الفقه الميسر

عبد الله الطيار

قسم العبادات

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمِ العِبَادَات الطَّهَارة - الأذَان - الصَّلاة - الجنَائز مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الأوَّل مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر قِسمُ العِبَادات الطَّهارة - الأذَان - الصّلاة - الجنَائز

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة

المقدمة الحمد لله جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأرسل إلينا أفضل رسله، وشرع لنا أكمل شرائع دينه عقيدةً ومنهاجَ حياةٍ بما أودع فيها من حكم وأسرار تضمن للبشرية سعادتها وفلاحها، وبما أقامها عليه من أسس وقواعد ومبادئ تكفل العدل والخير والمساواة. ولقد شمل الفقه الإسلامي كل نواحي الحياة الفردية والجماعية من شؤون اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها إبان عز الدولة الإسلامية، حيث قام الفقهاء المجتهدون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بدراسة كل ما يعترض حياة الناس من مسائل وقضايا، على ضوء أصول الشريعة وقواعدها، وبينوا أحكامها، وتم تدوين ذلك والعمل به، بل إن بعض الفقهاء قد تناول بحث بعض القضايا التي لم تقع بعدُ، وإنما بناء على افتراضات، وقد عده بعض الناس ترفًا فقهيًا. وذلك يرجع إلى أنهم قد قاموا ببيان الأحكام في النوازل والوقائع في عصرهم، وتجاوزوها إلى غيرها، وقد تم الاستفادة منها في العصور التالية لعصرهم عندما ضعفت الدولة الإسلامية وشمل الضعف جميع الأمور بما في ذلك جوانب الفقه. إن طلب العلم الشرعي من أشرف المطالب وأسمى الغايات، والمشتغل به مع إخلاص النية في أعلى درجات العبادة، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد يخرج يطلب علمًا إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، وسُلِكَ به طريقٌ إلى الجنة، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا

ولا درهمًا، ولكنهم ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (¬1). والفقه الإسلامي من أهم ميادين العلوم الشرعية، وقد جاءت الأدلة متضافرة في الحث على التفقه في دين الله ومعرفة أحكام الشريعة، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين" (¬3). وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قليل العلم خير من كثير العبادة" (¬4). وجاء في الحديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير العبادة الفقه" (¬5). وإن الفقه ثمرة العلوم كلها، قال ابن الجوزي (¬6): "أعظمُ دليل على فضيلة الشيء النظرُ إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه الخلائق أبدًا، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه ¬

_ (¬1) أورده الحافظ المنذري وقال: رواه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقيُّ، وإنما يروى عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عنه. قال البخاري: وهذا أصح. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/ 34). (¬2) سورة التوبة: 122. (¬3) رواه البخاري، انظر الصحيح مع الفتح (1/ 164)، ومسلمٌ انظر محمد حسن (2/ 718). (¬4) رواه الطبراني في الكبير وذكره الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. قال البيهقي: ورُوِّيناه صحيحا من قول مطرِّف بن عبد الله الشخير. (¬5) رواه البخاري في الأدب عن محجن بن الأدرع، وذكره الإمام أحمد في مسنده. جامع بيان العلم وفضله (1/ 21). (¬6) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 155).

بالقرآن أو الحديث أو باللغة" ثم قال: "على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيًّا عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهًا، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه؛ فإنه عز الدنيا والآخرة". وانطلاقا من هذه المكانة للفقه حرص العلماء على دراسة الفقه وتدوين فروعه، ووضعوا قواعد وضوابط تجمع فروعه المتناثرة مما سهل دراسة هذا الفن وضبط فروعه، والفقه كغيره من العلوم ينمو باستعماله ويضمر بإهماله، فقد مرت به أطوار نما فيها وترعرع وتناول كل مناحي الحياة، ثم عَدَتْ عليه العوادي من المتآمرين على شرع الله فتوقف ذلك النمو فترات، وكاد أن يقف في أخرى. والفقه الإسلامي تبع لشريعة الله التي أُبعدت عمدًا عن تنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم، واستبدلت بنظم وطرائق جاءت من الأعداء وقد لبست أثوابًا مختلفة وتشكلت بأنماط متباينة حسب مصالحهم، وهذا الإقصاء عن مناحي الحياة أَثَّر كثيرًا على نمو الفقه وإبداع الفقهاء، وعلى الرغم من الضعف الذي تعيشه الأمة في مناحي الحياة إلا أنه توجد مؤشرات ومبشرات هنا وهناك من حيث تنامي البحوث والدراسات للوقائع والنوازل (¬1) والحوادث التي تنزل بالأمة الإسلامية، وتطبيق الأصول والقواعد الشرعية عليها، وبيان الحكم الشرعي فيها، واستبعاد ما يخالف الشريعة الإسلامية وإيجاد البدائل لما يتعارض منها مع ذلك، سواء كان ذلك من قبل المجامع الفقهية أو الجهود المتمثلة في الرسائل والبحوث العلمية في الجامعات ومراكز البحوث. إن الفقه الإسلامي ثروة فكرية هائلة وتراث ضخم لم يستفد منه الكثيرون، وإن كل طالب علم لديه القدرة على توسيع دائرة الاستفادة من الفقه الإسلامي ¬

_ (¬1) مما أُلف في ذلك: الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد، فقه النوازل، بكر أبو زيد، وغيرها.

أسباب القيام بهذا المشروع وأهدافه

مسؤول عن هذا الأمر، وإن هذا المشروع المبارك لبنة في هذا الباب. أسباب القيام بهذا المشروع وأهدافه: 1 - إن كتب الفقه الإسلامي قد بلغت من الكثرة وقوة الأسلوب ما يجعل كثيرًا من المتخصصين يصعب عليه الرجوع إليها واستيعابها؛ لأن ذلك يحتاج إلى ممارسة عملية وفهم دقيق وتمييز صائب بينها، وإن في هذا الكتاب -بعون الله- ما ييسر الفهم والاستيعاب للأحكام الشرعية؛ لما يتميز به من وضوح في الأسلوب وحسن في الترتيب بعيدًا عن الغموض. 2 - شدة الحاجة إلى تيسير الفقه الإسلامي، وقد أشير إلى ذلك في كثير من المؤتمرات التي تناولت أمور الفقه، وكذلك بيان أحكام بعض الوقائع والحوادث المستجدة مع ربطها بما يشبهها من أبواب الفقه. 3 - انتشار التعليم والثقافة بين المجتمع رجالًا ونساء كما لم يكن من قبل، وهؤلاء يحتاجون معرفة ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، ومن هنا رأينا أن هذا المؤلف سيقدم لهم ما يكفيهم في ذلك -بتوفيق الله-. 4 - أنه من خلال معرفة وخبرة كل مِنا -سواء في مجال التأليف والتعليم والحياة العملية- فقد تم الاجتماع بيننا (المؤلفون)، وتم تدارس الوضع، وتحققت القناعة من الجميع بضرورة إيجاد كتاب شامل لأبواب الفقه (العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والقضاء وغيرها)، يتم فيه تيسير أبوابه للمختصين وغيرهم، وكل منا يعرف صاحبه، فنحن زملاء دراسة، وقد عقدنا العزم -بحول الله وقوته- على تقديم هذا المشروع على غيره من الأعمال العلمية الأخرى؛ لعموم الفائدة المتوخاة منه -بإذن الله- وقد أسميناه: (الفقه الميسر: موسوعة فقهية حديثة تتناول أحكام الفقه الإسلامي بأسلوب واضح للمختصين وغيرهم).

5 - إن في الكتابة بهذا الأسلوب السهل الممتنع مع ذكر آراء المذاهب الفقهية المشهورة ما أمكن ذلك وبيان الراجح منها -إثراءً للجوانب الفقهية وشمولًا لمختلف القضايا الهامة؛ إذ أن الأحكام لبعض المسائل قد ترد في مذهب دون غيره، إما بحكم المصلحة أو العرف أو غيرها، وفي ذلك استفادة أشمل وأعم؛ لأن الاقتصار على مذهب معين دون غيره لا يتسع لكل الأمور والمسائل التي تواجه المسلم في شؤون حياته. 6 - أنه يمكن الاستعانة بهذه الموسوعة في الدول الإسلامية وغيرها عند وضع أنظمةٍ وقوانينَ في مختلف جوانب حياة البشرية. 7 - أنه بتطور الحياة حدثت وقائع ونوازل وكثرت المعاملات المختلفة، مما يتطلب معه بيان الأحكام الشرعية لها؛ ليكون المسلم على دراية من موقف الإسلام منها وما يجوز وما لا يجوز، وكيفية تطبيق القواعد والمبادئ الشرعية عليها، وما تلحق به من أبواب الفقه المسماة الوارد ذكرها في الكتب الفقهية، أو لم تكن مندرجة تحت أسماء أبواب الفقه المعروفة، بل هي عقود جديدة (عقود غير مسماة) لا تندرج تحت مسميات أبواب الفقه المذكورة، ولكنها لا تخرج عن الأصول والقواعد الشرعية، فيحكم بجوازها؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" (¬2) أو كانت مخالفة فيقال بمنعها مع محاولة إيجاد البديل الذي يتفق والقواعدَ الشرعيةَ. 8 - أنه يمكن الاستفادة منها كمقرر لطلاب الدراسات الشرعية المتخصصة، ويمكن ترجمتها ونشر الاستفادة منها بين أبناء المسلمين من غير الناطقين باللغة العربية، كما أنه يمكن نشرها عن طريق الوسائل الحديثة كالإنترنت وغيرها. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 1. (¬2) رواه البخاري، في باب الإجارة (3/ 114).

منهجنا في هذا البحث

منهجنا في هذا البحث: 1 - حرصنا على ذكر آراء المذاهب وخاصة (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) بإيجاز شديد، بعيدًا عن المناقشات والاستطراد في ذكر الأدلة إلا عند الحاجة لذلك. 2 - اقتصرنا على المسائل الهامة في كل باب دون جزئيات الفروع التي يكفي عنها غيرها من المسائل المشهورة. 3 - حرصنا على ذكر آراء المجامع الفقهية وما عليه الفتوى ما أمكن ذلك؛ ليكون معينًا للقارئ في هذا الباب. 4 - ذكرنا الراجح فيما نرى الحاجة إلى ذكره؛ ليكون القارئ على بينة من أقوال أهل العلم، وما يترجح لنا قد يترجح لغيرنا خلافه، وكل يَدِينُ اللهَ بما يتبين له من خلال الأدلة الشرعية. 5 - رجعنا إلى المصادر المعتمدة في كل مذهب مع الاستفادة من الكتب العلمية المتميزة مما كتب في العصور المتأخرة، ولا سيما الرسائل العلمية والبحوث الجادة الأصيلة. 6 - لم نعتمد ترتيبًا معينًا لكتاب معين، ولم نأخذ بمسائل كتاب معين، وإنما أخذنا رؤوس مسائل كل باب وما نرى أنه مهم في نفس الباب والحاجة داعية إليه، بعيدًا عن المسائل التي قد لا تدعو الحاجة العملية لها، مع أهمية هذه المسائل وضرورة وجودها في مختلف كتب الفقه، لكن مشروعنا يختلف كثيرًا عن الكتب العلمية التي يتناولها الباحثون والدارسون على مختلف مستوياتهم.

7 - وحيث إن الهدف من هذا المؤلَّف هو فائدة المسلمين جميعًا أينما كانوا وفي أي وقت وجدوا، فإنا نأمل التعاون معنا بالاقتراحات البناءة المفيدة؛ ليعم النفع وتكثر الفائدة، وهو ما نسعى إليه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

كتاب الطهارة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الطهارة

الطهارة

كتاب الطهارة أولًا: تعريف الطهارة: الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار والأوساخ، سواء كانت هذه الأقذار والأوساخ حسية أو معنوية (¬1). فالحسية كطهارة الثوب والبدن مما يصاب به من الأقذار والأوساخ. أما الطهارة المعنوية فهي طهارة القلب مما يعلق به من شرك بالله والغل والبغضاء للمؤمنين (¬2). والواجب على كل مسلم أن يهتم بالطهارة المعنوية؛ لأنها أعظم من الطهارة الحسية، فطهارة القلب من الشرك في عبادة الله أو طهارته من الغل والحسد والبغضاء للمؤمنين، أهم من طهارة البدن، بل لا يمكن أن تنفع الطهارة الحسية مع وجود نجس الشرك. وإذا نظرت إلى حال الكثير من الناس رأيتهم يهتمون بطهارة الظاهر ولا يبالون بطهارة الباطن، مع أن طهارة الباطن هي الأصل، وطهارة الظاهر فرع عليها. الطهارة في الاصطلاح: قيل في تعريفها: هي عبارة عن غسل لأعضاء مخصوصة بصفة مخصوصة (¬3). وقيل: هي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث. وقيل كذلك: الطهارة هي: إزالة الحدث وإزالة النجس أو ما في معناها أو صورتها (¬4). فقولهم: "ارتفاع الحدث" المراد به زوال الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها. ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: طهر. (¬2) انظر في ذلك: الشرح الممتع (1/ 25). (¬3) انظر: التعريفات، للجرجاني (ص: 142). (¬4) انظر في ذلك: كشاف القناع (1/ 24)، حاشية الروض (1/ 56).

ثانيا: أقسام الطهارة

وقولهم: "وما في معناه" أي: ما كان في معنى ارتفاع الحدث، كغسل اليدين بعد القيام من النوم ليلًا، فهذه طهارة واجبة وليست بحدث. وقولهم: "وزوال الخبث" فالمراد بالخبث النجاسة، وسيأتي الكلام عنها -إن شاء الله-. ثانيًا: أقسام الطهارة: تنقسم الطهارة الحسية قسمين: طهارة حكمية، وطهارة حقيقية. 1 - فالطهارة الحكمية: المراد بها الطهارة من الحدث بنوعيه الحدث الأكبر والحدث الأصغر: فالحدث الأكبر المراد به حدث الجنابة والحيض والنفاس، أما الأصغر فيقصد به حدث البول والغائط والريح والمذي والودي. 2 - أما الطهارة الحقيقية: فالمراد بها الطهارة من النجاسة القائمة بالشخص أو الثوب أو المكان. ثالثا: أدلة مشروعية الطهارة: دل على مشروعية الطهارة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6.

رابعا: ما تشترط له الطهاوة

وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة بغير طهور" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (¬2). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة (¬3). رابعًا: ما تشترط له الطهاوة: 1 - الصلاة: يشترط لصحة الصلاة طهارة بدن المصلى وثوبه ومكانه من النجاسة؛ لما ذكرناه من الأدلة السابقة، ولقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬4)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعرابي: "أريقوا عليه ذنوبًا من ماء" (¬5). 2 - سجود التلاوة: اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة في سجود التلاوة، وذلك مبني على سجود التلاوة: هل هو صلاة، أم هو جزء من الصلاة فيشترط لصحته الطهارة، أو هو في معنى الصلاة فلا يشترط له الطهارة. فمن قال بأنه صلاة أو جزء من الصلاة اشترط له الطهارة، وبهذا قال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم (135). (¬3) الإجماع، لابن المنذر (ص: 29). الطبعة الثانية. (¬4) سورة البقرة: 125. (¬5) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، برقم (217).

3 - الطواف

الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). أما المالكية (¬3) فإنهم يرون عدم اشتراط الطهارة له، وهذا هو المختار عند شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله- ورجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬5)، وهو الراجح؛ لأنه ليس صلاة ولا جزءًا منها. 3 - الطواف: اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة للطواف: 1 - فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى اشتراط الطهارة للطواف، واحتجوا على اشتراطها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أحل الكلام فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير" (¬6)، (¬7). 2 - وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الطهارة في الطواف. وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن صالح العثيمين. والراجح: أنه لا بد من الطهارة للطواف، للحديث المذكور. خامسًا: ما تحصل به الطهارة: تحصل الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر بالماء أو ما يقوم مقامه وهو التراب. أما إزالة الخبث فاشترط الفقهاء له الماء، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في دم الحيض يصيب ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي (2/ 67)، (3/ 131) وحاشية الدسوقي (1/ 307). (¬2) المغني، لابن قدامة (1/ 620)، أسنى المطالب (1/ 103). (¬3) رد المحتار (1/ 515، 516)، تفسير القرطبي (7/ 358) وحاشية الدسوقي (1/ 307). (¬4) الاختيارات، لشيخ الإسلام (ص: 60). (¬5) الممتع في شرح زاد المستقنع (1/ 271). (¬6) الحديث أخرجه الترمذيّ (3/ 284)، الحاكم (2/ 267). والحديث مختلف في صحته. (¬7) انظر في ذلك حاشية الدسوقي (2/ 31)، المحلى على المنهاج (2/ 1003)، كشاف القناع (2/ 485)، المغني (3/ 377).

سادسا: اشتراط النية في طهارة الأحداث وطهارة النجاسات

الثوب: "تحتّه ثم تقرضه بالماء، ثم تنضحه (¬1)، ثم تصلي فيه" (¬2)؛ والشاهد هنا هو قوله: "بالماء" فهذا دليل على تعيين الماء لإزالة النجاسة، وهذا هو قول الشافعية (¬3) والمالكية (¬4) والحنابلة (¬5). وذهب الحنفية (¬6) -وبه قال شيخ الإسلام (¬7) وشيخنا (¬8) - إلى عدم اشتراط الماء لإزالة النجاسة، بل متى أزيلت النجاسة بأي مزيل آخر زالت وطهر المحل كالخل وماء الورد ونحوه مما إذا عصر انعصر. وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الماء في التطهير؛ لكونه أسرع وأيسر على المكلف. وهذا هو الراجح. سادسًا: اشتراط النية في طهارة الأحداث وطهارة النجاسات: اتفق الفقهاء على عدم اشتراط النية في تطهير النجاسة، ولكن اختلفوا في اشتراطها في طهارة الحدث: ¬

_ (¬1) قال النووي: ومعنى تحته: تقشره وتحكه وتنحته، ومعنى تقرضه: تقطعه بأطراف الأصابع مع الماء ليتحلل، وروي: تَقْرُضه، بفتح التاء وإسكان القاف وضم الراء، وروي بضم التاء وفتح القاف وكسر الراء المشددة: تُقَرِّضُه، ومعنى تنضحه: تغسله. شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 199). (¬2) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب غسل دم الحيض، برقم (225)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، برقم (291). (¬3) حاشيتا القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين (1/ 18). (¬4) الشرح الكبير (1/ 33، 34). (¬5) كشاف القناع (1/ 25). (¬6) فتح القدير (1/ 133). (¬7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 475). (¬8) الممتع (1/ 23).

1 - فذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى شرطيتها في طهارة الحدث. 2 - وخالف الحنفية (¬4) فقالوا بأن طهارة الحدث لا يشترط لها النية؛ لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لتصحيح العبادة. والراجح: اشتراط النية عند الطهارة من الأحداث، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬5). وأما قول الحنفية أن طهارة الأحداث ليست عبادة مستقلة فنقول: بل هي عبادة مستقلة، فالوضوء والغسل والتيمم عبادات مستقلة بدليل أن الله تعالى رتب عليها الفضل والثواب والأجر، وإذا كانت عبادة مستقلة صارت النية شرطًا لها. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 78). (¬2) المهذب (1/ 21). (¬3) كشاف القناع (1/ 86). (¬4) فتح القدير (1/ 21). (¬5) أخرجه البخاريّ، في باب بدء الوحي، برقم (1)، ومسلمٌ، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) واللفظ للبخاري.

باب المياه

باب المياه أولًا: أقسام المياه: قسم الفقهاء المياه التي يصح التطهر بها أو لا يصح التطهر بها إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس. والطهور: هو الماء الباقي على أصل خلقته كماء البحر، والخارج من الأرض وماء المطر وغير ذلك. وهذا النوع من الماء أجمع الفقهاء على أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره (¬1). والطاهر: هو الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه بغير نجاسة. أما في حكم استعمال هذا النوع من المياه فقالوا: إنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره. فيصح استعماله في العادات من شرب وطبخ ونحو ذلك، ولا يصح استعماله في العبادات من وضوء وغسل. والماء النجس: هو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة وقعت فيه، سواء كان هذا الماء قليلًا أو كثيرًا. وهذا النوع من المياه لا يجوز استعماله. فهذه هي أقسام المياه الثلاثة عند الحنابلة. وزاد بعض أهل العلم قسمًا رابعًا قالوا: الماء المشكوك فيه. وذهب الحنفية (¬2) وأحمدُ (¬3) في إحدى الروايتين عنه إلى أن أقسام المياه اثنان؛ ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 68، 69)، مواهب الجليل (1/ 43)، الروض المربع (1/ 11)، المغني (1/ 7)،المجموع (1/ 84) (¬2) بدائع الصنائع (1/ 51). (¬3) المغني (1/ 10).

ثانيا: ذكر بعض أحكام المياه

طهور، ونجس، أما الطاهر فهو قسم لا وجود له في الشريعة، والدليل على ذلك عدم الدليل، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، واختاره أيضا الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬2)، وهو الراجح. ثانيًا: ذكر بعض أحكام المياه: إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج: إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج كقطع الكافور ورواسب الدهن فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا النوع من المياه: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه يكون طهورًا لا يكره استعماله، وعللوا ذلك بأن هذا المتغير تغير عن مجاورة لا عن ممازجة، فلا يُسْلَبُ الماءُ صفتَه. 2 - وذهب الحنابلة -وهو المذهب عندهم- إلى أن هذا النوع من المياه طهور لكن يكره استعماله، وعللوا ذلك بأن هذا النوع من المياه وقع فيه الخلاف بين الفقهاء فيكره استعماله خروجًا من الخلاف (¬3). والصحيح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم كراهية استعمال هذا الماء، والتعليل بالخلاف لا يصح بل ليس الخلاف دليلًا شرعيًا تثبت به الأحكام، وهذا هو اختيار شيخنا -رحمه الله- (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (19/ 236). (¬2) الشرح الممتع (1/ 61)، مجموع فتاوى الشيخ (4/ 85). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 15)، البحر الرائق (1/ 71)، مواهب الجليل (1/ 54)، المجموع (1/ 156)، المغني (1/ 23) (¬4) الشرح الممتع (1/ 37)، مجموع فتاوى الشيخ (4/ 85).

حكم استعمال الماء المسخن بشيء نجس

حكم استعمال الماء المسخن بشيء نجس: اختلف الفقهاء (¬1) في الماء المسخن بنجس إذا كان الإناء محكمًا: 1 - فذهب الجمهور إلى عدم كراهة استعماله إذا كان الإناء له غطاء محكم؛ وذلك لأن الغالب على الظن عدم وصول النجاسة إليه، والعمل بغلبة الظن معمول به في الشريعة، ولذا لا يكره استعماله، وهذا هو إحدى الروايتين عن أحمد (¬2). 2 - وذهب أحمد في إحدى الروايتين -وهو المذهب- إلى كراهية استعمال المسخن بنجس؛ وذلك لاحتمال وصول النجاسة إليه، وعللوا ذلك أيضًا بأن استعمال النجاسة مكروه، والحاصل بالمكروه مكروه. الراجح: الصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم كراهية استعمال المسخن بالنجاسة؛ لما احتجوا به، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬3). حكم الماء إذا لاقته نجاسة فلم تغير أوصافه: اتفق الفقهاء على أن الماء إذا خالطته نجاسة وغيرت أحد أوصافه أنه ينجس، سواء كان الماء قليلًا أو كثيرًا، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك (¬4). لكنهم اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه على قولين: القول الأول: أن الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه فهو طاهر، ¬

_ (¬1) الدر المختار (1/ 80)، المجموع (1/ 134)، الإنصاف (1/ 48). (¬2) المغني (1/ 31). (¬3) الشرح المتع (1/ 39). (¬4) المغنى (1/ 23)، المجموع (1/ 112).

سواء كان كثيرًا أو قليلًا، وهذه رواية عن مالك (¬1) وإحدى الروايتين عن أحمد (¬2)، وبه قال بعض الشافعية (¬3)، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) والشيخ محمد ابن صالح العثيمين (¬5). القول الثاني: أن الماء إذا خالطته النجاسة فلم تغير أحد أوصافه فإنه ينظر إلى الماء من حيث القلة والكثرة، فإن كان الماء قليلًا فإنه ينجس، وإن كان كثيرًا فإنه لا ينجس، وهذا مذهب الحنفية (¬6) ورواية عن مالك (¬7)، والمذهب عند الشافعية (¬8)، والمشهور عند الحنابلة (¬9). الراجح: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬10)، وهذا يشمل القليل والكثير، ولكن يستثنى من ذلك ما تغير بالنجاسة، فقد انعقد الإجماع على نجاسته، ولأن الأصل في المياه الطهارة ولا يعدل عنها إلا بدليل، ولا دليل على ذلك. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (1/ 41). (¬2) الغني (1/ 23). (¬3) المجموع (1/ 112). (¬4) الاختيارات الفقهية (ص: 10)، مجموع الفتاوى (21/ 33). (¬5) الشرح الممتع (1/ 46 - 62). (¬6) بدائع الصنائع (1/ 71). (¬7) بداية المجتهد (1/ 41). (¬8) المجموع (1/ 112). (¬9) المغني (1/ 23)، ومراتب الإجماع، لابن حزم (ص: 36). دار ابن حزم للنشر، بيروت، ط/ أولى 1419 هـ. (¬10) أخرجه أحمد في المسند (3/ 6215)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة برقم (66)، والنسائيُّ في كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، برقم (326).

بيان حد القليل والكثير في المياه

أما حديث القلتين (¬1) فيجاب عنه بما يلي: أولًا: أنه حديث ضعفه كثير من أهل العلم؛ وذلك لاضطرابه. ثانيًا: على اعتبار صحته فإن لحديث القلتين مفهومًا ومنطوقًا؛ فمنطوقه: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومفهومه: أن ما دون القلتين ينجس، وهذا ليس على عمومه؛ لأنه يستثنى من ذلك: إذا كان الماء كثيرًا فتغيرت أوصافه بالنجاسة فإنه ينجس. ومن هنا يمكن الجمع بين الحديثين بأن يقال: ينجس إذا تغير ولا ينجس إذا لم يتغير؛ لأن منطوق حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" مقدم على مفهوم حديث القلتين. بيان حد القليل والكثير في المياه: اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال: الأول: ذهب الحنفية (¬2) إلى أن الماء القليل هو الذي إذا حُرِّك طرفه تحرك الطرف الآخر، سواء كان التحريك بالاغتسال أو باليد من غير اغتسال، ولا وضوء، وما لم يتحرك بتحريك طرفه فهو الكثير، ويعبرون عنه بأنه لا يخلص بعضه إلى بعض. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 107) رقم (5855)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، برقم (63)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء برقم (67) من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وصححه الألباني. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 71 - 72).

كيفية تطهير المياه النجسة

الثاني: وذهب المالكية (¬1) إلى أنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير، مستدلين بحديث: "إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه" (¬2). الثالث: وذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أن الماء إذا بلغ قلتين فهو كثير، أما إن كان دون القلتين فهو قليل، مستدلين بحديث: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬5)، وفي رواية: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" (¬6). وقد رجحنا سابقًا أن الماء لا ينجس، قليلًا كان أوكثيرًا، إلا إذا تغير بالنجاسة. كيفية تطهير المياه النجسة: اختلف الفقهاء في كيفية تطهير المياه النجسة: 1 - فذهب المالكية (¬7) إلى أن الماء النجس يطهر بصب الماء عليه ومكاثرته حتى تزول النجاسة، ولو زال تغيره بنفسه أو بنزح بعضه ففيه قولان عندهم. 2 - وذهب الشافعية (¬8) والحنابلة (¬9) إلى التفريق بين ما إذا كان الماء قلتين ¬

_ (¬1) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي (1/ 43). (¬2) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، باب الحياض برقم (521)، وضعفه الألباني. (¬3) المجموع (1/ 114). (¬4) المغني (1/ 25). (¬5) أخرجه أحمد (2/ 107)، رقم (5855)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء برقم (63)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (67) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني. (¬6) أخرجه الحاكم في كتاب الطهارة، برقم (463) وصححها ووافقه الذهبي. (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 46 - 47). (¬8) المجموع (1/ 132) (¬9) المغني (1/ 35)

فأكثر، أو هو دون القلتين. فإن كان دون القلتين فتطهيره يكون بالمكاثرة، وهل يشترط في المكاثرة كون الماء المتكاثر به طاهرًا؟ على قولين؛ فالشافعية يرون أنه لا يشترط كونه طاهرًا، بل تحصل المكاثرة بالماء النجس؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬1). ويرى الحنابلة اشتراط الطهارة للماء المتكاثر به. أما إذا كان الماء قلتين أو أكثر، فإن كان قدر القلتين فإنه إما أن يكون متغيرًا بالنجاسة أو غير متغير بها، فإن كان متغيرًا بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة أو تركه حتى يزول تغيره. وإن كان غير متغير بالنجاسة فإنه يطهر بالمكاثرة فقط. أما إذا كان الماء يزيد عن القلتين فإن كان غير متغير فإنه يطهر بالمكاثرة، وإن كان متغيرًا بالنجاسة فيكون تطهيره بأحد ثلاثة أمور؛ إما بالمكاثرة، أو تركه حتى يزول تغيره بمكثه، أو بالأخذ منه حتى يزول به التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدًا. ونرى أن تطهير الماء النجس بأي طريقة يحصل بها طهارته، سواء كان بالإضافة أو زوال تغيره بنفسه، أو ينزح منه ويبقى بعده كثير غير متغير، أو بغير ذلك من الوسائل التي تحصل بها طهارة الماء النجس؛ وذلك لأن الحكم متى ثبت بعلة زال بزوالها، فمتى زالت النجاسة فإنه يكون طاهرًا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 107) رقم (5855)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، برقم (63)، والترمذيُّ، في أبواب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (67) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني. (¬2) الشرح الممتع (1/ 66)، مجموع فتاوى الشيخ (4/ 89).

حكم الماء المستعمل

حكم الماء المستعمل: الماء المستعمل في طهارةٍ من الحدث أو إزالة نجس ولم تتغير أوصافه، اختلف فيه الفقهاء؛ فمذهب الحنفية (¬1) أنه يصلح لطهارة من خبث من حدث، وهذا هو المعتمد عندهم، فإنه يجوز إزالة النجاسة الحقيقية به. أما المالكية (¬2) فيرون أنه طاهر مطهر لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالات مندوبة مع وجود غيره إن كان يسيرًا، ولا يكره استعماله في إزالة نجاسة ونحوه. أما الحنابلة (¬3) فعندهم روايتان: الأولى أنه طاهر غير مطهر لا يرفع حدثًا ولا يزيل خبثًا، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة، والرواية الأخرى أنه طاهر مطهر وهذه اختارها شيخ الإسلام (¬4) -رحمه الله-، وشيخنا (¬5) -رحمه الله-، وهذا هو الراجح لأن الأصل بقاء الطهارة ولا يعدل عنها إلا بدليل شرعي، ولأنه ماء طاهر غسل به عضو طاهر، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا يجنب" (¬6) حكم الماء إذا خالطه طاهر: اتفق الفقهاء على أن الماء إذا خالطه طاهر ولم يتغير فيه شيء مع قلة الماء لم ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 89 - 90)، بدائع الصنائع (1/ 66 - 67). (¬2) الشرح الصغير (1/ 56). (¬3) المغني (1/ 18 - 21). (¬4) مجموع الفتاوى (20/ 519). (¬5) الشرح الممتع (1/ 37). (¬6) أخرجه أحمد (1/ 235)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، رقم (68)، والنسائيُّ في كتاب المياه (1/ 174)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (65) وقال حسنٌ صحيحٌ من حديث ابن عباس.

يمنع من الطهارة به، وكذا إذا خالطه طاهر ويمكن الاحتراز منه كالطحلب وأدران الشجر الذي سقط في الماء. لكنهم اختلفوا في حكم الماء الذي خالطه طاهر يمكن الاحتراز منه كالصابون والزعفران ونحوه فغير هذا الماء، فهنا اختلف في طهارة هذا الماء أهل العلم: 1 - الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) يرون أنه طاهر مطهر. 2 - وذهب المالكية (¬3) والشافعية (¬4) وأحمدُ في رواية عنه أنه طاهر غير مطهر، أي يستعمل في العادات كالطبخ والشرب، ولا يستعمل في العبادات كالوضوء والغسل. الراجح: هو القول الأول؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬5). فقد أمر الله تعالى باستعمال الماء عند إرادة الصلاة، ولم يبح التيمم إلا عند عدم وجوده والقدرة على استعماله، وقد جاء في سنن النسائي وغيره أن أم هانئ -رضي الله عنها- ذكرت: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين" (¬6)، فهذا حديث واضح الدلالة في جواز التطهر بالماء إذا خالطه شيء طاهر يمكن الاحتراز منه. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 62 - 72). (¬2) المغني (1/ 12 - 13). (¬3) أسهل المدارك (1/ 28). (¬4) المجموع (1/ 104). (¬5) سورة النساء: 43. (¬6) أخرجه النسائي، في كتاب الغسل والتيمم، باب ذكر الاغتسال في القصعة التي يعجن فيها، برقم (240)، والبيهقيُّ، في كتاب الطهارة، باب التطهير بالماء الذي خالطه طاهر لم يغلب عليه، برقم (18)

الفرق بين الطهور والطاهر عند من قال بهما

الفرق بين الطهور والطاهر عند من قال بهما: الفرق بين الماء الطهور والطاهر هو أن الماء الطهور يستعمل في العبادات وفي العادات، فيجوز الوضوء به والاغتسال من الجنابة والحيض، كما يجوز تطهير النجاسة به واستعماله في نظافة البدن والثوب من الأوساخ الظاهرة وغير ذلك. أما الماء الطاهر فإنه لا يصلح استعماله في العبادات من وضوء وغسل جنابة ونحوها، كما لا يصح تطهير النجاسة به، وإنما يصح استعماله في الأمور العادية من شرب وتنظيف بدن وثياب وعجن ونحو ذلك. هذه هي جملة فروق من يفرقون بين الطاهر والطهور، أما عند من قال بأن الطاهر لا وجود له في الشريعة فلا اعتبار عنده بهذه الفروق. حكم تطهر الرجل بفضل طهور المرأة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز استعمال الرجل فضل طهور المرأة. 2 - وذهب الحنابلة (¬1) إلى أن الماء إذا خلت به المرأة فهو طهور لكن لا يرفع حدث الرجل، واستدلوا على ذلك بحديث الحكم بن عمرو الغفاري قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" (¬2)، وبما جاء عنه أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: من نهيه أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعًا (¬3). الراجح: هو ما ذهب إليه الجمهور، ودليل ذلك ما يأتي: ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 85)، الإقناع (1/ 10). (¬2) أخرجه الترمذيُّ، في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة، برقم (64)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب الوضوء بفضل وضوء المرأة، برقم (82). (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب الوضوء بفضل وضوء المرأة، برقم (81)، والنسائيُّ، كتاب الطهارة، باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب، برقم (238).

حكم الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم ليل

1 - حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، فقالت: إني كنت جنبًا، فقال: "إن الماء لا يجنب" (¬1). 2 - اغتساله - صلى الله عليه وسلم - بفضل ميمونة (¬2). 3 - ما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعًا" (¬3). حكم الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم ليل: اختلف العلماء في الماء القليل الذي غمس فيه يد قائم من نوم ليل قبل غسله ثلاثًا: 1 - فذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) وهي رواية عن أحمد (¬7) واختارها شيخ الإسلام (¬8) -رحمه الله- وشيخنا (¬9)، إلى أنه طهور يرتفع به الحدث. 2 - وذهب الحنابلة (¬10) -وهو المذهب عندهم- إلى أن الماء طاهر غير مطهر، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، برقم (68)، والترمذيُّ، في كتاب باب ما جاء في الرخصة في ذلك برقم (65) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في الغسل، برقم (323). (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الغسل، باب وضوء الرجل مع المرأة، برقم (146). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 20)، الهداية (1/ 16). (¬5) بداية المجتهد (1/ 13). (¬6) المجموع (1/ 219، 412). (¬7) المقنع (1/ 67)، المغني (1/ 35). (¬8) الفتاوى (21/ 45). (¬9) الممتع (1/ 57). (¬10) الإنصاف (1/ 67)، شرح منتهى الإرادات (1/ 19)

حكم مياه الصرف الصحي والمجاري بعد تنقيتها

واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده" (¬1). الراجح: هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الحديث لا يدل على أن الماء سلبت طهوريته عند وضعِ القائم من نوم يدَه فيه، بل فيه النهي عن غمس اليد، ولم يتعرض للماء بذكر. حكم مياه الصرف الصحي والمجاري بعد تنقيتها: من الوسائل الحديثة ما تقوم به بعض المؤسسات من تنقية مياه الصرف الصحي والمجاري؛ بغرض التخلص من نجاستها بعدة وسائل فنية حديثة. وهذا الماء بعد تنقيته من العذرة والبول وكل أنواع النجاسة يصير طهورًا يجوز استعماله في إزالة الأحداث والأخباث وتحصل الطهارة به. جاء ذلك بقرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، والمنعقدة بمكة المكرمة في 13/ 7 / 1409 هـ. أما إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تنشأ عن استعمالها في الأكل والشرب فالواجب الامتناع عن استعماله محافظة على النفس وتفاديًا للأضرار التي تترتب على استعمالها في ذلك، لا لنجاستها. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (2468) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترًا، برقم (160)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، برقم (278). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 79) برقم (2468).

الماء المسخن عن طريق الشمس

الماء المسخن عن طريق الشمس: اختلف الفقهاء في حكم استعمال الماء المشمَّس على قولين: الأول: جواز استعماله مطلقًا من غير كراهية، وهو قول الحنابلة (¬1) وجمهور الحنفية (¬2)، وهو قول لبعض المالكية (¬3) والشافعية (¬4) كالنووي. القول الثاني: كراهة استعماله، وإلى هذا ذهب المالكية (¬5) وهو المعتمد عندهم، والشافعية (¬6) في المذهب، وبعض الحنفية (¬7). الراجح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ لضعف أدلة أصحاب القول الثاني؛ ولأن الكراهة تحتاج إلى دليل ولا دليل هنا على الكراهة، أما إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تحصل باستعماله فهنا تكون الكراهية كراهة طبية لا شرعية؛ لأنها لا تمنع من إكمال الوضوء أو الغسل لشدة حرارتها، فهنا نقول بكراهته؛ لعدم حصول الإسباغ الذي جاءت السنة بالحث عليه والأمر به. ماء زمزم وحكم استعماله للطهارة: اختلف أهل العلم في حكم استعمال ماء زمزم في الطهارة وإزالة النجاسة على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) المغني (1/ 17 - 20). (¬2) الدر المختار (1/ 27). (¬3) الشرح الكبير (1/ 42). (¬4) المجموع (1/ 87، 88). (¬5) الشرح الصغير (1/ 16) وحاشية الدسوقي (1/ 44). (¬6) مغني المحتاج (1/ 19). (¬7) رد المحتار على الدر المختار (1/ 27).

الأول: ذهب الحنفية (¬1) والشافعية وأحمدُ في رواية إلى جواز استعمال ماء زمزم في إزالة الأحداث، أما في إزالة النجاسات فيكره؛ تشريفًا وتكريمًا له. الثاني: ذهب المالكية (¬2) إلى جواز استعمال ماء زمزم من غير كراهية للطهارة من الأحداث وإزالة النجاسات. الثالث: ذهب الإمام أحمد (¬3) في رواية إلى كراهية استعمال ماء زمزم مطلقًا في إزالة الحدث والنجاسة، لقول العباس -رضي الله عنه-: "لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد، وهي لشارب ومتوضئ حل وبل" (¬4). والذي يظهر رجحان رأي المالكية؛ لعمومات النصوص. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 179)، ومغني المحتاج (1/ 20)، والمجموع (1/ 92). (¬2) حاشية العدوي ومعها كفاية الطالب (1/ 139). (¬3) منار السبيل (1/ 10). (¬4) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (2/ 58)، والفاكهي في أخبار مكة (2/ 63) برقم (1154).

باب في النجاسات

باب في النجاسات تعريف النجاسة: النجاسة في اللغة القذارة، يقال: "تنجس الشيء" أي: تلطخ بالقذر وصار نجسًا (¬1). أما في الشرع: فقد عرفها الفقهاء بأنها: "مستقذر يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص" (¬2)، أو هي: "صفة حكمية توجب لموضوعها منع استباحة الصلاة به أو فيه" (¬3). أقسام النجاسة: تنقسم النجاسة إلى قسمين: حكمية، وعينية. أ- فالنجاسة الحكمية: هي التي تقع على الشيء الطاهر فيتنجس بها، كالبول يصيب الثوب. ب- أما النجاسة العينية: فهي التي لا يمكن تطهيرها أبدًا؛ لأن عينها نجسة، كالكلب عند من يقول بنجاسة عينه. طهارة بعض الحيوانات ونجاستها: أولًا: الكلب. اختلف الفقهاء في نجاسة الكلب وطهارته: ¬

_ (¬1) المصباح المنير، مادة: نجس. (¬2) القليوبي على المنهاج (1/ 68). (¬3) الشرح الكبير (1/ 32).

أي الغسلات التي تغسل بالتراب عند ولوغ الكلب في الإناء؟

1 - فذهب الشافعية والحنابلة إلى القول بأن الكلب نجس العين، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب" (¬1). 2 - وذهب الحنفية (¬2) إلى أن الكلب ليس بنجس العين، وإنما سؤره ورطوبته نجسة؛ لأن الحديث إنما ورد في ولوغ الكلب لا في عينه، فتحمل النجاسة على سؤره ولعابه. 3 - وذهب المالكية في المشهور عندهم (¬3) إلى أن الكلب طاهر العين، وكذا عرقه ومخاطه ولعابه؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة. الراجح: هو مذهب الحنفية أن الكلب ريقه وبوله وروثه كل ذلك نجس. أما شعره فإنه طاهر، فمتى أصابت رطوبة شعره الثوب أو البدن لم ينجس بذلك؛ لأن الحديث إنما ورد في ولوغه، أما كونه نجس العين فلا يصح القول به؛ لأن الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل شرعي، وهذا القول هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله-. أيُّ الغسلات التي تغسل بالتراب عند ولوغ الكلب في الإناء؟ جاءت روايات في هذا الحكم متعددة: فإحدى الروايات جاء فيها: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب" (¬4) وفي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، برقم (170)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (279) واللفظ لمسلم. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 204). (¬3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 43، 44). (¬4) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (279) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

هل يشمل هذا الحكم الكلب المعلم؟

رواية أخرى: "إحداهن بالتراب" (¬1) وفي رواية: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب" (¬2). ومن هنا اختلفت أقوال أهل العلم في ذلك: قال ابن حجر -رحمه الله-: "فطريق الجمع أن يقال: إحداهن مبهمة، وأولاهن والسابعة معينة، و (أو) إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد أن يحمل على إحداهما؛ لأن فيه زيادة على الرواية المعينة ... ، وإن كانت شكًا من الراوي فرواية من عين ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية أولاهن، ورواية الثامنة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأحفظية والأكثرية ومن حيث المعنى؛ لأن ترتيب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى تنظيفية" (¬3). هل يشمل هذا الحكمُ الكلبَ المعلَّمَ؟ الجواب: نعم يشمله، فلا بد من غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب المعلم، فإن قال قائل: أليس في ذلك مشقة بالنسبة لما يباح اقتناؤه؟ قلنا: نعم، لكن تزول هذه المشقة بحماية الكلب من الأواني المستعملة بأن يخصص له أوانٍ لطعامه وشرابه. فإن قال قائل بأنه يلزم ما أمسكه كلب الصيد بفمه غسله سبعًا إحداهن بالتراب؟ قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأن هذا مما عفى عنه الشارع، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الولوغ ولم يذكر العض أو الإمساك بالفم، ولأن الصحابة أيضًا لم يثبت عنهم أنهم كانوا يغسلون ما أمسكه الكلب سبعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البزار من حديث أبي هريرة، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار (مجمع الزوائد 1/ 287) قال ابن حجر: إسناده حسن. (التلخيص 35). (¬2) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (280) عن عبد الله بن المغفل -رضي الله عنه-. (¬3) الشرح الممتع (1/ 416).

هل يقاس الخنزير على الكلب فيأخذ نفس الأحكام السابقة؟

هل يقاس الخنزير على الكلب فيأخذ نفس الأحكام السابقة؟ 1 - ذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أن الخنزير نجس نجاسة عينية، وكذلك جميع أجزائه وما ينفصل عنه كعرقه ولعابه، لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬4)، فالضمير في قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} يعود على عين الخنزير وجميع أجزائه. 2 - أما المالكية (¬5) فقالوا بأنه طاهر العين حال حياته، لأن الأصل في كل حي الطهارة والنجاسة عارضة، فطهارة عينه بسبب الحياة. الراجح: أن الخنزير نجس العين وكذا ما ينفصل منه من عرقه ولعابه وروثه وغير ذلك. هل القول بنجاسة عين الخنزير يلزم منه غسل الإناء سبعًا إذا ولغ فيه؟ الجواب: نقول بأن الصحيح من مذهب الحنابلة (¬6) وغيرهم أن نجاسة الخنزير كنجاسة الكلب تغسل سبعًا إحداهن بالتراب، لكن أكثر العلماء على أن الخنزير لا يغسل ما ولغ فيه سبعًا بل يكفي في غسله واحدة، وتذهب بذلك عين النجاسة لأن الحديث إنما ورد في الكلب، ولذلك جاء القرآن بذكر الخنزير فدل ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 82)، بدائع الصنائع (1/ 63). (¬2) المجموع (2/ 9). (¬3) كشاف القناع (1/ 81). (¬4) سورة الأنعام: 145. (¬5) الشرح الصغير (1/ 43). (¬6) كشاف القناع (1/ 182).

ثانيا: ميتة ما ليس له نفس سائلة.

على وجوده في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ألحقه بالكلب، ومن هنا كان الصحيح أن نجاسة الخنزير كسائر النجاسات لا تغسل سبع مرات. ثانيًا: ميتة ما ليس له نفس سائلة. تعريف ما ليس له نفس سائلة: هو ما ليس له دم يسيل منه إذا جرح أو قتل. حكم نجاسته: 1 - أكثر الفقهاء على أن ما ليس له نفس سائلة كالذباب والبعوض والصرصور والخنفساء ونحو ذلك، إذا وقعت في ماء يسير أو مائع فماتت فيه فإنه لا ينجس ما وقع فيه. استدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاء" (¬1)، ومعلوم أنه قد يفضي غمسه إلى موته، فلو كان ينجس بالموت لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغمسه إذا سقط في الماء. 2 - وفرق الحنابلة (¬2) في ذلك فقالوا: ما ليس له نفس سائلة نوعان؛ النوع الأول: ما يتولد من الطاهرات فهو طاهر حيًا وميتًا، والنوع الثاني: ما يتولد من النجاسات فهو نجس حيًا وميتا. وهذا التفريق عندهم مبني على مسألة وهي: هل النجاسة تطهر بالاستحالة أم لا؟ على خلاف بين الفقهاء: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاء، برقم (3142). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (1/ 39، 40).

ثالثا: ميتة الحيوان.

1 - فذهب الشافعي (¬1) إلى أنها لا تطهر بالاستحالة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد (¬2). 2 - وذهب أبو حنيفة (¬3) إلى أنها تطهر بالاستحالة، وهذه إحدى روايتين عن أحمد (¬4) ومالك (¬5)، واختارها شيخ الإسلام (¬6) -رحمه الله-. الراجح: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وشيخ الإسلام، فمتى سقط كلب أو خنزير أو سقطت ميتة وغير ذلك من الأعيان النجسة في ملاحة فصارت بعد ذلك ملحًا، فإنه يصير بتحلله طاهرًا. ومن هنا كان المتولد من النجاسات على الصحيح من قولي العلماء طاهرًا، فما ليس له نفس سائلة طاهر مطلقًا. ثالثًا: ميتة الحيوان. تعريف الميتة: الميتة هي: ما مات حتف أنفه -أي: بغير تذكية شرعية- وقد حرّم الله تعالى لحم الميتة فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ...} (¬7). ولما كانت الضرورة شيئًا خارجًا عن إرادة العبد واختياره أباح الله تعالى للإنسان حال اضطراره أكل من الميتة، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 13). (¬2) المغني (1/ 60). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 85). (¬4) المغني (1/ 60). (¬5) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 57). (¬6) مجموع الفتاوى (20/ 522). (¬7) سورة الأنعام: 145.

حكم ميتة الحيوان

إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1)، وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه. حكم ميتة الحيوان: ميتة الحيوان نجسة، لكن هل يجوز الانتفاع ببعض أجزائها كعظمها وريشها وقرنها وظفرها وجلدها وشعرها؟ نقول -وبالله التوفيق-: اختلف الفقهاء في حكم هذه الأشياء المذكورة في نجاستها وطهارتها: 1 - فذهب الحنفية (¬2) إلى أن شعر الميتة وعظمها وعصبها -على المشهور- وحافرها وقرنها الخالية من الدسومة، وكذا كل ما لا تحله الحياة وهو ما يتألم الحيوان بقطعه كالريش والمنقار -كل هذا طاهر-. 2 - أما المالكية (¬3) فقالوا: أجزاء الميتة نجسة إلا الشعر وما يشابهه من الريش. 3 - أما الشافعية (¬4) فقالوا بنجاسة هذه الأشياء المذكورة، وقالوا بأن إباحة هذه الأشياء في قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬5)، محمول على ما إذا أخذ بعد التذكية أو في الحياة على ما هو المعهود. 4 - أما الحنابلة (¬6) فقالوا بنجاسة العظم والقرن والظفر وأصول الشعر والريش إذا نتف وهو رطب أو يابس؛ لأن هذه الأشياء من جملة أجزاء الميتة. أما الشعر والصوف والوبر والريش فهي طاهرة في الحياة وبعد الممات، ولو ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 173. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 137 - 138). (¬3) الشرح الصغير (1/ 49 - 51)، حاشية الدسوقي (1/ 49 - 54). (¬4) الإقناع، للشربيني الخطيب (1/ 30). (¬5) سورة النحل: 80. (¬6) كشاف القناع (1/ 56، 57).

في طهارة جلد الميتة بالدباغ

كانت لحيوان غير مأكول كالهرة وما دونها في الخلقة؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬1)، فالآية سيقت للامتنان، والظاهر شمول الآية لحالتي الحياة والموت، وهذا هو الراجح. في طهارة جلد الميتة بالدباغ: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنابلة (¬2) إلى أن جلد الميتة النجسة لا يطهر بالدباغ، ويباح استعماله بعد الدبغ في يابس لا مائع، بشرط أن يكون الجلد لحيوان طاهر في الحياة، سواء كان مأكول اللحم كالشاة، أو لَا كالهرة. وقد استدل الحنابلة بما رواه أحمد وغيره عن عبد الله بن حكيم قال: "أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلام ألا تنتفعوا بإهاب ميتة ولا عصب" (¬3). وجه الدلالة عندهم من الحديث ما يلي: 1 - أن النهي يدل على التحريم. 2 - ولأن الميتة نجسة العين، ونجس العين لا يمكن تطهيره. 3 - ولأن الجلد جزء من الميتة فكان حرامًا، ولقد قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬4)، فلم يطهر بالدبغ كاللحم (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النحل: 80. (¬2) المغني (1/ 92)، الشرح الكبير (1/ 164)، الإنصاف (1/ 166). (¬3) أخرج أحمد (4/ 310)، وأبو داود، في كتاب الحمام، باب من روى ألا ينتفع بإهاب الميتة، برقم (4127)، (4128)، والترمذيُّ، في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، برقم (1729) وقال: حديثٌ حسنٌ (¬4) سورة المائدة: 3. (¬5) الانتصار في المسائل الكبار (1/ 158).

2 - وذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) وهو رواية عن أحمد (¬3) إلى أن جلد الميتة يطهر بالدباغ إلا جلد الخنزير والكلب؛ لنجاسة عينها، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، والشيخ ابن العثيمين (¬5)، دليل ذلك: 1 - ما رواه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: تُصدّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها" (¬6). 2 - وما روى أحمد وأبو داود والنسائيُّ عن ميمونة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة يجرونها فقال: "هلا أخذتم إهابها؟ قالوا: إنها ميتة، قال: يطهرها الماء والقرظ" (¬7). 3 - وما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬8)، فهذه الأدلة تدل على طهارة جلد الميتة إذا دبغ. ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (1/ 136). (¬2) المجموع (1/ 214، 221، 225). (¬3) المغني (1/ 66). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 90). (¬5) الشرح الممتع (1/ 98، 102). (¬6) أخرجه البخاريُّ، في كتاب البيوع، باب جلود الميتة قبل أن تدبغ برقم (2108)، ومسلمٌ، في كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (1/ 276) برقم (363) واللفظ لمسلم. (¬7) أخرجه أحمد (1/ 334)، وأبو داود، في كتاب، باب في أهب الميتة، برقم (4126)، والنسائيُّ، في كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، برقم (4248). (¬8) أخرجه مسلمٌ في صحيحه، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة (1/ 159) برقم (366).

في حكم لبن الميتة

في حكم لبن الميتة: اختلفت أقوال الفقهاء في حكم لبن الميتة: 1 - فذهب الحنفية (¬1) إلى القول بطهارة لبن الميتة، وبه قال الإمام أحمد (¬2) في إحدى الروايتين عنه، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3). 2 - وذهب مالك (¬4) والشافعيُّ (¬5) وإحدى الروايتين عن أحمد (¬6) -وهو المشهور في المذهب عندهم- إلى أن لبن الميتة وأنفحتها نجسة. حكم نجاسة الدم: قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ .....} (¬7). فالآية دلت على نجاسة الدم المسفوح، والدم منه ما هو نجس ومنه ما هو طاهر؛ أما الدم النجس فهو على درجتين في الحكم: الأول: نجس لا يعفى عن شيء منه مطلقًا، وهو الخارج من السبيلين، وكذا دم الميتة من حيوان لا يحل إلا بالذكاة. الثاني: نجس يعفى عن يسيره، وهو دم الآدمى عند من قال بنجاسته، وكل ما ميتته نجسة، وكذا ما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذكاة الشرعية. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 96 - 97). (¬2) المغني (1/ 61). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 102). (¬4) الشرح الصغير (1/ 20). (¬5) مغني المحتاج (1/ 80). (¬6) المغني (1/ 61). (¬7) سورة الأنعام: 145.

أما الدم الطاهر فمنه

أما الدم الطاهر فمنه: 1 - دم السمك؛ لأن ميتته طاهرة. 2 - دم ما لا يسيل دمه كدم البعوضة والبق والذباب. 3 - الدم الذي يبقى في العروق والقلب والطحال والكبد، فهذا طاهر سواء كان قليلًا أو كثيرًا. حكم دم الآدمي: اختلف الفقهاء في نجاسة دم الآدمي: 1 - فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى القول بنجاسته، إلا أنه يعفى عن يسيره، واستثنوا من ذلك دم الشهيد، فقالوا بطهارته ما دام عليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لقتلى أحد: "زَمِّلوهم بدمائهم؛ فإنه ليس كَلْمٌ يُكْلَمُ في الله إلا يأتي يوم القيامة يَدْمَى، لونه لون الدم وريحه ريح المسك" (¬5). 2 - ذهب بعض الفقهاء إلى القول بطهارة دم الآدمي عدا دم الحيض والنفاس والاستحاضة، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: 1 - أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة، ولا نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الدم إلا دم الحيض مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح ورعاف وحجامة وغير ذلك، فلو كان نجسًا لبينه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحاجه تدعو إلى ذلك. ¬

_ (¬1) الاختيار شرح المختار (1/ 8، 30، 31). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 57). (¬3) الإقناع، للشربيني (1/ 82، 83). (¬4) كشاف القناع (1/ 190، 191). (¬5) أخرجه النسائي، في كتاب الجنائز، باب مواراة الشهيد في دمه، برقم (2002) وصححه الألباني.

هل يقاس دم الآدمي على دم الحيض؟

2 - أن المسلمين ما زالوا يصلون في جراحاتهم، كما ذكر ذلك الحسن البصري -رحمه الله- وقد يسيل منهم الدم الكثير الذي ليس محلًا للعفو. 3 - وروى أبو داود في سننه: "أن أحد الصحابة قام يصلي في الليل، فرماه المشرك بسهم فوضعه فيه، فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دمًا" (¬1)، فلو كان الدم نجسًا لانصرف من صلاته، ولكن لعلمهم وفقههم بطهارته لم ينصرفوا من صلاتهم. 4 - أن الآدمي أجزاؤه طاهرة، فلو قطعت يده لكانت طاهرة، وهذه اليد تحمل دمًا، وربما يكون الدم كثيرًا، فإذا كان العضو أو الجزء الذي يقطع من الإنسان طاهرًا وهو يعد ركنًا من بنية الإنسان، فالدم الذي ينفصل منه من باب أولى. هل يقاس دم الآدمي على دم الحيض؟ الجواب: لا يقاس ذلك؛ لأن بينهما فروقًا منها: 1 - أن دم الحيض دم طبيعة وجبلة للنساء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" (¬2) فبين أنه مكتوب. 2 - أن دم الحيض دم غليظ نتن له رائحة مستكرهة، فيشبه البول والغائط. 3 - أن دم الحيض يخرج من السبيل، ولا يصح قياس الدم الخارج من غير السبيلين على الدم الخارج من السبيلين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، في باب الوضوء من الدم برقم (198) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض، برقم (290)، (291)، (300)، ومسلمٌ، في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، برقم (1211).

بول وروث ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه

الراجح من القولين: وبالنظر إلى هذه الأدلة يتبين لنا أن الصحيح من القولين هو طهارة دم الآدمي، عدا دم الحيض والنفاس والاستحاضة وغير ذلك مما خرج من السبيلين. بول وروث ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه: أولًا: بول وروث مأكول اللحم: اختلف الفقهاء في نجاسة بول وروث مأكول اللحم: 1 - فذهب المالكية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى طهارتهما في حياة الحيوان أو بعد ذكاته، واستدلوا على ذلك بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمر العُرَنِيِّينَ أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها" (¬3)، قالوا: فلو كان بولها نجسًا لما أمرهم بالشرب منها، وكذا لما سئل عن الصلاة في مرابض الغنم أجابهم بنعم، صلوا في مرابض الغنم (¬4)، وهذه المرابض محل بول الغنم وروثها. 2 - وذهب الشافعية (¬5) إلى أن بول حيوان مأكول اللحم وروثه نجس. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 51)، الشرح الصغير (1/ 47). (¬2) المغني (1/ 731 - 833)، مطالب أولي النهى (1/ 234) (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، برقم (231)، ومسلمٌ، في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب حكم المحاربين والمرتدين، برقم (1671) (¬4) أخرجه البخاريُّ، في أبواب المساجد، باب الصلاة في مرابض الغنم، برقم (419)، ومسلمٌ، في كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم (360) واللفظ لمسلم. (¬5) الاختيار شرح المختار (1/ 30، 33)، جواهر الإكليل (1/ 9).

ثانيا: بول وروث ما لا يؤكل لحمه

والراجح من القولين: هو الأول، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته، (يعني بول وروث مأكول اللحم)، بل القول بنجاسته قول مُحْدَثٌ لا سلف له من الصحابة" (¬1). ثم إن القول بطهارتها تمسكًا بالأصل واستصحابًا للبراءة الأصلية، والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة، فلا يقبل قول مدعيه إلا بدليل يصح للنقل عنهما وليس هناك دليل. ثانيًا: بول وروث ما لا يؤكل لحمه: اتفق الفقهاء على نجاسة بول الآدمي وعذرته، كما اتفقوا على نجاسة بول وروث ما لا يؤكل لحمه، لكن يعفى عن اليسير من ذلك؛ لمشقة التحرز منه. ذكر بعض ما اختلف فيه الفقهاء في النجاسات مع بيان الراجح: طهارة الآدمي ونجاسته: اتفق الفقهاء على طهارة الآدمي حيًا سواء كان مسلمًا أو كافرًا، واختلفوا في نجاسته ميتًا: 1 - فقال جمهور الفقهاء بالطهارة. 2 - وذهب عامة الحنفية إلى القول بالنجاسة، وقالوا بأنه إذا غسل يحكم بطهارته إذا كان مسلمًا؛ كرامة له، وأما إن كان كافرًا فإنه لا يطهر بالغسل. والراجح: طهارة الآدمي مطلقًا سواء كان حيًا أو ميتًا، مسلمًا كان أو كافرًا؛ ¬

_ (¬1) الأخبار العلمية من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بتعليق الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ص: 42).

القيء

لاستوائهما في الآدمية وفي حال الحياة. القيء: 1 - ذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى القول بنجاسة القيء، وعللوا ذلك بأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد، فكان نجسًا. 2 - أما الحنفية (¬3) فقالوا بأنه نجس إن كان مِلْءَ الفم أما دونه فطاهر. أما المالكية (¬4) فقالوا: ينظر إلى القيء؛ فإن كان متغيرًا لونه إلى صفراء أو بلغم ولم يتغير عن حالة الطعام، فهو طاهر، أما إذا تغير بحموضة أو نحوها، فهو نجس. 3 - أما ابن حزم (¬5) فقد قال بطهارة القيء، وذهب إلى ذلك الشوكاني (¬6) والصديق حسن خان (¬7)، واستدلوا على ذلك بأن الأصل الطهارة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه، وهذا هو الراجح. المني والمذي والودي: أما المني فقد اختلف الفقهاء في نجاسته أو طهارته: 1 - فذهب الحنفية (¬8) والمالكية (¬9) إلى نجاسته. ¬

_ (¬1) المهذب (1/ 53 - 54). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (1/ 175، 176). (¬3) فتح القدير (1/ 141). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 51). (¬5) المحلى (1/ 255). (¬6) السيل الجرار (1/ 97). (¬7) الروضة الندية (1/ 17). (¬8) حاشية ابن عابدين (1/ 208). (¬9) حاشية الدسوقي (1/ 56).

2 - وذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى طهارته وهو الراجح. ودليل طهارة المني ما يلي: أولًا: أن الأصل في الأشياء الطهارة، فمن ادعى نجاسة شيء فعليه الدليل. ثانيًا: أن عائشة-رضي الله عنها- كانت تفرك المني اليابس من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وتغسل الرطب (¬4)، ولو كان نجسًا ما اكتفت فيه بالفرك بل كان لا بد من غسله كدم الحيض. ثالثًا: أن هذا الماء أصل عباد الله المخلصين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتأبى حكمة الله أن يكون أصل هؤلاء البررة نجسًا (¬5). أما المذي والودي فكلاهما نجس باتفاق الفقهاء؛ لأنهما يخرجان من سبيل الحدث، ولا يخلق منها طاهر، فهما كالبول، ولقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا بأن يغسل ذكره ويتوضأ حينما كان يصاب بالمذي، فعن علي -رضي الله عنه- قال: كنت رجلًا مَذَّاءً وكنت أستحي أن أسأل رسول الله؛ لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: "توضأ واغسل ذكرك" (¬6). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 80). (¬2) الفروع (1/ 247)، الإنصاف (1/ 340). (¬3) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم (288). (¬4) أخرجه البخاريُّ، كتاب الطهارة، باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة، برقم (229، 230)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم (289). (¬5) انظر في أدلة طهارة المني في: بدائع الفوائد (2/ 119 - 126)، الممتع في شرح زاد المستقنع (1/ 454 - 455). (¬6) أخرجه البخاريّ، في كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، برقم (266).

رطوبة فرج المرأة

رطوبة فرج المرأة: اختلف الفقهاء في رطوبة فرج المرأة: 1 - فذهب المالكية (¬1) إلى أن رطوبة فرج المرأة نجسة. وهو إحدى الروايتين عن أحمد (¬2). 2 - أما الشافعية (¬3) والصحيح في مذهب الحنابلة (¬4) فقالوا بطهارة رطوبة فرج المرأة، وهذا هو الراجح. هل تنقض الرطوبة الوضوء؟ القول بأنها تنقض الوضوء محل خلاف بين أهل العلم: 1 - فذهب ابن حزم (¬5) إلى القول بأنها لا تنقض الوضوء؛ لأنها ليست ببول ولا مذي، ومن قال بالنقض فعليه الدليل بل هو كالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى كالعرق. 2 - ذهب الجمهور (¬6) إلى القول بأن هذه الرطوبات الخارجة من الفرج تنقض الوضوء، وهذا هو الراجح؛ لأنها خارجة من أحد السبيلين ولا يلزم من القول بطهارتها عدم القول بنقض الوضوء بها، فهذه الريح التي تخرج من الدبر تنقض الوضوء مع كونها طاهرة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 57)، مواهب الجليل (1/ 105). (¬2) كشاف القناع (1/ 195)، الإنصاف (1/ 341). (¬3) مغني المحتاج (1/ 81)، نهاية المحتاج (1/ 228 - 229). (¬4) كشاف القناع (1/ 81)، مطالب أولي النهى (1/ 237). (¬5) المحلى، لابن حزم (1/ 255). (¬6) انظر: المغني (1/ 230)، المجموع (2/ 6).

الخمر

الخمر: 1 - ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى القول بنجاسة الخمر كنجاسة البول والدم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬2)، والرجس في اللغة الشيء القذر النتن. 2 - وذهب بعض الفقهاء (¬3) إلى القول بطهارة الخمر، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وهو الراجح؛ لأن الأصل الطهارة حتى يقوم الدليل. أما الآية التي احتج بها الجمهور فالمراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية لا الحسية؛ وذلك لوجهين: الأول: أنها قرنت بالأنصاب والأزلام والميسر ونجاسة هذه معنوية. الثاني: أن الرجس هنا قيد بقوله تعالى {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فهو رجس عملي وليس رجسًا عينيًا تكون به هذه الأشياء نجسة (¬4). حكم استعمال ما غالبه نجاسة: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الحنفية (¬5) إلى كراهة استعمال ما غالبه نجاسة إذا لم يعلم بنجاسته، أما ¬

_ (¬1) وبهذا قال الأئمة الأربعة وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين (5/ 289)، المجموع (2/ 564)، المغني (8/ 318)، مغني المحتاج (1/ 188)، المحلى (1/ 163)، مجموع الفتاوى (21/ 481). (¬2) سورة المائدة: 90. (¬3) وبهذا قال ربيعة شيخ مالك والصاغاني والشوكاني، ونصر هذا القول الشيخ ابن العثيمين في الممتع (1/ 429 - 432). (¬4) انظر في ذلك: الممتع، للشيخ محمد بن صالح العثيمين (1/ 429 - 432). (¬5) الفتاوى الهندية (5/ 347).

حكم الزرع إذا كان سقياه مياها نجسة

إذا علم فإنه لا يجوز استعماله، ومثلوا لذلك باستخدام أواني المشركين وكذا سراويل المشركين، فلا يجوز استخدام الأواني في الأكل والشرب أو الصلاة بسراويلهم إذا كان عالمًا بحصول النجاسة فيها، أما إذا لم يعلم فيجوز الاستعمال مع الكراهة. 2 - وذهب المالكية (¬1) إلى حرمة استعمال ما غالبه النجاسة، فيحرم أن يصلى في ملابس الكفار عندهم. 3 - ويرى الشافعية (¬2) أنه لو غلب النجاسة في شيء الأصل فيه الطهارة حكم له بالطهارة؛ عملًا بالأصل. 4 - أما الحنابلة (¬3) فيفرقون في هذه المسألة بين الجاهل بحال النجاسة والعالم بها، فمن جهل حالها استعملها كاستخدام أواني الكفار وثيابهم وكذا آنية مدمني الخمر وثيابهم وآنية من يلامس النجاسة كثيرًا وثيابهم، كل هذه الأشياء طاهرة إذا جهل حالها، فيجوز استعمالها مع الكراهة احتياطًا للعبادة. أما إذا علم بنجاستها فلا يجوز استعمالها ولا تصح الصلاة في ثيابهم أو سراويلهم. حكم الزرع إذا كان سقياه مياهًا نجسة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) إلى أن الزروع والثمار التي تنمو وتنضج على مياه نجسة أنها لا تنجس ولا يحرم تناولها. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 61 - 62). (¬2) مغني المحتاج (1/ 29). (¬3) كشاف القناع (1/ 53). (¬4) حاشية ابن عابدين (5/ 217). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 61). (¬6) روضة الطالبين (1/ 17).

حكم استعمال العطورالطيارة الكولونيا وما شابه ذلك

2 - وذهب الحنابلة (¬1) إلى القول بحرمة المتغذي من الزروع على المياه النجسة، واحتجوا لذلك بدليل وتعليل: أما الدليل: فهو ما رواه البيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كنا نكري أرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس" (¬2). أما التعليل: فعللوا بأنها تتغذى على النجاسات، وأجزاؤها تتحلل فيها، والاستحالة لا تطهير. حكم استعمال العطورالطيارة الكولونيا وما شابه ذلك: اختلف الفقهاء في حكم استعمال هذه الأنواع من العطور أي المضاف إليها مواد متطايرة والغالب فيها أنها تسكر. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى نجاستها، وبالتالي حرمة استعمالها، وقد نصر ذلك العلامة الشنقيطي (¬3) في أضواء البيان. وذهب بعضهم إلى جواز استعمالها، ورجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬4)، ولكن الاحتياط تركها وعدم استعمالها، وهذا هو رأي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬5). الراجح: أن تركها أحوط وأسلم وأبرأ للذمة. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة [(11/ 72 - 73)، (1/ 256)]، الإنصاف (10/ 368). (¬2) أخرجه البيهقيُّ في السنن، كتاب المزارعة، باب ما جاء في قطع السدرة، برقم (11536). (¬3) أضواء البيان (2/ 129). (¬4) مجموع فتاوى الشيخ (11/ 251). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ -رحمه الله- (10/ 41).

آداب قضاء الحاجة

آداب قضاء الحاجة ما يقوله الإنسان عند دخول الخلاء والخروج منه: 1 - يسن لمن أراد دخول الخلاء أن يقدم رجله اليسرى ويقول: "اللَّهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" (¬1)، وإذا كان في البر استعاذ عند الجلوس لقضاء الحاجة. 2 - وعند خروجه من الخلاء يقدم رجله اليمنى ثم يقول: "غفرانك" (¬2)، وإن زاد "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" (¬3) فلا بأس، لكن على سبيل الدعاء فقط، أما جعل ذلك سنة فلا يصح؛ لأن الحديث الوارد في ذلك فيه ضعف. 3 - السنة أن يبول الرجل قاعدًا، ويجوز له أن يبول واقفًا؛ لحديث حذيفة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، برقم (142)، ومسلمٌ، في كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، برقم (375) (¬2) أخرجه أحمد في المسند 6/ 155، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، برقم (30)، والترمذيُّ، في كتاب أبواب الطهارة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (7)، وقال: حسن غريب. والنسائيُّ في السنن الكبرى في كتاب عمل اليوم واليلة، برقم (9907)، وابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (300)، وابن خزيمة، في كتاب الوضوء، باب القول عند الخروج من المتوَضَّأ، برقم (90)، وابن حبان، في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم (1444)، والحاكم في المستدرك، في كتاب الطهارة، برقم (562، 563)، وقال: حديث صحيح. قال ابن الملقن في تحفة المحتاج (1/ 167): "رواه الأربعة، وحسنه الترمذيُّ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم". (¬3) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء برقم (301)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 44): هذا حديث ضعيف. وقال ابن الملقن في تحفة المحتاج 1/ 168: رواه ابن ماجه، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المخزومي، وهو ضعيف، لكنه من فضائل الأعمال.

-رضي الله عنه- حيث قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائمًا" (¬1). وجواز البول قائمًا مشروط بأمرين: الأول: أن يأمن التلوث لثيابه. الثاني: أن يستر عورته عن الناس. 4 - يحرم الدخول بالمصحف الحمام إلا أن يخاف عليه من السرقة، فيجوز له أن يدخل به لكن بعد إفراغ وسعه في عدم الدخول به، فإن كان في مكان عام من الناس أعطاه أحدًا فيمسكه له حتى يخرج. 5 - يكره دخول الحمام بشيء فيه ذكر الله -تعالى- إلا لحاجة. 6 - الواجب على من أراد أن يقضي حاجته في الفضاء أن يبتعد عن الناس ويستر منهم. 7 - يحرم على من أراد قضاء حاجته أن يتخلى في الطرق والظلال والموارد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا اللعَّانَيْنِ، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم" (¬2). 8 - لا يجوز أن يبول في الماء الراكد أو المُسْتَحَمِّ الذي يستحم فيه، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وجاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في مُسْتَحَمِّهِ ثم يغتسل فيه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب المظالم، باب الوقوف والبول عند سباطة قوم، برقم (2339)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (273) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، برقم (269). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد برقم (281). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في البول في المستحم برقم (27)، وصححه الألباني.

9 - استقبال القبلة: اختلف الفقهاء في حكم استقبال القبلة لمن أراد قضاء حاجته: فقيل: يحرم استقبالها واستدبارها مطلقًا. وقيل: يحرم في الفضاء، ويجوز في البنيان. والصحيح: هو حرمة استقبال القبلة في الفضاء وكذلك استدبارها، أما في البنيان فيجوز فيه استدبارها واستقبالها، وهذا رواية عن الحنابلة (¬1). ويرجح الشيخ محمد بن صالح العثيمين جواز الاستدبار دون الاستقبال (¬2). 10 - لا يجوز الاستجمار باليمين حال قضاء الحاجة؛ لحديث سلمان -رضي الله عنه-: "نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" (¬3). 11 - متى استجمر من قضى حاجته فلا يستجمر بأقل من ثلاثة أحجار؛ لحديث سلمان المتقدم، فإن كان حجرًا واحدًا له ثلاث شعب جاز له أن يستنجي به؛ لأن العبرة بجعل المسح ثلاثًا. ¬

_ (¬1) المبدع (1/ 86). (¬2) الشرح الممتع (1/ 144). (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، برقم (236)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم (262).

باب الوضوء

باب الوضوء تعريف الوضوء: الوُضوء بالضم الفعل، وبالفتح (الوَضوء) ماؤه ومصدر أيضًا، أو لغتان: قد يعني بها المصدر، وقد يعني بها الماء (¬1). قال الحافظ: "وهو مشتق من الوضاءة، وسمي بذلك؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئًا" (¬2). أما في الشرع: فقد عرفه الفقهاء بأنه "استعمال الماء في أعضاء مخصوصة؛ وهي الوجه واليدان والرأس والرجلان بكيفية مخصوصة"، هذا هو التعريف الذي عليه جمهور الفقهاء (¬3). والأولى أن يقال في تعريفه: "التعبد لله تعالى بغسل أعضاء مخصوصة بكيفية مخصوصة"؛ حتى يتميز بذلك العبادات عن غيرها من العادات (¬4). شروط الوضوء: شروط الوضوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: شروط وجوب، شروط صحة، شروط وجوب وصحة. ¬

_ (¬1) لسان العرب (1/ 194). (¬2) فتح الباري (1/ 232). (¬3) انظر في ذلك: الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 163)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 44)، حاشية الروض (1/ 128، 129). (¬4) الشرح الممتع (1/ 183).

