِوَجْدِ كَمْ خَلِيٍّ غَدَا إِلَيْهِ وَأَمْسَى ... وَهُوَ يهذب بعلوةٍ وبهند انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب عقوبة أقوام أساؤوا الأدب عند الكعبة
الجزء الثاني من كتاب مثير العزم الساكن إلى أشراف الأماكن
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثاني من كتاب مثير العزم الساكن إلى أشراف الأماكن
باب عقوبة أقوام أساؤوا الأدب عند الكعبة
بسم الله الرحمن الرحيم باب عقوبة أقوام أساؤوا الأدب عند الكعبة 256- أنبأنا أحمد بن علي بن المجلى، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا ابن بشران، قال: ثنا ابن صفوان، قال: ثنا عبد الله بن محمد القرشي، قال: حدثني إبراهيم بن سعيد، قال: ثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مرثد، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، إِذْ بَرِقَ لَهُ سَاعِدُ امْرَأَةٍ، فَوَضَعَ سَاعِدَهُ عَلَى سَاعِدِهَا يَتَلَذَّذُ بِهِ، فَلَصَقَتْ سَاعِدَاهُمَا، فَأَتَى بَعْضُ الشُّيُوخِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلْتَ فِيهِ فعاهد رب البيت ألا تعود. ففعل. فخلى عنه. 257- وبالإسناد ثنا القرشي، قال: ثنا خالد بن خداش، قال: ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ أبي نجيح، أن يسافاً ونائلة رجل وامرأة حجا من الشام قبلها وهما يطوفان، فمسخا حجرين لم يزالا في المسجد حتى جاء الله بالإسلام فأخرجا.
258- وبه ثنا القرشي، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أخبرنا يزيد بن عياض بن جعد به، قال: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ يسافاً ونائلة كانا رجلاً وامرأة، يساف من جرهم ونائلة من قيطوراء، كَانَا فِي الْبَيْتِ فَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَمُسِخا حجرين. 259- وبه حدثنا القرشي، قال: ثنا سويد بن سعيد، قال: ثنا مسلم بن خالد، عن ابن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، إذ جاءت امرأة إلى البيت تعوذ به مِنْ زَوْجِهَا، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا فَيَبَسَتْ يَدُهُ، فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي الإِسْلامِ وإنه لأشل.
باب ذكر من ضربها المخاض في الطواف فولدت في الكعبة
بَابُ ذِكْرِ مَنْ ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فِي الطَّوَافِ فَوَلَدَتْ فِي الْكَعْبَةِ 260- رَوَى ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ أبيه، قال: كانت أم حكيم بن حِزَامٍ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فأعجلها، فأدخلها قريش إلى الكعبة، فولدت حكيماً، وعاش مئة وَعِشْرِينَ سَنَةً، سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الإسلام. 261- وقد روى أبو حمزة اليماني عن علي بن الحسين، أن فاطمة بنت أسد ضَرَبَهَا الطَّلْقُ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَفُتِحَتْ لَهَا الْكَعْبَةُ، فَوَلَدَتْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالب رضي الله عنه. إِلا أَنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ لا يَثْبُتُ.
باب ذكر الإشارة في الطواف
بَابُ ذِكْرِ الإِشَارَةِ فِي الطَّوَافِ يَنْبَغِي لِلطَّائِفِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ بِقَلْبِهِ عَظَمَةَ مَنْ يَطُوفُ بِبَيْتِهِ، وليعلم أن خالص الْمُرَادِ مِنْ طَوَافِ الْبَدَنِ بِالْبَيْتِ طَوَافُ الْقَلْبِ بِحَضْرَةِ الرَّبِّ، وَعَلَى هَذَا، كَانَ طَوَافُ الْعَارِفِينَ. وقد حج بعض الصوفية، فلما رجع؛ دخل على الشبلي فقال له: عقدت في الْحَجَّ حِينَ أَحْرَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَسَخْتَ بِعَقْدِكَ كُلَّ عَقْدٍ يُخَالِفُ هَذَا الْعَقْدَ؟ قَالَ: لا. قال: ما عقدت، تجردت من ثيابك؟ قال: نعم. تَجَرَّدْتَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: لا. قَالَ: ما تجردت ولبيت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَجَدْتَ جَوَابَ التَّلْبِيَةِ؟ قَالَ: لا.
قال: ما لبيت رَأَيْتَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: رَأَيْتَ مَنْ قَصَدْتَ؟ قَالَ: لا. قَالَ: مَا رَأَيْتَ. وَلَمْ يَزَلْ يَسْتَقْرِئُ أَحْوَالَ الْحَجِّ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ: مَا حَجَجْتَ عَلَيْكَ الْعَوْدَ. 262- أَخْبَرَنَا ابْنُ أبي منصور، قال: أخبرنا الحميدي؛ قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: أخبرنا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ الطُّوسِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَرْذَعِيَّ، قال: سمعت الشبلي وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى الناس حج البيت} ، فَوَصَفَ صِفَةً لَمْ يَضْبِطْهَا أَهْلُ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ أنشأ يَقُولُ: لَسْتُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحِبِّينَ إِنْ لَمْ ... أَدَعِ الْقَلْبَ بَيْتَهُ وَالْمَقَامَا وَطَوَافِي إِجَالَةُ السِّرِّ فِيهِ ... وَهُوَ رُكْنِي إِذَا أَرَدْتُ اسْتِلامَا 263- أَخْبَرَنَا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا ابن خلف، قال: أخبرنا السلمي، قال: سمعت أحمد بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ يَقُولُ: الْعَجَبُ مِمَّنْ يَقْطَعُ الأَوْدِيَةَ وَالْقِفَارَ والمفاوز حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ لأَنَّ فِيهِ آثَارَ أَنْبِيَائِهِ، كَيْفَ لا يَقْطَعُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَلْبِهِ، فَإِنَّ فِيهِ آثَارَ ربه؟ 264- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال:
ثنا أبو عبد الله بن باكويه، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْعَطَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرٌ الخلدي، قال: سعمت الْجُنَيْدَ يَقُولُ: حَجَجْتُ عَلَى الْوِحْدَةِ فَجَاوَرْتُ بِمَكَّةَ، فَكُنْتُ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ دَخَلْتُ الطَّوَافَ، فَإِذَا بِجَارِيَةٍ تَطُوفُ وَتَقُولُ: أَبَى الْحُبُّ أَنْ يَخْفَى وَكَمْ قَدْ كَتَمْتُهُ ... فَأَصْبَحَ عِنْدِي قَدْ أَنَاخَ وَطَنَّبَا إِذَا اشْتَدَّ شَوْقِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِهِ ... وَإِنْ رُمْتُ قُرْبًا مِنْ حَبِيبِي تَقَرَّبَا وَيَبْدُو فاقتي ثُمَّ أَحْيَا بِهِ لَهُ ... وَيُسْعِدُنِي حَتَّى أَلَذَّ وأطربا قال: فقلت: يَا جَارِيَةُ! أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ تَعَالَى فِي مثل هذا المكان؟ فَالْتَفَتَتْ إِلَيَّ وَقَالَتْ: يَا جُنَيْدُ! لَوْلا التُّقَى لَمْ تَرَنِي ... أَهْجُرُ طِيبَ الْوَسَنِ إِنَّ التُّقَى شَرَّدَنِي ... كَمَا تَرَى عَنْ وَطَنِي أَفِرُّ مِنْ وَجْدِي بِهِ ... فَحُبُّهُ تَيَّمَنِي
ثُمَّ قَالَتْ: يَا جُنَيْدُ! تَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَمْ برب البيت؟ قلت: أَطُوفُ بِالْبَيْتِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ: سُبْحَانَكَ، سُبْحَانَكَ! مَا أَعْظَمَ مَشِيئَتَكَ فِي خَلْقِكَ، خَلْقٌ كَالأَحْجَارِ يَطُوفُونَ بِالأَحْجَارِ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: يطوفون بالأحجار يبغون قربةً ... إِلَيْكَ وَهُمْ أَقْسَى قُلُوبًا مِنَ الصَّخْرِ وَتَاهُوا فلم يدروا أن التيه منهم ... وحلوا محل القرب من باطن الفكر فلو خلصوا فِي الْوُدِّ غَابَتْ صِفَاتُهُمُ ... وَقَامَتْ صِفَاتُ الْوُدِّ للحق في الذكر قَالَ الْجُنَيْدُ: فَغُشِّيَ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِهَا، فَلَمَّا أفقت، لم أرها. وأنشد لأبي عبد الله مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الشِّيرَازِيِّ: إليك قصدي لا لِلْبَيْتِ وَالأَثَرِ ... وَلا طَوَافِي بِأَرْكَانٍ وَلا حَجَرِ صفا دَمْعِي الصَّفَا لِي حِينَ أَعْبُرُهُ ... وَزْمَزِمِي دمعةٌ تَجْرِي مِنَ الْبَصَرِ وَفِيكَ سَعْيِي وَتَعْمِيرِي وَمُزْدَلِفِي ... والهدى جسمي الذي يغنى عن الجزر عرفانه عَرَفَاتِي إِذْ مِنًى مِنَنِي ... وَمَوْقِفِي وَقْفَةٌ فِي الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ وَجَمْرُ قَلْبِي جِمَارٌ نَبْذُهُ شَرَرُ ... وَالْحَرَمُ تَحْرِيمِيَ الدُّنْيَا عَنِ الْفِكَرِ وَمَسْجِدُ الْخَيْفِ خَوْفِي مِنْ تَبَاعُدِكُمْ ... وَمَشْعَرِي وَمَقَامِي دُونَكُمْ خَطَرِي زَادِي رَجَائِي لَهُ وَالشَّوْقُ رَاحِلَتِي ... وَالْمَاءُ مِنْ عبراتي والهوى سقري
باب ذكر كلمات حفظت عن الطائفين وأدعية وأحوال جرت لهم
بَابٌ ذِكْرُ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنِ الطَّائِفِينَ وَأَدْعِيَةٌ وأحوال جرت لهم 265- أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي محمد بن الحسين الأزرق، قال: ثنا أبو سهل القطان، قال: ثنا أحمد بن يحيى بن إسحاق، قال: ثنا أحمد بن حرب النيسابوري، قال: أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن جَمِيلٍ الْهَرَوِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله بن محرز، عن يزيد بن الأصم، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: بينا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، إِذَا رَجُلٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكعبة وهو يَقُولُ: يَا مَنْ لا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لا تَغْلُطُهُ الْمَسَائِلُ، وَيَا من لا يتبرم بالحاج الْمُلِحِّينَ! أَذِقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلاوَةَ رَحْمَتِكَ. قُلْتُ: يا عبد الله! أعد الكلام. قال: أوسمعته؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ، كان الخضر يقول: لا يَقُولُهُنَّ عَبْدٌ دُبُرَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، إِلا غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ رَمْلِ عَالِجَ وعدد المطر وورق
الشجر. 266- أخبرنا محمد بن أبي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ، قال: أخبرنا محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا عبد الرحمن والرياشي وَأَبُو حَاتِمٍ عَنِ الأَصْمَعِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَعْرَابِيًا وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ بِبَابِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ! سَائِلُكَ بِبَابِكَ، مَضَتْ أَيَّامُهُ وَبَقِيَتْ آثَامُهُ، وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ وَبَقِيَتْ تَبِعَتُهُ، فَارْضَ عَنْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا يُعْفَى عَنِ الْمُسِيءِ وَيُثَابُ الْمُحْسِنِ، وأنت أفضل من دعوت وأكرم من رجوت. 267- أخبرنا عمر بن ظفر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا أبو الحسن بن جهضم الصوفي، قال: ثنا أبو بكر محمد بن القاسم، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، قال: بينا أنا أطوف، نَظَرْتُ إِلَى أَعْرَابِيٍّ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ وَفَدَ الْعِبَادُ إِلَيْهِ! ذَهَبَتْ أَيَّامِي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَقَدْ وَرَدْتُ إِلَى بَيْتِكَ الْمُعَظَّمِ الْمُكَرَّمِ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ لا تَسَعُهَا الأَرْضُ وَلا تَغْسِلُهَا الْبِحَارُ مُسْتَجِيرًا بِعَفْوِكَ مِنْهَا، وَحَطَطْتُ رَحْلِي بفنائك، وأنفقت مالي في رضاك،
فما الذي يَكُونُ مِنْ جَزَائِكَ يَا مَوْلاي؟ ثُمَّ أَقْبَلَ على الناس بوجهه فقال: معاشر النَّاسِ! ادْعُوا لِمَنْ وَكَزَتْهُ الْخَطَايَا، وَغَمَرَتْهُ الْبَلايَا، ارْحَمُوا أَسِيرَ ضُرًّ، وَغَرِيبَ فاقةٍ، سَأَلْتُكُمْ بِالَّذِي قَدْ عَمَّتْكُمُ الرَّغْبَةُ إِلَيْهِ إِلا سَأَلْتُمُ اللَّهَ تعالى أن يهب لي جرمي، ويغفر لي ذنوبي، ثُمَّ عَادَ فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي! عَظِيمُ الذَّنْبِ مَكْرُوبٌ، وَعَنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ مَطْرُودٌ، وَقَدْ أَصْبَحْتُ ذَا فَاقَةٍ إِلَى رَحْمَتِكَ يَا مَوْلاي. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ وَضَعَ يَسَارَهُ عَلَى أُمِّ رأسه، فيصرخ وَيَبْكِي وَيَشْهَقُ وَيَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي! أُضْحِكَتِ الأَرْضُ بِالزَّهْرَةِ، وَأُمْطِرَتِ السَّمَاءُ بِالرَّحْمَةِ، وَالَّذِي أَعْطَيْتَ الْمُوَحِّدِينَ، إِنَّ نَفْسِي لَوَاثِقَةٌ لِي وَلَهُمْ مِنْكَ بالرضا، وَكَيْفَ لا يَكُونُ كَذَلِكَ وَأَنْتَ حَبِيبُ مَنْ تَحَبَّبَ إِلَيْكَ، وَقُرَّةُ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ وَانْقَطَعَ إِلَيْكَ، يَا مَوْلاي! حَقًّا حَقًّا أَقُولُ لَقَدْ أَمَرْتَ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فَاجْعَلْ وُفُودِي إِلَيْكَ عِتْقَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ. 268- أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ ظفر، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن الفقيه، قال: ثنا هلال بن محمد، قال: ثنا عمر بن أحمد، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا زكريا، قال: ثنا الأصمعي، قال: ثنا سُفَيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: السَّائِلُ بِبَابِكَ انْقَضَتْ أَيَّامُهُ، وَبَقِيَتْ آثَامُهُ، وَانْقَضَتْ شَهَوَاتِهِ وَبَقِيَتْ تَبِعَاتُهُ، وَلِكُلِّ ضَيْفٍ قِرًى، فَاجْعَلْ قِرَايَ الْجَنَّةَ.
269- أخبرنا أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن جعفر، قال: أخبرنا حمزة بن محمد، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: تَعَلَّقَ شَابٌّ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: إِلَهِي! لا لَكَ شَرِيكٌ فَيُؤْتَى، وَلا وَزِيرٌ فَيُرْشَى، إِنْ أَطَعْتُكَ فَبِفَضْلِكَ وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِنْ عَصَيْتُكَ فَبِجَهْلِي وَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ، فَبِإِثْبَاتِ حُجَّتِكَ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي لَدَيْكَ إِلا غَفَرْتَ لِي. فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ: الْفَتَى عَتِيقٌ من النار. 270- أنبأ أبو سعد البغدادي، قال: أخبرنا أبو العباس الطهراني وأبو عمرو بن منده، قالا: ثنا ابن بوه، قال: أخبرنا أبو الحسن اللنباني، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا أبو حاتم الرازي، قال: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، قال: ثنا عبد الرحمن بن كامل، قال: أخبرنا عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قال: قال طاووس: بَيْنَا أَنَا بِمَكَّةَ، بَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ، فَأَجْلَسَنِي إلى جنبه، واتكأني على وسادة، إِذْ سَمِعَ مُلَبِيًا يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ رَافِعًا صَوْتَهُ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ. فَأُتِيَ بِهِ. فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: لَيْسَ عن الإسلام
سَأَلْتُ. قَالَ: فَعَمَّ سَأَلْتَ؟ قَالَ: سَأَلْتُكَ عَنِ الْبَلَدِ. قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ (يُرِيدُ أَخَاهُ) ؟ قَالَ: تركته عظيماً، جسيماً، لباساً، رَكَّابًا، خَرَّاجًا، وَلاجًا. قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْتُكَ. قَالَ: فَعَمَّ سَأَلْتَ؟ قَالَ: سَأَلْتُكَ عَنْ سِيرَتِهِ. قَالَ: تَرَكْتُهُ ظَلُومًا، غَشُومًا، مُطِيعًا لِلْمَخْلُوقِ، عَاصِيًا لِلْخَالِقِ. قَالَ الْحَجَّاجُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانَهُ مِنِّي؟ قَالَ الرَّجُلُ: أَتَرَاهُ بِمَكَانِهِ مِنْكَ أَعَزَّ مِنِّي بِمَكَانِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا وَافِدٌ بيته، ومصدق نبيه، وقاض دَيْنَهُ؟ فَسَكَتَ الْحَجَّاجُ وَقَامَ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أن يؤذن له. قال طاووس: فَقُمْتُ فِي أَثَرِهِ وَقُلْتُ: الرَّجُلُ حَكِيمٌ. فَأَتَى الْبَيْتَ فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ، وَبِكَ أَلُوذُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي اللَّهْفِ إِلَى جُودِكَ وَالرِّضَا بِضَمَانِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ منع الباخلين، وغناً عما فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ، اللَّهُمَّ فَرَجَكَ الْقَرِيبَ وَمَعْرُوفَكَ الْقَدِيمَ، وَعَادَتَكَ الْحَسَنَةَ. ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ، فَرَأَيْتُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْبَلْ حَجِّي وَتَعَبِي وَنَصَبِي، فَلا تَحْرِمْنِي الأَجْرَ عَلَى مُصِيبَتِي بِتَرْكِكَ الْقَبُولَ مِنِّي. ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ، فَرَأَيْتُهُ غَدَاةَ جَمْعٍ يَقُولُ: وَاسَوْأَتَاهُ مِنْكَ، وَاللَّهِ وَإِنْ عَفَوْتَ يُرَدِّدُ ذلك. 271- أخبرنا أبو حفص البغدادي قال: أخبرنا أبو محمد بن
السراج، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا علي بن عبد الله الصوفي، قال: ثنا الخلدي، قال: ثنا ابن مسروق، قال: ثنا هارون بن سوار المقرئ، قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ حَرْبٍ يَقُولُ: بَيْنَا أَنَا فِي الطَّوَافِ، إِذْ لَكَزَنِي رَجُلٌ بِمِرْفَقِهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، فَقَالَ لي: يا أبا صالح! قلت: لَبَّيْكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّهُ شَهِدَ الْمَوْسِمَ شَرٌّ مِنِّي وَمِنْكَ، فبئسما ظننت. 272- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا ابن باكويه، قال: ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بن يعقوب يقول: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ يقول: سمعت قاسم بن عثمان الجوعي يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلا لا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَهِي قَضَيْتَ حَوَائِجَ الْمُحْتَاجِينَ، وَحَاجَتِي لَمْ تُقْضَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ لا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْكَلامِ؟ قَالَ: أُحَدِّثُكَ: كُنَّا سَبْعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى تَرَافَقْنَا وَغَزَوْنَا أرض العدو، واستؤسرنا كُلَّنَا؛ فَاعْتَزَلَ بِنَا بِطَرِيقٍ إِلَى مَوْضِعٍ لِيَضْرِبَ رقابنا، فَإِذَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهَا سَبْعُ جوارٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، عَلَى كُلِّ بَابٍ جَارِيَةٌ، فقدم رجل منا فضربت عُنُقُهُ، فَرَأَيْتُ جَارِيَةً فِي يَدِهَا مِنْدِيلٌ قَدْ هَبَطَتْ إِلَى الأَرْضِ
حَتَّى ضُرِبَتْ أَعْنَاقُ السِّتَّةِ، وَبَقِيتُ أَنَا وَبَقِي بَابٌ وَاحِدٌ، فَلَمَّا قَدِمْتُ لِتُضْرَبَ رَقَبَتِي اسْتَوْهَبَنِي بَعْضُ رِجَالِهِ، فَوَهَبَنِي لَهُ، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ فَاتَكَ يَا مَحْرَومُ؟! وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ، فَأَنَا يَا أَخِي مُتَحَسِّرٌ عَلَى مَا فَاتَنِي. قَالَ قَاسِمٌ الْجُوعِيُّ: أَرَاهُ أَفْضَلَهُمْ، لأَنَّهُ رَأَى مَا لَمْ يَرَوْا، وَتُرِكَ يَعْمَلُ عَلَى الشَّوْقِ. 273- أَخْبَرَنَا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعيد الحيري، قال: أخبرنا ابن باكويه، قال: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رجلاً بفرد عَيْنٍ وَهُوَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ: إني مجاور منذ خمسين سنة، فنظرت يوماً إلى شخص فَاسْتَحْسَنْتُهُ، فَإِذَا بِلَطْمَةٍ وَقَعَتْ عَلَى عَيْنِي، فَسَالَتْ عيني على خدي، فقلت: آه، فوقعت الأخرى، وقائل يقول: لَوْ زِدْتَ لَزِدْنَاكَ. 274- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بن علي الخوزي قال:
سمعت أبا بكر الكتاني يَقُولُ: رَأَيْتُ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ وَكَانَ غَرِيبًا تَقَدَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! ما أدري ما يقول هؤلاء؟ انظر ما في هذه الرقعة. فطارت رقعة في الهواء وغاب. 275- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيَّ، قَالَ: حَجَجْتُ ثَمَانِينَ حَجَّةً عَلَى قَدَمِي على الفقر، فبينا أَنَا فِي الطَّوَافِ وَأَنَا أَقُولُ: يَا حَبِيبِي يَا حَبِيبِي، فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ بِي: لَيْسَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِسْكِينًا حَتَّى تَكُونَ حَبِيبًا. فَغُشِّيَ عَلَيَّ، ثُمَّ كُنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَقُولُ: مسكينك مِسْكِينُكَ، وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي حَبِيبِي. 276- أَخْبَرَنَا محمد بن أبي منصور وعلي بن أبي عمر، قالا: أخبرنا رزق الله وطراد، قالا: أخبرنا ابن بشران، قال: ثنا ابن صفوان، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بن حسن، قَالَ: قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي الطَّوَافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهِيَ تَقُولُ: يَا رب!
ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَبَقِيَتِ التَّبِعَاتُ، يَا رَبِّ! سُبْحَانَكَ وعزتك، إنك لأرحم الراحمين، يا رب! مالك عقوبة إلا النار. فقالت صاحبة لها وكانت مَعَهَا: يَا أُخَيَّةُ! دَخَلْتِ بَيْتَ رَبِّكِ الْيَوْمَ؟ قالت: وَاللَّهِ مَا أَرَى هَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ أَهْلا لِلطَّوَافِ حول بيت ربي عز وجل، فَكَيْفَ أَرَاهُمَا أَهْلا أَطَأُ بِهِمَا بَيْتَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتُ حَيْثُ مَشَتَا وَأَيْنَ مشتا. 277- أخبرنا ابن ناصر، قال: أنبأنا ابن السراج، قال: أخبرنا التوزي، قال: ثنا ابن أخي ميمي، قال: ثنا البرذعي، قال: ثنا أبو بكر القرشي؛ قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أَبِي عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَرْعَى لِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَلا أَحْرَصَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، لَقَدْ رَأَيْتُ جَارِيَةً مِنْهُمْ ذات ليلة متعلقة بأستار الكعبة، فجعلت تدعوا وَتَتَضَرَّعُ وَتَبْكِي حَتَّى مَاتَتْ. 278- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصوفي، قال: ثنا أبو سعد الحيري، قال: ثنا ابن باكويه، قال: أخبرني محمد بن يحيى الجيلي، قال: ثنا محمد بن عيسى القرشي، قال: ثنا أبو الأشهب السايح، قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الطَّوَافِ إِذَا بِجُوَيْرِيَةٍ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تَقُولُ: يَا وَحْشَتِي بَعْدَ الأُنْسِ، وَيَا ذِلَّتِي بَعْدَ الْعِزِّ، وَيَا فَقْرِي بَعْدَ الْغِنَى.
فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ؟ أَذَهَبَ لَكِ مَالٌ، أَوْ أُصِبْتِ بِمُصِيبَةٍ؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ كَانَ لِي قَلْبٌ فَقَدْتُهُ. قُلْتُ: وَهَذِهِ مُصِيبَتُكِ؟ قَالَتْ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ فَقْدِ الْقُلُوبِ وَانْقِطَاعِهَا عَنِ الْمَحْبُوبِ. فَقُلْتُ: لَهَا إِنَّ حُسْنَ صَوْتِكِ قَدْ عَطَّلَ عَلَى سَامِعِيهِ الطَّوَافَ. فَقَالَتْ: يَا شَيْخُ الْبَيْتُ! بَيْتُكَ أَمْ بَيْتُهُ؟ قُلْتُ: بَلْ بيته. قالت: فالحرم حرمك أم حرمه؟ قلت: حَرَمُهُ. قَالَتْ: فَدَعْنَا نَتَدَلَّلُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَزَارَنَا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَتْ: بِحُبِّكَ لِي إِلا رَدَدْتَ عَلَيَّ قَلْبِي. فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أين تعلمين أنه يحبك؟ قالت: بالعناية الْقَدِيمَةِ جَيَّشَ مِنْ أَجْلِي الْجُيُوشَ، وَأَنْفَقَ الأَمْوَالَ، وَأَخْرَجَنِي مِنْ بِلادِ الشِّرْكِ، وَأَدْخَلَنِي فِي التَّوْحِيدِ، وَعَرَّفَنِي نَفْسَهُ، بَعْدَ جَهْلِي إِيَّاهُ، فَهَلْ هَذَا إلا لعناية؟ قُلْتُ: كَيْفَ حُبُّكِ لَهُ؟ قَالَتْ: أَعْظَمُ شَيْءٍ وَأَجَلُّهُ. قُلْتُ: وَتَعْرِفِينَ الْحُبَّ؟ قَالَتْ: فَإِذَا جَهِلْتُ الْحُبَّ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَعْرِفُ؟ قُلْتُ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قالت: أرق من الشراب، قلت: وأي شَيْءٍ هُوَ؟ قَالَتْ: مِنْ طِينَةٍ عُجِنَتْ بِالْحَلاوَةِ، وخمرت في إناء الجلالة، حلو المتجنى ما أقصر، فَإِذَا أُفْرِطَ، عَادَ خَبَلا قَاتِلا،
وفساداً معطلاً، وهو شجرة غرسها كَرِيهٌ، وَمَجْنَاهَا لَذِيذٌ. ثُمَّ وَلَّتْ وَأَنْشَأَتْ، تَقُولُ: وَذِي قَلَقٍ مَا يَعْرِفُ الصَّبْرَ وَالْعِزَّا ... لَهُ مقلة عبرى أضربها البكا وَجِسْمٌ نَحِيلٌ مِنْ شَجًى لاعِجِ الْهَوَى ... فَمَنْ ذَا يُدَاوِي الْمُسْتَهَامَ مِنَ الضَّنَا وَلا سِيَّمَا وَالْحُبُّ صَعْبٌ مَرَامُهُ ... إِذَا عَطَفَتْ مِنْهُ الْعَوَاطِفُ بالعنا 279- أخبرنا إبراهيم بن دينار الفقيه، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أحمد، قال: ثنا أَبُو الشَّيْخِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن حيان، قال: سمعت أبا سعيد الثقفي يَحْكِي عَنْ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ في الطواف، إذ طلع نور لحق أعنان السَّمَاءِ، فَتَعَجَّبْتُ وَأَتْمَمْتُ طَوَافِي، وَقُمْتُ أَتَفَكَّرُ فِي ذلك النور، فسمعت صوتاً حزيناً، فنظرت وإذ بِجَارِيَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تَقُولُ: أَنْتَ تدري يا حبيبي ... من حَبِيبِي أَنْتَ تَدْرِي وَنُحُولُ الْجِسْمِ وَالدَّمْعُ ... يَبُوحَانِ بسري يا عزيزي قَدْ كَتَمْتُ ... الْحُبَّ حَتَّى ضَاقَ صَدْرِي
قَالَ ذُو النُّونِ: فَشَجَانِي مَا سَمِعْتُ حَتَّى انتحبت، فبكت وقالت: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي! بِحُبِّكَ لِي إِلا غَفَرْتَ لِي. قَالَ: فَتَعَاظَمَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ: يَا جَارِيَةُ! أَمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي بِحُبِّي لَكَ حَتَّى تقولي بحبك لي؟ فقالت: إليك يا ذو النُّونِ؛ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا يُحِبُّهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحِبُّوهُ؟ أَمَا سَمِعْتَ الله عز وجل يقول: {فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه} ، فسبقت محبته لهم قبل مَحَبَّتَهُمْ لَهُ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ أَنِّي ذُو النُّونِ؟ فَقَالَتْ: يَا بَطَّالُ! جَالَتِ الْقُلُوبُ فِي مَيْدَانِ الأَسْرَارِ، فَعَرَفْتُكَ بِمَعْرِفَةِ الْجَبَّارِ. ثُمَّ قَالَتِ: انْظُرْ مِنْ خَلْفِكَ. فَأَدَرْتُ وَجْهِي، فَلا أَدْرِي السَّمَاءُ اقْتَلَعَتْهَا أَمِ الأَرْضُ ابْتَلَعَتْهَا؟ وَقَالَ ذو النون: بينا أنا أطوف بالبيت ليلاً وَقَدْ نَامَتِ الْعُيُونُ، وَإِذَا بِشَخْصٍ قَدْ حَاذَى باب البيت وهو يقول: رب! عبدك المسكين الطريد الشريد، أسألك بِالْعُصْبَةِ الَّتِي مَنَنْتَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيَّ بِرُؤْيَتِي لَهُمْ، إِلا أَعْطَيْتَنِي مَا
أَعْطَيْتَهُمْ، وَسَقَيْتَنِي مَا سَقَيْتَهُمْ بِكَأْسِ حُبِّكَ، وَكَشَفَّتَ عن قلبي أغطية الجهالة والحجب حَتَّى تَرْقَى رُوحِي بِأَجْنِحَةِ الشَّوْقِ إِلَيْكَ، فَأُنَاجِيكَ في رياض بَهَائِكَ. ثُمَّ بَكَى حَتَّى سَمِعْتُ لِدُمُوعِهِ وَقْعًا على الحصى، ثم ضحك قهقهة ومضى، فتبعته وأنا أقول: إما عارف أو مخذول. فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَخَذَ نَاحِيَةَ خَرَابَاتِ مَكَّةَ، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا ذَا النُّونِ. قلت: ناشدتك بمحبوبك، إلا وقفت لي. فَوَقَفَ وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ذَا النُّونِ، أَمَا لَكَ شُغُلٌ؟ قُلْتُ: مَنِ الْقَوْمُ الَّذِينَ سَأَلْتَ بِحُرْمَتِهِمْ؟ فَقَالَ: قَوْمٌ سَارُوا إِلَى اللَّهِ سَيْرَ مَنْ نَصَبَ الْمَحْبُوبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَجَرَّدُوا تَجَرُّدَ من أخذت الزبانية بحقوه وَأُجِّجَتِ النَّارُ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ قِيَامَةُ الشَّقَاءِ وَهُوَ مَطْلُوبٌ. 280- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: ثنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: حدثني عبد العزيز بن الفضل، قال: حدثني عبد الجبار بن عبد الصمد، قال: حدثني الحسين بن أحمد بن هارون، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَرْدَبِيلِيُّ، عَنْ أَبِي شُعَيْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ أَنْ أَصْحَبَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لِي: عَلَى شَرِيطَةٍ عَلَى أَنَّكَ لا تَنْظُرُ إِلا لِلَّهِ وَبِاللَّهِ. فَشَرَطْتُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي فَخَرَجْتُ معه، فبينا نَحْنُ فِي الطَّوَافِ، إِذَا بِغُلامٍ قَدِ افْتُتِنَ الناس في الطواف بِحُسْنِهِ وَجَمَالِهِ، وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فلما طال ذلك، قلت: يَا أَبَا إِسْحَاقَ! أَلَيْسَ شَرَطْتَ عَلَيَّ أَنْ لا أَنْظُرَ إِلا لِلَّهِ وَبِاللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَإِنِّي أَرَاكَ تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى هَذَا الغلام. فقال: إن هذا ابني وولدي، وَهَؤُلاءِ غِلْمَانِي وَخَدَمِي الَّذِينَ مَعَهُ،
وَلَكِنِ انْطَلِقْ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ مِنِّي وَعَانِقْهُ عَنِّي. فَمَضَيْتُ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَجَاءَ إِلَى وَالِدِهِ وسلم عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ مَعَ الْخَدَمِ وَقَالَ: ارْجِعِ انْظُرْ أَيْشِ يُرَادُ بِكَ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: هَجَرْتُ الْخَلْقَ طُرًا فِي رِضَاكَا ... وَأَيْتَمْتُ الْعِيَالَ لِكَي أَرَاكَا فَلَوْ قَطَّعْتَنِي فِي الْحُبِّ إِرَبًا ... لَمَا حَنَّ الْفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا 281- قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ شُجَاعِ بْنِ فَارِسٍ، قال: أخبرنا هناد، قال: ثنا محمد بن علي بن مخلد، قال: ثنا أحمد بن محمد، قال: حدثني صالح بن محمد، قال: حدثني حمزة الرقي، قال: حدثني علي بن يعقوب، قال: ثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا ابن الشيظمي، قَالَ: حَجَجْتُ فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ، فَبَيْنَا أَنَا أطوف بالكعبة، إذ بَصُرْتُ بِجَارِيَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ تَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي! هَا أَنَا أَمَتُكَ الْغَرِيبَةُ، وَسَائِلَتُكَ الْفَقِيرَةُ، حَيْثُ لا يَخْفَى عليك مكاني، ولا يستتر عنك سوء حالي، قد هَتَكَتِ الْحَاجَةُ حِجَابِي، وَكَشَفَتِ الْفَاقَةُ نِقَابِي، فَكَشَفْتَ لَهَا وَجْهًا رَقِيقًا عِنْدَ الذُّلِ وَذَلِيلا عِنْدَ المسألة، طال وعزتك ما حجبه عنه ماء الغنا، وصانه عنه ماء الحياء، قد خدمت عَنِّي أَكُفُّ الْمَرْزُوقِينَ، وَضَاقَتْ بِي صُدُورُ الْمَخْلُوقِينَ، فمن
حَرَمَنِي لَمْ أَلُمْهُ، وَمَنْ وَصَلَنِي وَكَلْتُهُ إِلَى مكافأتك. فدنوت منها، فبررتها ثم قلت لَهَا: مَنْ أَنْتِ وَمِمَّنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عني من قل مَالُهُ وَذَهَبَ رِجَالُهُ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟! ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: بَعْضُ بَنَاتِ الرِّجَالِ أَبْرَزَهَا الدَّهْرُ ... كَمَا قَدْ تَرَى وَأَحْوَجَهَا أَبْرَزَهَا مِنْ جَلِيلِ نعمتها ... وابتزها ملكها وأخرجها وطال ما كَانَتِ الْعُيُونُ إِذَا ... مَا خَرَجَتْ تَسْتَشِفُّ هَوْدَجَهَا إِنْ كَانَ قَدْ سَاءَهَا وَأَحْزَنَهَا ... فَطَالَمَا سَرَّهَا وأبهجها الحمد لله رب معسرة ... قد ضمن الله أَنْ يُفَرِّجَهَا قَالَ: فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَأُخْبِرْتُ أَنَّهَا من ولد الحسين بن علي صلوات الله عليه. 282- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: قَالَ لَنَا القاضي أبو الحسن بن صخر الأزدي: بينما أنا في الطواف وإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول:
سُتُورُ بَيْتِكَ ذَيْلُ الأَمْنِ مِنْكَ وَقَدْ ... عَلَقْتُهَا مُسْتَجِيرًا أَيُّهَا الْبَارِي وَمَا أَظُنُّكَ لَمَّا إِنْ عَلِقْتُ بِهَا ... خَوْفًا مِنَ النَّارِ تُدْنِينِي مِنَ النار وها أنا جار ببيت أَنْتَ قُلْتَ لَنَا ... حُجُّوا إِلَيْهِ وَقَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خَرَجْتُ حَاجًّا إِلَى بيت الله تعالى؛ فإذا أنا بسعدون المجنون قد تعلق بأستار الكعبة يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ وَيَقُولُ: مَنْ أَوْلَى بِالتَّقْصِيرِ مِنِّي وَقَدْ خَلَقْتَنِي ضَعِيفًا، وَمَنْ أولى بالعفو منك وَأَنْتَ مَوْلاي. قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَإِذَا عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صوفٍ مُرَقَّعَةٌ بِالأَدَمِ وَإِذَا عَلَى كُمِّهِ الأَيْمَنِ مَكْتُوبٌ: تَعْصِي مَوْلاكَ يَا سَعِيدُ ... ما هكذا يفعل الْعَبِيدُ فَرَاقِبِ اللَّهَ وَاخْشَ مِنْهُ ... يَا عَبْدَ سُوءٍ غَدًا الْوَعِيدُ وَعَلَى كُمِّهِ الأَيْسَرِ مَكْتُوبٌ: يَا مَنْ يَرَى بَاطِنَ اعْتِقَادِي ... وَمُنْتَهَى الأَمْرِ من فؤادي أصلح فساد الأمر مني ... ولا تدع موضع الفساد فقلت له: يَا سَعْدُونُ! أَنَّى لَكَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ؟ وَالنَّاسُ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ؟ فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ:
زَعَمَ النَّاسُ أَنَّنِي مَجْنُونُ ... كَيْفَ أَصْحُو وَلِي فُؤَادٌ مَصُونُ أَلِفَ الْحُزْنَ وَالْبُكَا فِي الدَّيَاجِي ... فَهُوَ بِاللَّهِ مُشْغَفٌ مَحْزُونُ ثُمَّ غَابَ عَنِّي.
باب طواف الحشرات بالبيت
بَابٌ طَوَافُ الْحَشَرَاتِ بِالْبَيْتِ 283- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا العشاري، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: ثنا أبو علي البرذعي، قال: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ علي العجلي، قال: ثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: بَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ، إِذْ أَقْبَلَتْ حَيَّةٌ مِنْ بَابِ الْعِرَاقِ حَتَّى طَافَتْ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَتِ الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَتْهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْجَانُّ! إِنَّكَ قَدْ قَضَيْتَ عمرتك وإنا نخاف عليك بعض صِبْيَانِنَا، فَانْصَرِفِي. فَخَرَجَتْ رَاجِعَةً مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ.
