الروض المعطار في خبر الأقطار
الحميري، ابن عبد المنعم
مقدمة
مقدمة ورد ذكر الروض المعطار في طبعة فلوجل من كشف الظنون مرتين (1) : مرة على أن مؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الحميري المتوفى سنة 900 ومرة أخرى على أن المؤلف هو المؤلف هو أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم الحميري (دون ذكر لسنة الوفاة) ، وقد كان هذا محيراً للأستاذ ليفي بروفنسال حين أقدم على نشر القسم المتعلق بالأندلس من الروض، وتعبر مقدمته التي كتبها للترجمة الفرنسية (La Peninsule Iberique au Moyen - Age) عن هذه الحيرة من ناحيتين: أولاهما لماذا هذا الاختلاف في اسم المؤلف، والثانية: إذا كان قد توفي سنة 900 - كما يقول حاجي خليفة - فهذه قضية تقف في وجهها حقيقتان بارزتان: 1 - كيف يمكن أن تتأخر وفاة مؤلف الروض المعطار إلى هذا التاريخ، ونحن نجد أن القلقشندي صاحب صبح الأعشى المتوفى سنة 821 والذي انتهى من تأليف كتابه سنة 814 يعتمد الروض المعطار واحداً من مصادره الجغرافية؟ 2 - هنالك كتاب بعنوان " جني الأزهار من الروض المعطار " يوحي بأنه ملخص من كتاب الروض، وهو منسوب للمقريزي المتوفى سنة 845. وإلى جانب هاتين الحقيقتين تقف حقيقة ثالثة، فقد وجد بروفنسال في ختاك إحدى النسخ التي اعتمد عليها من نسخ الروض هذه العبارة: " هذا آخر الجزء الثاني من الروض المعطار في خبر الأقطار للشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي محمد عبد الله بن عبد المنعم ابن [عبد المنعم الحمير] ي رحمة الله عليه، وتتمامه جميع الكتاب في صبح يوم الجمعة السابع عشر من شهر صفر الخير أحد شهور سنة ست وستين وثمان مائة بساحل جدة المعمور؟ ".
وقد فهم بروفنسال من هذه العبارة أن المؤلف قد انتهى من تأليف كتابه سنة 866، وهذا يقوي القول بأن يكون تاريخ وفاته سنة 900 صحيحاً. وهذه الحقائق مجتمعة دفعت بروفنسال إلى افتراض مؤلفين كل منهما ينتسب إلى حمير قام أولهما بكتابة صورة أولى من " الروض المعطار " وقام الثاني بانتحال عمل الأول، وربما أضاف إليه شيئاً، دون أن يذكر ما للمؤلف الأول من فضل عليه. وعند مناقشة الحقائق التي واجهت بروفنسال لا تبقى هناك حاجة إلى هذا الفرض الذي وضعه: 1 - أما أن صاحب صبح الأعشى ينقل عن الروض المعطار، فتلك حقيقة لا نستطيع إنكارها، وهي وحدها تثبت أن المؤلف لا يمكن أن يكون قد عاش حتى سنة 900، وأنه على هذا لابد من أن يكون من أبناء القرن الثامن. 2 - وأما أن المقريزي لخص الروض المعطار في كتاب سمّاه " جني الأزهار من الروض المعطار " فتلك مسألة ما كان لبروفنسال أن يتمسك بها، فقد أثبت فولرز (Vollers) سنة 1889 ثم بلوشيه (Blochet) سنة 1925 أن هذا الكتاب المسمى " جني الأزهار " إنما هو تلخيص لنزهة المشتاق (1) . وعندما كنت في برلين سنة 1970 صورت النسخة البرلينية من " جني الأزهار " (2) لأستعين بها في تحقيق الروض المعطار، ولدى عودتي قمت بدراستها - قبل أن أطلع على ما كتبه فولرز وبلوشيه - ولم يخامرني أدنى شك في أنها تلخيص لنزهة المشتاق، أما لماذا سميت " جني الأزهار من الروض المعطار " فربما كان هذا يتطلب إيجاد " روض معطار " آخر غير الموجود في أيدينا. 3 - إن بروفنسال قد سمح لتصحيف الناسخ بأن يسيطر على وهمه، فالنص الذي قرأه في آخر النسخة المشار إليها، يجب أن يقرأ على النحو الآتي " هذا آخر الجزء الثاني من الروض المعطار؟ وبتمامه [تم] جميع الكتاب في صبح يوم الجمعة السابع عشر من شهر صفر الخير أحد شهور سنة ست وستين وثمان مائة " - وهذا التاريخ هو تاريخ النسخة التي نقل عنها الناسخ الثاني، وكان نقله سنة 1049؛ فنحن إزاء تاريخين لنسختين، ولا يعد الأول منهما تاريخياً للتأليف بأية حال؛ وقد تنبه الأستاذ رتزيتانو إلى ناحية جديرة بالتوقف حين قال: " وحتى إننا لو افترضنا جدلاً أن السنة المذكورة تعتبر تاريخياً لانتهاء المؤلف من وضع الروض المعطار، فليس من المعقول أن يصف نفسه بعبارات التفخيم والمديح على الصورة الواردة في هذا النص (يريد قوله: الشيخ الفقيه
مؤلف الروض المعطار
العدل.. ") . وحسناً فعل الأستاذ رتزيتانو لو أنه استشهد هنا بما جاء في هذه العبارة من قوله " رحمة الله عليه "، فإنها تشير إلى عمل الناسخ لا إلى عمل المؤلف. أين نقف بعد ذلك من هذا كله؟ 1 - لدينا كتاب اسمه " الروض المعطار في خبر الأقطار " وتتفق النسخ المتباعدة - مكاناً وزماناً - على أن مؤلفه هو " أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي محمد عبد الله بن عبد المنعم بن عبد النور الحميري "، وعلى هذا الكتاب يعتمد القلقشندي، فلابد أن يكون مؤلف هذا الكتاب ممن عاش قبل مطلع القرن التاسع (في أقل تقدير) . 2 - إن ذكر حاجي خليفة له مرتين يعني اطلع على نسختين: إحداهما ذكرت اسمه كاملاً والأخرى اسمه مؤخراً، ولما كان حاجي خليفة - وهو منسق ببليوغرافي - غير مسؤول عن تحقيق الفرق بين الاسمين، فإثباته ما أثبته أمانة دقيقة منه في عمله. 3 - ذكر حاجي خليفة سنة 900 تاريخاً لوفاة المؤلف، وقد حاول غودفري - ديمومبين أن يقول إن هذا خطأ شائع في المخطوطات العربية بين " تسعمائة " و " سبعمائة " ووافقه على ذلك الأستاذ رتزيتانو (1) ؛ ولكن الحقيقة أن عام " سبعمائة " لا يصلح لتقرير سنة وفاة المؤلف، " إذن " فإن الراجح أن حاجي خليفة اطلع على نسخة من الروض كتبت سنة 900، ثم اضطرب عليه الأمر فظنها سنة وفاة المؤلف، وهذا غير عجيب عند حاجي خليفة، فقد قال عند ذكر الإمتاع والمؤانسة إن التوحيدي توفي سنة 380 وقال حين ذكر المقابسات " المتوفى بعد سنة أربعمائة تقريباً "، فأيهما نصدق؟ إذن فإن الأخذ الحرفي بما يقوله حاجي خليفة أمر مضلل، دون ريب. مؤلف الروض المعطار من هو مؤلف الروض المعطار إذن؟ كل الدلائل ترجح أنه هو الذي وجد بروفنسال نفسه ترجمته في " الإحاطة " - ووجدها رتزيناتو في الدرة الكامنة لابن حجر، وهو ينقل عن الإحاطة - وهذا ما يقوله لسان الدين ابن الخطيب عنه (2) : 1 - ترجمة المؤلف " محمد بن عبد المنعم الصنهاجي الحميري، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن عبد المنعم، من أهل سبتة الأستاذ الحافظ.
حاله
حاله من عائد الصلة (1) : كان رحمه الله رجل صدق (2) ، طيب اللهجة سليم الصدر تام الرجولة، صالحاً عابداً، كثير القرب والأوراد في آخر حاله، صادق اللسان. قرأ كبيراً وسنه تنيف على سبع وعشرين، فشأى (3) أهل الدءوب (4) والسابقة، وكان من صدور الحفاظ (5) ، لم يستظهر أحد من زمانه من اللغة (6) ما استظهره، فكان (7) يستظهر كتاب التاج للجوهري وغيره، آية تتلى ومثالاً يضرب (8) ، قائماً على كتاب سيبويه يسرده بلفظه، اختبره الفاسيون في ذلك غير ما مرة، طبقة في الشطرنج يلعبها محجوباً (9) ، مشاركاً في الأصول، آخذاً في العلوم العقلية مع الملازمة (10) للسنة، يعرب أبداً كلامه ويزنه (11) . مشيخته أخذ (12) ببلده عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، ولازم [الأستاذ] أبا القاسم ابن الشاط وانتفع به وبغيره من العلماء. دخوله غرناطة قدم (13) غرناطة مع الوفد [الذين قدموا] من أهل بلده (14) [سبتة] عندما صار إلى إيالة (15) الملوك من بني نصر لما وصلوا بالبيعة. وفاته كان من الوفد الذين استأصلهم الموتان (16) ، منصرفهم عن باب السلطان ملك المغرب (17) ، باحواز تيزى (18) ، حسبما وقع التنبيه على بعضهم (19) .)) 2 - تعليق على هذه الترجمة 1 - تقول هذه الترجمة إن ابن عبد المنعم سبتي. غير أن المقري صاحب نفح الطيب يقول وهو ينقل عنه: " ولنرجع إلى كلام صاحب الروض المعطار فإنه أقعد بتاريخ الأندلس إذ هو منهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه " (20) . فهل هو سبتي أو أندلسي؟ إن اهتمامه بجغرافية
الأندلس وأحداثها، في كتابه، يجعل المرء يظن، ولو كان هو المقري المهاجر البعيد عند الأندلس والمغرب، أن مؤلف الروض المعطار أندلسي، فالخطأ هنا ليس خطأ صاحب الروض، الذي كان سبتياً دخل الأندلس، وإنما هو خطأ الذين ظنوا أنه أندلسي النسبة لإسرافه في الحديث عن الأندلس. وقد أكد نسبته إلى سبتة محمد بن القاسم الأنصاري السبتي حين ذكر أنه مقبور بمقبرة المنارة بسبتة وأنه من أهلها في قوله: " قبر الشيخ اللغوي الحافظ الأنبل المتفنن في المعارف، أوحد زمانه في ذلك، وإمام عصره، أبي عبد الله ابن عبد المنعم الصنهاجي من أهل سبتة " (1) . 2 - وتمدنا هذه الترجمة بصورة فيها شيء من التفصيل عن منجي ثقافته وضروب براعته إذ تصوره متضلعاً في الحديث واللغو والنحو، مضيفاً إلى ذلك كله إطلاعاً على العلوم العقلية، ومهارة خارقة في الشطرنج. ويؤكد ابن القاسم الأنصاري ما قاله ابن الخطيب حول تضلعه في القراءة والحفظ واللغة، وتفرده في هذه الشؤون حتى أصبح " أوحد زمانه في ذلك وإمام عصره ". ومما يؤكد ذلك طبيعة الاتجاهات التي سار فيها أساتذته الذين درس عليهم، وقد ذكر منهم ابن الخطيب اثنين وهما: أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عيسى الغافقي (- 716) ، وشيخ النحاة والقراء بسبتة، فقد كان يتقن كتاب سيبويه، ولعل ابن عبد المنعم أخذه عنه، كما صنف كتاباً في قراءة نافع وآخر في شرح الجمل (2) أما أستاذه الثاني فهو أبو القاسم، القاسم بن عبد الله بن الشاط (- 723) فقد كان يقرئ الأصول والفرائض بمدرسة سبتة، وكان حسن المشاركة في العربية، متقدماً في الفقه ريان من الأدب (3) . وقد طبعت هذه الثقافة شخصية ابن عبد المنعم بطابعها، فقد كان الرجل على جانب غير قليل من التدين، وفي آخر عمره كان كثير " القرب والأوراد "، معروفاً بالصلاح بين معاصريه، سليم الصدر، كما يمكن أن يتصوره من يقرأ كتاب " الروض المعطار "، مهتماً بإعراب كلامه، وفي هذا من المشقة عليه وعلى معاصريه ما فيه. وفي كتاب الروض ما يشير من بعيد إلى ملامح من شخصيته، فهو من ناحية التقوى لا يدع أحداً من الصحابة دون أن يقرن اسمه ب؟ " رضي الله عنه "، ولو مر في الصفحة الواحدة عدة مرات - وهذا ليس من صنيع النساخ فيما اعتقد - وهو يحب أن يقف عند أمجاد المسلمين الأوائل، ولهذا تجده مغرماً بنقل أخبار الفتوح؛ وقد أحس هو نفسه أنه أسرف في النقل، حين تحدث عن معركة الزلاقة، فشفع ذلك بقوله: " قال مؤلف هذا الكتاب [رحمة الله عليه] : قد خالفت بشرح هذه الوقيعة شرط الاختصار لحلاوة الظفر في وقت نزول الهموم ووقوعها في الزمن الخامل، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء وهو المستعان ". ولعلها الملاحظة الوحيدة التي سمح لنفسه بتقييدها تعبيراً عن مشاعره الذاتية.
3 - وهذه الثقافة وتلك الشمات المحببة في شخصيته كسبت له تقدماً في مدينة سبتة، ولهذا نجده يشارك في حياتها السياسية مرتين: الأولى عندما ذهب في الوفد إلى غرناطة ليقرر تبعية سبتة لبني نصر، وقد عرفنا لسان الدين إلى اثنين آخرين كانا في ذلك الوفد، وهما أستاذه أبو القاسم ابن الشاط، ومحمد بن علي بن هانئ اللخمي السبتي " - 733 " (1) ؛ وقد كان انتماء سبتة إلى حكم بني نصر سنة 705، وعودتها إلى المرينيين سنة 709 (2) ، وعلى هذا تكون الوفادة قد تمت في أوائل تلك المرحلة بين هاتين السنتين. 4 - وتقول هذه الترجمة إن وفاة ابن عبد المنعم كانت إثر عودته من زيارة لسلطان المغرب - باحواز تازه - بسبب انتشار موتان. وقد أراد بروفنسال أن يفهم من لفظة " موتان " أنها تعني وبأ جارفاً، ولكن الصيغة في النسخة الكتانية من الإحاطة وردت على النحو التالي: " الذين استأصلهم الموت "؛ غير إن استئصال الموت لوفدٍ يعني أنهم ربما تعرضوا لوبأ جارف، ولما كان الوبأ الذي اكتسح المشرق والمغرب قد حدث سنة 749، فهل ذلك مما يجعلنا نقول بوفاة ابن عبد المنعم في حدود ذلك العام؟ كان ذلك ممكناً لولا إن ابن حجر ذكر في الدرر الكامنة أن وفاة ابن عبد المنعم كانت سنة 727، وليس هناك من سبب يجعلنا نرد هذا التاريخ، وإن لم تحدثنا المصادر عن " موتان " ألم بالمغرب في ذلك العام. 5 - ومع ذلك كله يبقى سؤال لابد من الإجابة عليه لتوضيح الموقف: في سنة 728 كانت سبتة تشهد قدوم السلطان أبي سعيد المريني إليها لإخضاعها، وتقويم زيغها عن الطاعة للمرنيين، وقد استجابت سبتة لإرادة السلطان، " فاحتل بقصبتها وثقف جهاتها ورم منثلمها وصلح خللها واستعمل كبار رجالاته وخواص مجلسه في أعمالها " (3) فما هي الغاية - إذن - من الوفد في السنة السابقة؟ أليس من الطبيعي أن يكون ذهاب الوفد بعد هذه الإجراءات التي قام بها أبو سعيد المريني؟ أن القطع بتاريخ وفاة ابن عبد المنعم ليس أمراً سهلاً، ولكن سنظل نقبل ما جاء في الدرر الكامنة، إلى أن تعين المصادر التي سيتكشف عنها المستقبل، تاريخ ذلك " الموتان " الذي يشير إليه لسان الدين. 6 - ولكن هذه الترجمة لم تقل أي شيء يتعلق بنشاطه في التأليف. هل كان إحسانه لما يحسن قاصراً على رغبة في المعرفة لا تتجاوز الكسب إلى العطاء؟ هل درس وتخرج على يديه عدد من التلامذة؟ هل ألف؟ هل كانت تشمل شؤون الجغرافيا - أعني هل نسلم بأن معرفته للعلوم العقلية كانت تشمل أيضاً إطلاعه على المصادر الجغرافية؟ هل قول ابن القاسم " المتفنن
في المعارف " يضم حرصه على أن يكون عارفاً بشؤون البلدان؛ ثم هل يمكن أن يتجاوز ما يتقنه في اللغة والنحو والقراءات فلا يؤلف فيها، ويكون مؤلفه " الوحيد " كتاباً جغرافياً؟ لماذا - وهذا الكتاب من أبرز ما يمثل جهده - لم تذكره الكتب التي ترجمت له؟ 7 - كل هذه التساؤلات التي أثرناها تضعنا في حيرة إزاء العلاقة بين ابن عبد المنعم و " الروض المعطار ". ومما يجعل هذا الموقف أشد عسراً أن كل محاولة لمعرفة مؤلف الروض من خلال كتابه - عدا تلك الإشارات الصغيرة العامة التي ألمحت إليها من قبل - تبوء بالإخفاق الذريع: لنأخذ الحقيقة الأولى وهي أن المؤلف سبتي: فماذا نجد؟ ليس حديثه عن سبتة إلا من خلال الآخرين، فإنه ينقل ما يقوله الإدريسي وصاحب " الاستبصار " وليس لديه كلمة واحدة - من عند نفسه - يقولها في سبتة. أما اهتمامه بأبي العباس الينشتي (1) الذي استقل في سبتة في أواخر عصر الموحدين فإنه لا يختلف عن اهتمامه بأحداث القرن السابع جملة، وهو شيء يرجع الفضل فيه - فيما اعتقد - إلى المصدر الذي اعتمده لا إلى معرفته الذاتية العيانية. وهل يعقل أن يقول ابن سبتة المغربي وهو يتحدث عن " سلا " (المدينة الواقعة إلى جانب الرباط) ثم عن " سلى " التي في بلاد السودان: " ولا أدري هل هذه سلا التي ذكر أنها على ضفة البحر " ثم يذكر بعد قليل أن هذه " سلى " - الثانية - " من عمالة التكروري "؟ أقول: هل يعقل أن لا يعرف بأن سلا الواقعة في منطقة الدولة المرينية ليست هي الواقعة في عمالة التكروري؟ ومثل ذلك أن يقول في " الزهراء ": " مدينة في غربي قرطبة؟ كذا قالوا، ولا أدري أهي الزاهرة المتقدمة الذكر أو غيرها ". ربما كانت المدينتان في عصره قد اندثرتا، ولكن أليس يدل هذا على أن معلوماته التاريخية - حتى عند الأندلس - كانت قاصرة، وأن المقري كان مخطئاً حين تصور أن رب البيت أدرى بالذي فيه، إذ كان قد فصل بين الماضي والحاضر عندئذ مضيق متباعد العبرين، أوسع بكثير من بحر الزقاق. 8 - وليس في كتاب الروض ما يشارف مطالع القرن الثامن - أو يتعداها قليلاً - إلا حادثتان: الأولى في مادة " أيلة " حيث جاء " ثم أصلحها السلطان [الأشرف قانصوه الغوري آخر ملوك الجراكسة من جملة ما أصلح في طريق الحجاج في أواخر عمره قبل العشرين والسبعمائة] والثانية في مادة " لوجارة " حين تحدث عمن بقي من المسلمين بها ثم قال: " وآل أمرهم في هذا العهد القريب إلى أن أجلاهم عنها صاحب صقلية الآن ". وقد بين الأستاذ رتزيتانو أن ذلك الإجلاء قد تم على يد الملك شارل الثاني سنة 700. وحين نقف عند هاتين الروايتين نجد أن العبارة الأولى وردت مبتورة في نسخة بيرم باشا، كاملة في نسخة الشيخ محمد نصيف؛ وهي إلى ذلك قد تضمنت هفوة جسيمة: إذ كيف يكون قانصوه
الغوري آخر ملوك الجراكسة في حدود سنة 720 ونحن نعلم أنه توفي سنة 922؟ إذن هنا يجب أن نقف عند الخطأ التقليدي للنساخ حين يضعون سبعمائة بدل تسعمائة (أو العكس) ونقول: الصواب " قبل سنة 920 " وإما أن نعتقد أن اسم قانصوه الغوري وقع سهواً في موضع الناصر محمد الذي أصلح طريق العقبة فعلاً قبل سنة 720 (كان ذلك سنة 719) ؛ قال ابن تغري بردي: " وفي هذه السنة (أي 719) مهد السلطان ما كان في عقبة أيلة من الصخور ووسع طريقها حتى أمكن سلوكها بغير مشقة، وأنفق على ذلك جملاً مستكثرة " (1) . وأي الفرضين اخترنا وجدنا أن الإشارة إلى هذه الحادثة لا يمكن أن تكون من عمل المؤلف، فلو قلنا أن قانصوه الغوري وقع سهواً بدلاً من الناصر محمد لكانت هذه الهفوة من عمل إنسان آخر عاش حتى عرف من هو قانصوه الغوري؛ ولو قلنا أن التاريخ الصحيح هو سنة 920 لكان ذلك تجاوزاً لأقصى تاريخ حددته المصادر لوفاة ابن عبد المنعم، وهو سنة 900 كما جاء عند حاجي خليفة، وعلى كلتا الحالين نجد أنفسنا إزاء عبارة مقحمة لا دخل لابن عبد المنعم بها، وهي تتعارض من حيث الزمن مع كون الروض المعطار مصدراً للقلقشندي المتوفى سنة 821 - كما تقدم القول - وسيزداد رفضنا لها عندما نناقش العبارة الثانية التي تدور حول إجلاء المسلمين من لوجارة: فهذه العبارة الثانية أقوى من سابقتها بكثير، وليس من المستبعد أن تكون الإشارة فيها إلى تلك الحادثة من صنيع المؤلف نفسه، وكان الذي حدا بالأستاذ رتزيتانو إلى ربطها بعام 700 شيئان: وقوع الحادثة حسب المصادر الأخرى سنة 700 وورد عبارة " هذا العهد القريب " ولفظة " الآن " فيها، (وما دام ابن حجر في الدرر يحدد وفاة المؤلف بعام 727 فلا مانع إذن من هذا الربط) وما دامت المصادر الموثوقة قد تحدثت عن حدوث ذلك الجلاء عام 700، فمن المغالاة أن نحيطها بالشك، خصوصاً وأن التاريخ المذكور، يمكن أن يشير إليه مؤلف طعن في القرن الثامن بعدة سنوات. ولكن أحب أن أشير إلى أن لفظة " الآن " لا تعني المعاصرة أبداً لدى صاحب الروض، فإنه إذا وجدها عند مؤلف سابق أبقاها على حالها، فإذا لم ينتبه القارئ لهذه الحقيقة جاءت مضللة. مثال ذلك قوله في مادة (طيبة) : وهي الآن عليها سور حصين منيع من التراب بناه قسيم الدولة الغزي؟ " وهذا كلام الإدريسي حرفياً؛ وذلك يكفي في تبيين نقل المؤلف عمن سبقه دون تصرف، فقد ورد هذا في غير موضع من كتابه؛ فإذا كانت عبارة " هذا العهد القريب " ذات معنى، فإنها تعني القرب من أوائل القرن الثامن، وهي بذلك تنفي الحديث الذي جاء في العبارة الأولى عن قانصوه الغوري وإصلاحه طريق العقبة قبل سنة 920. 9 - إذن، ليس هناك من الناحية الزمنية، ما يعطل نسبة الروض المعطار إلى ابن عبد المنعم الحميري، وإن لم يحاول فيه أن يبرز موقفه، من ناحية الأحداث، أو منتماه السبتي (أو المغربي
كتاب الروض المعطار
بعامة) ، أو مشاهدته الخاصة لبلد ما، ولو كان هذا البلد هو سبتة نفسها، أو علاقاته الشخصية ببعض الناس المقاربين لعصره أو المعاصرين له. إننا لن نجد إنساناً شديد الحرص على إنكار ذاته، كما نجد الحميري، وكأنه يقول بلسان الحال: أريد أن أرتب معجماً جغرافياً، معتمداً في ذلك على الانتقاء من عدد من المصادر، دون أن يكون لي أي رأي ذاتي أو عرض لتجربة خاصة. كتاب الروض المعطار 1 - اسم الكتاب ورد اسمه في المخطوطتين المعتمدتين: " الروض المعطار في خبر الأقطار " وكذلك ذكرته المخطوطات التي راجعها بروفنسال، وذكر في طبعة فلوجل من كشف الظنون مرة باسم " الروض المعطار في أخبار الأقطار " (1) ومرة أخرى باسم " روض المعطار في خبر الأقطار ". وحين نقل عنه صاحب نفح الطيب جعل اسمه " الروض المعطار في ذكر الأقطار "؛ وواضح أن التسمية التي اتفقت عليها المخطوطات هي الوجه الأرجح. 2 - خطة المؤلف في كتابه بين المؤلف في مقدمة كتابه حدود الخطة التي ألتزمها في تأليفه، فقد أراد أن يصنع معجماً جغرافياً مرتباً على حروف ليسهل على الطالب كشف اسم الموضع الذي يريده؛ ولما كان استقصاء المواضع جميعاً أمراً عسيراً، فقد وضع نصب عينيه: (1) أن يكون المكان مشهوراً. (2) أن يكون مما اتصل به " قصة أو حكمة أو خبر طريف أو معنى مستملح مستغرب ". ولهذا فهو يعدل عن ذكر الأمكنة الغريبة التي لا تتعلق بذكرها فائدة أو خبر يحسن إيراده. ومعنى ذلك أنه يريد من كتابه أن يكون معجماً جغرافياً تاريخياً - جغرافياً يصف الأقطار وما تتميز به، وتاريخياً بذكر الأخبار والوقائع المتصلة بتلك البلدان. وقد قاس كتابه إلى كتاب " نزهة المشتاق " فوجده أكثر فائدة، لأن نزهة المشتاق يوجز حتى في وصف البلدان، ويكثر القول في ذكر المسافات، ولا يهتم كثيراً بالأحداث التاريخية، وليس فيه إيراد لما يستملح أو يستغرب إلا في مواطن قليلة. كذلك فإن الحميري جعل الإيجاز - أو حاول أن يجعله - أساس خطته في ذلك الكتاب.
وقد كان الحميري وفياً لجانب كبير من هذه الخطة، فهو حقاً قد صنف معجماً جغرافياً تاريخياً، (أو إن شئت فقل معجماً تاريخياً جعلت الجغرافيا مدخلاً إليه) مرتباً على حروف المعجم، حسب ترتيبها المشرقي، ولا ندري لم اتبع هذا الترتيب مع أنه في داخل الحرف الواحد، حاول أن يتمشى على الترتيب المغربي، (هل يمكن أن نفترض أن النساخ المشارقة أعادوا ترتيبه على النحو الذي يألفونه؟) ثم هو أضرب عن ذكر عدد كبير جداً من البلدان، وحاول في الأغلب أن يكون ما يذكره مشهوراً متصلاً بحادثة أو قصة أو معنى مستملح مستغرب ولكنه إلى جانب ذلك ذكر أماكن لا شهرة لها. ولا يتعلق ذكرها بخبر طريف أو غريب؛ وربما لم يزد التعريف بها عن سطر أو سطرين، وكثيراً ما خرج من حيز الخبر المستطرف إلى الخبر العجيب، وغلبت عليه الروح " العجائبية " التي ظلت ترافق كثيراً من الجغرافيين في شتى العصور؛ أما مقايسته كتابه بنزهة المشتاق فإنها مقايسة في غير موضعها، لأن الإدريسي اقتصر إلى حد كبير على " المفهوم الجغرافي " وحاول أن يقلل ما استطاع من الشؤون العجائبية، ولذا فإن الحميري حاول أن يفرض مفهوماً جديداً هو مفهوم " المتعة والعبرة "، وذلك ربما كان في أكثر خارجاً عن مفهوم مؤلف مثل الاصطخري والحوقلي والإدريسي. أما قضية الإيجاز فربما كان فرضها خطأ منذ البداية لأن من شاء أن " يمتع " القراء بالأخبار لا يستطيع دائماً أن يتحكم في إيرادها، وفي مرات أحس ابن عبد المنعم أنه يتجاوز حدود الإيجاز فاعتذر عن ذلك (كما فعل في مادة الزلاقة والأندلس) ؛ ولكنه لم يحاول أن يوجز حين تحدث عن إرم والأهرام وسرد قصة بعض الفتوحات في صدر الإسلام أو حين تحدث عن حرب البسوس ومعركة ذي قار. كما أن قاعدة الإيجاز اختلت لديه لأسباب أخرى منها: 1 - عدم سبكه المادة المنقولة من مصادر جغرافية مختلفة، وإنما هو يوردها تباعاً، وقد يكون المنقول عن البكري مثلاً تكراراً - بأسلوب آخر - لما سبق أن نقله عن الإدريسي أو عن الاستبصار. 2 - تكراره المعلومات الواحدة في مادتين مختلفتين، ما يصلح أن يكتب في مادة " الدامغان " قد يعاد نصاً من مادة " الزرادة " يجيء لبعض ما ذكر في مادة " جنابا ". 3 - تكراره ذكر الموضع الواحد لأن اسم البلد ورد في شكلين مختلفين مثل: لياج - الياج، طرابنش - أطرابنش؛ وشقة - وشكة، وهكذا. ثم إن تأليف معجم جغرافي مرتب على حروف المعجم لم يكن بالنسبة لابن عبد المنعم الذي لم يرحل ولم يكتب عن مشاهدة - أو حتى عن سماع - محوطاً بكثير من التوفيق، فقد ضخم الترتيب الهجائي من أخطائه - وهي أخطاء لا يمكن أن تظهر بهذا الوضوح في مؤلف جغرافي عام، لأنها تحمل على الناسخ في الأغلب لا على المؤلف، غير أنها تظهر واضحة في معجم مرتب على حروف الهجاء وقد كان الحميري يعتمد في تصنيفه على الكتب، وكان يقرأ اسم البلد حسبما
3 - مصادر الكتاب
يراه في المخطوط الذي لديه، دون أن يستطيع تمييز الخطأ من الصواب؛ فلم تضعف لديه الدقة الجغرافية لهذا وحده، بل لأنه كان يحاول أن يتجنب في السياق ذكر أسماء الأماكن والأنهار لئلا يقع في الخطأ، وكثيراً ما نجده إذا أعياه قراءة اسم شخص أو اسم بلدة وضع بدله " فلان " و " فلانة " ولا أظن أن هذا كان من عمل النساخ. 3 - مصادر الكتاب لا يصرح الحميري باسم المصدر الذي ينقل عنه إلا في القليل النادر، وإذا انتقل من اقتباس إلى آخر، ابتدأ بلفظة تعميمية هي: " قالوا "؛ ومصادره متنوعة وإن لم تكن كثيرة، فهي جغرافية وتاريخية وأدبية. ويبدو أنه كان يجهل المصادر الجغرافية المشرقية، وكل ما عنده عن كتاب البلدان لليعقوبي ربما كان بالواسطة؛ إلا أنه لا يعرف - قطعاً - ابن حوقل والاصطخري والمقدسي ومعجم ياقوت؛ ولهذا اقتصر في باب المعلومات الجغرافية على المصادر المغربية، ورغم تهوينه من شأن نزهة المشتاق للإدريسي، سيطر هذا الكتاب على معجمه سيطرة بالغة، حتى إن كثيراً من المواد لا تعدو أن تكون إعادة لما قاله الإدريسي. ومثل هذا موقفه من البكري، فقد اعتمد بإسراف على كتابيه " معجم ما استعجم " و " المسالك والممالك "، غير أنه في كثير من الأحيان يرتاح إلى كتاب " الاستبصار في عجائب الأمصار " إذا وجده يلتقي مع البكري في الحديث عن بلد واحد، وكثيراً ما ينقل عن الكتابين في المادة الواحدة، وبعد هذه المؤلفات الأربعة تجيء رحلة ابن جبير، غير أن الحميري لم يذكر مؤلف هذه الرحلة أبداً، وإنما أشار إليه مرة بقوله: قال بعضهم، ومرة ثانية بأنه أحد الأدباء. أما المصادر التاريخية فلم تقتصر على مؤلفات المغاربة، وإن كانت هذه تيسرت الإفادة منها أقرب إلى الحميري، فقد أبدى في كثير من مواد كتابه إطلاعاً على سيرة ابن إسحاق كما هذبها ابن هشام، وقد يلتقي في أخبار الفتوح من تاريخ الطبري - على نحو حرفي أحياناً -، وكذلك مع كتاب فتوح الشام لمحمد بن عبد الله الأزدي البصري ولكني أعتقد أن مصدره المباشر هو كتاب المغازي لعبد الرحمن بن حبيش (- 584) (1) ، كما أن مصدره عن تباشير البعثة النبوية وعن حروب الردة لمؤلف مغربي أيضاً، وهو كتاب الاكتفاء في مغازي الرسول والثلاثة الخلفاء " لأبي الربيع الكلاعي. وهو مغرم بأخبار القرن السابع، وعلى وجه الخصوص بأخبار
4 - أثر الكتاب وقيمته
الموحدين في المغرب والأندلس، وأخبار الغزو التتري لمدة المشرق. ولا ريب أن مصدر النوع الأول من الأخبار مغربي، وإن لم تسمح مصادرنا بتعيينه، وكذلك لم استطع تعيين المصدر الذي استمد منه أخباره عن التتر. ولديه اهتمام بارز أيضاً عن تلك الطريق - أعني من خلال البكري، وإن كانت نقوله عن مروج الذهب - في الأخبار التاريخية لا في الحديث عن البحار والجزر وما فيها من عجائب - توحي لدى المقارنة بأنها مأخوذة رأساً - لا بالواسطة - عن ذلك الكتاب - فأما فيما يتعلق بالحديث عن عجائب البحار وعن بعض الجزر وما إلى ذلك، فإنها مأخوذة عن المسالك والممالك للبكري الذي يعتمد كثيراً على أخبار الزمان ومروج الذهب. وأما مصادره الأدبية والمتعلقة بالتراجم فتشمل الأغاني وكتاباً لابن سعيد الأندلسي لعله " المشرق في حلى المشرق " وبعض الدواوين الشعرية، وبخاصة ديوان أبي العلاء المعري مشروحاً، وديوان الأعمى التطيلي أو على الأقل قصيدته التي مطلعها " قفا حدثاني عن فل وفلان "، ومقصورة ابن دريد (مشروحة) ، فأما معرفته بشعر بعض شعراء القرن السابع كابن الآبار وابن عربية وابن مجبر أو برسائل بعض أدباء ذلك القرن مثل أبي المطرف ابن عميرة، فإنها تعتمد في أغلب الظن على المصدر التاريخي - أو المصادر التاريخية التي ينقل عنها - أكثر من الاعتماد على دواوين هؤلاء الشعراء أو مجموعات رسائلهم. وقد كشف في مادة " صفين " عن نوع آخر من المصادر لا ينتمي إلى الأنواع الثلاثة السابقة، فهو ينقل عن كتاب الإمامة لعبد القاهر البغدادي، وعن القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، وربما عن غير هذين أيضاً، كما أشار إلى " الرياض النضرة " للمحب الطبري إشارة عارف به. ومن الممكن أن يتساءل المرء: هل ظهرت ثقافة ابن عبد المنعم الإمام في الحديث واللغة والنحو في هذا الكتاب؛ والجواب على هذا أنها لم تظهر مستقلة، أي أن المؤلف لم يحاول أن يؤكد لنفسه دوراً واضحاً في هذه الثقافات، وإنما ظهرت في بعض المواقف وجاءت من طبيعة المناسبة، فهو ينقل عن صحيح مسلم والبخاري وسنن النسائي وكتاب الطبراني، أو يشير إليها، ولكن في كثير من الأحيان نجد إشارته إلى الحديث أو إيراده له اتباعاً للبكري، مع ميله للاختصار الشديد في الإسناد، وكثيراً ما يكون الضبط اللغوي أو القاعدة النحوية نقلاً عن مصدر جغرافي سابق بل ربما قلنا إن ابن عبد المنعم يحاول أن يقلل من الضبط قدر المستطاع، طلباً للإيجاز، أو ضيقاً بالتدقيق في التفصيلات. 4 - أثر الكتاب وقيمته لا أعرف أحداً اعتمد الروض المعطار مصدراً قبل القلقشندي (- 821) في كتابه
" صبح الأعشى "، وكان أكثر اعتماده عليه في التعريف بالبلاد الشامية وبلدان الجزيرة العربية ومصر، ولم يعتمد عليه كثيراً في المغرب (اقتصر على ذكر: تونس، فاس، سبتة، مراكش) وإفريقية وراء الصحراء (دنقله - غانة - كوكو - تكرور) وأقل من ذلك البلاد الأوروبية (القسطنطينة، رومة، اقريطش) وأقل الجميع الأندلس، حيث أشار إشارة عابرة إلى طرطوشة، وتحدث عن ملوك الأباريين نقلاً عما ورد في مادة " أندلس " من الروض. ولا ندرس سبباً لذلك، فإن جعل الروض المعطار - ومؤلفة مغربي - أساساً في المعلومات الجغرافية عن مناطق المشرق (الجزيرة العربية - الشام - مصر) وعدم الاهتمام بمعلوماته عن بلدان المغرب والأندلس يعد عكساً للوضع الصحيح. هل كان القلقشندي يعدّ الحميري مشرقياً؟ إن نسبة " الصنهاجي " لا توجد في مخطوطات الورض المعطار، ولعل القلقشندي ذهب بسبب ذلك إلى هذا التصور فظنه مشرقياً. ومن بعده توقف عنده السمهودي (- 911) صاحب " وفاء الوفاء " في كتابه الموجز الذي لخص فيه مؤلفه الكبير، فنقل عنه، مع أنه ليس لدى صاحب الروض - فيما يتصل بالمدينة - مادة يستقل بها، وأكثرها مأخوذ عن البكري، وقد كان البكري من مصادر المسهودي، بحيث يغنيه عن الورض المعطار. وفي القرن الحادي عشر ظل الكتاب موضع اهتمام، فنجد المقري يعرفه وينقل عنه خبر وقعة الزلاقة (1) ؛ ثم نجد محمد بن عبد السلام الناصري الدرعي (- 1239) ينقل عنه كثيراً في رحلته، مع إدراكه تمام الإدراك بأن الحميري " لم يكن معه تحقيق في أخبار الأقطار وإنما [ينقل] من غيره، ولم يجل في الأمصار " (2) ، وآخر من نجده يعرف الروض المعطار معرفة وثيقة هو صاحب الترجمانة الكبرى، أبو القاسم الزياني المتوفى سنة 1249. ويبدو أن التوجه إلى النقل عن الروض إنما تم لسهولة الحصول على نسخ منه، ولما فيه من الترتيب المعجمي الذي لا يتوفر في كتاب مؤلف على الأقاليم؛ وإلا فإن بعض ما أخذ عليه إنما كان نقلاً المصادر المبكرة، وخاصة ما أخذه عن البكري؛ والبكري ممن وقع في أخطاء عديدة في كتابيه معجم ما استعجم والمسالك؛ ورغم الاحترام الوافر الذي يكنه العبدري له فإنه تعقب بعض أخطائه في رحلته، كقول البكري إن إيليا تحيط بها الجبال وأنها هي في نشز من الأرض؛ وأن قصر لجم (الأجم في الروض) في دوره نحو من ميل، بينما هو أصغر من ذلك بكثير، وقوله في سرت أنها مدينة كبيرة على ساحل البحر بها حمام وأسواق ولها بساتين ونخل، وإنما هي قصير صغير لا نخل حوله أبداً؛ وقوله في نفيس أنها مدينة في المغرب بينها وبين البحر مسيرة يوم، وإنما نفيس اسم نهر؛ وقوله في تادمكة أن تاد تعني الهيئة، وليس الأمر كذلك بل إن " تاد " تعني
5 - هل وصلنا كتاب الروض كاملا
لفظ الإشارة " هذه " (1) . ومن يراجع الروض المعطار يجد أن عض هذه الأمور قد رددها الحميري أيضاً نقلاً عن البكري، فليس الخطأ من عنده، وإنما مصدره ثقته فيما يقرؤه لغيره. ولكن الخطأ يشيع بالنقل، وتصبح أخطاء الحميري نفسه مظنة قبول عند من ينقلون عنه مضافةً إلى أخطاء غيره؛ فقد ذكر مثلاً " حبرون " في " جيرون "، فلما نقل عنه القلقشندي أثبت " حبرون " وضبطها، ثم قال: وفي كلام صاحب الروض المعطار ما يدل على إبدال الحاء بجيم والباء الموحدة بمثناة تحت، فإنه ذكرها في حرف الجيم في سياقه الكلام على تسمية دمشق جيرون (2) . على أية حال ليس من الضروري أن نغالي في تقييم الروض المعطار، فإن مهمته لا تتعدى شيئين: أنه يشبه أن يكون نسخة ثانية من كل مصدر نقل عنه، وهو في هذه الحالة يصحح أحياناً بعض النصوص في تلك المصادر، كما أنه احتفظ بمادة غزيرة تدور حول أحداث القرن السابع، ربما طال بنا الزمن قبل العثور على مصادرها، وبمادة مما لا يزال مفقوداً من مسالك البكري، وخاصة فيما يتصل بجغرافية القارة الأوروبية والأندلس. 5 - هل وصلنا كتاب الروض كاملاً؟ أورد القلقشندي في صبح الأعشى التعريف ببلدين، وصرح بأنه ينقل عن الروض المعطار، فقال عند التصدي لذكر مرمرا (3) قال: " قال في الروض المعطار: والروم تسمي الرخام مرمرا فسميت بذلك ". ونقل عن الروض المعطار وصفاً لمدينة تعز جاء فيه (4) : " قال في الروض المعطار، ولم تزل حصناً للملوك؛ قال: وهو بلد كثير الماء بارد الهواء كثير الفاكهة؛ قال: ولسلطانهم بستان يعرف بالينعات فيه قبة ملوكية ومقعد سلطاني، فرشمها وأزرهما من الرخام الملون، وبهما عمد قليلة المثل يجري فيها الماء من نفثات تملأ العين حسناً والأذن طرباً، بصفاء نميرها وطيب خريرها، وترمي شبابيكهما على أشجار قد نقلت إليه من كل مكان؛ يجمع بين فواكه الشام والهند ولا يقف ناظر على بستان أحسن منه جمعاً، ولا أجمع منه حسناً، ولا أتم صورة ولا معنى. ولم ترد هاتان المادتان في نسختي الروض اللتين اعتمدت عليهما، كما أن وصف تعز - على هذا النحو الأدبي - ليس مألوفاً عند الحميري إلا حين ينقل عن ابن جبير؛ ولكن ربما كانت نسخ الكتاب متفاوتة، فقد احتفظت النسختان المعتمدتان بقطعة كبيرة عن " بجانة " إحدى مدن الأندلس أخلت بها النسخ الأربع التي اعتمد عليها بروفنسال، أو ربما سها القلقشندي في نسبته هاتين القطعتين إلى الروض المعطار.
تحقيق الكتاب
تحقيق الكتاب اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسختين (1) نسخة مكتبة بيرم باشا التابعة لنور عثمانية، ورقم المخطوطة فيها (44) وقد رمزت لها بالحرف (ع) . وتقع في 409 ورقات، مسطرتها (22× 32سم) وعدد السطور في الصفحة الواحدة 31 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر التام: 12 كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي شديد الوضوح، وفيها قلة عناية بالاعجام، وتصحيف كثير في أسماء الأعلام على وجه الخصوص، ويكثر فيها سقوط عبارات كاملة، والناسخ يضرب على ما يريد حذفه بالقلم متقيد بالطريقة التقليدية في الترميج. وقد ورد في آخرها أن ناسخها هو محمد بن زين الدين الجيزي الشافعي، وأن الفراغ من تعليقها تم في " عصر اليوم الثاني، ثاني الثاني من ثامن أول تاسع العاشر من الهجرة النبوية "، وهذا اللغز إذا رددناه إلى الأرقام كان يعني أن نسخها قد تم في الثاني من شهر صفر سنة 981. (2) نسخة حديثة رمزت لها بالحرف (ص) ، كانت في ملك المرحوم الشيخ محمد نصيف بجدة، وقد نقلت عن نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة (وكان الانتهاء من نق نسخة المدينة 971) فجاءت في 643 صفحة مكتوبة بخط رقعة حديث في الأكثر ومسطرتها 26.5×34 سم وعدد السطور في الصفحة 24 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 18 كلمة وقد جاء في آخرها تاريخان مختلفان: إذ ذكر أن الفراغ من نسخها في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت قد تم في 11 شعبان سنة 1360 وبعده يذكر الناسخ مصطفى بن عمر بصرى قاروت أن الفراغ من نسخ الكتاب تم على يده في 15 رجب الفرد سنة 1364، وهو أيضاً تاريخ دخول هذه النسخة في ملك الشيخ محمد نصيف بن حسين بن عمر أفندي نصيف، بجدة، وقد اطلع الأستاذ عبد الرزاق آل حمزة على هذه النسخة وقابلها على أصلها المنقولة عنه، " وهو كثير التحريف والغلط والتصحيف " فاجتهد بقدر الطاقة في معرفة ما هو أقرب إلى الصحة، وكتب بازائه حرف (ظ) مختصر " الظاهر " أو " المظنون "؛ وفرغ من ذلك ضحوة 24 شعبان 1364 بقبة الساعات بالمسجد الحرام، بمكة المكرمة. وإذا كان الأصل الذي نقلت عنه النسخة " كثير التحريف والغلط والتصحيف " فإن هذه الصورة المنسوخة عنه لم تخفف مما فيه من أخطاءه؛ ورغم بعض التنبيهات المفيدة التي ذكرها الأستاذ آل حمزة في بعض حواشي النسخة، فإنها ما تزال نسخة سقيمة، لا يمكن الاعتماد عليها وحدها بأية حال، غير أنها سلمت من السقط الذي يكثر في النسخة السابقة، ومن هنا كانت ذات فائدة غير قليلة، أما في قراءة النص نفسه فلم يكن الاعتماد عليها إلا للوقوف على مدى اطراد ذلك النص وانسجامه في النسخة (ع) .
على أن النسختين تتقاربان بعد ذلك كثيراً، وخاصة في الهفوات المشتركة بينهما، كما قال الأستاذ أمبرتو رتزيتانو (1) ، وهذا قد يشير إلى أنهما اعتمدتا على أصل واحد. ولم يكن في الإمكان إقامة نص سليم في معظمه اعتماداً على هاتين النسختين وحدهما، فإن غلبة التصحيف على الأعلام من قبل الناسخين ولمؤلف قد كان يجعل كل محاولة من هذا القبيل مخفقة لولا اعتمادي على المصادر الجغرافية التي نقل عنها المؤلف نفسه، كذلك فإن ما قام به الأستاذان بروفنسال ورتزيتانو في تحقيق الأماكن الأندلسية والصقلية، قد سهل جانباً من العمل فيما يتعلق بأسماء تلك الأماكن، على أن العالمين المذكورين قد توقفا عند بعض الأعلام التي أوردها المؤلف مصحفة، فلم يستطيعا أن بيتا في أمرها بشيء حاسم. وقد سرت في تقييد الملاحظات والحواشي على خطة الإيجاز والاقتصاد، وهاهنا أمر يحسن تنبيه القارئ إليه؛ فحين أقول في الحاشية - مثلاً - نزهة المشتاق: 120 أو السيرة 2: 36، أعني أن المؤلف ينقل مادته من هذا المصدر (مباشرة أو بالواسطة) ، حتى إذا انتهى النقل بدأت فقرة جديدة، على هذا جرى تقسيم الفقرات في المادة الواحدة إلا أن أشير منذ البداية إلى أن المادة كلها منقولة عن المصدر الفلاني، وإلا المادة التي نشرها بروفنسال من قبل، فإن تقسيمها إلى فقرات ينظر في الأكثر إلى الوحدات المتوالية. أما إذا صدرت العبارة في الحاشية بقولي: انظر أو قارن فمعنى ذلك أنني أحاول أن أربط ما ورد في الروض بما ورد في المصادر الأخرى دون أن يكون هناك نقل، إذ المقارنة أو الإحاطة هنا إلى مصدر آخر تكون غايتها توثيق التسمية أو ضبط الاسم، أو وجود شبه قوي بين المادتين، أو وجود فرق واضح بينهما. ولم يكن همي في هذا اللون من الحواشي أن أقيم لكل مادة دراسة تطورية حتى أضعها في ضوء المعلومات الجغرافية الحديثة - فذلك ربما كان أمراً معجزاً - وإنما حرصت دائماً أن أضع مادة الروض المعطار بين موضحين: بين المصادر التي نقل المؤلف عنها، وبين المصادر التي نقلت عنه؛ كل ذلك رغبة في ضبط النص على وجه يرضى عنه المحققون والدارسون. على أني وقفت إزاء بعض الأسماء عاجزاً عن استبانة الوجه الصحيح فيها، فأما أشرت إلى ذلك، في الحاشية، معلناً أني لم أجد شيئاً عنها في المصادر، وإما تركتها عابراً دون إشارة وفي النفس منها شيء. وحيث وقع المؤلف في التصحيف فكتب " خجنده " في حرف الجيم (جخندة) ووضع " علوة " في باب الغين (غلوة) وجعل " باب " و " بابة " في مادة الياء " ياب " و " يابة ".. الخ ما وقع فيه من تصحيفات، فقد أبقيت هذه الأعلام حيث وضعها وأشرت إلى خطأه، ولكني أعتزم - إن شاء الله - أن أجعل الفهرست كفيلاً بردها إلى وجه الصواب. إذ أثبت هنالك مثلاً (غلوة: صوابها علوة فانظره، وهكذا) ؛ أما إذا كان التصحيف في الباب نفسه مثل: وبدار
(التي أوردها بعد وبار) ظناً منه أن ما بعد الواو باء موحدة، وصحتها وندار أو الزيدان (التي أوردها في باب الزاي المشفوعة بالياء وهي الزبداني) فقد كنت أصححه في المتن، لأن المادة لا تستدعي نقلاً من حرف إلى حرف. أما الفروق في القراءات فلم أثبت منها إلا ما وجدته ضرورياً أو هاماً، وأضربت عما كان وهماً خالصاً من الناسخين، وكذلك صنعت في عرض الكتاب على مصادره، إذ كان المؤلف في كثير من الأحيان يوجز بالحذف أو التلخيص، كذلك فإني أفدت من الزيادات التي أوردها الأستاذ بروفنسال إذ اعتبرت نشرته بمثابة نسخة أخرى في هذا الصدد وحده ولم أشر إلى ما صوبته في نصه من قراءات أو ما استدركته عليه لنقص في النسخ التي اعتمدها، فذلك يثقل الحواشي بما لا ضرورة له. وليس بين ما نشره الأستاذ رنزيتانو وبين القراءات التي اعتمدتها إلا فروق يسيرة جداً لأنه إنما كان اعتماده على مخطوطة بيرم باشا وعلى أصل النسخة (ص) . وربما كان الاطلاع على مزيد من النسخ كفيلاً بإبراز فروق أخرى، ولكن ذلك مما لم تتحه لي الظروف التي عملت أثناءها في تحقيق هذا الكتاب. وفي ختام هذه الكلمة أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي العلامة الحجة الأستاذ الشيخ حمد الجاسر، فقد كان له الفضل في تنبيهي إلى اعتماد كل من الناصري في رحلته والسمهودي في ملخص وفاء الوفا على الروض المعطار، كما تلطف - حفظه الله - بمراجعة قسم من مواد الكتاب، وزودني بتعليقاته العلمية المفيدة؛ وجزيل شكري لصديقي اعالم الكبير الأستاذ زهير شاويش الذي أذن بتصوير نسخة (ص) حين كانت في حوزته بموافقة الشيخ محمد نصيف رحمه الله، فإنه كان أسخى الناس في تشجيع الأعمال العلمية، وكل ما أتمناه أن يكون ما بذلته من جهد في إخراج هذا الكتاب وفاء بفضل كبير تلقيته من هذين الصديقين العزيزين ومن سائر أصدقائي الذين كانوا يتطلعون إلى روية الكتاب مشمولاً بهذه العناية المتواضعة، والله الموفق. بيروت في شهر أيار (مايو) 1974 إحسان عباس
بيان بالرموز المستعملة في هذا الكتاب
بيان بالرموز المستعملة في هذا الكتاب ع نسخة بيرم باشا الملحقة بمكتبة نورعثمانية. ص نسخة المرحوم الشيخ محمد نصيف بجدة. نزهة المشتاق: نسخة كواريللي رقم 955 تمثل الكتاب كله، ونسخة طوبقبو رقم 3502 وهي نصف الكتاب. الإدريسي (د) : صفة المغرب وأرض السودان والأندلس من نزهة المشتاق تحقيق دوزي ودي خويه (أمستردام 1969) . الإدريسي (ب) : وصف أفريقيا الشمالية والصحراوية من نزهة المشتاق تحقيق هنري بيريس (الجزائر: 1957) . الإدريسي (م) : صفة البلاد التي هي الآن المملكة الإيطالية، من نزهة المشتاق، تحقيق أماري وسكياباريللي (رومة 1878) . OG: (Opus Geographicum) وهو الطبعة الجديدة من نزهة المشتاق (روما - نابلي 1970) وقد ظهر منها فصلتان تشملان الإقليم الأول والثاني. البكري: المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب وهو جزء من المسالك والممالك، تحقيق دي سلان (الجزائر 1857) . البكري (ح) : جغرافية الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك، تحقيق الدكتور عبد الرحمن الحجي (بيروت 1968) . البكري (مخ) : كتاب المسالك والممالك، نسخة خطية في لاله لي رقم 2144.