أولا: شروط وجوب

أولًا: شروط وجوب: المراد بها هي الشروط التي توجب على المكلفين الوضوء بحيث إذا فقدت هذه الشروط أو بعضها لم يجب الوضوء، وهذه الشروط هي: 1 - البلوغ: فلا يجب الوضوء على من لم يبلغ الحلم، وذلك لأنه غير مكلف لا يلزمه شيء من الواجبات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يُفِيقَ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" (¬1). إذا بلغ الصبي بعد أن توضأ ساعة، هل يلزمه إعادة الوضوء للصلاة؟ الجواب: هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه لا يلزمه الإعادة؛ لأنه أدى الوضوء على الوجه المطلوب منه شرعًا فسقط عنه الطلب. 2 - ومن شرط الوجوب أيضًا للوضوء كونُ المكلف غير متوضئ، فمتى توضأ وصلى صلاة بوضوء ولم ينتقض وضوؤه طول النهار، فلا يجب عليه الوضوء بدخول وقت الصلاة، بل متى نقض الوضوء وجب عليه مرة ثانية لأداء عبادة أخرى. 3 - كون المكلف قادرًا على الوضوء، فلا يجب على العاجز عن استعمال الماء لمرض ونحوه، وكذلك لا يجب على فاقد الماء. 4 - دخول وقت الصلاة لأصحاب الأعذار كمن به سلس البول، وكذا المرأة المستحاضة، ومن به انفلات ريح، وقد اختلف في ذلك الفقهاء: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، في كتاب الطلاق، باب إذا قال لامرأته وهو مكره: هذه أختي، فلا شيء عليه برقم (4966)، أبو داود، في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا برقم (4401) واللفظ لأبي داود.

* فمنهم من يرى أنه لا يصح وضوء هؤلاء قبل دخول الوقت، وهذا قول الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). * وذهب المالكية (¬3) إلى أنه يصح وضوء المعذور قبل دخول الوقت وبعده. * وقال الحنفية (¬4): إنه يصح الوضوء قبل الوقت إلى أن يخرج وقت الصلاة التي توضأ من أجلها، فلا يصح أن يصلي للصلاة الجديدة بوضوء ما قبلها. الراجح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من اشتراط الوضوء لوقت كل صلاة لمن ابتلي بسلس بول أو كثرة مذي واستحاضة أو انفلات ريح وأشباههم ممّن يستمر منه الحدث ولا يمكنه حفظ طهارته، فعلى هؤلاء الوضوء لكل صلاة بعد غسل محل الحدث وشده والتحرز بكل ما يمكنه من خروج الحدث. أما دليل الترجيح لهذا القول فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت خبرها فقال: "تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي" (¬5). وغير المستحاضة تلحق بها؛ لعدم إمكانهم الاحتراز من ذلك. ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي (2/ 541). (¬2) كشاف القناع (1/ 196). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 116). (¬4) البدائع (1/ 143). (¬5) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم (281)، والترمذيُّ، في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، برقم (126) وصححه الألباني في الإرواء (1/ 225) تحت رقم (207) واللفظ للترمذي.

ثانيا: شروط صحة الوضوء

ثانيًا: شروط صحة الوضوء: معنى شروط الصحة أي: الشروط التي لا يصح الوضوء إلا بها، ومن هذه الشروط: 1 - كون الماء طهورًا، وقد تقدم الكلام على معنى الطهور. 2 - وصول الماء إلى العضو الذي يراد غسله، فمتى كان هناك حائل يمنع وصول الماء إلى العضو وليس هناك حاجة لهذا الحائل، فإن الوضوء لا يصح. 3 - عدم وجود ما ينافي الوضوء أثناء وضوئه، فلو غسل وجهه ويديه ثم أحدث فإنه يجب عليه أن يبدأ الوضوء من أوله، إلا أن يكون من أصحاب الأعذار ممّن مر ذكرهم، فإنه لا يجب عليه استئناف الوضوء. 4 - كون الماء مباحًا، فإذا توضأ بماء مغصوب فإن وضوءه لا يصح، وهذا ما ذهب إليه الحنابلة (¬1) في إحدى الروايتين عن أحمد، والصحيح أن الوضوء يصح لكن مع الإثم. 5 - النية عند الوضوء، فيشترط لصحة الوضوء النية عند الحنابلة، فإذا لم ينو لم يصح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2). أما الحنفية (¬3) فيرون أن النية سنة. ¬

_ (¬1) منار السبيل (1/ 8). (¬2) أخرجه البخاريُّ، في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬3) بدائع الصنائع (1/ 19).

ثالثا: شروط الوجوب والصحة معا

وذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) إلى أنها من أركان الوضوء. والصحيح: هو اشتراط النية لصحة الوضوء؛ للحديث المذكور. ثالثًا: شروط الوجوب والصحة معًا: المراد بهذه الشروط أعني شروط الصحة والوجوب معًا هي: التي إذا فقد منها شرط فإن الوضوء لا يجب ولا يصح إذا وقع، وهذه الشروط هي: 1 - العقل؛ فلا يجب الوضوء على مجنون، وإن توضأ فإن وضوءه لا يصح، فمتى فاق من جنونه فالواجب عليه الوضوء لأداء العبادة. 2 - طهارة المرأة من الحيض والنفاس؛ فلا يجب الوضوء على حائض ولا نفساء، ولا يصح منهما بحيث إذا توضأت وهي حائض ثم ارتفع حيضها فإن وضوءها لا يعتبر؛ لعدم صحته. 3 - الإسلام؛ فلا يجب الوضوء على كافر؛ لأن الإسلام شرط لوجوب الوضوء، بمعنى أن غير المسلم لا يطالب بالوضوء وهو كافر، ولو توضأ وهو كافر لم يصح وضوؤه، ولكن حال كفره هو مخاطب بالصلاة وبوسائلها بحيث يعاقب على ترك الوضوء، ولا يصح منه إذا توضأ. فرائض الوضوء: تعريف الفرض: الفرض في اللغة الجزم والقطع. وفي الشرع: "ما أثيب فاعله وعوقب تاركه" وفروض الوضوء هي: ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 176). (¬2) المجموع (1/ 355).

1 - غسل الوجه

1 - غسل الوجه: لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1)، وقد أجمع العلماء على وجوب غسل الوجه عند الوضوء. هل يدخل في وجوب غسل الوجه الفم والأنف أم أن غسلهما سنة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فالمشهور في مذهب أحمد (¬2) وجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين معًا، وفي رواية أخرى في المذهب أن الاستنشاق وحده هو الواجب. ب- وذهب الشافعية (¬3) والمالكية (¬4) إلى أن المضمضة والاستنشاق سنة لا يجبان في الطهارتين. الراجح: أن المضمضة والاستنشاق واجبان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبرة: "إذا توضأت فمضمض" (¬5)، والأمر يفيد الوجوب إلا لقرينة تصرفه. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر" (¬6). قال الشوكاني -رحمه الله-: "القول بالوجوب هو الحق، لأن الله سبحانه أمر ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) المغني (1/ 166، 167)، الإنصاف (1/ 154). (¬3) المجموع (1/ 395). (¬4) الشرح الصغير (1/ 181). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، برقم (144)، صحيح سنن أبي داود (131) (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء، برقم (159)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم (237).

معنى الاستنشاق والمضمضة والاستنثار

في كتابه العزيز بغسل الوجه، ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه، وقد ثبت مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في كل وضوء ... " (¬1). معنى الاستنشاق والمضمضة والاستنثار: المضمضة: هي إدارة الماء في الفم. والاستنشاق: اجتذاب الماء بالتنفس إلى باطن الأنف. والاستنثار: إخراج الماء من الأنف، ولكن يعبر عن الاستنثار بالاستنشاق؛ لكونه من لوازمه. ولا يجب إيصال الماء إلى جميع الفم ولا إيصال الماء إلى جميع باطن الأنف، وإنما ذلك مبالغة مستحبة في حق غير الصائم. 2 - غسل اليدين إلى المرفقين: لا خلاف بين الفقهاء في وجوب غسل اليدين في الطهارة لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2). لكن اختلف الفقهاء في إدخال المرفقين في الغسل: أ- فذهب مالك (¬3) والشافعيُّ (¬4) والحنفية (¬5) وأحمدُ (¬6) إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل. ¬

_ (¬1) السيل الجرار (1/ 81). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 166). (¬4) المجموع (1/ 419). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 4). (¬6) المغني (1/ 173).

3 - مسح الرأس

ب- وذهب بعض أصحاب مالك (¬1) وغيرهم إلى أنه لا يجب إدخال المرفقين في غسل اليدين. والصحيح: هو وجوب إدخال المرفقين في غسل اليدين، ولا يكفي أن يوصل المتوضئ الماء إلى بداية المرفقين، بل عليه أن يوصل الماء إلى نهاية المرفقين، يدل على ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ" (¬2)؛ وفي الآية دليل أيضًا على ذلك، أعني قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬3)، فإن {إِلَى} هنا بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬4) يعني مع قوتكم، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬5) يعني مع أموالكم، وقد جاءت السنة ببيان معنى الآية كما جاء في حديث أبي هريرة السابق فكان مبينًا للغسل المأمور به. 3 - مسح الرأس: قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬6). ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب مسح الرأس، لكنهم اختلفوا في القدر الواجب منه: أ- فالمشهور من مذهب مالك (¬7) وأحمدُ (¬8) وجوب مسح جميع الرأس في الوضوء. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 173). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب استحباب إطاله الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم (246). (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) سورة هود: 52. (¬5) سورة النساء: 2. (¬6) سورة المائدة: 6. (¬7) أقرب المسالك مع الشرح الصغير (1/ 42). (¬8) المغني (1/ 111).

هل يمسح الرأس أكثر من مرة؟

ب- وذهب أبو حنيفة (¬1) والشافعيُّ (¬2) وقول في مذهب مالك (¬3) وأحمدُ (¬4) إلى أنه لا يلزم مسح جميع الرأس، بل إذا مسح بعضه أجزأه. الراجح: القول الأول، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬5) -رحمه الله- والشيخ العثيمين (¬6)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬7). دليل ذلك: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬8)، ولقد جاءت السنة ببيان صفة مسح الرأس، فالذين وصفوا وضوءه قالوا بأنه كان يبدأ بمقدم رأسه ثم يمر بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ، كما جاء ذلك في حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬9). هل يمسح الرأس أكثر من مرة؟ الجواب: لا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو قول ¬

_ (¬1) الهداية للمرغيناني (1/ 12)، فتح القدير (1/ 18). (¬2) الأم (1/ 22). (¬3) بداية المجتهد (1/ 14). (¬4) الإنصاف (1/ 161). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 123). (¬6) الممتع (1/ 717). (¬7) فتاوى اللجنة (5/ 210). (¬8) سورة المائدة: 6. (¬9) حديث عبد الله بن زيد متفق عليه: البخاري (1/ 82) رقم (189)، صحيح مسلم (1/ 210) رقم (235): "قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

هل يجزئ غسل الرأس عن المسح عند الوضوء؟

أبي حنيفة ومالك، وذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد أنه يسن تكرار مسح الرأس (¬1). والصحيح أنه لا يسن تكرار المسح، ولذا قال ابن القيم -رحمه الله-: "والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس ... بل ما عدا هذا إما صريح غير صحيح كحديث ابن البيلماني: "ومسح برأسه ثلاثًا"، وابن البيلماني وأبوه مُضَعَّفان، وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود: "مسح رأسه ثلاثًا"، قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أنه مسح رأسه مرة" (¬2). هل يجزئ غسل الرأس عن المسح عند الوضوء؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجزئه؛ لأن الله إنما أسقط الغسل عن الرأس تخفيفًا لأنه يكون فيه شعر فيمسك الماء ويسيل إلى أسفل. ولا سيما في أيام الشتاء والبرد، فإذا غسله فقد اختار لنفسه ما هو أغلظ فيجزئه. القول الثاني: أنه يجزئه مع الكراهة، بشرط أن يمر يده على رأسه، وإلا فلا، وهذا هو المذهب؛ لأنه إذا أمرّ يده فقد حصل المسح مع زيادة بالغسل. القول الثالث: أنه لا يجزئه؛ لأنه خلاف أمر الله ورسوله؛ قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، وإذا كان كذلك فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3). والصحيح من الأقوال: أن المسح أفضل من الغسل، لكن إن غسله أجزأه ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (1/ 178). (¬2) زاد المعاد (1/ 193). (¬3) أخرجه البخاريّ في كتاب البيوع، باب النجش ومن قال لا يجوز ذلك البيع (61)، ومسلمٌ في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718).

هل يلزم من مسح الرأس مسح الأذنين؟

لكن بشرط إمرار اليد على الرأس عند الغسل (¬1). هل يلزم من مسح الرأس مسح الأذنين؟ يرى بعض الفقهاء أنه يجب مسحهما؛ لأنهما من الرأس، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأذنان من الرأس" (¬2) أي هما من جملة الرأس الذي يجب مسحه. وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬3). ويرى بعضهم أنه لا يجب مسحهما، وهذا ظاهر المذهب عند الحنابلة (¬4). والراجح من القولين: هو وجوب مسح الأذنين؛ لأنهما من الرأس، ولثبوت مسحهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل لمداومته على ذلك، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما" (¬5). هل يؤخذ للأذنين ماء جديد؟ المذهب عند الحنابلة أنه يسن أخذ ماء جديد للأذنين عند بعض الفقهاء. والصحيح أنه لا يشرع أخذ ماء جديد لهما؛ لأن جميع من وصف وضوءه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا أنه أخذ ماءً جديدًا للأذنين، فعلى هذا يكون الصواب أنه لا يسن أخذ ماء جديد للأذنين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الممتع (1/ 186)، الإنصاف (1/ 159). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (134)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الأذنان من الرأس، برقم (443). (¬3) المغني، لابن قدامة 1/ 183، والإنصاف (1/ 162). (¬4) المرجع السابق. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (121)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، برقم (36). (¬6) انظر في ذلك: زاد المعاد (1/ 95)، الممتع (1/ 178)، نيل الأوطار (1/ 190).

4 - من فرائض الوضوء غسل الرجلين مع الكعبين

4 - من فرائض الوضوء غسل الرجلين مع الكعبين: قال الله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬1)، والكعبان هما العظمان الناتئان اللذان بأسفل الساق من جانبي القدم. 5 - الترتيب: هذا هو الفرض الخامس من فرائض الوضوء، وبوجوبه قال الشافعي (¬2) وأحمدُ (¬3)، وذهب المالكية (¬4) والحنفية (¬5) إلى أن الترتيب غير واجب وأنه من سنن الوضوء. والراجح: هو وجوب الترتيب في الوضوء؛ لمواظبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه ومراعاته، ولأن الله ذكر أعضاء الوضوء مرتبة فوجب ترتيبها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بما بدأ الله به" (¬6). هل يسقط الترتيب بالنسيان والجهل؟ قال بعض أهل العلم بأنه يسقط بالنسيان، وقال آخرون: لا يسقط بالنسيان؛ لأنه فرض والفرض لا يسقط بالنسيان. والصحيح: أن الناسي لا يعذر بنسيانه في الترتيب، فإذا توضأ وانتهى من وضوئه ثم تذكر أنه لم يرتب أعضاء الوضوء حال وضوئه، أعاد الوضوء، وكذا إذا تذكر بعد انتهائه من صلاته فيجب عليه إعادة الوضوء والصلاة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) الحاوي (1/ 138). (¬3) الكافي (1/ 31). (¬4) المعونة (1/ 126). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 22). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (1218).

6 - الموالاة

أما الجاهل بحكمه -أي: بحكم فرضيته- فإنه يعذر، لعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أناسًا كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال. 6 - الموالاة: تعريفها: هي أن يكون الشيء مواليًا للشيء بدون تأخير، فلا يؤخر غسل عضو من أعضاء الوضوء حتى ينشف الذي قبله بشرط أن يكون ذلك في زمن معتدل خال من الريح أو شدة الحر والبرد. دليلها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬1). وجه الدلالة: أن جواب الشرط يكون متتابعًا لا يتأخر. ومن السنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ متواليًا ولم يكن يفصل بين أعضاء وضوئه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رأى رجلًا توضأ وترك على قدمه مثل موضع ظفر لم يصبه ماء فأمره أن يحسن وضوءه" (¬2). وأيضًا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة" (¬3). دليل التعليل: وهو أن الوضوء عبادة واحدة، فإذا فرق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع أفراد البدن محل الطهارة، برقم (243). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء برقم (175)، أحمد (3/ 424) رقم (15534).

حكم التسمية عند الوضوء

اختلاف العلماء في حكم الموالاة: ذهب الحنفية (¬1) وهو رواية عن أحمد (¬2) والقول الجديد عن الشافعية (¬3) إلى أن الموالاة سنة وليست بواجبة. أما المذهب عند الحنابلة (¬4) وهو المشهور في مذهب مالك (¬5) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6) وشيخنا (¬7) -رحمه الله- أن الموالاة واجبة، احتجاجًا بما ذكرناه من الأدلة السابقة، وهذا هو الراجح. حكم التسمية عند الوضوء: اختلف الفقهاء فيه: 1 - فمنهم من قال بوجوبها؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله -تعالى- عليه" (¬8)، فدل هذا الحديث على أنها واجبة. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬9). ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 12)، بدائع الصنائع (1/ 22). (¬2) المغني (1/ 128). (¬3) الأم (1/ 26). (¬4) المغني (1/ 128). (¬5) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 43، 44). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 135). (¬7) الشرح الممتع (1/ 192). (¬8) أخرجه أحمد (2/ 418) رقم (9408)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء، برقم (101)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، برقم (25). (¬9) الإنصاف (1/ 275).

نواقض الوضوء

2 - وذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) ورواية عن الحنابلة (¬4) إلى أنها سنة وليست بواجبة، وهو اختيار الشيخ العثيمين (¬5)، وهو الراجح؛ وذلك لأن الذين وصفوا وضوء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا التسمية فيه، فلو كانت واجبة لكان مشتهرًا بين الصحابة ذكرها؛ لأنها واجبة ولا يصح الوضوء بدونها. أما الحديث الذي احتج به من قال بالوجوب فهو ضعيف لا يثبت. نواقض الوضوء: معنى نواقض الوضوء أي مفسدات الوضوء، وهي من حيث الحكم نوعان: مجمع عليه، ومختلف فيه. أولًا: النواقض المجمع عليها: 1 - الخارج من السبيل، وهو أنواع منها: أ- البول والغائط؛ قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬6). ب- الريح؛ ويشترط أن يكون معها صوت أو نتن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬7). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 20)، حاشية ابن عابدين (1/ 109). (¬2) الشرح الكبير (1/ 103). (¬3) المجموع (1/ 407). (¬4) المغني (1/ 145). (¬5) الشرح الممتع (1/ 159). (¬6) سورة المائدة: 6. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، برقم (175)، ومسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم (361).

2 - زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم مستغرق

ج- المذي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسل ذكرك وتوضأ" (¬1). د- المني؛ وذلك إذا خرج بدون لذة لحر أو برد، هذا هو قول جمهور العلماء بخلاف الشافعي الذي يرى وجوب الغسل ولو بدون شهوة (¬2). هـ - السائل الذي يخرج من المرأة؛ فهو وإن كان طاهرًا إلا أنه يجب الوضوء منه؛ لأنه خارج من السبيل. 2 - زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم مستغرق، بحيث لا يحس النائم بمن حوله من الناس. ثانيًا: النواقض المختلف بها مع بيان الراجح وهي كالآتي: 1 - مس الفرج باليد قبلًا كان أو دبرًا من غير حائل: اختلف الفقهاء في هذا الناقض: أ- فذهب المالكية (¬3) وفقهاء الحنابلة (¬4) إلى أن مس الذكر ناقض للوضوء، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، ذكرًا كان أو أنثى. احتجوا بحديث بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من مس ذكره فليتوضأ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، برقم (266)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب المذي، برقم (303). (¬2) المجموع (2/ 139). (¬3) الشرح الصغير (1/ 55). (¬4) الإنصاف (1/ 26 - 27) (¬5) أخرجه أحمد في المسند (6/ 406) رقم (27334)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم (181)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم (82).

2 - مس المرأة بشهوة

ب- وذهب الحنفية (¬1) وهو رواية عن أحمد أنه لا ينقض الوضوء، وفي رواية أخرى عند الحنابلة (¬2) أنه إذا مسه بشهوة انتقض وضوؤه، وإلا فلا (¬3). وذهب شيخ الإسلام (¬4) إلى أن الوضوء من مس الذكر مستحب مطلقًا، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬5). وهو الراجح؛ لأن النقض يحتاج إلى دليل، وما ذكروه حديث ضعيف. 2 - مس المرأة بشهوة: اختلف الفقهاء في هذا الناقض على ثلاثة أقوال: أحدها: أن مس المرأة لا ينقض بحال إلا إذا خرج منه شيء، وهذا قول أبي حنيفة (¬6) ورواية عن الحنابلة (¬7)، واختارها شيخ الإسلام (¬8)، والشيخ العثيمين (¬9)، وهو الصحيح. الثاني: أنه إن كان بشهوة نقض، وإلا فلا. وهو قول مالك (¬10) والمذهب عند الحنابلة (¬11). ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل الاختيار (1/ 14). (¬2) المغني (1/ 170). (¬3) الإنصاف (2/ 27). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 233). (¬5) الشرح الممتع (1/ 322). (¬6) شرح فتح القدير (1/ 56)، المبسوط، للسرخسي (1/ 67). (¬7) المغني بالشرح الكبير (1/ 43)، الإنصاف (2/ 42). (¬8) مجموع الفتاوى (2/ 235). (¬9) الشرح الممتع (1/ 330). (¬10) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 45). (¬11) المغني (1/ 186).

3 - تغسيل الميت

الثالث: أن مس المرأة ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة، وهو قول الشافعي (¬1) ومذهب داود الظاهري (¬2). والراجح من الأقوال: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا إلا إذا خرج منه شيء؛ وذلك أن المسلمين ما زالوا يناولون زوجاتهم الأشياء وتمس أيديهم، ولم يؤمروا بالوضوء من ذلك، وهذا مما يكثر ابتلاء الناس به ولو كان الوضوء واجبًا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - آمرًا به مرة بعد مرة ويشيع ذلك بين الصحابة. وكذلك الأصل عدم النقض حتى يقوم الدليل صريحا على النقض. أما اشتراطهم الشهوة عند المس فنقول بأن هذا القيد لم ينقل عن أحد من الصحابة، بل ما زال المسلمون يقبلون نساءهم، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بالوضوء من ذلك. 3 - تغسيل الميت: هذا هو الناقض السادس من نواقض الوضوء عند الحنابلة، ومعنى تغسيل الميت هو أن يقوم الإنسان بمباشرة تغسيل ميت، لا من يقوم بصب الماء ولا من يناوله شيئًا، بل المغسل هو الذي يباشر التغسيل. وهذا الناقض من مفردات الإمام أحمد؛ لأن الأئمة الثلاثة على خلاف ذلك. واحتج أحمد بما جاء عن ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس -رضي الله عنهم أنهم أمروا غاسل الميت بالوضوء (¬3). والصحيح: هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ¬

_ (¬1) الروضة (1/ 74). (¬2) المحلى (1/ 44). (¬3) روى عنهم ذلك عبد الرزاق في مصنفه (3/ 405) برقم (6101).

4 - أكل لحم الإبل

ابن تيميه (¬1)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬2)، وهو أن الوضوء من تغسيل الميت لا يجب؛ لأن النقض يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل على ذلك لا من الكتاب ولا من السنة، أما ما جاء عن الصحابة في ذلك فهو محمول على الاستحباب. 4 - أكل لحم الإبل: هذا هو الناقض السابع من نواقض الوضوء عند الحنابلة، وهو أيضًا من مفردات الإمام أحمد (¬3) -رحمه الله- وخالف جمهور أهل العلم أحمد في هذا الناقض فقالوا: بأن أكل الجزور لا ينقض مطلقًا (¬4). والراجح: هو قول الحنابلة في ذلك، وهو اختيار الإمام البيهقي والنووي، قال النووي: "هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه" (¬5). وهو أيضًا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، والشيخ عبد الرحمن السعدي (¬7) وهو اختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬8)؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن لحوم الإبل ¬

_ (¬1) شرح العمدة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 342). (¬2) الشرح الممتع (1/ 298). (¬3) الإنصاف (2/ 53، 54). (¬4) وبه قال المالكية في مختصر خليل (14)، والحنفية في بدائع الصنائع (1/ 32، 33)، والشافعية كما في روضة الطالبين (1/ 72). (¬5) المجموع (2/ 70)، وروضة الطالبين (1/ 72). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 260). (¬7) المختارات الجلية (ص: 23). (¬8) فتاوى اللجنة (5/ 274).

5 - الردة عن الإسلام

قال: "توضؤوا منها" (¬1) وقال أيضًا: "توضأوا من لحوم الإبل ولا تتوضأوا من لحوم الغنم" (¬2)، والأصل في الأمر الوجوب حتى يوجد دليل يصرفه عن الوجوب. 5 - الردة عن الإسلام: هذا هو الناقض الثامن من نواقض الوضوء. أ- الصحيح من مذهب الحنابلة (¬3) وهو المعتمد عند المالكية (¬4) أن الردة عن الإسلام تعد ناقضًا من نواقض الوضوء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْ بَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬6)، ولأن الوضوء عمل فيبطل بالردة، وهو الصحيح. ب- وقال بعض الفقهاء (¬7) بأن الردة عن الإسلام لا تنقض الوضوء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬8)، قالوا: فشرط الموت لإحباط العمل، ولأن الوضوء طهارة فلا تبطل بالردة كالغسل من الجنابة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 288) رقم (18561)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل (184)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل برقم (494) من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 352) رقم (19119)، والترمذيُّ، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، برقم (81)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، برقم (495) من حديث جابر بن سمرة-رضي الله عنه-. (¬3) المغني (1/ 238)، والإنصاف (1/ 219). (¬4) الشرح الصغير (1/ 519). (¬5) سورة المائدة: 5. (¬6) سورة الزمر: 65. (¬7) انظر في ذلك: المغني (1/ 238). (¬8) سورة البقرة: 217.

صفة الوضوء

صفة الوضوء: صفة الوضوء على ما ذكرناه تكون كالآتي: أن ينوي بقلبه الوضوء، ثم يسمي قائلًا: "بسم الله"، ويغسل كفيه ثلاثًا استحبابًا -لغير القائم من نوم الليل-، ثم يتمضمض ويستنشق بغرفة واحدة بيده اليمنى ثلاثًا ويستنثر ثلاثًا بيده اليسرى، ثم يغسل وجهه ثلاثًا، ثم يغسل يده اليمنى من أطراف أصابعه مع مرفقه ثلاث مرات ويخلل أصابعه، ثم اليسرى كذلك، ثم يمسح رأسه مرة واحدة يقبل بيديه ويدبر ويمسح أذنيه، ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثًا مع الكعبين مخللًا أصابع رجليه ثم اليسرى مثل ذلك. فإذا انتهى من ذلك قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (¬1) ويزيد كما في رواية الترمذيُّ: "اللَّهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" (¬2). أحكام تتعلق بالنية: أولًا: تعريف النية: النية: هي القصد، أي: العزم على فعل العبادة. ثانيًا: محل النية: النية محلها القلب، فلا يعلم نيات العباد إلا الله تعالى، لكن هل ينطق بها؟ في المسألة أقوال: القول الأول: أنه يسن النطق بها سرًا، وهذا هو المشهور عند الحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب ذكر المستحب عقب الوضوء، برقم (234). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما بعد الوضوء، برقم (55)، وصححه الألباني في صحيح الترمذيُّ (1/ 18) برقم (48). (¬3) الإنصاف (1/ 307)، منتهى الإرادات (1/ 49).

القول الثاني: أنه يسن النطق جهرًا، وهذا هو قول الشافعية (¬1). القول الثالث: أنه لا ينطق بها وأن التعبد لله بالنطق بها بدعة ينهى عنه، ويدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنية إطلاقًا، وهذا مذهب مالك (¬2) وإحدى الروايتين عند الحنابلة (¬3)، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، والشيخ العثيمين (¬5). ثالثًا: حكم النية في الوضوء: النية شرط في العبادات كلها، فهي شرط لصحة العمل وقبوله وإجزائه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬6). واشتراط النية في الوضوء هو مذهب الحنابلة (¬7)، وذهب الشافعية (¬8) والمالكية (¬9) إلى أنها ركن في الوضوء، أما الحنفية فقالوا بأنها سنة في طهارة الماء، وإنما تشترط في التيمم. والراجح: هو اشتراطها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات"، فقد نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية. ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 358). (¬2) الشرح الكبير (1/ 234). (¬3) الإنصاف (1/ 307)، الإقناع (1/ 38). (¬4) الفتاوى (22/ 233). (¬5) الممتع (1/ 224). (¬6) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬7) حاشية الروض المربع (1/ 189)، الإنصاف (1/ 307). (¬8) المجموع (1/ 309). (¬9) الشرح الصغير (1/ 177)، حاشية الدسوقي (1/ 78).

رابعًا: متى يعقد المتوضئ النية؟ انعقاد النية له حالتان: الأولى: أن يعقد نيته عند أول مسنونات الوضوء إن وجد قبل واجب، مثل أن ينوي عند التسمية قبل غسل الكفين ثلاثًا عند من قال بسنية التسمية. الثانية: أن يعقد نيته عند أول واجبات الطهارة، فهنا يجب أن ينوي قبل التسمية عند من قال بوجوبها، فهنا يجب عليه الإتيان بها. خامسًا: هل يجب استصحاب النية حتى يفرغ المتوضئ من وضوئه؟ النية في هذه المسألة لها أربع حالات: الأولى: أن يستصحب ذكرها من أول الوضوء إلى آخره، وهذا أكمل الأحوال. الثانية: أن تغيب عن خاطره ولم ينو القطع، وهذا يسمى استصحاب حكمها. الثالثة: أن ينوي قطعا أثناء الوضوء لكن استمر، فهنا لا يصح وضوؤه؛ لعدم استصحاب الحكم لقطعه النية في أثناء العبادة. الرابعة: أن ينوي قطع الوضوء بعد الفراغ منه، فهذا لا ينتقض وضوؤه، والقاعدة في ذلك: أن قطع نية العبادة بعد الفراغ منها لا أثر له. ساسًا: في ذكر بعض صور النية: الصورة الأولى: أن ينوي رفع الحدث، مثل أن يتوضأ بنية رفع الحدث الذي حصل له، فهنا متى توضأ بهذه النية صح وضوؤه.

الصورة الثانية: أن ينوي الطهارة لما تجب له، مثل أن ينوي الطهارة لشيء لا يباح إلا بالطهارة كالصلاة والطواف ومس المصحف، فإن نوى الطهارة للصلاة ارتفع حدثه، وإن لم ينو رفع الحدث؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بعد رفع الحدث. الصورة الثالثة: أن ينوي الطهارة لما تسن له، فإذا نوى ما تسن له الطهارة ارتفع حدثه. الصورة الرابعة: أن ينوي بالطهارة تجديدًا للوضوء، فهنا الصحيح أنه يرتفع حدثه، ولا يشترط كون التجديد مسنونًا. الصورة الخامسة: إذا كان ناسيًا الحدث ثم تطهير بنية التجديد فهذه محل خلاف، والصحيح أنه يرتفع حدثه. الصورة السادسة: من كان عليه أحداث ثم تطهر عن أحدهما أجزأه عن الآخر، مثل أن تكون المرأة عليها غسل حيض وجنابة فاغتسلت بنية رفع حدث الحيض أجزأها هذا الغسل وارتفع حدث الجنابة بذلك. الصورة السابعة: أن يغتسل غسلًا مسنونًا عن غسل واجب، ففي هذه المسألة تفصيل: إن كان ناسيًا أجزأه عن الواجب، أما إن كان متذكرًا أن عليه غسلًا واجبًا ثم اغتسل للمسنون كإحرام أو أي غسل مسنون آخر، فالمذهب يرى عدم الإجزاء، ويرى بعضهم الإجزاء، قال الشيخ ابن العثيمين: القول بالإجزاء في النفس منه شيء، أما إن كان ناسيًا فهو معذور (¬1). ¬

_ (¬1) الممتع (1/ 201).

سنن الوضوء

سنن الوضوء: أما سنن الوضوء فهي: 1 - السواك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" (¬1) وفي رواية عند أحمد: "مع كل وضوء" (¬2). 2 - الإسباغ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبرة: "أسبغ الوضوء" (¬3)، ومعنى الإسباغ: الإنقاء؛ وهو المبالغة في الغسل. 3 - غسل الكفين في أول الوضوء لغير القائم من نوم ليل؛ لحديث عبد الله بن زيد، وفيه: "فأكفأ على يده من التَّوْرِ فغسل يديه ثلاثًا" (¬4). 4 - تثليث غسل الأعضاء ما عدا الرأس، فالذين وصفوا وضوءه - صلى الله عليه وسلم - ذكروا أنه توضأ ثلاثًا، ونقلوا أنه توضأ مرة ومرتين، فدل على استحباب التثليث. 5 - البدء بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث عبد الله بن زيد (¬5) وحديث عثمان (¬6) في وصفهما لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم برقم (1832) معلقًا ومجزومًا به. (¬2) أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة -رضي الله عنه- (2/ 460) رقم (9930). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار برقم (142)، والنسائيُّ في كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق برقم (87). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين إلى الكعبين برقم (184)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (235). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء من التور برقم (196)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (235). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا برقم (158)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم (226).

لكن لو قدم غسل الوجه على المضمضة والاسنتشاق أجزأه ذلك؛ لأنهما من الوجه، ولم يكن مخلًا بالترتيب. 6 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" (¬1). 7 - كون المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة. 8 - كون المضمضة باليمين والاستنثار باليسرى. 9 - تخليل اللحية الكثيفة، أما إذا كانت اللحية خفيفة تصف البشرة وجب غسل باطنها. 10 - تخليل أصابع اليد والقدم؛ لحديث: "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، برقم (142)، والنسائيُّ في كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق، برقم (87). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع، برقم (39).

باب في المسح على الخفيق والجبيرة والعمامة

باب في المسح على الخفيق والجبيرة والعمامة أولًا: المسح على الخفين: المسح على الخفين جاءت نصوص السنة بجوازه، ولم يخالف في حكمه إلا الشيعة الجعفرية، ومن هنا ذكره بعض العلماء في كتب العقيدة، قال الطحاوي في وصفه لعقيدة السلف: ويرون المسح على الخفين (¬1). أدلة مشروعيته: استدل بعض أهل العلم من الكتاب بقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬2)، فعلى قراءة الجر يتناول المسح في الآية الرأس والرجل، وهذه قراءة متواترة. أما الدليل من السنة فأحاديث كثيرة منها: 1 - عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليهما (¬3). 2 - وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما، فتنحيت، فقال: "أُدْنُهْ" فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ فمسح على خفيه" (¬4). ¬

_ (¬1) متن العقيدة الطحاوية، للطحاوي (ص: 49)، ونقله الأشعري أيضا في كتابه مقالات الإسلاميين (ص: 295). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (203)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين برقم (273).

أيهما أفضل المسح أم الغسل؟

3 - وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خُفَّيْهِ" (¬1). 4 - وعن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-: "أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه". (¬2) ولقد روى مشروعية المسح على الخفين أكثر من ثمانين صحابيًا. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ليس في قلبي من المسح شيء؛ فيه أربعون حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). أيهما أفضل المسح أم الغسل؟ جمهور الفقهاء على أن المسح على الخفين جائز، لكنَّ الغسل أفضل، وعند الحنابلة أن الأفضل المسح على الخفين، أخذًا بالرخصة، وأن كلًا من الغسل والمسح مشروع. والصحيح أن يقال: إن كان لابسًا للخف أو الجورب ونحوه فالمسح في حقه أفضل، وإن كان غير لابس لشيء فالأفضل في حقه الغسل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح؟، برقم (162)، وصححه ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 160). (¬2) أخرجه النسائي في سننه، باب ما يوجب الوضوء، برقم (24)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المسح على الخفين، برقم (543). (¬3) المغني (1/ 360).

الحكمة في مشروعية المسح على الخفين

الحكمة في مشروعية المسح على الخفين: اقتضت شريعة الله التيسير والتخفيف عن المكلفين الذين يشق عليهم نزع الخف وغسل الرجلين، خاصة في أوقات البرد الشديد وفي السفر، وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السير، ومن هنا جاء المسح على الخفين. مدة المسح على الخفين: اختلف الفقهاء في توقيت مدة المسح: فذهب المالكية (¬1) إلى عدم تعيين مدة للمسح، فيجوز عندهم المسح على الخفين في السفر والحضر من غير توقيت بزمان، فلا ينزعهما إلا لموجب الغسل. وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى توقيت مدة المسح على الخفين، فهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام ولياليها للمسافر، واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم" (¬5)، وهذا هو الصحيح، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6)، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬7). ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 152، 153، 158). (¬2) فتح القدير (1/ 127، 130). (¬3) المجموع (1/ 503، 510)، وروضة الطالبين (1/ 131). (¬4) منتهى الإرادات (1/ 22). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، برقم (276). (¬6) فتاوى اللجنة (5/ 243). (¬7) الشرح الممتع (1/ 225).

شروط المسح على الخفين

شروط المسح على الخفين: هناك شروط اتفق عليها الفقهاء وشروط اختلفوا فيها، وسنقوم -إن شاء الله- ببيان هذه الشروط مع بيان الراجح مما اختلف فيه الفقهاء. أولًا: الشروط المتفق عليها: 1 - لبس الخف على طهارة كاملة: لحديث المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" (¬1). ولحديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سَفْرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬2). لكن هل تشترط أن تكون الطهارة بالماء أو طهارة التيمم تكفي؟ اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فالجمهور يرون أن تكون الطهارة بالماء من وضوء أو غسل. ب- أما الشافعية: فيرون جواز أن تكون الطهارة بالتيمم الناتج عن عدم القدرة على استعمال الماء لا غير. الراجح: هو قول الجمهور؛ لأن النص يدل على ذلك، فقوله - صلى الله عليه وسلم - "إني أدخلتهما طاهرتين"، يدل دلالة واضحة على أن الرجل أدخلها بعد وضوء، فلا علاقة لطهارة التيمم بالمسح على الخفين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (203)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من الغائط والبول برقم (158)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم برقم (96) وقال: حسنٌ صحيحٌ.

2 - إمكانية المشي به عرفا

2 - إمكانية المشي به عرفًا: فإذا كان الخف لا يستمسك على القدم فلا يجوز المسح عليه، لكن إذا ثبت بشده بحيث لا يخلع من قدمه، فهل يصح المسح عليه؟ اختلف في ذلك الفقهاء: فذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) أنه لا بد أن يثبت الخف بنفسه، فلو لم يثبت إلا بشده أو بخيط متصل أو منفصل عنه ونحو ذلك، فلا يمسح عليه. والصحيح أنه متى ثبت الخف بنفسه أو بشده عليه فلا مانع من المسح عليه، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام (¬3)، واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬4). 3 - كون الخف طاهرًا: فلا يجوز المسح على خف نجس كأن يكون الخف من جلد خنزير مثلًا أو من جلد ميتة، فلا يجوز المسح عليه. لكن إذا كان الخف من جلد ميتة مدبوغ فهل يجوز المسح عليه؟ محل خلاف بين الفقهاء: فمن قال بأن الدبغ مطهر فيصح عنده المسح على الخفين، ومن قال بأن الدبغ غير مطهر فلا يجوز المسح عليه. والصحيح: أنه يجوز المسح على الخف إن كان من جلد ميتة مدبوغ؛ لما ذكرناه سابقًا أن جلد الميتة يطهر بالدباغ. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 66). (¬2) منتهى الإرادات (288). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 184، 212). (¬4) الشرح الممتع (1/ 267).

ثانيا: الشروط المختلف فيها مع بيان الراجح منها

ثانيًا: الشروط المختلف فيها مع بيان الراجح منها: 1 - كون الخف ساترًا للمحل المفروض غسله في الوضوء: فلا يجوز المسح على خف غير ساتر للكعبين مع القدم، سواء كان ذلك لخفته أو كونه واصفًا للبشرة، وهذا هو قول الجمهور (¬1)، وبه قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3). وذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله-، واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬5) أنه لا يشترط أن يكون الخف ساترًا لمحل الفرض، لأن النصوص الواردة في المسح جاءت مطلقة، وما ورد مطلقًا وجب أن يبقى على إطلاقه، وأيضًا فالصحابة-رضي الله عنهم - كان أكثرهم فقراء، وغالبًا الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق، ولم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نبه أصحابه على أن الخف المخروق لا يجوز المسح عليه مع كثرة من يلبس منهم الخفاف المخروقة، من هنا كان اشتراط كون الخف ساترًا لمحل الفرض اشتراطًا ضعيفًا. 2 - كون الخف من الجلد: اختلف الفقهاء في هذا الشرط: أ- فذهب المالكية (¬6) إلى أنه يشترط لمسح الخف كونه من الجلد، فلا يجوز ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 65)، منتهى الإرادات (1/ 23)، الشرح الصغير (1/ 229)، حاشية الدر المختار (1/ 261). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (10/ 106). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 238). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 173، 212). (¬5) الشرح الممتع (1/ 267). (¬6) الشرح الصغير (1/ 229).

3 - كون الخف مباحا

المسح عندهم على الخف المصنوع من القماش، وكذلك الجوارب المصنوعة من القطن أو الصوف أو نحو ذلك. ب- وذهب الجمهور إلى جواز المسح على الخف المصنوع من الجلد أو الجوارب المصنوعة من القماش كالقطن أو الصوف أو غيره، وهذا هو الصحيح، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1)، واستدلوا على ذلك بحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الجوربين، والنعلين" (¬2)، وأيضًا ثبت عن مجموعة من الصحابة أنهم مسحوا على الجوربين، كعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي أمامة وغيرهم. 3 - كون الخف مباحًا: وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط: أ- فذهب المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنه لا يصح المسح على الخف المغصوب أو المسروق أو المتخذ من الحرير. ب- وذهب الشافعية (¬5) في الأصح عندهم إلى جواز المسح على الخف ولو لم يكن مباحًا. والصحيح: هو القول الثاني بأنه لا يشترط كون الخف مباحًا، لكن مع ثبوت الإثم على الغاصب والسارق وغيرهم ممّن يلبس خفًّا غير مباح. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 244). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 252) رقم (18231)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين برقم (159)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين (99). (¬3) الشرح الصغير (1/ 229). (¬4) المغني (1/ 373). (¬5) مغني المحتاج (1/ 66، 67).

كيفية المسح على الخفين

كيفية المسح على الخفين: اختلف الفقهاء في كيفية مسح الخف والجورب مع اختلافهم في مقدار ما يمسح: 1 - فقال الحنفية (¬1): يمسح مقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر الخف فقط مرة واحدة. 2 - وقال المالكية (¬2) بوجوب مسح جميع ظاهر الخف كما يستحب عندهم مسح أسفله. 3 - وذهب الشافعية (¬3) إلى أن المسح الواجب هو ما يصدق عليه مسمى مسح، وهو مسح ظاهر الخف، فلا يمسح أسفله ولا عقبه ولا جوانبه. 4 - أما الحنابلة (¬4) فيرون أنه يمسح أكثر مقدم ظاهر الخف خطوطًا بالأصابع. والصحيح في الكيفية والمقدار أن يُمِرَّ يده من عند أصابع الرجل إلى الساق فقط، وعلى أي كيفية مسح أجزأه ذلك، لكن الأفضل أن يمسح اليمنى ثم اليسرى عملًا بقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله" (¬5). ¬

_ (¬1) الدر المختار (1/ 48)، فتح القدير (1/ 131، 132). (¬2) الشرح الصغير (1/ 235). (¬3) مغني المحتاج (1/ 67). (¬4) كشاف القناع (1/ 118). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم (166)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم (268) واللفظ للبخاري.

نواقض المسح على الخفين

نواقض المسح على الخفين: 1 - كل ما ينقض الوضوء ينقض المسح على الخفين أو الجوربين. 2 - وجود موجب الغسل كالجنابة والحيض والنفاس، فإذا وجد أحد هذه الموجبات انتقض المسح على الخفين. 3 - نزع الخفين أو أحدهما، وهذا محل خلاف بين أهل العلم: أ- فذهب الحنابلة إلى القول بأن الوضوء ينتقض بنزع الخفين، ويلزمه إعادة الوضوء (¬1). ب- وذهب الحنفية (¬2) وغيرهم إلى أنه يجزئه غسل الرجلين فقط وهو رواية عند أحمد (¬3) والقول الآخر عند الشافعي (¬4). ج- وذهب إبراهيم النخعي في رواية عنه، وبه قال ابن حزم (¬5) وجماعة، أنه لا ينتقض وضوؤه بنزعهما، ولا يجب غسل رجليه، بل يصلي دون أن يجدد وضوءًا أو يغسل رجليه. والراجح من هذه الأقوال الثلاثة: ما ذهب إليه الحنابلة، وهو انتقاض الوضوء بنزع الخف أو الجورب ونحوه؛ لأن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث، وهذا هو الأرجح احتياطًا للعبادة، وهو اختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). ¬

_ (¬1) هذا هو قول الحنابلة، انظر: كشاف القناع (1/ 121). (¬2) فتح القدير (1/ 132). (¬3) الإنصاف (1/ 192). (¬4) روضة الطالبين (1/ 132، 133). (¬5) المحلى، لابن حزم (2/ 80، 82، 94). (¬6) مجموع فتاوى اللجنة (5/ 252).

* حكم لبس الخفين أو الجوربين على غير طهارة ناسيا والمسح عليهما ثم الصلاة ناسيا

4 - مضي المدة: فمتى مضت مدة المسح -وهي كما ذكرنا سابقًا يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر- انتقض المسح على الخفين، ووجب نزعها، ويجب عليه الوضوء كاملًا، بخلاف ما ذهب إليه الحنفية والشافعية من أنه يجب غسل الرجلين فقط. * حكم لبس الخفين أو الجوربين على غير طهارة ناسيًا والمسح عليهما ثم الصلاة ناسيًا: من فعل ذلك فإن صلاته باطلة وعليه إعادة ما صلى بهذا المسح؛ لأن من شروط المسح على الخفين -كما ذكرنا سابقا- لبسَهما على طهارة بإجماع أهل العلم. * حكم من غسل رجله اليمنى ثم أدخلها الخف أو الجورب ثم غسل رجله اليسرى وأدخلها الخف أو الجورب: أ- ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلبس الخف أو الجورب إلا بعد أن ينتهي من غسل رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر حديث المغيرة بن شعبة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" (¬1). ب- وذهب بعضهم إلى جواز المسح ولو كان الماسح قد أدخل رجله اليمنى في الخف أو الجورب قبل غسل الرجلين، لكن الأول هو الأحوط والأولى، فمن فعل ذلك فينبغي أن ينزع الخف أو الشراب قبل المسح ثم يعيد إدخالها فيه بعد غسل اليسرى، وهذا هو اختيار سماحة الشيخ العلامة ابن باز (¬2) -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (203)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ (10/ 117).

* حكم من لبس خفا على خف أو جوربا على جورب

* حكم من لبس خفًا على خف أو جوربًا على جورب: إن توضأ ولبس خفًا أو جوربًا ثم أحدث ثم لبس الخف الآخر لم يجز المسح على الأعلى؛ لأنه لبسه على غير طهارة، بل يمسح على الأسفل. وإذا مسح الخف الأسفل بعد حدثه ثم لبس الخف أو الجورب الثاني على طهارة مسحٍ، لم يجز المسح على الثاني؛ لأن الممسوح بدل عن غسل ما تحته، والبدل لا يجوز له بدل آخر، بل يمسح على الأسفل؛ لأن الرخصة تعلقت به. وإن لبس جوربًا أو خفًا على آخر قبل الحدث ومسح الأعلى ثم نزع الممسوح الأعلى، هل يلزمه خلع الثاني وإعادة الوضوء؟ محل خلاف؛ والصحيح أنه يمسح على الأسفل. بيان بعض متعلقات المسح في السفر: * إذا لبس في الحضر ثم سافر قبل أن يحدث، فمسحُه مسحُ مسافر. * إذا لبس في السفر ثم أقام قبل أن يحدث، فمسحه مسح مقيم. * إذا لبس في الحضر فأحدث ثم سافر قبل أن يمسح، فمسحه مسح مسافر. * إذا لبس في الحضر فأحدث ومسح ثم سافر قبل أن تنتهي مدة المسح، أتم مسح مقيم. * إذا لبس في السفر فأحدث ومسح ثم أقام، أتم مسح مقيم إن بقي في المدة شيء. * إذا شك وهو مسافر في ابتداء المسح يعني هل مسح وهو مسافر أم مسح وهو مقيم؟ فإنه يتم مسح مسافر.

متى تبدأ مدة المسح؟

متى تبدأ مدة المسح؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنابلة (¬1) إلى أن المدة تبدأ من حال الحدث. 2 - والقول الثاني: أن المدة تبدأ من أول مسحة للخف أو الجورب، وهذا هو الصحيح، وهذا اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "يمسح المقيم يومًا وليلةً والمسافر ثلاثا" (¬3). ثانيًا: المسح على الجبيرة تعريف الجبيرة: الجبيرة في اللغة: هي العيدان التي تشد على العظم لتجبره على استواء (¬4)، وهذه الأعواد بدل منها الآن الجبس. أما تعريفها في الاصطلاح: فهي لا تخرج في استعمال الفقهاء لها عن المعنى اللغوي. حكم المسح على الجبيرة: اتفق الفقهاء على مشروعية المسح على الجبيرة في حال العذر نيابة عن غسل المحل في الوضوء أو الغسل، لكن متى يجب المسح عليها؟ ¬

_ (¬1) الكافي (1/ 46)، الفروع (1/ 167). (¬2) الممتع (1/ 187). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين برقم (276)، وابن خزيمة في كتاب الوضوء، باب ذكر توقيت المسح على الخفين للمقيم والمسافر برقم (194) واللفظ له. (¬4) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة: جبر.

شروط المسح على الجبيرة

يجب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة، ولا تتم طهارته إلا بذلك عند الجمهور (¬1). وقال ابن حزم (¬2) والألباني (¬3) بأنه لا يشرع المسح على الجبيرة، لأن الشرع لا يثبت إلا بقرآن وسنة ولم يأت قرآن ولا سنة بذلك. وقال بعض الشافعية (¬4): يغسل الصحيح ويتيمم ولا يمسح على الجبيرة. والصحيح: أنه يجب المسح على الجبيرة، فإن لم يمسح فلا تصح طهارته، وإن صلى ما صحت صلاته، وهذا هو قول الجمهور. شروط المسح على الجبيرة: يشترط لجواز المسح على الجبيرة ما يلي: 1 - أن يخشى حدوث الضرر بنزعها. 2 - أن لا يكون غسل الأعضاء الصحيحة يضر بالأعضاء الجريحة، فإن كان يضر بها فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه يمسح لها. 3 - لبسها بعد كمال الطهارة: وهذا الشرط اختلف فيه أهل العلم، فالصحيح المشهور في مذهب الشافعية (¬5) وهو إحدى الروايتين عن أحمد (¬6) أنه يشترط أن تكون الجبيرة موضوعة ¬

_ (¬1) البدائع (1/ 13 - 14)، ابن عابدين (180 - 186)، حاشية الدسوقي (1/ 163)، المجموع (2/ 326)، كشاف القناع (1/ 120). (¬2) المحلى (2/ 74075). (¬3) تمام المنة (ص: 135). (¬4) المجموع (2/ 326). (¬5) نهاية المحتاج (1/ 169). (¬6) المغني (1/ 259 - 178)، كشاف القناع (1/ 112 - 114).

ذكر بعض الفروق بين الجبيرة والخف

على طهارة مائية، فإن خالف ووضعها على غير طهارة وجب نزعها، فإن خاف الضرر بنزعها مسح عليها ويقضي لفوات شرط وضعها على طهارة. والصحيح: أنه لا يشترط الطهارة للجبيرة، وهذه هي الرواية الأخرى في مذهب الحنابلة واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) والشيخ ابن العثيمين (¬2)؛ وذلك لما يلي: 1 - أنه لا دليل على اشتراط الطهارة لها. 2 - أنها تأتي مفاجأة وليست كالخف متى أحتيج لها لبست. ذكر بعض الفروق بين الجبيرة والخف: يفارق المسحُ على الجبيرة المسحَ على الخفين من وجوه منها: 1 - أن المسح على الجبيرة حال الضرورة، أما الخف فبخلاف ذلك. 2 - أن المسح على الجبيرة مؤقت بزوال سببها، بخلاف الخف فإنه مؤقت بالأيام على تفصيل ذكرناه سابقًا. 3 - الجبيرة لا يشترط لها الطهارة على القول الراجح كما ذكرنا، بخلاف الخف فيشترط له الطهارة. 4 - الجبيرة يمسح عليها في الطهارتين الكبرى والصغرى، بخلاف الخف فيجب نزعه في الطهارة الكبرى. 5 - يجب استيعاب الجبيرة بالمسح على الصحيح من قولي العلماء، بخلاف الخف، فلا يجب، بل يكفي المسح على أكثره كما ذكرنا سابقًا في صفة المسح. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 179)، الاختيارات (ص: 15). (¬2) الممتع (1/ 250).

صفة المسح على الجبيرة

6 - أن الجبيرة لا تختص بعضو معين، والخف يختص بالرجل. صفة المسح على الجبيرة: إذا أراد واضع الجبيرة أن يمسح عليها في طهارة فإنه يفعل ما يلي: 1 - يغسل الصحيح من أعضائه. 2 - يمسح على الجبيرة. 3 - لكن هل يستوعب المسح جميع الجبيرة أم يكفي أكثرها كالخف؟ خلاف بين العلماء: أ- فالمالكية (¬1) والحنابلة (¬2) وهو الأصح عند الحنفية (¬3) أنه يجب استيعاب مسح الجبيرة. ب- أما عند الشافعية (¬4) ففيه وجهان مشهوران: أصحهما يجب الاستيعاب، والثاني يجزئه ما يقع عليه الاسم. والصحيح: هو وجوب استيعاب الجبيرة عند المسح عليها. إذا كانت الجبيرة تتجاوز قدر الحاجة فماذا يفعل؟ يمسح عليها لكن إن أمكن نزعها بلا ضرر نزع ما تجاوز قدر الحاجة، فإن لم يمكن فقيل يمسح على ما كان قدر الحاجة ويتيمم عن الزائد. وهو المذهب عند الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 162، 165) (¬2) كشاف القناع (1/ 114 - 120)، المغني (1/ 278 - 279) (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 186 - 187)، بدائع الصنائع (1/ 14) (¬4) المجموع (2/ 323 - 326) (¬5) الإنصاف (1/ 188)

ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالجبيرة

والراجح: أنه يمسح على الجميع بلا تيمم؛ لأنه لما كان يتضرر بنزع الزائد صار الجميع بمنزلة الجبيرة، وهذا هو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- (¬1). ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالجبيرة: 1 - يجوز المسح على العصابة واللصوق أو ما يوضع على الجروح مما يمنع وصول الماء. 2 - العضو الذي عليه جبيرة أو عصابة ونحوه مما يسوغ ستره به ليس فيه إلا المسح فقط، فإن أضره المسح مع كونه مستورًا فيعدل إلى التيمم؛ كما لو كان مكشوفًا. 3 - هل يجب الجمع بين المسح والتيمم؟ قال بعض العلماء: يجب الجمع بينهما احتياطًا، والصحيح أنه لا يجب الجمع؛ لأن إيجاب الطهارتين لعضو واحد مخالف للقواعد الفقهية. ثالثًا: المسح على العمامة: تعريفها: العمامة جمعها العمائم؛ وهي اللباس الذي يلف على الرأس تكويرًا. حكم المسح على العمامة: اختلف الفقهاء في حكم المسح على العمامة: ¬

_ (¬1) الممتع (1/ 243)

شروط المسح على العمامة

1 - فذهب الحنفية (¬1) إلى عدم جواز المسح عليها؛ لأنه لا حرج في نزعها. 2 - وقال المالكية (¬2): يجوز المسح عليها إذا خيف الضرر بنزعها ولم يتمكن من حلها. 3 - وقال الشافعية والحنابلة (¬3) بجواز المسح عليها، إلا أن الشافعية قالوا: لا يكفي الاقتصار عليها بل يمسح بناصيته وعلى العمامة. والصحيح: أن المسح على العمامة جائز ولا يجب أن يمسح ما ظهر من الرأس، لكن يسن، وهذا هو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬4). شروط المسح على العمامة: يشترط لها ما يشترط للخف، ومنها: 1 - كونه في حدث أصغر. 2 - كونها طاهرة. 3 - كونها مباحة، فلا تكون مغصوبة ولا من حرير ولا بها صور لذوات الأرواح، فإن فقد هذا الشرط هل يجوز المسح عليها؟ فيه خلاف؛ والصحيح الجواز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. 4 - أن يكون لبسها على طهارة، فإن لبسها وهو محدث لم يجز المسح عليها، ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 109). (¬2) جواهر الإكليل (1/ 29). (¬3) مغني المحتاج (1/ 60)، الإنصاف، للمرداوي 1/ 185، بتحقيق محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي. (¬4) الممتع (1/ 238).

القدر الواجب مسحه في العمامة

وقيل: يجوز، لكن هل يشترط كمال الطهارة؟ الصحيح أنه لا يشترط لبسها بعد كمال الطهارة. 5 - أن يكون المسح في المدة المحددة، وهذا محل خلاف بين أهل العلم. 6 - أن تكون ساترة لجميع الرأس لا ما جرت العادة بكشفه كالأذنين وبعض مقدم الرأس وكذا جوانب الرأس أو مؤخرته فإنه يعفى عنه، لكن هل يجب مسح المكشوف من الرأس؟ محل خلاف، والصحيح أنه لا يجب المسح، وهي إحدى الروايتين عن أحمد (¬1). 7 - أن المسح عليها إنما يجوز في حق الرجل. 8 - فإن لبستها المرأة فلا يجوز المسح عليها، فإن لبستها لضرورة لم يجز أيضًا لها المسح عليها عند الأكثر؛ لأن ذلك نادر ولا يعتد به. القدر الواجب مسحه في العمامة: اختلف الفقهاء في القدر الواجب مسحه في العمامة؛ فقيل: الواجب مسح أكثرها. وهو مذهب الحنابلة، وقيل: يمسح جميعها. وهي رواية عند الحنابلة، وقيل: يجزئ مسح وسطها وحده. وهو لبعض الحنابلة (¬2). والصحيح: أنه يمسح أكثر العمامة، فلو مسح جزءًا منها لم يصح، وإن مسح الكل فلا حرج، ويستحب كما ذكرنا إذا كانت الناصية بادية أن يمسحها مع العمامة (¬3). ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 163). (¬2) الإنصاف، للمرداوي 1/ 185، بتحقيق محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي. (¬3) الممتع في شرح زاد المستقنع (1/ 259).

هل يشترط للعمامة أن تكون محنكة وذات ذؤابة؟

هل يشترط للعمامة أن تكون محنكة وذات ذؤابة؟ يشترط لمسحها كونها محنكة أو ذات ذؤابة، وفي رواية للمذهب عدم اشتراط ذلك (¬1)، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) -رحمه الله- ورجحها الشيخ ابن العثيمين (¬3). وهذا هو الصحيح، فمتى ثبتت العمامة على الرأس وسميت العمامة فإنه يجوز المسح عليها. هل يجوز المسح على خُمُرِ النساء؟ اختلف العلماء في جواز ذلك؛ فقال بعضهم: لا يجزئ المسح على الخمار، وقال آخرون بأنه يجوز المسح على الخمار المدار تحت الحلق. وهذه هي إحدى الروايتين في مذهب الحنابلة، وعليها المذهب (¬4). والصحيح: أنه متى حصلت المشقة إما لبرودة في الجو أو مشقة في النزع، فالتسامح في هذا لا بأس به، أما ما عدا ذلك فالأولى أن لا تمسح؛ لعدم ورود النص الصحيح في ذلك. حكم المسح على القبع الشامل للرأس والأذنين: ما يلبس في الشتاء من القبع الشامل للرأس والأذنين، اختلف العلماء في جواز المسح عليه. والصحيح أنه يجوز المسح عليه؛ وذلك لمشقة النزع ولحصول الضرر المتوقع بنزعه؛ وذلك لما قد يصيب الرأس بكشفها (¬5). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 283)، الإنصاف، للمرداوي (1/ 185)، بتحقيق محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 186، 187)، والاختيارات (ص: 14). (¬3) الشرح الممتع (1/ 238). (¬4) الإنصاف (1/ 387). (¬5) مجموع فتاوى شيخنا رحمه الله (11/ 170).

إذا كان الرأس ملبدا بالحناء هل يجوز المسح عليه؟

إذا كان الرأس ملبدًا بالحناء هل يجوز المسح عليه؟ الصحيح أنه يجوز المسح على الرأس إذا لُبِّد بالحناء، فما وضع على الرأس فهو تابع له (¬1). ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (1/ 239).

باب الغسل

باب الغسل أولًا: تعريفه: الغسل هو: استعمال ماء طهور في جميع البدن على وجه مخصوص بشروط وأركان (¬1). ثانيًا: موجبات الغسل (أسباب وجوب الغسل). 1 - خروج المني: اتفق الفقهاء على أن خروج المني سبب من أسباب وجوب الغسل بل نقل الإجماع على ذلك، لا فرق بين الرجل والمرأة في النوم واليقظة، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الماء من الماء" (¬3)، أي: يجب الغسل بالماء من إنزال الماء الدافق؛ وهو المني. وعن أم سليم -رضي الله عنها- أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: المرأة ترى في منامها ما يراه الرجل فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا هي رأت الماء" (¬4). هل يشترط لإيجاب الغسل أن يكون المني خرج بشهوة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 82). (¬2) سورة المائدة: 6 (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء برقم (243). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة برقم (278)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها برقم (313).

إذا أحس بانتقال المني فلم يخرج هل عليه الغسل؟

أ- فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والحنابلة (¬3) يشترطون لإيجاب الغسل للمني أن يخرج بشهوة. ب- وذهب الشافعي (¬4) إلى وجوب الغسل بخروج المني مطلقًا، أي سواء وجدت الشهوة أم لم توجد، فإذا خرج لمرض أو لبرد أو لنحوه فإنه يوجب الغسل عندهم. والراجح: هو اشتراط الشهوة لوجوب الغسل. إذا أحس بانتقال المني فلم يخرج هل عليه الغسل؟ أ- ذهب الحنابلة (¬5) إلى أنه متى أحس بانتقاله لكنه ما خرج فإنه يغتسل؛ لأن المني باعد محله فصدق عليه أنه جنب؛ لأن أصل الجنابة من البعد. ب- وذهب الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8) إلى عدم وجوب الغسل، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬9)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬10) وهو الصواب، دليل ذلك حديث أم سليم -رضي الله عنها- السابق وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا هي ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 108). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 127 - 128). (¬3) كشاف القناع (1/ 139). (¬4) المجموع، للنووي (2/ 139). (¬5) كشاف القناع (1/ 641). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 107). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 126). (¬8) المجموع (2/ 140). (¬9) الاختيارات (ص: 17). (¬10) الشرح الممتع (1/ 337).

إذا خرج المني بعد الغسل

رأت الماء" (¬1)، فلم يقل - صلى الله عليه وسلم - لو أحس بانتقاله. وكذلك حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المتقدم، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: "إنما الماء من الماء" (¬2) فمتى لم يوجد ماء يعني المني فلا ماء يعني فلا يغتسل. إذا استيقظ النائم ووجد منيًّا ولم يذكر احتلامًا وجب عليه الغسل؛ لحديث أم سليم السابق، لكن إن تذكر احتلامًا ولم يجد منيًّا فلا يجب عليه الغسل؛ لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم. إذا استيقظ فوجد بللًا، هنا لا يخلو من ثلاث حالات (¬3): الأولى: أن يتيقن أنه موجب للغسل، يعني: أنه منيٌّ، فالحكم هنا وجوب الغسل سواء ذكر احتلامًا أم لم يذكر. الثانية: أن يتيقن أنه ليس بمني، فالحكم عدم وجوب الغسل، لكن يجب غسل ما أصابه؛ لأن حكمه حكم البول. الثالثة: أن يجهل هل هو مني أم لا؟ فقد اختلف في هذه الحالة العلماء؛ فقيل: يجب أن يغتسل احتياطًا. وهو الصواب، وقيل: لا يجب؛ لأن الأصل الطهارة. إذا خرج المني بعد الغسل: إذا خرج المني بعد الغسل فقد اختلف الفقهاء في ذلك. والراجح هو عدم وجوب الغسل إلا إذا كان خروج المني ناشئًا عن لذة طارئة، فيجب عليه الغسل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة برقم (278)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها برقم (313). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء برقم (243). (¬3) الشرح الممتع (1/ 235 - 236).

2 - التقاء الختانين

مرة أخرى. أما إذا خرج المني بعد غسله بدون لذة فلا يجب الغسل، والواجب عليه الاستنجاء والوضوء عند إرادة الصلاة وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1). 2 - التقاء الختانين: من أسباب الغسل التقاء الختانين، وذلك كما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع ثم جَهَدَهَا فقد وجب الغسل" (¬2) وزاد في رواية مسلم: "وإن لم ينزل". وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" (¬3). وعنها -رضي الله عنها- أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" (¬4). والتقاء الختانين الذي يوجب الغسل هو تغييب الحشفة في الفرج، وليس المراد من التقاء الختانين التصاقهما وضم أحدهما للآخر، فإنه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها ولم يدخله في مدخل الذكر لم يجب الغسل. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة (5/ 300). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب إذا التقى الختانان، برقم (287)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم (348). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم (349). (¬4) أخرجه الترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، برقم (109)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وأبوابها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، برقم (608) وصححه الألباني في الإرواء (1/ 121) برقم (80).

هل يشترط عدم وجود الحائل؟

إذا غيب الإنسان حشفته في الفرج ولم ينزل منيًا فإنه يجب عليه الغسل؛ لأن العبرة بتغييب الحشفة لا بالإنزال، وهذا يخفى على كثير من الناس لظنهم عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال. وهذا خطأ بدليل حديث أبي هريرة السابق وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن لم ينزل" (¬1). إذا غيب الإنسان حشفته في دبر ولو من بهيمة أو ميت هل يجب عليه الغسل؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقال بعضهم: يشترط لوجوب الغسل أن يكون في فرج آدمي حي، فلو أولج في فرج آدمي ميت أو أولج في بهيمة فإنه لا يجب الغسل. وقال بعضهم: بل يجب عليه الغسل، والصحيح أنه يأثم ويجب عليه الغسل. هل يشترط عدم وجود الحائل؟ محل خلاف بين العلماء؛ فقال بعضهم: يشترط أن يكون ذلك بلا حائل، فإن كان هناك حائل فلا يصدق عليه مس الختان، ولذلك لا يجب الغسل. وهذا هو قول الحنابلة؛ فإنهم يقولون بأنه لا يجب الغسل على من أولج بحائل مطلقًا (¬2). وقال آخرون: بل يجب الغسل؛ لعموم قوله: "ثم جهدها" والجهد يحصل ولو مع الحائل. وقال آخرون بالتفصيل: إن كان الحائل رقيقًا بحيث تكمل به اللذة وجب الغسل، وإن لم يكن رقيقًا فإنه لا يجب. وهذا تفصيل جيد، ولو قيل بالغسل احتياطًا لكان أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم (248). (¬2) كشاف القناع (1/ 143).

3 - الحيض والنفاس

3 - الحيض والنفاس: هذا هو الموجب الثالث من موجبات الغسل، دليل ذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬1) أي إذا اغتسلن، فمنع الله -سبحانه وتعالى- من وطء زوجته قبل غسلها فدل على وجوبه عليها. أما السنة: فقد جاء في صحيح البخاري ومسلمٌ من حديث فاطمة بنت أبي حبيش قوله - صلى الله عليه وسلم - لها: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬2). وقد أجمع الفقهاء على وجوب الغسل على الحائض والنفساء. 4 - الموت: إذا مات المسلم وجب على المسلمين تغسيله، دليل ذلك: * قوله - صلى الله عليه وسلم - فيمن وقصته ناقته بعرفة: "اغسلوه بماء وسدر" (¬3) والأصل في الأمر الوجوب. * وحديث أم عطية حين توفيت إحدى بناته - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلنها ثلانًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 222. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره برقم (314)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها برقم (333) واللفظ لمسلم. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين برقم (1206)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات برقم (1206). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر برقم (1195)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في غسل الميت برقم (939).

هل يشمل الغسل السقط؟

هل يشمل الغسل السقط؟ الجواب: فيه تفصيل، إن نفخت فيه الروح غسل وكفن وصُلِّي عليه، وإن لم تنفخ فيه الروح فلا، وتنفخ فيه الروح إذا تم له أربعة أشهر. اتفق الفقهاء على أن الشهيد لا يغسل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: "ادفنوهم في دمائهم" (¬1) وهذا خاص بشهيد المعركة، أما ما ورد فيه لفظ الشهادة كالمبطون والمطعون وصاحب الهدم والغرق والنفساء ونحوهم، فإنهم يُغَسَّلُون. إن كان الشهيد جنبًا أو كانت الشهيدة حائضًا أو نفساء فهل يشرع غسلها؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: أ- فذهب أبو حنيفة (¬2) والحنابلة (¬3) -وهو الرواية عند الشافعية (¬4) وقول عند المالكية-، إلى أنه يغسل. ب- وذهب جمهورهم إلى عدم تغسيله (¬5). والأولى أن يغسل؛ لما ورد من أن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري المعروف بحنظلة بن الراهب غسلته الملائكة بين السماء والأرض (¬6)، وقد قيل: إن ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب من لم ير غسل الشهداء، برقم (1281). (¬2) حاشية ابن عابدين (8/ 608)، وبدائع الصنائع (1/ 322). (¬3) المغني (3/ 530). (¬4) روضة الطالبين (2/ 120). (¬5) الشرح الصغير (1/ 576). (¬6) عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده في قصة أحد وقتل شداد بن الأسود الذي كان يقال له: ابن شعوب حنظلة بن أبي عامر قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته"، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لذلك غسلته الملائكة". رواه الحاكم في المستدرك (3/ 225) برقم (4917)، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". والبيهقيُّ (4/ 15).

البغاة وقطاع الطريق هل يغسلون؟

غسل تكريم وتشريف. البغاة وقطاع الطريق هل يغسلون؟ ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أنهم يغسلون. وذهب الحنفية (¬2) إلى أنهم لا يغسلون إذا قتلوا في الحرب؛ إهانة لهم وزجرًا لغيرهم من فعلهم، أما إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم فإنهم يغسلون. والصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تغسيلهم والصلاة عليهم. إذا قطع شيء من الميت وجعل معه في أكفانه فإنه يغسل بلا خلاف بين الفقهاء، لكن إن كان لم يحصل إلا جزء من الميت فقط فقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ فذهب الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) إلى أنه إن كان الموجود هو الأكثر غسل، وإلا فلا. وذهب الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) إلى أنه يغسل سواء كان أكثر البدن أو أقله. وهذا هو الصحيح. 5 - إسلام الكافر: هذا هو الموجب الخامس عند بعض الفقهاء للغسل. وقد اختلف الفقهاء في هذا الموجب على قولين: ¬

_ (¬1) انظر حاشية ابن عابدين (3/ 312)، المغني (8/ 116 - 117). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 142). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 572)، بدائع الصنائع (1/ 302). (¬4) مواهب الجليل (2/ 212). (¬5) شرح البهجة (2/ 102). (¬6) المغني (2/ 539).

ثالثا: ذكر بعض الأغسال المستحبة

أ- فذهب المالكية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن إسلام الكافر موجب للغسل، فمتى أسلم الكافر فإن الواجب عليه أن يغتسل، واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن ثُمَامَة بن أُثالٍ -رضي الله عنه- عندما أسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به إلى حائط بني فلان فَمُرُوهُ أن يغتسل" (¬3) وكذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - قيس بن عاصم حين أسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر (¬4). ب- وذهب الحنفية (¬5) والشافعية (¬6) إلى استحباب غسل الكافر إذا أسلم وهو غير جنب، أما إن كان جنبًا فالواجب عليه الاغتسال للجنابة، واحتجوا لذلك أنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلم خلق كثير ولم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالاغتسال، أما أمره - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال وقيس بن عاصم فهو محمول على الاستحباب لا الوجوب. ثالثًا: ذكر بعض الأغسال المستحبة: 1 - غسل الجمعة: اختلف الفقهاء في غسل الجمعة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه واجب على من أتى الجمعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" (¬7) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح تعليقًا على هذا ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 130 - 131). (¬2) كشاف القناع (1/ 145). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 304) رقم (8024)، والبيهقيُّ في باب الكافر يسلم فيغتسل، برقم (776)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 164). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 61)، أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، برقم (355)، النسائي (ذكر ما يوجب الغسل وما لا يوجبه)، باب غسل الكافر إذا أسلم، برقم (188) وغيرهم، والحديث صححه الألباني في الإرواء برقم (128) (1/ 164). (¬5) فتح القدير (1/ 44). (¬6) المجموع (2/ 152 - 153). (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم

الحديث: "وهو بمعنى اللزوم مطلقًا" (¬1) وهذا القول حكاه ابن المنذر عن مالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري (¬2) وهو رواية عن الإمام أحمد (¬3) وهو رأي الشيخ ابن العثيمين (¬4). القول الثاني: أنه يستحب ولا يجب، وهذا هو مذهب (¬5) جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار، واحتجوا لذلك بما رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا" (¬6)، قال الحافظ ابن حجر: هذا من أقوى الأدلة على الاستحباب وعدم فريضة الغسل يوم الجمعة (¬7). ولحديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت (¬8)، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬9). ¬

_ = الجمعة أو على النساء؟ برقم (839)، ومسلمٌ في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وبيان ما أمروا به، برقم (846) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬1) فتح الباري (2/ 379). (¬2) انظر في ذلك: نيل الأوطار (1/ 290). (¬3) شرح الروض المربع (2/ 470). (¬4) الشرح الممتع (5/ 108). (¬5) نيل الأوطار (1/ 290). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857). (¬7) انظر: تلخيص الحبير 2/ 67. (¬8) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 67): "حكى الأزهري أن قوله: "فبها ونعمت". معناه: فبالسنة أخذ ونعمت السنة. قاله الأصمعي، وحكاه الخطابي أيضًا، وقال: إنها ظهرت تاء التأنيث؛ لإضمار السنة، وقال غيره: ونعمت الخصلة. وقال أبو حامد الشاركي: ونعمت الرخصة. قال: لأن السنة الغسل. وقال بعضهم: معناه: فبالفريضة أخذ ونعمت الفريضة! ". (¬9) أخرج أحمد (5/ 8، 11، 16، 22)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الجمعة، باب صحيح ابن خزيمة (3/ 128)، باب ذكر دليل أن الغسل يوم الجمعة فضيلة لا فريضة، برقم (1757)،

2 - غسل العيدين

القول الثالث: أنه واجب على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره وهذا رواية عند الحنابلة واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) -رحمه الله-. والراجح من هذه الأقوال هو استحباب الغسل لمن أتى الجمعة، ووقته يمتد من طلوع الفجر إلى صلاة الجمعة، وإن كان المستحب أن يتصل غسله بالذهاب (¬2). المرأة إن أتت الجمعة يسن لها الغسل، وهذه إحدى الروايتين عند الحنابلة، والصحيح في المذهب عندهم أن المرأة لا يستحب لها الاغتسال للجمعة (¬3). لكن الراجح هو سنية الاغتسال للمرأة إذا أتت الجمعة؛ وذلك لأن النصوص الواردة في فضل الغسل عامةٌ فتشمل الرجل والمرأة. 2 - غسل العيدين: استحب العلماء غسل العيدين، وهذا هو الصحيح في مذهب الحنابلة وعليه جمهورهم، وهناك آخر عندهم بوجوبه. والصحيح الاستحباب، والأدلة الواردة في غسل العيدين قال عنها العلماء: إنها ضعيفة، لكن جاءت آثار عن الصحابة أنهم كانوا يغتسلون للعيدين. ومحل الاستحباب أن يكون حاضرها ويصلي سواء صلى وحده أو في جماعة ¬

_ = وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة برقم (354)، والترمذيُّ في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة برقم (497)، وقال: حديثٌ حسنٌ، والنسائيُّ (المجتبى) في كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، برقم (1380). (¬1) الإنصاف (1/ 247). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق.