باب طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت زمن الغرق
بَابٌ طَوَافُ سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْبَيْتِ زمن الغرق 284- أنبأ الحريري عن العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الهاشمي، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ أبي المهدي، قال: ثنا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الفرات، عن علباء بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس [رضي الله عنه] ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ، فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ، فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ.
باب دخول البيت
بَابُ دُخُولِ الْبَيْتِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه دخل البيت وصلى فيه، فيستحب لِلإِنْسَانِ دُخُولُهُ حَافِيًا. وَأَوَّلُ مَنْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فِي الإِسْلامِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ النَّوَافِلَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 285- أخبرنا أبو القاسم الحريري، قال: أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه، قال: ثنا علي بن موسى الكاتب، قال: ثنا عمر بن شبة، قال: ثنا مخشي بن معاوية، قال: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ وَبِلالٌ وعثمان بن طلحة الحاجب، فأجيف الباب عليهم، فمكثوا فيه طويلاً،
ثم خرج رسول الله. قال عبد الله: فزاحمت، فكنت أول الناس دخل على إثر رسول الله فَأَجِدُ بِلالا عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: يَا بِلالُ! أين صلى رسول الله؟ قال: بين العمودين المقدمين. فنسيت أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى. أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . وَفِي بَعْضِ الأَلْفَاظِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: فَسَأَلْتُ بِلالا حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. وفي لفظ: ((وعند الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ)) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دُخُولُ الْكَعْبَةِ دُخُولٌ فِي حَسَنَةٍ، وَخُرُوجٌ منها خروج من سيئة.
باب ما يصنع بعد الطواف
باب ما يصنع بَعْدَ الطَّوَافِ إِذَا قَضَى الطَّائِفُ طَوَافَهُ، سُنَّ له أن يصلي ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا بِالإِخْلاصِ، وَالأَفْضَلُ أَنْ يكون خلف المقام.
باب ذكر مقام إبراهيم عليه السلام
بَابُ ذِكْرِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ الْحِجْرُ، وَفِي سبب وقوفه عليه قولان: إحداهما: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل عليه السلام فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ انْزِلْ. فَأَبَى، فَقَالَتْ: فَدَعْنِي أَغْسِلُ رَأْسَكَ. فَأَتَتْهُ بَحَجَرٍ فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ، ثُمَّ رفعته، فغابت رجله فيه، فجعله الله تعالى من الشعائر، هذا مروي عن ابن مسعود وابن عباس. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَامَ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. 286- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
أنه قال: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى. فنزلت: {واتخذوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . - وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ مِنَ الْجَنَّةِ. - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا جَوْهَرَتَانِ مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ، وَلَوْلا مَا مَسَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، مَا مَسَّهُمَا ذُو عَاهَةٍ إِلا شَفَاهُ الله. 287- أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: ثنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: ثنا أبو الحسن بن معروف، قال: ثنا الحسين بن الفهم، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَّرَ الْمَقَامَ إِلَى مَوْضِعِهِ الْيَوْمَ وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ. قَالَ بَعْضُ سَدَنَةِ الْبَيْتِ: ذَهَبْنَا نَرْفَعُ الْمَقَامَ فِي خِلافَةِ الْمَهْدِيِّ، فانثلم وهو من حجر رضو، فَخَشِينَا أَنْ يَتَفَتَّتَ، فَكَتَبْنَا فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَضببنا بِهَا الْمَقَامَ أَسْفَلَهُ وَأَعْلاهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَنْ يجعل عليه ذهب أحسن من ذلك العمل، فَفَعَلُوا، وَذَرْعُ الْمَقَامِ ذِرَاعٌ، وَالْقَدَمَانِ دَاخِلانِ فِيهِ سبع أصابع.
288- أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: ثنا ابن صفوان، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، قال: حَدَّثَنِي صَالِحُ الْمُرِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، أَنَّهُ كَانَ خَلْفَ الْمَقَامِ جَالِسًا، فَسَمِعَ دَاعِيًا دَعَا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَعَجِبَ مِنْهُنَّ وَحَفِظَهُنَّ، فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا: اللَّهُمَّ فَرِّغْنِي لِمَا خَلْقَتَنِي لَهُ، وَلا تَشْغَلْنِي بِمَا تَكَفَّلْتَ لِي بِهِ، وَلا تَحْرِمْنِي وَأَنَا أَسْأَلُكَ، وَلا تُعَذِّبْنِي وَأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ. 289- أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن الصوفي، قال: ثنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّيرَوَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ يَقُولُ: رَأَيْتُ شَابًّا فِي الطَّوَافِ مُتَّزِرًا بِعَبَاءَةٍ مُتَّشِحًا بِأُخْرَى، كَثِيرَ الطَّوَافِ وَالصَّلاةِ، فَوَقَعَتْ في قلبي محبته، ففتح علي بأربع مئة دِرْهَمٍ، فَجِئْتُ بِهَا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَوَضَعْتُهَا عَلَى طَرَفِ عَبَاءَتِهِ وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَخِي! اصْرِفْ هَذِهِ الْقُطَيْعَاتِ فِي
بعض حوائجك. فقام وبددها في الحصى وقال: يا إبراهيم! اشتريت من الله عز وجل هَذِهِ الْجِلْسَةَ بِسَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، تُرِيدُ أَنْ تَخْدَعَنِي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا الْوَسَخِ؟! قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَا رَأَيْتُ أَذَلَّ مِنْ نَفْسِي وَأَنَا أَجْمَعُهَا مِنْ بَيْنِ الْحَصَى، وَمَا رَأَيْتُ أَعَزَّ مِنْهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيَّ ثُمَّ ذَهَبَ. 290- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعد الحيري، قال: أخبرنا ابن باكويه، قال: أخبرني أبو زرعة، قال: أخبرني أبو بكر الغازي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَعَ أَصْحَابِنَا فِي مَوْضِعٍ، فَقَدَّمُوا اللَّبَنَ وَقَالُوا لي: كل. فقلت: لا آكل؛ فإنه يضرني. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَلَّيْتُ يَوْمًا خَلْفَ الْمَقَامِ وَدَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي مَا أَشْرَكْتُ بِكَ قَطُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِي وَيَقُولُ: وَلا يَوْمَ اللَّبَنِ.
باب ما يصنع بعد الصلاة عند المقام
بَابُ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ الصَّلاةِ عِنْدَ الْمَقَامِ إِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، عَادَ إِلَى الرُّكْنِ واستلمه، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَسَعَى.
باب السعي بين الصفا والمروة
بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّفَا: فِي اللُّغَةِ: الْحِجَارَةُ الصَّلْبَةُ الصَّلْدَةُ الَّتِي لا تُنِبْتُ شَيْئًا، وَهُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ صَفَاةٌ، وَصَفَا مِثْلُ حَصَاةٍ وَحَصَى. وَالْمَرْوَةُ: الْحِجَارَةُ اللَّيِّنَةُ. 291- وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ عَنِ الصفا والمروة ولم سُمِّيَا بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: لأَنَّ آدَمَ لَمَّا حَجَّ، رقي عَلَى الصَّفَا رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَقَدْ أَصْفَاهَا، وَقَامَتِ امْرَأَتُهُ حَوَّاءُ على المروة لتقبل توبتها. فصل فأما السَّعْيُ بَيْنَهُمَا، فَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ زَمْزَمَ أَنَّ هَاجَرَ سَعَتْ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلُ السَّعْيِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا: فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لا يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ.
فصل
فَصْلٌ فَإِذَا أَرَادَ السَّعْيَ بَدَأَ بِالصَّفَا، وَالأَفْضَلُ أن يرقى وَيُكَبِّرَ ثَلاثًا وَيَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لا إله إلا الله، لا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كره الكافرون. ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا وَيَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ نحو ست أذرع، ثم يسعى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَحِذَاءِ دَارِ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَصْعَدَ الْمَرْوَةَ، وَيَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، وَالْمَرْأَةُ تَمْشِي وَلا تَسْعَى. وَيُسْتَحَبُّ ألا يَسْعَى إِلا مُتَطَهِّرًا مُسْتَتِرًا، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي السَّعْيِ كَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ، وَالْمُوَالاةُ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَإِنْ قَطَعَ الْمُوَالاةَ لحاجة قصيرة الْمُدَّةِ، بَنَى، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، ابْتَدَأَ وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنَّ الْمُوَالاةَ سُنَّةٌ.
باب ما يصنع بعد السعي
بَابُ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ السَّعْيِ إِذَا فَرَغَ مِنَ السَّعْيِ عَادَ إِلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا ثلاث ليال، إلا أن يختار التعجل فِي يَوْمَيْنِ، وَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلاثَ فِي أَيَّامِ التشريق بعد الزوال، كل جمرة في كل يوم بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، كَمَا وَصَفْنَا فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فيبدأ بِالْجَمْرَةِ الأُولَى وَهِيَ أَبْعَدُ الْجَمَرَاتِ مِنْ مَكَّةَ، وَتَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَرْمِيهَا، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَنْهَا إِلَى مَوْضِعٍ لا يُصِيبُهُ الْحَصَى، وَيَقِفُ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ سُورَةِ البقرة يدعو الله تعالى، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَقِفُ وَيَدْعُو كَمَا فَعَلَ فِي الأُولَى، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِي وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا. فَصْلٌ وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ تَرَكَ حَصَاةً، فَفِيهَا أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ:
إِحْدَاهُنَّ: يَلْزَمُهُ دَمٌ. وَالثَّانِيَةُ: مُدٌّ، وَفِي حَصَاتَيْنِ مدان، وفي ثلاثة دم. والثالثة: يَلْزَمُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَالرَّابِعَةُ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ لَيَالِيَ مِنًى، لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَفِيهَا الرِّوَايَاتُ الأَرْبَعُ. ويجوز لأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ وَرُعَاةِ الإِبِلِ أَنْ يَدَعُوا المبيت ليالي منى، وأن يرموا في يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ أَقَامُوا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَزِمَ الرُّعَاةَ الْبَيْتُوتَةُ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَهْلَ السِّقَايَةِ. وَمَنْ نَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، دَفَنَ مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْحَصَى، فَإِنْ أَقَامَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، لزمه البيتوتة والرمي مِنَ الْغَدِ، وَإِذَا نَفَرَ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الأَبْطَحَ، وَهُوَ الْمُحَصَّبُ وَحَدُّهُ مَا بَيْنَ الجبلين إلى المقبرة، فيصلي به الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ يَهْجَعُ يَسِيرًا، ثم يدخل مكة.
باب ذكر زمزم وبدو شأنها
باب ذكر زمزم وبدو شأنها 292- أخبرنا ابن عيسى، قال: أخبرنا الداوودي، قال: أخبرنا السرخسي، قال: ثنا الفربري، قال: حدثنا البخاري، قال: ثنا عبد الله بن محمد، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ المطلب بن أبي وداعة يزيد إحداهما عَلَى الآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: جَاءَ إبراهيم بأم إسماعيل وابنها إسماعيل وهي مرضعة حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ وَلَيْسَ بمكة أحد وليس بها ماء، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاء فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَا مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلا شَيْءَ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فقالت له: آلله أمرك بهاذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ. ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ [عليه السلام] حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ
الدعوات ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بوادٍ غَيْرِ ذي زرع} ، حتى بلغ: {يشكرون} ، وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذلك الماء، حتى إذا نفذ، عطشت وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ فَاسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عليها ونظرت فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. 293- قال ابن عباس: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا)) . فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ، سمعت صوتاً فقال: صَهٍ! تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أُسْمِعْتُ إِنْ كَانَ عِنْدَكِ غُوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بعقبه (أو قال: بجناحه) ، حتى ظهر الْمَاءَ، فَجَعَلَتْ تَحُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تغرف الماء من سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
فصل
((يرحم الله أم إسماعيل، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، (أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ) ؛ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا)) . فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيتاً لله عَزَّ وَجَلَّ، يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ بَانَ فِيهِ مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا بِزَمْزَمَ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَمَّا فَاضَ، زَمَّتْهُ هَاجَرُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: وَزَمْزَمُ مِنْ قَوْلِكَ زَمَمْتُ النَّاقَةَ إِذَا جَعَلْتَ لَهَا زِمَامًا تَحْبِسُهَا بِهِ. فَصْلٌ وَاعْلَمْ أن زَمْزَمَ دُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَوَلِيَ سِقَايَةَ الْبَيْتِ وَرِفَادَتَهُ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ طَيْبَةَ. قَالَ: وما طيبة؟ فأتى من الْغَدِ، فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ بَرَّةَ. قَالَ: وَمَا برة؟ فأتى من الغد فقيل له: احفر المضنونة. فقال: وما المضنونة؟ فأتى، فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ زَمْزَمَ. قَالَ: وَمَا
زمزم؟ قال: لا تنزح وَلا تُذَمُّ تَسْقِي الْحَجِيجَ الأَعْظَمَ وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نَقْرَةِ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ وَهِيَ شرف لك ولولدك، وكان غراب أعصم لا يَبْرَحُ عِنْدَ الذَّبَائِحِ مَكَانَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته معه ابْنُهُ الْحَارِثُ وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرَهُ، فَجَعَلَ يَحْفُرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى بَدَا لَهُ الطوي، فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل [عليه السلام] . فقالت له قريش: أشركنا فيه. قال: ما أنا بفاعل شيء خصصت به دُونِكُمْ، فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إِلَيْهِ. فَقَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدٍ. فَخَرَجُوا إِلَيْهَا فَعَطِشُوا فِي الطَّرِيقِ حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْمَوْتِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا الْعَجْزُ، أَلا نَضْرِبُ فِي الأَرْضِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً. فَارْتَحَلُوا وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلى راحلته فركبها، فلم انبعثت به، انفجرت تَحْتَ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَكَبَّرَ عَبْدُ المطلب وكبر أصحابه، فشربوا جَمِيعًا وَقَالُوا لَهُ: قَدْ قَضَى لَكَ عَلَيْنَا الَّذِي سَقَاكَ، فَوَاللَّهِ لا نُخَاصِمُكَ فِيهَا أَبَدًا. فَرَجَعُوا وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَمْزَمَ.
باب فضل الشرب من ماء زمزم
بَابُ فَضْلِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ 294- رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ: ((مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ)) . 295- وَقَالَ: ((مَاءُ زَمْزَمَ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ)) . 296- وَفِي ((الصحيحين)) من حديث أبي ذر [رضي الله عنه] ، أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا هَاهُنَا مِنْ بَيْنِ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَيَوْمٍ. قال: ((فمن كَانَ يُطْعِمُكَ؟)) . قَالَ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جوعٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ((إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طعم)) .
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ. 297- فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((التَّضَلُّعُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ)) . ويستحب لمن شرب أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا عِلْمًا نَافَعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِي وَامْلأْهُ مِنْ خَشْيَتِكَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ يُكْرَهُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ؟! فَعِنْدَ الأَكْثَرِينَ لا يُكْرَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ. وَالأُخْرَى: يُكْرَهُ لِقَوْلِ العباس عليه السلام: لا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، لَكِنْ لِشَارِبٍ حلٌ وبلٌ. 298- قرأت على محمد بن أبي منصور، عن الحسن بن أحمد، قال: ثنا ابن أبي الفوارس قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، قال: أخبرنا
محمد بن المسيب الأرغياني، قال: ثنا عبد الله بن حنيف، قال: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا شَيْخٌ مِنْ هَرَاةَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُ صِدْقٍ، فقال لي: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فِي السَّحَرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى زَمْزَمَ، فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ زَمْزَمَ وقد سدل ثوبه على وجهه، فأتى البير، فَنَزَعَ بِالدَّلْوِ فَشَرِبَ، فَأَخَذْتُ فَضْلَتَهُ فَشَرِبْتُهَا، فَإِذَا سُوَيْقُ لَوْزٍ لَمْ أَذُقْ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهُ، ثُمَّ الْتَفَتُّ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ ذَهَبَ، ثُمَّ عُدْتُ مِنَ الْغَدِ فِي السَّحَرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى زَمْزَمَ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ زَمْزَمَ، فَأَتَى الْبِئْرَ، فَنَزَعَ بِالدَّلْوِ فَشَرِبَ، فَأَخَذْتُ فضلته فشربتها، فإذا لبن مَضْرُوبٌ بِعَسَلٍ لَمْ أَذُقْ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهُ، ثُمَّ الْتَفَتُّ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ ذَهَبَ، ثُمَّ عُدْتُ مِنَ الْغَدِ فِي السَّحَرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى زَمْزَمَ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ زَمْزَمَ، فَأَتَى الْبِئْرَ فَنَزَعَ بِالدَّلْوِ، فَشَرِبَ فَأَخَذْتُ فَضْلَتَهُ فَشَرِبْتُهَا، فَإِذَا سُكَّرٌ مَضْرُوبٌ بِلَبَنٍ لَمْ أذق أطيب منه، فأخذت ملحفته فلففتها على يدي. وقلت له: يَا شَيْخُ! بِحَقِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ عَلَيْكَ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: تَكْتُمُ عَلَيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: حتى أموت؟ قلت: نعم. قال: أنا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ. 299- أَنْبَأنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الحافظ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال:
أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا أحمد بن مروان، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ زَمْزَمَ إِنَّهَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ له: يا أبا محمد! أليس الحديث صحيح الذي حدثنا فِي زَمْزَمَ إِنَّهُ لِمَا شُرِبَ لَهُ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ شَرِبْتُ الآنَ دلولاً من زمزم على أنك تحدثني بمئة حديث فقال سفيان: اقعد. فحدثه بمئة حديث.
باب الرفادة والسقاية
باب الرفادة والسقاية قد ذكرنا في حديث زمزم، أن عبد المطلب ولي السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ، وَهَذَا قَدْ يَشْكُلُ، فَلْنَشْرَحْهُ. كَانَ أصل السقاية: حياض من أدم توضع على زمن قصي بفناء الكعبة، ويستقى فِيهَا الْمَاءُ لِلْحَاجِّ. وَالرِّفَادَةُ: خرجٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تخرجه من أموالها إلى قصي تصنع به طَعَامًا لِلْحَاجِّ يَأْكُلُهُ مَنْ لَيْسَ لَهُ سَعَةٌ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ قُصَيَّ بْنَ كِلابٍ اسْتَوْلَى على الحرم، وجمع إليه بَنِي كِنَانَةَ وَقَالَ: أَرَى أَنْ تَجْتَمِعُوا فِي الْحَرَمِ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ، خَرَجُوا عَنِ الحرم لا يستحلون أن يبيتوا فيه، فقالوا: هذا عظيم. فقال: والله، لا أخرج منه. فَثَبَتَ فِيهِ مَعَ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا جَاءَ الْمَوْسِمُ، قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ وَأَهْلُ حَرَمِهِ، وَإِنَّ الْحَاجَّ زُوَّارُ الله وأضيافه، فترافدوا واجعلوا لهم طَعَامًا وَشَرَابًا أَيَّامَ الْحَجِّ حَتَّى يَصْدُرُوا، وَلَوْ كَانَ مَالِي يَسَعُ ذَلِكَ، لَقُمْتُ بِهِ. فَفَرَضَ عليهم
فَرْضًا تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ مِنْ أَمْوَالِهَا، فَجَمَعَ ذَلِكَ وَنَحَرَ عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ مَكَّةَ جَزُورًا وَنَحَرَ بِمَكَّةَ جُزُرًا كَثِيرَةً، وَأَطْعَمَ النَّاسَ وَسَقَى اللَّبَنَ الْمَحْضَ وَالْمَاءَ وَالزَّبِيبَ. وَكَانَ قُصَيٌّ يحمل راجل الحاج ويكسو عاريهم، وما زال ذَلِكَ الأَمْرُ حَتَّى قَامَ بِهِ هَاشِمٌ، ثُمَّ أَخُوهُ الْمُطَّلِبُ ثُمَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ قَامَ به العباس عليه السلام. 300- أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا الحسين بن محمد الكوفي، قال: أخبرنا محمد بن علي بن دحيم، قال: ثنا ابن أبي عوزة، قال: أخبرنا محمد بن سعيد، قال: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابن عباس، قال: لم يرخص رسول الله لأَحَدٍ أَنْ يَبِيتَ لَيَالِيَ مِنًى بِمَكَّةَ إِلا للعباس بن عبد المطلب من أجل سِقَايَتِهِ. 301- وَرَوَى ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَطْعَمَ الْحَاجَّ الْفَالَوْذَجَ بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفَدَ ابْنُ جُدْعَانَ عَلَى كِسْرَى فَأَكَلَ عِنْدَهُ الْفَالَوْذَجَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: لُبَابُ الْبُرِّ مَعَ الْعَسَلِ. فَقَالَ: ابْغُونِي غُلامًا يَصْنَعُهُ. فَأَتَوْهُ بِغُلامٍ، فَابْتَاعَهُ وَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ فَصَنَعَهُ لِلْحَاجِّ، وَوَضَعَ الْمَوَائِدَ مِنَ الأَبْطَحِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِ: أَلا من أراد الفالوذج، فليحضر. فحضر الناس. وما زال إطعام الناس فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الإِسْلامِ، وَكَانَتِ الْخُلَفَاءُ تُقِيمُهُ وَلا يُكَلِّفُونَ أَحَدًا مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ اشْتَرَى دَارًا بِمَكَّةَ وَسَمَّاهَا دَارَ الْمَرَاجِلِ، وَجَعَلَ فِيهَا قُدُورًا، وَرَسَمَ لَهَا مِنْ ماله، فكانت الْجُزُرُ وَالْغَنَمُ تُنْحَرُ وَتُطْبَخُ فِيهَا، وَيُطْعَمُ الْحَاجُّ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. 302- وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حديث ابن عباس، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إلى السقاية فاستسقى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ! اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فأت رسول الله بشراب من عندها. فقال: اسْقِنِي. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيديهم فيه. قال: ((اسقني)) .
فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: ((اعْمَلُوا؛ فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ)) . ثُمَّ قَالَ: ((لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا؛ لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ (يَعْنِي: عَاتِقَهُ)) ) . 303- وفي أفراد مسلم مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: ((انْزَعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لنزعت معكم)) .
باب العمرة
باب الْعُمْرَةِ أَصْلُ الْعُمْرَةِ وَالاعْتِمَارِ: الزِّيَارَةُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُمْرَةِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أنها واجبة، وهو مذهب علي عليه السلام وابن عمر وابن عباس والمنصور من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: هِيَ سُنَّةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحج والعمرة لله} . 304- ومن النقل حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] في مجيء جبريل وَسُؤَالِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الإسلام؟ فقال: ((أن تشهد ألا إله إلا اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وتعتمر)) .
فصل
ذكره الجوزقي في كتابه المخرج على ((الصحيحين)) . فصل وأركان العمرة: الإحرام، والطواف والسعي على إحدى الروايتين. وواجبها: الْحِلاقُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَمَّا سُنَنُهَا: فَالْغُسْلُ لِلإِحْرَامِ وَالأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ، أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ بَعْدَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَطَيَّبَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ، خَرَجَ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَأَحْرَمَ، وَالأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ شَيْئًا قَبْلَ الْحِلاقِ، فَفِيهِ روايتان: إحداهما: لا شيء عليه. والثانية: عليه فديته. فَإِنْ تَرَكَ الْحِلاقَ وَالتَّقْصِيرَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ على روايتين.
باب فضل العمرة في رمضان
بَابُ فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ 305- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ وَسَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قالا: أخبرنا ابن البطر، قال: ثنا ابن رزقويه، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، قال: ثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ [رضي الله عنه] ؛ قَالَ: أَرَادَتْ أُمِّي الْحَجَّ، فَكَانَ جَمَلُهَا أَعْجَفَ، فذكرت ذلك لرسول الله، فَقَالَ: ((اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً)) . 306- أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
محمد، قالوا: ثنا عبد الصمد بن المأمون، قال: أخبرنا علي بن عمر السكري، قال: ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، قال: ثنا شريح بن يونس، قال: ثنا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أبيه، عن ابن عباس [رضي الله عنه] ، قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: حَجَّ أَبُو طَلْحَةَ وَابْنُهُ وَتَرَكَانِي. فَقَالَ: ((يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! عُمَرْةٌ في رمضان تجزئك من حَجَّةٍ)) . 307- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَانٍ: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً)) . أَوْ قَالَ: ((حجة معي)) .
باب ذكر أسواق العرب التي كانت تقوم بمكة في مواسم الحج
باب ذكر أسواق العرب التي كانت تقوم بمكة في مواسم الحج كان للعرب أسواق، فأعظمها وأكثرها جمعاً وتجارة: سوق عكاظ، وكان كسرى في ذلك الزمان يبعث بِالسَّيْفِ الْقَاطِعِ وَالْفَرَسِ الرَّائِعِ وَالْحُلَّةِ الْفَاخِرَةِ، فَتُعْرَضُ فِي ذَلِكَ السُّوقِ وَيُنَادِي مُنَادِيهِ: إِنَّ هَذَا بَعَثَهُ الْمَلِكُ إِلَى سَيِّدِ الْعَرَبِ، فَلا يَأْخُذُهُ إلا من أذعنت له العرب جميعاً بِالسُّؤْدُدِ. فَكَانَ آخِرُ مَنْ أَخَذَهُ بِعُكَاظٍ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ. وَكَانَ كِسْرَى يُرِيدُ بِذَلِكَ: مَعْرِفَةَ ساداتهم ليعتمد عليهم في أمور العرب، فَيَكُونُونَ عَوْنًا لَهُ عَلَى إِعْزَازِ مُلْكِهِ وَحِمَايَتِهِ مِنَ الْعَرَبِ. وَكَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ مِنْ سُوقِ عُكَاظٍ إِلَى سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَبَيْنَهُمَا قُرْبٌ، فيقيمون بها إلى آخر يوم التروية.
أبواب فيها نبذ مما كان يجري للعرب في أيام الموسم بعكاظ وغيرها
أَبْوَابٌ فِيهَا نُبَذٌ مِمَّا كَانَ يَجْرِي لِلْعَرَبِ في أيام الموسم بعكاظ وغيرها
باب خطب الفصحاء خطبة كعب بن لؤي بعكاظ
أَبْوَابٌ فِيهَا نُبَذٌ مِمَّا كَانَ يَجْرِي لِلْعَرَبِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ بِعُكَاظٍ وَغَيْرِهَا بَابٌ خُطَبُ الفصحاء خُطْبَةُ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍ بِعُكَاظٍ 308- رَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍ كَانَ يَقِفُ بِعُكَاظٍ فِي الْمَوْسِمِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ! فاسمعوا وافهموا وتعلموا: ليل ساج، ونهار وَهَّاجٌ، وَالأَرْضُ مِهَادٌ، وَالْجِبَالُ أَوْتَادٌ، وَالسَّمَاءُ بِنَاءٌ، وَالنُّجُومُ أَعْلامٌ، صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَصْهَارَكُمْ، وَثَمِّرُوا أموالكم، الدار أمامكم، والظن غير مَا تَقُولُونَ، زَيِّنُوا حَرَمَكُمْ وَعَظِّمُوهُ وَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَسَيَأْتِي لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَسَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ نَجْوِي لدعوته، خير العشيرة يأتي الحق جذلانا. ثُمَّ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ ذَا سَمْعٍ وبصر، لتنصبت تنصب الفحل، ولأرقلت إرقال الجمل فرحاً بدعوته.
خطبة قس بن ساعدة بسوق عكاظ
خُطْبَةُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ بِسُوقِ عُكَاظٍ 309- أَخْبَرَنَا أبو سعد الزوزني، قال: أخبرنا أبو يعلى بن الفراء، قال: أخبرنا عيسى بن علي، قال: ثنا البغوي، قال: ثنا محمد بن حسان السمتي، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ اللَّخْمِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشعبي، عن ابن عباس، قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَيُّكُمْ يَعْرِفُ الْقُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ الإِيَادِيَّ)) ؟ فَقَالُوا: كُلُّنَا نَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((فَمَا فَعَلَ؟)) قَالُوا: هَلَكَ. قَالَ: ((مَا أَنْسَاهُ بِعُكَاظٍ عَلَى جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس! اجتمعوا واستمعوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرًا، مِهَادٌ مَوْضُوعٌ، وَسَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَنُجُومٌ تَمُورُ، وَبِحَارٌ لا تغور، أقسم قس قسماً حقاً لإن كان في الأمر رضا؛ ليكونن سخط، إن لله عز وجل لدينا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عليه، ما لي أرى الناس يذهبون لا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا فَأَقَامُوا، أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟)) . ثُمَّ قال:
خطبة زيد بن عمر بن نفيل عند الكعبة
((أَيُّكُمْ يَرْوِي شِعْرَهُ)) . فَأَنْشَدُوهُ: فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ ... مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا ... للقوم ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يسعى الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرْ لا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ ... وَلا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالة ... حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي السماء لخبراً: رَدٌّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ غَيْرُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَبَيَّنَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ خَبَرًا غَيْرَ مَا يَعْلَمُونَ، وَالْعِبْرَةُ تَعَرُّفُ مَا بَطَنَ بِمَا ظَهَرَ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِكَ عَبَرْتُ النَّهْرَ. 310- وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قس: ((أما إِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ)) . خُطْبَةُ زيد بن عمر بن نفيل عند الكعبة 311- روى يونس عن الزهري، قال: قالت أسماء: نظرت على زيد بن
عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ وَهُوَ يقول: يا معاشر قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أحب الوجوه إليك، لعبدتك متوجهاً إليه، ولكني لا أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي نَصَحْتُ لأَقْوَامٍ وَقُلْتُ لَهُمْ ... أَنَا النَّذِيرُ فَلا يَغْرُرْكُمْ أَحَدُ لا تَعْبُدُونَ إِلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ ... وَإِنْ سُئِلْتُمْ فقولوا ما له أمد سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا يَعُودُ لَهُ ... مِنْ قَبْلِ ما سبح الجودي والجمد لا شيء فيما نرى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِلَهُ وَيُودَى الْمَالُ وَالْوَلَدُ لم يغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عَادٌ فَمَا خَلَدُوا وَلا سُلَيْمَانُ إِذْ دَانَ الشُّعُوبُ لَهُ ... وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ يَجْرِي بَيْنَهَا الْبُرَدُ مُسَخَّرًا دُونَ أَسْبَابِ السَّمَاءِ لَهُ ... فَلا يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كان ببعض أرض لَخْمٍ قُتِلَ، فَرَثَاهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَقَالَ: رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عمروٍ وَإِنَّمَا ... تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا من النار حامياً دعاؤك رباً ليس رباً كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكُكَ أَوْثَانَ الْجِبَالِ كَمَا هِيَا وَقَدْ يدرك الإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأَرْضِ ستين واديا
باب ذكر طرف من خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة الخطبة الأولى يوم الفتح
بَابٌ ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ خُطَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ الْخُطْبَةُ الأُولَى يَوْمَ الْفَتْحِ 312- لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَرَوَتْ صفية بنت شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نَزَلَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الركن بمحجن فِي يَدِهِ، وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ ثُمَّ خَرَجَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِهَا، وَقَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ، فَقَامَ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلا كُلُّ مَأْثَرَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دَمٍ يُدَّعَى، فَهُو تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ، وسقاية الحاج، أو قتل خطأ العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّ الله تعالى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ من تراب)) . ثم تلا هذه الآية: {يا أيها
الخطبة الثانية في اليوم الثاني من فتح مكة
الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى ... } إِلَى آخَرِهَا، ثُمَّ قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أخ كريم وابن عم كريم. قَالَ: ((اذْهَبُوا، فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ)) . ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ومفتاح الكعبة بيده، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مع السقاية. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أين عثمان بن طلحة؟)) . فدعي له؛ فقال: ((هاك مفتحك)) . الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ 313- رَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ؛ قَالَ: كُنَّا مع رسول الله حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يوم فتح مكة، غدت خُزَاعَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ
الخطبة الثالثة في حجة الوداع بعرفة
فَقَتَلُوهُ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا؛ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فيها دماً ولا يعضد بها شجراً، لم تحل لأحد كان قبلي ولا لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا قدر الساعة، غضباً على أهلها، ثم قد رجعت لحرمتها بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ! ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ مقامي هذا، فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتلهم، وإن شاؤوا فَعَقْلُهُ)) . ثُمَّ وَدَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ عن ابن عباس، وأن رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَهُ يوم الفتح. الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ 314- رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: ((أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ غُرُوبِهَا، وَكَانُوا يدفعون غداً عند المشعر الحرام حين يعتم بها رؤوس الْجِبَالِ وَإِنَّا نَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِهَا، هَدْيُنَا مُخَالِفُ هَدْيَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالأَوْثَانِ)) . 315- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ من حديث عمر بن الخطاب، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرَقَ ثَبِيرٌ.
الخطبة الرابعة في حجة الوداع أيضا
فخالفهم رسول الله، فَأَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا 316- رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: حِينَ خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الوداع. ((يا أيها الناس! اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا في هذا الموقف. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم حرام إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَإِنَّكُمْ ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بَلَّغْتُ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، كُلُّ رِبًا مَوْضُوعٌ، وَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أن لا رباً، وأن رباً لعباس بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوضُوعٌ كُلُّهُ، وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعٌ، وَأَنَّ أَوَّلَ دمائكم أضع دم ابن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي ليث، فقتله هذيل. أما بعد أيها الناس، قد يئس الشيطان أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سوى ذلك من أعمالكم فقد رضي، فاحذروه أيها الناس على دينكم، وأن النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا
وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السماوات والأرض، وأن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، منها أربعة حرم: ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا، عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَنْ لا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ؛ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لا يَمْلِكْنَ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلَمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ. أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَاعْقِلُوا تَعِيشُوا، إِنَّ كُلَّ مسلم أخو المسلم وَالْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، وَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلا تَظْلِمُوا، وَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَل بلغت؟)) . 317- وَقَدْ أَخْرَجَ مسلم في أفراده مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْضَ هَذِهِ الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ.
الخطبة الخامسة بعرفة أيضا
الْخُطْبَةُ الْخَامِسَةُ بِعَرَفَةَ أَيْضًا 318- رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بكار بإسناده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَاتٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وقال: ((أَلا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بلدكم هذا، في سنتكم هذه، اللهم قَدْ نَصَحْتُهُمْ وَأَبْلَغْتُهُمْ كَمَا عَهِدْتَ إِلَيَّ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي فِيهِمْ)) . الْخُطْبَةُ السَّادِسَةُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ 319- رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مالك الأشعري، أن رسول الله قال في حجة الوداع في وسط أَيَّامِ الأَضْحَى: ((أَلَيْسَ هَذَا الْيَوْمُ حَرَامٌ؟)) . قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((فَإِنَّ حُرْمَتَكُمْ بَيْنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ، ثم أنبئكم من المسلم: من سلم المسلمون مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُؤْمِنُ: مَنْ أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُهَاجِرُ: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ، وَهَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالْمُؤْمِنُ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ: لَحْمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أن يحرقه، وجهه عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَلْطِمَهُ، وَدَمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَسْفِكَهُ، وَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ
الخطبة السابعة في أيام التشريق أيضا
يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعَنِّيهِ)) . الْخُطْبَةُ السَّابِعَةُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَيْضًا 320- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ المقرئ، قال: أخبرنا الحسين بن أحمد بن طلحة، قال: أخبرنا أبو عمر بن مهدي، قال: ثنا القاضي أبو عبد الله المحاملي، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، قال: حدثني أبي، قال: ثنا من شهد خطبة رسول الله بمنى أوسط أيام التشريق وهو على بعير، فقال: ((يا أيها النَّاسُ! أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرِبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، أَلا لا فَضْلَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى، أَلا قَدْ بَلَّغْتُ؟)) . قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) .
الخطبة الثامنة في حجة الوداع أيضا
الْخُطْبَةُ الثَّامِنَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا 321- أَخْبَرَنَا الكروخي، قال: أخبرنا أبو عامر الأزدي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: ثنا المحبوبي، قال: ثنا الترمذي، قال: ثنا موسى بن عبد الرحمن الكوفي، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: ((اتقوا الله ربكم، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ)) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
باب ذكر اجتماع الشعراء بسوق عكاظ وتناشدهم الأشعار
بَابُ ذِكْرِ اجْتِمَاعِ الشُّعَرَاءِ بِسُوقِ عُكَاظٍ وَتَنَاشُدِهِمُ الأشعار قال الأصمعي: كان النابغة الذبياني يضرب لَهُ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ بِسُوقِ عُكَاظٍ، فَتَأْتِيهِ الشُّعَرَاءُ، فَتَعْرِضُ عَلَيْهِ أَشْعَارَهَا، فَأَوَّلُ مَنْ أَنْشَدَهُ الأَعْشَى، ثُمَّ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ الشعراء، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ الْخَنْسَاءُ أَبْيَاتَهَا الَّتِي تَقُولُ فِيهَا: وإن صخراً ليأتم الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ فَقَالَ: وَاللَّهِ، لَوْلا أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ أَنْشَدَنِي آنِفًا، لَقُلْتُ إِنَّكِ أَشْعَرُ أَهْلِ زَمَانِكِ مِنَ الجن والإنس. فقام حسان فقال: لا، أنا والله أَشْعَرُ مِنْهَا وَمِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ. فَقَالَ لَهُ النابغة: حيث تقول ماذا؟ فقال: حيث أقول: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجده دما ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابن أما فقال له: يَا بُنَيَّ! إِنَّكَ قُلْتَ: ((لَنَا الْجَفَنَاتُ)) ، فَقَلَّلْتَ عددك، وقلت: ((يلمعن بالضحى)) ، ولو قلت: في الدجى، لكان فخراً، لأن الضيفان يكثرون
بالليل، وقللت عدد أسيافك، وقلت: ((يقطرن)) ، ولو قلت: يجرين، لكان أكثر للدم، وفخرت بمن ولدته وَلَمْ تَفْخَرْ بِمَنْ وَلَدَكَ. وَقَدْ كَانَ الزَّجَّاجُ يُنْكِرُ صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: إِنَّ الأَلِفَ والتاء تأتي للكثرة، قال عز وجل: {وهم في الغرفات} ، وقال: {إن المسلمين والمسلمات} ، وقال: {في جناتٍ} .