حرف الهمزة
حرف الهمزة آمد مدينة من كور الجزيرة من أعمال الموصل والجزيرة ما بين دجلة والموصل، وآمد بمقربة من ميافارقين فتحها عياض بن غنم بعد قتال على مثل صلح الرها، فإنه لما أتى الرها خرج إليه أهلها فقاتلوه فهزمهم المسلمون حتى ألجأوهم إلى المدينة فطلبوا الأمان والصلح، فأجابهم عياض إليه وكتب لهم (1) : " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عياض بن غنم لأسقف الرها إنكم إن فتحتم لي باب المدينة على أن تؤدوا لي عن كل رجل منكم ديناراً أو مد قمح فأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم ومن تبعكم، عليكم ارشاد الضال وإصلاح الجسور والطرق ونصيحة المسلمين شهد الله وكفى بالله شهيداً ". فعلى مثل هذا الصلح صالح أهل آمد وأهل ميافارقين وكفر توثا بعد قتال أيضاً على مثل صلح الرها. ومدينة آمد كبيرة حصينة على جبل في غربي دجلة وهي كثيرة الشجر والجبل عليها مطل نحو مائة قامة وعليها سور بحجارة الأرحى السود، ولها داخل سورها مياه جارية ومطاحن على عيون تطرد وأشجار وبساتين، وبينها وبين ميافارقين مرحلتان، ولها أربعة أبواب: باب التل وباب الماء وباب الجبل وباب الروم، وفي شمالها سوران، وفي قبليها برج كبير يسمى برج الزينة، وعلى باب الروم برجان، وقصبة السلطان في شرقها. والمدينة مستعلية على شرف، وهي أكبر من ميافارقين، وداخل آمد عين ثرة. وتأتيها دجلة من شمالها وتخرج من شرقيها، وبساتينها غرباً وقبلة عنها إلى دجلة، وفي صحن جامعها أوتاد حديد قائمة معترضة من بلاط إلى بلاط ارتفاع الظاهر منها فوق الأرض ذراعان قد عقد بها كلها سلسلتان من حديد يذكر أهلها أن السرج كانت تقد عليها في سالف الأزمان. ومن العجائب (2) جبل بآمد فيه صدع فمن انتضى سيفه وأولجه فيه وهو قابض عليه اضطرب السيف في يده وارتعد هو ولو كان أشد الناس وأعجوبة أخرى أنه من حد بذلك الجبل سكيناً أو سيفاً وحمله على الابر والمسال جذبها أكبر من جذب المغنيطس، والحجر نفسه لا يجذب الحديد ولو بقي يحد عليه مائة عام لكانت تلك القوة فيه قائمة، وهو أقوى من حجر المغنيطس لأن الثوم يذهب قوة المغنيطس، وهذا مثل الذي بحوز مورور من الأندلس من أعمال قرطبة، وأخبر من حد به سيفاً في الحجر مكانه من الجبل وقد تقادم عهده فوجده يجذب من تحت غمده وتعلق الابر بالغمد، وذكر صاحب هذا السيف أنه قد صقله مراراً فما زالت تلك القوة فيه. ومن آمد إلى ميافارقين خمسة فراسخ. وفي سنة (3) ست وثمانين ومائتين نزل المعتضد أمير المؤمنين خليفة بغداد على آمد بعد وفاة أحمد بن عيسى بن الشيخ وقد تحصن بها ولده محمد بن أحمد بن عيسى، فبث جيوشه حولها وحاصرها، فحدث شعلة بن شهاب اليشكري قال: وجهني المعتضد إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن الشيخ لأخذ الحجة عليه، قال: فلما صرت إليه واتصل الخبر بأم الشريف أرسلت إلي فقالت: يا ابن شهاب، كيف خلفت أمير المؤمنين؟ فقلت: خلفته والله ملكاً جزلاً وحكماً عدلاً أماراً بالمعروف فعالاً للخير متعززاً على الباطل متذللاً للحق لا تأخذه في الله لومة لائم، قال: فقالت لي: هو والله أهل ذاك ومستحقه ومستوجبه، وكيف لا يكون كذلك وهو ظل الله الممدود على بلاده، والخليفة المؤتمن على عباده، أعز به دينه وأحيا به سنته
وثبت به شريعته، ثم قالت لي: وكيف رأيت صاحبنا، تعني ابن أخيها محمد بن أحمد، قال فقلت: رأيت غلاماً حدثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء فاستمد بآرائهم ونصت لأقوالهم يزخرفون له الكلام ويوردونه الندم، فقالت لي: فهل لك أن ترجع إليه بكتاب فلعلنا أن نحل ما عقد السفهاء، قال قلت: أجل، فكتبت إليه كتاباً حسناً لطيفاً أجزلت فيه الموعظة وأخلصت فيه النصيحة، وكتبت في آخره هذه الأبيات: اقبل نصيحة أم قلبها وجع ... عليك خوفاً وإشفاقاً وقل سددا واستعمل الفكر في قولي فإنك إن ... فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا ولا تثق برجال في قلوبهم ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا مثل النعاج خمول في بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا وداو داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى إليك يدا وأعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالاً ولا أهلاً ولا ولدا واردف أخاً يشكر ردءاً يكون له ... ردءاً من السوء لا تشمت به أحدا قال: فأخذت الكتاب وصرت به إلى محمد بن أحمد، فلما نظر فيه رمى به إلي ثم قال: يا أخا يشكر ما بآراء النساء تساس الدول، ولا بعقولهن يساس الملك، ارجع إلى صاحبك، فرجعت إلى أمير المؤمنين فأخبرته الخبر على حقه وصدقه، فقال: وأين كتاب أم الشريف؟ فأظهرته، فلما عرض عليه أعجبه شعرها وعقلها ثم قال: والله إني لأرجو أن أشفعها في كثير من القوم. فلما كان من فتح آمد ما كان ونزول محمد بن أحمد على الأمان لما عمهم القتال وجه إلي أمير المؤمنين فقال: يا شعلة بن شهاب هل عندك علم من أم شريف؟ قال، قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: فامض مع هذا الخادم فإنك تجدها في جملة نسائها، قال: فمضيت، فلما بصرت بي أسفرت عن وجهها وأنشأت تقول: ريب الزمان وصرفه ... وعدته كشف القناعا وأذل بعد العز من؟ ... االصعب والبطل الشجاعا ولقد نصحت فما أطع؟ ... ت وكم حرصت بأن أطاعا فأبى بنا المقدار إ ... لا أن نقسم أو نباعا يا ليت شعري هل نرى ... يوماً لفرقتنا اجتماعا ثم بكت وضربت بيدها على الأخرى وقالت: يا ابن شهاب كأني والله كنت أرى ما أرى فإنا لله وإنا إليه راجعون، قال فقلت: إن أمير المؤمنين قد وجهني إليك وما ذاك إلا لحسن رأيه فيك، قال فقالت لي: فهل لك أن توصل إليه كتابي هذا بما فيه؟ قلت: نعم، فكتبت إليه بهذه الأبيات: قل للخليفة والإمام المرتضى ... وابن الخلائف من قريش الأبطح بك أصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح وتزحزحت بك قبة العز التي ... لولاك بعد الله لم تتزحزح وأراك ربك ما تحب فلا ترى ... ما لا تحب فجد بعفوك واصفح يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمين ومفسدين لمصلح قال: فأخذت الكتاب وصرت به إلى أمير المؤمنين، فلما عرضت عليه الأبيات أعجبته، فأمر أن تحمل إليها تخوت من ثياب وجملة من المال وإلى ابن أخيها محمد بن أحمد بن عيسى مثل ذلك، وشفعها في كثير من أهلها ممن عظم جرمه واستحق العقوبة. ومن العلماء المنسوبين إلى آمد المتأخرين السيف الآمدي
آزمور
أبو الحسن علي بن أبي الحسن (1) الفقيه الأصولي الناظر الحافظ مصنف " أحكام الأحكام " و " منتهى السول " و " أبكار الأفكار " والجدل والخلافيات وغيرها من تصانيفه، وفيه يقول القائل: إني نصحت لأهل العلم إن قبلوا ... وكل قابل نصح سوف ينتفع لا تلتقوا السيف يوماً في مناظرة ... فكل من يلتقيه السيف ينقطع آزمُّور (2) مدينة في بلاد المغرب فيها صنف الأديب الكاتب أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن زنون الكتاب المسمى " الفرائد التؤام والفوائد التوام في أسماء الخيل المشاهير الأعلام " صنفه لصاحب سبتة أبي علي الحسن ابن خلاص (3) سنة تسع وثلاثين وستمائة، وهو كتاب حسن مفيد مليح في فنه، وقال في آخره: صنفه مؤلفه علي بن محمد بن علي بن زنون بمدينة آزمور. وحدث محمد بن عقيل بن عطية قال: كانت بيني وبين الأديب أبي عبد الله محمد بن حماد صحبة ومودة ثم اجتزت عليه بمقربة من آزمور مقدماً للقضاء فوجدته في حمام قد حجر، مباح الدخول فيه لسلطانه، فحاولت الدخول إليه فمنعت، فنسبت ذلك إلى سوء أدب الخدام، فانتظرته بباب الحمام، فلما خرج وصافحته أنكر مني ما ألف، وجهل من حقي ما عرف، فكتبت إليه: ألا أيها القاصي الذي خلت عهده ... تحول الليالي وهو ليس يحول أجدك هل أيقنت أني طالب ... جداك فلم يمكن لديك قبول وهل خلتني آتيك أشفع شافعاً ... وذلك شيء ما إليه سبيل فلم نؤت لما أن أتيت بجانب ... وأعرضت عني حين حان وصول ووالله ما أقضي للقياك حاجة ... سوى رعي عهد والوفاء قليل وما كنت إلا زائر البيت ليلة ... ويحفزني من بعد ذاك رحيل ولو قلت للشعرى أترضين أن أرى ... نزيلك قالت طاب منك نزيل فكيف ولم أعرض بشيء يخصني ... ولا في طباعي أن يقال دخيل ولي في مناديح الرئاسة مذهب ... أبيت على وعد بها وأقيل وقد كان لي لب بذكرك عامر ... وظن على طول البعاد جميل فلما تلاقينا تلاشت مبرة ... ويا ليت أني قبل ذاك عليل آمُل بضم الميم بعد المد وآخره لام، مدينة من مدن خراسان بينها وبين مرو على شط نهر جيحون ست مراحل خفاف تكون مائة ميل وأربعة وعشرين ميلاً، وبين آمل وجيحون ثلاثة أميال وهي مدينة حسنة متوسطة القدر لها بساتين وعمارات وفيها ناس وتجارات وحمامات، ومن آمل إلى مدينة خوارزم المسماة الجرجانية اثنتا عشرة مرحلة. وحكى البكري أن آمل من بلاد طبرية وأن منها محمد بن جرير الطبري الإمام ولعلها مدينة أخرى تسمى كذلك (4) . وفي سنة ست عشرة ومائة ظفر أسد بن عبد الله وهو أخو خالد بن عبد الله القسري بخداش صاحب الدعوة فقطع يده ورجله وشخص به إلى آمل فقطع بها لسانه وسمل عينيه وصلبه، وكان خداش قد غير وبدل ورخص في أشياء لا تحل ونقش خاتماً
أبال
على خاتم الإمام وأظهر كتباً مفتعلة ووجدت له كتب فيها خداش الروح وفيها سأريكم دار الفاسقين بني أمية فنيل بما نيل به، وظفر أسد بعد بجماعة من الشيعة فضرب وقطع وكسر الثنايا. قال البكري: آمل هي المدينة العظيمة المتواصفة من مدائن طبرستان وبها كان بنو الخليل وهم قوم من أشراف العجم لهم بها نعم جليلة. وكان إبراهيم ومروان ابنا الخليل يركبان عند السفر إلى الديلم في ثمانمائة من مماليكهما سوى الموالي والخول والأتباع، وإنما كانوا أصحاب ضياع لم يدخلوا في عمل السلطان قط. أمْسِيول (1) هو جبل بجاية، ويأتي ذكره عند ذكر بجاية إن شاء الله تعالى. أبَّة (2) في البلاد الإفريقية وهي على اثني عشر ميلاً (3) من مدينة الأربس في غربيها، وكان بها من الزعفران ما يضاهي الزعفران الأندلسي كثرة وجودة. وبوسط أبة عين ماء جارية منها شرب أهلها، عذبة (4) ماؤها غزير، وكان على أبة فيما سلف من الزمان سور مبني بالطين، وأسعارها رخيصة، وأكثرها الآن خراب. أُبَّذة (5) مدينة بالأندلس بينها وبين بياسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النهر الكبير، ولها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جداً، وفي سنة تسع وستمائة مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها كما فعل جيرانها أهل بياسة، ولم ترفع تلك الجموع يداً عن قتالها حنى ملكتها بالسيف، وقتل فيها كثير، وأسروا كثيراً ووقع على ما كان فيها بين أجناس النصارى خصام آل إلى الشحناء والافتراق وكفى الله المسلمين بذلك شراً كثيراً، وكان بعضهم قد طلب أبذة فتنافسوا فيها ولم يأخذها أحد منهم وخربوا أسوارها. أُبَال (6) حصن بالأندلس في شمال قرطبة وعلى مرحلة منها، وهو الحصن الذي فيه معدن الزئبق، وفيه يعمل الزنجفور (7) ومنه يتجهز بالزئبق والزنجفور إلى جميع أقطار الأرض، ويخدم هذا المعدن أزيد من ألف رجل فقوم للنزول وقطع الحجر، وقوم لنقل الحطب لحرق المعدن، وقوم لعمل أواني السبك والتصفية، وقوم لبنيان الأفران والحرق، ومن وجه الأرض إلى أسفله فيما حكي أكثر من مائة قامة (8) . أبواطا جزيرة في إقليم برذيل وهي بازاء موضع نهر برذيل وأبواطا يأوي إليها المجوس بمراكبهم عند ارتجاج البحر، فإذا ركدت الريح وسكن البحر وأمكنهم الفرصة دخلوا النهر فجأة فيغيرون في ضفتيه حيثما أمكنهم ثم يرجعون إليها؛ وفي هذه الجزيرة آثار بنيان ومعالم عمران، وهي كثيرة الشعراء ملتفة الأشجار بها مياه عذبة ومزارع جمة، وإذا اتصلت بهم أهوال الشتاء فامتنعوا من ركوب البحر وأصابهم الجهد عمدوا إلى نوع من الشجر يكثر بهذه الجزيرة فيقتاتون به الشهر والشهرين. الأبْواء (1) قرية جامعة بين مكة والمدينة شرفهما الله تعالى وسطاً من المسافة، ومعنى (10) الأبواء أخلاط من الناس، وفي واديها من نبات الطرفاء ما لا يعرف بواد أكثر منه، وهي قرية حصينة كثيرة الأهل وماؤها من الآبار، والبحر منها قريب، وبينها وبين السقيا سبعة وعشرون ميلاً، وبها ماتت آمنة بنت وهب (11) أم النبي صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين، وكانت قدمت به صلى الله عليه وسلم المدينة على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فكان صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم. قال ابن إسحاق (12) : وخرج رسول صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً وبني ضمرة وبني بكر بن عبد مناة فصالح بعضهم ثم رجع ولم يلق كيداً وذلك بعد اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة صلى الله عليه وسلم. أَبان (13) بفتح أوله، جبل، وهما أبانان الأبيض والأسود،
أبرق العزاف
فالأبيض لبني فزارة والأسود لبني والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بينهما فرسخ، وإياهما عنى مهلهل بقوله يعني ابنته: انكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرج ما أنف خاطب بدم أبرق العزاف (1) واد بالحجاز يقال إنه لا يتوارى جنه، قال خريم بن فاتك الأسدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألا أحدثك كيف كان بدء إسلامي، قال: بلى، قال رضي الله عنه: خرجت في طلب إبل لي ... وبقية الحكاية في حرف الخاء من ابن عساكر " خريم بن فاتك " فانظره (2) . الأبطح (3) بمكة شرفها الله تعالى، وقريش فريقان: قريش البطاح وقريش الظواهر، فقريش البطاح هم الذين ينزلون بطحاء مكة وهم بنو عبد مناف وبنو عبد الدار وبنو عبد العزى وبنو عدي بن قصي بن كلاب وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم وبنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح، وقريش الظواهر الذين ينزلون حول مكة وهم بغيض بن لؤي وبنو الأدرم بن غالب ومحارب والحارث ابنا فهم، وسائر قريش الذين ليسوا من الأباطح ولا من الظواهر هم: سامة بن لؤي وخزيمة بن لؤي وبنو عوف بن لؤي، ويقال لرسول صلى الله عليه وسلم الأبطحي لأنه من ولد عبد مناف، وكان يقال لعبد المطلب سيد الأباطح. وقال أبو رافع، وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم: لم يأمرني أن أنزل بالأبطح ولكن ضرب قبته فنزله. أبهر بلد ما بين قزوين وزنجان، من قزوين إليها اثنا عشر فرسخاً ومنها إلى زنجان خمسة عشر فرسخاً. قالوا: وأبهر أيضاً في أصبهان ينسب إليها أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري الفقيه المالكي (4) جمع بين القراءات وعلو الأسانيد وتفقه ببغداد وشرح مختصر ابن عبد الحكم، وانتشر عنه مذهب مالك رحمه الله في البلاد. ومولده قبل التسعين والمائتين، ومات سنة خمس وسبعين وثلثمائة. أبيوود من مدن خراسان، فيها ولد الفضيل بن عياض الزاهد بمكة سنة سبع وثمانين ومائة، قال سفيان بن عيينة (5) : دعانا الرشيد فدخلنا عليه ودخل الفضيل آخرنا مقنعاً رأسه بردائه، فقال: يا سفيان أيهم أمير المؤمنين؟ فقلت: هذا، فقال: أنت يا حسن الوجه الذي أمر هذه الأمة كلها في عنقك؟ لقد تقلدت أمراً عظيماً، فبكى الرشيد، ثم أتي كل رجل منا ببدرة فكل قبلها إلا الفضيل، فقال الرشيد: يا أبا علي إن لم تستحل أخذها فخذها فأعطها ذا دين وأشبع بها جائعاً واكس عارياً وفرج بها عن مكروب، فاستعفاه منها، فلما خرج قلت له: يا أبا علي أخطأت ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البر، فأخذ بطرف لحيتي ثم قال: يا أبا محمد أنت فقيه البلد والمنظور إليه وتغلط هذا الغلط! لو طابت لأولئك لطابت لي، قال سفيان: فصغر والله إلي نفسي. ومن أهل أبيورد محمد بن أحمد الأموي أبو المظفر الأبيوردي (6) أوحد عصره في معرفة اللغة والأنساب وغير ذلك له تصانيف كثيرة، منها " تاريخ ابيورد ونسا " و " المختلف والمؤتلف " و " طبقات العلم في كل فن " و " ما اختلف وائتلف في أنساب العرب "، وله في اللغة مصنفات ما سبق إليها، وكان متصرفاً في فنون جمة، فصيح الكلام حاذقاً بالتصنيف وافر العقل، سئل عن أحاديث الصفات فقال: بعر وتمر، وقال في قوله صلى وسلم الله عليه " ليس لعرق ظالم حق "، العروق أربعة: عرقان ظاهران وعرقان باطنان، فالظاهران الغرس والبناء والباطنان البئر والمعدن (7) وله: تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأحداث الزمان تهون فظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وظلت أريه الصبر كيف يكون وله:
الأبلة
فيا ويح نفسي لا أرى الدهر منزلاً ... لعلوة إلا ظلت العين تذرف ولو دام هذا الوجد لم يبق عبرة ... ولو أنني من لجة البحر أغرف وله: بأبي ريم تعرض لي ... عن رضا في طيه غضب فأراني صبح وجنته ... بظلام الصدغ ينتقب فأتى بالكأس مترعة ... كضرام النار يلتهب فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشهب ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب وتوفي سنة سبع وخمسمائة بأصبهان. الأبلة (1) بضم الهمزة والباء واللام المشددة، مدينة بالعراق بينها وبين البصرة أربعة فراسخ ونهرها الذي في شمالها، وجانبها الآخر على غربي دجلة، وهي صغيرة المقدار حسنة الديار واسعة العمارة متصلة البساتين عامرة بالناس المياسير وهم في خصب من العيش ورفاهية. وهي في قول محمد بن سيرين القرية التي مر بها موسى والخضر عليهما السلام فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، قالوا: وهم أبخل أهل قرية وأبعدها من السخاء، ويحكى أن أهلها رغبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أن يثبت في المصحف: فأتوا أن يضيفوهما بالتاء المثناة بدل الباء وقالت فرقة: بل القرية انطاكية، وقيل: هي برقة، ويقال: إنها الجزيرة الخضراء بالأندلس. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمر بحفر نهر الأبلة فلما ولي عثمان رضي الله عنه جعل نصف النفقة على أهل الخراج والنصف الثاني على بيت المال، فمدوه إلى البصرة. والأبلة مدينة قديمة عامرة فتحها عتبة بن غزوان في زمن عمر رضي الله عنه (2) ، ولما نزل عتبة الخريبة وبالأبلة خمسمائة من الأساورة وكانت مرفأ الصين وما دونها، خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وأمر رجلين من أصحابه فقال لهما: كونا في عشرة فوارس في ظهورنا فتردان المنهزم وتمنعان من أرادنا من ورائنا، ثم التقوا فاقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها، ثم منحهم الله تعالى أكتافهم فولوا منهزمين حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره فأقاموا أياماً وألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خف وعبروا الفرات وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعاً وسلاحاً وسبياً وعيناً فاقتسموا العين، وولي نافع بن الحارث أقباض الأبلة فأخرج خمسه ثم قسم الباقي بين من أفاء الله عليه، وشهد فتح الأبلة مائتان وسبعون. قالوا (3) : ولما خرج الناس لقتال أهل الأبلة قالوا للعدو: نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ فقالوا: اعبروا إلينا، فأخذوا خشب العشر وأوثقوه وعبروا، فقال المشركون: لا نأخذ أولهم حتى يعبر آخرهم، فلما صاروا على الأرض كبروا تكبيرة ثم كبروا الثانية فقامت دوابهم على أرجلها ثم كبروا الثالثة فجعلت الدابة نضرب بصاحبها الأرض وجعلنا ننظر إلى رؤوس تندر لا نرى من يضربها، وفتح الله على أيديهم المدينة. وقال سلمة بن فلان (4) : شهدت فتح الأبلة فوقع في سهمي قدر نحاس، فلما نظرت إذا هي ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب أن يحلف سلمة بالله لقد أخذتها يوم أخذتها وهي عنده نحاس فإن حلف سلمت إليه، وإلا قسمت بين المسلمين، فحلفت فسلمت لي، قال: فأصول أموالنا اليوم منها. وقال خالد بن عمير: شهدت فتح الأبلة مع عتبة بن غزوان فأصبنا سفينة مملوءة جوزاً فقال رجل منا: ما هذه الحجارة؟ وكسرناها فأكلنا منها فقلنا هذا طعام طيب. وقال علي بن سعيد: كان فخر الدين علي بن الدامغاني قدمه الخليفة المستنصر على ديوان الزمام، قال: وصحبته من مدينة السلام إلى أسافل دجلة لجمع الأموال فانحدرنا إلى البصرة وحللنا بين نهر معقل ونهر الأبلة، فنصب فخر الدين هناك خيمة وتزاحم الوفود عليه من المسلمين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس، فقلت له: ما بين نهر الأبله ... وبين معقل حله
أبطير
قد حلها كل جود ... وأمها كل مله بدت لديها بدور ... دارت عليها الأهلة يمم ذراها لتلقى ... بأفقها المجد كله فاستحسن ذلك فخر الدين، قال: وكان نزولنا في جنوبي نهر معقل وبينه وبين نهر الأبلة في الجنوب فرسخ، ويخرج من أعلى هذا النهر فيض ومن أصل النهر الآخر فيض يختلطان فيصير منهما النهر الذي يمتد مع البصرة في شرقيها، ويجمع ذلك المكان أصناف الزهر وأشتات الرياحين والنخل، فأنشد فخر الدين: انظر إلى نهرين قد أخرجا ... من دجلة ما لهما من مثيل وإن تشا قلت أرى دارغاً ... في كل كف منه سيف صقيل والنخل والأدواح قد أحدقت ... تحكي رعيلاً قد تلاه رعيل ولما دخل الططر مدينة السلام أبقوه على جباية البلاد لمعرفته بها ثم قدموه للشنق سنة تسع وخمسين وستمائة لأنهم اتهموه بمواطأة صاحب مصر عليهم. أبطير (1) حصن بالأندلس بمقربة من بطليوس من بناء محمد بن أبي عامر، من جليل الصخر داخله عين ماء خوارة، وهو اليوم خال، وعلى مقربة منه بنحو ثلاث غلاء (2) قبر في نشز من الأرض قد نحت في حجر وقد نضد عليه صفائح الحجارة ويعرف بقبر الشهيد ولا يعلم له وقت لقدمه، يرفع عنه بعض تلك الصفائح فيرى صحيح الجسم لم يتغير، نابت الشعر. أبركاوان جزيرة في البحر بينها وبين سيراف مائة وخمسون فرسخاً وفيها قلاع شتى وفيها أجوان كثيرة ومستقى ومحتطب كثير، وفيها معادن الحديد، وطولها اثنا عشر فرسخاً، وبينها وبين ساحل بحر فارس فرسخان. ابرشهر هي مدينة نيسابور، وقصدها غازياً الأحنف بن قيس من قبل ابن عامر فلقيه الهياطلة فقاتلهم فهزمهم، ثم أتى ابن عامر نيسابور فافتتح مدينة ابرشهر هذه، قيل صلحاً وقيل عنوة، وفتح ما حولها: طوس وبيورد ونسا وسرخس، ولما افتتحها ابن عامر أعطوه جاريتين من آل كسرى. أبيض المدائن ويقال له القصر الأبيض، وهو الذي لا يدرى من بناه وهو من المدينة العتيقة من المدائن دار ملك الأكاسرة بالعراق، وهو المشار إليه في حديث النسائي (3) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المعول فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول بيده وقال: " بسم الله " فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة، قال صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر. أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأنظر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا "، قال: ثم ضرب أخرى وقال: " بسم الله " وكسر ثلثاً آخر وقال: " الله أكبر. أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأنظر قصر المدائن الأبيض "، ثم ضرب ثالثة وقال: " بسم الله " فقطع بقية الحجر وقال: " الله أكبر. أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأنظر باب صنعاء "، وهذا الحديث أوضح في المعنى من حديث سلمان رضي الله عنه الذي في السير (4) ، وذلك أن المدائن على مسافة يوم من بغداد ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبي دجلة شرقاً وغرباً، ودجلة تشق بينها ولذلك سميت المدائن: الغربية منها تسمى بهرسير، والمدينة الشرقية تسمى العتيقة، وفيها القصر الأبيض الذي لا يدرى من بناه، ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التي كانت الملوك تنزلها، وفيها إيوان كسرى العجيب الشأن الشاهد بضخامة ملك بني ساسان، ويقال إن سابور ذا الأكتاف منهم هو الذي بناه وهو من أكابر ملوكهم وقد ذكر أبو عبادة البحتري هذا القصر الأبيض وما كان مصوراً فيه من الصخور العجيبة والتماثيل البديعة في قصيدته السينية البارعة الفريدة (5) : حضرت رحلي الهموم فوجه؟ ... ت إلى أبيض المدائن عنسي أتسلى عن الحظوظ وآسى ... لمحل من آل ساسان درس ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي
أباغ
وهم خافضون في ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخسي حلل لم تكن كأطلال سعدى ... في قفار من المهامه ملس ومساع لولا المحاباة مني ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتماً بعد عرس وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس فإذا ما رأيت صورة انطاكي ... ة ارتعت بين رومٍ وفرس والمنايا مواثل وأنوشروان يزجي ... الصفوف تحت الدرفس في اخضرار من اللباس على أخ؟ ... ضر يختال في صبيغة ورس وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منهم واغماض جرس من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس تصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس أبيار (1) بفتح أوله، قرية من كور البلاد المصرية منها أبو الحسن علي بن إسماعيل الصنهاجي الفقيه شارح " البرهان ". الأبلق الفرد هو حصن السموأل بن عاديا، قالوا: إذا خرجت من المدينة وأنت تريد تيماء فتنزل الصهباء ثم تنزل كذا ثم تنزل العين ثم كذا ثم تسير ثلاث ليال في الجناب ثم تترل تيماء وهي لطيء (2) . وبتيماء حصن الأبلق الفرد الذي كان ينزله السموأل، والعرب تضرب المثل بهذا الأبلق الفرد في الحصانة والمنعة فتقول: تمرد مارد وعز الأبلق (3) . وزعموا أنه من بنيان سليمان عليه السلام. وكان الحارث بن أبي شمر الغساني بلغه أن امرأ القيس أودع سلاحاً وكراعاً عند السموأل فبعث إليه رجلاً من أهل بيته يقال له الحارث بن مالك فلما دنا من حصنه أغلق بابه وسأله ما الذي جاء به؟ فقال له الحارث: جئتك لتدفع إلي كراع امرئ القيس، فأبى عليه، وكان للسموأل خارج الحصن ابن يقتنص يومه فلما رجع قال له الحارث: إن لم تعطني ما سألتك قتلت ابنك هذا، فقال: لا سبيل إلى ذلك فاصنع ما أنت صانع، فقتل ابنه، فضربت به العرب المثل في الوفاء وقالت: أوفى من السموأل، وفي ذلك يقول أعشى قيس (4) : كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كهزيع الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار خيره خطتي خسف فقال له ... مهما تقولن فإني سامع دار فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري أباغ (5) عين أباغ في طرف أرض العراق مما يلي الشام فيها أوقع الحارث الغساني وهو يدين لقيصر بالمنذر بن المنذر وبعرب العراق وهم يدينون لكسرى وقتل المنذر يومئذ. وقال الرياشي: عين أباغ بين بغداد والرقة وأنشد: بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم وبعين أباغ مات صالح بن علي بن عبد الله بن العباس عم أبي جعفر المنصور وهو يريد الشام، وروي أن صالحاً هذا ظفر ببشر بن عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فقال: انه قد كان من بلاء أبي هذا عندنا وإحسانه إلينا ما يوجب حفظه، فقال له بشر: فلينفعني هذا عند الأمير اليوم، فقال: أما قتلك فلا بد منه لكتاب أمير المؤمنين إلي بذلك وأنه لا سبيل إلى مخالفته، ولكني أقدم الذي سعى بك فأضرب عنقه بين يديك وأكافئ الذي آواك، ففعل ذاك.
اثل
أبين (1) باليمن، قيل فيه بكسر الألف وفتحها، وهو اسم رجل في الزمن القديم إليه تنسب عدن أبين من بلاد اليمن وبينها وبين عدن اثنا عشر ميلاً. وفي كلام شق في تفسير رؤيا ربيعة بن نصر: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين أبين إلى نجران، إلى آخر أسجاعه. الأثيل واد في حيز بدر طوله ثلاثة أميال، بينه وبين بدر ميلان حيث كانت الوقعة المباركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش سنة اثنتين، وكانت بدر موسماً من مواسم العرب ومجمعاً من مجامعهم في الجاهلية، وبها قصور وبئار ومياه تستعذب بأرض يقال لها الأثيل ويقرب منها ينبع والصفراء والجار والجحفة (2) ، وإياها أرادت قتيلة بنت الحارث وكان رسول الله صلى وسلم الله عليه أمر بقتل أخيها النضر هنالك، فقالت (3) : يا راكباً إن الأثيل مظنة ... من صبح رابعة وأنت موفق أبلغ بها ميتاً بأن تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بدرتها وأخرى تخنق الأبيات إلى آخرها. اثل (4) هي مدينة الخزر وقصبتها باب الأبواب ومنها إلى سمندر أربعة أيام في عمارة، ومن سمندر إلى اثل أربعة أيام، واثل مدينتان عامرتان من ضفتي النهر المسمى بها والملك يسكن في المدينة التي في الضفة الغربية من النهر، والتجار والسوقة وعامة الناس يسكنون المدينة التي في الضفة الشرقية، وطول مدينة اثل نحو ثلاثة أميال، ويحيط بها سور منيع، وأكثر أبنيتها قباب يتخذها الأتراك من لبود، وجلتهم يبنون بالتراب والطين، وقصر ملكها مبني بالآجر، ولا يبني أحد هناك بالآجر خوفاً من الملك. والخزر نصارى ومسلمون وفيهم عباد أوثان، ولا يغير أحد على أحد في أمر دينه، وزراعات أهل اثل على ما جاور النهر من الأرضين، فإذا زرعوا وحان الحصاد خرجوا إليه، قريباً كان أو بعيداً، فحصدوه ثم نقلوه بالمراكب في النهر، وأكثر طعامهم السمك والأرز، ونهر اثل مبدؤه من جهة المشرق من ناحية الأرض الخراب حتى يقع في بحر الخزر، ويقال إنه يتشعب منه نيف وسبعون نهراً، ويبقى عمود النهر فيجري إلى بحر الخزر، وهذه المياه المفترقة إذا اجتمعت في أعلى النهر تزيد على مياه جيحون وبلخ كثيراً كبراً وغزر مياه وسعة على وجه الأرض. ويركب هذا البحر التجار بأمتعتهم من أرض المسلمين إلى أرض الخزر وهو فيما بين الران والجبل وطبرستان وجرجان، وقد يسافر أهل اثل إلى جرجان، والخزر بلاد أمم كثيرة، ولهم بلاد ومدن منها سمندر والباب والأبواب وبلنجر وغيرها، وكل هذه البلاد بناها كسرى أنوشروان، وهي الآن قائمة عامرة. أجا (5) يهمز ولا يهمز، أحد جبلي طيء وهما أجأ وسلمى سميا برجل وامرأة فجرا فصلبا عليهما، أما أجأ فهو ابن عبد الحي وأما سلمى فهي سلمى بنت حام. وفي شعر امرئ القيس (6) : أبت أجأ أن تسلم العام جارها ... وفي السير (7) في غزوة تبوك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له "، ففعلوا إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فخنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه "، ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الذي وقع بجبلي طيء فإن طيئاً أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. وفي شعر ابن هانئ الأندلسي (8) : سلوا طيء الأجبال أين خيامها ... وما أجأ إلا حصان ويعبوب أجدابية مدينة في حيز برقة وهي آخر ديار لواتة، وهي في صحصاح من حجر مستو، وكان لها فيما سلف سور ولم يبق
أجرسيف
منه الآن إلا قصران في الصحراء، والبحر منها على أربعة أميال ولا شيء حولها من النبات، وفيها يهود ومسلمون ويطيف بها خلق من البربر، وليس بها ماء جار إنما مياههم في المواجل والسواني التي يزرعون عليها الشعير وقليل الحنطة وضروباً من القطاني. وممن ينتسب إليها علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الأجدابي أحد فقهاء القيروان الجلة، روى عن أبي الفضل محمد بن يحيى بن عباس قال: كان حي من الجن يقال لهم بنو أسد يزجرون الطير فأرادوا أن يختبروا علم بني أسد من الأنس في زجر الطير فتمثلوا ثلاثة أشخاص وأتوا إلى بني أسد من الأنس فسلموا عليهم وقالوا: إنا قوم ذهبت لنا لقاح فابعثوا معنا من يزجر الطير لعلنا نجدها، فبعثوا صبياً صغيراً منهم فما مشى إلا يسيراً إذ نظر إلى عقاب قد ضمت جناحاً وفتحت جناحاً، فرجع الصبي إلى قومه وهو يبكي ويقول للأشخاص الثلاثة: ضمت جناحاً وفتحت جناحاً، فأحلف بالله صراحاً، ما أنتم بانس ولا تبغون لقاحاً. ومن المنسوبين إلى أجدابية أيضاً أبو إسحاق الأجدابي الأديب (1) صاحب " الكفاية " و " شحذ القريحة " و " العروض ". وأجدابية (2) مدينة كبيرة في الصحراء وأرضها صفا وآبارها منقورة في ذلك الصفا، طيبة الماء والهواء وبها عين ثرة غدقة وبساتين ونخل يسير، وبها جامع حسن بناه الشيعي وله صومعة مثمنة بديعة العمل، وبها حمامات وفنادق كثيرة وأسواقها حافلة مقصودة، وأهلها ذوو يسار وأكثرهم أنباط وبها نبذ من صرحاء لواتة، وليس لمبانيها سقوف خشب إنما هي أقباء من طوب لكثرة الرياح بها، كذا كانت أول الأمر ثم أتى عليها من الأمر ما قدمناه. أجرسيف (3) مدينة في أحواز تلمسان من أرض المغرب كبيرة لها بساتين كثيرة وهي على نهر ملوية وهو نهر كبير من الأنهار المشهورة، وكانت أجرسيف قرية كبيرة على النهر المذكور حتى خرج الملثمون من الصحراء فنزلوها ومدنوها وبنوا عليها سوراً من طوب. أجنادين بفتح الهمزة والنون والدال، بعدها ياء ونون على لفظ التثنية، موضع بالشام من بلاد الأردن، قال كثير (4) : فإلا تكن بالشام داري مقيمة ... فإن بأجنادين مني ومسكن مشاهد لم يعف التنائي قديمها ... وأخرى بميافارقين فموزن مسكن بالعراق وهو موضع معسكر مصعب وبه قتل، يخبر كثير أنه كان مع عبد الملك في حروبه تلك، وبأجنادين كانت الوقعة بين المسلمين والنصارى في آخر خلافة الصديق رضي الله عنه، وهي أول وقعة عظيمة كانت بالشام، وكانت (5) سنة ثلاث عشرة قبل وفاة أبي بكر رضي الله عنه بأربع وعشرين ليلة، قتل المسلمون منهم في المعركة ثلاثة آلاف واتبعوهم يقتلونهم ويأسرونهم، وخرج كل الروم إلى ايليا وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا في المدائن العظام، وكتب خالد بن الوليد رضي الله عنه بالفتح إلى أبي بكر رضي الله عنه: أخبرك أيها الصديق أنا لقينا المشركون وقد جمعوا لنا جموعاً جمة بأجنادين وقد رفعوا صلبهم ونشروا كتبهم وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين عليه، فطاعناهم بالرماح شيئاً ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها قدر جزر جزور، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين فقاتلناهم في كل فج وشعب وغائط، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه والسلام. وفتوح الشام متضمنة لبسط هذا الخبر المجمل. أجياد بفتح أوله وإسكان ثانيه وبالياء أخت الواو والدال المهملة كأنه جمع جيد، أحد جبال مكة وهو الجبل الأخضر العالي بغربي المسجد الحرام، وفي رأسه منار يذكر أن أبا بكر رضي الله عنه أمر ببنائه ينادي عليه المؤذنون في رمضان، يقابل من الكعبة الركن اليماني يخرج إليه من باب إبراهيم عليه السلام ويقابل قعيقعان من ناحية الغرب، وقال عمر بن أبي ربيعة (6) : هيهات من أمة الوهاب منزلنا ... إذا حللنا بسيف البحر من عدنِ
الأجم
واحتل أهلك أجياداً فليس لنا ... إلا التذكر أو حظ من الحزن وتفاخر رعاء الإبل (1) ورعاة الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوطاهم رعاء الإبل غلبة وقالوا: ما أنتم يا رعاء النقد هل تخبون أو تصيدون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بعث موسى وهو راعي غنم وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد. فغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبأجياد نزل السميدع بقطورا في الزمن الأقدم وكان يعشر من دخل مكة من أسفلها، قالوا: سمي بذاك لخروج جياد الخيل مع السميدع حين قاتل عمرو بن مضاض الجرهمي في خبر مشهور. الأجم (2) قصر الأجم هو المعروف بقصر الكاهنة وبينه وبين المهدية من البلاد الإفريقية ثمانية عشر ميلاً، وذكر أن الكاهنة حصرها عدوها في هذا القصر فحفرت سرباً في صخرة صماء من هذا القصر إلى مدينة سلقطة يمشي فيه العدد الكثير من الخيل (3) وبينهما ثمانية عشر ميلاً، ويقال إن أخت الكاهنة كانت في سلقطة فكان الطعام يجلب إليها في ذلك السرب على ظهور الدواب، وهذا القصر عجيب البنيان قد أحكم بحجارة طول الواحد منها ستة وعشرون شبراً، وارتفاع القصر في الهواء أربع وعشرون قامة، وهو من داخله كله مدرج إلى أعلاه، وأبوابه طاقات بعضها فوق بعض. وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما بعثه عثمان إلى إفريقية غازياً لقي جرجير صاحب سبيطلة، وقاتله فقتله عبد الله بن الزبير وشن الغارات على سبيطلة، وأصاب الروم رعب شديد، ولجأوا إلى الحصون والقلاع، فاجتمع أكثر الروم بقصر الأجم فطلبوا من عبد الله بن سعد أن يأخذ منهم ثلثمائة قنطار من ذهب على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرطه ان ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه لهم. أحد جبل بظاهر مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في شمالها على مقدار ستة أميال وهو أقرب الجبال إليها، وهو مطل على أرض فيها مزارع وضياع كثيرة لأهل المدينة، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا جبل يحبنا ونحبه ". ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل عسكره وظهره إلى أحد؛ قيل سمي بهذا الاسم لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هنالك؛ قيل: أراد بقوله صلى وسلم الله عليه " يحبنا ونحبه " أهله وهم الأنصار، وقيل: لأنه كان ينشرح إذا رآه عند قدومه من أسفاره بالقرب من أهله ولقائهم وذلك فعل المحب؛ وقيل: بل حبه حقيقة وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله تعالى فيها " وان منها لما يهبط من خشية الله " وفي بعض الآثار المسندة أن أحداً يوم القيامة عند باب الجنة من داخلها، وفي بعضها أنه ركن لباب الجنة. وعند أحد كانت الوقعة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في سنة ثلاث في شوال بعد بدر بسنة، حضرها من المسلمين ستمائة رجل وكانت قريش في ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع، وقتل فيها حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، قتله وحشي، وحكى وحشي بعد أن أسلم، قال: جئت فشهدت شهادة الحق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اجلس فحدثني "، فحدثته كيف قتلت حمزة، فقال: " غيب وجهك عني فلا أراك "، وفي قصة أحد نزلت الآيات من سورة آل عمران " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " إلى آخر الآيات، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة رضي الله عنه، وقد مثل به، فقال صلى الله عليه وسلم: " لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع فيكون أعظم لأجره وأفضل لدرجته في الجنة " ثم بكى حتى اغرورقت عيناه واخضلت لحيته من دموعه، وبكى الناس لبكائه وكثر الضجيج، فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام فعزاه به وقال: يا محمد قد بكى لبكائك أهل السموات ولعنوا قاتل عمك، والله عز وجل يقول " وللآخرة خير لك من الأولى " و " العاقبة للمتقين "، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم وجعل يضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة رضي الله عنه، ثم يجاء بتسعة
الأحساء
كذلك حتى فرغ منهم صلى الله عليه وسلم، فلما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة سمع النياحة في دور الأنصار والبكاء، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فمن أجل ذلك يبدأ في المدينة ومكة بحمزة قبل ميتهم. الأحساء (1) مدينة على البحر الفارسي تقابل جزيرة أوال وهي بلاد القرامطة، والأحساء مدينة صغيرة وبها أسواق تقوم بها (2) . وكان أبو القاسم بن زكرويه القرمطي صاحب الشامة ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخرج أيام المكتفي بجهة السماوة سنة تسع وثمانين ومائتين، فقوي أمره واشتدت شوكته ثم قتل على مقربة من دمشق، فخرج بعده أخ له فصار يعترض الحجاج وبعث رجلاً ليحارب بصرى وأذرعات، فبعث إليه الخليفة الحسين بن حمدان بن حمدون التغلبي فآل الأمر إلى أن قتل وصلب ببغداد فرجمه الناس. وقيل لهم القرامطة لأنهم نسبوا إلى قرمط بن الأشعث لأنه كان يقرمط خطه أو مشيه على ما ورد، أي يقارب خطوه، وكان أخذ أصل مقالته من رجل يقال له الفرج بن عثمان النصراني كان يزعم أنه داعية المسيح وأنه الكلمة وأنه الدابة المذكورة في القرآن والناقة وروح القدس ويحي بن زكريا والمهدي المنتظر، وزعم أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها وأن القبلة إلى المقدس والحج إليه، والصوم يومان: المهرجان والنيروز، والجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شغل، وأن النبيذ حرام والخمر حلال ولا غسل من الجنابة ولا وضوء لصلاة، في تخليط كثير ذكره الناس، وفيه يقول أبو العلاء المعري (3) : يرتجي القوم أن يقوم إمام ... ناطق في الكتيبة الخرساء كذب القوم لا إمام سوى العق؟ ... ل مشيراً في صبحه والمساء كالذي قام يجمع الزنج بالبص؟ ... رة والقرمطي بالأحساء الأحاسي جزيرة الأحاسي على نحو عشرة أميال من المهدية بإفريقية ذات أحساء بينها وبين البر مجاز قريب كان نزل به الرجار طاغية صقلية في أسطول له أو من ناب عنه متوسلاً إلى المهدية وبلاد المسلمين، وطمع في أن يصادف في المسلمين غرة وينتهز منهم فرصة، وذلك في عام سبعة عشر وخمسمائة، فعكس الله تعالى عليه مقصوده ونصر المسلمين عليه وذلك في سلطان الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب المهدية، ويكفي في التعريف بخبر هذه الكائنة كتاب الحسن هذا إلى بعض الجهات معلماً بما سناه الله من الفتح (4) فيه " إن الرجار صير أسطوله المخذول نحو المهدية، حماها الله تعالى، في نحو من ثلثمائة مركب حمل على ظهورها ثلاثة آلاف راكب وزهاء ألف فارس، وكان الرجار قد رام إخفاء كيده ومكره فمنع السفر إلى سواحل المسلمين فسقط إلى الساحل مركب من حمالة أسطوله عرفنا من ركابه سريرة حاله، ولم نكن قبل ذلك مهملين لما يقتضيه هذا الحادث من التأهب والاستعداد، واستضمام الأجناد إلى الأجناد، والتحريض على مفترض الجهاد، فاستظهرنا باستضمام العرب المطيفة بنا فأقبلوا أفواجاً أفواجاً، وجاءوا مجيء السيل يعتلج اعتلاجاً، ويتدفق أمواجاً، وكلهم على نيات من الجهاد خالصة، وعزمات غير معردة في مواقف الموت ولا ناكصة، ووصل الأسطول المخذول ونزلوا على عشرة أميال من المهدية بجزيرة هنالك ذات أحساء، بينها وبين البر مجاز متداني العبرين قريب ما بين الشطين، هين مرامه، سهل على الفارس والراجل خوضه واقتحامه، فتبرع إليهم من جندنا ومن انضاف إليهم من العرب المنجدة لنا طائفة أوسعت أعداء الله طعناً وضرباً، وملأت قلوبهم خوفاً ورعباً، فلما عاينوا ما نزل بهم أنزلوا عن ظهور مراكبهم ما كان أبقاه الغرق من أفراسهم وكانت نحو ستمائة فرس، وظنوا أنهم إن امتطوا متونها مستلئمين وصدموا بها جيوش المسلمين أمكنهم بعدها انتهاز فرصة، فأكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم وجعل الدائرة عليهم وولوا أدبارهم يرون الهزيمة غنيمة والهرب غلباً، وتركوا أفراسهم ومضاربهم وكثيراً من أسلحتهم وعددهم نهباً مقسماً وفيئاً مغتنماً. والحمد لله الذي أيد الإسلام ونصره، وأعلاه وأظهره ". الأحقاف هي منازل عاد قيل كانت بالشام، وقيل هي بلاد رمل بين مهرة وعدن، وقيل في بلاد الشحر الموصلة للبحر اليماني، وقيل هي من حضرموت وعمان، والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد، والأحقاف جمع حقف وهو
اخميم
الحبل المستطيل من الرمل، وقيل هي الرمال العظيمة، وكثيراً ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل لأن الريح تصنع ذلك، وفي ذلك قال الله تعالى " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف " ونبيهم هود عليه السلام ولما قال قائلهم " هذا عارض ممطرنا " قيل لهم " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " وذلك أن عاداً (1) بغت في الأرض وملكها الخلجان ابن الدهم، كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هوداً فلم يجيبوا، فمنعوا المطر ثلاث سنين وأجدبت الأرض فم يدر لهم ضرع وكانت في نفوسهم مع ذلك هيبة الصانع والتقرب إليه بالتماثيل وعبادتها لأنها في زعمهم مقربة إليه، وكانوا يعظمون موضع الكعبة وكان بربوة حمراء، فوفدت عاد إلى مكة وفداً يستسقون لهم ويستغيثون وكان بمكة يومئذ العمالق، فأتى الوفد مكة فأقبلوا على الشراب واللهو حتى غنتهم الجرادتان قينتا معاوية بن بكر بشعر فيه حث لهم على ما وردوا من أجله، وهو: ألا يا قيل قم عجلاً فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عاداً ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما وإن الوحش تأتي أرض عاد ... فلا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما فاستيقظ القوم من غفلتهم وبادروا إلى الاستسقاء لقومهم، فكان من أمرهم في مجيء السحب واختيارهم لما اختاروه منها ما هو مشهور، وذلك أن الله تعالى أنشأ سحائب: بيضاً وحمراً وسوداً ثم نادى مناد من السحاب: يا قيل اختر لقومك، وكانوا قالوا: اللهم إن كان هود صادقاً فاسقنا، فقال: اخترت السحابة السوداء، فقيل له: اخترت رمداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، لا والداً ولا ولداً، إلا جعلته همداً، وساق الله تعالى السحابة السوداء بالنقمة إلى عاد، وفيهم يقول مرثد بن سعد: عصت عاد رسولهم فأضحوا ... عطاشاً ما تبلهم السماء ألا قبح الإله حلوم عاد ... فإن قلوبهم قفر هواء فأرسل الله تعالى عليهم الريح العقيم كما قال عز وجل " ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " خرجت عليهم من واد لهم، فلما رأوا ذلك قالوا " هذا عارض ممطرنا " وتباشروا بذلك، فلما سمع هود ذلك من قولهم قال " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم "، فأتتهم الريح يوم الأربعاء فلم تأتهم الأربعاء الثانية ومنهم حي، فمن أجل ذلك قيل: أربعاء لا تدور ثم انفرد هود ومن معه من المؤمنين، وفي ذلك يقول شاعرهم: لو أن عاداً سمعت من هود ... واتبعت طريقة الرشيد ما أصبحت عاثرة الجدود ... صرعى على الآناف والخدود وروى الكلبي (2) عن رجاله عن الأصبغ بن فلان (3) ، قال: كنا عند علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه، فسأل رجل من حضرموت فقال: أعالم أنت بحضرموت؟ فقال: إذا جهلتها فما أعلم غيرها، فقال: أتعرف موضع الأحقاف؟ قال: كأنك تسأل عن قبر هود عليه السلام، قال: نعم، قال: خرجت وأنا غلام في أغيلمة من الحي نريد أن نأتي قبره لبعد صيته، فسرنا في وادي الأحقاف أياماً وفينا من قد عرف الموضع، حتى انتهينا إلى كثيب أحمر فيه كهوف، فانتهى بنا ذلك الرجل إلى كهف منها فدخلناه وأمعنا فيه فانتهينا إلى حجرين قد أطبق أحدهما فوق الآخر وفيه خلل يدخل منه النحيف متجانفاً، فرأيت رجلاً على سرير شديد الأدمة كث اللحية قد يبس على سريره وإذا لمست شيئاً من جسده وجدته صلباً، وعند رأسه كتابة بالعربية: أنا هود الذي آمنت بالله وأسفت على عاد لكفرها وما كان لأمر الله من مرد، فقال علي رضي الله عنه: كذلك سمعته من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. اخميم (4) مدينة في البلاد المصرية في الجانب الشرقي من النيل لها ساحل، وهي مدينة كبيرة قديمة فيها أسواق وحمامات ومساجد كثيرة وفيها من البرابي وعجائب المباني والآثار ما يعجز الوصف عنه وهي بصعيد مصر. وكان سوريد بن سهلون (5) صاحب الأهرام ملكاً عاقلاً عالماً أوتي علماً
وحكمة، فكان يتعهد مصالح رعيته، واتخذ مرآة من أخلاط أقامها على منار في وسط قصره بمكان ينظر فيها جميع الأمم والأقاليم ويقابل ذلك بما يصلحه، وقد كان عهد إلى رئيس كهنته أن يأمرهم بالنظر في كل يوم فيما يحدث في العالم ويخلد ذلك في كتاب، فجمع إليه العلماء والكهناء والمنجمين من جميع الأقطار وعملوا له ما أراد من جميع الطلسمات وغير ذلك. وفي أيامه بنيت الأهرام (1) التي بأرض مصر بسبب أن هذا الملك كان رأى رؤيا هالته: رأى الكواكب البابانية (2) في صور طير بيض كأنها تخطف العالم وتلقيهم بين جبلين وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة كلها، فأخبر بذلك كهانه وعلماءه، فأولوا ذلك على أنه يدل على آفة نازلة من السماء مفسدة للأرض وأهلها وحيوانها وقالوا له: هي آفة محيطة بأقطار الأرض إلا اليسير، وذلك إذا نزل قلب الأسد في أول دقيقة من السرطان وتكون الشمس والقمر في أول دقيقة من الحمل، فقدر الملك أن ذلك غرق يأتي على الأرض ومن فيها، فأمر ببناء الأهرام والبرابي لتخليد علومهم وصناعاتهم وسير ملوكهم وسنتهم في رعيتهم، وأمر ببناء أعلام عظام تكون خزائن أموالهم وكنوزهم وذخائرهم وقبوراً لهم تحفظ أجسادهم من الفساد، وأمر أن يكون ذلك كله في حجر صلد لا تغيره الدهور ولا يفسده الطوفان، وقيل أمر ببناء هذه الأهرام والبرابي من حجارة ومن طين، فإن كان هذا الحادث ماء ذهبت التي هي من طين وبقيت التي هي من حجارة، وإن كانت ناراً ذهبت التي هي من حجارة وبقيت التي هي من طين، فكان ذلك الحادث ماء فذهبت الطين وبقيت الحجارة، ثم اختار موضعاً لبناء تلك الأعلام، بقرب النيل في الجانب الغربي منه، وجعل طول حائط الهرم مائة وخمسين ذراعاً في عرض مثل ذلك، وارتفاعه في السماء أربعمائة ذراع وعمقها تحت الأرض مثل ارتفاعها فوق الأرض، وعرض الحائط عشرين ذراعاً. فلما تم بنيان الأهرام والبرابي أمر الملك أن يكتب على حيطان البرابي وسقوفها جميع الأشياء وغوامض الأمور ودلائل النجوم وعللها وسائر الطبائع وعمل الأدوية وتأليفها ومعرفة العقاقير وأسماؤها وصورها وعلم صنائع الكيمياء وغيرها مما ينفع ويضر، كل ذلك ملخصاً مفسراً لمن عرف كتابتهم، وفهمها، ونقش في حيطانها وسقفها جميع الطلسمات، وكتب على كل طلسم خاصيته ونفعه وضرره ولما وضع، وجعل في تلك الأهرام فنوناً من الذهب والفضة والكيمياء وحجارة الزبرجد الرفيعة والجواهر النفيسة، فلما تمت هذه الأهرام والبرابي على ما أراد الملك قال لهم: انظروا هل تفسد هذه الأعلام؟ فنظروا فوجدوها باقية لا تزول، فقال لهم: هل يفتح فيها موضع أو يدخل إليها؟ فنظروا وقالوا: يفتح في الهرم الفلاني في الجانب الشمالي منه، فقال: حققوا النظر في معرفة الموضع نفسه، فنظروا وعرفوه أنه يكون لمدة أربعة آلاف دورة للشمس، والدورة سنة، فقال لهم: انظروا مقدار ما ينفق في فتح هذا الموضع، فنظروا فعرفوه فقال: اجعلوا في الموضع الذي يوصل إليه من داخل الهرم ذهباً مقدار ما ينفق على فتحه، ثم حثهم على الفراغ من بناء الأهرام والبرابي ففرغوا منها في ستين سنة، وأمر أن يكتب عليها: بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد هدمها في ستمائة سنة على أن الهدم أهون من البناء، ثم قال لهم: انظروا هل يكون بمصر بعد هذه الآفة آفة أخرى، فنظروا فإذا الكواكب تدل على وقت نظرهم على آفة أخرى نازلة من السماء تكون في آخر الزمان وهي ضد الأولى: نار محرقة لأقطار العالم، فقال لهم: هل توقفونا على أمر آخر بعد هذه الأمور؟ فنظروا فقالوا: إذا قطع قلب الأسد ثلثي دورة وهو آخر دقيقة من العقرب لم يبق من حيوان الأرض متحرك إلا تلف، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك. فقال لهم: في أي يوم تنحل عقد الفلك؟ فقالوا له: اليوم الثاني من حركة الفلك، فعجب من ذلك وأمر بتخليد ما قاله العلماء من هذه الحكم في الكتب وأن تستودع في تلك الأهرام، فيقال ان فيها علوم الأولين والآخرين. قالوا (3) : فلما كان في زمن المأمون بن الرشيد أراد هدم الأهرام، فعرفه بعض شيوخ المصريين أن ذلك غير ممكن ولا يحسن بأمير المؤمنين أن يطلب شيئاً لا يبلغه، فقال: لا بد أن أعلم ما ما فيها، ثم أمر بفتح هرم من أعظمها، ففتح فيه ثلم في جانبه الشمالي لقلة دوام الشمس على من يعمل فيه، فعملوا فيه فوجد حجراً صلداً يكل فيه الحديد، فكانوا يقدون النار عند الحجر
فإذا حمي رش بالخل ورمي بالمنجنيق بزبر الحديد، وأقاموا على ذلك أياماً حتى فتحوا الثلمة التي فيها الآن، فدخلوا ذلك الهرم فوجدوا بنيانه بالحديد والرصاص، ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعاً، ووجدوا بالقرب من الموضع الذي فتحوا مطهرة من حجر أخضر فيها مال، فقال المأمون: زنوه، فوزنوا الجملة فوجدوا، فيها مالاً معلوماً، وكان المأمون فطناً فقال: ارفعوا ما أنفقتم على فتح هذه الثلمة، فوجدوه موازياً لما وجد من المال، فعجب المأمون من معرفتهم بالموضع الذي يفتح على طول الزمان، وازداد بعلم النجوم غبطة، ووجد المأمون في الهرم صنماً أخضر ماداً يده وهو قائم فلم يعلم خبره، ونظر إلى الزلاقة والبئر التي في الهرم وأمر بالنزول فيه، فأفضوا إلى صنم أحمر عيناه من جزعتين سواد في بياض كأنهما حدقتا إنسان ينظر إليهم، فهالهم أمره وقدروا أن له حركة فجزعوا منه وخرجوا، ويقال إنه وجد فيها مالاً كثيراً. وسأل المأمون من وجد بمصر من علمائها هل لهذه الأهرام أبواب فقيل لها أبواب تحت الأرض في آزاج مبنية بالحجارة كل واحد منها عشرون ذراعاً له باب من حجر واحد يدور بلولب إذا أطبق لم يعرف أنه باب، وصار كالبنيان لا يدخل إليه الذر ولا يوصل إليه إلا بكلام وقرابين وبخورات معروفة، وإن في هذه الأهرام فنوناً من الذهب والفضة والكيمياء وحجارة الزبرجد الرفيع والجواهر النفيسة ما لا يسعه وصف واصف، وفيها من الكتب المستودعة فيها طرائف الحكمة وكمال الصنعة ومن التماثيل الهائلة من الذهب الملون على رؤوسها التيجان الفاخرة مكللة بالجواهر النفيسة ما يستدل به على عظم ملكهم، وجعلوا على ذلك من الطلسمات ما يمنع منه ويدفع عنه إلى أوقات معلومة، وقصدوا بذلك أن تكون تلك الأشياء ذخيرة لأعقابهم ولمن يكون بعدهم ليروا عظيم مملكتهم، ووضعوا أساس تلك الأعلام وقت السعادة، وجعلوا في أساس كل علم منها صنماً، وزبروا في صدورها دفع المضار والآفات عنها، وفي يد كل صنم منها آلة كالبوق وهو واضعه على فيه، والخبر عن هذه الأهرام والبرابي مذكور في المطولات. ويقال (1) إن ذا النون الإخميمي الزاهد إنما قدر على ما قدر عليه من علوم البربى حتى عمل الصنعة الكبيرة لأنه خدم راهباً كان بإخميم مدة صباه فعلمه قراءة الخط الذي في البربى وعلمه القربان والبخور واسم الروحاني وأوصاه أن يكتم ذلك، فلما علم ذا النون ما علم من علم الكيمياء وغيرها عمد إلى طين الحكمة فطمس به على صنعة الكيمياء حتى لا يبلغ إليها أحد غيره وهو طين لا ينقلع أبداً. وفي (2) بعض الأخبار أن قوماً قصدوا الأهرام فنزلوا في تلك الآبار وطلبوا أن يدخلوا من تلك المضايق التي تخرج منها تلك الرياح، واحتملوا معهم سرجاً في أواني زجاج، فلما حصلوا في تلك المضايق التي تخرج منها الرياح، خرجت عليهم ريح شديدة فأخرجتهم منها، وأطفأت أكثر سرجهم، فأخذوا أحدهم وكان أقواهم جأشاً وأشدهم عزماً وأصلبهم قلباً، فربطوا وسطه بالحبال وقالوا له: ادخل فإن رأيت شيئاً تكرهه جذبناك، فلما دخل المغرور وزاحم تلك الرياح انطبق عليه الفتح فجذبوه فانقطعت حبالهم وبقي ذلك الرجل في ذلك الشق وهم لا يعلمون له خبراً، فصعدوا هاربين حتى خرجوا من تلك البئر واغتموا لما أصاب صاحبهم، فجلسوا عند الثلمة مفكرين في أمر صاحبهم وفي أمرهم وما أقدموا عليه، فبينا هم كذلك إذ انفرجت من الأرض فرجة كالكرة وأنارت لهم ذلك الرجل عرياناً مشوه الخلق جامد العينين وهو يتكلم بكلام عجيب لا يفهم، فلما فرغ من كلامه سقط ميتاً، فازداد وجلهم وتضاعف حزنهم، وعلموا أنهم خلصوا من أمر عظيم، فاحتملوا صاحبهم واتصلت أنباؤهم بوالي مصر وهو يومئذ ابن المدبر وفي أيام المتوكل، فسألهم عن أمرهم فأخبروه، فعجب من ذلك وأمر أن يكتب الكلام الذي قاله ذلك الرجل الذي مات حسبما قاله، وأقام ابن المدبر يطلب من يفسره له، إلى أن وجد رجلاً يعرف شيئاً من ذلك اللسان، ففسره: هذا جزاء من طلب ما ليس له وأراد الكشف عما لم يخبأه، فليعتبر من رآه قال: فمنع حينئذ ابن المدبر أن يتعرض أحد للأهرام. وفي خبر آخر (3) أن جماعة دخلوا الهرم فوجدوا في بعض البيوت زلاقة إلى بئر، فنزلوا فيها، فوجدوا سرباً فساروا فيه نصف يوم حتى انتهوا إلى حفير عميق وفي عدوته باب لطيف، فكانوا يتبينون فيه شعاع الذهب والفضة والجواهر النفيسة، ومن رأس الحفير مما يليهم إلى ذلك الباب المحاذي لهم الذي فيه الذهب والجوهر عمود حديد قد ألبس محوراً من حديد يدور عليه ولا يستمسك
أخسيكث
في دورانه، فاحتالوا في وقوفه وذهاب حركته فلم يقدروا على ذلك، فربطوا أحدهم في حبل وتعلق بالعمود ليصل إلى الجانب الآخر فدار به المحور فتحير وسقط وانقطع الحبل الذي كان فيه فخرجوا هاربين لا يلوون على شيء. وقال بعضهم (1) : رأيت في بربى إخميم صورة عقرب، فألصقت عليها شمعاً فلم أتركها في موضع إلا انحاشت إليها العقارب من كل مكان وموضع، وإن كانت في تابوت اجتمعت حول التابوت وتحته، قال فطلبها بعض إخواني فأخذها، فرجعت إلى إخميم فوجدت تلك الصورة قد نقرت وأفسدت. ومن المتعارف عند أهل إخميم أنه كان في البربى التي عندهم شيطان قائم على رجل واحدة وله يد واحدة وقد رفعها إلى الهواء، وفي جبهته وحواليه كتاب، وله إحليل ظاهر ملتصق بالحائط، فقيل إنه من احتال لذلك الإحليل حتى ينقب عليه وينزعه من غير أن يتكسر ويعلقه في وسطه لم يزل منعظاً إلى أن ينزعه ويجامع ما أحب، ولا ينكسر ما دام عليه. ولما ولي فلان (2) ببلد إخميم أخبر بذلك، فطلب تلك الصورة في البربى فلم يجد منها غير واحدة كانت بقرب سقف البربى فاحتال عليها حتى أخذ الإحليل، فكان يستعمله فيخبر عنه بعجب. ومنه أنه كان في البربى صور كثيرة فلم تزل تؤخذ حتى نفدت، وكانت في هذه البرابي عجائب من الطلاسم في فنون شتى قد درس أكثرها وتهدم أكثر البرابي. وأما الأهرام فباقية على حالها ما اختل منها شيء، فيقال إن كل ما تهدم من هذه الهياكل وتغير سببه أن المنجمين تركوا الاستقصاء في أخذ الطالع وتصحيحه في وقت وضع الأساس وكذلك ما بقي منها فلقرب الطالع من التصحيح والقول في هذه الأهرام والبرابي على الاستقصاء في الكتب، وفيما ذكرناه كفاية. الأخدود المذكور في قوله تعالى: " قتل أصحاب الأخدود " (البروج: 4) (3) ، كان في قرية من قرى نجران، وأصحاب الأخدود قيل إنهم قوم كانوا على دين حق، كان لهم ملك يزني بأخته ثم حمله بعض نسائه أن يسن في الناس نكاح الأخوات والبنات، فحمل الناس على ذلك فأطاعه كثير وعصته فرقة، فخد لهم أخاديد، وهي حفائر طويلة كالخنادق، وأضرم لهم ناراً وطرحهم فيها، ثم استمرت المجوسية بمن أطاعه وعلى هذا فقوله تعالى: " قتل أصحاب الأخدود " إخبار بأن النار قتلتهم، وقيل بل المعنى: فعل الله عز وجل بهم، ذلك لأنهم أهل له، فهو على جهة الدعاء بحسب كلام البشر، وقيل في أصحاب الأخدود أن ملكاً من ملوك حمير كان بمذارع من اليمن اقتتل هو والكفار مع المؤمنين ثم غلب في آخر الأمر فحرقهم على دينهم إذ أبوا دينه، وفيهم كانت المرأة ذات الطفل التي تلكأت فقال لها الطفل: امضي في النار فإنك على الحق، وعن علي رضي الله عنه قال: إن نبي أصحاب الأخدود كان حبشياً وأن الحبشة بقية أصحاب الأخدود، وقيل صاحب الأخدود ذو نواس في قصة عبد الله بن الثامر، وهي مذكورة مشروحة في أول سير ابن إسحاق (4) وقيل كان أصحاب الأخدود في بني إسرائيل. أخسيكث (5) هي مدينة فرغانة، كان أنوشروان بناها ونقل إليها من كل بيت قوماً وسماها، وقيل إن أخسيكث اسم الكورة، وقيل هي قصبة فرغانة وأخسيكث على شط نهر الشاش في أرض مستوية، بينها وبين الجبل نحو نصف فرسخ وسيأتي ذكرها في حرف الفاء (6) إن شاء الله تعالى وفرغانة (7) اسم الإقليم ومدينته أخسيكث مدينة جليلة على شمال النهر ولها ربض عامر وأسواقها في مدينتها ولها مياه تخترق أزقتها جارية في حياض كبيرة وأمامها إذا عبرت نهر الشاش مروج ومزارع كثيرة ورمال ومنها إلى قبا ثلاث مراحل. الأخشبان (8) جبلا مكة ويقال إن جبل أبي قبيس أحد الأخشبين، وفي الحديث قال جبريل عليه الصلاة والسلام: يا محمد إن شئت جمعت الأخشبين عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " دعني أنذر أمتي "، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كنت بين الأخشبين من منى - ونفح بيده نحو المشرق - فإن هناك وادياً يقال له السرر، به سرحة سر تحتها سبعون نبياً ".
أذرعات
الاخوان (1) منزل بين القيروان والمهدية فيه قتل أبو يزيد (2) النكاري ميسرة الفتى في ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، قال علي ابن علي بن ظفر يمدح أبا يزيد هذا: هذا وكم من وقعة مشهورة ... أبقيتها مثلاً لكل ممثل بثنية الأخوين يوم تركتهم ... متوسدين وسائداً من جندل أذرعات (3) من بلاد دمشق بالشام يصرف ولا يصرف، والتاء في الحالين مكسورة ويقال لها يذرعات بالياء، وقال الخليل: من كسر الألف لم يصرف. ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه أبو عبيدة رضي الله عنه، فبينما هو يسير تلقاه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان، فقال عمر رضي الله عنه: مه ردوهم، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم، إنك إن منعتهم منها يرون أن في نفسك نقضاً لعهدهم، فقال عمر رضي الله عنه: دعوهم، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة، وتنسب إليها الخمر الجيدة، ومر سحيم بن المخرم وهو شاعر بدوي نجدي بأذرعات فتذكر وطنه وحن إليه فقال: ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا وهيجتني في أذرعات ولا أرى ... بنجد على ذي حاجة طرب بعدا ألم تر أن الليل يقصر طوله ... بنجد وتزداد الرياح به بردا ومن أهل أذرعات أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الأذرعي من أهل أذرعات (4) مدينة بالبلقاء، وهو أحد الثقات وعباد الله الصالحين قال: خلوت في بعض الأوقات ففكرت وقلت: ليت شعري إلى ما نصير؟ فسمعت قائلاً يقول: إلى رب كريم. وكان به إدرار البول فكانت القارورة لا تفارقه (5) فأعطاها مرة إلى من يغسلها أو يريق ما فيها واحتاج إليها ولم يحضره من يناوله إياها، فقال: أسأل من حضر من إخواننا المسلمين والجيران (6) يناولونيها، فنوولها. وقال: سألت الله تعالى أن يقبض بصري فعميت فاستضررت في الطهارة، فسألته إعادته فأعاده بفضله. قال ابن عساكر: ولي دمشق في أيام المعتمد على الله في سنة ست وخمسين ومائتين وال يقال له ماحوز وكان صارماً شجاعاً لا يقطع في عمله الطريق فوجه مرة فارساً إلى أذرعات فمر باليرموك فصادفه أعرابي، فنتف من سبال الجندي خصلتين من شعره، فلما رجع الفارس واتصل بماحوز وأخبره ما فعل الأعرابي، حبس الفارس وقال لكاتبه: اطلب لي معلماً يعلم الصبيان، فجاءه معلم، فقال له: ها أنا أعطيك نفقة واسعة واخرج إلى اليرموك فقل إني معلم صبيانكم، فإذا تمكنت فارصد الأعرابي وارتقب بها مدة طويلة، فإذا وافى الأعرابي القرية فخذ هذا الكتاب الذي أعطيك وادفعه لأهل القرية حتى يقرأوه، وأعطاه طيوراً وقال له: أرسل إلي بهذه الطيور بالخبر، ففعل المعلم ذلك، وأقام باليرموك ستة أشهر حتى وافى الأعرابي القرية، فلما رآه المعلم أخرج الكتاب إلى أهل القرية وفيه: " الله الله في أنفسكم اشغلوا الأعرابي حتى أوافيكم، فإن جئت ولم أوافه خربت القرية وقتلت الرجال "، وأطلق المعلم الطيور إلى دمشق بالخبر، فلما وصل الخبر إلى ماحوز ضرب البوق وخرج من وقته حتى وافى اليرموك في أسرع وقت، فأخذ الأعرابي وأردفه خلف بعض غلمانه ووافى به دمشق، فلما أصبح دعا به فقال: ما حملك على ما فعلت برجل من أولياء السلطان لم يؤذك ولم يعارضك؟ قال: كنت سكران أيها الأمير لم أعقل ما فعلت، فدعا بحجام وقال له: لا تدع في وجه هذا الأعرابي ولا في رأسه ولا في سائر بدنه شعرة إلا نتفتها، فبدأ بأشفار عينيه ثم بحاجبيه ثم بلحيته ثم بشاربه ثم برأسه ثم بذقنه فما ترك عليه شعرة إلا نتفها، ثم قال: هاتوا الجلادين، فضربه أربعمائة سوط ثم
أذنة
حبسه، فلما كان من الغد ضربه ثم قطع يديه، وفي اليوم الثالث قطع رجليه، وضرب رقبته في اليوم الرابع وصلبه، ثم أخرج الجندي من الحبس فضربه مائة عصا وأسقط اسمه وقال له: أنت ليس فيك خير حيث رأيت أعرابياً واحداً فخضعت له حتى فعل بك ما فعل، كيف يكون لي فيك خير إذا احتجت إليك؟ ثم طرده. ورؤي ماحوز هذا بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي، قيل له: بماذا؟ قال: بضبطي أطراف المسلمين وطريق الحاج. أذنة مدينة بالشام بينها وبين المصيصة اثنا عشر ميلاً بناها هارون الرشيد وأتمها الأمين وبها كانت منازل ولاة الثغور لسعتها، وهي على نهر جيحان (1) وليس للمسلمين عليه إلا أذنة هذه بين طرسوس والمصيصة، وأهل أذنة أخلاط من موالي الخلفاء وغيرهم، ومن أذنة إلى طرسوس اثنا عشر ميلاً، وهي مدينة جليلة عامرة ذات أسواق وصناعات وصادر ووارد، وهي ثغر سيحان، ونهر سيحان في قدره، دون قدر نهر جيحان وعليه قنطرة عجيبة طويلة جداً. وبالزاب من أرض إفريقية مدينة اسمها أذنة (2) أيضاً على مقربة من المسيلة بينهما اثنا عشر ميلاً وبينها وبين مدينة طبنة مرحلتان، وأذنة هذه أخربها علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وهي كثيرة الأنهار والعيون العذبة، وهي مدينة رومية قديمة، وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية للروم كلها عامرة، وهي كانت مملكة الروم بالزاب وكان عقبة بن نافع، رحمه الله، حين قدم إفريقية غازياً بعد انفصاله عن تلمسان ومحاربته لأهلها دخل يريد الزاب، فسأل عن أعظم مدينة به فقيل له: مدينة يقال لها أذنة، وهي دار ملكهم، فتوجه إليها، فلما بلغهم قدوم المسلمين هربوا إلى حصنهم وإلى الجبال، فلما قدمها نزل على واد بينها وبينه نحو ثلاثة أميال في وقت المساء فكره قتالهم بالليل، فتواقف القوم الليل كله لا راحة لهم ولا نوم، فسماه الناس إلى اليوم وادي سهر لأنهم سهروا عليه، فلما أصبح قاتلهم قتالاً عظيماً حتى يئس المسلمون من أنفسهم، ثم هزم الله الروم وقتل فرسانهم وأهل النكاية منهم واستولت الهزيمة على بقيتهم، وفي هذه الغزوة ذهب عز الروم بالزاب. وكان المنصور بالله العبيدي في حروبه مع أبي يزيد النكاري ركب متنزهاً إلى أذنة في أربعة آلاف فارس وركب معه زيري بن مناد في خمسمائة من صنهاجة، وكان النكار بالقرب منها فلما رأوا كثرة العسكر سكنوا، فلما ولى منصرفاً ركبوا ساقته وقامت الصيحة، فعطف عليهم والتحم القتال، ونزل أبو يزيد من الجبل وبين يديه ثلاثة بنود ومعه خلق عظيم ولم يعلم بمكان المنصور بالله، وكان موضعاً كثير التلال والروابي، فأرسل المنصور إليه عسكره وأخرجت الطبول والبنود وقصدوا إلى أبي يزيد، فلما رأى المظلة ولى فركبتهم السيوف فقتل منهم مقتلة عظيمة، وكانت القتلى منهم تزيد على عشرة آلاف. أذربيجان هي كورة تلي الجبل من بلاد العراق وهي مفتوحة الألف وتلي كور أرمينية من جهة المغرب، ينسب إليها أذربي، وفي خبر الصديق رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة وعزم على استخلاف عمر رضي الله عنه لمن كره ذلك: فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان، يشير إلى ما كان من الاتساع في الدنيا. والصوف الأذربي منسوب إلى أذربيجان ينسب إلى أذربيجان أبو عبد الله الحسن بن جابر الأزدي صاحب كتاب " اللامع " في أصول الفقه، وأهل أذربيجان مشهورون بالإكباب على العلم والاشتغال به، وفيهم يقول الحافظ أبو الطاهر السلفي: ديار أذربيجان في الشرق عندنا ... كأندلس في الغرب في النحو والأدب فلست ترى في الدهر شخصاً مقصراً ... من أهلها إلا وقد جد في الطلب وكان عمر رضي الله عنه قد فرق أذربيجان بين بكير بن عبد الله وبين عتبة بن فرقد وأمر كل واحد منهما بطريق غير طريق صاحبه، ثم جمع عمر رضي الله عنه أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد وعادت أذربيجان سلماً، وكتب عتبة بينه وبين
أذاخر
أهلها كتاباً (1) : هذا ما أعطاه عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان، سهلها وجبلها وحواشيها وشعابها وأهل مللها كلهم، على الأمان على أنفسهم وأموالهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس ذلك على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه من الدنيا شيء ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوماً وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة رفع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام في ذلك ومن خرج فله الأمان حتى يرجع إلى حرزه. ثم غزا الوليد بن عقبة رضي الله عنه أذربيجان وأرمينية في السنة التي بويع فيها عثمان رضي الله عنه، وقيل سنة خمس وعشرين بعدها، وقيل سنة ست، فصالحهم على ثلاثمائة ألف درهم وعلى التي صالح عليها حذيفة بن اليمان أيام عمر رضي الله عنهما. وفي سنة سبع عشرة وستمائة نزل الططر على أذربيجان وهو إقليم جليل آهل المدن خصيب الضياع كثير الخيرات فداراهم سلطانه ابن البهلوان عن مدينة المراغة ومدينة توريز (2) بعدما فتكوا فيما مروا عليه (3) وهذه المدينة هي المراغة، وسيأتي لها ذكر في حرف الميم إن شاء الله. أذاخر (4) ثنية بين مكة والمدينة، وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة. أذرح (5) بحاء مهملة على وزن أذرع، مدينة في أداني الشام وقيل بفلسطين، وبها بايع الحسن بن علي معاوية رضي الله عنهم وأعطاه معاوية مائتي ألف دينار، ولما انفصل علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم إلى الشام اعتزل أذرح ونزل الحميمة وبنى بها قصراً لأن أذرح افتتحت صلحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من بلاد الصلح التي كانت تؤدي الجزية وكذلك دومة الجندل والبحران وهجر، وفي الصحيح (6) : " أمامكم حوضي كما بين جرباء إلى أذرح ". الأردن بضم أوله، نهر بالشام وهو نهر طبرية عليه مدن، وكل من على جنبيه أردني، وكان ملك داود عليه السلام في الأردن وفلسطين، وكان عسكره ستين ألفاً أصحاب درق وسيوف وفي سير ابن إسحاق (7) أن أبا جهل قال للذين بيتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم للفتك به وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: " نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم "، وأخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، إلى آخر الخبر. وفي حديث مكحول (8) : لما فتحت جزيرة العرب قال رجل عند ذلك: أبهوا الخيل والسلاح فقد وضعت الحرب أوزارها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد قوله وقال: " لا تزالون تقاتلون الكفار حتى يقاتل بقاياكم الدجال بقطر الأردن (9) ، أنتم من غربيه والدجال من شرقيه " قال الراوي: ما كنت أدري ما الأردن حتى سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: احتاج الوليد بن عبد الملك إلى رصاص حين بنى مسجد دمشق فقيل له: إن بالأردن منارة فيها رصاص فبعث إليها، فذهب رجل يضرب بمعوله فأصاب رجلاً فسال دمه فقيل: هذا طالوت. وكان أهل الأردن قد رفضوا (10) بيعة ابن الزبير رضي الله عنهما.