3 - غسل من غسل ميتا

على الصحيح في المذهب، وقيل: لا يستحب إلا إذا صلى في جماعة (¬1). 3 - غسل من غسَّل ميتًا: هذا من الأغسال المستحبة، وهو الصحيح في مذهب الحنابلة (¬2)، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (¬3). وظاهر الحديث الوجوب، لكن جاءت أدلة أخرى صرفته إلى الاستحباب ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عليكم في غسل ميتكم إذا غسلتموه غسل؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" (¬4). وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل" (¬5). وبالاستحباب أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). 4 - غسل دخول مكة: هذا الغسل مستحب عند جميع العلماء كما قاله ابن المنذر (¬7)، واستدلوا لذلك بما جاء في صحيحي البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طُوَى (¬8)، ثم يصلي به الصبح ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الإنصاف (1/ 248). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، برقم (3161)، والترمذيُّ في كتاب، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت (993) وصححه الألباني في الإرواء برقم (144). (¬4) أخرجه الحاكم في كتاب الجنائز برقم (1426)، والبيهقيُّ في كتاب الطهارة، باب الغسل من غسل الميت، برقم (1358). وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص: 254). (¬5) أخرجه الدارقطني في كتاب الجنائز، باب التسليم في الجنازة واحد والتكبير أربعًا وخمسًا وقراءة الفاتحة، برقم (4)، أحكام الجنائز، للألباني (ص: 54). (¬6) فتاوى اللجنة (5/ 318). (¬7) فتح الباري (3/ 435) (¬8) واد معروف بقرب مكة.

5 - غسل الإحرام

ويغتسل، ويحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" (¬1). 5 - غسل الإحرام: يستحب لمن أحرم بحج أو عمرة الاغتسال، ودليل ذلك حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل" (¬2). 6 - الاغتسال من الإغماء والجنون: من الأغسال المستحبة غسل المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام، فإن كان هناك إنزال وجب في حقهما الغسل. وهذا القيد هو المذهب عند الحنابلة. ودليل سنية هذا الغسل ما رواه البخاري ومسلمٌ عن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: "ضعوا لي ماء في المخضب"، قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: "ضعوا لي ماء في المخضب"، قالت: فقعد فاغتسل ... (¬3). قال الشوكاني -رحمه الله- تعليقًا على هذا الحديث في نيل الأوطار: "وقد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحج، باب الاغتسال عند دخول مكة، برقم (1498)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة والاغتسال لدخولها ودخولها نهارًا، برقم (1259) واللفظ للبخاري. (¬2) صحيح سنن الترمذيُّ برقم (664)، الإرواء (149). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه بالناس وهو جالس ... ، برقم (655)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم (418)

هل غسل المجنون والمغمى عليه مشروع تعبدا أم لتقوية البدن؟

ساقه المصنف ها هنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض، فدل ذلك على تأكد استحبابه" (¬1). هل غسل المجنون والمغمى عليه مشروع تعبدًا أم لتقوية البدن؟ يَحْتَمِلُ الأمرين: وقال بعض الفقهاء: إنه مشروع تعبدًا (¬2). الأغسال المستحبة: لا يستحب الاغتسال للوقوف بعرفة وطواف الوداع والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار، وكذلك الطواف؛ لأنه لم يرد في هذا نصوص شرعية، هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) -رحمه الله-. والمذهب على استحباب ذلك، لكن الصحيح عدم الاستحباب (¬4). هل يستحب الاغتسال لداخل المدينة النبوية؟ أحد الوجهين عند الحنابلة استحباب ذلك، وهو المنصوص عن الإمام أحمد -رحمه الله-. والصحيح من المذهب عند الحنابلة عدم استحباب ذلك (¬5). آكد الأغسال حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية: غسل الجمعة، ثم غسل من غسَّل ميتًا، وفي رواية عند الحنابلة (¬6) أن آكدها هو غسل من غسَّل ميتًا، ثم يليه ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (1/ 306). (¬2) الشرح الممتع (1/ 356). (¬3) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام (ص: 30). (¬4) الإنصاف (1/ 270). (¬5) الإنصاف (1/ 271). (¬6) الإنصاف (1/ 251).

هل يجوز أن يتيمم لما يستحب له الغسل عند الحنابلة؟

غسل الجمعة. والصحيح أن آكدها غسل الجمعة. هل يجوز أن يتيمم لما يستحب له الغسل عند الحنابلة؟ قيل: يجوز أن يتيمم لما يستحب له، وقيل: لا يتيمم، وقيل: يتيمم لغير الإحرام، وقيل: يتيمم لما يستحب له الوضوء لعذر (¬1). والصحيح: أنه يتيمم لما تستحب له الطهارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما ألقي عليه السلام تيمم ثم رد على المسلِّم عليه السلام، ومن المعلوم أن التيمم لرد السلام ليس بواجب بالإجماع. ثم إن التيمم بدل عن الطهارة بالماء والبدل له حكم المبدل منه، فمتى استحبت الطهارة بالماء استحبت الطهارة بالتيمم، وهذا هو قول الشيخ ابن العثيمين (¬2). رابعًا: فرائض الغسل: 1 - النية: لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3). ومذهب المالكية (¬4) والشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) أن النية فرض في الغسل، وذهب الحنفية (¬7) إلى أن النية في الغسل سنة ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 252). (¬2) الممتع (1/ 385). (¬3) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 133). (¬5) مغني المحتاج (1/ 72). (¬6) كشاف القناع (1/ 152، 154). (¬7) حاشية ابن عابدين (1/ 105).

2 - تعميم البدن بالماء

وليست بفرض. والراجح أن النية فرض في الغسل بل هي شرط في صحة جميع العبادات. 2 - تعميم البدن بالماء: قال النووي: "إفاضة الماء على جميع البدن؛ شعره وبشره، واجب بلا خلاف" (¬1). هل يجب غسل باطن الفرج؟ الصحيح في المذهب عند الحنابلة (¬2) أنه لا يجب غسل باطن الفرج، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) -رحمه الله-. نقض شعر المرأة: أ- ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) إلى أنه لا يجب نقض شعر المرأة في الغسل إذا كان الماء يصل إلى أصول شعرها. احتجوا لذلك بحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا، إنما يكفيك أن تَحْثِي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء" (¬7). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 180). (¬2) الإنصاف (1/ 254). (¬3) الاختيارات الفقهية (ص: 32). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 134). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 134). (¬6) المجموع، للنووي (2/ 186). (¬7) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم (330).

المضمضة والاستنشاق في الغسل

أما إذا كان لا يصل الماء إلى أصول الشعر فالواجب عندهم نقضه. ب- وذهب الحنابلة (¬1) إلى أنه لا يجب نقض الشعر في غسل الجنابة لكن يجب نقضه في غسل الحيض والنفاس. واحتجوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- حيث قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انقضي رأسك وامتشطي" (¬2) وهذا هو المذهب عندهم. ج- وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا يجب لا في الجنابة ولا في الحيض والنفاس (¬3). الراجح: الصحيح عدم الوجوب؛ لحديث أم سلمة سابق الذكر، ففي رواية أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه للحيضة والجنابة؟ قال: "لا، إنما يكفيك أن تَحْثِي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" (¬4) فهذا الحديث في عدم الوجوب وبه أفتت اللجنة الدائمة (¬5). المضمضة والاستنشاق في الغسل: ذهب الحنفية (¬6) والحنابلة (¬7) إلى وجوبها في الغسل؛ لأن الأنف والفم من الوجه، والوجه مأمور بغسله في الطهارتين الكبرى والصغرى، فيجب لذلك المضمضة والاستنشاق في الغسل. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 226، 227)، كشاف القناع (1/ 154). (¬2) أخرج البخاري في كتاب الحيض، باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، برقم (311)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... ، برقم (1211). (¬3) الغني (1/ 226، 227). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم (330). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 321). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 102). (¬7) كشاف القناع (1/ 96 - 154).

3 - الموالاة

وذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) إلى أن المضمضة والاستنشاق غير واجبتين في الغسل، لأن الأنف والفم ليس ظاهر الجسد فلا يجب غسلهما. والصحيح أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الكبرى والصغرى. 3 - الموالاة: اختلف الفقهاء في فرضية الموالاة في الغسل: أ- فذهب الحنفية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى أنها سنة في غسل جميع البدن؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن إن فأتت الموالاة بأن جف ما غسله من بدنه بزمن معتدل وأراد أن يتم غسله، جدد لإتمامه النية وجوبًا؛ لانقطاع النية بفوات الموالاة. ب- أما المالكية (¬6) فقالوا بأن الموالاة فرض في الغسل. وبه قال بعض الحنابلة (¬7). ونرى أن الراجح هو الوجوب؛ لأنها عبادة واحدة لا يجوز تجزئتها ولأن من تمام فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يراعي الموالاة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 126). (¬2) مغني المحتاج (1/ 73). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 103 - 105). (¬4) المجموع شرح المهذب (1/ 453). (¬5) كشاف القناع (1/ 152). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 133). (¬7) الإنصاف (1/ 141).

4 - الدلك

4 - الدلك: اختلف الفقهاء في حكمه: أ- ذهب المالكية (¬1) إلى وجوب الدلك في الغسل وقالوا بأنه واجب بنفسه لا لإيصال الماء للبشرة فيعيد تاركه أبدًا، وبه قال المزني من الشافعية (¬2). ب- وذهب الحنفية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى عدم الوجوب، وقالوا بأن دلك الأعضاء في الغسل سنة، واحتجوا لذلك بحديث أم سلمة المتقدم وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لها: " ... ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" (¬6) فلم يذكر - صلى الله عليه وسلم - لها الدلك. وهذا هو الصحيح، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬7). 5 - التسمية: أ- ذهب الحنفية (¬8) والشافعية (¬9) والمالكية (¬10) إلى أن التسمية سنة من سنن ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 134). (¬2) المجموع شرح المهذب (2/ 185). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 103 - 105). (¬4) المجموع شرح المهذب (2/ 185). (¬5) كشاف القناع (1/ 152). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم (330). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 323). (¬8) حاشية ابن عابدين (1/ 105). (¬9) المجموع شرح المهذب (2/ 181). (¬10) حاشية الدسوقي (1/ 137).

خامسا: سنن الغسل

الغسل ولا تجب، وهذا أحد القولين في مذهب الحنابلة (¬1). ب- والمذهب عند الحنابلة (¬2) وجوبها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (¬3) فقاسوا إحدى الطهارتين على الأخرى. والصحيح أن التسمية سنة في الوضوء والغسل ولا تجب. خامسًا: سنن الغسل: 1 - غسل الكفين ثلاثًا قبل إدخالهما في الإناء: اتفق الفقهاء على سنة غسل الكفين ثلاثًا قبل أن يدخلهما في الإناء، ودليل ذلك حديث ميمونة -رضي الله عنها- قالت: "وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا ... " (¬4). 2 - إزالة الأذى: يسن البداءة بإزالة الأذى وذلك بأن يغسل فرجه ويفيض الماء بيده اليمنى ثم يغسله باليسرى، دليل ذلك حديث ميمونة المتقدم وفيه "ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره" (1). 3 - الوضوء: ذهب الجمهور إلى أنه يسن في الغسل الوضوء، وذلك لحديث عائشة ¬

_ (¬1) المغني (1/ 102). (¬2) كشاف القناع (1/ 90)، المغني (1/ 102). (¬3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء، برقم (397) وحسنه الألباني في الإرواء برقم (122) (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب الغسل مرة واحدة برقم (254)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (317) واللفظ للبخاري.

-رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ وضوءه للصلاه ... " (¬1). واختلف الفقهاء في محل غسل الرجلين، هل يغسلهما مع وضوئه أم إذا فرغ من غسله غسلها؟ أ- فذهب الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والصحيح في مذهب الحنابلة (¬4) إلى أنه لا يؤخرهما بل يكمل الوضوء بغسل الرجلين. ب- وذهب المالكية (¬5) إلى تأخير غسلهما إلى فراغه من غسله. والصواب أن يقال: إنه يغسل قدميه في مكان آخر عند الحاجة كما لو كانت الأرض طينًا؛ لأنه لو لم يغسلهما لتلوثت رجلاه بالطين، أما في وقتنا الحاضر فالأولى أن يتوضأ وضوءًا كاملًا؛ لأنه ليس هناك حاجة لذلك، ويدل لذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدم حيث إنها ذكرت أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة ثم توضأ وضوءه للصلاة فلم تذكر للرجلين تأخيرًا. وخلاصة الأمران حديث عائشة يحمل عند عدم الحاجة، وحديث ميمونة الذي فيه أنه كان يؤخر غسل رجليه فيغسلهما في مكان آخر يحمل عند الحاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب تخليل الشعر حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه، برقم (269)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (316) واللفظ للبخاري. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 106). (¬3) المجموع (2/ 182). (¬4) كشاف القناع (1/ 152)، الإنصاف (2/ 252). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 136).

4 - البدء باليمين

4 - البدء باليمين: اتفق الفقهاء على استحباب البداءة باليمين في الغسل؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله" (¬1). 5 - تثليث الغسل: دليل ذلك حديث ميمونة -رضي الله عنها- وفيه: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات" (¬2) وكذلك حديث عائشة-رضي الله عنها-. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) أنه لا يشرع تثليث غسل اليدين لعدم؛ صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما المشروع هو غسل الرأس ثلاثًا، أما سائر البدن فلا يشرع غسله ثلاثًا. وبهذا قال المالكية (¬4). سادسًا: صفة الغسل: للغسل صفتان: صفة إجزاء، وصفة كمال. أولًا: صفة الإجزاء، وهي أن ينوي ثم يسمِّي ثم يعمم بدنه بالغسل. ثانيًا: صفة الكمال، وهي أن ينوي ثم يسمِّي ويغسل يديه ثلاثًا وما لوثه ثم يتوضأ ويَحْثِي على رأسه ثلاثًا تُرَوِّيْه ثم يفيض الماء على سائر جسده مع مراعاة تدليكه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم (166)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم (268) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (317) (¬3) مجموع الفتاوى (20/ 369)، الاختيارات (ص: 17). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 137).

سابعا: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالغسل

سابعًا: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالغسل: 1 - يجزئ غسل واحد عن حيض وجنابة أو عن جمعة وعيد أو عن جنابة وعن جمعة، وإذا نوى الكل أجزأه؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). 2 - يقوم الغسل مقام الوضوء، فمتى اغتسل الرجل من الجنابة وكذلك المرأة متى اغتسلت من الحيض أو النفاس ولم تكن توضأت قبل الشروع في الغسل أجزأ الغسل عن الوضوء. 3 - يجوز للإنسان أن ينام وهو جنب، لكن الأفضل له أن يتوضأ؛ لحديث عمر -رضي الله عنه- أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب" (¬2). 4 - من أراد أن يغتسل غسلًا واجبًا أو مستحبًا فيجوز له أن يستخدم الصابون والشامبو ونحو ذلك من المنظفات ولا حرج عليه في ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب نوم الجنب، برقم (283)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، برقم (306).

باب التيمم

باب التيمم تعريفه: التيمم هو: مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص (¬1). دليل مشروعيته: دل الكتاب والسنة والإجماع على جواز التيمم: 1 - دليل الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬2). 2 - أما السنة فدليله: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي" إلى أن قال: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬3). 3 - أما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن التيمم مشروع بدلًا عن الوضوء والغسل في أحوال، سنذكرها -إن شاء الله- لاحقًا (¬4). هل التيمم خاص بهذه الأمة؟ نعم، التيمم من الخصائص التي خص الله تعالى بها هذه الأمة، فلم يكن ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 160). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، برقم (427)، (328)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521). (¬4) كشاف القناع (1/ 160)، مغني المحتاج (1/ 87).

هل التيمم رخصة أم عزيمة؟

مشروعًا عند الأمم السابقة، وهذا دليل رحمة الله بهذه الأمة وتخفيفه عنها. ففي حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي" إلى أن قال: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" (2). هل التيمم رخصة أم عزيمة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة؛ فذهب الجمهور (¬1) إلى أن التيمم رخصة للمسافر والمقيم، وقال الحنابلة (¬2) وبعض المالكية (¬3): إنه عزيمة. والصحيح أن التيمم عزيمة في حق العادم للماء، ورخصة في حق الواجد للماء العاجز عن استعماله. وثمرة الخلاف هنا تكمن في الآتي: أن الرخصة لا تستباح بالمعصية؛ فمتى سافر الإنسان سفر معصية ثم لم يجد ماء فتيمم للصلاة، فعلى من قال بأنه رخصة يجب عليه الإعادة؛ لأن التيمم رخصة فلا تستباح بمحرم. وإن قلنا بأنه عزيمة فنقول بأن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه مع ثبوت الإثم عليه بسفره سفر المعصية. شروط التيمم: للتيمم شروط بعضها مجمع عليها وبعضها يختلف فيها بين العلماء، ومن هذه الشروط: ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 87)، المجموع (2/ 238). (¬2) كشاف القناع (1/ 161)، المغني (1/ 311). (¬3) مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل (1/ 325).

1 - النية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) 2 - الإسلام. 3 - العقل. 4 - التمييز. وهذه الشروط الثلاثة شروط لكل عبادة، إلا التمييز في الحج فإنه لا يشترط. 5 - دخول وقت الصلاة: وهذا الشرط اختلف فيه الفقهاء: أ- فذهب الجمهور (¬2) إلى اشتراط دخول الوقت لما يتيمم له من فرض أو نفل له وقت مخصوص، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬3)، والقيام إلى الصلاة لا يكون إلا بعد دخول الوقت لا قبله. وقالوا أيضًا بأن التيمم ضرورة، فلذلك لم يجز قبل الوقت. ب- وذهب الحنفية (¬4) إلى جواز التيمم قبل الوقت لأكثر من فرض ولغير الفرض أيضًا؛ لأن التيمم يرفع به الحدث إلى وجود الماء وليس يبيح فقط، وقاسوا ذلك على الوضوء، وهذا هو الصحيح وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬5)؛ لأنه بدل عن الماء فيقوم مقامه إلى أن يوجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: القوانين الفقهية (ص: 37)، مغني المحتاج (1/ 105)، كشاف القناع (1/ 161). (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) بدائع الصنائع (1/ 54)، وحاشة ابن عابدين (1/ 161). (¬5) الشرح الممتع (1/ 378).

6 - تعذراستعمال الماء لعدمه أو لخوف استعماله: أما دليل عدم الماء فللأدلة التي سقناها آنفًا في مشروعية التيمم، أما دليل الخوف من استعمال الماء كأن يكون به مرض فيخاف إن استعمل الماء في الوضوء أو الغسل زاد مرضه أو تأخر بُرْؤُهُ، فهنا يجوز التيمم، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في غزوة ذات السلاسل فاحتلم في ليلة باردة شديدة البرد فأشفق إن اغتسل هلك، فتيمم ثم صلى بأصحابه صلاة الصبح" (¬2) فأقره - صلى الله عليه وسلم - على فعله هذا، لكن إن خاف إن استعمل الماء لبرودته وكان عنده ما يمكن به تسخين الماء وجب عليه أن يقوم بتسخين الماء، ولا يعدل إلى التيمم؛ لأنه في حكم واجد الماء في هذه الحالة. 7 - أن يكون بتراب طهور مبيح غير مخترق له غبار باليد: وهذا الشرط هو مذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) واختاره أبو يوسف من الحنفية (¬5)، أما الحنفية (¬6) والمالكية واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬7)، فقالوا بأنه يجوز بكل ما تصاعد على الأرض، فلا يختص التيمم بالتراب، وهذا هو الصحيح ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) أخرجه البخاريُّ تعليقًا (الفتح 1/ 454)، وقواه ابن حجر في الفتح (1/ 454). (¬3) المجموع (2/ 245). (¬4) المغني (1/ 240)، كشاف القناع (1/ 165). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 167). (¬6) المرجع السابق. (¬7) الشرح الصغير (1/ 188).

فروض التيمم

واختاره شيخنا (¬1) - رحمه الله دليل ذلك قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2) والصعيد: كل ما تصاعد على وجه الأرض، واشتراط كون التراب طهورًا عند الحنابلة نقول بأن الصحيح أنه ليس في التراب قسم طاهر غير مطهر كما سبق في الماء، فمتى تيمم الإنسان بتراب ثم جاء آخر ليتيمم بهذا التراب الذي تيمم به الأول، جاز له ذلك. ولا يشترط كون التراب له غبار على الصحيح. فروض التيمم: 1 - مسح الوجه؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (¬3). 2 - مسح ظاهر الكفين؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬4). وقد اختلف الفقهاء في صفة مسح اليدين: فذهب الحنفية (¬5) والشافعية (¬6) إلى أن المسح يكون إلى المرفقين على وجه الاستيعاب كالوضوء؛ لأن التيمم يقوم مقام الوضوء فيقاس عليه. وذهب المالكية (¬7) والحنابلة (¬8) إلى أن الفرض مسح اليدين إلي الكوعين ومن ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (1/ 392). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) سورة المائدة: 6. (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 158). (¬6) مغني المحتاج (1/ 99). (¬7) الشرح الصغير (1/ 151). (¬8) كشاف القناع (1/ 174).

الكوعين إلى المرفقين سنة، احتجوا بحديث عمار بن ياسر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين" (¬1). والصحيح: أن مسح اليدين يكون إلى الكوعين فقط ولا يشرع الزيادة إلى المرفقين؛ لأن هذا هو الثابت من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر، فعن عبد الرحمن بن أبزى قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك هكذا" فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). 3 - الترتيب: وقد اختلف الفقهاء في هذا الفرض؛ فذهب المالكية (¬3) إلى أن الترتيب في التيمم بين الوجه والكفين مستحب وليس بواجب، وذهب الشافعية (¬4) إلى أن الترتيب في التيمم فرض مثل الوضوء، أما الحنابلة (¬5) فيقولون بأنه فرض في الحدث الأصغر لا الأكبر؛ لعدم اشتراط الترتيب في الطهارة من الحدث أكبر. والراجح هو وجوب الترتيب في التيمم في المحدثين: الأكبر والأصغر، فيجب على المتيمم أن يبدأ بالوجه قبل اليدين، وأيضًا وصفه - صلى الله عليه وسلم - لصفة التيمم في ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب التيمم هل ينفخ فيهما، برقم (331)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب التيمم (368). (¬3) الشرح الصغير (1/ 289). (¬4) مغني المحتاج (1/ 99). (¬5) كشاف القناع (1/ 175).

مبطلات التيمم

حديث عمار بن ياسر المتقدم حيث بدأ بالوجه قبل اليدين فوجب الترتيب لذلك. 4 - الموالاة: وهذا الفرض أيضًا مختلف فيه بين الفقهاء: فذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) إلى أن الموالاة في التيمم سنة كما في الوضوء. وذهب المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنها فرض في الحدث الأصغر، أما الأكبر فهي فيه سنة عند الحنابلة. والصحيح أن الموالاة واجبة في الطهارتين، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬5). مبطلات التيمم: 1 - يبطله ما يبطل الوضوء؛ لأنه بدل عن الوضوء. 2 - وجود الماء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" (¬6). 3 - زوال العذر باستعمال الماء كالمرض والبرد كما ذكرنا، والقاعدة في ذلك: أن ما جاز بعذر بطل بزواله. 4 - خروج الوقت، وقد اختلف الفقهاء في هذا الناقض: ¬

_ (¬1) ابن عابدين (1/ 154). (¬2) مغني المحتاج (1/ 99). (¬3) الشرح الصغير بحاشيته (1/ 155). (¬4) كشاف القناع (1/ 175). (¬5) الشرح الممتع (1/ 399). (¬6) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، برقم (124)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 160).

ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالتيمم

فذهب الحنابلة (¬1) إلى أن خروج وقت الصلاة التي تيمم لها ناقض للتيمم؛ فإن تيمم لصلاة الظهر مثلًا فيبطل تيممه بخروج وقت الظهر فلا يصلي به العصر. وذهب بعضهم إلى أن خروج الوقت لا يعتبر ناقضًا للوضوء. والصحيح: أن التيمم لا يبطل بخروج الوقت، وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2). ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالتيمم: 1 - اتفق الفقهاء على أن تأخير الصلاة بالتيمم لآخر الوقت أفضل من تقديمه لمن كان يرجو الماء آخر الوقت، أما إذا كان يئس من وجوده فيستحب تقديمه أول الوقت عند الجمهور، وهذا هو الصحيح (¬3). وذهب بعض العلماء (¬4) إلى أنه إذا كان يعلم وجود الماء فيجب أن يؤخر الصلاة. والراجح: أنه لا يجب التأخير بل هو أفضل، فإن صلى في أول الوقت فلا بأس. 2 - متى وجد المتيمم الماء في صلاته هل يقطعها مباشرة أم له أن يتمها؟ قولان لأهل العلم؛ قيل: عليه أن يقطع صلاته ثم يتوضأ؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وجد الماء فليمس بشرته". فإن صلى بتيممه بطلت صلاته، أما إذا صلى ثم وجد الماء فلا إعادة عليه. وقيل: بل له أن يتم صلاته، وهي صحيحة؛ ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 294). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 344). (¬3) انظر في ذلك: الإنصاف (2/ 252). (¬4) انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين (1/ 166)، حاشية الدسوقي (1/ 157)، مغني المحتاج (1/ 89)، المغني (1/ 243).

لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬1). والذي يظهر أن الأولى له أن يقلبها إلى نافلة ثم يتمها ويصلي صلاة الفرض بطهارة الماء، وهنا لا يبطل عمله ويصلي بطهارة الماء، وهذا أولى. 3 - التيمم للنجاسة: ذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أنه إن كانت على بدن المصلي نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء أو خوف الضرر باستعمال الماء، فإنه يتيمم لها ويصلي وعليه القضاء عند الشافعية، وهو رواية عن الحنابلة، والمذهب عند الحنابلة أنه لا قضاء عليه. والصحيح: أنه لا يتيمم إلا عن حدث، أما التيمم عن النجاسة فلا يشرع؛ لأن النص إنما ورد في الحدث ولأن طهارة المتيمم لا تؤثر في إزالة النجاسة. 4 - من وجد ماء بكلفة مال هل يلزمه شراؤه؟ أ- المذهب عند الحنابلة (¬4) أنه إن زاد عن ثمنه كثيرًا لا يلزمه شراؤه وعدل إلى التيمم. ب- وقيل: إذا كان واجدًا لثمنه قادرًا عليه وجب عليه أن يشتريه بأي ثمن؛ لأنه في هذه الحالة واجد للماء، ولا ضرر عليه بقدرته على شرائه لقدرته عليه. أما إن كان ليس معه ثمن الماء أو معه ثمن ليس كاملًا فهنا كالعادم للماء فيتيمم. ¬

_ (¬1) سورة محمد: 33. (¬2) مغني المحتاج (1/ 96). (¬3) كشاف القناع (1/ 172)، المغني (1/ 147 - 249). (¬4) كشاف القناع (1/ 165).

والصواب أنه إن زاد عن ثمنه فلا يجب عليه شراؤه وله أن يعدل إلى التيمم. إذا وهب شخص لأحد ماء ليتوضأ به هل يلزمه قبوله؟ نعم، يجب عليه قبوله ولا يجوز له العدول إلى التيمم، وهو قول الجمهور، لكن من دون مِنَّةٍ عليه. فإن وهب ثمنه هل يلزمه ثمنه؟ الصواب أنه لا يلزمه قبوله باتفاق الفقهاء. 5 - إذا لم يجد من أراد الصلاة إلا ماء قليلًا أو لم يستطع أن يستعمل الماء إلا في بعض أعضائه أو قدر على الوضوء في الجنابة ولم يقدر على الغسل، فهنا يفعل ما يستطيعه بطهارة الماء ثم يتيمم عن الباقي، وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)؛ لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). وقال بعض العلماء: إنه لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم، بل إذا كان الماء يكفي لنصف الأعضاء فأكثر فإنه يستعمل بلا تيمم، وإذا كان لأقل من النصف فإنه لا يستعمل (¬3). والصحيح: القول الأول. 6 - التيمم رافع للحدث الأصغر والأكبر، ومن تيمم جاز له أن يصلي ويقرأ القرآن ويطوف ويذكر الله ويفعل ما يفعله المتوضئ والمغتسل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" (¬4). ¬

_ (¬1) الإنصاف (2/ 193 - 195). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) انظر: المغني (1/ 315). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، برقم (337).

7 - من خاف فوات عبادة من العبادات كصلاة جنازة أو صلاة عيد أو صلاة جمعة، فهل يعدل عن الطهارة بالماء إلى التيمم خوفًا من فوات مثل هذه العبادات؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فمذهب مالك (¬1) وأحمدُ (¬2) والشافعيُّ (¬3) - رحمهم الله- عدم جواز التيمم لما يخاف فواته كالجنائز وصلاة العيدين وغيرها لواجد الماء القادر على استعماله وإن فاتته هذه العبادات؛ لأنه منشغل بشرطها وهو الوضوء. وذهب الحنفية (¬4) إلى جواز التيمم لما يخاف فواته كالجنائز والعيدين. وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال (¬5): أصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فواته كالجنازة وصلاة العيد وغيرها، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة، كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته. لكن الحنفية يقولون بأن ما تفوت إلى بدل كصلاة جمعة فإن لها بدلًا وهو صلاة الظهر، فإنه يلزمه الوضوء ولا يتيمم بخلاف صلاة الجنازة والعيدين فإنه ليس لهما بدل، والصواب القول الأول. 8 - عادم الطهورين (الماء والتراب): من عدم الماء والتراب كأن يكون مغلقًا عليه الباب ولا يعلم متى يخرج، هل يصلي على حسب حاله؟ ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 51). (¬2) الإنصاف (1/ 303). (¬3) مختصر المزني بهامش الأم (1/ 36). (¬4) تبيين الحقائق (1/ 43). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 438).

صفة التيمم

هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء؛ الصحيح منها أنه يصلي بلا ماء ولا تيمم وأنه لا إعادة عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) وهذا هو مذهب الحنابلة (¬3)، وأحد الأقوال في مذهب مالك (¬4) والشافعيُّ (¬5) وبه قال ابن حزم (¬6) وهو اختيار شيخ الإسلام (¬7) رحمه الله. صفة التيمم: صفة التيمم للطهارتين: الكبرى والصغرى لا تختلف، وهي كالآتي: 1 - التسمية. 2 - أن يضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة مفرجة الأصابع. 3 - يمسح وجهه بباطن أصابعه. 4 - يمسح ظاهر كفيه براحتيه: هذه هي الصفة الواردة عن النبي في حديث عمار بن ياسر؛ فعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما كان يكفيك أن ¬

_ (¬1) سورة التغابن: 16. (¬2) أخرجه البخاريُّ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم (6858)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب الحج مرة في العمر، برقم (1337). (¬3) الإنصاف (1/ 282). (¬4) أسهل المدارك (1/ 136، 137). (¬5) المجموع (1/ 277، 278). (¬6) المحلى (1/ 138، 139). (¬7) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص: 37).

تصنع هكذا" فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه، وفي رواية: "فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه" (¬1). اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين" (¬4). 2 - وذهب المالكية (¬5) والحنابلة (¬6) إلى أن التيمم الواجب ضربة واحدة، والأكمل عندهم ضربتان. والصحيح: أن الأكمل ما صحت به السنة؛ وهي ضربة واحدة كما جاء في حديث عمار بن ياسر المتقدم، فالزيادة عن الواحدة لا يشرع. أما الحديث الذي احتج به الأولون فهو ضعيف لا يحتج به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، رقم (340)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368) (¬2) البدائع (1/ 46). (¬3) مغني المحتاج (1/ 99 - 100). (¬4) أخرجه الحاكم في كتاب الطهارة، برقم (634) و (638)، والبيهقيُّ في باب كيف التيمم، برقم (941)، الدارقطني (1/ 180)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم (2519). (¬5) الشرح الصغير (1/ 151 - 152). (¬6) كشاف القناع (1/ 178 - 179).

باب الحيض والاستحاضة والنفاس

باب الحيض والاستحاضة والنفاس أولًا: الحيض: تعريف الحيض: الحيض هو: دم طبيعة وجبلة يعتاد الأنثى إذا بلغت، يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة (¬1). وهل يجب على المرأة أن تتعلم أحكام الحيض؟ نعم، يجب على المرأة أن تتعلم ما تحتاج إليه من أحكام الحيض ويجب على زوجها أو وليها أن يعلمها ما تحتاج إليه إن علم، وإن لم يعلم أذن لها بالخروج لتتعلم أحكامه أو سؤال أهل العلم عند حصول ما يشكل عليها فيه، ويحرم عليه منعها من ذلك. شروط الحيض: لكي يعتبر الخارج من المرأة دم حيض لا بد له من شروط، ومن هذه الشروط: 1 - كونه من رحم المرأة، فالخارج من الدبر ليس بحيض. 2 - ألَّا يكون بسبب الولادة، فالخارج بسبب الولادة دم نفاس لا دم حيض. 3 - أن يتقدم الحيض فترةُ طهر، وقد اختلف الفقهاء في فترة الطهر التي يعقبها الحيض: أ- فعند الجمهور (¬2) خمسة عشر يومًا. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 196). (¬2) انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين (1 م 189 - 190)، الخرشي على مختصر خليل (1/ 204)، مغني المحتاج (1/ 109).

ب- ويرى الحنابلة (¬1) أنه ثلاثة عشر يومًا، وهذا هو أقل مدة فاصلة بين الحيضتين. 4 - ألَّا ينقص الدم عن أقل الحيض، وقد اختلف الفقهاء في تحديد أقل مدة للحيض على أقوال كثيرة أرجحها أنه يوم وليلة (¬2). 5 - أن يكون الدم الخارج في أوانه، وأوانه هو تسع سنين عند كثير من أهل العلم، فمتى خرج الدم قبل ذلك فهو دم فساد على كل حال؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضًا. وبعض أهل العلم لا يرى له سنًا محددة بل قد يحصل قبل سن التاسعة، أما إن خرج بعد بلوغ المرأة سن الإياس فهذا أيضًا لا يعد حيضًا. وقد اختلف الفقهاء في تحديد سن الإياس على أقوال عديدة؛ أرجحها أنه لا حد لسن الإياس، فمتى وجدت المرأة الحيض ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت له حكم. 6 - أن لا يزيد الدم عن أكثر الحيض، وقد اختلف الفقهاء في تحديد أكثر الحيض: أ- فذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا حد لأكثر الحيض. وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) والشيخ ابن العثيمين (¬4). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 203). (¬2) المراجع السابقة. (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 237). (¬4) الممتع (1/ 560).

أوصاف دم الحيض

ب- وذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وهو الراجح. أوصاف دم الحيض: لدم الحيض خصائصه من حيث اللون والرائحة، وقد اتفق الفقهاء على أن لون دم الحيض هو اللون الأحمر، هذا هو الأصل في لونه، إلا أنه قد يغلب عليه السواد فيصير أسودًا، وقد يكون أصفر أو أكدر اللون. ويتميز دم الحيض بأنه غليظ كريه الرائحة، لكن قد يتغير على حسب اختلاف الطبيعة والبيئة من مكان لآخر. هل الصُّفْرة والكُدرة تعد حيضًا؟ 1 - ذهب الجمهور (¬4) إلى أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، واحتجوا لذلك بأن عائشة -رضي الله عنها- كان النساء يبعثن إليها بالدَّرَجَة فيها الكُرْسُف فيه الصُّفْرَة فتقول لهن: "لا تَعْجَلْنَ حتى ترين القَصَّة البيضاء" (¬5) تريد بذلك الطهر من الحيض. 2 - وفي وجه عند الشافعية (¬6) أنهما ليستا بحيض، واحتجوا بحديث أم عطية: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا" (¬7). ¬

_ (¬1) الخرشي على مختصر خليل (1/ 204). (¬2) المجموع (2/ 383). (¬3) المغني، لابن قدامة 1/ 390، كشاف القناع (1/ 203). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 192)، حاشية الدسوقي (1/ 197)، مغني المحتاج (1/ 113)، كشاف القناع (1/ 213) (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 59) كتاب الطهارة، باب طهر الحائض. (¬6) مغني المحتاج (1/ 113). (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض، برقم (320).

هل الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض تعتبر حيضا؟

والراجح: قول الجمهور أن الصفرة والكدرة في زمن الحيض حيض، أما حديث أم عطية -رضي الله عنها- فقد جاء في رواية: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا" (¬1) فهذا القيد المذكور في هذه الرواية يدل على أن هذا الدم إن كان قبل الطهر فهو حيض، أي: في أيامه، وما عداه لا يكون حيضًا. هل الصُّفْرَة والكدرة في غير أيام الحيض تعتبر حيضًا؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالحنفية (¬2) والحنابلة (¬3) على أنهما ليستا بحيض في غير أيام الحيض. 2 - والمالكية (¬4) والشافعية (¬5) على أنهما حيض. والصحيح أنهما ليستا بحيض؛ لحديث أم عطية السابق. أحوال الحائض: للمرأة حين نزول الدم عليها ثلاث حالات؛ إما أن تكون مبتدأة، أو معتادة، أو متحيرة. أولًا: المرأة المبتدأة: 1 - تعريفها: هي المرأة التي ينزل معها الدم ولم يتقدم لها حيض قبل ذلك. 2 - حكمها: إذا رأت الدم تركت الصلاة والصيام والوطء وانتظرت الطهر، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر، برقم (307). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 192). (¬3) كشاف القناع (1/ 213). (¬4) حاشية الدسوقي على مختصر خليل (1/ 203). (¬5) مغني المحتاج (1/ 113).

3 - ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدأة

فإذا رأت الطهر بعد يوم وليلة أو أكثر إلى خمسة عشر يومًا، اغتسلت وصلَّتْ. فإن استمر معها الدم بعد الخمسة عشر يومًا فهي مستحاضة، وسيأتي بيان حكمها قريبًا -إن شاء الله-. والأظهر عندنا -والله أعلم- أن المرأة تحيض بعادة نساء قومها والغالب بينهن؛ وهو ستة أيام أو سبعة أيام، وهذا هو قول المالكية والحنابلة والوجه الظاهر عند الشافعية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله" (¬1)، (¬2). 3 - ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدأة: أ- إذا انقطع دم المبتدأة لتمام أكثر الحيض فما دون ورأت الطهر طهرت، ويكون الدم بين أول ما تراه إلى رؤية الطهر حيضًا يجب عليها ما يجب على الحائض، وهذا رأي الجمهور وهو الراجح. ب- إذا استمر دم المبتدأة أكثر مدة الحيض فقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ والصحيح أنها تمكث خمسة عشر يومًا وهي أكثر فترة الحيض، فإن جاوز ذلك فهي مستحاضة. ج- إذا انقطع دمها خلال خمسة عشر يومًا فكانت تراه يومًا أو يومين وينقطع مثل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي كلما رأت الطهر، وتقعد كلما رأت الدم. ثانيًا: المرأة المعتادة: 1 - تعريفها: هي من كانت لها أيام معلومة تحيضها من الشهر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، برقم (287)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (128). (¬2) المغني (1/ 327).

2 - حكمها

2 - حكمها: أنها تترك الصلاة والصوم والوطء أيام عادتهما، فإن رأت صفرة أو كدرة بعد عادتها فالراجح أنها لا تلتفت إليها، لحديث أم عطية المتقدم. أما إذا رأت ذلك أيام عادتها -أي: بأن يتخلل أيام عادتها صفرة أو كدرة- فإن ذلك يعتبر حيضًا كما ذكرنا ذلك سابقًا. 3 - بم تثبت العادة؟ أ- جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) وهو الأصح عند الشافعية (¬3) أن العادة تثبت بمرة واحدة في المبتدأة. ب- أما الحنابلة (¬4) فقالوا: لا تثبت العادة إلا بثلاث مرات، في كل شهر مرة، وهو قول -أيضًا- عند الشافعية. الأدلة: احتج الجمهور بما رواه أبو داود وغيره من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل ثم لِتَسْتَثْفِرْ بثوب ثم لتصلِّ فيه" (¬5). وجه الدلالة: أن الحديث دل على اعتبار الشهر الذي قبل الاستحاضة. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 157). (¬2) شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 134). (¬3) مغني المحتاج (1/ 115) (¬4) كشاف القناع (1/ 205، 208). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم (274).

4 - أحوال المرأة المعتادة

أما الحنابلة فاحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" (¬1). وجه الدلالة عندهم قوله: "الأيام" وهي صفة جمع وأقله ثلاثة، وقالوا أيضًا بأن العادة مأخوذة من المعاودة، ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة. والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن العادة تثبت بالمرة الواحدة. 4 - أحوال المرأة المعتادة: للمرأة المعتادة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يوافق الدم عادتها. فالحكم هنا: تكون أيام الدم حيضًا وما بعدها طهرًا، كأن تكون أيام حيضها خمسة أيام حيضًا وخمسة وعشرين طهرًا ورأت ما يوافق ذلك، فحيضها خمسة أيام وطهرها خمسة وعشرون كعادتها. الحالة الثانية: أن ينقطع الدم دون العادة فإن انقطع دون أقل الحيض فلا يعد حيضًا في حقها، بل هو دم فساد لا تلتفت إليه المرأة. وإن انقطع بأقل الحيض؛ وهو يوم وليلة، وكانت عادتها أكثر من ذلك، فإنها تطهر بذلك ولا تتم عادتها. فإن عاودها الدم بعد انقطاعه وكان في أثناء عادتها ولم يجاوزها فإنها تجلس زمن الدم من العادة، كما لو لم ينقطع؛ لأنه صادف زمن العادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض وما يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، برقم (319).

الحالة الثالثة: أن يجاوز الدم عادتها.

الحالة الثالثة: أن يجاوز الدم عادتها. فإن جاوز عادتها المعروفة كأن تكون عادتها خمسة أيام فيتجاوز الدم هذه الخمسة إلى سبعة أيام، فهذا محل خلاف بين الفقهاء. والصواب أنها تجلس الزيادة إن كانت متصلة؛ لعموم الأدلة ولأن الحيض يزيد وينقص ما لم تتجاوز الزيادة خمسة عشر يومًا، فإن جاوزتها فهي مستحاضة وليس لها إلا عادتها المعلومة، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1). 5 - انتقال العادة: جمهور (¬2) الفقهاء من المالكية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) على أن العادة تنتقل؛ تتقدم أو تتأخر، أو يزيد قدر الحيض أو ينقص. أما الزيادة والنقصان فقد تقدم الكلام عليها وبينا حكم ذلك. وأما المتقدم والتأخر كأن تكون أيام حيضها الخمسة الأولى من الشهر ثم رأت في بعض المشهور أن أيام حيضها الخمسة الثانية من الشهر، وهكذا في المتقدم، كأن يكون حيضها الخمسة الثانية من الشهر ثم جاءها حيضها في الخمسة الأولى من الشهر، فهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء مع اتفاقهم في أن العادة تنتقل، لكن في حد الانتقال اختلفوا: هل يثبت الانتقال بمرة واحدة، أم لا بد من تكراره ثلاث مرات؟ ¬

_ (¬1) انظر: تعليق سماحة الشيخ على كتاب الأحكام الشرعية للدماء الطبيعية، تأليف الدكتور عبد الله الطيار (ص: 49). (¬2) الخرشي على مختصر خليل (1/ 205). (¬3) المجموع، للنووي (2/ 447)، ومغني المحتاج (1/ 115). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 396). (¬5) مغني المحتاج (1/ 115).

إذا نسيت المرأة المعتادة عادتها فماذا تفعل؟

أ- فالشافعية يرون أن الانتقال يكون بمرة واحدة إن كانت عادتها متفقة لامختلفة. ب- والحنابلة يرون أن الانتقال لا يكون إلا بالتكرار ثلاث مرات، فإذا رأت الدم في غير عادتها لم تعتبر ما خرج عن العادة حيضًا حتى يتكرر ثلاثًا في أكثر الروايات أو مرتين في رواية عندهم. والصحيح: أن العادة تنتقل بمرة واحدة، فمتى رأت المرأة الدم، ودم الحيض معروف بوصفه الذي ذكرنا سابقًا، فإنها تعتبر ما خرج منها حيضًا فلا تصلي ولا تصوم ولا توطأ، فان استمر معها حتى صادف أيام حيضها فإنها تبقى حائضًا ما لم يتجاوز الدم أكثر الحيض (خمسة عشر يومًا فهنا تعتبر استحاضة لها أحكامها التي سنذكرها إن شاء الله). إذا نسيت المرأة المعتادة عادتها فماذا تفعل؟ اختلف الفقهاء في المرأةِ الناسيةِ لزمن عادتها وموضعها من الشهر والناسيةِ أيضًا عددَ أيامها: 1 - فيرى بعض أهل العلم أنها تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة وهو غالب الحيض. واستدل أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود وغيره عن حَمْنَةَ بنت جحش قالت: كنت أُسْتَحَاضُ حيضة كبيرة شديدة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله إني أستحاض من حيضة كبيرة شديدة فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصيام والصلاة، قال: "أَنْعَتُ لك الكُرْسُفَ فإنه يذهب الدم" قالت: هو أكثر من ذلك، قال: "فاتخذي ثوبا" فقالت: هو أكثر من ذلك إنما أَثُجُّ ثجًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سآمرك بأمرين، أيهما فعلت أجزأ

علامات الطهر عند الحائض

عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم"، فقال لها: "إنما هذه رَكْضَةٌ من ركضات الشيطان فَتَحَيَّضِي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ... " (¬1). 2 - وذهب آخرون إلى أن الناسية لعددها ووقتها أنها تتحرى. 3 - وفي رواية للحنابلة أنها تجلس أقل الحيض؛ وهو يوم وليلة (¬2). لكن القول الأول هو الأصوب والأرفق؛ لأنه يتفق مع مبدأ التيسير الذي جاءت به الشريعة الإسلامية. علامات الطهر عند الحائض: الطهر من الحيض يكون بأحد أمرين: 1 - انقطاع الدم. 2 - رؤية القصة البيضاء. أولًا: انقطاع الدم: المقصود بانقطاع الدم هو جفافه بحيث إن المرأة لو وضعت خرقه في الفرج تخرج غير ملوثة بدم أو كدرة أو صفرة. ثانيًا: رؤية القصة البيضاء: القصة البيضاء هي ماء يخرج من فرج المرأة يأتي في آخر الحيض، قالت عائشة-رضي الله عنها-: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة برقم (287)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد برقم (128) وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. (¬2) المغني (1/ 321). (¬3) تقدم تخريجه (ص: 142).

الحيض والحمل

الحيض والحمل: اختلف الفقهاء في الدم الخارج من المرأة الحامل: هل هو حيض أم هو دم فساد؟ 1 - فذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن الدم الخارج من الحامل هو دم علة وفساد وليس بدم حيض. وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3). احتجوا لذلك بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه لما طلق زوجته وهي حائض قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُرْهُ فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا" (¬4) فجعل - صلى الله عليه وسلم - الحمل علمًا على عدم الحيض كالطهر، وقال -أيضًا- بأن الله تعالى جعل من أنواع عدة المطلقة أن تحيض ثلاث حيض ليتبين بذلك براءة الرحم ولو كانت الحامل تحيض ما صح أن يجعل الحيض لإثبات براءة الرحم، وعلى هذا فالمرأة الحامل إذا حاضت لا تنقطع عن أي شيء من أنواع العبادة، فتصلي وتصوم وتوطأ وغير ذلك. 2 - أما المالكية (¬5) والشافعية (¬6) -وهو رواية عن الحنابلة (¬7) - واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن العثيمين (¬8) أن الحامل إذا نزل عليها الدم يعتبر ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 189). (¬2) كشاف القناع (1/ 202). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 392). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، رقم (1471). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 169)، التمهيد (16/ 87). (¬6) مغني المحتاج (1/ 118)، المجموع (2/ 384). (¬7) المغني (1/ 44). (¬8) الشرح الممتع (1/ 559).

حكم استعمال ما يمنع الحمل

حيضًا بناء على الأصل، واحتجوا لذلك بعموم الأدلة التي جاءت في الحيض، فلم تستثنِ في الحكم المرأة الحامل. والراجح: أن المرأة الحامل إذا رأت الدم المطرد الذي يأتيها على وقته وشهره وحاله، فإنه حيض تترك من أجله الصلاة والصيام وغير ذلك، إلا أنه يختلف عن الحيض في هذه الحالة بأنه لا عبرة به في العدة؛ لأن الحمل أقوى منه. حكم استعمال ما يمنع الحمل: استعمال ما يمنع حيض المرأة جائز ولكن بشرطين: 1 - ألا يكون فيه ضررٌ على المرأة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). 2 - أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به؛ مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه فيه نفقتها فتستعمل ما يمنع الحيض؛ لكي تطول المدة، ومن ثم تزداد نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه. وإذا قلنا بجواز استعمال ما يمنع الحيض فالأولى عدم استعماله إلا لحاجة؛ لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة والسلامة. غسل الثوب الذي أصابه دم حيض: إذا أصيب ثوب المرأة بشيء من دم الحيض وجب عليها غسله؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء بذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فَلْتَقْرُصْهُ ¬

_ (¬1) سورة النساء: 29. (¬2) أخرجه الدارقطني في كتاب البيوع، برقم (288)، والحاكم في كتاب البيوع، برقم (2345) وصححه وقال: إنه على شرط مسلم. وحسنه النووي في الأربعين النووية، وكذلك الألباني في الإرواء برقم (888).

حكم من أتى امرأته وهي حائض

ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه" (¬1). فقد بين الحديث أن المرأة إذا رأت دم الحيض تحتَّه أي تحكه، والمراد بذلك إزالة عينه وتقرصه بالماء، ويكون القرص للدم بأطراف الأصابع ليتحلل بذلك ويخرج ما يشربه الثوب. أما النضح فقيل المراد به: الغسل، وقيل: الرش. حكم من أتى امرأته وهي حائض: من المعلوم أنه يحرم وطء الحائض في فرجها؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬2)، والمحيض هو زمان ومكان الحيض. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" (¬3) يعني الوطء، أما المباشرة فيما دون الفرج فلا شك في جوازها. فإن وقع في الفرج فقد وقع في الإثم، لكن هل يلزمه شيء؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والمذهب الجديد عند الشافعية (¬6) ورواية عند أحمد (¬7) وحكاه الخطابي (¬8) عن أكثر العلماء، أنه يكون آثمًا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب غسل دم الحيض، برقم (301). (¬2) سورة البقرة: 222. (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، برقم (302) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) البحر الرائق (1/ 207). (¬5) حاشية القليوبي (1/ 100). (¬6) مغني المحتاج (1/ 110). (¬7) الإنصاف (1/ 351، 352). (¬8) مسلم (3/ 204).

إذا انقطع الدم عن الحائض أو النفساء ولم تغتسلا هل يباح للزوج وطؤها؟

مرتكبًا لكبيرة، ولا كفارة عليه. 2 - وذهب الشافعي في القول القديم، والإمام أحمد في رواية، وهو قول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1)، إلى القول بأنه يأثم مع وجوب الكفارة عليه. وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية. واحتجوا لذلك بما رواه أحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيمن يأتي امرأته وهي حائض: "ليتصدق بدينار أو بنصف دينار" (¬2). والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تجب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض، ولكن تستحب في حقه، ويجب عليه الاستغفار والتوبة. إذا انقطع الدم عن الحائض أو النفساء ولم تغتسلا هل يباح للزوج وطؤها؟ 1 - ذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) وهو أحد الأقوال في مذهب مالك (¬5) واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬6) والشيخ ابن العثيمين (¬7) أنه لا يجوز وطء الحائض والنفساء حتى يغتسلا، فإن عدمتا الماء أو خافتا الضرر باستعمالهما الماء ¬

_ (¬1) انظر: الأحكام الشرعية للدماء الطبيعية وتعليقات سماحة الشيخ -رحمه الله- عليه (ص: 165). (¬2) أخرجه أحمد في المسند (1/ 229) رقم (2032)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب كفارة من أتى حائضًا، برقم (2168)، والنسائيُّ في كتاب الحيض والاستحاضة، باب ذكر ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضها مع علمه بنهي الله تعالى، برقم (370). (¬3) روضة الطالبين (1/ 135). (¬4) الإنصاف (1/ 349). (¬5) مواهب الجليل (1/ 374). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 626). (¬7) الشرح الممتع (1/ 484).

لمرض أو برد شديد، تيممتا، لكن المالكية (¬1) يرون اشتراط الغسل، فلا يكفي التيمم لعذر بعد انقطاع الدم في حل الوطء، فلا بد من الغسل حتى يحل وطؤها، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬2). فقد علق الله تعالى الوطء بشرطين: انقطاع الدم وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي ينقطع دمهن، الثاني: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن بالماء. 2 - وذهب الحنفية (¬3) إلى أنه إن انقطع الدم لأكثر مدة الحيض عندهم وهي عشرة أيام، فإنه يجوز وطؤها بدون غسل، لكن يستحب تأخير الوطء لما بعد الغسل. وإن انقطع دمها قبل أكثر مدة الحيض أو لتمام العادة في المعتادة بأن لم ينقص عن العادة، فإنه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو تتيمم. وإن انقطع الدم قبل العادة وفوق الثلاث فإنه لا يجوز وطؤها حتى تقضي عادتها وإن اغتسلت؛ لأن العود في العادة غالب. 3 - وذهب ابن حزم (¬4) إلى جواز وطئها قبل الغسل فمتى طهرت المرأة من الحيض جاز لزوجها جماعها، وأجاب عن قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بأن المراد هنا غسل أثر الدم لا الغسل الشرعي. الراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو وجوب الغسل قبل الوطء. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 172). (¬2) سورة البقرة: 222. (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 189). (¬4) المحلى، لابن حزم (2/ 172).

ثانيا: الاستحاضة

ثانيًا: الاستحاضة تعريفها: الاستحاضة هي: سيلان الدم في غير أوقاته من مرض وفساد من عِرْقٍ فَمُهُ في أدنى الرحم يسمى العاذل. وقيل في تعريفها: "المستحاضة" هي التي يتجاوز دمها أكثر الحيض، وقيل: هي التي ترى دمًا لا يصلح أن يكون حيضًا ولا نفاسًا (¬1). أحوال المستحاضة: للمستحاضة ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون مدة الحيض معلومة معروفة لها قبل الاستحاضة وتسمى المعتادة، فالحكم هنا أنها تعتبر هذه المدة المعروفة هي مدة الحيض والباقي استحاضة. دليل ذلك حديث أم سلمة أنها استفتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في امرأة تهراق الدم فقال: "لتنتظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل وَلْتَسْتَثْفِرْ بثوب ثم تصلي" (¬2). الحالة الثانية: أن يستمر بها الدم ولم يكن لها أيام معروفة، ففي هذه الحالة يكون حيضها تسعة أيام أو سبعة على غالب عادة النساء؛ لحديث حَمْنَةَ بنت جحش الذي سبق ذكره. الحالة الثالثة: أن لا يكون لها عادة ولكنها تستطيع أن يتميز دم الحيض عن ¬

_ (¬1) انظر تعريفات الاستحاضة في: الإقناع (1/ 63)، والبحر الرائق (1/ 226)، والشرح الممتع (1/ 436). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم (274).

حكم الوضوء للمستحاضة

غيره، وفي هذه الحالة عليها أن تعمل بالتمييز؛ لحديث فاطمة بنت جحش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دم الحيضة فإنة دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عِرْقٌ" (¬1). حكم الوضوء للمستحاضة: 1 - ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث فاطمة بنت أبي حبيش السابق: "ثم توضئي لكل صلاة" (¬2). 2 - وذهب مالك (¬3) إلى استحباب الوضوء لكل صلاة للمستحاضة ولا يجب إلا بحدث آخر. والراجح هو وجوب الوضوء لكل صلاة؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش. حكل الغسل للمستحاضة: لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلاة ولا في أي وقت من الأوقات إلا مرة واحدة وهي عند انقطاع حيضها. وهذا هو قول الجمهور وهو الراجح. أما حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها استحيضت فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي" فكانت تغتسل عند كل صلاة، وفي رواية: "فكانت تغتسل عند كل صلاة" (¬4) فالأمر هنا محمول على الاستحباب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم (286). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم (226). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 116). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (334).

كيفية طهر المستحاضة

وعلى هذا حمله المالكية (¬1) والحنابلة (¬2). كيفية طهر المستحاضة: إذا أرادت المستحاضة الوضوء فإنه يلزمها أن تغسل أثر الدم وتعصب على الفرج خرقة؛ لتمنع خروج الدم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمنة: "أنْعَتُ لك الكُرْسُفَ فإنه يذهب الدم"، قالت: هو أكثر من ذلك قال: "فتلجمي" (¬3). متى تتوضأ المستعاضة؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن طهارة المستحاضة طهارة ضرورية فلا يجوز لها تقديمها قبل وقت الحاجة، ومن هنا لا تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة. وطء المستحاضة: اختلف أهل العلم في وطء المستحاضة على قولين: القول الأول: يجوز وطؤها، وهو قول أكثر الصحابة، وبه قال أكثر العلماء، وهو قول الحنفية (¬4) والشافعية (¬5)، واحتجوا بأن دم الاستحاضة إنما هو دم عرق فلا يمنع من الوطء. قال ابن حجر -رحمه الله-: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز للمستحاضة الصلاة، فالوطء من باب أولى جائز؛ لأن الوطء أهون" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 130). (¬2) المغني بالشرح الكبير (1/ 378). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (128) وقال: حسنٌ صحيحٌ. (¬4) البدائع (1/ 44). (¬5) المجموع (2/ 372). (¬6) فتح الباري (1/ 329).

الفرق بين دم الحيض ودم المستحاضة

القول الثاني: أنه لا يجوز وطؤها، وهو قول النخعي والحنابلة، وفي رواية لأحمد أنه يجوز وطؤها إذا خاف العنت (¬1). والراجح من القولين: هو جواز وطء المستحاضة وأن حكمها حكم الطاهرات في كل شيء غير أيام حيضها. الفرق بين دم الحيض ودم المستحاضة: لقد فرق الشارع بين الحيض والاستحاضة في الأحكام، ومن أن هناك فرقًا بين دم الحيض ودم الاستحاضة، ومن هذه الفروق: 1 - من حيث اللون: دم الحيض دم يميل إلى السواد، أما دم الاستحاضة فإنه دم أحمر يميل إلى الصفرة. روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "اعتكفتْ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة مستحاضة من أزواجه، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطَّسْتَ تحتها وهي تصلي" (¬2). 2 - دم الحيض ثخين، ودم المستحاضة رقيق. 3 - أن رائحة دم الحيض منتنة كريهة، أما دم الاستحاضة فلا رائحة له. 4 - دم الحيض لا يتجمد إذا ظهر؛ لأنه تجمد في الرحم ثم انفجر وسال، أما دم الاستحاضة فإنه دم عرق إذا ظهر تجمد. ¬

_ (¬1) الكافي (1/ 84). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف المستحاضة، برقم (1932).

ثالثا: النفاس

ثالثًا: النفاس تعريفه: النفاس: هو الدم الخارج من المرأة بسبب الولادة. مدة النفاس: اختلف الفقهاء في أقل مدة للنفاس وكذلك في أكثره: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه لا حد لأقل النفاس، ففي أي وقت رأت الطهر اغتسلت وصلت، وهذا هو الراجح. أما أكثره فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن أقصى مدة النفاس أربعون يومًا، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة (¬3). 2 - وذهب الشافعية (¬4) والمالكية (¬5) في المشهور عندهم إلى أن أقصى مدة النفاس ستون يومًا. وبهذا أخذ الشيخ ابن العثيمين (¬6). 3 - القول الثالث: أنه لا حد لأكثر النفاس، ولو زاد على الأربعين أو الستين أو السبعين ... وهذا هو اختيار شيخ الإسلام (¬7). والراجح: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو أن حد أكثر النفاس ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 41). (¬2) الإنصاف (1/ 382)، المبدع (1/ 293). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 417). (¬4) روضة الطالبين (1/ 174). (¬5) مواهب الجليل (1/ 141). (¬6) الشرح الممتع (1/ 606). (¬7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/ 239، 240).

بعض الأحكام المتعلقة بالنفاس

هو أربعون يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإن لم تر الطهر وعبر الدم أربعين فإنها تغتسل بعد تمام الأربعين، ويكون حكمها كحكم الطاهرات إلا إذا وافق الدم عادتها فيكون حيضًا، وإلا فحكمه حكم الاستحاضة. وهذا هو الذي رجحه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1). بعض الأحكام المتعلقة بالنفاس: أولًا: الولادة القيصرية وحكم النفاس فيها: إذا ولدت المرأة بعملية جراحية، وهي ما تسمى بالولادة القيصرية، فلا تخرج عن حالتين: الحالة الأولى: أن لا ترى دمًا فلا تكون نفساء، وإنما ذات جرح، لكن يثبت لها بهذه الولادة انقضاء العدة، وتصير الأمة أم ولد، ولو علق طلاقها بولادتها وقع؛ لوجود الشرط. الحالة الثانية: أن ترى بعد ولادتها دمًا، ففي هذه الحالة تصير نفساء؛ لأن خروج الدم من الرحم جاء عقيب الولادة. ثانيًا: إذا خرج الدم قبل الولادة بيوم أو يومين فهل يعتبر ذلك من النفاس؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالشافعية (¬2) يرون أنه لا نفاس إلا مع الولادة أو بعدها وما تراه المرأة ¬

_ (¬1) انظر: تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على كتابنا الأحكام الشرعية في الدماء الطبيعية (ص: 116). (¬2) المجموع شرح المهذب (2/ 392، 481).

ثالثا: هل حل ما يخرج من المرأة عند الولادة يكون نفاسا؟

قبل الولادة ولو مع الطلق ليس بنفاس، فلها أن تصلي وتصوم مع وجود الدم والطلق ولا حرج عليها. 2 - والحنابلة (¬1) يرون أن أول مدة النفاس من الوضع إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة بأمَارَةٍ من المخاض ونحوه، فلو خرج بعد الوَلَدِ اعتد بالخارج معه من المدة على الصحيح من المذهب. والصحيح أن النفاس يثبت حكمه مع الولادة أو بعدها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق، أما بدون الطلق فالذي يخرج قبل الولادة دم فساد وليس بشيء. ثالثًا: هل حل ما يخرج من المرأة عند الولادة يكون نفاسًا؟ للفقهاء في هذه المسألة أقوال متعددة وتفريعات كثيرة، لكن الصواب أن يقال: الدم الخارج من المرأة إما أن يكون عند ولادة تامة قد مر فيها الجنين بمراحله المعتادة حتى خرج حيًا فهذه الحالة قد مر الكلام عليها، وإما أن يخرج الدم عن سقط يحصل للمرأة، فهنا متى يعتبر نفاسًا ومتى لا يعتبر؟ نقول: بأنه إذا كان السقط قبل الثمانين يومًا فلا يعتبر نفاسًا، والدم الخارج حكمه حكم دم المستحاضة. وإن كان السقط بعد الثمانين يومًا ودون المائة والعشرين يومًا، فإن كان مخلَّقًا اعتبر الخارج نفاسًا، وإن كان غير مخلق فيعتبر دم فساد حكمه حكم الاستحاضة. رابعًا: في حكم وطء النفساء إذا طهرت قبل الأربعين: 1 - قيل: يستحب لزوجها ألا يقربها في الفرج حتى تُتِمَّ الأربعين، وقيل: يكره. وهذا هو المذهب عند الحنابلة. ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 387).

خامسا: إذا ولدت المرأة توأمين

2 - وقيل: يحرم مع عدم خوف العنت، ويكون مكروهًا إن أمن العنت (¬1). والراجح من الأقوال: أنه يجوز وطؤها قبل الأربعين إذا طهرت؛ لما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إذا صلت حلت" (¬2) أي إذا استباحت الصلاة فكيف لا يستباح الوطء. خامسًا: إذا ولدت المرأة توأمين: فأول النفاس وآخره من أولهما إلا أن تكون المدة بين التوأمين أثناء الولادة بعيدة كأن يكون بينهما يومان أو ثلاثة فما فوقه وتجد مع ولادة الثاني الدم، فهنا تعتبر مدة النفاس من ولادة الثاني. وهذا هو الراجح، بخلاف المذهب عند الحنابلة فإنهم يرون ان أول النفاس وآخره من أولهما وإن طالت المدة (¬3). ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 384)، الشرح الممتع (1/ 513). (¬2) أخرجه الدارمي (1/ 226). (¬3) الشرح الممتع (1/ 519).

كتاب الأذان

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الأذان

أولا: تعريف الأذان

كتاب الأذان أولًا: تعريف الأذان: الأذان في اللغة: الإعلام، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجّ} (¬1) أي أعلِمْهم به (¬2) وفي الاصطلاح هو: "الإعلام بوقت الصلاة المفروضة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة" (¬3). قال الشيخ ابن العثيمين: "أما تعريف الأذان شرعًا فهو التعبد بذكر مخصوص بعد دخول وقت الصلاة بالإعلام به، وهذا أولى من قولنا: الإعلام بدخول وقت الصلاة؛ لأن الأذان عبادة فينبغي التنويه عليها في التعريف، ولأن الأذان لا يتقيد بأول الوقت ولهذا إذا شرع الإبراد في صلاة الظهر شرع تأخير الأذان أيضًا كما ورد ذلك في الصحيح" (¬4). ثانيًا: حكل الأذان والإقامة: اتفق الفقهاء -رحمهم الله- على مشروعية الأذان والإقامة وأنهما من خصائص الإِسلام وشعائره الظاهرة وأنه لو اتفق أهل بلد على تركها قوتلوا وأنه لو صلى مصلٍ من غير أذان ولا إقامة فصلاته صحيحة. لكنهم اختلفوا في حكم الأذان والإقامة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الأذان والإقامة سنة مؤكدة، والإقامة في هذا آكد من ¬

_ (¬1) سورة الحج: 27. (¬2) لسان العرب والمصباح المنير مادة "أذن". (¬3) شرح منتهى الإرادات (1/ 122). (¬4) الشرح الممتع (2/ 40).

الأذان وهو الراجح عند الحنفية (¬1) ورأي لبعض المالكية (¬2) للجماعة التي تنتظر غيرها والأصح عند الشافعية (¬3) ورواية عن الإمام أحمد (¬4)، اختارها الخرقي (¬5). القول الثاني: أن الأذان والإقامة فرض كفاية، وهو رأي لبعض الحنفية والمذهب عند المالكية على مساجد الجماعات، والوجه الثاني عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة في الحضر (¬6). القول الثالث: أن الأذان والإقامة فرض كفاية في الجمعة سنة في غيرها، وهو الوجه الثالث للشافعية ورأي لبعض الحنابلة (¬7). الراجح من الأقوال: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من أن الأذان والإقامة فرض كفاية؛ وذلك لما يأتي: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث -رضي الله عنه-: " ... فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" (¬8). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما في حال سفرهما بالأذان، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - ما رواه أحمد وغيره من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 240 - 241)، وبدائع الصنائع (1/ 146). (¬2) مواهب الجليل (1/ 422 - 423). (¬3) المجموع (3/ 89 - 90). (¬4) كشاف القناع (1/ 275). (¬5) المغني (2/ 73 - 73). (¬6) المراجع السابقة. (¬7) المراجع السابقة. (¬8) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم (602)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (674).

ثالثا: ألفاظ الأذان والإقامة

النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن وتقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" (¬1). وجه الدلالة منه: أن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه. 3 - ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم" (¬2). وجه الدلالة أن الأذان جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - علامة على دار الكفر ودار الإِسلام، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلق استحلال أهل الدار بترك الأذان (¬3). 4 - مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأذان، فلم يتركه في سفر ولا حضر بل لم يرخص في تركه لأحد، ولو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبيّن جواز تركه، فلما لم يتركه دل على وجوبه. ومن هذه الأدلة يتبين لنا رجحان قول من قال بفرضيته على الكفاية في السفر والحضر. ثالثًا: ألفاظ الأذان والإقامة: قال أهل العلم: إن الأذان على قلة ألفاظه قد اشتمل على مسائل العقيدة، ذلك أنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله تعالى وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفى الشرك، ثم ثلث برسالة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ناداهم لما أراد من طاعته المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده، برقم (22053، 22054). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم (585). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 65).

ألفاظ الأذان

إلى الفلاح وهو البقاء الدائم وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا (¬1). ألفاظ الأذان: 1 - ذهب الحنفية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى الأخذ بألفاظ الأذان الواردة في حديث عبد الله بن زيد في رؤياه التي قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد. ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتًا منك" فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلله الحمد" (¬4). ¬

_ (¬1) المفهم على صحيح مسلم (2/ 253)، فتح الباري (2/ 92). (¬2) البدائع (1/ 147)، المبسوط (1/ 129). (¬3) كشاف القناع (1/ 80)، المغني (2/ 56، 57). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان برقم (499)، وابن ماجه في كتاب الأذان والسنة فيه، باب بدء الأذان، برقم (706)، وأحمدُ في مسنده، برقم (16591).

2 - أما الشافعية (¬1) فقد أخذوا بحديث أبي محذورة، وهو بنفس الألفاظ الواردة في حديث عبد الله بن زيد المتقدم، غير أن فيه زيادة الترجيع، ولهذا أخذ بها الشافعية، وسوف يأتي بيان تعريف الترجيع -إن شاء الله- مع بيان حكمه. 3 - أما المالكية (¬2) فقالوا بأن التكبير في أول الأذان مرتان فقط مثل آخره؛ لأنه عمل السلف بالمدينة ولرواية أخرى عن عبد الله بن زيد حيث جاء فيها التكبير مرتين في أول الأذان. والصحيح: أن يقال: إن كل ما جاءت به السنة من صفات الأذان فإنه جائز، وينبغي عدم الالتزام بصورة واحدة منها بل يؤذن بهذا تارة وبهذا تارة، لكن بشرط أن لا يحصل تشويش وفتنة، وبهذا القول نكون قد حصلنا على عدة فوائد: أولًا: حفظ السنة ونشر أنواعها بين الناس. ثانيًا: التيسير على المكلف، فإن بعضها قد يكون أخف من بعض فيحتاج للعمل. ثالثا: حضور القلب وعدم ملله وسآمته. رابعًا: العمل بالشريعة على جميع وجوهها (¬3). خامسًا: تربية الناس على قبول الرأي المخالف مما ورد الشرع به مما لا علم لهم به. ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 101)، ومغني المحتاج (1/ 135). (¬2) مواهب الجليل (1/ 424). (¬3) انظر الممتع (2/ 56).

الترجيع في الأذان

الترجيع في الأذان: تعريف الترجيع: الترجيع في الأذان هو أن يخفض المؤذن صوته بالشهادتين مع إسماعه الحاضرين ثم يعود فيرفع صوته بهما. حكمه: اختلف الفقهاء في حكم الترجيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يكره تنزيهًا. وهو رأي عند الحنفية (¬1)، وقيل بأنه الراجح عندهم. واحتجوا لذلك بأن بلالًا لم يكن يرجع في أذانه. ولأنه ليس في أذان الملك النازل من السماء. القول الثاني: أن الترجيع سنة وهو قول عند المالكية (¬2)، وهو الصحيح عند الشافعية (¬3) ورواية عند الحنابلة (¬4). القول الثالث: أنه مباح فليس بسنة وليس بمكروه. وهو قول الحنفية (¬5) والصحيح عند الحنابلة (¬6). والصحيح من هذه الأقوال: أن الترجيع في الأذان جائز، فلا يكره العمل به ولا تركه بل كلاهما ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن شاء أن يُرَجِّعَ في أذانه رَجَّعَ ومن شاء لم يرجع؛ وذلك لتنوع الصفة الواردة في الأذان. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان كذلك فالصواب ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار، لابن عابدين (1/ 387). (¬2) الخرشي على مختصر خليل (1/ 229). (¬3) المجموع (3/ 100). (¬4) الإنصاف (1/ 412). (¬5) البحر الرائق (1/ 269، 270). (¬6) المغني (2/ 56).

رابعا: صور الأذان

مذهب أهل الحديث ومن وافقهم من تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئًا من ذلك؛ إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سنّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته" (¬1). رابعًا: صور الأذان: أولًا: صورة الأذان عند الحنفية والحنابلة: الله أكبر- الله أكبر- الله أكبر- الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وذلك أخذا بحديث عبد الله بن زيد المتقدم. ثانيًا: صورة الأذان عند الشافعية: صورته عندهم نفس صورة الأذان عند الحنفية والحنابلة غير أنهم يزيدون الترجيع عند الإتيان بالشهادتين فيقول المؤذن: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، يخفض بذلك صوته، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، يخفض بذلك صوته ثم يرفعه. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (22/ 66).

دليلهم في ذلك حديث أبي محذورة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسع عشرة كلمة" (¬1). ثالثًا: صورة الأذان عند المالكية (¬2): الله أكبر- الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فجعلوا التكبير أول الأذان مرتين، دليلهم في ذلك ما روي من وجوه صحاح في أذان عبد الله بن زيد، وفي أذان أبي محذورة، وعمل أهل المدينة (¬3)، وفي حديث أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان: "الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (502)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الترجيع في الأذان، برقم (192). والنسائيُّ في كتاب الأذان، كم الأذان من كلمة، برقم (630). (¬2) مواهب الجليل (1/ 424). (¬3) الاستذكار، لابن عبد البر (1/ 369) بتحقيق سالم محمَّد عطا، ومحمَّد علي معوض، نشر: دار الكتب العلمية.

خامسا: التثويب في الأذان

رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين" (¬1). وقد تقدم حديث عبد الله بن زيد (¬2). خامسًا: التثويب في الأذان: تعريف التثويب: التثويب هو: العود إلى الإعلام بالصلاة بعد الإعلام الأول بقوله: "الصلاة خير من النوم" مرتين في أذان الفجر. حكم التثويب: التثويب سنة في الأذان لصلاة الفجر عند جميع الفقهاء، دليله حديث أبي محذورة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - له: "فإذا كان صلاة الصبح فقل: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم" (¬3). أي الصلوات يكون التثويب في الأذان؟ اتفق الفقهاء على أن التثويب يكون في الأذان لصلاة الفجر، وأجاز بعض الحنفية (¬4) والشافعية (¬5) التثويب في العشاء، وعللوا لذلك بأن العشاء وقت غفلة ونوم كالفجر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب صفة الأذان، برقم (379). (¬2) قال البيهقي في السنن الكبرى (1/ 390): "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنا أحمد بن جعفر القطيعي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا يعقوب. فذكره بإسناده مثله، إلا أنه ذكر التكبير في صدر الأذان مرتين، وكذلك ذكر محمَّد بن سلمة عن ابن إسحاق". (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (500)، والنسائيُّ في كتاب الأذان، باب الأذان في السفر، برقم (1597) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 147، 148). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 148). (¬5) المجموع، للنووي (3/ 105).