باب ذكر من كان يتولى الحكم بين العرب وإجازة الحاج
بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَإِجَازَةَ الْحَاجِّ كَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَامِرُ بن الظرب، وكان يقال له: ذو الحكم، قال الشاعر: لذي الحكم قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تَقْرَعُ الْعَصَا ... وَمَا عُلِّمَ الإنسان إلا ليعلما وكانت لَهُ أَعْوَادٌ يَجْلِسُ عَلَيْهَا، فَيَحْكُمُ بَيْنَ الْعَرَبِ، ويخطب في أيام الموسم، فَيَحُثُّ النَّاسَ عَلَى مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ، وَيُقَبِّحُ لَهُمُ الغدر، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحَلِفِ وَحِفْظِ الْجَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِي الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يبول، فلما مات، رثاه الأسود بن يعفر [فَقَالَ] : وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَوْ أَنَّ عِلْمِي نَافِعِي ... أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُ ذِي الأَعْوَادِ ثُمَّ لَمْ يجتمع بعد ذلك بعكاظ إلا لسعد بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَقَدْ ذَكَرَ
ذلك المخبل السَّعْدِيُّ، فَقَالَ: لَيَالِي سَعْدٍ فِي عُكَاظٍ يَسُوقُهَا ... له كل شرق من عكاظ ومغرب ثم اجتمع ذلك بعده لحنظلة بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، ثُمَّ وَلِيَهُ بَعْدَهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ الأَضْبَطُ بْنُ قريع بن عوف بن كعب بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ وَمَا زَالَ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ نَشَبٌ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ.
باب إيثار طاعة الله عز وجل في تلك الأماكن على البيع والشراء
بَابُ إِيثَارِ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ الأَمَاكِنِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَخَلَ ابْنُ عباس إلى الْحَرَمَ وَهُمْ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمَ الوفد بمن حلوا، لاستبشروا. 322- وأقرأت عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ بن الحسين بن خيرون، قال: أخبرنا عمر بن إبراهيم الزهري، قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن عثمان، قال: أخبرنا علي بن محمد المصري، قال: ثنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا موسى الشوا يَقُولُ: كُنْتُ مَعَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ الْعَابِدَةِ بِمِنًى، فَلَمَّا صِرْنَا عِنْدَ الْجِمَارِ رَأَتِ النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السماء، فقالت: حبيبي قد أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا وَتَرَكُوكَ. ثُمَّ صَاحَتْ وَسَقَطَتْ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَغَطَّيْتُهَا بِثَوْبِي، ثُمّ قُلْتُ لِلنَّاسِ: أصابها
شَيْءٌ وَأَوْهَمْتُهُمْ أَنَّ بِهَا عِلَّةً، ثُمَّ أَقَمْتُ حَتَّى أَفَاقَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ إِبْرَاهِيمَ! مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ؟ فَقَالَتْ: يَا بَطَّالُ! إِذَا كان هو يقسم الثناء، فلمن يتصنع؟
باب ذكر أماكن بمكة يستحب فيها الصلاة والدعاء
بَابُ ذِكْرِ أَمَاكِنَ بِمَكَّةَ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّلاةُ وَالدُّعَاءُ وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: الْمَكَانُ الأَوَّلُ: البيت الذي ولد فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ أَخَذَهُ حِينَ هَاجَرَ رَسُولُ الله، فلم يزل بيده ويد ولده، حَتَّى بَاعُوهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الحجاج بن يوسف، فَأَدْخَلَهُ فِي دَارِهِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْبَيْضَاءُ، وتعرف اليوم بابن يُوسُفَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْبَيْتُ فِي الدَّارِ، حَتَّى حَجَّتِ الْخَيْزُرَانُ جَارِيَةُ الْمَهْدِيِّ فَجَعَلَتْهُ مَسْجِدًا يصلى فيه، وأخرجته من الدار وأخرجته إِلَى الزُّقَاقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ زُقَاقُ الْمَوْلِدِ. المكان الثاني: منزل خديجة عليها السلام: وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وخديجة، وفيه ولدت أولادها من رسول الله، وفيه توفيت خديجة، ولم يزل النبي مقيماً فيه حَتَّى هَاجَرَ، فَأَخَذَهُ عَقِيلٌ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَجَعَلَهُ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ وبناه.
وفتح معاوية فيه بَابًا مِنْ دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِيَ الدَّارُ التي قال فيها رسول الله يَوْمَ الْفَتْحِ: ((مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)) . الْمَكَانُ الثَّالِثُ: مَسْجِدٌ فِي دَارِ الأرقم بن أبي الأرقم: التي عند الصفا، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: دَارُ الْخَيْزُرَانُ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَتِرًا فِيهِ فِي بِدَايَةِ الإِسْلامِ. الْمَكَانُ الرَّابِعُ: مَسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الرَّدْمِ: عِنْدَ بِئْرِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ. الْمَكَانُ الْخَامِسُ: مَسْجِدٌ بِأَعْلَى مكة أيضاً: يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْجِنِّ، وَهُوَ فِيمَا يُقَالُ: موضع الخط الذي خطه لابن مسعود ليلتئذ وَيُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْبَيْعَةِ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِنَّ بايعوا رسول الله هناك. الْمَكَانُ السَّادِسُ: مَسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ أَيْضًا: يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الشَّجَرَةِ يُقَابِلُ مَسْجِدَ الْجِنِّ، يُقَالُ إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا شَجَرَةً كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ،
فأقبلت تخط الأرض حتى وقعت بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَرَجَعَتْ. الْمَكَانُ السَّابِعُ: مسجد يسميه أَهْلُ مَكَّةَ مَسْجِدُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ: لأَنَّهُ بَنَاهُ. الْمَكَانُ الثَّامِنُ: مَسْجِدٌ عَنْ يَمِينِ الْمَوْقِفِ يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْجِدِ عَرَفَةَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الإِمَامُ. الْمَكَانُ التَّاسِعُ: مَسْجِدٌ بِمِنًى يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْكَبْشِ؛ لأن الكبش الذي فدى به إبراهيم ولده نزل هناك. الْمَكَانُ الْعَاشِرُ: مَسْجِدٌ بِأَجْيَادٍ، وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُقَالُ لَهُ: الْمُتَّكَأُ يُقَالُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّكَأَ هُنَالِكَ. الْمَكَانُ الْحَادِي عَشَرَ: مسجد عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ مَسْجِدٌ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ وَلَيْسَ بِالْخَلِيلِ. الْمَكَانُ الثَّانِي عَشَرَ: مِسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ سُوقِ الْغَنَمِ يُقَالُ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَايَعَ النَّاسَ عِنْدَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. الْمَكَانُ الثَّالِثَ عشر: مسجد العقبة حيث بايع الأنصار [رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب منى] . الْمَكَانُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَسْجِدٌ بِذِي طُوَى، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ هُنَالِكَ
حين يعتمر وحين حج تَحْتَ سَمُرَةَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، وَبَنَتْهُ زُبَيْدَةُ بَازِجٍ. الْمَكَانُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَسْجِدُ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ أَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ. الْمَكَانُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَسْجِدُ التَّنْعِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ((اعمر أختك من التنعيم، فإذا هبطت بِهَا الأَكَمَةَ، فَمُرْهَا فَلْتُحْرِمْ)) . الْمَكَانُ السَّابِعَ عَشَرَ: جَبَلِ حِرَاءَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ. الْمَكَانُ الثَّامِنَ عَشَرَ: جَبَلِ ثَوْرٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَفَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ.
باب ذكر من كان بمكة فألهم الخروج لمصلحة
بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَأُلْهِمَ الْخُرُوجَ لمصلحة 323- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ثمك بن عبد الله الطوسي يقول: سمعت علوس الدَّيْنَوَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُزَنِيُّ يَقُولُ: كُنْتُ مُجَاوِرًا بِمَكَّةَ فَخَطَرَ لِي خَاطِرٌ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجْتُ، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ أَمْشِي، فإذا بِشَابٍّ مَطْرُوحٍ يَنْزَعُ، فَشَهِقَ شَهْقَةً كَانَتْ فِيهَا نفسه، فكفنته في أطماره ودفنته ورجعت. ويروى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ، فبينا أنا أطوف بالبيت، نوديت في سري: سر إلى بلاد الروم. فقلت: يا عجباً! أكون ببيت اللَّهِ الْحَرَامِ فَأَتْرُكُهُ وَأَمْضِي إِلَى بِلادِ الرُّومِ؟! ثم هممت بالطواف، فلم أستطع، فسرت إِلَى بِلادِ الرُّومِ، فَلَمَّا دَخَلْتُهَا، سَمِعْتُ النَّاسَ يقولون: إن بنت ملكنا
صرعت وعرضت عَلَى كُلِّ الأَطِبَاءِ، فَمَا عَرَفُوا لَهَا دَوَاءً. فقلت: احملوني إِلَيْهَا، فَأَنَا غُلامُ الطَّبِيبِ. فَحُمِلْتُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ: مَرْحَبًا يَا خَوَّاصُ. فَقُلْتُ: مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى الْبَارِحَةِ، فإني نمت فرأيت في المنام عَرْشَ رَبِّي بَارِزًا، فَانْتَبَهْتُ كَمَا تَرَى لا ينطق لِسَانِي إِلا بِقَوْلِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ محمد رسول الله، فلما رأوني هكذا، نسبوا إِلَى الْجُنُونِ. فَقُلْتُ: لَعَلَّ اللَّهَ يُخُلِّصُكِ مِنْهُمْ، فمن أين عرفت اسمي؟ فقالت: نوديت: سنبعث لك من تسلمين على يده وَأُلْهِمْتُ ذِكْرَكَ. فَهَمَمْتُ بِالنُّهُوضِ، فَقَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قلت: مَكَّةَ. فَقَالَتْ: هَا هِيَ مَكَّةُ. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا مَكَّةَ، فَسِرْتُ قَلِيلا فَإِذَا أَنَا بِالْبَيْتِ.
باب طواف الوداع
بَابُ طَوَافِ الْوَدَاعِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ، لَزِمَهُ دَمٌ إِلا الْحَائِضَ، فَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ، لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ، وَإِذَا طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، لَمْ يقم بَعْدَهُ، فَإِنْ أَقَامَ، أَعَادَهُ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَلْيَقِفْ فِي الْمُلْتَزَمِ وَلْيَدْعُ.
باب ذكر الملتزم
باب ذكر الملتزم الملتزم: ما بين الركن والباب، وهو مقدار أربع أذرعٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَقُومُ عَبْدٌ ثُمَّ فيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ، إِلا اسْتَجَابَ له. 324- أخبرنا عمر بن ظفر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا ابن جهضم، قال: ثنا الحسن بن عبد الرحيم، قال: ثنا عمر بن محمد، قال: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أدهم، قال: طفت ذات ليلة بالبيت، فكانت لَيْلَةً مَطِيرَةً شَدِيدَةَ الظُّلْمَةِ، وَقَدْ خَلا الطَّوَافُ، فَوَقَفْتُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ أَدْعُو وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي حَتَّى لا أَعْصِيَكَ. فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَنْتَ تَسْأَلُنِي أَنْ أَعْصِمَكَ وَكُلُّ عِبَادِي يَسْأَلُونِي الْعِصْمَةَ، فَإِذَا عَصَمْتُهُمْ، فَعَلَى مَنْ أَتَفَضَّلُ، وَلِمَنْ أَغْفِرُ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَبَقِيتُ لَيْلَتِي إِلَى الصباح مستغفراً لله عز وجل، ومستحيياً منه تعالى.
فصل
فَصْلٌ وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَاءِ الطَّائِفِ لِلْوَدَاعِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ، وَسَيَّرْتَنِي فِي بِلادِكَ حَتَّى بَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ نُسُكِي، فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي، فَازْدَدْ عَنِّي رضاً، وإلا، فمن الآن قبل أن تنأى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي هَذَا، أَوَانُ انْصِرَافِي إِنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلا بِبَيْتِكَ وَلا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ فاصحبني الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَكَ مَا أبقيتني، واجمع لي خيري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فإن شَاءَ زَادَ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ. - قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا مَا علمت منها وما لم أعلم، لدى خَلْقِهِ كُلِّهِمْ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أعلم. ثم قفل إلى بلد، فَحَجَّ مِنْ قَابِلٍ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ
وذهب ليقول مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَنُودِيَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَتْعَبْتَ الْحَفَظَةَ مِنْ عَامِ أَوَّلَ إِلَى الآنَ، فَمَا فَرَغُوا مِمَّا قُلْتَ.
باب ذكر أماكن بمكة وما والاها وقرب منها مثل الحجون والمحصب والحجاز ونجد ذكرها الشعراء في أشعارهم فأطرب ذكرها السامع
بَابُ ذِكْرِ أَمَاكِنَ بِمَكَّةَ وَمَا وَالاهَا وَقَرُبَ مِنْهَا مِثْلُ الْحَجُونِ وَالْمُحَصَّبِ وَالْحِجَازِ وَنَجْدَ ذَكَرَهَا الشُّعَرَاءُ فِي أَشْعَارِهِمْ فَأَطْرَبَ ذِكْرُهَا السَّامِعَ قَالَ بَعْضُهُمْ: قِفَا وَدِّعَا نَجْدًا وَمَنْ حَلَّ بِالْحِمَى ... وقل لنجد عندنا أن تودعا وَلَيْسَ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... عَلَيْكَ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَا وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْحِمَى ثُمَّ أَنْثَنِي ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا وقال: فَمَا وَجْدُ أَعْرَابِيَّةٍ قَذَفَتْ بِهَا ... صُرُوفُ النَّوَى مِنْ حَيْثُ لَمْ تَكُ ظَنَّتِ تَمَنَّتْ أَحَالِيبَ الرِّعَاءِ وَخَيْمَةً ... بِنَجْدٍ فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهَا مَا تَمَنَّتِ إِذَا ذَكَرَتْ نَجْدًا وَطِيبَ تُرَابِهِ ... وَبَرْدَ حَصَاهُ آخِرَ اللَّيْلِ حَنَّتِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَجْدِ بَرِيَا وَجَدْتُهُ ... غَدَاةَ غَدَتْ أَظْعَانُهُمْ فَاسْتَقَلَّتِ
وَقَالَ جَمِيلٌ: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادِي الْقُرَى إِنِّي إِذًا لَسَعِيدُ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ: أَنْشَدَنِي أَبِي: هَيَّجَتْنِي إِلَى الْحَجُونِ شُجُونُ ... لَيْتَهُ قَدْ بَدَا لِعَيْنَيَّ الْحَجُونُ حَلَّ فِي الْقَلْبِ سَاكِنُوهُ مَحَلا ... مِنْ فؤادي يحل فيه المسكين كل داء له دواء وداء الحب ... يا صاحبي داء دفين ليت شعري عمن أحب أيمسى ... عند ذكري كما أكون يكون وَلِقَيْسٍ الْمَجْنُونِ: أَلا حَبَّذَا نجدٌ وطيبٌ تُرَابِهِ ... وَأَرْوَاحُهُ إِنْ كَانَ نَجْدٌ عَلَى الْعَهْدِ أَلا ليت شعري عن عوارضي ... فيا لطول الليالي هل تغيرن بعدي وعن جارتينا بالنثيل إلى الحمى ... على عهدنا لم لا تَدُومَا عَلَى الْعَهْدِ وَعَنْ أُقْحُوَانَ الرَّمْلِ مَا هو صانع ... إذا هو أثرى ليلة بثرى جعد وقال كثير: وقد حلفت جهداً بِمَا نَحَرَتْ لَهُ ... قُرَيْشٌ غَدَاةَ الْمَأْزَمَيْنِ وَصَلَتْ
وَكَانَتْ لِقَطْعِ الْحَبْلِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... كَنَاذِرَةٍ نَذْرًا فارقت وحلت فقلت لها يا عن كل مصيبة ... إذا وطنت لَهَا النَّفْسَ ذَلَّتْ وَلابْنِ الدُّمَيْنَةَ: أَلا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتَ مِنْ نَجْدِ ... لَقَدْ زادني مسراك وجداً على وجدي إن هَتَفَتْ وَرْقَاءُ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... عَلَى فَنَنٍ غض النبات من الزند بكيت كما يبكي الوليد ولم أكن ... جَلِيدًا وَأَبْدَيْتَ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تُبْدِي وَقَدْ زعموا أن المحب إذا دنا ... يَمَلُّ وَأَنَّ النَّأْيَ يُشْفِي مِنَ الْوَجْدِ بِكُلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... ألا أَّنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ وَلِلرَّضِيِّ رحمة الله عليه: يَا قُلْبُ مَا أَنْتَ مِنْ نَجْدٍ وَسَاكِنِهِ ... خَلَّفْتَ نَجْدًا وَرَاءَ الْمُدْلَجِ السَّارِي أَهْفُو إِلَى الركب تعلو إلي ركائبهم ... من الحمى في أسحاق وَأَطْمَارِ تَفُوحُ أَرْوَاحُ نَجْدٍ مِنْ ثِيَابِهِمْ ... عِنْدَ النُّزُولِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالدَّارِ يَا رَاكِبَانِ قِفَا لي فاقضيا وطراً ... وَخَبِّرَانِي عَنْ نَجْدٍ بِأَخْبَارِ
هل روضت قاعة الوعساء أم مطرت ... خميلة الطلح ذات البان والغار أم هل أبيت وداري عند كاظمةٍ ... داري وسمار ذاك الحمى سمار فَلَمْ يَزَالا إِلَى أَنْ نَمَّ بِي نَفْسِي ... وحدث الركب عن دمعي الجاري وله: يا بانتي بطن العقيق سقيتما ... بماء الفؤادي بعد ماء شئوني أُحِبُّكُمَا وَالْمُسْتَجَنُّ بطيبةٍ ... مَحَبَّةَ ذخرٍ بَاتَ عِنْدَ ضنين ولابن حيوس: أسكان نعمان الأَرَاكَ تَيَقَّنُوا ... بِأَنَّكُمْ فِي رَبْعِ قَلْبِي سُكَّانُ وَدُومُوا عَلَى حُسْنِ الْوِدَادِ فَإِنَّنِي ... بُلِيتُ بِأَقْوَامٍ إِذَا حَفِظُوا خَانُوا سَلُوا اللَّيْلَ عَنِّي مُذْ تناءت دِيَارُكُمْ ... هَلِ اكْتَحَلَتْ بِالنَّوْمِ لِي فِيهِ أَجْفَانُ وَهَلْ جُرِّدَتْ أَسْيَافُ بَرْقِ دِيَارِكُمْ ... فَكَانَ لَهَا إِلا جُفُونِيَ أَجْفَانُ وَلِمِهْيَارٍ: وَإِذَا هَبَّتْ صَبَا أَرْضِكُمْ حَمَلَتْ ... تُرْبَ الْغَضَا بَانًا وَرِنْدَا لامَ في نجد وما استنصحته ... بَابِلِيٌّ لا أَرَاهُ اللَّهُ نَجْدَا
رُدَّ لِي يَوْمًا عَلَى وَادِي مِنًى ... إِنْ قَضَى اللَّهُ لأمرٍ فَاتَ رَدَّا عَجَبًا لِي كَيْفَ أَبْقَى بَعْدَهُمْ ... غَيْرَ أَنْ قَدْ خُلِقَ الإنسان جلدا وله: مِنْ نَاظِرٍ لِي بَيْنَ سَلْعٍ وَقِبَا ... كَيْفَ أَضَاءَ الْبَرْقُ أَمْ كَيْفَ خَبَا نَبَّهَنِي وَمِيضُهُ وَلَمْ تَنَمْ عَيْنِي ... وَلَكِنْ رَدَّ عَقْلا عَزْبَا قَرَّتْ لَهُ بَنَاتُ قَلْبِي خَافِقًا ... وَاسْتَبْرَدَتْهُ أَضْلُعِي ملتهبا يا لبعيد مِنًى دَنَا بِهِ ... يُوهِمُنِي الصِّدْقَ بُرِيقٌ كَذِبَا ولنسيم سحر بحجر رَدَّتْ ... بِهِ عَهْدَ الصِّبَا رِيحُ الصَّبَا أُلَيَّةٌ مَا فَتَحَ الْعَطَّارُ عَنْ ... أَعْبَقَ مِنْهُ نَفْسًا وَأَطْيَبَا سَلْ مَنْ يَدُلُّ النَّاشِدِينَ بِالْغَضَا ... عَلَى الطَّرِيدِ وَيَرُدُّ السَّلَبَا أَرَاجِعٌ لِي وَالْمُنَى هَلْهَلَةٌ ... وطالع نَجْمُ زَّمَانِ غَرْبَا وَطَوْفَةٌ بَيْنَ الْقِبَابِ بِمِنًى ... لا خائف عتباً وَلا مُرْتَقِبَا وَلَهُ: يَا صَبَا نَجْدٍ وَيَا بَانَ الْغَضَا ... ارْفُقَا بِي فِي التَّثَنِّي وَالْهُبُوبِ وَاسْلَمَا لا مِثْلَ مَا طَاحَ دَمِي ... مِنْكُمَا بين نسيم وقضيب ففؤادي يشتكي جور الهوى ... وعذارى يشتكي جور المشيب
آلفتكم والهوى يقدم بي ... وأغض الصوت وَالدَّمْعُ يَشِي بِي لا يَكُنْ آخِرُ عَهْدِي بكم ... يا ولاة القلب ليلاة القلوب وله: هبت بأشواق نجدية ... مطعمة أنت لها واجب ما أنت يا قلب وَأَهْلَ الْحِمَى ... وَإِنَّمَا هُمْ أَمْسَكَ الذَّاهِبُ فَأَرْدُدُ على الريح أحاديثها ... ففي صابها نَاقِلٌ كَاذِبُ وَدُونَ نَجْدٍ وَظِبَاءِ الْحِمَى ... أَنْ يفرح الْمَنْسَمُ وَالْغَارِبُ وَلَهُ: وَبِجَرْعَاءِ الْحِمَى قَلْبِي فَعُجْ ... بالحمى وأقر على قلبي السلاما وترحل فَتَحَدَّثْ عَجَبًا ... إِنَّ قَلْبًا سَارَ عَنْ جِسْمٍ أَقَامَا قُلْ لِجِيرَانِ الْغَضَا آهٍ عَلَى ... طِيبِ عَيْشٍ بِالْغَضَا لَوْ كَانَ دَامَا حَمِّلُوا رِيحَ الصَّبَا نَشْرَكُمُ ... قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ شِيحًا وَثُمَامَا وَابْعَثُوا أَشْبَاحَكُمْ لِي فِي الْكَرَى ... إِنْ أَذِنْتُمْ لِجُفُونِي أَنْ تَنَامَا وَلَهُ:
تظن ليالينا عودا ... على العهد من برقي ثهمدا وَيَا صَاحِبَيَّ أَيْنَ وَجْهُ الصَّبَاحِ ... وَأَيْنَ غَدٌ صف لعيني غدا أسدوا مسارح ليل العراق ... أَمْ صَبَغُوا فَجْرَهُ أَسْوَدَا وَخَلَّفَ الضُّلُوعَ زَفِيرُ أَبِي ... وَقَدْ بَرَّدَ اللَّيْلُ أَنْ يُبَرَّدَا خَلِيلَيَّ لِي حَاجَةٌ مَا أَخَفَّ ... بِرَامَةٍ لَوْ حُمِّلَتْ مُسْعِدَا أُرِيدُ لأَكْتُمَ وَابْنُ الأَرَاكِ ... يَفْضَحُهَا كُلَّمَا غَرَّدَا أُحِبُّ وَإِنْ أَخْصَبَ الْحَاضِرُونَ ... بِبَادِيَةِ الرَّمْلِ أَنْ أَخْلُدَا أَرَى كَبِدِي قُسِمَتْ شُعْبَتَيْنِ ... مَعَ الشوق غورا أَوْ أَنْجُدَا وَلَهُ: يَا طَرَبًا لِنَفْحَةٍ نَجْدِيَّةٍ ... أعدل حر القلب باستبرادها وما الصبا يحيى لولا أنها ... إذا جردت مَرَّتْ عَلَى بِلادِهَا وَلَهُ: حَلَفْتُ بِالْمُقَصِّرِينَ ... رَكِبُوا فأوجفوا لانو على العيس وخافوا ... فوتها فعنفوا
زجوا لأثقال الذنوب ... ساعة تخفف فَاسْتَنْفَدُوا جُهْدَهُمْ ... سَارِينَ حَتَّى وَقَفُوا فَلَثَمُوا وَمَسَحُوا ... وَجَمَّرُوا وَطَوَّفُوا وَلَهُ: لَنَا مِنْ لَيْلِنَا بِلِوَى الصَّرِيمِ ... قِرَاعُ الْهَمِّ أَوْ عَدُّ النُّجُومِ فَإِنْ تَكُ صَاحِبًا وَعَزَمْتَ رُشْدًا ... غَدًا وَحَمَلْتَ شَطْرًا مِنْ هُمُومِي فَقُلْ لِمُلاعِبِ الْعَلَمَيْنِ سَيَرَى ... مَعَ الْحَيِّ الْمُقَوَّضِ أَوْ أُقِيمِي إِذَا عَرِيَ اللِّوَى من شجو قلبي ... ومن طرف أصبت به سقيم فلا ناحت بحاجر بنت غصنٍ ... ولا نظرت بِرَامَةَ أُمُّ رِيمِ وَلابْنِ الشِّبْلِ: مَنْ رَأَى الْبَرْقَ بِنَجْدٍ إِذْ تَرَاءَى ... أَسْلَبَ النَّوْمَ وَأَهْدَى البرحاء فاض فيضاً كجفوني ماء ... والتظى وهناً كأنفاسي التضاءً نام سمار الدجى عن ساهر ... تخذالهم سميراً والبكا أَسْعَدَتْهُ أَدْمُعٌ تَفْضَحُهُ ... وَإِذَا مَا أَحْسَنَ الدَّمْعُ أساء
يَا خَلِيلَيَّ وَلَمْ أُشْعِرْكُمَا ... بِالْهَوَى حَتَّى تَبَيَّنْتُ الإِخَاءَ عَلِّلا قَلْبِي بِذِكْرَى قَاتِلِي ... رُبَّ دَاءٍ قَادَ لِلنَّفْسِ دَوَاءَ وَلأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخَيَّاطِ: خذ مِنْ صَبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كَادَ رِيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمُ فَإِنَّهُ ... إذا هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ خَلِيلَيَّ لَوْ أجبتما لَعَلِمْتُمَا ... مَحَلَّ الْهَوَى مِنْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِهِ وقال شيخنا أبو عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِعِ: خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى الرمل فاسلا ... عن الحي بالجرعاء هاتيك الْكُثُبَا وَعُوجَا عَلَى وَادِي الأَرَاكِ فَحَيِّيَا ... هُنَالِكَ أطلالاً رزئت بِهَا الْقَلْبَا وَحُطَّا بِذَاكَ الشِّعْبِ رَحْلِي وَأَعْقِلا ... قلوصيكما آلَيْتُ أَبْرَحُهُ شِعْبَا وَلا تُنْكِرَا لَثْمِي ثَرَاهُ فَإِنَّنِي ... بِهِ ذَاكِرٌ عَهْدًا فَمُسْتَلِمٌ تُرْبَا نَشَدْتُكُمَا أن تمنحاني وقفة ... أبل بها شوقاً وأقضي بها نحبا أنبأنا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ لِنَفْسِهِ: بَيْنَ الْحَطِيمِ وَزَمْزَمَ وَالرُّكْنِ ... والحجر المقبل
لِلْعَاشِقِينَ بَنَى الْهَوَى ... أَبَدًا مَصَارِعَ لَيْسَ تُجْهَلْ كَمْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ عَلِيلِ ... هَوًى طَرِيحٍ لا تعلل وقتيل بين بَيْنَ خَيْفِ ... مِنًى وَجَمْعٍ لَيْسَ يُعْقَلْ وَقَالَ آخَرُ: رَأَى الْبَرْقُ نَجْدِيًا فَحَنَّ إِلَى نَجْدٍ ... وَبَاتَ أَسِيرَ الشَّوْقِ فِي قَبْضَةِ الْبُعْدِ يُعَالِجُ قلباً قلبته يد النوى ... عَلَى جَمْرَةِ التَّوْدِيعِ فِي لَهَبِ الْوَجْدِ وَلا مسعدٌ إلا زفير وإنه ... تقد شغاف القلب منه ولا تجدي وَمَا أَنْطَقَتْهُ الْبَارِقَاتُ تَشَوُّقًا ... لِنَجْدٍ وَلَكِنْ لِلْمُقِيمِينَ فِي نَجْدِ وَلابْنِ الْبَيَاضِيِّ: يَا لَيْلَتِي بِذَاتِ الشِّيحِ وَالضَّالِّ ... وَمَنْبَتِ الْبَانِ مِنْ نَعْمَانَ عُودَا لي ويا مراتع أطلالي بِذِي سَلَمِ ... لَهْفِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَصْرِكِ الْخَالِي مَا لِي أُعَلِّلُ قَلْبِي بِالْوُقُوفِ على ... منازل اقفرت منهم وَأَطْلالِ وَلأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْخَفَاجِيِّ: أَتَظُنُّ الْوَرَقَ في الأيك تغني ... إنما تُضْمِرُ حُزْنًا مِثْلَ حُزْنِي
لا أَرَاكَ اللَّهُ نَجْدًا بَعْدَهَا ... أَيُّهَا الْحَادِي بِهَا إِنْ لَمْ تُجِبْنِي هَلْ تُبَارِينِي إِلَى بَثِّ الْجَوَى ... فِي دِيَارِ الْحَيِّ نَشْوَى ذَاتُ غُصْنِ هَبْ لَهَا الشَّوْقَ وَلَكِنْ زَادَنَا ... أَنَّنَا نَبْكِي عَلَيْهَا وَتُغَنِّي يَا زَمَانَ الْخَيْفِ هَلْ مِنْ عَوْدَةٍ ... يَسْمَحُ الدَّهْرُ بِهَا مِنْ بَعْدِ ضَنِّ أَرَضِينَا بِثَنِيَّاتِ اللِّوَى ... عَنْ زرودٍ يَا لَهَا صَفْقَةُ غَبْنِ سَلْ أَرَاكَ الْجَزَعَ هَلْ جَادَتْ بِهِ ... مُزْنَةٌ رَوَتْ ثَرَاهُ غَيْرُ جَفْنِي وأحاديث الغضى هَلْ عَلِمْتَ ... أَنَّهَا تَمْلِكُ قَلْبِي قَبْلَ أُذْنِي وقال السري الرفا: مَرَرْنَا بِالْعَقِيقِ فَمِنْ عَقِيقٍ ... تَرَقْرَقَ فِي مَحَاجِرِنَا وذابا ومن مغناً جَعَلْنَا الشَّوْقَ فِيهِ ... سُؤَالا وَالدُّمُوعَ لَهُ جَوَابَا وقال [أيضاً] : تَذَكَّرَ نَجْدًا فَحَنَّ ادِّكَارًا ... وَأَرَّقَهُ الْبَرْقُ لِمَّا اسْتَنَارَا أَمَاتَتْ صَبَابَتُهُ صَبْرَهُ ... وَكَانَ يَرَى أَنْ يَمُوتَ اصْطِبَارَا وَجَارَ الْهَوَى فَاسْتَجَارَ الدُّمُوعَ ... إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا مُسْتَجَارَا وَلأَبِي الْحَسَنِ بْنِ طاهر الحبار:
أإن رأيت بالكثيب ربما ... يَرْتَادُ مِنْهُ الشِّيحَ وَالْقَيْصُومَا تَجَدَّدَتْ لِي طَرْبَةٌ إِلَى الصِّبَا ... وَذَكَّرَتْنِي عَهْدَهُ الْقَدِيمَا وَوَكَلَتْنِي أَنْشُدُ الْبُرُوقَ عَنْ ... أَهْلِ الْحِمَى وَأَسْأَلُ الرُّسُومَا هَا إِنَّهَا مَنَازِلٌ تَعَوَّدَتْ ... مِنِّي إِذَا شَارَفْتُهَا التَّسْلِيمَا وَقَفْتُ فِيهَا سَالِمًا رَأْدَ الضُّحَى ... وَبِتُّ مِنْ وجد بها سليما سجية عُذْرِيَّةٌ إِنَّ الْهَوَى ... الْعُذْرِيَّ لا يُفَارِقُ الْكَرِيمَا يَا نَفْحَةَ الشَّمَالِ مِنْ تِلْقَائِهَا ... رُدِّي عَلَى ذلك النسيما يا طيف من يسكن بطن وجرةٍ ... كيف عَرَفْتَ الْجِسْرَ وَالْحَرِيمَا إِنِّي اهْتَدَيْتُ بَابِلا وَأَنْتَ لا ... تعرف إلا الجزع والصريما نَمَتْ عَلَيْكَ نَفْحَةٌ نَجْدِيَّةٌ ... حَمَلَتْ مِنْ عَرَارِهَا شميما زرت فلم تمتع وَذَنْبُ مُقْلَتِي ... أَنَّ الْكَرَى يَعْتَادُهَا تَهْوِيمَا وَلأَبِي القاسم المطرز: صحى كُلُّ عُذْرِي الْغَرَامَ عَنِ الْهَوَى ... وَأَنْتَ عَلَى حُكْمِ الصَّبَابَةِ نَازِلُ نَزَلْنَا إِلَى التَّوْدِيعِ مِنْ دَارَةَ الْحِمَى ... فَضَنَّتْ عَلَيْنَا بِالسَّلامِ الْمَنَازِلُ وَلأَبِي منصور بن الفضل في أبيات: تزاورن عن أذرعاتٍ يمينا ... نواشز لسن يطعن البرينا
كلفن بنجد كان الرياض ... أخذن لنجدٍ عليها يَمِينَا إِذَا جِئْتُمَا بَانَةَ الْوَادِيَيْنِ ... فَأَرْخُوا النُّسُوعَ وحلوا الوضينا فثم علائق من أجلها ... ملأ الدُّجَى وَالضُّحَى قَدْ طُوِينَا وَقَدْ أَنْبَأَتْهُمْ مِيَاهُ الجفون ... أن بقلبك داءً دفينا ولي في أثناء قصيدة عارضت بها قصيدة ابْنِ الْفَضْلِ: إِذَا جُزْتَ بِالْغُورِ عَرِّجْ يَمِينًا ... فَقَدْ أَخَذَ الشَّوْقُ مِنَّا يَمِينَا وَسَلِّمْ عَلَى بَانه الْوَادِيَيْنِ ... فَإِنْ سَمِعْتَ أَوْشَكَتْ أَنْ تُبِينَا ومل نحو غصن بأرض النقا ... وما يشبه الأيك تلك الغصونا وَصِحْ فِي مَغَانِيهِمُ أَيْنَ هُمْ ... وَهَيْهَاتَ أَمُّوا طريقاً شطونا وَرَوِّ ثَرَى أَرْضِهِمْ بِالدُّمُوعِ ... وَخَلِّ الضُّلُوعَ عَلَى ما طوينا أراك يشوقك وادي الأراك ... أللدار تبكي أم الساكنينا سقى الله مربعنا بالحمى ... وإن كان أورث داء دفينا وعاذ له فَوْقَ دَاءِ الْمُحِبِّ ... رُوَيْدًا رُوَيْدًا بِنَا قَدْ بلينا لم تَعْذِلِينَ أَمَا تَعْذُرِينَ ... فَلَوْ قَدْ نَفَعْتِ دَفَعْتِ الأنينا إذا غلب الحب ضاع الْعِتَابُ ... تَعِبْتُ وَأَتْعَبْتُ لَوْ تَعْلَمِينَا وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: عَرِّجُوا بِالرِّفَاقِ نَحْوَ الرَّكْبِ ... وَقِفُوا وَقْفَةً لأنشد قلبي
وخذوا لي من النقيب لماظاً ... أو ردوني إِلَى الْعُذَيْبِ وَحَسْبِي فَهُبُوبُ الرِّيَاحِ مِنْ أَرْضِ نجد ... قوت روحي وَحَبَّذَا مِنْ مَهَبِّ يَا نَسِيمَ الصَّبَا تَرَنَّمَ على الدوح ... بصوت تشجى وَإِنْ طَارَ لُبِّي مَنْ مُعِيدُ أَيَّامَنَا بِلِوَى الْجَزَعِ ... وَهَيْهَاتَ أَيْنَ مِنِّي صَحْبِي يَا غُصُونَ النقا سأسقيك دمعي ... وكفا عيني يكفي عيون السحب ولي في أخرى: عثرت بريحكم الصبا سحراً ... فارتاح قلبي المدنق الْحَرِضُ مَا لِي أَرَاكِ سَقِيمَةً بِهِمْ ... يَا رِيحُ عِنْدِي لا بِكِ الْمَرَضُ أَتْبَعْتُهَا نَفْسًا أُشَيِّعُهَا ... فَإِذَا جُرُوحُ الْقَلْبِ تُنْتَقَضُ قِفْ صَاحِبِي إِنْ كُنْتَ تُسْعِدُنِي ... عِنْدَ الْكَثِيبِ فَثَمَّ لِي عرض وَانْشُدْ فُؤَادِي عِنْدَ كَاظِمَةٍ ... فِي كُلِّ رَكْبٍ راح يعترض فرضوا على الأجفان إذ ظعنوا ... لا تَلْتَقِي فَاصْبِرْ لِمَا فَرَضُوا كَيْفَ اصْطِبَارِي بَعْدَ فُرْقَتِهِمْ ... وَاشَدْهُ مَا عَنْهُمْ عِوَضُ وَلِي في أخرى: وَدِّعُوا يَوْمَ النَّوَى وَاسْتَقِلُّوا ... لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَهَا أَيْنَ حَلُّوا يَا نَسِيمَ الرِّيحِ بَلِّغْ إِلَيْهِمْ ... إن عقدي معهم ما يُحَلُّ لِي مِنَ الرِّيحِ الشَّمَالِ انْتِهَالٌ ... فَإِذَا هَبَّتْ سُحَيْرًا فَعَلُ
عَرَّضُوا قَلْبِي لسقمٍ طَوِيلٍ ... بَاطِنٍ يُظْهِرُ مِنْهُ الأقل أيها الراكب إِنْ جُزْتَ عَرِّجْ ... فَعَلِيلُ الْغُورِ مَا يُسْتَبْلُ ثُمَّ إِيَّاكَ وَحَبْلَيْ زرودٍ ... فَدَمَ الْمَقْتُولُ ثَمَّ يطل قيدوا الأسرى فلم يغنيهم ... بَعْدَهَا أَنْشَاطُ عَقْدٍ وَحِلُّ لَوْ بَكَتْ عَيْنِي عَلَى قَدْرِ وَجْدِي ... صَارَ وَادِيهِمْ دَمًا لا يَحِلُّ مَرِضَ الْقَلْبُ زرودٍ جَنَّتُهُ ... أَبِذَاكَ الرَّمْلِ يا قوم صل يا عريب البراثم حماه ... فلماذا جاركم يستذل ولي في أخرى: قِفْ بِالرِّيَاضِ عَلَى الْغَدِيرْ ... وَانْدُبْ بِهَا نَدْبَ الأَسِيرْ ذَكِّرْ أَثِيلاتِ النَّقَا ... مَا كَانَ مِنْ عيش قصير وانفض دُمُوعَكَ رُبَّمَا ... سَكَنَتْ بِهَا نَارُ السَّعِيرْ وَاحْبِسْ زَفِيرًا إِنْ بَدَا ... هَاجَ النَّبَاتُ مِنَ الزَّفِيرْ يَا بَانَةَ الْوَادِي أَنْعِمِي ... فِي مَوْطِنِ الرَّمْلِ الوثير وتمايلي بالورق يشدوا ... بالغناء وبالزمير حاشاك من حر الجوى ... وَسَلِمْتِ مِنْ عَيْشٍ مَرِيرْ أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... بفنائك الرحب الغزير لله أيام مضت ... لانت لنا لين الحرير
ولي في أخرى: هل عند ربع عفا خبر من الخير ... من أين يعلم قفر دارين الأَثَرِ وَقَفْتَ تَسْأَلُ وَرْدًا إِذْ وَرَدَّتْ بِهِ ... وَمَا شَفَيْتَ غَلِيلَ الصَّدْرِ فِي الصَّدْرِ دَعْ ماء عينيك وَاحْلُلْ مِنْ مَزَادَتِهِ ... فَإِنَّمَا خُلِقْتَ لِلدَّمْعِ وَالسَّهَرِ خلفت قلبك في الأظعان إذ ... نزلت بالمأزمين زمان النفر بالنفر وَرُحْتَ تَطْلُبُ فِي أَرْضِ الْعِرَاقِ ضُحًى ... مَا ضاع عند منى فاعجب لذا الحور لَمَّا طَرَقْنَا النَّقَا كَانَ الْفُؤَادُ مَعِي ... فَضَلَّ عني بين الضال والسمر يا أرجل العيس تهنيك الرمال فما ... أغدوا بِوَجْدِي غَدًا إِلا عَلَى الأَبَرِ عَجِبْتُ مِنْ بَارِقٍ فِي الْحَيِّ أَزْعَجَنِي ... فَجَادَ جَفْنِي قَبْلَ الغيم بالمطر قصائدي بَدَوِيَّاتٌ وَقَدْ نَزَلْتُ ... رِيفَ الْعِرَاقِ فَنَالَتْ رِقَّةَ الْحَضَرِ طَبْعُ الرِّضَى وَعِلْمُ الْمُرْتَضَى جُمِعَا ... مَعًا لِشِعْرِي وَفَحْوَاهُ إِلَى عُمَرِ وَلِي فِي أُخْرَى: يَا صَاحِبِي إِنْ كُنْتَ لِي أَوْ مَعِي ... فعد إلى روض الحمى نرتعي وَسَلْ عَنِ الْوَادِي وَأَرْبَابِهِ ... وَانْشُدْ فُؤَادِي فِي ربا المجمع
حَيِّ كَثِيبَ الرَّمْلِ رَمْلِ الْحِمَى ... وَقِفْ وَسَلِّمْ لِي عَلَى لَعْلَعْ وَاسْمَعْ حَدِيثًا قَدْ رَوَتْهُ الصبا ... تسنده عن بانة الأجرع وابك فما في العين من فضلة ... ونب فدتك النفس عن مدمعي وأنزل على الشيخ بواديهم ... واشمم عشيب البلد البلقع عند منى كُنْتَ وَكَانَ الْهَوَى ... فَصَمَّ إِلا عَنْهُمُ مَسْمَعِي لَهْفِي عَلَى طِيبِ لَيَالٍ خَلَتْ ... عُودِي تَعُودِي مدنفاً قد نعي إذا تذكرت زماناً مضى ... فويح أجفاني من أدمعي وَلِي فِي أُخْرَى: تَمَلَّكُوا وَاحْتَكَمُوا ... وَصَارَ قَلْبِي لَهُمْ تَصَرَّفُوا فِي مُلْكِهِمْ ... فَلا يُقَالُ ظَلَمُوا إِنْ وَصَلُوا مُحِبَّهُمْ ... أَوْ قَطَعُوا فَهُمُ هُمُ أصبر لما شاء وإن ... ساء الَّذِي قَدْ حَكَمُوا قَدْ أَوْدَعُوا سِرَّ فُؤَادِي ... حبهم واستكتموا يا أرض سلع أخبري ... وحدثيني عنهم يا ليت شعري إذا غدوا أأنجدوا أم أتهموا تبكهم أرض منى ... وتشتكيهم زَمْزَمُ مَا ضَرَّهُمْ حِينَ سَرَوْا ... لَوْ وَقَفُوا أو سلموا يَشُوقُنِي وَادِيهِمُ ... وَضَالَّةٌ وَالسَّلَمُ
وَلِي فِي أُخْرَى: إِلَى كَمْ أُسَائِلُ هَذِي الْمَغَانِي ... لَقَدْ نَطَقَتْ لَوْ فَهِمَتِ الْمَعَانِي أَمَا لَكَ شُغُلٌ بِمَا أَنْتَ فِيهِ ... مِنَ الْوَجْدِ عن ذكر ماضي الزماني وَكَيْفَ وَوَجْدِي مِنْ ذَاكَ كَانَ ... أُعَانِي لِتْذَكَارِهِ ما أعاني قفوا بي أحيي كَثِيبَ النَّقَا ... فَإِنَّ الْكَثِيبَ لِمَنْ تَعْلَمَانِ بَكَيْتُ لِمُرِّ زمانٍ مَضَى ... فَعَيْنِي السَّمَاكُ أَوِ الْمِرْزَمَانِ أتنسى لرامة عَهْدِ الْحِمَى ... دَعَانِي فَوَجْدِي بِهِ قَدْ دَعَانِي وَلِي فِي أُخْرَى: يَا رَفِيقَيَّ قِفَا لِي فانظرا ... إِنَّ عَيْنِي لِدُمُوعِي لا تُرَى هَلْ خَبَتْ نَارُهُمُ أَوْ أُوقِدَتْ ... أَوْ جَرَى وَادِيهُمُ أَوْ أَقْفَرَا إِنَّ قَلْبِي فَاتَهُ شُرْبُ الْحِمَى ... فَهُوَ لا يَنْفَعُهُ أَنْ يُمْطَرَا آهٍ مِنْ طِيبِ ليال سلفت ... كان كل الليل فِيهَا سَحَرَا أَتُرَى يَرْجِعُ لِي دَهْرٌ مَضَى ... أم ترى ينفعني قولي ترى
باب ذكر قبول الحاج
باب ذكر قبول الحاج 325-[سمعت أبا الحسن علي بن أحمد الموحد يقول: سمعت هناد بن إبراهيم النسفي يقول: سمعت سعد بن محمد الطبري يقول: سمعت إبراهيم المزكي. 326- و] قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي طالب العشاري، قال: ثنا أحمد بن إبراهيم بن الحصين، قال: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ السَّرَّاجَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الموفق يقول: حججت خمسين ونيفاً حجة، فنظرت إلى أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَضَجِيجِ أَصْوَاتِهِمْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فِي هَؤُلاءِ أَحَدٌ لَمْ يُتَقَبَّلْ حَجُّهُ، فَقَدْ وَهَبْتُ حَجَّتِي لَهُ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، فبت بها، فرأيت رب العزة تبارك وتعالى في المنام، فقال لِي: يَا عَلِيُّ بْنَ الْمُوَفَّقِ! تُسَخِّي عَلَيَّ، قد غفرت لأهل الموقف ولأمثالهم، وشفعت كل واحد منهم فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَأَنَا أَهْلُ التقوى وأهل
المغفرة. 327- أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا مكي بن علي، قال: ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْبَلْخِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْبَاقِي يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ: لَمَّا تَمَّ لِي سِتُّونَ حَجَّةً، خَرَجْتُ مِنَ الطَّوَافِ، وَجَلَسْتُ بِحِذَاءِ الْمِيزَابِ، وَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ لا أَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ حَالِي عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ كَثُرَ تَرَدُّدِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ. فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَكَأَنَّ قَائِلا يقول لي: يا علي بن الموفق! هل تدعو إِلَى بَيْتِكَ إِلا مَنْ تُحِبُّهُ؟ قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَقَدْ سُرِّيَ عَنِّي مَا كُنْتُ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُوَفَّقِ، قَالَ: حَجَجْتُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَنِمْتُ لَيْلَةَ عَرَفَةَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ قَدْ نزل مِنَ السَّمَاءِ فَنَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ: يَا عَبْدَ الله! فقال: لبيك يا عبد الله. قال: تدري كم حج بيت ربنا فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ قَالَ: لا أَدْرِي. قَالَ: حج بيت ربنا ست
مئة أَلْفٍ، فَتَدْرِي كَمْ قُبِلَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لا. قَالَ: قُبِلَ مِنْهُمْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ. قَالَ: ثُمَّ ارْتَفَعَا فِي الْهَوَاءِ فَغَابَا عَنِّي، فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا وَاغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيدًا، وَأَهَمَّنِي أَمْرِي وَقُلْتُ: إِذَا قبل ست أَنْفُسٍ، فَأَيْنَ أَكُونُ أَنَا فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ؟ فَلَمَّا أَفَضْتُ مِنْ عَرَفَةَ وَبِتُّ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، جَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي كَثْرَةِ الْخَلْقِ وَفِي قلة من قبل منهم فحملني النَّوْمُ، فَإِذَا الشَّخْصَانِ قَدْ نَزَلا عَلَى هَيْئَتِهِمَا، فَنَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَعَادَا ذَلِكَ الْكَلامَ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَفَتَدْرِي مَاذَا حَكَمَ رَبُّنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. قَالَ: لا. قَالَ: فَإِنَّهُ وَهَبَ لكل واحد من الستة مئة ألف، فانتبهت ولي مِنَ السُّرُورِ مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ.