أريس
أريس (1) بئر أريس، بفتح الألف وكسر الراء، على ميلين من المدينة وكانت من أقل تلك الآبار ماء، وفيها تفل النبي صلى الله عليه وسلم فعاد ماؤها عذباً وكان أجاجاً، وفيها سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يد عثمان رضي الله عنه فلم يوجد إلى الآن على قلة مائها وذلك سنة ثلاثين. قال ابن عمر: لبس خاتم النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر بعده ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم حتى وقع من عثمان في بئر أريس فلم يقدر عليه. أباض (2) قرية من قرى اليمامة لبني حنيفة فيها كانت وقعة خالد بن الوليد رضي الله عنه ومسيلمة. وسيأتي (3) لها ذكر في حرف العين في لفظ عقربا إن شاء الله تعالى. إرم ذات العماد من الناس من قال: إرم قبيلة عاد وهو قول مجاهد وقتادة، وعليه أنشدوا لابن قيس الرقيات (4) : مجداً تليداً بناه أوله ... أدرك عاداً وقبلها إرما وقال زهير (5) : وآخرين ترى الماذي عدتهم ... من نسج داود أو ما أورثت إرم قال ابن إسحاق: فإرم أبو عاد كلها، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وقال جمهور المفسرين: إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن، وقال محمد بن كعب: هي الإسكندرية، وقال سعيد بن المسيب: هي دمشق، قال البكري: دمشق هي ذات العماد، وكذلك روى هوذة عن عوف بن خالد وقاله عكرمة، وحكى البلاذري قال: حدثني محمد بن موسى الصانع عن جعفر بن محمد العطار بمدينة السلام، قال حدثني علي بن داود القنطري وأبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي عن أبي صالح عبد الله بن صالح المصري كاتب الليث بن سعد، قال حدثني عبد الله بن لهيعة بن علقمة الحضرمي عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة قال: أنه خرج في إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن أبين والشحر يطلب إبله في تلك الفلوات إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال، فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فإذا لا خارج يخرج من باب حصنها ولا داخل يدخل منه، فلما رأى ذلك نزل عن ناقته وعقلها ثم استل سيفه ودخل من باب الحصن، فلما خلف الحصن بشيء إذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا أعظم منهما ولا أطول، وإذا خشبهما مجمر يعني عوداً، وفي ذينك البابين نجوم من ياقوت أبيض وياقوت أحمر، يضيء ذانك البابان فيما بين الحصن والمدينة فلما رأى ذلك الرجل أعجبه وتعاظم الأمر، ففتح أحد البابين ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير الراءون مثلها قط، وإذا هي قصور كل قصر معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، ومن فوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وكل مصاريع تلك القصور وتلك الغرف مثل مصراعي باب المدينة، كلها مفصص بالياقوت الأبيض والياقوت الأحمر مقابلة بعضها ببعض، ينور بعضها من بعض، مفروشة تلك القصور وتلك الغرف كلها باللؤلؤ وبنادق من مسك وزعفران، فلما عاين الرجل ما عاين ولم ير فيها أحداً هاله ذلك وأفزعه، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو بالشجر في كل زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار كلها، وإذا تحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة، كل قناة منها أشد بياضاً من الشمس، تجري تلك القنوات تحت الأشجار، فداخل الرجل العجب مما رأى وقال: والذي بعث محمداً بالحق ما خلق الله عز وجل مثل هذه في الدنيا وإن هذه للجنة التي وصفها تقدست أسماؤه، ما بقي مما وصف الله العزيز شيء إلا وهو في هذه المدينة، هذه الجنة، الحمد لله الذي أدخلناها فبينما هو يؤامر نفسه ويتدبر رأيه إذ دعته نفسه أن يأخذ من لؤلؤها وياقوتها وزبرجدها ثم يخرج حتى يأتي بلاده ثم يرجع إليها، ففعل، فحمل معه من اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها شيئاً ولا من ياقوتها لأنه مثبت في أبوابها، وكان ذلك اللؤلؤ والبنادق والمسك والزعفران منثوراً في تلك القصور والغرف كلها، فأخذ ما أراد وخرج حتى أتى ناقته وحل عقالها
وركبها ثم سار راجعاً يقفو أثر ناقته حتى رجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، وأعلم الناس أمره وما كان من قصته، وباع بعض اللؤلؤ، وكان ذلك اللؤلؤ قد اصفر وتغير من طول كرور الأيام والليالي عليه، فلم يزل أمر ذلك الرجل ينمي ويخرج حتى بلغ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فأرسل رسولاً وكتب إلى صاحب صنعاء يأمره بالبعثة بالرجل إليه يسأله عما كان من أمره، فخرج به رسول معاوية رضي الله عنه من اليمن حتى قدم به الشام، فأمر صاحب صنعاء الرجل أن يخرج معه ببعض ما جاء به من متاع تلك المدينة، فسار الرجل ورسول معاوية رضي الله عنه معه حتى قدم على معاوية رضي الله عنه، فخلا به معاوية رضي الله عنه وساءله عما رأى وعاين فقص عليه أمر المدينة وما رأى فيها شيئاً فشيئاً، فأعظم ذلك معاوية رضي الله عنه وأنكر ما حدثه به وقال: ما أظن ما قلته حقاً، فقال الرجل: عندي من متاعها الذي هو مفروش في قصورها وغرفها وبيوتها، قال: ما هو قال: لؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فقال له معاوية رضي الله عنه، هات حتى أراه، فأراه لؤلؤاً أصفر من أعظم ما يكون من اللؤلؤ وأراه تلك البنادق فشمه معاوية رضي الله عنه فلم يجد له ريحاً فدق بندقة من تلك البنادق فسطع ريحها مسكاً وزعفراناً، فصدقه معاوية رضي الله عنه عند ذلك، وقال: كيف لي أن أعلم ما اسم هذه المدينة ومن بناها ولمن كانت، فوالله ما أعطي أحد مثل ما أعطي سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وما ملك سليمان مثل هذه المدينة، فقال بعض جلساء معاوية رضي الله عنه: إنك لن تجد خبر هذه المدينة عند أحد من أهل الدنيا في زماننا هذا إلا عند كعب الأحبار، فإن رأيت أن تبعث إليه وتأمر أن يغيب هذا الرجل عنه فإنه سيخبر بأمرها وأمر هذا الرجل إن كان دخلها، لأن مثل هذه المدينة على مثل هذه الصفة لا يستطيع هذا الرجل دخولها إلا أن يكون قد سبق في الكتاب دخوله إياها، فابعث إلى كعب فإنه لم يخلق الله عز وجل أحداً على ظهر الأرض أعلم منه، ولا شيء مضى من الدهر ولا يكون بعد اليوم إلا وهو في التوراة مفسراً منصوباً معروفاً مكانه، فليبعث إليه أمير المؤمنين فإنه سيجد خبرها عنده، قال: فأرسل معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأحبار فأتاه، فلما أتاه قال له معاوية رضي الله عنه: يا أبا إسحاق إني دعوتك لأمر رجوت أن يكون علمه عندك، قال كعب: على الخبير سقطت فسلني عما بدا لك، قال: أخبرني يا أبا إسحاق هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب والفضة وعمدها زبرجد وياقوت، وحصباء قصورها وغرفها لؤلؤ فيها جناتها وأنهارها في الأزقة تجري تحت الأشجار؟ قال كعب: والذي نفسي بيده لقد ظننت أني لأتوسد يميني قبل أن يسألني أحد عن تلك المدينة وما فيها ولمن هي، ولكن أخبرك بها ولمن هي ومن بناها، أما تلك المدينة فهي حق على ما بلغك ووصف لك، وأما صاحبها الذي بناها فشداد بن عاد، وأما المدينة فإرم ذات العماد التي وصف الله عز وجل في كتابه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " التي لم يخلق مثلها في البلاد "، وهي كما وصف لك لم يبن مثلها في البلاد، قال معاوية رضي الله عنه: يا أبا إسحاق حدثني حديثها يرحمك الله، قال: أخبرك أن عاداً الأولى ليس عاد قوم هود، ولكن عاد الأولى إنما هود وقوم هود ولد لذلك، فكان عاد له ابنان أحدهما شديد والآخر شداد، فهلك عاد فبغيا وتجبرا، وملكا فقهرا البلاد وأخذا أهلها عنوة وقهرا حتى دان لهما جميع الناس، ولم يبق أحد من الناس في زمانهما إلا وهو في طاعتهما لا في مشرق الأرض ولا في مغربها، وأنه لما صفا لهما ذلك وقر قرارهما مات شديد بن عاد وبقي شداد وحده لم ينازعه أحد، ودانت له الدنيا كلها بأجمعها، وكان مولعاً بقراءة الكتب الأول وكلما مر فيها بذكر الجنة وما يسمع ما هو فيها من البنيان والياقوت واللؤلؤ دعته نفسه إلى أن يفعل تلك الصفة، فلما قر ذلك في لبه أمر بصنعة تلك المدينة وأمر على صنعتها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، ثم قال: انطلقوا إلى أطيب بلاد الأرض وأوسعها فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد، وعلى المدينة قصور، ومن فوق تلك القصور غرف، واغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار كلها وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت الأشجار، فإني أستمع في الكتاب صفة الجنة فأحب أن أجعل مثالها في الدنيا أتعجل سكناها، فقال له قهارمته وكانوا مائة قهرمان: كيف لنا أن نقدر على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة ينبني منه مدينة من المدائن كما وصفت لنا، ومتى نقدر على هذا الذهب كله وهذه الفضة؟ فقال لهم شداد: أليس تعلمون أن ملك الدنيا كله بيدي؟ قالوا: بلى، قال: فانطلقوا إلى كل معدن من معادن الزبرجد والياقوت أو بحر فيه لؤلؤ أو معدن ذهب أو معدن فضة قوم رجلاً يخرج لكم ما كان من كل معدن في تلك البلاد، ثم انظروا إلى ما كان في أيدي الناس فخذوه سوى ما يأتيكم به
الأربس
أصحاب المعادن. قال: فخرجوا من عنده إلى كل ملك في الدنيا يأمره أن يجمع له ما في بلاده من جوهرها ويحضر معادنها، فانطلق أولئك القهارمة فبعثوا إلى كل ملك من الملوك بكتاب في أخذ ذلك وأخذ الفعلة في طلبهم له موضعاً كما أراد ووصفه لهم من البساتين وإجراء الأنهار وغرسهم الأشجار، وعملوا في ذلك عشر سنين، فقال معاوية رضي الله عنه: وكم عدد الملوك الذين كانوا تحت يده؟ قال: مائتان وستون ملكاً قسمها بينهم كل ملك على حدة وما عليه من الخراج، قال: فخرج القهارمة فشدوا في الصحراء ليجدوا ما يوافقه، فلم يجدوا ذلك حتى وقعوا على صحراء عظيمة نقية من التلال والجبال، فإذا هم بعيون مطردة، فقالوا: هذه صفة إرم التي أمرنا بها، فأخذوا بقدر الذي أمرهم من العرض والطول ثم جعلوا ذلك حدوداً محدودة ثم عمدوا إلى مواضع الأزقة التي فيها الحدود فأجروا فيها قنوات لتلك الأنهار ثم وضعوا الأساس من صخور الجزع اليماني وصبوا طين ذلك الأساس من مر ولبان ومحلب، فلما فرغوا مما وضعوا من الأساس وأجروا القنوات أرسلت إليهم الملوك بالزبرجد والياقوت والذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر، كل ملك قد عمل ما كان في معدنه، فمنهم من بعث بالعمد مفروغاً منها، ومنهم من بعث بالذهب والفضة مفروغاً منها مصنوعاً، فدفعوه إلى أولئك القهارمة والوزراء، فأقاموا فيها حتى فرغوا من بنائها وهي على تلك العمد، وهي قصور وفوق القصور غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة والزبرجد والياقوت، وأقاموا في بنائها إلى أن فرغوا منها ثلثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، قال كعب: فلما أخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا فاجعلوا عليها حصناً واجعلوا حول الحصن ألف قصر يكون في كل قصر وزير من وزرائي وألف ناطور، قال: فخرجوا فعملوا تلك الحصون والقصور ثم أخبروه بالفراغ مما أمرهم به، قال: فأمر ألف وزير من خاصته أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وأمر لتلك الأعلام برجال يسكنونها وأمر لهم بالعطاء والأرزاق والجهاز إلى تلك القصور، فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين، فسار الملك فيمن أراد وخلف من قومه في عدن أبين والشحر أكثر ممن سار، فلما صار منها على مقربة من يوم وليلة بعث الله تعالى العظيم عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكهم جميعاً ولم يبق منهم أحد، ولم يدخل ذات العماد منهم أحد، ولم يقدر على دخولها أحد منهم حتى الساعة، فهذه صفة ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك هذا ويرى ما فيها ويحدث بذلك فلا يصدق، قال له معاوية رضي الله عنه: يا أبا إسحاق هل تصفه لنا؟ قال: نعم، رجل أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج ذلك الرجل في طلب إبل له في تلك الصحارى فيقع على ذات العماد، فيدخلها ويحمل مما فيها والرجل جالس عندك، فالتفت كعب فرأى الرجل فقال: هذا ذلك الرجل قد دخلها فسله عما حدثتك به، فقال معاوية رضي الله عنه: يا أبا إسحاق إن هذا من خدمي، قال: فقد دخلها وإلا فسيدخلها أو يدخلها أهل هذا الدين في آخر الزمان، فقال معاوية رضي الله عنه: لقد فضلك الله يا أبا إسحاق على غيرك من العلماء، ولقد أعطيت من علم الأولين، والآخرين ما لم يعط أحد، فقال كعب: والذي نفس كعب بيده ما خلق الله عز وجل شيئاً إلا وقد فسره في التوراة لعبده موسى وكفى بالله وكيلاً. بها، فأخذوا بقدر الذي أمرهم من العرض والطول ثم جعلوا ذلك حدوداً محدودة ثم عمدوا إلى مواضع الأزقة التي فيها الحدود فأجروا فيها قنوات لتلك الأنهار ثم وضعوا الأساس من صخور الجزع اليماني وصبوا طين ذلك الأساس من مر ولبان ومحلب، فلما فرغوا مما وضعوا من الأساس وأجروا القنوات أرسلت إليهم الملوك بالزبرجد والياقوت والذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر، كل ملك قد عمل ما كان في معدنه، فمنهم من بعث بالعمد مفروغاً منها، ومنهم من بعث بالذهب والفضة مفروغاً منها مصنوعاً، فدفعوه إلى أولئك القهارمة والوزراء، فأقاموا فيها حتى فرغوا من بنائها وهي على تلك العمد، وهي قصور وفوق القصور غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة والزبرجد والياقوت، وأقاموا في بنائها إلى أن فرغوا منها ثلثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، قال كعب: فلما أخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا فاجعلوا عليها حصناً واجعلوا حول الحصن ألف قصر يكون في كل قصر وزير من وزرائي وألف ناطور، قال: فخرجوا فعملوا تلك الحصون والقصور ثم أخبروه بالفراغ مما أمرهم به، قال: فأمر ألف وزير من خاصته أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وأمر لتلك الأعلام برجال يسكنونها وأمر لهم بالعطاء والأرزاق والجهاز إلى تلك القصور، فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين، فسار الملك فيمن أراد وخلف من قومه في عدن أبين والشحر أكثر ممن سار، فلما صار منها على مقربة من يوم وليلة بعث الله تعالى العظيم عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكهم جميعاً ولم يبق منهم أحد، ولم يدخل ذات العماد منهم أحد، ولم يقدر على دخولها أحد منهم حتى الساعة، فهذه صفة ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك هذا ويرى ما فيها ويحدث بذلك فلا يصدق، قال له معاوية رضي الله عنه: يا أبا إسحاق هل تصفه لنا؟ قال: نعم، رجل أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج ذلك الرجل في طلب إبل له في تلك الصحارى فيقع على ذات العماد، فيدخلها ويحمل مما فيها والرجل جالس عندك، فالتفت كعب فرأى الرجل فقال: هذا ذلك الرجل قد دخلها فسله عما حدثتك به، فقال معاوية رضي الله عنه: يا أبا إسحاق إن هذا من خدمي، قال: فقد دخلها وإلا فسيدخلها أو يدخلها أهل هذا الدين في آخر الزمان، فقال معاوية رضي الله عنه: لقد فضلك الله يا أبا إسحاق على غيرك من العلماء، ولقد أعطيت من علم الأولين، والآخرين ما لم يعط أحد، فقال كعب: والذي نفس كعب بيده ما خلق الله عز وجل شيئاً إلا وقد فسره في التوراة لعبده موسى وكفى بالله وكيلاً. أربونة (1) مدينة هي آخر ما كان بأيدي المسلمين من مدن الأندلس وثغورها مما يلي بلاد الإفرنجية، وقد خرجت عن أيدي المسلمين سنة ثلاثين وستمائة مع غيرها مما كان في أيديهم من المدن والحصون. الأربس (2) مدينة بينها وبين قيروان إفريقية مسيرة ثلاثة أيام وبينها وبين باجة مرحلتان، وهي في وطاء من الأرض، بوسطها عين جارية لا تجف منها شرب أهلها وماؤها صحيح، وبها معدن حديد ولا شجر بها إنما هي مزارع الحنطة والشعير ويدخر منها الكثير، وهي مدينة مسورة ولها ربض كبير وبأرضها يكون أطيب الزعفران، وتعرف ببلد العنبر، وإليها سار إبراهيم بن الأغلب حين خرج من القيروان، وفي سنة ست وتسعين ومائتين زحف إليها أبو عبد الله الشيعي فنازلها وبها جمهور أجناد إفريقية مع إبراهيم ففر عنها إبراهيم في جماعة من القواد والجند إلى طرابلس، ودخلها الشيعي أبو عبد الله عنوة، ولجأ أهلها ومن بقي فيها من الجند إلى جامعها وقيل إنه قتل بداخل المسجد ثلاثون ألفاً وذلك من وقت صلاة العصر إلى آخر الليل، فكانت ولاية بني الأغلب بإفريقية مائة سنة وإحدى عشرة سنة، ومدينة الأربس في وطاء من
أرشذونة
الأرض (1) وعليها سور تراب وهي على اثني عشر ميلاً من مدينة أبة وهي بغربي الأربس. أرشذونة (2) بالأندلس وهي قاعدة كورة ريه ومنزل الولاة والعمال، وهي بقبلي قرطبة تسقي أرضها وتطرد في نواحيها عيون غزار وأنهار كبار وهي برية بحرية، سهلها واسع وجبلها مانع وسورها الآن مهدوم، ولها حصن فوق المدينة ولها مدن كثيرة وبها آثار قديمة، ومن مدنها مالقة بينهما ثمانية وعشرون ميلاً. أريحا مدينة من أجل بلاد الغور بالشام، وفي الخبر أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود إلى أريحا وكانوا طلبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين غلب عليهم أن يقرهم على أن لهم نصف الثمر فقال: " نقركم متى شئنا "، فبقوا كذلك خلافة أبي بكر رضي الله عنه وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنه ثم أجلاهم إلى أريحا، ذكره مسلم بن الحجاج. ؟ أرجان مدينة بين فارس وأهواز، بناها قباذ بن فيروز ملك الفرس وهو أنوشروان وأسكن فيها سبي همدان، وفيها قبر يوحنا الحواري صاحب عيسى، عليه الصلاة والسلام، وهي المذكورة في قول المتنبي: أرجان أيتها الجياد فانه ... عزمي الذي يذر الوشيج مكسرا ومنها أحمد بن الحسين الأرجاني (3) أبو بكر فاضل شاعر ورد بغداد ومدح خليفتها المستظهر بالله، ومن شعره: ولما بلوت الناس أطلب منهم ... أخا ثقة عند اعتراض الشدائد تطلعت في حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد ومنها: تمتعتما يا ناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد ذكره ابن السمعاني وأثنى عليه في ذيل كتاب الخطيب وأطنب في ذكره والثناء عليه. الرملة (4) إحدى مدن الشام وهي مدينة عامرة بها أسواق وتجارات ودخل وخرج، ومنها إلى يافا التي على ساحل البحر نصف يوم، ومن الرملة إلى نابلس يوم، ومنها إلى قيسارية مرحلة. أريانة قرية من عمل قرطاجنة إفريقية بمقربة من تونس مسندة إلى الحنية العادية، منها كان العابد محرز بن خلف التميمي المؤدب العابد المشهور، قبره بتونس بداره (5) يتبرك به، وتوفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وله أخبار مصنفة (6) . ارمينية بكسر أوله وإسكان ثانيه بلد معروف يضم كوراً كثيرة، سميت بكون الأرمن فيها، وهي أمة كالروم وغيرها فتحت في زمان عثمان رضي الله عنه، فتحها سلمان بن ربيعة الباهلي سنة أربع وعشرين، قالوا (7) : وفي السنة التي بويع فيها عثمان رضي الله عنه غزا الوليد بن عقبة رضي الله عنه أذربيجان وارمينية لمنع أهلها ما صالحوا عليه أيام عمر رضي الله عنه، فدعا الوليد سلمان بن ربيعة الباهلي فبعثه أمامه مقدمة له، وخرج الوليد في جماعة الناس يريد أن يمعن في أرض ارمينية فمضى حتى دخل أذربيجان، وبعث سلمان بن ربيعة إلى ارمينية في اثني عشر ألفاً فسار في أرضها فقتل وسبى وغنم وانصرف مملوء اليد إلى الوليد، فانصرف
أرشقول
الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته، فلما دخل الموصل راجعاً أتاه كتاب عثمان رضي الله عنه بأن معاوية رضي الله عنه كتب إليه بأن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة وقد رأيت أن نمدهم بأخوانهم من أهل الكوفة وحكى الواقدي أن عثمان أمر معاوية، رضي الله عنهما، باغزاء حبيب بن مسلمة في أهل الشام ارمينية، فوجهه إليها معاوية، فبلغ حبيباً أن الموريان الرومي قد توجه نحوه في ثمانين ألفاً من الروم والترك، وكان حبيب صاحب كيد، فأجمع على أن يبيت الموريان، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك فقالت له: فأين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان أو الجنة، ثم بيتهم فقتل من أشرف له، ثم أتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق، ثم مات عنها فخلف عليها الضحاك بن قيس الفهري فهي أم ولده. قلت: وارمينية من الثغور الجزرية، وقيل سميت ارمينية باسم ارمين قومس ياشور الملك فسمي البلد باسمه وسميت المراحل بأسماء بنيه: اردبيل وورثان ودبيل وبيلقان بني أرمين، وفي بعض الأخبار أن الرشيد خرج ذات يوم إلى الصيد ببلاد الموصل وعلى يده باز أبيض فاضطرب على يده فأرسله فلم يزل يحلق حتى غاب في الهواء، ثم أقبل بعد اليأس منه وقد علق بدابة شبه الحية أو السمكة ولها ريش كأجنحة السمك، فأمر الرشيد فوضعت في طست، فلما عاد من قنصه أحضر العلماء فسألهم: هل تعلمون للهواء ساكناً؟ فقال مقاتل: يا أمير المؤمنين روينا عن جدك عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيها أقربها منا دواب بيض في الهواء تفرخ فيه يرفعها الهواء الغليظ ويربيها حتى تنشأ كهيئة الحيات أو السمك لها أجنحة ليست بذات ريش تأخذها بزاة بيض تكون بارمينية فأخرج الطست إليهم بالدابة وأجاز مقاتلاً. وفي سنة تسع وتسعين احتفر عدي بن عدي نهراً بأرمينية يقال له اليوم نهر عدي. ومن عجائب ارمينية واد لا يقدر أحد أن ينظر إليه ولا يشرف عليه ولا يدرى ما فيه وإذا وضعت القدر على شفيره غلت ونضج ما فيها. وبارمينية ماء حامض يعرف بالحمض إذا أخذ ورفع في إناء عذب وشرب. أردبيل من الثغور الجزرية بينها وبين المراغة نحو أربعين فرسخاً، سميت باسم اردبيل بن أرمين كما سميت ارمينية باسم أبيه ارمين، وهي مدينة حسنة كبيرة، وهي دار الإمارة وبها الأجناد والعسكر، وتكون أعمالها تسعين ميلاً في مثلها، وأبنيتها بالطين والآجر، وأسعارها راخية، ولها بساتين كثيرة، ونزل عليها الططر سنة ثمان عشرة وستمائة فقتلوا أهلها عن آخرهم وتركوها يباباً (1) وكان أهلها مشهورين بالدعارة. أرديس مدينة بينها وببن ميافارقين خمسين ميلاً وهي في تخوم بلاد الروم وبينها وبين حصن زياد شجرة لا يعرف أحد ما هي ولا ما اسمها ولها حمل شبيه باللوز يؤكل بقشره وهو أحلى من الشهد (2) . أرزن مدينة بينها وبين ميافارمين سبعة فراسخ، فتحها عياض بن غنم على مثل صلح الرها (3) ، وهي مدينة كبيرة كثيرة الأسواق والعمران سهلية جبلية. أرمية بضم أوله مدينة في ديار بكر وكانت ارمية وخوي وسلماس من فتوح الموصل، وكان خراجها يجبى إلى الموصل ثم حولت ينسب إليها أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الحافظ الأرموي وتاج الدين (4) مختصر الحاصل من محصول الإمام الفخر بن الخطيب الذي في أصول الفقه. اربل أظنها من أعمال الشام (5) . أرجونة (6) مدينة أو قلعة بالأندلس إليها ينسب محمد بن يوسف بن الأحمر الأرجوني من متأخري سلاطين الأندلس. أرشقول (7) مدينة في ساحل تلمسان من أرض المغرب بينهما فحص طوله خمسة وعشرون ميلاً، ومدينة أرشقول على نهر تافنا
أرنيط
يقبل من قبليها ويسير بشرقيها تدخل فيه السفن اللطاف من البحر إلى المدينة وبينهما ميلان، وهي مدينة مسورة، وبها جامع حسن فيه سبع بلاطات وفي صحنه جب كبير، وصومعته متقنة البناء، وفيها حمامان أحدهما قديم، وسعة سورها ثمانية أشبار وأمنع جهاتها جوفيها، وبها آبار عذبة لا تغور تقوم بأهلها وبمواشيهم، ولها ربض من جهة القبلة ويقابله جزيرة في البحر تسمى جزيرة أرشقول بينها وبين البر قدر صوت رجل جهير في سكون البحر والريح. أرم آسك هل هي بالراء أو بالزاي (1) ، وهي مدينة على نهر تستر وهي متحضرة ولها سوق متحركة وبها بيع وشراء، وهي رصيف متوسط لمن جاء من فارس يريد العراق، ويحاذيها من خلف النهر قرية آسك، وفيها جنات كثيرة وقصبة طويلة من القبلة إلى الجوف عالية منيعة. أركنده (2) هي آخر مدن فرغانة مما يلي دار الترك، وهي نحو ثلثي مدينة أوش ولها بساتين ومياه جارية وليس فيما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها وانتشار مواشيهم ومراعيهم. الأرك (3) هو حصن منيع بمقربة من قلعة رباح أول حصون أذفونش بالأندلس، وهناك كانت وقيعة الأرك على صاحب قشتالة وجموع النصارى على يد المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وكان بلغ المنصور يعقوب أن صاحب قشتالة شن الغارات على بلاد المسلمين بالأندلس شرقاً وغرباً في يوم واحد، وعم ذلك جهات اشبيلية ونواحيها، فامتعض من ذلك، ثم تحرك من حاضرته مراكش إلى الأندلس واستقر باشبيلية فأعرض الجند وأعطى البركات، ثم نهض في الحادي عشر من جمادى الأخرى ووصل قرطبة فروح بها، والتقى الجمعان بحصن الأرك والتحم القتال، فانهزم العدو وركبهم السيف من ضحى يوم الأربعاء تاسع شعبان إلى الزوال وانتهب محلة الروم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً، واستشهد من المسلمين دون الخمسمائة، وأفلت أذفونش واجتاز على طليطلة لا يعرج على شيء في عشرين فارساً وحصر المسلمون فلهم بحصن الأرك وكانوا خمسة آلاف فصالحوا بقدرهم من أسارى المسلمين. وسمعت من يحدث أن هذا الفتح كان اتفاقياً بسبب إحراز الروم بعض رايات المسلمين وذهابهم بها قائمة منتصبة وانبعاث حفائظ بعض القبائل لما عاينوا راية إخوانهم مقدمة على العدو، إذ ظنوا أن أصحابهم حملوا على العدو فأوغلوا وهم لا يعلمون الحال، وكيف ما كان فهو فتح مبين ونصر مؤزر. ثم رجع المنصور إلى اشبيلية ظافراً فأقام مدة ثم غزا بلاد الجوف فحاصر ترجاله ونزل على (4) بلنسية ففتحها عنوة وقبض على قائدها يومئذ مع مائة وخمسين من أعيان كفارها ووجههم إلى خدمة بناء الجامع الكبير بسلا مع أسرى الأرك، ثم انتقل إلى طلبيرة ومكادة فخربهما ثم برز على طليطلة فشن عليها الغارات، ثم نازل مجريط وشرع في القفول فأخذ على جيان إلى قرطبة إلى استجة إلى قرمونة، ووصل إلى اشبيلية في رمضان. وبإفريقية بقرب تيفاش مدينة أركو (5) بها جنات وعيون ومياه وبساتين وغلات وخير واسع. أرنيط (6) مدينة بالأندلس أولية بينها وبين تطيلة ثلاثون ميلاً، وحواليها بطاح طيبة المزارع، وهي قلعة عظيمة منيعة من أجل القلاع، وفيها بئر عذبة لا تنزح قد انبطت في الحجر الصلد، وهذه القلعة مطلة على أرض العدو وبينها وبين تطيلة ثلاثون ميلاً (7) وبينها وبين سرقسطة ثمانون ميلاً. ارغون (8) هو اسم بلاد غرسية بن شانجة يشتمل على بلاد ومنازل وأعمال. أركش (9) حصن بالأندلس على وادي لكه وهو مدينة أزلية
اطراغي
قد خربت مراراً وعمرت وعندها زيتون كثير. أرزاو (1) مدينة فحص سيرات وبينها وبين وهران أربعون ميلاً وهي في جبل فيه قلاع ثلاث مسورة ورباط يقصد إليه، وفي هذا الجبل معدن الحديد والزئبق وإذا أرسلت في شجرة منه النار فاحت منه رياح طيبة. أزقار (2) موضع قوم رحالة في بلاد السودان ألبانهم غزيرة وهم أهل نجدة وقوة ويسالمون من سالمهم ويميلون على من حاولهم، وأهل أزقار يذكر أهل المغرب الأقصى أنهم أعلم الناس بعلم الخط المنسوب إلى دانيال عليه الصلاة والسلام ليس يدرى بجميع بلاد البربر على كثرة قبائلها أعلم بهذا الخط من أهل أزقار، ولأن الرجل منهم صغيراً كان أو كبيراً إذا تلفت له ضالة أو عدم شيئاً من أموره خط لها في الرمل خطاً فيعلم بذلك موضع ضالته فيسير حتى يجد متاعه كما أبصر في خطه، وربما سرق الرجل منهم متاع صاحبه ويدفنه في الأرض بعيداً أو قريباً فيخط الرجل الذي فقد متاعه ويقصد موضع الخبيئة ويخط بازائه خطاً ثانياً حتى يقصد موضع الخبيئة فيستخرج منه متاعه وما ضاع له ويعلم مما خطه الرجل الذي أخذ متاعه، ويجمع أشياخ القبيلة فيخطون له خطاً فيعلمون بذلك البريء من الفاعل، وهذا عندهم مشهور، ولقد أخبر بعضهم أنه رأى رجلاً من هذه القبيلة في سجلماسة وقد خبئت له خبيئة فخط لها خطاً وقصد موضعها فاستخرجها وأعيد عليه العمل بذلك ثلاث مرار فاستخرجها في كلها، وهذا شيء عجيب من قوتهم على هذا العلم على كثرة جهلهم وغلظ طباعهم. أزكي (3) مدينة بالمغرب وهي أول مراقي الصحراء، ومنها إلى سجلماسة ثلاث عشرة مرحلة ومنها إلى نول لمطة سبع مراحل، وليست بالكبيرة ولكنها متحضرة، وإذا بلغت المرأة التي لا زوج لها منهم أربعين سنة تصدقت بنفسها على من أرادها فلا تدفع عن نفسها من يريدها، ولا بد من الدخول على هذه المدينة لمن أراد تكرور وغانة من بلاد السودان. اطراغي (4) مدينة بالصين كبيرة على بركة ماء عذب لا يوجد لوسطها قعر وماؤها مائل إلى الدكنة، وبها سمك وجوهها كوجه البومة على رؤوسها شبه قلانس يزعمون أنها تفعل بالرجال ما يفعله السقنقور من كثرة الانعاظ. اطرابنش (6) بجزيرة صقلية مدينة قديمة أزلية على ساحل البحر، والبحر يحدق بها من جميع جهاتها وإنما يسلك إليها على قنطرة على باب شرقيها، ومرساها بالجانب الجنوبي منها، وعلى نحو عشرة أميال منها جبل يدعى بجبل حامد والصعود إليه هو من إحدى جهاته، وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة ولا يتركون مسلماً يصعد إليه، ولذلك أعدوا فيه ذلك المعقل فلو أحسوا بحادثة حملوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة، واطرابنش هذه في البسيط لا ماء لها إلا من بئر على البعد منها. إلبيرة من كور الأندلس جليلة القدر نزلها جند دمشق من العرب وكثير من موالي الإمام عبد الرحمن بن معاوية، وهو الذي أسسها وأسكنها مواليه ثم خالطهم العرب بعد ذلك، وجامعها بناه الإمام محمد على تأسيس حنش الصنعاني، وحولها أنهار كثيرة. وكانت حاضرة إلبيرة من قواعد الأندلس الجليلة والأمصار النبيلة فخربت في الفتنة وانفصل أهلها إلى مدينة غرناطة فهي اليوم قاعدة كورها، وبين إلبيرة وغرناطة ستة أميال، ومن الغرائب أنه كان بناحية مدينة إلبيرة فرس قد نحت من حجر صلد قديم هناك لا يعلم واضعه فكان الغلمان يركبونه ويتلاعبون حوله إلى أن انكسر منه عضو فزعم أهل إلبيرة أن في تلك السنة التي حدث فيها كسره تغلب البربر على مدينة إلبيرة فكان أول خرابها. ومدينة إلبيرة بين القبلة والشرق من قرطبة، ومنها إبراهيم بن خالد سمع من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وسمع من سحنون وهو أحد السبعة الذين اجتمعوا في إلبيرة في وقت واحد من رواة سحنون، ومنها أبو إسحاق بن مسعود الإلبيري صاحب القصيدة الزهدية التي أولها (7) :
أليس
تفت فؤادك الأيام فتا ... وتنحت جسمك الساعات نحتا وهي طويلة جداً، وهو القائل (1) : من ليس بالباكي ولا المتباكي ... لقبيح ما يأتي فليس بزاك القصيدة بطولها، وهو القائل (2) : ما أميل النفس إلى الباطل ... وأهون الدنيا على العاقل آه لسر صنته لم أجد ... خلقاً له قط بمستاهل هل يقظ يسألني علني ... أكشفه لليقظ السائل لو شغل المرء بتركيبه ... كان به في شغل شاغل وعاين الحكمة مجموعة ... ماثلة في هيكل ماثل يا أيها الغافل عن نفسه ... ويك أفق من سنة الغافل وبساحل إلبيرة كان نزول الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الداخل إلى الأندلس حين عبوره إليها. أليس على صلب (3) الفرات، فتحها خالد بن الوليد رضي الله عنه، قالوا (4) : لما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل الذين أعانوا أهل فارس غضب لهم قومهم فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم، فاجتمعوا إلى أليس وعليهم عبد الأسود العجلي، وكتب ازدشير إلى بهمن أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب، فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له: كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك، فسار جابان إلى أليس وانطلق بهمن إلى ازدشير ليستأمره فيما يريد، ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها واجتمعت إليه المسالح التي كانت بازاء العرب وعبد الأسود في نصارى بني عجل، فنهد إليهم خالد وليست له همة إلا من تجمع لهم من عرب الضاحية ونصاراهم، ولما طلع على أليس قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أو نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا ولكن ظني أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم، فعصوه، وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، فلما وضعت توجه خالد إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامي تحمي ظهره، ثم برز أمام الناس فنادى أين أبجر أين عبد الأسود، أين مالك بن قيس؟ فنكلوا عنه جميعاً إلا مالكاً، فبرز له، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك وفاء، وضربه فقتله، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه، فقال لهم جابان: ألم أقل لكم يا قوم، والله ما دخلتني من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم، فقالوا تجلداً حيث لم يقدروا على الأكل: ندعها حتى نفرغ منهم ثم نعود إليها، فقال جابان: وإنما أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون فالآن فأطيعوني وسموها، فإن كانت لنا فأهون هالك، وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئاً وأبلينا عذراً، فقالوا: لا إلا اقتداراً عليهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، والمشركون يزيدهم كلباً وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن، فصابروا المسلمين للذي في علم الله تعالى أن يصيرهم إليه، وحرب المسلمون عليهم، وقال خالد رضي الله عنه: اللهم لك إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله تعالى كشفهم للمسلمين ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد رضي الله عنه مناديه فنادى في الناس: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع. وأقبلت الخيول بهم أفواجاً مستأسرين يساقون سوقاً، وقد وكل بهم خالد رضي الله عنه رجالاً يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوماً وليلة، وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا بهم إلى النهر فضرب على النهر أعناقهم، وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام، وهو ثمانية عشر ألفاً ويزيدون، ولما رجع المسلمون من طلبهم ودخلوا عسكرهم وقف خالد رضي الله عنه على الطعام الذي كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه، فقال للمسلمين: قد نفلتكموه فهو لكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على طعام مصنوع نفله، فقعد الناس على ذلك الطعام لعشائهم بالليل وجعل من لا يرد الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاق البيض؟ وجعل من قد عرفها يجيبهم ويقول لهم مازحاً: هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقولون: هذا هو فسمي الرقاق.
أمج
وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك في بطونهم غير متأثليه. وبعث خالد رضي الله عنه بالخبر مع رجل من بني عجل كان دليلاً صارماً، فقدم على أبي بكر رضي الله عنه بالخبر بفتح أليس وبقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الأخماس وبأهل البلاء من الناس، وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفاً. وقال خالد رضي الله عنه: لقد قاتلت يوم مؤتة وانقطع في يدي تسعة أسياف وما لقيت قوماً كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس. ألش (1) بالأندلس، إقليم ألش من كور تدمير بينه وبين اريولة خمسة عشر ميلاً، وألش مدينة في مستو من الأرض يشقها خليج يأتيها من نهرها يدخل من تحت السور ويجري في جهاتها ويشق أسواقها وطرقاتها، وهو ملح سبخي. ومن ألش إلى لقنت خمسة عشر ميلاً أيضاً، ومن الغرائب أن بساحل ألش بمرسى يعرف بشنت بول حجراً يعرف بحجر الذئب، إذا وضع على ذئب أو سبع ويكن له عدوان وفارق طبعه في الفساد. الياج (2) موضع بجزيرة صقلية بالقرب من مدينة قطانية، وبالقرب منه جبل النار (3) ، وهو جبل عظيم منيف كثير الثمار ويقطع فيه عدد السفن من خشب الشوع والأرجل (4) الضخمة وغير ذلك ويذكر أهل صقلية أنه انفجر من جبل النار نهر جار (5) فجرى أياماً يراه الناس، وبقي أثره هناك إلى الأبد متحرقاً أسود لا ينبت شيئاً من النبات. وفي جبل النار هوة عظيمة كأنها ثغر (6) يخرج منها ريح شديدة، ويذكرون أنه قذف فيها حجر قد لف في كساء فبقي هاويا ساعة ثم رفعت الريح ذلك الكساء إلى أعلى العنق وذهب الحجر سفلاً، وفي هذا الجبل طائر تسميه العامة عقعق الجبل، يتعلق برجليه من الشجر ويدلي رأسه ويسمع له صوت يتأدى إلى سامعه منه قول القائل اقع اقع، وإذا قرب منه المرء طار ثم نزل على غصن وسمع له صوت يتأدى إلى سامعه منه: قرقرت بك قرقرت بك. وتسير من الياج إلى مسيني. أمج (7) بفتح أوله وثانيه وبالجيم، قرية جامعة، ما بين مكة والمدينة على أميال من قديد لها سور (8) وهي كثيرة المزارع وأهلها خزاعة، وبها آثار كثيرة وبها نخل، وهي محلة بني نمرة وجماعة من الناس وفيها حوانيت وسوق، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة حتى إذا كان بالقديد بين عسفان وأمج أفطر. ومرت بأمج هذه أم جعفر بنت جعفر بن الزبير بن العوام، فقالت لحاضريها: أبي والله الذي يقول: هل في ادكار الحبيب من حرج ... أم هل لهم الفؤاد من فرج أم كيف أنسى مسيرنا حرماً ... يوم حللنا بالنخل من أمج يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة فلج أقبلت أهوي إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الأرج وقال عبد الله بن حية: طفت مع سعيد بن جبير فمر بنا رجل يقال له حميد الأمجي فقلت: أتعرف هذا قال: لا فقلت: هذا الذي يقول فيه الشاعر: حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع علاه المشيب على شربها ... وكان كريماً فلم ينزع فقال: وكان سفيهاً فلم ينزع، فقلت: يا أبا عبد الله ليس هكذا، فقال: والله لا كان كريماً وهو مقيم عليها. وحدث مالك بن أنس عن ابن شهاب، قال: تقدم قوم
أمويي
إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا: إن أبانا مات، وإن لنا عماً يقال له حميد الأمجي أخذ مالنا، فدعا به عمر وقال: أنت الذي يقول فيه الشاعر: حميد الذي أمج داره ... وأنشد البيتين، قال: نعم، قال: أنا آخذك بإقرارك، قال: أيها الأمير ألم تسمع إلى قول الله عز وجل " والشعراء يتبعهم الغاوون " فقال عمر: أنت رجل سوء وكان أبوك صالحاً، فقال حميد: وكان أبوك رجل سوء وأنت رجل صالح، فقال: دع هذا وأين مال بني أخيك هؤلاء؟ فقال: سلهم مذ كم فقدوا أباهم فقالوا: منذ عشرين سنة، قال: فهل فقدتم إلا رؤيته؟ فقال عمر: وما ذاك وقد أخذت مالهم، فدعا حميد غلامه فعرفه موضع المال فجاء به بخواتيم أبيهم وقال: أنفقت عليهم من مالي وهذا مالهم بأسره، فصدقوه في كميته، فقال له عمر: لقد دخلت وأنت أبغض الناس إلي ولتخرجن وأنت أحب الناس إلي، اردد المال إليك، فقال: لا، والله لا يعود إلي أبداً، وتركه ومضى. ذو أمر (1) بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء المهملة أفعل من المرارة، موضع بنجد، وهي التي سار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاث عام أحد في أربعمائة وخمسين رجلاً يريد غطفان فأقام بنجد شهراً، ثم رجع ولم يلق كيداً. أمويي (2) بخراسان على فرسخ من جيحون بينها وبينه مروج وغياض وبالقرب منها موضع يسمى بالخسب (3) فيه ثلثمائة منزل في كل منزل الأقل ألف إنسان والأكثر عشرة آلاف، ولهم مدنية عظيمة ونجدة معروفة وبسالة موصوفة. أمغيشيا قصر على الفرات كالحيرة، لما فرغ (4) خالد بن الوليد رضي الله عنه من وقعة أليس نهض فأتى أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها، وتفرقوا في السواد، فأمر خالد رضي الله عنه بهدمها وهدم كل شيء كان في حيزها، وكان فرات بادقلى ينتهي إليها وكانت أليس من مسالحها فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله، بلغ سهم الفارس ألفاً وخمسمائة سوى الأنفال التي نفلها أهل البلاء، ولما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه قال: يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراديله، أعجز النساء أن ينفسوا بمثل خالد. أنقرة موضع في بلاد الروم من أرض الشام به مات امرؤ القيس بن حجر منصرفه من قيصر وكان توجه إليه ليستنصره على بني أسد قاتلي أبيه، فلما أوغل في بلاد الروم وصاحبه وهو الذي قال فيه: بكى صاحبي لما رأى الحرب دونه ... وهو عمرو بن قميئة، فلما وصل إلى قيصر قرب مجلسه وأدناه وكان جميل الوجه، وكانت لقيصر بنت جميلة فرأته فراسلته وفيها يقول: فقالت سباك الله إنك فاضحي ... فكساه قيصر حلة مسمومة فلما لبسها سقط بدنه حتى كان يحمل في محفة، ثم نزل إلى جنب جبل وإلى ناحية منه قبر فسأل عنه فقيل هو قبر ابنة لقيصر ملك الروم، قال: فما جاء بها إلى هاهنا؟ فقيل له: إنها ترهبت في دير لها فماتت بحيث يرى الملك ذلك، فقال: أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب فإن تصلينا فالمودة بيننا ... وإن تهجرينا فالغريب غريب أجارتنا ما فات ليس بآيب ... وما هو آت في الزمان قريب وليس غريباً من تناءت دياره ... ولكن من زار التراب غريب فلما أيقن بالموت قال: كم طعنة مثعنجرة وخطبة مسحنفرة
الأنصاريين
وجفنة مدعثرة، قد غودرت بأنقرة. مثعنجرة: منصبة، ومدعثرة: منكسرة. قال المأمون (1) : مررت بأنقرة فرأيت صورة امرئ القيس فإذا هو رجل مكلثم الوجه، يريد مستدير الوجه وكانت الروم اتخذت صورة امرئ القيس بأنقرة كما يفعلون بمن يعظمونه. وبظهر الكوفة موضع آخر يقال له أنقرة أسفل من الخورنق وفي قصيدة الأسود بن يعفر: نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد ولما حاصر المعتصم عمورية وفتحها سنة ثلاث وعشرين ومائتين وقتل بها مقتلة عظيمة وسبى سبياً كثيراً وخرب ما مر به من قراها خرب في غزوته تلك أنقرة. أنطابلس هي برقة فانظرها في حرف الباء إن شاء الله تعالى. أندرين (2) قرية بالشام، وقيل بالجزيرة وهي المذكورة في قول الشاعر في مطلع قصيدة (3) : ألبرق لائح من أندرين ... شرقت عيناك بالماء المعين الأنصاريين (4) بإفريقية، من الأربس إلى مدينة الأنصاريين مسيرة يوم، تنسب إلى قوم نزلوها من الأنصار من ولد جابر بن عبد الله رضي الله عنهم، وهي طيبة الأرض كثيرة الزرع (5) ، وحنطتها أجل حنطة بإفريقية. انجيمي (6) مدينة صغيرة جداً من كاكم بينها وبين مانان ثمانية أيام، وأهلها قليل وهم في أنفسهم أذلاء، وهم يجاورون النوبة من جهة الشرق، وبين أنجيمي والنيل ثلاثة أيام في جهة الجنوب وشرب أهلها من الآبار. الأندلس (7) هذه الجزيرة في آخر الإقليم الرابع إلى المغرب، هذا قول الرازي، وقال صاعد بن أحمد في تأليفه في طبقات الحكماء (8) : معظم الأندلس في الإقليم الخامس وجانب منها في الرابع، كاشبيلية ومالقة وقرطبة وغرناطة والمرية ومرسية. واسم الأندلس في اللغة اليونانية اشبانيا والأندلس بقعة كريمة طيبة التربة كثيرة الفواكه، والخيرات فيها دائمة وبها المدن الكثيرة والقواعد العظيمة وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد والزئبق واللازورد والشب والتوتيا والزاج والطفل. والأندلس آخر المعمور في المغرب لأنها متصلة ببحر أقيانس الأعظم الذي لا عمارة وراءه. ويقال إن أول من اختط الأندلس بنو طوبال بن يافث بن نوح سكنوا الأندلس في أول الزمان، وملوكهم مائة وخمسون ملكاً. ويقال إن الأندلس خربت وأقفرت وانجلى عنها أهلها لمحل أصابهم فبقيت خالية مائة سنة، ثم وقع ببلاد إفريقية محل شديد ومجاعة عظيمة فرقت أهلها، فلما رأى ملك إفريقية ما وقع ببلده اتخذ مراكب شحنها بالرجال وقدم عليهم رجلاً من إفريقية ووجههم، فرمى بهم البحر إلى حائط إفرنجة وهو يومئذ مجوس، فوجههم صاحب إفرنجة إلى الأندلس. وقيل اسمها في القديم ابارية ثم سميت بعد ذلك باطقة ثم سميت اشبانية من اسم رجل ملكها في القديم كان اسمه اشبان، وقيل سميت بالاشبان سكنوها في الأول من الزمان وسميت بعد ذلك بالأندلس من أسماء الأندليش الذين سكنوها. وسميت جزيرة الأندلس جزيرة لأنها شكل مثلث وتضيق من ناحية شرق الأندلس حتى يكون بين البحر الشامي والبحر المظلم المحيط بالأندلس خمسة أيام ورأسه العريض نحو من سبعة عشر يوماً، وهذا الرأس هو في أقصى المغرب في نهاية انتهاء المعمور من الأرض محصور في البحر المظلم، ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم ولا وقف منه بشر على خبر صحيح لصعوبة عبوره وإظلامه وتعاظم موجه وكثرة أهواله وتسلط دوابه وهيجان رياحه حسبماً يرد ذلك في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى. وبلد الأندلس مثلث الشكل كما قلناه ويحيط بها البحر
من جميع جهاتها الثلاث، فجنوبها يحيط به البحر الشامي وجوفيها يحيط به البحر المظلم وشمالها يحيط به بحر صنف (1) من الروم. وطول الأندلس من كنيسة الغراب التي على البحر المظلم إلى الجبل المسمى هيكل الزهرة ألف ميل ومائة ميل وعرضها ستمائة ميل. والأندلس أقاليم عدة ورساتيق جملة وفي كل إقليم منها عدة مدن، والركن الواحد من أركانها الثلاثة هو الموضع الذي فيه صنم قادس بين المغرب والقبلة، والركن الثاني شرقي الأندلس بين مدينة نربونة (2) ومدينة برذيل بازاء جزيرتي ميورقة ومنورقة، والركن الثالث حيث ينعطف البحر من الجوف إلى الغرب حيث المنارة في الجبل الموفي على البحر وفيه الصنم العالي المشبه بصنم قادس وهو في البلد الطالع على بلد برطانية. والأندلس شامية في طيبها وهوائها يمانية في اعتدالها واستوائها هندية في عطرها وذكائها أهوازية في عظم جناتها صينية في جواهر معادنها عدنية في منافع سواحلها. وفيها آثار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة، وكان من ملوكهم الذين أثروا الآثار بالأندلس هرقلش (3) وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جليقية والأثر في مدينة طركونه الذي لا نظير له. وفي غربي شنترين على مقدار خمسين ميلاً فيما بين الأشبونة وشنترة في جبل هناك كان حصناً فيما مضى يوجد الحجر المعروف بالحجر اليهودي، وهو على شكل البلوط سواء ومن خاصيته تفتيت الحصا التي تكون في المثانة والكلية ويقع في الأكحال وفي جوفي بطليوس على قدر أربعين ميلاً معدن المها. والأندلس دار جهاد وموطن رباط قد أحاط بشرقيها وشمالها وبعض غربها أصناف أهل الكفر، وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أما بعد، فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر والسلام. وعن كعب الحبر أنه قال: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة. ودخل الأندلس رجل واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قال عبد الملك بن حبيب: اسمه المنيذر الإفريقي وإنه يروي عنه عليه السلام أنه قال: " من قال رضيت بالله رباً إلى آخرها فأنا الزعيم لآخذن بيده فأدخله الجنة "، ودخلها من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني وهو الذي أسس جامع سرقسطة وكان مع علي رضي الله عنه بالكوفة، فلما قتل علي رضي الله عنه انتقل إلى مصر، وقبره بسرقسطة معروف، ومنهم علي بن رباح اللخمي وعمرو بن العاصي وعلقمة بن عامر وأبو عبد الرحمن عبد الله بن زيد الحبلي الأنصاري، وعياض بن عقبة الفهري وموسى بن نصير، يقال بكري ويقال لخمي، ويقال إن نصيراً من سبي عين التمر أعتقه صبيح مولى أبي العاص بن أمية، يقال أصابه خالد في علوج عين التمر وادعوا أنهم من بكر بن وائل فصار نصير وصيفاً لعبد العزيز بن مروان وأعتقه فمن أجل هذا يختلف فيه، وعقد الوليد لموسى على إفريقية سنة ثلاث وثمانين وكان مولد موسى سنة تسع عشرة في خلافة عمر رضي الله عنه وكان معاوية رضي الله عنه قد جعل نصيراً أبا موسى على حرسه فلم يقاتل معه علياً رصي الله عنه، فقال له معاوية رضي الله عنه: ما منعك من الخروج على علي رضي الله عنه ولم تكاف يدي عليك، قال: لم يمكن أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري منك، قال: ومن هو؟ قال: الله عز وجل. ومسافة ما يملكه المسلمون من الأندلس ثلاثمائة فرسخ طولاً في ثمانين فرسخاً عرضاً والذي يملك منها النصارى مثل ما يملك المسلمون أو أشف. ثم حدث فيها من تغلب الثوار ما أضاع ثغورهم وأذهب أكثر بلادهم ولم يبق من تلك إلا الأقل، وبها الجبال المشهورة والحمامات الكثيرة. قال الرازي: أول من سكن الأندلس بعد الطوفان على ما يذكره علماء عجمها قوم يعرفون بالأندلش بالشين معجمة بهم سمي البلد ثم عرب، وكانوا أهل تمجس فحبس الله تعالى عنهم المطر حتى غارت عيونها ويبست أنهارها فهلك أكثرهم وفر من قدر على الفرار منهم، فأقفرت الأندلس وبقيت خالية مائة عام وملكهم أشبان بن طيطش وهو الذي غزا الأفارقة وحصر ملكهم بطالقة (1) ، ونقل رخامها إلى اشبيلية وبه سميت فاتحذها دار مملكة وكثرت جموعه فعلاً في الأرض وغزا من اشبيلية ايليا بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن وهدمها وقتل من اليهود مائة ألف واسترق مائة ألف وفرق في البلاد مائة ألف، وانتقل رخام ايليا وآلاتها إلى الأندلس، والغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس
كمائدة سليمان التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة، وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرهما من الذخائر كانت مما حازه صاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس إذ حضر فتحها مع بخت نصر. وذكروا أن الخضر وقف بأشبان هذا وهو يحرث الأرض بفدن له أيام حداثته، فقال له: يا أشبان إنك لذو شان وسوف يحظيك زمان ويعليك سلطان فإذا أنت تغلبت على ايليا فارفق بورثة الأنبياء. فقال له أشبان: أساخر رحمك الله أنى يكون هذا وأنا ضعيف مهين فقير حقير، فقال: قدر ذلك لك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه، فنظر أشبان إلى عصاه فرآها قد أورقت فريع لما رأى، وذهب الخضر عنه وقد قر ذلك الكلام في نفسه والثقة بكونه، فترك الامتهان وداخل الناس وصحب أجل الناس، وسما به جده فارتقى في طلب السلطان حتى نال منه عظيماً، وكان ملكه عشرين سنة، واتصلت مملكة الأشبان بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً، ثم دخل عليهم من حجر رومة أمة أخرى تعرف بالشبونقات وذلك زمان مبعث المسيح عليه السلام، فملكوا الأندلس وإفرنجة معها واتخذوا دار مملكتهم مدينة ماردة واتصلت مملكتهم إلى أن ملك منهم أربعة وعشرون ملكاً، ويقال إن منهم كان ذو القرنين. ثم دخل على هؤلاء الشبونقات أمة القوط فغلبوا على الأندلس واقتطعوها من يومئذ عن صاحب رومة وانفردوا بسلطانهم واتخذوا مدينة طليطلة دار سلطانهم، وخنشوش (1) ملك القوط هو أول من تنصر من هؤلاء فدعا الحواريين ودعا قومه إلى النصرانية وكان أعدل ملوكهم وأحسنهم سيرة، وهو الذي أصل النصرانية، والانجيلات والمصاحف الأربعة من انتساخه وجمعه وتثقيفه، فتنافست ملوك القوط بالأندلس بعده حتى غلبهم عليها العرب، وعدد من ملك منهم إلى آخرهم وهو لذريق ستة وثلاثون ملكاً، ولذريق لم يكن من أبناء الملوك ولا بصحيح النسب في القوط وإنما نال الملك من طريق الغصب والتسور، ولما مات غيطشة الملك وكان أثيراً لديه فاستصغر أولاده واستمال طائفة من الرجال مالوا معه، فانتزع الملك من ولد غيطشة، وغيطشة آخر ملوك القوط بالأندلس ولي سنة سبع وسبعين من الهجرة فملك خمس عشرة سنة. وكانت طليطلة دار المملكة بالأندلس حينئذ وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح، يلزمه من ثقات القوط قوم قد وكلوا به لئلا يفتح قد عهد الأول في ذلك إلى الآخر كلما ملك منهم ملك زاد على البيت قفلاً فلما ولي لذريق عزم على فتح الباب والاطلاع على ما في البيت، فأعظم ذلك أكابرهم وتضرعوا إليه في الكف فأبى وظن أنه بيت مال، ففض الأقفال عنه ودخله فأصابه فارغاً لاشيء فيه إلا تابوتاً عليه قفل، فأمر بفتحه فألفاه أيضاً فارغاً لا شيء فيه إلا شقة مدرجة قد صورت فيها صور العرب على الخيول وعليهم العمائم متقلدي السيوف متنكبي القسي رافعي الرايات على الرماح، وفي أعلاها كتابة بالعجمية فقرئت فإذا هي: إذا كسرت هذه الأقفال عن هذا البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن الأمة المصورة فيه تغلب على الأندلس وتملكها، فوجم لذريق وعظم غمه وغم العجم وأمر برد الأقفال وإقرار الحراس على حالهم. وكان من سير الأعاجم بالأندلس أن يبعث أكابرهم بأولادهم إلى بساط الملك ليتأدبوا بأدبه وينالوا من كرامته، حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضاً استئلافاً لآبائهم وحمل صدقاتهم وتولى تجهيز إناثهم، فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة، وجه ابنة له بارعة الجمال تكرم عليه، فوقعت عين لذريق عليها فأعجبته فاستكرهها على نفسها، واحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سراً بمكاتبة خفية، فأحفظه شأنها وقال: ودين المسيح لأزيلن سلطانه، فكان امتعاضه من فاحشة بنته السبب في فتح الأندلس للذي سبق من قدر الله سبحانه ثم إن يليان ركب بحر الزقاق من سبتة في أصعب الأوقات في شهر ينير، وأقبل حتى احتل بطليطلة حضرة لذريق، فأنكر عليه مجيئه في ذلك الوقت، وسأله عن السبب في ذلك، فذكر له أن زوجته اشتد شوقها إلى ابنتها التي عنده وتمنت لقاءها قبل الموت وألحت عليه في إحضارها وأحب إسعافها بها، وسأل الملك إخراجها إليه وتعجل إطلاقه للمبادرة بها ففعل، وأجاز الجارية وتوثق منها بالكتمان عليه وأفضل على أبيها، فانقلبت عليه. وذكر أنه لما دخل عليه قال له لذريق: إذا أنت قدمت علينا فاستفره لنا من الشذانقات، فقال له: أيها الملك، والمسيح لأدخلن عليك شذانقات ما دخل عليك بمثلها قط يعرض له بما أضمر من السعي في إدخال رجال العرب الأندلس عليه وهو لا يفطن فلم يتنهنه يليان إذ وصل سبتة أن تهيأ للمسير نحو موسى بن نصير، فأتاه بإفريقية، فحرضه على غزو الأندلس،
ايذج
ووصف له حسنها وفوائدها وفضلها وهون عليه حال رجالها، فعاقده موسى على الانحراف إلى المسلمين وسامه مكاشفة أهل ملته من أهل الأندلس، ففعل يليان ذلك وحل بساحل الجزيرة الخضراء فقتل وسبى وغنم وأقام بها أياماً يشن الغارات، وشاع الخبر عند المسلمين، فآنسوا بيليان، وذلك عقب سنة تسعين. وكتب موسى إلى الوليد يعلمه بما دعاه إليه ليليان ويستأذنه في افتتاح الأندلس، فكتب إليه الوليد أن خضها بالسرايا حتى تختبر شأنها ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال، فراجعه أنه ليس ببحر وإنما هو خليج يتبين للناظر ما وراءه، فكتب إليه: وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا فبعث موسى عند ذلك رجلاً من مواليه من البربر اسمه طريف بن مالك المعافري يكنى أبا زرعة، في أربعمائة رجل يغير بهم، ونزل في الجزيرة المنسوبة إليه ثم أغار على الجزيرة الخضراء ونواحيها، فأصاب شيئاً لم ير موسى وأصحابه مثله حسناً وأصاب مالاً جسيماً وأمتعة، وذلك في شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين. فلما رأى ذلك الناس تسرعوا إلى الدخول، فدعا موسى مولى له كان على مقدماته يسمى طارق بن زياد، قيل هو فارسي وقيل هو من الصدف وقيل ليس بمولى وقيل هو بربري من نفزة، فعقد له وبعثه في سبعة آلاف من البربر (1) والموالي ليس فيهم عربي إلا القليل، فهيأ له يليان المراكب وحل بجبل طارق يوم سبت في شعبان من سنة اثنتين وتسعين وهو من شهور العجم شهر أغشت، وقيل في رجب من السنة، في اثني عشر ألفاً غير ستة عشر رجلاً لم يكن فيهم من العرب إلا قليل (2) . وأصاب طارق عجوزاً من أهل الجزيرة قالت: إنه كان لي زوج عالم بالحدثان وكان يحدث عن أمير يدخل بلدنا هذا ويصفه ضخم الهامة، وأنت كذلك، ومنها أن بكتفه الأيسر شامة عليها شعر فإن كانت بك هذه الشامة فأنت هو، فكشف طارق ثوبه فإذا بالشامة على كتفه كما ذكرت العجوز، فاستبشر بذلك هو ومن معه. وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب فرأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يمشون على الماء حتى مروا به فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، وفي حكاية أنه لما ركب البحر غلبته عينه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا طارق تقدم لشأنك "، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه، فهب من نومه مستبشراً وبشر أصحابه ولم يشك في الظفر، فنزل بالجبل شاناً الغارات في البسائط ولذريق يومئذ غائب في غزاة له واتصل به الخبر فعظم عليه أمره وفهم الخبر الذي منه أتي مع يليان، وأقبل مبادراً في جموعه حتى احتل بقرطبة أياماً والجنود تتوافى عليه، وكان لحينه ولى ششبوت بن الملك غيطشة ميمنته وأخاه ميسرته وهما موتوران قد سلبهما ملك أبيهما، فبعثا إلى طارق يسألانه الأمان إذا مالا إليه عند اللقاء بمن معهما وعلى أن يسلم إليهما ضياع والدهما غيطشة إن ظفر، فأجابهما طارق إلى ذلك، وعاقدهما عليه فلما التقى الجمعان انحاز هذان الغلامان إلى طارق فكان ذلك سبب الفتح، وكان الطاغية لذريق في ستمائة ألف فارس. وقد خرجت عن حكم الاختصار الذي التزمت في هذا الوضع فلنقتصر على هذا القدر، وأما ذكر بلاد الأندلس فتأتي في مواضعها اللائقة بها إن شاء الله تعالى. وافتتحت الأندلس في أيام الوليد بن عبد الملك فكان فتحها من أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملة الحنيفية، وكان عمر بن عبد العزيز معتنياً بها متهمماً بشأنها وهو الذي قطعها عن نظر والي إفريقية وجرد لها عاملاً من قبله. ايذج (3) مدينة من عمل خوزستان بينها وبين العسكر في جهة المشرق أربع مراحل، وهي مدينة عجيبة فرجة البقعة بسيطة المكان متاخمة للجبل المتصل بأصبهان وبها متاجر وصنائع وأموال وأسواق نافقة بما جلب إليها. انكال (4) قرية انكال بأرض المغرب بقرب وادي أم ربيع ويقال لها دار المرابطين وبها عين ماء، وهي حسنة في موضعها كثيرة الزرع والمواشي والإبل والبقر والغنم، وبها فحص طويل قد انحشرت إليه طيور النعام فهي في أكنافه سارحة وهي آلاف لا تحد وأهل تلك النواحي يصيدونها طرداً بالخيل فيأخذون منها جملاً كثيرة صغاراً وكباراً، وأما بيضها الموجود في الفحص فلا يحاط به كثرة ومنه يحمل إلى كثير من البلاد وطعامها وخيم يفسد المعدة
الأنبار
ولحومها حارة يابسة وشحومها نافعة عندهم من الصمم تقطيراً ومن سائر الأوجاع البدنية. الأنبار (1) بفتح الهمزة، في العراق بينها وبين بغداد ثلاثة عشر فرسخاً، وهي مدينة صغيرة متحضرة لها سوق وفيها قلعة وفواكه كثيرة وهي على رأس نهر عيسى، وكان فيما سلف قبل الإسلام لا تصل مياه الفرات إلى دجلة وإنما كان مغيضها في البطاح دون أن يتصل شيء منها بدجلة، فلما جاء الإسلام احتفر نهر عيسى حتى وصل به إلى بغداد، وهو الآن نهر كبير تجري فيه السفن إلى بغداد. والأنبار حد بابل، وسميت بهذا تشبيهاً لها ببيت التاجر الذي ينضد فيه متاعه وهي الأنبار، وقيل الأنبار بالفارسية الأهراء لأن أهراء الملك كانت فيها ومنها كان يرزق رجاله، وقال في تحديد العراق: هو ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين التمر. وفيها بويع بالخلافة لأبي جعفر المنصور يوم مات السفاح أخوه، وهي ذات العيون. وأتاها (2) خالد بن الوليد رضي الله عنه في تعبئته التي خرج فيها من الحيرة على مقدمته الأقرع بن حابس، فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم فلم يستطيعوا العرجة ولم يجدوا بداً من الإقدام ومعهم بنات مخاض تتبعهم، فلما نودي بالرحيل صروا الأمهات واحتقبوا المنتوجات لأنها لم تطق السير فانتهوا ركباناً إلى الأنبار وقد تحصن أهلها وخندقوا عليهم فأشرفوا على حصنهم وعلى الجنود التي قبلهم شيرازاذ صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ وأسوده فتصايح عرب الأنبار وقالوا: صبح الأنبار شر جمل يحمل جميله وجمل يسير به عود، فقال شيرازاذ وقد سأل عما يقولون فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم والله لئن لم يكن خالد مجتازاً لأصالحنه. فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة وأطاف بالخندق وأنشب القتال وكان قليل الصبر عنه إذا رآه وسمع به وتقدم إلى رماته فأوصاهم وقال: إني أرى أقواماً لا علم لهم بالحرب فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها، فرموا رشقاً واحداً ثم تابعوا ففقئت ألف عين يومئذ فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وتصايح القوم: ذهبت عيون أهل الأنبار، فراسل شيرازاذ خالداً في الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان في الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى بها فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق وأرز القوم إلى حصنهم، وأرسل شيرازاذ في الصلح على مراد خالد، فقبل منه على أن يخليه ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل ليس معهم من المتاع والمال شيء، فخرج شيرازاذ، فلما قدم على بهمن جاذويه وأخبره الخبر، لامه، فقال له شيرازاذ: إني كنت في قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم وقل ما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم، ثم قاتلهم الجند ففقؤوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسالمة أسلم وأن قرة العين لهم وأن العيون لا تقر منهم بشيء. وفي خبر البلاذري (3) : لما سار خالد رضي الله عنه إلى الأنبار تحصن أهلها ثم أتاه من دله على سوق بغداد وهو السوق العتيق وكان عند الصراة، فبعث خالد رضي الله عنه المثنى بن حارثة فأغار عليه، فملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء وما خف حمله من المتاع، فلما رأى أهل الأنبار ما نزل بهم صالحوا خالداً رضي الله عنه على شيء رضي به فأقرهم. ويقال إن صلح الأنبار كان في خلافة عمر رضي الله عنه على يدي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على أربعمائة ألف عباءة قطوانية في كل سنة، ويقال على ثمانين ألفاً والله أعلم. وبعدها افتتح خالد رضي الله عنه عين التمر. والأنبار من المنازل التي عمرت على سالف الأزمان، ولما (4) اطمأن خالد رضي الله عنه بالأنبار والمسلمون وأمن أهل الأنبار وظهروا رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب نزلنا على قوم من العرب قبلنا كانت أوائلهم نزلوها أيام بخت نصر حين أباح العرب فلم نزل عنها. قال الأصمعي: سئلت قريش: من أين لكم الكتابة قالوا: من الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة قالوا: من الأنبار، وقيل للأنبار: من أين تعلمتم الكتابة قالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوا قول الشاعر:
انباره
قومي إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعاً والخط والقلم ثم إن أهل الأنبار نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين من الدول. وحكى المبرد في كامله (1) أن خيلاً لمعاوية رضي الله عنه وردت الأنبار وقتلوا عاملاً لعلي رضي الله عنه يقال له حسان بن حسان، فخرج علي رضي الله عنه مغضباً يجر رداءه فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال الخطبة بطولها وهي في أول الكامل. ومن أهل الأنبار أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن الحسن الأنباري (2) ، قال أبو علي البغدادي: كان يحفظ فيما ذ كر ثلثمائة ألف بيت شاهد في القرآن، وله أوضاع شتى كثيرة، ولم يكن له عيال، وكان ثقة ديناً صدوقاً، وكان ذا يسار وحال وافرة وكان شحيحاً مسيكاً ما أكل له أحد قط شيئاً، ووقف عليه يوماً بمدينة المنصور أبو يوسف المعروف بالاقسامي فقال له: يا أبا بكر قد أجمع أهل بغداد على شيء فأعطني درهماً حتى أخرق الإجماع، قال: وما هذا الإجماع يا أبا يوسف؟ قال: أجمع أهل البلد على أنك بخيل، فضحك ولم يعطه شيئاً. قالوا: وكان أحفظ من تقدم من الكوفية، توفى سنة سبع وعشرين وثلثمائة بيوم الأضحى. وقال البلاذري (3) : لما سار خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الأنبار فحاصر أهلها فتركهم أتاه من دله على سوق بغداد، وهي السوق العتيقة عند قرن الصراة وكانت سوقاً عظيمة ليس في شيء من النواحي مثلها، فبعث خالد رضي الله عنه المثنى بن حارثة فأغار عليها. ويقال: أتاها خالد رضي الله عنه بنفسه فأغار عليها فملأ المسلمون أيديهم ولم يأخذوا إلا الصفراء والبيضاء وما خف محمله من متاع، ثم بات المسلمون بالسيلحين فعرض لهم أسدان فقتلوهما بعد أن عقرا رجلاً منهم ومشوا من الغد متوجهين نحو الأنبار، فلما وصلوا حصروا أهلها وحرقوا في نواحيها، فصالحوا أهلها على الجلاء ثم أعطوه ما رضي به منهم فأقرهم، وأتى خالداً رضي الله عنه رجل فدله على سوق تجتمع فيه قضاعة وبكر بن وائل وغيرهم فويق الأنبار فوجه إليها المثنى بن حارثة فأغار عليها فأصاب ما في السوق وقتل وسبى. الإنبار بكسر الهمزة (4) مدينة بجوزجان من عمل خراسان وهي من أكبر من مرو الروذ ولها مياه وكروم وخصب ومساكن وبناؤها بالطين، منها علي بن عيسى الأنباري، من حديثه عن عبد الله قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الولد، فأمره بأكل البصل. وبإنبار يقم أميرها في الشتاء ويصيف بالجوزجان من العمل المذكور. انباره (5) بلد بقرب غانة من بلاد السودان ملكها معاند لأهل غانة، وهي مدينة كبيرة ولأهلها بأس شديد في الحروب، وبينها وبين مدينة كوغة تسعة أيام. انبذوشة (6) جزيرة في البحر بينها وبين أقرب بر من إفريقية حيث قبودية مجريان، وبها مرسى مأمون يكن من كل ريح ويحمل الأساطيل الكثيرة، وليس فيها شيء من الثمار ولا من الحيوان، وهي جزيرة خالية من العامر، ومكمن للعدو، وسافر من تونس سفين إلى الإسكندرية فلما لجج في البحر وقارب هذه الجزيرة اختل بعض ألواحه وعمل الماء وخاف الغرق فلجأوا إلى هذه الجزيرة ونزلوها وبلغ الأمير الأجل أبا زكريا ملك إفريقية خبرهم فبعث إليهم واستنقذهم وكانوا أشرفوا على الهلاك، وفي ذلك يقول أبو عمرو عثمان بن عتيق، ابن عربية (7) ... انكمرده (8) مدينة من أرض الهند أو الصين من دخلها من المسافرين استوطنها ولم يرد الخروج منها لطيب ثراها وكثرة
أندراب
خيرها، والذهب بها كثير جداً حتى أن أهلها يتخذون سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم من الذهب وفي جزائر الواق واق مثل ذلك، والتجار يرحلون إليها ويسبكون الذهب فيها ويخرجونه من هناك مسبوكاً. أندراب (1) مدينة من عمل بلخ ينسب إليها الحسن بن أحمد الأندرابي، من حديثه عن الزهري أنه قال: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فم يرض فهو شيطان. انطاكية (2) بتخفيف الياء، مدينة عظيمة بالشام على ساحل البحر، قالوا: وكل شيء عند العرب من قبل الشام فهو انطاكية، ويقال ليس في أرض الإسلام ولا أرض الروم مثلها. وهي مدينة حسنة الموضع كريمة البقعة ليس بعد دمشق أنزه منها داخلاً وخارجاً بناها بطليموس بن هيفلوس الثاني من ملوك اليونانيين، وقيل نسبت إلى الذي بناها انطيخين ولما عربت غيرت صورتها (3) ، وهي إحدى عجائب العالم مسافة سورها اثنا عشر ميلاً وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألفاً وأبراجها مائة وستة وثلاثون، أسكن كل برج منها بطريقاً برجاله وخيله، فمرابط الخيل في أسفله وأعلاه طبقات وطاقات للرجال، كل برج منها كالحصن عليه أبواب الحديد، وأنبط فيها عيوناً وأجرى الماء في شوارعها، وماؤها يستحجر فيه الثفن في مجاريه فلا يؤثر فيه الحديد ولا يكسره، وهذا الماء يحدث في الأجواف الريح القولنجية. وقد أراد الرشيد (4) سكنى انطاكية فقيل له ما فيها من ترادف الصدإ على سلاحها وزوال (5) ريح الطيب منها، فامتنع من سكناها والنصارى يدعونها مدينة الله ومدينة الملك وأم المدائن لأنها أول بلد أظهر فيه دين النصرانية، وبها كرسي بطرس ويسمى شمعون وشمعان وهو خليفة إيشوع الناصري المرأس على تلامذته الاثني عشر والسبعين وغيرهم. وفي سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة تغلب العدو على أهل انطاكية، وخيروا أهلها بين المقام على أداء الجزية أو الخروج إلى أرض الشام فرضي بالجزية خلق كثير ولما جاء البشير بذلك نقفور عاقبه وغمه ذلك لأنه كان عنده في علم الحدثان أن الذي تفتح انطاكية في أيامه يهلك سريعاً فقتله الله تعالى سنة تسع وخمسين قتل في قصره وعلى سريره عملت على قتله امرأته التي كانت قبله لرومانس على يد ابن الشمشكي فقتلوه ليلاً وكان سبب ذلك أن ابنها من رومانس واسمه باسيلي لما أدرك أراد نقفور أن يخصيه ويلزمه الكنيسة العظمى لينفرد هو بالأمر فلما علمت أمه بعزمه على ذلك سعت في قتله فتم لها ذلك وولي ابن الشمشكي ودانت له النصرانية ثم ولي بعده باسيلي المذكور وهو الملقب بالملك الرحيم. وانطاكية كثيرة المياه متسعة الأسواق والطرقات وبساتينها اثنا عشر ميلاً وفي داخل سورها أرحاء وبساتين وخانات وبها أسواق ومبان ويعمل بها من الثياب المصمتة الجياد العتابي والتستري والأصبهاني شيء كثير وبينها وبين أذنة شمالاً ثلاث مراحل وعليها سور حجارة وفي داخلها البساتين والمزارع ويقال لها مدينة حبيب النجار وبها الكف التي يقال أنها كف يحيى بن زكريا عليهما السلام في كنيسة هناك وهي قاعدة القياصرة وكان بانطاكية فرعون من الفراعنة فبعث الله تعالى إليهم رسلاً وفيهم نزل " واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " وأسماؤهم صادق وصدوق والثالث شلوم ويقال إنهم من الحواريين ولم يكونوا من الأنبياء والذي جاء يسعى رجل اسمه حبيب بن مري وكان يعمل الحرير فلما قال لهم " يا قوم اتبعوا المرسلين " وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه على دبره فأدخله الله تعالى الجنة حياً يرزق فيها فذلك قوله " يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي " وصلب الكافر لعنه الله المرسلين منكوسين فأهلكهم الله تعالى جميعاً فذلك قوله " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ". ويستحجر الماء في مجاري انطاكية ويتراكم طبقات حتى يمنع الماء من الجريان فلا يعمل الحديد في كسره. ويقال إنها بنيت في اثنتي عشرة سنة وإن النفقة في سورها انتهت مائة وخمسين وقراً من دنانير الذهب ويقال إن يحيى عليه السلام دفن في كنيسة بانطاكية، وإنه قتل في شهر آب.