أي الأذانين لصلاة الفجر يكون التثويب؟

وأجاز بعض الشافعية (¬1) التثويب في جميع الأوقات وعللوا ذلك لفرط الغفلة عند الناس في زماننا. والصحيح: أنه لا يشرع التثويب في غير الأذان لصلاة الفجر، وبهذا قال المالكية (¬2) والحنابلة (¬3) وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬4) والشافعية (¬5)، دليل ذلك: أولًا: أن الأحاديث الواردة في مشروعية التثويب في الأذان إنما خصت الأذان لصلاة الصبح دون غيره كما في حديث أبي محذورة وبلال وأنس وابن عمر -رضي الله عنهم-. ثانيًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬6) والتثويب في غير أذان الفجر محدث، إذًا فهو باطل غير معتدٍّ به. ثالثًا: من الآثار ما جاء عن ابن عمر - صلى الله عليه وسلم - "أنه دخل مسجدًا يصلي فيه فسمع رجلًا يثوِّب في أذان الظهر فخرج، فقيل له: أين؟ فقال: أخرجتني البدعة" (¬7). أي الأذانين لصلاة الفجر يكون التثويب؟ ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (2/ 56)، المجموع (3/ 105). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 260). (¬3) المغني (2/ 61). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 148). (¬5) المجموع (3/ 215). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2550)، ومسلمٌ في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718). (¬7) ذكره ابن قدامة في المغني بهذا اللفظ (1/ 62)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عيينة عن ليث عن مجاهد قال: "كنت مع ابن عمر فسمع رجلًا يثوب في المسجد فقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع". المصنف (1/ 475)، برقم (1832).

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن التثويب يشرع في الأذان الأول الذي يكون قبل طلوع الفجر، وهذا هو رأي عند الحنابلة (¬1). واختار هذا الرأي الصنعاني في سبل السلام (¬2)، وبه قال الألباني (¬3). واحتجوا لذلك بما يأتي: 1 - من السنة: ما رواه النسائي عن أبي محذورة قال: "كنت أؤذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أقول في أذان الفجر الأول: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله" (¬4). وقالوا: فهذا صريح في أن التثويب مخصوص بالأذان الأول من صلاة الصبح. 2 - أما من جهة المعقول فقالوا: الأذان الأول المقصود منه إيقاظ النائم، كما جاء في حديث بلال وفيه: " ... ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" (¬5) أما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعوة إلى الصلاة. القول الثاني: أن التثويب يكون في الأذان الثاني للفجر. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬6) وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬7)، وبه أفتت اللجنة الدائمة ¬

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات (1/ 134). (¬2) سبل السلام، للصنعاني (1/ 231). (¬3) الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب (1/ 131 - 132). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب الأذان، باب التثويب في أذان الفجر، برقم (1611)، وصححه الألباني في سنن النسائي (1/ 140) برقم (628). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر، برقم (596)، ومسلمٌ في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1093) واللفظ لمسلم. (¬6) شرح منتهى الإرادات (1/ 134). (¬7) الممتع (2/ 57)، ومجموع فتاوى الشيخ (12/ 186).

للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1) ودليل ذلك: 1 - أن الروايات للأحاديث التي جاءت بمشروعية التثويب قيدته بالأذان لصلاة الفجر أو الصبح، وهذا ينصرف إلى الأذان الثاني الذي يعتبر هو الأصل المتفق عليه؛ وهو الذي يكون بعد دخول وقت الصلاة. 2 - ومن الأحاديث التي تدل على ذلك حديث نعيم بن النحام -رضي الله عنه- قال: "كنت مع امرأتي في مرطها في غداة باردة، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة الصبح، فلما سمعت قلت: لو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم، قال: ومن قعد فلا حرج" (¬2). وجه الدلالة في هذا الأثر من عدة وجوه: أولًا: قوله: "في غداة باردة": دليل أن الأذان وقع في الغداة وهو الصبح أي الفجر الصادق، فإنه لا يقال لآخر الليل غداة؛ لأن الغداة تكون من طلوع الفجر إلى شروق الشمس. ثانيًا: قوله: "فنادى إلى الصلاة": وجه الدلالة أن الأذان كان للصلاة، وهذا لا يكون حقيقة إلا إذا كان في الأذان الثاني الذي يكون عند دخول الوقت. ثالثًا: قوله: "ومن قعد فلا حرج": ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 58 - 60) رقم الفتوى (9854). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1/ 502) برقم (1927)، وأحمدُ في مسنده برقم (18099)، والبيهقيُّ في سننه الكبرى (1/ 398) برقم (1731)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (1/ 117).

أين يكون موضع التثويب في أذان الفجر؟

وجه الدلالة أن فيه دليلًا على أن ذلك الأذان كان يستلزم المشي إلى المسجد لأداء الصلاة لمن سمعه. 3 - أما احتجاجهم بحديث أبي محذورة فالمراد بالأذان الأول فيه هو الأذان الذي هو لصلاة الصبح بعد دخول الوقت للصلاة، أما الأذان الثاني فالمراد به الإقامة للصلاة؛ إذ يطلق عليها أنها أذان كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "بين كل أذانين صلاة" (¬1) والمراد بالأذانين هنا الأذان والإقامة. والراجح من القولين هو القول الثاني؛ وذلك لقوة الأدلة ولأن عمل المسلمين عليه. أين يكون موضع التثويب في أذان الفجر؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) وقول في مذهب الحنفية (¬5) أن موضعه يكون بعد قول المؤذن: "حي على الفلاح". 2 - أما المذهب عند الحنفية (¬6) أن موضعه يكون بعد الانتهاء من الأذان. والراجح هو مذهب الجمهور، لحديث أبي محذورة المتقدم في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان له وفيه قوله: "حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كان صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، برقم (601)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين، باب بين كل أذانين صلاة، برقم (838). (¬2) مواهب الجليل (1/ 425). (¬3) المجموع (3/ 100). (¬4) المغني (2/ 61). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 148). (¬6) المبسوط (1/ 130)، البدائع (1/ 148).

سادسا: شروط الأذان

الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" (¬1). وأيضًا حديث أنس - رضي الله عنه - حيث قال: "كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الفلاح، حي على الفلاح، فليقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم" (¬2). سادسًا: شروط الأذان يشترط للأذان ما يأتي: الشرط الأول: دخول وقت الصلاة: يشترط لصحة الأذان دخول وقت الصلاة المفروضة، فلا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا في الأذان لصلاة الصبح؛ لأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت، فمتى أذن المؤذن قبل دخول الوقت لزمه الإعادة، إلا إذا صلى الناس في الوقت وكان الأذان قبله فلا تعاد الصلاة ولا يعاد الأذان. دليل ذلك ما رواه أبو داود وغيره من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان؟ برقم (500)، والنسائيُّ في كتاب الأذان، باب الأذان في السفر، برقم (1597) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 147، 148). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأذان قبل دخول الوقت، برقم (532)، الدارقطني في كتاب الصلاة، باب في ذكر أذان أبي محذورة واختلاف الروايات فيه، برقم (48)، والبيهقيُّ في السنن الكبرى، وصححه، باب رواية من روى النهي عن الأذان قبل الوقت، برقم (1672). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأذان قبل دخول الوقت، برقم (532) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 159، 160).

حكم الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها

وأيضًا حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ... فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" (¬1) فقد علق الأمر بالأذان بحضور الصلاة، وحضورها لا يكون إلا بعد دخول وقتها. حكم الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على خمسة أقوال: القول الأول: وهو قول الجمهور من المالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) وأبي يوسف من الحنفية (¬5)، أنه يشرع مطلقًا. القول الثاني: أنه لا يشرع مطلقًا، وهو قول لبعض الحنفية (¬6) ورواية عند الحنابلة (¬7). القول الثالث: أنه يشرع في رمضان دون غيره، وهو قول ابن القطان من الشافعية (¬8). القول الرابع: أنه يشرع في غير رمضان ويكره في رمضان، وهو رواية عند الحنابلة وهي المذهب (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم (602). (¬2) مواهب الجليل (1/ 428). (¬3) المجموع (3/ 95). (¬4) المغني (2/ 62). (¬5) البدائع (1/ 154). (¬6) المبسوط (1/ 134). (¬7) الفروع (1/ 279). (¬8) فتح الباري (2/ 124). (¬9) المغني (2/ 65)، الإنصاف (1/ 430، 431). بتحقيق محمَّد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي.

الشرط الثاني: كون الأذان مرتبا

القول الخامس: أنه لا يشرع إلا إذا كان للمسجد مؤذنان يؤذن أحدهما قبل الوقت والآخر عند دخوله، وهو قول ابن المنذر (¬1) وطائفة من أهل الحديث. والراجح من هذه الأقوال الخمسة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، دليل هذا القول: ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث عائشة وابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (¬2). الشرط الثاني: كون الأذان مرتبًا: المقصود بالترتيب هنا أن يأتي المؤذن بألفاظ الأذان وفق النصوص الشرعية التي جاءت ببيان صفة الأذان دون تقديم أو تأخير لكلمة أو جملة على الأخرى. وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط: 1 - فالجمهور (¬3) على أن الأذان لا يصح إلا مرتبًا، فمتى أخل المؤذن بالترتيب فإنه يستأنف الأذان من أوله؛ لأن ترك الترتيب يخل بالإعلام المقصود. 2 - وذهب الشافعية (¬4) وبعض المالكية (¬5) إلى أنه إن أخطأ فقدم -مثلًا- الشهادة بالرسالة على الشهادة بالتوحيد فإنه يعيد الشهادة بالتوحيد ثم يأتي بالشهادة بالرسالة وأن الاستئناف أولى. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الجامع لأحكام القرآن (6/ 216)، المجموع (3/ 97، 98). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر، برقم (597)، ومسلمٌ في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092). (¬3) انظر في ذلك: مواهب الجليل، للحطاب (1/ 425)، المجموع (3/ 121)، المغني (2/ 84). (¬4) مغني المحتاج (1/ 137). (¬5) مواهب الجليل (1/ 425).

الشرط الثالث: الموالاة في الأذان

3 - أما الحنفية (¬1) فالمذهب عندهم أن الترتيب سنة وليس بواجب، فلو قدم جملة في الأذان على الأخرى كأن قدم "حي على الفلاح" على "حي على الصلاة" فإنه يسن في حقه إعادة ما قدم فقط ولا يستأنف الأذان. والصحيح من القولين: هو اشتراط الترتيب في الأذان والإقامة؛ لما يأتي: 1 - أن الأحاديث التي جاءت في بيان ألفاظ الأذان كلها جاءت مرتبة. 2 - أن الأذان عبادة مشروعة على وجه مخصوص، فلا يغير. 3 - مداومة مؤذني النبي - صلى الله عليه وسلم - على ألفاظ الأذان والإقامة مرتبين، وكذلك من بعدهم، واستمرار عمل السلف الصالح والخلف على ذلك. الشرط الثالث: الموالاة في الأذان: تعريف الموالاة في الأذان: الموالاة: هي المتابعة بين ألفاظ الأذان بدون فصل بقول أو فعل. والموالاة شرط في صحة الأذان؛ فلا يكون الفصل بين ألفاظ الأذان طويلًا؛ وحدّ الطويل في ذلك هو العرف، فمتى حكم الناس بأن هذا فصل طويل فهنا يبطل الأذان. أما إذا كان الفصل يسيرًا فلا يبطل الأذان، ويبني على ما مضى، وهذا عند الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 149)، حاشية رد المحتار (1/ 389). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 260 - 261). (¬3) مواهب الجليل (1/ 427). (¬4) المغني (2/ 83، 84)، كشاف القناع (1/ 218).

الشرط الرابع: النية

أما الشافعية (¬1) فيسنّ استئناف الأذان في غير السكوت والكلام. وإذا قلنا بصحة الأذان إذا كان الفصل يسيرًا فليس معناه أنه يجوز الكلام اليسير بين ألفاظ الأذان، بل اتفق الفقهاء على كراهة الكلام اليسير إن كان بغير سبب أو ضرورة. أما إذا كان الفصل يسيرًا وتخلله كلام يسير فاحش كشتم وقذف وغناء ونحوه، فهنا يبطل الأذان ويجب الإعادة، وهو المذهب عند الحنابلة (¬2). الشرط الرابع: النية: اختلف الفقهاء في اشتراط النية في الأذان: 1 - فالمالكية (¬3) والحنابلة (¬4) على اشتراط النية لصحة الأذان، فلو أن شخصًا أخذ في ذكر الله بالتكبير ثم بدا له عقب ما كبر أن يجعله بداية أذان، فإنه يبتدئ الأذان من أوله ولا يبني على ما قال. 2 - ويرى الشافعية (¬5) أن النية ليست شرطًا عندهم على الأرجح ولكنها مندوبة، إلا أنه يشترط عندهم عدم الصارف، فلو قصد تعليم غيره لم يعتدَّ به. 3 - أما الحنفية (¬6) فالنية عندهم ليست شرطًا لصحة الأذان وإن كانت شرطًا للثواب. والصحيح من هذه الأقوال هو اشتراط النية لصحة الأذان؛ لأن الأذان ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 114)، مغني المحتاج (1/ 137). (¬2) المغني (2/ 83، 84). (¬3) مواهب الجليل (1/ 424). (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 136). (¬5) مغني المحتاج (1/ 137). (¬6) الأشباه والنظائر، لابن نجيم (ص: 16)، وعمدة القاري (1/ 314).

الشرط الخامس: كون الأذان باللغة العربية

عبادة والعبادة شرط لصحتها النية ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) فالحديث يشمل الصحة وحصول الثواب. الشرط الخامس: كون الأذان باللغة العربية: 1 - يشترط للأذان أن يكون بلغة العرب. وبهذا قال الحنفية (¬2) والحنابلة (¬3)، فلا يصح الإتيان به بأي لغة أخرى. 2 - وذهب الشافعية (¬4) إلى أنه إن كان يؤذن لجماعة وفيهم من يحسن العربية لم يجز الأذان بغيرها، أما إن كان هناك من لا يجيد اللغة العربية ولا يحسنها فإنه يجزئ بلغتهم. والصحيح: أنه لا يجزئ الأذان بغير اللغة العربية؛ لأن الأذان إنما ورد بلغة العرب، وقياسًا على أذكار الصلاة: فكما أنها لا تصح بغير العربية فكذلك الأذان والإقامة لا يصحان إلا باللغة العربية. الشرط السادس: رفع الصوت بالأذان: 1 - أوجب الفقهاء من الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) رفع الصوت بالأذان؛ ليحصل السماع المقصود بالأذان، وهو رأي عند الحنفية (¬7)، هذا إذا كان الغرض ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي رقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 256). (¬3) كشاف القناع (1/ 215). (¬4) المجموع (3/ 121). (¬5) مغني المحتاج (1/ 137). (¬6) كشاف القناع (1/ 217). (¬7) البدائع (1/ 149)، حاشية ابن عابدين (1/ 261).

سابعا: الشروط المعتبرة في المؤذن

إعلام غير الحاضرين بصلاة الجماعة. أما من يؤذن لنفسه أو الحاضر معه فلا يشترط رفع الصوت به لكن يرفع صوته بقدر ما يسمع نفسه أو يسمعه الحاضر معه. 2 - أما المالكية (¬1) فيرون أن رفع الصوت سنة وليس بشرط، وهذا هو الراجح في مذهب الحنفية (¬2) والوجه الثاني عند الشافعية (¬3). والراجح: هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام ولا يحصل إلا برفع الصوت فكان رفع الصوت شرطًا في صحته. سابعًا: الشروط المعتبرة في المؤذن: يشترط في المؤذن ما يأتي: الشرط الأول: كونه مسلمًا: فلا يصح أذان الكافر؛ لأنه ليس من أهل العبادة، ولأنه لا يعتقد الصلاة التي يعتبر الأذان دعاء لها، وإتيانه بالأذان ضرب من الاستهزاء فلا يعتد بأذانه، وهذا باتفاق الفقهاء (¬4). الشرط الثاني: كونه ذكرًا: فلا يصح أذان المرأة؛ لأن رفع صوتها قد يوقع في الفتنة، ولا يعتد بأذانها لو أذنت. أما الحنفية (¬5) فيقولون بأن الذكورية سنة وليست بشرط، وكرهوا أذان ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب (1/ 426). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 1 / 149). (¬3) مغني المحتاج (1/ 137). (¬4) انظر في ذلك منتهى الإرادات (1/ 125)، رد المحتار (1/ 393، 394)، مغني المحتاج (1/ 137). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 150)، وحاشية ابن عابدين (1/ 263).

الشرط الثالث: العقل

المرأة، ولو أذنت المرأة عندهم أجزأ أذانها ولا يعاد، لحصول المقصود. الشرط الثالث: العقل: يشترط في المؤذن أن يكون عاقلًا، فلا يصح الأذان من مجنون وسكران؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة، ويجب إعادة الأذان إذا وقع منهما. أما الحنفية (¬1) فقالوا بكراهة أذان غير العاقل، واستحب في ظاهر الرواية عندهم إعادة أذانه. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط العقل لصحة الأذان، فمتى أذن غير العاقل لم يصح أذانه ويجب إعادته. الشرط الرابع: البلوغ: الصبي غير المميز لا يجوز أذانه بالاتفاق؛ لأن ما يصدر منه لا يعتد به. أما الصبي المميز فقد وقع في أذانه خلاف بين الفقهاء: القول الأول: صحة أذان المميز، وهو المذهب عند الحنفية (¬2) مع الكراهة في ظاهر الرواية عندهم، وقول عند المالكية (¬3) والصحيح في مذهب الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5). القول الثاني: أنه لا يصح أذان المميز، وهو المذهب عند المالكية (¬6) ووجه ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 150)، حاشية ابن عابدين (1/ 264). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 150)، حاشية ابن عابدين (1/ 264). (¬3) مواهب الجليل (1/ 435). (¬4) المجموع (3/ 107). (¬5) المغني (2/ 68). (¬6) مواهب الجليل (1/ 435).

الشرط الخامس: العدالة

عند الشافعية (¬1) ورواية عند الحنابلة (¬2). والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول -أعني القائلين بصحة أذان المميز ما دام أنه يؤذن في الوقت- فمتى أذن فإنه يكتفى بأذانه؛ لأن به يحصل الإعلام بدخول الوقت. الشرط الخامس: العدالة: اتفق الفقهاء على اشتراط العدالة في المؤذن، واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" (¬3). وعرف الفقهاء العدالة بأنها هي: أن يجتنب الذنوب الكبائر ويتحفظ عن الصغائر ويحافظ على مروءته، فمتى فقدت هذه الأمور من المؤذن فلا يعتد بأذانه. حكم أذان الفاسق: ذكرنا فيما سبق اشتراط العدالة في المؤذن، لكنهم اختلفوا في صحة أذان الفاسق على قولين: القول الأول: أنه يصح أذانه، وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) ورواية عند الحنابلة (¬7). ¬

_ (¬1) الأم (1/ 84)، المجموع (3/ 107). (¬2) المغني (2/ 62). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، برقم (517) وصححه الألباني. (¬4) البحر الرائق (1/ 277)، رد المحتار (1/ 393، 394). (¬5) مواهب الجليل (1/ 436). (¬6) المجموع (3/ 108 - 111). (¬7) المغني (2/ 68، 69)، الإنصاف (1/ 424) بتحقيق محمَّد حامد الفقي.

ثامنا: ذكر بعض الأمور المستحبة في المؤذن

القول الثاني: أنه لا يصح أذانه، وهو المذهب عند الحنابلة (¬1). والصحيح من القولين هو صحة أذان الفاسق إذا لم يكن هو المعتمد عليه في دخول الوقت، لكن ينبغي أن لا يتخذ الناس فاسقًا يؤذن لهم؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمناء المسلمين على صلاتهم وسحورهم المؤذنون" (¬2). ثامنًا: ذكر بعض الأمور المستحبة في المؤذن: يستحب في المؤذن ما يلي: 1 - أن يؤذن على طهارة: دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أو قال: "على طهارة" (¬3). قال الترمذيُّ -رحمه الله-: "واختلف أهل العلم في الأذان على غير وضوء؛ فكرهه بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي وإسحاق، ورخص في ذلك بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمدُ" (¬4). 2 - أن يقف قائمًا عند أذانه: يستحب للمؤذن عند أذانه أن يقف قائمًا، فعن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: ¬

_ (¬1) المغني (2/ 68، 69)، الإنصاف (1/ 424)، شرح منتهى الإرادات (1/ 123). (¬2) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى، ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب الأذان في المنارة، برقم (1849)، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 102)، وحسنه الألباني في الإرواء (1/ 239) برقم (221). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول، برقم (17) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 16). (¬4) صحيح سنن الترمذيّ (1/ 63).

3 - أن يؤذن على مكان عال

"حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر ولا يؤذن إلا وهو قائم" (¬1). قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على أن القيام في الأذان سنة" (¬2). 3 - أن يؤذن على مكان عالٍ: وذلك لأنه أبلغ في الإسماع وحصول المقصود الذي شرع من أجله الأذان، ولهذا وردت السنة كما في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - المتقدم حينما أذن الملك حيث قال: "فقام على المسجد فأذن" وفي رواية: "على حائط" (¬3). وكذلك ما جاء في سنن أبي داود: عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بيتي من أطول البيوت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللَّهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك" (¬4). وأيضًا ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلا أن يؤذن هذا ويرقى هذا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى، ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب القيام في الأذان والإقامة، برقم (1708). وحسنه ابن حجر في التلخيص (1/ 509)، وحسنه الألباني في الإرواء (1/ 240). (¬2) الإجماع، لابن المنذر (ص: 39). (¬3) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى، ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب ما روي في تثنية الأذان والإقامة (1829). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأذان، باب الأذان فوق المنارة، برقم (519) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 105) رقم (519). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، برقم (592)، ومسلمٌ

4 - استقبال القبلة

وجه الدلالة في قوله: "ويرقى هذا": وهذا الحكم بلا شك معلق بعدم وجود التقنية الحديثة، فالعلة من الأذان في المكان العالي هي حصول الإسماع وهي حاصلة بهذه الاختراعات الحديثة، فلا حاجة إذًا للصعود إلى مكان عال لأداء الأذان عليه. 4 - استقبال القبلة: يسن استقبال المؤذن للقبلة حال أذانه، وهو مذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) وهو الراجح عند المالكية (¬4)؛ وذلك لأن مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة، فإن تركه أجزأه مع الكراهة. 5 - أن يجعل إصبعيه في أذنيه: يستحب للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه حال أذانه، فعن أبي جحيفة قال: "رأيت بلالًا يؤذن ويدور ويتبع فاه ها هنا وها هنا وإصبعاه في أذنيه" (¬5). والفائدة في وضع الإصبعين -يعني السبابتين في- الأذنين: 1 - أنه أقوى للصوت. ¬

_ في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092) واللفظ لمسلم. (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 259 - 260). (¬2) المجموع (3/ 106)، مغني المحتاج (1/ 136). (¬3) كشاف القناع (1/ 217). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 196). (¬5) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في إدخال الإِصبع في الأذن عند الأذان، برقم (197)، وأحمدُ في مسنده (4/ 308) رقم (18781).

6 - أن يلتفت المؤذن يمينا وشمالا في الحيعلتين

2 - ليراه الناس من مكان بعيد أو من لا يسمع فيعرف أنه يؤذن. 6 - أن يلتفت المؤذن يمينًا وشمالًا في الحيعلتين: دليل ذلك حديث أبي جحيفة حيث قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حلة حمراء كأني انظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ وأذن بلال، قال: فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا، يقول يمينًا وشمالًا: حي على الصلاة، حي على الفلاح ... " (¬1). والحكمة من الالتفات يمينًا وشمالًا إبلاغ المدعوين من على اليمين والشمال، وبناء على ذلك هل يلتفت المؤذن إن أذن بمكبرات الصوت؟ قال الشيخ ابن العثيمين: "لا يلتفت من أذن بمكبرات الصوت؛ لأن الإسماع يكون من السماعات التي في المنارة، ولو التفت لضعف الصوت؛ لأنه ينحرف عن الأخذة" (¬2). وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة: 1 - فبعضهم قال بأن الالتفات في الأذان في الحيعلتين سنة مطلقًا، وهذا الصحيح عند الحنفية، حيث إنهم قالوا بالالتفات في الحيعلتين في الأذان ولو في حق المنفرد أو في من يؤذن لمولود، وعلى هذا يسن عندهم الالتفات عبر مكبر الصوت. 2 - وبعض العلماء قالوا بأن الالتفات لعلة، والحكم يدور مع علته وجودًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، برقم (503). (¬2) الممتع (2/ 60).

تاسعا: ذكر بعض المسائل المتعلقة بالأذان والإقامة

وعدمًا، والعلة منتفية إذا أذن عبر مكبر الصوت؛ لأن صوته يتوزع في جميع الجهات عبر مكبر الصوت. تاسعًا: ذكر بعض المسائل المتعلقة بالأذان والإقامة من جمع أو قضى فوائت فإنه يؤذن مرة واحدة ويقيم لكل صلاة: دليل ذلك حديث جابر -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في عرفة ثم أقام فصلى الظهر والعصر، وكذلك في مزدلفة حيث أذن وأقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء" (¬1). حكم الاستماع للأذان وإجابة المؤذن: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه يجب الاستماع للأذان وإجابة المؤذن، وهذا هو مذهب الحنفية (¬2) وأهل الظاهر (¬3)، وابن رجب كما ذكر ذلك في فتح الباري (¬4). القول الثاني: أنه يستحب الاستماع للأذان وإجابة المؤذن، وهو رأي لبعض الحنفية (¬5) والمشهور عند المالكية (¬6) ومذهب الشافعية (¬7) والحنابلة (¬8)، وبه قال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (1218). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 660). (¬3) المحلى (3/ 148). (¬4) فتح الباري (2/ 73). (¬5) فتح القدير (2/ 248)، البحر الرائق (1/ 272، 273). (¬6) مواهب الجليل (1/ 442). (¬7) الأم (1/ 88). (¬8) المغني (2/ 85).

الأدلة

الشيخ ابن العثيمين (¬1) الأدلة: 1 - احتج أصحاب القول الأول بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (¬2). وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإجابة النداء، والأمر للوجوب ولا قرينة تصرفه إلى الاستحباب. 2 - واحتج الجمهور بما يأتي: أولًا: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على الفطرة"، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خرجت من النار" (¬3). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع المؤذن لم يقل مثل ما قال، فدل على أن الأمر ليس للإيجاب بل للاستحباب. ثانيًا: ما رواه مالك في موطئه عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: "إنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وأذن المؤذنون قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر ¬

_ (¬1) الممتع في شرح زاد المستقنع (2/ 82، 83). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن إذا سمعه ... ، رقم (383). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفار إذا سمع منهم الأذان (382).

الحالات التي تستثنى فيها متابعة المؤذن

يخطب أنصتنا فلم يتكلم أحد" (¬1). الراجح: نرى أن الصحيح هو قول الجمهور؛ لما أوردوه من أدلة، وإذا قلنا باستحباب الاستماع للمؤذن وإجابة النداء كما هو عليه جمهور الفقهاء، فإننا ننبه على أنه ينبغي للمسلم أن يحرص على الاستماع للأذان وإجابته؛ لما يترتب على ذلك من الأجر العظيم الذي يحصل في وقت قليل وبأسهل ما يمكن من غير كلفة على المسلم. قال الشيخ ابن العثيمين: "وفي متابعة المؤذن دليل على رحمة الله -عز وجل- وسعة فضله؛ لأن المؤذنين لما نالوا من أجر الأذان شرع لغير المؤذن أن يتابعه لينال أجرًا كما نال المؤذن أجرًا" (¬2). الحالات التي تستثنى فيها متابعة المؤذن: استثنى العلماء من ذلك حالتين هما: حالة قضاء الحاجة؛ وذلك لأن المقام ليس مقام ذكر. والمصلي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الصلاة شغلًا" (¬3)، فهو مشغول بأذكار الصلاة. والمختار عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن المصلي يتابع المؤذن؛ لعموم قوله ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ برقم (233)، وابن أبي شيبة (1/ 348)، وصححه النووي في المجموع (4/ 471). (¬2) الشرح الممتع (2/ 85). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، رقم (1141)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم (538).

المشروع في حق المصلي أن يتابع المؤذن فيما يقوله إلا في الحيعلتين

- صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" (¬1)، ولأنه ذكر وجد سببه في الصلاة فكان مشروعًا، كما لو عطس المصلي فإنه يحمد الله كما جاء في السنة (¬2). والراجح: أن المصلي لا يتابع المؤذن وكذا قاضي الحاجة، وهذا هو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬3). لكن هل يقضيان أم لا؟ المشهور عند الحنابلة أنهما يقضيان؛ لأن السبب وجد حال وجود المانع، فإذا زال المانع ارتفع وقضى ما فاته. المشروع في حق المصلي أن يتابع المؤذن فيما يقوله إلا في الحيعلتين: فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفي قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" يقول كما يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا مثل ما يقول" (¬4). ولا تقول: صدقت وبررت؛ لضعف الحديث الوارد في ذلك. ما يقول المؤذن عند شدة المطر أو الريح أو البرد: يشرع للمؤذن عند ذلك أن يقول: "صلوا في رحالكم"؛ لما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: ألا صلوا في الرحال، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن إذا سمعه ... ، رقم (383). (¬2) الفتاوى الكبرى (4/ 408). (¬3) الممتع (2/ 82). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن ... ، برقم (383).

يقول: "ألا صلوا في الرحال" (¬1). وقد اختلف الفقهاء في موضع قول المؤذن: "صلوا في الرحال" من الأذان: هل تقال في أثناء الأذان، أم بعد الفراغ منه؟ فقيل بأنها أثناء الأذان بعد الحيعلتين، وقيل بأنها تقال بعد الفراغ من الأذان. والصحيح: أن يقال بأن الأمر في هذا واسع، فقد ثبت هذا وهذا في السنة ولا منافاة بين الأحاديث الواردة في ذلك، فالكل صحيح -إن شاء الله-. إذا تنازع رجلان أو أكثر على الأذان ولم يكن للمسجد مؤذن راتب أو كان له مؤذنون وتنازعوا في أيهم يؤذن؟ الجواب: يقدم أفضلهم في الخصال المعتبرة في المؤذنين، فيقدم من كان أعلى صوتًا وأحسن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن زيد: "ألقه على بلال فإنه أندى صوتًا منك" (¬2) وكذا يقدم من كان صيتًا وأبلغ في معرفة الوقت وأشد محافظة عليه؛ لأنه مؤتمن. ويقدم أيضًا أفضلهم دينًا وعقلًا. فإذا تساوى المتنازعون فيما تقدم فللفقهاء فيهم قولان: القول الأول: وهو قول الجمهور (¬3) أنه يقرع بينهم. القول الثاني: وهو المذهب عند الحنابلة (¬4) أنه يقدم من يختاره الجيران، فإن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، برقم (635)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (697). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (499). (¬3) مواهب الجليل (1/ 453)، المجموع (3/ 88 - 89)، المغني (2/ 90). (¬4) المغني (2/ 90).

حكم أخذ العوض على الأذان والإقامة

تعذر إجماع الجيران على اختيار مؤذن فإنه يؤخذ بقول الأكثر؛ لأنه قلّ أن تجد رجلًا يجمع عليه الناس. حكم أخذ العوض على الأذان والإقامة: أخذ العوض عن الأذان والإقامة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون من بيت مال المسلمين وهو ما يسميه بعض الفقهاء بـ: "الرَزق" بفتح الراء. الحالة الثانية: أن يكون المال المأخوذ من المصلين وهو ما يسمى بالأجرة، ولبيان الحكم الشرعي في الحالتين نقول: الكلام على الحالة الأولى: اتفق الفقهاء على جواز أخذ الرَّزق من بيت المال على الأذان والإقامة ونحوهما مما يتعدى نفعه إلى غير فاعله. لكن الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) قيدوا ذلك بعدم وجود المتبرع للأذان والإقامة. واستدل الفقهاء على ذلك بما يلي: 1 - أن ما يؤخذ من بيت المال ليس عوضًا وأجرة بل رَزق، وهو حق ثابت في بيت المال (¬3). 2 - أن بالمسلمين حاجة إلى الأذان والإقامة وقد لا يوجد متطوع بهما وإذا لم ¬

_ (¬1) المهذب من المجموع (3/ 132). (¬2) الاختيارات الفقهية، لابن عثيمين (ص: 132). (¬3) الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى (ص: 98).

يدفع الرزق فيهما تعطلتا (¬1). 3 - أن بيت المال معد لمصالح المسلمين، فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجًا إليه كان من المصالح (¬2). الكلام على الحالة الثانية: حكم أخذ الأجرة على الأذان والإقامة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على الأذان والإقامة، وبهذا قال أبو حنيفة (¬3) وأصحابه، ورواية عند الحنابلة (¬4) هي ظاهر المذهب، وبه قال الشوكاني (¬5) وابن حزم (¬6). واستدلوا لذلك بأدلة منها: 1 - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬7)، وجه الدلالة: أن المؤذن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، فينبغي أن يكون مثله في عدم أخذ الأجرة على الأعمال. 2 - ومن السنة حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا ¬

_ (¬1) المغني (2/ 70). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المبسوط (1/ 140)، بدائع الصنائع (1/ 152). (¬4) المغني (2/ 70). (¬5) نيل الأوطار (2/ 49، 50). (¬6) المحلى (3/ 145 - 146). (¬7) سورة الشورى: 23.

يأخذ على أذانه أجرًا" (¬1). القول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة. وهذا هو مذهب المالكية (¬2) والصحيح عند الشافعية (¬3) ورواية عند الحنابلة (¬4). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان له، وفيه: "ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة" (¬5). وجه الدلالة ظاهرة في هذا الحديث على أخذ الأجرة. واحتجوا بأدلة عقلية منها: 1 - أن الأذان عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال (¬6). 2 - أن الأذان فعل يجوز التبرع به عن الغير، فلا يعتبر كونه قربة مانعًا من الإجارة، قياسًا على الحج عن الغير وبناء المساجد أو كتب المصاحف والسعاية على الزكاة. 3 - أن في الأذان نفعًا يصل إلى المستأجر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 21) رقم (16314)، أبو داود في كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين، برقم (531)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على أذانه أجرًا، برقم (209). وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. (¬2) المدونة الكبرى (1/ 183)، الخرشي على مختصر خليل (1/ 236). (¬3) المجموع (3/ 134). (¬4) المغني (2/ 70) (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 409) رقم (15417)، والنسائيُّ في كتاب الأذان، باب كيف الأذان، برقم (632) (¬6) المجموع (3/ 132)

القول الثالث: أن أخذ الأجر لا يجوز إلا في حالة الحاجة من غير شرط، وبه قال متأخرو الحنفية (¬1) وهو قول عند الحنابلة (¬2). والراجح من الأقوال هو جواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة في حالة الحاجة، فمتى دفع إليه ما يعينه على أداء الأذان كحاجته إليه فلا حرج عليه في ذلك؛ لأن الأذان يحبسه ويحتاج منه الأوقات. لكن من وسَّع الله عليه وأحب أن يعمل بدون شيء من بيت المال، فذلك أفضل وأكمل؛ لأنه حينئذ تكون قربته كاملة ليس فيها شيء من النقص، بل عمل عمله كاملًا من دون شائبة. أما من أخذ من بيت مال المسلمين فلا حرج عليه؛ لأن بيت المال للمسلمين عامة ولا سيما المصالح كالأذان والإقامة وأشباه ذلك. وهكذا الأوقاف التي توقف على المؤذنين والأئمة هذه كلها من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب تسهيل الأمور، وكون هناك راتب لمن يتفرغ لهذا الشيء أدعى إلى أن يلتزم ويقوم بهذا الأمر العظيم. أما حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في النهي عن أخذ الأجرة على الأذان، فمحمول على المشارطة بينه وبين أهل المسجد أو بينه وبين بعض الناس الآخرين، فهذا هو الأقرب في ظاهر النص. أما الذي يعطاه من بيت المال كما يعطى المدرس ويعطى الإِمام ويعطى المجاهد، فغير داخل في هذا الباب -إن شاء الله-، لكن الذي يتفرغ لهذا الشيء من ¬

_ (¬1) المبسوط (1/ 140)، بدائع الصنائع (1/ 152) (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (30/ 202)، الإنصاف (1/ 409)

حكم الأذان الثاني لصلاة الجمعة

جهة نفسه ولا يأخذ لذلك أجرًا؛ لأن الله أعطاه مالًا ووسع عليه، فهذا أكمل في الإخلاص. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المسألة التي كثر الحديث عنها بين الناس. حكم الأذان الثاني لصلاة الجمعة: الأذان لصلاة الجمعة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أذانًا واحدًا، وهكذا في عهد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وهذا الأذان كان ينادى به حين يجلس الإِمام على المنبر. فلما جاءت خلافة عثمان -رضي الله عنه- زاد الأذان الثاني لصلاة الجمعة، وذلك حينما أكثر الناس. وروى البخاري عن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فلما كان في خلافة عثمان -رضي الله عنه- وكثروا أَمَرَ عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فإذا به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك" (¬1). قلنا: وقول السائب بن يزيد -رضي الله عنه-: "أمر عثمان بالأذان الثالث" المراد بالأذان الأول والثاني الأذان والإقامة كما ذكرنا سابقًا أن الإقامة تعتبر أذانًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في حكم الأذان الثاني للجمعة: 1 - فذهب جمهور الفقهاء على أنه سنة، واحتجوا لذلك بما يلي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب التأذين عند الخطبة، برقم (874). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة؟ برقم (598)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين، باب بين كل أذانين صلاة برقم (838) من حديث عبد الله بن مغفل المزني -رضي الله عنه-.

* قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" (¬1). وجه الدلالة من الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وعثمانُ منهم، فوجب اتباع أذانه شرعًا. * إجماع الصحابة: حيث إن عثمان - رضي الله عنه - أمر بهذا الأذان بجمع منهم. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة- رضوان الله عليهم-. 2 - وذهب آخرون، منهم الإِمام الشافعي (¬2) وهو مروي عن الإمام مالك نحو ما ذكر الشافعي (¬3) وهو قول لبعض الحنفية (¬4) وقول الصنعاني (¬5) ونصره الألباني (¬6) - أنه لا يشرع ما أحدثه عثمان -رضي الله عنه-. واحتج أصحاب هذا القول بما يأتي: * ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "الأذان الأول" وفي رواية أخرى: "الأذان يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإِمام والذي قبل ذلك محدث" (¬7). وجه الدلالة ظاهرة حيث جعل الأذان الثاني -أي: ما أحدثه عثمان- بدعة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 126) رقم (17184)، وأبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، والترمذيُّ في كتاب العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676). (¬2) الأم (1/ 190). (¬3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (18/ 88، 89). (¬4) أحكام القرآن، للجصاص (5/ 336). (¬5) سبل السلام (1/ 217). (¬6) الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة (ص: 26). (¬7) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 470).

* ويستدلون لذلك بأن جماعة من السلف أنكروا هذا الأذان كالحسن وعطاء (¬1). وقالوا أيضًا: إن ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهم- أولى بالاتباع. * واحتجوا لذلك أن عليًا -رضي الله عنه-، وهو من الخلفاء الراشدين، كان يُؤَذَّنُ له أذان واحد بالكوفة (¬2)، وكذلك ابن الزبير كان لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر ولا يؤذَّنُ له إلا أذان واحد يوم الجمعة (¬3). فبهذه الأدلة احتجوا على عدم مشروعية الأذان الثاني -أي: الذي أحدثه عثمان -رضي الله عنه-. ولذلك قال المعاصرون منهم بأن ما أحدثه عثمان كان لعلة وهي كثرة الناس وتباعد المنازل عن المسجد، وقالوا بأن هذه العلة منتفية في هذا العصر، فلا حاجة لهذا الأذان. قلنا: وقد ذهب إلى القول الأول اللجنة الدائمة (¬4) وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬5)، واحتجوا لذلك بما احتج به جمهور الفقهاء. لكن ينبغي أن تكون المدة بين الأذانين كافية ليتأهب الناس للصلاة، كأن يكون بين الأذانين ساعة أو قريب منها؛ لكي يتسنى للناس الحضور وترك ما بأيديهم من أعمال. أما ما يحصل في بعض المساجد من أن يؤذن فيها بالأذان الأول ثم يؤذن للثاني مباشرة، أو تكون هناك مدة يسيرة كخمس دقائق أو أكثر بقليل، ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (18/ 88). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3/ 206). (¬4) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 198) فتوى رقم (1647). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (12/ 347)، مجموع فتاوى سماحة الشيخ محمَّد الصالح العثيمين (15/ 123 - 124)

إذا لم يستطع المؤذن إكمال الأذان هل يكمله غيره؟

فهذا خلاف المشروع؛ لأن العلة من الأذان الأول للجمعة هي تأهب الناس وإعلامهم بأن اليوم يوم جمعة وأنه ينبغي عليهم التأهب للصلاة، فإذا ما أذن الأول ثم تبعه الثاني لم تتحقق الفائدة والعلة التي من أجلها كان الأذان الثالث حينئذ. إذا لم يستطع المؤذن إكمال الأذان هل يكمله غيره؟ إذا حصل للمؤذن عذر يمنعه من إتمام الأذان أو الإقامة كإغماء أو موت ونحو ذلك، فهل يبني شخص آخر على أذانه أو إقامته أم لا بد من استئناف الأذان؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالجمهور (¬1) على اشتراط أن يؤدي الأذان والإقامة شخص واحد، فلا يصح أن يبني على أذان غيره بل يجب استئنافها. 2 - وقال بعض الفقهاء (¬2) بأنه لا يشترط أن يؤدي الأذان والإقامة شخص واحد بل يصح أن يبني على أذان غيره. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وذلك؛ لأن الأذان عبادة واحده، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة ويكمل الثاني الركعة الثانية فكذلك الأذان لا يصح أن يؤذن شخصٌ أوَّلٌ الأذان ويكمله آخرُ. المسألة العاشرة: إجابة الأذان عند تعدده: إذا تعدد المؤذنون في بلد ما فلا يخلو أذانهم من حالتين: الحالة الأولى: أن يسمع الأذان من مؤذن فإذا انتهى سمعه من الآخر فما ¬

_ (¬1) انظر حاشية رد المحتار (1/ 393)، مواهب الجليل (1/ 427)، المجموع (3/ 120 - 121)، المغني (3/ 84). (¬2) مواهب الجليل (1/ 427)، المجموع (3/ 122).

المشروع في حقه؟ نقول: اختلف الفقهاء في هذه الحالة على ثلاثة أقوال: القول الأول: الإجابة لجميع المؤذنين (وجوبًا أو ندبًا) على حسب الخلاف في حكم الإجابة. القول الثاني: استحباب إجابة المؤذن الأول وأصل الفضيلة شامل للجميع إلا أن الأول متأكد يكره تركه. القول الثالث: أنه تستحب إجابة جميع المؤذنين ما لم يصلّ فريضة الوقت، فإذا صلى فلا يستحب. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1) وهو قول لبعض الشافعية (¬2). والراجح هو استحباب إجابة جميع المؤذنين؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (¬3). الحالة الثانية: أن يتعدد الأذان في آن واحد فتسمع عن يمينك أذانًا وعن شمالك أذانًا وأمامك أذانًا وهكذا في وقت واحد فأيهما تجيب؟ فهنا لا يستطيع الإنسان أن يجيب الجميع في وقت واحد، وقد أجاب عن هذه بعض الفقهاء؛ قال العز بن عبد السلام: "إذا أذن المؤذنون معًا كفتهم إجابة ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 281). (¬2) الإعلام لفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن (2/ 473)، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للأسنوي (ص: 282 - 284). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (383).

حكم الاعتماد على الأذان المسموع عبر المذياع

واحدة" (¬1). وقال الكمال بن الهمام: "الذي ينبغي إجابة الأول سواء كان مؤذن مسجدٍ أو غيره؛ لأنه حيث يسمع الأذان ندب له الإجابة أو وجبت ... " (¬2). وقال الفقهاء: بل يجيب مؤذن مسجده الذي يصلي فيه. قلنا: والذي يظهر -والله أعلم- أن المستحب في حق من حصل له ذلك إجابة المؤذن الأول، اللَّهم إلا إذا حصل هناك تشويش عليه؛ لكون المؤذن الأول بعيدًا ولا يستطيع إجابته فهنا الأولى له تركه وإجابة أقرب مسموع له. حكم الاعتماد على الأذان المسموع عبر المذياع: الأذان عبر المذياع لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن ينقل الأذان عبر المذياع مباشرة، فهذا يأخذ حكم الاستماع للمؤذن؛ لأن المؤذن يأخذ حكم المبلغ عبر مكبرات الصوت، وهنا يستحب إجابته؛ لأنه أذان. الحالة الثانية: أن ينقل الأذان عبر تسجيل في غير وقت الصلاة، فهنا نقول: إذا كان الأذان مسجلًا وليس أذانًا للوقت فإنه لا يجيبه؛ لأن هذا ليس أذانًا حقيقيًا أي: أن الرجل لم يرفعها حين أمر برفعه وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق (¬3). أما إن كان في الوقت -أي: في وقت الصلاة- فهنا يجيبه؛ لأنه نداء للصلاة. ¬

_ (¬1) فتاوى العز بن عبد السلام (ص: 494). (¬2) فتح القدير (1/ 249) البحر الرائق (1/ 273 - 274). (¬3) انظر في ذلك مجموع فتاوى ومقالات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (10/ 363)، مجموع فتاوى شيخنا العثيمين رحمه الله (12/ 196).

ما أضيف للأذان مما ليس منه

ما أضيف للأذان مما ليس منه: أولًا: في قول المؤذن: "الصلاة عليك يا رسول الله" بعد الأذان: جاء في صحيح الإِمام مسلم -رحمه الله-: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" (¬1). فالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مطلوب شرعًا من المؤذن، والمستمع لكن جعل ذلك شعارًا في الأذان بحيث يجعله المؤذن من الأذان وينادي به بعد الأذان، فهذا أمر محدث يوجد في كثير من البلدان الإِسلامية وهو أمر محدث لم يكن على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهد من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما حكاية زيادة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عبر الأذان فقد أحدثت في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف، وذلك في شعبان سنة 791 هـ، وكان قد حدث قبل ذلك في أيام السلطان يوسف صلاح الدين بن أيوب، حيث كان يقال قبل أذان الفجر في كل ليلة بمصر والشام: "السلام عليك يا رسول الله" واستمر ذلك إلى سنة 777 هـ. فزيد بأمر المحتسب صلاح الدين البرلسي أن يقال: "الصلاة والسلام عليك يا رسول الله" ثم جعل ذلك عقب كل أذان سنة 791 هـ كما ذكرنا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن ... ، برقم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-. (¬2) انظر في ذلك: حاشية بن عابدين (1/ 261)، وحاشية الدسوقي (1/ 193).

ومن هنا نعلم أن هذه الزيادة محدثة بدعة، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "أما إذا كان المؤذن يقول ذلك برفع صوت كالأذان فذلك بدعة؛ لأنه يوهم أنه من الأذان، والزيادة في الأذان لا تجوز لأن آخر الأذان كلمة (لا إله إلا الله) فلا يجوز الزيادة على ذلك، ولو كان ذلك خيرًا لسبق إليه السلف الصالح بل لعلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وشرعه لهم .... " (¬1). ثانيًا: قول المؤذن: "حي على خير العمل" وقوله: "أشهد أن عليًا ولي الله": ألفاظ الأذان الصحيحة هي التي وردت في رؤيا عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-، فهي الألفاظ الأصلية المتواترة، فلا يجوز الزيادة على تلك الألفاظ إلا بما ورد بنص صحيح كالتثويب في الفجر والنداء بالصلاة في الرحال، على ما ذكرنا سابقًا. أما هذه الزيادة وهي قول المؤذن: "حي على خير العمل" أو "أشهد أن عليًا ولي الله" وغيرها من الألفاظ، فهذه من المحدثات التي أحدثت، وهي بدعة لا أصل لها في الأحاديث الصحيحة (¬2). ثالثًا: التعوذ والبسملة قبل الأذان: من الأمور المحدثة قبل الأذان ما يقوم به البعض من التعوذ والبسملة قبل الأذان، وهذا لا نعلم له أصلًا يدل على مشروعيته لا بالنسبة للمؤذن ولا لمن يسمعه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى الشيخ -رحمه الله- (10/ 362 - 363). (¬2) انظر في ذلك: فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 94) رقم الفتوى (220)، وفتاوى سماحة الشيخ ابن باز (10/ 352 - 354). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2550)، ومسلمٌ في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718).

إذا سمع المرء بعض الأذان هل يقضي ما فاته من السماع ويجيبه فيما بقي أم يجيبه فيما بقي فقط؟

إذا سمع المرء بعض الأذان هل يقضي ما فاته من السماع ويجيبه فيما بقي أم يجيبه فيما بقي فقط؟ الجواب: للفقهاء فيها قولان: القول الأول: أنه يستحب أن يجيبه في جميع الأذان ما سمعه منه وما لم يسمع. وهذا قول الشافعية (¬1) وقول أكثر الحنابلة (¬2). واستدلوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا بمثل ما يقول" (¬3) ولم يقل بمثل ما سمعتم. القول الثاني: أنه يستحب له أن يجيبه فيما سمع فقط. وهو رأي لبعض المالكية (¬4) وقول لبعض الحنابلة (¬5) وبه قال سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم (¬6) -رحمه الله-. واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم" فالإجابة للمؤذن متعلقة بالسماع؛ لأنه قال: "فقولوا مثل ما يقول" ولم يقل مثل ما قال وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الأذان عبادة، فما فات من ألفاظه فات محل إجابة السامع فيها. وهذا هو الأقرب والله أعلم. حكم توحيد الأذان: من الأمور الفقهية المستجدة في العصر الحديث ما تراه في بعض البلدان من ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 140). (¬2) حاشية على منتهى الإرادات، لعثمان النجدي (1/ 146). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (383). (¬4) الشرح الكبير، للعدوي (1/ 319). (¬5) حاشية على منتهى الإرادات، لعثمان النجدي (1/ 146). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله- (2/ 134).

توحيد الأذان في جميع البلد، بمعنى أنه يؤذن مؤذن واحد لجميع المساجد الموجودة وذلك من خلال استخدام التقنية الحديثة، فهل يشرع هذا العمل؟ ولما كان الأذان له أدلته الشرعية المناطة به كما ذكرنا ذلك من خلال فقه الأذان ولا مانع من استخدام الوسائل الحديثة في الإعلام به وأنه يتعين على الأمة الأخذ بها لأن فيها نفعًا عظيمًا للأمة -لكن هذا مع مراعاة النصوص الشرعية التي وردت بذلك-. فلا ينبغي مثلًا استخدام الشريط المسجل للإعلام بالأذان ووضعه من خلال مكبرات الصوت، لما يأتي: 1 - أنه لا بد أن يكون لكل جماعة مؤذن خاص بها يؤذن ويقيم كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن أبي العاص: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا" (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإن الذئب يأكل القاصية" (¬2). وجه الدلالة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة" فقوله: "فيهم" أي في مكان وجودهم التي ستقام فيه الصلاة، ومع توحيد الأذان لم يكن المؤذن فيهم بل بعيدًا عنهم بعشرات بل بمئات الكيلو مترات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" (1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 21) رقم (16314)، أبو داود في كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين برقم (531)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على أذانه أجرًا، برقم (209) وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ .. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده برقم (21758) وحسنه الألباني في الثمر المستطاب (1/ 117).

أكبركم" (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم - "فليؤذن لكم" دليل على أن المؤذن لا بد أن يكون من الجماعة الحاضرة، ومع توحيد الأذان يكون المؤذن من غير الجماعة الحاضرة. 2 - أن توحيد الأذان فيه تهوين وتقليل من شأن هذه الشعيرة العظيمة التي جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلًا على إسلام البلد وإسلام أهلها. 3 - أن في توحيد الأذان حجرًا على العمل الصالح وجعله على فرد معين، وبالتالي لا يؤذن بهذه الطريقة آلاف البشر الذين يريدون حصول الأجر بالأذان. 4 - أن توحيد الأذان قد يحصل معه عطل فني في بعض الأجهزة المستخدمة في نقله وبالتالي ستتعطل هذه الشعيرة في بعض المساجد بل في بعض البلدان. ومن هنا نرى أنه لا يشرع العمل بتوحيد الأذان لما ذكرناه من هذه الأدلة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم (602)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (674).

كتاب الصلاة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الصلاة

تعريف الصلاة

كتاب الصلاة تعريف الصلاة: الصلاة في اللغة: الدعاء قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬1) أي: ادع لهم، وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصلّ، وإذا كان مفطرًا فليطعم" (¬2) ومعنى: "فليصلّ" أي فليدع لأهل الطعام. أما معنى الصلاة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬3) فالصلاة من الله تعالى علينا هي الرحمة ومن الملائكة الاستغفار والدعاء. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلت عليه الملائكة عشرًا" (¬4) أي دعت، وقد تأتي الصلاة بمعنى الثناء كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (¬5) أي ثناء حسن من الله تعالى عليهم (¬6). تعريفها في الاصطلاح: عرفها جمهور الفقهاء بقولهم: "أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم مع النية بشرائط مخصوصة" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 103. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، برقم (1431). (¬3) سورة الأحزاب: 43. (¬4) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده، برقم (784)، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب في الصائم إذا أكل عنده، برقم (1748). (¬5) سورة البقرة: 157. (¬6) تاج العروس، للزبيدي (19/ 606، 607). (¬7) انظر في ذلك: فتح القدير (1/ 191)، مواهب الجليل (1/ 377)، مغني المحتاج (1/ 120)، كشاف القناع (1/ 221).

مكانة الصلاة في الإسلام

وقيل: "عبادة ذات أقوال، أو تقول: التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة؛ حتى يتبين أنها من العبادات" (¬1). مكانة الصلاة في الإسلام: الصلاة صورة من الصور التي يقوم بها الإنسان لعبادة خالقه، فهي صلة بين العبد وربه، ومنزلتها من الإِسلام بمنزلة الرأس من الجسد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأس الأمر الإِسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" (¬2). أما من حيث الأركان التي يقوم بها الإِسلام فهي تمثل الركن الثاني بعد الشهادتين؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإِسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" (¬3). فتقدم الصلاة على جميع الأركان بعد الشهادتين لمكانتها وعظيم شأنها، فهي أول عبادة فرضها الله تعالى على عباده في مكة وأول عبادة تكتمل في المدينة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر" (¬4). ماذا يتحقق بالصلاة: الصلاة من أجلِّ العبادات، بها يتحقق دوام ذكر الله ودوام الاتصال به، ¬

_ (¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 5). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (2616)، وأحمدُ (5/ 22069) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الإيمان، برقم (8)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، برقم (16) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب صلاة المسافرين، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، برقم (343)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685).

الأصل في فرضية الصلوات الخمس

وتمثل تمام الطاعة والاستسلام لله والتجرد له وحده لا شريك له، وتربي النفس وتهذب الأخلاق وتنير القلب بما تغرس فيه من جلال الله وعظمته، فهي عمل من صميم الدين، بها يقف المرء بين يدي ربه في خشوع وخضوع مستشعرًا بقلبه عظمة المعبود مع الحب والخوف من جلال وجمال المعبود طامعًا، فيما عند الله. وراغبًا في كشف الضر. الأصل في فرضية الصلوات الخمس: دلت الأدلة المستفيضة من الكتاب والسنة على فرضية الصلوات الخمس وانعقد الإجماع على ذلك. أولًا: أدلة الكتاب: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ} (¬1) وقد كررها الله تعالى في غير موضع في كتابه، وقال أيضًا: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2). وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) والآيات التي جاءت في الأمر بها كثيرة معروفة. ثانيًا: الدليل من السنة: جاءت أحاديث كثيرة منها: حديث "بني الإِسلام على خمس ... " (¬4) وحديث: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 43. (¬2) سورة النساء: 103. (¬3) سورة البقرة: 238. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الإيمان، برقم (8)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، برقم (16) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

ثالثا: الإجماع

"رأس الأمر الإِسلام" (¬1) ومن ذلك أيضًا حديث أبي أسامة -رضي الله عنه- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: "اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تدخلوا جنة ربكم" (¬2). ثالثًا: الإجماع: انعقد الإجماع على فرضية الصلوات الخمس وتكفير من أنكرها (¬3)، واستُثني من ذلك من كان حديث عهد بكفر وجحد وجوبها، فإنه لا يكفر لكن يبين له الحق، فإن أعرض عن قبول الحق وأصر على جحودها كفر. حكم تارك الصلاة: لتارك الصلاة حالتان: الحالة الأولى: أن يتركها جحودًا لفرضيتها، فهذا لا خلاف بين العلماء في كفره؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن تاب وإلا قتل كفرًا، وكذلك من جحد ركنًا أو شرطًا مجمعًا عليه فإنه يكفر بذلك. لكن إن جحدها وهو حديث عهد بكفر فإنه لا يكفر إلا بعد بيان فرضيتها له، فإن أصرّ على جحده إياها كفر وصار مرتدًا. الحالة الثانية: أن يتركها تهاونًا وكسلًا مع إقراره بفرضيتها، وهنا اختلف الفقهاء في حكمه: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (2616)، وأحمدُ (5/ 22069) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. (¬2) رواه أحمد (5/ 262) برقم (22215) من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-. (¬3) المغني (3/ 351).

القول الأول: يرى الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3) أن من تركها تكاسلًا مع إقراره بفرضيتها ليس بكافر بل هو فاسق، واختلفوا في إقامة الحد عليه: 1 - فقال المالكية (¬4) والشافعية (¬5): يقام عليه حد القتل إن أصرّ على عدم الصلاة، ويكون حكمه بعد الموت حكم المسلم فيغسل ويصلى عليه. 2 - وقال الحنفية (¬6) لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي أو يتوب، واحتجوا لذلك بأدلة منها: 1 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬7). 2 - عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان منه من العمل" (¬8). 3 - وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -ومعاذ رديفه على الرحل- قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثًا، قال: "ما من أحد يشهد ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 235). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 189 - 190). (¬3) مغني المحتاج (1/ 372). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 189 - 190). (¬5) مغني المحتاج (1/ 372). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 235)، الفتاوى الهندية (1/ 50). (¬7) سورة النساء: 48. (¬8) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} برقم (3252) (الفتح 6/ 342)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا برقم (28).

أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار"، قال: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا (¬1). 4 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه" (¬2). 5 - وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (¬3). 6 - وفي الصحيح في قصة عتبان بن مالك وفيها: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" (¬4) وفيه: "فيخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط" (¬5). 7 - عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدرس الإِسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم (128)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، برقم (32). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، برقم (99). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، تفريع أبواب صلاة السفر، باب فيمن لم يوتر، برقم (1420)، وأحمدُ (5/ 315) رقم (22745)، (22772) من حديث عبادة بن صامت - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاريُّ في أبواب المساجد، باب المساجد في البيوت وصلى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة، برقم (415). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 116)، رقم (12174) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

الناس، الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثًا كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من النار، ثلاثًا (¬1). فهذه الأدلة وغيرها تمنع من التكفير والتخليد وتوجب من الرجاء له ما يرجى لسائر أهل الكبائر. قالوا: ولأن الكفر جحود التوحيد وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول، وهذا يقر بالوحدانية شاهدًا أن محمدًا رسول الله، مؤمنًا بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره؟ والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لا ترك العمل، فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟ (¬2). أما أدلة قتله حدًا فقد استدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله" (¬3). واستدل الحنفية على عدم قتله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذهاب القرآن والعلم، برقم (4049) وصححه. (¬2) كتاب الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم (ص: 37). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان، برقم (25)، ومسلمٌ في كتاب، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... ، برقم (22). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ

القول الثاني في حكم تارك الصلاة تكاسلا وتهاونا

القول الثاني في حكم تارك الصلاة تكاسلًا وتهاونًا: قالوا: من ترك الصلاة تكاسلًا وتهاونًا فإنه يكفر كفرًا مخرجًا عن الملة ويقتل ردة إن لم يتب ويصل، وهذا هو إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد (¬1) وهي وجه عند الشافعي (¬2) وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه (¬3) وهو قول الشيخين: عبد العزيز بن باز (¬4) ومحمَّد بن صالح العثيمين (¬5) وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: 1 - الكتاب: ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬7). وجه الدلالة: أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: الأول: أن يتوبوا من الشرك. الثاني: أن يقيموا الصلاة. ¬

_ = وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...} برقم (6484)، ومسلمٌ في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676) واللفظ لمسلم. (¬1) كشاف القناع (1/ 227). (¬2) مغني المحتاج (1/ 327). (¬3) نيل الأوطار (1/ 327). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (1/ 239). (¬5) انظر رسالة تارك الصلاة (ص: 7). (¬6) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 36) رقم (443). (¬7) سورة التوبة: 11.

الثالث: أن يؤتوا الزكاة. فإن تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا. 2 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ...} (¬1). وجه الدلالة في قوله تعالى: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ}: دل على أنه حين إضاعتهم للصلاة واتباعهم للشهوات ليسوا بمؤمنين. 1 - من السنة حديث جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر، تركَ الصلاة" (¬2) قالوا: والكفر متى عرِّف بأداة التعريف (ال) وهكذا الشرك، فالمراد بها الكفر الأكبر والشرك الأكبر. 2 - حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (¬3)، وجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الكفر هنا على أثر واضح وهو الصلاة، فكون تركها كفرًا أكبر لا يستغرب. 3 - إجماع الصحابة حيث يرون كفر تارك الصلاة. دليل ذلك ما جاء عن عبد الله بن شقيق العقيلي أنه قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة مريم: 59. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم (82). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2621). وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم (1078). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 177). (¬4) أخرج الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2622)، صحيح سنن الترمذيُّ برقم (2114)، وصحيح الترغيب والترهيب، للألباني (562).

الأثار المترتبة على كفر تارك الصلاة

فهذه الأدلة وغيرها تدل دلالة واضحة على كفر تارك الصلاة. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "والخلاصة أن القول الصواب الذي تقتضيه الأدلة هو أن ترك الصلاة كفر أكبر، ولو لم يجحد وجوبها، ولو قال الجمهور بخلافه فإن المناط هو الأدلة وليس المناط هو كثرة القائلين، فالحكم معلق بالأدلة، والترجيح يكون بالأدلة، وقد قامت الأدلة على كفر تارك الصلاة كفرًا أكبر" (¬1). وقال الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين: "ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر أو أنه مؤمن، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في نفس النص يمنع معها أن يترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأنها خاصة والخاص مقدم على العام (¬2). الأثار المترتبة على كفر تارك الصلاة: أولًا: في الدنيا: 1 - تسقط ولايته على من يشترط في ولايته الإِسلام، فلا يولَّى على أبنائه القاصرين ولا يزوج مولياته. 2 - يسقط إرثه من أقاربه: لما رواه أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ (10/ 241). (¬2) رسالة في حكم تارك الصلاة لفضيلة شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين (ص: 4). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الفرائض، باب ما لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر، برقم (6383)، ومسلمٌ في كتاب الفرائض، برقم (1614).

3 - يحرم دخوله مكة؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬1). 4 - لا تؤكل ذبيحته؛ لأنه غير مسلم ولا كتابي. 5 - لا يصلى عليه بعد موته، ويحرم الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2). 6 - يحرم نكاحه المرأة المسلمة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬3). قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: "وبهذا يعلم أن المسلم الذي يصلي وليس به ما يوجب كفره، إذا تزوج امرأة لا تصلي فإن النكاح باطل، وهكذا بالعكس؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة من غير أهل الكتابين، كما لا يجوز للمسلمة أن تنكح الكافر، لقول الله تعالى في سورة الممتحنة في نكاح الكافرات: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، وقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (¬4)، (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 28. (¬2) سورة التوبة: 84. (¬3) سورة الممتحنة: 10. (¬4) سورة البقرة: 221. (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 242).

ثانيا: الأحكام الأخروية

ثانيًا: الأحكام الأُخرَويَّة: فأما الأحكام الأخروية المترتبة على الرِّدَّة أيًا كان نوعها والعياذ بالله تعالى فمنها: 1 - أن الملائكة توبخه وتقرعه، بل تضرب وجوههم وأدبارهم قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬1). 2 - أنه يحشر مع أهل الكفر والشرك؛ لأنه منهم، قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬2) والأزواج جمع زوج؛ وهو الصنف، أي: احشروا الذين ظلموا ومن كان من أصنافهم من أهل الكفر والظلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 50 - 51. (¬2) سورة الصافات: 22 - 23.

شروط الصلاة

شروط الصلاة شروط الصلاة منها ما هي شروط وجوب، ومنها ما هي شروط صحة؛ أولًا: شروط الوجوب: شروط الوجوب: هي التي توجب على المكلف أن يصلي، بحيث إذا فقدت هذه الشروط أو بعضها لم تجب الصلاة، وهذه الشروط هي: 1 - الإِسلام: تجب الصلاة على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى، ولا تجب على الكافر الأصلي. ويترتب على ذلك أنه متى أسلم الكافر فإنه لا يؤمر بقضاء الصلاة ولا غيرها من العبادات؛ لأنه قد أسلم خلق كثير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدًا منهم بقضاء الصلاة. لكن مع القول بعدم مطالبة الكافر بوجوب الصلاة فإنه معاقب على تركها في الآخرة، زيادة على كفره، كما قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬1). هل على المرتد إذا عاد للإسلام قضاء الصلاة حال ردته؟ قولان للفقهاء: 1 - ذهب الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أن الصلاة لا تجب على المرتد، فلا يقضي ما فاته إذا رجع إلى الإِسلام، وعللوا ذلك بأنه حال ردته يصير كالكافر. ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 42 - 43 (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 294). (¬3) مواهب الجليل (1/ 243). (¬4) كشاف القناع (1/ 222).

2 - العقل

2 - وذهب الشافعية (¬1) إلى وجوب الصلاة على المرتد، على معنى أنه يجب عليه قضاء ما فاته زمن ردته بعد رجوعه إلى الإِسلام؛ تغليظًا عليه، ولأنه التزمها بالإسلام، فلا تسقط عنه بالجحود؛ كحق الآدمي. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الصلاة على المرتد. 2 - العقل: وضده زوال العقل، يشترط لوجوب الصلاة العقل، فلا تجب على المجنون دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى -وفي رواية: المعتوه- حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يَكْبُرَ" وفي رواية: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم" (¬2). أما الإغماء، فمتى أفاق المغمى عليه في فترة، أقصاها ثلاثة أيام، فإنه يلزمه قضاء ما فاته حال إغمائه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬3)، ويرى المالكية (¬4) والشافعية (¬5) عدم القضاء للمغمى عليه، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬6). والصحيح: هو وجوب القضاء على المغمى عليه: دليل ذلك: "أن عمار بن ياسر أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل فصلى ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 130). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، برقم (4298)، والنسائيُّ في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم (3432)، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041) والحديث صححه الألباني في الإرواء، برقم (297). (¬3) كشاف القناع (1/ 222). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 186). (¬5) مغني المحتاج (1/ 131). (¬6) مجموع فتاوى الشيخ (12/ 17).

3 - البلوغ

الظهر والعصر والمغرب والعشاء" (¬1). وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - مثله ولم يعلم لهم مخالف فكان كالإجماع، ولأن مدة الإغماء لا تطول -غالبًا- وهذا هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2). وأما النائم والساهي فيجب عليهما قضاء الصلاة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (¬3). 3 - البلوغ: من شروط وجوب الصلاة البلوغ، فلا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث ... " وذكر منهم الصبي فقال: "وعن الصبي حتى يحتلم" (¬4)، لكن على وليه أن يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنوات؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬5). واختلف الفقهاء في الأمر هنا، هل هو للوجوب أم للندب؟ فالجمهور على ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى في كتاب الحيض، باب المغمى عليه يفيق بعد ذهاب الوقتين فلا يكون عليه قضاؤهما، رقم (1692). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ (10/ 373). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (684). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، برقم (4298)، والنسائيُّ في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم (3432)، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041). والحديث صححه الألباني في الإرواء برقم (297). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ برقم (495). وصححه الألباني في الإرواء برقم (247).

ثانيا: شروط صحة الصلاة

أنه للوجوب (¬1)، والمالكية (¬2) على أنه للندب. والصحيح أن الأمر للوجوب. واختلف الفقهاء في أي السنوات يؤمر بالصلاة ويضرب عليها؟ فالحنفية (¬3) والحنابلة (¬4) يرون وجوب الأمر بعد استكمال السبع -أي: في بداية الثمان-، والضرب يكون بعد استكمال العشر، أي: في بداية الحادية عشرة. والمالكية (¬5) يرون أن الأمر يكون عند بداية السبع والضرب عند بداية العشر. والشافعية (¬6) يرون أن الأمر يكون في أثناء السبع والضرب في أثناء العشر. والصحيح: ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة؛ وهو أن الأمر بعد تمام السابعة والضرب بعد تمام العاشرة. ثانيًا: شروط صحة الصلاة: المراد بشروط صحة الصلاة ما لا تصح الصلاة بدونها، بحيث إذا فُقد شرط من دون عذر لم تصح الصلاة وتكون باطلة ويجب إعادتها، وهذه الشروط هي: 1 - الطهارة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 234، 235). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 186). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 234، 235). (¬4) كشاف القناع (1/ 225). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 186). (¬6) مغني المحتاج (1/ 131). (¬7) سورة المائدة: 6.

والطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة نوعان: طهارة حقيقية، وطهارة حكمية. فالطهارة الحقيقية المراد بها طهارة الثوب والبدن والمكان من النجاسات الحقيقية؛ فطهارة الثوب دليلها قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-: أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه الدم من الحيضة؟ فقال رسول الله: "حُتِّيهِ ثم اقرُصِيهِ ثُم رُشِّيهِ ثم صلي فيه" (¬2). أما طهارة البدن من النجاسة؛ فلأنه إذا وجبت طهارة الثوب فطهارة البدن من باب أولى، وقد جاءت أدلة السنة بذلك، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه" (¬4) فثبت الأمر باجتناب النجاسة، والأمر بالشيء نهي عن ضده. أما طهارة المحل (المكان) فقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم بقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 4. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب غسل دم الحيض، رقم (301)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، رقم (291) وسياق الحديث للترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب، وقال: حسنٌ صحيحٌ. رقم (138)، (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب إذا رأت المستحاضة الطهر، برقم (324)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (333). (¬4) أخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم (2)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 310) برقم (280). (¬5) سورة البقرة: 125.

2 - ستر العورة

أما النوع الثاني من الطهارة فهي الطهارة الحكمية؛ والمراد بها طهارة البدن من المحدثين الأكبر والأصغر، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). أما دلالة السنة على وجوب الطهارة للصلاة فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة أحدكم -إذا أحدث- حتى يتوضأ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة بغير طهور" (¬3)، وقوله: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬4). 2 - ستر العورة: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬5)، والمراد بأخذ الزينة هنا هو الثياب في الصلاة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" (¬6) وله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب ما جاء في الوضوء، برقم (135)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9)، برقم (301) من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬5) سورة الأحزاب: 31. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، برقم (641)، والترمذيُّ في كتاب الصلاة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم (377) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

حد العورة في الصلاة

-رضي الله عنه-: "إن كان واسعًا فالتَحِفْ به، وإن كان ضيقًا فاتَّزِرْ به" (¬1). فمتى صلى الإنسان من غير أن يلبس ما يستر به العورة أو ما يجب ستره في الصلاة على الأصح، فصلاته باطلة وقد انعقد الإجماع على أن من صلى عريانًا مع قدرته على اللباس، فصلاته باطلة (¬2). حد العورة في الصلاة: العورة في الصلاة -على المشهور من مذهب الحنابلة- تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مغلظة، مخففة، متوسطة. أولًا: العورة المغلطة: هي عورة الحرة البالغة، فكلها عورة إلا وجهها فإنه ليس بعورة في الصلاة، وإن كان هو عورة في النظر، فلو صلت المرأة في بيتها وليس عندها أحد، لوجب أن تستر كل شيء إلا وجهها. ثانيًا: العورة المخففة: وهي عورة الذكر من سبع إلى عشر سنوات، وهما الفرجان فقط، فإذا ستر قبله ودبره فقد أجزأه الستر، ولو كانت أفخاذه بادية، لكن على ولي أمره أن يأمره بالستر والعفاف وبخاصة إذا كان يعوِّده الصلاة. ثالثًا: العورة المتوسطة: وهي ما سوى ذلك وَحَدُّهَا ما بين السرة والركبة، فيدخل فيها الذكر من عشر سنوات فصاعدًا، والحرة دون البلوغ، والأمة ولو بالغة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب الصلاة في الثياب، باب إذا كان الثوب ضيقًا، برقم (354). (¬2) انظر في ذلك: التمهيد لابن عبد البر (6/ 376)، مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (22/ 116، 117).

الشروط المعتبرة في الثوب الذي به تستر العورة

فهذه هي أقسام العورات الثلاث التي يجب سترها في الصلاة وأمام الناس فيها وفي غيرها. الشروط المعتبرة في الثوب الذي به تستر العورة: يشترط للثوب الساتر ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن لا يصف البشرة: فإن وصفها لم يجزئ؛ لأن الستر لا يحصل إلا بذلك، فإن حصلت بثياب خفيفة لا تستر العورة بطلت الصلاة، ومن ذلك لبس الرجل السراويل القصيرة التي لا تستر الفخذين ولا يلبس عليها ما يستر الفخذين، فإن صلاته -والحال على ما ذكرناه- غير صحيحة. وهكذا المرأة إذا صلت بثياب خفيفة رقيقة لا تستر عورتها بطلت صلاتها (¬1). الشرط الثاني: أن يكون طاهرًا: فإذا كان الثوب نجسًا فإنه لا يصح أن يصلي به، ولو صلى به لا تصح صلاته، وقد ذكرنا ذلك عند اشتراط الطهارة لصحة الصلاة. ومن صلى وبعد فراغه من صلاته رأى نجاسة في ملابسه ولم يعلم نجاستها إلا بعد الفراغ من الصلاة، فصلاته صحيحة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره جبرائيل وهو في الصلاة أن في نعليه قذرًا فخلعها. ولم يعد أول الصلاة. وكذلك الحال لو علمها قبل الصلاة ثم نسي فصلى فيها ولم يذكر إلا بعد الصلاة؛ لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬2)، قال الله ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الشرح الممتع لزاد المستقنع، لشيخنا رحمه الله (2/ 102)، ومجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (10/ 411). (¬2) سورة البقرة: 286

من كان عنده ثوب نجس ولا يمكنه تطهيره

تعالى: "قد فعلت". لكن لو أصاب ثوبه نجاسة وهو قائم يصلي، فالواجب عليه أن يزيلها في الحال إن أمكنه ذلك وهو في الصلاة؛ للحديث المتقدم -أعني حديث جبرائيل- وإن لم يمكنه إزالة النجاسة فالواجب عليه أن ينصرف من الصلاة ثم يذهب ليزيل النجاسة ثم يعيد الصلاة. هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وإلا فالمذهب عند الحنابلة (¬1) أن الناسي والذاكر في الحكم سواء، أي: يجب عليه الإعادة للصلاة، لكن الصحيح ما ذكرناه: أن الناسي والجاهل أو من وجد النجاسة بعد صلاته، كلهم لا يجب عليهم الإعادة، وهذا هو اختيار الشيخ ابن باز والشيخ ابن العثيمين (¬2). من كان عنده ثوب نجس ولا يمكنه تطهيره: اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال أشهرها ثلاثة: القول الأول: وجوب الصلاة مع الإعادة وهذا هو المذهب عند الحنابلة. القول الثاني: أنه يصلي عريانًا ولا يعيد وهو قول الشافعي (¬3) ورواية عند أحمد (¬4). القول الثالث: أنه يصلي به ولا إعادة وهذا هو مذهب مالك (¬5)، وهذا هو الصحيح؛ لقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬7). ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 333)، الإنصاف (3/ 233، 237) (¬2) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (10/ 397)، الشرح الممتع (2/ 178) (¬3) المجموع (3/ 143، 142). (¬4) المغني (2/ 315، 316)، الإنصاف (3/ 228، 229). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 218). (¬6) سورة البقرة: 286. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الشرط الثالث: أن يكون الثوب مباحا

الشرط الثالث: أن يكون الثوب مباحًا: فمتى كان الثوب محرمًا لعينه كالثوب الحرير للرجل، أو محرمًا لوصفه كأن يكون الثوب به إسبال أو به صور، أو محرمًا لكسبه كأن يكون مغصوبًا ومسروقًا، فلا تصح الصلاة به، وهذا الشرط هو المذهب عند الحنابلة (¬1). ذكر ذلك صاحب الإنصاف (¬2) وقال: وعليه جماهير الأصحاب. وفي رواية أخرى عند الحنابلة: أن الصلاة بالثوب المحرم صحيحة مع التحريم. اختارها الخلال وابن عقيل. وهي الصحيحة، وهي اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬3). وعلى ذلك فمتى صُلِّي بثوب محرم فالصلاة به صحيحة مع حصول الإثم بالمخالفة للشرع. لبس الحرير للضرورة: إذا لبس الحرير لضرورة كأن يكون به مرض في جلده كالحساسية مثلًا، فإن صلاته تصير صحيحة ولا إثم عليه؛ لأننا لو ألزمناه بثوب آخر لم يحصل المقصود من الصلاة، وهو الخشوع والاطمئنان فيها، فيصير مشغولًا بذلك، فيفقد لبّ الصلاة -أعني الخشوع فيها-. 3 - استقبال القبلة: يشترط لصحة الصلاة استقبال القبلة، دليل ذلك قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬4). ¬

_ (¬1) منار السبيل (1/ 74 - 75). (¬2) الإنصاف (3/ 223). (¬3) الشرح الممتع (2/ 155). (¬4) سورة البقرة: 144.