باب ذكر من آثر أهل فاقة بنفقة الحج ولم يحج فبعث الله تعالى ملكا فحج عنه
باب ذكر من آثر أهل فَاقَةٍ بِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى مَلَكًا فَحَجَّ عَنْهُ 328- قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، قَالَ: حَكَى لِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: حَكَى لِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ: كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْحَجُّ، قال: فحدثت عنه، أنه قال: ورد الحاج فِي بَعْضِ السِّنِينَ إِلَى بَغْدَادَ، فَعَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى الْحَجِّ، فَأَخَذْتُ فِي كُمِّي خمس مئة دينار، وخرجت إلى السوق لأشتري آلة الحج، فبينا أنا في بعض الطريق، عارضتني امرأة وقالت: رَحِمَكَ اللَّهُ، أَنَا امْرَأَةٌ شَرِيفَةٌ وَلِي بَنَاتٌ عراة واليوم الرَّابِعِ مَا أَكَلْنَا شَيْئًا. قَالَ: فَوَقَعَ كَلامُهَا في قلبي، فطرحت الخمس مئة [دِينَارٍ] فِي طَرَفِ إِزَارِهَا، وَقُلْتُ: عُودِي إِلَى بيتك واستعيني بهذه الدنانير على وقتك. فحمدت الله وَانْصَرَفَتْ، وَنَزَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَلْبِي حَلاوَةَ الْخُرُوجِ فِي تِلْكَ
السنة وَخَرَجَ النَّاسُ وَحَجُّوا وَعَادُوا، فَقُلْتُ: أَخْرُجُ للقاء الأصدقاء والسلام عليهم، فَخَرَجْتُ فَجَعَلْتَ كُلَّمَا لَقِيتُ صَدِيقًا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وقلت له: قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ وَشَكَرَ سَعْيَكَ، يَقُولُ لِي: وَأَنْتَ قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ وَشَكَرَ سَعْيَكَ. فَطَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام وقال لِي: يَا فُلانُ! لا تَعْجَبْ مِنْ تَهْنِئَةِ الناس لك بالحج، أغثت ملهوفة وأعنت ضعيفة، فسألت الله تعالى فخلق في صُورَتِكَ مَلَكًا، فَهُوَ يَحُجُّ عَنْكَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَإِنْ شِئْتَ حُجَّ وَإِنْ شِئْتَ لا تحجج. 329- وَقَدْ رَوَى نَحْوَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ نَفْسِهِ أَبُو سعد عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الْوَاعِظُ بِإِسْنَادٍ لَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ دَخَلَ الْكُوفَةَ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ جَالِسَةٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ تَنْتُفُ بَطَّةً، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أنها ميتة، فوقف وقال: يا هذه! هذه ميتة أو مذبوحة؟ قالت: مَيْتَةٌ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آكُلَهَا وَعِيَالِي. فَقَالَ: إن الله تعالى قد حرم الميتة وأنت في هذا الْبَلَدِ. فَقَالَتْ: يَا
هَذَا! انْصَرِفْ عَنِّي. فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُهَا الْكَلامَ، إِلَى أَنْ تَعَرَّفَ مَنْزِلَهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَحَمَلَ معه بغلاً عليه نفقة وكسوة وزاداً، وَجَاءَ فَطَرَقَ الْبَابَ، فَفَتَحَتَ، فَنَزَلَ عَنِ الْبَغْلِ وضربه، فَدَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: هَذَا الْبَغْلُ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالزَّادِ لَكُمْ. ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى رَجَعَ الْحَاجُّ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ يُهَنِّئُونَهُ بِالْحَجِّ، فَقَالَ: مَا حَجَجْتُ السَّنَةَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ! أَلَمْ أُودِعْكَ نفقتي ونحن ذاهبون إلى عرفات. وقال آخر: ألم تسقني بموضع كذا وكذا. وقال آخر: ألم تشتر لي كذا. فقال: ما أَدْرِي مَا تَقُولُونَ؟ أَمَّا أَنَا، فَلَمْ أَحُجَّ الْعَامَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أُتِيَ فِي مَنَامِهِ. فَقِيلَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ! إن الله جل جلاه قَدْ قَبِلَ صَدَقَتَكَ، وَإِنَّهُ بَعَثَ مَلَكًا عَلَى صُورَتِكَ، فَحَجَّ عَنْكَ. -وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أنه نوى الحج ومعه ثمان مئة دِرْهَمٍ، فَعَرَضَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ حَاجَةٌ، فَبَعَثَ وَلَدَهُ إِلَى بَعْضِ جَيرَانِهِ فَرَجَعَ الْوَلَدُ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَارِنَا وَعِنْدَهُمْ طَبِيخٌ فَاشْتَهَيْتُهُ فَلَمْ يُطْعِمُونِي.
فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى جَارِهِ يُعَاتِبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ، فَبَكَى الْجَارُ وَقَالَ: قَدْ أَلْجَأْتَنِي إِلَى كَشْفِ حَالِي، إِنَّا مُنْذُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لَمْ نطعم، فطبخنا ميتة فأكلنا، وعلمت أن ولدك يجد ما لا يحل له مَعَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةَ. فَتَعَجَّبَ الرَّجُلُ وَقَالَ لِنَفْسِهِ: كَيْفَ النَّجَاةُ وَفِي جِوَارِكَ مِثْلُ هَذَا وَأَنْتَ تَتَأَهَّبُ لِلْحَجِّ؟ فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَعْطَاهُ الثَّمَانِ مئة درهم، فلما كانت عشية عرفة رأى ذا النون المصري فِي مَنَامِهِ وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ كَأَنَ قَائِلا يَقُولُ: يَا ذَا النُّونِ! تَرَى هَذَا الزِّحَامَ عَلَى هَذَا الْمَوْقِفِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَجَّ منهم إلا رجل تخلف عن الموقف فَحَجَّ بِهَمِّهِ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَ الْمَوْقِفِ. قال ذو النون: من هو؟ قيل: رَجُلٌ يَسْكُنُ دِمَشْقَ. فَذَهَبَ ذُو النُّونِ إِلَى دِمَشْقَ وَبَحَثَ عَنْهُ حَتَّى عَرَفَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ.
أبواب ذكر كبراء الحاج وساداتهم
أبواب ذكر كبراء الحاج وساداتهم
باب ذكر حج الملائكة
أبواب ذكر كبراء الحاج وَسَادَاتِهِمْ بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْمَلائِكَةِ 330- جَاءَ فِي الحديث، أن الملائكة تلقت آدم بَعْدَ حَجِّهِ، فَقَالُوا: لَقَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ. قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ حَوْلَهُ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فكان يَقُولُهَا فِي طَوَافِهِ. 331- وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ [عَلَيْهِ السَّلامُ] وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ قَدْ عَلاهَا الْغُبَارُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : مَا هَذَا الْغُبَارُ الَّذِي أَرَى؟ قَالَ: إِنِّي زرْتُ الْبَيْتَ فَازْدَحَمَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى الرُّكْنِ، فَهَذَا الْغُبَارُ مِمَّا تنثر بأجنحتها.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تعالى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكًا لِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي الأَرْضِ، اسْتَأْذَنَهُ ذَلِكَ الْمَلَكُ فِي الطَّوَافِ ببيته فيهبط الْمَلَكُ مُهِلا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الأُولَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَلَكٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ، إِلا أَمَرَهُ بزيارة البيت فينتفض من تحت العرش محرماً مُلَبِّيًا حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا بِالْبَيْتِ وَيَرْكَعُ فِي جَوْفِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَصْعَدُ. 332- أَنْبَأنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مسيعدة، قال: أخبرنا أبو إسماعيل النصراباذي، قال: ثنا المغيرة بن عمرو، قال: أخبرنا المفضل بن محمد، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الطبري، قال: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا قط وَلا سَحَابَةً فَتَمُرُّ حَيْثَ تُبْعَثُ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ تَمْضِي حَيْثُ أُمِرَتْ.
باب ذكر حج آدم عليه السلام
بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ سبق في كتابنا هذا أن الله تعالى أمر آدم ببناء البيت وبالطواف حوله. 333- وقد روى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أوحى إلى آدم [عليه السلام] : ابْنِ لِي بَيْتًا، فَأَقْبَلَ يَتَخَطَّى، فَطُوِيَتْ لَهُ الأرض ولم يقع قدمه عَلَى شَيْءٍ إِلا صَارَ عُمْرَانًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ، فَبَنَى الْبَيْتَ وَطَافَ بِهِ وَصَلَّى فيه. 334- وروى مجاهد عن ابن عباس، أن آدم نَزَلَ بِالْهِنْدِ، فَحَجَّ مِنَ الْهِنْدِ أَرْبَعِينَ حَجَّةً عَلَى رِجْلَيْهِ. فَقِيلَ لِمُجَاهِدٍ: هَلا كَانَ يَرْكَبُ؟ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَحْمِلُهُ؟! 335- وَفِي رِوَايَةٍ أخرى عن ابن عباس، قال: أهبط الله آدم إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ الأسود وَهُوَ يَتَلألأُ مِنْ شِدَّةِ بَيَاضِهِ، فَضَمَّهُ أُنْسًا به،
ثم قيل له: تخطئ فتخطئ. فَإِذَا هُوَ بِالْهِنْدِ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَوْحَشَ إِلَى الرُّكْنِ فَقِيلَ لَهُ: احْجُجْ. فحج. 336- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا عبد الله بن الحسين الهمذاني، قال: أخبرنا الدارقطني، قال: ثنا أحمد بن نصر بن طالب الحافظ، قال: ثنا حفص بن عمر الرافقي، قال: ثنا محمد بن كثير العبدي، قال: ثنا عبيد اللَّهِ بْنُ الْمِنْهَالِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَسِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ إِلَى الأَرْضِ، طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَاعْطِنِي سُؤْلِي، وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي وَيَقِينًا صَادِقًا، حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لن يصيبني إلا ما كتب لي، ورضني بقضائك. فأوحى الله إِلَيْهِ: يَا آدَمُ! إِنَّكَ قَدْ دَعَوْتَنِي دُعَاءً استجبت لك فيه ولن يدعوني به أحد من ذريتك من بعدك إِلا اسْتَجَبْتُ لَهُ، وَغَفْرَتُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَفَرَّجْتُ همومه وَاتَّجَرْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأَتْتَهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَإِنْ كَانَ لا
يُرِيدُهَا)) . قَسِيمٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَفْتُوحُ الْقَافِ مَكْسُورُ السِّينِ.
باب ذكر حج الأنبياء عليهم السلام
بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ -قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَيْتَ وُضِعَ لآدم يَطُوفُ بِهِ، وَأَنَّ نُوحًا قَدْ حَجَّهُ وَجَاءَهُ وَعَظَّمَهُ قَبْلَ الْغَرَقِ. -وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَجَّ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مَاشِيَيْنِ، وَحَجَّ مُوسَى عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ وعليه عباءتان، فطاف بالبيت، وطاف بين الصفا والمروة، فبينا هُوَ يُلَبِّي، سَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَبْدِي، أَنَا مَعَكَ. فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا. -وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ: بَيْنَ الرُّكْنِ إِلَى الْمَقَامِ إِلَى زَمْزَمَ إِلَى الْحِجْرِ قُبُورُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا، جَاءُوا حُجَّاجًا، فَقُبِرُوا هُنَالِكَ. -وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، إِلا وَقَدْ حَجَّ. 337- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ مَرَّ بِوَادِي الأزرق، فقال:
((أي وادٍ هذا؟)) . قالوا: هذا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام هابطاً من الثنية، وله جؤار إلى الله بالتلبية)) . ثم أتى إلى ثنية هرشي، فقال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام، على ناقة حمراء، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خلبةٌ، ماراً بهذا الوادي، ملبياً)) . والخلبة: اللِّيفُ. 338- وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا الْفَجِّ سَبْعُونَ نَبِيًّا لُبُوسُهُمُ الْعَبَاءُ، وَتَلْبِيَتُهُمْ شَتَّى، منهم
يُونُسُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ، فَرَّاجَ الْكَرْبِ لَبَّيْكَ، وَكَانَ موسى يقول: لبيك، أنا عبدك لديك لبيك، وَتَلْبِيَةُ عِيسَى: لَبَّيْكَ، أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ بِنْتِ عَبْدِكَ. 339- وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو عَنِ جَدِّهِ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هذا سجا سج وادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْجَنَّةِ، لَقَدْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَبْلِي سَبْعُوَنَ نَبِيًّا، وَلَقَدْ مَرَّ بِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا بِسَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ عَلَيْهِ عَبَاءَتَانَ قَطَوَانِيَّتَانِ)) .
باب ذكر حج الحواريين
بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْحَوَارِيِّينَ 340- أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ عَنِ العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر الهاشمي، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا الأزرقي، قال: حدثني جدي، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ، عِنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، أَنَّهُ قَالَ: حَجَّ الْحَوَارِيُّونَ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْحَرَمَ، مشوا تعظيماً للحرم.
باب حج أصحاب الكهف
باب حَجِّ أَصْحَابِ الْكَهْفِ 341- رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: يحج عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا فِيهِمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا وَلَمْ يحجوا.
باب ذكر حج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
باب ذكر حج نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا حَجَّ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا سُمِيَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ لأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَوَدَّعَهُمْ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ حَجَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَهَا حِجَجًا لا يُعْرَفُ عَدَدُهَا. ومجاهد يقول: حج حجتين قبل أن يهاجر، ولعله يشير إلى ما بعد النبوة، فأما اعْتِمَارُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: 342- فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عمرٍ. فَأَمَّا الإِشَارَةُ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ: 343- فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أُذِّنَ فِي النَّاسِ في العاشرة،
إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حاج، فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكَبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ ... )) . حَتَّى [إِذَا] أَتَيْنَا الْبَيْتَ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَرَمَلَ ثَلاثًا، وَمَشَى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ من الباب إلى الصفا، فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إله إلا الله وحده، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ)) . ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فَي الْوَادِي، رَمَلَ حَتَّى إِذَا صَعِدَ مشى حتى أتى المروة.. قَالَ: وَلَمَّا أَتَى عَرَفَةَ وَزَاغَتِ الشَّمْسُ، خَطَبَ النَّاسَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا
بِالْمَوْقِفِ حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فصلى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقَفًا حَتَّى أَسْفَرَ جَدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلا حَتَّى أتى الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ويكبر مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فنحر ثلاثاً وستين بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ ببضعةٍ، فوضعت فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرَبَ مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ ... 344- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ وَعَلَيُّ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالا: أَخْبَرَنَا علي بن أيوب، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد النيسابوري، قال: ثنا أحمد بن محمد بن بسطام، قال: ثنا أبو قدامة الضبي، قال: ثنا يحيى بن أبي الحجاج، قال: ثنا عمرو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ الله على ناقة الْجَدْعَاءِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمَحْجَنِهِ، ثُمَّ يَعْطِفُ الْمِحْجَنَ وَيُقَبِّلُهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ سَبْعَةٍ، ثُمَّ أَنَاخَهَا عِنْدَ الْمَقَامِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ باب الصفا.
قَالَ: وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بخطام ناقته، فجعل يرتجز: يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي ... بِهَا أَهْلِي وَعُوَّادِي بِهَا أَمْشِي بِلا هَادِي ... بِهَا تَرْسَخُ أَوْتَادِي وَرَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يَضْحَكُ مِنْ قَوْلِ [ابْنِ] أُمِّ مَكْتُوَمٍ، حَتَّى فرغ من سبعه.
أبواب ذكر حج الخلفاء وبعض ما جرى لهم من الطرف
أَبْوَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْخُلَفَاءِ وَبَعْضُ مَا جَرَى لهم من الطرف
باب ذكر حج أبي بكر الصديق عليه السلام
أَبْوَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْخُلَفَاءِ وَبَعْضُ مَا جَرَى لَهُمْ مِنَ الطُّرَفِ بَابُ ذِكْرِ حَجِّ أَبِي بكر الصديق عليه السلام 345- أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأ أبو محمد الجوهري، قال: أنبأ ابن حيويه، قال: أنبأ أبو الحسن بن معروف، قال: ثنا الحسين بن الفهم، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قالوا: اسْتَعْمَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ عُمَرَ بْنَ الخطاب [رضي الله عنه] سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ أَبُو بَكْرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَدَخَلَ مَكَّةَ ضَحْوَةً، فَأَتَى مَنْزِلَهُ وَأَبُوهُ أَبُو قُحَافَةَ جَالِسٌ عَلَى بَابَ داره، فقيل: هَذَا ابْنُكَ. فَنَهَضَ قَائِمًا وَعَجِلَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُنِيخَ رَاحِلَتَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ، فجعل يقول: يا أبت! لا تقم. ثم لاقاه فَالْتَزَمَهُ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْ أَبِي قُحَافَةَ وَجَعَلَ الشيخ يبكي فرحاً بقدومه، وجاء والي مكة عتاب بْنُ أُسَيْدٍ، وسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ: سَلامٌ عَلَيْكَ يَا
خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. وَصَافَحُوهُ جَمِيعًا، فَجَعَلَ أَبُو بكر [رضي الله عنه] يَبْكِي حِينَ يَذْكُرُونَ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم] ، ثم سملوا على أبي قحافة [رضي الله عنه] . فَقَالَ أَبُو قُحَافَةَ: يَا عَتِيقُ! هَؤُلاءِ الْمَلأُ فأحسن صحبتهم. فقال أبو بكر [رضي الله عنه] يَا أَبَهْ! لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهَ، طُوِّقْتُ عَظِيمًا مِنَ الأَمْرِ لا قُوَّةَ لِي بِهِ، وَلا يَدَانِ إِلا بِاللَّهِ. ثُمَّ دَخَلَ فَاغْتَسَلَ وَخَرَجَ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَنَحَّاهُمْ، وَلَقِيَهُ النَّاسُ يُعَزُّونُهُ بِنَبِيِّ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ، فَاضْطَبَعَ بِرِدَائَهَ ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ طَافَ سَبْعًا، وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ، خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ جَلَسَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ النَّدْوَةِ، فَقَالَ: هَلْ من أحد يَشْتَكِي مَنْ ظُلامِهِ أَوْ يَطْلُبُ حَقًّا؟ فَمَا أتاه أحد، وأثنى الناس على ولايته خَيْرًا، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَجَلَسَ، فَوَدَّعَهُ النَّاسُ، ثُمَّ خَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، حَجَّ أَبُو بكر بالناس تلك السنة، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ [رَضِيَ الله عنه] .
باب ذكر حج عمر عليه السلام
باب ذكر حج عمر عليه السلام 346- أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو محمد الجوهري، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: أنبأ أبو الحسن بن معروف، قال: ثنا الحسين بن الفهم، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ قَالُوا: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ أَوَّلَ سَنَةٍ وَلِيَ عَلَى الْحَجِّ عبد الرحمن بن عوف [رضي الله عنه] ، فحج بالناس، ثم لم يزل عمر [رضي الله عنه] يَحُجُّ بِالنَّاسِ خِلافَتَهُ كُلَّهَا، فَحَجَّ بِهِمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَحَجَّ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، وَاعْتَمَرَ فِي خِلافَتِهِ ثلاث مرات. وقال ابن عباس [رضي الله عنه] : حججت مع عمر [رضي الله عنه] إحدى عشرة حجة، ودخل عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] فِي بَعْضِ حَجَّهِ عَلَى نَافَعِ بْنِ الْحَارِثِ يَعُودُهُ، فَوَجَدَهُ قَرِيبَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، وَفِي بَيْتِهِ سِتْرٌ مِنْ أُدْمٍ مُزَيَّنٍ بِسُيُورٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ [رضي الله عنه] فشقه، وقال: لم لا تستروا بيوتكم بهذا المسوح، فهي أدفئ وَأَكَنُّ وَأَحْمَلُ لِلْغُبَارِ. وَأَذَّنَ لَهُ أَبُو مَحْذُورَةَ بِصَوْتٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا مَحْذُورَةَ! أَمَا خشيت أن ينشق وهو يطاول؟ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُسْمِعَكَ صَوْتِي:
ومر عمر [رضي الله عنه] بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَرَأَى أَحْجَارًا قَدْ بَنَاهَا أَبُو سُفْيَانَ كَالدُّكَّانِ فِي وَجْهِ دَارِهِ يجلس عليها في الغداة، فقال عمر [رضي الله عنه] : لأرجعن من وجهي هذا حتى تقلعه وترفعه. فلما رجع عمر [رضي الله عنه] وَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فقال: انتظرت حتى يأتينا بعض مهنتنا. فقال: عزمت عليك لتقلعه بيدك، ولتنقله عَلَى عَاتِقِكَ. فَلَمْ يُرَاجِعْهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ عمر [رضي الله عنه] : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّ الإِسْلامَ بِرَجُلٍ مِنْ عدي يأمر أبا سفيان سيد بني مَنَافٍ بِمَكَّةَ فَيُطِيعُهُ. 347- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الباقي، قال: أنبأنا الجوهري، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: أنبأنا ابن معروف، قال: ثنا ابن الفهم، قال: ثنا محمد بن سعد، قال: أنبأنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا يحيى عن سعيد بن المسيب، أن عمر [رضي الله عنه] لما أفاض من منى، أناخ بالأبطح، فكوم كَوْمَةً مِنْ بَطْحَاءَ، فَطَرَحَ عَلَيْهَا طَرَفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَيْهَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ
وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ كَبُرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلا مُفَرِّطٍ)) . فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، خَطَبَ النَّاسَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى طُعِنَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] : لَمَّا كَانَ آخِرُ حجة حجها عمر [رضي الله عنه] ، حج بأمهات المؤمنين [رضي الله عنهن] ، فَمَرَرْتُ بِالْمُحَصَّبِ فَسَمِعْتُ رَجُلا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَقُولُ: أين كان عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَسَمِعْتُ رَجُلا آخَرَ يَقُولُ: ها هنا كان. فأناخ راحلته، ورفع عقيرته، فقال: عليك سلام من إمام وَبَارَكَتْ ... يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ فمن تسع أَوْ يَرْكَبُ جَنَاحَيْ نَعَامَةٍ ... لِيُدْرِكَ مَا قَدَّمْتَ بِالأَمْسِ يَسْبِقِ قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بوائق فِي أَكْمَامِهَا لَمْ تُفْتَقِ فَلَمْ يَدْرِ ذَاكَ الرَّاكِبُ مَنْ هُوَ؟ فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، فَقَدِمَ عُمَرُ مِنْ تِلْكَ الْحَجَّةِ، فَطُعِنَ، فمات.
باب ذكر حج عثمان عليه السلام
باب ذكر حج عثمان عليه السلام 348- قال أبو بكر بن خيثمة، ثنا محمد بن بكار، قال: قرئ على أبي معشر، قال: بويع عثمان [رضي الله عنه] فأمر عبد الرحمن بن عوف [رضي الله عنه] عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَحَجَّ عُثْمَانُ [رضي الله عنه] سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُجُّ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ، ثُمَّ حُصِرَ فِي داره وحج عبد الله بن عباس [رضي الله عنه] بالناس. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَعْلَمَهُمْ بِالْمَنَاسِكِ عُثْمَانُ [رضي الله عنه] ، وبعده ابن عمر [رضي الله عنه] .
باب ذكر حج علي عليه السلام
باب ذكر حج علي عليه السلام أما حج علي [رضي الله عنه وكرم وجهه] قبل ولايته، فما يضبط عدده، فأما وِلايَتِهِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ الْخِلافَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا. وَكَانَتْ وِلايَتَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، لأَنَّ عُثْمَانَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] قُتِلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عشرة خلت من ذي الحجة من هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلِ فِي سَنَةِ ست وثلاثين. حج بالناس عبيد الله بن عباس [رضي الله عنهما] ، ثم كانت [وقعة] صفين في سنة سبع وثلاثين، وحج عبيد الله أيضاً بالناس، وما زال علي عليه السلام مُتَشَاغِلا بِتِلْكَ الأُمُورِ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ، قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ اصْطَلَحَ الناس في سنة تسع وثلاثين عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، فَأَقَامَ لَهُمُ الْحَجَّ، ثم قتل علي عليه السلام فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ.
باب ذكر من حج من خلفاء بني أمية
بَابُ ذِكْرِ مَنْ حَجَّ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أمية كان معاوية رحمه الله يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ فِي زَمَنِ وِلايَتِهِ، وَحَجَّ هُوَ بِالنَّاسِ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَأَقَامَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الحج بالناس سنة ثلاث وستين قبل أن بويع له، فلما بويع له، حج ثمان حِجَجٍ مُتَوَالِيَةٍ. وَحَجَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَحَجَّ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ إِحْدَى وتسعين.
باب ذكر من حج من خلفاء بني العباس
بَابُ ذِكْرِ مَنْ حَجَّ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ حَجَّ الْمَنْصُورُ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ ومئة، ثُمَّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ فِي سنة سبع وأربعين، ثم في سنة اثنتين وَخَمْسِينَ، ثُمَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَتُوُفِّيَ قبل التروية بيومين. وحج المهدي بالناس في خلافته سنة ستين ومئة. وحج الرشيد في خلافته سنة سبعين، ثم في سنة ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَنَةَ خَمْسٍ. وقد جرت أخبار طريفة لعبد الملك في حجه وَلِلْمَنْصُورِ وَلَلرَّشِيدِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ ذَلِكَ. مَوْعِظَةُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِمَكَّةَ 349- أنبأ عبد الوهاب، قال: أنبأ جعفر بن أحمد، قال: أنبأ
عبد العزيز بن الحسن الضراب، قال: أنبأ أبي، قال: ثنا أحمد بن مروان، قال: ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، قال: ثنا الرِّيَاشِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: دَخَلَ عَطَاءُ بن أبي رباح على عبد الملك وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَالَيْهِ الأَشْرَافُ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ حَجِّهِ فِي خِلافَتِهِ، فَلمَّا بَصُرَ بِهِ، قَامَ إِلَيْهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهِ عَلَى السَّرِيرِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! حَاجَتُكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اتَّقِ اللَّهَ فِي حَرَمِ الله ورسوله فَتَعَاهَدْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَوْلادِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَإِنَّكَ بِهِمْ جَلَسْتَ هَذَا الْمَجْلِسَ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَهْلِ الثُّغُورِ، فَإِنَّهُمْ حِصْنُ الْمُسْلِمِينَ، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عَنْهُمْ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَنْ عَلَى بَابِكَ، وَلا تَغْفَلْ عَنْهُمْ وَلا تُغْلِقْ دُونَهُمْ بَابَكَ. فَقَالَ لَهُ: أَفْعَلُ. ثُمَّ نَهَضَ، فَقَبَضَ عَلَيْهُ عَبْدُ الملك فقال له: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! إِنَّمَا سَأَلْتَنَا حَوَائِجَ غَيْرِكَ وقد قضيناها، فما حاجتك؟ فقال: ما لي إِلَى مخلوقٍ حَاجَةٌ. ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: هَذَا وَأَبِيكَ الشَّرَفُ، هَذَا وَأَبِيكَ السُّؤْدُدُ.
موعظة بعض الصلحاء لعبد الملك
مَوْعِظَةُ بَعْضِ الصُّلَحَاءِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ خَطَبَ عَبْدُ الملك بن مروان لَمَّا حَجَّ يَوْمًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَوْضِعِ العظة، فقام إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَهْلا مَهْلا، إِنَّكُمْ تَأْمُرُونَ ولا تؤمرون، وتنهون ولا تنهون، أَفَنَقْتَدِي بِسِيرَتِكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ! أَمْ نُطِيعُ أَمْرَكُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ! فَإِنْ قُلْتُمْ اقْتَدُوا بِسِيرَتِنَا، فَأَيْنَ، وَكَيْفَ، وما الحجة؟ وكيف الاقتداء بسيرة الظلمة؟ فإن قُلْتُمْ أَطِيعُوا أَمْرَنَا وَاقْبَلُوا نَصِيحَتَنَا، فَكَيْفَ يَنْصَحُ غَيْرَهُ مَنْ يَغُشُّ نَفْسَهُ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ خُذُوا الْحِكْمَةَ مِنْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهَا، فَعَلامَ قَلَّدْنَاكُمْ أَزِمَّةَ أُمُورِنَا؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ فِينَا مَنْ هُوَ أفصح بفنون العظات وأعرف بوجوه اللغات، فتلجلجوا عنها، وإلا، فأطلقوا عقالها يبتدر إليها الذين شردتموهم في البلدان، إن لكل قَائِمٌ يَوْمًا لا يَعْدُوهُ، وَكِتَابًا بَعْدَهُ يَتْلُوهُ، لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون} .
سبب إحرام المنصور من بغداد في بعض حججه
سَبَبُ إِحْرَامِ الْمَنْصُورِ مِنْ بَغْدَادَ فِي بَعْضِ حججه 350- أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: أنبأ المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا أبو بكر المنكدري، قال: أنبأنا ابن الصلت، قال: أنبأ أبو بكر بن الأنباري، قال: ثنا محمد بن أحمد المقدمي، قال: ثنا أبو محمد التميمي، قال: ثنا منصور بن أبي مزاحم، قال: ثنا أبو سهل الحاسب، قال: ثنا طَيْفُورٌ، قَالَ: كَانَ سَبَبُ إِحْرَامِ الْمَنْصُورِ مِنْ مَدِينَةِ السَّلامِ، أَنَّهُ نَامَ لَيْلَةً فَانْتَبَهَ فَزِعًا، ثُمَّ عَاوَدَ النَّوْمَ فَانَتَبَهَ فَزِعًا، ثُمَّ رَاجَعَ النَّوْمَ فَانْتَبَهَ فَزِعًا، فَقَالَ: يَا رَبِيعُ! قَالَ: لبيك يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي عجباً. قال: ما رأيت جعلنا اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَ آتِيًا أَتَانِي فَهَيْنَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا ثُمَّ عَاوَدْتُ النَّوْمَ، فَعَاوَدَنِي يَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، ثُمَّ عَاوَدَنِي بِقَوْلِهِ حَتَّى فَهِمْتُهُ، وَحَفِظْتُهُ وَهُوَ كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أهْلُهُ، وَعُرِّيَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ، وَصَارَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بهجة إلى جدث تبنى عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ، وَمَا أَحْسَبَنِي يَا رَبِيعُ إِلا وَقَدْ حَانَتْ وَفَاتِي، وَحَضَرَ أَجَلِي وَمَا لِي غَيْرُ رَبِّي، قُمْ فَاجْعَلْ لِي غُسْلا.