انقولاية
وفي سنة ثلاث وتسعين غزا العباس بن الوليد أرض الروم فافتتح انطاكية. ويقال إن انطاكية لا تمر عليها سحابة إلا مطرتها وان ذلك لبقية من رضاض ألواح موسى عليه السلام في غار في جبل من جبالها ورضاض من تابوت السكينة. وفي سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة غزا نقفور انطاكية فأخذها وأخذ مدينة طرسوس واقريطش فكان من أمره ما قدمناه، وهي الآن في يد الروم. ومن أنطاكية فر هرقل حين انهزمت جموعه وقتلت باليرموك خرج منها حتى أتى الرها ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية، فلما خرج استقبل الشام وقال: السلام عليك يا سورية سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبداً، وكان لما جاء المخبر بالهزيمة، وقتل من قتل من عظماء الروم قال المخبر: تلكؤك أخبث وألأم وأكفر، متى تذب عن دين أو تقاتل عن دنيا، ثم قال للشرطة: أنزلوه، فأنزلوه وجاءوه به فقال: ألست كنت أشد الناس علي في أمر محمد نبي العرب حين جاءني كتابه ورسوله وكنت أردت أن أجيبه إلى ما دعا إليه وأدخل في دينه فكنت أنت من أشد الناس علي حتى تركت ما أردت من ذلك فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطاني وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتني من الدخول في دينه، اضربوا عنقه، فضربوا عنقه ثم نادى في أصحابه بالرحيل. وتسير من انطاكية ستة فراسخ في صحراء وجبال فيها مزارع وأشجار البلوط، وعلى يسار الطريق بحيرة يكون مقدارها ستة فراسخ فيها يجتمع ماء انطاكية حتى ينتهي إلى قرية يقال لها بغراس (1) . انطالية فرضة بلاد قونية، وفي سنة ثلاث وستمائة وقعت فتنة بين فرنجها ورومها كانت سبباً لأن صارت دار إسلام لأن الخبر بلغ غياث الدين كيخسرو فأرسل إليها عسكراً غلبت عليها باشتغال الفريقين بالقتال واستقر الصلح على أن تكون مدينتين بينهما سور، إحداهما للمسلمين والأخرى للنصارى (2) . أنقلش (3) بلد الأنقلش وهم جنس من الأتراك نزلوا مصاقبين للصقالبة، وحد مدينتهم في المغرب مدينة بويرة (4) وفي الجوف منهم الروس، وهم قوم ليس لهم معبود دون الله تعالى، وهم يقرون بصاحب السماء وأنه واحد قهار، ويجتنبون أكل لحم الخنزير ويقربون قرابين، فإذا وضع بين يدي أحدهم طعام أجج ناراً وأخذ من أفضل خبزه وطعامه فيلقيه في النار ويدعو باسم أحب وزرائه إليه، ويعتقدون أن الدخان يرقى إلى السماء فيكون ذخراً للميت بين يدي الله عز وجل ليفوز بذلك عنده، وهم ناقلة من خراسان، والإسلام هناك فاش وهؤلاء الأتراك يفادون المسلمين واليهود إذا أسروا في جهة من الجهات التي تليهم، ويحسنون قرى الضيفان، وهم على أحوال مرضية إلا في إباحة نسائهم لعبيدهم وأضيافهم وكل من أراد الخلوة بهن، وانهم بذلك في منزلة الكلاب. انكلاس (5) هي أكبر بلاد كوار قطراً وأكثرها تجارة وعندهم معادن الشب الخالص المتناهي في الطيب وأهل هذه المدينة يتجولون حتى ينتهوا إلى بلاد وارقلان وسائر أرض المغرب الأقصى، وأهلها يلبسون ثياب الصوف ويربطون على رؤوسهم كرازية ويتلثمون بفواضلها ويسترون أفواههم وهي عادتهم يتوارثونها. وهذا الشب الذي يكون في بلد كوار بالغ في نهاية الجودة وهو كثير الوجود ويتجهز به في كل سنة إلى سائر البلاد بما لا يحصى كثرة ومعادنه لا تنقص كبير نقص، وأهل تلك الناحية يذكرون أنه ينبت نباتاً ويزيد في كل حين بمقدار ما يؤخذ منه مع الساعات ولولا ذلك لأفنوا الأرض كلها لكثرة ما يخرج منه ويتجهز به، إلى جميع الأرض. انقولاية (6) هو حصن بينه وبين حصن علمريه (7) في آخر ممالك الروم خمسون ميلاً وهو في فحص فيه سبعة أجبل في كل جبل حصن يسمى الطلائع، وأهله لا يحرثون ولا يزرعون إلا يسيراً ولا ينتشرون على بعد، إنما معايشهم من أشجار كروم عوالي الحصون. وحصن انقولاية على نهر بينه وبين البحر ثلاثة أيام وبناؤه أحسن بناء وليس يسكنه إلا الرهبان ونفر من اليهود، والمقدم عليهم يسمى البطرباج كبطرباج بيت المقدس ويعظمه النصارى ويوقرونه وينقادون له ولم يزل ملوك القسطنطينية يبعثون بالأموال
أنصنا
إلى البطرباج بحصن انقولاية ويعظمونه في كتبهم، واليهود في حصن انقولاية في ذل وصغار عظيم إنما هم أقل من العبيد يشتم المرء منهم ويضرب فلا ينطق بلفظة، والحنطة وجميع الحب الذي يختبز قليل بحصن انقولاية إنما تكثر عندهم الفواكه والأشربة. أنصنا (1) مدية في البلاد المصرية قديمة شرقي النيل وهي حسنة البساتين والمتنزهات كثيرة الثمار والفواكه ويقال إن سحرة فرعون كانوا منها، وجلبهم منها يوم الموعد للقاء موسى عليه السلام، ويقال إن التمساح لا يضر بعدوة أنصنا، ويقال إنها مطلسمة وإنها بها بقية من السحر. وحكى ابن هشام (2) أن مارية سرية النبي صلى الله عليه وسلم التي أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية منها من حفن من كورة أنصنا. وأكثرها الآن خراب وكان بها بربى لم يبق منه اليوم إلا بيت واحد كأنه من صخرة واحدة، وقيل إن مرسى أنصنا لا يقربها التمساح والناس منه آمنون هنالك وأكثر ما يكون عدواناً بالشاطئ الذي يقابل أنصنا فإذا صارت التماسيح في حد أنصنا تحولت على ظهرها حتى تجاوز حدها وكذلك تصنع بفسطاط مصر فوق المدينة بعشرة أميال حتى تخرج من حد المدينة بمثل ذلك. أنطالة حصن عظيم ومعقل منيع من حصون جزيرة صقلية فيه تحصن محمد بن عباد (3) القائم بأمر المسلمين في جزيرة صقلية، فلما كانت سنة ست عشرة وستمائة عقد الصلح مع الأنبرور طاغية جزيرة صقلية وغيرها على أن يدخل تحت طاعته ويأخذ جميع أمواله وذخائره ويجهزه في قطائع إلى ساحل إفريقية ولا يقتله، وأبت ابنته أن تدخل في هذا الصلح وامتنعت في هذه القلعة وقالت لأبيها: أنا فداك فإن لقيت خيراً اتبعتك وإن كان غير ذلك فلا بد أن أنكي أعداءك وآخذ بثأرك على قدر الاستطاعة. ولما جذفت به القطائع وغابوا عن العيون قال له الموكلون به: إن السلطان قد وفى لك ولم يحنث في يمينه وها نحن قد توجهنا إلى إفريقية وهو لم يقتلك ونحن نغرقك ونريح دين المسيح منك، فالذي صنعت في هذه الجزيرة مثله لا ينسى، ثم غرقوه وعادوا بجميع أمواله إلى الأنبرور وحمدت ابنته رأيها وزادت بصيرة في الامتناع بذلك المعقل المعانق للسحاب، وجعلت تغادي شن الغارات وتراوحها بمن خاف غدر الأنبرور من فرسان المسلمين ورجالهم، ثم أرسلت في سنة تسع عشرة إلى الأنبرور: إني امرأة وقد بليت بمحاربة الرجال ومداراتهم وقد ضقت ذرعاً بالأولياء منهم والأعداء وضعفت نفسي ومعي من صناديد الأبطال من لا ينقاد بمرادي فأرحني وأرح نفسك وأهل مملكتك من هذا النصب الدائم بأن توجه لي ثلثمائة من أبطالك الذين لا يهابون ولا ينخدعون لأدخلهم ليلاً إلى هذا الحصن ويحتوون عليه فإذا ملكوه ودخلت أنا بعد ذلك في طاعتك لم يكن بعد ذلك شيء يتوقع منه عائد، فأفكر فيما خاطبتك به والله يخير ويختار قال: وكان الأنبرور قد طالت إقامته وإقامة جموعه على حصارها فرأى ذلك غنيمة لا يجب أن يؤخر انتهاز الفرصة فيها، فاختار ذلك العدد وأرضاهم وأنفذهم في الليل ففتحت لهم باب قلعتها وفرقتهم على أبطاله بحيل تمت عليهم، فلما ولى الظلام وتبينت الوجوه ركب الأنبرور إلى جهة الحصن يطلع إلى أعلامه كيف هي على سوره فإذا برؤوس أبطاله معلقة ما بين شرفاته، وأعلام المسلمين منشورة وطبولهم عاملة وكلمتهم عالية، فسقط في يده، ونظر الفرنج إلى ما لم يكن في حسابهم ولا خطر لهم أنه يتم في المنام بالأحلام، قال: فأراد الأنبرور أن يبلغ (4) في هذه القضية غرضه بحيلة تتوجه عليها، فأرسل إليها: أنت قد عشت ولا أبالي من مات من أهل ملتي وقد ظهر لي أن ما في الدنيا امرأة تصلح أن يكون لي منها ولد غيرك فتعالي حتى نتم ذلك، فأنت إن بقيت على ما أنت عليه وحصلت في أيدي الفرنج قطعوك عضواً عضواً، فاختاري لنفسك ما ترينه مصلحة. فأجابت: وصلني كتابك وفهمت حقه وباطله. وأبلغني بعض عيوني الذين لم أزل أبثهم عليك أنك قلت: إن هذا عجب امرأة تمكر بثلثمائة رجل، وليس هذا بعجب وقد أنزل في الكتاب المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ذكر النساء " إن كيدهن عظيم " فهذا من ذلك، وإنما العجب مني ومنك
أنداره
إذ أنا مقيمة في نشزة من الأرض ولا ناصر، وأنت تملك مسيرة نصف شهر ولك الجيوش التي تغص بها الأرض والخزائن والأموال والخواص أصحاب الآراء وقد أثر فيك توقفك وشغلتك عن مهمات أمورك وقدرت عليك أكثر مما قدرت علي وأنكيت فيك أشد من نكايتك في، وها أنا أقطع عليك السلاسل في الحيل، فتكفي حيلتك في أبي ثم حيلتي في أبطالك، ومن الآن فايئس أن أحصل لك في يد وفي جسدي روح، وأنا مقاتلتك ومكايدتك حتى تفنى ذخائري التي بهذا الحصن ويعجز أهل حمايتي، فإذا انتهيت إلى هذا الحد فعلت ما سيبلغك، قال: فيئس الأنبرور منها وقال ما لهذه إلا المطاولة، فبنى حصناً في مرابطة حصنها وصار جنده يترددون على ذلك الحصن كلما كلت طائفة استجد غيرها إلى أن بلغت الحد الذي وعدت به فسمت نفسها. انده (1) مدينة من كور بلنسية. أنداره (2) مدينة عظيمة في شرق الأندلس خربت في فتنة البربر. انمو (3) هي مدينة الملك بالصين وبينها وبين ساحل البحر الحبشي مسيرة ثلاثة أشهر، وقيل بل مدينة الصين العظمى التي ينزلها ملكهم تسمى جمدان، وهي مذكورة في حرف الجيم، ولما سار الجمهور من ولد عامور على ساحل البحر الحبشي حتى انتهوا إلى أقاصيه من بلاد الصين تفرقوا في تلك الجهات وقطنوا تلك الديار وعمروها ومصروا الأمصار واتخذوا للملك مدينة انمو. أنيشة (4) بالشين المعجمة والجيم معاً، موضع على مقربة من بلنسية وبالقرب من بنشكلة من أرض الأندلس، وعقبة أنيشة جبل معترض عال على البحر والطريق عليه، ولا بد من السلوك على رأسه وهو صعب جداً. وفيه كانت الوقيعة بين المسلمين من أهل بلنسية وبين النصارى، واستشهد فيها الأديب المحدث العلامة أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي (5) مصنف كتاب الاكتفاء في سير النبي صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء وكانت هذه الوقعة في سنة أربع وثلاثين وستمائة، وكان خطيباً راوية ناظماً ناثراً، ورثاه الكاتب أبو عبد الله بن الأبار القضاعي بقصيدة طويلة أولها: الما بأشلاء العلى والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم أحسن فيها ما شاء، وفيها: سقى الله أشلاء بسفح أنيشة ... سوافح تزجيها ثقال الغمائم وفيها (6) : سلام على الدنيا إذا لم يلح بها ... محيا سليمان بن موسى بن سالم ورثاه أيضاً الفقيه الكاتب أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزمي فقال من قصيدة: وأعظم ميت فجعنا به ... حليف الندى الماجد الواهب وذاك سليمان لا غائب ... إذا الأمر جد ولا لاعب فلله من حقه جانب ... وللصحب من أنسه جانب فأي امرئ صار نحو الردى ... كما صمم الصارم القاضب وأي مناقب ملء الزمان ... يلم بها بعده النادب فيا نور علم تبدى لنا ... شهاب لناظره ثاقب (7) ويا طود علم تخف الحلوم ... وهو على حاله راسب ألا في سبيل هداة السبيل ... مضاؤك حين نبا الهائب هربت إلى الله في موطن ... على عاره حصل الهارب وغودرت نهب عفاة الفلا ... فنال الذي شاءه الناهب إذا كان للدود ميت القبورل ... فللذئب أكرم والناعب فلقاك ربك رضوانه ... وجادك منه الحيا الساكبُ
أصيلة
وإن الذي نلت من قربه ... لأفضل ما يطلب الطالب عليك السلام إلى غاية ... من الموت كل لها ذاهب أندرش (1) مدينة من أعمال المرية، هي من أنزه البلدان، وفيها يقول أبو الحجاج ابن عتبة الاشبيلي الطبيب الأديب الشاعر وقد مر عليها: لله أندرش لقد حازت على ... حسن تتيه به على البلدان النهر منساب سرت خلجانه ... في الروض بين أزاهر الكتان فكأنما انسابت هناك أراقم ... قد عدن راجعة عن الثعبان أصيلة (2) بلد بقرب طنجة ويقال فيه أزيلة بالزاي، وهي مدينة كبيرة قديمة عامرة آهلة كثيرة الخير والخصب، وكان لها مرسى مقصود، وكان سبب خرابها أن المجوس لما خرجوا من البحر الكبير أول ما يلقاهم مدينة أصيلة فينزلون مرساها ويخربون ما قدروا عليه منها فيجتمع البرابر ويحاربونهم فكانوا معهم على ذلك حتى خلت مع ما كان بين أهل تلك البلاد من الفتن. ويقال إن المجوس قصدوا إليها مرة فاجتمع البرابر لقتالهم فقالوا لهم: ما جئنا لقتال وإنما لنا ببلدكم أموال وكنوز فتنحوا عنا حتى نستخرجها لكم ونشاطركم فيها، فرضي البربر بذلك واعتزلوا عن الموضع الذي ذكروه لهم، فحفر المجوس موضعاً من تلك المواضع التي زعموا فوجدوا مطامير من الدخن فاستخرجوه، فلما نظر البربر من بعيد إلى صفرة الدخن ظنوه تبراً فبدروا إليهم ونقضوا عهدهم وهرب المجوس إلى مراكبهم، فلما أصاب البربر الدخن ندموا ورغبوا إلى المجوس أن يرجعوا إلى استخراج المال، قالوا لهم: قد رأينا منكم نقض العهد فلا نأمنكم أبداً. وأصيلة أول مدن العدوة من جانب الغرب، وهي في سهل من الأرض وحولها رواب لطاف والبحر بغربيها وجوفيها، وكان عليها سور له خمسة أبواب، ولجامعها خمس بلاطات، وإذا ارتج البحر بلغ الموج إلى حائط الجامع، وسوقها حافل يوم الجمعة، وماء آبار المدينة شريب، وبخارجها آبار عذبة، ومرساها مأمون، والمدخل إليها من الشرق، ويستدير بالمرسى من ناحية الجوف جسر من حجارة مخلوقة تطيف على السفن المرساة فيه، وهي مدينة محدثة، وكان سبب بنائها أن المجوس نزلوا مرساها مرتين، أما الأولى، فانهم أتوا وزعموا أن لهم بها أموالاً وكنوزاً فاجتمع البربر لقتالهم على ما قدمناه، وذلك في أيام الإمام عبد الرحمن بن الحكم وأما خروجهم الثاني فإن الريح قذفتهم في ذلك المرسى منصرفهم من الأندلس وعطبت لهم على باب المرسى من ناحية المغرب مراكب كثيرة، ويعرف ذلك الموضع بباب المجوس إلى اليوم، فاتخذ الناس موضع أصيلة رباطاً فأتوه من جميع الأمصار، وكانت تقوم فيه سوق جامعة ثلاث مرات في السنة، وهو وقت اجتماعهم وذلك في شهر رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء، وكان الموضع ملكاً للواتة فابتنى فيه قوم من كتامة واتخذوه سوقاً جامعاً وتسامع الناس أمرها من الأندلس وأهل الأمصار فقصدوها في الأوقات المذكورة بضروب السلع، ثم بنوا شيئاً بعد شيء فعمرت فقدمها القاسم بن ادريس فملكها وبنى سورها ومصرها وبها قبره، ووليها إبراهيم ابنه ثم حسين بن إبراهيم ثم صار أمرها إلى حسن الحجام منهم ثم استولى عليهم ابن أبي العافية (3) وكان الحجام يستعمل عليها الولاة. قالوا وتفسير أصيلة جيدة، وبقبلي أصيلة قبائل لواتة وبنو زياد من هوارة وبين القبلة والغرب منها عين تعرف بعين الخشب ثرة، وأصيلة بغربي طنجة (4) . ومن أصيلة أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي (5) أصله من كورة شذونة من بلاد الأندلس وكان جده من مسالمة أهل الذمة ورحل أبوه إبراهيم إلى أصيلة من بلاد العدوة ثم رحل في طلب العلم وجال في الآفاق وأوغل في بلاد المشرق ولقي الرجال، وتفنن في الرأي والحديث، وكان من جلة العلماء وصنف كتباً كثيرة نفاعة، وسمع بخبره أمير المؤمنين الحكم وكان معتنياً بهذا الشأن
اصبهان
فاستجلبه من العراق فأقبل إلى الأندلس، فلما وصل إلى المرية مات الحكم فانعكس أمله وبقي حائراً، وكان مقلاً ثم نهض إلى قرطبة حضرة السلطان ونشر بها علمه، فشرق فقهاؤها بمكانه وبقي مدة مضاعاً حتى هم بالانصراف إلى المشرق، ثم علق بحبل محمد بن أبي عامر قيم الدولة الهشامية وكان عرف مكانه في العلم وبعد أثره فيه، فرغب في اصطناعه وأجرى عليه الرزق فنعشه (1) به ثم أخرج أمر السلطان بتقديمه للشورى ثم ولي قضاء سرقسطة، وكان من حفاظ مذهب مالك إلا أنه على مذهب العراقيين من أصحابه، ومن تواليفه " الدلائل على أمهات المسايل " توفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة على أثر موت ابن أبي عامر. اصبهان ليست هذه الباء بخالصة ولذلك يكتبها بعض الناس بالفاء وهي مكسورة الأول، سميت بأصبهان بن نوح وهو الذي بناها، وقيل سميت اصبهان لأن اصبه بلسان الفرس البلد وهان الفرس، معناه بلد الفرسان. ولم يكن يحمل لواء الملك منهم إلا أهل اصبهان لنجدتهم وكانوا معروفين بالفروسية والبأس، وهي من بلاد فارس، وهما مدينتان بينهما مقدار ميلين إحداهما تعرف باليهودية وهي أكبرهما، والثانية تعرف شهرستان وفي كل واحد منهما منبر، واليهودية مثلاً شهرستان في المساحة، وهما أخصب مدن الجبال وخراسان. وذكر ابن سعيد أن اصبهان اثنتا عشرة مدينة (2) بعضها قريب من بعض والمتميزة منها بالشهرة جي وشهرستان واليهودية. وكان الططر قد قاسوا عليها زحوفاً لم يقاسوها على غيرها من بلاد الإسلام إلى أن نشأ بين رئيس الشفعوية ورئيس الحنفية فتنة فقتل الشفعوي الحنفي وسما ابن الحنفي لطلب الثأر فسار إلى الططر وضمن لهم أن الحنفية معه، فأرسلوا معه جمعاً عظيماً فكان ذلك سبباً لأن غلبوا عليها فأبقوا على الحنفية وأفنوا الشفعوية وهدموا ديارهم وأحرقوا أملاكهم. وكور أصبهان ثمانون فرسخاً في مثلها وهي بضعة عشر رستاقاً، والرستاق الإقليم بلغتهم، وفي كل رستاق ثلاثمائة وستون قرية، وليس بالعراق إلى خراسان بعد الري مدينة أكبر من اصبهان ومنها يرتفع العتابي والوشي وسائر ثياب الابريسم والقطن إلى الآفاق، وبقرب اصبهان معدن الكحل وهو الاثمد مصاقب لفارس، ومن اصبهان يتجهز به إلى كل بلد ومدينة اصبهان أكثر البلاد يهوداً، وفي الخبر: يتبع الدجال من مدينة اصبهان أكثر من أربعين ألفاً عليهم الطيالسة. ومن أهل اصبهان داود بن علي بن خلف الأصبهاني (3) قيل كان في مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر، وكان من المتعصبين للشافعي، وصنف كتابين في فضائله، وإليه انتهت رياسة العلم ببغداد. ومنها أيضاً أبو الفرج الأصبهاني صاحب الكتاب الكبير في الأغاني كان عالماً حافظاً. وبأصبهان لقي قحطبة أحد أكابر قواد السفاح عامر بن ضبارة فقتله في سنة إحدى وثلاثين ومائة وكان في مائة ألف وخمسين ألفاً، وكان قحطبة في اثنين وثلاثين ألفاً فبلغت عدد الرؤوس من السبي التي جمعت لقحطبة من أصحابه عشرين ألفاً وصار في يديه من ذراريهم عشرون ألفاً إلى غير ذلك من الأمور الجليلة. اصطخر مدينة من كور فارس ولها نواح، وهي مدينة كبيرة جليلة كثيرة الأرزاق والتجارات بناؤها بالطين والحجارة والجص، وهي أقدم مدن فارس وأشهرها اسماً، وكانت دار ملوكها إلى أن ولي ازدشير الملك فنقل ملكهم إلى جور وجعلها دار الملك. ويروى أن سليمان عليه السلام كان يسير من طبرية إليها في غدوة أو عشوة، وبها مسجد يعرف به، وباصطخر قنطرة تسمى قنطرة خراسان وهي قنطرة حسنة، وخارج القنطرة أبنية ومساكن بنيت في عهد الإسلام، ومن اصطخر إلى شيراز ستة وثلاثين ميلاً، وهواء اصطخر فاسد وخيم، وبها تفاح يكون نصف التفاحة حلواً صادق الحلاوة والنصف الآخر حامضاً صادق الحموضة وفي الأخبار المشهورة التي ينقلها الناس أن سليمان عليه السلام كان يغدو من اصطخر فيتغدى ببيت المقدس ويروح من بيت المقدس فيتعشى باصطخر، وذكر أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه عدونا من اصطخر نقلناه ونحن رائحون فآتون الشام إن شاء الله تعالى. وكان باصطخر بيت نار معظم والناس يذكرون أنه مسجد
سليمان عليه السلام وهو على نحو فراسخ من اصطخر، وهو بنيان عجيب وهيكل عظيم وفي أعلاه صور محكمة من الصخر من الخيل وسائر الحيوان، يحيط بذلك كله سور عليه صور الأشخاص يزعم من جاور هذه المواضع أنها صور الأنبياء، وفي جوف هذا الهيكل الريح غير خارجة منه في ليل ولا نهار لها هبوب وحفيف يذكر من هناك أن سليمان عليه السلام حبس الريح فيه وأنه كان يتغدى ببعلبك من الشام ويقيل بتدمر ثم يتعشى بهذا المسجد، فقال يوماً للريح: تيامني أو تياسري، فسارت إلى أرض فيها قصر أبيض فسارع من كان مع سليمان عليه السلام، فدخلوا القصر فإذا ليس فيه أحد يسألونه عن حال القصر وعن الباني له وإذا على القصر نسر واقع، فقال سليمان عليه السلام للنسر: من بنى هذا القصر؟ فقال النسر: يا نبي الله لا أدري من بناه وأنا عليه مذ ثمانمائة عام، هكذا أصبته، فسارع بعض من كان مع سليمان عليه السلام فكتب على القصر: غدونا من قرى اصطخ؟ ... ر للقصر فقلناه فمن يسأل عن القصر ... فمبنياً وجدناه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه ونقل من خط أبي بكر ابن عروة أن سليمان عليه السلام رأى يوماً في الصحراء بناء فأمر الريح فأمت به ذلك البناء فإذا قصر مبني من النحاس عليه شرفات وله سبعة أبواب على كل باب سبعة أقفال، فقرأ كتباً على حيطان القصر فوقع على المفاتيح فاحتفر فأخرجها وفتح القصر فإذا عتبة الباب من الذهب الأحمر وعليها كتابة باللازورد: من برجيس رحلنا، وبالقصر قلنا ومن يسأل عن القصر فمبنياً وجدنا فقال: لا إله إلا الله إن هذا لأمر عجب، رحل هؤلاء من برجيس غدوة ولحقتهم القائلة هنا وبين برجيس وهذا الموضع مسافة طويلة. ثم دخل فأصاب فيه مقاصير كثيرة فأقبل يفتح وينظر ما فيها من العجائب، ثم إنه فتح مقصورة فأصاب فيها رجلاً مدرجاً في أكفانه على سرير من الحديد الصيني طوله أربعون ذراعاً ملقى على قمحدوته، فوضع يده على صدره فصار رماداً من طول ما أتى عليه من الأزمنة والدهور، فقال: لا إله إلا الله لكأن هذا الشخص لم يعمر في الدنيا قط، وإذا بحربة من ذهب مركوزة عن يمين السرير، وعن شماله أخرى مكتوب في إحداهما: إنما الدنيا ساعة ويوم، ... ورقدة بينهما ونوم، ... يعيش قوم ويموت قوم، ... والدهر يمضي ما عليه لوم. ... وفي الأخرى: ملكنا وقدرنا، وقهرنا وتركنا ... وقضى الموت علينا، بعد هذا فذهبنا ... وإذا بلوح من ذهب مكتوب فيه: إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت لهن تذوب المهج وحل البلاء وبان العزاء ... فعند التناهي يكون الفرج وإذا تحت السرير مائدة من الحديد الصيني عليها ملح جريش وعليها مكتوب: أكل على هذه المائدة سبعون ألف ملك أعور سوى الأصحاء والبصراء وسوى الراقد على هذا السرير، ثم خرج من القصر وأصحابه، ورد مفاتيحه إلى موضعها، فإذا نداء من قبل الله عز وجل: يا سليمان إنما كانت المسئلة قبل أن يعطيك الله الملك ألا ينبغي لأحد من بعدك فأما من كان قبلك فبلغ أكثر من ذلك. وذكر الطبري (1) أن فتح اصطخر الأخير كان سنة ثمان وعشرين وسط إمارة عثمان رضي الله عنه على يد الحكم بن أبي العاص، فأما فتحها الأول (2) ففي أيام عمر رضي الله عنه قصدها عثمان بن أبي العاص فالتقى هو وأهلها بجور فاقتتلوا ما شاء الله تعالى ثم فتح الله عز وجل على المسلمين حور واصطخر ودعاهم عثمان إلى الجزية فأذعنوا، وجمع عثمان ما أفاء الله فخمسه وبعث بالخمس إلى عمر رضي الله عنه وقسم الباقي في الناس وعف الجند
اصطبة
عن النهاب وأدوا الأمانة فجمعهم عثمان وقال لهم: إن هذا الأمر لا يزال مقبلاً (1) وأهله معافون مما يكرهون ما لم يغلوا فإذا غلوا رأوا ما يكرهون. ثم إن سهرك (2) خلع في آخر إمارة عمر رضي الله عنه وسطا على فارس ودعاهم إلى النقض فوجه إليه عثمان بن أبي العاص ثانية (3) وأمده بالرجال واقتتلوا، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة وولي قتل سهرك الحكم بن أبي العاص أخو عثمان بن أبي العاص. وذكر المبرد (4) أن المهلب بن أبي صفرة كتب إلى الحجاج وهو مواقف للأزارقة يسأله أن يتجافى عن اصطخر ودرابجرد لأرزاق الجند ففعل، وقد كان هدم قطري بن الفجاءة رأس الخوارج اصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا واشتراها منه آزاد مرد ابن الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها فوافقه المهلب فهزمه فنفاه إلى كرمان واتبعه المغيرة ابنه. وإلى اصطخر فر كسرى حين دخل عليه المسلمون المدائن وغلبوه عليها فأخذت أمواله ونفائس عديدة، وأخذت له خمسة أسياف لم ير مثلها، أحدها سيف كسرى ابرويز وسيف كسرى أنوشروان وسيف النعمان بن المنذر الذي كان استلبه منه حين قتله غضباً عليه وألقاه إلى الفيلة فخبطته بأيديها حتى مات وقال الطبري: أنه مات في سجنه في الطاعون الذي كان في الفرس وسيف خاقان ملك الترك وسيف هرقل وكان تصير إلى كسرى أيام غلبته على الروم في المدة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه في قوله " الم غلبت الروم في أدنى الأرض " وفي رواية أخرى: فتح أبو موسى الأشعري رضي الله عنه اصطخر سنة ثلاث وعشرين، وخبرها في آخر السابع من " الاكتفاء " بعد ذكر توج. اصادة (5) مدينة اصادة قرب سبتة من أرض المغرب فيها آثار الأول، وهي ذات أعناب وأشجار كثيرة، وهي بقبلي يجاجين هنالك بينهما ستة أميال، ويجاورها على الطريق أربعة أصنام. اصطبة (6) مدينة بالأندلس على خمسة وعشرين ميلاً من قلشانة، ومن قلشانة وهي قاعدة شذونة إلى قرطبة أربعة أيام ومن الأميال مائة ميل وعشرة أميال. اضم (7) واد دون المدينة المكرمة، وفي السير عن عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس فخرجنا حتى إذا كنا ببطن اضم مر بنا عامر بن الأضبط على قعود له معه متبع له ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره وأخذ متبعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا " إلى آخر الآية. اغرناطة (8) مدينة بالأندلس بينها وبين وادي آش أربعون ميلاً وهي من مدن إلبيرة، وهي محدثة من أيام الثوار بالأندلس وإنما كانت المدينة المقصودة إلبيرة فخلت وانتقل أهلها إلى اغرناطة ومدنها وحصن أسوارها وبنى قصبتها حبوس الصنهاجي ثم خلفه ابنه باديس بن حبوس، فكملت في أيامه وعمرت إلى الآن، ويشقها نهر يسمى حدرة وبينها وبين إلبيرة ستة أميال، وتعرف بأغرناطة اليهود لأن نازلتها كانوا يهوداً، وهي اليوم مدينة كبيرة قد لحقت بأمصار الأندلس المشهورة، وقصبتها بجوفيها وهي من القصاب الحصينة. وجلب الماء إلى داخلها من عين عذبة تجاورها، والنهر المعروف بنهر فلوم ينقسم عند مدينتها قسمين: قسم يجري في أسفل المدينة وقسم يجري في أعلاها يشقها شقاً فيجري في بعض حماماتها وتطحن الأرحاء عليه خلال منازلها، ومخرجه من جبل هناك، وتلقط في جرية مائه برادة الذهب الخالص، ويعرف بالذهب المدني. ومقبرة أغرناطة بغربيها عند باب إلبيرة. وفحص إلبيرة أزيد من مسافة يوم في مثله يصرفون فيه مياه الأنهار كيف شاءوا كل أوان من جميع الأزمان، وهو
اغنا
أطيب البقاع بقعة وأكرم الأرضين تربة لا يعدل به مكان غير غوطة دمشق وساحة (1) الفيوم، ولا يعلم شجرة تستعمل وتستغل إلا وهي أنجب شيء في هذا الفحص، وما من فاكهة (2) توصف وتستطرف إلا وما هناك من الفاكهة يفوقها، ويجود فيها من ذلك ما لا يجود إلا بالساحل من اللوز وقصب السكر مما أشبههما، وحرير فحص إلبيرة هو الذي ينتشر في البلاد ويعم الآفاق، وكتان هذا الفحص يربي جيده على كتان النيل ويكثر حتى يصل إلى أقاصي بلاد المسلمين، وبإلبيرة معادن جوهرية من الذهب والفضة والصفر والحديد والرصاص والتوتياء، وجبل الثلج هو جبل يشرف على جبل إلبيرة. اغنا (3) بجزيرة سرنديب، وتعرف اغنا هذه بجزيرة القصر (4) وهي دار ملك سرنديب، وسيأتي ذكرها في حرف السين المهملة إن شاء الله تعالى. اغمات بأرض المغرب بقرب وادي درعة وبينها وبين نفيس مرحلة، وبينها وبين أغمات (5) ست مراحل في قبائل البربر المصامدة وأهل أغمات (6) تجار مياسير يدخلون بلاد السودان بقناطير الأموال من النحاس الملون والأكسية وثياب الصوف والعمائم وصنوف النظم من الزجاج والأصداف والأحجار وضروب الأفاويه والعطر وآلات الحديد المصنوع، ولم يكن في دولة الملثمين أكثر أموالاً منهم، ولأبواب منازلهم علامات تدل على مقادير أموالهم، وتغيرت بعد ذلك أحوالهم لإتيان المصامدة على أكثر أموالهم وفيهم مع هذا نخوة واعتزاز وبها ضروب من الفواكه وأنواع من النعم. واغمات مدينتان إحداهما تسمى اغمات وريكة والأخرى اغمات هيلانة (7) وبينهما نحو ثمانية أميال، وبأغمات وريكة تسكن الأعيان وبها ينزل التجار على القديم لأنها كانت دار التجهز للصحراء، وهي في فحص أفيح طيب التراب، والمياه تخترقها يميناً وشمالاً وحولها جنات وبساتين وأشجار ملتفة، وبها نهر جريته من القبلة إلى الجوف يشق المدينة بعضه، وماؤه زعاق وعليه أرحاء وحوله بساتين كثيرة، وهي بلد متسع كثير الرخاء والخصب إلا أنه وخيم الهواء (8) وألوان أهله مصفرة والعقارب القتالة فيه كثيرة، وبينه وبين البحر مسافة أربعة أيام وأقرب المراسي إليه مرسى بلد ركراكة وهو أحد مراسي سواحل الغرب يقرب من البحر المحيط تنزل فيه السفن ولا تخرج إلا بالرياح العاصفة في زمن الشتاء عند تكدر الهواء وتحمل السفن من مدينة نفيس تفاحاً جليلاً يباع بها منه وقر بعير بنصف درهم. وكانت إمارة أهل اغمات دولاً بينهم يتولى الرجل منهم عن تراض واتفاق. وهذا النهر المذكور يدخل المدينة يوم الخميس والجمعة والسبت والأحد، وباقي الجمعة يأخذونه لسقي جنانهم. وهذه المدينة يكنفها جبل درن وثلوج جبل درن تسيل في اغمات، وربما جمد نهرها في وسط المدينة حتى يجتاز الأطفال عليه. وفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة غزا عبد الله بن ياسين اغمات واستولى على بلاد المصامدة سنة خمسين، وقتل ببلد برغواطة سنة إحدى وخمسين وعلى قبره اليوم مشهد مقصود ورابطة معمورة، ولم يقتل عبد الله بن ياسين حتى استولى على سجلماسة وأعمالها والسوس كله وأغمات ونول لمطة والصحراء. وبأغمات قبر أبي القاسم محمد بن عباد جلبه إليها يوسف بن تاشفين فلم يزل بها حتى مات وقبره هنالك معروف، وإياه عنى شاعره في تأبينه بقوله من قصيدة (9) : " وقل لعالمها السفلي " قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات من قصيدة مشهورة. ويسكنها (10) يهود تلك البلاد، وكان علي بن يوسف منع اليهود من سكنى مراكش فلا يدخلها أحد منهم إلا نهاراً ثم ينصرفون في العشية، وليس دخولهم إياها إلا لأموره وما يختص
إفريقية
به، ومتى عثر على أحد منهم بات بها استبيح ماله ودمه. افرندين موضع بالعراق بناحية المدائن. قال أنس بن الحليس (1) : بينا نحن محاصرون بهرسير أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل إلى المصالحة سبيل على أن لنا ما بين دجلة وحملها ولكم ما يليكم من دجلة إلى حملكم، أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم. فبدر الناس الأسود بن قطبة وقد أنطقه الله عز وجل بما لا يدري ما هو ولا نحن، فأجابه بالفارسية ولا يعرف منها شيئاً ولا نحن، فرجع ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا فلان ما قلت له؟ قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما أدري ما هو إلا أني غلبتني سكينة وأرجو أن أكون أنطقت بالذي هو خير وأتى الناس يسألونه حتى سمع ذلك سعد، فجاء فقال: يا أسود ما قلت لهم فوالله انهم لهراب، فحدثه مثل حديثه إيانا، فنادى بالناس ثم نهد بهم فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه، فقال: ما بقي أحد فيها فما يمنعكم، فتسورها الرجال وافتتحناها، فسألناهم وذلك الرجل لأي شيء هربوا، فقال: بعث إليكم الرجل فعرض عليكم الصلح، فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حي نأكل عسل افرندين بأترج كوثى، فقال الملك: يا ويلاه ألا أرى الملائكة تكلم على ألسنتهم فترد علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك ما هو إلا شيء ألقي على في هذا الرجل لننتهي، فأرزوا إلى المدينة القصوى. إفريقية (2) عمل كبير عظيم في غرب ديار مصر، سميت بافريقس بن أبرهة ملك اليمن لأنه غزاها وافتتحها، قيل كان بالشين المعجمة ثم عرب بالسين وقال قوم: معنى إفريقية صاحبة السماء، وقيل سميت بافريق بن إبراهيم عليه السلام من زوجه قطورا، وقيل أهل إفريقية من ولد فارق بن مصر. وطول إفريقية من برقة شرقاً إلى طنجة غرباً وعرضها من البحر إلى الشرق وبها يصاد الفنك الجيد ورووا عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ففصلوا فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة البرد الذي أصابهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكن إفريقية أشد برداً وأعظم أجراً "، وفي رواية أخرى " إن البرد الشديد والأجر العظيم لأهل إفريقية "، وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال: ينقطع الجهاد من البلدان كلها فلا يبقى إلا بموضع في المغرب يقال له إفريقية فبينما القوم بازاء عدوهم نظروا إلى الجبال قد سيرت فيخرون لله تبارك وتعالى سجداً فلا ينزع عنهم أخفافهم إلا خدامهم في الجنة ". وغزا إفريقية (3) عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة سبع وعشرين ومعه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر ومروان بن الحكم رضي الله عنهم وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسميت غزوة العباد أو العبادلة، وبرز جرجير ملك إفريقية لابن الزبير فقتله ابن الزبير رضي الله عنهما وحوى المسلمون غنائم كبيرة وبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وغلبوا على كل مدينة فيها وفتحوها عنوة، وكان سلطان جرجير من طرابلس إلى طنجة، وكان جرجير لما عزم على لقاء المسلمين أخرج ديدبانه وهو منظر من خشب، وأمر ابنته فصعدت الديدبان وسفرت عن وجهها وكان معها أربعون خادماً في الحلي والحلل، وقدم كراديسه وهو تحت الديدبان وقال: والمسيح لا قتل عبد الله بن سعد رجل منكم إلا زوجته إياها وسقت إليه ما معها من الخدم والنعمة وأنزلته مني المنزلة التي لا يطمع فيها أحد عندي، وبلغ خبره عبد الله فقال لأهل عسكره: وحق محمد النبي صلى الله عليه وسلم لا قتل أحد منكم جرجير إلا نفلته ابنته وما معها، وكان في عشرين ألفاً وجرجير في عشرين ومائة ألف، وتزاحف الناس، ورأى ابن الزبير رضي الله عنهما عورة من جرجير - رآه خلف أصحابه منقطعاً عنهم على برذون أشهب معه جاريتان تظللانه بريش الطواويس - فدخل على عبد الله بن سعد من كسر خبائه وهو مستلق على فراشه يفكر في أمره فقال له: عورة من عدونا وخشيت الفوت فاخرج فاندب الناس، فخرج فقال: أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم، قال: فتسرع إلي جماعة أخذت منهم ثلاثين فارساً قلت: إني حامل فاصرفوا عن ظهري من أرادني فإني سأكفيكم ما أمامي إن شاء الله تعالى: ثم حمل في الوجه الذي هو فيه، وذبوا عنه وابتغوه، فخرق الصفوف إليه فحسب أنه رسول فلما رأى السلاح ثنى برذونه هارباً، وأدركته، قال: فطعنته فسقط ميتاً فرميت بنفسي عليه
إفراغة
وألقت جاريتاه أنفسهما فقطعت يد إحداها، وأجهزت عليه ورفعت رأسه على رمحي، وجال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فقتلوهم كيف شاءوا، وثارت الكمناء من كل ناحية وسبقت خيول المسلمين ورجالهم إلى حصن سبيطلة فمنعوهم من دخوله وركبهم المسلمون يميناً وشمالاً في السهل الوعر، فقتلوا أنجادهم وفرسانهم وأكثروا فيهم الأسر حتى لقد كنت أرى في الموضع الواحد ألف أسير. وذكر أشياخ من أهل إفريقية أن ابنة جرجير لما أشرفت على العرب في عسكرهم قالت لأبيها: لا تسرف في قتل هؤلاء ونفلنيهم، قال: قد نحلتك إياهم. فلما قتل أبوها تنازع الناس في قتله وهي تنظر، فقالت: ما للعرب يتنازعون؟ قيل لها: يتنازعون في قتل أبيك، فبكت وقالت: قد رأيت الذي أدرك أبي فقتله، فقال لها عبد الله بن أبي سرح الأمير: هل تعرفينه؟ قالت: إذا رأيته عرفته، فأخذ عبد الله الناس بالعرض فمروا بين يديها حتى مر عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقالت: هذا قاتل أبي، فقال له ابن أبي سرح: كتمت عني قتلك أباها يا أبا بكر، فقال: قد علمه الذي قتلته له، فنفله ابن أبي السرح ابنة الملك فاتخذها أم ولد، وكان ابن الزبير رضي الله عنهما في ذلك الوقت ابن بضع وعشرين سنة، ونزل ابن أبى سرح على باب المدينة فحصرها بمن معه حصاراً شديداً حتى فتحها، فأصاب فيها شيئاً كثيراً وأصاب أكثر أموالهم الذهب والفضة، وهو الذي افترع إفريقية، فكانت توضع بين يديه أكوام الذهب والفضة، فقال للأفارق: من أين لكم هذا؟ فجعل رجل منهم يلتمس شيئاً في الأرض حتى جاء بنواة زيتون فقال: من هذا أصبنا الأموال لأن أهل هذا البحر ليس لهم زيت فكانوا يأتوننا يشترون الزيت منا، وكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار هرقلي وسهم الراجل ألف ديار وبث ابن أبي سرح السرايا والغارات من مدينة سبيطلة فبلغت خيله قصور قفصة فسبوا وغنموا وحازوها إلى مرماجنة، فأذلت تلك الوقعة الروم بإفريقية وأصابهم رعب شديد، فلجأوا إلى الحصون والقلاع، واجتمع أكثرهم بقصر الأجم، فطلبوا من عبد الله بن أبي سرح أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار ذهباً على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون من قبل الصلح فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه لهم. ودعا عبد الله بن سعد الأمير عبد الله بن الزبير فقال: ما أحد أحق بالبشارة منك فبشر أمير المؤمنين والمسلمين بالمدينة بما أفاء الله تعالى عليهم، فتوجه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فبعض الناس يقول: دخل المدينة من سبيطلة في ثماني عشرة ليلة، ومنهم من يقول: وافى المدينة في أربعة وعشرين يوماً من خروجه من سبيطلة. ثم انصرف ابن أبي سرح من إفريقية بعد إقامته بها ستة أشهر راجعاً إلى مصر ووصل إلى المدينة فبيع المغنم، فصفق مروان بن الحكم على الخمس وهي خمسمائة ألف دينار فوضعه عثمان رضي الله عنه، فكان ذلك من أسباب القول في عثمان رضي الله عنه وآل الأمر إلى قتله وما تبع ذلك من الفتن، وأصاب الناس ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه من دخول إفريقية في عهده لأنها مفرقة غير مجمعة وأن ماءها قاس ما شربه أحد من المسلمين إلا اختلفت قلوبهم، فلما دخلوها وشربوا ماءها قتلوا خليفتهم عثمان رضي الله عنه، ثم كانت الفتن. وقال أبو عبيد: لما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه طرابلس كتب إلى عمر رضي الله عنه بما فتح الله عليه وأنه ليس أمامه إلا إفريقية، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إذا ورد عليك كتابي هذا فاطو دواوينك ورد علي جندي، ولا تدخل إفريقية في شيء من عهدي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إفريقية مفرقة لأهلها غير مجمعة، ماؤها قاس ما شربه أحد من المسلمين إلا اختلفت قلوبهم "، فأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه العسكر بالرحيل قافلاً وفي رواية ان عمر رضي الله عنه كتب إليه: إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها لا يغزوها أحد ما بقيت. إفراغة (1) مدينة بغربي لاردة من الأندلس بينهما ثمانية عشر ميلاً، وهي على نهر الزيتون حسنة البناء لها حصن منيع لا يرام وبساتين كثيرة لا نظير لها. وحاصرها العدو في جمع كثيف وآلى زعيمهم ابن رذمير على نفسه ألا يبرح حتى يأخذها عنوة، وذلك سنة ثمان وعشرين وخمسمائة في شهر رمضان منها، فنهد إليه يحيى بن علي بعزمة صادقة ونية صحيحة في جموعه فلقاه الله تعالى بركتها وأجناه
أفسيس أو أفسميس أو أفسبين
ثمرتها وهزمه بعد أن قتل أكثر رجاله والجملة التي بها كان يصول من أبطاله، وفر اللعين وسيوف المجاهدين تأخذ منه، وعزيمتهم لا تقلع عنه، إلى أن أوى إلى حصن خرب في رأس جبل شاهق مع الفل الذي بقي معه بعد الامساء وأحدق المسلمون تلك الليلة بذلك الحصن يرقبونه ولما أيقن أنه سيصطلم إن أقام هناك تسلل في ظلمة الليل من ذلك الموضع واتخذ الليل جملاً، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلاً، وانصرف المسلمون مغتبطين بغنيمتهم وأجرهم، وكان ذلك سبباً لبقائها بأيدي المسلمين إلى أن ينقضي أجل الكتاب ففي صفة الحال يقول شاعر الشرق في وقعة يحيى بن علي هذه أبو جعفر ابن وضاح المرسي من قصيدة يمدحه بها: شمرت برديك لما أسبل الواني ... وشب منك الأعادي نار غيان دلفت في غابة الخطي نحوهم ... كالعين يهفو عليها وطف أجفان عقرتهم بسيوف الهند مصلتة ... كأنما شرقوا منها بغدران هون عليك سوى قوم قتلتهم ... من يكسر النبع لم يعجز عن البان أودى الصميم وعاقت عن بقيتهم ... مقادر أغمدت أسياف شجعان وقفت والجيش عقد منك منتثر ... إلا فرائد أشياخ وشبان والخيل تنحط من وقع الرماح بها ... كأن تصهالها ترجيع ألحان في أبيات غير هذه. أفسيس أو أفسميس أو أفسبين (1) مدينة في رستاق من عمل من الأعمال التي دون خليج القسطنطينية من جهة بلاد الأرمن، وكانت مدينة أفسيس هذه على البحر الرومي فبعد البحر عنها وخربت وأحدثت مدينة على نحو ميل منها، فبعض الناس يقول أصحاب الكهف غير أصحاب الرقيم وكلا موضعيهما بأرض الروم. وذكر محمد بن موسى المنجم (2) حين أنفذه الواثق إلى بلاد الروم أنه أشرف على أصحاب الرقيم بخرمة (3) من بلاد الروم، ويقال إن أفسيس هذه هي مدينة أصحاب الكهف، قالوا: وهم في كهف في رستاق بين عمورية ونيقية، وهذا الكهف في جبل علوه (4) أقل من ألف ذراع وله سرب من وجه الأرض ينفذ إلى الموضع الذي فيه أصحاب الكهف، وفي أعلى الجبل شبيه بالبئر ينزل فيها إلى باب السرب ويمشي فيه مقدار ثلثمائة خطوة ثم يفضي منه إلى ضوء، وهناك رواق على أساطين منقورة فيه عدة أبيات منها بيت مرتفع العتبة مقدار القامة، عليه باب حجارة منقورة وفيه الموتى وهم أصحاب الرقيم وعددهم سبعة، وهم نيام على جنوبهم، وهي مطلية بالصبر والمر والكافور، عند أرجلهم كلب دائر في استدارة رأسه عند ذنبه ولم يبق منه إلا القحف وأكثر أعظمه باقية حتى لا يخفى منه شيء. قال مؤلف نزهة المشتاق (5) : ووهم أهل الأندلس في أصحاب الرقيم حين زعموا أن أصحاب الرقيم هم الشهداء الذين هم في مدينة لوشة، قال ورأيت القوم في هذا الكهف عام عشرة وخمسمائة فنزلنا إليهم من فم بئر عمقها نحو من قامة وزائد، ومشينا في سرب فيه ظلمة خطوات قلائل ثم اتسع الغار فألفينا هناك الموتى وهم رقود على جنوبهم وعددهم سبعة وعند أرجلهم كلب ملتو، وقد ذهب لحمه وجلده وبقيت عظامه في فقاراته كما هي في الحياة، ولا يعلم أحد في أي زمن دخلوا هذا الكهف أو ادخلوا إليه، وأول رجل يلفى منهم له خلق عظيم ورأس كبير، وأهل الأندلس يقولون إن هؤلاء القوم الذين في هذا الكهف هم أصحاب الكهف، والصحيح ان أصحاب الكهف من قدمنا ذكرهم وفي ذكرنا في الرقيم في حرف الراء بعض خبرهم أيضاً فتأمله.