أحوال المصلي في استقبال القبلة

ودليل السنة ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنْزِلَ عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبِلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة" (¬1). أحوال المصلي في استقبال القبلة: 1 - الصلاة على الدابة: أجمع أهل العلم (¬2) على أنه يجوز لكل من سافر سفرًا يقصر فيه الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت، ولا يلزم تحري القبلة دليل ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} (¬3) قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية في التطوع خاصة حيث توجه به بعيره" (¬4). وعلى ذلك فمن كان راكبًا في طائرة أو قطار أو سيارة ونحو ذلك، يجوز أن يصلي ما شاء من التطوع دون التحري للقبلة، لكن لا يجوز للسائق فعل ذلك؛ لما يترتب عليه من المفاسد. هذا كما ذكرنا في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، لكن هل يشرع ذلك في السفر القصير الذي لا يشرع فيه القصر؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم؛ فالجمهور (¬5) على جواز ذلك -أي: جواز الصلاة على الراحلة دون تحري القبلة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب القبلة، باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، برقم (395)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، برقم (526). (¬2) المغني (2/ 95). (¬3) سورة البقرة: 115. (¬4) انظر في ذلك: تفسير الطبري (2/ 530). (¬5) المغني (3/ 96).

2 - استقبال القبلة للخائف

وذهب مالك (¬1) إلي أنه لا يباح إلا في سفر طويل؛ لأنه رخصة سفر. قال القاضي أبو يعلى: الأحكام التي يستوي فيها الطويل من السفر والقصير ثلاثة: التيمم، وأكل الميتة في المخمصة، والتطوع على الراحلة (¬2). 2 - استقبال القبلة للخائف: من اشتد به الخوف بحيث لا يتمكن من الصلاة إلى القبلة أو احتاج إلى المشي أو عجز عن بعض أركان الصلاة إما لهرب مباح من عدو أو سيل أو سبُع أو نحو ذلك مما لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب ونحو ذلك، فله أن يصلي على حسب حاله؛ راجلًا، أو راكبًا إلى القبلة إن أمكن، أو إلى غيرها إن لم يتمكن (¬3). 3 - الاجتهاد في القبلة: أ- اتفق الفقهاء على وجوب الاجتهاد في القبلة إذا لم يكن هناك من يخبره ولا ما يستدل به على جهتها إن كان من أهل الاجتهاد، فإن ضاق عليه الوقت عن الاجتهاد صلى على حسب حاله. لكن صرح ابن قدامة بأن شرط الاجتهاد لا يسقط بضيق الوقت مع إمكانه. والأولى هو مراعاة الوقت، لكن إن تبين أنه صلى لغير القبلة هل يعيد الصلاة؟ خلاف بين الفقهاء؛ الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة إذا صلى حسب اجتهاده أو ضاق الوقت عليه ولم يجتهد؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬5). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 507). (¬2) المغني (6/ 96). (¬3) المغني (2/ 92 - 93). (¬4) سورة التغابن: 16. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

العجز عن استقبال القبلة

ب- إذا اختلف اجتهاد مجتهدين في اتجاه القبلة؛ فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) يرون أنه لا يتبع أحدهما الآخر ولا يؤمه؛ لأن كلًا منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز الائتمام. والأقرب للصواب أنه يجوز اتباع أحدهما الآخر مع اختلافهما في جهة القبلة، بل إذا كانت الصلاة صلاة جماعة واجبة، وجب اتباع أحدهما الآخر؛ لأن كل واحد منهما يعتقد خطأ الآخر لاجتهاده، أما الصلاة فيعتقد كل منهما صحة صلاة الآخر، فلم يمنع اختلاف الجهة الاقتداء به وهذا هو اختيار ابن قدامة (¬5). قال الشيخ محمَّد بن العثيمين: وهذا القول أقرب للصواب (¬6). العجز عن استقبال القبلة: من عجز عن استقبال القبلة لعذر به يمنعه من الاستقبال كالمريض والمربوط ونحوهم، فإنه يصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة؛ لأن الاستقبال شرط لصحة الصلاة وقد عجز عنه. هل يلزم المتنفل افتتاح الصلاة إلى القبلة؟ المذهب عند الحنابلة (¬7) أنه يجب افتتاح الصلاة إليها ثم بعد ذلك يكون حيث كان وجهه، واستدلوا لذلك بحديث أنس بن مالك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار (1/ 291). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 226). (¬3) نهاية المحتاج (1/ 429). (¬4) المغني (1/ 108). (¬5) المغني (1/ 178). (¬6) الشرح الممتع (2/ 283). (¬7) المغني (2/ 98)، الإنصاف (3/ 328).

حكم استقبال القبلة لصلاة الفريضة في السفينة ونحوها

سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه" (¬1). والصحيح: أنه ليس بواجب؛ لأن هذا مجرد فعل ولا يدل على الوجوب وإنما يدل على أنه الأفضل. ويدل على ما رجحناه حديث ابن عمر وهو أصح من حديث أنس، حيث إن حديث أنس اختلف في صحته، ولكن غايته أنه حسن، وحديث ابن عمر في الصحيحين حيث قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على الراحلة قبل أي وجهة توجهه ويوتر عليها، غير أنه كان لا يصلي عليها المكتوبة" (¬2). فظاهره أنه من ابتداء الصلاة إلى آخرها. حكم استقبال القبلة لصلاة الفريضة في السفينة ونحوها: ذهب جمهور الفقهاء (¬3) إلى وجوب استقبال القبلة لمن صلى فرضًا في السفينة، فإن هبت الريح وحولت السفينة وجب رد وجهه إلى القبلة؛ لأن التوجه فرض عند القدرة، وهذا قادر، وفي وجه عند الحنابلة (¬4) أنه يجب أن يدور المفترض إلى القبلة كما دارت السفينة كالمتنفل. والصحيح: أنه يجب أن يدور مع السفينة أو الطائرة أين دارت في صلاة الفرض حسب طاقته؛ لأن استقبال القبلة شرط لصحة صلاة الفريضة كما بينا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 203)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب التطوع على الراحلة والوتر، رقم (1225). والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 226)، برقم (1084). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، رقم (1098)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة، رقم (700). (¬3) مغني المحتاج (1/ 144)، حاشية الدسوقي (1/ 226) كشاف القناع (1/ 304). (¬4) تصحيح الفروع (1/ 380).

الصلاة في المسجد الحرام

ذلك. وهذا هو الذي أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1). الصلاة في المسجد الحرام: من كان يصلي في المسجد الحرام وأمكنه أن يستقبل عين الكعبة، لزمه ذلك، فإن صلى مستقبلًا جهة القبلة لا عينها لم تصح صلاته؛ لأن الأصل هو وجوب استقبال البيت الذي هو البناء، وهذا يخطئ فيه الكثير ممّن يأتون إلى المسجد الحرام ويمكنهم استقبال عين الكعبة ثم يتركون استقبال عينها ويستقبلون جهتها، وهذا خطأ، بل الواجب استقبال عينها متى أمكن ذلك (¬2). 4 - دخول الوقت: هذا هو الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة، دليل ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬4). أما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّني جبريل -عليه السلام- عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 121 - 122) فتوى رقم (6275) ورقم (2645). (¬2) انظر في ذلك الشرح الممتع لشيخنا رحمه الله (2/ 272). (¬3) سورة الإسراء: 78. (¬4) سورة النساء: 103.

شرط دخول الوقت للصلاة والأحكام المترتبة عليه

الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض. ثم التفتُّ إلى جبريل فقال: يا محمَّد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين" (¬1). وفي حديث مسلم: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" (¬2). شرط دخول الوقت للصلاة والأحكام المترتبة عليه: 1 - لا تصح الصلاة قبل الوقت بإجماع المسلمين (¬3)، فإن صلى قبل الوقت؛ فإن كان متعمدًا فصلاته باطلة ولا يسلم من الإثم، وإن كان غير متعمدٍ لظنه أن الوقت قد دخل، فليس بآثم، ولكن عليه الإعادة؛ لما صلاها من فريضة قبل الوقت، وأما صلاته التي صلاها قبل الوقت فتعد نفلًا له. 2 - حكم الصلاة بعد الوقت: اتفق الفقهاء على أنه إذا خرج وقت الصلاة من غير أن يصلي، فإنه يجب عليه أن يصلي، ولا تسقط الصلاة بخروج وقتها، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقيت، برقم (393)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (149). واللفظ للترمذي، وقال: "حسنٌ صحيحٌ، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-". (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 182)، المغني (1/ 184)، (2/ 45) الإنصاف (1/ 429)، حاشية الروض المربع (1/ 462).

وتكون صلاته حينئذ قضاء مع ترتب الإثم عليه إن تركها عمدًا بغير عذر شرعي، واستدلوا لذلك بحديث: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (¬1) قالوا: فإذا كان هذا حال المعذور فالمتعمد من باب أولى. جاء في الشرح الممتع: "والصحيح أنها لا تصح بعد الوقت إذا لم يكن له عذر، وأن من تعمد الصلاة بعد خروج الوقت فإن صلاته لا تصح ولو صلى ألف مرة؛ لأن الدليل حدد الوقت، فإذا تعمد أن تكون صلاته خارج الوقت لم يأت بأمر الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2) إذن: فتكون الصلاة مردودة" (¬3). وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله-وهو مذهب الظاهرية (¬5)، أجابوا عن حديث: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" قالوا: إن هذا معذور بنومه أو نسيانه والمعذور صلاته في الحقيقة ليست قضاء، بل أداء، وقولهم بعدم وجوب القضاء على من لا عذر له، ليس بغرض التخفيف وإنما تنكيل له وعقوبة من الله أنه لا يقبل صلاته. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (684). (¬2) أخرجه البخاريُّ، تعليقًا مجزومًا به، كتاب البيوع، باب النجش ومن قال لا يجوز ذلك البيع، رقم (2142)، ورواه مسلم موصولًا، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، برقم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) الشرح الممتع (2/ 97). (¬4) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإِسلام ابن تيمية، مع تعليقات شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين رحمه الله. (¬5) المحلى (2/ 236).

أوقات الصلاة

أوقات الصلاة: لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بتفصيل أوقات الصلوات المفروضة، وذلك على النحو الآتي: أولًا: وقت صلاة الصبح: اتفق الفقهاء على أن أول وقت الصبح هو طلوع الفجر الصادق، ويسمى الفجر الثاني، وسمي صادقًا؛ لأنه بين وجه الصبح وَوَضَحِه، وعلامته بياض ينتشر في الأفق عرضًا. أما آخر وقتها فهو بطلوع الشمس، فمتى طلعت الشمس فقد انتهى وقت صلاة الصبح، دليل ذلك ما رواه الترمذيُّ في السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس" (¬1). أيهما أفضل لصلاة الصبح: الإسفار بها أم التغليس؟ 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأفضل لصلاة الصبح التغليس، واستدلوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، باب منه. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 71)، برقم (151).

أحد من الغلس" (¬1) أي: لا يعرفهن أحد من الظلمة. 2 - وذهب الحنفية (¬2) إلى أن الإسفار أفضل، ومعنى الإسفار هو أن يؤخر الصلاة إلى أن ينتشر الضوء، وتمكين كل من يريد الصلاة جماعة أن يسير في الطريق دون أن يلحقه ضرر، كأن تَزِلَّ قدمه أو يقع في حفرة أو غير ذلك من الأضرار، واستدلوا لذلك بحديث: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬3) وعللوا لذلك أيضًا بأنهم قالوا إن الإسفار فيه تكثير للجماعة، وفي التغليس تقليل لها، فكان الأفضل الإسفار. واستثنوا من ذلك صلاة الفجر بمزدلفة يوم النحر، فإنهم قالوا بأنه يستحب فيها التغليس. وهذا عند جميع الفقهاء (¬4). قلنا: والذي يظهر أن الأولى للإمام أن يدخل في الصلاة بالتغليس وينصرف في الإسفار هذا هو الذي تقتضيه الأدلة، وهذا هو ما رجحه الطحاوي -رحمه الله- في شرح معاني الآثار (¬5). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" فليس معناه تأخير الصلاة حتى يسفر الفجر، وإنما معناه أن الإِمام يطيل في صلاة الفجر، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل في صلاة الفجر ليخرج منها في الإسفار، فعن أبي بَرْزَةَ الأسلمي قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف من الصبح، فينظر الرجل إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفة" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، برقم (553). (¬2) تبيين الحقائق، للزيلعي (1/ 82). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 52)، برقم (154). (¬4) جواهر الإكليل (1/ 51)، وحاشية الدسوقي (1/ 248). (¬5) شرح معاني الآثار (1/ 179). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وهو التغليس، وبيان قدر القراءة فيها، برقم (647).

بم تدرك صلاة الصبح؟

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حين سئل عن تأخر البعض عن صلاة الفجر حتى الإسفار معللين ذلك بما ورد في الحديث: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬1) - قال: "هذا الحديث لا يخالف الأحاديث الصحيحة الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بَغَلَسٍ، ولا يخالف أيضًا حديث: "الصلاة لوقتها" (¬2)، وإنما معناه عند جمهور أهل العلم تأخير صلاة الفجر إلى أن يتضح الفجر ثم تؤدى قبل زوال الغَلَسِ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها، إلا في مزدلفة فإن الأفضل التبكير بها من حين طلوع الفجر؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وبذلك تجتمع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -في وقت أداء صلاة الفجر، وهذا كله على سبيل الأفضلية" (¬3). بم تدرك صلاة الصبح؟ اختلف الفقهاء في ذلك؛ فمذهب الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) أن الصلاة تدرك بتكبيرة الإحرام، واستدلوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها" (¬6) فقالوا: السجدة جزء من الصلاة، فدل على إدراكها بإدراك جزء منها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 52)، برقم (154). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التوحيد، باب وسمى النبي الصلاة عملًا، برقم (7096)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85). (¬3) مجموع فتاوى ومؤلفات الشيخ (10/ 392). (¬4) مغني المحتاج (11/ 127). (¬5) المغني (2/ 18). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم (609).

ثانيا: وقت صلاة الظهر

والصحيح: أن الصلاة تدرك بإدراك ركعة، وهذا هو إحدى الروايتين عن أحمد (¬1). ثانيًا: وقت صلاة الظّهر: من خلال الحديث المتقدم -أعني حديث جبريل حين أمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة- يتضح لنا أن وقت الظهر يبدأ من زوال الشمس عن وسط السماء تجاه الغرب، ولا يصح أداء الصلاة قبل الزوال. بماذا يعرف الزوال؟ يعرف بأن تغرز خشبة مستوية في الأرض والشمس ما زالت في المشرق، فما دام ظل الخشبة ينتقص فالشمس قبل الزوال. فإذا لم يكن للخشبة ظل أو تم نقص الظل بأن كان الظل أقل ما يكون، فالشمس في وسط السماء، وهو الوقت الذي تمنع فيه الصلاة؛ فإذا انتقل الظل من المغرب إلى المشرق وبدأ في الزيادة، فقد زالت الشمس عن وسط السماء ودخل وقت الظهر، وهذا هو أول وقت الظهر. أما آخر وقت الظهر: 1 - فذهب جمهور الفقهاء (¬2) إلى أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، سوى فيء الزوال، واستدلوا لذلك بالحديث المتقدم، وفيه: "أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله" (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (2/ 17، 18). (¬2) انظر في ذلك: مواهب الجليل (1/ 382)، مغني المحتاج (1/ 121، 122)، كشاف القناع (1/ 250 - 251). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقيت، برقم (393)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (149). واللفظ للترمذي، وقال: "حسنٌ صحيحٌ، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-".

الأفضلية في أداء صلاة الظهر

2 - وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن نهاية وقت الظهر حين يبلغ ظل الشيء مثليه، سوى فيء الزوال، واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬2) قالوا: والإبراد لا يكون إلا إذا كان ظل كل شيء مثليه، لا سيما في البلاد الحارة كالحجاز. الراجح: يتبين من ذلك رجحان ما ذهب إليه الجمهور من أن آخر وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال؛ لدلالة السنة على ذلك. وهذا هو اختيار الشيخ محمَّد بن العثيمين (¬3). الأفضلية في أداء صلاة الظهر: الأفضل في صلاة الظهر تعجيلها؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬4)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" (¬5) أي: حين دخول وقتها. لكن مع شدة الحر يكون الأفضل تأخيرها حتى ينكسر الحر؛ لثبوت ذلك عن النبي حيث قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬6). وحد الإبراد إلى قرب صلاة العصر، دليل ذلك ما رواه البخاري من ¬

_ (¬1) فتح القدير مع الهداية (1/ 93)، بدائع الصنائع (1/ 123). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (513). (¬3) الشرح الممتع (2/ 107). (¬4) سورة البقرة: 148. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (504)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، برقم (510)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه، برقم (615).

ثالثا: وقت صلاة العصر

حديث أبي ذر قال: كنا مع النبي في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبرد" ثم أراد أن يؤذن، فقال له: "أبرد" حتى رأينا فيء التُّلُول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬1). لكن: هل الإبراد لمن يصلي جماعة أم يجوز الإبراد وإن كان المصلي منفردًا؟ على قولين لأهل العلم: فمنهم من قال بأن الإبراد لمن يصلي جماعة أو يكون بيته بعيدًا فيتضرر بالذهاب إلى الصلاة (¬2). وقال بعضهم: لا يشترط ذلك، بل يجوز الإبراد بالظهر ولو صلى وحده. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬3)، وهذا هو الصحيح. قلنا: وإذا كانت المساجد فيها الإبراد بالوسائل الحديثة من المكيفات والمراوح وما شابه ذلك، فإنه لا ينبغي التأخر عن صلاة الظهر بحجة الإبراد؛ لأن الإبراد حاصل في المساجد ولله الحمد، فليس هناك عذر في التخلف عن صلاة الجماعة، اللَّهم إلا إذا كان البيت بعيدًا جدًا يحصل به الضرر على المصلي من شدة الحر، فهنا يجوز له الإبراد والصلاة وحده. ثالثًا: وقت صلاة العصر: اختلف الفقهاء في مبدأ صلاة العصر: 1 - فذهب الجمهور (¬4) إلى أن مبدأ صلاة العصر من حين الزيادة على المثل، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، برقم (603)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر، رقم (616). (¬2) المغني (2/ 36). (¬3) المرجع السابق. (¬4) انظر في ذلك: جواهر الإكليل (1/ 32)، مغني المحتاج (1/ 121، 122)، كشاف القناع (1/ 252)، المغني (2/ 14).

واحتجوا لذلك بحديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم ذكره. 2 - وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن مبدأ صلاة العصر يكون من حين الزيادة على المثلين. 3 - وذهب أكثر المالكية (¬2) إلى أن وقت الظهر والعصر يتداخلان، بمعنى أنه لو صلى شخص صلاة الظهر عندما يكون ظل كل شيء مثله وآخر صلى العصر في نفس هذا الوقت، كانت صلاتهما أداء، واحتجوا لذلك بظاهر حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "أنه صلى به العصر في اليوم الأول في الوقت الذي صلى فيه الظهر في اليوم الثاني" (¬3) الأمر الذي يدل على تداخل الوقتين. والصحيح: أنه لا تداخل بين وقت الظهر ووقت العصر، بل متى خرج وقت الظهر فإنه يدخل وقت العصر، وخروج وقت الظهر بأن يكون ظل كل شيء مثله، متى زاد على ذلك أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر، هذا ما ذهب إليه الموفق في المغني (¬4) وهو ما ذهب إليه الشافعية (¬5) أيضًا. أما آخر وقت العصر فهو ما لم تغب الشمس -أي: قبيل الغروب- وهذا هو مذهب الجمهور (¬6). وذهب المالكية في إحدى الروايات عنهم إلى أن آخر ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 195). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 177). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقت، برقم (393)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (149). واللفظ للترمذي، وقال: "حسنٌ صحيحٌ، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-". (¬4) المغني (2/ 14). (¬5) مغني المحتاج (1/ 122). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 241)، مغني المحتاج (1/ 122)، كشاف القناع (1/ 163).

رابعا: وقت صلاة المغرب

وقت العصر ما لم تصفر الشمس (¬1). والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن صلاة العصر يكون آخرها ما لم تغلب الشمس، أي: قبيل المغرب. بقليل، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" (¬2). رابعًا: وقت صلاة المغرب: اتفق الفقهاء (¬3) على أن أول وقت صلاة المغرب يكون بغروب الشمس وتكامل غروبها. وقد نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك (¬4). أما آخر وقتها عند جمهور الفقهاء ما لم يغب الشفق، واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (¬5). والمشهور عند المالكية (¬6) وهو الجديد عند الشافعية (¬7) أن للمغرب وقتًا واحدًا، وهو بقدر ما يتطهر المصلي ويستر عورته ويؤذن ويقيم للصلاة. والصحيح: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن آخر وقت المغرب ما لم يغب الشفق، أي: وقت الحمرة -فإذا غابت الحمرة فقد خرج وقت المغرب. ¬

_ (¬1) الحطاب مع المواق (1/ 390). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، برقم (544)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم (608). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 123)، الحطاب (1/ 391)، جواهر الإكليل (1/ 32، 33)، مغني المحتاج (1/ 122)، المغني (2/ 25). (¬4) المغني (1/ 25). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612). (¬6) جواهر الإكليل (1/ 32، 33). (¬7) مغني المحتاج (1/ 123).

الأفضلية في أداء صلاة المغرب

الأفضلية في أداء صلاة المغرب: يسن تعجيل صلاة المغرب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها إذا وجبت، أي: إذا وجبت الشمس وغربت، فيبادر بها، لكن المبادرة ليس معناها أنه إذا أذن يقيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب" ثم قال: "لمن شاء" (¬1) وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يصلون قبل المغرب، ويدل على ذلك أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة" (¬2) وهو عام في المغرب وغيرها، ومن هنا نعلم أن التعجيل ليس معناه أن يقيم للصلاة حينما ينتهي من الأذان، بل يتأخر بمقدار الوضوء والركعتين وما شابه ذلك. واستثنى الفقهاء من استحباب التعجيل لصلاة المغرب حالة واحدة؛ وهي ليلة مزدلفة للحجاج، فإن المستحب في حقه أن لا يصلي المغرب في عرفة ولا في الطريق بل يصليها في مزدلفة جمعًا مع العشاء؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم -. لكن إذا خاف خروج وقت العشاء صلى المغرب والعشاء في الطريق، وبخاصة في الزحام الشديد، فإننا نرى بعض الناس لا يصل إلى مزدلفة إلا بعد خروج وقت العشاء، فهنا نقول بأنه يجب عليه أن ينزل فيصلي المغرب والعشاء وإن لم يصل إلى مزدلفة، فإن لم يمكنه النزول صلى ولو على ظهر راحلته -في السيارة أو غيرها- ويأتي بما استطاع من الأركان والشرائط، وما لم يستطع الإتيان به فإنه يسقط، فلا واجب مع عدم القدرة، ولا محرم مع الضرورة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب التطوع، باب الصلاة قبل المغرب، برقم (1128). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، برقم (598)، ومسلمٌ في كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به، باب بين كل أذانين صلاة، برقم (838). من حديث عبد الله بن مغفل المزني.

خامسا: وقت صلاة العشاء.

خامسًا: وقت صلاة العشاء. اتفق الفقهاء (¬1) على أن وقت صلاة العشاء حين يغيب الشفق، لكنهم اختلفوا في معنى الشفق؛ فالجمهور على أن الشفق هو الحمرة، وذهب أبو حنيفة (¬2) إلى أن الشفق هو البياض الذي يظهر في جو السماء بعد ذهاب الحمرة التي تعقب غروب الشمس، والفرق بين الشفقين ما يعادل اثنتي عشرة دقيقة. أما نهاية وقت العشاء فهو محل خلاف بين الفقهاء: 1 - فالحنفية والشافعية وغير المشهور عند المالكية أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر الصادق (¬3). واحتجوا لذلك بما رواه الترمذيُّ وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول وقت العشاء حين يغيب الشفق، وآخره حين يطلع الفجر" (¬4). 2 - يرى المالكية في المشهور عندهم أن آخر وقت العشاء إلى ثلث الليل؛ لحديث إمامة جبريل المتقدم وفيه: "أنه صلاها -يعني: العشاء- في اليوم الثاني في ثلث الليل" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: بداية المجتهد (1/ 51 - 52)، جواهر الإكليل (1/ 33)، ونهاية المحتاج (1/ 353 - 354). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 94 - 95). (¬3) المراجع السابقة. (¬4) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (285)، والحديث ليس فيه: "وآخره حين يطلع الشمس" وهذه الزيادة غير موجودة عند الترمذيّ وغيره، ولذلك قال ابن حجر: "لم أجدها -يعني: هذه الزيادة- ومن هنا كان الحديث بهذا اللفظ ضعيفًا لكن الشطر الأول منه صحيح". (¬5) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، باب منه. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 71) برقم (151).

3 - أما الحنابلة فيرون أن آخر وقت العشاء الاختياري إلى نصف الليل، وبعده إلى طلوع الفجر وقت ضرورة، يعني: يكون لمريض شفي من مرضه أو حائضٍ أو نفساء ونحو ذلك. والصحيح من هذه الأقوال أن آخر وقت العشاء هو نصف الليل، والأدلة على ذلك ظاهرة، منها: 1 - حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... ووقت العشاء إلى نصف الليل .... " (¬1). 2 - حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، وفيه "أن جبريل -عليه السلام- جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قم فصل" وذكر الحديث بطوله، وفيه: "ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلثه، فصلى العشاء" إلى أن قال: "ما بين هذين وقت" (¬2). 3 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن للصلاة أولًا وآخرًا ... وأول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الشفق وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل" (¬3). فهذه الأدلة بعمومها تدل على أن آخر وقت العشاء نصف الليل، وهذا ثابت من قوله وفعله - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا كان الراجح هو أن آخر وقت صلاة العشاء هو نصف الليل. وهذا هو اختيار الشيخين (¬4) رحمهما الله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب أول وقت العشاء، برقم (526). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (488)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم (149). وصححه الألباني، برقم (127) (¬3) أخرج الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب مواقيت الصلاة باب منه. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيّ (1/ 71)، برقم (151). (¬4) مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (10/ 386)، والشرح الممتع، لشيخنا محمَّد الصالح العثيمين رحمه الله (2/ 115).

الأفضلية في أداء صلاة العشاء

الأفضلية في أداء صلاة العشاء: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) وهو قول عند الشافعية (¬3)، إلى أن تأخير العشاء مستحب إلى ثلث الليل، واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي برزة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب أن يؤخر العشاء" (¬4). وبحديث عمر -رضي الله عنه- أيضًا حينما أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، فقال له عمر -رضي الله عنه-: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله ورأسه يقطر ماء، وقال: "إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي" (¬5). واستدلوا أيضًا بحديث جابر -رضي الله عنه- وفيه أنه قال: "إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أَبْطَوْا أخر" (¬6). وأيضًا احتجوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" (¬7). فهذه الأدلة احتج بها الجمهور على أن الأفضل هو تأخير صلاة العشاء، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 246). (¬2) المغني، لابن قدامة (2/ 42 - 44). (¬3) مغني المحتاج (1/ 126). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب المواقيت، باب وقت العصر، برقم (522)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح إلى أول وقتها، برقم (643). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، برقم (638). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، برقم (535)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح، برقم (646). (¬7) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة، برقم (167)، وصححه الألباني رقم (141).

لكن قيد بعض الحنفية (¬1) هذا الحكم بأنه يستحب تأخير العشاء بالشتاء، وتعجيلها بالصيف. 2 - وذهب المالكية (¬2) والصحيح من القولين عند الشافعية إلى أن الأفضل للفذ والجماعة التي لا تنتظر غيرها تقديم الصلوات، ولو عشاء في أول وقتها المختار بعد تحقق دخوله، وقالوا: لا ينبغي تأخير العشاء إلا لمن يريد تأخيرها لشغل مهم. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن الأفضل للعشاء هو تأخيرها؛ لصراحة الأدلة على ذلك، لكن هذا مع مراعاة أحوال الناس، والأولى بلا شك هو مراعاة الناس كما هو ظاهر من حديث عمر، فخروجه - صلى الله عليه وسلم - ورأسه يقطر ماء إنما هو لمراعاة أحوال الناس، فمتى رأى الجماعة قد اجتمعوا صلى وإن تأخروا أخر، وإن كان جماعة لا يهمهم التعجيل ولا التأخير فالأفضل التأخير. أما النساء في بيوتهن فالأفضل لهن التأخير إن سهل عليهن، وبهذا تجتمع الأدلة (¬3). هل الأولى مراعاة تأخير صلاة العشاء إلى آخر الوقت أم الأولى مراعاة صلاة الجماعة؟ الجواب: صلاة الجماعة واجبة، وتأخير العشاء مستحب، ولا مقارنة بين الواجب والمستحب، فنقول بأن الواجب عليه أنه إذا كانت الجماعة تعجل العشاء فالواجب عليه أن يصلي معهم ولا يؤخر الصلاة؛ مراعاة للواجب (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 246). (¬2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 180). (¬3) انظر في ذلك: الشرح الممتع، لشيخنا (2/ 116). (¬4) انظر في ذلك: الشرح الممتع (1/ 116).

أركان الصلاة

أركان الصلاة تعريف الركن: الركن في الصلاة: هو ما لا تصح الصلاة بدونه، وتركه يوجب البطلان، سواء كان عمدًا أو سهوًا. وأركان الصلاة عند الفقهاء منها ما هو متفق عليه بينهم، ومنها ما هو مختلف فيه، وسنبين ذلك مع بيان الراجح من أقوالهم. الركن الأول: تكبيرة الإحرام: ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أن تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصلاة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) هذه الأوامر مقتضاها الافتراض، ولم تفرض خارج الصلاة فوجب أن يراد بها الافتراض الواقع في الصلاة؛ إعمالًا للنصوص في حقيقتها (¬4)، واستدلوا على ذلك أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: عمدة القارئ (5/ 268)، فتح القدير (1/ 239)، حاشية الدسوقي (1/ 231)، نيل المآرب (1/ 134) (¬2) سورة المدثر: 3. (¬3) سورة البقرة: 238. (¬4) فتح القدير (1/ 239). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9) برقم (301)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

أحكام تتعلق بتكبيرة الإحرام

ومع اتفاق الجمهور على فرضية تكبيرة الإحرام، فقد اختلفوا: هل هي شرط أم ركن؟ 1 - فالجمهور على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها. 2 - وذهب الحنفية إلى أنهما شرط خارج الصلاة، وليست من نفس الصلاة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من كون تكبيرة الإحرام ركنًا، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬1). وجه الدلالة من الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التكبير كالقراءة. وأيضًا من الأدلة على ركنيتها أنه يشترط لها ما يشترط للصلاة، من استقبال القبلة والطهارة وستر العورة، ولولا أنهما من الأركان لجاز كسائر الشروط. أحكام تتعلق بتكبيرة الإحرام: 1 - يجب أن يأتي المصلي بتكبيرة الإحرام قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن لم يستطع فمستلقيًا. لكن بماذا يتحقق القيام المأمور به؟ يكون القيام بنصب الظهر، فلا يجزئ إيقاع تكبيرة الإحرام جالسًا أو منحنيًا، وهذا يخطئ فيه كثير من الناس. دليل ما ذكرناه حديث عمران بن حصين حيث كانت به بواسير، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬2) وفي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه، برقم (1066).

رواية عند البيهقي: "فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيًا رجله مما يلي القبلة" (¬1). 2 - يجب على المصلي النطق بتكبيرة الإحرام بحيث يسمع نفسه، إلا أن يكون به عارض من طرش أو ما يمنعه السماع، فيأتي به بحيث لو كان سميعًا لأتى به. أما إن كان عاجزًا عن النطق بها لخرس به، فإنها تسقط عنه باتفاق الفقهاء، لكن هل يلزم الأخرس تحريك لسانه بها؟ على خلاف بين الفقهاء: أ- فالمالكية (¬2) والحنابلة (¬3) وهو الصحيح عند الحنفية (¬4) أنه لا يجب على الأخرس تحريك لسانه، وإنما يجب عليه الإحرام بقلبه؛ لأن تحريك لسانه عبث رقم يرد الشرع به. ب- وعند الشافعية (¬5) يجب على الأخرس تحريك لسانه وشفتيه قدر إمكانه. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب تحريك لسان الأخرس. 3 - هل يجوز الإتيان بتكبيرة الإحرام بغير العربية؟ أ- ذهب المالكية (¬6) والشافعية (¬7) والحنابلة (¬8) وأبو يوسف ومحمَّد من ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب ما روي في كيفية الصلاة على الجنب أو الاستلقاء وفيه نظر، رقم (3493). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 233). (¬3) كشاف القناع (1/ 331)، المغني (2/ 830). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 324). (¬5) مغني المحتاج (1/ 152). (¬6) الشرح الصغير (1/ 424). (¬7) المجموع (3/ 260). (¬8) المغني (2/ 129، 130).

الحنفية (¬1)، إلى أنه من كان يحسن العربية فإنه لا تجوز تكبيرة الإحرام منه بغيرها. وأجاز أبو حنيفة (¬2) كونها بغير العربية وإن كان يحسن العربية، وقال بأنه لو افتتح الصلاة بالفارسية وهو يحسن العربية، أجزأه. ب- وقال المالكية بعدم إجزائها بغير العربية وإن كان لا يحسن العربية، فمتى عجز عن النطق بها بغير العربية، سقطت ككل فرض. والصحيح: أنه لا تجوز تكبيرة الإحرام بغير العربية لمن كان يحسنها، أما من كان لا يعرف العربية ولا يستطيع النطق بها فإنه يكبر بلغته، ولا حرج عليه؛ لأنه لا يستطيع غيرها، دليل ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬5). 4 - هل تنعقد الصلاة بقول المصلي: "الله أَجَلُّ"، "الله أعظم" ونحو ذلك من ألفاظ التعظيم، أم يلزم الإتيان بقول: "الله أكبر"؟ أ- المذهب عند المالكية (¬6) والحنابلة (¬7) أنه لا تنعقد الصلاة إلا بقول: "الله أكبر" ولا يجزئ عندهم غيرها. ¬

_ (¬1) بداع الصنائع (1/ 131). (¬2) المرجع السابق. (¬3) سورة التغابن: 16. (¬4) سورة البقرة: 286. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬6) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 423). (¬7) المغني (2/ 129).

ب- وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى صحة الشروع في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، مثل أن يقول: "الله الأكبر الله الكبير، الله أجل، الله أعظم" أو يقول: "الحمد لله، سبحان الله" ونحو ذلك من صيغ التعظيم. والصحيح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة من أنه لا يجزئ الإتيان بغير "الله أكبر"، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحريمها التكبير" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" (¬3) وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يفتتح الصلاة بها" (¬4) ولم ينقل عنه العدول عنها حتى فارق الدنيا، بل لم يُنْقَلْ عن صحابتِه الكرامِ العدولُ عنها إلى غيرها، ولا عن التابعين لهم بإحسان. وكذلك فإن ألفاظ الذكر في الصلاة توقيفية، فما ورد فيه النص لا يجوز إبداله بغيره. ومن هنا نعلم أنه لا يجزئ الإتيان بغير تكبيرة الإحرام. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 130). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9)، برقم (301) من حديث علي. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، برقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها، قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (397). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، برقم (783) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

الركن الثاني: قراءة الفاتحة

الركن الثاني: قراءة الفاتحة: 1 - ذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، فتجب قراءتها في كل ركعة من كل صلاة فرضًا أو نفلًا جهرية كانت أو سرية. احتجوا لذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬4). 2 - وذهب الحنفية (¬5) إلى أن قراءة الفاتحة ليست ركنًا من أركان الصلاة، بل هي واجبة وتتحقق القراءة بآية غيرها من القرآن، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬6). وبالقول بوجوبها في الصلاة أخذ الشيخ عبد العزيز بن باز (¬7). والذي يظهر أنها واجبة في السرية على المأموم، وأما في الجهرية فيتحملها الإِمام عنه، لكن يتأكد في حق المأموم أن يقرأها في سكتات الإِمام، وبهذا تجتمع الأدله، وهذا هو ما رجحه شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬8). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 231 - 236). (¬2) مغني المحتاج (1/ 155). (¬3) كشاف القناع (1/ 336، 386). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، برقم (723) ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها، قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (394). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 300). (¬6) سورة المزمل: 20. (¬7) مجموع فتاوى الشيخ رحمه الله (11/ 218 - 219). (¬8) مجموع الفتاوى (22/ 295).

الركن الثالث: الركوع

الركن الثالث: الركوع: انعقد الإجماع على ركنية الركوع في الصلاة، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬1). ومن السنة حديث المسيء صلاته، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" (¬2). الركن الرابع: الاعتدال من الركوع: وهو ركن في الفرض والنفل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا" (¬3) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه، كما ذكر ذلك أبو حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فَقَارٍ مكانه" (¬4). وتصف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: "وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" (¬5) وعن أبي مسعود الأنصاري البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل -يعني- صلبه في الركوع والسجود" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الحج: 77. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (397). (¬3) المرجع السابق. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم (794). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ... ، رقم (498). (¬6) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (265) وقال: حسنٌ صحيحٌ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 84) رقم (217).

حد الاعتدال المأمور به شرعا

حد الاعتدال المأمور به شرعًا: الاعتدال هو القيام مع الطمأنينة بعد الرفع من الركوع. والطمأنينة في الاعتدال، عرفها الشافعي (¬1) بأنها: هي أن تستقر أعضاء المصلي على ما كان قبل ركوعه بحيث ينفصل ارتفاعه عن عوده إلى ما كان عليه. أما حد الاعتدال فقد صرح المالكية (¬2) بأنه أن لا يكون منحنيًا، وعند الحنابلة (¬3) ما لم يصر راكعًا، وقالوا بأن كمال الاعتدال هو الاستقامة حتى يعود كل عضو محله. والصواب أن يقال بأن حد الاعتدال من الركوع هو أن يكون الظهر منتصبًا، وإن كان ظهره منحنيًا إلى حد الركوع فليس بمعتدل، ولا تصح صلاته إلا مع العجز، وإن كان إنحناؤه لظهره قليلًا أجزأه، لكن الأكمل هو أن يعود كل فقار إلى مكانه، كما جاءت السنة به. الركن الخامس: السجود: هذا هو الركن الخامس من أركان الصلاة، وقد انعقد الإجماع على ركنية السجود؛ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬4)، وكما جاء في حديث المسيء صلاته، وفيه: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" (¬5). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 165). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬3) كشاف القناع (1/ 387)، مطالب أولي النهي (1/ 446). (¬4) سورة الحج: 77. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (397) ..

حد السجود المأمور به

حد السجود المأمور به: حد السجود المأمور به في الصلاة هو أن يسجد المصلي على الأعضاء السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين. وهذا كله ركن مع القدرة. دليل ذلك ما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن عباس مرفوعًا: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين" (¬1)، أما عند عجز المصلي عن السجود بجبهته فقد قال الحنابلة (¬2): يسقط عنه لزوم باقي الأعضاء؛ لأن الجبهة هي الأصل في السجود وغيرها تبع لها، فإذا سقط الأصل سقط التبع. والصحيح: أنه إذا كان المصلي يستطيع أن يوميء بحيث يكون إلى السجود التام أقرب منه إلى الجلوس التام، فإنه يلزمه أن يسجد على بقية الأعضاء فيدنو من الأرض بقدر ما يمكنه ثم يضع يديه، دليل ذلك عموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬4). الركن السادس: الجلوس بين السجدتين. هذا هو الركن السادس من أركان الصلاة، دليل ذلك حديث المسيء صلاته ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب السجود على الأنف، برقم (779)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم (490). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) سورة التغابن: 16. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الركن السابع: الجلوس للتشهد الأخير

وفيه: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا" (¬1) وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا" (¬2). الركن السابع: الجلوس للتشهد الأخير: هذا هو الركن السابع من أركان الصلاة، وقد اتفق الفقهاء على ركنية الجلوس مع اختلافهم: هل الجلوس للتشهد الأخير أم هو للسلام فقط؟ 1 - فالشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن الجلوس هو للتشهد الأخير. 2 - وذهب المالكية (¬5) إلى أن الجلوس للسلام فقط، وعلى قولهم هذا لو تشهد المصلي قائمًا ثم جلس للسلام من الصلاة، فصلاته صحيحة. والصحيح: أن الجلوس يكون للتشهد والسلام، فلو قام المصلي وقرأ التشهد فإنه لا يجزئه؛ لأنه ترك ركنًا وهو الجلسة، فلا بد أن يجلس للتشهد والسلام. الركن الثامن: التشهد الأخير: اختلف الفقهاء في ركنية التشهد الأخير في الصلاة: 1 - فذهب الشافعية (¬6) والحنابلة (¬7) إلى أن التشهد الأخير ركن في الصلاة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (397). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به وصفة الركوع والاعتدال منه والسجود والاعتدال منه والتشهد بعد كل ركعتين من الرباعية وصفة الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول، برقم (498). (¬3) مغني المحتاج (1/ 171). (¬4) كشاف القناع (1/ 388). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 240). (¬6) مغني المحتاج (1/ 172). (¬7) كشاف القناع (1/ 388).

حد التشهد الذي هو ركن

إذا تركه المصلي بطلت صلاته. 2 - وذهب المالكية (¬1) إلى أن التشهد الأخير سنة وليس بفرض. والصحيح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، وهو القول بركنية التشهد الأخير؛ فمتى تركه المصلي في صلاته بطلت، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله، والصلوات الطيبات لله ... " (¬2) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله ويداوم عليه، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). حد التشهد الذي هو ركن: حدّ التشهد الذي هو ركن أن يقول المصلي: "التحيات لله، والصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله" هذا هو حدّ التشهد المأمور به شرعًا. الركن التاسع: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير: اختلف الفقهاء في ركنية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - فالشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) قالوا بركنيتها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬6)، وكذلك حديث بشير بن سعد أنه قال ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 243). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاستئذان، باب السلام اسم من أسماء الله تعالى، رقم (5876). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، برقم (605) من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-. (¬4) مغني المحتاج (1/ 72). (¬5) كشاف القناع (1/ 388). (¬6) سورة الأحزاب: 56.

الركن العاشر: التسليم

للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فسكت، ثم قال: "قولوا: اللَّهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬1)، وأيضًا فعله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يصلي على نفسه وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). 2 - وفي رواية أخرى عند الحنابلة (¬3) أنها واجبة وليست بركن، فتجبر بسجود السهو عند النسيان. 3 - ويرى المالكية (¬4) أن الصلاة على النبي ليست بركن ولا بواجب، بل هي سنة، وهي رواية أخرى عند الحنابلة (¬5)، ولو تعمد الإنسان تركها فصلاته صحيحة. والذي يظهر -والله أعلم- أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة، وهذا هو قول ابن قدامة (¬6)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬7). الركن العاشر: التسليم: هذا هو الركن العاشر من أركان الصلاة، ومعنى التسليم هو قول المصلي: السلام عليكم ورحمة الله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم (405). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة ... ، برقم (605) من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-. (¬3) المغني (2/ 228 - 229). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 243). (¬5) المغني (2/ 228 - 229). (¬6) المغني (2/ 228). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 13).

لو اقتصر المصلي على تسليمة واحدة فهل يجزئ؟

وبركنية التسليم قال المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)، واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحليلها التسليم" (¬4) وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله يختم الصلاة بالتسليم" (¬5). لو اقتصر المصلي على تسليمة واحدة فهل يجزئ؟ هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء: 1 - فالمالكية (¬6) والشافعية (¬7) وبه قال ابن قدامة في المغني (¬8) يرون أن الواجب تسليمة واحدة، أما الثانية فهي سنة. 2 - وذهب الحنابلة (¬9) إلى وجوب التسليمتين. والصحيح القول بوجوب التسليمتين، فالواجب على المصلي أن يسلم من الصلاة عن يمينه وشماله، وهذا هو المحفوظ من فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات، دليل ذلك حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه ويساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" (¬10). وعن عامر بن سعد -رضي الله عنهما- عن أبيه ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬2) مغني المحتاج (1/ 177). (¬3) كشاف القناع (11/ 361). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9)، برقم (301)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختتم به، برقم (498). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬7) مغني المحتاج (1/ 177). (¬8) المغني (2/ 243). (¬9) كشاف القناع (1/ 361). (¬10) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التسليم في الصلاة، برقم (295)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسليم، برقم (916).

حكم زيادة لفظة: "وبركاته" في التسليم

قال: "كنت أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده" (¬1). وهذان الحديثان وما في معناهما يستدل بهما على مشروعية التسليمتين، وأنه هو الواجب في الصلاة نفلًا كانت أو فرضًا، وبالقول بوجوب التسليمتين أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2). حكم زيادة لفظة: "وبركاته" في التسليم: قال بعضهم: الأفضل أنه لا يزيد -وهو المشهور من مذهب أحمد (¬3) - لا في التسليمة الأولى ولا في التسليمة الثانية. وقال بعضهم: بل يزيد في التسليمة الأولى: "وبركاته" دون الثانية. والصحيح: أن يقال: لا بأس بزيادة لفظة: "وبركاته" في التسليمة الأولى؛ لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن وائل بن حجر -رضي الله عنه-: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله" (¬4). لكن لا يداوم عليها، بل يفعلها أحيانًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها، ولأن رواة الاختصار على "رحمة الله" أكثر وطرقها أصح، بخلاف الرواية الثانية. إذا اقتصر المصلي على قوله "السلام عليكم" هل يجزئ؟ محل خلاف بين العلماء: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته، رقم (582). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 68 - 69)، برقم (2294). (¬3) المغني (2/ 245)، منتهى الإرادات (1/ 221). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في السلام، برقم (997)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم (878).

الركن الحادي عشر: الطمأنينة

1 - فالمذهب عند المالكية (¬1) والشافعية (¬2) أنه يجزئه ذلك. 2 - والمشهور عند الحنابلة (¬3) أنه لا يجزئ "السلام عليكم"، فإذا لم يقل: "ورحمة الله" في غير صلاة الجنازة، لم يجزئه. والصحيح: أنه يجزئه ذلك، فالواجب: "السلام عليكم"، أما زيادة: "ورحمة الله" فهي سنة وليست بواجب، دليل ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم" (¬4) فلم يذكر: "ورحمة الله"، فدل هذا على أنه إذا اقتصر المصلي على "السلام عليكم" أجزأه ذلك. وهذه هي إحدى الروايتين عن أحمد (¬5). الركن الحادي عشر: الطمأنينة: لا بد من الطمأنينة في جميع الأركان سابقة الذكر. أما معناها فقال بعض الفقهاء: الطمأنينة هي السكون وإن قل، وهذا هو رواية عن الحنابلة (¬6)، وفي رواية أخرى: أن الطمأنينة هي السكون بقدر الذكر الواجب. والفرق بين المعنيين: أن المعنى الأول أنه إن سكن سكونًا قليلًا -حتى وإن لم يتمكن من الذكر الواجب- فصلاته صحيحة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬2) المغني (2/ 245). (¬3) مغني المحتاج (1/ 361). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها بعد السلام، برقم (431)، (121). (¬5) الإنصاف (3/ 567). (¬6) كشاف القناع (1/ 387)، الإنصاف (3/ 667).

دليل ركنية الطمأنينة في الصلاة

أما على المعنى الثاني: فإنه لابد من السكون حتى يتمكن من الإتيان بالذكر المشروع كسبحان ربي العظيم أو سبحان ربي الأعلى، فإن لم يتمكن من الإتيان به فصلاته باطلة على هذا المعنى، وهذا هو المعنى الصحيح للطمأنينة فلا بد من استقرار الأعضاء زمنًا بحيث يتمكن المصلي من الإتيان بالذكر الواجب داخل الصلاة. دليل ركنية الطمأنينة في الصلاة: حديث المسيء صلاته، حيث ذكر فيه - صلى الله عليه وسلم - الطمأنينة في جميع الصلاة. وأيضًا ما رواه البخاري عن حذيفة -رضي الله عنه-: "أنه رأى رجلًا يصلي ولا يتم الركوع ولا السجود، فقال له: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). الركن الثاني عشر: ترتيب الأركان: أي لابد أن يأتي بها كما جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدم السجود على الركوع. حكم من ترك ركنًا من الأركان التي سبق ذكرها: المتروك إما أن يكون تكبيرة الإحرام وإما غيرها؛ فمن ترك تكبيرة الإحرام عمدًا أو سهوًا لم تنعقد صلاته، ومن ترك ركنًا غير تكبيرة الإحرام عمدًا بطلت صلاته. أما تركه سهوًا ففيه تفصيل، وذلك كما يأتي: أولًا: إن وصل المصلي إلى موضع تركه من الركعة التالية، ألغيت الركعة التي نسي فيها الركن وقامت الثانية مقامها ويسجد للسهو بعد السلام ثم يسلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب إذا لم يتم الركوع، برقم (758).

عقب سجوده. مثاله: نسي قراءة الفاتحة في الركعة الأولى، فلما نهض إلى الركعة الثانية تذكر أنه نسي قراءة الفاتحة، فهنا يلغي الركعة الأولى وتقوم الثانية مقامها. ثانيًا: إن لم يصل إلى موضع الركن المتروك سهوًا عاد إليه فأتى به وبما بعده وجوبًا، وسجد بعد السلام، وسلم عقب سجوده. مثاله: نسي المصلي قراءة الفاتحة ثم تذكر أثناء سجوده أنه لم يقرأ الفاتحة، فهنا يقوم من سجوده الذي هو فيه ثم يقرأ الفاتحة، ولا يعتد بما أداه سابقًا بل يأتي بالركوع والسجود مرة أخرى. ثالثًا: إن تذكر المصلي بعد الصلاة أنه ترك ركنًا من الأركان، فهذا حاله لا يخلو من أمرين: 1 - إذا لم يفصل فاصل طويل، وكان قريب الوقت من الصلاة، فإنه يقوم دون تكبير، وأتى بركعة كاملة مع التشهد الأخير والسلام، ثم يسجد للسهو ويسلم. 2 - إذا فصل فاصل زمن طويل، فإنه يعيد الصلاة؛ لبطلانها بترك ركن من أركانها.

واجبات الصلاة

واجبات الصلاة تعريف الواجب وحدُّه في الصلاة: الواجب هو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام. وحدّه في الصلاة أنه ما تبطل الصلاة بتركه عمدًا ويسقط جهلًا ويجبر به سجود السهو سهوًا. وواجبات الصلاة لم يقل بها سوى الحنفية والحنابلة مع وجود الاختلاف في هذه الواجبات في المذهبين. الواجبات التي دلت عليها الأدلة فهي: أولًا: تكبيرات الانتقال. أي: جميع التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام فهي -كما ذكرنا- ركن من أركان الصلاة. وقد اختلف الفقهاء في هذا الواجب: 1 - فذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أن تكبيرات الانتقال سنة، واحتجوا لذلك بحديث المسيء في صلاته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه صلاته فعلمه واجباتها وذكر فيها تكبيرة الإحرام ولم يذكر تكبيرات الانتقال، فقالوا: وهذا موضع البيان ووقته ولا يجوز تأخيره عنه. 2 - وذهب الحنابلة (¬2) إلى القول بوجوب تكبيرات الانتقال، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك فعله. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: المجموع، للنووي (3/ 397)، الفتاوى الهندية (1/ 72)، حاشية الدسوقي (1/ 249)، عمدة القاري (6/ 58). (¬2) المغني (2/ 169 - 170).

أما دليل القول فهو ثابت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ... " (¬1). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثم يكبر ويحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويثني عليه ويقرأ بما تيسر من القرآن، ثم يقول: الله أكبر ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ... " (¬2). فهذا الحديث والذي قبله نص في وجوب التكبير للانتقال. أما دليل فعله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها: يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد قبل أن يسجد، ثم يقول: الله أكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في اثنتين، فيفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا" (¬3). وروى البخاري ومسلمٌ أيضًا عن مطرف -رضي الله عنه- قال: "صليت أنا وعمران ابن الحصين خلف علي بن أبي طالب، فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به، برقم (656)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم (412) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (857). والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 161) برقم (761). (¬3) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب تمام التكبير، برقم (836) وصححه الألباني (1/ 158) برقم (745).

محل تكبيرات الانتقال

نهض من الركعتين كبر. فلما انصرفنا من الصلاة قال: أخذ عمران بيدي ثم قال: لقد صلى بنا هذا صلاة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -أو قال: قد ذكرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). فهذه أدلة فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي ... " (¬2). وهذا ثابت عن صحابته الكرام حيث إنهم لم يتركوا التكبير للركوع والسجود وغير ذلك. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر" (¬3). الراجح من القولين: هو ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب تكبيرات الانتقال؛ لقوة الأدلة وصراحتها في الوجوب. محل تكبيرات الانتقال: تكون تكبيرات الانتقال أثناء الانتقال؛ فلو كبر للركوع مثلًا يكون التكبير في حال هُوِيِّهِ إلى الركوع، فلا يبدأ قبله ولا يؤخره. ومن هنا نعلم خطأ بعض الأئمة في هذا الأمر، فإنهم إما أن يقدموا التكبير على الركن أو يؤخروه حتى يصلوا إلى الركن، أي: لا يأتون به فيما بين الركنين؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب إتمام التكبير في السجود، برقم (753)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة؛ إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393) واللفظ لمسلم. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب يكبر وهو ينهض من السجدتين، برقم (792)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجود، برقم (253).

تكبيرة المسبوق

لاجتهادات عندهم خاطئة. لكن إن ابتدأ التكبير قبل الهُوِيِّ إلى الركوع وأتمه بعده، فلا حرج، ولو ابتدأ حين الهوي وأتمه بعد وصوله إلى الركوع، فلا حرج، لكن الأفضل أن يكون فيما بين الركنين بحسب الإمكان. تكبيرة المسبوق: إذا أدرك المسبوق الإِمام راكعًا فهل يأتي بتكبيرة الإحرام ثم يأتي بتكبيرة الانتقال؟ نقول بأنه إذا دخل المسبوق في الصلاة والإمام راكع، فالذي يلزمه أن يأتي بتكبيرة الإحرام؛ لأنها ركن، أما تكبيرة الركوع فإن شاء كبر وإن شاء لم يكبر؛ لأن التكبيرة الصغرى هنا تدخل في الكبرى، وتكبيرة الركوع في هذه الحالة تكون في حقه مستحبة. هكذا قال أهل العلم. ثانيًا: قول: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد: هذا هو الواجب الثاني من واجبات الصلاة وهو قول الإِمام والمنفرد: "سمع الله لمن حمده" دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به فقال: "لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ -إلى قوله- ثم يقول: سمع الله لمن حمده" (¬1). وأيضًا: هذا ثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكرنا عند الكلام على تكبيرات الانتقال. وبوجوب التسميع على الإِمام والمنفرد قال الحنابلة (¬2)،وخالف الجمهور (¬3) فقالوا بسنية ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (857). (¬2) كشاف القناع (1/ 348)، مطالب أولي النهي (1/ 446). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 334)، حاشية الدسوقي (1/ 243)، مغني المحتاج (1/ 165).

ثالثا: قول الإمام والمنفرد والمأموم: "ربنا ولك الحمد"

والصحيح هو وجوب التسميع والتحميد، وذلك لما يأتي: 1 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به وفعله وواظب عليه، رقم يَدَعْ قول: "سمع الله لمن حمده" بأي حال من الأحوال. 2 - أن التحميد والتسميع شعار الانتقال من الركوع إلى القيام. 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" (¬1). الصحيح: أن الواجب في حق المأموم أن يأتي يقول: "ربنا لك الحمد"؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". أما ما ذهب إليه البعض (¬2) من وجوب قول المأموم: "سمع الله لمن حمده " احتجاجًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فنقول بأن هذا عام، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، فهذا خاص، والخاص يقضي على العام فيكون المأموم مستثنًى من هذا العموم. ثالثًا: قول الإمام والمنفرد والمأموم: "ربنا ولك الحمد": يرى الجمهور (¬3) أن قول ذلك سنة. والصحيح وجوب ذلك وهو قول الحنابلة (¬4)؛ للأدلة التي ذكرناها آنفا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (763)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم (409). (¬2) وبه قال الصنعاني في سبل السلام (1/ 347). (¬3) المراجع السابقة. (¬4) المراجع السابقة.

رابعا: قول "سبحان ربي العظيم" مرة في الركوع

رابعًا: قول "سبحان ربي العظيم" مرة في الركوع: هذا هو الواجب الرابع من واجبات الصلاة؛ لما روى حذيفة -رضي الله عنه-: "أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى" (¬1) وهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). وجاء فيما رواه أبو داود وأحمدُ وغيرهم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬3)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬4)، قال: "اجعلوها في سجودكم" (¬5). وبوجوب ذلك قال الحنابلة (¬6)، وهو قول الشيخين: ابن باز وابن العثيمين (¬7)، وهو الصحيح؛ لهذه الأدلة المذكورة. أما الجمهور فيرون سنية ذلك؛ احتجاجًا بما جاء في حديث المسيء صلاته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيها أنه يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (871)، والنسائيُّ في السنن الكبرى، كتاب التطبيق، باب الذكر في الركوع، برقم (634). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب يكبر وهو ينهض من السجدتين، برقم (792)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393). (¬3) سورة الواقعة: 74. (¬4) سورة الأعلى: 1. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، برقم (17450)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (869)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود، برقم (887). (¬6) منار السبيل (1/ 88). (¬7) فتاوى سماحة الشيخ (1/ 28)، الشرح الممتع (3/ 317).

خامسا: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين

خامسًا: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين: هذا هو الواجب الخامس من واجبات الصلاة، وبوجوبه قال الحنابلة (¬1). والجمهور على أن ذلك سنة. والصحيح هو وجوب ذلك؛ لأنه ثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). أما دليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فقد قال حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي" (¬3). سادسًا: التشهد الأول: هذا هو الواجب السادس من واجبات الصلاة، وبوجوبه قال الحنفية (¬4) والحنابلة (¬5). وذهب المالكية (¬6) والشافعية (¬7) إلى سنية التشهد الأول. واحتجوا لذلك بما جاء في الصحيحين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل السلام ¬

_ (¬1) منار السبيل (1/ 88). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب يكبر وهو ينهض من السجدتين، برقم (792)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393). (¬3) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (874)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم (897). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 312). (¬5) كشاف القناع (1/ 347). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 243). (¬7) مغني المحتاج (1/ 172).

سابعا: الجلوس للتشهد الأول

ثم سلم" (¬1). والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة من وجوب التشهد الأول؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وداوم عليه وأمر به وسجد للسهو حين نسيه، وهذا هو الأصل المعتمد عليه في سائر الواجبات، لسقوطها بالسهو وانجبارها بالسجود (¬2). سابعًا: الجلوس للتشهد الأول: هذا هو الواجب السابع، وهو واجب على غير من قام إمامه سهوًا ولم ينبه، فيسقط عنه حينئذ التشهد الأول ويتابع إمامه وجوبًا. دليل ذلك حديث عبد الله بن بحينة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" (¬3). وبوجوب الجلوس للتشهد الأول ذهب الحنفية (¬4) والحنابلة (¬5)، وذهب المالكية (¬6) والشافعية (¬7) إلى سنيته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب السهو، باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، برقم (1167)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (570). (¬2) الشرح الممتع (3/ 323). (¬3) أخرجه البخاريُّ في أبواب السهو، باب من يكبر في سجدتي السهو، برقم (1173)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (570). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 312). (¬5) كشاف القناع (1/ 347). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 247). (¬7) مغني المحتاج (1/ 172).

حكم من ترك واجبا من هذه الواجبات عند من قال بها؟

حكم من ترك واجبًا من هذه الواجبات عند من قال بها؟ من ترك شيئًا من هذه الواجبات ففيه تفصيل: 1 - إن تركها متعمدًا بطلت صلاته. 2 - إن تركها ناسيًا فلا يخلو من أمور: الأمر الأول: أن يذكره قبل أن يفارق محله من الصلاة، فيأتي به ولا شيء عليه. الأمر الثاني: أن يذكره بعد مفارقته محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه، فيرجع ويأتي به ثم يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. الأمر الثالث: أن يذكره بعد وصوله الركن الذي يليه، فلا يرجع إليه ويستمر في صلاته ويسجد للسهو قبل السلام.

سنن الصلاة

سنن الصلاة السنن: هي الأفعال التي لا تبطل الصلاة بتركها عمدًا أو سهوًا، واستحباب سجود السهو لها محل نظر عند أهل العلم. وسنن الصلاة هي: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام: اتفق الفقهاء على أنه يسن للمصلي عند تكبيرة الإحرام أن يرفع يديه، دليل ذلك ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان يرفع يديه حَذْوَ منكبيه إذا افتتح الصلاة" (¬1). وضع اليد اليمنى على اليسري: أ- ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أن من سنن الصلاة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. ب- وخالف في ذلك المالكية (¬5) فقالوا: يندب الإرسال. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من سنية وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. دليل ذلك: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، قال أبو حاتم: لا أعلمه إلا أنه ينمي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء؛ برقم (702). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 523). (¬3) مغني المحتاج (1/ 152). (¬4) كشاف القناع (1/ 333). (¬5) مواهب الجليل (1/ 537).

(يرفع) ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وجاء عن رسول الله أنه قال: "إنا معشرَ الأنبياءِ أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا ووضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (¬2). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على يده اليمنى، فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى" (¬3). فهذه الأدلة تدل على سنية وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. قال ابن عبد البر: "لم تختلف الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، ولا أعلم أحدًا عن الصحابة في ذلك خلافًا إلا شيء روي عن الزبير أنه كان يرسل يديه إذا صلى، وقد روي عنه خلافه مما قدمنا ذكر عنه ... - إلى قوله- وعلى هذا جمهور التابعين وأكثر فقهاء المسلمين من أهل الرأي والأثر ... إلى أن قال: فهذا ما روي عن بعض التابعين في هذا الباب، وليس بخلاف؛ لأنه لم يثبت عن واحد منهم كراهيته، ولو ثبت ذلك ما كانت فيه حجة؛ لأن الحجة في السنة لمن اتبعها، ومن خالفها فهو محجوج بها، ولا سيما سنة لم يثبت عن واحد من الصحابة خلافه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى، برقم (707). (¬2) أخرجه الطبرانيُّ في المعجم الكبير، برقم (11485)، وصححه الألباني في صفة الصلاة (ص: 87). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 381) برقم (15131). (¬4) فتح البر في التمهيد الفقهي، لابن عبد البر (4/ 564).

كيفية قبض اليدين في الصلاة

كيفية قبض اليدين في الصلاة: 1 - ذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن وضع اليدين تحت السرة -أي: يسن للمصلي أن يضعها تحت السرة. 2 - وذهب الشافعية (¬3) إلى أنه يسن وضع اليدين تحت الصدر وفوق السرة. والصحيح هو أن يضع المصلي يده اليمنى على يده اليسرى على صدره لا تحت السرة ولا تحت الصدر؛ لحديث وائل بن حُجْرٍ: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (¬4). وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر بعد القيام من الركوع: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع من السنن المستحبة في الصلاة، وهذا قول القاضي أبي يعلى من الحنابلة. قال الإِمام شمس الدين بن مفلح الحنبلي المقدسي في النكت على المحرر: "لم يذكر حكم يديه بعد الرفع من الركوع، قال الإِمام أحمد: إن شاء أرسلها وإن شاء وضع يمينه على شماله. وقطع به القاضي في الجامع؛ لأنه حالة قيام في الصلاة فأشبه قبل الركوع؛ لأنه حالة بعد الركوع فأشبه حالة السجود والجلوس ... " (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 321 - 327). (¬2) كشاف القناع (1/ 333). (¬3) مغني المحتاج (1/ 181). (¬4) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة قبل افتتاح القراءة، برقم (479)، وصححه الألباني. (¬5) المحرر في الفقه (1/ 61).

وباستحباب وضع اليدين على الصدر قبل الركوع وبعده، أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1)، وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬2). القول الثاني: أنه لا يشرع وضع اليدين على الصدر بعد الركوع وبه قال بعض العلماء، منهم الألباني (¬3) -رحمه الله-. والصحيح من القولين هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ وذلك لوجوه، منها: الوجه الأول: أن الأحاديث التي ذكرناها في مشروعية وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة في حال القيام، لم يذكر فيها تفصيل قبل الركوع أم بعد الركوع، والأصل عدمه حتى يأتي دليل يدل على أنه قبل الركوع فقط. الوجه الثاني: حديث وائل بن حجر، ففيه التصريح بذلك حيث قال بأنه: "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبض يمينه على شماله إذا كان قائمًا في الصلاة" (¬4). الوجه الثالث: أن العلماء ذكروا أن الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب للخشوع والتذلل وأبعد عن العبث، وهذا المعنى مطلوب قبل الركوع وبعد الركوع، فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ظاهر ثابت يجب المصير إليه. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 350) فتوى رقم (181) ورقم (2139). (¬2) مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (11/ 131) تحت عنوان: أين يضع يديه بعد الرفع من الركوع؟ ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمَّد صالح العثيمين (13/ 165 - 166). (¬3) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (ص: 139). (¬4) أخرجه النسائي، في كتاب الافتتاح، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، برقم (886) وصححه الألباني.

دعاء الافتتاح

الوجه الرابع: أن الأصل بقاء ما كان حتى يأتي دليل ينقله عن أصله، فالأصل وضع اليدين حال القيام قبل الركوع على الصدر، فهي كذلك توضع حال القيام بعد الركوع على الصدر، إلا إذا كان هناك دليل ناقل عن الأصل فيصار إليه. ومن هنا كانت السنة هي وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع. دعاء الافتتاح: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يسن للمصلي أن يأتي بدعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، واحتجوا لذلك بأدلة منها: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة قال: "سبحانك اللَّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّكَ ولا إله غيرك" (¬1). 2 - وذهب المالكية (¬2) إلى كراهية دعاء الاستفتاح، واحتجوا لذلك بحديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر-رضي الله عنهما- كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). وكذلك حديث المسيء صلاته فليس فيه استفتاح. والصحيح أن دعاء الاستفتاح سنة؛ لحديث عائشة المذكور. الزيادة على قراءة الفاتحة: اتفق الفقهاء على أنه من السنة أن يقرأ المصلي بعد قراءة الفاتحة في الركعتين الأوليين من الصلاة، شيئًا من القرآن. والسنة في القراءة أن يقرأ في الصبح بطوال ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللَّهم وبحمدك، برقم (776). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 252). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، برقم (710).

التأمين

المفصل، ويقرأ في الظهر والعصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب يقرأ بقصار المفصل. كما يسن تطويل القراءة في الركعة الأولى على الثانية في الصلوات المفروضة. التأمين: اتفق الفقهاء على أن التأمين بعد قراءة الفاتحة سنة؛ لما رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قال الإِمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). التأمين سنة للمصلي عمومًا، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا، لكن استثنى المالكية (¬2) من ذلك الإِمام في الصلاة الجهرية، فإنه لا يندب له التأمين عندهم. والصحيح أنه يندب له التأمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمّن الإِمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬3). لكن هل يجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية أم يسن الإسرار؟ محل خلاف بين الفقهاء: أ- فذهب الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) إلى أن الإتيان بالتأمين يكون سرًا؛ وذلك لأنه دعاء والأصل فيه الإخفاء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب جهر المأموم بالتأمين، برقم (749). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 248). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب جهر الإِمام بالتأمين، برقم (747)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم (410). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 320 - 321). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 248).

رفع اليدين عند الركوع والرفع منه والقيام للركعة الثالثة

ب- وذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن التأمين يسن الجهر به في الصلاة الجهرية ويسر به في الصلاة السرية، وهذا هو الصحيح. رفع اليدين عند الركوع والرفع منه والقيام للركعة الثالثة: اختلف الفقهاء في جعل ذلك من السنة: أ- فالشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن ذلك من السنة؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى تكونا حَذْوَ منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع" (¬5) وعن الحسن أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك (¬6). قال الإِمام البخاري: "رواه سبعة عشر من الصحابة، ولم يثبت عن أحد منهم عدم الرفع" (¬7). هذا عند الركوع وعند الرفع منه. أما عند القيام للركعة الثالثة في الصلاة الثلاثية والرباعية، فقيل: يندب الرفع. وهي رواية عن الإِمام أحمد (¬8) وهي المذهب عند الشافعية (¬9). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 160). (¬2) كشاف القناع (1/ 339). (¬3) مغني المحتاج (1/ 162). (¬4) كشاف القناع (1/ 346). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع، برقم (703). (¬6) أخرجه البخاريُّ في جزء رفع اليدين (ص: 80). (¬7) المرجع السابق. (¬8) كشاف القناع (1/ 363). (¬9) مغني المحتاج (1/ 164).

تنبيه

واحتجوا لذلك بحديث نافع: أن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). والرواية الثانية عن أحمد عدم الرفع، وهي المذهب عند الحنابلة (¬2). والراجح أنها سنة. ب- أما الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) فلا يرون رفع اليدين إلا في تكبيرة الإحرام، فلا يشرع رفعهما عند الركوع ولا عند الرفع منه أو القيام إلى الركعة الثالثة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من سنية رفع اليدين في الأمور المذكورة. تنبيه: ذهب بعض أهل العلم إلى سنية رفع اليدين في كل رفع وخفض، فمع كل تكبيرة يقولون بسنية الرفع لليدين. والصحيح أنه لا يسن ذلك إلا في الأمور المذكورة آنفًا، فما سواها لا يشرع فيه الرفع. واحتجاجهم بحديث: "كان يرفع يديه عند كل تكبيرة" (¬5)، عام يخصص بما رواه ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين، برقم (706). (¬2) المرجع السابق للحنابلة. (¬3) تبيين الحقائق (1/ 120). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 247). (¬5) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، برقم (865) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 143)، رقم (705) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

الجهر في الصلاة الجهرية والإسرار في الصلاة السرية

الجهر في الصلاة الجهرية والإسرار في الصلاة السرية: يسن للمصلي أن يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية؛ وهي الفجر والمغرب والعشاء، والإسرار في الصلاة السرية؛ وهي الظهر والعصر؛ لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن جبير بن مُطْعِمٍ قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور" (¬1)، وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} في العشاء، ما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه" (¬2). أما الإسرار: فعن أبي معمر قال: "سألنا خبابًا: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته" (¬3). وضع اليدين مفرجتي الأصابع على الركبتين في الركوع: دليل ذلك حديث عقبة بن عمرو قال: "ألا أصلي لكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي؟ فقلنا: بلى، فقام، فلما ركع وضع راحتيه على ركبتيه وجعل أصابعه من وراء ركبتيه ... ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وهكذا كان يصلي بنا" (¬4). البداية بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود: وقد اختلف الفقهاء في هذه الكيفية على قولين: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الجهر في المغرب، برقم (731)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم (463). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (735)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (464). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب القراءة في الظهر، برقم (726). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب مواضع أصابع اليدين في الركوع، برقم (1037). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 223) برقم (992).

القول الأول: أن السنة هي وضع الركبتين قبل اليدين حين الهوي إلى السجود. وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)، وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬4). استدلوا لذلك بما روي عن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" (¬5) وكان عمر -رضي الله عنه- وابن مسعود يفعلان ذلك (¬6). القول الثاني: وهو قول المالكية (¬7) وإحدى الروايتين عن أحمد (¬8) وهو قول أصحاب الحديث (¬9)، وبه قال أحمد شاكر (¬10) والألباني (¬11) وغيرهم، أن المصلي الأفضل في حقه تقديم اليدين على الركبتين عند السجود، واحتجوا لذلك بأدلة منها: 1 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا سجد أحدكم فلا يَبْرُكْ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 325). (¬2) مغني المحتاج (1/ 170). (¬3) كشاف القناع (1/ 350). (¬4) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (11/ 159)، مجموع فتاوى ورسائل الشيخ (13/ 217). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ برقم (838)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، برقم (268). (¬6) انظر: شرح معاني الآثار، للطحاوي (1/ 256). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 250). (¬8) المحرر (1/ 63)، المبدع (1/ 452). (¬9) عون المعبود (1/ 311) (¬10) تحقيق سنن الترمذيّ، لأحمد شاكر (2/ 59). (¬11) صفة صلاة النبي، للألباني (ص: 122).

كما يَبْرُكُ البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" (¬1). 2 - بوّب البخاري لذلك بابًا قال فيه: "باب يَهْوِي بالتكبير حين سجد، وقال نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يضع يديه قبل ركبتيه" (¬2). وفي رواية: قال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك" (¬3). قالوا: فهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو أشد الصحابة متابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يصف هُوِيَّ النبي بالسجود أنه يقدم يديه على ركبتيه، فيكون بروك البعير خلافه. قال الأوزاعي: "أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم" (¬4)، وقالوا أيضًا: إن ركبة البعير في يده، كما جاء ذلك عند أعلام أهل اللغة كعلقمة والأسود وذكر ذلك الأزهري (¬5). قال الإِمام الطحاوي: "إن البعير ركبتاه في يديه وكذلك سائر البهائم وبنو آدم ليسوا كذلك" (¬6). فإذا كانت ركبة البعير في يده والبعير حين يخر إنما يخر على ركبتيه اللتين في يده ويرمي بنفسه على الأرض فيحدث سقوطه صوتًا، فأمر الرسول بمخالفة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ برقم (840)، والنسائيُّ في كتاب التطبيق، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، برقم (1091) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 158). (¬2) كتاب صفة الصلاة، والأثر علقه البخاري بصيغة الجزم تحت حديث رقم (770). (¬3) وأخرجه ابن خزيمة في كتاب الصلاة، باب البدء بوضع الركبتين على الأرض قبل اليدين إذا سجد المصلي، برقم (626) وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة. (¬4) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: 122). (¬5) تهذيب اللغة (10/ 216). (¬6) شرح معاني الآثار، للطحاوي (1/ 254).