موعظة سفيان الثوري للمنصور بمكة
ففعلت، فقام واغتسل وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: أَنَا عَازِمٌ عَلَى الْحَجِّ. فهيأنا آلة الحج، فخرج وخرجنا، حتى إذا انتهى إلى الكوفة، نزل النَّجَفَ فَأَقَامَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ، فَتَقَدَّمَتْ نُوَّابُهُ وَجُنْدُهُ وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْقَصْرِ، وشاكر بوابه بِالْبَابِ، فَقَالَ لِي: يَا رَبِيعُ! جِئْنِي بِفَحْمَةٍ مِنَ الْمَطْبَخِ. وَقَالَ لِي: اخْرُجْ فَكُنْ مَعَ دَابَّتِي إِلَى أَنْ أَخْرُجَ. فَلَمَّا خَرَجَ وَرَكِبَ رَجَعْتُ إِلَى الْمَكَانِ كَأَنِّي أَطْلُبُ شَيْئًا، فَوَجَدْتُهُ قد كتب على الحائط بفحمة: المرء يهوى أن يعيش ... وطول عيش قد يضره تعفى سيادته ويبقى ... بعد حلو العيش مره ويصرف الأَيَّامُ حَتَّى ... مَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهُ كَمْ شَامِتٍ بِي إِنْ ... هَلَكْتُ وَقَائِلٌ لِلَّهِ دَرُّهُ مَوْعِظَةُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِلْمَنْصُورِ بِمَكَّةَ 351- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُسْلِمٍ إِجَازَةً، قال: ثنا أبو بكر بن عبد الخالق، قال: حدثني يعقوب بن يوسف السني، قال: حَدَّثَنِي أَبُو نَشِيطٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: سمعت الفريابي
حكومة جرت للمنصور عند محمد بن عمران القاضي بالمدينة
يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جعفر بمنى، فقلت له: اتق الله، فإنما أُنْزِلْتَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَصِرْتَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِسُيُوفِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَمُوتُونَ جُوعًا. حَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَمَا أَنْفَقَ إِلا خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَكَانَ يَنْزِلُ تَحْتَ الشَّجَرِ، فَقَالَ لي: إنما تريد أَنْ أَكُونَ مِثْلَكَ. فَقُلْتُ: لا تَكُنْ مِثْلِي، وَلَكِنْ كُنْ دُونَ مَا أَنْتَ فِيهِ، وَفَوْقَ مَا أَنَا فِيهِ، فَقَالَ لِي: أَخْرُجُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لِلْمَنْصُورِ: إِنِّي لأَعْلَمُ مَكَانَ رجلٍ وَاحِدٍ، لَوْ صَلَحَ، صَلُحَتِ الأُمَّةُ كُلُّهَا. قَالَ: مَنْ هو؟ قال: أنت يا أمير المؤمنين. حكومة جرت للمنصور عند محمد بن عمران القاضي بالمدينة 352- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا محمد بن علي بن ميمون، قال: أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَلَوِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن علام، قَالا: أَنْبَأنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عبد الله الهرواني، قال: ثنا الحسن بن محمد السكوني، قال: ثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي.
353- وأنبأ ابن أبي منصور، قال: أنبأنا ثابت بن بندار، قال: ثنا عبد الوهاب الملحمي، قال: ثنا المعافى بن زكريا، قال: ثنا محمد بن مزيد، قالا: ثنا الزبير بن بَكَّارٍ وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ نُمَيْرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَدِمَ علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة وَمُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانٍ الطَّلْحِيُّ عَلَى قَضَائِهِ وَأَنَا كاتبه، فاستدعى الجمالون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه، فَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْهِ كِتَابًا بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ وَإِنْصَافِهِمْ، فَقُلْتُ: تُعْفِينِي مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ يَعْرِفُ خطي. فقال: اكتب. فكتبت ثم ختمته. وقال: وَاللَّهِ لا يَمْضِي بِهِ غَيْرُكَ. فَمَضَيْتُ بِهِ إلى الربيع، وجعلت أعتذر إليه، فقال: لا عليك. فدخل بِالْكِتَابِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّبِيعُ، فَقَالَ لِلنَّاسِ وَقَدْ حَضَرَ وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالأَشْرَافُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي قَدْ دُعِيتُ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلا أعلمن أحداً قام إلي إذا خرجت، أو بدأني بالسلام. قال: ثم خرج المسيب بَيْنَ يَدَيْهِ وَالرَّبِيعُ وَأَنَا خَلْفَهُ وَهُوَ فِي إزار ورداء،
فَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَمَا قَامَ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثم مضى حتى بدأ بالقبر، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم] ، وسلم على أبي بكر وعمر، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الرَّبِيعِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا رَبِيعُ، أَخْشَى أَنْ يَرَانِي ابْنُ عِمْرَانٍ فَيَدْخُلَ قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه، وبالله إن فَعَلَ ذَلِكَ، لا وَلِيَ لِي وِلايَةً أَبَدًا. قَالَ: فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ عِمْرَانٍ (وَكَانَ مُتَّكِئًا) ، أطلق رداءه عن عاتقه، ثم اجتبى به ودعا بالخصوم وبالجمالين، ثم دعى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَضَى لَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ، قَالَ لِلرَّبِيعُ: اذهب، فإذا قام وخرج من عنده الْخُصُومِ، فَادْعُهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَاللَّهِ ما دعى بك إِلا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مَنْ أُمُورِ النَّاسِ جميعاً. فدعاه، فلما دخل سَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ نَبِيِّكَ وَعَنْ حَسَبِكَ وَعَنْ خليفتك أحسن الْجَزَاءِ. قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشْرَةِ آلافِ دِينَارٍ، فَاقْبِضْهَا. فَكَانَتْ عَامَّةُ أَمْوَالُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانٍ مِنْ تِلْكَ الصِّلَةِ.
موعظة الفضيل بن عياض للرشيد بمكة
مَوْعِظَةُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ لِلرَّشِيدِ بِمَكَّةَ 354- أَخْبَرَنَا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا حمد بن أحمد، قال: ثنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: ثنا سليمان بن أحمد، قال: ثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: ثنا أبو عمر الجرمي النحوي، قال: ثنا الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَجَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَتَانِي، فَخَرَجْتُ مُسْرِعًا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ لأَتَيْتُكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ، قَدْ حك فِي نَفْسِي شَيْءٌ فَانْظُرْ لِي رَجُلا أَسْأَلُهُ. فقلت: ها هنا سفيان ين عُيَيْنَةَ. فَقَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَخَرَجَ مُسْرِعًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لو أرسلت أتيتك. فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ. فَحَدَّثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: اقْضِ دَيْنَهُ. فَلَمَّا أخرجنا، قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُكَ شَيْئًا. انْظُرْ لي رجلاً أسأله. فقلت: ها هنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَذَكَرَ مِثْلَ مَا جَرَى لَهُ مع سفيان.
فقلت: ها هنا الفضيل بن عياض. فقال: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَتْلُو آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ يُرَدِّدُهَا، قَالَ: اقرع الباب. فقال: من هذا؟ قلت: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا لِي وَلأَمِيرِ المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله! أما عليك طاعة؟ فَنَزَلَ فَفَتَحَ الْبَابَ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الْغُرْفَةِ، فأطفأ السِّرَاجَ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْبَيْتِ، فَدَخَلْنَا، فَجَعَلْنَا نَجُولُ عَلَيْهِ بِأَيْدِينَا، فَسَبَقَتْ كَفُّ هَارُونَ قَبْلِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا لَهَا مَنْ كَفٍّ مَا أَلْيَنَهَا إِنْ نَجَتْ غَدًا من عذاب الله عز وجل. فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من قلب نقي. فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ رَحِمَكَ الله. فقال له: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلافَةَ، دَعَا سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، وَرَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْبَلاءِ، فَأَشِيرُوا علي. فعد الخلافة بلاءً وقد عددتها أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ نِعْمَةً. فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مَنْ عَذَابِ الله، فصم الدُّنْيَا، وَلَيْكُنْ إِفْطَارُكَ مِنْهَا الْمَوْتُ. وَقَالَ لَهُ محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر
أَبَاكَ، وَأَكْرِمْ أَخَاكَ، وَتَحَنَّنْ عَلَى وَلَدِكَ. وَقَالَ لَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ غداً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَأَحِبِّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ ثُمَّ مِتْ إِذَا شِئْتَ، وَإِنِّي أَقُولُ لَكَ: إِنَّي أخاف عليك أشد الخوف يوم تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ، فَهَلْ مَعَكَ رَحِمَكَ اللَّهُ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى غُشِّيَ عَلَيْهِ، فَقُلْتَ لَهُ: أرفقك بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: تَقْتُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَأَرْفُقُ بِهِ أَنَا. ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! بَلَغَنِي أن غلاماً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الَعْزِيزِ شُكِيَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: يَا أَخِي! أُذَكِّرُكَ طُولَ سَهَرِ أهل النار في النار مع خلود للأبد، وَإِيَّاكَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ وَانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ، طَوَى الْبِلادَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ. فقال: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: خَلَعْتَ قَلْبِي بِكِتَابِكَ، لا أعود إلى ولاية حتى
ألقى الله. قال: فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمِّرْنِي عَلَى إِمَارَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الإِمَارَةَ حسرةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ القيامة، فإن استطعت ألا تَكُونَ أَمِيرًا، فَافْعَلْ. فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا. فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ: يَا حَسَنَ الْوَجْهِ! أَنْتَ الَّذِي يَسْأَلُكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقِيَ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ النار، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَصْبَحَ لَهُمْ غَاشًّا، لم يرح رائحة الْجَنَّةِ)) . فَبَكَى هَارُونُ، وَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قال: نعم، دين لربي لم تحاسبني عَلَيْهِ، فَالْوَيْلُ لِي إِنْ سَأَلَنِي، وَالْوَيْلُ لِي إِنْ نَاقَشَنِي، وَالْوَيْلُ لَي إِنْ لَمْ أُلْهَمْ حُجَّتِي. قَالَ: إِنَّمَا أَعْنِي مِنْ دَيْنِ الْعِبَادَ. قَالَ: إِنَّ رَبِّيَ لَمْ يَأْمُرْنِي بِهَذَا، قَالَ عز وجل: {إن الله هو الرزاق} ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ خُذْهَا، فَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ، وَتَقَوَّ بِهَا عَلَى عِبَادَتِكَ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَا أَدُلُّكَ عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، وَأَنْتَ تُكَافِئُنِي بِمِثْلِ
موعظة العمري للرشيد بمكة
هَذَا؟ سَلَّمَكَ اللَّهُ وَوَفَّقَكَ. ثُمَّ صَمَتَ، فَلَمْ يكلمنا، فخرجنا من عنده. فلما صرنا إلى الْبَابِ، قَالَ هَارُونُ: إِذَا دَلَلْتَنِي عَلَى رَجُلٍ فَدُلَّنِي عَلَى مِثْلِ هَذَا، هَذَا سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ. فدخلت عليه امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: يَا هَذَا! قَدْ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ، فَلَوْ قَبِلْتَ هَذَا الْمَالَ، فَتَفَرَّجْنَا بِهِ. فَقَالَ لَهَا: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانَ لَهُمْ بَعِيرٌ يَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَمَّا كَبُرَ نَحَرُوهُ، فَأَكَلُوا لَحْمَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ هَارُونُ هَذَا الْكَلامَ، قال: ندخل فعسى أن يَقْبَلُ الْمَالَ. فَلَمَّا عَلِمَ الْفُضَيْلُ، خَرَجَ فَجَلَسَ فِي السُّطْحِ عَلَى بَابِ الْغُرْفَةِ، فَجَاءَ هَارُونُ وجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه ولا يجيبه، فبينا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا هَذَا! قَدْ آذَيْتَ الشّيْخَ مُنْذُ اللَّيْلَةَ، فَانْصَرِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ. فَانْصَرَفْنَا. مَوْعِظَةُ الْعُمَرِيِّ لِلرَّشِيدِ بمكة 355- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أَنْبَأنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَبَّالُ الحافظ إذناً، قال: أَنْبَأنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الجراح، قال: ثنا محمد بن جعفر بن راذان، قال: ثنا هارون بن عبد العزيز العباسي، قال: ثنا محمد بن خلف بن حيان، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ فِي زُقَاقِ الشَّطْوِيِّ وَإِلَى جَنْبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ وَقَدْ حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَقَالَ لَهُ إنسان: يا عَبْدِ اللَّهِ! هُوَ ذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى قد أخلي له السعي. قَالَ الْعُمَرِيُّ لِلرَّجُلِ: لا جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا، كَلَّفْتَنِي أَمْرًا كُنْتُ عَنْهُ غَنِيًّا. ثُمَّ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ وَقَامَ فَتَبِعْتُهُ، فَأَقْبَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مِنَ الْمَرْوَةِ يُرِيدُ الصَّفَا، فَصَاحَ بِهِ: يَا هَارُونُ! فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا عَمِّ. قَالَ: ارْقِ الصَّفَا. فَلَمَّا رَقِيَهُ، قَالَ له: ارْمِ بِطَرْفِكَ إِلَى الْبَيْتِ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: وَمَنْ يُحْصِيهِمْ؟ قَالَ: فكم فِي النَّاسِ مِثْلُهُمْ؟ قَالَ: خَلْقٌ لا يُحْصِيهِمْ إِلا اللَّهُ. قَالَ: اعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسْأَلُ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَأَنْتَ وَحْدَكَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ تكون؟ قال: فبكا هارون وجلس، وجعلوا يعطونه منديلاً مِنْدِيلا للدُّمُوعِ. قَالَ الْعُمَرِيُّ: وَأُخْرَى أَقُولُهَا، قَالَ: قُلْ يَا عَمِّ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّ الرَّجُلَ ليسرع فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أسرع فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ؟ ثُمَّ مَضَى وَهَارُونُ يَبْكِي.
موعظة شيبان الرشيد بمكة
قال محمد بن خلف: وسمعت مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: بَلَغَنِيَ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ قَالَ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ كل سنة، ما منعني إِلا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ، ثَمَّ يُسْمِعُنِي ما أكره. موعظة شيبان الرشيد بمكة 356- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا محمد بن عبد الملك الأسدي، قال: أنبأنا الحسين بن جعفر السلماسي، قال: ثنا المعافى بن زكريا، قال: ثنا محمد بن مخلد، قال: ثنا حماد بن المؤمل، قال: ثنا زَيْدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: لَمَّا حَجَّ الرَّشِيدُ، قِيلِ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَدْ حَجَّ شيبان. فقال: اطلبوه لي. فطلبوه فأتوه بِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْبَانُ! عِظْنِي. قَالَ: يا أمير المؤمنين! أنا رجل لكن لا أُفْصِحُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَجِئْنِي بِمَنْ يَفْهَمُ كَلامِي حَتَّى أُكَلِّمَهُ. فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يَفْهَمُ كَلامَهُ، فَقَالَ لَهُ بِالنَّبَطِيَّةِ: قُلْ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ الَّذِي يُخَوِّفُكَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْمَأْمَنَ أَنْصَحُ لَكَ مِنَ الَّذِي يُؤَمِّنُكَ قَبْلَ أَنْ يبلغ الخوف. فقال لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ تَفْسِيرُ هَذَا؟ قَالَ: قُلْ له: الذي يقول لك: يا هذا! اتق الله، فإنك رجل مسؤول عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، اسْتَرْعَاكَ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَقَلَّدَكَ أمورها، وأنت مسؤول عَنْهَا، فَاعْدِلْ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاقْسِمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَانْفِرْ في
موعظة أعرابي للرشيد في الطواف
السَّرِيَّةِ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، هَذَا الَّذِي نخوفك، فإذا بلغت المأمن، أمنت هو أنصح لك ممن نقول لك: أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ قَرَابَةُ نبيكم [صلى الله عليه وسلم] وَفِي شَفَاعَتِهِ، فَلا يَزَالُ يُؤَمِّنُكَ، حَتَّى إِذَا بلغت الخوف، عطبت، قال: فبكا هَارُونُ حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: حَسْبُكَ. مَوْعِظَةُ أَعْرَابِيٍّ لِلَرَّشِيدِ فِي الطواف حج الرشيد في بعض السنين، فبينا هو يطوف بالبيت، عرض لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْشَدَهُ: عِشْ مَا بَدَا لَكَ كم تراك تعيش ... أتظن سهم الحادثات يطيش عش كيف شئت لتأتينك وقعة ... يَوْمًا وَلَيْسَ عَلَى جَنَاحِكَ رِيشُ فَوَقَفَ فَاسْتَعَادَهُ، ثم بكا حَتَّى بُلَّ وَجْهُهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَوْعِظَةَ بُهْلُولٍ لِلرَّشِيدِ عِنْدَ الكوفة فيما تقدم.
باب وفيه ذكر طرف من طرف أخبار الصالحين والأولياء في الحج
باب وفيه ذكر طرف من طرف أَخْبَارِ الصَّالِحِينَ وَالأَوْلِيَاءِ فِي الْحَجِّ 357- أَنْبَأنَا أَبُو سعد أحمد بن محمد البغدادي، قال: أنبأنا أحمد بن محمد الطهراني وأبو عمرو بن منده، قالا: أنبأنا الحسن بن محمد بن بوه، قال: أنبأنا أحمد بن محمد اللنباني، قال: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بن علي، قال: حدثني عيسى بن سلمة الرملي، قال: ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي جَارٌ كَانَ لأَبِي قِلابَةَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا، فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَصَابَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ: اللهم! إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر. فأظلته سحابة، وأمطرت عَلَيْهِ، حَتَّى بَلَتْ ثَوْبَهُ، وَذَهَبَ الْعَطَشُ عَنْهُ، فنزل، فحوض حياضاً، فملأها ماءاً، فَانَتَهَى إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَشَرِبُوا، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابَهُ من ذلك المطر شيء.
358- وبالإسناد ثنا السري بن يحيى، قال: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: كَانَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ يَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيَحُجُّ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْ إِخْوَانِهِ تَعَوَّدُوا ذَلِكَ، فَأَبْطَأَ عَامًا مِنْ تِلْكَ الأَعْوَامِ حَتَّى فَاتَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا. فَقَالُوا: كَبُرَ وَاللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، يَأْمُرُنَا بِالْخُرُوجِ وَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ الْحَجِّ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلا يَخْرُجُوا، فَفَعَلُوا اسْتَحْيَاءً، فَأَصَابَهُمْ حِينَ جَنَّ عَلَيْهِمُ الليل إعصاراً شديداً حَتَّى كَانَ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِلا ما تنادوا، فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال تهامة، فحمدوا الله، فَقَالَ: وَمَا تَعْجَبُونَ مَنْ هَذَا فَي قُدْرَةِ الله عز وجل؟ 359- أخبرنا أبو الحسين سعد الخير بن محمد، قال: أنبأنا علي بن الحسين بن أيوب، قال: ثنا أبو محمد الخلال، قال: ثنا عبد الله بن عثمان الصفار، قال: ثنا جعفر بن محمد بن نصير، قال: ثنا ابن مسروق، قال: ثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا هارون بن معروف، قال: ثنا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، قَالَ: كان حبيب بن محمد يرى بالبصرة يوم التروية، ويرى يوم عرفة بعرفة. 360- أخبرنا أبو الحسن، قال: أنبأنا علي بن الحسين، قال: ثنا الخلال، قال: ثنا عمر بن شاهين، قال: ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث،
قال: ثنا سلمة بن شبيب، قال: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا سَيَّارٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْعَجَمِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُرَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَيُرَى يَوْمَ عرفة بعرفات. 361- وبه ثنا سلمة، قال: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دَينَارٍ، أَنَّهُ كَانَ يُرَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَيُرَى يَوْمَ عرفة بعرفات. 362- أخبرنا أبو الحسن، قال: أنبأنا علي بن الحسين، قال: ثنا الخلال، قال: ثنا أحمد بن إبراهيم، قال: ثنا سليمان بن أحمد الملطي، قال: ثنا الحسين بن محمد بن بادا، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: رَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ بِعَرَفَاتٍ وَكَلَّمْتُهُ، ثُمَّ رأيته يطوف بالبيت، فقلت: ادع الله لي أن يقبل حجي. فبكا ودعا لي، ثم أتيت مِصْرَ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَسَنَ كَانَ مَعَنَا بِمَكَّةَ. فقالوا: ما حج العام، وقد كان بلغني أَنَّهُ يَمُرُّ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ، فَمَا كُنْتُ أُصَدِّقُ حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَعَاتَبَنِي وَقَالَ: شَهَرْتَنِي، ما كنت أحب أن تحدث بها عني، فلا تعد بحقي عليك. 363- أخبرنا الْمُحَمَّدَانِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ نَاصِرٍ، قَالا: قال: ثنا
المبارك بن علي، قال: أنبأنا ابن بيان، قال: أنبأنا عبد الله بن محمد، قال: ثنا أبو بكر الآجري، قال: ثنا العباس بن يوسف الشكلي، قال: حدثني إبراهيم بن زياد المقرئ، قال: ثنا عبد الله بن الفرج، قال: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بِابْتِدَائِهِ كَيْفَ كَانَ، قال: كنت يوماً جالساً فِي مَجْلِسٍ لِي لَهُ مَنْظَرَةٌ إِلَى الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ عَلَيْهِ أَطْمَارٌ وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا، فَجَلَسَ فِي فَيْءِ الْقَصْرِ لِيَسْتَرِيحَ فَقُلْتُ للخادم: اخرج إلى هذا الشيخ، فأقرأه مِنِّي السَّلامَ، وَسَلْهُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْنَا فَقَدْ أَخَذَ بِمَجَامِعِ قَلْبِي. فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَامَ مَعَهُ، فدخل فسلم، فرددت عليه السلام، فاستبشرت بِدُخُولِهِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الطَّعَامَ فَأَبَى، فَقُلْتُ: مَنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ. فَقُلْتُ: أين تريد؟ فقال: الحج إن شاء الله، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ أَوِ الثَّانِي. فَقُلْتُ: فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَقَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. فَقُلْتُ: فَالصُّحْبَةُ؟ فَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ. قَالَ لِي: قُمْ فَلَبِسْتُ مَا يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ. وَأَخَذَ بِيَدِي وَخَرَجْنَا مِنْ بَلْخَ، فَمَرَرْنَا بِقَرْيَةٍ لَنَا، فلقيني رجل من الفلاحين فأرضيته ببعض ما يحتاج إِلَيْهِ، فَقَدَّمَ إِلَيْنَا خُبْزًا وَبَيْضًا، وَسَأَلَنَا أَنْ نَأْكُلَ فَأَكَلْنَا، وَجَاءَنَا بِمَاءٍ، فَشَرِبْنَا، ثُمّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ قُمْ.
فَأَخَذَ بِيَدِي، فَجَعَلْنَا نَسِيرُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا كَأَنَّهَا الْمَوْجُ، فَمَرَرْنَا بِمَدِينَةٍ بَعْدَ مَدِينَةٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذِهِ مَدِينَةُ كذا، هذه مدينة كذا، هذه الكوفة، ثم إنه قال لي: الموعد ها هنا فِي مَكَانِكَ هَذَا فِي الْوَقْتِ (يَعْنِي: مِنَ اللَّيْلِ) . حَتَّى إِذَا كَانَ الْوَقْتُ، إِذَا بِهِ قَدْ أَقْبَلَ فَأَخَذَ بِيَدِي، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. فجعل يَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُ كَذَا، هَذَا مَنْزِلُ كَذَا، هَذِهِ فَيْدُ، وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ. وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا كَأَنَّهَا الْمَوْجُ، فَصِرْنَا إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزُرْنَاهُ، وَقَالَ لِي: الْمَوْعِدُ فِي الْوَقْتِ فِي اللَّيْلِ فَي الْمُصَلَّى. حَتَّى إِذَا كَانَ الوقت خرجت، فإذا بِهِ فِي الْمُصَلَّى، فَأَخَذَ بِيَدِي فَفَعَلَ كَفِعْلِهِ حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّةَ فِي اللَّيْلِ، فَفَارَقَنِي. فَقَبَضْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: الصُّحْبَةُ. فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الشَّامَ. فقلت: أنا معك. فقال لي: إذا انقضى الحج، فالموعد ها هنا عِنْدَ زَمْزَمَ. حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْحَجُّ، إِذَا بِهِ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، ثم خرجنا من مكة ففعل كفعل الأول، فإذا نحن ببيت المقدس، فلما دخل الْمَسْجِدَ، قَالَ لِي: عَلَيْكَ السَّلامُ، أَنَا عَلَى المقام إن شاء الله ها هنا. ثُمَّ فَارَقَنِي، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلا عَرَّفَنِي اسْمَهُ، فَرَجِعْتُ إِلَى بَلَدِي أَسِيرُ سَيْرَ الضعفى منزلاً بعد منزلٍ حتى رجعت إلى بلخ.
364- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالا: أَنْبَأنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الصيرفي إذناً، قال: أَنْبَأنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ البلخي حدثهم، قال: ثنا خشنام بن حاتم الأصم، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ لِي شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيُّ: خَرَجْتُ حَاجًّا فَنَزَلْتُ الْقَادِسِيَّةَ، فَبَيْنَمَا أَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ فِي زِينَتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، نَظَرْتُ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ، شَدِيدِ السُّمْرَةِ، فَوْقَ ثيابه ثوب من صوف مشتمل شملة، فِي رِجْلَيْهِ نَعْلانِ وَقَدْ جَلَسَ مُنْفَرِدًا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ كَلا عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهِ لأَمْضِيَنَّ إِلَيْهِ ولأوبخنه. فدنوت منه، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلا، قَالَ: يَا شَقِيقُ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ تَكَلَّمَ على ما في نفسي، وَمَا هَذَا إِلا عَبْدٌ صَالِحٌ، وَغَابَ عَنْ عيني، فلما نزلنا واقعته إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري، فقلت: هَذَا صَاحِبِي أَمْضِي إِلَيْهِ وَأَسْتَحِلُّهُ. فَصَبَرْتُ حَتَّى جلس، وأقبلت نحوه، فَقَالَ: يَا شَقِيقُ! اتْلُ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تاب وآمن} . ثم مضى، فقلت: إن هذا الفتى لَمِنَ الأَبْدَالِ قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى سِرِّي مَرَّتَيْنِ، فلما نزلنا زبالاً، إذا بالفتى قائم على البير وبيده ركوة
يريد أن يستقي ماء، فَسَقَطَتِ الرَّكْوَةُ مِنْ يَدِهِ فِي الْبِئْرِ، فَرَأَيْتُهُ قد رمق السَّمَاءِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَنْتَ رَبِّي إِذَا ظَمِئْتُ من الماء، وأنت قوتي إذا أردت الطعام، اللهم سَيِّدِي مَا لِي سِوَاهَا، فَلا تُعْدِمْنِيهَا. قَالَ شَقِيقٌ: فَوَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْبِئْرَ وَقَدِ ارْتَفَعَ مَاؤُهَا، فَمَدَّ يَدَهُ فَأَخَذَ الرَّكْوَةَ وَمَلأَهَا مَاءً وَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى رَكَعَاتٍ، ثُمَّ مَالَ إِلَى كَثِيبِ رَمْلٍ، فَجَعَلَ يَقْبِضُ بِيَدِهِ وَيَطْرَحُهُ فِي الرَّكْوَةِ، وَيُحَرِكُهُ وَيَشْرَبُ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أَطْعِمْنِي مِنْ فَضْلِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا شَقِيقُ! لَمْ تَزَلْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فَأَحْسِنْ ظَنَّكَ بِرَبِّكَ. ثم ناولني الركوة فشربت منها، فإذا هو سُوَيْقٌ وَسُكَّرٌ، فَوَاللَّهِ مَا شَرِبْتُ قَطُّ أَلَذَّ منه، فشبعت منه وَرَوِيتُ، وَأَقَمْتُ أَيَّامًا لا أَشْتَهِي طَعَامًا، ثُمَّ لَمْ أَرَهْ حَتَّى دَخَلْنَا مَكَّةَ، فَرَأَيْتُهُ لَيْلَةً على جَنْبِ قُبَّةِ الشَّرَابِ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ يُصَلِّي بِخُشُوعٍ وَأَنِينٍ وَبُكَاءٍ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى ذَهَبَ اللَّيْلُ، فَلَمَّا رَأَى الْفَجْرَ، جَلَسَ فِي مُصَلاهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، وَخَرَجَ فَتَبِعْتُهُ، فَإِذَا لَهُ غاشية وموال، وَهُوَ عَلَى خِلافِ مَا رَأَيْتُهُ فِي الطَّرِيقِ، وَدَارَ بِهِ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ. فقلت لبعض من رأيته يقرب مِنْهُ: مَنْ هَذَا الْفَتَى؟
فَقَالَ: هَذَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ. فَقُلْتُ: قَدْ عجبت أن تكون هَذِهِ الْعَجَائِبِ، إِلا لِمَثْلِ هَذَا السَّيِّدِ. 365- أَخْبَرَنَا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا مسعود بن ناصر السجستاني، قال: أنبأنا أبو حازم العبدوي، قال: أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ، قال: ثنا أبو الطيب محمد بن جعفر، قال: ثنا يَحْيَى بْنُ الْحَسَنِ الرَّازِيُّ، عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ يقول: رَأَيْتُ رَجُلا فِي الْبَادِيَةِ شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ لَهُ ذُؤَابَتَانِ، وَعَلَى رَأْسِهِ رِدَاءُ قَصَبٍ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُ كَتَّانٍ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلُ طَاقٍ. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَمِنْ زِيِّهِ، فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا عَمِّ. فَقُلْتُ: الْفَتَى مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: مَنْ مَدِينَةِ دِمَشْقَ. قُلْتُ: وَمَتَى خَرَجْتَ مِنْهَا؟ قَالَ: ضَحْوَةً. قَالَ معروف: فتعجبت منه، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ
الَّذِي رَأَيْتُهُ فِيهِ مَرَاحِلُ كَثِيرَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ الْمَقْصِدُ؟ قَالَ: مَكَّةَ. فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا، لَرَفِقَ بِنَفْسِهِ، فَوَدَّعْتُهُ، وَمَضَى ولم أَرَهُ حَتَّى مَضَتْ ثَلاثُ سِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ ذات يوم أنا جالس فِي مَنْزِلِي أَتَفَكَّرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ، إِذَا بِإِنْسَانٍ يَدُقُّ الْبَابَ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَاحِبِي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتَ: مَرْحَبًا وأهلاً. فأدخلته المنزل، فرأيته منقطعاً وَالِهًا، تَالِفًا، عَلَيْهِ زُرْمَانِقَةٌ، حَافِيًا حَاسِرًا، فَقُلْتُ: هي إِيشِ الْخَبَرُ؟ فَقَالَ: يَا أُسْتَاذُ! لاطَفَنِي حَتَّى أدخلني الشبكة فرماني، فمرةً يلاطفني، ومرة يهددني، ومرةً يجوعني، ومرة يكرمني، وليته وَقَفَنِي عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِ أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ لْيَفْعَلْ بِي مَا شَاءَ. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَأَبْكَانِي كَلامُهُ. فَقُلْتُ لَهُ: فَحَدِّثْنِي بِبَعْضِ مَا جَرَى عَلَيْكَ منذ أن فارقتني. فقال: هَيْهَاتَ أَنْ أُبْدِيَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَهُ، ولكن أبدأ بما فعل في طريقي إليك مَوْلايَ وَسَيِّدِي. ثُمَّ اسْتَفْرَغَهُ الْبُكَاءُ، فَقُلْتُ: وَمَا فعل بك؟
قال: جوعني ثلاثين يوماً، ثم جئنا إِلَى قريةٍ فِيهَا مَقْثَأَةٌ قَدْ نُبِذَ مِنْهَا المدود، فقعدت آكل منه، فبصرني صَاحِبُ الْمَقْثَأَةِ، فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ ظَهْرِي وَبَطْنِي وَيَقُولُ: يا لص! ما خرب مقثاي غيرك، منذ كم أنا أرصدك حتى وقعت عليك. فبينا هو يضربني، إذ أَقْبَلَ فَارِسٌ نَحْوَهُ مُسْرِعًا إِلَيْهِ وَقَلَّبَ السَّوْطَ فِي رَأْسِهِ، وَقَالَ: تَعْمَدُ إِلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَتَقُولُ لَهُ: يَا لِصُّ؟ فَأَخَذَ صاحب المقثأة بيدي، فذهب إلى منزله، فما أبقى من الكرامة شيء، إِلا عَمِلَهُ وَاسْتَحَلَّنِي، وَجَعَلَ مَقْثَأَتَهُ لِلَّهِ وَلأَصْحَابِ مَعْرُوفٍ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: صِفْ لِي مَعْرُوفًا. فوصفه، فَعَرَفْتُكَ بِالصِّفَةِ بِمَا كُنْتُ قَدْ شَاهَدْتُهُ مِنْ صِفَتِكَ. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَمَا اسْتَتَمَّ كَلامَهُ حَتَّى دق صاحب المقثاة الباب، ودخل وكان موسراً وأخرج جميع ماله وأنفقه على الفقراء، وصحب الشاب سنة فخرجا إِلَى الْحَجِّ، فَمَاتَا بِالرَّبَذَةِ.
366- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أنبأنا علي بن عبد الله، قال: أنبأنا ابن باكويه، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْخَيَّاطُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا علي الروذباري يقول: سمعت أبا العباس الشرفي يَقُولُ: كُنَّا مَعَ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرِضَ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى نَاحِيَةٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَنَا عَطْشَانُ. فضرب برجل فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ زُلالٍ، فَقَالَ الْفَتَى: أُحِبّ أن أشرب في قدح. فضرب بيده الأَرْضِ فَنَاوَلَهُ قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُ، فَشَرِبَ وَسَقَانَا، وَمَا زَالَ الْقَدَحُ مَعَنَا إِلَى مَكَّةَ. قَالَ: فَقَالَ لِي يَوْمًا: مَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ فِي هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي يكرم الله بِهَا عِبَادَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلا وَهُوَ يُعْطَى الإِيمَانَ بِهَا. فَقَالَ: مَنْ لَمْ يعط الإيمان بهذا، كَفَرَ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مِنْ طَرِيقِ الأَحْوَالِ. فَقُلْتُ: مَا أَعْرِفُ لَهُمْ قَوْلا فِيهِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ بَلَى! قَدْ زَعَمَ أَصْحَابُكَ أَنَّهَا خِدَعٌ من الحق، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، إِنَّمَا الْخِدَعُ فِي حَالِ السُّكُونِ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى الملك
في أعشاق الحقائق، فتلك مرتبة الربانيين. 367- أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحيري، قال: أخبرنا محمد بن الحسن السلمي، قال: ثنا أحمد بن إبراهيم المسوحي (من أجلة مشايخ بغداد، وظرافهم ومتوكليهم) ، قال: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرًا (يعني الْخَوَّاصَ) يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُسُوحِيُّ يَحُجُّ بِقَمِيصٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلٍ طَاقٍ، وَلا يَحْمِلُ شَيْئًا لا رَكْوَةٌ وَلا كُوزٌ، إِلا كُوزَ فِيهِ تُفَّاحٌ شَامِيٌّ يَشُّمُّهُ مِنْ جَوْفِ بَغْدَادَ إلى مكة، وكان من أفاضل الناس. 368- وبه حدثنا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الفارسي، قال: أخبرني أبو علي الروذباري، قال: سمعت بنانا الْحَمَّالَ يَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَرِّيَّةَ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ وحدي فاستوحشت، فإذا هاتف يهتف بي: يا بنان! نقضت العهد، لم تستوحش؟ أليس حبيبك معك؟ 369- وبه ثنا ابن باكويه، قال: أنبأنا ابن خفيف، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْمُزَيِّنَ بِمَكَّةَ قَالَ: كنت في طريق تبوك فتقدمت إلى بئر لأستقي
مِنْهَا، فَزَلَقَتْ رِجْلِي، فَوَقَعْتُ فِي جَوْفِ الْبِئْرِ، فرأيت في البئر زاوية واسعة، فأصلحت موضعاً وجلست عليه، وَقُلْتُ: إِنْ كَانَ مِنِّي شَيْءٌ لا أُفْسِدُ الماء على الناس، وطابت نَفْسِي، وَسَكَنَ قَلْبِي، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ، إِذَا أنا بخشخشة، فتأملت، فإذا بأفعى ينزل علي، فَرَاجَعْتُ نَفْسِي فَإِذَا هِيَ سَاكِنَةٌ، فَنَزَلَ وَدَارَ بي، وكنت هادي السر، ثم لف بي ذنبه وأخرجني مِنَ الْبِئْرِ، ثُمَّ حَلَّ عَنِّي ذَنَبَهُ، فَلا أدري أأرض ابتلعته، أم سماء اقتلعته؟ فقمت فمشيت. 370- وبه حدثنا ابن باكويه، قال: أنبأنا أبو الحسن بالبصرة، قال: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لأَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ وكان قريب المغرب: اترك الحيل والتدبير حتى نصلي العشاء بمكة. 371- أخبرنا أبو المعمر الأنصاري، قال: أنبأنا الحسن بن المظفر الهمذاني، قال: ثنا أبي، قال: حدثني محمد بن عمر بن أحمد العنبري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، قَالَ: حَجَجْتُ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ، فَصَحِبَنِي بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَكَانَ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَأَضَافَنَا الطَّرِيقُ إِلَى جَبَلٍ، وَكُنَّا جَمَاعَةً فَاسْتَسْقَيْنَاهُ مَاءً، وَلَمْ يَكُنْ بِالْقُرْبِ مَاءً، فأخذ ركوته وأومأ بِهَا إِلَى الْجَبَلِ، فَسَمِعْتُ خَرِيرَ الْمَاءِ بِأُذُنِي حَتَّى امْتَلأَتِ الرَّكْوَةُ، فَسَقَى
الْجَمَاعَةَ، فَكَانَتْ عَيْنِي إِلَى الْمَوْضِعِ، فَلا أَرَى لِلْمَاءِ أَثَرًا، وَلا شِقًّا فِي الْجَبَلِ. قَالَ أَبِي: فَسَأَلْتُ جَعْفَرًا عَنْ هَذَا، فَقَالَ: كَرَامَةُ الله لأوليائه. 372- أخبرنا عمر بن ظفر، قال: أنبأنا ابن السراج، قال: أنبأنا عبد العزيز الأزجي، قال: ثنا أبو الحسن الصوفي، قال: ثنا الخلدي، قال: ثنا إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ، قَالَ: سَمِعْتُ حَسَنًا أَخَا سِنَانٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِي قَدْ خَرَجْنَا إِلَى مَكَّةَ فَمَضَيْتُ عَلَى طَرِيقٍ وَمَضُوا عَلَى طَرِيقٍ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، فَلَمَّا افْتَرَقْنَا صَادَ أَصْحَابِي ظَبْيًا، فَذَبَحُوهُ وَشَوُوهُ، فَلَمَّا جَلَسُوا لِيَأْكُلُوهُ، إِذَا بنسرٍ قَدِ انْقَضَّ عَلَيْهِمْ، فَاحْتَمَلَ رُبُعَ الظَّبْيِ، قَالُوا: فَأَقْبَلْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ ولا نَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو تُرَابٍ: فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا بِمَكَّةَ، قُلْتُ لَهُمْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ خَبَرُكُمْ بَعْدِي، فَأَخْبَرُونِي خَبَرَهُمْ وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ الظَّبْيِ. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ سَائِرًا، فَإِذَا نسر قد ألقى إلي رُبُعَ ظَبِيٍ مَشْوِيٍ، فَأَكَلْتُ، وَكَانَ أَكْلُنَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. 373- قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الباقي عن محمد بن علي العشاري،
قال: أنبأنا ابن أخي ميمي، قال: أنبأنا ابن صفوان، قال: ثنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، قال: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بن الحسين، قال: حدثني حكم بن جعفر السعدي، قال: حدثني عبيد اللَّهِ بْنُ أَبِي نُوحٍ (وَكَانَ مِنَ الْعَابِدِينَ) ، قَالَ: صَحِبْتُ شَيْخًا فَي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَعْجَبَتْنِي هَيْئَتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَصْحَبَكَ. قَالَ: أَنْتَ وَمَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّهَارِ، فَإِذَا أَمْسَى، أَقَامَ فِي مَنْزِلٍ كَانَ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَقُومُ اللَّيْلَ يُصَلِّي، وَكَانَ يَصُومُ فِي شدة الحر، فإذا أمسى، عمد إِلَى جَرِيبٍ مَعَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَلْقَاهُ إِلَى فِيهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، وَكَانَ يَدْعُونِي، فَيَقُولُ: هَلُمَّ فَأَصِبْ مِنْ هَذَا، فَأَقُولُ فِي نفسي: والله ما هذا لمجزئك أَنْتَ، فَكَيْفَ أُشْرِكُكَ فِيهِ؟ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذلك، ودخلت له قلبي هيبة عندما رأيت من اجتهاده وصبره، قال: فبينا نَحْنُ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ، نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يسوق حماراً، فقال لي: انْطَلِقْ فَاشْتَرِ ذَلِكَ الْحِمَارَ. قَالَ: فَمَنَعَتْنِي وَاللَّهِ هَيْبَتُهُ فِي صَدْرِي أَنْ أَرُدَّهُ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى صَاحِبِ الْحِمَارِ وَأَنَا أَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَعِيَ ثمنه، فكيف أشتريه؟
فأتيت صَاحِبَ الْحِمَارِ فَسَاوَمْتُهُ بِهِ، فَأَبَى أَنْ يَنْقُصَهُ من ثلاثين ديناراً. قال: خذه واستخر الله. قلت: الثمن. قال: بسم اللَّهَ، ثُمَّ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي الْجِرَابَ، فَخُذِ الثَّمَنَ فَأَعْطِهِ. فَأَخَذْتُ الْجِرَابَ، ثُمّ قُلْتُ: بِسْمِ الله، وأدخلت يَدِيَ فِيهِ، فَإِذَا صُرَّةٌ فِيهَا ثَلاثُونَ دِينَارًا لا تزيد ولا تنقص. قال: فدفعتها للرجل وَأَخَذْتُ الْحِمَارَ وَجِئْتُ بِهِ، فَقَالَ لِي: ارْكَبْ. فقلت له: أَنْتَ أَضْعَفُ مِنِّي. فَرَكِبَ، وَكُنْتُ أَمْشِي مَعَ حماره، فحيث أدركه الليل، قام قائماً ولا يزال راكعاً وساجداً حَتَّى أَتَيْنَا عُسْفَانَ، فَلَقِيَهُ شَيْخٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثم جعلا يبكيان، فلما أراد أن يتفرقا، قَالَ صَاحِبِي لِلشَّيْخِ: أَوْصِنِي. قَالَ: نَعَمْ، أَلْزِمِ التَّقْوَى قَلْبَكَ، وَانْصُبْ ذِكْرَ الْمَعَادِ أَمَامَكَ. قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: نَعَمْ، اسْتَقْبِلِ الآخِرَةَ بِالْحُسْنَى مِنْ عَمَلِكَ، وَبَاشِرْ عَوَارِضَ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ مِنْ قَلْبِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأَكْيَاسَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا عَيْبَ الدنيا حتى عمي على أهلها والسلام عليك ورحمة الله. ثُمَّ افْتَرَقَا، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: مَنْ هَذَا الشَّيْخُ؟ قال: عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ. فَخَرَجْنَا مِنْ عُسْفَانَ حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الأَبْطَحِ، نَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَقَالَ لِي: اثْبُتْ مَكَانَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ نَظْرَةً ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَانْطَلَقَ وَعَرَضَ لي رجل، فقال: تَبِيعُ الْحِمَارَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْتُ:
بِثَلاثِينَ دِينَارًا. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ مِنْكَ. قُلْتُ: يا هذا! والله ما هو لي، وإنما هو لرفيق لِي وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنِّي لأَكُلِّمُهُ إذا طَلَعَ الشَّيْخُ. فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بِعْتُ الْحِمَارَ بِثَلاثِينَ دِينَارًا. قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ اسْتَزَدْتَهُ لَزَادَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا إِذْ بعت، فأوجزنا. فَأَخَذْتُ مِنَ الرَّجُلِ ثَلاثِينَ دِينَارًا، وَدَفَعْتُ الْحِمَارَ إِلَيْهِ، وَجِئْتُ بِالدَّنَانِيرِ، فَقُلْتُ: مَا أَصْنَعُ بِهَا؟ قال: هِيَ لَكَ فَأَنْفِقْهَا. قُلْتُ: لا حَاجَةَ لِي بها. قال: فألقها في الجراب. فألقيتها في الجراب، فنزلنا الأبطح، فقال: ابتغ دواة وقرطاساً. فأتيته بها، فكتب كتابين ثم شدهما ودفع أَحَدَهُمَا إِلَيَّ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهِ إِلَى عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ وَهُوَ نَازِلٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا وكذا، فادفعه إليه وأقرأه مِنِّي السَّلامَ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ دفع الآخر إلي. فقال: لِيَكُنْ هَذَا مَعَكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَاقْرَأْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ وأتيت بِهِ عَبَّادَ بْنَ عَبَّادٍ وَهُوَ قَاعِدٌ يُحَدِّثُ، عنده خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، كِتَابُ بَعْضِ إِخْوَانِكَ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ: يَا عباد! فإن أحذرك الفقر يوم يحتاج النَّاسُ إِلَى الذُّخْرِ، فَإِنَّ فَقْرَ الآخِرَةِ لا يَسُدُّهُ غِنًى، وَإِنَّ مُصَابَ الآخِرَةِ لا تُجْبَرُ مُصِيبَتُهُ أَبَدًا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِكَ وَأَنَا ميت الساعة إن شاء الله، فأحضرني لتكفني، وَتَوَلَّى الصَّلاةَ عَلَيَّ، وَإِدْخَالِي حُفْرَتِي، وَأَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْرَأِ السَّلامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْكُمْ جَمِيعًا السَّلامُ ورحمة
الله. فلما قرأ عباد الكتاب، قال: يَا هَذَا! أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: بِالأَبْطَحِ. قَالَ: فَمَرِيضٌ هُوَ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ السَّاعَةَ صَحِيحًا. فَقَامَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ مَيْتٌ مُسَجًّى عَلَيْهِ عباءة، فَقَالَ لِي عَبَّادٌ: هَذَا صَاحِبُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تَرَكْتَهُ صَحِيحًا؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ صَحِيحًا السَّاعَةَ. فَجَلَسَ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي جَهَازِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَاحْتَشَدَ النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَتَحْتُ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْتَ يَا أَخِي نَفَعَكَ اللَّهُ بِمَعْرُوفِكَ يَوْمَ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَجَزَاكَ عَنْ صُحْبَتِنَا خَيْرًا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَعْرُوفِ يَجِدُهُ لِجَنْبِهِ مُضْطَجِعًا، وَإِنَّ حَاجَتِي إِلَيْكَ إِذَا قَضَى اللَّهُ نُسُكَكَ أَنْ تَنْطَلِقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فتدفع مِيرَاثِي إِلَى وَارِثِي، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كُلُّ أَمْرِكَ رَحِمَكَ اللَّهُ عَجَبٌ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِكَ، كيف آتي بيت المقدس ولم تسم لي أحداً، ولم تصف لي موضعاً؟ ولا أدري لمن أدفعه؟ قال: وخلف قدحاً، وجرابه ذاك وعصا كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا. قَالَ: وَكَفَّنَّاهُ فَي ثَوْبَيْ إِحْرَامِهِ، وَلَفَفْنَا الْعَبَاءَةَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْقَضَى
الْحَجُّ، قُلْتُ: وَاللَّهِ لأَنْطَلِقَنَّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلِّيَ أَنْ أَقَعَ عَلَى وَارِثِ هَذَا الرَّجُلِ. فانطلقت فدخلت المسجد، فبينا أَنَا أَتَصَفَّحُ النَّاسَ لا أَدْرِي عَمَّنْ أَسْأَلُ، إذ ناداني رجل من بعض ذلك الخلق باسمي: يا فلان؟ فالتفت، فإذا شيخ كأنه صاحب. فقال: هات ميراث فلان. فدفعت إليه العصا، وَالْقَدَحَ، وَالْجِرَابَ، ثُمَّ وَلَّيْتُ رَاجِعًا، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى قُلْتُ لِنَفْسِي: تَضْرِبُ من مكة إلى بيت الْمَقْدِسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ مِنَ الشَّيْخِ الأَوَّلِ مَا رأيت، ورأيت من هَذَا الشَّيْخُ الثَّانِي مَا رَأَيْتَ، وَلا تَسْأَلُ عن هَؤُلاءِ الْقَوْمِ؟ أَيَّ شَيْءٍ قِصَّتُهُمْ، وَتَسْأَلُهُمْ عَنْ أمرهم ومن هم؟ قال: فرجعت ومن رأيي ألا أُفَارِقَ هَذَا الشَّيْخَ الآخَرَ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ أموت، فجعلت أدور الخلق وَأَجْهَدُ أَنْ أَعْرِفَهُ أَوْ أَقَعُ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَقَعُ عَلَيْهِ، وَجَعَلْتُ أَسْأَلُ عَنْهُ، وَأَقَمْتُ أَيَّامًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَطْلُبُهُ وَأَسَأْلُ عَنْهُ، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَدُلُّنِي عَلَيْهِ، فَرَجَعْتَ مُنْصَرِفًا إِلَى الْعِرَاقِ. 374- أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، قال: أنبأنا محمد بن علي بن الفتح، قال: ثنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سعيد الْمِصِّيصِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ خَفِيفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ الدَّرَّاجَ يَقُولُ: كُنْتُ أَحُجُّ فيصحبني جَمَاعَةٌ، فَكُنْتُ أَحْتَاجُ إِلَى الْقِيَامِ مَعَهُمْ وَالاشْتِغَالِ بِهِمْ، فَذَهَبَتْ سَنَةً
مِنَ السِّنِينَ، وَخَرَجْتُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْمِحْرَابِ مَجْذُومٌ وَعَلَيْهِ مِنَ الْبَلاءِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَلَمَّا رَآنِي، سَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ لَي: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ! عَزَمْتَ عَلَى الحج؟ قلت: نعم، على غيظ وكراهية له. فلما قال لي: فالصحبة. فقلت في نفسي: أنا هربت من الأصحاء أقع في يدي مجذوم. وقلت: لا. قَالَ لِي: افْعَلْ. قُلْتُ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ! يَصْنَعُ اللَّهُ لِلضَّعِيفِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ الْقَوِيُّ. فَقُلْتُ: نَعَمْ (عَلَى الإِنْكَارِ عَلَيْهِ) . قَالَ: فَتَرَكْتُهُ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ، مَشَيْتُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمُغِيثَةِ، فَبَلَغْتُ مِنَ الْغَدِ ضَحْوَةً، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ لِي: يَا أَبَا الحسين! يصنع الله للضعيف حتى يتعجب القوي. قال: فأخذني شبه الوسواس في أمره. قال: فلم أحس حتى بلغت القرعا على العدو، فَبَلَغْتُ مَعَ الصُّبْحِ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَنَا بالشيخ قاعد. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ! يَصْنَعُ اللَّهُ لِلضَّعِيفِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ الْقَوِيُّ. قَالَ: فَبَادَرْتُ إِلَيْهِ فَوَقَعْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِي، فَقُلْتُ: الْمَعْذِرَةُ إلى الله وإليك. قال لي: ما لك؟ قُلْتُ: أَخْطَأْتُ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟، قُلْتُ: الصُّحْبَةُ. قَالَ: أَلَيْسَ حَلَفْتَ وَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُحَنِّثَكَ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَرَاكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ.
قال: ذلك لك. قال: فذهب عني التعب والجوع في كُلِّ مَنْزِلٍ، لَيْسَ لِي هَمٌّ إِلا الدُّخُولُ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَأَرَاهُ إِلَى أَنْ بَلَغْتُ الْمَدِينَةَ، فَغَابَ عَنِّي، فَلَمْ أَرَهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ حَضَرْتُ أَبَا بَكْرٍ الْكَتَّانِيَّ وَأَبَا الْحَسَنِ الْمُزَيِّنَ فَذَكَرْتُ لَهُمْ، فَقَالُوا لَي: يَا أَحْمَقُ! ذَاكَ أبو جعفر المجذوم ونحن نسأل الله أَنْ نَرَاهُ، إِنْ لَقِيتَهُ فَتَعَلَّقْ بِهِ لَعَلَّنَا نَرَاهُ. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى منى وعرفات، لم ألقه، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمْرَةِ رَمَيْتُ الْجِمَارَ، فَجَذَبَنِي إنسان وقال لي: يا أبا الحسن! السَّلامُ عَلَيْكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ لَحِقَنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ أَمْرٌ، فَصِحْتُ وَغُشِّيَ عَلِيَّ وَذَهَبَ عَنِّي، وَجِئْتُ إلى مسجد الخيف، فأخبرت أَصْحَابَنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْوَدَاعِ صَلَّيْتُ خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَفَعْتُ يَدِيَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ خَلْفِي يَجْذِبُنِي، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَينِ! عَزَمْتُ عَلَيْكَ، أن تصيح. قلت: لا، أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ لِي. فَقَالَ: سَلْ مَا شِئْتَ. فَسَأَلْتُ اللَّهَ ثَلاثَ دَعَوَاتٍ، فَأَمَّنَ عَلَى دُعَائِي وَغَابَ عَنِّي فَلَمْ أَرَهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الأَدْعِيَةِ، فَقَالَ: أَمَّا أَحَدُهَا: فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! حبب إلي الفقر، فليس في الدنيا شيء أحب إلي منه. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فقلت: اللهم لا تَجْعَلْنِي أَبِيتُ لَيْلَةً وَلِي شَيْءٌ أَدَّخِرُهُ لِغَدٍ وَأَنَا مُنْذُ كذا وكذا سنة ما لي شيء أدخره. وأما الثالثة: فقلت: اللَّهُمَّ إِذَا أَذِنْتَ لأَوْلِيَائِكَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ فاجعلني
مِنْهُمْ، وَأَنَا أَرْجُو ذَلِكَ. 375- أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظفر، قال: أنبأنا جعفر بن أحمد، قال: أنبأنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، قال: ثنا محمد بن داود، قال: حَدَّثَنِي حَامِدٌ الأَسْوَدُ صَاحِبُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ أَحَدًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ رَكْوَتُهُ ويمشي، فبينا نَحْنُ مَعَهُ فِي مَسْجِدِهِ تَنَاوَلَ رَكْوَتَهُ وَمَشَى فَأَتْبَعْتُهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْنِي حَتَّى وَافَيْنَا الْكُوفَةَ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الْقَادِسِيَّةِ، فَلَمَّا وَافَاهَا، قَالَ لِي: يَا حَامِدُ! إِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! خَرَجْتُ بِخُرُوجِكَ. فَقَالَ: أَنَا أُرِيدِ مَكَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قُلْتُ: وَأَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أُرِيدُ مَكَّةَ. فَمَشَيْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ، إِذَا شَابٌّ قَدِ انْضَمَّ إِلَيْنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فمشى معي يوماً وليلة لا يسجد لله عز وجل سَجْدَةً، فَعَرَّفْتُ إِبْرَاهِيمَ. وَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا الْغُلامَ لا يُصَلِّي. فَجَلَسَ وَقَالَ لَهُ: يَا غُلامُ! مَا لَكَ لا تُصَلَّي وَالصَّلاةُ أَوْجَبُ عَلَيْكَ مِنَ الْحَجِّ؟ فَقَالَ: يَا شَيْخُ! مَا عَلَيَّ مِنْ صَلاةٍ. قَالَ: أَلَسْتَ مُسْلِمًا؟ قَالَ: لا. قال: فأي شيء أنت؟ قال: نصراني، ولكني أسارني في النصرانية إلى التوكل، وادعت نَفْسِي أَنَّهَا قَدْ أَحْكَمَتْ حَالَ التَّوَكُّلِ، فَلَمْ أصدقها فيما ادعت، حتى خرجت إلى هذه الْفَلاةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا
مَوْجُودٌ غَيْرَ الْمَعْبُودِ، أُثِيرُ سَاكِنِي، وَأَمْتَحِنُ خَاطِرِي. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَمَشَى. وَقَالَ: دَعْهُ يَكُونُ مَعَكَ. فلم يزل يسايرنا إلى أن وافينا بطن مر، فقام إبراهيم ونزع خلقاته، وطهرها بالماء، ثم جلس، وقال له: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: عَبْدُ الْمَسِيحِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ! هَذَا دَهْلِيزُ مَكَّةَ، وَقَدْ حَرَّمَ الله على أمثالك الدخول إليه، وقرأ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نجسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بعد عامهم هذا} ، وَالَّذِي أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَكْشِفَ مَنْ نَفْسِكَ فَقَدْ بَانَ لَكَ، فَاحْذَرْ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ، فَإِنْ رَأَيْنَاكَ بِمَكَّةَ، أَنْكَرْنَا عَلَيْكَ. قَالَ حَامِدٌ: فَتَرَكْنَاهُ، ودخلنا مكة، وخرجنا إلى الموقف، فبينا نَحْنُ جُلُوسٌ بِعَرَفَاتٍ، إِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ يَتَصَفَّحُ الْوُجُوهَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْنَا، فَأَكَبَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ؟ فقال: هيهات، أنا اليوم عبده، والمسيح عَبْدُهُ, فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنِي حَدِيثَكَ. قَالَ: جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج، فَقُمْتُ وَتَنَكَّرْتُ فِي زِيِّ الْمُسْلِمِينَ كَأَنِّي مُحْرِمٌ، فساعة وَقَعَتْ عَيْنِي عَلَى الْكَعْبَةِ، اضْمَحَلَّ عِنْدِي كُلُّ دِينٍ سِوَى الإِسْلامِ، فَأَسْلَمْتُ، وَاغْتَسَلْتُ، وَأَحْرَمْتُ، وَهَا أنا أطلبك يومي. فالتفت إلينا إبراهيم وقال: يا حامد! انظر إلى بَرَكَةَ الصِّدْقِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ كَيْفَ
هَدَاهُ إِلَى الإِسْلامِ؟ وَصَحِبَنَا حَتَّى مَاتَ بَيْنَ الفقراء. 376- أخبرنا عمر بن ظفر، قال: أنبأنا جعفر بن أحمد، قال: أنبأنا عبد العزيز بن علي، قال: ثنا ابن جهضم الصوفي، قال: ثنا خَلَفُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَبَّادَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بن محمد النيلي صَاحِبَ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (وَكَانَ يُفَضَّلُ عَلَى سَهْلٍ) يَقُولُ: سَلَكْتُ الْبَادِيَةَ مِرَارًا، ثُمَّ ضعفت، فجلست عن الحج، فأحببت أَنْ أُؤَدِّبَ نَفْسِي لِمَا رَأَيْتُ مِنْ ضَعْفِهَا وَسُكُونِهَا إِلَى الْجُلُوسِ وَالدَّعَةِ، فَاعْتَقَدْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَخْرُجَ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ وَلا أَصْحَبُ أَحَدًا، فَخَرَجْتُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ وَكَانَ الْوَقْتُ بَارِدًا، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ على عشر فراسخ أو نحوها، أَدْرَكَنِي اللَّيْلُ. وَكَانَتْ لَيْلَةً مُظْلِمَةً، وَمَطَرًا شَدِيدًا، وأنا أمشي، إذ سمعت قائلاً يقول: من هذا المار؟ فأجابه آخر، فقال: إنسي. فقال الأول: أين يريد؟ قال الآخر: يزور بيت مولاه.
قال الأول: أي شيء دَعْوَاهُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَدَّعِي الْغِنَى عَنِ الْخَلْقِ، والسير مع الحق. فقال له الأَوَّلُ: سَلْهُ عَنْ ذَلِكَ الشِّعْرِ؟ فَقَالَ الآخَرُ: يَا إِنْسِيُّ! فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا جِنِّيُّ يَا جِنِّيُّ؟ فَقَالَ: نَحْنُ مِنْ أَصْحَابِ مَوْلاكَ، تُجِيزُ لَنَا شِعْرًا حَتَّى نَعْلَمَ صِدْقَ دَعْوَاكَ؟ قُلْتُ: قُولا. فَقَالَ: مُدَلَّهُ الْقَلْبِ غَائِبٌ سَاهِي ... مُقَرَّبُ الْقَلْبِ شَاهِدٌ رَائِي مُبَلْبَلُ السِّرِّ والهٌ دَنِفٌ ... مُؤَانَسُ الْقَلْبِ ذَاهِبٌ فَانِي فَأَجَبْتُهُمْ، فَقُلْتُ: فَهُوَ مَعَ الْحَقِّ عَاقِلٌ فَطِنٌ ... وَهُوَ مَعَ الخلق ضاحك باكي فسمعت صيحة مِنَ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُنِي: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُ لا تعرض لهؤلاء؟ ثم قال: من الآنَ مَعَ دَعْوَاكَ. فَقُلْتُ: أَزِيدُكُمْ بَيْتًا آخَرَ. فقالا: هَاتِ. فَقُلْتُ: مُحْتَجِبُ السِّرِّ غَيْرُ مُحْتَجِبٍ ... وَغَائِبٌ غير أنه بادي فسمعت لهما صيحة شديدة، ثم إنه انقطع عن كلامهما، فَلا أَدْرِي مَاتَا أَوْ تَرَكَانِي وَذَهَبَا، وَمَضَيْتُ عَلَى حَالِي وَحَجَجْتُ. 377- وَبِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، قال: ثنا الخلدي، قال: حدثني أبو
الْعَبَّاسِ عَنْ مُحَمَّدِ غُلامٍ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: ودعت الشيخ أبا عبيد حين أردت الخروج إلى الحج، فقال لي: معك شيء؟ قلت: لا، ليس معي غير هذه الركوة. فقال: إِذَا أَرَدْتَ شَيْئًا أَوْ جُعْتَ أَوْ عَطِشْتَ، فصل رَكْعَتَيْنِ وَاجْعَلْهَا عَنْ يَمِينِكَ، فَإِذَا سَلَّمْتَ، رَأَيْتَ كُلَّمَا تُحِبُّ. قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى بَعْضِ الْمَنَازِلِ وَلَيْسَ فِيهِ مَاءٌ، وَالنَّاسُ يَصِيحُونَ الْعَطَشَ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا قَالَ وَهُوَ صَادِقٌ، فَأَخَذْتُ الرَّكْوَةَ، فَرَمَيْتُ بِهَا في مصنع، وصليت ركعتين، فَمَا سَلَّمْتُ إِلا وَالرِّيَاحُ تَذْهَبُ بِهَا وَتَجِيءُ عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فَأَخَذْتُ الرَّكْوَةَ، ثُمَّ صحت بالناس فجاءوا واستقروا حتى رووا. 378- أخبرنا أبو الحسن الأنصاري، قال: أنبأنا علي بن الحسين بن أيوب قال: أنبأنا أبو محمد الخلال، قال: ثنا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْقَوَّاسُ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ الخلدي يقول: سمعت الخواص يقول: أعرف من طريق مَكَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ طَرِيقًا، مِنْهَا طَرِيقَانِ: طَرِيقٌ ذهب، وطريق فضة. 379- أخبرنا ابن ظفر، قال: أنبأنا ابن السَّرَّاجُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قال: ثنا ابن جهضم، قال: ثنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّيرَوَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الخواص يقول: سلكت الْبَادِيَةِ سِتَّةَ عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى غَيْرِ
الجادة، فأعجب ما رأيت فيها رجل لَيْسَ لَهُ يَدَانِ وَلا رِجِلانِ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْبَلاءِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَزْحَفُ زَحْفًا، فَتَحَيَّرْتُ مِنْهُ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: بِمَ عَرَفْتَنِي وَلَمْ تَرَنِي قَبْلَهَا؟ فَقَالَ: الَّذِي جَاءَ بِكَ عَرَّفَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَقُلْتُ: صَدَقْتَ إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ فقال: إلى مكة. قلت: ومن أين أتيت؟ قال: أنا مِنْ بُخَارَى. فَبَقِيتُ مُتَعَجِّبًا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ شَزْرًا، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! تَعْجَبُ مِنْ قَوِيٍّ يَحْمِلُ ضَعِيفًا وَيَرْفُقُ بِهِ؟ ثُمَّ دَمَعَتْ عيناه، فقلت: لا يا حَبِيبِي. فَتَرَكْتُهُ عَلَى حَالِهِ وَمَضَيْتُ أَنَا، فَلَمَّا دَخَلْتُ مَكَّةَ، رَأَيْتُهُ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ يَزْحَفُ زَحْفًا. 380- وَبِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْخُلْدِيَّ يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ الأَقْطَعُ عَلَى فرد قدم، قال: فَلَمَّا بَلَغْتُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ وَقَعَ فِي سِرِّي أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ مِثْلِي، فَإِذَا أَنَا بِمُقْعَدٍ يَحْبُو، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ أَعْجَبُ مِنْهُ. فَقَالَ لِي: مَا لَكَ تَتَعَجَّبُ مِنْ قَوِيٍّ يَحْمِلُ ضَعِيفًا؟ 381- قرأت على محمد بن أبي منصور، عن الحسن بن أحمد الفقيه، قال: أنبأنا هلال بن محمد، قال: أنبأنا الخلدي، قال: ثنا الْجُنَيْدُ عَنْ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ فَتًى فِي فِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَالِسًا يَبْكِي، فَقُلْتُ له: يا فتى! مِمَّ بُكَاؤُكَ؟ فَقَالَ: أَنَا الْغَرِيبُ الْمَطْلُوبُ. فَعَرَفْتُ معنى كلامه، فجلست أبكي معه وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ. فَخَرَجْتُ، فَاشْتَرَيْتُ لَهُ كَفَنًا،
ثُمَّ عُدْتُ فَلَمْ أَرَهْ، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! من سبقني فَحَظِيَ بِثَوَابِهِ، فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ بِي: يَا ذَا النُّونِ! هَذَا الْغَرِيبُ الَّذَيِ طَلَبَهُ إِبْلِيسُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَرَهُ، وَطَلَبَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَلَمْ يَرَيَاهُ، وَطَلَبَهُ رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يره. قلت: فأين هو يا سيدي؟ قال: هُوَ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. 382- قرأت على محمد بن أبي منصور، عن الحسن بن أحمد الفقيه، قال: أنبأنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: ثنا عبيد الله بن محمد الفقيه، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الأَدَمِيُّ، قال: حدثني أبي، قال: قال سهل بن عبد الله: قال عمر بْنُ وَاصِلٍ: صَحِبْتُ رَجُلا مِنَ الأَوْلِيَاءِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَنَالَتْهُ فَاقَةٌ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَعَدَلَ إلى مسجد في أصل جبل، فإذا فيه بئر عليها بَكَرَةٍ وَحَبْلٍ وَدَلْوٍ وَمَطَهْرَةٌ عِنْدَ الْبِئْرِ، وَشَجَرَةُ رُمَّانٍ لَيْسَ فِيهَا حَمْلٌ، فَأَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ إلى المغرب، فلما دخل الوقت، إذا هو بِأَرْبَعِينَ رَجُلا عَلَيْهِمُ الْمُسُوحُ، وَفِي أَرْجُلِهِمْ نِعَالُ الْخُوصِ، قَدْ دَخُلُوا الْمَسْجِدَ، فَسَلَّمُوا، وَأَذَّنَ أَحَدُهُمْ وأقام الصلاة وتقدم، فصلى بهم، فلما فرغ من صلاته قدم إِلَى الشَّجَرَةِ، فَإِذَا فِيهَا أَرْبَعُونَ رُمَّانَةً غَضَّةً طَرِيَّةً، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُمَّانَةً وَانْصَرَفَ. قَالَ: وَبِتُّ عَلَى فَاقَتِي، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذُوا فِيهِ الرُّمَّانَ أَقْبَلُوا أَجْمَعُونَ، فَلَمَّا صَلَّوْا وَأَخَذُوا الرُّمَّانَ، قُلْتُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ! أَنَا أَخُوكُمْ فِي الإِسْلامِ وَبِي فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَلا كَلَّمْتُمُونِي وَلا وَاسَيْتُمُونِي؟ فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: إِنَّا لا نُكَلِّمُ مَحْجُوبًا بِمَا مَعَهُ، فَامْضِ وَاطْرَحْهُ وَرَاءَ هَذَا
الْجَبَلِ فِي الْوَادِي، وَارْجِعْ إِلَيْنَا حَتَّى تَنَالَ ما ننال. قال: فرقيت الجبل، ولم تسخ نفسي برمي ما معي، فدفنته ورجعت. فقال لِي: رَمَيْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَأَيْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَمَا رَمَيْتَ بِهِ إِذًا، فَارْجِعْ فَارْمِ بِهِ فِي الْوَادِي. فَفَعَلْتُ، فَإِذَا قَدْ غَشِيَنِي مِثْلُ الدِّرْعِ نُورٌ، فَرَجَعْتُ، فَإِذَا بالشجرة رمانة، فأكلتها واستقللت بها من الجوع والعطش، ولم ألبث في المضي إلى مكة، فإذا أنا بهم بين زمزم والمقام، فأقبلوا عَلَيَّ بِأَجْمَعِهِمْ يَسْأَلُونِي عَنْ حَالِي؟ فَقُلْتُ: قَدْ غَنِيتُ عَنْكُمْ وَعَنْ كَلامِكُمْ آخِرًا كَمَا أَغْنَاكُمُ الله به عَنْ كَلامِي أَوَّلا، فَمَا فِيَّ لِغَيْرِ اللَّهِ مَوْضِعٌ. [كَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ سَهْلٍ عَنْ عمر بن واصل وقد انقلب. والصواب: عن عمر عن سهل] . -ويحكى عن الشبلي، قَالَ: رَأَيْتُ بَدَوِيًّا بِمَكَّةَ يَخْدِمُ الصُّوفِيَّةَ وَيَتَحَنَّنُ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبِبِ ذَلِكَ، فَقَالَ: كُنْتُ في البادية وإذا بغلام شاب حاف
مَكْشُوفِ الرَّأْسِ، مَا مَعَهُ رَكْوَةٌ وَلا عَصَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أُدْرِكُ الْفَتَى، فَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَطْعَمْتُهُ، أَوْ عَطْشَانًا سَقَيْتُهُ، أَوْ ضَالا هَدَيْتُهُ، فَبَادَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى بَقِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ذراع، فبعد حتى غاب عن عيني، فقلت: هذا شيطان. فإذا به يناديني: لا، بَلْ سَكْرَانُ. فَنَادَيْتُهُ بِالَّذِي بَعَثَ مُحَمْدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا أَلا وَقَفْتَ، فَقَالَ: يَا فَتَى! أَتْعَبْتَنِي وتَعِبْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: رَأْيَتُكَ وَحْدَكَ، فَأَرَدْتُ خِدْمَتَكَ، فَقَالَ: مَنْ يَكُنِ الله معه هو وحده. فقلت: ما أرى معك زاد! فَقَالَ: إِذَا جُعْتُ فَذِكْرُهُ زَادِي، وَإِذَا عَطِشْتُ فمشاهدته سؤلي ومرادي. فقلت: أنا جائع فأطعمني. فقال: أولم تُؤْمِنْ؟ قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. فَضَرَبَ بِيَدِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ وَكَانَتِ الأَرْضُ رَمْلَةً فَقَبَضَ قبضة وقال: كل يا مخدوع، وإذا به سويق محمص أَلَذُّ مَا يَكُونُ. فَقُلْتُ: مَا أَلَذَّهُ. فَقَالَ: فِي الْبَادِيَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ لَوْ عَقِلْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: حَلِنِي. فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ وَإِذَا قَدْ نبعت من تحت قدمه عَيْنٌ مِنْ عَسَلٍ، فَجَلَسْتُ لآكُلَ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَمَا رَأَيْتُهُ، فَأَنَا أَخْدِمُ الْفُقَرَاءَ لَعَلِّي أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ الْفَتَى.
383- أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: ثنا أبو عبد الله الصوري، قال: حدثني إبراهيم بن أحمد الرحبي، قال: ثنا أحمد بن عطاء، قال: قال ذو النون: خَرَجْتُ إِلَى الْحِجَازِ عَلَى الْوَحْدَةِ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ رَأَيْتُ سَوَادًا فَقَصَدْتُ نَحْوَهُ، فَإِذَا أَنَا بِعَجُوزٍ سَوْدَاءَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا وَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ وَطَنِي. فَقُلْتُ لَهَا: وإلى أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: إِلَى سَكَنِي. فَقُلْتُ لَهَا: بِلا زادٍ؟ فقالت: لما استزارنا إليه زودنا صدق التوكل عليه. قلت: ولا مَاءٍ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا يَحْمِلُ الْمَاءَ مَنْ يَخَافُ الظمأ. 384- أنبأنا إسماعيل بن أحمد، قال: أنبأنا إسماعيل بن مسعدة، قال: أنبأنا عبد الرحمن بن محمد الفارسي، قال: أنبأنا عبد الله بن عدي، قال: ثنا عمر بن الحسن بن نصر الحلبي، قال: ثنا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بن داود الواسطي يقول: بينا أَنَا وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ، وَهِيَ تَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يضلل فلا هادي له. فقلت: امرأة ضالة فنزلت عَنْ بَعِيرِي. فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَذِهِ! مَا قصتك؟
فَقَرَأَتْ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كان عنه مسؤولاً} . فقلت في نفسي: حورية لا ترى كلامنا، فقلت لها: فمن أين أنت؟ فقرأت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى} . فَأَرْكَبْتُهَا بَعِيرِي وَقُدْتُ بِهَا أُرِيدُ رِحَالَ الْمَقْدِسِيِّينَ، فَلَمَّا تَوَسَطْتُ الرِّحَالَ، قُلْتُ: يَا هَذِهِ! بِمَنْ أُصَوِّتُ؟ فَقَرَأَتْ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرض} ، {يا زكريا إنا نبشرك بغلامٍ} ، {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} . فناديت: يا زكريا! يا يحيى! يا داود! فخرج إلي ثلاثة فتيان من بين الرجالات، فقالوا: هذه أُمُّنَا وَرَبُّ الْكَعْبَةِ. ضَلَّتْ مُنْذُ ثَلاثٍ، فَأَنْزَلُوهَا، فَقَرَأَتْ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} ، فغدوا فاشتروا تمراً وقصباً وجوزاً، وسألوني قبوله، فقبلته وقلت لهم: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: هَذِهِ أُمُّنَا لَمْ تَتَكَلَّمْ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً إِلا بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ أَنْ تَزِلَّ. 385- أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الصوفي، قال: أنبأنا أبو سعد الحيري، قال:
ثنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: ثنا جعفر بن علي الواسطي، قال: ثنا جعفر الخلدي، قال: ثنا غلام الخليل، قَالَ: كُنْتُ فِي الْبَادِيَةِ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً تَمْشِي مَشْدُودَةَ الْوَسَطِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْهَا، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ قالت: إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. قُلْتُ: وَهَلْ مَعَكَ زاد؟ قالت: من أنت؟ قلت: أنا غُلامُ الْخَلِيلِ. فَأَخَذَتْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ مِنْ تحت رجلها فدفعتها إلي وقالت: ذُقْ مِنْ زَادِي. فَذُقْتُهُ، فَإِذَا هُوَ سَوِيقٌ وَسُكَّرٌ، ثُمّ قَالَتْ: لَوْ كُنْتَ طَائِرًا لَمَا طِرْتَ بِبَلْدَةٍ أَنْتَ زَاهِدُهَا، أُفٍّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ. 386- قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ نَاصِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أحمد الفقيه، قال: أنبأنا عثمان بن أحمد، قال: ثنا العباس بن يوسف، قال: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الشَّوَّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بِلالٍ الأَسْوَدُ، قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا، فَلَمَّا صِرْتُ في بعض الطَّرِيقِ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلا إِدَاوَةٌ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ أَنْتِ؟ قالت: مِنْ بَلْخَ. فَقُلْتُ لَهَا: مَا أَرَى مَعَكَ زاد ولا ما تحملين فيه الزاد.