إفرنجة
إفليل مدينة برأس عين من أرض الجزيرة ما بين دجلة والموصل منها أبو القاسم إبراهيم بن محمد الإفليلي (1) من ولد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كان صدراً في علم الأدب يقرأ عليه ويختلف فيه إليه، وله رواية. افرن بناحية الأربس (2) من البلاد الإفريقية، وهما: افرن الكبرى وافرن الصغرى، وإلى الكبرى منهما انتهى أحمد بن مرزوق (3) الثائر بإفريقية في طلب عبد العزيز بن ابراهيم فوجد الجموع وأخلاط الناس قد سبقوا إليه وأحاطوا به فقتلوه ونهبوا المحلة ورجع أحمد هذا غانماً إلى تونس. إفرنجة (4) في وسط الإقليم الخامس، هواؤها غليظ لشدة بردها، ومصيفها معتدل، وهي بلاد كثيرة الفاكهة غزيرة الأنهار المنبعثة من ذوب الثلج، ومدائنها متقنة الأسوار محكمة البناء، وآخر حدودها بحر الشام (5) والبحر المحيط بجوفها وتتصل ببلاد رومة أيضاً من ناحية القبلة، وتتصل أيضاً من ناحية الجوف ببلاد القالبة بينهما شعراء ملتفة مسيرة الأيام الكثيرة، وتتصل في الشرق بالقالبة أيضاً، وتتصل في الغرب بالبش كنس، وتتمادى أعمال إفرنجة في الطول والعرض مسيرة شهرين في شهرين، ويحجز بين بلاد إفرنجة وبلد الصقالبة من الجوف والشرق الجبل المعترض بين البحرين، فيتمادى بلد الأفرنج مع ساحل البحر الشامي حتى يلزق بجزيرة رومة (6) ، ويتمادى مع الجبل المعترض في الجوف إلى البحر المحيط ويتصل بالصقالبة بلاد المجوس المعروفين بالانقلش (7) ، وسيوف افرنجة تفوق سيوف الهند، ومنها يرد الرقيق النفيس وإليها يرد الرقيق من بلاد الصقالبة (8) ولا يكاد يرى ببلد افرنجة زمن ولا ذو عاهة، والزنا في غير ذوات الأزواج عند الافرنج غير منكر، وإذا حلف أميرهم أو كبيرهم حانثاً استهانوه ولم يزالوا يعيرونه بذلك، وأبناء الأشراف عندهم يسترضعون في الأباعد ولا يعرف الابن أبويه حتى يعقل وإذا عقل رد إليهما فيراهما كالسيدين ويكون لهما كالعبد. وكانت مملكتهم مجتمعة وأمرهم ملتئماً حتى ثار على (9) رجل منهم يسمى قارله، قومس (10) يقال له ردبيرت (11) وذلك في عهد الإمام عبد الله، فحشد له قارله وزحف بعضهما إلى بعض فقتله قارله وأسر أصحاب ردبيرت قارله فمكث عندهم أسيراً أربعة أعوام ثم هلك بأيديهم فافترق ملكهم واقتسم. والافرنجة من ولد يافث هم والجلالقة والصقالبة والنوكبرد والاشبان والترك والخزر وبرجان واللان ويأجوج ومأجوج، والافرنجة تدين بدين النصرانية برأي الملكية منهم، ودار ملكهم الآن بويرة (12) وهي مدينة عظيمة ولهم من المدائن نحو من خمسين ومائة مدينة، وقد كانت مملكتهم قبل ظهور الإسلام بإفريقية وجزيرة صقلية وجزيرة اقريطش، والافرنجة أكثر هذه الأمة عدة وأحسنهم انقياداً لملوكهم وأكثرهم مدداً وأول ملوكهم قلوديه (13) وهو أول من تنصر، وكانوا مجوساً، فنصرته امرأته واسمها قلوطلد (14) . ويحكى أن موسى لما غزا الأندلس أراد أن يخرق ما بقي عليه من بلاد افرنجة ويفتح الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملاً أن يتخذ مخترقه تلك الأرض طريقاً مهيعاً يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحراً وأنه أوغل في بلاد افرنجة حتى انتهى إلى مغارة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنماً عظيماً قائماً كالسارية مكتوباً فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي: يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا فهاله ذلك وقال: ما كتب هذا إلا لمعنى، وشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه، فاختلفوا عليه، فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس وقد أشرفوا على قطع البلد وتقصي الغاية.
اقنت
افكان (1) مدينة بين تلمسان وتنس وبها أرحاء وحمامات وقصور وفواكه كثيرة وعليها سور تراب تهدم وبقي الآن أثره، وواديها يشقها بنصفين ويمضي منها إلى تيهرت. اقريطش (2) جزيرة في البحر الشامي، وهي جزيرة عامرة كثيرة الخصب وبها مدن عامرة ودورها خمسة عشر يوماً وبينها وبين ساحل البحر يوم وليلة، وقال هرشيوش: طولها مائة واثنان وسبعون ميلاً في عرض خمسين ميلاً، وقال غيره: دور أقريطش ثمانمائة ميل. وقال آخرون: طولها من الشرق إلى الغرب ثلثمائة ميل ويقال هي مجريان ونصف وبينها وبين الأرض الكبيرة ستون ميلاً من ناحية الغرب ومن شرقيها إلى الأرض الكبيرة يومان، والأرض الكبيرة هي أرض الروم التي تتصل بالشام. ونظر اقريطش إلى صاحب القسطنطينية، وبينها وبين جزيرة صقلية مسيرة تسعمائة ميل وفيها من المدن مدينة ربض الخندق، وبها معدن ذهب وأشجار وفواكه وفي أجبلها الوعول الكثيرة وقيل طولها من الشرق إلى الغرب اثنا عشر يوماً في ستة أيام. وبين اقريطش وجزيرة قبرس أربعة مجار، وسميت اقريطش لأن أول من عمرها رجل يقال له قراطي، وتسمى أيضاً اقريطش البتربلش وترجمته مائة مدينة، وكذلك كان بها مائة مدينة وباقريطش أول ما استنبطت صناعة الموسيقى، وهي كثيرة المعز وليس بها إبل ولا سبع ولا ثعلب ولا غيرها من الدواب الدابة بالليل ولا فيها حية وإذا دخلت فيها ماتت في ذلك العام، وهي كثيرة الكروم والأشجار، ومراسيها من ناحية الشرق مرسى الفتوح وهو مرسى مشتى لا نظير له في موضع، ومراس كثيرة لا حاجة إلى ذكرها. وذكر عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة، ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح افتتح جزيرة اقريطش وكان غزا بامرأته قتيلة بنت عمرو بن عبد كلال في البحر، فرأت في المغانم خاتماً أعجبها فسألت عبد الله بن سعد أن يعطيها الخاتم فقال: لا أستطيع إنما هو للمسلمين ولكن إن أردت أن تشتريه فاشتريه. ولما جرى على أهل الأندلس من الربض أيام الحكم بن هشام ما جرى خرج منهم عدد عظيم فنزل منهم طوائف ساحل البربر واستوطنوها، وذهبت أيضاً منهم فرق نحو المشرق فلحقوا بمدينة الإسكندرية وهم أزيد من عشرة آلاف ولهم هناك أثر باق إلى اليوم فثاروا بالإسكندرانيين ثورة أهلكت منهم خلقاً كثيراً، وتملك الأندلسيون الإسكندرية، وكان سبب ثورة الأندلسيين بهم أن قصاباً منهم رمى وجه رجل من الأندلسيين بكرش فأنفوا من ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه، ثم صالحهم عامل من عمال العباسية بمصر على أن ينزلوا حيث شاءوا من أطراف الإسكندرية ومصر فاختاروا جزيرة اقريطش فتحملوا إليها ونزلوها وتملكوها، وكان الأمير منهم أبو حفص عمر بن عيسى وولده بعده فكانت مدة تملكهم لها نحو ثمانين سنة، وغزاها الطاغية سنة خمس وأربعين وثلثمائة، فغلب على مدينتها بعد حصار طويل، وامتنعت عليه منها حينئذ حصون كثيرة ثم استولى على جميعها بعد حين، فجميع من بقي باقريطش من المسلمين إنما هم تحت حكم النصارى. وكان باقريطش علماء جلة من الأندلسيين منهم الفتح بن العلاء قاضيها وإسحاق بن سالم وموسى بن عبد الملك ومحمد بن عمر أخو يحيى بن عمر المعروف بابن أبي الدوانق ثم خرج إلى مصر وبها توفي، وإسماعيل بن بدر وابنه محمد وابن ابنه إسماعيل ابن محمد، وهلك إسماعيل هذا في الحصار وأصاب العدو أهله وماله. وممن شهر بالعلم من ذرية أبي حفص: عمر بن عيسى بن محمد بن يوسف بن أبي حفص وله كتاب في معاني القرآن وغرائبه، ألفه في حبس القسطنطينية يدل على علمه باللسان واتساع باعه في العلم. وباقريطش الافثيمون الذي لا يعدل به ولا عوض عنه في جميع البلاد. اقنت (3) مدينة في أرض الحبشة على الساحل في الجنوب وهي صغيرة وأكثرها خراب وأهلها قليل وأكلهم الذرة والشعير وسمكهم موجود وصيدهم كثير، وعامة أهلها يعيشون من لحوم الصدف المتكون في أقاصير بحرهم يملحونه ويصيرونه إداماً لهم. اقليش (4) مدينة لها حصن في ثغر الأندلس، وهي قاعدة كور شنتبرية وهي محدثة بناها الفتح بن موسى بن ذي النون وفيها كانت ثورته وظهوره في سنة ستين ومائة، ثم اختار اقليش داراً
اقليبيا
وقراراً فبناها ومدنها وهي على نهر منبعث من عين على رأس المدينة فيعم جميعها ومنه ماء حمامها ومن العجائب البلاط الأوسط من مسجد جامع اقليش فإن طول كل جائزة من جوائزه مائة شبر وأحد عشر شبراً وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف. اقليبيا (1) مدينة كبيرة قديمة على ساحل البحر بأقصى جزيرة شريك قبلي مدينة تونس إلا أنها خربت ولم يبق منها الآن إلا قلعتها في قنة جبل وبقية سورها القائم على الساحل ظاهر اليوم وبينه وبين القلعة مسافة، وهي على نظر واسع وعمل كبير وعمارات عريضة وجبايات واسعة، والسفن تقصدها للميرة ولها مرسى، وجبل ادار قريب منها. أقش (2) مدينة هي كانت قاعدة الجليقيين بينها وبين ليوزذال ثلاثون ميلاً، وكانت أقش قبل هذا منسوبة إلى غرسية بن لب، وهي مبنية بالصخر المربع الكبير، وهي على نهر كبير يدخل منه المجوس بمراكبهم إليهم، وفي المدينة حمة غزيرة الماء واسعة الفضاء يستحم أهلها في جنباتها على بعد من عنصرها لشدة سخونته. اقيانس (3) هو اسم لبحر الظلمات ويقال له البحر الأخضر والمحيط الذي لا يدرك له غاية ولا يحاط بمقداره ولا فيه حيوان، وهو الذي يخرج منه البحر الرومي الذي هو بحر الشام ومصر والمغرب والأندلس، فإنه خليج يخرج من هذا البحر وقد خاطر بنفسه خشخاش من الأندلس، وكان من فتيان قرطبة، في جماعة من أحداثها فركبوا مراكب استعدوها ودخلوا هذا البحر وغابوا فيه مدة ثم أتوا بغنائم واسعة وأخبار مشهورة. وإنما يركب من هذا البحر ما يلي المغرب والشمال وذلك من أقاصي بلاد السودان إلى برطانية وهي الجزيرة العظمى التي في أقصى الشمال، وفيه ست جزائر تقابل بلاد السودان تسمى الخالدات ثم لا يعرف أحد ما بعد ذلك، وستأتي إن شاء الله تعالى حكاية أخرى عمن دخل هذا البحر أطول من هذه في موضعها في ذكر الأشبونة. اسكر (4) قرية من أعمال مصر، ويقال إنها القرية التي ولد فيها موسى بن عمران عليه السلام قال حسين بن الاسكري المصري (5) : كنت في جلاس تميم بن أبي تميم ومن يخف عليه جداً قال: فأرسل إلى بغداد فابتيعت له جارية رائقة فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه وكنت فيهم ثم مدت الستارة وأمر بالغناء فغنت: وبدا له من بعدما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه وبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظراً إليه وصده سجانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه فطرب الأمير تميم ومن حضره، ثم غنت: سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره قال: فطرب تميم أشد من الأول، ثم غنت: أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه قال: فاشتد طرب تميم وأفرط جداً ثم قال لها: تمني ما شئت فقالت: أتمنى عافية الأمير وسعادته، فقال: والله لا بد لك من التمني، قالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى قال: نعم،
استجة
فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداد، قال: فامتقع لون تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس، وقام وقمنا، قال ابن الاسكري: فلحقني بعض خدمه وقال: ارجع فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وقمت بين يديه، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنا به! فقلت: نعم أيها الأمير، قال: لا بد لنا من الوفاء وما أثق في هذا بغيرك فتأهب لتجلبها إلى بغداد فإذا غنت هناك فاصرفها، قلت: سمعاً وطاعة، قال: ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية لها سوداء تخدمها وأمر بناقة ومحمل فأدخلت فيه وحملتها معي وسرت إلى مكة مع القافلة فقضينا حجنا ثم دخلنا قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء فقالت: تقول لك سيدتي أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية، فانصرفت إليها فأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد ارتفع بالغناء تقول: لما وردنا القادسية حيث مجتمع الرفاق ... وشممت من أرض الحجاز نسيم أنفاس العراق ... أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق ... وضحكت من فرح اللقاء كما بكيت من الفراق ... ما بيننا إلا تصرم هذه السبع البواقي ... حتى يطول حديثنا بصنوف ما كنا نلاقي ... فتصايح الناس من أقطار القافلة: بالله أعيدي، قال: فما سمع لها كلمة، قال: ثم نزلنا الياسرية وبينها وبين بغداد خمسة أميال في بساتين متصلة ينزل الناس بها فيبيتون ليلتهم ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان قرب الصباح إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة فقلت: ما لك. قالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت: ويلك وأين هي؟ قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك. ودخلت بغداد وقضيت حوائجي بها وانصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له ثم ما زال بعد ذلك واجماً عليها. استجة (1) بين القبلة والمغرب من قرطبة، بينهما مرحلة كاملة، وهي مدينة قديمة لم يزل أهلها في جاهلية وإسلام على انحراف وخروج عن الطاعة، ومعنى هذا الاسم عندهم جمعت الفوائد، وفي أخبار الحدثان انه كان يقال: استجة البغي مذكورة باللعنة والخزي، يذهب خيارها ويبقى شرارها. وكانت هيئتها التي ألفاها عليها طارق بن زياد أن سورها كان قد عقد بسورين أحدهما صخر أبيض والثاني صخر أحمر بأجمل صنعة وأحكم بناء، وردم بينهما وسوي ووضع في موضع الشرفات من المرمر صور بني آدم من كل الجهات تواجه القاصد نحوها فلا يشك الناظر أنها رجال وقوف. وكان لها من الأبواب: باب القنطرة شرقي، باب اشبونة قبلي، باب رزق غربي، باب السويقة جوفي، وغير ذلك من الأبواب، والمدينة مبنية على الرصيف الأعظم المسلوك عليه من البحر إلى البحر، وكانت استجة واسعة الأرباض ذات أسواق عامرة وفنادق جمة وجامعها في ربضها مبني بالصخر له خمس بلاطات على أعمدة رخام وتجاوره كنيسة للنصارى. وباستجة آثار كثيرة ورسوم تحت الأرض موجودة، وهي منفسحة الخطة عذبة الأرض زكية الريع كثيرة الثمار والبساتين نضيرة الفواكه والزروع، ولها أقاليم خمسة. وكان أهل استجة ممن خلع وخالف فافتتحها عبد الرحمن بن محمد على يد بدر الحاجب سنة ثلاثمائة فهدم سورها ووضع بالأرض قواعدها وألحق أعاليها بأسافلها وهدم قنطرة نهرها وفي ذلك يقول أحمد بن محمد بن عبد ربه: ألا انه فتح يقر له الفتح ... فأوله سعد وآخره نجح سرى القائد الميمون خير سرية ... تقدمها نصر وتابعها فتح ألم تره أردى باستجة العدى ... فلاقوا عذاباً كان موعده الصبح فلا عهد للمراق من بعد هذه ... يتم لهم عند الإمام ولا صلح تولوا عباديداً بكل ثنية ... وقد مسهم قرح وما مسنا قرح وبين استجة ومرشانة عشرون ميلاً وكذلك بينها وبين قرمونة.
إسكندرية
إسكندرية (1) مدينة عظيمة من ديار مصر بناها الإسكندر بن فيلبش فنسبت إليه، وهي على ساحل البحر الملح، وذلك أن الإسكندر لما استقام له الملك في بلاده وهي رومة وما والاها من بلاد الروم وكان رومياً فيما يقال خرج يختار أرضاً صحيحة الهواء والتربة والماء ليبني فيها مدينة يسكنها فأتى موضع الإسكندرية فأصاب فيها أثر بنيان وعمد رخام منها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد: أنا شداد بن عاد، شددت بساعدي الواد، وقطعت عظيم العماد، وشوامخ الجبال والأطواد، وبنيت إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا مدينة كإرم، وانقل إليها كل ذي قدم، من القبائل والأمم، فأصابني ما أعجلني، وعما ذهبت إليه قطعني، فارتحلت عن هذه الدار، لا لقهر ملك جبار، ولا لخوف جيش جرار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الآثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري، وطول عمري، فلا يغتر بالدنيا بعدي. فلما رأى الإسكندر طيب أرض ذلك المكان وصحة هوائه ومائه عزم على بناء مدينة في ذلك الموضع، فبعث إلى البلاد فحشد الصناع واختط الأساس واستجلب العمد الرخام وأنواع المرمر الملون والأحجار في البحر من جزيرة صقلية وبلاد إفريقية واقريطش، فبناها على آزاج وطبقات قد عمل لها مخاريق ومتنفسات للضوء يسير الفارس وبيده رمح فيه فلا يضيق عليه منها طريق من تلك الآزاج حتى يدور جميع بلد الإسكندرية وكانت أسواقها مقنطرة كلها فلا يصيب أهلها المطر، وبنى أسوارها من أنواع الرخام الأبيض والملون وكذلك جميع قصورها ودورها فكانت تضيء بالليل بغير مصباح لشدة بياض الرخام وربما علق على أسوارها وقصورها شقق الحرير الأخضر لاختطاف بياضها أبصار الناس، وبنى عليها سبعة أسوار أمام كل سور خندق وسور فصيل، فيقال إنها كانت أعظم مدينة بنيت في معمور الأرض وأغربها بنياناً. وبنى المنار الذي ليس على قرار الأرض مثله على طرف اللسان الداخل في البحر من البر وجعله على كرسي من زجاج على هيئة السرطان في جوف البحر، وجعل طوله في الهواء ألف ذراع وجعل في أعلاه المرآة، وكانت المرآة قد ركبت من أخلاط عجيبة غريبة فيبصر فيها ما يأتي من مراكب العدو على مسيرة أيام فيتأهب لهم فإن قربت المراكب من البلد عملت أخلاط بأدهان يعرفونها وطليت بها المرآة وعكس شعاعها على تلك المراكب فأحرقها وجعل في المنار تماثيل من نحاس وطلاسم كثيرة تمنع وتدفع ولها خواص، منها تمثال مشير بيده نحو العدو فإذا صار منه على مقدار ليلة فإن دنا وأمكن أن يرى بالبصر سمع لذلك التمثال صوت هائل على ميلين وثلاثة، وتمثال آخر كلما مضى من الليل أو من النهار ساعة سمع له صوت طرب بخلاف الصوت الذي كان منه قبل ذلك، فمن الناس من يرى أن هذه المنارة من بناء الإسكندر ومنهم من يرى أن دلوكة الملكة بنتها ومنهم من يرى أن جيرون الملك بناها، وقيل إن الذي بنى الأهرام بمصر بناها، وقيل الذي بنى رومة بناها وبنى الإسكندرية، قال: وإنما أضيفت إلى الإسكندر لسكناه بها وغلبته على ممالك الأرض، وقيل إن الإسكندر كان لا يخاف أن يطرقه عدو في البحر ولا يهاب ملكاً فيجعل لذلك مرقباً وحراساً، وقيل إن أول من ملك الإسكندرية فرعون واتخذ فيها مصانع ومجالس وهو أول من عمرها ثم تداولتها الملوك من بعده، وأن سليمان عليه السلام اتخذها مسكناً وبنى فيها قصوراً ومصانع عجيبة من بناء الجن له وبنى في المنار مسجداً متقناً هو باق إلى الآن، والأصح أن الإسكندر بناها من أولها واختط أساسها وبنى المنار فيها وعمل المرآة في أعلاها، فيقال إنه ما ظهر العدو في البحر إلا بعد زوال تلك المرآة، وكان ملك الروم أعمل الحيلة في زوال المرآة من المنار: فبعث خادماً من خواص خدمه ذا دهاء ومعرفة، فجاء مستأمناً إلى بعض الثغور فحمل إلى الوليد فأعلمه أنه كان من خواص ملك الروم وأنه أراد قتله لموجدة لم يكن لها حقيقة وأنه هرب منه ورغب في الإسلام، فأسلم بين يدي الوليد وأظهر له النصح في أشياء خدمه فيها ثم إنه استخرج له دفائن في دمشق وغيرها من بلاد الشام بكتب كانت عنده، فلما رأى ذلك الوليد شرهت نفسه وتمكن طمعه وباحثه عما عنده من هذا الفن فقال: إن الإسكندر استولى على ممالك العالم واحتوى على الأموال والذخائر التي كانت لشداد بن عاد وغيره من ملوك العرب والعجم فبنى لها الآزاج والسرادب والأقباء وأودعها تلك الذخائر والأموال والجواهر ثم بنى فوقها تلك المنارة التي بالإسكندرية فلو هدم ذلك المنار لاستخرج من تحته من الأموال والذخائر التي كانت لشداد بن عاد. فصدق ذلك الوليد وطمع فيه وبعث من خواصه من يقف معه على هدم المنار، وأمر صاحب الإسكندرية
أن يعينه على جميع ما يريد، فهدم ذلك الرومي قدر نصف المنار فأزال المرآة التي كانت غرضه وأراد هدم الكل فضج أهل الإسكندرية وعلموا أنها مكيدة وحيلة، فلما استفاض ذلك خشي الرومي على نفسه فهرب في الليل في مركب كان قد أعده لذلك الوقت، وبقيت المنارة على ذلك المقدار. وارتفاع هذا المنار ثلثمائة ذراع بالرشاشي (1) وهو ثلاثة أشبار، وأمر الإسكندرية ومنارها أشهر من أن يطال الكتاب بذكره، وبين الإسكندرية والمنارة في البحر ميل وفي البر ثلاثة أميال. والإسكندرية من عمالة مصر قاعدة من قواعدها، وأرض مصر تتصل حدودها من جهة الجنوب ببلاد النوبة ومن جهة الشمال بالبحر الشامي ومن جهة الشام بفحص التيه ومن جهة الشرق ببحر القلزم ومن جهة الغرب ببلاد الواحات. فأما المنار اليوم فهو ثلاثة أحزم، الأول مربع البناء قد عمل أحسن عمل بحجارة مربعة قد أخفي الصاقها حتى صارت كالحجر الواحد لم يغيره الزمان، وارتفاعه ثلثمائة ذراع وعشرون ذراعاً ثم ترك في أعلاه قدر غلظ الحائط وهو ثمانية أشبار ونحو عشرة أذرع سوى الغلط ورفع ما بقي من البناء مثمن الشكل طوله ثمانون ذراعاً ثم ترك غلظ حائطه وهو أقل من غلظ الأسفل وهو ثمانية اذرع سوى ذلك، ثم أقيم عليه بناء مربع الشكل ارتفاعه خمسون ذراعاً أو نحوها، وفي أعلى ذلك مسجد ينسب لسليمان عليه السلام وفي الناحية الشمالية من البناء كتابة بالنحاس لم يقدر أحد على فكها ولا معرفة ما هي، وباب المنار من حديد لا يعلم له عهد ويرقى إلى الباب من أسفل المنار في علوة لا تتبين وكذلك إلى أعلى الحزام الأول في طريق يمشي فيه فارسان متواكبان (2) في أرض سهلة لا يعلم الراقي فيه هل هو راق أو ماش، وفي كل عطف من هذا العقد باب دار في داخلها بيوت مربعة، سعة كل بيت منها من عشرين ذراعاً إلى عشرة أذرع قد فتح لها مضاو ومنافس للهواء لئلا تهدمها الرياح، وعدد ما في المنار من البيوت ثلثمائة وأربعة وستون بيتاً، وعطف مطالعها من أسفلها إلى أعلاها اثنان وسبعون عطفاً في كل عطف اثنتا عشرة درجة، وبيوتها كلها آزاج معقودة، وبناء المنار كله معقود بخشب الساج، وعدد أبوابه الظاهرة اثنان وعشرون باباً فتحت لتخترقه الرياح ولولا ذلك لهدمته وهذا المنار من دخله ولم يعرف مسالكه تاه فيه وضل لأن فيه طرقاً تؤول إلى أسفله وإلى البحر، ويقال إن جيش صاحب المغرب حين وصل الإسكندرية وذلك في خلافة المقتدر دخل جماعة منهم المنار على خيولهم ليروا ما فيه من الغرائب فتاهوا وتهوروا هم ودوابهم وفقد منهم عدد كبير. وكان البحر أثر في أسفل المنارة من غربيها كالكهف العظيم فسد بعض أمراء مصر ذلك الثلم بأساطين الرخام بعضها فوق بعض، فالبحر يضرب اليوم في تلك الأساطين فلا يوثر فيها شيئاً. وفي جهة الشمال من المنار، بناء عظيم عريض قد ارتفع من فم البحر حتى ظهر على وجه الماء يدل على أنه كانت عليه مصانع قد ذهبت، ويسمى ذلك البنيان الفاروس، وتحته مرسى السفن لأنه يكف عنها الريح والموج، وقد زعم قوم أن ذلك الظاهر ليس ببناء وإنما هو هدم من حجارة المنار الذي ذكرناه. ولهذه المنارة بالإسكندرية مجمع في العام يسمونه بخميس العدس، وهو أول خميس من شهر نيسان لا يتخلف في الإسكندرية عن الخروج إلى المنار ذلك اليوم أحد، وقد أعدوا لذلك الأطعمة والأشربة، ولا بد في ذلك الطعام من العدس، فيفتح بابها للناس ويدخلون فيها، فمن ذاكر لله تعالى ومصل ومن لاه متفرغ، فيقيمون إلى نصف النهار ثم ينصرفون، ومن ذلك اليوم بعينه يحترس البحر. وفي المنارة قوم مرتبين يوقدون النار بالليل كله في الحزام الأول، ليؤم أهل السفن سمت تلك النار من جميع البلاد، ويوقد صاحب السفينة النار في سفينته، فإذا رأى المحترسون النار في البحر زادوا في وقود النار وأوقدوها من جهة المدينة، فإذا رأى ذلك محرسو المدينة ضربوا الأبواق والأجراس حذراً من العدو. وكان حول المنار مغايص يستخرج منها أنواع الأحجار، يتخذ منها فصوص الخواتم، وكان حول المنارة من تلك الجواهر كثير، فيقال إن الإسكندر غرق ذلك حول المنار ليوجد هناك إذا طلب فيكون ذلك الموضع أبقى لها ويرى الناس على مر الدهر عظم ملكه وما قدر عليه من وجود ما عز عند غيره، وقيل إنها كانت آلات شراب الإسكندر فلما مات كسرتها أمه ورمتها في تلك المواضع غيرة أن لا تصير لأحد بعده. والقصر الأعظم الذي بالإسكندرية الذي لا نظير له في معمور الأرض اليوم خراب، وهو على ربوة عظيمة بازاء باب الموسم، طوله خمسمائة ذراع وعرضه على النصف من ذلك، ولم يبق منه إلا بعض سواريه، وبابه من أعظم بناء وأتقنه كل عضادة منه
إسكندرونة
حجر واحد وعتبته حجر واحد فيه نحو مائة اسطوانة وفي نحو الشمال منه اسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها، غلظها ستة وثلاثون شبراً وهي في العلو بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر، وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أن بناء كان عليها، وتحتها قاعدة حجر أحمر بديع الشكل محكم عرض كل ضلع من أضلاعه عشرون شبراً في ارتفاع ثمانية أشبار، والاسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض، فإذا اشتدت الرياح رأيتها تتحرك وربما جعلت تحتها الحجارة فتطحنها لشدة حركتها، وهذه الاسطوانة من عجائب العالم، ويقال إن الجن صنعتها لسليمان عليه السلام، وكانت في وسط قبة وحولها أساطين، وعلى الكل قبة شبه الصحفة من حجر واحد رخام أبيض بأحسن صنعة وأغرب إتقان، فلما مات سليمان رفعت الجن تلك القبة ورمت بها في البحر فإنها كانت من أغرب ما عملت الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام. ودخل بعض ملوك مصر الإسكندرية ورأى قصرها فرآه عجيب الشان غريب البنيان فدعا الصناع وسألهم أن يبنوا له مثله فقالوا: لا نقدر على ذلك، فعزم عليهم، فقام إليه شيخ فقال: أنا أبني لك مثله وأحسن منه إن فعلت لي ما أريد، قال: بلى، قال: ايتوني بثورين مطيقين وعجلة فأمر له بذلك، فدخل مقابر الأولين فيها واحتفر قبراً منها واستخرج جمجمة عظيمة فوضعها في العجلة فما جرها الثوران إلا بعد مشقة وجهد فجاءه بها فقال: أصلح الله الملك إن أعطيتني من تكون رؤوسهم مثل هذا الرأس بنيت لك مثل هذا القصر، فعلم أنه لا يقدر على ذلك. ورئي بالإسكندرية قصاب عنده ضرس إنسان يزن به اللحم زنته ثمانية أرطال. وكان بالإسكندرية دار ملعب قد تهدم أكثرها، وكانت قد بنيت بضروب من الحكمة، وكانوا يجلسون فيها لقضاء حوائجهم وأخذ آرائهم، فكان كل جالس فيها إنما جلوسه تلقاء وجه صاحبه لا يخفى على أحد منهم شيء من حال غيره يتساوى قريبهم وبعيدهم في ذلك، وكان لهم يوم مهرجان يجتمعون فيه في هذا الملعب ويحضره رؤساؤهم وأبناء ملوكهم وعامتهم ويلعب فيها الفتيان بالصوالج وبينهم كرة فإن دخلت تلك الكرة كم رجل ممن حضر ذلك اليوم فلا بد له من ولاية مصر، كان هذا عندهم معروفاً لا ينكره أحد. وكان عمرو بن العاصي رضي الله عنه قد سافر إلى الإسكندرية في الجاهلية تاجراً بالقطن والأدم فحضر ذلك الملعب في ذلك اليوم، فلعبوا فيه بالكرة، فدخلت كم عمرو بن العاصي رضي الله عنه، فعجبوا من ذلك وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا اليوم، فكان ما قدر الله تعالى من مجيء الإسلام وولاية عمرو بن العاصي رضي الله عنه مصر ثلاث مرات. والإسكندرية تعجب كل من رآها لبهجتها وحسن منظرها وارتفاع مبانيها وإتقانها وسعة شوارعها وطرقاتها، وهي برية بحرية وفيها من النعم والأرزاق والفواكه ما ليس ببلد، مع طيب هوائها وتربتها. ومن المفسرين من قال إنها إرم ذات العماد، وقال عوف بن مالك حين دخل الإسكندرية لأهلها ما أحسن مدينتكم، فقالوا له: إن الإسكندر حين بناها قال: أبني مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنية، فبقيت بهجتها على الدهور، وكان الفرما أخوه قال: أبني مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس فذهبت بهجتها ولا يزال ينهدم كل يوم فيها شيء. وأمر ملك الروم مرة باحصاء ملوك الإسكندرية ورؤسائها خاصة، فوجدهم ستمائة ألف ملك، وأخبار هذا الصقع كثيرة مستقصاة في المطولات فلنقتصر على هذا القدر. إسكندرونة (1) مدينة أو حصن بينه وبين انطاكية خمسة وأربعون ميلاً، وهو حصن على ساحل البحر فيه نخيل وزروع كثيرة وغلات، وبينها وبين المصيصة أربعون ميلاً. اسبيجاب (2) مدينة متصلة ببلاد الشاش لها قهندز وربض ودار الإمارة والجامع في المدينة الداخلة، وفي ربضها مياه وبساتين، وهي مدينة في مستو من الأرض، وهي ذات خصب وسعة، وليس بخراسان كلها وما وراء النهر منها بلد لا خراج عليه إلا اسبيجاب. أسطور (3) مدينة من مدن الكيماكية، وهم بشر كثير وخلق عظيم من المجوس يعبدون النار، وأسطور عامرة بالأتراك ممتدة الزراعات ومياهها كثيرة وغلاتهم الحنطة والأرز، وبها معدن الحديد ويصنع الصناع بها منه كل عجيبة، وأهلها أنجاد لهم عزم ولذلك لا يمشون إلا وهم حذرون شاكون في سلاحهم وهم أشجع
اسنخوا
الترك نفوساً وأنفذهم عزماً وأنجحهم طلباً، ولهم عند ملوكهم حظوة وإعزاز ولهم أموال واسعة. ومدينة ملكهم خاقان مدينة عظيمة لها أسوار حصينة وأبواب حديد، وللملك بها أجناد وعساكر والملوك بها تهاب سلطانه وتخاف سطوته، وهو ملك عظيم لا يتولى الملك فيهم إلا وهو من أهل الملك. وملك الكيماكية يلبس عليه (1) الذهب وقلنسوة الذهب ويظهر لأهل مملكته في أربعة أوقات من السنة، وله حاجب ووزراء ودولة عادلة، وأهل دولته يحبونه لإحسانه إليهم ونظره في أمورهم، وله قصور ومبان شامخة ومنتزهات وهمم عالية وكرم طبع، وأهل مدينة أسطور، لا يقولون بالهموم ولا تجدها قلوبهم ولا يكترثون بالمصائب، وهم أخصب أهل البلاد وأطيبهم معايش وأكثرهم انفاقاً وأعلاهم همماً ولباسهم الحرير الأحمر والأبيض، ولا يلبس هذا النوع منهم إلا الخاصة، والمياه تخترق أزقتهم وأسواقهم، ومنهم من يدين بدين الصابئة. اسفرايين هي مهرجان (2) في آخر عمل نيسابور من خراسان وبينهما خمس مراحل وقيل اثنان وثلاثون فرسخاً، وهي مدينة كبيرة فيها أسواق ومياه جارية وخانات. اسفي مرسى اسفي في أقصى المغرب، وفي بعض الأخبار أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام أو ساسان، فوقعت بينهم مناوشات وحروب كانت الدائرة فيها لسام وبنيه، وكان آخر أمر حام أن هرب إلى ناحية مصر وتفرق بنوه، ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى انتهى إلى السوس الأقصى إلى موضع يعرف اليوم باسفي، وهو آخر مرسى تبلغه المراكب من عند الأندلس إلى ناحية القبلة وليس بعده للمراكب مذهب، وخرج بنوه في أثره يطلبونه فكل طائفة من ولده بلغ موضعاً وانقطع عنهم خبره أقامت بتلك الناحية وتناسلوا فيه، ولما مات دفنوه بنوه في حجر منقور في جبل أصيلا. ووقوف المراكب عند اسفي (3) لأنه آخر مرسى تصل إليه المراكب كان فيما سلف، وأما الآن فهي تجوزه بأربعة مجار. واسفي عليها عمارات وبشر كثير من البربر، والمراكب تحمل منها أوساقها في وقت السفر وسكون حركة البحر المظلم، ومن مرسى اسفي إلى مرسى ماست مائة وخمسون ميلاً وقد أوردنا في ذكر اشبونة خبر القوم المغررين الذين ركبوا البحر المظلم ليقفوا على نهايته انهم صيروا إلى موضع اسفي، وأن جماعة من البربر رأوهم فتعرفوا أمرهم فقال زعيمهم وا أسفي تحسراً عليهم لما قاسوه، فسمي المكان إلى اليوم اسفي بتلك الكلمة. اسنخوا (4) مدينة بالصين، وهي على بطحاء أرض ممتدة لا ينبت بها شيء إلا الزعفران غرساً ومن ذات نفسه برياً، ومنها يتجهز بالزعفران إلى سائر أمصار الصين ويباع بها منه ما يعم الكل كثرة وطيباً، وقد يعمل بهذه المدينة الحديد (5) والغضار، وليس في بلاد الصين صنعة أجمل من الفخار والرسم، لا يقدمون على الرسم والتصوير صنعة، وإنما تلحق بها في الفضل عندهم صنعة الفخار حتى إنهم يسمون الفخار خالقاً صغيراً والمصور خالقاً كبيراً، ولا يفوق الرسم عندهم صنعة، وملوك الهند والصين لا يتركون الرسم بل يقولون به ويتعلمونه، لا يدني الملك من أولاده إلا أرسمهم وأمهرهم في صنعة الرسم. أسوان (6) في الصعيد آخر بلاد مصر، وفي بلادهم من الجبال والأوعار التي تحول بينهم وبين النوبة ولولا هي لأفسدت النوبة بلاد مصر، والنيل إنما يهبط من بلاد النوبة على صخور وأوعار لا يدخل ذلك الموضع مركب، وأسوان من ثغور النوبة إلا انهم في أكثر الأوقات مهادنون، وكذلك مراكب مصر لا تصعد في النيل إلا إلى مدينة أسوان فقط وهي في آخر الصعيد الأعلى. وإلى أسوان تصعد المراكب من فسطاط مصر وعلى أميال منها جبال وأحجار يجري النيل في وسطها وهذا الموضع فارق بين سفن الحبشة في النيل وسفن المسلمين. وأسوان مدينة صغيرة كثيرة الحنطة وسائر أنواع الحبوب والفواكه والبطيخ الأخضر وسائر البقول، وبها اللحوم الكثيرة من البقر والغزلان والمعز وغيرها من صنوف اللحم العجيبة البالغة في الطيب والسمن وأسعارها أبداً رخيصة، وبها تجارات وبضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة، وليس يتصل بأسوان من جهة المشرق
أسيوط
بلد للإسلام، وعلى مقربة من أسوان، جنوباً من النيل، جبل في أسفله معدن الزمرد وفي برية منقطعة من العمارة، ولا يوجد الزمرد في شيء من الأرض بأجمعها إلا فيه وله طلاب كثيرة، ومن هذا المعدن يخرج ويتجهز به إلى سائر البلاد؛ وأما معدن الذهب فمن أسوان إليه نحو خمسة عشر يوماً من شرق وشمال، ويتصل بأسوان من جهة المغرب الواحات وهي الآن خالية لا ساكن بها وكانت فيما سلف عامرة والمياه تخترق أرضها وبها معز وغنم قد توحشت فهي تتوارى من الناس وتصاد كما يصاد الحيوان البري. ومن أسوان الطريق إلى عيذاب، وعيذاب مدينة على ضفة البحر المغربي المعروف ببحر القلزم، ومن عيذاب يعبر إلى ساحل الحجاز إلى جدة، ومن عيذاب يسلك إلى اليمن والهند وغير ذلك من البلاد. وأهل أسوان عرب من قحطان وربيعة ومضر وقريش ناقلة من الحجاز، وهو خصيب كثير النخل توضع النواة في تربته فتنبت نخلة تثمر لسنتين تمراً، وببلاد البصرة وغيرها لا يغرس النخل إلا من الفسيل وما يخرج من النواة فليس يثمر، وكان لقمان عليه السلام عبداً نوبياً أسود ذا مشافر، ومن النوبة النساء المعروفات بالمقورات لا يقدر أحد على افتضاض أبكارهن ولا مباشرتهن حتى يفتق القوابل من قبلها بقدر ما يحتاج للوطء، وهن أطيب النساء خلوة، فإذا حملت المرأة منهن وأقربت زاد القوابل في شق ذلك المكان فإذا وضعت حملها عادت تلك الزيادة بالأدوية الملحمة حتى يلتئم، أخبر بذلك الثقات. اسلي (1) مدينة في شرقي ارشجول وبمقربة من وهران من أرض المغرب، وهي مدينة قديمة عليها سور صخر وكانت حصينة، ولها نهر يسقي بساتينها وثمارها. أسيوط (2) مدينة على الضفة الغربية من نيل مصر وهي كبيرة عامرة آهلة جامعة لضروب المحاسن كثيرة الجنات والبساتين واسعة الأرضين جميلة حسنة بينها وبين اخميم صاعداً من النيل نصف مجرى. اسقيريا (3) مدينة من مدن الصين على نهر، وهي عامرة وبها ملوك وسادات وجلة وعمال، وبها مجمع أموال الصين التي تصل إلى ملكها الأكبر بعد تخليصها من جميع النوايب، لأن جميع التجارات (4) المجموعة في بلاد الصين براً وبحراً يصل بها عمالها إلى مدينة اسقيريا هذه فيدفعونها هنالك إلى عمال وأمناء يخلصونها ويحاسبون بها وعليها ثم ينصرف العمال إلى بلادهم، فإذا اجتمعت الأموال. بمدينة اسقيريا وكان الوقت المعلوم من العام المؤرخ عندهم جمعت تلك الأموال بأسرها ورفعت إلى مدينة باجة، وهي مدينة الملك الأعظم (5) فيستودع هنالك المال الذي جيء به في خزائن الملك البغبوغ، وهذه سيرة دائمة لا تنقطع، ولا يصل إلى بيت مال الملك شيء يحتاج فيه إلى الإخراج منه إنما يوصل إليه ما كان مخلصاً من جميع النوائب. وأهل اسقيريا يرمون موتاهم في النهر ولا يدفنونهم ألبتة. اشبيلية (6) مدينة بالأندلس جليلة بينها وبين قرطبة مسيرة ثمانية أيام ومن الأميال ثمانون، وهي مدينة قديمة أزلية يذكر أهل العلم باللسان اللطيني ان أصل تسميتها اشبالي معناه المدينة المنبسطة ويقال إن الذي بناها يوليش القيصر وإنه أول من تسمى قيصر، وكان سبب بنيانه إياها أنه لما دخل الأندلس ووصل إلى مكانها أعجبه كرم ساحته وطيب أرضه وجبله المعروف بالشرف، فردم على النهر الأكبر مكاناً وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوار من صخر، وبنى في وسط المدينة قصبتين متقنتين عجيبتي الشأن تعرفان بالأخوين، وجعلها أم قواعد الأندلس واشتق لها اسماً من اسمه ومن اسم رومية فسماها رومية يوليش. ويقال إن اشبانية اسم خاص ببلد اشبيلية الذي كان ينزله اشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس اشبانية، ولم تزل معظمة عند العجم من ذلك الوقت، وقد كان فيها رجال ولوا قيادة العجم العظمى
والمملكة بمدينة رومية، وروي (1) أن المرأة التي قتلت يحيى بن زكريا عليه السلام من اشبيلية من قرية طالقة. وهي كبيرة (2) عامرة لها أسوار حصينة وسوقها عامرة وخلقها كثير وأهلها مياسير، وجل تجاراتهم الزيت يتجهزون به إلى المشرق والمغرب براً وبحراً، يجتمع هذا الزيت من الشرف، وهو مسافة أربعين ميلاً كلها في ظل شجر الزيتون والتين، أوله مدينة اشبيلية وآخره مدينة لبلة، وسعته اثنا عشر ميلاً وفيه ثمانية آلاف قرية عامرة بالحمامات والديار الحسنة، وبين الشرف واشبيلية ثلاثة أميال. ومدينة اشبيلية موفية على النهر وهو في غربيها. ويذكر في بعض الأخبار أن اشبان بن طيطش من ذرية طوبيل بن يافث بن نوح كان أحد أملاك الاشبانيين خص بملك أكثر الدنيا وان بدء ظهوره كان من اشبيلية فغلظ أمره وبعد صيته وتمكن في كل ناحية سلطانه، فلما ملك نواحي الأندلس وطاعت له أقاصي البلاد خرج في السفن من اشبيلية إلى إيليا فغنمها وهدمها وقتل بها من اليهود مائة ألف وسبى مائة ألف وفرق في الأرض مائة ألف، وانتقل رخامها إلى اشبيلية وماردة وباجة، وانه صاحب المائدة التي الفيت بطليطلة وصاحب الحجر الذي وجد بماردة وصاحب قليلة الجوهر التي كانت بماردة أيضاً على حسب ما ذكر في فتح الأندلس، وأنه حضر خراب بيت المقدس الأول مع بخت نصر وحضر الخراب الذي كان مع قيصر بشبشيان، واذريان قيصر يذكر أنه من طالقة اشبيلية. وفي سنة عشرين من دولته اتفق بنيان إيليا، وكان من مضى من ملوك الأعاجم يتداولون بمسكنهم أربعة من مدن الأندلس: اشبيلية وماردة وقرطبة وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها. وكان سور اشبيلية من بناء الإمام عبد الرحمن بن الحكم بناه بعد غلبة المجوس عليها بالحجر، وأحكم بناءها، وكذلك جامعها من بنائه، وهو من عجيب البنيان وجليلها، وصومعته بديعة الصناعة غريبة العمل، أركانها الأربعة عمود فوق عمود، إلى أعلاها، في كل ركن ثلاثة أعمدة فلما مات عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج في محرم سنة إحدى وثلثمائة قدم أهلها أحمد بن مسلمة وكان من أهل البأس والنجدة فأظهر العناد وجاهر بالخلاف، فأخرج إليه عبد الرحمن قائداً بعد قائد حتى افتتحها عليه بدر الحاجب سنة إحدى وثلثمائة واستعمل عليها سعيد بن المنذر المعروف بابن السليم، فهدم سورها وألحق أعاليه بأسفله وبنى القصر القديم المعروف بدار الإمارة وحصنه بسور حجر رفيع وأبواب منيعة، وبني سور المدينة في الفتنة بالتراب. وباشبيلية آثار للأول كثيرة، وبها أساطين عظام تدل على هياكل كانت بها. واشبيلية من الكور المجندة، نزلها جند حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق، وهي من أمصار الأندلس الجليلة الكثيرة المنافع العظيمة الفوائد. ويطل على اشبيلية جبل الشرف، وهو شريف البقعة كريم التربة دائم الخضرة، فراسخ في فراسخ طولاً وعرضاً لا تكاد تشمس منه بقعة لالتفاف زيتونه واشتباك غصونه، وزيته أطيب الزيوت كثير الرفع (3) عند العصر لا يتغير على طول الدهر، ومن هناك يتجهز به إلى الآفاق براً وبحراً. وكل ما استودع أرض اشبيلية وغرس فيها نمى وزكا وجل، والقطن يجود بأرضها ويعم بلاد الأندلس ويتجهز به التجار إلى إفريقية وسجلماسة وما والاها، وكذلك العصفر بها يفضل عصفر الآفاق. وبقبلي مدينة اشبيلية بساتين تعرف بجنات المصلى وبها قصب السكر، وفي آخر نهر اشبيلية من كلتا جانبيه جزائر كثيرة يحيط بها الماء كلأها قائم لا يصوح لدوام ندوتها ورطوبة أرضها، ويصلح نتاجها وتدوم ألبانها ويمتنع ما فيها من الحافر والظلف على العدو فلا يصل إليه أحد، وهذه الجزائر تعرف بالمدائن وبعضها يقرب من البحر. وفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة في جماداها الآخر كان السيل العظيم الجارف باشبيلية المربي على كل سيل وهو مذكور في الثاني من " جالي الفكر " في أول ورقة منه سنة سبع وتسعين وخمسمائة فانقله من هناك.
أشونة
وفي سنة ست وأربعين وستمائة تغلب العدو على مدينة اشبيلية في شعبان منها بعد أن حوصرت أشهراً حتى ساءت أحوال أهلها وخافوا ويئسوا من الاعانة، فأصفق رأيهم على إسلامها للعدو والخروج عنها فكان ذلك، وأجلهم الفنش ريثما يستوفون احتمال ما استطاعوا حمله من أموالهم ثم خرجوا عنها وأقامت خالية ثلاثة أيام وسرح معهم الطاغية خيلاً توصلهم إلى مأمنهم وكان صاحب أناة وسياسة، ويقال إنه لما مات دفن في قبلة جامعها الأعظم. اشكلطورية أرض في ناحية من ايطالية (1) بأرض افرنجة فيها عين ماء من شرب منها من الخلق ارتكبه الهم وخبثت نفسه ولا يزال حزيناً مغموماً فاتراً عابساً. اشروسنة (2) في بلاد خراسان من سمرقند إليها خمس مراحل مشرقاً، واشروسنة اسم للإقليم وليس باسم لمدينة كما أن العراق اسم للأرض والشام مثله وكذلك الصغد وفرغانة والشاش كلها أسماء أرضين فيها عدة بلاد كثيرة، واشروسنة أرض يحيط بها من إقليم ما وراء النهر من شرقيها بعض فرغانة، ومن غربيها بلاد الصغد والصغانيان، وشمالها بلاد الشاش ولأشروسنة مدن كثيرة ومملكتها واسعة جليلة ويقال إن فيها أربعمائة حصن ولها واد عظيم يأتي من نهر سمرقند، وتوجد في ذلك الوادي سبائك الذهب وبين اشروسنة وفرغانة مرحلتان، وأكبر مدن اشروسنة بومنجكث وفيها سكنى الولاة ولها سوران سور على مدينتها وسور على ربضها، وللمدينة بابان: باب الأعلى وباب المدينة، وداخل المدينة المسجد الجامع مع القهندز ودار الإمارة في الربض. وفي المدينة الداخلة نهر كبير عليه رحى، والسجن في قهندزها، والجامع خارج القهندز، وأسواقها في المدينة والربض جميعاً، وسور الربض يشتمل على بساتين وكروم وهو مقدار فرسخ. اشير (3) بلدة أو حصن بينها وبين المسيلة مرحلة، من بلاد الزاب بناها زيري بن مناد الصنهاجي وتعرف بأشير زيري، وكانت مدينة قديمة فيها آثار عجيبة وإنما بنى زيري سورها وحصنها وعمرها فليس في تلك الأقطار أحصن منها، وهي بين جبال شامخة محيطة بها، وداخل المدينة عينان لا يبلغ لهما غور ولا يدرك لهما قعر من بناء الأول، وبالقرب من المدينة بنيان عظيم عجيب يعرف بمحراب سليمن ولم ير بنيان أعظم منه ولا أحكم، فيه من الرخام والأعمدة والنقوش ما يقصر عنه الوصف، وهي جليلة حصينة، وفيها يقول عبد الملك بن عيشون: يا أيها السائل عن غربنا ... هذا وعن محل اشير عن دار فسق ظالم أهلها ... قد شيدت للكفر والزور أشمخها الملعون زيريها ... فلعنة الله على زيري أشتبين (4) حصن بالأندلس على يسار الطريق تحت أصل جبل ممتنع لا يدركه لمقاتل طمع، بنى عليه بعض الملوك حصوناً كثيرة، وحوصر مدة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وبعد لأي ما افتتح وذلك في عقب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة. أشك (5) قرية عامرة على طريق من جاء من فارس، بها حدائق نخل كثيرة وزراعات وغلات جمة، ومنها تحمل الأدياس المنسوبة إلى أشك، وتعمل منها الحصر بالعراق، وهذا الديس مفضل على كل ديس، وبهذه القرية كانت وقعة الأزارقة وكانوا أربعين رجلاً من الشراة امتنعوا في مكان منها فخرج إليهم من الجند ألفا رجل فقتلتهم الازارقة حتى أتوا على آخرهم. أشونة (6) من كور استجة بالأندلس بينهما نصف يوم، وحصن أشونة ممدن كثير الساكن. أشكوني (7) بالأندلس من كور تدمير معروف، ومن الغرائب أن من أراد أن يتخذ فيه جناناً صرف إلى الموضع العناية بالتدمين والعمارة والسقي من النهر فتنبت الأرض هناك بطبعها شجر التفاح
الأهواز
والكمثرى والتين والرمان وضروب الفواكه حاشا شجر التوت، من غير غراسة ولا اعتمال. اشبونة (1) بالأندلس من كور باجة المختلطة بها، وهي مدينة على طريق العساكر فإن الطريق من باجة إلى الأشبونة يعترض مدينة الأشبونة، والأشبونة بغربي باجة، وهي مدينة قديمة على سيف البحر تتكسر أمواجه في سورها واسمها قودية، وسورها رائق البنيان بديع الشان، وبابها الغربي قد عقدت عليه حنايا فوق حنايا على عمد من رخام مثبتة على حجارة من رخام، وهو أكبر أبوابها، ولها باب غربي أيضاً يعرف بباب الخوخة مشرف على سرح فسيح يشقه جدولا ماء يصبان في البحر، ولها باب قبلي يسمى باب البحر تدخل أمواج البحر فيه عند مده وترتفع في سوره ثلاث قيم، وباب شرقي يعرف بباب الحمة، والحمة على مقربة منه ومن البحر بمائين: ماء حار وماء بارد، فإذا مد البحر واراهما، وباب شرقي أيضاً يعرف بباب المقبرة. والمدينة (2) في ذاتها حسنة ممتدة مع النهر لها سور وقصبة منيعة، والأشبونة على نحر البحر المظلم، وعلى ضفة البحر من جنوبه قبالة مدينة الأشبونة حصن المعدن ويسمى بذلك لأن عند هيجان البحر يقذف بالذهب التبر هناك، فإذا كان الشتاء قصد إلى هذا الحصن أهل تلك البلاد فيخدمون المعدن الذي به إلى انقضاء الشتاء، وهو من عجائب الأرض. ومن مدينة الأشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه، ولهم باشبونة موضع بقرب الحمة منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين، وذلك أن ثمانية رجال كلهم أبناء عم اجتمعوا فابتنوا مركباً وادخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر، ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية فجروا بها نحواً من أحد عشر يوماً، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير التروش قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف فردوا قلعهم في اليد الأخرى وجروا في البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا ناظر لها ولا راعي فقصدوا الجزيرة ونزلوها فوجدوا عين ماء جارية عليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث، فقصدوا إليها ليروا ما فيها فما كان إلا غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها في دار فرأوا بها رجالاً شقراً زعراً شعورهم سبطة وهم طوال القدود، لنسائهم جمال عجيب، فاعتقلوا في بيت ثلاثة أيام ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيم جاءوا وأين بلادهم، فأخبروه بكل خبرهم فوعدهم خيراً وأعلمهم أنه ترجمان، فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم احضروا بين يدي الملك فسألهم عما سألهم عنه الترجمان، فأخبروه بما أخبر به الترجمان بالأمس وأنهم اقتحموا البحر ليروا ما فيه من العجائب وليقفوا على نهايته، فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان: أخبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده يركبون هذا البحر وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير فائدة تجدي، ثم وعدهم خيراً وصرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية فعمر بهم زورقاً وعصبت أعينهم وجرى بهم في البحر برهة من الدهر، قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها حتى جاء بنا إلى البر فأخرجنا وكتفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بجملتنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلوا وثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا، فقال: مسيرة شهرين، فقال زعيم القوم: وا أسفي، فسمي المكان إلى اليوم اسفي، وهو المرسى الذي في أقصى المغرب. الأهواز (3) مدينة متصلة بالجبل، فتحها حرقوص بن زهير السعدي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والأهواز هي خوزستان وهي رام هرمز، وبين الأهواز وأصبهان خمسة وأربعون فرسخاً، قالوا: ومن أقام بالأهواز حولاً ثم تفقد عقله فإنه يجد فيه نقصاً بيناً. وقصبة الأهواز تغلب كل من نزل بها من الأشراف إلى طبائع أهلها، ولا يوجد بها أحد له وجنة حمراء،
أوطاس
والحمى بها دائمة، وزعم الجاحظ أن عدة من قوابل الأهواز أخبرنه أنه ربما قبلن المولود فوجدنه محموماً، وجمعت مع ذلك كثرة الأفاعي في جبلها المطل عليها وكثرة العقارب. وكان صاحب الأهواز الهرمزان وفتحها وما يليها حرقوص بن زهير كما قدمناه وكانت له صحبة، بعث به عتبة بن غزوان من البصرة بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وحكى البلاذري (1) أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه غزا سوق الأهواز في ولايته حين شخص عتبة بن غزوان من البصرة آخر سنة خمس عشرة وأول سنة ست عشرة فقاتله البيروان (2) دهقانها ثم صالحه على مال ثم إنه نكث، فغزاها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حين ولي البصرة بعد المغيرة وفتح سوق الأهواز عنوة وفتح نهر تيرى عنوة وولي ذلك بنفسه في سنة سبع عشرة. وروي أنهم غدروا وافتتحت رام هرمز عنوة في آخر أيام أبي موسى، وفتح أبو موسى سرق على مثال رام هرمز. والأهواز موضع يجمع سبع كور، وبلغ عمر رضي الله عنه أن حرقوصاً نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه والجبل كؤود يشق على الناس، فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلاً كؤوداً لا يؤتى إلا على مشقة، فأسهل ولا تشقق على مسلم ولا معاهد وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا ولا تدركنك فترة ولا عجلة فتكدر دنياك وتذهب آخرتك. أهناس (3) موضع في صعيد مصر، قال الجاحظ: ولد عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم بكورة أهناس، ونخلة مريم قائمة بأهناس إلى اليوم. أوطاس (4) وادي ديار هوازن فيه اجتمعت هوازن وثقيف، إذ أجمعوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقوا بحنين ورئيسهم عوف بن مالك النضري، وقال لهم دريد بن الصمة وهو في شجار يقاد به بعيره: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا لين دهس، وهي قصة حنين بطولها، وفيها قال الله تعالى " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً " وقد استوفى خبر هذه القصة ابن إسحاق (5) . أوارة (6) موضع لبني تميم كانت فيه قصة لعمرو بن هند عم النعمان بن المنذر على بني دارم، وكان أسعد بن المنذر أخا عمرو بن هند، وكان مسترضعاً في بني تميم في بني دارم في حجر حاجب بن زرارة، وقيل في حجر زرارة، فخرج يوماً متصيداً فلم يصب شيئاً فمر بإبل سويد بن ربيعة الدارمي فنحر منها بكرة فقتله سويد فقال عمرو بن لقيط الطائي يحرض عمرو بن هند: من مبلغ عمراً بأ ... ن المرء لم يحلق صباره وحوادث الأيام لا ... تبقى عليهن الحجاره ها إن عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أواره تسفي الرياح خلال كش؟ ... حيه وقد سلبوا أزاره فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زراره فنذر عمرو بن هند، وكان شديد البأس، أن يقتل من بني تميم مائة من خيارهم بدل ذلك المقتول، فغزاهم يوم القصيبة ويوم أوارة ثم أقسم ليحرقن منهم مائة رجل فلهذا سمي محرقاً، فأخذ له منهم تسعة وتسعون رجلاً، فقذفهم في النار، وأراد أن يبر قسمه بعجوز منهم ليكمل العدة التي أقسم عليها، فلما أمر بها قالت: ألا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه، ثم قالت: هيهات، صارت الفتيان حمماً (7) وأقبل رجل من البراجم كان أبصر الدخان ووجد قتار لحومهم على بعد فظن أنه طعام يصنع للناس، فلما بلغ ورأى ما رأى جزع فقال عمرو: انظروا ممن الرجل، فأتي به إليه، فقال: ممن أنت: قال: من البراجم، فقال عمرو: إن الشقي وافد البراجم (8) ألقوه في النار ليتم نذري، فتم نذره بالبراجم من بني تميم، وفي ذلك يقول جرير يعير الفرزدق وينسب بني تميم إلى الشره والنهم: أين الذين بنار عمرو حرقوا ... أم أين اسعد فيكم المسترضع
أوثان
وقال الطرماح (1) : ودارم قد قذفنا منهم مائة ... في جاحم النار إذ ينزون بالجدد ينزون بالمشتوى منهم ويوقدها ... عمرو ولولا شحوم القوم لم تقد فلطمع البرجمي في الأكل عيرت تميم بحب الطعام، وقال الشاعر: إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد الأبيات. وقد ذكر ابن دريد في مقصورته هذه القصة في قوله (2) : ثم ابن هند باشرت نيرانه ... يوم أوارات تميماً بالصلى أوال (3) جزيرة في بلاد البحرين بين اليمامة والبصرة وعمان، وهذه الجزيرة بينها وبين الساحل مجرى يوم وهي كثيرة النخل والموز والجوز والأترج والأشجار والزرع والأنهار. وأوال جزيرة طويلة مسيرة ستة عشر يوماً وفيها معادن اللؤلؤ ولذلك قال أبو العلاء المعري في قصيدة له (4) : فإن صلحت للناظرين دموعنا ... فأنتن منها والكثيب حوالي جهلتن أن اللؤلؤ الذوب عندنا ... رخيص وأن الجامدات غوالي فلو كان حقاً ما ظننتن لاغتدت ... مسافة هذا البر سيف أوال وكانت هذه الجزيرة حبساً لكسرى، وأكثر أهلها يمانيون ومن أهل اليمامة، وإليها لجأ من أفلت من أهل هجر عند محنتهم مع القرمطي، وإليها فر أهل اليمامة والبحرين، وبينها وبين هجر اثنا عشر فرسخاً في البر وعشرة فراسخ في البحر. أوثان (5) جبل في البحر في طريق الإسكندرية من إفريقية وهذا الطرف الخارج منه في البحر هو طرف أوثان وهو ما بين طرابلس والإسكندرية، وإذا رآه الناس المسافرون استبشروا بالسلامة، ويقال إنه طرف جبل درن المشهور في الغرب. أوزاع اسم قرية على مقربة من باب الفراديس من دمشق، وإليها ينسب الأوزاعي. أونبة (6) من مدن جبل العيون بالأندلس، وهي مدينة ممتنعة بين جبال ضيقة المسالك، وهي قديمة بها آثار للأول فيها ماء مجلوب في قناة واسعة قد خرق بها الجبال الشامخة حتى وصل الماء إلى أسفل هذه المدينة فيسقي بعض بساتينها، ولا يدرى من أين أصل هذا الماء، وشرقي هذه المدينة كنيسة كبيرة معظمة عندهم يزعمون أن أحد الحواريين بها، وما أكثر ما يوجد في حفائر هذه المدينة آثار عجيبة، وهذه المدينة برية بحرية بينها وبين البحر نحو ميل وبينها وبين لبلة ستة فراسخ. أودغشت (7) مدينة بين صحراء لمتونة والسودان، وهي مدينة عظيمة آهلة لكنها صغيرة، وفي صحرائها ماء قليل، وهي بين جبلين شبه مكة في الصفة، وليس بها تجارة كبيرة ولأهلها جمال منها يعيشون، ومنها إلى غانة اثنتا عشر مرحلة وكذلك من أودغشت إلى مدن واركلان إحدى وثلاثون مرحلة، وفي أودغشت أمم لا تحصى، ولها بساتين كثيرة ونخل كثير ويزدرعون فيها القمح بالحفر بالفؤوس ويسقونه بالدولاب، وكذلك يسقون بساتينهم، وإنما يأكل القمح عندهم الملك وأهل اليسار منهم، وسائر أهلها يأكلون الذرة، والمقاثي تجود عندهم، والبقر والغنم عندهم أكثر شيء وأرخصه فيشترى في أودغشت عشرة أكبش بدينار وأكثر من ذلك، وهم أرباب نعم جزيلة وأموال جليلة، ولهم أسواق حافلة عامرة الدهر كله لا يكاد يسمع الإنسان فيها
أوليل
صوت جليسه لكثرة غوغاء الناس، وتجاراتهم إنما هي بالتبر ليست عندهم فضة. وبأودغشت مبان حسنة رفيعة، وأهلها أخلاط من جميع الأمصار قد استوطنوها لكثرة خيرها ونفاق أسواقها وتجاراتها، هكذا حكي وكأنه مناقض لما سبق، ولعل ذلك في وقتين مختلفين. وحريم أودغشت لا يوجد مثله في بلد، يجلب منها جوار بيض الألوان رشيقات القدود لطاف الخصور ضخام الأرداف واسعات الأكتاف ضيقات الفروج، المستمتع بإحداهن كأنما يستمتع ببكر أبداً من غير أن ينكسر لإحداهن ثدي طول عمرها، وأخبرني (1) من رأى امرأة منهن بمدينة أودغشت راقدة على جنبها وكذلك يفعلن في أكثر أحوالهن اشفاقاً من الجلوس على أردافهن ورأى ابناً لها طفلاً يلعب حواليها، وهو يدخل تحت خصرها ويخرج من الجهة الأخرى من غير أن تتجافى له، وذلك لعظم ردفها ودقة خصرها. وبين مدينة بريسي (2) وأودغشت اثنتا عشرة مرحلة، وليس في بلاد السودان شيء من الفواكه الرطبة ولا اليابسة إلا ما يجلب إليها من التمر من بلاد سجلماسة أو بلاد الزاب يجلبه إليهم أهل واركلان الصحراء. والنيل يجري في هذه الأرض من المشرق إلى المغرب وينبت على ضفتيه شجر الأبنوس والشمشار والخلاف والطرفاء والأثل غياضاً متصلة وبها يستظلون عند شدة الحر وحمارة القيظ، وفي غياضها الأسد والزراريف والغزلان والضبعان والأرانب والقنافذ، وفي النيل أنواع من السمك وضروب من الحيتان الكبار والصغار، ومنه طعام أكثر السودان يتصيدونه ويملحونه وهو في غاية الحسن والغلظ. وأسلحة أهل هذه البلاد القسي وعليها عمدتهم ويتخذون الدبابيس من شجر الأبنوس ولهم فيها حكمة وصناعة متقنة، وأما قسيهم فمن القصب وحليهم النحاس وخرز الزجاج. وهي بلاد حر ووهج شديد، وأهل المدن منها يزرعون البصل والقرع والبطيخ ويجلب منها سودانيات طباخات محسنات تباع الواحدة منهن بمائة دينار كبار وأزيد لحسن عمل الأطعمة الطيبة ولا سيما أصناف الحلاوات مثل الجوزينيات واللوزينجات والقاهرات والكنافات والقطائف والمشهدات وأصناف الحلاوات فلا يوجد أحذق بصنعتها منهن. ومنها تجلب الدرق الجيدة فإن اللمط بأرض أودغشت كثير جداً ويجلب أيضاً منها العنبر الطيب لقربها من البحر المحيط، ويجلب منها الذهب الإبريز الخالص خيوطاً مفتلة، وذهب أودغشت أطيب ذهب الأرض وأصحه، وكان صاحب أودغشت في عشر خمسين وثلاثمائة (3) رجلاً من صنهاجة وكانت له جيوش كثيرة فدانت له أزيد من عشرين ملكاً من ملوك السودان كلهم يؤدون إليه الجزية، وكان عمله مسيرة شهرين في مثلها في عمارة متصلة، وكان يعتد في أزيد من مائة ألف نجيب فإن الخيل في تلك البلاد قليلة، فيقال إنه غزا ملكاً من ملوك السودان فدخل بلده وأحرقه وقتل جنده والملك في قصره ينظر إليه، فلما رأى ما حل ببلده هان عليه الموت فخرج ورمى بدرقته إلى الأرض وقاتل حتى قتل، فلما عاين نساؤه ذلك تردين في الآبار وقتلن أنفسهن بضروب القتل أسفاً على ملكهن وأنفة أن يملكهن البيضان. وبين أودغشت وسجلماسة نحو خمسين مرحلة ومنها إلى غانة نحو عشرين مرحلة. أسكر (4) قرية على شط النيل في البلاد المصرية، وهي على الضفة الشرقية من النيل مياسرة للصاعد، يذكر أن فيها مولد موسى الكليم صلوات الله عليه. أوجلة (5) مدينة بينها وبين برقة في البر عشر مراحل، وهي مدينة صغيرة متحضرة، وهي في ناحية البرية يطيف بها نخل وغلات لأهلها، ومنها يدخل إلى كثير من أرض السودان، والوارد عليها والصادر عنها قليل، وأرض أوجلة وبرقة واحدة، وشرب أهلها من المواجل. أوليل (6) جزيرة في الإقليم الأول من أرض السودان على مقربة من الساحل وبها ملاحة مشهورة ولا يعلم في بلاد السودان ملاحة غيرها، ومنها يحمل الملح إلى جميع بلاد السودان، ومن هذه الجزيرة إلى مدينة سلى ست عشرة مرحلة.