توجيه أصابع القدمين حال السجود إلى القبلة

البعير في ذلك، وأمر بتقديم اليدين على الركبتين. والذي يظهر -والله أعلم- أن الأمر في ذلك واسع، ولله الحمد، فمن رأى أن السنة تقديم الركبتين فعل ذلك، ومن رأى أن السنة تقديم اليدين فعل ذلك؛ لصحة الأخبار المنقولة عن السلف في ذلك. توجيه أصابع القدمين حال السجود إلى القبلة: لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ... " (¬1). الافتراش في التشهد الأول والتورك في التشهد الأخير: دليل ذلك حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في هذه السنة: أ- فالحنفية (¬3) ذهبوا إلى التفريق بين الرجل والمرأة؛ فالرجل يسن له الافتراش، والمرأة يسن لها التورك، لا فرق بين التشهد الأول والأخير أو الجلسة بين السجدتين. ب- أما المالكية (¬4) فالمسنون عندهم هو التورك في جميع جلسات الصلاة، والمرأة والرجل في ذلك سواء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم (794). (¬2) المرجع السابق. (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 321)، الفتاوى الهندية (1/ 75). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 249).

جلسة الاستراحة

ج- أما الشافعية (¬1) فالمشهور عندهم التورك في كل تشهد بعده سلام. د- وأما الحنابلة (¬2) فالمسنون عندهم أن الافتراش يكون في بقية الجلسات، والتورك في التشهد الأخير من الثلاثية والرباعية. وهذا هو الصحيح؛ لما ذكرناه من الأدلة، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة؛ حيث لم ترد نصوص تدل على التفريق، والأصل هو المساواة حتى يأتي دليل يدل على التفريق. جلسة الاستراحة: يسن للمصلي أن يأتي بجلسة عند القيام من السجود للركعة الثانية أو الرابعة في الصلاة الرباعية؛ لما رواه الترمذيّ عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- في صفة صلاة النبي بعد أن ذكر السجدتين: " ... ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك ... " (¬3). وكذلك حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعدًا، ثم اعتمد على الأرض، ثم قام" (¬4). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 172). (¬2) كشاف القناع (1/ 356، 363). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في وصف الصلاة، برقم (304) وصححه الألباني. (¬4) أخرجه البخاريُّ في صفة الصلاة، باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة؟ برقم (790).

الإشارة بالسبابة عند الذكر

وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: يكره فعلها؛ تنزيهًا لمن ليس به عذر، وهذا هو قول الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والحنابلة (¬3). فمن كان يشق عليه القيام مباشرة فليجلس، ومن لا يشق عليه فلا يجلس. القول الثاني: أنها تستحب مطلقًا، وهذا هو قول الشافعية (¬4) ورواية في مذهب أحمد (¬5) اختارها الخلال، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬6)، وبذلك أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬7). والأظهر هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من أنها سنة مطلقًا وذلك لأمرين: الأول: أن الأصل في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يفعلها ليقتدى به. الثاني: ثبوت هذه الجلسة في حديث أبي حميد الساعدي المتقدم. الإشارة بالسَّبَّابة عند الذكر: اتفق الفقهاء على أنه يسن للمصلي أن يشير بسبابته أثناء التشهد، ودليل ذلك ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 940). (¬2) القوانين الفقهية (68)، نهاية المحتاج (1/ 518). (¬3) المغني (1/ 530). (¬4) فتح الباري (1/ 131). (¬5) المغني (1/ 531). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (11/ 99). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 445)، برقم (4830).

الدعاء بعد التشهد الأخير

وخمسين وأشار بالسبابة" (¬1). أما محل الرفع فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فالشافعية (¬2) يرون رفع المسبحة عند قوله: "إلا الله"، أما الحنابلة (¬3) فيرون أنه يشير بسبابته مرارًا كل مرة عند ذكر "الله"، تنبيهًا على التوحيد، ولا يحركها. والأظهر -والله أعلم- أنه يشير بسبابته حال تشهده؛ لحديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها" (¬4) ويحرك سبابته عند الدعاء تحريكًا خفيفًا. وهذا هو قول الشيخين (¬5) رحمهما الله. الدعاء بعد التشهد الأخير: يسن للمصلي أن يدعو بما شاء بعد التشهد الأخير؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله -إلى قوله- ثم يتخير من المسألة ما شاء، أو أحب" (¬6) وفي رواية عند البخاري: "ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" (¬7)، وفي رواية لمسلم: "ثم يتخير من المسألة ما شاء" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم (580). (¬2) مغني المحتاج (1/ 173). (¬3) كشاف القناع (1/ 361). (¬4) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب صفة وضع اليدين على الركبتين في التشهد وتحريك السبابة عند الإشارة بها، برقم (714). (¬5) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (11/ 185)، مجموع فتاوى ورسائل شيخنا (13/ 200). (¬6) أخرجه أحمد في المسند (1/ 413) رقم (3919) من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، برقم (800). (¬8) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم (402).

حكم التعوذ من الأربع

والمالكية (¬1) يرون أنه مندوب وليس بسنة. أما الحنفية (¬2) فيرون أن المصلي يدعو بالأدعية المذكورة، على أن لا ينوي القراءة إذا دعا بأدعية القرآن؛ لكراهية قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد. قلنا: الأفضل هو الدعاء بالمأثور؛ ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري ومسلمٌ من حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: "قل اللَّهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" (¬3). حكم التعوذ من الأربع: " من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال". اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: وجوب ذلك في الصلاة؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال" (¬4). وقد ذهب إلى القول بوجوب ذلك الإمام أحمد في إحدى الروايتين (¬5) عنه، وهو قول ابن حزم (¬6) والألباني (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 251، 252). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 350). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب الدعاء في الصلاة، برقم (5967)، ومسلمٌ في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت في الذكر، برقم (2705). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (588). (¬5) الإنصاف (2/ 81). (¬6) المحلى (3/ 351). (¬7) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: 163).

القول الثاني: أن الاستعاذة بهذه الأربع سنة وليس بواجب، وهو قول جمهور الفقهاء، وهذا هو الصواب، ولكن لا ينبغي تركها؛ لما يخشى على ذلك من إثم أو بطلان عند بعض أهل العلم لما جاء في ذلك فعن طاوس أن ابنه صلى بحضرته، فقال له: "أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا، قال: أعد صلاتك" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ عن طاوس، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (590).

مكروهات الصلاة

مكروهات الصلاة المكروه: هو عكس المندوب، فالمندوب هو: ما يكون في فعله الثواب ولا يكون في تركه العقاب، فيكون المكروه هو ما في تركه الثواب ولا يكون في فعله عقاب. أما مكروهات الصلاة فقد اختلف الفقهاء في تحديدها وحدها، فمن ذلك: الالتفات فيها: فيكره للمصلي أن يلتفت في صلاته؛ وذلك لأن النبي سئل عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" (¬1). والكراهة هنا مقيدة بعدم الحاجة والضرورة؛ فإن احتيج للالتفات فلا بأس -كخوف على نفسه أو ماله أو كانت هناك امرأة عندها صبيها وتخشى عليه فصارت تلتفت إليه- فهنا يجوز؛ لحديث سهل بن الحنظلية قال: "ثوب بالصلاة -يعني: صلاة الصبح- فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب"، قال أبو داود: "وكان أرسل فارسًا إلى الشعب من الليل يحرس" (¬2). وكذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنسان إذا أصابه الوسواس في صلاته أن يتفل عن يساره ثلاث مرات ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الالتفات في الصلاة، رقم (718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الرخصة في ذلك، رقم (916) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 172) برقم (810). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم (2203).

حد الالتفات المكروه

حد الالتفات المكروه: اختلف الفقهاء في حد الالتفات المكروه: أ - فقال الحنفية (¬1): الالتفات بالوجه كله أو بعضه مكروه تحريمًا، وبالبصر من غير تحويل الوجه مكروه تنزيهًا. ب- وعند المالكية والحنابلة (¬2): الالتفات مكروه بجميع صوره ولو بجميع جسده، ولا يبطل الصلاة ما بقيت رجلاه للقبلة. ج- والشافعية (¬3) قالوا بحرمة الالتفات بالوجه، أما اللمح بالعين فلا بأس به. والصحيح أنه يجوز الالتفات بالوجه إذا كان لحاجة أو ضرورة. وهو قول المالكية والحنابلة (¬4). رفع البصر إلى السماء: ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة رفع البصر إلى السماء أثناء الصلاة؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء"، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 432). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 254)، الإنصاف (2/ 91). (¬3) مغني المحتاج (1/ 201). (¬4) كشاف القناع (1/ 369). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم (717)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، رقم (429). واللفظ للبخاري.

لكن هل تبطل الصلاة به عند من قال بتحريمه؟

ذهب ابن حزم (¬1) وجماعة إلى القول بتحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وهذا هو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬2). لكن هل تبطل الصلاة به عند من قال بتحريمه؟ الجواب على قولين؛ قيل بأنها تبطل به، وقيل: لا تبطل. والذي اختاره الشيخ ابن العثيمين عدم إبطال الصلاة بذلك (¬3). تغميض العينين: ذهب جمهور الفقهاء (¬4) إلى كراهة تغميض العينين في الصلاة، وعللوا الكراهة هنا لأنه من فعل اليهود ومظنة النوم، ولأن السنة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وفي التغميض تركها. لكن استثنى بعض الفقهاء من ذلك؛ إن كان التغميض لكمال الخشوع وذلك بأن يخاف فوات الخشوع بسبب رؤية ما يشغله في صلاته، فهنا لا يكره، بل قال بعضهم بأن الأولى في هذه الحالة التغميض (¬5). النظر إلى ما يلهي: اتفق الفقهاء على كراهة نظر المصلي إلى ما يلهيه في صلاته؛ لأن ذلك يشغله عن مقصود الصلاة الأعظم المتمثل بالخشوع فيها، ولأنه قد يشغله ذلك عن كمال الصلاة. ¬

_ (¬1) المحلى، لابن حزم (4/ 15). (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 227). (¬3) المرجع السابق. (¬4) انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 434)، حاشية الدسوقي (1/ 254)، مغني المحتاج (1/ 181)، كشاف القناع (1/ 370). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 434)، وانظر تعليق شيخنا على هذه المسألة في الشرح الممتع (3/ 229).

التخصر في الصلاة

دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأَنبِجَانيَّةِ أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي" (¬1). التخصر في الصلاة: تعريف التخصر: هو أن يضع المصلي يده على خاصرته في القيام، والخاصرة هي المستدق من البطن الذي فوق الورك، أي: وسط الإنسان. ودليل ذلك هو نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرًا" (¬2). وقد جاء تعليل ذلك في حديث عائشة -رضي الله عنها- بأنه فعل اليهود (¬3). وقد ذهب ابن عابدين (¬4) إلى أن الكراهة فيه تحريمية. والذي يظهر أن الكراهة فيه ليست تحريمية. وهذا هو قول جمهور الفقهاء (¬5). الإقعاء في الصلاة: يكره للمصلي إقعاؤه في الجلوس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقعاء كإقعاء الكلب (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، برقم (366)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، برقم (556) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه البخاريُّ في أبواب العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة، برقم (1162)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهية الاختصار في الصلاة، برقم (545). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3271). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 432). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 254)، مغني المحتاج (1/ 202)، كشاف القناع (1/ 372). (¬6) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 311) رقم (8091) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والإقعاء له صور

والإقعاء له صور: الصورة الأولى: أن يفرش قدميه، أي: يجعل ظهورهما نحو الأرض ثم يجلس على عقبيه. الصورة الثانية: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه. وقد اختلف الفقهاء في مشروعية هذه الصورة؛ فمنهم من (¬1) يرى كراهتها مطلقًا في الصلاة. وبعض أهل العلم قال: تجوز في الجلوس بين السجدتين في الصلاة؛ لفعل ابن عباس -رضي الله عنه- لها وقال بأنها سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وهذا هو الصواب -والله أعلم- لكن يفعل ذلك أحيانًا؛ لأن الذين وصفوا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروها ولم تثبت إلا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، ولأن أكثر أهل العلم على خلاف ذلك، لكن الأولى كما ذكرنا الإتيان بها أحيانًا. وحديث ابن عباس عند مسلم في الصحيح. الصورة الثالثة: وهي أقربها مطابقة لإقعاء الكلب؛ هو أن ينصب فخذيه وساقيه ويجلس على إليتيه، ولا سيما إن اعتمد بيديه على الأرض. الصورة الرابعة: وهي أن ينصب قدميه ويجلس على الأرض بينهما. فهذه الصور المذكورة للإقعاء كلها مكروهة إلا الصورة الثانية، فقد وقع الخلاف فيها كما ذكرنا ذلك. ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (3/ 230). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الإقعاء على العقبين، برقم (536).

افتراش الذراعين حال السجود

افتراش الذراعين حال السجود: يكره للمصلي أن يفرش ذراعيه حال السجود؛ وذلك لورود النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" (¬1). العبث في الصلاة: العبث هو تشاغل المصلي بما لا تدعو الحاجة إليه، ومفاسده في الصلاة معلومة، فمن ذلك: أنه يشغل القلب وينافي كمال الخشوع في الصلاة، وكذلك فيه حركة بالجوارح دخيلة على الصلاة، وكل هذا بلا شك يؤثر على صلاة العبد. الصلاة بحضرة الطعام: يكره للمصلي أن يصلي بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، والكراهة هنا تكون بشروط: * أن يكون الطعام حاضرًا. * أن تتوق إليه نفسه. * أن يكون قادرًا على تناوله حسًا وشرعًا. المقصود بالقدرة الحسيّة أي يستطيع تناوله، فلو كان الطعام حارًا لا يستطيع أن يتناوله مثلًا، فهنا لا تكره الصلاة. والمقصود بالقدرة الشرعية أي أن لا يكون ممنوعًا منه شرعًا، كالصائم إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب لا يفترش ذراعيه في السجود، برقم (788)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود، برقم (45).

مدافعة الأخبثين

حضر أمامه طعام فالصلاة لا تكره في حقه؛ لأنه ممنوع منه شرعًا. دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -رضي الله عنه- قال: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬1). وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه كان يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإِمام" (¬2). مدافعة الأخبثين: اتفق الفقهاء على كراهة صلاة من يدافع الأخبثين؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬3) ويسمى مدافع البول حاقنًا، ومدافع الغائط حاقبًا. رجل على وضوء وهو يدافع البول أو الريح، فلو قضى حاجته لم يكن عنده ماء يتوضأ به، فماذا يشرع في حقه؟ نقول: المشروع في حقه أن يقضي حاجته ويتيمم، ولا ينبغي أن يصلي في حالته تلك. رجل حاقن أو حاقب، فإن قضى حاجته وتوضأ خرج وقت الصلاة، فماذا يفعل؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين، برقم (560). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، برقم (642). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد مواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (560).

الصلاة عند مغالبة النوم

نقول: الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة؛ فالجمهور على أنه يصلي على حالته تلك؛ حفاظًا على الوقت. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقضي حاجته ويصلي ولو خرج الوقت، وهذا هو الأقرب لقواعد الشريعة. الصلاة عند مغالبة النوم: إذا غلب الإنسان النوم بحيث إنه لا يدري ولا يعي ما يقول في صلاته، فإنه يكره في حقه الصلاة وهو في هذه الحالة، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن؛ أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" (¬1). كف الشعر أو الثوب أو تشمير الكمين عن الذراعين في الصلاة: لا يجوز ذلك، ودليله حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة ولا أَكُفَّ شَعَرًا ولا ثوبًا" (¬2). التلثم في الصلاة: التلثم هو تغطية الفم والأنف، ويكرهه جمهور أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءًا، برقم (209)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر، بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، برقم (786). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب لا يكف ثوبه في الصلاة، برقم (783)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم (490) واللفظ للبخاري. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة، برقم (643)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يكره في الصلاة، برقم (966) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

السدل في الصلاة

السدل في الصلاة: السدل اختلف الفقهاء في تفسيره؛ فقال الحنفية (¬1): السدل هو: إرسال الثوب بلا لبس معتاد. وقال الشافعية (¬2): السدل هو: أن يرسل الثوب حتى يصيب الأرض. وقال الحنابلة (¬3): السدل هو: أن يطرح ثوبًا على كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى. ودليل الكراهة ما رواه أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه" (¬4). اشتمال الصماء: تعريفها: اشتمال الصماء هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، ويرفع منه جانبًا فيكون فيه فرجة تخرج منها يده، وهو التلفع (¬5). أما دليل الكراهة: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 429). (¬2) مغني المحتاج (200). (¬3) كشاف القناع (1/ 275). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة، برقم (643). (¬5) لسان العرب، مادة: "شمل". (¬6) أخرجه البخاريُّ في أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يستر من العورة، برقم (360)، ومسلمٌ في كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد، برقم (2099) واللفظ للبخاري.

الاقتصار على الفاتحة

تنكيس السور في الصلاة: ومعناه: أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة مسبوقة عن السورة التي قرأها في الركعة الأولى، وذهب إلى كراهة ذلك جمهور الفقهاء. والذي يظهر أنه لا يكره؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ في قيام الليل بالبقرة، ثم قرأ النساء، ثم قرأ آل عمران؛ فلا كراهة إذًا؛ إذا كان لحاجة، وإلا فالأولى القراءة حسب ترتيب المصحف. الاقتصار على الفاتحة: لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الاقتصار على سورة الفاتحة في الركعتين الأوليين في الفرائض وكذلك النوافل. لكن تزول الكراهة إذا كان المصلي في نافلة وأقيمت الصلاة، فيشرع له تخفيفها، فيجوز له الاقتصار على الفاتحة حينئذ. الصلاة مستقبلًا لرجل أو امرأة: يكره للمصلي أن يصلي مستقبلًا لرجل أو امرأة إذا كان متحدثًا أو نائمًا، وقد اتفق الفقهاء على كراهية ذلك، قال الإِمام البخاري في صحيحه: "كره عثمان -رضي الله عنه- أن يستقبل الرجل وهو يصلي" (¬1) هذا إذا كان الرجل مستقبلًا بوجهه المصلي، أما إذا كان جالسًا وجعله المصلي سترة، له فلا حرج في ذلك. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب سترة الصلي، باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، (1/ 192). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام، برقم (694).

مبطلات الصلاة

مبطلات الصلاة للصلاة مبطلات منها: الكلام فيها: اتفق الفقهاء على أن الصلاة تبطل بالكلام أثناءها بما ليس من جنسها، دليل ذلك ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬3). وبطلان الصلاة بالكلام إذا كان المتكلم متعمدًا لذلك، أما إن كان ناسيًا أو كان تكلمه لسبق لسانه حال القراءة ونحو ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك: أ - فالحنفية (¬4) لم يفرقوا في ذلك؛ فقالوا ببطلان صلاة المتكلم سواء كان ناسيًا أو نائمًا أو جاهلًا أو مخطئًا أو مكرهًا ونحو ذلك. ب- أما الشافعية (¬5) فيرون عدم بطلان صلاة من تكلم ناسيًا أو جهل تحريم ذلك إن قرب عهده بالإِسلام، أو نشأ بعيدًا عن العلماء. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 238. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، رقم (539). (¬3) المرجع السابق، حديث رقم (537). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 413). (¬5) مغني المحتاج (1/ 195 - 196).

القهقهة

ج- أما الحنابلة (¬1) فيرون بطلان الصلاة بكلام الساهي والمكره وبالكلام لمصلحة الصلاة ونحو ذلك، ولا تبطل الصلاة عندهم بكلام النائم إذا كان النوم يسيرًا، وإذا كان كلامه لسبق لسانه؛ لأنه مغلوب عليه. والصحيح من هذه الأقوال أن صلاة من تكلم ناسيًا أو جاهلًا لا تبطل (¬2). دليل ذلك قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬3). وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬4) قال سبحانه: "قد فعلت". وكذلك حديث معاوية بن الحكم المتقدم ذكره، حينما تكلم في الصلاة، فقال للرجل الذي عطس: "يرحمك الله" (¬5) لم يأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة؛ لأنه كان جاهلًا. القهقهة: إذا ضحك المصلي بصوت يسمعه هو أو غيره بطلت صلاته قلّ أو كثر؛ لمنافاته للصلاة، ولأنه أقرب للهزل واللعب. وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية (¬6) والمالكية (¬7) والحنابلة (¬8). أما التبسم فيها فلا يبطلها. ¬

_ (¬1) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 538). (¬2) الشرح الممتع (3/ 365). (¬3) سورة الأحزاب: 5. (¬4) سورة البقرة: 286. (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، رقم (539). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 97). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 286). (¬8) مطالب أولي النهي (1/ 520، 538).

الأكل والشرب

فإن ضحك بغير اختياره، كأن يرى أو يسمع شيئًا، ولم يملك نفسه من القهقهة، فهل تبطل صلاته بذلك؟ هذا محل خلاف بين الفقهاء، والراجح أنها لا تبطل. الأكل والشرب: اتفق الفقهاء على أن من أكل أو شرب في صلاته متعمدًا بطلت صلاته، لكن اختلف الفقهاء فيمن أكل أو شرب ناسيًا؛ فالحنفية (¬1) يرون بطلان الصلاة، أما المالكية (¬2) والشافعية (¬3) فيرون عدم بطلانها. والحنابلة (¬4) يفرقون بين نوعية الصلاة؛ فإن كانت فرضًا بطلت، وإن كانت نفلًا لم تبطل، وقول آخر في المذهب: إن كان الأكل أو الشرب يسيرًا فلا تبطل، وإن كان كثيرًا بطلت. والصحيح قول المالكية والشافعية من عدم بطلان من أكل أو شرب ناسيًا في صلاته سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬5)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬6)، قال الرب سبحانه: "قد فعلت". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 418). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 289). (¬3) مغني المحتاج (1/ 200). (¬4) كشاف القناع (1/ 398). (¬5) سورة الأحزاب: 5. (¬6) سورة البقرة: 286. (¬7) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2043)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 347) رقم (1662).

العمل الكثير

هذا إذا كان الأكل أو الشرب يسيرًا، أما إن كان كثيرًا فلا شك أنه من المحال وقوعه؛ إذ كيف يأكل أو يشرب المصلي ولا يزال كذلك دون أن يدري أنه في صلاة؟ ولو حصل ووقع فالصواب إبطاله للصلاة؛ لخروجه عن هيئة الصلاة. وحد الكثير واليسير مرجعه -على الراجح- إلى العرف. العمل الكثير: يبطل الصلاة العمل الكثير الذي هو من غير جنس الصلاة إذا كان لغير ضرورة، وتعرف الكثرة بالعرف وهو ما يخيل لمن ينظر إليه أنه ليس في صلاة. أما إن كان العمل يسيرًا كحمل طفل أو فتح باب قريب ونحو ذلك من الأعمال اليسيرة، فإنه لا تبطل الصلاة به. دليل ذلك ما رواه البخاري عن أبي قتادة -رضي الله عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس: "فإذا سجد وضعها وإن قام حملها" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "جئت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه" (¬2). بطلان الصلاة بفقد شرطها: إذا طرأ ما ينافي الصلاة، كما لو نزلت على ثوبه نجاسة وهو يصلي ولم يستطع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب سترة المصلي، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم (494)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، برقم (543) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب السفر، باب ذكر ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع، برقم (601)، وأحمدُ في مسنده (6/ 31) رقم (24073).

التأوه والأنين والتأفيف والبكاء والنفخ والتنحنح

إزالتها أو سبقه حدث وهو يصلي فأصبح على غير طهارة ونحو ذلك، فإن الصلاة تبطل به؛ لاشتراط طهارة البدن والثوب والمكان، كما سبق ذكره. التأوه والأنين والتأفيف والبكاء والنفخ والتنحنح: اختلف الفقهاء في بطلان الصلاة بالأشياء المذكورة. أما التأوه وهو قول "آه" بالمد، والأنين وهو قول "أه" بالقصر، فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فالحنفية (¬1) والشافعية (¬2) يرون بطلان الصلاة به، لكن الحنفية يفرقون بين من كان مريضًا وبين من لم يكن مريضًا؛ فالمريض الذي لا يملك نفسه لا تبطل الصلاة بِتَأَوُّهِهِ وأنينه وببكائه. والصحيح عدم بطلان الصلاة بذلك، وبه قال الحنابلة (¬3)؛ لأنه لا يتعلق به حكم من أحكام الكلام. أما البكاء فيرى الشافعية (¬4) بطلان الصلاة به سواء كان البكاء من خوف الآخرة أم لا. والصحيح عدم بطلان الصلاة بالبكاء إن كان من خشية الله؛ لكونه غير داخل في وسعه، وهو مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬6). لكن ينبغي للمؤمن أن لا يرفع الصوت به وليحرص على أن لا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء فإن الشيطان قد يجره إليه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 415). (¬2) مغني المحتاج (1/ 196). (¬3) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 521). (¬4) مغني المحتاج (1/ 196). (¬5) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 521). (¬6) الشرح الممتع (3/ 368).

تخلف شرط استقبال القبلة

أما التنحنح في الصلاة فالجمهور على أنه إن كان لغير عذر بطلت الصلاة إن ظهر منه حرفان، فإن كان لعذر أو فعله لغرض صحيح لم تفسد الصلاة به. والصحيح أنه لا تبطل الصلاة بذلك، وهو أحد قولي الإِمام مالك (¬1). أما النفخ في الصلاة؛ فالمالكية (¬2) صرحوا ببطلان الصلاة بتعمده، وهذا هو أحد الأقوال عندهم، وقيّد الحنابلة (¬3) بطلان الصلاة بالنفخ فيما إذا بان حرفان. والصواب عدم بطلان الصلاة بالنفخ فيها، وهذا هو أحد الأقوال عند المالكية، إلا إن كان النفخ لعبث، فإنه يبطل الصلاة؛ لمنافاة العبث لها، وإن كان لحاجة لم يبطل الصلاة. تخلف شرط استقبال القبلة: ذكرنا فيما سبق أنه يشترط لصلاة الفريضة استقبال القبلة وما يترتب على عدم استقبالها من أحكام. ترك ركن من أركان الصلاة: اتفق الفقهاء على أن من ترك ركنا من أركان الصلاة عمدًا، بطلت صلاته ولم تصح، وإن تركه سهوًا أو جهلًا فقد اتفقوا على وجوب الإتيان به إن أمكنه تداركه، فإن لم يمكنه تداركه فقد اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 281). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 281). (¬3) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 521).

فالحنفية (¬1) يرون أن صلاته تفسد، والجمهور (¬2) على أنه تلغى الركعة التي ترك منها الركن فقط، وذلك إذا كان الركن المتروك غير النية وتكبيرة الإحرام، أما هما فلا بد أن يستأنف الصلاة؛ لأنه غير مُصَلٍّ. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 297 - 368)، بدائع الصنائع (1/ 113، 167، 168، 170). (¬2) انظر حاشية الدسوقي (1/ 239، 279)، شرح روضة الطالبين (1/ 187، 188)، كشاف القناع (1/ 385، 402).

صفة الصلاة

صفة الصلاة الصفة المشروعة للصلاة على القول الصحيح من أقوال أهل العلم. أولًا: إذا أراد المسلم الصلاة فإنه ينوي بقلبه الصلاة التي يريد فعلها من فرض أو نفل قبل التكبير، ولا يتلفظ بالنية؛ لعدم ورود الدليل على ذلك، بل هي بدعة -كما ذكرنا في مبحث النية-. ثانيًا: ثم يقول: "الله أكبر" ناويًا الصلاة التي كبر لها، رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو فروع أذنيه، ثم يضعها على صدره. ثالثًا: يشرع للمسلم أن يستفتح الصلاة بأي نوع من الاستفتاحات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك: "سبحانك اللَّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" (¬1) أو"اللَّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللَّهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" (¬2). وهناك أنواع أخرى من الاستفتاحات فبأي نوع منها استفتح المصلي صلاته أجزأه ذلك، لكن لا يشرع الجمع بين نوعين من أنواع الاستفتاح، بل الذي يشرع أن ينوع المصلي في صلاته بأنواع الاستفتاح؛ فيأتي بهذا تارة، وبهذا تارة، كما ذكرنا سابقًا. رابعًا: بعد الاستفتاح يستحب له أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإن شاء قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أو يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، برقم (399). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، برقم (710)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقول بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم (598). واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الشيطان الرجيم" (¬1) وإن شاء قال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمَزِه ونَفْخِهِ ونَفْثِهِ" (¬2). خامسًا: في أثناء ما ذكرناه ينظر إلى محل سجوده مطأطئا رأسه راقبًا ببصره نحو الأرض. سادسًا: بعد الاستفتاح والاستعاذة يقرأ الفاتحة يقف عند كل آية منها مستحضرًا قلبه عند قراءته لها. سابعًا: فإذا انتهى من قراءتها قال: آمين، الإِمام والمأموم والمنفرد، وهي مستحبة كما ذكرنا ذلك سابقًا يجهر بها في الجهرية ويسر بها في السرية. ثامنًا: ثم يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بعد الفاتحة، ومحل هذه القراءة في الركعة الأولى والثانية من الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين والاستسقاء والنفل. ويقتصر على الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة من الظهر والعصر والعشاء والثالثة من المغرب. وإن زاد على الفاتحة في الركعتين؛ الثالثة والرابعة من الظهر أحيانًا، فلا بأس؛ لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. تاسعًا: الأفضل في القراءة بعد الفاتحة أن تكون على النحو التالي: 1 - في الظهر أن تكون قراءته من أوساط المفصل مثل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، ومثل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، ومثل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 26) رقم (20321). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك الله بحمدك، برقم (775)، والترمذيُّ في كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم (242).

2 - في العصر تكون القراءة فيها أخف من الظهر قليلًا. 3 - وفي المغرب كذلك، يقرأ بالفاتحة ثم يقرأ قصار المفصل وإن قرأ في بعض الأحيان بأطول في المغرب فهو أفضل؛ فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب مرة بالطور، ومرة قرأ فيها بالمرسلات، ومرة قرأ فيها بالأعراف قسمها في الركعتين. لكن في الأغلب أنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل كالزلزلة والقارعة والعاديات ونحو ذلك. 4 - أما العشاء فيقرأ بمثل ما قرأ في الظهر والعصر أو يأتي بآيات بمقدار ذلك. 5 - أما الفجر فالقراءة فيها تكون فيها أطول مما مضى من الصلوات، فيقرأ فيها بطوال المفصل؛ فيقرأ فيها بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وغير ذلك مما هو أقل منها، وإن قرأ أقل من ذلك فلا بأس. عاشرًا: إذا انتهى من قراءته يركع قائلًا: "الله أكبر" ويعتدل في ركوعه ويطمئن ولا يعجل ويجعل يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع، ويسوي رأسه بظهره ويقول: "سبحان ربي العظيم" والمجزئ فيها واحدة، لكن الأفضل أن يزيد عليها فيجعلها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا. وإن كان إمامًا فلا يشق على المأموم بالزيادة ويراعي أحوال المأموم. وإن شاء زاد في ركوعه: "سبحانك اللَّهم وبحمدك اللَّهم اغفر لي" (¬1) أو "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" (¬2) كله مستحب، لكن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء في الركوع، برقم (761)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (873) من حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه-.

الواجب كما ذكرنا سابقًا: "سبحان ربي العظيم". الحادي عشر: إذا انتهى من ركوعه رفع منه قائلًا: "سمع الله لمن حمده" إذا كان إمامًا أو منفردًا، ويرفع يديه مثل ما فعل عند الركوع حيال منكبيه أو حيال أذنيه عند قوله: "سمع الله لمن حمده". الثاني عشر: ثم بعد إنتصابه واعتداله من الركوع يقول: "ربنا ولك الحمد" أو "اللَّهم ربنا ولك الحمد" أو "ربنا لك الحمد" أو "اللَّهم ربنا لك الحمد" بأيها قال أجزأه، لكن المستحب أن يقول هذا تارة وهذا تارة ينوع بهن في صلاته. وإن زاد على ذلك فقال: "حمدًا طيبًا مباركًا فيه" (¬1) أو "ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد" (¬2)، فهذا حسن. كل هذا مشروع للإمام والمأموم والمنفرد جميعًا، لكن الإِمام يقول: "سمع الله لمن حمده" أولًا وهكذا المنفرد، أما المأموم فلا يقول ذلك على الصحيح كما ذكرنا ذلك. الثالث عشر: إذا رفع واعتدل واطمأن قائمًا فإنه يضع يديه على صدره. هذا هو الأفضل على ما ذكرناه سابقًا. الرابع عشر: ثم بعد حمده وثنائه على ربه واعتداله في قيامه من ركوعه ينحط ساجدًا قائلًا: "الله أكبر" من دون رفع اليدين على الصحيح من أقوال أهل العلم كما ذكرنا، فيسجد على أعضائه السبعة جبهته وأنفه هذا عضو، وكفيه وركبتيه، وعلى أصابع رجليه. هذا هو الواجب على الرجال والنساء، فالواجب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (766) من حديث رفاعة بن رافع الزُّرَقِيِّ -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم (478).

السجود على هذه السبع، ومع سجوده يجعل أطراف أصابعه إلى القبلة ضامًا بعضها إلى بعض، ولا يمدّ ظهره كما نراه من البعض، بل يجعل ظهره على هيئة القوس فلا يمده، ولا يحنيه كسنام الإبل، بل يرفع بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه ويجافي عضديه عن جنبيه، هذه هي هيئة السجود المسنونة. الخامس عشر: انحطاطه عند السجود ويسجد مقدمًا ركبتيه على يديه. هذا هو الأفضل، ومن كان يرى أن الأفضل تقديم اليدين على الركبتين فليأت بذلك على ما ذكرناه سابقًا. السادس عشر: يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ويكررها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك، لكن إذا كان إمامًا فإنه يراعي المأمومين فلا يشق عليهم، وإن كان منفردًا فلا يضره إطالته. ويستحب له أن يأتي أيضًا بأي نوع من أنواع التسبيح كقوله: "سبحان ذي الجبروت والكبرياء والعظمة" أو "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" (¬1) وهكذا. ويستحب له أيضًا في سجوده الإكثار فيه من الدعاء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما الركوع فعظموا فيه الربّ، أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم" (¬2) أي: حري أن يستجاب لكم. السابع عشر: إذا انتهى من سجوده يرفع منه قائلًا: الله أكبر، ويجلس مفترشًا يسراه ناصبًا يمناه واضعًا يده اليمنى على فخذه اليمنى أو على ركبته ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (487) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم (479) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى أو على ركبته اليسرى، باسطًا يده قائلًا: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" (¬1) كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوله. ويستحب أن يأتي بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الجلسة كأن يقول: "اللَّهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني" (¬2) أو بما شاء من أدعية أخرى. الثامن عشر: إذا انتهى من جلوسه بين السجدتين يسجد السجدة الثانية ويفعل فيها مثل ما فعل في السجدة الأولى، ويقول فيها بما قاله في السجدة الأولى. التاسع عشر: إذا انتهى من سجوده الثاني يكبر رافعًا وناهضًا إلى الركعة الثانية، والأفضل للمصلى هنا أن يجلس جلسة الاستراحة كما ذكرنا ذلك سابقًا، وإن قام ولم يجلس فلا حرج، وليس هناك ذكر ولا دعاء في هذه الجلسة. العشرون: إذا نهض إلى الركعة الثانية مكبرًا قائلًا: "الله أكبر" يفعل فيها كما فعل في الركعة الأولى. الحادي والعشرون: إذا فرغ من القراءة كبر للركوع وفعل في ركوعه مثل ما فعل في ركوعه الأول. الثاني والعشرون: إذا انتهى من ركوعه نهض رافعًا يديه حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ أو حذو أذنيه قائلًا: "سمع الله لمن حمده" إذا كان إمامًا أو منفردًا، ثم يفعل مثل ما فعل في رفعه الأول. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (874)، والنسائيُّ في كتاب التطبيق، باب الدعاء بين السجدتين، برقم (1145) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم (850)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما يقول بين السجدتين، برقم (284) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

الثالث والعشرون: إذا انتهى من رفعه وقال بما هو واجب وما هو مستحب، فإنه ينحط ساجدًا كما تقدم من غير رفع لليدين على الصحيح مكبرًا عند انحطاطه، ثم يقول في سجوده بمثل ما قال في سجوده الأول. الرابع والعشرون: إذا فرغ من سجوده رفع قائلًا: "الله أكبر" ويجلس ويقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" ويطمئن ويفعل كما تقدم في الركعة الأولى. الخامس والعشرون: إذا فرغ من جلوسه هذا كبر وسجد السجدة الثانية ويفعل كما تقدم. السادس والعشرون: إذا انتهى من سجوده هذا جلس للتشهد الأول مفترشًا رجله اليسرى ناصبًا اليمنى كجلسته بين السجدتين، هذا هو الأفضل، ثم يأتي بالتشهد الأول وهو كما ذكرنا سابقًا: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" والأفضل له أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية في تشهده هذا هو الأصح، وإن اقتصر على تشهده فلا بأس فهي هنا ليست بواجبة بل هي سنة، ووجوبه يكون في التشهد الأخير كما ذكرنا سابقًا. السابع والعشرون: إذا انتهى من تشهده الأول قام فأتى بالركعة الثالثة إن كانت ثلاثية، ثم أتى بالرابعة إن كانت الصلاة رباعية. يفعل في هاتين الركعتين مثل ما فعل في الأول والثانية. الثامن والعشرون: إذا انتهى من صلاته ولم يبق إلا التشهد الأخير فإنه يجلس له متوركًا، فيفضي بوركه اليسرى الأرض ويخرج قدميه من ناحية واحدة أو يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه أو ينصب اليمنى، وإن فرشها أحيانًا فلا بأس؛ كل هذا جاءت به السنة، وللمصلي أن يأتي بما هو أرفق عليه، وإن فعل هذا

أحيانًا وهذا أحيانًا، فحسن. التاسع والعشرون: إذا جلس في تشهده قال فيه مثل ما قال في التشهد الأول؛ فيقول: "التحيات لله ... " إلى آخر التشهد، ويجب هنا أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية وهي: "اللَّهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬1) هذا هو الأكمل، وإن أتى بأي صيغة أخرى من صيغ الصلاة الإبراهيمية فلا بأس، والأحسن أن ينوع في صيغ الصلاة على النبي، فيفعل هذا تارة وهذا تارة محافظة على فعل السنة، وإن اقتصر على واحدة أجزأه ذلك. الثلاثون: إذا انتهى من تشهده هذا وصلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيشرع للمصلي أن يدعو في آخر صلاته، فيستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. يحافظ على ذلك في فرائضه ونوافله على ما ذكرنا ذلك سابقًا، ثم يتخير بعد ذلك من الدعاء ما يعجبه فيدعو الله به، ويستحب له أن يدعو بما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في مقامه هذا، ومن ذلك: "اللَّهم أَعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬2). أو "اللَّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم (978). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1522)، والنسائيُّ في كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم (1303) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، برقم (1509)، والترمذيُّ في كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل، برقم (3422)، وأحمدُ في المسند (1/ 102) رقم (803) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

أو يقول: "اللَّهم إني أعوذ بك من البخل ومن الجُبْن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العُمُرِ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ومن عذاب القبر" (¬1). كل هذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن شاء أتى به وإن شاء أتى بغيره، فلا بأس بذلك. إذا انتهى المصلي من تشهده الأخير ومن دعائه فيه يقوم بالتسليم عن يمينه وشماله قائلًا: "السلام عليكم ورحمة الله" وإن زاد أحيانًا في التسليمة الأولى "وبركاته" فهذا أفضل؛ لورود (¬2) ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -، لكن لا يداوم عليها بل يأتي بها أحيانًا. هذه صفة الصلاة التي جاءت بها نصوص السنة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب السير والجهاد، باب ما يتعوذ من الجبن، برقم (2667). (¬2) ورد في ذلك حديث عند أبي داود، كتاب الصلاة، باب في السلام، برقم (997)، وابن خزيمة في كتاب الصلاة، باب صفة السلام في الصلاة، برقم (728) وصححه ابن حجر. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، برقم (605).

أذكار ما بعد الصلاة

أذكار ما بعد الصلاة يستحب للمصلي إذا انتهى من صلاته أن يأتي بالأذكار التي تقال بعد السلام؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (¬1)، ومن ذلك: 1 - أن يستغفر الله ثلاث مرات: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله" (¬2)، 2 - ثم يقول: "اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (¬3). 3 - إن كان إمامًا ينصرف إلى الناس بعد هذا ويقابل الناس بوجهه. 4 - يقول المصلي بعد هذا: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" (¬4)، "اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجَدُّ منك الجَدُّ" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 103. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591) من حديث ثوبان -رضي الله عنه-. (¬3) المرجع السابق. (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (594) من حديث ابن الزبير -رضي الله عنه-. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم (5971)، مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (593).

5 - ثم يشرع للمصلي أن يقول: "سبحان الله والحمد لله والله أكبر" (¬1) ثلاثًا وثلاثين مرة يعقد ذلك بأصابعه ثم يقول تمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" (¬2). 6 - ثم يقرأ بعد ذلك آية الكرسي (¬3)، ثم يقرأ سورة الإخلاص، ثم المعوذتين (¬4) مرة واحدة بعد الظهر والعصر والعشاء، أما بعد الفجر والمغرب فيشرع أن يقرأ هذه السور ثلاث مرات. ويستحب للمصلي أيضًا أن يقول بعد الفجر وبعد المغرب: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" عشر مرات (¬5) زيادة على الذكر المشروع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (807)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (597) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (597) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، باب ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، برقم (9928) من حديث أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6464). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب السهو، في باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة، برقم (1336) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة". (¬5) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، برقم (3474)، وأحمدُ في مسنده (6/ 298)، رقم (26593).

الأحكام المتعلقة بالقنوت في الصلاة

الأحكام المتعلقة بالقنوت في الصلاة أولًا: مواطن القنوت: القنوت في الصلوات ينحصر في ثلاثة مواطن: الموطن الأول: الصبح: حكمه: اختلف الفقهاء في حكم القنوت في صلاة الصبح على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا يشرع القنوت في صلاة الصبح، وذهب إلى ذلك الحنفيّة (¬1) فقالوا بأنه بدعة، وقال الحنابلة بأنه يكره (¬2). القول الثاني: أنه مستحبّ وفضيلة، وهذا هو المشهور عند المالكية (¬3)، واحتجّوا لذلك بما جاء عن أنس -رضي الله عنه- وهو قوله: "ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" (¬4). القول الثالث: أن القنوت في صلاة الصبح سنة مؤكدة، وهذا هو قول الشافعيّة (¬5)، ولو تركه عمدًا أو سهوًا فإنه لا تبطل صلاته ولكن يسجد للسهو. هذه هي الأقوال الثلاثة في حكم القنوت، ومن نظر إلى الأدلّة وجد أن الصحيح هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول من عدم مشروعيّة القنوت في ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 273)، مجمع الأنهر (1/ 129). (¬2) شرح منتهى الإرادات (1/ 228)، كشاف القناع (1/ 493). (¬3) مواهب الجليل (1/ 539) فتح الجليل (1/ 157). (¬4) أخرجه أحمد في المسند (3/ 162)، رقم (12679)، وضعفه جمع من أهل العلم؛ منهم ابن التركماني كما في هامش سنن البيهقي، وكذا ابن الجوزي كما في نصب الراية (2/ 132)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1238). (¬5) المجموع، للنووي (3/ 495)، الأذكار، للنووي (ص: 86).

الموطن الثاني: القنوت في الوتر.

صلاة الصبح إلا لنازلة تحلّ بالمسلمين، فهنا يشرع القنوت في الصبح وغيره من الصلوات الأخرى كما سنبيّنه إن شاء الله. أما جعل ذلك سنة يداوم عليها فليس بمشروع، دليل ذلك: 1 - ما رواه البخاريّ ومسلمٌ عن أنس - رضي الله عنه - قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر شهرًا يدعو في قنوته على أحياء من أحياء العرب ثم تركه" (¬1). 2 - ما رواه الترمذيّ عن سعد بن طارق الأشجعيّ -رضي الله عنه- قال: "قلت لأبي: يا أبت، إنّك قد صلّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ها هنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني محدث" (¬2) وفي لفظ آخر عند النسائيّ: "يا بني، إنها بدعة" (¬3). وقال الإِمام الترمذيُّ: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم" (¬4). أما احتجاجهم بحديث: "ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" فهو حديث ضعيف لا يحتجّ به كما بيَّنا ذلك في الهامش عند تحقيقنا لهذا الحديث. الموطن الثاني: القنوت في الوتر. اختلف الفقهاء في حكم القنوت في الوتر على أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (677). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك القنوت، برقم (402)، أحمد في المسند (3/ 472)، رقم (15920)، وابن ماجه، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، برقم (1241). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، ترك القنوت، برقم (1080). (¬4) سنن الترمذيُّ (2/ 252).

القول الأول: أن القنوت في الوتر واجب في جميع السنة، وهذا هو قول أبي حنيفة (¬1) وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمَّد (¬2) فقالا بأنه سنة في كل السنة. القول الثاني: أنه لا يشرع القنوت في الوتر، وهذا هو المشهور عند المالكيّة (¬3)، وفي رواية عن مالك (¬4) أنه يقنت في الوتر في العشر الأواخر من رمضان. القول الثالث: أنه يستحبّ القنوت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان خاصّة. وهذا مذهب الشافعية (¬5). وفي وجه آخر عندهم أنه يقنت في جميع رمضان، وفي وجه آخر أنه يقنت في جميع السنة بلا كراهيّة، ولا يسجد للسهو لتركه في غير النصف الأخير (¬6). القول الرابع: أنه يسنّ القنوت في الوتر في جميع السنة، وهذا هو المشهور عند الحنابلة (¬7) وعليه المذهب. والأظهر -والله أعلم- أن قنوت الوتر، سنة لكن لا يداوم عليه؛ لأنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقنت في الوتر، فالصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله دائمًا لنقلوه إلينا جميعًا، وكون أحد الصحابة روى ذلك عنه دل على أنه كان يفعله أحيانًا، أي: لا يداوم عليه. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (2/ 43 - 45)، بداع الصنائع (1/ 273)، مجمع الأنهر (1/ 128). (¬2) المرجع السابق. (¬3) القوانين الفقهية (ص: 66)، منح الجليل (1/ 157). (¬4) المرجع السابق. (¬5) روضة الطالبين (1/ 330). (¬6) المرجع السابق. (¬7) شرح منتهى الإرادات (1/ 226)، كشاف القناع (1/ 489).

الموطن الثالث: القنوت عند النازلة.

الموطن الثالث: القنوت عند النازلة. اختلف الفقهاء في حكم القنوت عند النازلة على أربعة أقوال: القول الأول: أنّه لا يقنت في غير الوتر إلا لنازلة كفتنة وبلية، فيقنت الإمام في الصلاة الجهريّة (¬1). القول الثاني: أنّه لا يقنت للنازلة في غير الصبح مطلقًا، لا بوتر ولا بسائر الصلوات عند الضرورة، وهذا هو المشهور عند المالكيّة (¬2). القول الثالث: أنّه إذا نزل بالمسلمين نازلة كوباء وقحط أو مطر يضرّ بالعمران أو الزرع أو خوف عدوّ أو أسر عالم، قنتوا في جميع الصلوات وهذا هو المشهور عند الشافعيّة (¬3)، وبه قال بعض المالكيّة (¬4). القول الرابع: وعند الحنابلة أنه يكره في غير وتر إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة فإنّه يسنّ للإمام الأعظم القنوت فيما عدا الجمعة من الصلوات المكتوبة لرفع النازلة (¬5). والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الأولى فيها مراعاة عموم الأدلّة التي جاءت في ذلك؛ فالذي يظهر من الأدلة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت أول وقوع النازلة في الصلوات الخمس، ثمّ يتركه في الظهر والعصر والعشاء ويبقيه في المغرب والفجر، ثمّ يتركه في المغرب ويبقيه في الفجر ثمّ يتركه إذا زالت النازلة. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (2/ 47، 48). (¬2) فتح الجليل (1/ 157)، مواهب الجليل (1/ 539). (¬3) روضة الطالبين (1/ 254)، المجموع (3/ 494). (¬4) شرح الزرقاني على خليل (1/ 212). (¬5) انظر في ذلك: المبدع (2/ 13)، كشاف القناع (1/ 494)، شرح منتهى الإرادات (1/ 229)، المغني (2/ 587).

وإذا كان القنوت لغير نازلة بل هو لحاجة المسلمين والدّعاء لهم وعلى أعدائهم، فإنّ المستحبّ أن يدعو بين الحين والآخر، هذا هو الذي نرجّحه في قنوت النوازل. دليل هذا الترجيح ما يلي: أولًا: كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في الصلوات الخمس: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة" (¬1). ثانيًا: قنوته - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعشاء والفجر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لأقربن لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار" (¬2) وفي رواية "وصلاة العصر" بدل من "صلاة العشاء". ثالثًا: قنوته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة المغرب والفجر: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في المغرب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب القنوت في الصلوات، برقم (1443)، وأحمدُ في المسند (1/ 301)، رقم (2746). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (764)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (676) واللفظ للبخاري.

ثانيا: محل القنوت

والفجر" (¬1) وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان القنوت في المغرب والفجر" (¬2). رابعًا: أما قنوته - صلى الله عليه وسلم - في الفجر فقط، فمن ذلك: حديث أنس -رضي الله عنه- في القرّاء الذين قتلوا في بئر معونة قال: " ... فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذين قتلوهم شهرًا في صلاة الغداة ... " (¬3)، وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّه سمع النّبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من الفجر بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد، يقول: "اللَّهم العن فلانًا وفلانًا ... " (¬4). ثانيًا: محل القنوت: اختلف الفقهاء في محلّ القنوت، هل هو قبل الركوع أم بعده؟ فذهب الحنفيّة (¬5) والمالكيّة (¬6) إلى أنّه قبل الركوع أو بعده، غير أنّ المندوب الأفضل كونه قبل الركوع عقب القراءة بلا تكبيرة قبله. أما الشافعيّة (¬7) والحنابلة (¬8) فيرون أنه بعد الرفع من الركوع بعد قول سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد. والأظهر هو جواز الأمرين. وهو قول الجمهور، فيجوز أن يكون القنوت قبل الركوع ويجوز بعده؛ لورود الأمرين عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولذا بوّب البخاري -رحمه الله- ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (678). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (765). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان ... ، برقم (3860). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب التفسير، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، برقم (3842). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 273). (¬6) مواهب الجليل (1/ 539). (¬7) المجموع في شرح المهذب (3/ 495). (¬8) كشاف القناع (1/ 489).

ثالثا: مدة القنوت للنازلة

بابًا قال فيه: "باب القنوت قبل الركوع وبعده". لكن الأولى أن يقنت بعد الركوع؛ لأن رواة القنوت بعده أكثر وأحفظ، فهو أولى، والأمر فيه سعة ولله الحمد. ثالثًا: مدّة القنوت للنازلة: تختلف مدّة القنوت في النازلة وذلك حسب النازلة، فيشرع القنوت مدّة النازلة إن كانت ذات وقت. فإنْ نزلت فجأة ثمّ أقلعت فيشرع لأيّام بعدها، والسنة في ذلك شهرًا. وإن كان لحاجة المسلمين فحتى تقضى. فإن طالت قنت وترك إلى أن تزول. فهي سنته - صلى الله عليه وسلم - في قنوت النازلة. فقد قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا في صلاة الغداة يدعو علي بني سُليم ورِعْل وذَكْوَانَ حينما قتلوا القرّاء (¬1). أما استمراره بالقنوت ما دامت النازلة نازلة فقد جاء في البخاري ومسلمٌ أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهم نَجِّ الوليد بن الوليد اللَّهم نَجِّ عَيَّاشَ بن أبي ربيعة، اللَّهم نجّ المستضعفين من المؤمنين" قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ثمّ رأيت النّبي - صلى الله عليه وسلم - ترك القنوت بعد، فقلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك القنوت؟ قال: قيل "وما تراهم قد قدموا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان ... ، برقم (3860)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (677). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، برقم (4322)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (675).

رابعا: في حكم الجهر والإسرار في القنوت

رابعًا: في حكم الجهر والإسرار في القنوت: ذهب المالكيّة (¬1) إلى استحباب الإسرار بالقنوت في حق الإِمام والمأموم والمنفرد؛ وذلك لأنه دعاء فينبغي الإسرار به حَذَرًا من الرياء. أما الشافعيّة (¬2) فيفرِّقون بين ما إذا كان المصلي إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا؛ فإن كان إمامًا فيستحبّ له الجهر بالقنوت، وإن كان منفردًا فيسرّ بلا خلاف، وإن كان مأمومًا؛ فإن لم يجهر الإِمام قنت سرًا كسائر الدعوات، وإن جهر الإِمام أمَّن على دعائه. وهذا هو الصحيح وعليه أكثر أهل العلم. والجهر به سواء كانت الصلاة جهريّة أو سرية، فيدعو الإِمام ويؤمِّن المأموم على دعائه. خامسًا: في حكم رفع اليدين في القنوت: ذهب المالكيّة (¬3) إلى أنّه لا يشرع رفع اليدين في القنوت، أمّا الشافعيّة (¬4) ففيه وجهان عندهم؛ أصحّهما استحباب الرفع وهو قول الحنابلة (¬5) وهو الصحيح؛ لوروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أنس -رضي الله عنه-: "فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد على شيء قَطُّ وَجْدَهُ عليهم -يعني- القرّاء" فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة رفع يديه فدعا عليهم ... " (¬6)، وكذلك ذكر البيهقي (¬7) آثارًا كثيرة عن الصحابة أنّهم كانوا يرفعون ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 39)، والعدوي على كفاية الطالب (1/ 139). (¬2) المجموع (3/ 492 - 511)، روضة الطالبين (1/ 253). (¬3) مواهب الجليل (1/ 540). (¬4) المجموع (3/ 500 - 501). (¬5) شرح منتهى الإرادات (1/ 226). (¬6) أخرجه أحمد (3/ 137) رقم (12425). (¬7) سنن البيهقي الكبرى (2/ 211).

سادسا: في حكم مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من القنوت

أيديهم في القنوت، وكذلك النووي في المجموع (¬1). سادسًا: في حكم مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من القنوت: اختلف الفقهاء في هذه المسألة؛ فالشافعيّة (¬2) لهم وجهان، أصحّهما عدم استحباب المسح. أما الحنابلة (¬3) فقد اختلفت الروايات عن الإِمام أحمد في ذلك؛ فأشهرها أنه يمسح، واختارها الأكثرون، والثانية: أنه لا يمسح، نقلها جماعة. واختارها الآجري؛ لضعف الخبر، والثالثة: يكره، والرابعة: يمرّها على صدره. والصواب أنه لا يستحب مسح الوجه في الدعاء خارج الصلاة ولا في القنوت؛ لعدم ورود ذلك، والأحاديث التي جاءت في مسح الوجه ضعيفة لا يحتجّ بها. ذكر بعض الصِّيَغ المستحبّة في دعاء القنوت: ذكرنا أنَّه ليس هناك صيغة ملزمة بالدعاء في القنوت، لكن يستحبّ للمصلي أن يأتي بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وكذا عن صحابته -رضي الله عنهم-، فمن ذلك: 1 - "اللهمّ إنا نستيعنك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك، اللَّهم إيّاك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجِدَّ بالكافرين مُلْحِقٌ" (¬4). 2 - "اللَّهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولّني فيمن تولّيت وبارك لي فيما أعطيت وقني شرّ ما قضيت، إنّك تقضي ولا يقضى عليك وإنّه ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 511). (¬2) المجموع شرح المهذب (3/ 500). (¬3) المبدع (2/ 12)، المغني (4/ 585). (¬4) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2961) من حديث خالد بن أبي عمران -رضي الله عنه-.

تنبيه

لا يذلّ من واليت تباركت ربنا وتعاليت" (¬1) وإن زاد: "ولا يعزّ من عاديت" (¬2) قبل: "تباركت ربّنا وتعاليت" وكذلك: "فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك" فلا بأس. 3 - "اللَّهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألِّف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللَّهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدّون عن سبيلك ويكذّبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللَّهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين" (¬3). فهذه بعض صيغ القنوت التي يستحب الإتيان بها. تنبيه: إذا كان المصلي إمامًا لا يخصّ نفسه بالدعاء بل يعمّم ويأتي بلفظ الجمع: "اللَّهم اهدنا". سابعًا: حكم الإطالة في الدعاء في القنوت: وينبغي أن يكون دعاؤه جامعًا ولا يطيل فيه؛ فالمعروف من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يطيل في قنوته، بل كان يأتي بجوامع الكلم. أما ما يفعله الكثير من أئمة المساجد في زماننا من إطالة للدعاء وتعمّد السجع فيه، فهذا ليس من هديه - صلى الله عليه وسلم -. والعبرة في الدعاء تكون بصدق الداعي وطهارة نفسه وإخلاصه وقوة رجائه والعبودية لله تعالى فيه، وليست العبرة بطول الدعاء وتكلّف السجع. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425)، والترمذيُّ في أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم (464) من حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2957). (¬3) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2962) من حديث عبيد بن عمير -رضي الله عنه-.

ثامنا: حكم الدعاء على معين

قال الإِمام البخاري: "باب ما يكره من السجع في الدعاء" وساق هذا الأثر عن عكرمة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "حَدِّثِ الناس كل جمعة مرّة، فإن أَبَيْتَ فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرّات. ولا تملّ الناس هذا القرآن، ولا ألفَيَنَّكَ تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصّ عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه. وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب" (¬1). ومعنى السجع هو الكلامُ المتشابهُ المخارجِ وليس بشعر. وخلاصة الكلام في ذلك أنّه لا يتكلّف الداعي السجع تكلّفًا يذهب صدق الدعاء واللهج به ويصرفه عن قصده. ولا يطيل فيه إطالة يخالف فيها هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشقّ على المأموم فيها. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحبّ الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك" (¬2). ثامنًا: حكم الدعاء على مُعَيَّنٍ: لا يجوز تعيين أشخاص بأسمائهم بالدعاء عليهم، وما نراه من بعض الأئمة من تعيين رموز الكفر بالدعاء عليهم، هذا الأمر لا ينبغي؛ وذلك لأمور منها: أولًا: أن الله تعالى نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حينما عين بعض الأشخاص -وهم صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام- فأنزل الله تعالى: {ليْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬3)، (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب ما يكره من السجع في الدعاء، برقم (5978). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم (1482). (¬3) سورة آل عمران: 128. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب التفسير، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، برقم (3842).

ثانيًا: لعلّ الله أن يتوب على المدعُوِّ عليه فَيُسْلِمَ، وهذا قد حصل فيمن ذكرنا أسماءهم؛ فقد تاب الله عليهم كلهم، فأسلموا وحسن إسلامهم. ثالثًا: أنه في دندنة المسلم بلعن الكافر المعين صرفٌ عن المقصود الأول والحكمة البالغة، فإن في تعيينه باسمه ما يحمله أن يزداد في طغيانه وصرفه عن دعوة الإِسلام التي جاءت بمثابة الهداية لجميع الخلق، وهذا أمر محسوس وملموس؛ فإن الواحد منا لا يرضى أن يذكر بأمر يسوءه، بل يزداد تمرّدًا عن قبوله للحق، فكيف بحال من لم يذق طعم الإيمان؟! رابعًا: من نظر إلى دعاء عمر -رضي الله عنه- في قنوته يجِدْ أنه سلك المنهج النبوي، فلم يعيّن، بل قال: "اللَّهم العن كفرة أهل الكتاب الذي يصدّون عن سبيلك ويكذّبون رسلك ويقاتلون أولياءك ... " (¬1) وهؤلاء كان لهم حكَّام، فلم يعيّنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسمائهم بل عمّم ولم يخصّ. ومن هنا نرى أنه لا يشرع تعيين أحد من الكفرة ولا غيرهم في القنوت؛ حيث ورد النهي عنه، وفي الدعاء بالوصف كما فعل عمر -رضي الله عنه- غُنْيَةٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2962) من حديث عبيد بن عمير -رضي الله عنه-.

أحكام سجود السهو

أحكام سجود السهو أولًا: تعريفه: سجود السهو عرفه الفقهاء بأنه: "ما يكون في آخر الصلاة أو بعدها؛ لجبر خلل؛ بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه دون تعمد" (¬1). ثانيًا: حكم سجود السهو: اختلف الفقهاء في حكم سجود السهو: 1 - فالحنفية (¬2) والحنابلة (¬3) على وجوب سجود السهو، ودليلهم حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كم صلى، ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وَلْيَبْنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شَفَعْنَ له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان" (¬4). وجاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين" وفي رواية: "فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" (¬5). ¬

_ (¬1) الإقناع، للشربيني (2/ 89). (¬2) الفتاوى الهندية (1/ 125). (¬3) كشاف القناع (1/ 408)، المغني (2/ 433). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (571). (¬5) أخرجه البخاريُّ في أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (392)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572). واللفظ لمسلم.

وجه الدلالة من الحديثين أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من شكّ أو نسي فزاد أو نقص في صلاته، أن يسجد سجدتين، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - وذهب المالكية (¬1) إلى أنه سنة، سواء كان قبل السلام أو بعده، وهو المشهور في مذهبهم، وقول آخر أنهم يفرقون بين السهو في الأفعال والسهو في الأقوال وبين الزيادة والنقصان؛ فقالوا بأن سجود السهو الذي يكون في الأفعال الناقصة واجب، وقول آخر عندهم: إن كان للزيادة فهو مستحب، وإن كان للنقصان فهو واجب (¬2). 3 - أما الشافعية (¬3) فيرون أنه سنة مطلقًا، وهذه هي إحدى الروايتين عند الحنابلة. والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، أن سجود السهو واجب، وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬4) وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬5)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به وداوم عليه ولم يدعه، وهذه دلائل واضحة بينة على وجوبه. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 273). (¬2) بداية المجتهد، لابن رشد (1/ 195). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 62)، المجموع، للنووي (4/ 138). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 27، 28). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (11/ 251)، الشرح الممتع (3/ 339). (¬6) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 126) رقم (11071).

ثالثا: أسباب سجود السهو

ثالثًا: أسباب سجود السهو: أسباب السجود للسهو ثلاثة: 1 - الزيادة. 2 - النقصان. 3 - الشك. فيجب تارة، ويسن أخرى. ولا يعني ذلك أنه يشرع في كل زيادة أو نقص أو شك، بل حسبما ورد به الدليل. ولا يشرع سجود السهو في العمد؛ لأنه إن ترك ركنًا أو واجبًا عمدًا بطلت صلاته، فلا فائدة من سجود السهو حينئذ؛ لأنه غير معذور. وإن ترك سنة عمدًا فصلاته صحيحة، لكن هل يسجد للسهو عند تركه سنة من السنن؟ محل خلاف، والصواب أنه لا يشرع لترك السنن سجود السهو. ولا يشرع كذلك سجود السهو لحديث النفس؛ لعدم ورود نص بذلك. ولبيان ذلك نقول: أولًا: الزيادة في الصلاة: الأول: إذا زاد المصلي في صلاته قيامًا أو قعودًا أو سجودًا متعمدًا، بطلت صلاته. الثاني: إن كان ناسيًا ولم يذكر الزيادة حتى فرغ منها، فليس عليه إلا سجود السهو، وصلاته صحيحة. الثالث: إن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها. ووجب عليه سجود السهو، وصلاته صحيحة.

ثانيا: النقصان في الصلاة

ثانيًا: النقصان في الصلاة: النقص في الصلاة إما أن يكون نقصًا في الأركان أو نقصًا في الواجبات؛ فإن كان النقص في الأركان ففي ذلك تفصيل على النحو الآتي: 1 - إن كان النقص في تكبيرة الإحرام فلا صلاة له، سواء تركها عمدًا أو سهوًا؛ لأن صلاته لم تنعقد. 2 - وإن كان غير تكبيرة الإحرام؛ فإن تركه عمدًا بطلت صلاته، وإن تركه سهوا فله حالتان: الحالة الأولى: أن يصل إلى موضعه من الركعة الثانية، فهنا تلغى الركعة التي تركه منها، وتقوم الثانية مقام الأولى. الحالة الثانية: إن لم يصل إلى موضعه في الركعة الثانية، وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده ثم يسجد للسهو، وصلاته صحيحة. وإن كان النقص في الواجبات فهنا له أربع حالات: الحالة الأولى: إن ترك المصلي واجبًا من واجبات الصلاة متعمدًا، بطلت صلاته. الحالة الثانية: إن ترك الواجب ناسيًا ثم ذكره قبل أن يفارق محله في الصلاة، أتى به ولا شيء عليه. الحالة الثالثة: أن يترك الواجب ناسيًا ثم يذكره بعد مفارقة محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه، فالواجب عليه أن يرجع؛ ليأتي به، ثم يكمل صلاته ثم يسجد للسهو ويسلم. الحالة الرابعة: أن يترك المصلي الواجب ناسيًا ثم يذكره بعد وصوله إلى

ثالثا: الشك

الركن الذي يليه، فهنا يسقط عنه الإتيان به ولا يرجع إليه، بل يستمر في صلاته ويسجد للسهو. ثالثًا: الشك: لا يخلو الشك في الصلاة من حالتين: الحالة الأولى: أن يترجح عنده أحد الأمرين، فيعمل بما ترجح عنده، فيتم صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. فلو شك في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة لكن ترجح عنده أنها الثالثة، فإنه يجعلها الثالثة ثم يسجد للسهو. الحالة الثانية: أن لا يترجح عنده أحد الأمرين، فيعمل باليقين، وهو الأقل، ثم يتم صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم. أحكام متعلقة بالشك في الصلاة: 1 - من شك في صلاته فعمل باليقين أو بما ترجح عنده ثم تبين له أنه لا زيادة ولا نقص، هل يلزمه سجود السهو؟ على قولين: قيل: إنه يسقط عنه سجود السهو، لزوال موجب السجود وهو الشك. وقيل بأنه لا يسقط عنه؛ ليراغم به الشيطان، ولأنه أدى جزءًا من صلاته شاكًا فيه حين أداه. وهذا هو الراجح. 2 - إذا جاء المأموم فوجد إمامه راكعًا فركع معه غير أنه شك هل أدرك معه الركوع أم لا، فما المشروع في حقه؟ الجواب: هذه الحال لا تخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يشك هل أدرك الإِمام في ركوعه أم لا ثم يترجح عنده أحد الأمرين -أي: أنه أدرك الركوع مع الإِمام أو أنه لم يدرك الركوع مع الإِمام- فهنا يعمل بما ترجح عنده فيتم صلاته ثم يسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. الأمر الثاني: أن يشك هل أدرك الركوع أم لا ولا يترجح عنده، فهنا يعمل باليقين فيبني على الأقل، وهو أن الركعة فاتته، فيتم صلاته ثم يسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم. 3 - إذا سها الإِمام وجب على المأموم متابعة إمامه في سجود السهو؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا سجد فاسجدوا" (¬1). فيسجد المأموم مع إمامه، سواء كان سجوده للسهو قبل السلام أو بعده، إلا أن يكون المأموم مسبوقًا، أي قد فاته شيء من صلاته -فهنا لا يتابعه في السجود بعده؛ لتعذر ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يسلم مع إمامه، لكن الواجب عليه أن يقضي ما فاته من صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو بعد السلام. 4 - إذا سها المأموم دون الإِمام هل يلزمه سجود السهو؟ في هذه المسألة لا يخلو المأموم من حالتين: الحالة الأولى: أن يسهو المأموم ولم يفته شيء من الصلاة؛ بمعنى أنه يدرك الصلاة من أولها مع الإِمام ثم يطرأ عليه نِسْيَانٌ، فيسجد حال ركوع الإِمام مثلًا أو يقوم حال جلوس الإِمام، فهنا لا سجود عليه؛ لأن سجوده يؤدي إلى الاختلاف عن الإِمام واختلال متابعته، ولأن الإِمام يتحمل السهو عن المأموم في هذه الحالة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والأمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، رقم (689)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم (414) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الحالة الثانية: أن يكون المأموم مسبوقًا بركعة أو أكثر ثم سها مع إمامه أو فيما قضاه بعده، فهنا لا يسقط عنه سجود السهو، بل يلزمه الإتيان به. 5 - محل سجود السهو في الصلاة: اختلف الفقهاء في موضع سجود السهو في الصلاة: أ- فالحنفية (¬1) يرون أن سجود السهو يكون بعد السلام مطلقًا، سواء في الزيادة أو النقصان. ب- أما المالكية (¬2) فإنهم يفرقون بين الزيادة والنقصان، فإن كان السهو عن نقصان فالسجود يكون قبل السلام، وإن كان عن زيادة فيكون بعد السلام، وإن جمع بين زيادة ونقص فيسجد قبل السلام؛ ترجيحًا لجانب النقص. ج- أما الشافعية (¬3) فالأظهر عندهم أنه يكون قبل السلام، وفي قول آخر: إن شاء قبل السلام وإن شاء بعده. د- أما الحنابلة (¬4) فيرون أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما إذا سلم من نقص ركعة فأكثر، وإذا تحرى الإِمام فبنى على غالب ظنه، فهنا يكون محل سجود السهو بعد السلام. وهذا هو الراجح؛ لما فيه من جمع بين الأدلة، والجمع أولى من الترجيح. 6 - حكم من سها عن سجود السهو: إذا سها المصلي عن سجود السهو فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال: ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (1/ 492 - 495). (¬2) الشرح الصغير (1/ 378 - 379). (¬3) المجموع، للنووي (4/ 69). (¬4) المغني، لابن قدامة (2/ 22 - 23)، مغني المحتاج (1/ 209).

أ- فالحنفية (¬1) يرون أنه يلزمه سجود السهو ما دام في المسجد. ب- والمالكية (¬2) يفرقون بين سجود السهو الذي قبل السلام والذي بعده؛ فإن سها عن سجود السهو البعدي يقضيه متى ذكره، ولو بعد سنين، فلا يسقط بطول الزمان. أما السجود القبلي فإنهم قيدوه بعدم خروجهم من المسجد رقم يطل الزمان وهو في مكانه أو قربه. ج- أما الشافعية (¬3) فيرون أنه إن طال الفصل فإنه يسقط. د- أما الحنابلة (¬4) فيرون أنه إن نسي سجود السهو قضاه، وذلك بشرطين: الأول: أن يكون في المسجد، الثاني: أن لا يطول الفصل. وهذا هو الأقرب. 7 - حكم استجابة الإِمام للمأمومين ومتابعتهم. ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإِمام إذا زاد في صلاته وتيقن المأموم أنه قام لركعة زائدة، فإن الواجب على المأموم أن ينبه الإِمام، وذلك بالتسبيح، أي قول سبحان الله، للرجال، أما النساء فالمشروع في حقهن التصفيق. لكن إذا كان الإِمام على يقين أو غلب على ظنه أنه مصيب والمأموم يرى أنه مخطئ، فهنا لا يستجيب لهم، ولا يجوزُ للمأمومين إذا كانوا كثرة ويرون أن الإِمام قد زاد في الصلاة، متابعةُ الإِمام على الزيادة. ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (1/ 505). (¬2) الشرح الصغير (1/ 387 - 389). (¬3) المجموع (4/ 156). (¬4) المغني (2/ 432).

باب في ذكر أحكام صلاة التطوع

باب في ذكر أحكام صلاة التطوع أولًا: تعريف صلاة التطوع: صلاة التطوع هي ما زادت على الفرائض، لقوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله الأعرابي عن الإِسلام، فقال: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تَطَوَّعَ" (¬1). ثانيًا: الحكمة في مشروعيتها: الصلاة كما لا يخفى هي ركن من أركان الدين ومبانيه العظام؛ لأنها في الحقيقة صلة بين العبد وخالقه، ولذلك رغب الرب -سبحانه وتعالى- في الإكثار منها والحث عليها؛ حتى يزداد العبد قربًا وصلة من ربه -سبحانه وتعالى-، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬2). ومن هنا شرع الله تعالى لعباده صلاة التطوع زيادة على الفرائض؛ لتدوم الصلة به، بل جعل صلاة التطوع منها ما هو قبل الفرائض ومنها ما هو بعدها؛ لجبر النقص الحاصل في الفريضة. ولذلك استنبط العلماء بعض المعاني اللطيفة، فقالوا: أمَّا في تقديم السنن على الفرائض فلأن النفس لاشتغالها بأسباب الدنيا بعيدة عن حال الخشوع والحضور التي هي روح العبادة، فإذا قدمت النوافل على الفرائض أنست النفس بالعبادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإِسلام، برقم (46)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، برقم (11). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (482) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ثالثا: حكم صلاة التطوع

أما في تأخيرها عن الصلاة فقد ورد في أن النوافل جابرة لنقص الفرائض، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم، الصلاة. قال: يقول ربنا -جل وعز- لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم" (¬1). ثالثًا: حكم صلاة التطوع: صلاة التطوع سنة، لكن منها ما هو سنن مؤكدة، ومنها ما هو غير مؤكد. والسنن المؤكدة هي: ما حافظ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورغَّب في المحافظة عليها. ذكر بعض السنن المؤكدة: أولًا: السنن الرواتب: وهي التي تكون دائمة مستمرة تابعة للفرائض، وهذه السنن منها ما يكون قبل الصلاة، ومنها ما يكون بعدها. فالتي قبل الصلاة كركعتي الفجر، وأربع ركعات أو اثنتين قبل الظهر. أما التي بعد الفرائض، فهي ركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. وقد اختلف الفقهاء في عدد السنن الرواتب، فمنهم من ذهب إلى أنها عشر ركعات، وذهب آخرون إلى أنها اثنا عشرة ركعة، وهذا هو الصحيح، لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعًا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه" برقم (864) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 163)، برقم (770). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر، برقم (1127).

أفضل السنن الرواتب

وعن أم المؤمنين حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - و -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة، أو إلا بني له بيت في الجنة" (¬1). أفضل السنن الرواتب: أفضل السنن الرواتب وأشدها تأكيدًا ركعتا سنة الفجر، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشدَّ منه تعاهدًا على ركعتي الفجر" (¬2). ومما يدل على تأكيدهما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعهما في الحضر أو السفر. خصائص ركعتي الفجر: 1 - تخفيفها: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول هل قرأ بأم الكتاب" (¬3). 2 - القراءة فيهما بـ "الكافرون والإخلاص": فمن هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر سورتي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كما ذكر ذلك أبو هريرة -رضي الله عنه- (¬4) وأحيانًا كان يقرأ فيهما، في الركعة الأولى منها: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، برقم (728). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التهجد، باب تعاهد ركعتي الفجر وما سماها تطوعًا، برقم (1116). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب أبواب التطوع، باب ما يقرأ في ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعًا، برقم (1118). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم (726).