فقالت لي: خرج معي من بلخ عشرة دراهم، وقد بقي معي بعضها. قلت: فإذا نفذت، ما تصنعين؟ قالت: على هذه الجبة أبيعها وآخذ دونها وَأُنْفِقُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَإِذَا فَنِيَ مَا تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: أَبِيعُ هَذَا الْحِمَارَ وَآخُذُ دُونَهُ وَأُنْفِقُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَإِذَا فَنِيَ؟ قَالَتْ: أَسْأَلُهُ فَيُعْطِينِي. قُلْتُ: أَلا سَأَلْتِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ، إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَعِي فَضْلٌ مَنْ عرضها. فقلت: اعتقبي على هذا الحمار عقبة. قالت: دعه. فتركته مَعَهَا وَتَخَلَّفَتْ لِحَاجَةٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ حَاجَتِي أَسْرَعْتَ في أثرها وإذا الحمار واقف والخرج مملوء معه، فَرَآنِي حَوَارِيٌّ لَمْ أَرَ بِحُسْنِهِ، فَطَلَبْتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ أَرَهَا. -وَقَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: خَرَجْتُ إِلَى الْحَجِّ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، فَلَقِيتُ جَارِيَةً حَبَشِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا: إِلَى أَيْنَ يَا جَارِيَةُ؟ فقالت: الحج إن شاء الله. فقلت: إن الطرَّيِقُ بَعِيدٌ. فَقَالَتْ: بَعِيدٌ عَلَى كَسَلانَ أَوْ ذِي ملالةٍ، فَأَمَّا عَلَى الْمُشْتَاقِ، فَهُوَ قَرِيبُ. ثُمَّ قَالَتْ: يَا سَرِيُّ! {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. ونراه
قريباً} . فَلَمَّا وَصَلَتُ إِلَى الْبَيْتِ رَأَيْتُهَا تَطُوفُ، فَنَظَرَتْ إِلَيَّ وَقَالَتْ: يَا سَرِيُّ! لا تَعْجَبُ، أَنَا تلك العبدة، لَمَّا جِئْتُهُ بِضَعْفِي، حَمَلَنِي بِقُوَّتِهِ. -وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: كنت يوماً في البادية وإذا أنا بِجَارِيَةٍ حَبَشِيَّةٍ بَيْنَ عَيْنَيْهَا شَرْطَةٌ وَمَا مَعَهَا زَادٌ وَلا رَكْوَةٌ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ؟ قالت: مِنْ عِنْدِ الْحَبِيبِ. فَقُلْتُ لَهَا: وَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَتْ: إِلَى الْحَبِيبِ. فَقُلْتُ: أَيْش تَطْلُبِينَ مِنَ الحبيب؟ فقالت: الحبيب. فقلت: كم ذكر الحبيب؟ قَالَتْ: مَا يَسْكُنُ لِسَانِي عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى ألقاه.
باب ذكر من طال عليه سفره فاشتاق إلى وطنه
بَابٌ ذِكْرُ مَنْ طَالَ عَلَيْهُ سَفَرُهُ فَاشْتَاقَ إِلَى وَطَنِهِ اسْتَأْذَنَ أَشْجَعُ السُّلَمِيُّ الرَّشِيدَ فِي الحج، فأذن له، فلما حج ورجع وصار عند بئر ميمون، قال: ألا ليت حياً في العراق عهدتهم ... ذوي غبطة في عيشهم ولباني يرون دموعي حين يشتمل الدجى ... عَلَيَّ وَمَا أَلْقَى مِنَ الْحَدَثَانِ أَمِنْ بِئْرِ مَيْمُونٍ تَحِنَّ صَبَابَةً ... إِلَى أَهْلِ بَغْدَادَ وَتِلْكَ أماني بعدت وبيت الله عمن تُحِبُّهُ ... هَوَاكَ عِرَاقِيُّ وَأَنْتَ يَمَانِي إِذَا ذُكِرَتْ بَغْدَادُ لِي فَكَأَنَّمَا ... تَحَرَّكُ فِي صَدْرِي شِبَاهُ سناني حج مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا رَجَعَ فَصَارَ بِالثَّعْلَبِيَّةِ، اشْتَدَّ شَوْقُهُ فَقَالَ: لَمَّا وَرَدْتُ الثَّعْلَبِيَّةَ ... عند مجتمع الرفاق وشممت من يرد الْحِجَازِ ... نَسِيمَ أَرْوَاحِ الْعِرَاقِ أَيْقَنْتُ لِي وَلِمَنْ هَوَيْتُ ... بِأُلْفَةٍ بَعْدَ افْتِرَاقِ مَا بَيْنَنَا إِلا تَصُرَّمُ ... هَذِهِ السَّبْعِ الْبَوَاقِي حَتَّى يَطُولَ حَدِيثُنَا ... بِصُنُوفِ مَا كُنَّا نُلاقِي
وَقَالَ الرَّضِيُّ: تَرَى النَّازِلِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ ... قَدْ عَلِمُوا أَنَّ وَجْدِي كَذَا دَنَا طَرَبٌ وَالْهَوَى نازح ... فيا بعد ذلك وَيَا قُرْبَ ذَا
باب في توديع الرفاق
بَابٌ فِي تَوْدِيعِ الرِّفَاقِ قَالَ جَرِيرٌ فِي هذا المعنى: أتبعتم مقلة إنسان غرق ... هل ما تُرَى تَارِكٌ لِلْعَيْنِ إِنْسَانًا يَا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ ... وَحَبَّذَا سَاكِنُ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَا وَحَبَّذَا نَفَحَاتٌ مِنْ يَمَانِيَّةٍ ... تَأْتِيكَ مِنْ قبل الريان أحيانا هل يرجعن وليس الدهر مرتجعاً ... عيش لَنَا طَالَ مَا احْلَوْلَى وَمَا لانَا وَقَالَ الرَّضِيُّ: أَمَا عَلِمَ الْغَادُونَ وَالْقَلْبُ خَلَفْهُمْ ... يَضُمُّ زَفِيرًا يَصْدَعُ الْقَلْبَ ضَمُّهُ بِأَنَّ وَمِيضَ الْبَرْقِ مَا لا أُشِيمُهُ ... وَأَنَّ نَسِيمَ الرَّوْضِ مَا لا أَشُمُّهُ وَلَهُ: وَلَمَّا أَبَى الأَظْعَانُ إِلا فِرَاقَنَا ... وَلِلْبَيْنِ وَعْدٌ لَيْسَ فِيهِ كَذَّابُ رَجَعْتُ وَدَمْعِيَ جَازِعٌ مِنْ تَجَلُّدِي ... يَرُومُ نُزُولا لِلْجَوَى فَيَهَابُ وَأَثْقَلُ مَحْمُولٍ عَلَى الْعَيْنِ مَاؤُهَا ... إِذَا بان أحباب وعز إياب وله:
أراك استحدثت للقلب وجداً ... إذا ما الركائب ودعن نجدا بواكر يطلعن نقب الغوير ... شؤون لنواظر نأياً وبعدا تبعتهم نظرات الصقور ... آنس هَفْهَفَةَ الطَّيْرِ جَدَّا كَأَنَّا بِنَجْدٍ غَدَاةَ الْوَدَاعِ ... فصادي عُيُونًا مِنَ الدَّمْعِ رُمْدَا وَأَيْسَرُ مَا نَالَ منها الغليل أن ... لا نحسن من الماء بردا أناروا زفيراً يلف الضلوع ... لف الرماح أنابيب ملدا فكل جرارة أنفاسه تدل على ... أن في القلب منه وَقْدَا وَإِنِّي لِلشَّوْقِ مِنْ بَعْدِهِمْ أُرَاعِي ... الْجَنُوبَ مراحاً ومغدا وأفرح من نحو أوطانهم بغيث ... تجلجل بَرْقًا وَرَعْدَا إِذَا طَلَعَ الرَّكْبُ يَمَّمْتُهُمْ ... أُحَيِّيَ الوجوه كهولاً وَمُرْدَا وَأَسْأَلُهُمْ عَنْ عقيق الحمى ... وَعَنْ أَرْضِ نجد ومن حل نجدا أنشدتكم الله فلتخبرن من ... كان أقرب بالرمل عهدا هل الدار بالجزع ما هوله ... أنار الربيع عليها وأسدا وهل حلب الغيث أخلافه ... على محض مِنْ زُرُودٍ وَمَبْدَا وَهَلْ أَهْلُهُ عَنْ تَنَائِي الدِّيَارِ ... يُرَاعُونَ عَهْدًا وَيَرْعَوْنَ وُدًّا وَلَهُ: أَشْكُو إِلَيْكَ مَدَامِعًا تَكِفُّ ... بَعْدَ النَّوَى وَجَوَانِحًا تَجِفُ لا يبعد الله الذي نأوا ... وقف الْغَرَامَ بِنَا وَمَا وَقَفُوا
أي القوى قطعوا وأي دم ... سفكوا وأية جِرَاحَةٍ قَرَفُوا لَمْ أَنْسَ مَوْقِفَنَا وَمَوْقِفَهُمْ ... يَوْمَ النَّوَى وَدُمُوعُنَا تَكِفُ مَا كَانَ أَسْرَعَ مَا بِنَا زَمَنٌ ... وَتَكَدَّرَتْ مِنْ وُدِّنَا نُطَفُ حَبْلٌ غدا بأكفنا طرف ... ومنه في أَيْدِي النَّوَى طَرَفُ هَلْ حَسَنٌ ذَاكَ الدَّهْرُ مَرْتَجَعٌ ... أَمْ طَيِّبٌ ذَاكَ الْعَيْشُ مُؤْتَنَفُ أَمْ هَلْ يُبَاحُ الْوَرْدُ ثَانِيَةً ... وَيَلَذُّ بَرْدُ الْمَاءِ مُرْتَشَفُ لَهَفِي عَلَى ذَاكَ الزَّمَانِ وَهَلْ ... يُثْنِي زَمَانًا مَاضِيًا لَهَفُ أَنْبَتَ بَعْدَكَ حَبْلُنَا وَحَدَتْ ... كُلا لِطَيَّتِهِ نَوَى قَذَفُ وَلَهُ: وَإِنِّي إِذَا اصطكت ركاب مطيكم ... وَثَوْرٌ حَادٍ بِالرِّفَاقِ عَجُولُ أُخَالِفُ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْحَشَا ... وَأَنْظُرُ أَنَّى مِلْتُمُ فَأَمِيلُ وَلَهُ: يَا طِيبَ نَجْدٍ وَحُسْنَ سَاكِنِهِ ... لَوْ أَنَّهُمْ أَنْجَزُوا الَّذِي وَعَدُوا قَالُوا وَقَدْ قَرُبَتْ رَكَائِبُنَا ... والقلب يظمأ بهم ولا يرد أتارك أرضنا فقلت له ... أَنْجَدَ قَلْبِي وَأَعْرَقَ الْجَسَدُ وَلِمِهْيَارٍ:
لو كنت تتلو غَدَاةَ السَّفْحِ أَخْبَارِي ... عَلِمْتَ أَنْ لَيْسَ مَا عَيَّرْتَ بِالْعَارِ شَوْقٌ إِلَى الْوَطِنِ الْمَحْبُوبِ جَاذِبٌ ... أَضْلاعِي وَدَمْعٌ جَرَى مِنْ فُرْقَةِ الْجَارِ وَوَقْفَةٌ لَمْ أَكُنْ فِيهَا بِأَوَّلَ مَنْ ... بَانَ الْخَلِيطُ فَدَاوَى الْوَجْدَ بِالدَّارِ وَلُمْتُ فِي الْبَرْقِ زَفْرَاتِي ولو ... عَلِمَتْ عَيْنَاكَ مِنْ أَيْنَ ذَاكَ الْبَارِقُ السَّارِي طَارَتْ شَرَارَتُهُ مِنْ جَوِّ كَاظِمَةٍ ... تَحْتَ الدُّجَى بِلَبَانَاتِي وَأَوْطَارِي هَلْ بِالدِّيَارِ عَلَى لَوْمِي وَمَعْذِرَتِي ... عدوي يقام على وجدي وتذكاري أم أنت تعدل فيما لا تزيد به ... إلا مداوة حر النار بالنار وله: وهي مؤخرة في الأصل على التي بعدها: يقولون قبل البين عينيك تَدْمَعُ ... دَعُوا مُقْلَةً تَدْرِي غَدًا مَنْ تُوَدِّعُ ترى بالنوى الأمر الذي لا ترونه ... هوى فيقولون الذي ليس تسمع وَدُونَ انْصِدَاعِ الشَّمْلِ لَوْ تَسْمَعُونَهُ ... أَنِينُ حَصَاةٍ الْقَلْبُ مِنْهُ تَصَدَّعُ أَعِدْ ذِكْرَ نَعْمَانَ أَعِدْ إِنَّ ذِكْرَهُ ... مِنَ الطِّيبِ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ فَإِنْ قَرَّ قَلْبِي فَاتَّهِمْهُ وَقُلْ لَهُ ... بِمَنْ أنت بعد العامرية مولع وله: وهي مقدمة على التي تليها في الأصل: سَلْ بِالْغُوَيْرِ السَّائِقَ الْمُغِلِّسَا ... هَلْ يَسْتَطِيعُ سَاعَةً أَنْ يَحْبِسَا فَإِنَّ فِي الدَّارِ رَزَايَا لَوْعَةٍ ... سوقاً ضِعَافًا وَعُيُونًا نُعَّسَا وَثَمُلَيْنِ مَا أَدَارُوا بَيْنَهُمْ إِلا ... السُّهَادَ وَالدُّمُوعَ أَكْؤُسَا
مَا عَلِمَتْ نُفُوسُهُمْ أَنَّ الرَّدَى ... مِيقَاتُهُ الصُّبْحُ إِذَا تَنَفَّسَا تَرَكْتَ مِنْ خَلْفِكَ أَجْسَامَهُمْ ... وَسَقَتْ ما بين يديك الأنفسا أن تريد عن رياض حاجر ... أن تستخير الخصم والتسلسلا وهل على ماء النخيل مظعن ... إذا وردت مثلثاً أو مخمسا وله: من بمنى وأين سكان منى ... كانت ثلاثاً لا تَكُونُ أَرْبَعَا سَلَبْتُمُونِي كَبِدًا صَحِيحَةً ... أَمْسِ فَرَدُّوهَا عَلَيَّ قِطَعَا عَدِمْتُ صَبْرِي فَجَزِعْتُ بَعْدَكُمُ ... ثُمَّ ذُهِلْتُ فَعَدِمْتُ الْجَزَعَا فَارْتَجِعَا لِي لَيْلَةً بحاجر ... إن تم في الغائب أَنْ يُرْتَجَعَا وَغَفْلَةٍ سَرَقْتُهَا مِنْ زَمَنِي ... بِلَعْلَعٍ سَقَى الْغَمَامُ لَعْلَعَا وَلَهُ: نَشَدْتُكِ يَا بَانَةَ الأجرع ... متى رحل الحي عن لعلع
وهل مر قلبي في التابعين ... أم حار ضعفاً فلم يتبع قد كان يطعمني فِي الْمُقَامِ ... وَنِيَّتُهُ نِيَّةُ الْمُزْمِعْ وَسِرْنَا جَمِيعًا وراء الحمول ... ولكن رجعت ولم يرجع وأنته لك بين القلوب ... إذا اشْتَبَهْتُ أَنَّهُ الْمُوجَعْ وَشَكْوَى تَدُلُّ عَلَى سُقْمِهِ ... فَإِنْ أَنْتِ لَمْ تُبْصِرِي فَاسْمَعِي وَأَبْرَحُ مِنْ فَقْدِهِ أَنَّنِي ... أَظُنُّ الأَرَاكَةَ عَنِّي تَعِي وَلَهُ: لو كان يرفق ظاعن بِمُشَيِّعٍ ... رُدُّوا فُؤَادِي يَوْمَ كَاظِمَةٍ مَعِي قَالُوا النَّوَى وَخَرَجْتُ وَهُوَ مُصَاحِبِي ... وَرَجَعْتُ وَهُوَ مَعَ الخليط مودعي فلائماً من مُهْجَتِي تَأَسُّفِي ... وَبِأَيِّ قَلْبَيَّ الْغَدَاةَ تَفَجُّعِي أَطَأُ الثَّرَى مُتَمَلْمِلا وَكَأَنَّنِي ... لَهَبًا وَقَفْتُ عَلَى حَرَارَةِ أَضْلُعِي هَلْ يَمْلِكُ الْحَادِي تَلَوُّمَ سَاعَةٍ ... إِنَّ الْبَطِيءَ مُعَذَّبٌ بِالْمُسْرِعِ أَمْ هَلْ إِلَيْهِ رِسَالَةٌ مَسْمُوعَةٌ ... عَنِّي فَيُنْصِتَ لِلْبَلِيغِ الْمُسْمِعِ رَوِّحْ بِذَي سلم على متأخر ... يبغي اللحاق وإن أبيت فجعجع فت العيون بها فهل في ردها ... طمع وكيف لنا بآية يوشع إن شاء بعدهم الحياء فلينسكب ... أو شاء ظل غمامة فليقلع فمقبل جسمي في ذيول رُبُوعِهِمْ ... كَافٍ وَشُرْبِي مِنْ فَوَاضِلِ أَدْمُعِي
وله: لعلهم إذ وقفوا ... أبل ذاك الْمُدْنَفُ قَالُوا غَدًا وَعْدُ النَّوَى ... يَا بَرْدَهَا لَوْ لَمْ يَفُوا هَلْ أَنْتَ يَا قَلْبُ مَعِي ... أَوْ مَعَهُمْ مُنْصَرِفُ وله: طَوَوْا عَرْضَ البلاد وغادروني ... بصبر ظاعن وجوى مُقِيمِ وَوَلَّوْهَا الأَعِنَّةَ مُطْلَقَاتٌ ... وَبَقَّوْنِي أَعَضُّ عَلَى الشكيم نطقت ولو أطقت لَطَالَ صَمْتِي ... عَلَى مَا اعْتَدْتُ مِنْ خُلُقِي وضيمي وَلَهُ: قَالُوا النَّوَى تُسَمِّيهِ ... وَالْمَوْتُ يَعْنِي مَنْ عنا من اشتكى أشجانه ... فما أحس شجنا لم يترك العاذلون لي ... قلباً يحن الحزنا كان فؤادي وهم ... وظعنوا فَظَعَنَا مَنْ سَائِلٌ لِي بِالْحِمَى ... ذَاكَ الْكَثِيبَ الأيمنا من بال ركب منهم ... مر عليه الموهنا
وله: ضحى الْقَلْبُ لَكِنْ صَبْوَةٌ وَحَنِينُ ... وَأَقْصَرَ إِلا أَنْ يَخِفَّ قَطِينُ إِذَا بَاشَرَتْهُ فَضْلَةٌ مِنْ جَلادَةٍ ... عَلَى هَاجِرِ عَزَّتْهُ يَوْمَ تَبِينُ وَقَالُوا يَكُونُ البين والمرء رابط ... حشاه بفضل الحزم قلت يَكُونُ وَقَدْ يَضْمَنُ الْقَلْبُ الصَّرَامَةَ لَوْ ... وَفَى ويصدق وعد الصدق ثم يمين دعوني فلي إن زمت العيس وَقْفَةٌ ... أُعَلِّمُ فِيهَا الصَّخْرَ كَيْفَ يَلِينُ وَخَلُّوا دُمُوعِي أَوْ يُقَالُ نَعَمْ بَكَا ... وَزَفْرَةُ صَدْرِي أَوْ يُقَالُ حَزِينُ فَلَوْلا غَلِيلُ الشَّوْقِ أَوْ دمعة الأسى ... لَمَا خُلِقَتْ لِي أَعْيُنٌ وَجُفُونُ وُجُوهٌ عَلَى وادي الغضا ما عَدِمْتُهَا ... فَكُلُّ عَزِيزٍ بِالْجَمَالِ يَهُونُ تَشَبَّثْتُ بِالأَقْمَارِ عنها علالة ... وبانات سلع والفروق تبين وعودني عراق نَجْدٍ بِذِكْرِهَا ... فَأَعْلَمَنِي أَنَّ الْغَرَامَ جُنُونُ تَعُودُ دَاءً ظَاهِرًا أَنْ يُطِبَّهُ ... فَكَيْفَ لَهُ بِالدَّاءِ وَهُوَ دَفِينُ وَلِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِعِ: لَمْ يَقْضِ مِنْ سَفَرِ الصُّدُودِ قُدُومُهُمُ ... حَتَّى تنادوا للنوى بتجمل دع شأن عينيك يا مشوق وشأنه ... وضع الْيَدَيْنِ عَلَى الْحَشَا وَتَمَلْمَلُ الْيَوْمَ آخِرُ عَهْدِهِمْ ولقل ما ... يُغْنِي وُقُوفُكَ سَاعَةً فِي الْمَنْزِلِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَارِجَةَ إِذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ، رَكِبَ ناقته ورفع عقيرته،
ويقول: وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ ... وَمَسَّحَ بالأركان من هو ماسح وشدت على حدب المهارى رحالنا ... لا يُنْظَرُ الْغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأحاديث بيننا ... وسالت بأعنان المطي الأباطح ولبعض المدنيين: ألا رب مشغوف بما لا يناله ... غداة تساق المشعرات إلى النحر فيا رب باكٍ شجوه ومعول ... إذا ما رأى الأَطْنَابِ تُنْزَعُ لِلنَّفْرِ
باب ذكر من حج أو اعتمر فزار قبر قرابته في طريقه
باب ذكر من حج أو اعتمر فَزَارَ قَبْرَ قَرَابَتِهِ فِي طَرِيقِهِ 387- رَوَى بُرَيْدَةُ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى مكة، أتى جزم قَبْرٍ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ، وَجَعَلَ يتكلم كهيئة المخاطب، ثم قام وهو يبكي، فاستقبله عمر وكان جريئاً عليه، فقال: بأبي وَأُمِّي مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟ قَالَ: ((هَذَا قَبْرُ أُمِّي، سَأَلْتُ رَبِّي زِيَارَتَهُ فَأَذِنَ لِي، وَسَأَلْتُهُ الاسْتِغْفَارَ فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَذَكَرْتُهَا فَبَكَيْتُ)) . فَلَمْ يُرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. 388- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبي منصور، قال: أنبأنا العلاف، قال: أنبأنا أبو الحسن الحمامي، قال: أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَرِيرِيُّ، قال: ثنا موسى بن إسحاق الأنصاري، قال: ثنا أبو إبراهيم الترجماني، قال: ثنا المشمعل بْنُ مِلْحَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ ابن بريدة، عن أبيه [رضي الله عنه] ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ وَقَفَ عَلَى عُسْفَانَ، فَنَظَرَ يَمِينًا
وشمالاً، فأبصر قبر أمه آمنة، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَفْجَأْنَا إِلا بِبُكَائِهِ، فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: ((مَا الَّذِي أَبْكَاكُمْ؟)) . قَالُوا: بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا. قَالَ: ((وَمَا ظننتم؟)) . قالوا: ظَنَنَّا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ عَلَيْنَا. قَالَ: ((لَمْ يكن من ذاك شيء، ولكني مررت بقبر أمي، فصليت ركعتين، ثم إني اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنُهِيتُ، فَبَكَيْتُ، ثم عدت فصليت ركعتين، واستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزجرت زجراً، فَعَلا بُكَائِي)) . ثُمَّ دَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَمَا سار إلا هنيهة حتى قامت النَّاقَةُ بِثِقَلِ الْوَحْيِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ... } إلى قول: {تبرأ منه} ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ آمِنَةَ كَمَا تَبَرَّأَ إِبْرَاهِيمُ من أبيه)) .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. 389- أنبأنا الحريري، قال: أخبرنا أبو بكر الخياط، قال: أنبأنا ابن دوست، قال: أنبأنا ابن صفوان، قال: ثنا أبو بكر القرشي، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أبي هريرة، قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمَّهُ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَزُورَ قبرها، فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لِي)) . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ.
باب ذكر المجاورة بمكة
بَابُ ذِكْرِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَكْرَهْهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ العلماء، بل استحبوها. فمن كررها، فَلأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: خَوْفُ الْمَلَلِ. وَالثَّانِي: قِلَّةُ الاحترام لمداومة الأنس بالمكان. والثالث: تهيج الشوق بالمفارقة، فتنشأ دَاعِيَةُ الْعَوْدِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْكَعْبَةِ وَالإِنْسَانُ في بيته خير له مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْبَيْتِ وَالإِنْسَانُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. وَالرَّابِعُ: خَوْفُ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ هُنَاكَ، فَإِنَّ الْخَطَأَ ثَمَّ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ، لأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَتَضَاعَفُ عُقُوبَتُهَا، إِمَّا لِكَثْرَةِ عِلْمِ فَاعِلِهَا فَلَيْسَ عِقَابُ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لا يَعْلَمُ، أَوْ لِشَرَفِ الزَّمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي رَمَضَانَ وَالطَّاعَةِ فِيهِ، وقد قال عَلَيْهِ السَّلامُ: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ، كِحَجَّةٍ مَعِي)) . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ فِي غَيْرِهِ، أَوْ لِشَرَفِ الْمَكَانِ كَالْحَرَمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى ضُوعِفَ أَجْرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَيْرِ، وَتُوُعِدْنَ بِمُضَاعَفَةِ العذاب عَلَى الشَّرِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ
ضعفين} . وقوله تعالى: {نؤتها أجرها مرتين} . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِضِعْفِ الْخَلْقِ وَقُصُورِهِمْ بحق المكان. قال أبو عمر الزجاجي: من جاور بالحرم وقلبه متعلق بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَظْهَرَ خَسَارَتَهُ. وأما لم يكره المجاورة بها وَرَآهَا فَضِيلَةً، فَلِفَضِيلَةِ الْمَكَانِ وَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَكَمَا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ أَذْنَبَ هُنَاكَ أَنْ يُضَاعَفَ عِقَابُهُ، يُرْجَى لِمَنْ أحسن ثم أَنْ يُضَاعَفَ ثَوَابُهُ، وَقَدْ جَاوَرَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَسَكَنَهَا مِنَ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِمْ بَشَرٌ عَظِيمٌ.
باب ذكر أعيان من نزل بمكة
باب ذكر أعيان من نزل بمكة قَالَ ابْنُ سَابِطٍ: لَمْ تَهْلِكْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلا لَحِقَ نَبِيُّهَا بِمَكَّةَ، فَتَعَبَّدَ فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ. وَهَذَا ذِكْرُ مَنِ اسْتَوْطَنَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ: الأَسْوَدُ بْنُ خَلَفٍ، إِيَاسُ بن عبدٍ، بديل بن ورقاء، بشر بن سفيان، تميم بن أسد، الحارث بن هشام، حجر بْنُ أَبِي إِهَابٍ، الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، حويطب بن خَالِدُ بْنُ أُسَيْدٍ، خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ، خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ، خُوَيْلِدُ بْنُ صَخْرٍ، سُمْرَةُ بْنُ الْمُؤَذِّنِ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، صفوان بن أمية، صفوان بْنُ الْخَطَّابِ، عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبَشِيٍّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّعْدِيِّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن صفوان، عبد الرحمن بن أبزى، عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، عُتْبَةُ بْنُ أَبَيِ لَهَبٍ، عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، أَبُو قُحَافَةَ، عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جهل، علقمة بن القعواء، عمرو بن بعكل، عَمْرُو بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ، عُمَيْرُ بْنُ قَتَادَةَ، عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، قَيْسُ بْنُ السَّائِبِ، كرز بن علقمة، كلدة بن الحنبل، كيسان، لقيط، محرس، مسلم، قطيع، المطلب،
ممن عرف بكنيته ولم يعرف له اسم
معتب [رضي الله عنهم] . المهاجرة: نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، يعلى بن أمية. ممن عُرِفَ بِكُنْيَتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ اسْمٌ أَبُو جُمُعَةَ، أَبُو سَبْرَةَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ. فهؤلاء أربعة وخمسون مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَطَّنُوهَا، وَقَدْ جَاوَرَ بِهَا: جَابِرُ بْنُ عبد الله، وكان ابن عمر [رضي الله عنه] يقيم بها. فصل وقد نزلها من كبراء التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، مُجَاهِدٌ، عَطَاءٌ، يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ، مِقْسَمٌ، الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، الْفُضَيْلُ بْنُ عياض، الحميدي. وقد كان بعض الصالحين من الْمُجَاوِرِينَ لا يَقْضِي حَاجَتَهُ فِي الْحَرَمِ، بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ، وَبَقِيَ عَلَى هَذَا أَبُو عَمْرٍو الزَّجَّاجِيُّ الصُّوفِيُّ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَجَاوَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ بِمَكَّةَ سَنَةً، فَلَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى حائط، ولم ينم،
فَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ، فَقَالَ: يَا أبا محمد! بم قَدَرْتَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: عَلِمَ صِدْقَ بَاطِنِي، فأعانني على ظاهري. 390- أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَكَى لَنَا أَبُو سَهْلٍ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الْعُكْبَرِيُّ، قَالَ: لَمَّا وَصَلَ أبو بكر الآجري إلى مكة، استحسنها واستبطأ بها، وهجس في نفسه أن قال: اللهم أحييني فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَلَوْ سَنَةً. فَسَمِعَ هَاتِفًا يقول: يَا أَبَا بَكْرٍ! لِمَ سِنَةً؟ ثَلاثِينَ سَنَةً. فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ الثَّلاثِينَ، سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ! قَدْ وَفَيْنَا بِالْوَعْدِ. فَمَاتَ في تلك السنة.
باب فضل صيام رمضان بمكة
باب فضل صيام رَمَضَانَ بِمَكَّةَ 391- أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، قَالَ: أنبأنا أبو بكر الهاشمي، قال: أنبأنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا أبو الوليد الأزرقي، قال: حدثني ابن أبي عمر، قال: ثنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((من أدركه شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ كُلَّهُ، وَقَامَ مِنْهُ ما تيسر، كتب الله له مئة أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ، وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ حَسَنَةً، وَكُلِّ لَيْلَةٍ حَسَنَةً، وَكُلِّ يوم عتق رقبة، وكل ليلة عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلِّ يَوْمٍ حُمْلانَ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكُلِّ لَيْلَةٍ حُمْلانَ فرس في سبيل الله)) .
باب ذكر أعيان المدفونين بالحرم
باب ذكر أعيان المدفونين بالحرم قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَابِطٍ: مَاتَ نُوحٌ، وَهُودٌ، وصالح، وشعيب بِمَكَّةَ، فَقُبُورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْحِجْرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ [عليه الصلاة والسلام] إِذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ بِمَكَّةَ، فَتَعَبَّدَ فِيهَا وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتَ. 392- أَنْبَأنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قال: أنبأنا إسماعيل بن مسعدة، قال: أنبأنا أبو إبراهيم النصراباذي، قال: أنبأنا المغيرة بن عمرو بن الوليد، قال: أنبأنا المفضل بن محمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، أنه قال: بين المقام والركن وَزَمْزَمَ قُبُرُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا، وَإِنَّ قَبْرَ هُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإِسْمَاعِيلَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ: بَيْنَ الرُّكْنِ إِلَى الْمَقَامِ إِلَى زَمْزَمَ إِلَى الْحِجْرِ قُبُورُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خطب صالح الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ دَارٌ قد سخط الله عليها وعلى أهلها، فاظعنوا. قَالُوا: مُرْنَا نَفْعَلْ. قَالَ: تَلْحَقُونَ بِحَرَمِ اللَّهِ. فَأَهَلُّوا مِنْ سَاعَتِهِمْ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَحْرَمُوا فِي الْعَبَاءِ، فَوَرَدُوا مَكَّةَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا، فَتِلْكَ قُبُورُهُمْ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَدَارِ بني هاشم، وكذلك فعل هود ومن آمن معه، وشعيب ومن آمن معه. وقال ابن جريج: ودفنت أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فِي الْحِجْرِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لما توفي إسماعيل، دُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهَا فيه دفنت. وقال عمر بن عبد العزيز: شكى إسماعيل إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّ مَكَّةَ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي أَفْتَحُ لَكَ بَابًا من الجنة في الحجر، تجري عليك منه الرَّوْحِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تُوُفِّيَ. قَالَ خَالِدٌ الْمَخْزُومِيُّ: فَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَا بَيْنَ الْمِيزَابِ إِلَى بَابِ الْحِجْرِ الغربي قَبْرُهُ. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ: حفر ابن الزبير فوجد فيها سفطاً من حجارة أخضر، فسأل قريشاً عنه فلم يجد عند أحدهم فِيهِ عِلْمًا، فَأَرْسَلَ إِلَى أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَذَا قَبْرُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلا تُحَرِّكْهُ. فتركه. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَذَا الْمُحْدَوْدِبُ يُشِيرُ إِلَى مَا يَلِي الرُّكْنَ الشَّامِيَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قبور عذارى بنات إسماعيل [عليه السلام] ، قَالَ: وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ يُسَوَّى مَعَ الْمَسْجِدِ، فَلا ينشب أن يعود محدودب كَمَا كَانَ. 393- وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لِمَقْبُرَةِ مَكَّةَ: ((نِعْمَ الْمَقْبُرَةُ هَذِهِ)) .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ: مَنْ قُبِرَ فِي هَذِهِ الْمَقْبُرَةِ (يَعْنِي: مَقْبُرَةَ مَكَّةَ) ، بُعِثَ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. 394- وأنبأنا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قال: أنبأنا أبو إبراهيم النصراباذي، قال: أنبأنا المغيرة بن عمرو، قال: ثنا المفضل بن محمد، قال: ثنا ابن أبي بزة، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ قُبِرَ بِمَكَّةَ مُسْلِمًا، بُعِثَ آمِنًا يوم القيامة.
باب ذكر من كان يكثر الحج
باب ذكر من كان يكثر الحج قد ذكرنا عن ابن عباس، أَنَّهُ قَالَ: حَجَّ آدَمُ [عَلَيْهِ السَّلامُ] عَلَى رجليه أربعين حجة. 395- وقد روى عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: حَجَّ آدَمُ [عَلَيْهِ السَّلامُ] عَلَى رِجْلَيْهِ سَبْعِينَ حَجَّةً مَاشِيًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أنه حج خمسة عشر حَجَّةً. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: كَانَ عَطَاءُ بن أبي رباح عالماً بالحج، وقد كان حَجَّ زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ حَجَّةً. وَرَوَى سَمْنُونُ عن علي بن شعيب السقا: أَنَّهُ حَجَّ نَيِّفًا وَسِتِّينَ حَجَّةً مِنْ نَيْسَابُورَ. 396- أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، عن ابن حيويه، قال: أنبأنا ابن معروف، قال: أنبأنا ابن الفهم، قال: أنبأنا ابن سعد،
قال: أخبرني الحسن بن عمر، أن ابن عيينة بن أخي سفيان، قال: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومئة، فَلَمَّا كُنَّا بِجَمْعٍ وَصَلَّى، اسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ وَافَيْتُ هَذَا الْمَوْضِعَ سَبْعِينَ عَامًا، أَقُولُ فِي كُلِّ سَنَةٍ: اللَّهُمَّ لا تجعله آخر العهد، وإني قد استحييت الله من كثرة ما أسأله ذلك. فَرَجَعَ فَتُوُفِّيَ فِي السَّنَةِ الدَّاخِلَةِ. 397- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبي منصور، عن الحسن بن محمد الفقيه، قال: أنبأنا علي بن محمد المعدل، قال: أنبأنا ابن صفوان، قال: ثنا عبد الله بن محمد، قال: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: سَافَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ إِلَى مَكَّةَ أكثر من خمسين سفراً، حافياً، صَائِمًا، لا يَتْرُكُ صَلاةَ السَّحَرِ فِي سَفَرِهِ، إذا كان السَّحَرِ نَزَلَ، فَصَلَّى، وَيَمْضِي أَصْحَابُهُ، فَإِذَا صَلَّى الصبح، لحق متى ما لحق. 398- أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أنبأنا أبو بكر الخطيب، قال: أنبأنا مكي بن علي، قال: ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْبَلْخِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْبَاقِي يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: قَالَ علي بن الموفق لما تم ستون حجة: نمت بحذاء الميزاب،
فَكَأَنَّ قَائِلا يَقُولُ لِي: أَتَدْعُو إِلَى بَيْتِكَ إلا من تحبه؟ 399- أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أنبأنا أبو سعد الحيري، قال: أنبأنا ابن باكويه، قال: حدثني علي بن أحمد الأصفهاني، قال: ثنا عمر بن واضح، قال: ثنا إبراهيم بن أحمد، قال: سمعت جرار بن بكر الدئلي، قَالَ: أَحْرَمْتُ مِنْ تَحْتِ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ودخلت بادية تبوك إلى أن وصلت مَكَّةَ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِذَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلاءِ جَالِسٌ فِي شِقِّ الطَّوَافِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ، فَقَالَ لِي: يَا بني! من أين أحرمت؟ فقلت له: مِنْ تَحْتِ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ: مِنْ أي طريق جئت؟ فقلت: على طريق تبوك. فقال لي: على شرط التوكل؟ فقلت: نعم. فقال: يا بني! أَعْرِفُ رَجُلا حَجَّ اثْنَيْنَ وَخَمْسِينَ حَجَّةً عَلَى التَّوَكُّلِ، وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمِّ! بِحَقِّ هَذَا الْبَيْتِ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. 400- أَخْبَرَنَا ابْنُ حبيب، قال: أنبأنا ابن أبي صادق، قال: ثنا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ الله، قال: سمعت الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ يَقُولُ: حَجَجْتُ ثَمَانِينَ حَجَّةً عَلَى قَدَمِيَّ عَلَى الْفَقْرِ.
401- قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ خلف، عن السلمي، قال: حج جَعْفَرٍ الْخَوَّاصُ قَرِيبًا مِنْ سِتِّينَ حَجَّةً.
باب في ذكر ثواب من مات عقيب الحج
باب في ذِكْرِ ثَوَابِ مَنْ مَاتَ عُقَيْبَ الْحَجِّ 402- رَوَى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، استعمله)) . قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: ((يوفقه لعلم صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ)) . 403- أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قال: أنبأنا الحسن بن علي، قال: أنبأنا ابن مالك، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا شريح بن النعمان، قال: ثنا بَقِيَّةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو عنبة [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بعبدٍ خَيْرًا، عَسَّلَهُ)) . قِيلَ: وَمَا عَسَّلَهُ؟ قَالَ: ((يفتح الله لَهُ عَمَلا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عليه)) .
أَمَّا أَبِو عِنَبَةَ: فَلَهُ صُحْبَةٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِنَبَةَ، وَجُمْلَةُ مَنْ فِي الصَّحَابَةِ اسمه عبد الله مئتان وعشرون وليس فيهم من يقال له: ابن عِنَبَةَ سِوَاهُ، وَلا مَنْ يُكَنَّى أَبَا عِنَبَةَ إلا هو، وليس في الصحابة من اسمه عبد الله بن عتبة بالتاء، فيشكل، فليخط هذا الضبط. أما قوله: ((عسله)) ، فهو بِالْعَيْنِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ، فَذَكَرَهُ بِالْغَيْنِ وَهُوَ غَلَطٌ. -وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَاتَ عُقَيْبَ رَمَضَانَ أَوْ عُقَيْبَ غَزْوٍ، أَوْ حَجٍّ، مَاتَ شَهِيدًا.