أوراس
أوراس (1) هو جبل قريب من باغاية بإفريقية بينه وبين نقاوس ثلاث مراحل وهو المتصل بالسوس، ويقال إنه قطعة من جبل درن بالمغرب ومتصل به وطوله نحو اثني عشر يوماً، ومياهه كثيرة وعمارته متصلة وفي أهله نخوة وتسلط على من جاورهم من الناس. ومن هذا الجبل قام أبو يزيد مخلد بن كيداد الزناتي النكاري في سنة ثلاث وثلاثمائة واستفحل أمره وعظم شأنه واستولى على كثير من البلاد الإفريقية، وعظمت فتنته وأكثر القتل في الناس فكانت فتنته شنيعة وأمره عظيماً إلى أن قتل واستراح المسلمون منه ومن خبائث سيره وقبيح أفعاله على ما سيرد إن شاء الله تعالى. وفي جبل أوراس كانت الملكة المعروفة بالكاهنة المقتولة في الفتح الأول على يدي المسلمين، فروي أن حسان بن النعمان الغساني لما أغزاه عبد الملك بن مروان إفريقية سنة تسع وستين في جيش فيه نحو من ستة آلاف فارس لما وصل إفريقية قصد قرطاجنة فوافقه أهلها فقتل رجالهم وفرسانهم فهربوا في البحر في سفن كانت لهم إلى الأندلس وإلى صقلية ثم دخلها بالسيف وأرسل إلى ما حولها من العمران فاجتمعوا له مسرعين خوفاً منه فأمرهم بهدم قرطاجنة وقطع القناة عنها ثم رجع إلى روم سطفورة فقاتلهم فهزم الله تعالى الروم بعد بلاء عظيم ثم سأل عن أعظم ملك بإفريقية ومن إذا قتل دانت إفريقية لقاتله، ويئس البربر والروم من أنفسهم، فقيل له ليس بإفريقية أعظم قدراً ولا أبعد صيتاً ولا أشد حزماً من امرأة يقال لها الكاهنة، وهي في جبل أوراس وجميع من بإفريقية خائفون منها، والروم سامعون لها مطيعون، فإن قتلتها يئس الروم والبربر أن تكون لهم دولة. فلما سمع ذلك حسان خرج إليها بجيوشه، فلما بلغ مجانة نزل بها، وكانت قلعتها لم تفتح فتحصن فيها الروم فمضى وتركهم، وبلغ الكاهنة أمره فرجعت إليه من جبل أوراس في عدد لا يعلمه إلا الله تعالى فنزلت مدينة باغاي فأخرجت من بها وظنت أن حسان يريد حصناً يتحصن به، ثم أقبل حسان وزحفت الكاهنة فانتهوا إلى نهر كان حسان ومن معه يشربون من أعلاه وكانت الكاهنة ومن معها يشربون من أسفله، وأبى حسان أن يقاتلها ليلاً فوقف كل فريق على مصافهم، فلما أصبح زحف بعضهم إلى بعض ثم اقتتلوا قتالاً شديداً وقتل من العرب خلق عظيم وانهزم حسان بعد بلاء عظيم وسمي النهر نهر البلاء، واتبعته الكاهنة بمن معها حتى حد قابس، فأسلم إفريقية ومضى على وجهه وأسرت من أصحابه ثمانية رجال، وقيل ثمانين، فيهم خالد بن يزيد العبسي وكان رجلاً مذكوراً، فلما فصل من قابس كتب إلى عبد الملك يخبره بما نزل من البلاء بالمسلمين من قبل الكاهنة وترفق في السير طمعاً في لحاق أصحابه، فكتب إليه عبد الملك: أقم حيث يأتيك كتابي ولا تبرح حتى يأتيك أمري، فأتاه كتابه وهو بالموضع الذي يقال له اليوم قصور حسان فابتنى هناك قصراً لنفسه وأقام بمن معه ثلاث سنين وملكت الكاهنة إفريقية كلها وأرسلت من معها من أسرى المسلمين إلا رجلاً واحداً يقال له خالد بن يزيد العبسي، فإنها حبسته عندها، وعمدت إلى دقيق الشعير وهم يسمونه البسيسة، ثم دعت خالد بن يزيد وابنين لها فأمرتهم فأكلوا ثلاثتهم منها، وقالت لهم: أنتم الآن قد صرتم إخوة وذلك عند البربر من أعظم العهد في جاهليتهم إذا فعلوه، ثم بعث حسان إلى خالد بن يزيد وهو عند الكاهنة يقول له: ما منعك من الكتاب إلي بخبر الكاهنة فكتب إليه مع رسوله في خبزة ملة قد أنضجها ليظن من رأى الخبزة أنها زاد للرجل فلم يغب شخص الرسول عنهم حتى خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تقول: يا معشر بني هلاككم فيما يأكل الناس، كررت ذلك ثلاث مرات. ومضى الرسول حتى قدم على حسان بالكتاب فيه كل ما احتاج إليه من خبرها، وفيه أن البربر تجتمع عساكرهم بالنهار ويفترقون بالليل وليس لهم حزم في رأيهم، وإنما ابتلينا بأمر أراده الله عز وجل وأكرم به من أراد منا بدرجة الشهادة، فإذا نظرت في كتابي فاطو المراحل وجد في السير فإن الأمر لك ولست أسلمك إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم كتب خالد بن يزيد بعد ذلك إلى حسان بخبر ما قبله، وعمد إلى قربوس فنقره ثم وضع فيه الكتاب وأطبق عليه وأخفى مكان النقر ثم حمل رسولاً على دابة بالكتاب إلى حسان، فلما فصل خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تقول: يا بني هلاككم في شيء من نبات الأرض، وكانت من أعلم أهل زمانها بالكهانة، ومضى الرسول حتى قدم على حسان، فلما علمت الكاهنة أن حسان يقيم بقصوره لا يبرح قالت للبربر والروم: إنما
أوش
يطلب حسان من إفريقية المدائن والذهب والفضة والشجر ونحن إنما نريد منها المراعي والمزارع فما أرى لكم إلا خراب إفريقية، فوجهت البربر يقطعون الشجر ويهدمون الحصون، قالوا: وكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلاً واحداً وقرى متصلة فأخربت ذلك كله، فخرج من النصارى ثلاثمائة رجل مستغيثين بحسان مما نزل بهم من الكاهنة من خراب الحصون وقطع الشجر، وكان قد وجه إليه عبد الملك بن مروان يأمره بالنهوض إلى إفريقية قبل أن تخربها الكاهنة، فوافق ذلك قدوم الروم عليه وقدوم رسول خالد بن يزيد عليه، فرجع بجميع عسكره إلى إفريقية؟ فيقال إن الكاهنة خرجت ناشرة شعرها تقول: يا بني انظروا ماذا ترون، فقالوا: نرى شيئاً من سحاب أحمر، قالت: بلى وإلهي ما هو إلا رهج خيل العرب قد أقبلت إليكم، ثم قالت لخالد بن يزيد الذي كانت أسرته: إنما كنت تبنيتك لمثل هذا اليوم، أما أنا فمقتولة ولكن أوصيك بأخويك هذين خيراً، تريد ولديها، فانطلق بهما إلى العرب فخذ لهما أماناً. فانطلق بهما خالد بن يزيد فأخذ لهما أماناً، ولقي حسان وهو مقبل يريد الكاهنة، فوصل إلى قابس فلقيته الكاهنة، وكانت مع حسان جماعة من البربر فولى عليهم الأكبر من ولدي الكاهنة وأكرمه وأقربه، ولقيته الكاهنة في جيوش عظيمة فاقتتلوا فهزمهم الله تعالى، وانهزمت الكاهنة تريد قلعة بشر لتتحصن بها فأصبحت القلعة لاصقة بالأرض فهربت تريد جبل أوراس ومعها صنم عظيم من خشب كانت تعبده يحمل بين يديها على جمل، فتبعها حسان حتى قرب من موضعها، فلما كان الليل قالت الكاهنة لابنيها: إني مقتولة وإن رأسي تركض به الدواب وتمضي به إلى المشرق من حيث تطلع الشمس وأراه موضوع بين يدي ملك العرب الذي بعث إلينا بهذا الرجل، فقال لها خالد بن يزيد وولداها: فإذا كان الأمر هكذا عندك فارحلي وخلي البلاد، قالت: وكيف أفر وأنا ملكة والملوك لا تفر من الموت فأقلد قومي عاراً إلى آخر الدهر، قالوا لها: أفلا تخافين على قومك قالت: إذا أنا مت فلا أبق الله منهم أحداً في الدنيا، فقال لها خالد بن يزيد وولداها: فما نحن صانعون؟ فقالت: أما أنت يا خالد بن يزيد فستنال ملكاً عظيماً عند الملك الأعظم وأما أولادي فسيدركون بإفريقية ملكاً عظيماً مع هذا الملك الذي يقتلني، ثم قالت لهم: اركبوا فاستأمنوا إليه فركب خالد بن يزيد وولداها بالليل إلى حسان، فلما أصبح حسان زحف إليها، وأقبلت الكاهنة راجعة إليه فلقيت أعنة الخيل خالداً وولديها فسلموا عليهم ومضوا بهم إلى حسان فدخل ابن يزيد على حسان وأخبره بما قالت الكاهنة، وأنها وجهت إليه بولديها فأمر بهما حسان فأدخلهما ووكل بهما قوماً، وقدم خالد بن يزيد على أعنة الخيل، فالتقى القوم ووضعوا السلاح بعضهم على بعض ووقع الصبر، وانهزمت الكاهنة وقتلت عند بئر سماه الناس بئر الكاهنة إلى اليوم، ويقال إنها قتلت عند طبرقة، فنزل حسان على الموضع الذي قتلت فيه وعجب الناس من خلقها وكانت الأترجة تجري فيما بين عجيزتها وأكتافها. ثم إن الروم تحزبوا بعد ذلك وأجمعوا على قتال حسان فقاتلهم فهزمهم الله تعالى، وخافته البربر فاستأمنوا إليه فلم يقبل منهم حتى أعطوه من جميع قبائلهم اثني عشر ألف فارس يكونون مع العرب فأجابوه وأسلموا على يديه، وعقد لولدي الكاهنة بعد إسلامهما لكل واحد منهما ستة آلاف فارس من البربر، وأخرجهم مع العرب يفتتحون إفريقية ويقتلون الروم، فمن أجل ذلك صارت الخطط بإفريقية للبربر فكان يقسم الفيء بينهم والأراضي، وحسنت طاعتهم له، فدانت له إفريقية ودون الدواوين. أوش (1) من مدن فرغانة بينها وبين قبا عشرة فراسخ، وهي مدينة عامرة، وقهندزها عامر ودار الإمارة والحبس في القهندز، وعلى ربضها سور وهي ملاصقة للجبل الذي عليه مرقب الأتراك الذي تحرس منه ولها ثلاثة أبواب. أولية السهلة (2) بالأندلس قريبة من قرطبة تعرف بالرملة وهي أم الأقاليم، كثيرة الأهل واسعة الخطة مثمرة الأرضين، بها ديار للعجم متقنة البنيان في إحداها أربع سوار مجزعة من نفيس الرخام في نهاية العظم والطول عليها الناقوس. أوريط (3) مدينة قديمة بالأندلس كانت عظيمة مذكورة مع طليطلة، وهي معها في حد واحد من مدن قسطنطين، وإنما عمرت قلعة رباح وكركي بخراب أوريط.
أوفة
أورشين (1) مدينة صغيرة من مدن الهند على الساحل، وجزيرتها عظيمة المقدار كثيرة الجبال والأشجار، وفيها فيلة كثيرة وبها تصاد ويتجهز بأنيابها منها، وللناس في صفة صيدها أقوال، منهم من يقول إن الصائدين لها يقصدون إلى مواضع مبيتها والأماكن التي تأوي إليها فيحفرون لها حفائر كما تفعله عربهم (2) في صيد الأسود، ويكون أعلاها واسعاً وأسفلها ضيقاً، ويسترونها بالخشب الرقاق والحشيش ويسوى بالتراب فوق ذلك حتى تخفى الحفرة، فإذا جاءت الفيلة إلى مواضعها التي اعتادت المبيت فيها وفي طرق مائها الذي اعتادت الشرب منه سقطت في الحفرة على رأسها وفر باقي الفيلة على وجوهها وصائدوها يكونون هناك في أماكن لهم ينظرون منها إلى ما يسقط في الحفرة من الفيلة فإذا رأوا ذلك أسرعوا إلى ما سقط في الحفرة وفتحوا خواصرها وبطونها واستخرجوا أنيابها وأخذوا كعوبها. قالوا: وهي تمشي قطاراً وتبيت في الغياض اثنين في واحدة، وثلاثة وأربعة في واحدة وصفة رقادها أن تقصد الشجر فتورك على أصولها فيورك بعضها على بعض وتنام وقوفاً لغلظ أرساغها وطول مفاصلها فيأتي الصائدون إلى تلك الأشجار بالنهار فيقطعون أكثرها، ويتركون الشجر قائمة مستهلكة، فإذا جن الليل وأتت الفيلة على عادتها إلى تلك الأشجار التي عادتها الرقاد بالاعتماد عليها فلا يزال يثقل بعضها على بعض إلى أن تسقط الشجر وتسقط الفيلة مع سقوطها فلا تقدر أن تقوم، فيثب الصيادون إليها بالخشب فيضربون رؤوسها إلى أن تموت وتستخرج أنيابها وتباع من التجار بأموال كثيرة وتحمل إلى البلاد وتصرف في كثير من الأعمال والترصيع، ويكون في النابين الكبيرين من الفيلة ستة عشر قنطاراً إلى ما فوقها ودونها قالوا: والإناث منها تلد أولادها في المياه الراكدة فإذا وضعت أولادها سقطت في الماء فتسرع الأمهات إليها وتقيمها في الماء على سوقها وتخرجها منه وتديم لحسها إلى أن تجف وتستدرجها إلى أن تكمل تبارك الله أحسن الخالقين. ولا يدرى في الحيوانات أفهم من الفيل ولا أقبل منه للتعليم، ومن خواصه أنه لا ينظر إلى عورة الإنسان، وتتنافس ملوك الهند في اقتناء الفيلة وتتغالى في أثمانها وتحافظ عليها وتجلب إلى مرابطها عندهم صغاراً فتنشأ على التأنس بالناس ويقاتلون عليها لأن الفيل الكبير يقاتل على ظهره اثنا عشر رجلاً بالحجف والسيوف والدبابيس الحديد، ويقف على رأس كل فيل رجل يسوقه بمخاطف، ويضرب على رأسه بخشبة ويحمل بعضها على بعض فيمر الأقوى على الأضعف، ولها كرات ورجعات، كل ذلك من أمر الفيلة مشهور في بلاد الهند. وقد عاين ذلك المسلمون في صدر الإسلام وفي حروب القادسية، والفيلة في جزيرة أورشين كثيرة ويستولدونها وتخرج منها إلى سائر البلاد من الهند وغيره، وفي هذه الجزيرة معدن الحديد، وينبت في أكثر جبالها الراوند، والذي يجلب منه من الصين أفضل لأنه أصلب جسماً وأصبغ لوناً وأبلغ فيما يراد منه من إصلاح الكبد وجملة منافعه، وفي هذه الجزيرة شجر يسمونه الشهكير (3) على صفة الخروع كثير الشوك بارزه له عروق سود، وملوك الهند والصين تدبر منه سم ساعة، وأهل الهند والصين لا يقتلون أحداً من ذوي محارمهم ولا من خدامهم إلا بالسم. أوفة (4) مدينة من مدن هراة وهي أصغر قدراً من هراة، ولها أسواق عامرة وعمارات وتجارات كثيرة وبساتين وجنات وكروم. أوريولة (5) حصن بالأندلس وهو من كور تدمير وأحد المواضع التي صالح عليها تدمير بن غندرس عبد العزيز بن موسى بن نصير حين هزمه عبد العزيز ووضع المسلمون السيف فيهم فصالحه على هذه المعاقل على أداء الجزية، وكان حصن أوريولة قاعدة تدمير وذلك مشروح في ذكر قرطاجنة. وبين أوريولة وألش خمسة عشر ميلاً وقيل عشرون ميلاً، ومدينة أوريولة قديمة أزلية كانت قاعدة العجم وموضع مملكتهم، وتفسيرها باللطيني الذهبية ولها قصبة في غاية من الامتناع على قنة جبل، ولها بساتين وجنات فيها فواكه كثيرة وفيها رخاء شامل وأسواق وضياع، وبينها وبين مرسية اثنا عشر ميلاً، وبينها وبين قرطاجنة خمسة وأربعون ميلاً، ولي قضاءها أبو الوليد الباجي.
إيليا
إيليا (1) ويقال أيليا بفتح الهمزة، مدينة بالشام وهي بيت المقدس، وهي مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب، وهي طويلة من المغرب إلى المشرق، وفي طرفها الغربي باب البحر وهذا الباب عليه قبة داود عليه السلام، وفي طرفها الشرقي باب يسمى باب الرحمة وهو مغلق لا يفتح إلا من عيد الزيتون إلى مثله، وفي المشرق منها زقاق شارع إلى الكنيسة العظمى المعروفة بكنيسة القيامة، وهي الكنيسة المحجوج إليها من جميع بلاد الروم التي في مشارق الأرض ومغاربها فيدخل من باب في غربيها فيجد الداخل القبة التي تشتمل على جميع الكنيسة، وهي قالوا من عجائب الدنيا، والكنيسة أسفل ذلك الباب، ولها باب من جهة الشمال ينزل منه إلى أسفل الكنيسة على ثلاثين درجة، ويسمى هذا الباب باب شنتمرية، وعند نزول الداخل إلى الكنيسة تلقاه مقبرة عيسى عليه السلام فيما زعموا ولها بابان، وعليها قبة محكمة البناء، وعلى الباب في يسار الكنيسة منحرفاً بشيء إلى الجنوب الحبس الذي حبس فيه المسيح عليه السلام، والقبة الكبيرة قوراء مفتوحة إلى السماء، وبها دار فيها الأنبياء مصورون، وعلى المقبرة ثلاثة قناديل من ذهب معلقة على المكان. وإذا خرجت من هذه الكنيسة وقصدت شرقاً ألفيت البيت المقدس الذي بناه سليمان بن داود عليهما السلام، وكان مسجداً محجوجاً إليه في أيام دولة اليهود ثم انتزع من أيديهم وأخرجوا عنه إلى مدة الإسلام، فهو معظم في مدة الإسلام وهو المسجد الأقصى وليس في الأرض مسجد على قدره إلا جامع قرطبة، وصحن المسجد الأقصى أكبر من صحن جامع قرطبة. ومدينة إيليا مسورة في نشز من الأرض، والجبال محيطة بها، والمدينة في غربي المسجد، وماء إيليا من الأمطار، ولداود عليه السلام بها حياض مصهرجة فيها مياه الأمطار، وخارجها بساتين ومزارع وأشجار وزيتون وليس بها من شجر النخل إلا واحدة، ويقال إنها المذكورة في التنزيل في شأن مريم، وهي منحنية، ويقال إنها غرست منذ زيادة على ألف سنة. والأرض المقدسة أربعون ميلاً في مثلها، فأما بيت المقدس فأول من بناه وأوري موضعه يعقوب عليه السلام، وقيل إن أول من بناه داود عليه السلام، وكان بناؤه له إلى وقت تخريب بخت نصر له وانقطاع دولة بني إسرائيل أربعمائة سنة وأربع وخمسون سنة، فلم يزل خراباً إلى أن بناه ملك من ملوك الطوائف من الفرس يقال له كوشك، ثم تغلبت ملوك غسان على الشام بتمليك الروم لهم ودخولهم في نصرانيتهم، إلى أن جاء الله بالإسلام، وملك الشام منهم جبلة بن الأيهم ففتح الله الشام على المسلمين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمير الجيش قد كتب إلى بطاركة إيليا يدعوهم إلى الإسلام أو أداء الجزية فالتووا عليه فنزل عليهم وحاصرهم حصاراً شديداً فلما رأوا أنه غير مقلع عنهم واشتد عليهم الحصار سألوه أن يصالحهم على أن يعطوه الجزية فأجابهم إلى ذلك، فقالوا: فأرسل إلى خليفتك فيكون هو الذي يعطينا العهد ويكتب لنا الأمان فإنا لا نرضى إلا به، فاستوثق منهم أبو عبيدة بالأيمان المغلظة إن قدم أمير المؤمنين فأعطاهم الأمان ليقبلوا ذلك منه، ثم خاطب عمر رضي الله عنه بما دعوا إليه وباستيثاقه منهم، فسار عمر رضي الله عنه نحو إيليا وخرج المسلمون يستقبلونه فخرج أبو عبيدة رضي الله عنه بالناس، وأقبل عمر رضي الله عنه على جمل له عليه رحل ملبس جلد كبش حولي حتى انتهى إلى مخاضة، فأقبلوا يتبادرونه حتى نزل عن بعيره وأخذ بزمامه وهو من ليف، ثم دخل بين يديه حتى صار إلى أصحاب أبى عبيدة رضي الله عنهما فإذا معهم برذون يجنبونه، فقالوا: يا أمير المؤمنين اركب هذا البرذون فإنه أحجى بك وأهون عليك في ركوبه ولا نحب أن يراك أهل الذمة في مثل هذه الهيئة، واستقبلوه بثياب بيض فركب البرذون وترك الثياب، فلما هملج به نزل عنه وقال: خذوا هذا عني فإنه شيطان، فقالوا: يا أمير المؤمنين لو لبست هذه الثياب البيض وركبت هذا البرذون لكان أجمل في المروءة وأحسن في الذكر، فقال عمر رضي الله عنه: ويحكم لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا، ثم مضى ومضى المسلمون فيهم أبو الأعور السلمي قد لبسوا ثياب الروم من الديباج وغيره، فقال عمر رضي الله عنه: احثوا في وجوههم التراب حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا، وأمر بذلك الديباج فخرق، فقال له يزيد بن أبي سفيان: يا أمير المؤمنين إن الدواب والسلب عندنا كثير والعيش رفيغ والسعر رخيص وحال المسلمين كما تحب فلو أنك لبست هذه الثياب البيض وركبت هذه المراكب الفره وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير لكان أبعد في الصيت
الإيوان
وأعظم في أعين الأعاجم، فقال له عمر رضي الله عنه: يا يزيد لا والله لا أتزين للناس بما يشينني عند الله تعالى ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس ويصغر عند الله عز وجل، ثم سار حتى أتى إيليا فخرج إليه أبو الجعيد فصالحه، وكتب له عمر رضي الله عنه كتاباً (1) أمنهم فيه على أنفسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم وكنائسهم واشترطوا أن لا يساكنهم اليهود فيها، فلما قبضوا كتاب الصلح فتحوا للمسلمين أبواب إيليا، فدخل عمر رضي الله عنه والمسلمون معه، وسخر عمر رضي الله عنه أنباط أهل فلسطين في كنس بيت المقدس، وكانت فيه مزبلة عظيمة، وجاء عمر رضي الله عنه ومعه كعب فقال: يا أبا إسحاق أتعرف موضع الصخرة؟ فقال: اذرع من الحائط الذي يلي موضع كذا، كذا وكذا ذراعاً ثم احفر فإنك تجدها، قال: وهي يومئذ مزبلة، فحفروا فظهرت، فقال عمر رضي الله عنه لكعب: أين ترى أن نجعل قبلة المسجد قال: اجعلها خلف الصخرة فتجمع القبلتين قبلة موسى وقبلة محمد صلى الله عليهما وسلم، قال: ضاهيت اليهود يا أبا إسحاق، خير المساجد مقدمها. قال: فبنى القبلة في مقدم المسجد، ثم بنى عبد الملك بن مروان مسجد بيت المقدس سنة سبعين، وحمل إلى بنيانه خراج مصر سبع سنين، وبنى القبة على الصخرة وجعل على أعلى القبة ثمانية آلاف صفيحة من نحاس مطلية بالذهب، في كل صفيحة سبعة مثاقيل ونصف من ذهب، وأفرغ على رؤوس الأعمدة مائة ألف مثقال ذهباً وخارج القبة كلها ملبس بصفائح الرصاص، وطول مسجد بيت المقدس بالذراع الملكي ويقال إنه ذراع سليمان عليه السلام وهو ثلاثة أشبار سبعمائة وخمس وخمسون ذراعاً، وفيه من الأساطين ستمائة وأربع وثمانون اسطوانة، والعمد التي في قبة الصخرة ثلاثون عموداً وفيه خمسة آلاف قنديل توقد فيه ليلة كل جمعة. الإيوان هو إيوان كسرى بدار ملك الأكاسرة المدائن من العراق وبالمدينة العتيقة منها التي كان ينزلها ملوك بني ساسان، ويقال إن سابور ذا الأكتاف هو الذي بناه، وهو من أكابر ملوكهم. وهذا الإيوان هو الذي يقول فيه البحتري من قصيدة وصف في أولها القصر الأبيض فأجاد ما شاء ثم قال يصف الإيوان هذا: وكأن الإيوان من عجب الصن؟ ... عة جوب في جنب أرعن جلس يتظنى من الكآبة إذ يب؟ ... دو لعيني مصبح أو ممسي مزعجاً بالفراق عن أنس ألف ... عز أو مرهقاً بتطليق عرس عكست حظه الليالي وبات ال؟ ... مشتري فيه وهو كوكب نحس فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرس لم يعبه إن بز من بسط الديبا ... ج واستل من سور الدمقس مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس لابسات من البياض فما تب؟ ... صر منها إلا غلائل ورس لست تدري أصنع أنس لجن ... صنعوه أو صنع جن لأنس غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس وروي أن أبا جعفر المنصور (2) لما أفضت الخلافة إليه هم بنقض هذا الإيوان واستشار في ذلك جلساءه وذوي الرأي عنده من رجاله، فكلهم وافقه على رأيه وأشار عليه بما يطابق هواه إلا خالد بن برمك فإنه قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه آية الإسلام وإذا رآه من يأتي في مستقبل الزمان علم أن أصحاب مملكته لم يغلبوا عليه إلا بأمر من الله تعالى وتأييد أمد به المسلمين الذين قهروهم، وبقاؤه فخر لكم وذكر ومع ذلك فالمؤونة في هدمه أكثر من العائد منه فاستغشه المنصور في ذلك فقال له: يا خالد أبيت إلا ميلاً مع العجمية ثم أمر بنقض الإيوان،
أيلة
فبلغت النفقة في نقض شيء يسير منه مبلغاً عظيماً، فكتب إليه بذلك فعزم على تركه وقال لخالد بن برمك: قد صرنا إلى رأيك، فقال له خالد: إن رأيي الآن أن تبلغوا به الماء، فقال له المنصور: وكيف ذلك؟ قال: إني آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والهدم أسهل من البناء. ففكر المنصور في قوله فعلم أنه قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه. وكان بعد يقول: لقد حبب إلي هذا ألا أبني إلا بناء جليلاً يصعب هدمه. وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاستيلاء على مملكة فارس ووعدهم بافتتاح المدائن فضرب صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بمعول أخذه صخرة عظيمة اعترضت عليهم في الخندق، فكسر ثلثها بضربة وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة "، ثم ضرب الثانية فكسر ثلثها الثاني وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأنظر قصر المدائن الأبيض "، ثم ضرب الثالثة فكسر بقية الحجر وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأرى أبواب صنعاء من مكاني الساعة "، فصدق الله وعده وأنجز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بشرهم به واستأصل بهم مملكة فارس، وفتح عليهم المدائن في زمان عمر رضي الله عنه. والمدائن على مسافة يوم من بغداد، ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبي دجلة شرقاً وغرباً، ودجلة يشق بينهما، ولذلك سميت المدائن، فالغربية منها تسمى بهرسير، والمدينة الشرقية تسمى العتيقة وفيها القصر الأبيض الذي لا يدرى من بناه ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التي كانت الملوك تنزلها وفيها إيوان كسرى المتقدم الذكر. ونزل الرشيد مرة على قرب من الإيوان فسمع بعض الخدم من وراء السرادق يقول لآخر: هذا الذي بنى هذا البناء أراد أن يصعد إلى السماء، فأمر الرشيد بضربه مائة عصا وقال لمن حضره: إن الملك نسبة بين الملوك لهم به إخوة وإن الغيرة بعثتني على أدبه لصيانة الملك وما يلحق الملوك للملوك. قالوا: ولما بنى أنوشروان سور الباب والأبواب وفدت عليه الملوك بالهدايا فكان في جملتهم رسول قيصر فنظر إلى الإيوان وحسن بنائه وإعجاب صنعته ورأى تعريجاً في ميدانه واعوجاجاً فسأل عن معنى ذلك فقيل له إن عجوزاً لها منزل في جانب الاعوجاج، وأن الملك أرادها على بيعه وأرغبها فأبت فلم يكرهها فقال الرومي: هذا الاعوجاج الآن أحسن من الاستواء. ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج هذا الإيوان وسقط منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة ورأى الموبذان وهو القائم بأمر الدين عندهم خيلاً عراباً قد قطعت دجلة فأفزع ذلك كسرى أنوشروان، وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتين وأربعين سنة من ملكه، فكتب أنوشروان إلى النعمان بن المنذر وهو ولاه أمر العرب أن يوجه إليه رجلاً من مشاهير العرب يسأله عما يريد فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو إلى آخر القصة وهي مشهورة. وللإيوان بناء عال شديد البياض. أيلة (1) في طريق مكة، حاطها الله، من مصر، وهي أول حد الحجاز، وهي مدينة جليلة القدر على ساحل البحر الملح بها يجتمع حاج مصر والمغرب، وبها التجارة الكثيرة وأهلها أخلاط من الناس. وسميت بأيلة بنت مدين قالوا: وهي القرية التي كانت حاضرة البحر المذكورة في القرآن. قال ابن إسحاق (2) : ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية وكتب له كتاب أمنه هو مذكور في سير ابن إسحاق. وروى أبو حميد الساعدي في خبر تبوك أن صاحب أيلة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه برداً وكتب له. وتسير من أيلة فتلقى العقبة التي لا يصعدها راكب لصعوبتها ولا تقطع إلا في طول اليوم لطولها ثم تسير مرحلتين في فحص التيه، وأيلة حد مملكة الروم في الزمن الغابر وعلى ميل منها باب معقود لقيصر قد كان مسلحة يأخذون عنده المكوس ومن أيلة إلى بيت المقدس ست مراحل، والطور الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام على يوم وليلة من أيلة، وينزلها اليوم قوم من بني أمية وأكثرهم موالي عثمان رضي الله عنه كانوا سقاة الحاج، وبها علم كثير وآداب ومتاجر وأسواق عامرة، وهي كثيرة النخل والزرع واصلح عقبة أيلة فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون
إيلاق
وسوى طريقها وردم ما استرم فيها، وبأيلة أسواق ومساجد، وفيها كثير من اليهود يزعمون أن عندهم برد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه وجهه إليهم أماناً وهم يظهرونه رداء عدنياً ملفوفاً في الثياب قد أبرز منه مقدار شبر فقط. ثم أصلحها السلطان الأشرف قانصوه الغوري آخر ملوك الجراكسة من جملة ما أصلح في طريق الحجاج في أواخر عمره قبل العشرين والسبعمائة (1) . الأيكة المذكورة في كتاب الله تعالى: قيل إنها مدين وقيل من ساحل البحر إلى مدين، وقيل هي غيضة نحو مدين وهو مدين بن إبراهيم عليه السلام، ونبيهم شعيب عليه السلام، وفيهم قال الله تعالى " ولقد كذب أصحاب الأيكة المرسلين "، وفي آية أخرى " وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم " ومن ملوكهم أبو جاد وهوز وحطي على تواليها فكان أبو جاد ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز وحطي ببلاد وج وهي الطائف وما اتصل بها من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقريشات ببلاد مصر، وفيما لحق بهم من عذاب الله تعالى يقول المنتصر بن المنذر: ملوك بني حطين وسعفص ذي الندى ... وهوز أرباب البنية والحجر هم ملكوا (2) أرض الحجاز بأوجه ... كمثل شعاع الشمس أو صورة البدر وهم قطنوا أرض الحرام وزينوا ... (3) قصوراً وفازوا بالمكارم والفخر وسلط الله على قوم شعيب عليه السلام حراً شديداً أخذ بأنفاسهم ثم بعث الله سبحانه سحابة فوجدوا لها برداً فلما صاروا تحتها أرسلها الله عليهم فذلك قوله تعالى: " فأخذهم عذاب يوم الظلة " فاحترقوا كما يحترق الجراد، وكانوا أهل كفر وبخس في الميزان والمكيال. إيلاق (4) من بلاد خراسان، لها قصبة ونهر وربض، ولهم في الربض والمدينة ماء جار، وبجبل إيلاق معادن ذهب وفضة، ويتصل بهذا الجبل حدود فرغانة، وبها دار ضرب وليس فيما وراء النهر دار ضرب إلا بسمرقند وبخارى وإيلاق، ولإيلاق بضع عشرة مدينة، وإيلاق متصلة ببلاد الشاش وهما جميعاً لا فصل بينهما عمارتهما متصلة متكانفة لا تنقطع، مقدار عرضها مسيرة يومين في ثلاثة أيام، وليس بخراسان وما وراء النهر كورة ولا إقليم على مقدارها في المساحة أكثر منابر وقرى عامرة من هذه الناحية، وآخر حدودها ينتهي إلى وادي الشاش الذي يقع في بحيرة خوارزم وعامة دور مدنها يجري فيها الماء، وقد أهلك ذلك (5) . ايكلي (6) هي قاعدة بلاد السوس الأقصى وهي مدينة كبيرة قديمة في سهل من الأرض على نهر كبير، وهي كثيرة البساتين والتمر وجميع الفواكه ربما بيع فيها حمل التمر بما دون كراء الدابة من الجنان إلى السوق، وقصب السكر بها كثير، وأكثر شرب أهلها إنما هو ماء قصب السكر، ويعمل بها النحاس المسبوك ويتجهز به إلى بلاد السودان. ودخل عقبة بن نافع إلى هذه المدينة عند دخوله بلاد المغرب وافتتحها وأخرج منها سبياً لم ير مثله حسناً، كانت تباع الجارية الواحدة منهن بألف دينار وأكثر لحسنها وتمام خلقها. ويعمل بهذه المدينة زيت اليرجان (7) وشجره يشبه الكمثرى إلا أنه لا يعلو شجر الكمثرى ولا يفوت وأغصانه نابتة من أصله لا ساق لشجرته ولها شوك وثمرته تشبه الأجاص فيجمع ويترك حتى يذبل ثم يوضع في مقلاة فخار على النار فيستخرج دهنه، وطعمه يشبه طعم القمح المقلو وهو حينئذ محمود الغذاء يسخن الكلى ويدر البول. إيكجان (8) جبل بين سطيف وقسطنطينة فيه قبائل كتامة، وبه حصن حصين ومعقل منيع كان قبل هذا من أعمال بني حماد، وتمتد عمارة كتامة بهذه الأرض إلى أن تجاور أرض القل وبونة، وفيهم كرم وبذل طعام لقاصدهم، وهم أكرم الرجال للأضياف حتى استسهلوا مع ذلك بذل أولادهم للأضياف فلا يرون
ايالي
بذلك عاراً، وبالغت الملوك في عقوبتهم على ذلك فما انتقلوا عنه ولا امتنعوا عن عادتهم، وقد فنوا وكانوا قبل هذا أعداداً لا تحصى. ايالي (1) مدينة على خمسة فراسخ من مدينة الشيرجان عادلاً عن الشمال إلى المغرب، ولها سور عتيق ومسجد وبها منبر ومسجد جامع، وهي مدينة جميلة لها رساتيق يمنة ويسرة وبها معادن صفر وحديد، وعلى أربعة فراسخ منها مدينة الروذان وهي من عمل فارس.
حرف الباء
حرف الباء بابل بالعراق، كانت بابل من عظمها واستبشاع أمرها لا تكاد تجعل من عمل الآدميين، وهي المذكورة في قوله تعالى: " وما أنزل على الملكين ببابل " ويقال إن الضحاك أول من بناها، وسكنها العمالقة (1) ، ودخلها إبراهيم عليه السلام، ويقال إن بها مولده، وقيل بل ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل بكوثى من أرض السواد، وينسب إليها السحر والخمر، ويقال إن بها هاروت وماروت يعذبان إذ اختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة وأنهما معلقان في سرب تحت الأرض كالحبلين، وأن بعض الناس رآهما كذلك، فجادله يهودي بها لرغبته في ذلك، فلما رأى منظرهما رأى منظراً عظيما وأمراً هائلاً أفزعه، هذا سمعته من الفقيه ابن البراء يحكيه عن مجاهد صاحب التفسير ولا أدري أهو الرائي لهما أو غيره فالله أعلم. ويقال إن نمرود أسسها وهي مدينة ضاحكة المنظر جميلة المنصب زاهرة البناء واسعة الفناء قد جمعت إلى حسن المنظر من كل جانب رصانة البنيان وبهاء المنصب، وكانت سهلة بطحاء ديمومة فيحاء مربعة لها في كل تربيع حصنان عظيمان، وسائر ذلك من سورها لا يكاد من يبلغه خبره يصدق بصفته لكثرة ارتفاعه وفرط اتقانه، وكان خمسين ذراعاً عرضاً في ارتفاع مائتي ذراع في دور أربعة وستين ميلاً، مبنياً بالآجر المرصص، وقد خندق حولها بخندق يجري فيه الفرات وفيه مائة باب من نحاس، وسعة السور في أعلاه كسعته في أسفله، وقد بني في أعلاه مساكن للمقاتلة، والجوابي متصلة في جميع دوره. قالوا: وبابل أقدم بناء بني بعد الطوفان وأن منها تفرق ولد نوح عليه السلام، وأن الذي هدمها كسرى الأول ملك الفرس لما تغلب على أرض بابل، وملوك بابل هم النبط، وزعموا أنهم أول ملوك العالم وأن الفرس أخذت الملك منهم كما أخذته الروم من اليونانيين وأول ملوكهم نمرود، وهم الذين شيدوا البنيان ومدنوا المدن وكوروا الكور وشقوا الأنهار ورتبوا الجيوش وجعلوا الألوية والأعلام. قالوا: وأول صنم يعبد من دون الله تعالى ود وكان رجلاً مسلماً من أهل بابل وكان محبباً في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى الشيطان جزعهم عليه تشبه بصورة إنسان وقال: أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم في أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه، قالوا: نعم، فصنع لهم تمثالاً فجعلوا يقبلون عليه ويعظمونه، حتى اتخذ كل واحد منهم تمثالاً في منزله يعظمه ويتبرك به، ثم تناسلوا على ذلك حتى اتخذوه الهاً يعبدونه من دون الله تعالى. باذغيس في خراسان، من بوشنج إلى باذغيس ثلاث مراحل، افتتحها عبد الرحمن بن سمرة في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وفي خبر المدائني أن ابن عامر حين صالح أهل مرو وصالح الأحنف أهل بلخ (2) وبعث خليد بن عبد الله الحنفي إلى هراة وباذغيس فافتتحها، ولما رجع الأحنف قال لابن عامر (3) ما فتح الله على أحد ما فتح عليك فارس وكرمان وسجستان وسائر خراسان، فقال: لا جرم، لأجعلن شكري لله تعالى على مثل ذلك أن أخرج معتمراً من موقفي وأحرم بعمرة من نيسابور، فلما
الباميان
قدم على عثمان رضي الله عنه لامه على إحرامه من خراسان وقال له: ليتك تضبط الميقات الذي يحرم منه الناس. ومنها كانت مراجل أم المأمون بن الرشيد وهلكت بعد مولد المأمون بمديدة ولقبها صواحبها بمراجل لأنها كانت حسنة الشعر مولعة بترجيله وخدمته. الباميان (1) في خراسان، يخرج من جبل الباميان عيون عظام فيمر منها واد إلى القهندار مسيرة شهر، ونهر آخر إلى سجستان، ونهر آخر إلى هراة، ونهر آخر إلى مرو مسافة شهر، ونهر آخر إلى بلخ مسيرة اثني عشر يوماً، ونهر آخر إلى خوارزم مسيرة أربعين يوماً، كل هذه الأنهار تخرج من جبل الباميان لارتفاعه، وفيه معادن نحاس ورصاص وزئبق. والباميان مضافة إلى مرو الشاهجان وبرسمها، وفي سنة إحدى عشرة وستمائة استولى خوارزم شاه على الباميان بجموعه الكثيفة وبها علي بن سام فأناخ عليها حتى ضاق ذرعاً بالحصار فنزل على أن لا يقتله وينزله من بلاده حيث أحب، وحلف على ذلك بمحضر الأمراء والعلماء بالأيمان المغلظة، فلما نزل إليه ودخل للسلام عليه أشار إلى مماليكه الأتراك أن يستعملوا سراً فيما بينهم، فضربه أحدهم بدبوس على الرأس سال منه دماغه فأظهر أنه قتل خطأ فطلب المملوك الذي فعل هذا فهرب، ومر دمه هدراً واستولى على جميع بلاده. بانياس مدينة قريبة من دمشق هي ثغر بلاد المسلمين، وهي صغيرة ولها قلعة يستدير بها نهر يفضي إلى أحد أبواب المدينة ولها مصب تحت أرحاء، وكانت بيد الفرنج فاسترجعها نور الدين رحمه الله، ولها محترث عظيم واسع في بطحاء متصلة. البانس (2) قرية في آخر عمارة الزنج، وهي جامعة آهلة بالناس، وهم يعبدون الرجيم، والرجيم عندهم طبل كالبتية (3) مجلد من جهة واحدة، ويربطون في ذلك الجلد شريطاً يجذبونه به فيكون له صوت هائل يسمع على ثلاثة أميال ونحوها، ومدينة البانس آخر عمالة الزنج وتتصل بها أرض سفالة الذهب، وجميع بلاد الزنج بضائعهم الحديد وجلود النمور الزنجية وهي جلود حمر ناعمة جداً وليس عندهم دواب، إنما يتصرفون بأنفسهم وينقلون أمتعتهم على رؤوسهم وعلى ظهورهم إلى مدينتي منبسة وملندة (4) فيبيعون هناك ويشترون، وليس للزنج مراكب يسافرون بها إنما تدخل إليهم المراكب من عمان وغيرها إلى جزائر الهند فيبيعون هناك متاعهم، وللعرب في قلوب الزنج رعب عظيم ومهابة، فلذلك متى عاينوا رجلاً من العرب تاجراً أو مسافراً سجدوا له وعظموا شأنه وقالوا بكلامهم: هنيئاً لكم يا أهل اليمن (5) ، والمسافرون لبلادهم يسرقون أبناء الزنج بالتمر يخدعونهم به، فينقلونهم من مكان إلى مكان حتى يقبضوا عليهم ويخرجوهم من بلادهم إلى البلاد التي يكونون بها، ويقابل بلاد الزنج الساحلية جزائر تسمى الزابج وهي كبيرة وأرضها واسعة وأهلها سمر جداً وتزرع بها الذرة وقصب السكر وشجر الكافور. باجرا مدينة في الجزيرة من أعمال الموصل بناها عبد الأعلى بن يزيد بن أمية السلمي في الفتنة وبها منزله. باجروان من بلاد الجزيرة أيضاً وهي قرية كبيرة كثيرة الأهل، وهي كثيرة الأسواق والحمامات، وهي على نهر وبها زروع وكروم وبساتين، ومنها إلى الرقة ثلاثة فراسخ. بازبدى مدينة من كور الموصل وعندها يلتقي نهر الخابور الخارج من بلاد ارمينية بدجلة، وهذه الديار ديار بني حمدان، وفيها يقول الشاعر6: بقردى وبازبدى مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السلسبيل برود وبغداد ما بغداد أما ترابها ... فجمر وأما حرها فشديد باخرزه (7) من نواحي نيسابور منها علي بن الحسن الباخرزي
بادس
الأديب صاحب كتاب دمية القصر، ذكر فيه شعراء عصره وديوان شعره مشهور في الآفاق، وقتل سنة سبع وستين وأربعمائة، أنشد للعميد أبي نصر الحافظ: قد قلت لما فاق خط عذاره ... في الحسن خط يمينه المستملحا من يكتب الخط المليح لغيره ... فلنفسه لا شك يكتب أملحا بادس (1) مدينة بينها وبين تهودة بالمغرب مرحلة، وبادس حصنان لهما جامع وأسواق وبسائط ومزارع جليلة يزدرعون بها الشعير مرتين في العام على مياه سائحة كثيرة، وبها نخل كثير وفواكه وثمار، وهي قديمة فيها آثار للأول وبها مياه وعيون كثيرة، ومن بادس إلى قيطون بياضة (2) وهي أول بلد مطماطة (3) ومنه تفترق الطرق إلى بلاد السودان وإلى طرابلس وإلى القيروان وإلى نفطة ومنها يخرج إلى جميع البلاد، وهي آخر بلاد الزاب. باجة في إفريقية باجة (4) وفي الأندلس وفي الصين، فالتي في إفريقية مدينة كبيرة أولية قديمة فيها آثار للأول ولها حصن حصين قديم مبني بالصخر الجليل أتقن بناؤه يقال إنه من عهد عيسى عليه السلام، وباجة على جبل شديد البياض يسمى الشمس لبياضه، وهي في وطاء من الأرض، وبين باجة وطبرقة مرحلة وبعض أخرى، وهي كثيرة الأنهار والعيون، وإحدى تلك العيون عين كبيرة تسمى عين الشمس، وهي تحت سور المدينة وباب المدينة بازاء العين ويسمى الباب باب عين الشمس، وباجة رخيصة الأسعار جداً أمحلت البلاد أو أخصبت، فإذا أخصبت البلاد لم تكن للحنطة فيها قيمة، وتسمى باجة هري إفريقية فإن منها يمتار جميع تلك البلاد عربها وبربرها لكثرة طعامها ورخصه، وباسمها سميت باجة الأندلس، وباجة إفريقية على مقربة من فحص قل المشهور بكثرة الزرع، وأرض هذا الفحص أرض مشققة سوداء يجود فيها جميع البذر ويكون فيه حمص وفول قلما يوجد مثله في موضع، ولباجة نظر كبير وقرى كبيرة عامرة، وكان الولاة يتنافسون في ولاية باجة ويقولون: من يترك قمح عندة وسفرجل زانة وعنب بلطة وحوت درنة؟ ودرنة بحيرة كبيرة بين باجة وطبرقة. وأما باجة الأندلس (5) فهي من أقدم مدائنها بنيت في أيام الأقاصرة، وبينها وبين قرطبة مائة فرسخ، وهي من الكور المجندة نزلها جند مصر وكان لواؤهم في الميسرة بعد جند فلسطين، وهم النازلون بشذونة، فحمل الأمير عبد الرحمن بن معاوية لواءهم وأسقط جندهم وأخمل ذكرهم، وكان سبب ذلك أن العلاء بن مغيث اليحصبي (6) كان رأس جند باجة فثار بها وقام بدعوة بني العباس ولبس السواد ورفع راية سوداء واجتمع إليه فئام من الناس، فقاتله عبد الرحمن بن معاوية في قرية من قرى اشبيلية تعرف بالكرم حتى هزمه الإمام وقتله. ومدينة باجة أقدم مدن الأندلس بنياناً وأولها اختطاطاً وإليها انتهى يوليش جاشر وهو أول من تسمى قيصر وهو سماها باجة، وتفسير باجة في كلام العجم الصلح وحوز باجة وخطتها واسعة ولها معاقل موصوفة بالمنعة والحصانة، ومنها الإمام القاضي أبو الوليد الباجي سليمان ابن خلف (7) شارح الموطأ الفقيه الأديب العالم المتكلم، رحل إلى الحجاز والعراق ولقي العلماء وتجول ثلاثة عشر عاماً وصنف في الأصول والفروع وله: إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه ذكر ابن عساكر في تاريخه أنه توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة بالمرية، وقبره في الرباط على حاشية البحر. وأما باجة الصين (8) فهي مدينة البغبوغ، والبغبوغ ملك الصين بأجمعه، وإلى مدينته ينتهي مسافرو بلاد العرب (9) ، وبها جميع
بانقيا
الفواكه والبقول والحنطة والشعير والأرز، ولا يوجد بجميع بلاد الهند والصين عنب ولا تين البتة، وهذه المدينة دار ملك البغبوغ وموضع رجاله وخزائن أمواله وقصور حرمه وعياله، ولهذا الملك مائة زوجة بمهور وانفاذ، ومن لم يملك منهم هذا العدد لا يسمى عندهم ملك الملوك ولهم الفيلة المعدة للحروب ألف فيل بعدتها وأسلحتها ومن لم يكمل له هذا العدد فليس بملك الملوك، ولا يلي الصين إلا من ورثه عن آبائه وإخوته أو أقاربه، وهم جادون على سنن العدل وطريق الأمان وسيرهم حميدة، وهذه المدينة على ضفة نهر الصين. باشو (1) بلد بجزيرة شريك العبسي كان عاملاً عليها في قديم الزمان، وباشو قبلة مدينة تونس وباشو هذه أم أقاليمها، وكانت مدينة كبيرة آهلة بها جامع وحمامات وثلاث رحاب وأسواق عامرة وبها قصر أحمد بن عيسى القائم على بني الأغلب. وبجزيرة شريك اجتمعت الروم بعد دخول عبد الله بن أبي سرح المغرب وتبادروا منها مدينة اقليبيا وما حولها، ثم ركبوا منها إلى جزيرة قوصرة وهي بين صقلية وإفريقية وكانت إذ ذاك عامرة، فيقال إنهم أقاموا بها إلى خلافة عبد الملك بن مروان، فاغتزى عبد الملك بن قطن في البحر ففتح ما كان هناك من الجزائر والقصور وخربها وقفل ظافراً. ومن تونس إلى منزل باشو مرحلة وبينهما قرى كثيرة، ويقال إن سواري جامع منزل باشو نقلت إلى تونس فبني عليها جامع القصبة بتونس، ومدينة باشو اليوم خراب لم يبق منها إلا مكانها وفيه قصر معمور وكانت أراضيها مباركة طيبة ذات شجر وزيتون وعمارات متصلة. بانقيا (2) أرض بالنجف دون الكوفة وكان إبراهيم الخليل ولوط عليهما السلام نزلا بها يريدان بيت المقدس مهاجرين وكانت تزلزل في كل ليلة وكانت ضخمة، فلما باتا بها لم تزلزل في تلك الليلة، فمشى بعضهم إلى بعض تعجباً من عافيتهم في ليلتهم فقال صاحب منزل إبراهيم عليه السلام: ما رفع عنكم إلا شيخ يبات عندي كان يصلي ليله ويبكي فاجتمعوا إليه فسألوه المقام عندهم على أن يجمعوا له من أموالهم فيكون أكثرهم مالاً فقال: لم أؤمر بذلك وإنما أمرت بالهجرة، فخرج حتى أتى النجف فلما رآه رجع أدراجه فقال لمن تلك الأرض بعد النجف قالوا: هي لنا (3) ، قال: فتبيعونها؟ قالوا: هي لك فوالله ما تبت شيئاً قال: لا أحب إلا أن يكون شراء، فدفع إليهم غنيمات كن معه، والغنم يقال لها بالنبطية نقيا. باغاية (4) مدينة بإفريقية أولية جليلة بقرب مسكيانة ذات أنهار وثمار ومزارع ومسارح، وهي على مقربة من جبل أوراس المتصل بالسوس، وبهذا الجبل قام أبو يزيد مخلد بن كيداد النفزي الزناتي النكار على أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي وبه كان مستقر الكاهنة، وكانت حين نهدت إلى حرب حسان بن النعمان الغساني حين أغزاه عبد الملك بن مروان إفريقية اجتازت على باغاية فأخربتها وأخرجت من فيها وظنت أن حسان يريد أن يتحصن بها إلى أن كان من أمرها ما ذكرناه في حرف الألف عند ذكر أوراس. ورأيت في موضع آخر أنه مسيرة سبعة أيام وفيه قلاع كثيرة يسكنها قبائل هوارة ومسكيانة وهم على رأي الخوارج الاباضية. وباغاية (5) مدينة كبيرة عليها سوران من حجر، وربض وعليه سور، وكانت الأسواق فيه وأما الآن فالأسواق بالمدينة والأرباض خالية بإفساد العرب لها، ولها واد يجري إليها من جهة القبلة منه شربهم، ولهم أيضاً آبار عذبة وكانت لها بواد وقرى وعمارات والآن قل ذلك فيها، وحولها عمارات برابر،، وغلاتهم الحنطة والشعير، وقبض مغارسها لأشياخها. وعلى أميال منها جبل أوراس المذكور، وهو يشق بلاد الغرب وبلاد إفريقية، فطرفه من البحر الغربي حيث البحر المحيط حيث انتهى عقبة المستجاب رحمه الله، وطرفه الثاني في البحر الشرقي بقرب الإسكندرية وهو المسمى بطرف أوثان الذي إذا عدته المراكب استبشرت بالسلامة، مبدؤه هو الذي بالمغرب وهو جبل المصامدة المسمى بدرن وهو جبل جزولة المسمى بانكسيت، وهو جبل أوراس هذا، ويسكنه لواتة وهو جبل نفوسة، ويدخل طرفه في البحر نحو مائة ميل وأزيد، وله جون عظم، فإن أدخلت
الباب والأبواب
الرياح سفينة في هذا الجون عدمت الرياح التي تخرجها منه فلا تجد هناك قرية (1) لأنه جبل صلد وهو أملس مثل الحائط وهذا الجون أعجب عجائب الدنيا. وبقرب باغاية قبر مادغوس (2) وهو قبر مثل الجبل العظيم مبني بآجر رقيق معقود بالرصاص وبنيت فيه طبقات (3) صغار وصورت فيه جميع الصور من الإنسان والطير والوحوش وهو مدرج النواحي، وقد رام كثير من الناس هدم هذا القبر فلم يقدروا على ذلك، ولا يعلم على الحقيقة ما هو، هل هو قبر أو هيكل، إنما هو بناء قديم لا يعلم له حقيقة وهو مجمع لكل طائر ويقال إن لهم هناك طلاسم. ويسكن فحص هذه المدينة قبائل من لواتة وضريسة. وإلى مدينة باغاية لجأ البربر والروم وبها تحصنوا من عقبة بن نافع القرشي فدارت بينهم حروب وكانت الدبرة على أهل باغاية فهزمهم عقبة وقتلهم قتلاً ذريعاً ولجأ فلهم إلى الحصن وغنم منهم خيلاً لم يروا في مغازيهم أصلب منها ولا أسرع، من نتاج خيل أوراس، فرحل عنهم ولم يقم كراهية أن يشتغل بهم عن غيرهم. وأهلها اليوم كلهم على رأي الاباضية، وكان حماد عتب على أهل باغاية وشن عليهم الغارات، حكي عنه أنه قال: ما تداهى قط أحد علي ولا خدعني إلا امرأة وكعاء من البربر، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال (4) : إن صاحباً لي كان بالقيروان نشأ معي نشأة واحدة لم يفرق بيننا مكتب ولا مشهد، كنت قد خلطته بنفسي وجعلته انسي، فلم يزل على ذلك حتى صرت إلى ما أنا فيه ففقدته، فجعلت أتفقده فلا أقدر عليه ولا أجد سبيلاً إلى الوصول إليه، فلما أن عتبت على أهل باغاية وشننت عليهم الغارات لم أنشب في صبيحة ذلك اليوم أن سمعت منادياً ينادي: أنا بالله والأمير، فقلت: ما لك ومن أنت؟ قال: أنا فلان ابن فلان، فإذا هو صاحبي المطلوب قد حبسه عني نسكه وتغلب على هواه، وأظهرت البشر بمكانه ولو شفع في أهل باغاية لشفعته، فجعلت ألطفه وأؤنسه وهو كالولهان، فسألته عن أمره فقال إنه فقد ابنته في من فقد من النساء فقلت: والله لو خرجت إلي بالأمس لحقنت دماء أهل بلدك لحرمتك عندي، فقال: القدر غالب والمحروم خائب، قال حماد: ثم أمرت القواد فأحضروا جميع ما كان في جيوشهم من النساء فعرف فيهن ابنته، قال: فأمرت بسترها وحملها مع أبيها فرفعت صوتها قائلة: لا بالله يا حماد لا رجعت مع أبي ولا رجعت مع الذي غصبني، قلت: فما تريدين؟ قالت: إني لا أصلح إلا للملوك فلا حاجة لي في السوق، قال: فلما سمعت ذلك منها أمرتها أن تكن ما في نفسها، وظننت أنها قد فتنت أو فسدت، قال حماد: ومن، أين تصلحين للملوك؟ قالت: لأن عندي علماً لا أشارك فيه ولا يدعيه غيري، قلت: ألا أريتنا شيئاً من ذلك؟ قالت: نعم، تأمر بقتل إنسان وتحضر أمضى سيف عنك وأتكلم عليه بكلمات تمنع من تأثيره ويعود بيد حامله أكل من قائمه، قال حماد: إن الذي يجرب فيه لمغرور، قالت: أو يتهم أحد أنه يريد قتل نفسه؟ قلت: لا، قالت: إني أريد أن تجرب ذلك في، فتكلمت على سيف اختاره، ومدت عنقها فضربها السياف ضربة أبان رأسها فاستيقظت من غفلتي وعلمت أنها تداهت علي وكرهت الحياة بعد ما جرى عليها واستبان لأبيها من ذلك مثل الذي بان لي، فجعل يلقي نفسه عليها ويتمرغ في دمها حزناً لما حل به وأسفاً لما رأى من عظيم أنفتها واحتيالها في الموت على ما نزل بها، وكانت الكلمات التي تكلمت بها الشهادة. الباب والأبواب (5) قالوا: جبل القبج جبل عظيم وصقع مشتمل على كثير من الأمم فيه اثنتان وسبعون أمة، كل أمة لها ملك ولغة مخالفة لغيرها، ومدينة باب الأبواب على شعب من شعابه بناها كسرى أنوشروان وجعلها حاجزاً بين بلاده وهذه الأمة لما كان من إفسادهم، فجعل مبدأ السور من جوف البحر على مقدار ميل ماراً في البحر، بناه بالصخر والحديد والرصاص المفرغ على أزقاق البقر المنفوخة، فكلما ارتفع البنيان نزلت تلك الأزقاق إلى أن استقرت في قرار البحر، ولما ارتفع السور غاصت الرجال حينئذ بالخناجر على تلك الأزقاق فثقبتها وتمكن السور على الأرض في قعر البحر، ثم مد السور في البر ما بين جبل القبج والبحر ماراً في أعالي الأرض ومنخفضاتها نحواً من أربعين فرسخاً
باغه
إلى أن انتهى إلى قلعة طبرستان، وجعل على كل ثلاثة أميال من هذا السور باباً من حديد، وأسكن من داخله أمة تراعيه وتحرس ما يليه، وجعل لكل أمة ملكاً، وحول هذا السور أمم لا يحصيهم إلا خالقهم، ولم يبنه (1) أنو شروان إلا عن استيلاء عليهم، وحينئذ أذعنت له ملوك الآفاق وهادنته وراسلته. وكان ملك الباب والأبواب في بعض أعصار الإسلام محمد بن يزيد من ولد بهرام جور وكانت مملكته نحواً من شهر، وكان أهلها أسلموا حين دخلها مسلمة بن عبد الملك، وكان محمد هذا غلب على كثير من ممالك القبج وهو الذي يقال له شروان، قالوا: ولولا هذا السور بالباب والأبواب لغزت الأمم التي خلفه بلاد برذعة: الران والبيلقان واذربيجان وقزوين وهمذان والدينور ونهاوند وغيرها، ولوصلت إلى الكوفة والبصرة والعراق، لا سيما مع ضعف الإسلام في هذا الزمان. وهذا الجبل تكون مسافته طولاً وعرضاً نحواً من شهرين بل أكثر، وعليه وحوله أمم لا يحصيهم إلا الخالق جل وعز، والمدينة على بحر الخزر وفي وسطها مرسى للسفن وعلى فم هذا المرسى كالسد من جانبيه، وهناك سلسلة تمنع الداخل والخارج إلا بأمر من صاحب البحر، وهذان السدان من الصخور المحكمة أفرغ بينها الرصاص. وهي مدينة كبيرة بساتينها يسيرة وفواكهها قليلة وأكثر ذلك يجلب إليها من غيرها، وعليها سور حجارة وآجر وهي في نهاية (2) من المنعة، وهي فرضة بحر الخزر والسرير وسائر بلاد طبرستان وجرجان، وتصنع بها ثياب الكتان وأهلها يلبسونها دون سائر البلدان وبلاد ارمينية واذربيجان، والأبواب التي ينسب إليها البلد هي أفواه شعاب في الجبال فيها حصون منها باب صول وباب اللان وباب صاحب السرير وباب فيلان شاه، وغيرها، ومن أهل هذه المدينة معتمر بن أحمد البابي أنشد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ": سألتك حاجة وعلمت أني ... ألاقي في سؤالكها نجاحا لقول نبينا إذ قال حقاً ... وصرح في مقالته صراحا سلوا الحاجات أحسنكم وجوهاً ... ولا تسلوا اللئام ولا القباحا وفي سنة ثمانين ومائة جاشت الخزر وخرجوا من الباب والأبواب وقتلوا من المسلمين وأهل نعمهم مائة ألف وأربعين ألفاً وفضحوا المسلمات وانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع بمثله في الإسلام. وكان فتح الباب (3) في خلافة عمر رضي الله عنه على يد سراقة بن عمرو، وكان بكير بن عبد الله بازاء الباب قبل قدوم سراقة، وكان ملك الباب يومئذ شهربراز (4) ، رجل من آل شهربراز الملك الذي أفسد بني إسرائيل وأعرى منهم الشام، وكان عمر رضي الله عنه جعل على مقدمة سراقة: عبد الرحمن بن ربيعة فقدم سراقة عبد الرحمن بن ربيعة وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب قدم عليه بكير في أداني الباب، فلما أطل عبد الرحمن على الباب كاتبه شهربراز واستأمنه على أن يأتيه فأمنه عبد الرحمن على (5) ذلك فأتاه فقال: إني بازاء عدو كلب وأمم مختلفة لا ينتسبون إلى حسب وليس ينبغي لذي الفضل والحسب أن يعين أمثال هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب من ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء ولا من الأرمن، وإنكم قد غلبتم على بلادي، وأمتي، فأنا اليوم منكم، يدي مع أيديكم، وصغوي معكم، فمرحباً بكم وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم ولكم النصر والقيام بما تحبون، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم، فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه فجوزه، فسار إلى سراقة بمثل ذلك، فقال له سراقة: قد قبلت ذلك في من كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بد من الجزاء على من يقيم ولا ينهض، فقبل ذلك شهربراز وصارت سنة فيمن يحارب العدو من المشركين وفي من يستنفر من أهل الجزية فتوضع عنه جزية تلك السنة التي استنفر فيها، وكتب سراقة بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه وحسنه. باغه (6) قالوا على بحر باب الأبواب وهو بحر الخزر والديلم وجرجان وأنواع الترك مما يلي الباب والأبواب الموضع المسمى