إِليْنَا ..} (¬1)، وفي الركعة الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ...} (¬2)، (¬3). فيسن الإتيان بهذا وهذا؛ لكي يتحقق الإتيان بالسنة. وقد ذهب أبو حنيفة (¬4) إلى أنه لا توقيف في هاتين الركعتين في القراءة يستحب، وأنه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من الليل. قلنا: والصحيح ما ذهب إليه الأولون من استحباب القراءة فيهما بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لورود ذلك في الصحيحين وغيرهما. 3 - مشروعيتها في السفر والحضر: ركعتا الفجر تصلى في السفر، وقد ذكرنا حديث عائشة -رضي الله عنها- سابقًا، فهي بخلاف الرواتب الأخرى؛ فإنه يشرع تركها في السفر. 4 - ثوابها: تميزت ركعتا الفجر عن غيرها في الثواب والأجر، فهما خير من الدنيا وما فيها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (¬5). 5 - أنه يسن الاضطجاع على الجنب الأيمن بعدها: وقد اختلف الفقهاء في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لمن صلاهما؛ فقيل بأنها سنة مطلقًا، وقيل بأنها ليست بسنة مطلقًا، وقيل بأنها شرط لصحة صلاة الفجر. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 136. (¬2) سورة آل عمران: 64. (¬3) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم (727). (¬4) بدائع الصنائع (2/ 735، 739، 747). (¬5) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم (725).

ثانيا: الوتر

والصحيح من الأقوال أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنة لمن يقوم بالليل؛ لأنه يحتاج إلى الراحة. لكن إذا كان المضطجع ممّن إذا وضع جنبه على الأرض نام ولم يستيقظ إلا بعد مدة طويلة يترتب عليها تضييعه لصلاة الصبح في جماعة، فهنا لا يسن له فعل هذا الاضطجاع؛ لأنه يفضي إلى ترك واجب، وربما يفوته أداء الصلاة في وقتها فيؤديها بعد طلوع الشمس. ثانيًا: الوتر: 1 - تعريفها: الوتر في اللغة -بفتح الواو وكسرها-: هو العدد الفردي، كالواحد والثلاثة والخمسة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وتر يحب الوتر" (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استجمر فَلْيُوتِرْ" (¬2) أي: فَلْيَسْتَنْجِ بثلاثة أحجار أو خمسة أو سبعة. أما في الاصطلاح فهي: صلاة تفعل بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، سميت بذلك؛ لأنها تصلى وترًا، أي: ركعة واحدة أو ثلاثًا أو أكثر. 2 - حكم صلاة الوتر: اختلف الفقهاء في حكم صلاة الوتر على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاة الوتر سنة مؤكدة وليست واجبة، واحتجوا لذلك بما يأتي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوتر، باب لله مئة اسم غيرَ واحدة، برقم (6047). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترًا، برقم (160)، ومسلمٌ، كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم (237).

أما أدلة تأكيد سنيتها فمنها

أولًا: حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- في الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما فرض عليه في اليوم والليلة، فقال: "خمس صلوات"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تَطَوَّعَ شيئًا" (¬1). ثانيًا: ما رواه النسائي وغيره عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عهد عند الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة" (¬2). ثالثًا: ما جاء عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة، ولكنه سنة سنها - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). هذه أدلة عدم وجوب الوتر. أما أدلة تأكيد سنيتها فمنها: أولًا: حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر ثم قال: "يا أهل القرآن، أَوْتِرُوا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتر يحب الوترِ" (¬4). ثانيًا: حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- خَطَبَ الناسَ يوم الجمعة فقال: إن أبا بَصْرَةَ حدثني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإِسلام، برقم (46)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، برقم (11). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الصلاة الأولى، باب المحافظة على الصلوات الخمس، برقم (322). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الأمر بالوتر، برقم (1676) وصححه الألباني. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب استحباب الوتر، برقم (1416)، والنسائيُّ في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الأمر بالوتر، برقم (1675) وصححه الألباني. (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (6/ 7) رقم (23902).

3 - وقت الوتر

فهذه الأدلة وغيرها تدل على أن الوتر سنة مؤكدة. القول الثاني: ذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن الوتر واجب، واستدل على ذلك بأدلة منها: أولًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا" (¬2). ثانيًا: حديث عمرو المتقدم ذكره وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: "فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ... " (¬3). قالوا: الأمر هنا للوجوب. ثالثًا: أنها صلاة مؤقتة، وقد جاء في السنة ما يدل على أنها تقضى. والصحيح من القولين هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ من أن الوتر سنة مؤكدة؛ لقوة الأدلة، وما احتج به أصحاب القول الثاني؛ فهو إما أن يكون حديثًا ضعيفًا، أو أن الاحتجاج به في غير المراد. وقولنا بأنه سنة مؤكدة لا يعني التقليل من شأنه، بل على الإنسان المسلم أن يحرص على الوتر كل الحرص، فلا يتركه عمدًا، قال الإِمام أحمد: "من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل شهادته" (¬4). فأراد بهذا أن يبالغ في تأكيده على الوتر. 3 - وقت الوتر: اتفق الفقهاء على أن وقته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، كما اتفقوا على أن أفضل وقته هو السَّحَرُ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها- حيث قالت: "من كل الليل قد ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 300 - 303). (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب فيمن لم يوتر، برقم (1419). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (6/ 7)، رقم (23902). (¬4) المغني (2/ 594).

4 - حكم صلاة الوتر بعد طلوع الفجر

أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل" (¬2). 4 - حكم صلاة الوتر بعد طلوع الفجر: اختلف الفقهاء في ذلك؛ فذهب البعض إلى أنها تُصلى ولو بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح، وذهب آخرون إلى أنه لا تصلى بعد طلوع الفجر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوتروا قبل أن تصبحوا" (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث خارجة المتقدم: " ... فصلوها ما بين العشاء وطلوع الفجر" (¬4) وهذا هو القول الصحيح. 5 - حكم قضاء صلاة الوتر: إذا طلع الفجر ولم يوتر المسلم فالمشروع في حقه أن يصلي من الضحى وترًا مشفوعًا بركعة، فإذا كان من عادته أنه يوتر بثلاث جعلها أربعًا، وإن كان من عادته أن يوتر بخمس جعلها ستًا؛ وذلك لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (745). (¬2) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، برقم (755). (¬3) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة، برقم (754). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (6/ 7)، رقم (23902). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).

6 - عدد ركعات الوتر

6 - عدد ركعات الوتر: أولًا: أقل الوتر: أما أقل الوتر فعند المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) ركعة واحدة، ويجوز ذلك عندهم بلا كراهية، والاقتصار عليها خلاف الأولى، واستدلوا لذلك بما ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلًا قال: يا رسول الله، كيف صلاة الليل؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة" (¬4). وقال الحنفية (¬5): لا يجوز الإتيان بركعة. والصحيح من القولين هو القول الأول وهو جواز الاقتصار على ركعة في الوتر، لحديث ابن عمر. ثانيًا: أكثر الوتر: أما أكثره فعند الشافعية (¬6) والحنابلة (¬7) إحدى عشرة ركعة، وفي قول عند الشافعية ثلاث عشرة ركعة. والأولى أنه إحدى عشرة ركعة، وإن أوتر أحيانًا بثلاث عشرة ركعة، فلا بأس؛ ¬

_ (¬1) الاستذكار، لابن عبد البر (2/ 110)، المنتقى، للباجي (1/ 215). (¬2) شرح المحلى على المنهاج وحاشية القليوبي (1/ 212). (¬3) كشاف القناع (1/ 416). (¬4) أخرج البخاري، كتاب أبواب التهجد، باب كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل؟ برقم (1086)، ومسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، برقم (749). (¬5) الهداية وفتح القدير والغاية (1/ 304). (¬6) المحلى على المنهاج (1/ 212). (¬7) كشاف القناع (1/ 416).

ثالثا: أدنى الكمال للوتر

لحديث أم سلمة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث عشرة ركعة" (¬1). ثالثًا: أدنى الكمال للوتر: أدنى الكمال للوتر ثلاث ركعات، فلو اقتصر على ركعة كان خلاف الأولى، على أنه لا يكره الإتيان بها، ولو بلا عذر. 7 - صفة صلاة الوتر: لصلاة الوتر صفتان: الوصل، والفصل. أولًا: الفصل: والمراد أن يفصل المصلي بين ركعات الوتر؛ فيسلم من كل ركعتين، فإذا صلى خمسًا مثلًا صلى ثنتين ثم ثنتين ثم يسلم، ثم يصلي واحدة هكذا. ودليل هذه الصورة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الحجرة وأنا في البيت فيفصل عن الشفع والوتر بتسليم يُسْمِعُنَاهُ" (¬2). وكذا حديث عائشة -رضي الله عنها- حيثما قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء، وهي التي يدعو الناسُ العتمةَ، إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة" (¬3). ثانيًا: الوصل: وهي أن يصلى الوتر الذي هو أكثر من ركعة متصلًا لا يفصل بينها بسلام، ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين (1/ 449)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والسنن الكبرى عدد الوتر، برقم (429). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 83)، برقم (24583). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (736).

ولهذه الصورة حالات: الحالة الأولي: هي أن يوتر المصلي بثلاث ركعات، فالأفضل في حقه كما ذكرنا أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي ركعة ثم يسلم. وإن سردها من غير أن يفصل بينها بسلام ولا جلوس، جاز له ذلك. والمتعين عند الحنفية (¬1) إذا أوتر بثلاث: إذا وصلها فإنه يجلس من الثنتين للتشهد، ثم يقوم فيأتي بثالثة كهيئة صلاة المغرب، إلا أنه يقرأ في الثالثة سورة زيادة على الفاتحة خلافًا للمغرب. والصواب أنه لا يجلس في الثانية، بل عليه أن يقوم ويأتي بالثالثة دون تشهد؛ لكي لا تشبه صلاة المغرب. الحالة الثانية: أن يوتر بخمس أو سبع، فالأفضل هنا أن يسردهن سردًا، فلا يجلس في آخرهن؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" (¬2). وأيضًا لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم" (¬3). الحالة الثالثة: أن يوتر بتسع، فالأفضل أن يسلم من كل ركعتين، ويجوز أن يسرد ثمانيًا، ثم يجلس للتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 303)، حاشية ابن عابدين (1/ 445). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (737). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف الوتر بخمس، برقم (1715) وصححه الألباني.

8 - القراءة في صلاة الوتر

ويجوز في هذه الحالات الثلاث أن يسلم من كل ركعتين. الحالة الرابعة: أن يوتر بإحدى عشرة ركعة، فالأفضل أن يسرد عشرًا، يتشهد ثم يقوم ويأتي بركعة ويسلم، ويجوز أن يسردها كلها فلا يجلس ولا يتشهد إلا في آخرها. 8 - القراءة في صلاة الوتر: اتفق الفقهاء على أن المصلي يقرأ في كل ركعة من الوتر بالفاتحة وسورة، لكن السورة عندهم سنة لا يعود لها إن ركع. لكن هل هناك سور معينة يسن الإتيان بها في الوتر؟ أ- الحنفية (¬1) يقولون بعدم التوقيت في القراءة في الوتر بشيء، فما قرأ فيها فهو حسن. ب- وذهب الحنابلة (¬2) إلى أنه يندب القراءة بعد الفاتحة بالسور الثلاث، وهي: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} في الركعة الأولى، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الثانية، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الثالثة. ج- وذهب المالكية (¬3) والشافعية (¬4) إلى أنه يندب هذه السور الثلاث، غير أنه مع الإخلاص المُعَوِّذتَانِ. والصحيح من هذه الأقوال أنه تسن القراءة بما ذكر، أما الزيادة على الإخلاص بالمعوذتين فالحديث الوارد في ذلك ضعيف لا تقوم به حجة. ¬

_ (¬1) الهداية (1/ 78). (¬2) كشاف القناع (1/ 417). (¬3) شرح الزرقاني (1/ 284). (¬4) المجموع، للنووي (4/ 17، 24).

ثالثا: صلاة التراويح

ثالثًا: صلاة التراويح: 1 - سبب التسمية: سميت بذلك؛ لأن من عادتهم أنهم كانوا إذا صلوا أربعًا كانوا يجلسون قليلًا ليستريحوا، وذلك أنهم كانوا يطيلون القيام فيها فيجلسون بعد كل أربع ركعات للاستراحة. 2 - حكم صلاة التراويح: اتفق الفقهاء على أنها سنة مؤكدة، دليل ذلك: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). قال الفقهاء في معنى الحديث: اتفقوا على أن المراد في القيام هنا هو صلاة التراويح. وصلاة التراويح مما تسن له الجماعة، وهي أفضل مما لا تسن له الجماعة؛ لتأكده بسنيتها له. 3 - تاريخ مشروعية صلاة التراويح: صلاة التراويح صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بصلاته ناس، ثم إنه لما اجتمع الصحابة وكثروا في الصلاة خلفه، تركها - صلى الله عليه وسلم -؛ خشية أن تفرض على أمته. فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" وذلك في رمضان (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، برقم (38). (¬2) أخرجه البخاريُّ، كتاب أبواب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1077)، ومسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام

4 - هل ينادى لصلاة التراويح؟

ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، فكان الصحابة يصلون فُرَادَى كُلٌّ بمفرده، واستمر الأمر على ذلك إلى خلافة أبي بكر، فلما تولى عمر الخلافة ورأى الناس على هذه الحال، جمعهم على إمام واحد؛ وهو أبي بن كعب، فكانوا يصلونها جماعة. فعن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ... " (¬1). 4 - هل ينادى لصلاة التراويح؟ أ- ذهب الشافعية (¬2) إلى أنها ينادى لها بقول: الصلاة جامعة. ب- وذهب الحنابلة (¬3) إلى أنه لا ينادى على التراويح، وقالوا بأنه محدث، وهذا هو الصحيح؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة فعله من عهد خلافة عمر -رضي الله عنه- إلى من بعده. 5 - عدد ركعات التراويح: اختلفت أقوال الفقهاء في عدد ركعات التراويح: أ- فالجمهور على أنها عشرون ركعة، عدا الوتر بثلاث ركعات، فيكون المجموع ثلاثًا وعشرين ركعة، واحتجوا لذلك بما جاء عن عمر بن الخطاب ¬

_ = رمضان وهو التراويح، برقم (761). (¬1) أخرجه البخاريُّ، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، برقم (1906). (¬2) نهاية المحتاج (1/ 385 - 386). (¬3) كشاف القناع (1/ 233 - 234).

6 - ختم القرآن في صلاة التراويح

-رضي الله عنه-: "أنه جمع الناس على هذا العدد من الركعات" (¬1). قال الكاساني: "جمع عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان على أُبَيِّ ابن كعب -رضي الله عنه- ولم ينكر عليه أحد؛ فيكون إجماعًا منهم على ذلك" (¬2). ب- وذهب مالك (¬3) في إحدى الروايات عنه أنه قال بأنها ست وثلاثون ركعة، واحتج بعمل أهل المدينة في خلافة عمر بن عبد العزيز حيث كانوا يصلون بهذا العدد. وذهب مالك في رواية أخرى إلى أنها إحدى عشرة ركعة (¬4). والأمر في ذلك واسع، ولله الحمد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد في صلاة الليل شيئًا، بل لما سئل عن صلاة الليل قال: "مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلى" (¬5) فلم يحدد إحدى عشرة ركعة ولا غيرها، فدل على التوسعة في صلاة الليل في رمضان وغيره. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). 6 - ختم القرآن في صلاة التراويح: استحب الفقهاء أن يختم القرآن الكريم في صلاة التراويح؛ ليسمع الناس جميع القرآن في تلك الصلاة. هذا ما استحبه الفقهاء، وهذا الأفضل، وأن يدعو ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الصلاة، باب ما جاء في قيام رمضان، برقم (303)، والبيهقيُّ، في كتاب الصلاة، باب ما روي في عدد ركعات القيام في شهر رمضان (2/ 496). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 288). (¬3) كفاية الطالب (1/ 353)، شرح الزرقاني (1/ 284). (¬4) المرجع السابق. (¬5) أخرجه البخاريُّ، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم (946). (¬6) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 194) رقم الفتوى (3953).

7 - المسبوق في صلاة التراويح

عند ختم القرآن؛ لما رُوِي أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعاهم، وما روي عن مجاهد أنه قال: بلغنا أن الدعاء يستجاب عند ختم القرآن (¬1). لكن إذا كان في ختم القرآن مشقة على الناس وذلك بتطويل القراءة فيه، فالأفضل للإمام أن يقرأ على حسب القوم، فيقرأ قدر ما لا ينفرهم عن الجماعة؛ لأن تكثير الجماعة أفضل من تطويل القراءة. 7 - المسبوق في صلاة التراويح: من فاته بعض التراويح وقام الإِمام إلى الوتر فله أمران: إما أن يقتصر على ما أدركه مع الإِمام في التراويح ويوتر معه ويسلم، وإما أن يصلي معه الوتر، فإذا سلم الإِمام جعلها شفعًا ثم يكمل ما فاته من التراويح ثم يوتر لنفسه. ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (2/ 469)، دار الكتب العلمية.

أوقات النهى

أوقات النهى جاءت نصوص السنة ببيان بعض الأوقات التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي خمسة أوقات: الوقت الأول: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. الوقت الثاني: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح. الوقت الثالث: عند استواء الشمس حتى تميل للغروب. الوقت الرابع: بعد صلاة العصر حتى تغرب. الوقت الخامس: إذا شرعت الشمس للغروب بمغيب حاجبها حتى تغيب. أما الأدلة على ذلك فهي: حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: شهد عندي رجال مَرْضِيُّونَ، وأرضاهم عندي عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب" (¬1). وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا نبي الله، أخبرني عن الصلاة، قال: "صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، رقم (556)، ومسلمٌ، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (827).

العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار" (¬1). وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضِيفُ الشمس للغروب حتى تغرب" (¬2). فهذه الأدلة التي جاءت ببيان الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. وقد اختلف الفقهاء في هذه الاوقات: 1 - فالحنفية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) على أن الأوقات ثلاثة وهي: عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع بمقدار رمح أو رمحين، وعند استوائها في وسط السماء حتى تزول، وعند اصفرارها لا تتعب العين في رؤيتها إلى أن تغرب. 2 - أما المالكية (¬6) فقالوا بأن عدد الأوقات المنهي عن الصلاة فيها اثنان: عند طلوع الشمس، وعند اصفرارها، أما عند الاستواء فلا تكره الصلاة فيه عندهم. وحجتهم في ذلك أن هذا هو عمل أهل المدينة؛ فإنهم كانوا يصلون وقت الاستواء، وعمل أهل المدينة حجة عندهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم (832). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (831). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 246). (¬4) المهذب (4/ 164). (¬5) المغني (2/ 513 - 514). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 187).

أداء الصلوات ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

والصواب هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لورود النهي عن ذلك. وحجة المالكية بعمل أهل المدينة ليس حجة على ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مذكور في حديث عقبة بن عامر سالف الذكر. أداء الصلوات ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها: اختلف الفقهاء في جواز الصلوات ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها: 1 - فذهب الأئمة الثلاثة؛ أبو حنيفة (¬1) ومالك (¬2) وأحمدُ (¬3) في المشهور في مذهبه، إلى عدم جواز الصلاة في أوقات النهي مطلقًا، سواء كانت من ذوات الأسباب أو من غيرها. 2 - وذهب الشافعي (¬4) وهي رواية عن الإِمام أحمد (¬5) واختارها شيخ الإِسلام (¬6) رحمه الله، إلى جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي. وهذا هو الصحيح وهو اختيار الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬7)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية حيث قالت: "الراجح من أقوال العلماء أن ذوات الأسباب، كتحية المسجد وركعتي الطواف وركعتي الوضوء والصلاة على الميت، تستحب مطلقًا في أوقات النهي وغيرها، ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 295، 296، 297). (¬2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/ 187). (¬3) المغني (2/ 515 - 516). (¬4) المجموع شرح المهذب (4/ 164). (¬5) الإنصاف (4/ 253). (¬6) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 194). (¬7) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ (11/ 291)، الشرح الممتع (4/ 126).

هل النهي عن الصلاة في أوقات النهي متعلق بفعل الصلاة أم بالوقت؟

ولا حرج في تركها؛ جمعًا بين الأدلة ... " (¬1). هل النهي عن الصلاة في أوقات النهي متعلق بفعل الصلاة أم بالوقت؟ اتفق الفقهاء على أن النهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بفعل الصلاة، فمن لم يصل أبيح له التنفل وإن صلى غيره، ومن صلى العصر فليس له التنفل. أما النهي بعد الفجر فمتعلق بطلوع الفجر، وهو قول الحنفية وغيرهم، وذهب الشافعية، وهو مروي عن أحمد (¬2)، إلى أن النهي متعلق بفعل الصلاة أيضًا كالعصر، واختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3) حيث يرى أن النهي متعلق بفعل الصلاة، سواء صلاة العصر أو الصبح. والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإِسلام من أن النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر متعلق بفعل الصلاة، فمن لم يصل العصر جاز له التنفل قبل صلاته لها. حكم صلاة ركعتي الوضوء بعد صلاة العصر وركعتي تحية المسجد قبل المغرب يوم الجمعة. إن توضأ ليصلي فلا يجوز؛ لأنه تعمد الصلاة في أوقات النهي، وإن توضأ للطهارة صلى -على القول الصحيح- (¬4). إن قصد المسجد ليصلي تحية المسجد حتى يشمله الحديث؛ وهو: "إن في ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 273) رقم الفتوى (4918). (¬2) المغني (2/ 525). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 194). (¬4) الشرح الممتع (4/ 128).

الجمعة لساعةً، لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا، إلا أعطاه إياه" (¬1)، فإن فعله هذا لا يجوز، وإن قصد المسجد من أجل المتقدم لصلاة المغرب ثم لما دخل المسجد صلى ركعتين من أجل أنه دخل المسجد، فإنه لا بأس به (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، رقم (852) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) الشرح الممتع (4/ 128 - 129).

صلاة الجماعة والأحكام المتعلقة بها

صلاة الجماعة والأحكام المتعلقة بها أولًا: فضلها: جاءت نصوص السنة ببيان فضل صلاة الجماعة، فمن ذلك: 1 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الْفَذِّ بخمس وعشرين درجة" (¬1). 2 - وعن ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الْفَذِّ بسبع وعشرين درجة" (¬2). 3 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعلمُ الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التَّهْجيِر لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في الْعَتَمَةِ والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا" (¬3). 4 - عن عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله" (¬4). ومن هنا كان لا بد من إقامة الصلاة في جماعة؛ لأنها شعار الإِسلام، ولو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم (649). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الاسْتِهَام في الأذان، برقم (590). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم (656).

ثانيا: حكم صلاة الجماعة

تركها أهل مصر قوتلوا على تركهم إياها، بل لو تركها أهل حَيٍّ أو حارة فإنهم يجبرون على إقامتها. ثانيًا: حكم صلاة الجماعة: اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال: القول الأول: أنها فرض كفاية. وذهب إلى هذا القول الشافعي (¬1)، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وبه قال الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3). ذكر ذلك ابن حجر في الفتح (¬4). القول الثاني: أنها سنة مؤكدة. وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وبه قال الشوكاني (¬7). القول الثالث: أنها شرط لصحة الصلاة، وأن وجوبها على الأعيان إلا لعذر. وهذا هو قول شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬8)، وتلميذه ابن القيم (¬9)، وحكاه السبكي عن ابن خزيمة (¬10)، وهو قول الظاهرية (¬11). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 229)، فتح القدير (1/ 300)، الإيضاح (1/ 142). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 155). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 319، 320)، الشرح الصغير (1/ 152). (¬4) فتح الباري (1/ 339). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 155). (¬6) جواهر الإكليل (1/ 76)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 83). (¬7) نيل الأوطار (3/ 146). (¬8) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 333). (¬9) كتاب الصلاة، لابن القيم، في فصل: هل الجماعة شرط في صحة الصلاة أم لا؟ (¬10) طبقات الشافعية (3/ 199). (¬11) المحلى (3/ 199).

أدلة الكتاب

القول الرابع: أنها فرض عين وليست بشرط في صحة الصلاة. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)، وعليه أئمة السلف وعلماء الحديث (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وهو القول الصحيح (¬3). فمتى ترك المسلم صلاة الجماعة فإنه يأثم، وصلاته صحيحة. والأدلة على صحة هذا القول كثيرة، منها: أدلة الكتاب: 1 - قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬4). وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى أمر بوجوب صلاة الجماعة حال الخوف، ففي غيره أولى. 2 - قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬5). وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالركوع مع الراكعين، وذلك يكون في حال المشاركة في الركوع؛ فكان أمرًا بإقامة الصلاة في جماعة، ومطلق الأمر لوجوب العمل. أما أدلة السنة، فمنها: 1 - ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي ¬

_ (¬1) المقنع (1/ 193). (¬2) المصنف، لعبد الرزاق (1/ 497). (¬3) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 282) رقم الفتوى (141). (¬4) سورة النساء: 102. (¬5) سورة البقرة: 43.

نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فَيَؤُمَّ الناس، ثم أُخَالِفَ إلى رجال أُحَرِّقُ عليهم بيوتهم ... " (¬1). فالحديث ظاهر في كون الجماعة من فروض الأعيان، وليست بسنة؛ إذ لو كانت سنة -كما يقول البعض- لم يهدد تاركها بالتحريق المذكور. 2 - ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخِّص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ " فقال: نعم. قال: "فأجب" (¬2). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص للأعمى في ترك صلاة الجماعة في المسجد مع ما أبداه هذا الأعمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الأعذار، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص لهذا الأعمى في تركها، فالبصير الذي يبصر من باب أولى في عدم تركها. 3 - ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد اسْتَحْوَذَ عليهم الشيطان؛ فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القَاصيَةَ" (¬3). ويعني بالجماعة هنا: أي صلاة الجماعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم (618). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، برقم (653). (¬3) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم (547)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ذكر استحواذ الشيطان على الثلاثة إذا كانوا في بدو أو قرية ولم يجمعوا الصلاة، برقم (2101).

ثالثا: حكم صلاة الجماعة للنساء

وجه الدلالة من الحديث: أن ترك الجماعة سبب في استحواذ الشيطان عليهم، ونحن مأمورون بعداوة الشيطان وعدم استحواذه، ولو كانت الجماعة سنة لما استحوذ الشيطان على تاركها. فهذه الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على وجوبها، ولا يجوز التخلف عنها إلا لعذر؛ من مرض أو خوف ونحوه من الأعذار المبيحة لتركها، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. ثالثًا: حكم صلاة الجماعة للنساء: ما ذكرناه في وجوب الجماعة إنما هو خاص بالرجال، أما في حق النساء: 1 - فعند الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) أنه يسنّ لهن الجماعة منفردات عن الرجال، سواء أَمَّهُنَّ رجل أو امرأة. 2 - وعند الحنفية (¬3) فالجماعة للنساء مكروهة، وعللوا ذلك بحصول الفتنة؛ لأن خروجهن إلى الجماعات يؤدي إلى الفتنة. أما المالكية (¬4) فعندهم إذا كان النساء يصلين جماعة مع الرجال، فلا بأس إذا لم تكن هناك فتنة، أما كونهن يصلين فيما بينهن -أي: النساء- جماعة وتؤمهم امرأة، فلا يشرع؛ وذلك لأن شرط الإِمام أن يكون ذَكَرًا. والصواب أن الجماعة للنساء مباحة، فيباح للمرأة أن تصلي جماعة مع النساء منفردات عن الرجال، ويجوز لهن أن تَؤُمَّ إحدى النساء جماعة النساء. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 225)، المجموع، للنووي (4/ 97). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 38). (¬3) البدائع (1/ 155 - 157). (¬4) الشرح الصغير (1/ 156 - 160).

رابعا: على من تجب صلاة الجماعة؟

فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أم وَرَقَةَ أن تؤم أهل دارها (¬1)، ولقد كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرفن مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهنَّ ما يعرفهن أحد من الغلس، كما أخبرت عائشة -رضي الله عنها- (¬2). فإذا ثبت جواز إمامة الرجل بالمرأة وإمامة المرأة بالمرأة، فإن الذي ينبغي لها إذا أمها الرجل أن تكون خلفه، وإذا كانت في جماعة الرجال فإنها تكون في آخر الصفوف؛ إبعادًا للمرأة عن نظر الرجال. أما في المساجد -كما هو في عصرنا- حيث خُصِّصَ مكان للنساء فيه، فإن الأفضل لها الصف الأول كالرجال؛ حيث لا محذور يترتب على ذلك. وإذا أَمَّتْهَا المرأة؛ فإن كانت امرأة واحدة وقفت عن يمينها، وإن كُنَّ جماعة فمن أمتهن تقف وَسَطَهُنَّ؛ لأن المرأة مأمورة بالتستر، وهذا أستر لها. لكن إن كانت صلاة جهرية، هل يشرع لها أن تجهر بالقراءة؟ الصواب أنه إن كان هناك رجال من غير محارمها، فإنها لا تجهر، فإن كانوا من محارمها فلا بأس. رابعًا: على من تجب صلاة الجماعة؟ تجب صلاة الجماعة على الرجال الأحرار العقلاء القادرين عليها دون حرج، هكذا قال الفقهاء، ولبيان ذلك نقول: قولهم "الرجال": خرج منه النساء والصبيان غير الممِّيزين. وهذا بإجماع أهل العلم، فالنساء لا تلزمهن صلاة الجماعة؛ لأنهن لَسْنَ من أهل الاجتماع، ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب إمامة النساء، برقم (592). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، برقم (553)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، برقم (645).

خامسا: العدد الذي تنعقد به صلاة الجماعة

ولا يطلب منهن إظهار الشعائر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بيوتهن خير لهن" (¬1). أما الصبيان غير البالغين فلأنهم غير مأمورين بها أصلًا، فمن باب أولى أن لا تلزمهم الجماعة. وقولهم: "الأحرار": أي لا تلزم العبيد صلاة الجماعة، وعللوا ذلك لأن العبد مشغول في خدمة سيده، فكان في إيجاب الجماعة عليه حرج. وهناك قول آخر بأنها تلزمه؛ لأن النصوص عامَّة، فلم يستثن منها العبد، ولأن حق الله مقدم على حق البشر. والصواب: هو أن يقال بأنه إذا كان السيد يتضرر بصلاة العبد في جماعة، فلا تجب على العبد، أما إذا لم يكن هناك ضرر فإنها تجب عليه. وهذا هو أعدل الأقوال. قولهم: "العقلاء": أي لا تجب الجماعة على فاقد العقل بإغماء أو جنون ونحوه، كما بيَّنا ذلك في شروط الصلاة. وقولهم: "القادرون": خرج بذلك أهل الأعذار من مرض وغيره، أو يكون هناك عذر يحول بين الرجل وأداء الصلاة في جماعة، أو أن يشق عليه الصلاة في جماعة، فهنا لا تجب عليه. خامسًا: العدد الذي تنعقد به صلاة الجماعة: اتفق الفقهاء على أن أقل عدد تنعقد به الجماعة اثنان لحديث مالك بن الحويرث: "فإذا حَضَرَتِ الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليَؤُمَّكُمْ أكبركم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج أحمد (2/ 76)، برقم (5468)، أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، برقم (567). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب اثنان فما فوقهما جماعة، برقم (627)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (674). واللفظ لمسلم.

سادسا: ما تدرك به الجماعة

سواء كان الذي يصلي مع الإِمام رجلًا أم امرأة، فمن صلى إمامًا بزوجته مثلًا يحصل لهما فضل الجماعة. أما إذا كان الذي يصلي مع الإِمام صبيًّا مُميزًا، فهل تنعقد به الجماعة وتحصل فضيلة الجماعة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالحنفية (¬1) والشافعية (¬2) ورواية عن أحمد (¬3) على انعقادها به وحصول فضيلة الجماعة. 2 - وذهب المالكية (¬4) وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬5) أنها لا تحصل الجماعة ولا فضلها باقتداء الصبي في الصلاة في الفرض بخلاف النفل، فمتى صلى إمام بصبي في فرض لا يحصل له فضل الجماعة؛ فكأن الإِمام صلى منفردًا. والصحيح هو صحة الاقتداء بالصبي المميز في الفرض والنفل، ووقوع الجماعة به، وحصول الأجر المترتب على الصلاة في الجماعة (¬6). سادسًا: ما تدرك به الجماعة: اختلف الفقهاء فيما تدرك به فضيلة الجماعة: ¬

_ (¬1) البدائع (1/ 156)، حاشية ابن عابدين (1/ 372). (¬2) المجموع بشرح المهذب (1/ 100 - 104). (¬3) كشاف القناع (1/ 453 - 454)، المغني (3/ 7، 8). (¬4) الشرح الكبير مع حاشية ابن عابدين (1/ 319، 320). (¬5) المغني لابن قدامة (3/ 8). (¬6) الشرح الممتع (4/ 285).

الدخول مع الإمام وهو في التشهد الأخير

1 - فعند الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) -وهو الصحيح عند الشافعية (¬3) - أن الجماعة تدرك بإدراك جزء من الصلاة، ولو في القعْدَةِ الأخيرة قبل السلام؛ لأنه أدرك جزءًا من الصلاة. 2 - وقال المالكية (¬4) وهو قول عند الشافعية (¬5) ورواية عن أحمد (¬6): إنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة. والصحيح هو القول الثاني: أي قول المالكية أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬7) وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬8)، واختيار الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬9)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬10). الدخول مع الإِمام وهو في التشهد الأخير: إذا دخل رجل المسجد فوجد الإِمام في التشهد الأخير، هل يدخل معه، أم ينتظر جماعة أخرى ليحصل على فضيلة الجماعة؟ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 483). (¬2) حاشية بن عابدين (1/ 483). (¬3) كشاف القناع (1/ 460). (¬4) نهاية المحتاج (2/ 140). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 320). (¬6) الإنصاف 2/ 222. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة، برقم (555)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم (607). (¬8) مجموع الفتاوى (23/ 331، 332). (¬9) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (21/ 657)، الشرح الممتع (4/ 169). (¬10) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 320) برقم (7371).

سابعا: حكم إعادة الصلاة جماعة لمن صلى منفردا

اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقال بعضهم: الأفضل أن يدخل مع الإِمام ولا ينتظر أحدًا؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬1)، ويكون ثوابه بقدر ما أدركه مع الإِمام. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2)، وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز (¬3). وقال بعض العلماء: بل الأفضل أنه إذا كان يرجو وجود جماعة فلا يدخل مع الإِمام، وإن كان لا يرجو فإنه يدخل معه. وهذا هو قول الشيخ ابن العثيمين (¬4). سابعًا: حكم إعادة الصلاة جماعة لمن صلى منفردًا: 1 - من صلى منفردًا ثم وجد جماعة يصلون، فله أن يدخل معهم، ليحصل على فضيلة الجماعة، ويكون ما صلاه جماعة نافلة له. وهذا هو قول الحنفية (¬5) والحنابلة (¬6). 2 - وقال المالكية (¬7) في حكم المعادة: يفوض في الثانية أمره إلى الله -تعالى- في قبول أَيِّ الصلاتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بسكينة ووقار، برقم (610)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، برقم (602). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 321) فتوى رقم (7371). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (12/ 175). (¬4) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن عثيمين (15/ 103، 104). (¬5) الهداية مع فتح القدير (1/ 412). (¬6) المغني (2/ 522). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 320، 321).

ثامنا: حكم إعادة صلاة الجماعة لمن صلي جماعة

3 - وذهب ابن المسيب وعطاء والشعبي (¬1) إلى أن المعادة مع الجماعة تكون المكتوبة. والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬2)؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد. ثامنًا: حكم إعادة صلاة الجماعة لمن صلي جماعة: من صلى الفريضة في جماعة ثم أتى إلى مسجد آخر توجد فيه جماعة أخرى فهل يصلي معهم؟ 1 - ذهب الشافعية (¬3) في الصحيح عندهم والحنابلة (¬4) إلى استحباب فعل الصلاة مرة أخرى في الجماعة الثانية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللَّذين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" (¬5). 2 - وذهب المالكية (¬6) إلى أنه لا يعيد في جماعة أخرى؛ لأنه حصَّل فضيلة الجماعة، فلا معنى للإعادة، بخلاف المنفرد، واستثنوا من ذلك المساجد الثلاثة (الحرام، النبوي، الأقصى) فقالوا بأنه يعيد فيها جماعة؛ لفضلها. والصحيح استحباب ذلك؛ للدليل السابق. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك صاحب المغني عنهم. (¬2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ (15/ 91). (¬3) مغني المحتاج (1/ 233). (¬4) كشاف القناع (1/ 452 - 458). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 160)، برقم (17509)، وابن حبان، باب إعادة الصلاة (6/ 155)، برقم (2395). (¬6) الحطاب (2/ 84، 85).

تاسعا: حكم تكرار الجماعة في مسجد واحد

تاسعًا: حكم تكرار الجماعة في مسجد واحد: ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز ذلك. والصحيح في هذه المسألة جواز تكرار الجماعة في مسجد واحد؛ وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وَحْدَهُ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى" (¬1). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حينما فرغ من الصلاة فوجد بعض الصحابة وقد فاتته الصلاة فقال: "من يتصدق على هذا فيصلي معه" (¬2)، فقام بعض الصحابة فصلى معه. وبجواز ذلك أفتى الشيخان ابن باز وابن العثيمين (¬3)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬4). لكن هذا إذا كانت الجماعتان عارضتين، بحيث يأتي جماعة بعد انتهاء الجماعة الأولى، فإقامة الجماعة الثانية حينئذ مستحبة. أما تكرار الجماعة في وقت واحد، أو تعمد ترك الجماعة الأولى لإقامة جماعة أخرى، فهذا لا يشرع؛ لأنه دعوة إلى التفرق، ولأنه لا ينبغي أن تكون جماعتان في مسجد واحد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في باب فضل صلاة الجماعة، برقم (554)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم (518). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 45) برقم (11426)، وابن حبان (6/ 158) برقم (2399). (¬3) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (13/ 170)، مجموع مؤلفات شيخنا ابن عثيمين رحمه الله (15/ 83). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 309)، برقم (2583).

عاشرا: الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة

عاشرًا: الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة: الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة تنقسم إلى نوعين: عامة، وخاصة. أولًا: الأعذار العامة في ترك صلاة الجماعة: 1 - المطر الشديد. 2 - الريح الشديدة. 3 - البرد الشديد. 4 - الوحل الشديد. 5 - الظلمة الشديدة. دليل هذه الأعذار: من الكتاب: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1)، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). فمتى كان هناك مشقة على العبد في حضوره للجماعة، فإنه يسقط عنه الواجب، فلا تكليف إلا بمقدور. أما السنة: فمنها ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر، يقول: "ألا صلوا في رحالكم"، وفي رواية: كان يأمر مناديه في الليلة الممطرة والليلة الباردة ذات الريح، أن يقول: "ألا صلوا في رحالكم" (¬3). وعند البخاري ومسلمٌ أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال لمؤذنه في يوم الجمعة في يوم مطير: "وإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول ¬

_ (¬1) البقرة: 286. (¬2) التغابن: 16. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، برقم (606)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (697) واللفظ له.

ثانيا: الأعذار الخاصة

الله، فلا تقل حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: أتعجبون من ذا؟! قد فعل ذا من هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَةٌ، وإني كرهت أن أُحْرِجَكُمْ فتمشوا في الطين والدَّحْضِ" (¬1). قال ابن بطال: "أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك، مباح" (¬2). ثانيًا: الأعذار الخاصة: 1 - المرض: من الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة المرض، والمقصود به هو الذي يحصل به مشقة مع الحضور لصلاة الجماعة، أما المرض الخفيف كصُدَاعٍ بسيط في الرأس مثلًا، فليس بعذر. دليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). ومن الأدلة أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مرض تخلف عن الجماعة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" (¬4). ومن ذلك الأمراض المعدية والتي يخشى منها انتقال العدوى إلى الناس. ويلحق بالمريض كبير السن الذي يشق عليه الإتيان إلى المسجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر في المطر، برقم (859)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (699) واللفظ له. والدحض: الزلل. قال النووي: والدحض والزلل والزلق والرَّدْغ بفتح الراء وإسكان الدال المهملة وبالغين المعجمة، كله بمعنى واحد. شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 207). (¬2) شرح التثريب في شرح التقريب، للحافظ العراقي (2/ 217، 218). (¬3) الحج: 78. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامه، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (633)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض، برقم (418).

2 - الخوف: مما يعذر به تارك الجمعة والجماعة الخوف، والخوف المبيح لترك الجمعة والجماعة على ثلاثة أنواع: الأول: الخوف على النفس؛ كأن يخاف على نفسه عَدُوًّا، أو لِصًّا، أو سَبْعًا، أو دابة، أو سيلًا، ونحو ذلك، فهنا يشرع له ترك الجماعة. الثاني: الخوف على المال من ظالم أو لص، أو يخاف أن يسرق منزله، أو يحرق، أو يكون له خبز في تَنُّورٍ، أو طبخ على نار. فيخاف على ذلك ونحوه، فهنا يعذر بتركه للجمعة والجماعة. الثالث: الخوف على الأهل؛ كأن يخاف على والديه أو ولده إن كان يقوم بتمريضهما، وكذلك إن كان يقوم بتمريض رجل أجنبي لم يكن له من يقوم بتمريضه، وكان يخشى عليه الضياع لو تركه. دليل أن الخوف عذر في ترك الجماعة: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1). وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر" (¬4) وهذا معذور بلا شك. ¬

_ (¬1) التغابن: 16. (¬2) البقرة: 286. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنة رسول الله، برقم (6857)، ومسلمٌ، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337). (¬4) أخرجه ابن ماجه، في كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم (793) وصححه الألباني.

ولأن مع الخوف يحصل انشغال القلب بما يخاف منه أو عليه. وهذا منافٍ للمقصود الأعظم الذي من أجله شرعت الصلاة؛ وهو سكون القلب وخشوعه بين يدي خالقه -سبحانه وتعالى-. 3 - حضور طعام محتاج إليه: متى حضر الطعام وهو محتاج إليه فهنا يجوز له ترك الجماعة، بل المستحب له أن يبدأ به قبل الصلاة؛ ليكون أفرغ لقلبه وأحضر لباله. دليل ذلك: حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬1). وفي لفظ آخر عن أنس -رضي الله عنه-: "إذا قرب العَشَاء وحضرت الصلاة فَابْدَؤُوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عَشَائكم" (¬2). ولا فرق بين أن يخاف فوات الجماعة أو لا يخاف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -رضي الله عنه-: "إذا قرب العَشَاء وحضرت الصلاة فَابْدَؤُوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تَعْجَلُوا عن عَشائكم" (2). وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا وضع عَشَاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعَشَاء ولا يعجلن حتى يفرغ منه" (¬3). 4 - مدافعة الأخبثين: هذا عذر آخر في ترك صلاة الجماعة، دليل ذلك: حديث عائشة المتقدم: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (560). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (557). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (559). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (560).

والنفي هنا بمعنى النهي، أي: لا تصلوا وأنتم في حال مدافعة الأخبثين. ولأن مدافعة الأخبثين تقتضي انشغال القلب عن الصلاة، وهذا خلل في نفس العبادة. ولأن في انحباس الأخبثين ضررًا على الإنسان، فإنه يضر البدن ضررًا بينًا، والشريعة أمرت بالمحافظة على النفس مما يضرها. 5 - أكل مَا لَهُ رائحة كريهة: من أكل بَصَلًا أو كُرَّاثًا أو ثُومًا أو فُجْلًا ونحو ذلك مما له رائحة كريهة، فإنه يعذر بترك الجماعة. دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته" (¬1). وفي رواية: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم" (¬2). وهذا الذي أكل هذه الأشياء لا نقول بأنه معذور أمام الله إذا كان يتعمد ذلك ويكرره ولم يكن مصادفة، فلا يعذر بتخلفه عن صلاة الجماعة؛ لأنه يمكنه أن يأكل هذه الأشياء مطبوخة، أو يأكلها في غير أوقات الصلاة، فتركه للجمعة والجماعة دفعًا لأذيته للملائكة والمصلين. أما إذا كان يتناول هذه الأشياء من أجل العلاج لمرض أصابه، وكان ممّن يحافظ على الصلوات في جماعة، فلا شك أنه من أهل الأعذار، ويحصل له أجر الجماعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع السجود، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا، برقم (564). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع السجود، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا، برقم (564). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم (2834).

سؤال: هل يلحق بمن يأكل هذه الأشياء شارب الدُّخَان؟ الجواب: نعم، يلحق بهم؛ لأن رائحة الدخان أَنْتَنُ وأكره مما ذُكر، فلا يحل لشارب الدخان أن يؤذي غيره. حكم من أكل هذه الأشياء المذكورة: (البصل، الثوم، الكراث): إن أكلها بقصد التخلف عن صلاة الجماعة فهذا حرام، ويأثم بتركه الجماعة. وإن أكلها بقصد التمتع وأنه يشتهيه، فليس بحرام. 6 - أن يكون على سفر ويخاف فوات الرفقة: من تأهب لسفر مباح مع رفقة ثم أقيمت الجماعة وكان يخشى أنه إذا صلى فاتته الرفقة، فله التخلف عن الجماعة. وهذا عذر من وجهين: الأول: فوات المقصود من الرفقة إذا انتظر الصلاة مع الجماعة. الثاني: انشغال القلب بالرفقة. 7 - غلبة النوم: من غلبه النوم ودافعه فلم يستطع، فله أن يتخلف عن الجماعة؛ ليأخذ قسطًا منه، ثم يصلي حتى يَفْقَهَ صلاته ويعلم ما يقوله فيها؛ فلعله إذا غلبه النعاس أو النوم يذهب ليدعو فيدعو على نفسه، ولهذا فالأولى له أن ينام قليلًا ثم يصلي، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، برقم (681). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، برقم (209)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته، برقم (786).

8 - تطويل الإِمام بالصلاة: إذا أطال الإِمام الصلاة فللمأموم أن ينصرف عنه ويصلي منفردًا، بشرط أن تكون هذه الإطالة خارجة عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما إذا كانت موافقة للسنة فليس له الخروج. دليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: "إن منكم مُنَفِّرِينَ، فأيكم ما صلى بالناس فَلْيَتَجَوَّزْ" (¬1). فائدة: هذه الأعذار كلها ليست عذرًا في إخراج الصلاة عن وقتها، بل على الإنسان أن يصليها في الوقت على أي حال كان. لكن من كان مريضًا مرضًا لا يستطيع معه أداء كل فرض في وقته، فله أن يجمع بين الظهر والعصر، وكذا المغرب والعشاء، وألحق بعض أهل العلم مدافعة الأخبثين؛ لما يكون منهما من ضرر على الإنسان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإِمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، برقم (670).

أحكام الإمامة

أحكام الإمامة أولًا: شروط الإمامة: يشترط للإمامة ما يلي: 1 - الإسلام: فلا تصح الصلاة خلف الكافر، سواء كان كفره بالاعتقاد، أو بالقول، أو بالفعل، أو بالترك. فالاعتقاد: كأن يعتقد أن مع الله إلهًا آخر، فهذا لا تصح إمامته. أما القول: فكأن يسب دين الله، أو يسب الله، وكذا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا تصح إمامته، وكذا من يَسْتَهْزِئُ بالله أو برسوله - صلى الله عليه وسلم - أو دينه، فهذا كافر ولو كان يصلي، وكذا من يستغيث بغير الله أو يدعوه من دون الله، فهؤلاء لا تصح إمامتهم. أما الفعل: فمثل أن يسجد لمن سوى الله، أو يذبح لغير الله، أو يتعامل بالسحر، ونحو ذلك من الأفعال المكفرة. أما الترك: فمثل من يترك الصلاة، فهذا لا تصح الصلاة خلفه؛ لأنه لا يصير مسلمًا إلا إذا صلى، وهو حين تكبيره للإحرام كافر؛ لأنه لا يُسْلِم إلا إذا صلى. حكم إمامة الفاسق: الفاسق الذي يأتي بعض الكبائر كالشارب للخمر، أو الزاني، أو آكل الربا، أو الذي يداوم على الصغائر، اختلف الفقهاء في حكم إمامته:

1 - فالمذهب عند الحنابلة (¬1) وهو قول عند المالكية (¬2) أنه لا تجوز إمامة الفاسق. 2 - أما الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4) وقول عند المالكية هو المعتمد (¬5)، ورواية عند الحنابلة، فقالوا: تجوز إمامته، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6)، وهو الصحيح، وذلك للأدلة الآتية: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" (¬7). * قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأَئِمَّةِ الجَوَرَةِ: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم" (¬8). * أن الصحابة -رضي الله عنهم - كانوا يصلون خلف الحجاج ومعروف من هو الحجاج بن يوسف، فلو كانت الصلاة خلفه لا تجوز ما صلى خلفه أحد من الصحابة. * ولأن كل من صحت صلاته لنفسه، صحت صلاته لغيره. والأولى للإنسان أنه متى تمكن أن لا يصلي خلف الإِمام الفاسق، فالأولى أن لا يصلي خلفه إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة، وإن صلى خلف الفاسق جاز له ذلك، لكنه خلاف الأولى. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 475)، المغني (3/ 17 - 18). (¬2) جواهر الإكليل (1/ 78). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 376). (¬4) قليوبي وعميرة (3/ 227). (¬5) بلغة السالك (1/ 274). (¬6) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 371) برقم (5417). (¬7) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673). (¬8) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا لم يتم الإِمام وأتم من خلفه، برقم (662).

2 - العقل

2 - العقل: من شروط الإمامة أن يكون الإِمام عاقلًا؛ فلا تصح إمامة السكران ولا المجنون؛ وذلك لأن صلاتهم لأنفسهم غير صحيحة، فلا تصح صلاتهم لغيرهم، لكن من كان يُجَنُّ أحيانًا ويُفيقُ أحيانًا، فقد اختلف فيه الفقهاء، والأولى أن لا يكون إمامًا. 3 - البلوغ: اختلف الفقهاء في ذلك: أ- ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يشترط في الإمامة كون الإِمام بالغًا؛ فلا تصح إمامة المميز بالبالغ في الفرض، أما النفل فالمالكية (¬1)، والحنابلة (¬2) على جوازها فيه، وخالف الأحناف (¬3) فقالوا: لا تصح مطلقًا. ب- أما الشافعية (¬4) فأجازوا إمامة المميز بالبالغ مطلقًا، سواء كانت في الفرض أو النفل، واحتجوا لذلك بما رواه البخاري في صحيحه: عن عمرو بن سلمة الجُرْمِيِّ أنه كان يؤم قومه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست أو سبع سنين (¬5). والصحيح من القولين: ما ذهب إليه الشافعية؛ وهو صحة صلاة الصبي مطلقًا، بشرط أن يعقل صلاته ويؤديها على الوجه المطلوب شرعًا؛ لما استدل به أصحاب هذا القول من حديث عمرو بن سلمة، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 78). (¬2) كشاف القناع (1/ 480). (¬3) فتح القدير (1/ 320 - 321). (¬4) نهاية المحتاج (2/ 168). (¬5) رواه البخاري كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، برقم (4051).

4 - الذكورة

للبحوث العلمية في السعودية (¬1). 4 - الذكورة: يشترط في الإمامة أن يكون الإِمام ذكرًا، فلا تصح إمامة المرأة، وكذا الخنثى للرجال، هذا باتفاق الأئمة الأربعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم وَلَّوْا أمرهم امرأة" (¬2). وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف النساء آخرها" (¬3)، وهذا دليل على أنه لا موقع لهن في الأَمَامِ، والإِمَامُ لا يكون إلا في الأَمام، ولحصول الفتنة المترتبة على تقدمهنَّ على الرجال. أما الخنثى: فلا تصح أيضًا صلاة الرجل خلف الخنثى، والخنثى هو الذي لا يُعرف أذكرٌ هو أم أنثى، وكذلك لا تصح إمامة الخنثى لمثله بلا خلاف؛ لاحتمال أن يكون رجلًا، أما إمامته للنساء فتصح. 5 - القدرة على النطق بالقراءة: يشترط في الإِمام أن يكون قادرًا على القراءة؛ فلا تصح إمامة الأخرس إلا بمثله؛ لأنه لا يستطيع النطق بالركن وهو الفاتحة، ولا بالواجبات كالتشهد، ولا بما تنعقد به الصلاة وهو تكبيرة الإحرام. 6 - السلامة من الأعذار: اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 389) برقم (4285). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب كتاب النبي إلى كِسْرَى وقَيْصَرَ، برقم (4163). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم (440).

7 - نية الإمامة

أ- ذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2) وهو رواية عند الشافعية (¬3) إلى أنه يشترط أن يكون سالمًا من الأعذار، كسَلَسِ بول وانفلات ريح ونحوه. ب- وذهب المالكية (¬4) إلى أن لا يشترط ذلك في الإِمام، وعللوا لذلك بأن هذه الأعذار عفي عنها في حق صاحبها، فيعفى عنها في حق غيره. والصحيح من القولين: ما ذهب إليه المالكية من صحة إمامته، لكن الأولى أن لا يكون إمامًا راتبًا ولا يتقدم للإمامة، خروجًا من الخلاف في ذلك. 7 - نية الإمامة: أ- ذهب الحنابلة (¬5) إلى أنه يشترط للإمامة نية الإمامة؛ لأن من شروط صحة الجماعة أن ينوي الإِمام الإمامة، وأن ينوي المأموم أنه مأموم. وقالوا أيضًا: إنه من أحرم منفردًا ثم جاء آخر فصلى معه فنوى إمامته، صح. ب- وأما المالكية (¬6) والشافعية (¬7) فيرون أن النية للإمامة مستحب وليس بشرط إلا في الجمعة والصلاة المعادة والمنذورة عند الشافعية. والصحيح: هو ما ذهب إليه الحنابلة من اشتراط النية في الإمامة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات" (¬8). ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 314). (¬2) كشاف القناع (1/ 376). (¬3) مغني المحتاج (1/ 241). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 330). (¬5) المغني، لابن قدامة (3/ 72). (¬6) بغية السالك (1/ 451). (¬7) نهاية المحتاج (2/ 204 - 205). (¬8) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي، برقم (1).

ثانيا: الأحق بالإمامة

وهذا هو ما ذهب إليه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- (¬1). ثانيًا: الأحق بالإمامة: جاءت السنة ببيان الأحق بالإمامة؛ فقد روى مسلم عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم اقوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا، ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكْرِمَتِهِ إلا بإذنه" (¬2). واختلفت آراء الفقهاء في بيان فقه هذا الحديث: 1 - فالحنفية (¬3) والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5) على أن الأعلم بأحكام الفقه أولى بالإمامة من الأقرأ، واحتجوا لذلك بحديث: "مُروا أبا بكر فليصل بالناس" (¬6). قالوا بأن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يكن أقرأ الصحابة، بل ثَمَّةَ من هو أقرأ منه. وقالوا أيضًا بأن الحاجة للفقه أهم منها إلى القراءة. 2 - وذهب الحنابلة (¬7) إلى أن الأقرأ مقدم على من هو أعلم منه، واحتجوا لذلك بمنطوق حديث أبي مسعود المتقدم، وبقوله فيه: "فإن كانوا في القراءة سواء ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (12/ 149). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673). (¬3) فتح القدير (1/ 301، 304)، بدائع الصنائع (1/ 157). (¬4) جواهر الإكليل (1/ 83). (¬5) نهاية المحتاج (2/ 175 - 179). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (633)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإِمام، برقم (418). (¬7) كشاف القناع (1/ 473).

1 - إمام المسجد الراتب

فأعلمهم بالسنة"؛ حيث فاضل بينهم بالعلم بالسنة مع تساويهم في القراءة. وقالوا أيضًا: بأن القراءة ركن لا بد منه، والحاجة للعلم في الصلاة أمر عارض قد يحتاج إليه وقد لا يحتاج. فهذا جانب من جوانب اختلافهم في الأحق بالإمامة، ونظرًا لطول الخلاف في هذه المسألة نقول: الصحيح في الأحق بالإمامة هو: القارئ لكتاب الله، أي (الأكثر حفظًا، وقيل: هو الذي يجيد القراءة) العارف بفقه صلاته وما يلزم فيها من شروطها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها، بحيث لو طرأ عليه عارض في صلاته من سهو وغيره، تمكن من تطبيقه وفق الأحكام الشرعية. فإن كانوا فيما تقدم سواء، قُدم الأكثر فقهًا في دين الله، وهو بلا شك العالم بالسنة فقهًا وأحكامًا. فإن استووا في الفقه والقراءة، قُدم الأقدم هجرة. فإن استووا في ذلك كله، قُدم الأسبق إسلامًا. فإن استووا في ذلك قُدم الأكبر سنًا؛ لحديث مالك بن الحويرث: "وليؤمكم أكبركم" (¬1). ويستثنى مما ذكر ما يلي: 1 - إمام المسجد الراتب: الإِمام الراتب أحق بالإمامة من غيره وإن كان غيره أقرأ أو أفقه منه؛ لقوله ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم، برقم (602).

2 - صاحب البيت

- صلى الله عليه وسلم -: "لايؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه" (¬1). 2 - صاحب البيت: إذا كان صاحب البيت ممّن تصح إمامته فإنه أحق بالإمامة من غيره؛ لحديث أبي مسعود البدري، وفيه: "ولا يُؤَمُّ الرجل في بيته ولا في سلطانه، ولا يجلس على تَكْرِمَتِهِ إلا بإذنه" (¬2)، فمتى أذن صاحب البيت جاز لغيره الإمامة، وإلا فلا. 3 - السلطان: وهو الإِمام الأعظم أو نائبه، فلا يتقدم عليه أحد في الإمامة إلا بإذنه؛ للحديث المتقدم. ثالثًا: حكم اختلاف نية المأموم عن نية الإمام: إذا كانت نية الإِمام تختلف عن نية المأموم كأن تكون صلاة الإِمام العصر مثلًا، والمأموم الظهر، أو تكون صلاة الإِمام نافلة وصلاة المأموم فريضة -فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين-: القول الاول: أنه لا يجوز اختلاف نية الإِمام عن نية المأموم، وبهذا قال الجمهور من الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) والحنابلة (¬5)، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬6)، فقالوا بأن في اختلاف النية اختلافَ القلوب. ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (582)، وصححه الألباني. (¬3) فتح القدير (1/ 324). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 329). (¬5) كشاف القناع (1/ 484)، المغني (3/ 67، 68). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم (689).

واحتجوا أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِمام ضامن" (¬1)، أي ضامن لصلاة المأموم التي يؤديها، ومن هنا قالوا بعدم الجواز. القول الثاني: وهو قول الشافعية (¬2)، وهو رواية عند الحنابلة (¬3)، أنه يجوز إمامة المفترض بالمتنفل والعكس، وأنه يجوز اختلاف نية الفرض بين الإِمام والمأموم، لكن بشرط أن تتناظم صلاة الإِمام مع المأموم، فإن اختلفت الكيفية بين صلاة الإِمام والمأموم، لا يصح، كأن تكون صلاة الإِمام صلاة كسوف مثلًا، والمأموم يصلي فريضة، أو تكون صلاة الإِمام جنازة فهنا لا تصح المتابعة. وبها أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬4). ودليل ذلك فعل معاذ -رضي الله عنه- كما جاء في الصحيحين: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كان معاذ يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يأتي مسجد قومه فيصلي بهم" (¬5). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من يتصدق على هذا" (¬6) فصلى معه بعض الصحابة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، برقم (517)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء أن الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن، برقم (207) وصححه الألباني. (¬2) جواهر الإكليل (1/ 76). (¬3) المغني (3/ 68). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 398) برقم (296). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى ثم أَمَّ قومًا، برقم (679)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (465). (¬6) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (3/ 45)، رقم (11426)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في الجمع في المسجد مرتين، برقم (574) واللفظ لأحمد من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

رابعا: إمامة المقيم بالمسافر والعكس

رابعًا: إمامة المقيم بالمسافر والعكس: يجوز إمامة المقيم بالمسافر والعكس باتفاق الفقهاء، لكن إذا أتم المقيم لزم المسافر الإتمام معه، وكذلك يجوز إمامة المسافر بالمقيم، ويستحب أن ينبه المأمومين قبل الصلاة ويقول لهم: أتموا صلاتكم فإني على سفر، أو مسافر، فإذا سلم الإِمام قام المأموم المقيم فكمل صلاته. خامسًا: إمامة من يخالف في الفروع: إذا كان الإِمام يخالف المأموم في بعض الفروع، كأن يرى الإِمام أن أكل لحم الجزور غير ناقض للوضوء، والمأموم يرى أنه ناقض، فهنا تصح إمامته؛ لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين لم يزل بعضهم يقتدي ببعض مع اختلافهم في الفروع؛ لما في ذلك من وَحْدَةِ الصف وقوة المسلمين، ولأن الجماعة واجبة فتقدم على أمرٍ مختلَفٍ فيه.

صلاة أهل الأعذار

صلاة أهل الأعذار الأعذار جمع عذر، والمراد بها هنا المرض والسفر والخوف، فهذه هي الأعذار التي تختلف بها الصلاة عند وجودها. واختلاف الصلاة هنا هو اختلاف هيئة وعدد مأخوذ من القاعدة العامة، وهي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2)، وقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3). ومن القواعد المعروفة عند الفقهاء: "أن المشقة تجلب التيسير". أولًا: أحكام صلاة المريض: المريض هو الذي اعتلت صحته، سواء كانت هذه العلة في جزء من بدنه أو في جميع بدنه، فمن اشتكى عينه أو أُصْبُعَه فهو مريض، ومن أخذته الحمى فهو مريض. صفة صلاة المريض: 1 - يجب على المريض أن يتطهر بالماء لرفع الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن الطهارة شرط للصلاة، فإن لم يستطع تيمم. 2 - يجب على المريض أن يطهر ثوبه وبدنه من النجاسات، فإن عجز صلى على حاله، وصلاته صحيحة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) سورة الحج: 78. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الله، برقم (6858)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).

3 - يجب على المريض أن يصلي على شيء طاهر، فإن عجز صلى على ما هو عليه، وصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه. 4 - ويلزم المريض أن يصلي الفريضة قائمًا، ولو منحنيًا، ولا بأس إن اعتمد على عصًا أو جدار، فإن عجز عن القيام أو كان في قيامه مشقة ظاهرة أو تأخُّر بُرْءٍ أو زيادة مرض، صلى قاعدًا بأن يجلس متربعًا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي متربعًا" (¬1). وله أن يجلس كجلوس التشهد، وله أن يجلس على الهيئة التي تسهل عليه، ولا ينقص ذلك من ثوابه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا" (¬2) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن الحصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬3). 5 - فإن عجز المريض عن القعود أو كان فيه مشقة ظاهرة، صلى على جنبه متجهًا إلى القبلة. لكن على أي الجنبين يصلي؟ المذهب عند المالكية (¬4) والحنابلة (¬5) أن الأفضل أن يصلي على الجنب الأيمن ثم الأيسر. والصواب: أن الأفضل في حق المريض أن يفعل ما هو أيسر له، فإن كان الأيسر أن يكون على جنبه الأيسر فهو أفضل، وإن كان العكس فهو أفضل. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة القاعد، برقم (1363) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة، برقم (2834). (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، برقم (1066). (¬4) بداية المجتهد (1/ 192). (¬5) المغني (2/ 574).

لكن إن تساوى عنده الأمران كان الأيمن هو الأفضل؛ لعموم قول عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمُّن في تَنَعُّلِه وترجُّله وطَهوره وشأنه كله" (¬1). 6 - فإن عجز المريض عن استقبال القبلة أو لم يجد من يحوله إليها، فإنه يصلي على حسب حاله، فيصلي إلى أي جهة تسهل عليه. 7 - فإن عجز المريض أن يصلي على جنبه قال بعض أهل العلم: يصلي مستلقيًا على قفاه ورجلاه إلى القبلة. 8 - فإن عجز عن الركوع والسجود أَوْمَأَ بالركوع والسجود برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع. 9 - فإن عجز عن أن يومىء بالرأس لركوعه وسجوده، فقد قال الجمهور بأنه يومىء بما يستطيع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) فمتى عجز عن الإيماء بالرأس قالو: يومىء بالعين. وقد اختلف الفقهاء عند العجز عن الإيماء بالرأس مع إمكان أداء الأقوال في الصلاة إلى قولين: الأول: إذا عجز عن الإيماء بالرأس يومىء بعينه. وهذا هو قول الجمهور. الثاني: أنه تسقط عنه الأفعال دون الأقوال. وهذا قول شيخ الإِسلام ابن تيمية وقول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم (166). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الله، برقم (6858)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337). (¬3) الشرح الممتع (4/ 332)، مجموع مؤلفات سماحة الشيخ (12/ 243).

والراجح من هذه الأقوال أن من عجز عن الإيماء بالرأس كفاه النية والقول، ولا يومىء بعينه ولا بأصبعه ولا بغيره. 10 - إن استطاع المريض أن يصلي قائمًا وعجز عن الركوع والسجود، لزمه أن يصلي قائمًا وأومأ بالركوع، ثم يجلس ويومىء بالسجود. ولا بأس أن يجعل له وِسادة ليسجد عليها، ويجعل الوسادة منخفضة قدر طاقته (¬1). فإن كان الظهر مقوسًا رفع المصلي قدر طاقته حال القيام وينحني عند الركوع قليلًا، فإن قدر على الركوع دون السجود ركع عند الركوع وأومأ بالسجود، وإن قدر على السجود دون الركوع سجد عند السجود وأومأ بالركوع. 11 - إن صلى المريض قاعدًا وأمكنه السجود على الأرض، لزمه ذلك، ولا يكفيه الإيماء، لكن إن عجز عن السجود على الجبهة فقط لكن يقدر باليدين وبالركبتين، فنقول: يضع يديه على الأرض ويدنو من الأرض بقدر استطاعته؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). 12 - إذا بدأ المسلم صلاته قائمًا وعجز في أثنائها، أتم صلاته على حسب طاقته، فإن أحس بنشاط في أثنائها لزمه القيام؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3). 13 - من كان في ماء وطين ولا يمكنه السجود بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء والصلاة على دابته؛ لما رواه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: كان رسول ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (1/ 446)، الإنصاف، للمرداوي (2/ 308). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) سورة التغابن: 16.

ثانيا: صلاة الخوف

الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: "ألا صلوا في الرحال" (¬1). وروى يعلي بن مرة -رضي الله عنه-: "أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سير فانتهوا إلى مضيق وحضرت الصلاة فمطروا؛ السماء من فوقهم، والبِلَّةُ من أسفل منهم، فأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على راحلته وأقام، فتقدم على راحلته يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع" (¬2). 14 - لا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها ما لم يشق عليه، فإن شق عليه جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير على ما يتيسر له، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3). ثانيًا: صلاة الخوف: حكمها: ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية صلاة الخوف في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته. دليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، برقم (635)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (697). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر، برقم (411). (¬3) سورة البقرة: 185.

أنواع الخوف الذي تشرع له صلاة الخوف

وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (¬1). فهذه الآية جاءت ببيان مشروعية هذه الصلاة وبيان إحدى صفاتها. أما السنة فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سنته القولية وكذا من سنته الفعلية؛ أما القولية فهي من مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). وأما الفعلية فقد صلاها - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه معه كما جاءت نصوص السنة بذلك. لكن ذهب أبو يوسف (¬3) من الحنفية إلى أنها مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واحتج بالآية على أن المخاطب بها هو - صلى الله عليه وسلم -. والصحيح أنها مشروعة له ولأمته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب له ولأمته ما لم يقم دليل على التخصيص، وتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لا يقتضي تخصيصه بالحكم. بل لم يقل أحد من صحابته - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة الخوف مختصة به - صلى الله عليه وسلم -. أنواع الخوف الذي تشرع له صلاة الخوف: الخوف من العدو، أي عدو كان آدميًا أو سَبْعًا، مثل أن يكون في الأرض سِبَاعٌ يخاف على نفسه منها، فليس بشرط أن يكون العدو بني آدم بل أي عدو كان يخاف الإنسان على نفسه منه. كيفية صلاة الخوف: لصلاة الخوف كيفيات متعددة منها: ¬

_ (¬1) سورة النساء: 102. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة، برقم (605). (¬3) المبسوط (2/ 384)، والعناية شرح الهداية (2/ 456).

1 - إذا كان العدو في غير جهة القبلة والإمام يصلي الثنائية، في هذه الحالة يقسم قائد الجيش جيشه إلى طائفتين؛ طائفة تصلي معه، وأخرى أمام العدو؛ لئلا يهجم، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا كانت الركعة الثانية نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم وسلموا، ثم يذهبون ويقفون مكان الطائفة الثانية أمام العدو والإمام لا يزال قائمًا، وتأتي الطائفة الثانية، وتدخل مع الإِمام في الركعة الثانية، ويطيل الإِمام في الركعة الثانية أكثر من الأولى، فيصلي بهم الركعة التي بقيت ثم يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد وقبل أن يسلم تقوم الطائفة الثانية من السجود وتكمل الركعة التي بقيت وتدرك الإِمام في التشهد فيسلم بهم. وهذه الصفة هي الموافقة لظاهر القرآن، وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرِّقاع، فقد روى البخاري ومسلمٌ عن صالح بن خوَّات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفت معه وطائفة وجَاهَ العدو، فصلى بالذي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفوا وِجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم" (¬1). وهناك كيفية أخرى في هذه الحالة وهي: أن يصلي الإِمام بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم ينصرفون ويقومون مقام أصحابهم مقبلين على العدو، ثم تأتي، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، ثم يتمون لأنفسهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتقضي الركعة الثانية. ودليل هذه الصفة ما رواه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صلى رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع؛ وهي غزوة محُارِب خَصَفَةَ من بني ثعلبة من غَطَفَانَ فنزل نخلا وهي بعدَ خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، برقم (3900)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (842).

- صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة" (¬1). وللإمام أيضًا هنا أمر آخر وهو: أن يجعل الجيش طائفتين؛ طائفة مواجهة للعدو، وطائفة يصلي بهم جميع الصلاة، ركعتين كانت أم ثلاثًا أم أربعًا، فإذا سلم بهم ذهبوا مكان الطائفة المواجهة للعدو، فتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم تلك الصلاة مرة ثانية، وتكون له نافلة ولهم فريضة. وهذه الصفة صلاها - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل، فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالقوم الآخرين ركعتين ثم سلم، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعًا" (¬2). وهذه الصفة ليست بمشروعة عند من قال بعدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وقد ذكرنا ذلك سابقًا وبيَّنا جواز ذلك، ومن هنا كانت هذه الصفة صحيحة. 2 - الحالة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فهنا يقوم الإِمام بترتيبهم صفين فيُحرِم بالجميع فيصلون معًا، فيقرأ ويركع ويعتدل بهم جميعًا، ثم يسجد بأحدهما، أي بأحد الصفين، ويحرس الصف الأول حتى يقوم الإِمام من سجوده، فإذا قام سجد الصف الآخر ويلحقون الإِمام في قيامه، ويفعل ذلك في الركعة الثانية، غير أن الصف الذي سجد معه هو الذي يحرس فيها، فإن جلس الإِمام ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (839). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الصلاة الأول، عدد صلاة الخوف وذكر الاختلاف فيه، برقم (516)، وصححه الألباني.

للتشهد هو والصف الذي معه، سجد الصف الثاني ولحق الإِمام في التشهد، فيتشهد ويسلم بهم جميعًا. ودليل هذه الصفة ما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصَفَّنا صَفَّيْنِ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا" (¬1). 3 - الحالة الثالثة: أن يصلي الإِمام بكل طائفة ركعتين، فتكون منه الصلاة أربعًا بلا تسليم وللقوم ركعتان، فقد روى مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: "أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بذات الرقاع قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان" (¬2). 4 - الحالة الرابعة: حال شدة خوف: إذا اشتد الخوف بحيث لا يتمكنون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (840). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خَصَفَةَ من بني ثعلبة من غَطَفَانَ فنزل نخلا وهي بعد خيبر لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، برقم (3906)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (843) واللفظ لمسلم.

كيفية صلاة المغرب عند الخوف

من الصلاة على الصفات المذكورة آنفًا، صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. فإن عجزوا عن الإتيان بالركوع والسجود أومئوا بهما وأتوا بالسجود أخفض من الركوع. لكن هل يجوز القتال في الصلاة في هذه الحالة؟ قولان للفقهاء؛ فالجمهور على أنه يجوز القتال في هذه الحالة الشديدة ويعفى عما فيها من الحركات وضربات وطعنات والإمساك بسلاح ملطخ بالدم. والحنفية (¬1) اشترطوا في هذه الحالة عدم القتال، فإن قاتل فسدت صلاته. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. كيفية صلاة المغرب عند الخوف: ذكر ابن حجر (¬2) -رحمه الله- أنه: لم يقع شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض كيفية صلاة المغرب، لكن ذكر بعض أهل العلم أن الإِمام يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وتتم لأنفسها ركعة تقرأ فيها بالحمد لله وبالثانية ركعة وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد وسورة. ثالثًا: صلاة السفر: الأحكام المتعلقة بصلاة السفر قصر الصلاة الرباعية: من الأحكام المتعقلة بالصلاة حال السفر قصر الصلاة الرباعية، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 244). (¬2) ذكر ذلك الحافظ جلال الدين السيوطي في شرح سنن النسائي (3/ 168 - 169).

أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1). وقصر الصلاة هنا ليس مقصورًا على الخوف، بدليل ما رواه مسلم عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أرأيت إقصار الصلاة وإنما قال -عَزَّ وجَلَّ-: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد ذهب ذلك اليوم؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر" (¬3). وعنها أيضًا: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين، إلا المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الفجر؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاة الأولى" (¬4) أي: التي فرضت بمكة. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك -رضي الله عنهم- (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 101. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (686). (¬3) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه وخرج علي -عليه السلام- فقصر وهو يرى البيوت؛ فلما رجع قيل له: هذه الكوفة؟ قال: لا، حتى ندخلها، برقم (1040)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (6/ 241)، رقم (26084)، والبيهقيُّ في جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب إتمام المغرب في السفر والحضر وأن لا قصر فيها، برقم (5228) واللفظ لأحمد. (¬5) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، برقم (1051).

حكم قصر الصلاة في السفر

حكم قصر الصلاة في السفر اختلف الفقهاء في حكم قصر الصلاة في السفر مع اتفاقهم على مشروعيته: 1 - فالشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) على أن القصر جائز؛ تخفيفًا على المسافر، لما يلحقه من مشقة السفر غالبًا، ولأنه هذا هو هديه - صلى الله عليه وسلم - حال سفره، فقد كان يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين. 2 - المشهور عند المالكية (¬3) أن القصر سنة مؤكدة. 3 - وقال الحنفية (¬4): قصر الصلاة في السفر فرض، فليس للمسافر أن يتم ذوات الأربع، واحتجوا لذلك بقول عائشة -رضي الله عنها-: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فَأُقِرَّتْ صلاة السفر وزيدَ في صلاة الحضر" (¬5). وهناك أقوال أخرى، لكن ما ذكرناه هو أشهرها. والصواب أن قصر الصلاة الرباعية في السفر سنة، لكن هل يأثم من أتم في سفره؟ الجواب عند من قال بالوجوب: يأثم ومن قال إنه سنة فلا يأثم؛ لأن القاعدة الشرعية: أنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه. وهذا هو الراجح. لكن هناك سؤال آخر وهو: أيهما أفضل الإتمام في السفر أم القصر؟ ¬

_ (¬1) المجموع (4/ 219)، روضة الطالبين (1/ 380)، مغني المحتاج (1/ 262). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 125 - 126). (¬3) بداية المجتهد (1/ 161)، الشرح الكبير، للدردير (1/ 358). (¬4) فتح القدير (1/ 395). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685).