باب في التشوق إلى الحج وأماكنه
باب في التشوق إِلَى الْحَجِّ وَأَمَاكِنِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي ربيعة: أبها الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ ابْتِكَارَا ... قَدْ قَضَى مِنْ تِهَامَةَ الأَوْطَارَا إِنْ يَكُنْ قَلْبُكَ الْغَدَاةَ خَلِيًّا ... فَفُؤَادِي بالخيف أمسى معارا ليت ذَا الدَّهْرُ كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا ... كُلَّ يَوْمَيْنِ حجة واعتمارا 404- نقلت مِنْ خَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ النَّحْوِيُّ بِالْمَغْرِبِ لِبَعْضِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلادِ فِي التشوق إِلَى مَكَّةَ: يَحِنُّ إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ فُؤَادِي ... وَيَحْدُو اشْتِيَاقِي نَحْوَ مَكَّةَ حَادِي وَلِي أَمَلٌ ما زال ينمو بِهِمَّتِي ... إِلَى الْبَلْدَةِ الْغَرَّاءِ خَيْرِ بِلادِ بِهَا كَعْبَةُ اللَّهِ الَّتِي طَافَ حَوْلَهَا ... عِبَادٌ هُمْ لِلَّهِ خَيْرُ عِبَادِ لأَقْضِيَ فَرْضَ اللَّهِ فِي حَجِّ بَيْتِهِ ... بَأَصْدَقِ إِيمَانٍ وَأَطْيَبِ زَادِ أَطُوفُ كَمَا طَافَ النَّبِيُّونَ حَوْلَهُ ... طَوَافَ قِيَادٍ لا طَوَافَ عِنَادِ وَأَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ تَابِعًا ... لِسُنَّةِ مهدي وطاعة هاد وتركع تِلْقَاءَ الْمَقَامِ مُصَلِّيًا ... صَلاةً أُرَجِّيهَا لِيَوْمِ مَعَادِ
وأسعى سبوعاً بين مروة والصفا ... أهلل ربي تَارَةً وَأُنَادِي وَآتِي مِنًى أَقْضِي بِهَا التَّفَثَ الَّذِي ... يَتِمُّ بِهِ حَجِّي وَهَدْيُ رَشَادِي فَيَا لَيْتَنِي شَارَفْتُ أَجْبُلَ مَكَّةَ ... فَبِتُّ بِوَادٍ عِنْدَ أَكْرَمِ وَادِي وَيَا لَيْتَنِي رُوِّيتُ مِنْ مَاءِ زمزم ... صدى خلد بَيْنَ الْجَوَانِحِ صَادِي وَيَا لَيْتَنِي قَدْ زُرْتُ قَبْرَ مُحَمَّدٍ ... فَأَشْفِي بِتَسْلِيمٍ عَلَيْهِ فُؤَادِي وَلِمِهْيَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَيَا لَيْلَ جَوٍّ مَنْ بَشَيِرُكَ بِالصُّبْحِ ... وَهَلْ مِنْ مَقِيلٍ بَعْدَ ظِلِّكَ في الطلح شربت على سوق النخيلة نهلة ... بها لم أكن أدري أسكر أَمْ تُصْحِي فَمَا لَكَ مِنْهَا غَيْرُ لَفْتَةِ ذاكر ... إذا قلت بلت أو قدت لوعة البرح أيا صاح والماشي بِخَيْرِ مُوَفَّقٍ ... تَرَنَّمْ بِلَيْلِي إِنْ مَرَرْتَ عَلَى السفح وقام بِعَيْنِي فِي الْخَلِيطِ مُخَاطِرًا ... عَسَتْ نَظْرَةٌ مِنْهَا يفوز بها قدحي وله: يا نسيم الريح مِنْ كَاظِمَةٍ ... شَدَّ مَا هِجْتَ الأَسَى وَالْبُرَحَا الصِّبَا إِنْ كَانَ لا بُدَّ الصِّبَا ... إِنَّهَا كَانَتْ لِقَلْبِي أَرْوَحَا يَا نَدَامَايَ بِسَلْعٍ هَلْ أَرَى ... ذَلِكَ الْمُغْبِقَ وَالْمُصْطَبِحَا أَذْكِرُونَا ذِكَرْنَا عَهْدَكُمُ ... رب ذكرى قربت من نزحا
اذكروا صَبًّا إِذَا غَنَّى بِكْمُ ... شَرِبَ الدَّمْعَ وَعَافَ الْقَدَحَا قَدْ شَرِبْتُ الصَّبْرَ عَنْكُمْ مُكْرَهًا ... وَتَبِعْتُ السُّقْمَ فِيكُمْ مُسْمِحَا وَعَرَفْتُ الْهَمَّ مِنْ بَعْدِكُمْ ... فكأني مَا عَرَفْتُ الْفَرَحَا وَلَهُ: أَبَا الْغَوْرِ تَشْتَاقُ تِلْكَ النُّجُودَا ... رَمَيْتَ بِقَلْبِكَ مَرْمًى بَعِيدًا فُؤَادٌ أسير ولا يفتدى وجفن ... قتيل البكا ليس يودا سَهِرْنَا بِبَابِلَ لِلنَّائِمِينَ عَمَّا ... نُقَاسِي بِنَجْدٍ رُقُودَا وله: من المبلغ والصدق قصد حديثه ... وفي القول غاوٍ نَقْلُهُ وَرَشِيدُ عَنِ الرَّمْلِ بِالْبَيْضَاءِ هَلْ هِيلَ بعدنا ... وبان الفضا هل يستوي ويميد وهل ظبيان بَيْنَ جَوٍّ وَلَعْلَعٍ ... تَمُرُّ عَلَى وَادِي الْغَضَا وَتَعُودُ حَمَلْنَ الْهَوَى مِنِّي عَلَى ضُعْفِ كَاهِلٍ ... وهى وثقول الحاملات جليد وله: قسماً ولم أُقْسِمُ لِسُكَّانِ الْحِمَى ... عَنْ رَيْبَةٍ لَكِنَّهُ تَأْكِيدُ لَهُمُ وَإِنْ مَنَعُوا مَكَانَ مَطَالِبِي ... وَهُمُ وَإِنْ كَرِهُوا الَّذِين أُرِيدُ أَتَنَسَّمُ الأَرْوَاحَ وَهِيَ رَوَاكِدٌ ... منهم وتجذب أرضهم فأرود
ولقد أحن إلى زرود وطينتي ... من غير ماء فُطِرَتْ عَلَيْهِ زَرُودُ وَيَشُوقُنِي عَجَفُ الْحِجَازِ وَقَدْ ... ضَفَا رِيفُ الْعِرَاقِ وَظِلُّهُ الْمَمْدُودُ وَيُطْرِبُ الشَّادِي فَلا يَهْتَزُّنِي ... وَيَنَالُ مِنِّي السَّائِقُ الْغِرِّيدُ وَلَهُ: حيها أوجه عَلَى السَّفْحِ غُرًّا ... وَقِبَابًا بِيضًا وَنُوقًا حُمْرًا آهٍ وَالشَّوْقُ مَا تَأَوَّهَتُ مِنْهُ ... لِلَيَالٍ بِالسَّفْحِ لَوْ عُدْنَ أُخْرَى يَا مَغَانِيَ الْحِمَى سُقِيتِ وما ... ينفعني الغيث أن يجول قفرا قلبوا ذلك الرمال تُصِيبُوا فِيهِ ... قَلْبِي إِنْ لَمْ تُصِيبُوا الْجَمْرَا وَلَهُ: خَلِيلَيَّ هَلْ مِنْ وَقْفَةٍ وَالْتِفَاتَةٍ ... إِلَى الْقُبَّةِ السَّوْدَاءِ مِنْ جَانِبِ الْحِجْرِ وَهَلْ مَنْ أرانا الحج بالخيف عائداً ... إلى مثلها أم عدها حجة العمر فلله مَا أَوْفَى الثَّلاثَ عَلَى مِنًى ... لأَهْلِ الْهَوَى لو لم تخن لَيْلَةُ النَّفْرِ لَقَدْ كُنْتُ لا أُوتَى مِنَ الصبر قبلها ... فهل تعلمان اليوم أين مضى صبري أَيَشْرُدُ قَلْبِي يَا غَزَالَةُ حَاجِرٍ ... وَأَنْتِ بِذَاتِ الْبَانِ مَجْمُوعَةُ الأَمْرِ
خُذِي لَحْظَ عَيْنِي فِي الْغَصُوبِ إِضَافَةً ... إِلَى الْقَلْبِ أَوْ رُدِّي فُؤَادِي إِلَى صَدْرِي وَلَهُ: كم النوى قد جزع الصَّابِرُ ... وَقَنَطَ الْمَهْجُورُ يَا هَاجِرُ أَأُحْمِدُ الْبَادُونَ في عيشهم ... ما دام من بعدهم الحاضر أم كَانَ يَوْمُ الْبَيْنِ حَاشَاكُمْ ... أَوَّلُ شَيْءٍ مَا لَهُ آخِرُ وَلَهُ: أَجِيرَانَنَا أَيَّامَ جَمْعٍ تَعِلَّةً ... سلوا النفر هل ماض به النَّفْرِ رَاجِعُ وَهَلْ لِثَلاثٍ صَالِحَاتٍ عَلَى مِنًى ... ولو أن من أثمانه النفس بايع أَجِنُّ بِنَجْدٍ حَاجَةً لَوْ بَلَغْتُهَا ... وَنَجْدٌ عَلَى مرمى العراقي شاسع جرى بهم الوادي ولو شئت مسيلاً ... جفوني لقد سالت بهن المدامع عفى الخيف إلا أن يعرج سائل ... بعلة سوق أو يغرد سَاجِعُ وَلَهُ: هِلْ مَعِي مَا عَلَيْكَ ضَرِّي وَنَفْعِي ... نَسْأَلُ الْجَزْعَ عَنْ ظِبَاءِ الْجَزْع قُلْتُ لا تَنْطِقُ الدِّيَارُ وَلا يَمْلِكُ ... بَالِي الطُّلُولِ سَمْعًا فَيُرْعِي وَعَلَيَّ السُّؤَالُ لَيْسَ عَلَى الْعَارِ ... إن ضنت المغاني برجع
لم أكن أول الرجال التوى ... صغوي لِدَارِ الأَحْبَابِ أَوْ مَالَ ضِلْعِي هَلْ مُجَابٌ يدعو مبرداً أو ... طاري بجمع برد أَيَّامَ جَمْعِ أَوْ أَمِينُ الْقُوَى أُحَمِّلُهُ هَمًّا ... ثَقِيلا يَحُطُّهُ دُونَ سَلْعِ فَافْرُجَا لِي عَنْ نَفْحَةٍ مِنْ صِبَاهُ ... طَالَ مَدِّي لَهَا الصَّلِيفَ ودفعي أن ذاك النسيم يجدي على أرض ... ثراها في الريح رقية لسعي كَمْ بِنْجَدٍ لَوْ وَفَى أَهْلُ نَجْدٍ ... لِفُؤَادِي مِنْ شُعْبَةٍ أَوْ صَدْعِ وَزَفِيرٍ عَلِمَتْ مِنْهُ حَمَامُ الدَّوْحِ ... مَا كَانَ مِنْ حَنِينٍ وَسَجْعِ وَلَهُ: سَقَى الْحَيَا عَهْدَ الْحِمَى أَعْذَبَ مَا ... يسقي به السَّمَاوَاتُ بِهِ الأَرْضِينَا وَخَصَّ بَانَاتٍ عَلَى كَاظِمَةٍ ... فَزَادَهَا نَضَارَةً وَلِينَا وَوَاصَلَتْ مَا بَيْنَهَا رِيحُ الصِّبَا ... فَعَانَقَتْ غُصُونُهَا الْغُصُونَا وَرَدَّ أَوْطَارًا بِهَا ماضيه ... علي أو أحبةً باقينا عيش نصلت من جلاء ... والفتى يلبس حيناً ويبز حينا
ولغيره: هَلِ الْعَيْشُ إِلا ضَجْعَةٌ فَوْقَ رَمْلَةٍ ... بِنَشْرِ الخزامى والعرار يفوح تمر بِأَنْفَاسٍ عَلَى مَرِيضَةٍ ... وَعِنْدِي هَوًى تَحْتَ الضُّلُوعِ صحيح نسيني بها ضد التَّشَكِّي مِنَ الْهَوَى ... كَمَا غَنَّتِ الْوَرْقَاءُ وَهِيَ تَنُوحُ وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ أَتَشَوَّقُ فِيهَا إِلَى مكة: سلامٌ على الدار التي لا نزورها ... عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَلْبَ فِيهَا أَسِيرُهَا إِذَا مَا ذَكَرْنَا طِيبَ أَيَّامِنَا بِهَا ... تَوَقَّدَ فِي نَفْسِ الذَّكُورِ سَعِيرُهَا رَحَلْنَا وَفِي سِرِّ الْفُؤَادِ ضمائر ... إذا هب نجد الصبا يستثيرها محت بَعْدَكُمُ تِلْكَ الْعُيُونُ دُمُوعَهَا ... فَهَلْ مِنْ عُيُونٍ بعدها تستعيرها أتنس رِيَاضَ الْغَوْرِ بَعْدَ فِرَاقِهَا ... وَقَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ منك غديرها تجعده مَرُّ الشَّمَالِ وَتَارَةً ... يُغَازِلُهُ كَرُّ الصِّبَا وَمُرُورُهَا أَلا هَلْ إِلَى شَمِّ الْخَزَامَى وَعَرْعَرٍ ... وَشِيحٍ بوادي الأثل أرض نسيرها أَلا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْعِرَاقِيُّ بَلِّغُوا ... رِسَالَةَ مَحْزُونٍ جواه سطورها إذا كببت أنفاسه بعض وخدها ... عَلَى صَفْحَةِ الذِّكْرَى مَحَاهُ زَفِيرُهَا تَرَفَّقْ رَفِيقِي هل بدت نار أرضهم ... أو الوجد يذكي ناره وينيرها أعد ذكره فهو الشفاء وربما ... شفاء النفس أمر ثم عاد يضيرها
ألا أين أزمان الوصال التي خلت ... وحلت خلت خلت وَجَاءَ مَرِيرُهَا سَقَى اللَّهُ أَيَّامًا مَضَتْ وَلَيَالِيًا ... تضوع رباها وفاح عبيرها أخر المتعلق بذكر مكة
أبواب ذكر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم
أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
باب في أسمائها
أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم [وفيه أبواب منها:] بَابٌ فِي أَسْمَائِهَا أَمَّا الاسْمُ الْعَامُ: فَهُوَ الْمَدِينَةُ، وَهَذَا الاسْمُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى كُلِّ بَلْدَةٍ، فَقَدْ صَارَ بِإِطْلاقِهِ مُخْتَصًّا بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. والمدينة على وزن فعيلةٍ، وَالْجَمْعُ مُدُنٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ مِنْ دان أي: طاع. وقال ابن فارس: قوم يقولون: هي من الدين، والدين: الطاعة، فسميت مَدِينَةً لأَنَّهُ دِينَ أَهْلُهَا، أَيْ: مُلِكُوا. يُقَالُ: دَانَ فلانٌ بَنِي فُلانٍ، أَيْ: مَلَكَهُمْ، وَفُلانٌ فِي دَيْنِ فُلانٍ، أَيْ: فِي طَاعَتِهِ.
قال النابغة: بعثت على الرعية خير راعٍ ... فَأَنْتَ إِمَامُهَا وَالنَّاسُ دِينُ وَيُقَالُ: دَيَنَ فُلانٌ أَمْرَهُ، أَيْ: مَلَكَهُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: لَقَدْ دَيَنْتَ أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق مِنَ الطَّحِينِ وَيُقَالُ لِلأَمَةِ: مَدِينَةٌ، لأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مذللة. قال الأخطل: ربت وربا فِي حِجْرِهَا ابْنُ مَدِينَةٍ ... يَظَلُّ عَلَى مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ يُرِيدُ: ابْنَ أمةٍ. وتُسَمَّى الْمدَينَةُ: طَابَةُ وَطَيْبَةُ. 405- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بن سمرة [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قال:
((إن الله تعالى سمى المدينة طَابَةَ)) . قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: طَابَةُ وَطَيْبَةُ مِنَ الطَّيَّبِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا طُهِّرَتْ مِنَ الشِّرْكِ، وَكُلُّ طَاهِرٍ طَيِّبٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الاسْتِنْجَاءُ اسْتِطَابَةً. وَأَمَّا يَثْرِبُ: 406- فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي موسى [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرٌ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يثرب....)) . وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ التثريب، وهو اللوم وتقبيح الْفِعْلُ فِي عَيْنِ فَاعِلِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {لا تثريب عليكم اليوم} .
باب في فضل المدينة
باب في فضل المدينة 407- أخبرنا أبو القاسم الكاتب، قال: أنبأ أبو علي التميمي، قال: أنبأ أبو بكر بن مالك، قثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حنبل، قال: حدثني أبي، قثنا أنس بن عياض، قال: حدثني يزيد بن خصيفة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ السائب بن خلاد [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا، أَخَافَهُ اللَّهُ وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله يوم القيامة [منه] صرفاً ولا عدلاً)) . 408- أخبرنا علي بن عبد الله الفقيه، قال: أنبأ ابن النقور، قثنا ابن مردك، قثنا الحسين بن محمد، قثنا محمد بن عزيز، قال: حَدَّثَنِي سَلامَةُ، عَنْ
عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك [رضي الله عنه] ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ)) . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)) . 409- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مكة ودعى لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ ما دعى [بِهِ] إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ)) . 410- وَأَخْرَجَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ)) . 411- وفي ((الصحيحين)) من حديث أنس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ نَقْبٌ من نقابها
إِلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، فَيَنْزِلُ السَّبَخَةَ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ)) . 412- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ من حديث سعد بن أبي وقاص [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أحدٌ إِلا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ)) . 413- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سعد [رضي الله عنه] أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: ((لا يثبت أحد على لأوائها وَجَهْدِهَا، إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) . 414- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابن عمر [رضي الله عنهما] مِثْلَهُ. 415- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [أنه] قال:
((لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بابٍ مَلَكَانِ)) . 416- أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أنبأ عاصم بن الحسن، قال: أنبأ أبو عمر بن مهدي، قثنا عثمان بن أحمد بن السماك، قال: ثنا أحمد بن الخليل، قثنا الحسن بن موسى الأشيب، قثنا سعيد بن زيد أخو حماد، قثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، قثنا سالم بن عبد الله يقول: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي عُمَرَ بْنَ الخطاب [رضي الله عنه] يَقُولُ: اشْتَدَّ الْجَهْدُ بِالْمَدِينَةِ، وَغَلا السِّعْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اصْبِرُوا يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَأَبْشِرُوا، فَإِنِّي قَدْ بَارَكْتُ عَلَى صاعكم ومدكم، كلوا جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ طَعَامَ الرَّجُلِ يَكْفِي للاثنين، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا، كُنْتُ لَهُ شفيعاً، وكنت له شهيداً يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبة عنها، أبدل الله عز وجل فيها من هو خير منه، ومن بغاها أو كادها بسوءٍ، أذابه الله عز وجل كما يذوب الملح في الماء)) .
417- وبالإسناد ثنا ابن السماك، قثنا إسحاق بن يعقوب، قثنا محمد بن عبادة، قثنا أبو ضمرة، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن معقل بن يسار، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ((المدينة مهاجري، فيها مضجعي ومنها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم، كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، ومن لم يحفظهم، سقي طينة الخبال)) . قيل للمزني (هو مقعل) : مَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ. 418- أخبرنا يحيى بن علي المديني، قال: أنبأ أبو جعفر بن المسلمة، قثنا محمد بن عبد الله بن الحسين الدقاق، قثنا البغوي، قثنا الصلت بن مسعود، قثنا سفيان بن موسى، قثنا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . ((مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ، فَلْيَمُتْ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ شَفَعْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .
أيوب هذا هو أيوب بن موسى القرشي، وليس هو بالسختياني، فليعرف هذا. 419- وقد أخرج مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ الصَّلْتِ بِهَذَا الإِسْنَادِ غير هذا الحديث. 420- أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدُ بْنُ الحسن وعبد الرحمن بن مل، قالوا: أنبأ عبد الصمد بن أحمد، قال: أنبأ علي بن عمر السكري، قثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن عباد، قثنا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عطاء، عن محمد بن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخاف أهل المدينة أخافه الله [عز وجل] )) . 421- أخبرنا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأَصْفَهَانِيُّ إِمَلاءً بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَسَلَّمَ] فِي الرَّوْضَةِ، قال: أنبأ شكر بن حمد، قال:
أنبأ أَبُو سَعْدٍ الرَّازِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ، حدثكم عبد الرحمن بن أبي حاتم، قثنا سليمان بن داود، قثنا أبو غزية، قثنا عبد العزيز بن عِمْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غُبَارُ الْمَدِينَةِ شِفَاءٌ مِنَ الْجُذَامِ)) . 422- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا [أَوَّلَ] الثمر، جاؤوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ)) . قال: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ. 423- وفي أفراده من حديثه [أَيْضًا] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال:
((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ! هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ! وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَخْرُجُ أحدٌ مِنْهُمْ رغبتاً عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث، لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)) . 424- وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عن عائشة [رضي الله عنها] ، قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف، والمدينة افتتحت بالقرآن، وهي مهاجر رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وَمَحَلُّ أزواجه، وفيها قبره. 425-[وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمَدِينَةُ مُهَاجَرِي [ومضجعي] ، وَفِيهَا بَيْتِي، وَحَقٌّ عَلَى أُمَّتِي حِفْظُ جِيرَانِي)) .
426- وكان مالك بن أنس [رحمه الله تعالى] يَقُولُ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ: هِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ مَحْفُوفَةٌ بِالشُّهَدَاءِ، وَاخْتَارَهَا اللَّهُ عَزَّ وجل لنبيه، فجعل قبره بها، وبها رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
باب في كيفية فتح المدينة
بَابٌ فِي كَيْفِيَّةِ فَتْحِ الْمَدِينَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ تُفْتَحْ بِقِتَالٍ، إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ عَلَى النَّاسِ، وَيَقُولُ: ((أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي)) . فَلَقِيَ فِي بعض السنين بالموسم رهطاً من الخزرج، فدعاهم إلى الله تعالى، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلامَ، وَتَلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. وَقَدْ كانوا يستمعون مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثًا قَدْ أَظَلَّ زمانه، فقال بعضهم لبعض: يا قوم! والله إن هذا النبي الذي يعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ وَكَانُوا سِتَّةً: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وعوف بن عفراء، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي، وَجَابِرُ بن عبد الله بن رباب. فَلَمَّا انْصَرَفُوا ذَكَرُوا لِقَوْمِهِمْ مَا جَرَى لَهُمْ، ففشا الإِسْلامُ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ
دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا وَلِرَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فِيهَا ذِكْرٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، أَتَى الْمَوْسِمَ اثَنَا عَشَرَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الأُولَى، فَبَايَعُوهُ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم معهم مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ يُفَقِّهُ أَهْلَهَا، وَيُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ لَقِيَهُ فِي الْمَوْسِمِ الآخَرِ سَبْعُونَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، وَمَعَهُمُ امْرَأَتَانِ فَبَايَعُوهُ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ [أولاً] ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْغَارِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدِمَهَا يوم الاثنين لاثنتي عشر لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. وَقَدْ قَيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ: لِهِلالِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَمَّا أَرَّخُوا مِنَ الْهِجْرَةِ، رَدُّوا التَّارِيخَ إِلَى الْمُحَرَّمِ لأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ، وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْمَدِينَةِ، مَكَثَ بِقُبَاءَ ثَلاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ رَكِبَ يَوْمَ الْجَمُعَةِ، فَمَرَّ عَلَى بَنِي سَالِمٍ، فَجَمَعَ بِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلاهَا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ ركب من بَنِي سَالِمٍ، فَمَرَّتِ النَّاقَةُ حَتَّى بَرَكَتْ فِي بَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَابِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ كَوَامِلَ، وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ليلة خلت من رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةً إِحْدَى عَشْرَةَ.
باب تحريم المدينة وحدود حرمها
باب تحريم المدينة وحدود حرمها 427- ذَكَرْنَا فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ، أَّنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ)) . 428- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا)) . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَيْرٌ وَثَوْرٌ اسْمَا جَبَلَيْنِ بِالْمَدِينَةِ، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لا يَعْرِفُونَ جَبَلا بِهَا يُقَالَ لَهُ: ثور، إنما ثور بمكة. فنرى أن الحديث أصله مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى أُحُدٍ.
429- وفي ((الصحيحين)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا)) . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ)) . قَالَ أبو هريرة [رضي الله عنه] : وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حِمًى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَيْدَهَا وَشَجَرَهَا محرم، وهو قول مالك [رحمه الله] والشافعي وأحمد أيضاً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: هَلْ يُضْمَنُ صَيْدُهَا وَشَجَرُهَا بِالْجَزَاءِ أَمْ لا؟ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لا جَزَاءَ فيه، وبه قال مالك. وروي أنه يضمن، وللشافعي قولان كالروايتين. وإذا قلنا بضمانه، فجزاءه سلب القاتل بتملكه الَّذِي سَلَبَهُ، وَيُفَارِقُ مَكَّةَ
فِي أَنَّ مَنْ أَدْخَلَ إِلَيْهَا صَيْدًا، لَمْ يجب عليه رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ، ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِلرَّحْلِ وَالْوَسَائِدِ، وَمِنْ حَشِيشِهَا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعَلَفِ بِخِلافِ حَرَمِ مَكَّةَ.
أبواب ذكر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
باب ذكر أصله وبنائه
أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم باب ذِكْرِ أَصْلِهِ وَبِنَائِهِ 430- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصحيحين)) من حديث أنس [رضي الله عنه] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فنزل فَيِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى بني النجار، [فقال: ((يا بني النجار!] ثامنوني بحائطكم هذا)) . قالوا: لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل. قال أنس: فكان فِيهِ نَخْلٌ وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وخربٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ. قَالَ: فَصَفُّوا النخل قبلة له، وجعلوا عضادتيه حجارة. قالوا: وكانوا
يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: ((اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرَ الآخِرَةِ، فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ)) . وَفِي لَفْظٍ آخر: وجعلوا ينقلون الصخر وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ)) . 431- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ [رضي الله عنه] ، قَالَ: كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا كَادَتِ الشَّاةُ تَجُوزُهُ. 432- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حديث عائشة [رضي الله عنها] ، قَالَتْ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ، فَبَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِهِ، وَكَانَ مِرْبَدًا للتمر لسهيل وسهل غُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ [رضي الله عنه] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ: ((هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ)) . ثُمَّ دَعَا الْغُلامَيْنِ، فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ في بنائه، ويقول وهو ينقل اللبن:
هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ ربنا وأظهر وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَةِ ... فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةِ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثابت: بنى رسول الله مسجده سبعين ذراعاً في ستين ذراعاً أو يزيد. 433- أخبرنا ابن الحصين، قال: أنبأ ابن المذهب، قال: ثنا القطيعي، قثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قثنا يعقوب، قثنا أبي، عن صالح، قثنا نافع، أن عبد الله أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وسقفه الجريد، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بنيانه فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسُقُفَهُ بِالسَّاجِ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: جَعَلَ عُثْمَانُ طُولَ المسجد ستين ومئة ذراع، وعرضه خمسين ومئة، وجعل أبوابه ستة على ما كان في عهد عمر، وزاد فيه الوليد بن
عبد الملك، فصار طوله مئتي ذراع، وعرضه في مقدمة مئتين، وفي مؤخره مئة وثمانين. وقبر فاطمة عليها السلام فِي بَيْتِهَا الَّذِي أَدْخَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ مئة ذراع في ناحية الشام، فلم يَزِدْ فِي الْقِبْلَةِ وَلا فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. 434- وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، أَنَّهُ أَتَى بِسَفَطٍ مِنْ عُودٍ، فَقَالَ: اجمروا بِهِ الْمَسْجِدَ، لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. فَبَقِيَتْ سُنَّةً فِي الْخُلَفَاءِ يُؤْتَى كُلُّ عَامٍ بِسَفَطِ عُودٍ يُجَمَّرُ بِهِ الْمَسْجِدُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ عند المنبر من خلفه إِذَا كَانَ الإِمَامُ يَخْطُبُ. 435- وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] أَلْقَى الْحَصَى فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم] ، كان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود، نفضوا أيديهم فأمر عمر بالحصى، فَجِيءَ بِهِ مِنَ الْعَقِيقِ، فَبُسِطَ فِي مَسْجِدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب فضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
باب فضل الصلاة فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم 436- أخبرنا ابن عيسى السجزي، قال: أنبأ محمد بن عبد العزيز الفارسي، قال: أنبأ عبد الرحمن بن أبي شريح، قثنا يحيى بن صاعد، قثنا هارون بن موسى، قثنا عمر بن أبي بكر الموصلي، عن القاسم بن عبد الله، عن كثير المزني، عن نافع، عن ابن عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا كَأَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ. وَقَالَ فيه: ((أفضل من ألف صلاة)) . 437- أخبرنا عباد بن محمد الحسناباذي، قال: أنبأ الحسن بن عمر
الأصبهاني، قال: أنبأ أبو علي الحسن بن علي البغدادي، قثنا أبو بكر محمد بن علي الهمذاني، قثنا محمد بن عمران، قثنا يحيى بن نصر، قثنا موسى بن عبيدة، عن داود بن مدرك، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: ((أَنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَسْجِدِي خَاتَمُ مَسَاجِدِ الأنبياء، أحق المساجد أَنْ يُزَارَ وَتُرْكَبَ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ، صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)) . 438- أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الباقي، قالا: أنبأ أبو محمد الصريفيني، قال: أنبأ أبو حفص الكتاني، قثنا ابن أبي الرجال، قثنا أبو أمية، قثنا خالد بن مخلد، قثنا محمد بن هِلالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)) .
439- أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالا: أخبرنا أبو محمد الصريفيني، قال: أنبأ أبو بكر بن عبدان، قثنا عبد الواحد بن المهتدي بالله، قثنا أيوب بن سليمان الصغدي، قثنا أبو اليمان، قثنا الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أخرج إلى بيت المقدس، قال: ((فلم؟)) . قلت: للصلاة فيه. قال: ((الصلاة ها هنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة)) . 440- أخبرنا ابن عيسى الهروي، قال: أنبأ أبو عبد الله الفارسي، قال: أنبأ عبد الرحمن بن أبي شريح، قثنا البغوي، قثنا أبو الجهم الباهلي، قثنا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الله بن معبد، قال: اشتكت امرأة شكوى، فنذرت: لأن شَفَانِيَ اللَّهُ لأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَصَحَّتْ، وَتَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا أَتَتْ مَيْمُونَةَ زوج النبي صلى الله عليه وسلم [رضي الله عنها] فَأَخْبَرَتْهَا بِذَلِكَ، قَالتْ: انْطَلِقِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ
الرَّسُولِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((صَلاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ)) .
باب ذكر المنبر
بَابُ ذِكْرِ الْمِنْبَرِ 441- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ نَفَرًا جاؤوا إلى سهل بن سعد وقد تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ، مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ، ومن عمله؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مَنْ أَيِّ عود هو ومن عمله، ورأيت رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أَوَّلَ يوم جلس عليه. قال: فقلت له: فحدثنا. فَقَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم] إلى امرأة [قد سماها سهل] : ((انظري غُلامَكَ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا)) . فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلاثَ دَرَجَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهَ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، فوضعت هذا الموضع، فهي من طرفا الْغَابَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْغُلامِ الذي صنع المنبر مينا. وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صناخ غلام العباس ابن عبد المطلب.
442- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (( ... مِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي)) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: مَنْ لَزِمَ عِبَادَةَ اللَّهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، سُقِيَ مِنَ الْحَوْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. 443- حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ إِمْلاءً بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عند المنبر، قال: أخبرنا أَبُو عَدْنَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُطَهَّرُ وَأَبُو نَهْشَلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ عبد الله، قالوا: ثنا أبو بكر بن ريذة، قال: أنبأ الطبراني، قثنا نوح بن منصور، قثنا الحسن بن محمد الزعفراني، قثنا يحيى بن عباد، قثنا شُعْبَةُ، عَنْ خَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حفص بن عاصم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منبري على ترعة من ترع الجنة)) .
في الترعة ثلاثة أقوال ذكرها أبو عبيدة: الأول: أَنَّهَا الرَّوْضَةُ تَكُونُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ خَاصَّةً، فَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، فَهِيَ رَوْضَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْبَابُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الدَّرَجَةُ.
باب ذكر حنين الجذع حين انتقل عنه إلى المنبر
باب ذكر حنين الجذع حين انتقل عَنْهُ إِلَى الْمِنْبَرِ 444- أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وعبد الله بن محمد البيضاوي، ويحيى بن علي المدبر، قالوا: ثنا ابن النقور، قال: أنبأ ابن حبابة، قثنا البغوي، قثنا هدبة، قثنا حماد، عن عمار بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، وثابت عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ، فقال عليه [الصلاة] والسلام: ((لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ، لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) . 445- أخبرنا يحيى بن علي، قال: أنبأ جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ وعبد الباقي بن محمد، قالوا: أنبأ المخلص، قثنا البغوي، قثنا شيبان بن فروخ، قثنا مبارك بن فضالة، قثنا الحسن، عن أنس [رضي الله
عنه] ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خَشَبَةٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ: ((ابْنُوا لِي مِنْبَرًا)) . فَبَنَوْا لَهُ مِنْبَرًا لَهُ عَتَبَتَانِ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، حَنَّتِ الْخَشَبَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَنَسٌ: وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعْتُ الْخَشَبَةَ تَحِنُّ حَنِينَ الْوَالِهِ، فَمَا زَالَتْ تحن حتى نزل [صلى الله عليه وسلم] إليها، فاحتضنها، فسكنت. فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكا، ثُمَّ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ! الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] شوقاً إليه لمكانه من الله [عز وجل] ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَى لِقَائِهِ. 446- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرِ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فالتزمه. وَفِي لَفْظٍ: فَنَزَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ، وَسَارَّهُ بِشَيْءٍ.
447- وَفَيِ أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فلما وضع الْمِنْبَرُ، سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَسَكَنَ. وَفِي لَفْظٍ: فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا، حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ. وَفِي لَفْظٍ: فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يسكت، حتى استقرت.
باب ذكر الروضة
بَابُ ذِكْرِ الرَّوْضَةِ 448- حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأَصْبَهَانِيُّ إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم في الروضة، قال: أنبأ محمد بن أحمد بن الْمُطَهَّرُ وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ عبد الله وخجستة بنت محمد، قالوا: أنبأ أبو بكر بن ريذة، قال: أنبأ الطبراني، قثنا نوح بن منصور، قثنا الحسن بن محمد الزعفراني، قثنا يحيى بن عباد، قثنا شُعْبَةُ، عَنْ خَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصَمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنُ)) . 449- أَخْبَرَنَا علي بن عبد الله، قال: أنبأ أبو القاسم البسري، قال:
أنبأ أبو عبد الله بن بطة العكبري، قثنا القاضي المحاملي، قثنا البخاري، قثنا ابن أبي أويس، قثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجنة)) . 450- وبه حدثنا ابن بطة، قثنا عبد الله بن سليمان الغامي، قثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، قثنا محمد بن عمر، قثنا نافع بن ثابت بن الزبير، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَيَزِيدِ بْنِ رُومَانَ، عن عروة، عن جبير بن الحويرث، عن أبي بكر الصديق [رضي الله عنه] ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَا بَيْنَ مِنْبَرِي هَذَا وَقَبْرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ)) . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى: مَنْ لَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ، آلَتْ بِهِ الطَّاعَةُ إِلَى رَوْضَةٍ مِنْ رياض الجنة.
باب فضل صلاة الجمعة بالمدينة
بَابُ فَضْلِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ 451- أَخْبَرَنَا السِّجْزِيُّ، قال: أنبأ محمد بن عبد العزيز، قال: أنبأ ابن أبي شريح، قثنا يحيى بن صاعد، قثنا هارون بن موسى، قثنا عمر بن أبي بكر الموصلي، عن القاسم بن عبد الله، عن كثير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عن نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صَلاةُ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ كَأَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهَا)) .
باب فضل صوم رمضان بالمدينة
باب فضل صوم رمضان بالمدينة 452- أخبرنا السجزي، قال: أنبأ أبو عبد الله بن عبد العزيز، قال: أنبأ أبو محمد بن أبي شريح، قثنا يحيى بن صاعد، قثنا هارون بن موسى، قثنا [عمر بن أبي بكر] الموصلي، عن القاسم بن عبد الله، عن كثير بن عبد الله، عن نافع، عن ابن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صِيَامُ شَهْرِ رمضان في المدينة كَصِيَامِ أَلْفِ شَهْرٍ فِيمَا سِوَاهَا)) .
باب ذكر مسجد قباء
بَابُ ذِكْرِ مَسْجِدِ قُبَاءَ هَذَا الْمَسْجِدُ بَنَاهُ بنو عمرو بن عوف من الأنصار، وبعثوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ فَصَلَّى فِيهِ. 453- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي منصور، قال: أنبأ محمد بن أحمد الخياط، قال: أنبأ عبد الملك بن بشران، قال: أنبأ دعلج، قثنا ابن خزيمة، قثنا محمد بن يحيى، قثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عويم بن ساعدة [رضي الله عنه] ، أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأَهْلِ قُبَاءَ: ((إِنَّ اللَّهَ [تعالى] قد أحسن الثناء عليكم في الطهور، قال: {فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا} (إلى آخر الآية) ، ما هذا الطهور الذي أثني به عليكم؟)) .
قالوا: مَا نَعْلَمُ شَيْئًا، إِلا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا. 454- وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حديث ابن عمر [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُ قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا. 455- وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عمر، أنه كان يأتي قباء كُلَّ سَبْتٍ وَيَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ. 456- وَرَوَى أَبِوُ أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أبيه [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قال: ((من توضأ وأسبغ الْوُضُوءَ، وَجَاءَ مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ عُمْرَةٍ)) .
457- وَرَوَى أَبُو غُزَيَّةَ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخطاب [رضي الله عنه] يأتي قُبَاءَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فجَاءَ يَوْمًا فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ فِي أَصْحَابِهِ نَنْقُلُ حِجَارَتَهُ عَلَى بُطُونِنَا، يُؤَسِّسُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل يَؤُمُّ بِهِ الْبَيْتَ. وَمَحْلُوفُ عُمَرَ بِاللَّهِ: لَوْ كَانَ مَسْجِدُنَا هَذَا بطرفٍ مِنَ الأَطْرَافِ، لَضَرَبْنَا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الإِبِلِ. 458- وَرَوَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عن أبيها، قال: وَاللَّهِ، لأَنْ أُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ، لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الإِبِلِ. 459- وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابن عمر [رضي الله عنه] ، قَالَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ [رضي الله عنهما] .