البثنية
باغة وهي النفاطة ومن هناك يحمل النفط الأبيض، وهناك آطام، وهي عيون النيران تظهر من الأرض وترى من الليل على مسافات كأطمة صقلية، وأطمة وادي برهوت من وادي الشحر وحضرموت، وأطمة أشك (1) بين بلاد فارس والأهواز ترى في الليل عن مسافة أربعين فرسخاً، والأطمة العظيمة التي في مملكة المهراج ملك جزائر الزابج (2) ، والمهراج سمة لكل من ملكها، يلحق لهب هذه الأطمة بأعنان السماء لذهابها في الجو ويسمع لها كأشد ما يسمع من أصوات الرعود، وربما ظهر منها صوت عجيب يفزع من يسمعه من البلاد النائية ينذر بموت بعض ملوكهم، وربما كان أخفض من ذلك ينذر بموت بعض رؤسائهم، قد عرفوا ذلك بطول التجارب والعادة على قديم الزمان. ببشتر (3) بالأندلس حصن منيع بينه وبين قرطبة ثمانون ميلاً، وهو حصن تزل عنه الأبصار فكيف الأقدام على صخرة صماء منقطعة لها بابان، ويتوصل إلى أعلاها من شعب يسلكه الداخل الخفيف، وطريقه عند الطلوع والهبوط على النهر، وأعلى الصخرة سهلة مربعة ذات مياه كثيرة، يقطع الحجر فينبعث الماء العذب وتنبط فيها الآبار بأيسر عمل وكد وحصن ببشتر كان قاعدة العجم، كثير الديارات والكنائس والدواميس، ولهذا الحصن قرى كثيرة وحصون خطيرة وما حوله كثير المياه والأشجار والثمار والكروم وشجر التين وأصناف الفواكه والزيتون وما بها الآن نبذ مما كان فإن فتنة ابن حفصون أتت على أكثر ذلك. البثنية (4) مدينة بالشام، قالوا كان نبي الله أيوب كثير المال وكانت له البثنية والجابية من الشام كلها بما فيها، وكان له فيهما ما لا يحصى من العبيد والغنم والدواب، وابتلاه الله تعالى في ماله وولده فصبر ثم ابتلاه في جسمه وبقي مطروحاً على كناسة سبع سنين وأشهراً فصبر، قالوا: ومدينة البثنية هي اذرعات من عمل دمشق. بجانة (5) بفتح الباء وبعدها جيم مفتوحة مشددة بعدها ألف وبعد الألف نون، مدينة بالأندلس كانت في قديم الدهر من أشرف قرى أرش اليمن، وإنما سمي الإقليم أرش اليمن لأن بني أمية لما دخلوا الأندلس أنزلوا بني سراج القضاعيين في هذا الإقليم وجعلوا إليهم حراسة ما يليهم من البحر وحفظ الساحل، فكان ما ضمنوا منه من مرسى كذا إلى مرسى كذا يسمى أرش اليمن أي عطيتهم ونحلتهم. وبقرب بجانة كان جامع الإقليم الأعظم إلا أنها كانت حارات مفترقة حتى نزلها البحريون وتغلبوا على من كان فيها من العرب وصار الأمر لهم فجمعوها وبنوا سورها وامتثلوا في ذلك ببنية قرطبة وترتيبها، وجعلوا على أحد أبوابها صورة تشاكل الصورة التي على باب القنطرة فأمها الناس من كل جهة وانجفلوا إليها من كل ناحية فارين من الفتن التي كانت إذ ذاك شاملة فكانت أمناً لمن قصدها وحرماً لمن لجأ إليها، وكانت الميرة تجلب إليها من العدوة وضروب المرافق والتجارات، وكان ذلك أيضاً من الأسباب الداعية إلى قصدها واستيطانها، وصار حولها أرباض كثيرة، ويدخلها من النهر جدولان أحدهما بأعلى المدينة من جانب المشرق يسقي بساتينها كلها، والثاني يشق الأرباض الجوفية ويخرج عنها إلى الأرباض القبلية حتى يقع في النهر هناك، وجامعها داخل المدينة بناه عمر بن أسود وفيه قبو على قبة فيها إحدى عشرة حنية منصوبة على أربعة عشر عموداً، منقش أعاليه بنقوش عجيبة، وبشرقي القبو ثلات بلاطات وبغربيه أربع بلاطات أوسع من الشرقية على عمد صخر، وفي الصحن بئر عذبة. وكان بمدينة بجانة أحد عشر حماماً وطرز حرير ومتاجر رائجة، وكان يذهب الوادي الآتي من شرقيها كثيراً من أرباضها وأسواقها عند حمله. وبشرقي بجانة على ثلاثة أميال جبل شامخ فيه معادن غريبة وفيه الحمة العجيبة الشأن ليس لها نظير في الأندلس في طيب مائها وعذوبته وصفائه ولدونته ونفعه وعموم بركته يقصدها أهل الأسقام والعاهات من جميع النواحي فلا يكاد يخطئهم نفعها، وعليها بناء للأول صهريج إلى جانب العين مربع واسع كانوا قد بنوا على شرقيه قبوين فأعلاهما هناك ظاهر إلى اليوم، والجدر الباقية حواليه واتخذوا على ذلك الماء قرية كثيرة الزيتون والأشجار وضروب الثمار يسقى جميعها من ذلك الماء تعرف بقرية الحمة، وما فضل عن سقي هذه القرية يجتمع أسفلها في صهريج عظيم من بناء الأول أيضاً، فإذا تكامل فيه الماء سرب إلى قرية متخذة تحته
بجاية
تسمى آبله فسقيت بذلك الماء، وبجوفي مدينة بجانة حمة أخرى أغزر من الحمة الأولى إلا أن الأولى أنجع في الأسقام وأصلح للأبدان، وهم يزعمون أن جرية الأولى على الكبريت وجرية هذه على النحاس، وتذكر الأعاجم أن ملك تدمير وملك ريه في غابر الدهر خطبا ابنة ملك أرش اليمن وما يليه فشرطت ابنة الملك أن من بلغ ماء إحدى الجهتين حتى يدخله في دار سكنى أبيها، وكانت في موضع مدينة بجانة اليوم، أنه أحق ببضعها، فجد كل واحد منهما في ذلك وجهد جهده، وبنيا قنياً يجلبون الماء فيها فاعترض صاحب الحمة الجوفية خندق ولم يكن بد من بناء قناطر عليه فشغله ذلك حتى بلغ صاحب الحمة الشرقية ماءه، فزوجه الملك ابنته، وأثر ما حاولاه من ذلك باق في الجانبين إلى اليوم. وبين بجانة والمرية خمسة أميال أو ستة أميال، وكانت بجانة في القديم هي المدينة المشهورة قبل المرية فانتقل أهلها إلى المرية فعمرت وخربت بجانة، ولم يبق منها الآن إلا آثار بنيانها ومسجد جامعها قائم بذاته، وحول بجانة جنات وبساتين ومتنزهات وكروم وأموال كثيرة، وعلى ستة أميال منها حصن الحمة، والحمة في رأس جبل، ذكر المسافرون أنه لا نظير لهذه الحمة في معمور الأرض إتقان بناء وسخانة ماء، والمرضى يقصدونها من جميع الجهات ويقيمون عليها حتى يشفوا من أمراضهم، ويرحل إليها أهل المرية في فصل الربيع بنسائهم وأولادهم باحتفال في المطاعم والمشارب والتوسع في الإنفاق، فربما بلغ المسكن في الشهر بها ثلاثة دنانير مرابطية وأقل وأكثر. وكان السبب في نزول البحريين مدينة بجانة أنه لما اشتدت شوكة بني ادريس بن ادريس الحسنيين بالمغرب أمر خلفاء بني أمية بضبط السواحل وألا تجري في البحر جارية إلا تحت نظر وإشراف، وكان لا يخرج خارج من الأندلس إلا بسراح ولا يدخل أحد حتى يعرف خبره ومن حيث ورد ما الذي أورده ولا تظهر في البحر جارية إلا استخبر أمرها وعرف شأنها ومتى ألفي في البحر قارب يزيد على اثني عشر ذراعاً ممسوح العجز نقض ورد إلى المقدار المذكور، فلم يزل الأمر كذلك إلى أن تحركت الفتن بالأندلس ووقعت الفترة في احتراس البحر وسواحله، فاتخذ قوم من أوباش الأندلس مراكب وكانوا يأتون بها السواحل الخالية ويحملون الناس إلى كل جهة وهم المسمون بالبحريين وكان عظم نزولهم نواحي طرطوشة، فلما قوي أمرهم وكثر جمعهم غزوا أهل مرشانة وأخفروا العهد الذي كان بين الأمير وبينهم، فأصابوا فيهم شيئاً، فلما صدروا بغنائمهم لم يأمنوا على أنفسهم إن نزلوا سواحل الأندلس، فكانوا ينتجعون هناك البلاد وينتهزون الفرص في المراكب إذا أمكنتهم ويغزون سواحل افرنجة، وغيرها، ثم أجمعوا على الانصراف إلى الأندلس واستيطان موضع منها، ثم نزلوا شرقي وادي أرش اليمن وهو خلاء قفر، فخرجوا هنالك ولاطفوا من بإزائه من العرب وهادوهم بتحف المشرق وطرائفه وأوسعوهم براً فأذنوا لهم في النزول فانتشروا على وادي أرش اليمن، وافترقوا في قراه على وجه التصنيف والتجارة، وأظهروا أحسن المعاملة وأداء الطاعة، ثم كثروا وتلاحق بهم من كان تخلف عنهم واشتدت شوكتهم وعظمت على تلك الناحية مضرتهم، حتى تغلبوا على مدينة بجانة وطردوا عنها مشاهير عربها ومن تقدمت له رياسة بها، وفرقوهم في البلاد وابتنوا مدينة بجانة على هيئة مدينة قرطبة واستأذنوا الإمام محمد بن عبد الرحمن في ذلك ورغبوا إليه أن يسجل لرجل منهم ويعقد له بالتأمير عليهم، وكان الأمير محمد مشغولاً بقيام ابن مروان وعمر بن حفصون وغيرهما، فعقد لهم ما أرادوا وكان ذلك في سنة ست وسبعين ومائتين (1) فأحسنوا مجاورة أهل بجانة وأظهروا العدل فيهم، وكان عربها قد أساءوا مجاورتهم وأكثروا الجور فيهم، فتسامع الناس بأمرهم وما بسطوه من عدلهم فأموا مدينة بجانة من الأقاليم القاصية والأقطار النائية وصارت حرماً لمن سكنها وأمناً لمن أوطنها واتخذوا حولها حصوناً كثيرة فلم تزل الولاية تتردد فيهم إلى أن كان آخرهم ولاية عبد الرحمن بن مطرف بن عبد الرحمن بن أصبغ الطائي وكان صالحاً ورعاً قد حج حجات، عقد له الولاية على أهل بجانة أمير المؤمنين عبد الرحمن سنة ثلاث وثلاثمائة ثم اختلفت عليها الولاة بعد ذلك إلى أن فسد النظام واختل الترتيب كما في سائر البلاد. بجاية (2) قاعدة الغرب الأوسط، مدينة عظيمة على ضفة البحر يضرب سورها، وهي على جرف حجر ولها من جهة الشمال جبل يسمى امسيول (3) وهو جبل سام صعب المرتقى، وفي أكنافه جمل من النبات المنتفع به في صناعة الطب مثل البرباريس
والقنطوريون والراوند والاسفيوس وغير ذلك من الحشائش، وفي هذا الجبل عقارب صفر الألوان قليلة الضرر، وهي عين بلاد بني حماد والسفن إليها متكررة، والسفر إليها براً وبحراً والسلع إليها مجلوبة وأهلها تجار مياسير، ولها بواد ومزارع، والحنطة والشعير بها والتين كثير وسائر الفواكه، وبها دار صناعة لإنشاء الأساطيل لأن الخشب في أوديتها وجبالها كثير، ويجلب إليها من أقاليمها الزيت الطيب والقطران، وبها معادن الحديد الطيب وبها من الصناعات كل غريبة، وعلى نحو ميل منها نهر يأتي إليها من جهة المغرب وهو نهر عظيم يجاز عند فم البحر بالسفن، وكلما بعد عن البحر كان ماؤه قليلاً ويجوزه من شاء في كل موضع. وهي قطب لكثير من البلاد، وهي محدثة بناها ملوك صنهاجة أصحاب قلعة أبي طويل المعروفة بقلعة حماد، وكان سبب بنائها أن العرب لما دخلوا إفريقية وأفسدوا القيروان وأكثر مدن إفريقية وهرب منهم صاحب القيروان المعز بن باديس إلى المهدية وكان ابن عمه صاحب القلعة المنصور بن بلكين بن حماد أشد شوكة من صاحب القيروان وأكثر جيشاً فخرج لنصرة ابن عمه وجيش جيشاً كبيراً، فلقيته العرب بجملتها بفحص سبيبة على مقربة من القيروان، فكان بينهم يوم عظيم حتى هزم المنصور وقتل أخوه وأكثر صنهاجة، وذلك أن أخاه كان أسن منه فنهاه عن مقاتلة العرب وقال له: أنت ببلادك فابعث إليهم وصانعهم يأتوك خاضعين طامعين في حبائك فهذا من خلق العرب قديماً فأبى إلا لقاءهم، فلما كان ذلك اليوم وهزم قال له أخوه: ألم أنهك أن تلقاهم بنفسك ولكن أعطني تاجك والراية اقيم على الجيش وانج بنفسك، فإن كانت السلامة فمن الله تعالى وإلا بقيت أنت للناس فليس منك الخلف، وهذا من أغرب ما يفعله الأخ مع أخيه والمولى مع وليه، وأعطاه عمامته ورايته وكانت مشهورة، فسار بالجيش حتى لحق وقتل. وكانت لملوك صنهاجة عمائم شرب مذهبة يغالون في أثمانها تساوي العمامة منها خمسمائة دينار وستمائة دينار وأزيد، وكانوا يعممونها بأتقن صنعة فتأتي كأنها تاج، وكان ببلادهم صناع لذلك، يأخذ الصانع على تعميم عمامة منها دينارين وأزيد، وكانت لهم قوالب من عود في حوانيتهم يسمونها الرؤوس يتعممون عليها تلك العمائم، فلما جاء المنصور إلى تلك القلعة نزلت عليه جيوش العرب وضيقوا بلاده وكان يصانعهم حتى ضاق ذرعاً بهم، وكان لا يقدر على التصرف في بلاده فطلب موضعاً يبني فيه مدينة لا يلحقه فيها العرب، فدل على موضع بجاية وكان مرسى، ويقال إنه كانت فيه آثار قديمة، وإنها كانت مدينة فيما سلف، فبناها المنصور وسماها المنصورية، وانتقل ملكهم من القلعة إلى بجاية واتخذوها دار ملكهم. وبينها وبين قلعة حماد أربعة أيام، وهي مدينة عظيمة ما بين جبال شامخة قد أحاطت بها والبحر منها في ثلاث جهات في الشرق والغرب والجوف، ولها طريق إلى جهة المغرب يسمى المضيق على ضفة النهر المسمى بالوادي الكبير، وطريق في القبلة إلى قلعة حماد على عقاب وأوعار، وكذلك طريقها إلى الشرق، وليس لها طريق سهلة إلا من جهة الغرب، ولذلك قال الشاعر يعنيها: بجاية كلها عقاب ... حل لمن حلها عقاب فلم يكن للعرب إليها سبيل، ولا كان يدخل من العرب إلا من يبعث عند الملك لمصانعة على بلاد القلعة وغيرها فيدخلها أفذاذ وفرسان دون عسكر، فبقي صاحب بجاية في ملك شامخ فإنها على نظر كبير وفائد عظيم لكن إنما عمرت بخراب القلعة التي بناها حماد بن بلكين التي تنسب دولة بني حماد إليها، وهي كانت دار الملك قبل بجاية وفيها كانت ذخائرهم وأموالهم. ورأيت في خبر آخر أن الناصر بن عالناس (1) صاحب قلعة حماد هو الذي بنى بجاية وصيرها دار ملكه ولهذا تسمى الناصرية وأظن ذلك سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وبجاية معلقة من جبل قد دخل في البحر يضرب فيه، ولها دار لصناعة المراكب وإنشاء السفن، وبينها وبين صقلية ثلاثة مجار، وهي مرسى عظيم تحط فيه السفن من كل جهة، وبجاية كثيرة الفواكه والخيرات، وهي مشرفة نزهة مطلة على البحر وعلى فحص قد أحاطت به جبال، ودوره نحو عشرة أميال، وتسقيه أنهار وعيون وفيه أكثر بساتينهم، ولها نهر كبير يقرب منها نحو الميلين أو دونهما عليه كثير من جنانهم، وقد صنعت عليه نواعر تسقي من النهر، وله منتزه عظيم. وفي بجاية موضع يعرف باللؤلؤة وهو أنف من الجبل قد خرج في البحر، متصل بالمدينة فيه قصور من بناء ملوك صنهاجة غاية في الحسن فيها طاقات مشرفة على البحر عليها شبابيك الحديد والأبواب المخرمة المحلاة والمجالس المقرنصة المبنية حيطانها بالرخام
بلاد البحرين
الأبيض من أعلاها إلى أسفلها قد نقشت أحسن نقش وأنزلت بالذهب واللازورد، وكتب فيها الكتابات الحسنة بالذهب، وصورت فيها الصور الحسنة فجاءت من أحسن القصور وأتمها جمالاً وهذا الجبل أمسيول الذي فيه بجاية جبل عظيم عال قد ذهب في الجو وخرج في البحر وفيه مياه سائحة وعيون كثيرة وبساتين، وهو كثير القردة ويكون فيه الحيوان المشوك المسمى بالذرب. وكان هجم على بجاية علي بن إسحاق بن حمو المشهور بابن غانية فملكها سنة ثمانين وخمس مائة في أول ولاية المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ثم انتقل إلى قسنطينة فحاصرها ولم يقدر عليها فتوغل في صحراء بلاد الجريد وعاث وسفك الدماء ومات على توزر، سنة أربع وثمانين وخمسمائة. بلاد البحرين (1) هي بلاد واسعة شرقيها ساحل البحر، وجوفها متصل باليمامة، وشمالها متصل بالبصرة، وجنوبها متصل ببلاد عمان، وقاعدتها هجر، وأهلها عبد القيس ومن بلاد البحرين الأحساء والقطيف وبيشة والزارة والخط الذي تنسب إليه الرماح الخطية وغيرها. وهي بلاد سهلة كثيرة الأنهار والعيون عذبة الماء ينبطون الماء على القامة والقامتين، والحناء والقطن على شطوط أنهارها بمنزلة السوسن، وهي كثيرة النخل والفواكه، ولها تمر إذا انتبذ وشرب اصفرت الثياب من عرقه، وبساتينهم على نحو ميل منها ولا يأتونها إلا غدواً أو رواحاً لافراط حر الرمضاء وإن حوافر الدواب تسقط فيها إذا احتدمت، وهي مخصوصة بتعظيم الطحال ولذلك قال بعض الشعراء: ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبط بما في بطنه وهو جائع ولها مدن كثيرة وبلاد البحرين منهالة الكثبان جارية الرمل حتى يسكروه (2) بسعف النخل وربما غلب عليهم في منازلهم، فإذا أعياهم حملوا النقوض وتحولوا، وقد كان من البحرين إلى عمان طريق فغلب عليه الرمل ومنع من سلوكه فلا يوصل اليوم من البحرين إلى عمان إلا في البحر. وفي البحرين على طريق البصرة جزائر مسيرة يومين وثلاثة وفيها آثار وبناء وخرابات يرفئ فيها أصحاب السفن إذا هاجت الرياح وفي تلك الجزائر صيد كثير وفي جزيرة خارك منها جزر غليظ يقطع بالقدوم لغلظه، وميرة البحرين تجلب إليها من فارس، ويقال إن اليمامة والبحرين والقريتين وما يليها كانت لطسم وجديس، وفي اليمامة كانت زرقاء اليمامة، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى في حرف الياء. ولما سار حسان بن تبان أسعد أبو يكرب ملك اليمن بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كانوا بالبحرين كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم إلى آخر الخبر، ذكره ابن إسحاق (3) . وبها كان خروج أبي فديك الخارجي تغلب عليها سنة اثنتين وسبعين، ووجه إليه عبد الملك بن مروان عشرين ألفاً من أهل البصرة والكوفة وكانت بينهم معركة عظيمة وحمل إليه أهل المصرين حتى استباحوا عسكر الخوارج وقتلوا أبا فديك وحصروهم في المشقر فنزلوا على الحكم فقتل منهم ستة آلاف وأسر ثمانمائة (4) . بخارى (5) من بلاد خراسان، وهو بلد واسع يشف على المدن كبراً ومحاسن وكثرة أشجار، وهي في مستو من الأرض وبناؤها خشب مشتبك ويحيط بهذا الخشب المشتبك في البناء من القصور والبساتين والسكك والقرى المتصلة ما يكون طوله ستة وثلاثين ميلاً في مثلها، ويحيط بجميعها سور يجمع هذه القصور والمساكن التي تمتد (6) من القصبة ويسكنها من يكون من أهل القصبة شتاء وصيفاً، وداخل هذا السور سور آخر يكون عرضه نحو ثلاثة أميال في مثلها، وداخل هذا السور (7) مدينة حسنة لها سور مجصص ولها قصبة خارج المدينة متصلة بها تكون كالمدينة الصغيرة وفيه (8) قلعة ومسكن حسن وقصور يروق الأبصار منظرها ينزلها الولاة. ولبخارى ربض طويل فسيح المحلات، وأكثر أسواقها في هذا الربض، والمسجد الجامع بها معدوم المثال كثير الاحتفال، وببخارى بشر كثير لا يحصيهم العدد وجل أهلها
مياسير ويشق ربضها (1) نهر الصغد ويخترق أكثر ديارها وشوارعها وأسواقها ولأهل بخارى عليه أرحاء عدة، وبضفتيه المنازه والبساتين والجنات والحدائق المتسعة والأشجار والمزارع، ويقع فاضل هذا النهر في بحيرة كبيرة هناك، ولبخارى هذه مدن عدة. وافتتح بخارى (2) سعيد بن عثمان بن عفان في زمن معاوية رضي الله عنه ثم خرج عنها يريد سمرقند فامتنع أهلها فلم تزل مغلقة حتى افتتحها سلم بن زياد في أيام يزيد بن معاوية ثم انتقضت وامتنعت حتى صار إليها قتيبة بن مسلم الباهلي في أيام الوليد بن عبد الملك فافتتحها. قال أهل العلم بالممالك (3) : لم ير ولم يسمع بظاهر بلد أحسن من ظاهر بخارى لأنك إذا علوت قهندزها لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على خضرة تتصل خضرتها بلون السماء فكأن السماء مكبة زرقاء على بساط أخضر تلوح القصور فيما بين ذلك كالكواكب العلوية بياضاً ونوراً، بين أرض وضياع كوجه المرآة استواء وكطلعة الحسناء بهاء قد جمعت إلى بعد المسافة وسعة المساحة عذاء التربة وكمال حسن المنتزه قالوا: والمشار إليه من متنزهات الأرض صغد سمرقند ونهر الأبلة وغوطة دمشق وسواد العراق. وببخارى (4) دار الإمارة على جميع خراسان، وهي مدينة في مستو من الأرض ويحيط بها من القصور والبساتين والمسالك والقرى المتصلة والسكك المشتبكة ما يكون اثني عشر فرسخاً في مثلها ويحيط بذلك كله سور يجمع تلك القرى والقصور ولا يرى من أضعاف ذلك قفر ولا خراب، ومن دون هذا السور على القصبة وما يتصل بها من القصور والمحال التي تعد من القصبة سور آخر هو فرسخ في مثله، ومدينة داخل هذا السور وتحيط بها حصون ولها قهندز خارج المدينة متصل بها وهو مقدار مدينة صغيرة وبها قلعة بها مسكن ولاة خراسان، ولها ربض عريض طويل، والمسجد الجامع على باب القهندز في المدينة، ولها سبعة جوامع وأسواقها في ربضها وليس بخراسان ولا ما وراء النهر ما هو أشد اشتباكاً من بخارى ولا أكثر أهلاً، وفي ربضها نهر الصغد يشق الربض وأسواقها، وهو آخر نهر الصغد ويصير إلى طواحن وضياع ومزارع ويسقط الفاضل منه في مجمع ماء هناك، وللمدينة سبعة أبواب حديد وللقهندز بابان ولربضها دروب كثيرة وليس في مدينتها ولا قهندزها ماء جار لارتفاعهما (5) ، وتنبعث من نهرها الأعظم أنهار، وليس في داخل حدود بخارى جبل ولا نشز إلا موضع المدينة ولهم خارج المدينة ملاحات. وأهل بخارى (6) يتفاوضون فيما بينهم ويتعارفون أنه ما عقد في قلعتهم لواء ولا خرجت منه راية فهزمت ولا غلب فيها وال قط وهذا من الاتفاق العجيب. ولسان بخارى لسان الصغد يحرف بعضه قليلاً، وزيهم الأقبية والقلانس كزي ما وراء النهر لأنها مستقيمة على كور ما وراء النهر، ويرجع أهلها من العفة والدماثة والأمانة وحسن السيرة وحسن المعاملة وقلة الشر وإفاضة الخير وبذل المعروف وسلامة النية إلى ما يفضلون به سائر الناس. ويكفي أن من بخارى الإمام محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري (7) رحمه الله مؤلف الكتاب الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عليه معول أهل السنة في جميع بلاد المسلمين وغير ذلك من تصانيفه، ومناقبه لا تحصى توفي سنة ست وخمسين ومائتين وعاش اثنتين وستين سنة. وفي سنة ست عشرة وستمائة (8) وقعت كائنة الططر العظمى، كان فيها المصاف بين الملك خوارزم شاه وجنكزخان بين نهر سيحون ونهر جيحون ودام القتال ثلاثة أيام بلياليها وقتل من الفريقين ما لا يحصى ولم ينهزم المسلمون ولا الكفار، فلما كانت الليلة الرابعة افترق كل فريق منهما تحت الليل وفر خوارزم شاه وقد انقطع قلبه مما شاهد من صبر (9) العدو وأيقن بذهاب دولته على
البخراء
على أيديهم، وقيل إن منجمه قال له: لا تتعب نفسك فما لك معهم طالع وهم الغالبون على البلاد لا محالة، فشغل نفسه بالفرار حتى مات، فلما استراح الططر ساروا إلى بخارى فقاتلوها ثلاثة أيام وكان فيها عشرون ألف فارس فهربوا (1) تحت الليل، فخرج إلى الططر أكابر البلد وأخبروهم أن جند السلطان قد فروا وقالوا: نحن رعية من ملكنا فإن حلفتم لنا وأمنتمونا مكناكم من المدينة فحلفوا بأيمانهم وبذلوا لهم الأمان ووصلوا بخارى يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة فقاتلوا القلعة المعروفة بالقهنداز اثني عشر يوما ثم دخلوها عنوة فقتلوا جميع من فيها حتى الكلاب والقطط وضربوا برؤوس الأطفال الحيطان وقالوا: كذا نصنع بكل من امتنع منا وأغلق باباً في وجوهنا، ثم إنهم أمروا أهل بخارى بالخروج إلى ظاهرها بنسائهم وأولادهم بعد ما أخذوا جميع سلاحهم، فلما أخرجوا الجميع قالوا: ميزوا فقراءكم من أغنيائكم، فلما تميزوا اقتسموا الأغنياء وأحالوا على الفقراء السيف وأبقوا على أرباب الصنائع من ينتفعون به وفجروا بالنساء أمام الرجال فكان من الناس من ذهب عقله ومنهم من خطف دبوساً أو سيفاً وقاتل حتى قتل ثم انهم عذبوا الأغنياء على الأموال حتى ودوا أنهم ماتوا، ودرى (2) الططر أنهم لم يبق عندهم شيء فقتلوهم عن آخرهم. بختة (3) بلدة في بلاد البجة من أرض الحبشة وهي مسكونة وبها سوق وإليها تنسب الجمال البختية وليس يوجد على وجه الأرض جمال أحسن منها ولا أصبر على السير ولا أسرع خطى وهي بديار مصر معروفة بذلك. البخراء (4) منزل من منازل البحرين بين البصرة والاحساء، وقيل هي أرض بالشام سميت بذلك لعفونة تربتها ونتن ريحها. وكان الوليد بن يزيد توجه إليها يغتذي بها ويشرب ألبان اللقاح يتطلب الصحة ويستبعد من الوباء وكان ماجناً سفيهاً مستخفاً بأهل الدين، وأخباره في ذلك مشهورة، فأقبل إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك من دمشق في المعتزلة وصلحاء القدرية منكرين لفعل الوليد فقتلوه بالبخراء سنة ست وعشرين ومائة، وكان معطلاً وله أخبار قبيحة. بدر (5) ماء على ثمانية وعشرين فرسخاً من المدينة في طريق مكة، وبين مدينة الجار إلى بدر نحو المشرق إذا أردت المدينة عشرون ميلاً وهناك قرية فيها حدائق نخل، وببدر عين فوارة، وموضع القليب الذي كانت بازائه الوقيعة المباركة الإسلامية هو اليوم نخيل وموضع الشهداء خلفه، وببدر عينان جاريتان عليهما الموز والعنب والنخل قيل كان قريش بن بدر بن الحارث بن مخلد (6) بن النضر بن كنانة وكيل بني كنانة في تجاراتهم وكان يقال قدمت عير قريش فسمت قريش به قال: وهو صاحب بدر الذي لقي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش أنبط هنالك بئراً فنسب إليه، وقيل سميت بدراً لأنه كان ماء لرجل من جهينة اسمه بدر، وهو موضع الوقيعة المباركة التي لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها صناديد قريش وأشرافهم فأوقع بهم فقتل الله تعالى طغاتهم وأكابرهم، وهي أول غزواته صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها وهي بدر الكبرى وفيها قال الله تعالى " لقد نصركم الله ببدر "، وقال أمية ابن أبي الصلت يرثي من أصيب ببدر من المشركين من قصيدة (7) : ماذا ببدر فالعقن ... قل من مرازبة جحاجح (8) وكانت وقيعة بدر يوم الخميس صبيحة سبع عشرة من رمضان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة صلى الله عليه وسلم وقيل لسنة ونصف من مقدمه، وقال ابن شهاب: في شهر رمضان من سنة اثنتين. وبدر موسم من مواسم العرب ومجمع من مجامعهم في الجاهلية وبها قلب ومياه وآبار ورياض يقال لها الأثيل منها ينبع والصفراء والجار والجحفة. وهذه الوقيعة التي رفع الله بها قوماً في الدنيا والآخرة وخفض بها آخرين وأيد الله رسوله والمؤمنين بملائكته فقاتلت معه، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: رأيت عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن
بذونة
يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال لم أرهما قبل ولا بعد وقال جبريل عليه الصلاة والسلام: يا محمد أي أصحابك أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: " الذين شهدوا بدراً "، قال: كذلك الملائكة أفضلهم الذين شهدوا بدراً، وقصة الوقيعة على الشرح والإيضاح في كتب المغازي. وببدر جبل عظيم من رمل شديد البياض كان بياضه إذا طلعت عليه الشمس يعشي الأبصار وهم يسمعون من ذلك الجبل دوياً فيدل ذلك على خصب العام عندهم ويرى على بدر في الليل الغاسق نور ساطع لا يرى على سواه. بذونة (1) في أرض الحبشة على الساحل، وهي خراب قليلة العمارة وحشية المساكن قذرة البقاع وعيش أهلها من السمك ولحوم الصدف والضفادع والأحناش والفيران والورل وأم حبين وغير ذلك من الحيوانات التي لا تؤكل، وهم يتصيدون في البحر عوماً بشباك يصنعونها ويربطونها بأرجلهم وهم أهل فاقة وفقر وضيق حال، وهم في طاعة الزنج. البذندون (2) على طريق طرسوس، كان المأمون بن الرشيد خرج إلى الصائفة على طريق طرسوس فمرض بعين يقال لها عين البذندون وذلك سنة ثماني عشرة ومائتين فمات في رجب، وكان لما خرج عهد إلى سائر حصون الروم ودعاهم إلى الإسلام وخيرهم ببن الإسلام والجزية والسيف وذلل النصرانية، وأجابه خلق من الروم إلى الجزية، فلما نزل البذندون جاءه رسول ملك الروم فقال له: إن الملك يخيرك بين أن يرد عليك نفقتك التي أنفقتها من بلدك إلى هذا الموضع وبين أن يخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم بغير فداء: لا درهم ولا دينار (3) ، وبين أن يعمر لك كل بلد للمسلمين قد أخربته النصرانية ويرده كما كان وترجع عن غزاتك هذه، فقام المأمون ودخل إلى خيمته وصلى ركعتين واستخار الله عز وجل وخرج وقال للرسول: قل له أما قولك ترد علي نفقتي فإني سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون. فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " وأما قولك إنك تخرج كل أسير من المسلمين في كل بلد الروم فما في يدك إلا أحد رجلين إما رجل طلب الله عز وجل والدار الآخرة فقد صار إلى ما أراد وإما رجل طلب الدنيا فلا فك الله أسره، وأما قولك إنك تعمر كل بلد للمسلمين قد خربه الروم فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما اعتضت بامرأة عثرت (4) في حال أسرها فقالت: وامحمداه، عد إلى صاحبك فليس بيني وبينه إلا السيف، يا غلام اضرب الطبل، فرحل فلم ينثن عن غزاته حتى فتح أربعة عشر حصناً وانصرف من غزاته فنزل عين البذندون المعروفة بالقشيرة وأقام هناك حتى ترجع رسله من الحصون، فوقف على العين ومنبع الماء فأعجبه برد مائها وصفاؤه وحسن بياضه وطيب الموضع وكثرة الخضرة، فأمر بقطع خشب طوال فبسطت على العين كالجسر وجلس عليه والماء تحته، وطرح في الماء درهم فقرأ كتابته وهو في قرار الماء لصفائه، ولم يقدر أحد يدخل الماء من شدة برده، فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنها سبيكة فضة فأمر من أخرجها فلما صارت على حرف العين أو على الخشب اضطربت وانملست من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر فنضحت الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلت ثوبه ثم أخذها الفراش ثانية فوضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب فقال المأمون: تقلى الساعة، ثم أخذته رعدة من ساعته لم يقدر يتحرك من مكانه فغطي باللحف والدواويج وهو يرعد كالسعفة ويصيح: البرد.. البرد، ثم حول إلى المضرب ودثر وأوقدت النيران حوله وهو، يصيح: البرد، ثم أتي بالسمكة وقد فرغ من قليها فلم يقدر على ذوقها وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها، ولما اشتد الأمر عليه سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه عنه وهو في سكرات الموت ما الذي يدل عليه علم الطب من أمره وهل يمكن برؤه، فتقدم ابن ماسويه فأخذ إحدى يديه وبختيشوع الأخرى وأخذا المجسة من كلتا يديه فوجدا نبضه خارجاً عن الاعتدال منذراً بالفناء والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر في سائر جسده كالرب أو كلعاب الأفاعي فأنكرا معرفة العرق وذكرا أنهما لم يجداه في شيء من الكتب وأنه دال على انحلال الجسد، وأفاق المأمون من غشيته وفتح عينيه وأمر بإحضار ناس من الروم
برشلونة
فسألهم عن اسم الموضع فأحضر له عدة من الأسرى والأدلاء فقيل لهم: ما تفسير هذا الاسم وهو القشيرة فقالوا: تفسيره مد رجليك، فلما سمعها المأمون اضطرب من هذا الفأل وتطير به فقال: سلوهم ما اسم هذا الموضع بالعربية، فقالوا: الرقة، وكان فيما عمل من مولد المأمون أنه يموت بالموضع المعروف بالرقة، فكان يحيد عن المقام بمدينة الرقة خوفاً من الموت، فلما سمع هذا من الروم علم أنه الموضع الذي وعد فيه فيما تقدم من مولده وأن فيه وفاته، والبذندون تفسيره مد رجليك، فلما ثقل المأمون قال: أخرجوني أشرف على عسكري وأنظر إلى رجالي وأتبين ملكي وذلك بالليل، وأخرج فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقد من النيران فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ثم رد إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلاً يلقنه الشهادة لما أثقل فرفع الرجل بها صوته ليقولها المأمون، فقال ابن ماسويه: لا تصح فوالله ما يفرق الآن بين ربه وبين ماني، ففتح المأمون عينيه وبها من العظم والتورم والاحمرار ما لم ير مثله قط وأقبل يحاول البطش بابن ماسويه ورام مخاطبته فعجز عن ذلك فرمى بطرفه نحو السماء وقد امتلأت عيناه دموعاً وانطلق لسانه من ساعته فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت، وقضى من ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرسوس فدفن بها. ماسويه ورام مخاطبته فعجز عن ذلك فرمى بطرفه نحو السماء وقد امتلأت عيناه دموعاً (1) وانطلق لسانه من ساعته فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت، وقضى من ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرسوس فدفن بها. براغة (2) هي مدينة مجاورة لبلاد الأتراك مبنية على نهر هناك بالحجر والجيار، وهي تصغر عن المدن وتكبر عن القرى وبها سوق تجمع المرافق السفرية والحضرية في أعلاها قلعة كبيرة حصينة وبها عين ماء معينة يخترق ماؤها بسيط بطحائها، وهي أكثر البلاد متاجر تأتيها من مدينة كراكو (3) الروس والصقالبة بالمتاجر ويأتيهم من بلاد الترك والإسلام اليهود والترك بالمتاجر أيضاً والمثاقيل البرقطية (4) يحملون من عندهم الدقيق والقصدير وضروب الأوبار، وهي أطيب بلاد أهل الجوف وأزكاها معيشة يباع عندهم من القمح بقنشار ما يكتفي به المرء شهوراً، ويبلغ عندهم بقنشار من الشعير علف أربعين ليلة لدابة، ويباع عندهم عشر دجاجات بقنشار، وبمدينة براغة تصنع السروج واللجم والدرق المستعملة في بلادهم. برقعيد (5) مدينة بينها وبين نصيبين سبعة وعشرون ميلاً، وهي مدينة حصينة كبيرة كثيرة الخير والخصب ويسكنها قوم من تغلب. برهوت في نحر (6) بلاد حضرموت من بلاد الشحر في جهة اليمن ببلاد عمان، فيها أطمة يسمع صوتها كالرعد من أميال كثيرة تقذف من قعرها بجمر كالجبال وقطع من الصخر سود حتى يرتفع ذلك في الهواء ويدرك حسها من أميال كثيرة ثم تنعكس سفلاً فتهوي إلى قعرها وحولها. برذال (7) مدينة من إقليم برغش كاملة شاملة بضروب النعم كثيرة الفواكه، بينها وبين البحر اثنا عشر ميلاً. برك الغماد (8) بالغين المعجمة، وهو المذكور في قصة غزو بدر وهو في أقاصي هجر، وهذه الغين المعجمة تضم وتكسر، وفي خبر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي وأريد أن أسيح في الأرض أعبد ربي، قال ابن الدغنة: مثلك لا يخرج إنك لتكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ارجع واعبد ربك في بلدك، فرجع وذكر باقي الحديث، وقال الهمداني (9) : برك الغماد في أقصى اليمن. برشلونة (10) مدينة للروم بينها وبين طركونة خمسون ميلاً، وبرشلونة على البحر ومرساها ترش لا تدخله المراكب إلا عن معرفة،
برذعة
ولها ربض وعليها سور منيع، والدخول إليها والخروج عنها إلى الأندلس على باب الجبل المسمى بهيكل (1) الزهرة ويسكن برشلونة ملك افرنجة وهي دار ملكهم وله مراكب تسافر وتغزو وللافرنج شوكة لا تطاق، وبرشلونة كثيرة الحنطة والحبوب والعسل واليهود بها يعدلون النصارى كثرة وربضها خارج عنها، وهي في القسم الثالث من الأندلس وهي مسورة كبيرة (2) . برزة مدينة بالشام من عمل الغوطة كان من أهلها رجل صالح وكان أعور، قال الراوي: قلت له: ما سبب ذهاب عينك؟ فقال: أمر عجيب، وامتنع أن يخبرني شهوراً، ثم حدثني قال: جاءني وأنا شاب رجلان فدفعا إلي ثمن غرارة قمح وقالا: اعجن لنا كل يوم ربعاً وأنفق لنا خمسة دراهم في لحم وشيء من الحلوى، فأقاما عندي جمعة ثم قالا لي: في قرية برزة واد، قلت: نعم، فخرجا إليه نصف الليل وأخذاني معهما ونزلا إلى الوادي وكانت معهما دابة محملة فحطا عنها وأخرجا خمس مجامر وأوقدا فيها ناراً وجعلا فيها بخوراً كثيرا وأقبلا يعزمان والحيات تقبل إليهما من كل مكان فلا يعرضان إليها إلى أن جاءت حية نحو ذراع وعيناها تقدان مثل الدينار، فلما رأياها استبشرا وقالا: الحمد لله من أجلها جئنا من خراسان، ثم قبضا عليها ثم أدخلا في عينيها ميلاً واكتحلا به، فقلت لهما: اكحلاني كما اكتحلتما، فقالا: ما يصلح لك، فقلت: لا بد من ذلك، قالا: يا هذا ما لك فائدة فيها، فقلت: والله لا زايلتكا أو تكحلاني أو لأصرخن بالوادي حتى يخرج فيؤخذ كل ما معكما، فلما لم يريا لهما مني مخلصاً قالا: فنكحل عينك الواحدة، فكحلا عيني اليمنى، فحين وقع ذلك في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة انظر ما تحتها كما تؤدي المرآة، ثم قالا لي: سر معنا قليلا، فسرت معهما وهما يحدثاني حتى إذا بعدنا عن القرية كتفاني ثم أدخل أحدهما اصبعه في عيني فقلعها ورمى بها وتركاني ملقى ومضيا فكان آخر العهد بهما ولم أزل مكتفاً إلى الصبح حتى جاءني نفر من الناس فحلوني، فهذا ما كان من خبر عيني. برذعة (3) هي مدينة ارمينية، وقد تقدم ذكرها، وطول برذعة ثلاثة أميال في عرض مثلها وهي نزيهة حصينة ذات أنهار وأشجار ومياه كثيرة وهي أم بلاد الران (4) كلها، وهي مدينة كبيرة جداً وهي من أنزه البلاد بقعة وأوفرها نعمة وبها خصب زائد وكروم وبساتين وأشجار وعلى ثلاثة أميال موضع يسمى الأندراب مسيرة يوم في مثله جميعه بساتين مشتبكة وعمارات متصلة وفواكه دائمة وجنات كثيرة ومتاجر عظيمة، وبها من البندق والشاه بلوط ما يربي على ما في الشام كبراً وطيباً. ولبرذعة باب يعرف بباب الأكراد له سوق مقدار ثلاثة أميال وهي سوق عظيمة يجتمع الناس إليها في كل يوم أحد ويقصدون إليها من كل جهة ويبتاع فيها من صنوف الأمتعة وجميع المصنوعات الشيء الكثير. وببرذعة مات يزيد بن مزيد، قالوا أهديت إلى يزيد هذا جارية حسناء فوافقته حين رفع يده من الطعام فواقعها فما سقط عنها
برشك
إلا ميتاً فقبره ببرذعة وقال أبو قدامة القشيري: كنا مع يزيد بن مزيد بأرمينية فإذا صائح في الليل يصيح: يا يزيد بن مزيد، قال: فأتي به يزيد فقال له: ما حملك على هذا الصياح؟ قال: نفقت دابتي ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر: إذا قيل من للمجد والجود والندى ... فناد بصوت يا يزيد بن مزيد فأمر له بفرس أبلق كان معجباً به وبمائة دينار. برغش (1) في بلاد الروم بالقرب من مدينة ليون، وهي مدينة كبيرة يفصلها نهر، ولكل جزء منها سور والأغلب على الجزء الواحد منها اليهود، وهي حصينة منيعة ذات أسوار وتجار وعدد وأموال وهي رصيف للقاصد والمتحول (2) ، وهي كثيرة الكروم ولها رساتيق وأقاليم معمورة. برشك (3) بين تنس وبرشك في الساحل ستة وثلاثون ميلاً، وبرشك مدينة صغيرة على تل وعليها سور تراب وهي على ضفة البحر، وشرب أهلها من عيون وماؤها عذب، وبها فواكه وجملة مزارع وحنطة كثيرة وشعير، ومنها إلى شرشال (4) عشرون ميلاً وكان طاغية صقلية (5) أخذها واستولى عليها. برلي جزيرة في بحر الهند فيها الكافور الذي ليس في الدنيا مثله يكون في الشجرة الواحدة منه عشرة أجناس ينساب كل عرق منها بجنس منه، وكافور هذه الجزيرة يحمل إلى الصين، قالوا: ويلي هذه الجزيرة ستة آلاف جزيرة لا يحيط علماً بما فيها إلا خالقها منها جزيرة بروان (6) يخرج منها مائتا مركب محاربة وهم أهل بأس ونجدة وشجاعة وشدة يقاتلون من يليهم لاستحلالهم البنات والأخوات، ومنها جزيرة تسمى سواكن يحارب أهلها ملك قمار وشريرة وفنصور (7) ، وأخذوا مرة سفينة كبيرة للمسلمين في ناحية كله وسبوا من فيها من الرجال والنساء ثم أتوا بهم بعد أعوام إلى بلاد جاوه وهم منهم على مسيرة ستين يوما فأخبروا أولئك النسوة أنهم لم يعترضوا منهم واحدة، ووجدوا الأبكار منهم بخواتيمهم (8) . بريانة (9) بالأندلس بقرب عقبة أنيشة، وهي مدينة جليلة عامرة كثيرة الخصب والأشجار والكروم، وهي في مستو من الأرض وبينها وبين البحر ثلاثة أميال، وهي قريبة من بلنسية. برشانة (10) بالأندلس أيضاً وهي حصن على مجتمع نهرين وهو من أمنع الحصون مكاناً وأوثقها بنياناً وأكثرها عمارة. بريسا (11) في بلاد السودان على النيل وهي كثيرة الخيرات بها معدن للذهب عظيم مشهور في بلاد السودان، ومن العجائب أن في هذه المدينة معزى قصاراً وعندهم شجر معلوم تحتك هذه المعزى إليها فتلقح من غير ذكر ويذبحون ذكران المعز ويستحيون الإناث لاستغنائهم عن الفحل، حدث بذلك من دخل بلادهم من ثقات التجار وهذا مثل ما حكاه المسعودي عن جزيرة النساء. وليس على بريسا سور وأهلها تجار يتجولون وأهلها كالقرية الحاضرة وهم طاعة للتكروري. برطاس (12) بلاد برطاس ويقال بلاد برداس فيما بين الخزر وبلغار، بينها وبين الخزر مسيرة خمسة عشر يوما، وهي طاعة لملك الخزر ليس لهم ملك سواه إلا أن لهم في كل محلة حاكماً يتحاكمون إليه فيما نابهم، وهم حرب لبلغار والبجاناكية ودينهم شبيه بدين الغزية، ولهم أرض واسعة سهلة كبيرة وأرضهم مسيرة نصف شهر في مثلها، وينتهي عددهم نحو عشرة آلاف فارس،
بردى
وأكثر أشجارها الخلنج وأكثر أموالهم العسل والوبر، ولهم سوائم كثيرة من البقر والغنم ومزارع واسعة، وطائفة منهما يحرقون موتاهم وأخرى تدفنها، وإذا أدركت الجارية عندهم لم يكن لأبيها عليها حكم بل تختار لنفسها من شاءت من الرجال وتصنع ما أحبت؛ وهم أصحاب جمم ولهم قلانس يشدونها على رؤوسهم، ولباسهم القمص والقواطن والجباب، ولهم مزارق وأترسة وقسي ودروع، وبرطاس مدينة متصلة ببلاد الروس، وكان لأهل برطاس لسان غير لسان الروس وغير لسان الخزر، وكانوا مسلمين ولهم مساجد وجوامع، وأخبر بعضهم ممن كان يخطب لهم ويصلي بهم أن عدد المسلمين فيها كان ينتهي عشرين ألفاً وأن الليل يكون عندهم في وقت ما من السنة يعدل ما يسير المرء فرسخين وأن مساكنهم خلت بتغلب الروس على مدينتهم وأجلوهم عنها فشتتوا في البلاد. برطانية جزيرة توازي حد الأندلس الأقصى وهي مستطيلة من القبلة إلى الجوف طولها ثمانمائة ميل وعرضها مائة ويتصل حدها ببلد الصقالبة، وهي طيبة الهواء معتدلة الحر كثيرة الثمرات والخيرات وعند أهلها حكمة وفلسفة وبصر بحد المنطق، وهي من ممالك افرنجة وبأيدي ملوكها، وبجوفي برطانية في البحر المحيط الجزائر المعروفة بجزائر أرطاوس وهي ثلاث وثلاثون جزيرة يسكن المجوس الأردمانيون (1) في اثنتي عشرة منها وباقيها خالية لفساد هوائها. بردى (2) نهر يقال له بالفارسية بهردان وهو نهر دمشق ينبعث من جبالها فيجتازها فيقسمها ويشق غوطة دمشق ثم يصب في البحر (3) ، وإياه عنى حسان في قصيدته التي يمدح فيها آل جفنة، يقول فيها (4) : لله در عصابة نادمتهم ... يوماً بجلق في الزمان الأول يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل برونة (5) هي مدينة من مدن انقبردية وهي مبنية بالصخر الجليل بناء متقناً يشبه بنيان طركونة ومبانيها كلها حسنة شريفة، وفيها دار ملعب عجيب البنيان واسع الفناء، وهي مدينة واسعة الأحواز كثيرة الحصون سابغة النعم، وهي على (6) نهر يصب في بحر بناحية على يومين منها، ومن برونة إلى حصن غاردة (7) عشرون ميلاً وهو معقل حصين إلى أبعد غاية. البركان (8) هو اسم الاطمة التي يخرج منها النار كالتي بجزيرة صقلية، وهو بركان عظيم لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه ولا أغرب خبراً وهو في جزيرتين شمالاً من مدينة بلرم، وإذا هبت الريح الجوفية سمع لها دوي هائل كالرعد القاصف فتخرج النار منها وإنما تظهر بالليل ناراً حمراء ذات ألسن تصعد في الجو، وكان برفريوس (9) الفيلسوف قد شخص من مدينة صور إلى صقلية لينظر إلى البركان فيعاين فعل الطبيعة هنالك ويخبر عنه وعن العلة فيه بقول واضح فمات بها وقبره معروف، وقبر جالينوس أيضاً هنالك معلوم، وكان شخص من مدينة رومة يريد الشام ليلقى أصحاب عيسى عليه السلام. قالوا: وفي ملك بطليموس أحد ملوك اليونانيين وصاحب علم الفلك وواضع المجسطي (10) ظهرت جزيرة البركان بصقلية. وقالوا أيضاً: إذا صرت من قطانية إلى كذا ففي المغرب منه جبل النار وهو جبل عظيم منيف كثير الثمار وتقطع منه عدد السفن من خشب الشرع والأرجل الضخمة وغير ذلك، ويذكر أهل صقلية (11) أنه انفجر من جبل النار نهر جار فجرى أياماً يراه الناس وبقي أثره هنالك إلى الأبد متحرقاً
بربشتر
أسود، ويذكرون أنه قذف فيها حجر في كساء فبقي هاوياً ساعة ثم رفعت الريح ذلك الكساء إلى أعلى العنق وذهب الحجر سفلاً، قالوا: وجبل النار بصقلية شأنه عجيب فإن ناراً خرجت منه في بعض السنين كالسيل العرم لا تمر بشيء إلا حرقته حتى تنتهي إلى البحر فتركت تتجه طائرة على صفحته حتى تغوص فيه. برذيل (1) في بلاد جليقية، وإقليم برذيل من أشرف أقاليم تلك الناحية وهو كثير الكروم والفاكهة والحبوب (2) ، وهو مدينة كبيرة مبنية بالكلس والرمل، وهو على نهر عجاج يسمى جرونة (3) وربما عطبت مراكب المجوس فيه عند الأهوال لاتساعه وانخراقه وبين هذه المدينة وموقع نهرها في البحر مائة وخمسون ميلاً، وأهل برذيل في أخلاقهم ولباسهم على أخلاق الجليقيين، وبجوفي مدينة برذيل بنيان منيف على سوار سامية جليلة هو قصر طيطس وفي سواحل هذه المدينة يوجد العنبر. برطايل (4) جزيرة في بحر الصين الذي في جزائره مملكة المهراج قيل إنه يسمع بها في الليل والنهار الضرب والطبول، ويقال إن فيها الدجال، وقال بعضهم: هي جبال مسكونة وجوه أهلها مثل المجان المطرقة آذانهم مخرمة، وفيها أشجار القرنفل ويشتريه التجار من قوم لا يرونهم إنما يضعونه أكواماً على الساحل فيأخذه التجار ويترك هناك العوض، وقيل إن التجار يتركون البضائع على الساحل ويعودون إلى مراكبهم فإذا أصبح من غد ذلك اليوم جاءوا فوجدوا إلى جانب كل بضاعة كوماً من القرنفل فإن رضيه أخذه وترك البضاعة ولها أخذ بضاعته وترك القرنفل، وإن أخذهما معاً لم تقدر مراكبهم على المسير حتى يرد القرنفل، وربما طلب أحدهم الزيادة فيترك البضاعة والقرنفل فيزاد فيه، وشجر القرنفل على نهر هناك يعرف بنهر القرنفل لم يدخل قط إليه أحد ولا ذكر أنه رأى شجره، وزعم بعضهم أن الجن يبيعونه من التجار، وذكر بعضهم أنه دخل الجزيرة وأمعن فيها فرأى قوماً في زي النساء مرداً بغير لحى ذوي شعور مرسلة فغابوا عنه وأن التجار أقاموا بعد ذلك مدة يخرجون إلى ساحل الجزيرة فلا يجدون شيئاً من القرنفل فعلموا أن ذلك من أجل من نظر إليهم، ثم عادوا بعد سنتين إلى ما كانوا عليه. ويقال إنه إذا كان رطباً حلو الطعم ويأكلون منه فلا يمرضون ولا يهرمون، وليس لهذا البحر حد يعرف، ورأسه يخرج من الظلمة الشمالية ويمر على بلاد الواق واق. بربشتر (5) هي مدينة من بلاد بربطانية (6) بالأندلس، وهي حصن على نهر مخرجه من عين قريبة منها، وبربشتر من أمهات مدن الثغر الفائقة في الحصانة والامتناع وقد غزاها على غرة وقلة عدد من أهلها وعدة، أهل غاليش والروذمانون وكان عليهم رئيس يسمى ألبيطش، وكان في عسكره نحو أربعين ألف فارس فحصرها أربعين يوما حتى افتتحها وذلك في سنة ست وخمسين وأربعمائة فقتلوا عامة رجالها وسبوا فيها من ذراري المسلمين ونسائهم ما لا يحصى كثرة، ويذكر أنهم اختاروا من أبكار جواري المسلمين وأهل الحسن منهن خمسة آلاف جارية فأهدوهن إلى صاحب القسطنطينية، وأصابوا فيها من الأموال ما يعجز عن الوصف وتخلفوا فيها من جلة رجالهم وأهل البأس منهم من وثقوا بضبطه لها ومنعه إياها واستوطنوها بالأهل والولد وجعلوها ثغراً من ثغورهم ثم انصرفوا عنها، وفي ذلك يقول الفقيه الزاهد ابن العسال من قصيدة: ولقد رمانا المشركون بأسهم ... لم تخط لكن شأنها الإصماء هتكوا بخيلهم قصور حريمها ... لم يبق لا جبل ولا بطحاء جاسوا خلال ديارهم فلهم بها ... في كل يوم غارة شعواء ماتت قلوب المسلمين برعبهم ... فحماتنا في حربهم جبناء كم موضع غنموه لم يرحم به ... طفل ولا شيخ ولا عذراء
البراقة
ولكم رضيع فرقوا من أمه ... فله إليها ضجة وبغاء ولرب مولود أبوه مجدل ... فوق التراب وفرشه البيداء ومصونة في خدرها محجوبة ... قد أبرزوها ما لها استخفاء وعزيز قوم صار في أيديهم ... فعليه بعد العزة استخذاء لولا ذنوب المسلمين وانهم ... ركبوا الكبائر ما لهن خفاء ما كان ينصر للنصارى فارس ... أبداً عليهم فالذنوب الداء فشرارها لا يختفون بشرهم ... وصلاح منتحلي الصلاح رياء ثم تداعت لأخذها ممالك الأندلس وجمع أحمد بن سليمان بن هود صاحب سرقسطة وجهاتها أهل الثغور ونهد إليها في جمع كثيف ذوي حد وجد ففتحها الله عز وجل على يديه عنوة فقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية ودخل منها سرقسطة نحو خمسة آلاف سبية مختارة ونحو ألف فرس وألف درع وأموال كثيرة وثياب جليلة وعدة وسلاح، وكان افتتاحه لها لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وأربعمائة ومذ ذاك تسمى بالمقتدر بالله، وكانت مدة ملك النصارى لها تسعة أشهر (1) . البراقة (2) مدينة في جزيرة الصريف في بحر الصنف حيث مملكة المهراج، وهي مدينة لطيفة من حجر أبيض براق يسمع فيها صياح وضوضاء ولا يرى بها ساكن وربما نزل بها البحريون وأخذوا من مائها فوجدوه زلالاً حلواً (3) فيه روائح الكافور. برقة (4) مدينة كبيرة قديمة بين الإسكندرية وإفريقية بينها وبين البحر ستة أميال وهي مرج أفيح وتربة حمراء افتتحها عمرو بن العاصي رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين، وفيها آثار للأول كثيرة، ومن حمرة تربتها تحمر ثياب ساكنيها والمتصرفين فيها، وعلى ستة أميال منها جبل كثير الخصب والفواكه والمياه السائحة، وتصلح السائمة في نواحيها، وأكثر ذبائح أهل مصر والإسكندرية من أغنامها لعظم خلقها وكثرة شحمها ولذة لحمها وقد تقدم ذكرها في ذكر انطابلس فلا نكرره، وبرقة أول منبر ينزلها القادم من ديار مصر إلى القيروان، ولها كور عامرة، وهي في بقعة فسيحة وأرضها حمراء خلوقية كما تقدم وبحمرة ثياب أهلها يعرف أهلها، والصادر عنها والوارد عليها كثير، وهي برية بحرية، وكان من غلاتها فيما سلف القطن الطيب، وبها ديار لدباغ الجلود البقرية والنمور الواصلة إليها من أوجلة وتتجهز منها المراكب إلى الإسكندرية وأهل مصر بالصوف والعسل، ويخرج منها التربة المنسوبة إليها يتعالج الناس بها مع الزيت للجرب والحكة ولها رائحة كريهة كرائحة الكبريت. ويذكر أن في بعض جوانب برقة وآثارها القديمة داراً منقورة في حجر صلد عليها باب من حجر صلد وذلك من أغرب ما يكون في الدنيا لا تدخل الذرة بين العضادة والباب ولا ينفتح الباب إلا للداخل ولا يقدر أحد على الخروج منه إلا أن يدخل عليه آخر ويقال إنه كان مفتحاً لا قفل له ودخلها رجل ليراها فرأى داراً منقورة في حجر صلد وفيها من عظام الناس كثير فهاله ذلك، فلما أراد الخروج وجد الباب قد انغلق فلم يقدر على فتحه فأيقن بالهلكة حتى طلبه بعض أصحابه فجاء إلى ذلك الباب فسمع صوته يستغيث ففتح الباب فخرج الرجل. بزنة أظنها بذنة بالذال (5) قلعة في الهند كان صاحبها يعد من أعيان كفارهم وينسب إلى زيادة الاستظهار بالمال والرجال، وغزاه محمود سلطان خراسان فحين شاهد غبار طلائعه نجا بنفسه وحيداً وترك عساكره وأتباعه في حصنه للقتل والأسر حصيداً وقذف الله في قلوبهم الرعب فلاذوا بطلب الأمان وحقنوا دماءهم بقبول الإيمان وأسلم زهاء عشرين ألف نفس من عباد الأوثان، وقع الاحتواء على ثلاثين فيلاً من كبار الفيلة.