شروط قصر الصلاة

يرى الشافعية (¬1) أن الأفضل هو الإتمام؟ خروجًا من الخلاف، ولأن في الإتمام زيادة في عدد الركعات وهذا أفضل. والصحيح أن العمل بالسنة هو الأفضل، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسرع الناس إلى فعل الأفضل، ولذلك ما كان في سفره يزيد عن الركعتين في الرباعية، فعلم أن اتباع سنته هو الأفضل. شروط قصر الصلاة: 1 - نية السفر: اشترط جميع الفقهاء لجواز قصر الصلاة النية للسفر، وذلك لأن السفر قد يكون سفرًا مقصودًا، وقد يكون غير مقصود، فمن خرج من بيته إلى موضع ما طلبًا لحاجة معينة ثم تبدو له حاجة أخرى تجعله يقطع مسافة طويلة بدون قصد السفر مع كونه تجاوز مسافة القصر- فإنه لا يشرع له القصر؛ لاشتراط النية في السفر. لكن هل يلزم عقد نية قصر الصلاة في السفر؟ الجواب: لا يلزم ذلك، ولكن يكفي في ذلك نية السفر؛ لأن عقد نية قصر الصلاة يكون قبل فعلها، لا عند بدء السفر. 2 - مسافة القصر: من شروط قصر الصلاة أن تكون مسافة القصر مبيحة للقصر. وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسافة التي يجوز فيها القصر والفطر هي مسيرة يومين كاملين فأكثر، وتعادل بالكيلومتر (ثمانين كم) تقريبًا. ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي (4/ 219).

حكم القصر لسكان مدينة لها طريقان مختلفان

الثاني: ما ذهب إليه الحنفية (¬1) وهو أن مسافة السفر التي شرع لها القصر ثلاثة أيام ولياليها. الثالث: أنه ليس هناك حد للمسافة ولا توقيت، المرجع في ذلك للعرف، فما سماه العرف سفرًا صار سفرًا يجوز قصر الصلاة فيه، وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬2). والراجح ما ذهب إليه الجمهور وهو تحديد مسافة القصر بثمانين كيلو متر تقريبًا. وهو اختيار اللجنة الدائمة (¬3). حكم القصر لسكان مدينة لها طريقان مختلفان: لو كان لمدينة طريقان مختلفان أحدهما يتجاوز مسافة القصر والآخر أقل منها، أي: دون ثمانين كيلو مترًا، فهل يشرع للمسافر إليها القصر إن سلك الأبعد وترك الأقرب؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فقال الحنفية (¬4) والحنابلة (¬5): يقصر الصلاة إذا سلك الأبعد مع وجود الأقرب؛ لأنه يعتبر مسافرًا. 2 - وقال المالكية (¬6) والشافعية (¬7): لا يقصر الصلاة إذا كان قاصدًا سلوكه ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 93 - 94). (¬2) مجموع الفتاوى (24/ 12). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 99) برقم (11520). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 94). (¬5) كشاف القناع (1/ 330). (¬6) شرح الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 362). (¬7) مغني المحتاج (1/ 265).

القصر عند السفر في الوسائل الحديثة كالطائرة وغيرها

لمجرد القصر أو لا قصد له إلا سلوك الأطول، أما إذا كان عدل للأبعد أو لأمر يحتاجه، فإنه يقصر الصلاة. الأولى في حقه عدم القصر؟ خروجًا من الخلاف وأخذًا بالأحوط. القصر عند السفر في الوسائل الحديثة كالطائرة وغيرها: حدد الفقهاء المسافة التي تشترط لقصر الصلاة على اعتبار سير الوسط وهو مشي الأقدام وسير الأقل، فهل إذا لم يكن هناك مشقة في السفر وذلك من خلال استخدام الوسائل الحديثة كالطائرة والقطار والسيارات ونحو ذلك، فهل نقول بأنه لا يشرع القصر لأن المشقة منتفية في هذه الحالة؟ 1 - يرى الكمال بن الهمام (¬1) من الحنفية أن المعتبر في ذلك المشقة، فلو قطع المسافر هذه المسافة في ساعة مثلًا لا يقصر الصلاة؛ لانتفاء مظنة المشقة وهي العلة. 2 - ذهب إليه جمهور الفقهاء (¬2)، وهو منقول عن أبي حنيفة أيضًا على أن العلة هنا ليست المشقة، وإنما العلة هي السفر، فمتى قطع المسافر هذه المسافة بسفره قصر، ولو كان يقطعها بطيران أو بقطار أو سيارة ونحو ذلك وهو الصحيح، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك. 3 - الخروج من عمران بلدته: لا يجوز لمن قصد السفر أن يقصر الصلاة إلا إذا جاوز -أي: فارق- محل إقامته، والمراد بالمفارقة هنا المفارقة بالبدن لا بالبصر، أي أن يتجاوز البيوت ولو بقدر ذراع، فمتى خرج من مسافة البيوت ولو بمقدار ذراع، فإنه يعتبر مفارقًا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 392)، فتح القدير (2/ 5). (¬2) انظر في ذلك: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 358)، مغني المحتاج (1/ 264)، كشاف القناع (1/ 327).

القصر لمن سافر بعد دخول الوقت

القصر لمن سافر بعد دخول الوقت: إذا دخل وقت الصلاة في الحضر ثم سافر هل يلزمه الإتمام أم يصلي صلاة مسافر؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالمذهب عند الحنابلة (¬1) أنه يلزمه الإتمام، لوجوبها عليه تامة بدخول وقتها. 2 - وقال آخرون: إنه يصليها قصرًا؛ لأنه في هذه الحالة يعتبر مسافرًا. والذي يظهر -والله أعلم- أن ما ذهب إليه القائلون بالقصر هو الراجح؛ أخذًا بالرخصة، ثم إنه يؤديها حال السفر. 4 - اشتراط نية قصر الصلاة عند كل صلاة: اختلف الفقهاء في اشتراط نية قصر الصلاة عند كل صلاة: 1 - فالحنفية (¬2) لا يشترطون ذلك، ويقولون بأنه يكفي نية السفر. 2 - ويقول المالكية (¬3): تكفي نية القصر في أول صلاة يقصرها المسافر، ولا يلزم تجديدها فيما بعد من الصلوات. 3 - أما الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) فيرون أنه لا بد من نية القصر عند كل صلاة يؤديها، فلو لم يَنْوِ القصر بأن نوى الإتمام أو أطلق، أتم الصلاة. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 318). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 92، 93). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 367). (¬4) مغني المحتاج (1/ 68). (¬5) كشاف القناع (1/ 329).

5 - كون السفر مباحا

والأولى الأخذ بما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أخذًا بالأحوط؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1)، ولأنه أبرأ للذمة؛ خروجًا من الخلاف. 5 - كون السفر مباحًا: 1 - اشترط المالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، أن يكون مباحًا -أي: ليس بسفر معصية- فلا يقصر عاصٍ بسفره كالعبد الآبق وقاطع الطريق أو من سافر إلى بلاد الكفر لفعل الرذيلة أو رغبة منه في التحلل من قيم الإِسلام وآدابه، فهؤلاء لا يشرع لهم القصر؛ لأن جواز القصر في حقهم إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز. 2 - وذهب الحنفية (¬5) إلى عدم اشتراط كون السفر مباحًا؛ وذلك لأن الأدلة التي جاءت في القصر عامة لم توجب الفصل بين مسافر ومسافر، فوجب العمل بعموم النصوص وإطلاقها. وقالوا أيضًا بأن القصر ليس برخصة، فإن صلاة ركعتين للظهر والعصر والعشاء بدلًا من أربع ركعات ليس تحويلًا من الأربع إلى ركعتين، بل هما في الأصل ركعتان. الراجح: نرى أن الراجح هو قول الحنفية؛ لقوة الأدلة وصراحتها، حيث جاءت النصوص ولم تفرق بين مسافر وآخر؛ لأن الأصل في صلاة السفر كونها ركعتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي، برقم (1) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 358). (¬3) المجموع شرح المهذب (4/ 223). (¬4) كشاف القناع (1/ 237، 324)، المغني (3/ 116 - 117). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 93).

حكم قضاء من فاتته صلاة سفر في الحضر والعكس

حكم قضاء من فاتته صلاة سفر في الحضر والعكس: 1 - ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) إلى أن من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين. واختار ذلك الشيخ ابن العثيمين (¬3)، ومن فاتته صلاة في حضر قضاها في السفر أربعًا؛ وذلك لأن القضاء بحسب الأداء. 2 - أما الشافعية (¬4) في الجديد عندهم والحنابلة (¬5) فذهبوا إلى أن من نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر، فإن الواجب عليه أن يصلي أربعًا؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر فبطل بزواله، ولأن التخفيف متعلق بعذر، فزال بزواله. والأحوط الأخذ بما ذهب إليه الشافعية في الجديد والحنابلة من أن الواجب الإتمام؛ لأن القصر من رخص السفر وقد زال السفر فيلزمه الإتمام. نية الإقامة ومدتها المعتبرة: معناها: أن ينوي المسافر الذي قصد بلدًا ما الإقامةَ في هذا البلد لمدة تتجاوز أربعة أيام، أما إذا دخل بلدًا ما ومكث فيه شهرًا أو أكثر لانتظار قافلة أو لحاجة أخرى ولم يعزم على البقاء فيها، فإنه لا يصير مقيمًا؛ فله أن يقصر الصلاة إذا زادت عن أربعة أيام؛ لأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 405). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 360). (¬3) الشرح الممتع (4/ 366). (¬4) المجموع شرح المهذب (1/ 360). (¬5) المغني (3/ 141 - 143).

الأحكام المتعلقة بالجمع

الأحكام المتعلقة بالجمع تعريف الجمع بين الصلوات: الجمع بين الصلوات هو: أداء صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء جمع تقديم أو جمع تأخير. حكم الجمع بين الصلوات: اتفق الفقهاء على مشروعية الجمع بين الصلوات (الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء) لكن اختلفوا في مسوغات الجمع على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. واحتجوا لجواز الجمع بحديث جابر في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال: "فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا" (¬1). مسوغات الجمع: أولاً: السفر 1 - ذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير في السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة. واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (1218). (¬2) المجموع، للنووي (4/ 371). (¬3) المغني (3/ 131 - 132).

زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب" (¬1). وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا" (¬2). 2 - أما الحنفية (¬3) فإنهم لا يجوّزون الجمع للمسافر لا تقديمًا ولا تأخيرًا، وتأولوا الجمع الوارد في حديث أنس ومعاذ بأنه جمع صُورِيٌّ؛ ومعناه أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها وكذلك في المغرب والعشاء. وأجازوا الجمع بين الظهر والعصر في عرفة وبين المغرب والعشاء في مُزْدَلفَةَ؛ لأن ذلك من المنسك وليس رخصة. واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين؛ جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاتها" (¬4) يعني ليلة مزدلفة. وحديث أبي قتادة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب، برقم (1061)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، برقم (703). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم (706). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 256). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحج، باب متى يصلي الفجر بجمع صلاة الفجر بالمزدلفة، برقم (1598). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائته واستحباب تعجيل قضائها، برقم (681).

أيهما أفضل جمع التقديم أم التأخير؟

والراجح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من جواز الجمع بين الصلاتين في السفر؛ للأدلة التي ذكروها. أيهما أفضل جمع التقديم أم التأخير؟ اتفق الفقهاء القائلون بجواز الجمع على أنه إن كان المسافر نازلًا في وقت الأولى، فالأفضل أن يقدم الثانية في وقت الأولى، وإن كان سائرًا في وقتهما أو نازلًا فيه وأراد جمعهما، فالأفضل تأخير الأولى منهما إلى وقت الثانية؛ لأن وقت الثانية للأولى حقيقة بخلاف العكس. والصواب أنه يفعل الأرفق به من تأخير أو تقديم، فإن كان التقديم أرفق به فليقدم، وإن كان التأخير أرفق به أخر؛ وذلك لأن الجمع إنما شرع رفقًا بالمكلف، فما كان أرفق فهو أفضل. لكن إن تساوى عنده الأمران -أي: جمع التقديم أو جمع التأخير- فالأفضل هنا التأخير؛ لأن غاية ما في التأخير تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها جائزة مُجْزِئَةٌ. أما التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها. شروط جمع التقديم: يشترط لصحة جمع التقديم شروط منها: 1 - البداءة بالأولى من الصلاتين المجموعتين؛ فيصلي الظهر أولًا ثم العصر، ويصلي المغرب أولًا ثم العشاء، فلو صلى الثانية قبل الأولى لم يصح. 2 - نية الجمع عند الصلاة الأولى أو في أثنائها، فلا يجوز تقديم الصلاة إلا بنية الجمع إن وجد سببه. ولم يشترط ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية وحكاه عن

شروط جمع التأخير

جمهور العلماء (¬1). 3 - الموالاة بين الصلاتين المجموعتين؛ ومعنى الموالاة أن لا يفصل بينهما بزمن طويل، أما الفصل اليسير فلا يضر، فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع. 4 - دوام السفر حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية، فإذا نوى الإقامة أثناء الصلاة الأولى أو وصل إلى بلده وهو في الأولى، انقطع الجمع؛ لزوال سببه، ولزمه تأخير الثانية إلى وقتها. شروط جمع التأخير: 1 - نية الجمع قبل خروج وقت الأولى، فإن أخرها بغير نية الجمع حتى خروج وقتها، أتم، وتكون قضاءً؛ لخلو وقتها عن الفعل أو العزم. 2 - البداءة بالأولى قبل الثانية على ما ذكرنا سابقًا، فإذا دخل بنية الظهر مع من يصلي العصر، جاز وتحقق الترتيب. أما إن كانوا جماعة فالأولى في حقهم أن يصلوا الظهر ثم يصلوا العصر ولا يدخلوا مع الجماعة الأولى، لكن لا يصلون حتى يفرغوا من صلاتهم؛ حتى لا تكون جماعتان في مسجد واحد. 3 - استمرار السفر لحين دخول وقت الثانية، فإن زال السفر قبل دخول وقت الثانية، لزمه أن يأتي بالأولى في وقتها ثم يؤخر الثانية لحين دخول وقتها، لكن لا يضر زوال السفر قبل فعل الصلاتين وبعد دخول وقت الثانية. 4 - الموالاة بين الصلاتين على ما ذكرناه في شروط جمع التقديم. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 456)، و (24/ 51).

ثانيا: المرض.

ثانيًا: المرض. من مسوغات الجمع بين الصلاتين المرض، وقد اختلف الفقهاء في جواز الجمع في المرض على قولين: الأول: أنه يجوز الجمع للمريض بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وذهب إلى ذلك المالكية (¬1) والحنابلة (¬2). واستدلوا لذلك بما رواه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر" (¬3)، وفي رواية: "من غير خوف ولا سفر" (¬4). وأيضًا بما رواه أبو داود وأحمدُ: "أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر سَهْلَةَ بنت سُهَيْلٍ وحَمْنَةَ بنت جحش -رضي الله عنها- لما كانتا مستحاضتين، بتأخير الظهر وتعجيل العصر والجمع بينهما بغسل واحد" (¬5). لكن المالكية مع قولهم بجواز الجمع للمريض إلا أنهم قالوا بأن الجمع الجائز بسبب المرض هو جمع التقديم فقط لمن خاف الإغماء والحمى وغيرها، وإن سلم من هذه الأمراض ولم يصبه شيء منها، أعاد الثانية في وقتها. ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 92). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 135 - 136). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحفر، برقم (705). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب مواقيت الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير خوف، برقم (1573)، والبيهقيُّ في جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب الجمع في المطر بين الصلاتين، برقم (5337). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، برقم (287)، وأحمدُ في المسند (6/ 139)، رقم (25130)،

ثالثا: الجمع بسبب المطر والثلج والبرد ونحو ذلك

وقال الحنابلة: إن المريض مخير بين التقديم والتأخير كالمسافر. وهذا هو الأصوب؛ لأنه في الحقيقة هو الأرفق بالمريض. القول الثاني: أنه لا يجوز الجمع بسبب المرض، وهو قول الشافعية (¬1)؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه مرض أمراضًا كثيرة ولم ينقل عنه أنه جمع بسبب المرض. والصحيح أنه يجوز الجمع بسبب المرض؛ وذلك أن المشقة الحاصلة بسببه أشد من الحاصلة بسبب السفر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يرفع الحرج عن أمته بسبب الجمع حين سُئِلَ ابن عباس عن جمعه - صلى الله عليه وسلم - من غير خوف ولا مطر قال: أراد أن لا يحرج أمته (¬2). ثالثًا: الجمع بسبب المطر والثلج والبرد ونحو ذلك: ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع بسبب المطر المبلل للثياب والثلج والبرد، واحتجوا لذلك بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا" وزاد مسلم: "في غير خوف ولا سفر" (¬3). وهذا هو الراجح. لكن أي الصلاتين تجمع، الظهر والعصر أم المغرب والعشاء؟ ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب، للإمام النووي (4/ 383). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم (705). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم (705).

اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالمالكية (¬1) والحنابلة (¬2) على أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر ونحوه، وإنما يجمع بين المغرب والعشاء، وذلك لأن المشقة في المغرب أشد؛ لأجل الظلمة. 2 - أما الشافعية (¬3) فيرون أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر كذلك بسبب المطر، لحديث ابن عباس المتقدم أنه جمع بين الظهر والعصر، ولأن العلة هي وجود المطر سواء كان ذلك في الليل أو النهار، وهذا هو الراجح. أما الجمع بسبب الريح الشديدة والظلمة فقد اختلف فيه الفقهاء: 1 - فالمالكية (¬4) والشافعية (¬5) على المنع. وهو وجه عند الحنابلة (¬6). 2 - ويرى الحنابلة جواز الجمع من أجل الريح الشديدة في الليلة الباردة؛ لأن ذلك عذر في ترك الجمعة والجماعة. والذي يظهر جواز الجمع مع الريح الشديدة الباردة؛ لحصول المشقة بها، لكن بقيدين: الأول: كون الريح شديدة؛ وهي ما خرج عن العادة، أما المعتادة فلا يباح لها الجمع. الثاني: كونها باردة، والمراد بها ما تشق على الناس. ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 92). (¬2) المغني (3/ 132 - 133). (¬3) مغني المحتاج (1/ 274). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 370). (¬5) المجموع (4/ 383)، مغني المحتاج (1/ 275). (¬6) المغني (3/ 134).

صلاة الجمعة

صلاة الجمعة فضل صلاة الجمعة: كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو الأفضل أم يوم عرفة؟ على قولين هما وجهان لأصحاب الشافعي كما ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله (¬1) - فمن فضائله: 1 - أنه خير الأيام: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" (¬2). 2 - فيه ساعة الإجابة: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: "إن في الجمعة لساعةً لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرًا، إلا أعطاه إياه، وقال بيده يقلِّلها يُزَهِّدُها" (¬3). 3 - حصول تكفير الذنوب: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر" (¬4)، وعنه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مَسَّ الحصى فقد لغا" (¬5). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (1/ 375). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (2/ 585)، برقم (854). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة (2/ 584)، برقم (852). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة (1/ 209)، برقم (233). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت يوم الجمعة (2/ 588)، برقم (857).

التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة

التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1)، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها، ولذا من تخلف عنها فهو آثم ومعرض؛ للوعيد المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهِمُ الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" (¬2). فليحذر الذين يتخلفون عن الجمعة من غير عذر شرعي من هذا الوعيد، نسأل الله تعالى السلامة والعافية. حكم صلاة الجمعة: صلاة الجمعة من الفرائض المعلوم فرضيتها بالضرورة بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3) فالأمر في الآية للوجوب، وذكر الله هنا قيل: هو الخطبة، وقيل: هو الصلاة، وكل ذلك حق، فالسعي إلى الخطبة سعي إلى الصلاة، ولأن ذكر الله يتناول الخطبة ويتناول الصلاة. أما السنة فمن ذلك الحديث المتقدم: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: 9. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة (2/ 591)، برقم (865). (¬3) سورة الجمعة: 9. (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة (2/ 591)، برقم (865).

شروط صلاة الجمعة

ومن ذلك أيضًا ما رواه النسائي عن حَفْصَةَ زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رَوَاحُ الجمعة واجب على كل مُحْتَلِمٍ" (¬1). أما الإجماع فقد نقل ابن المنذر وابن العربي أنها فرض عين (¬2). شروط صلاة الجمعة: أولًا: الوقت: فلا تصح الجمعة قبل وقتها ولا بعد وقتها بالإجماع، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬3). واختلف الفقهاء في أول وقت صلاة الجمعة: 1 - فالحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) على أن وقت الجمعة هو وقت الظهر، فلا يثبت وجوبها ولا يصح أداؤها إلا بدخول وقت الظهر، ويستمر وقتها إلى دخول وقت العصر، فإذا خرج وقت الظهر سقطت الجمعة واستبدل بها ظهرًا. ويمتد وقته عند المالكية إلى الغروب (¬7). 2 - أما الحنابلة (¬8) فقالوا بأن أول وقتها هو أول وقت صلاة العيد، ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة (1660)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 297)، برقم (1299). (¬2) انظر: الأحكام شرح أصول الأحكام، عبد الرحمن بن قاسم (ص: 432). (¬3) سورة النساء: 103. (¬4) بدائع الصنائع (1/ 269). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 372). (¬6) مغني المحتاج (1/ 279). (¬7) الذخيرة، للقرافي (2/ 331 - 332)، مواهب الجليل (2/ 517). (¬8) المغني، لابن قدامة (3/ 239 - 243).

واحتجوا لذلك بما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنه كان يصلي ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها، زاد عبد الله في حديثه: حين تزول الشمس -يعني: النواضح" (¬1)، وفعلها بعد الزوال عندهم أفضل. وذهب ابن قدامة (¬2)، وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (¬3)، إلى أن وقتها يكون قبل الزوال بساعة، واحتجوا لذلك بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بَدَنَةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" (¬4). فهذه خمس ساعات، ثم ذكر في السادسة حضور الملائكة يستمعون الذكر، أي الخطبة، ووقت الساعة السادسة يكون قبل الزوال بساعة. والصحيح من الأقوال: أن أداءها بعد الزوال أفضل وأحوط؛ لما رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" (¬5)، وهذا هو فعله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الأوقات. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس (2/ 588)، برقم (858). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 240). (¬3) الشرح الممتع، لابن عثيمين (5/ 33). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة (1/ 301)، برقم (841)، ومسلمٌ في كتاب الجمعة، باب الصلاة في الرحال في المطر (2/ 582)، برقم (850). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس (1/ 307)، برقم (862).

ثانيا: الجماعة

ثانيًا: الجماعة: يشترط لصلاة الجمعة حصولها في جماعة، فمتى صلاها منفردًا فلا تصح ويلزمه أن يعيدها ظهرًا؛ وذلك لحديث طارق بن شهاب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة ... " (¬1). من أدرك مع الإِمام أقل من ركعة، هل يكون مدركًا للجمعة؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فالمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن من أدرك مع الإِمام أقل من ركعة، فإنه لا يكون مدركًا للجمعة ويصليها ظهرًا. 2 - وقال أبو حنيفة (¬5): "تدرك وإذا صلى مع الإِمام جزءًا منها، وإن قل، فمتى أدرك المأموم الإِمام وهو في التشهد أو في سجدتي السهو فاقتدى به، فقد أدرك الصلاة، ويصليها ركعتين". والصحيح أن صلاة الجمعة تدرك مع الإِمام بإدراك ركوع وسجود من الركعة الثانية لمن فاتته الأول، فإن دخل في الصلاة ولم يلحق ركوع الثانية، أتمها ظهرًا. دليل ذلك: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، برقم (1067)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 199)، برقم (942). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 383). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 334). (¬4) المغني، لابن قدامة (3/ 184). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 569).

العدد الذي تتحقق به الجماعة للجمعة

ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تَعُدُّوهَا شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" (¬2). العدد الذي تتحقق به الجماعة للجمعة: فقد اختلف الفقهاء في العدد الذي تتحقق به الجماعة للجمعة: 1 - فالشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) أنه لا يقل العدد عن أربعين رجلًا تجب في حقهم الجمعة. 2 - ويشترط المالكية (¬5) لحصول الجماعة للجمعة اثني عشر من أهلها، أي ممّن تجب عليهم الجمعة. 3 - وذهب الحنفية (¬6) إلى أنها تنعقد بواحد سِوَى الإِمام، وقيل بثلاثة سوى الإمام. والصحيح أن الجماعة تتحقق للجمعة بثلاثة أحدهم يخطب. وهو ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬7)، وهو إحدى الروايتين عند الحنفية (¬8)، وإحدى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، كتاب المواقيت، باب من أدرك من الصلاة ركعة (1/ 211)، برقم (555). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الرجل يدرك الإِمام ساجدًا كيف يصنع؟ برقم (893) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وصححه الألباني. (¬3) المجموع (4/ 369). (¬4) المغني (3/ 204). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 378)، الشرح الصغير (1/ 499). (¬6) بدائع الصنائع (1/ 266). (¬7) الاختيارات الفقهية، لشيخ الإِسلام ابن تيمية (ص: 145، 146). (¬8) البدائع (1/ 266).

ثالثا: الاستيطان

الروايتين عن أحمد (¬1)، وبهذا قال الشيخان ابن باز وابن العثيمين (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3). ثالثًا: الاستيطان: اشترط الفقهاء للجمعة أن يكون أهل وجوبها مستوطنين بقرية، فإن كانوا في خيام ينتقلون، فلا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم وحدهم. ومعنى مستوطنين: أي متخذيها وطنًا. وضد المستوطن: المسافر والمقيم؛ فالمسافر الذي على جناح سفر، والمقيم الذي ليس بمستوطن هو من يقيم ثم يسافر، فهؤلاء لا تلزمهم الجمعة، بل ولا تصح منهم وحدهم. واختلف الفقهاء في صفة الاستيطان، والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الاستيطان يحصل بكل بناء متقارب لا يظعنون عنه شتاءً ولا صيفًا إذا كان مبنيًا بما جرت به عادتهم؛ من مدر، أو خشب، أو قصب، أو جريد، ونحو ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك (¬4). أما دليل اشتراط الاستيطان فإن قبائل العرب كانت حول المدينة فلم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بجمعة. وكذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى جمعة في سفر من أسفاره، ولم ينقل ذلك عنه. ¬

_ (¬1) الروض المربع (2/ 436). (¬2) فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (12/ 326)، الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/ 41). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 178)، برقم (1794). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (24/ 166).

رابعا: تقدم الصلاة بالخطبة

رابعًا: تقدم الصلاة بالخطبة: يشترط للجمعة تقدمها بخطبة، فإن لم يتقدمها خطبة لم تصح. ويشترط في الخطبة ما يأتي: 1 - أن تكون متقدمة على الصلاة، فإن خطب بعدها أعاد الصلاة. 2 - وقوعها في وقت الجمعة، فإن وقعت الخطبة قبل وقت الصلاة لم تصح. 3 - حضور الجماعة التي تنعقد بهم الجمعة، وقد مر ذكر الخلاف في العدد مع بيان الراجح. 4 - حمد الله في الخطبة: وذهب إلى سنية الحمد في الخطبة الحنفية (¬1) والمالكية (¬2). وذهب الشافعية إلى ركنيته (¬3)، وذهب إلى أنه شرط الحنابلة (¬4). والصحيح أن ذلك واجب في الخطبة ليس بركن ولا بشرط (¬5). 5 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا هو الشرط الخامس من شروط الخطبة، وبهذا قال الشافعية (¬6) والحنابلة (¬7). واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية أن ذلك واجب (¬8) وليس بشرط ولا بركن، فتصح الخطبة بدونه مع حصول الإثم. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 263)، البحر الرائق (2/ 159). (¬2) الذخيرة، للقرافي (2/ 345)، الشرح الكبير مع حاشية ابن عابدين (1/ 378). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 300). (¬4) كشاف القناع (2/ 32). (¬5) نيل الأوطار (3/ 331). (¬6) نهاية المحتاج (2/ 300). (¬7) الكافي (1/ 220). (¬8) الفتاوى الكبرى، لشيخ الإِسلام ابن تيمية (4/ 430، 439)، الإنصاف، للمرداوي (2/ 387).

حكم الإنصات للخطبة

6 - قراءة شيء من القرآن: وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)، وهو قول الشافعية (¬2). والصحيح أنه لا يشترط ذلك، وهذا هو إحدى الروايتين في المذهب، فمتى تضمنت الخطبة الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، صحت بذلك. 7 - كون الخطبة باللغة العربية: فإن عجز عنها يكفي أن تكون فيها الآيات بالعربية. وأسقط المالكية (¬3) الجمعة إِنْ عُدِمَ من يُحْسِن العربية، وأجاز الحنفية (¬4) الخطبة بغير العربية. والصحيح إن كان يستطيع الخطبة بالعربية وجب عليه أداؤها بالعربية، لكن يشترط أن يكون الحاضرون ممّن يفهمون لغة العرب؛ لأن الغرض من الخطبة هو موعظة المدعُوِّ، فإن كان المدعو لا يفهم فات المقصود الأعظم من الخطبة وجاز أداؤها بلغتهم. حكم الإنصات للخطبة: إذا صعد الإِمام المنبر وجب على من حضر الصلاة الإنصات لخطبته ولا ينشغلون بكلام ولا بغيره. لكن اختلف الفقهاء فيما إذا دخل والخطيب يخطب، هل يصلي ركعتين تحية المسجد أم يجلس للاستماع؟ ¬

_ (¬1) كشاف القناع (2/ 32). (¬2) المحلى على المنهاج (1/ 277 - 278)، المجموع (4/ 388). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 378)، الشرح الصغير (1/ 499). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 543).

الحكم فيما إذا اجتمع يوم عيد مع يوم جمعة

1 - فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) على أنه يجلس ولا يصلي. 2 - والشافعيُّ (¬3) وأحمدُ (¬4) يقولون: لا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين. وهذا هو الصحيح. دليل ذلك ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "جاء سُلَيْكٌ الغَطَفَانِيُّ يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "يا سُلَيْكُ، قم فاركع ركعتين وتَجَوَّزْ فيهما" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين وَلْيَتَجَوَّزْ فيهما" (¬5) رواه البخاري ومسلمٌ. وحديث أبي قتادة السلمي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (¬6). الحكم فيما إذا اجتمع يوم عيد مع يوم جمعة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب الحنفية (¬7) والمالكية (¬8) إلى أنه لا يباح لأحد ممّن تجب عليه الجمعة التخلف عنها إذا وافقت يوم عيد. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 574). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 386). (¬3) مغني المحتاج (1/ 88). (¬4) المغني (3/ 192). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإِمام رجلًا جاء وهو يخطب، أمره أن يصلي ركعتين (1/ 315)، برقم (888)، وصحيح مسلم في كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب (2/ 596) برقم (875) واللفظ له. (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب أبواب المساجد، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين (1/ 170) برقم (433). (¬7) تبيين الحقائق (1/ 224). (¬8) حاشية الدسوقي (1/ 391).

سنن الجمعة ومستحباتها

أما الحنابلة (¬1) فقالوا: بأنه يجوز لمن صلى العيد أن يصلي الجمعة ظهرًا؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد وقال: "من شاء أن يصلي فليصلِّ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" (¬3). الراجح: يتبين من الأدلة أنه إذا اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، لكن يلزمه أن يصلي الظهر، أما الإِمام فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي الجمعة. وقد أخذ بذلك الشيخ ابن باز (¬4). سنن الجمعة ومستحباتها: يسن للجمعة ما يلي: 1 - الاغتسال لها: وقد بينا أنه الراجح، وأنه من السنن المؤكدة وليس بواجب، وهذا هو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬5). أما وقته فيمتد من طلوع فجر يوم الجمعة إلى وقتها، والأفضل أن يكون حين الرَّواح إليها. 2 - ليس أحسن الثياب لها: وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما على أحدكم إن ¬

_ (¬1) المغني (2/ 242 - 243). (¬2) أخرجه أبو داود في باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد (1/ 281)، برقم (1070)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 199)، برقم (945). (¬3) أخرجه أبو داود في المرجع السابق، برقم (1073)، وصححه الألباني، برقم (948). (¬4) فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (10/ 173). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 179)، برقم (2140).

وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" (¬1). 3 - التطيب لها: فعن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويَدَّهِنُ من دُهْنِهِ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج لا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم يُنصت إذا تكلم الإِمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" (¬2). 4 - التبكير إليها: يستحب التبكير لصلاة الجمعة؛ وذلك للحديث المتقدم، أعني: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بَدَنَةً ... " (¬3). 5 - الذهاب إليها ماشيًا: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشيًا على قدميه؛ وذلك لأن المشي أقرب للتواضع، ولأنه يرفع له بكل خطوة درجة، ويحط عنه بها خطيئة، فقد روى أحمد وأصحاب السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بَكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها" (¬4). 6 - قراءة سورة الكهف في يومها: يسن قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود باب اللبس للجمعة (1/ 282)، برقم (1076)، وصححه الألباني (1/ 201)، برقم (953). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صلاة العيدين، باب الدهن للجمعة (1/ 301)، برقم (843). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (841)، ومسلمٌ في كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم (850). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 104)، برقم (10073)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم (345).

بين الجمعتين" (¬1). 7 - الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسن الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإكثار من ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ" (¬2). 8 - قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يومها؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -، والسنة أن يقرأ بالسورتين كاملتين، أما ما يفعله بعض الناس من قراءة بعض السورتين، فهذا ليس تطبيقًا للسنة، فإما أن يقرأ بهما كاملتين، أو يقرأ بغيرهما. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ (3/ 249)، برقم (5792)، وصححه الألباني في الإرواء (3/ 93)، برقم (626). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1531) من حديث أَوْسِ بن أَوْسٍ -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

صلاة العيدين

صلاة العيدين: حكم صلاة العيدين: اختلف الفقهاء في حكمهما على ثلاثة أقوال: الأول: أنها فرض عين، وبه قال الحنفية (¬1)، واستدلوا لذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليها من دون تركها ولو مرة واحدة، وأمر النساء بالخروج إليها، حتى الحائض أمرها بذلك، وهذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله (¬2) -، وهو قول شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬3). الثاني: وهو ما ذهب إليه المالكية (¬4) والشافعية (¬5) إلى أن صلاة العيد سنة مؤكدة، واستدلوا لذلك بحديث الأعرابي حين قال: هل عليّ غيرها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إلا أن تَطَوَّعَ" (¬6). الثالث: وهو مذهب الحنابلة (¬7) فقد قالوا بأنها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬8)، وهذا هو الصواب؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 274، 275)، الهداية (1/ 60). (¬2) الشرح الممتع (5/ 116). (¬3) مجموع الفتاوى (23/ 161). (¬4) جواهر الإكليل (1/ 101). (¬5) المجموع (5/ 3). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان (2/ 669)، برقم (1792)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام (1/ 40)، برقم (11). (¬7) المغني (3/ 254). (¬8) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 284)، برقم (9555).

شروط صلاة العيدين

شروط صلاة العيدين: 1 - الاستيطان: أي: تقام في جماعة مستوطنين غير مسافرين، ودليل ذلك الشرط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم صلاة العيدين إلا في المدينة، وسافر عام غزوة الفتح وبقي فيها إلى أول شوال وأدركه العيد، ولم ينقل أنه صلى صلاة العيد. وكذلك أهل البوادي الرُّحَّلُ غير المستقرين في مكان لا تلزمهم صلاة العيد. 2 - العدد: يشترط لصلاة العيد بلوغها العدد الذي تنعقد به الجمعة، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك. والصحيح أن العدد الذي تنعقد به الصلاة وتجب به هو ثلاثة، فإن لم يكن في القرية إلا رجل واحد مسلم أو رجلان، فإنه لا تجب عليهم صلاة العيد. 3 - الوقت: يشترط لصلاة العيد دخول وقتها: ووقتها كوقت صلاة الضحى؛ تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريبًا، وهذا هو قول الجمهور. أما الشافعية (¬1) فيرون أن وقتها ما بين طلوع الشمس وزوالها؛ وذلك لأنها من ذوات الأسباب؛ فلا تراعى فيها الأوقات التي لا تجوز فيها الصلاة. والصحيح: هو القول الأول؛ لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو أول وقتها، لكن هل يجوز تأخيرها؟ أما تأخيرها حتى يخرج وقتها، وهو بعد الزوال، فهذا لا يجوز، ويسن تأخيرها قليلًا، وهذا بالنسبة لصلاة عيد الفطر؛ لكي يتسنى للناس إخراج زكاة ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج، للرملي (2/ 216).

حكم أدائها بعد خروج وقتها

فطرهم. أما عيد الأضحى فالأولى عدم التأخير، بل يبادر في أدائها في أول الوقت؛ لكي يفرغ المسلمون بعدها لذبح ضحاياهم. حكم أدائها بعد خروج وقتها: هذه المسألة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن لا تصلى جماعة في وقتها يوم العيد، كأن غُمّ عليهم الهلال ثم شهد شهود عند الإِمام بعد الزوال أنهم رأوا الهلال. فهنا تصلى في اليوم الثاني من العيد سواء كان عيد فطر أو عيد أضحى، وهذا هو قول الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). أما المالكية (¬4) فقد أطلقوا القول بعدم القضاء في مثل هذه الحال، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من قضائها في اليوم الثاني، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬5). الحالة الثانية: أن تؤدى في جماعة وتفوت بعض الناس. فقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة أيضًا: 1 - فالحنفية (¬6) على أنها لا تقضى مهما كان العذر؛ لأنها صلاة خاصة لم تشرع إلا في وقت معين وبقيود خاصة، فلا بد من تكاملها جميعًا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 276). (¬2) المجموع، للنووي (5/ 35). (¬3) الإنصاف (2/ 420). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 396 - 400). (¬5) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 289)، برقم (1944). (¬6) البدائع (1/ 276).

2 - يرى الشافعية (¬1)، على الصحيح عندهم، أنها تقضى في أي وقت شاء وكيفما كان، منفردًا أو جماعة؛ لأن النوافل كلها تقضى عندهم. 3 - أما الحنابلة (¬2) فقالوا: يستحب له قضاؤها. وإن شاء صلاها أربعًا، إما بسلام واحد أو بسلامين. 4 - أما المالكية (¬3) فيرون أن من فاتته مع الإِمام فله فعلها مع الإِمام إلى الزوال، ولا تقضى بعد الزوال. والصحيح: أن من فاتته صلاة العيد فإنه يصليها على صفتها التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- وإذا جاء متأخرًا وفاتته الصلاة ووجد الإِمام يخطب، فإن الأفضل في حقه أن يستمع الخطبة ثم يقضي الصلاة بعد ذلك؛ حتى يجمع بين المصلحتين. لكن إذا كانت صلاة العيد تؤدى داخل المساجد، كأن يكون يومًا مطيرًا أو ريحًا باردةً ونحو ذلك من الأعذار، ثم دخل من فاتته صلاة العيد- هل يجلس للاستماع للخطبة أم يصلي؟ وهل الأولى أن يصلي تحية المسجد أم يصلي العيد؟ الصواب هنا: أنه يصلي تحية المسجد ويجلس للاستماع. الحالة الثالثة: أن يؤخر صلاة العيد لغير عذر حتى فات وقتها: فبعض الفقهاء قالوا ينظر هل هي صلاة عيد أضحى أم فطر؛ فإن كانت صلاة أضحى جاز قضاؤها؛ لأنه يجوز تأخيرها إلى اليوم الثالث من أيام التشريق ¬

_ (¬1) المجموع، للبغوي (5/ 27، 28). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 286 - 287)، الإنصاف 2/ 426، المحرر (1/ 166)، كشاف القناع (2/ 52). (¬3) حاشيبة الدسوقي (1/ 396).

صفتها

مع لحوق الإساءة، أما إن كان عيد فطر فإنها لا تقضى بعد الزوال؛ لسقوطها أصلًا. والصواب: أن هذه الصلاة فرض كفاية، كما ذكرنا، إن أداها بعض الناس سقط الإثم عن الباقين، ولا يلزم من تركها أداؤها، ولا يلحقه إثم ولا إساءة إن كان هناك من يؤديها. صفتها: 1 - صلاة العيد ركعتان، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم. 2 - تبدأ الركعة الأولى بتكبيرة الإحرام كسائر الصلوات. 3 - يسن أن يكبر المصلي تكبيرات زوائد أخرى، اختلف الفقهاء في عددها: أ- فالشافعية (¬1) على أنها سبع في الركعة الأولى، بين تكبيرة الإحرام وبدء القراءة، وخمس في الركعة الثانية بين تكبيرة القيام وبدء القراءة. دليل ذلك ما رواه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة" (¬2). ب- وذهب المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنها ست تكبيرات في الركعة الأولى عقب تكبيرة الإحرام، وخمس في الثانية عقب القيام إلى الركعة الثانية، أي: قبل القراءة في الركعتين. وبذلك صدرت الفتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 23، 24). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (2/ 180)، برقم (6688). (¬3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (2/ 18، 19). (¬4) المغني (3/ 271، 272). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 301، 302)، برقم (10557).

هل ورد ذكر مشروع بين التكبيرات؟

ج- أما الحنفية (¬1) فالتكبيرات الزوائد عندهم ثلاث، وهي: ثلاث تكبيرات بين تكبيرة الإحرام والركوع في الأولى، ومثلها أيضًا بين تكبيرة القيام والركوع في الركعة الثانية. والذي يظهر أن الأمر في ذلك واسع، ولله الحمد، فلو خالف وجعل التكبيرات خمسًا في الأولى والثانية، أو سبعًا في الأولى والثانية، كما جاء ذلك عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فلا حرج في ذلك، وبهذا قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (¬2). لكن هل ورد ذكر مشروع بين التكبيرات؟ المذهب عند الحنابلة (¬3) أنه يشرع أن يقول: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وصلى الله على محمَّد النبي"، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة (¬4)، وهذا هو الصحيح. وقال بعض العلماء: إنه لا يسن بين التكبيرات ذكر، ولا تسبيح، ولا نحوه، بل المشروع السكوت، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وهذا أقرب للصواب (¬5). 1 - يشرع للمصلي أن يرفع يديه عند التكبيرات الزوائد. 2 - يسن للإمام أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسبح، وفي الثانية بالغاشية؛ لثبوت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -، وله أن يقرأ في الأولى بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 584). (¬2) الشرح الممتع (5/ 131). (¬3) المغني (3/ 273). (¬4) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 302)، برقم (10557). (¬5) الشرح الممتع (5/ 140).

مكان صلاة العيد

الْمَجِيدِ} (¬1)، وفي الثانية بـ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬2) إن لم يكن هناك مشقة. 3 - إذا انتهى الإِمام من صلاته خطب الناس، لكن هل يخطب خطبتين كالجمعة، أم المسنون خطبة واحدة؟ المذهب عند الحنابلة (¬3) أنه يخطب خطبتين كالجمعة، وهذا هو الصواب. مكان صلاة العيد: يسن الخروج لصلاة العيد إلى الصحراء، أو إلى مفازة واسعة خارج البلد؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخالف في ذلك أحد من الأئمة. لكن الشافعية (¬4) قيدوا أفضلية الصلاة في الصحراء بما إذا كان المسجد لا يسع المصلين، فهنا الأفضل الخروج إلى المصلى، أما إذا كان المسجد لا تحصل فيه مزاحمة، فالأفضل الصلاة فيه، وعللوا لذلك بأن المسجد أنظف وأشرف، ولأن الأئمة لا يزالون يصلون العيد بمكة في المسجد. والصحيح ما ذهب إليه الأولون من أن السنة في صلاة العيد أن تصلى في المُصَلِّى، بل لا ينبغي صلاتها في الجوامع إلا لعذر؛ كمطر، ورياح شديدة، ونحو ذلك. وقولنا بأنه لا ينبغي هنا؛ لأن صلاتها في المسجد يفوت به مقصود عظيم وكبير وهو إظهار هذه الشعيرة وإبرازها. ¬

_ (¬1) سورة ق: 1. (¬2) سورة القمر: 1. (¬3) شرح الممتع (5/ 146). (¬4) المجموع (5/ 7).

الأذان والإقامة للعيدين

وهذا شيء مقصود شرعًا، وما ذهب إليه الشافعية مدفوع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك مسجده وصلى في الصحراء، مع أن الصلاة في مسجده لها مَزِيَّةٌ خاصة. أما أهل مكة فكونهم كانوا يصلون العيد في المسجد الحرام، فلعل -والله أعلم- الصلاة في الصحراء في مكة صعبة؛ لأنها جبال وأودية، فيشق على الناس الخروج، ولهذا كانت صلاة العيد في المسجد الحرام نفسه. الأذان والإقامة للعيدين: ليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة؛ فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها من غير أذان ولا إقامة، فعن ابن عباس وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قالا: "لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، إنما الخطبة بعد الصلاة" (¬1). وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة" (¬2). هل يقال في العيدين: الصلاة جامعة؟ ذهب بعض الفقهاء إلى أنه ينادى لها: "الصلاة جامعة". والصحيح أنه لا يشرع ذلك؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة. هل يصلى قبل العيد أو بعدها؟ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى قبل صلاة العيد ولا بعدها، فعن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب العيدين، باب المشي والركوب إلي العيد ... ، برقم (917)، ومسلمٌ في كتاب صلاة العيدين، برقم (886). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب العيدين (2/ 604)، برقم (887).

الخروج إلى المصلى والرجوع منه

ومعه بلال" (¬1). هذا إن صلاها في المصلى. أما إن صلاها في المسجد فالمسنون أن يصلي تحية المسجد، وهذا هو اختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2)، وهو الصحيح؛ لما ورد في تحية المسجد. واختار الشيخ ابن عثيمين (¬3) -رحمه الله-: "من دخل مصلى العيد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (¬4)، ومصلى العيد مسجد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الحُيَّضَ أن يَعْتَزِلْنَهُ". الخروج إلى المصلى والرجوع منه: 1 - يستحب التبكير إلى صلاة العيد ودنوه من الإِمام؛ ليحصل له أجر التبكير وانتظار الصلاة. 2 - ويستحب له أيضًا أن يخرج ماشيًا وعليه السكينة والوقار. 3 - ويستحب أن يخالف الطريق؛ فيذهب من طريق، ويرجع من طريق. 4 - يسن له الخروج مكبرًا، أي قائلًا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. 5 - الأفضل أن يتناول تمرات قبل خروجه لعيد الفطر؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -، أما الأضحى فالأفضل ألا يأكل شيئًا قبل خروجه للصلاة حتى يرجع فيأكل من أضحيته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها (1/ 335)، برقم (945). (¬2) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 304)، برقم (12515). (¬3) مجموع فتاوى ابن عثيمين (16/ 252)، رقم الفتوى (1373). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم فليركع ركعتين (1/ 170)، برقم (433).

التكبير المطلق، والتكبير المقيد

التكبير المطلق، والتكبير المقيد: التكبير للعيدين منه ما هو مطلق، ومنه ما هو مقيد، فالمطلق هو الذي يسن في كل وقت، والمقيد هو الذي يسن في أدبار الصلوات المكتوبة، ويبدأ المقيد من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أما المطلق فيسن في عيد الفطر، وفي عشر ذي الحجة وفي أيام التشريق.

صلاة الكسوف

صلاة الكسوف أولًا: تعريفها: هي صلاة تؤدى بكيفية مخصوصة عند ظلمة أحد النَّيِّرَيْنِ: الشمس، أو القمر. ثانيًا: دليل المشروعية: وردت السنة بمشروعية صلاة الكسوف، ومن ذلك: ما رواه البخاري ومسلمٌ عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي" (¬1). ثالثًا: حكم صلاة الكسوف: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة، واستدلوا لذلك بحديث شعبة المتقدم، فقالوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وفعلها، فدل ذلك على أنها سنة مؤكدة، وقالوا بأن الصارف عن الوجوب حديث الأعرابي، وفيه: أنه سأل عن الصلوات الخمس ثم قال: هل عليَّ غيرها؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إلا أن تطوع شيئًا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الدعاء في الكسوف (1/ 360)، برقم (1011) ومسلمٌ في كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة (2/ 630)، برقم (915). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإيمان (6/ 2551)، برقم (6556)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام (1/ 40)، برقم (11).

رابعا: وقت صلاة الكسوف

2 - وذهب بعض أهل العلم إلى القول بوجوب صلاة الكسوف، وهو قول عند الحنفية (¬1)، وبه قال الشيخ ابن العثيمين (¬2). قال ابن القيم في كتاب الصلاة (¬3): وهو قول قوي أي القول بوجوبها، وعللوا ذلك لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وخروجه إليها فَزِعًا، وقال: "إنها تخويف" وخطب خطبة عظيمة، وعرضت عليه الجنة والنار، فكل هذه القرائن العظيمة تشعر بالوجوب. وأجابوا عن حديث الأعرابي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، بخلاف هذه الصلاة فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب ليس كالواجب المطلق. فلو نذر شخص أن يصلي ركعتين مثلًا، فإنه يجب عليه ذلك، مع أنها ليست من الصلوات الخمس. والصحيح أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لقوة أدلة من قال بذلك، وبهذا قال الشيخ عبد العزيز بن باز (¬4). رابعًا: وقت صلاة الكسوف: يبدأ وقتها من ظهور الكسوف إلى حين زواله؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: "إذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي" (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 565، 566)، فتح القدير (2/ 51)، بدائع الصنائع (1/ 280). (¬2) الشرح الممتع (5/ 182). (¬3) كتاب الصلاة (15). (¬4) مجموع فتاوى سماحته -رحمه الله- (13/ 29). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الدعاء في الكسوف (1/ 360)، برقم (1011)، ومسلمٌ في كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة، (2/ 630)، برقم (915).

خامسا: حكم صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها

ومن هنا نعلم أنه لا تشرع صلاة الكسوف قبل حصوله اعتمادًا على ما يقول به الْفَلَكِيُّونَ، بل لا بد من رؤيته رؤية عادية لا يستخدم فيها نظارات أو مكبرات ونحوه. خامسًا: حكم صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: الأول: أنها لا تصلى في أوقات النهي، لعموم الأدلة الواردة في النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وقد ذكرنا هذه الأدلة سابقًا، وهذا هو قول الحنفية (¬1)، وهو ظاهر مذهب الحنابلة (¬2)، ورواية عن الإِمام مالك (¬3)، وقالوا بأنه يجعل مكانها الاستغفار والتهليل والتسبيح، ونحو ذلك غير الصلاة. القول الثاني: أنها تصلى في أوقات النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب، فتصلى في أي وقت كالصلوات التي لها أسباب، وهذا هو قول الشافعية وهو القول الصحيح. سادسًا: حكم الجماعة لها: اتفق الفقهاء على أداء صلاة كسوف الشمس جماعة، أما في خسوف القمر فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول: قول أبي حنيفة (¬4) ومالك (¬5) أنه يصلى لخسوف القمر وُحْدَانًا ركعتين ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 282). (¬2) المغني (2/ 515، 516). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 403). (¬4) البدائع (1/ 282). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 402).

سابعا: صفتها

ركعتين، ولا يصلون جماعة، وعللوا لذلك بأنه لم يقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى لها جماعة، مع أن خسوفه كان أكثر من كسوف الشمس. القول الثاني: وهو مذهب الحنابلة (¬1) إلى أنها تصلى جماعة ككسوف الشمس. الراجح: أن صلاة خسوف القمر تصلى جماعة مثل الكسوف؛ وذلك لحديث عائشة الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس والقمر لا يُخْسَفَانِ لموت أحد ولا لحياته ... فإذا رأيتم ذلك فافزعزا إلى الصلاة" (¬2). سابعًا: صفتها: اتفق الفقهاء على أن صلاة الكسوف ركعتان، لكنهم اختلفوا في الكيفية: فذهب المالكية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان، وركوعان، وسجدتان. واستدلوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القراءة، وهي دون قراءته الأولى، ثم ركع فأطال الركوع دون ركوعه الأول، ثم رفع رأسه فسجد سجدتين، ثم قام، فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم قام فقال: "إن الشمس والقمر لا يُخْسَفَانِ لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (¬6). ¬

_ (¬1) المغني (3/ 330). (¬2) تقدم تخريجه (ص: 445). (¬3) أسنى المطالب (1/ 285). (¬4) المجموع (5/ 45). (¬5) كشاف القناع (2/ 62)، المغني (3/ 323 - 324). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته (1/ 360)، برقم (1009).

ثامنا: حكم الجهر في صلاة الكسوف

وقال الأحناف (¬1): إنها ركعتان، في كل ركعة قيام واحد وركوع واحد كسائر النوافل. والأولى العمل وفق ما ذهب إليه الأولون؛ لأن الرواية التي احتج بها الجمهور هي أشهر الروايات، ولذا فالعمل بها أولى. ثامنًا: حكم الجهر في صلاة الكسوف: اختلف الفقهاء في حكم الجهر في صلاة الكسوف: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه لا يجهر في كسوف الشمس؛ لأنها صلاة نهار، وصلاة النهار سرية، أما خسوف القمر فإنه يشرع فيها الجهر بالقراءة. 2 - وذهب الإِمام أحمد (¬2)، وهو رواية عن مالك (¬3)، إلى مشروعية الجهر بالقراءة فيها، واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الخسوف فجهر فيها بالقراءة" (¬4) ولأنها نافلة شرعت لها الجماعة فكان من سنتها الجهر، وهذا هو الصحيح، عملا بهذا الحديث. أما عن صفتها فهي أن يصلي الإِمام بالناس ركعتين، في كل ركعة قراءتان، وركوعان، وسجدتان، كما ذكرنا، يطيل القراءة والركوع والسجود، وتكون القراءة في الأولى أطول من الثانية، والركوع الأول أطول من الركوع الثاني، وهكذا القراءة في الركعة الثانية أقل من القراءة في الركعة الأولى، ثم يكون الركوع في الثالث أخف من الركوعين الأولين، وهكذا القراءة في الثانية من الركعة الثانية ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 281). (¬2) كشاف القناع (2/ 62)، المغني (3/ 326). (¬3) أسنى المطالب (1/ 286). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الجهر بالقراءة في الكسوف، برقم (1016).

تاسعا: هل يشرع لها خطبة؟

أخف من القراءة الأولى فيهما، وهكذا الركوع الثاني أخف من الركوع الأول فيهما، أما السجدتان في الركعتين فيسن تطويلهما تطويلًا لا يشق فيه على الناس. تاسعًا: هل يشرع لها خطبة؟ 1 - الجمهور على أنه لا يشرع لها خطبة بعدها ولا قبلها. 2 - وقال الشافعية (¬1): يسن أن يَخْطُبَ لها بعد الصلاة خُطْبَتَيْنِ كخطبتي العيد، واحتج الشافعية لذلك بما رواه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبِّروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا" (¬2). والصحيح في ذلك أنه يشرع للإمام إذا انتهى من صلاته، عملًا بالحديث، أن يقبل على الناس بوجهه ويذكرهم وَيَعِظَهُمْ، إن كان لديه علم، ويخبرهم أن كسوف الشمس وخسوف القمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وأن حصول ذلك لا يكون إلا بسبب الذنوب والمعاصي، ويخوفهم من سخط الله وعقابه، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين. عاشرًا: إذا صلى الناس ولم يَنْجَلِ الكسوف، هل تكرر الصلاة؟ إذا صلى الناس الكسوف ولم ينجل فإنه لا يشرع تكرار الصلاة، بل الذي يشرع الإكثار من الذكر والتكبير والصدقة والعتق؛ لوجوب الحث على ذلك، كما تقدم في حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدم. ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 52). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف (1/ 354)، برقم (997)، مسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف (2/ 618)، برقم (901).

صلاة الكسوف عند خسوف القمر وقبل طلوع الشمس

صلاة الكسوف عند خسوف القمر وقبل طلوع الشمس: يرى بعض الفقهاء أنها لا تصلى؛ لأنه وقت نهي، والصحيح أنها تصلى إذا كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، فهنا قد ذهب سلطانه والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفًا أو مبدرًا. إذا نزل بالمسلمين نازلة، كزلزلة أو عواصف عظيمة تخيف الناس، أو رياح شديدة مهلكة ونحو ذلك من الآيات الكونية، فهل يصلى لها؟ اخْتُلِفَ في ذلك على أقوال: الأول: ذهب الحنفية (¬1) إلى أنه يصلى لكل ما يُفْزعُ؛ كرياح، وزلازل، وظلمة نهار، وبياض ليل، وغير ذلك من الأهوال. الثاني: يرى الحنابلة (¬2) أنه لا يصلى لكل ذلك إلا لزلزلة دائمة، فيصلى لها كصلاة الكسوف، أما غيرها فلا يصلى لها، واحتجوا لذلك بفعل ابن عباس -رضي الله عنهما- حين كانت الزلزلة بالبصرة. الثالث: ذهب الشافعية (¬3) إلى أنه لا يصلى لغير الكسوفين صلاة جماعة، بل يتضرع بالدعاء، ويستحب أن يصلوا منفردين. الرابع: وذهب المالكية (¬4) إلى أنه لا يصلى مطلقًا. والصحيح: ما ذهب إليه الأحناف، وقد أخذ به الشيخ ابن العثيمين (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 282). (¬2) كشاف القناع (2/ 65، 66)، المغني (3/ 332، 333). (¬3) أسنى المطالب (1/ 288). (¬4) مواهب الجليل (2/ 200). (¬5) الشرح الممتع (5/ 195).

ما بعد الركوع الأول في صلاة الكسوف هو سنة وليس ركنًا، وعلى ذلك لو صلاها كما تصلى النافلة، أي: يجعل في كل ركعة ركوعًا واحدًا، فلا بأس. لا تدرك الركعة من صلاة الكسوف بالركوع الثاني من الركعة الأولى، وإنما تدرك بالركوع الأول فيها، وعلى ذلك لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول، فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها؛ لأن الركوع الأول ركن، والثاني سنة.

كتاب الجنائز

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الجنائز

تعريف الجنائز

كتاب الجنائز تعريف الجنائز: الجنائز جمع "جَنازة" بالفتح: الميت، وبالكسر "جِنازة": السرير الذي يوضع عليه الميت، وقيل بالعكس. وقيل: "جِنازة" بالكسر: السرير مع الميت، فإن لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش (¬1) ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمريض: 1 - يجب على المريض أن يؤمن بقضاء الله، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن يصبر على قدر الله تعالى، ويحسن الظن بربه سبحانه وتعالى، وأن يكون بين الخوف والرجاء، ولا يتمنى الموت. 2 - ويجب عليه أيضًا أن يتخلص من حقوق الناس، وأن يؤدي حق ربه سبحانه وتعالى. 3 - ويسن له أيضًا أن يكتب وصيته، ويوصي أولاده بتقوى الله تعالى، وأن يحرصوا على هذا الدين، قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬2). 4 - ويسن للمريض أيضًا أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثونه؛ فيوصي لهم بالثلث فأقل، وهذا هو الأفضل، ولا يجوز له أن يوصي لوارث؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: المصباح المنير، مادة: "جنز"، والدر المختار (1/ 599). (¬2) سورة البقرة: 133.

"لا وصية لوارث" (¬1). 5 - يشرع للمريض أن يتداوى، وقد اختلف الفقهاء في حكم التداوي: 1 - فذهب الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) إلى أنه يباح التداوي. 2 - وذهب الشافعية (¬4) إلى استحبابه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام" (¬5). 3 - وذهب جمهور الحنابلة (¬6) إلى أن تركه أفضل، ونص عليه أحمد. قالوا: لأنه أقرب إلى التوكل. 4 - وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب إذا ظن نفعه. والراجح: نرى أنه يمكن الجمع بين الأقوال على النحو الآتي: أ- إن كان في ترك التداوي الهلاك وغلب على الظن نفع التداوي مع احتمال الهلاك بعدمه، فهنا يجب التداوي، مثل السرطان الموضعي، فإذا كان يترتب على إزالته جزء من البدن مع نجاة المصاب منه، فهنا يجب. ب- أما إن غلب على الظن نفع التداوي ولكن ليس هناك هلاك محقق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في تضمين العارية، برقم (3565)، والترمذيُّ في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث برقم (2120)، والنسائيُّ في كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث، برقم (6468). (¬2) حاشية ابن عابدين (5/ 215، 249). (¬3) الفواكه الدَّوَاني (2/ 44). (¬4) روضة الطالبين (2/ 96). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم (3873) من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-. (¬6) كشاف القناع (2/ 76).

بتركه، فهو أفضل. ج- إذا تساوى فيه الأمران، بمعنى أنه ظن نفعه مع احتمال الهلاك به أي (بالتداوي)، فهنا الأفضل تركه؛ لئلا يلقي بنفسه إلى تَهْلُكَةٍ. 6 - لا يجوز استطباب غير مسلمين إلا بشرطين: الحاجة إليهم، والأمن من مكرهم؛ وذلك لأن غير المسلمين لا يأمن مكرهم؛ فقد يعطونه دواء فيه هلاكه. 7 - يسن لمن علم بمرض أخيه المسلم عيادته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حق المسلم على المسلم خمس" وفي رواية: "ست"، وفيه قوله: "وإذا مرض فَعُدْهُ" (¬1). وقد اختلف الفقهاء في حكم عيادة المريض، والذي يظهر أن عيادة المريض واجبة على الكفاية؛ أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم. لكن إن كان المريض أبًا أو أمًا أو أخًا، فهنا يكون الوجوب عينيًا. 8 - الأفضل لمن عاد مريضًا أن لا يتأخر عنده، بل يبادر بالانصراف؛ لأن المريض قد يثقل عليه ذلك، إلا إذا كان هذا المريض يحب من يعوده ويرغب أن يبقى عنده ويتحدث إليه. 9 - هل يكفي الاتصال الهاتفي عن العيادة؟ الاتصال الهاتفي لا يغني عن العيادة، لا سيما القرابة، أما إذا كان المريض بعيدًا ويحتاج إلى سفر إليه، فيغني. 10 - يسن لمن عاد مريضًا أن يرقيه، لا سيما إذا كان المريض ممّن يشوق لذلك ويرغب فيه، ومعلوم ما في الرقية من النفع العظيم للمريض. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنازة، برقم (1183)، ومسلمٌ في كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، برقم (2162) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ذكر أحكام الاحتضار

ذكر أحكام الاحتضار: 1 - المحتضر هو مَنْ حضره الموت، والمراد به مَنْ قرب موته. وقد ذكر العلماء للاحتضار علامات: أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، ويعوج أنفه، ويَنْخَسِفَ صِدْغَاهُ، ويمتد جلد جبهته، فلا يرى فيه تَعَطُّفٌ، وغير ذلك من علامات الاحتضار. 2 - عند حضور علامات الموت لشخص ما يشرع لمن حضر عنده أمور منها: أولًا: تلقينه الشهادة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقّنُوا موتاكم لا إله إلا الله" (¬1)، وقوله: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت، دخل الجنة يومًا من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه" (¬2). ثانيًا: أن يدعو له. ثالثًا: لا يقول في حضوره إلا خيرًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون" (¬3). لكن هل التلقين للشهادة يكون بذكرها بحضرة الميت وتسميعها إياه، أم يكون بأمره أن يقولها؟ ظاهر الحديث أنه يكون بأمره بقولها، وبدليل حديث أنس -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلًا من الأنصار فقال: "يا خال، قل لا إله إلا الله"، فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله برقم (916). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في التلقين، برقم (3116)، وأحمدُ في المسند (5/ 233) رقم (22087)، وابن حبان في صحيحه (7/ 272) رقم (3004) واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض والميت، برقم (919) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.

أخال أم عم؟ فقال: "لا، بل خال"، فقال: فخير لي أن أقول لا إله إلا الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" (¬1). 3 - ذهب بعض الفقهاء إلى قراءة سورة يس عند المحتضر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرءوا على موتاكم يس" (¬2). والحديث فيه ضعف. وعللوا أيضًا بأن قراءتها فيها تخفيف لخروج الروح، ولأن فيها تشويقًا كما في قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} (¬3)، وفيها قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ في شُغُلٍ فَاكِهُونَ} (¬4). وإذا قرأ القرآن عند المحتضر أو المريض فهذا أمر طيب، ولعل الله أن ينفعه به. 4 - ذهب بعض الفقهاء إلى توجيه المحتضر إلى القبلة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا" (¬5) فيجعل المحتضر على جنبه الأيمن ويوجه إلى القبلة كما يوضع في اللحد. وذهب بعض العلماء إلى عدم استحباب ذلك؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة. والذي اختاره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز استحباب توجيه المحتضر للقبلة (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 154) رقم (12585). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب القراءة عند الميت، برقم (3121)، والنسائيُّ في كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يقرأ على الميت، برقم (10913) من حديث مَعْقِلِ بن يسار -رضي الله عنه-، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، رقم (683)، (ص: 316). (¬3) سورة يس: 26. (¬4) سورة يس: 55. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، برقم (2874) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬6) مجموع فتاوى الشيخ (13/ 101).

ما يشرع بعد الموت

ما يشرع بعد الموت: 1 - اتفق الفقهاء على أنه إذا مات الميت شُدَّ لحِيَاهُ وغمضت عيناه؛ لفعله بخلاف - صلى الله عليه وسلم - بأبي سلمة -رضي الله عنه-؛ فقد روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه وقال: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر" (¬1). 2 - يتولى أرفق أهله به إغماضه بأسهل ما يقدر عليه، ويشد لِحْيَاهُ بعصابة عريضة يشدها في لحيه الأسفل ويربطها فوق رأسه ويقول مع تغميضه: "بسم الله وعلى ملة رسول الله" ويدعو للميت بقوله: "اللَّهم يسر عليه أمره وسهل عليه ما بعده وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيرًا مما خرج منه". 3 - يشرع أيضًا تليين مفاصل المتوفى ورد ذراعيه إلى عَضُدَيْهِ، ويرد أصابع كفيه ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه وساقيه إلى فخذيه ثم يمدها أيضًا. 4 - يستحب أيضًا أن تنزع ثياب المتوفى الذي مات فيها وَيُسَجَّى جميع بدنه بثوب، فقد روى البخاري ومسلمٌ عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَهٍ" (¬2). 5 - ينبغي أن يجعل الميت على شيء مرتفع؛ كسرير أو لوح مرتفع؛ لئلا تصيبه نَدَاوَةُ الأرض فيتغير ريحه، ولئلا تؤذيه هَوَامُّ الأرض، ولذلك يجعل على بطنه حديد أو طين يابس؛ لئلا ينتفخ، هذا إذا لم يكن هناك سرعة في تجهيزه وليس هناك ثلاجات تحفظ الميت. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 125) رقم (17176)، وابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في تغميض الميت برقم (1455)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 245) رقم (1190). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب اللباس، باب البُرُود والحِبَرَة والشَّمْلَة، برقم (5477).

6 - يستحب لأهل الميت أن يخبروا جيرانه وأصدقاءه وأقاربه، وذلك ليقوموا بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه والدعاء له. ويكره النَّعْيُ؛ وهو النداء في الناس بموته؛ لحديث حذيفة -رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النعي" (¬1). أما الإعلام به لا على صورة نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر ونحو ذلك، فلا بأس به (¬2)؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النَّجَاشِيَّ في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعًا" (¬3)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يَقُمُّ المسجد فمات فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتم آذَنْتُمُوني به، دُلُّوني على قبره"، أو قال: "قبرها"، فأتى قبرها فصلى عليها (¬4). 7 - يستحب المسارعة بقضاء دين الميت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن النعي (1/ 474)، برقم (1476)، والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية النعي، (3/ 313)، برقم (986) وقال: حسنٌ صحيحٌ. (¬2) المغني، لابن قدامة (2/ 226)، الإنصاف (2/ 468)، شرح صحيح مسلم، للنووي (7/ 21)، فتح الباري (3/ 116)، و (8/ 340). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه (1/ 420)، برقم (1188)، وفي باب التكبير على الجنازة أربعًا ... إلخ (1/ 447)، برقم (1268)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في التكبر على الجنازة (2/ 656)، برقم (951). واللفظ للبخاري. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد (1/ 175) برقم (446)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر (2/ 659) برقم (956). واللفظ للبخاري. (¬5) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الجنائز، باب ما جاء أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه برقم (1078) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 312) رقم (860) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

لكن إن كان الميت فقيرًا وعليه دين، فقال الحنابلة (¬1): إن تعذر الوفاء استحب للورثة أو غيرهم أن يتكفلوا عنه، فالكفاله بدين الميت صحيحة عند أكثر الفقهاء، وخالف أبو حنيفة (¬2) فقال: الكفالة لا تصح على ميت مُفْلِسٍ. والصحيح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء وهو استحباب ذلك. 8 - يسن الإسراع بتجهيز الميت إن تيقن موته ولا يؤخر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظَهْرَانِي أهله" (¬3)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" (¬4). 9 - يحرم النَّوْحُ والصياح وشق الجيوب وغير ذلك من دعوى الجاهلية، وذلك في منزل الميت أو في أثناء الجنازة أو في أي محل آخر، وذلك لورود النهي عن ذلك؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشَّاقَّة (¬5) " (¬6). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من ضرب الخدود وشق ¬

_ (¬1) غاية المنتهى (1/ 228). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 270). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها، برقم (3159). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم (1252)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة برقم (944)، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬5) الصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة. شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 110). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة برقم (1234)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، برقم (104).

الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" (¬1). أما البكاء بغير رفع الصوت، أي: بدمع العين، فهذا جائز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنه إبراهيم: "إن العين تَدْمَعُ والقلب يحزن، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون" (¬2). وجاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم: عن أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه ابن لابنته ونفسه تَتَقَعْقَعُ، ففاضت عيناه وقال: "هذه رحمه جعلها الله في قلوب عباده" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ليس منا من ضرب الخدود، برقم (1235)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية برقم (103). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا بك لمحزونون"، برقم (1241)، ومسلمٌ في كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2315). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، برقم (1224)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم (923).

تغسيل الميت وتكفينه

تغسيل الميت وتكفينه حكم تغسيل الميت: اتفق جمهور الفقهاء على أن تغسيل الميت واجب على الكفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ما يشترط في مباشر التغسيل: 1 - كونه مسلمًا، فقد ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى اشتراط كون المباشر للتغسيل مسلمًا، فلا يصح تغسيل الكفار للمسلم؛ لأن التغسيل عبادة، والكافر ليس من أهلها. 2 - أن يتولى تغسيل الميت من جنسه؛ فلا يغسل الرجال إلا الرجال، ولا يغسل النساء إلا النساء، إلا الزوجة: فيجوز لها تغسيل زوجها، والعكس إذا لم يحدث قبل موته ما يوجب البَيْنُونَةَ. والأصل في تغسيل الزوجة لزوجها حديث عائشة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنها-: "ما ضرّك لو متِّ قبلي فغسَّلتك وكفَّنتك ثم صليت عليك ودفنتك" (¬5)، وقول عائشة -رضي الله عنها- أيضًا: "لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غيرُ نسائه" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 597). (¬2) مواهب الجليل (2/ 254). (¬3) المجموع (5/ 145). (¬4) نيل المآرب (1/ 220). (¬5) أخرجه أحمد في المسند (6/ 228)، رقم (25950)، والنسائيُّ كتاب الوفاة، باب بدء علة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم (7080). (¬6) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، رقم (1464) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 247) رقم (1196).

فإذا مات الرجل بين نسوة غير زوجته ولا يوجد رجل يقوم بتغسيله، وكذلك إذا ماتت امرأة ولم يوجد نسوة يقمن بتغسيلها، فهنا يشرع التيمم بنية الوضوء والغسل جميعًا، تغليبًا لجانب المحافظة على العورات. فإن الغالب ممّن يباشر تغسيل الميت، ولو بِصَبِّ الماء عليه، أن يقع بصره على شيء من عورته، وأن يمسه ويقلِّبه؛ ليتمكن من تعميم الماء على جسده. أما تغسيل الأطفال الصغار فلا حرج بتغسيل الرجال والنساء لهم، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة تغسل الصبي الصغير" (¬1). أما حد الصِّغر فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فالحنفية (¬2) والشافعية (¬3) قيدوا الصغر بالذي لا يشتهي، وقيده المالكية (¬4) بثمان سنين فما دونها، وقيده الحنابلة (¬5) بدون سبع سنين، وهذا هو الصحيح وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬6). والمصرح به في مذهب الحنابلة أن الرجل لا يغسل الصبية إلا ابنته الصغيرة، قال ابن قدامة (¬7): والصحيح ما ذهب إليه السلف من أن الرجل لا يغسل الجارية. 3 - كون الغاسل عارفًا بكيفية الغسل، فإذا كان المغسل غير عارف بكيفية الغسل، فلا يجوز له تغسيل الميت. ¬

_ (¬1) المغني (3/ 465). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 306). (¬3) حاشية الجمل على المنهج (2/ 151). (¬4) مواهب الجليل (2/ 234). (¬5) المغني (3/ 465). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (13/ 109). (¬7) المغني (3/ 466).

الأحق بتغسيل الميت

لكن إن كان الميت أوصى لِزَيْدٍ من الناس بتغسيله وهو لا يعرف كيفية الغسل، فهل تنفذ وصيته؟ لا شك أن تنفيذ الوصية واجب عند الاستطاعة والتمكين، لكن ما دام الأمر كذلك، فإن استطاع تعليم الموصى كيفية التغسيل أو أمكن حضور بعض الناس ممّن يعلم الغسل وإرشاده ويقول: افعل كذا افعل كذا، لزم ذلك، وإلا فلا يلزم تنفيذها؛ لوقوعها في محل غير قابل للتنفيذ. الأحق بتغسيل الميت: الأحق بتغسيل الميت وصيّه ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ثم ذوو أرحامه. وهذا الترتيب يحتاج إليه عند حصول المُشَاحَّةِ، لكن إن كان الوضع على ما هو عليه الآن في عصرنا هذا من عدم المشاحة، فإنه يتولى تغسيله من يتولى غسل عامة الناس. حكم تغسيل المسلم للكافر: ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تغسيل المسلم للكافر؛ لأن الكافر ليس من أهل الكرامة والتعظيم، والغسل يوجبهما. وذهب الحنفية (¬1)، وهو المذهب عند الشافعية (¬2)، إلى جواز تغسيل المسلمين غيرهم من الكافرين. والصحيح أنه يحرم تغسيل المسلم للكافر؛ لأنه ليس له حرمة، بل يوارى فقط عن أعين الناس؛ حتى لا يتأذى الناس برائحته. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 567). (¬2) المجموع (5/ 141).

حكم تغسيل الشهيد

حكم تغسيل الشهيد: من مات شهيدًا في معركة بين الكفار، فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يغسل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: "ادفنوهم بدمائهم" (¬1). لكن إن كان الشهيد جنبًا فهل يغسل؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالحنفية (¬2) والشافعية (¬3) ورواية عند الحنابلة (¬4) أنه يغسل. 2 - ويرى جمهور المالكية (¬5) وأبو يوسف ومحمَّد من الحنفية (¬6) وفي الأصح عند الشافعية (¬7) أنه لا يغسل؛ لعموم الخبر. والصحيح أنه لا يغسل، سواء كان جنبًا أو غير جنب؛ لعموم الأدلة، ولأن الشهادة تُكَفِّرُ كل شيء، وبهذا قال الشيخ ابن عثيمين (¬8). حكم تغسيل من ورد فيهم لفظ الشهادة: الاختلاف عند