بزاخة
بزليانة (1) قرية على ساحل البحر قريبة من مالقة وهي قرية أشبه بالمدينة في مستو من الأرض، وأرضها رمل وبها الحمام والفنادق ويصاد بها الحوت الكثير ويحمل منها إلى الجهات المجاورة لها، وبينها وبين مالقة ثمانية أميال. بزاخة (2) موضع كانت فيه الوقيعة بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين طليحة، وكان قد ارتد عن الإسلام وادعى النبوة، ولما انتهى خالد رضي الله عنه بالمسلمين إلى عسكر طليحة وقد ضربت له قبة من أدم وأصحابه حوله معسكرون، وانتهى خالد رضي الله عنه ممسياً فضرب عسكره على ميل أو نحوه من عسكر طليحة وتدانيا فاختلطت الصفوف واختلفت السيوف وضرس خالد رضي الله عنه في القتال فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله فانك أمير القوم ولا ينبغي لك أن تقدم، فيقول: والله إني لأعرف ما تقولون ولكني والله ما رأيتني أصبر، وأخاف هزيمة المسلمين، وأخرج طليحة أربعين غلاماً جلداً من جنده جرداً مرداً فأقامهم في الميمنة فقال: اضربوا حتى تأتوا الميسرة وإذا وصلتم الميسرة فافعلوا مثل ذلك، وانهزم المسلمون، فقال خالد رضي الله عنه لما كان ذلك: يا معشر الأنصار، الله الله، واقتحم وسط القوم وكر عليه أصحابه وحينئذ اختلفت الصفوف، ونادى رجل من طيء: يا خالد عليك بسلمى وأجا، فقال: بل إلى الله الملجأ، ثم حمل، فوالله ما رجع حتى لم يبق من أولئك الأربعين رجل واحد، فخرج طليحة منهزماً وحمل امرأته وراءه فنجا بها، وعمل خالد رضي الله عنه اخدوداً أضرم فيه النار ثم أحرقهم أحياء، فقيل لبعض أهل العلم: لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة؟ قال: بلغه عنهم مقالة سيئة شتموا النبي صلى الله عليه وسلم. بزقطة من سقي الفرات منها أبو الفضل محمد بن أحمد البزقطي كان يعلم علي بن الخليفة الناصر، حكى ابن سعيد (3) أنه لما استخلف المستنصر صيره في ديوان الإنشاء وتوفي معه في سنة واحدة (4) وأنشد له: (5) وأهيف مثل خوط البان قداً ... تجول على معاطفه الرياح أبيت ولي بلثمي عارضيه ... ورشفي راح ريقته ارتياح ولي من ليل طرته اغتباق ... ولي من صبح غرته اصطباح (6) بزوان (7) مدينة من أرض التبت وهي تلول وعلى ضفة بحيرة هناك طولها أربعون فرسخاً وعرضها اثنان وسبعون ميلاً وماؤها حلو وبها سمك كثير يصيده أهل بزوان وأهل أوج، وبين بزوان وأوج خمسة أميال وقدرهما في الكبر سواء وهما بلدان قائمان بأنفسهما وبهما أسواق وصناعات تكفيهما، وبضفة بحيرة (8) بزوان أنهار كثيرة كبار في كل جهة منها وعلى مقربة من بزوان جبل معطوف على هيئة الدال لا يصل أحد إلى أعلاه إلا عن جهد وطرفاه يتصلان ببلاد الهند وفي بحبوحته أرض وطية فيها قصر مبني مربع لا باب له فمن قصده أو مشى نحوه وجد في نفسه فرحاً وطرباً مثل ما يجد شارب الخمر، ويقال إن من تعلق بهذا القصر وصعد إلى أعلاه لم يزل ضاحكاً، وهذا خبر عظيم مستفيض في الناس. البطائح تقع في الفرات بين الخابور الذي في أرض الجزيرة حيث قرقيسيا (9) ، وفي البطائح مجمع هذه المياه وهي ثلاثون فرسخاً في ثلاثين فرسخاً وهي خزانة أهل البصرة تجتمع فيها مياههم وتنبت القصب لحطبهم ومنافعهم ومنها سمكهم وفي نواحيها مزارعهم وأشجارهم، وقد اجتمعت من هذه البطائح أنهار منها نهر المرأة ونهر ابن عمر، وهو عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، في أسفل البطائح مما يلي قصر أنس بن مالك رضي الله عنه وطوله أربعة فراسخ من أسفل البطائح إلى فيض البصرة، ونهر مرة وهو مرة بن أبي عثمان مولى عبد الرحمن بن أبي بكر كتبت عائشة رضي الله عنها إلى زياد بالوصاة عليه وأقطعه ذلك النهر، وفيض البصرة
بكة
يقع في نهر الأبلة حتى يخرج إلى دجلة العوراء حتى يقع في بحر الهند، وفيض البصرة هو نهرها الذي البصرة عليه. بطليوس (1) بالأندلس من إقليم ماردة بينهما أربعون ميلاً، وهي حديثة بناها عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجليتي بإذن الأمير عبد الله له في ذلك، فأنفذ له جملة من البناة وقطعة من المال فشرع في بناء الجامع باللبن والطابية وبنى صومعته خاصة بالحجر واتخذ مقصورة وبنى مسجداً خاصاً بداخل الحصن وابتنى الحمام الذي على باب المدينة وأقام البناة عنده حتى ابتنوا له عدة مساجد، وكان سور بطليوس مبنياً بالتراب، وهو اليوم مبني بالكلس والجندل وبني، في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. وهي (2) مدينة جليلة في بسيط من الأرض ولها ربض كبير أكبر من المدينة في شرقها خلا بالفتن وهي على ضفة نهرها الكبير المسمى الغؤور لأنه يكون في موضع يحمل السفن ثم يغور تحت الأرض حتى لا توجد منه قطرة فسمي الغؤور لذلك، وينتهي جريه إلى حصن مارتلة ويصب قريباً من جزيرة شلطيش، ومن بطليوس إلى اشبيلية ستة أيام ومنها إلى قرطبة ست (3) مراحل. بطروش (4) بالأندلس أيضاً في طريق قرطبة، وهو حصن كثير العمارة شامخ الحصانة، لأهله جلادة وحزم على مكافحة أعدائهما، ويحيط بجبالهم وسهولهم شجر البلوط الذي فاق طعمه كل بلوط على وجه الأرض، ولهم اهتمام بحفظه وخدمته وهو لهم غلة وغياث في سني الشدة والمجاعة. بطن مر (5) بالحجاز بالقرب من عسفان وبينهما أربعة وثلاثون ميلاً، وهي قرية عظيمة كثيرة الأهل حسنة المنازل كثيرة النخل والزرع فيها بركة يجري الماء فيها من الجبل، فإذا خرجت من بطن مر فعلى أربعة أميال قبر ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك على ستة أميال مسجد عائشة رضي الله عنها، ثم إلى بكة ستة أميال، يحرم أهل مكة ويخرجون إلى ذلك الموضع وهو حد الحرم من ذلك الوجه، وحول الحرم أعلام منصوبة من جوانبه، ومن بطن مر إلى بكة ستة عشر ميلاً، وبطن مر متسع وفيه، قرى كثيرة وعيون ومنه تجلب الفواكه إلى مكة شرفها الله تعالى. بكة (6) هو اسم من أسماء مكة شرفها الله تعالى تبدل الميم من الباء، قال تعالى: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ". قيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا، وقيل بكة اسم لبطن مكة لأنهم كانوا يتباكون فيها أي يزدحمون، وقيل بكة موضع البيت ومكة ما حواليه، وقيل بكة ما ولي البيت ومكة ما حواليه، والذي عليه أهل اللغة أن بكة ومكة شيء واحد، وهي مدينة قديمة البناء أزلية معمورة مقصودة من جميع الأراضي الإسلامية وإليها حجهم، وهي بين شعاب الجبال، وطولها من جهة الجنوب إلى الشمال نحو ميلين، ومن أسفل جبل أجياد إلى ظهر جبل قعيقعان مثل ذلك، والمدينة مبنية في وسط هذا الفضاء وبنيانها بالحجارة والطين، وأحجارها من جبالها، وأسواقها قليلة؛ وفي وسط مكة مسجدها الجامع المسمى الحرم وليس لهذا الجامع سقف إنما هو دائر كالحظيرة، والكعبة هو البيت المسقف في وسط الحرم، وهذا البيت طوله من خارجه من ناحية المشرق أربع وعشرون ذراعا وكذلك طول الشقة التي تقابلها من جهة المغرب، وبشرقي هذا الوجه باب الكعبة وارتفاعه عن الأرض نحو القامة. وسطح الكعبة من داخل مساو لأسفل الباب وفي ركنه الحجر الأسود، وطول الحائط الذي من جهة الشمال وهو الشامي ثلاث وعشرون ذراعا وفيه حجر أبيض يقال إنه قبر إسماعيل عليه السلام، وفي الجهة الشرقية من الحرم قبة العباس وبئر زمزم. وما استدار بالكعبة كله حطيم توقد فيه بالليل المصابيح، وللكعبة سقفان وماء السقف الأعلى يخرج عنه إلى خارج البيت في ميزاب من الخشب وذلك الماء يقع على الحجر الذي قيل إنه قبر إسماعيل عليه السلام، والبيت كله من خارج على استدارته مكسو ثياب الحرير العراقية فلا يظهر منه شيء، وهذه الكسوة معلقة فيه بأزرار وعرى يرسلها خليفة بغداد في كل سنة وتزال الأخرى عنها ولا يقدر أحد أن يكسوها غيره فيما سلف والآن يرسلها صاحب مصر، وارتفاع سمك البيت سبع وعشرون ذراعا، ويقال إن الكعبة كانت خيمة لآدم مبنية بالطين والحجارة
بلنجر
فهدمها الطوفان وبقيت مهدمة إلى مدة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فأمرهما الله تعالى ببنيانها فتعاونا على بنائها. ومياه مكة زعاق لا تسوغ لشارب وأطيبها ماء زمزم وهو شروب لا يمكن إدمان شربه، وليس لصاحب مكة عسكر خيل إنما هم الرجالة تسمى الحرابة. ولمكة موسمان ينفق فيهما كل ما جلب إليها، أحدهما أول رجب، والثاني موسم الحجيج، ولأهلها أموال فاشية ولا زرع بها ولا حنطة إلا ما جلب إليها من سائر البلاد. والتمر يأتي إليها كثيرا مما حولها والعنب يجلب إليها من الطائف. ومن مكة إلى المدينة على الجادة نحو عشر مراحل (1) . وعن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض حزن واشتد بكاؤه على الجنة فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة فوضعها له بمكة في موضع الكعبة وكانت الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة فيها قناديل من ذهب ونزل معها الركن وهو ياقوتة بيضاء وكان كرسياً لآدم عليه السلام يجلس عليه، فلما كان الغرق زمن نوح عليه السلام رفع ومكثت الكعبة خراباً ألفي سنة حتى أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني بيته فبنى هو وإسماعيل البيت ولم يجعلا له سقفاً وحرس الله تعالى البيت بالملائكة، والحرم مقام الملائكة يومئذ، وهو أول بيت وضع للناس، وبنته قريش قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين. وفي خبر آخر أن البيت انهدم بعد إبراهيم عليه السلام فبنته العمالقة ثم انهدم فبنته جرهم ثم انهدم فبناه قصي بناء لم يبن أحد مثله. ثم احترقت (2) الكعبة واحترق الركن الأسود وضعفت جدرانها حتى إن الحمام ليقع عليها فتتناثر حجارتها، ففزع أهل مكة لذلك والحصين بن نمير محاصر لابن الزبير رضي الله عنهما، فهدمها ابن الزبير بعد مشاورة الناس واختلافهم عليه، فلما أراد هدمها خرج أهل مكة إلى منى خوف أن ينزل العذاب وما اجترأ على هدمها أحد، فعلاها ابن الزبير بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي حجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا وهدموا وأرقى ابن الزبير رضي الله عنهما عبداً من الحبش يهدمها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة "، فما ترجلت الشمس حتى ألحقها كلها بالأرض. وقال ابن الزبير رضي الله عنهما: أشهد لسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بناء الكعبة وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر أذرعاً ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها " قالت، قلت: لا. قال صلى الله عليه وسلم: " تعززاً لئلا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد يدخل دفعوه فسقط فإن بدا لقومك هدمها فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر منها " فأراها قريباً من سبع أذرع، فلما هدمها ابن الزبير رضي الله عنهما وسواها بالأرض وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجد داخلاً إلى الحجر نحواً من ست أذرع وشبر كأنه أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض كتشبيك الأصابع تحرك الحجر من القواعد فتتحرك الأركان كلها، فأشهد ابن الزبير رضي الله عنهما الناس على ذلك الأساس وأدخل بعضهم عتلة في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها ورجفت مكة رجفة شديدة حين تزعزع الأساس وخاف الناس خوفاً شديداً حتى ندم من أشار على ابن الزبير بهدمها وسقط في أيديهم، ثم وضع ابن الزبير رضي الله عنهما البناء على ذلك الأساس، ولما قتل ابن الزبير رضي الله عنهما ودخل الحجاج مكة كتب إليه عبد الملك أن ابن الزبير قد زاد في بيت الله ما ليس فيه وأحدث باباً آخر، فهدم الحجاج منه ست أذرع وشبراً مما يلي الحجر وبناها على أساس قريش، وآخر من زاد في الكعبة أمير المؤمنين المهدي سنة أربع وستين ومائة فهو على ذاك الآن، وهذا باب يتسع القول فيه فليقتصر على هذا القدر. بلنجر (3) مدينة في بلاد الروم شهد فتحها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال زهير بن القين البجلي: غزوت بلنجر وشهدت فتحها فسمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: أفرحتم بفتح الله تعالى عليكم فإذا أدركتم شباب آل محمد صلى الله عليه وسلم فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم، فلما سمع زهير بخروج الحسين بن علي رضي الله عنهما تلقاه فكان في جملته وقتل معه بكربلاء، وكان عمر رضي الله عنه جعل سلمان بن ربيعة الباهلي، وهو الذي كان يلي لعمر رضي الله عنه الخيل وهو سلمان الخيل، على مقاسم مغانم
فحص البلوط
المسلمين حين افتتحوا بلاد العجم وعلى قضائهم فهو أول قاض لعمر رضي الله عنه، وافتتح سلمان ما بين أذربيجان إلى الباب والأبواب من الخزر، وجاز الباب حتى بلغ مدينتهم بلنجر، ومات هناك بالخزر، والترك تعرف فضله وتستسقي بقبره من القحوط وتستشفي به من الأسقام وله صحبة. وقيل غزا عبد الرحمن بن ربيعة الذي يقال له ذو النور في السنة التاسعة من إمارة عثمان رضي الله عنه بلنجر فحصرها ونصب عليها المجانيق والعرادات فكان لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه وقتلوه وأسرعوا في الناس ثم إن الترك توافوا إليهم فاقتتلوا فأصيب عبد الرحمن فاحتازه المشركون فحملوه في سفط، فكانوا يستشفون به ويستسقون به. وقيل بلنجران بزيادة ألف ونون وهي جزيرة سرنديب تكون هذه الجزيرة ستين فرسخاً في مثلها وفيها جبل واسم (1) الذي أهبط عليه آدم عليه الصلاة والسلام. فحص البلوط (2) بالأندلس من ناحية قرطبة منه القاضي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي كان متفنناً في ضروب من العلوم وكانت له رحلة لقي فيها جماعة من العلماء في الفقه واللغة وكان كثير المناقب والخصال الحميدة غير مدافع مع ثبات جنان وجهارة صوت وحسن ترتيل، وله تفسير على الكتاب العزيز. ومما جرى له مع عبد الرحمن الناصر أمير المؤمنين أنه بنى قبة واتخذ قراميد القبة من فضة وبعضها مغشى بالذهب وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة وبيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها، فجلس فيها إثر تمامها لأهل مملكته وقال لقرابته ووزرائه مفتخراً عليهم: رأيتم أو سمعتم ملكاً كان قبلي صنع مثل ما صنعت فقالوا له: لا والله يا أمير المؤمنين وإنك لأوحد في شأنك، فبينا هم على ذلك دخل منذر بن سعيد واجماً ناكساً رأسه، فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته، فأقبلت دموع القاضي تتحدر على لحيته وقال له: والله يا أمير ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله تعالى وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين، فاقشعر عبد الرحمن من قوله وقال: انظر ما تقول، كيف أنزلني منازلهم؟ قال: نعم أليس الله تعالى يقول " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون " فوجم الخليفة عبد الرحمن ونكس رأسه ملياً ودموعه تتحدر على لحيته خشوعاً وتذمماً مما جرى ثم أقبل على منذر بن سعيد فقال له: جزاك الله عنا وعن الدين خيراً وكثر في الناس أمثالك فالذي قلت والله هو الحق، وقام من مجلسه ذلك يستغفر الله تعالى وأمر بنقض سقف القبة وأعاده قرمداً على صفة غيرها. ومن أخباره أن الناصر لدين الله أمره بالخروج للاستسقاء، فخرج واجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله في جمع عظيم ثم قام منذر بن سعيد باكياً خاشعاً لله تعالى، فخطب فقال: " سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم " استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، قال: فضج الناس بالبكاء وارتفعت أصواتهم بالاستغفار والتضرع إلى الله تعالى بالسؤال، فما تم النهار حتى أرسل الله تعالى السماء بماء منهمر. وكان رحمه الله تعالى على متانة دينه وجزالته في أحكامه حسن الخلق كثير الدعابة ربما ارتاب بباطنه من لا يعرفه حتى إذا رام أن يصيب من دينه ثار به ثورة الليث العادي، قيل له إن قوماً من جيران أحد المتحاكمين من أهل ربض الرصافة قد تألبوا معه على خصمه وأعانوه بشهادة مدخولة وهم غادون بها عليك وكان كثيرا ما تأتيه عيونه بمثل ذلك فغدوا عليه بمجلس نظره وكانت أسماء جميعهم متفقة في الوزن على مثال فعلون فأخذوا مواضعهم وقام الذين يشهدون له، فلما رأى القاضي أسماءهم قال رافعاً صوته: يا ابن صيفون ويا ابن زيدون ويا ابن سحنون من الربض الملعون ألقوا ما أنتم ملقون، فلما سمعوا قوله لاذوا عن الشهادة وخرجوا متسللين فكفي شأنهم. وكان نظاراً لا يقنع بالتقليد، ومن قوله في استقصار هذه الفرقة: عذيري من قوم إذا ما سألتهم ... دليلاً يقولوا هكذا قال مالك
بلخ
فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ... وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن قلت قال الله ضجوا وأعولوا ... علي وقالوا أنت خصم مماحك ونوادره كثيرة. بلخ (1) هي مدينة خراسان العظمى وهي في مستو من الأرض، ودار مملكة الأتراك والملك بها لازم، وبها العساكر والأجناد والملك والقواد والعمال والأسواق العامرة والمتاجر والأموال الواسعة والأحوال الصالحة، وبناؤها بالطين واللبن، ولها سبعة أبواب وربض عامر كثير المساكن، وبها أسواق وصناعات، ومسجد جامعها في وسط المدينة والأسواق دائرة به، وهي على ضفة نهر متوسط مقدار ما يدير ماؤه عشر أرحاء، وهو جار على باب النوبهار ويسقي رساتيق وقد أحاط بجميعها من كل الجهات الكروم والجنات والبساتين والمباني والمنتزهات، وبها مدارس للعلوم ومقامات للطلاب والأرزاق جارية على من أراد شيئا من ذاك، وبهذه المدينة أموال وملوك مياسير وتجار وأحوال صالحة. ويتصل بها من جهة جنوبها بلاد طخارستان، وهي قطب ومدار لما جاورها (2) . ولها كور ومدائن وفتحها عبد الله بن سمرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. ومدينة بلخ (3) يتصل بعملها طخارستان والختل وعمل الباميان وهي مدينة في بساط من الأرض وبينها وبين أقرب الجبال إليها أربعة فراسخ وهي مع ربضها نحو فرسخ في مثله، واسم نهرها دهاس، وهي قديمة تجمع ضروب التجارات وتقصد بالأمتعة من كل الجهات، ويغلب على أهلها تدقيق النظر في العلوم الغامضة ويرتفع من بلخ النوق البخاتي التي لا نظير لها في قطر من الأقطار، ومن بلخ إلى مدينة مرو مائة وستة وعشرون فرسخاً. قال أصحاب المغازي (4) : بعث عبد الله بن عامر الأحنف بن قيس إلى بلخ فسار إليهم من مرو الروذ فحاصرهم فصالحه أهلها على أربعمائة ألف فرضي بذلك ومضى إلى خوارزم فأقام حتى هجم الشتاء فقال لأصحابه: ما ترون؟ فقال له حصين: قد قال عمرو بن معدي كرب: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فأمر الأحنف بالرحيل ثم انصرف إلى بلخ وقد قبض ابن عمه ما صالحهم عليه ووافق مهرجانهم وهو يجبيهم فأنفذوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع ودواب فقال: هذا لم نصالحكم عليه، قالوا: لا، ولكن هذا شيء نصنعه في هذا اليوم لمن ولينا نستعطفه به، قال: ما أدري ما هذا وإني لأكره أن أرده ولعله من حقي، ولكني أقبضه وأعزله حتى أنظر، وقدم الأحنف فأخبره فسألهم عنه فقالوا مثل ما قالوا له، فقال الأحنف: آتي به الأمير، فحمله إلى ابن عامر وأخبره به فقال: اقبضه يا أبا بحر فهو لك، قال: لا حاجة لي فيه، فقال ابن عامر: ضمه إليك، قال: وكان مضماً. وفي سنة ثمان عشرة (5) وست مائة نزل الططر على مدينة بلخ وقد انتهت حينئذ في العمارة والجلالة، فقاتل أهلها وصبروا حتى قتل منهم ومن الططر خلق، وكان تحصل عند الططر من المسلمين من بلاد خراسان عدد كثير فأضافوهم لمن جلبوه معهم وقدموهم أمامهم وزحفوا بهم لقتال بلخ لتقع فيهم السهام وحجارة المنجنيق، وتكاثر الططر واشتد القتال وطال، وكانت أسوارها متشعثة لاستمرار العافية، فدخلوها عنوة ولم يبقوا فيها عيناً تطرف، وتركوها أكوام تراب تعوي فيها الذئاب ثم ساروا إلى أختها نيسابور. بلابية مدينة في العدوة الشامية من مدينة برذيل بناحية الأندلس من جهة بلاد الافرنجة وهي مبنية بالحجر كثيرة الكروم، وبينها وبين برذيل عشرون ميلاً في السفن مع جرية الماء. البلقاء (6) مدينة بالشام من عمل دمشق سميت بالبلقاء بن سورية
بلنسية
من بني عبيل بن لوط وهو بناها، وبها كان اجتماع الحكمين: أبي موسى وعمرو بن العاصي رضي الله عنهما فكان من أمرهما ما كان، وقيل كان ذلك بدومة الجندل على عشرة أيام من دمشق. وفي بعض أخبار يوم اليرموك عن حنظلة بن جؤية قال (1) : والله إني لفي الميسرة إذ مر بنا رجال من الروم وهم أشبه شيء بنا فلا أنسى قول قائل منهم: يا معشر العرب الحفوا بوادي القرى ويثرب ويقول: في كل يوم خيلنا تغير ... نحن لنا البلقاء والسدير ... هيهات، يأبى ذلك الأمير ... والملك المتوج المحبور ... قال: فحملت عليه وحمل علي فاضطربنا بسيفينا فلم يغنيا شيئا ثم اعتنقنا فخررنا جميعا فاعتركنا ساعة ثم إنا تحاجزنا فنظرت إلى ما بدا من عنقه فوالله ما أخطأته، فقطعته فصرع فضربته حتى قتلته، وأقبلت إلى فرسي وقد كان عار، وإذا بقومي قد حبسوه علي فأقبلت حتى ركبته. وبالبلقاء مات يزيد بن عبد الملك بن مروان سنة خمس ومائة وبويع لأخيه هشام بن عبد الملك. بلنسية (2) في شرق الأندلس بينها وبين قرطبة على طريق بجانة ستة عشر يوما وعلى الجادة ثلاثة عشر يوما، وهي مدينة سهلية وقاعدة من قواعد الأندلس في مستو من الأرض عامرة القطر كثيرة التجارات وبها أسواق وحط وإقلاع، وبينها وبين البحر ثلاثة أميال، وهي على نهر جار ينتفع به ويسقي المزارع وعليه بساتين وجنات وعمارات متصلة والسفن تدخل نهرها، وسورها مبني بالحجر والطوابي، ولها أربعة أبواب، وهي من أمصار الأندلس الموصوفة وحواضرها المقدمة، ولأهلها حسن زي وكرم طباع والغالب عليهم طيب النفوس والميل إلى الراحات، وهي في أكثر الأمور راخية الأسعار كثيرة الفواكه والثمار جامعة لخيرات البر والبحر، ولها أقاليم كثيرة، وهي في الجزء الرابع من قسمة قسطنطين. وكان الروم تغلبوا على بلنسية قديماً ثم أحرقوها عند خروجهم منها سنة خمس وتسعين وأربعمائة فقال أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن خفاجة (3) : عاثت بساحتك العدا يا دار ... ومحا محاسنك البلى والنار فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار أرض تقاذفت النوى بقطينها ... وتمحضت بخرابها الأقدار فجعلت أنشد خير سادة أهلها ... " لا أنت أنت ولا الديار ديار " (4) وقال الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن خلصة البلنسي (5) : وروضة زرتها للأنس مبتغياً ... فأوحشتني لذكرى سادة هلكوا تغيرت بعدهم حزناً وحق لها ... مكان نوارها أن ينبت الحسك لو أنها نطقت قالت لفقدهم ... " بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا " (6) ثم في سنة ست وثلاثين وستمائة ملك الروم بلنسية صلحاً واستولى عليها ملك أرغون جاقه (7) ، وأكثر أدباؤها بكاءها والتأسف عليها نظماً ونثراً، فمن ذلك قول الكاتب أبي المطرف
ابن عميرة (1) خاطب بها الكاتب أبا عبد الله بن الأبار جواباً عن رسالة: طارحني حديث مورد جف، وقطين خف، فيالله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا، فافترقوا أيدي سبا، وانتثروا على الوهاد والربا، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة، لا ترقأ من أجلها عبرة داء خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى موتاها وشجا بيومها الأطول كهلها وفتاها، أنذر في القوم بحران أنيجة (2) يوم أثاروا أسدها المهيجة فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب، أثكلتنا إخواناً أبكانا نعيهم، ولله أحوذيهم وألمعيهم ذاك أبو ربيعنا (3) ، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه، وبعد ذاك أخذ من الأم (4) بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل: على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء، فأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرصافة، ومزقت الحلة والشملة، وأوحشت الحرة (5) والرملة، ونزلت بالجارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظبائها على طول الحسرة، فأين الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها (6) والأصائل وشحوب معتلها (7) دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها (8) ، حتى أحاطت بجزيرة شقرها فآه لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه، ويا لجنة أجرى الله النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق (9) نعتها وإنما كانت داره التي فيها دب، وعلى أوصاف محاسنها أكب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه. وله من رسالة أخرى في المعنى. ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمة المتون، وقاضية المنون، ومضرمة نار الشجون، ومذرية ماء الشؤون، وهو الحادث في بلنسية دار النحر، وحاضرة البر والبحر، وطمع أمل السيارة، ومطرح شعاع البهجة والنضارة، أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها، ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب، وعلم سهام الأحزان أن تصيب ودمع الأجفان أن يصوب، فيا ثكل الإسلام، وشجواً للصلاة والصيام، يوم الثلاثاء وما يوم الثلاثاء يا ويح الداهية الدهياء وتأخير الإقدام عن موقف العزاء: أين الصبر وفؤادي أنسيه ... لم يبق لقومه على الرمي سيه هيهات يحور ما مضى من أنسيه ... (10) من بعد مصاب حل في بلنسيه يا طول هذه الحسرة، ألا جابر لهذه الكسرة، أكل أوقاتنا ساعة العسرة، أخي أين أيامنا الخوالي، وليالينا على التوالي، ولاية عيش نعم بها الوالي، ومسندات أمس (11) يعدها الرواة من العوالي (12) : بعداً لك يا يوم الثلاثا من صفر ... ما ذنبك عندي بشيء يغتفر قد أشمت بالإسلام حزب من كفر ... (13) من أين لنا المفر كلا لا مفر كل رزء في هذا الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى
تنفرج، كيف انتفاعنا بالضحى والأصايل إذا لم يعد ذلك النسيم الأرج (1) ليس لنا إلا التسليم والرضا بما قضاه الخلاق العظيم. وقال في رسالة أخرى في المعنى: وأجريت خبر الحادثة التي محقت بدر التمام، وذهبت بنضارة الأيام، فيا من حضر يوم البطشة، وعزي في أنسه بعد تلك الوحشة، أحقاً أنه دكت الأرض، ونزف المعين والبرض، وصوح روض المنى، وصرح الخطب وما كنى، أبن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام، وعقدت مناحة الإسلام، وجاء الخطب العسر، وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر: حلم ما نرى بل ما رأى ذا حالم ... طوفان يقال عنده لا عاصم من منصفنا من الزمان الظالم ... (2) الله بما يلقى الفؤاد عالم بالله أي نحو تنحو، ومسطور تثبت أو تمحو، وقد حذف الأصلي والزائد وذهبت الصلة والعائد، وباب التعجب طال، وحال البائس لا تخشى الانتقال (3) ، وذهبت علامة الرفع وفقدت سلامة الجمع، والمعتل أعدى الصحيح، والمثلث أردى الفصيح، وامتنعت العجمة من الصرف، وأمنت زيادتها (4) من الحذف. ومالت قواعد الملة، وصرنا إلى جمع القلة، فللشرك صيال وتخمط، ولقرنه في شركه تخبط، وقد عاد الدين إلى غربته، وشرق الإسلام بكربته، كأن لم تسمع بنصر بن نصير، وطرق طارق بكل خير، ونهشات حنش (5) وكيف أعيت الرقى، وأبانت ليل السليم من نوم الملتقى (6) ولم تخبر عن المروانية وصوائفها، وفتى معافر (7) وتعفيره الأوثان وطوائفها، لله ذاك السلف لقد طال الأسى عليهم والأسف. وقال في رسالة أخرى: وما الذي نبغيه، أو أي أمل لا نطرحه ونلغيه، بعد الحادثة الكبرى والمصيبة التي كل كبد لها حرى، وكل عين من أجلها عبرى، لكن هو القضاء لا يرد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ومما قاله في ذلك من المنظوم قوله: ما بال دمعك لا يني مدراره ... أم ما لقلبك لا يقر قراره أللوعة بين الضلوع لظاعن ... سارت ركائبه وشطت داره أم للشباب تقاذفت أوطانه ... بعد الدنو وأخفقت أوطاره أم للزمان أتى بخطب فادح ... من مثل حادثه خلت اعصاره بحر من الأحزان عب عبابه ... وارتج ما بين الحشا زخاره في كل قلب منه وجد عنده ... أسف طويل ليس تخبو ناره أما بلنسية فمثوى كافر ... حفت به في عقرها كفاره زرع من المكروه حل حصاده ... عند الغدو غداة لج حصاره وعزيمة للشرك جعجع بالهدى ... أنصارها إذ خانه أنصاره قل كيف تثبت بعد تمزيق العدا ... آثاره أم كيف يدرك ثاره ما كان ذاك المصر إلا جنة ... للحسن تجري تحته أنهاره
طابت بطيب نهاره آصاله ... وتعطرت بنسيمه أشجاره أما السرار فقد عداه وهل سوى ... قمر السماء يزول عنه سراره قد كان يشرق بالهداية ليله ... والآن أظلم بالضلال نهاره ودجا به ليل الخطوب فصبحه ... أعيى على إبصاره إسفاره ومما صدر عن الكاتب أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الابار في ذلك قوله من رسالة: وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أسعدها الطائرة، وطلعت أنحسها العاثرة فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن. كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جنى فيها ولا غصن واهاً وآهاً يموت الصبر بينهما ... (1) موت المحامد ببن البخل والجبن أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد ورقها وأغانيها، أين حلى رصافتها وجسرها، ومنزل عطائها ونصرها، أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خضارة، أين جداولها المنساحة وخمائلها، أين جنائنها النفاحة وشمائلها، شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية الضحى بحيرتها وبحرها فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان،، ثم لم يلبث داء عقرها أن دب إلى جزيرة شقرها، فأمر عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية،،ويا لشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وأنحائها، والهفاه على تدمير وتلاعها، وقرطبة وبواديها، وحمص وواديها، كلها رعي كلؤها ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها، فأغص الحصار أكثرها، وطمس الكفار عينها وأثرها وتلك إلبيرة بصدد البوار، وريه في مثل حلقة السوار، ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار، إلى بنيات لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول ناطق بهات، ما هذا النفخ بالمعمور، أهو النفخ في الصور، أم النفر عارياً من الحج المبرور فيا للأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها، قوض عن صوامعها الأذان، وصمت بالنواقيس فيها الأذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع، أعقت الحق فحاق بها الإيقاع، كلا بل دانت للسنة، وكانت من البدع في أحصن جنة، هذه المروانية مع اشتداد أركانها وامتداد سلطانها، ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب، وولت ولم تظفر من خلعة ولا نقلة بمطلوب (2) ، إلى المرابطة بأقاصي الثغور، والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيعة، والروضة المريعة، من معاداة الشيعة وموالاة الشريعة، فليت شعري بما استوسق تمحيصها، ولم يعلق بعموم البلاء تخصيصها. اللهم غفراً طال ما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما خط في اللوح المقدور، فما عسى أن ينفث المصدور، وربنا الحكيم العليم، فحسبنا التفويض والتسليم. ويا عجباً لبني الأصفر، أنسيت يوم الصفر (3) ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر، دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سعيد، هلا تذكرت العامرية وغزواتها، وهابت العمرية وهبواتها. ومما قاله في ذلك من المنظوم قصيدته السينية التي أولها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... يقول فيها: يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للحادثات وأمسى جدها تعسا يا للمساجد عادت للعدى بيعاً ... وللنداء يرى أثناءها جرسا
بلخشان
لهفاً عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارساً للمثاني أصبحت درسا كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوح النضر من أزهارها وعسا وحال ما حولها من منظر عجب ... يستجلس الركب أو يستركب الجلسا محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حيناً ولا نعسا ورج أرجاءها لما أحاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا مدائن حلها الإشراك مبتسماً ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا وصيرتها العوادي العائثات بها ... يستوحش الطرف منهم ضعف ما أنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا وهي طويلة. وفي بلنسية بقول أبو عبد الله ابن عياش (1) : بلنسية بيني عن القلب سلوة ... فإنك روض لا أحن لزهرك وكيف يحب المرء داراً تقسمت ... على صارمي جوع وفتنة مشرك وامتعض من هذا القول أبو الحسن ابن حريق فأجاب (2) : بلنسية نهاية كل حسن ... حديث صح في شرق غرب فإن قالوا محل غلاء سعر ... ومسقط ديمتي طعن وضرب فقل هي جنة حفت رباها ... بمكروهين من خوف وحرب بلخشان (3) موضع على مقربة من غزنة إحدى مدن خوارزم بينهما مسيرة ستة أيام فيها معدن البلخش جبل يحتفره أهل العلم بذلك وعليه الأمناء والحفظة والضبط والحراسة، فيخرجون منه، بعد الحفر الكثير والبحث الطويل، صخرة تنقض عن حجارة البلخش من دقاق وجلال أطباقاً كحب الرمان، بينها في تلك الصخرة فصول كشحم الرمان، بقدرة العزيز الحكيم، فتخرج حجارة البلخش صداء غير براقة فإذا جليت عادت كجمر المصطلي لمعاناً وتوقداً، يستأثر السلطان منها بما عظم وجل ويباع من الناس ما دق وقل. بلغار (4) بلاد بلغار متاخمة لبلاد برداس بينهما مسيرة ثلاثة أيام، ومنازلهم على شاطئ نهر أثل، وهم بين برداس والصقلب، وهم قليلو العدد نحو خمسمائة أهل بيت، وهم ينتحلون الإسلام وعندهم المساجد والمؤذنون، ومنهم من يسجد لمن يعظمه كما يفعل أهل الأوثان، والخزر تتاجرهم وتبايعهم. بلرم (5) هي قاعدة بلاد جزيرة صقلية ومدينتها العظمى وهي المدينة المسماة بالمدينة حسبما عناه ابن رشيق في قوله في ذكر هذه البلدة: أخت المدينة في اسم لا يشاركها ... فيه سواها من البلدان والتمس
بلكين:
وعظم الله معنى ذكرها قسماً (1) قلد إذا شئت أهل العلم أو فقس وبلرم هذه دار الملك بصقلية في مدة الإسلام ومدة الروم، ومنها كانت تخرج الأساطيل للغزو، وهي على ساحل البحر والجبال محدقة بها ولها ساحل حسن، وفيها من المباني الحسنة ما هو مشهور، وفيها المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجارة، وبها الجامع الأعظم الذي كان في الزمن القديم وفيه من البنايات وغرائب الصنعة وأجناس التزويق والكتابات (2) كل شيء حسن، ولها ربض هو مدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع جهاتها، وبها المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي كان بها سكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين وباب البحر ودار الصناعة. والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة جارية متدفقة وفواكهها كثيرة ومبانيها ومتنزهاتها حسنة رائقة. وكان إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية نزل على بلرم هذه حين توجه إلى صقلية غازياً ففتح بلرم هذه ودخلها سنة سبع وثمانين ومائتين وقتل من أهلها بشراً عظيماً ثم عفا عنهم، وكان المتولي لحربها ابنه أبو العباس الذي كان ولي عهده وتخلى له عن التدبير عندما أظهر التوبة وأنه يريد الحج ثم أظهر أنه يخاف ابن طولون صاحب مصر ولا يمكنه الجواز عليه بمصر، فصرف وجهه وجده إلى الجهاد وأزال المظالم ونادى مناديه بردها وحضور المتظلم إلى مجلسه، ومات وهو محاصر كشنته (3) من صقلية وكان منع من النوم وبه زلق الأمعاء فوصف له دواء عمله وعرض له الفواق، فقيل: الانطلاق والفواق علتان مفنيتان، ولم يشرب ذلك الدواء، واشتغل إبراهيم بنفسه وزادت به العلة فمات في ذي القعدة من سنة تسع وثمانين ومائتين، وأدى أهل كشنته الجزية وهم لا يعلمون بموته، وحمل إلى المدينة بلرم بعد أن صبر فدفن بها، وقبره في بلرم مشهور. بلكين (4) : جبل بلكين في جزيرة صقلية وفيه المغارة العظيمة التي فيها الدفين المكنوز الذي وضعه هناك صاحب قطانية، وقد أعجزت الناس الحيلة في الوصول إليه. قال محمد بن سعيد الأنصاري الأرجواني إنه أتى هذا الغار في نفر أرادوا الوقوف عليه ومعاينة ما فيه، قال: وكان ديراً للرهبان يسكنونه وله باب واسع يكون طوله مائتي ذراع في مثله، وله مما يلي القبلة باب آخر صغير، قال: فنزلت أنا وصاحب لي فيه فإذا بين أعلاه وقعره نحو ستين قامة وأنزلنا مع أنفسنا سرج الشمع وبقي سائر أولئك النفر في أعلى الغار ينتظرون تحريكنا للحبال التي أرسلونا بها فيجذبونها، قال: ثم سرنا في الغار منحدرين في طريق يسلك تجاه الجنوب حتى أفضينا إلى بئر عمقها نحو ست قيام فنزلنا إليها فإذا بطريق يشرع فيها فسرنا مدة منحنين نحو نصف ميل أيضاً ثم لم تزل تقصر علينا حتى سلكناه حبواً حتى وصلنا إلى مجلس كبير مملوء بحجارة قدر كل حجر نصف القنطار، فنظرنا في إخراج تلك الحجارة فعلمنا إن أخرجنا منها حجراً واحداً فما زاد سد المسلك الذي دخلنا منه، قال: ورأيت للمجلس المذكور من خلل الحجارة باباً آخر من جهة القبلة مرتفعاً عن أسفله بنحو القامتين ومنه أدخلت إليه تلك الحجارة والله أعلم. قال: وقد صنع أمام ذلك المجلس طاق محفور في ناحية المغارة وله فتح قصير يكون شبرين في مثلهما لا يدخل فيه الداخل إلا بتعب شديد ومشقة مجهدة، يذكرون أنه ينزل منه إلى مكان صعب ينزل فيه بحيلة ولطف يوصل منه إلى سماط عظيم يكون طوله نحو مائة ذراع في عرض سبعين ذراعاً وعلوه كثير وفيه عجائب عظيمة من حياض مملوءة بضروب من مياه الحكمة وصور قد وضعت لفنون من المنفعة، قال: فأردنا الدخول إليه والوقوف على عجائبه فخشينا أن ينفد الشمع الذي كان معنا فنهلك، قال: فانصرفنا من حيث دخلنا وكان دخولنا إثر صلاة الصبح، فما وصلنا إلى موضع الحبال التي توازي باب المغارة إلا بعد هزيع من الليل فتعلقنا بالحبال وخرجنا، وقد كان أصحابنا أيسوا منا. ويقال إن صاحب قطانية أدخل هذا الدفين هناك من أسفل غربي الجبل من مغارة أخرى كانت تنفذ إلى هذه ثم سد بابها بطين الحكمة فالله أعلم، ويذكر أن محمد بن سعيد هذا وجد هناك مالاً عريضاً وأصاب فيه خيراً كثيراً.
بلزمة:
بلاطة (1) : فحص بلاطة بالأندلس بين أشبونة وشنترين، يقول أهل أشبونة وأكثر أهل المغرب إن الحنطة تزرع بهذا الفحص فيقيم في الأرض أربعين يوماً فتحصد وان الكيل الواحد منها يعطي مائة كيل وربما زاد ونقص. بلزمة (2) : هي حصن اولي في الشرق من قبر مادغوس وهي في القرب منه وبمقربة من بلد قسطنطينة وبينهما يومان، وهو حصن لطيف وفي أهله عزة ومنعة وله ربض وسوق وآبار طيبة الماء وهو في بساط من الأرض كثير المزارع والقرى، وفي قراه حصون كثيرة وتسير منه إلى مدينة نقاوس، وبناؤه بالحجارة الكبار القديمة، ويذكر أهل تلك الناحية أنه من أيام عيسى عليه السلام، والمدينة في ذاتها مردومة بالتراب والأحجار، ويرى الراءون سورها من خارجها عالياً فإذا دخلوا المدينة لم يروا لها سوراً لأن أرض الحصن مساو لشرفاته ردماً وهذا من غريب البناء. بليونش (3) : قرية كبيرة عند سبتة آهلة كبيرة وكان يوسف بن عبد المؤمن (4) ملك المغرب أمر بجلب الماء من هذه القرية إلى سبتة في سنة ثمانين وخمسمائة على مسافة ستة أميال في قناة تحت الأرض وشرع في عمل ذلك ثم عاقت عنه عوائق فترك. وقرية بليونش على جبل عظيم فيه القردة، وتحته عبر موسى بن نصير إلى ساحل طريف فسمي به، ولبعضهم: بليونش جنة ولكن ... طلوعها يقطع النياطا وقد ذكرها أبو العباس الينشتي الذي كان صاحب سبتة في قوله، وهو ببغداد، يتشوق إلى سبتة (5) فقال: تذكرت من بغداد أقصى المغارب ... فجال نجي الفكر بين الترائب فصبرتها نفساً تكاد من الأسى ... تسرب ما بين الدموع السوارب وقلت لئن كابدت ترحة راحل ... فسوف يريك الله فرحة آيب فلا تيأسي من بعد قصة يوسف ... ولو كنت قد جاوزت سد مآرب ويا جفن كم تجفو المنام حفيظة ... وكم أنت معقود برعي الكواكب لعل الذي ترعاه ليس بحافظ ... لعهدك والأيام ذات عجائب فكم منزل بدلته بعد منزل ... وكم صاحب عوضت عنه بصاحب ولكن سأرعى من يخون مودتي ... ورعي الهوى في البعد أوجب واجب وأذكر أوطاناً نعمت بظلها ... معاهد أحباب ومعني حبايب أبليونش لا جانبت روضك الصبا ... (6) وجاد على مغناك صوب السحائب فما شعب بوان ولا الغوطة التي ... زهت برياض بينها ومذانب بأحسن من مرآك والبحر معرض ... وقد جال فيه الطرف من كل جانب لقد طفت في شرقي البلاد وغربها ... فجانب طرفي غير تلك الجوانب وما عهد أويات لدي مذمم ... ولا ذكر ميمات علي بذاهب فكم لي بها من لذة مع معشر ... يحيون بالريحان يوم السباسب كرام نمتهم للمعالي أكارم ... حسان الوجوه والحلى والضرائب
بلطش:
سلام عليهم ما حييت فإنني ... أزيد لهم حباً بطول التجارب بلطش (1) : بالأندلس إقليم من أقاليم سرقسطة، ونهر هذا الإقليم يسقي مسافة عشرين ميلاً، وبقرب بلطش موضع يتفجر بالماء العذب أول ليلة من شهر أغشت ومن الغداة إلى حد الزوال ثم يبدو فيه القلوص والنقصان، فإذا غربت الشمس جف إلى تلك الليلة من العام المستقبل، هذا دأبه أبداً. بم (2) : مدينة من أرض كرمان كبيرة ذات أسواق وعمارات وأموال كثيرة ولها نخل وكروم وقرى كثيرة وهي أصح هواء من جيرفت ولها قلعة منيعة حصينة مشهورة مذكورة في جميع بلاد كرمان، وأهلها تجار مياسير وبها صناعات قائمة وطرز منصوبة ويعمل بها ثياب القطن الحسنة والمتاع الكثير يتجهز به إلى سائر الأقطار وتصنع عندهم الطيالسة الفاخرة التي يساوي الطيلسان منها ثلاثين ديناراً، ويتجهز به إلى العراقات والشامات وديار مصر وتصنع أيضاً بها العمائم الرفيعة، تبقى مع الدهر والملوك يتنافسون في ثيابها وجيد متاعها ويدخرونه في خزائنهم، ومن بم إلى جيرفت مرحلتان. وفي بم يقول الطرماح (3) : ألا أيها الليل الذي طال أصبح ... ببم وما الإصباح فيك بأروح لئن مر في كرمان ليلي فربما ... حلا بين تلي بابل والمضيح المضيح جبل بناحية الكوفة، ويقال مر الشيء وأمر من المرارة. بنشكلة (4) : حصن بالأندلس وبالقرب من طركونه. منيع على ضفة البحر وهو عامر آهل وله قرى وعمارات ومياه كثيرة وبه عين ثرة تريق في البحر، ويقابل مرسى بنشكلة من بر العدوة جزائر بني مزغناي (5) بينه وبينها ستة مجار. بنجهير (6) : في بلاد الختل وهي على جبل مشتمل على نحو عشرة آلاف رجل ويغلب على أهلها العبث والفساد، ولهم نهر وبساتين وليس لهم مزارع، وهي متصلة ببلاد التبت. بنزرت (7) : بإفريقية وهي أم بلاد عمل صطفورة، وهي مدينة صغيرة عامرة حصينة بها مرافق وأسواق وعليها سور قديم حصين، وبحيرتها المعروفة بها طولها ستة عشر ميلاً وعرضها ثمانية أميال، وهي متصلة بالبحر وكلما أخذت في البر اتسعت، وهذه البحيرة من أعاجيب الدنيا فيها اثنا عشر نوعاً من السمك يؤخذ منه في كل شهر نوع لا يمتزج بغيره من أصناف السمك فإذا تم الشهر جاء صنف آخر من السمك وفقد الأول، وهكذا في كل شهر طول شهور العام. بنبلونة (8) : مدينة بالأندلس بينها وبين سرقسطة مائة وخمسة وعشرون ميلاً بها كانت مملكة غرسية بن شانجة (9) سنة ثلاثين وثلثمائة، وهي بين جبال شامخة وشعاب غامضة قليلة الخيرات أهلها فقراء جاعة لصوص، وأكثرهم متكلمون بالبشقية (10) ، لا يفهمون، وخيلهم أصلب الدواب حافراً لخشونة بلادهم، ويسكنون على البحر المحيط في الجوف. بنبايش (11) : مدينة في بلاد الإفرنجة عظيمة كثيرة الأهل، سورها مبنى بالآجر والكلس، وبها نحو من خمسمائة حداد يعملون الدروع والسيوف والبيضات والرماح، وهو بلد واسع الخطة كثير الخير، وتنتهي أحوازها في الجوف إلى البحر المحيط مسيرة ثلاثة أيام، وأهل بنبايش يزعمون أنهم من الإفرنج ويشبهونهم في صفتهم وملابسهم وهيئتهم وأخلاقهم.
البصرة:
البصرة: بالعراق، وهي كانت قبة الإسلام، ومقر أهله، بنيت في خلافة عمر رضي الله عنه سنة أربع عشرة واختط عتبة بن غزوان المنازل بها وبنى مسجداً من قصب، ويقال بل كان ذلك سنة سبع عشرة. وعتبة أول من اختطها ونزلها في ثمانمائة رجل وهو الذي فتح الأبلة. وبالبصرة خطب عتبة بن غزوان خطبته المشهورة وهي ثابتة في صحيح مسلم (1) ، أولها: أما بعد فإن الدنيا آذنت بصرم وولت حذاء، إلى آخرها ... قالوا: وبشرقيها مياه الأنهار منفرشة، وهي نيف على ثمانية آلاف نهر، وهي في مستو من الأرض لا جبال فيها. وقيل كان فيها سبعة آلاف مسجد ثم خلا أكثرها وما بقي فيها إلا ما دار بالمسجد الجامع الذي فيها. وبالبصرة نهر يعرف بنهر الأبلة طوله اثنا عشر ميلاً وهو مسافة ما بين البصرة والأبلة، وعلى جانبي هذا النهر قصور وبساتين متصلة كأنها بستان واحد ويحويها حيط واحد، وينصب إلى هذا النهر عدة أنهار مما يقاربه أو يماثله في الكبر، وجميع نخيلها في اعتدال قدوده ونضارة فروعه كأنها أفرغت في قالب واحد وغرس سائره في يوم واحد، وجميع أنهار البصرة المحيطة بشرقيها يصب بعضها في بعض، وينشعب بعضها من بعض وأكثرها يدخله المد والجزر من البحر، فإذا دخل المد تراجعت مياه الأنهار فصبت في البساتين والمزارع وسقتها، وإذا كان الجزر عادت الأنهار جارية على حسب عادتها. وحكى الخليل فيه ثلاث لغات: ضم الباء وفتحها وكسرها. ولها نهران أحدهما يعرف بنهر ابن عمر - وجه عمر بن الخطاب ابنه عبد الله رضي الله عنهما لحفره فنسب إليه والآخر يعرف بنهر حسان وهو حسان النبطي صاحب خراج العراق، وبين البصرة والكوفة ثمانون فرسخاً. وسبب بنائها أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو على حرب العراق يستنبئ ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم، فكتب إليه أن العرب غير ألوانها وخومة المدائن ودجلة، فكتب إليه أن العرب لا يوافقها إلا ما يوافق إبلها من البلاد فابعث سلمان وحذيفة رضي الله عنهما، وكانا رائدي الجيش، ليرتادا منزلاً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، فبعث سعد حذيفة وسلمان رضي الله عنهم حتى أتيا الأنبار، فسار سلمان رضي الله عنه في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وسار حذيفة رضي الله عنه في شرقيه حتى أتى الكوفة فأكبا عليها وفيها ديارات ثلاثة منها، دير حرقة بنت النعمان، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليا وقال كل واحد منهما: اللهم رب السموات وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت، ورب الرياح وما أذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما حوت، بارك لنا في هذا الكوفة واجعله منزل ثبات ثم رجعا إلى سعد رضي الله عنه بالخبر. وفي رواية أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد رضي الله عنه أن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما يصلح الشاة والبعير وسأل من قبله عن هذه الصفة فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب وعلمائها باللسان لسان البر الذي أدلعه في الريف، وهو نهر الكوفة فكتب عمر إلى سعد رضي الله عنهما يأمره بنزوله، وبين هذا اللسان وبين القادسية ثمانية فراسخ، فارتحل سعد رضي الله عنه من المدائن بالناس حتى عسكر في الكوفة سنة سبع عشرة. واستقر أيضاً بأهل البصرة منزلهم اليوم فاستقرا في قرارهما في شهر واحد،، قيل بصرت البصرة سنة أربع عشرة وكوفت الكوفة سنة سبع عشرة، فبصر البصرة لعمر رضي الله عنه عتبة بن غزوان ثم استعمل عليها المغيرة بن شعبة، ثم عزله عمر رضي الله عنه واستعمل أبا موسى رضي الله عنه، ثم إن القوم استأذنوا عمر رضي الله عنه في بنيان القصب فقال: العسكر أجد لحربكم وما أحب أن أخالفكم فشأنكم، فابتنى أهل المصرين بالقصب. ثم إن الحريق وقع بالكوفة والبصرة وكان أشدهما حريقاً الكوفة، احترق فيها ثمانون عروساً ولم تبق فيها قصبة فبعث سعد إلى عمر رضي الله عنهما منهم نفراً يستأذنونه في البناء باللبن ويخبرونه عن الحريق فأذن لهم وقال: لا يزيد أحدكم على ثلاثة أبيات ولا تطاولون في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة، وعهد عمر رضي الله عنه إلى الناس وتقدم إلى الناس لا يرفعوا بنياناً فوق القدر، قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن سعداً وأصحابه رضي الله عنهم قد بنوا بالمدر قال: قد كنت أكره لكم ذلك فأما إذا فعلتم فعرضوا الحيطان وأطيلوا السمك وقاربوا الخشب، وعلى الجملة
فالبصرة والكوفة مصرا الإسلام وقرارة الدين ومحال الصحابة والتابعين والعلماء الصالحين وجيوش المسلمين والمجاهدين، ثم نشأت بين أهل المصرين مفاخرة ومفاضلة، فقال من فضل البصرة: كان يقال الدنيا والبصرة. ووقف شيخ دهقان فقال، وهو يتأمل البصرة - أنهارها وكلاءها وأسواقها ومسجدها الأعظم ومجالسها -: قاتلك الله، فوالله ما استجمعت هكذا حتى أخربت بلاداً وبلاداً. وقال بعضهم: مررت ببعض طرق الكوفة فإذا برجل يخاصم جاراً له، فقلت: ما لكما تختصمان؟ فقال أحدهما: لا والله إلا أن صديقاً زارني فاشتهى علي رؤوساً فاشتريت له رأساً فتغدينا به فأخذت عظام الرأس فوضعتها على باب داري أتجمل بها في جيراني فأخذها هذا من بابي فوضعها على بابه وقال: أنا اشتريته. وأنشدوا لبعض أصحاب الضياع: زرعنا فلما سلم الله زرعنا ... ووافى عليه منجل لحصاد بلينا بكوفي حليف مجاعة ... أضر علينا من دبا وجراد وقال الأحنف لأهل الكوفة: نحن أعذى منكم برية وأكثر منكم بحرية وأبعد منكم قرية وأكثر منكم سرية. وزعم أهل الكوفة أن البصرة أسرع الأرض خراباً وأخبثها تراباً وأبعدها من السماء وأسرعها غرقاً. قال البصريون: كيف تكون أسرع غرقاً ومغيض مائها في البحر ثم يخرج ذلك إلى البحر الأعظم ثم إذا جاوز الأبلة بعدة فراسخ يصب في دجلة سامرا ودجلة عبادان ولم يدخل البصرة ماء قط. وعن إياس بن معاوية: مثلت الدنيا على صورة طائر فالبصرة ومصر الجناحان والشام الرأس والجزيرة الجؤجؤ واليمن الذنب، وليس في الحديث ذكر الكوفة. وسئل بعض الناس عن فقهاء الكوفة فقال: أبحث الناس لصغير وأتركه لكبير، يتكلف أحدهم القول في الدور والدين والعين وهو لم يحكم طلاق السنة. وعاب بعض الكوفيين فقهاء البصريين فقال: كان الحسن أزرق وقتادة أعمى وابن أبي عروبة أعرج وهشام أعمى وواصل أحدب وعبد الوارث أبرص ويحيى بن سعيد أحول، فقال بعض البصريين: كان علقمة أعرج وإبراهيم أعور وسليمن أعمش ورشيد أعرج وأبو معاوية أعمى ومسروق مفلوجاً وشريح سناطاً. وقال أبو عبيدة: سعوا بالوليد ثم جاءوا يعتذرون إليه وقالوا: ما رأينا بعدك خيراً منك، قال: لا والله ما رأيت أنا بعدكم شراً منكم، فلما أسهبوا في الثناء وأطنبوا في التقريظ قال: حبكم كلف وبغضكم تلف وطبعتم على الزيادة في الأشعار والتوليد في الآثار وطبعنا على حذف الفضول والتمسك بالأصول، وقال النجاشي: إذا سقى الله قوماً صوب غادية ... فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا السارقون إذا ما جن ليلهم ... والدارسون إذا ما أصبحوا السورا وأرسل الريح تذري في وجوههم ... حتى إذا لم يروا عيناً ولا أثرا ألقى العداوة والبغضاء بينهم ... حتى يكونوا بمن عاداهم جزرا وقال اليعقوبي: أهل الكوفة على قلة أمولهم أهل تجمل وستر وكفاف وعفاف ليس في البلدان أشد عفافاً منهم ولا أشد تجملاً وهي طيبة الهواء عذبة الماء، ماؤها ماء الفرات الأعظم، وهي دار العرب ومادة الإسلام ومعدن العلم، بها أئمة القراء الفصحاء الذين ترجع عامة الناس إلى قراءتهم وفقهاؤها الفقهاء الذين عليهم المعتمد، وهم أهل العلم بالشعر وفصيح اللغة لأن أهلها عرب كلهم لم تخالطهم الأنباط ولا الفرس ولا الخزر ولا السند ولا الهند، ولا تناكحوا في هذه الأجناس فيفسدوا لغاتهم، وإن أصل الرواية ومعرفة اللغة كان فيهم، ومن رواتهم صار إلى أهل البصرة وغيرها لأن أهل الحيرة كانوا أول من دون الشعر وكتبه في أيام آل المنذر اللخميين ملوكها وكانت شعراء الجاهلية تفد عليهم مثل الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة والمتلمس وطرفة وغيرهم، فكان آل المنذر يأمرون كتابهم من أهل الحيرة أن يكتبوا أشعارهم فأخذه الناس عنهم. قال الجاحظ: والكتب الموضوعة في محاجة أهل الشام لأهل العراق وأهل الكوفة لأهل البصرة وأهل الجزيرة لأهل الشام وبغداد والبصرة، وهذا الشكل أهون من محاجة أهل المدينة لأهل مكة والحسنية للحسينية والمهاجرين للأنصار على ما في هذا من الخطأ
فإن الله تعالى لم يفرق في القرآن بين المهاجرين والأنصار كما لم يفرق بين الصلاة والصيام وبين الجنة والنار، كذلك القول في الحسنية والحسينية لأنهما سبط واحد وكنفس واحدة، قال: وأصحاب الفضول كثير فقد رأيت من يزعم أن منكراً أفضل من نكير ويأجوج أشرف من ماجوج وهاروت خير من ماروت، وللأمور حدود الوقوف عندها أصوب. وسنستوفي خبر الكوفة عند الوصول إلى رسمها إن شاء الله تعالى فلنرجع الآن إلى ذكر البصرة. واختطت البصرة في موضعها اليوم على اختلاف الناس في وقت ذلك كما تقدم فبنوا بالقصب ومكثوا كذلك يسيراً حتى أذن لهم عمر رضي الله عنه في البناء باللبن لما وقعت النار بالكوفة واحترق فيها ثمانون عروساً كما ذكرنا، فبنى الناس تزجية وبلغة لما تقدم إليهم عمر رضي الله عنه ألا يرفعوا فوق القدر، وكان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد رضي الله عنه أن ابعث عتبة بن غزوان إلى فرج الهند يرتاد موضعاً يمصره وابعث معه ثمانين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج عتبة من المدائن سنة ست عشرة من الهجرة في سبعمائة حتى نزل على شاطئ دجلة بحيال جزيرة العرب فبنى ولم يبدأ بأول من المسجد فاختطوه ثم رموا من حواليه كله باسهم، واختطوا ما وراء منتهاها على حسب ما فعلوه بمسجد الكوفة، وأول ما بني بالبصرة سبع دساكر منها الخريبة اثنتان والزابوقة واحدة، وفي بني سليم اثنتان وفي الازد اثنتان وبني مسجدها بالقصب ثم بناه ابن عامر باللبن لعثمان بن عفان رضي الله عنه ثم بناه زياد بالآجر لمعاوية رضي الله عنه، وبنى جنبتيه وأتمه عبيد الله بن زياد، ويذكر أن المسجد الحرام أكبر من مسجد البصرة ببضع عشرة ذراعاً. وكسرت البصرة أيام خالد القسري فوجد طولها فرسخين في مثلهما والكوفة ثلثا البصرة. وأول مولود ولد فيها عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما فنحر يومئذ جزوراً وأطعم أهلها وكانوا ثلثمائة أو ثلاثين ومائة. ولأهل البصرة ثلاثة أشياء ليس لأحد من أهل البلدان أن يدعيها ولا يشركهم فيها وهي النخل والشاء والحمام الهدي، أما النخل فهم أعلم قوم بها وأحذقهم بغراستها وتربيتها وإصلاحها وإصلاح عللها وأدوائها وأعرفهم بأحوالها من حين تغرس إلى حين تكمل وتستوي وأبصرهم بالتمر وخرصه وتمييزه وحزره وخزنه، وهي تجارتهم العظمى وعدتهم الكبرى، وفي البصرة من أصناف النخيل ما ليس في بلد من بلاد الدنيا. وأما الشاء فانهم اصطفوا منها العبدية المنسوبة إلى عبد القيس، وذكروا أن رجلاً من وفد عبد القيس يقال له عبادة بن عمرو الشني قال للنبي صلى الله عليه وسلم عند وفادتهم عليه ودعائه لهم: يا رسول الله إني رجل أحب الشاء، فدفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلاً جليلاً من المعز وقبض بيده على أصل أذن ذلك الفحل حتى استدارت أصابعه الكريمة فصار في أذنه كالسمة، فقدم به عبادة بلاده فأطرقه شياهه فجاءت بالشاء العبدية فحملها أهل البصرة من البحرين، وهم يذكرون أن ما من شاة موصوفة كريمة منها إلا وفي أذنها حلقة كالسمة فإذا وجدوها كذلك رغبوا فيها وغالوا فيها، تبلغ الشاة منها خمسين ديناراً، وإذا كان في التيس مثل ذلك تنوفس فيه وبلغ عدة دنانير، وأخبر يحيى بن الفضيل أنه رأى تيساً بالبصرة عظيماً قد حملت عليه مزادة ماء وهي الراوية التي تحملها البغال، فبلغ بها منزل صاحبه، واشتري بأربعمائة دينار، وللشاء عندهم أنساب معروفة ويشهدون على ذلك العدول في الصحف فيقولون: شاة بني فلان أمها فلانة شاة آل فلان، وأبوها تيس آل فلان، وجدتها الفلانية، ويوصف مقدار ما تحلب من اللبن. وأما الحمام فالأمر بالبصرة جل فيه وتجاوز الحد وبلغت الحمام عندهم في الهدي أن جاءت من أقاصي بلاد الروم ومن مصر إلى البصرة وتنافسوا في اقتنائها ولهجوا بها حتى بلغ ثمن الطائر منها سبعمائة دينار، قال: وهذا ما حضرته ورأيته وشهدته. وقيل إنه بلغ بالبصرة ثمن لطائر منها جاء من خليج القسطنطينية ألف دينار، وكانت تباع البيضة من الطائر المشهور الذي قد أتاهم وأبوه من الغاية بعشرين ديناراً وعندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب، وكان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام والمنافسة فيها والاخبار عنها والوصف لأمرها والنعت لمشهورها حتى وجه أهل البصرة إلى بكار بن قتيبة البكراني قاضي مصر وهو منهم، وكان في فضله وعقله ودينه وورعه على ما لم يكن عليه قاض، بحمامات لهم مع قوم ثقات وكتبوا إليه يسألونه أن يتولى إرسالها بنفسه ففعل، وكان الحمام عندهم متجراً من التجارات لا يرون بذلك بأساً. قال الطبري (1) : وفي سنة مائتين وست وسبعين انفرج تل في نهر البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة قبور فيها سبعة أبدان صحيحة وحوض من حجر في لون المسن فيه كتابة لا يدرى ما هي وعلى تلك الأبدان أكفان جدد لينة تفوح منها رائحة المسك، أحدهم
شاب له جمة وجميع أعضائه صحاح وكأنه قد كحل بالكحل وبلت شفتاه بالماء من صحة بشرته وبه ضربة في خاصرته. قال محمد بن جرير: وحدثني بعض أصحابنا ممن شهد أمره أنه جذب شعرة من شعر بعضهم فوجده قوي الأصل نحو قوة شعر الحي. وفي شوال سنة ثمان وخمسين ومائتين غلب على البصرة الدعي وكان قد حصرهم في شعبان ورمضان وقتل من أهلها مائة ألف رجل وقتل بعد أن دخلها مائتي ألف وحرق عامتها وهدم المسجد الجامع وحرقه، وكان أصل هذا الدعي الثائر من البصرة وبها قرأ وتأدب وكان يعلم القرآن والأدب لبعض أبنائها إلى أن كان من أمره ما كان، وخرج في خلافة المعتمد وقيل في خلافة المهتدي فلم يخرج إليه المعتمد وبعث إليه الجيوش فهزمها العلوي الدعي واسمه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وعن من انتمى إليهم، وكان الذي طاوله في تلك الحروب طلحة بن جعفر المتوكل المعروف بالموفق رحمه الله، ثلاث سنين وثمانية أشهر، إلى أن قتله وسيق رأسه إلى بغداد وطيف به. قال بعضهم: رأيت ذلك اليوم فما رأيت مثله حسناً، سار الأمير والجيش أمامه وخلفه والرأس بين يديه محمول على الرمح، وصاعد الوزير معه. وكان قيام هذا الدعي في شوال سنة خمس وخمسين في خلافة المهتدي بالله، وقيل في صفر سنة سبعين كذا في تاريخ القضاعي، وفي تاريخ محمد بن سهل أنه قتل سنة إحدى وسبعين ومائتين وهو خارج من مدينته التي سماها المختارة وهي على دجلة على مسيرة يوم من البصرة بالقرب من عبادان، وسكنها بسودانه الذين جيشوا معه من عبيد أهل البصرة وغيرهم، كان خرج إليهم من البصرة إلى بواديهم وألفهم فأقام معهم بها يقاتل البصرة إلى أن هدمها وحرقها، وكانت مدته إلى أن قتل ست عشرة سنة، وكان موته بسهم أصابه في نحره بين الصفين وهو ينشد: لميتة يلقها الإنسان واحدة ... خير له من لقاء الموت تارات ولما ظفر الموفق بصاحب الزنج قال ابن الرومي يمدح صاعداً الوزير بقصيدة عددها أربع مائة بيت أولها: أبين ضلوعي جمرة تتوقد ... على ما مضى أم حسرة تتجدد قال الصولي: ولا نعلم أحداً مدح رجلاً بأنه لا يحضر الحرب وينفذ كيده فيها نفوذ الأقدار بأحسن مما قاله ابن الرومي: يظل عن الحرب العوان بمعزل ... وآثاره فيها وإن غاب تشهد كما احتجب المقدار والحكم حكمه ... عن الناس طراً ليس عنه معرد ولقد أحسن وإن كان نقله من قول بشار: الدهر طلاع بأحداثه ... ورسله فيها المقادير محجوبة تنفذ أحكامها ... ليس لنا عن ذاك تأخير ثم مدح ابن الرومي فيها صاعداً مشيراً إلى هذه القصة فأحسن. قالوا: وأقام الرواة يروون حرفاً مصحفاً: تهلك البصرة بالريح بعد مائتي سنة حتى جاء صاحب الزنج فعلموا أن صوابه بالزنج بالزاي والنون والجيم. ولصاحب الزنج أشعار أكثرها في الفخر ووجوب القيام لإزالة الظلم وتغيير المنكر. وفيما بين طنجة وفاس من أرض المغرب مدينة يقال لها البصرة (1) أيضاً كبيرة هي أوسع تلك النواحي مرعى وأكثرها زرعاً ولكثرة ألبانها تعرف بقصر الذبان، وتعرف ببصرة الكتان، وكانوا يتبايعون في بدء أمرها جميع تجاراتهم بالكتان، وتعرف أيضاً بالحمراء لأنها حمراء التربة وسورها مبني بالحجارة وهي بين شرفين ولها عشرة أبواب وجامعها سبع بلاطات وبها حمامان (2) ومقبرتها الكبرى في شرقيها في جبل، وماء المدينة زعاق وشرب أهلها من بئر عذبة على باب المدينة تعرف ببئر ابن ذلفاء، وخارجها في جناتها عيون كثيرة وآبار عذبة. ونساء البصرة مخصوصات بالجمال الفائق والحسن الرائق ليس بأرض المغرب أجمل منهن. قال أحمد بن الفتح المعروف بالخراز (3) التاهرتي يمدح أبا العيش بن إبراهيم بن القاسم:
بعلبك:
قبح الإله اللهو إلا قينة ... بصرية في حمرة وبياض الخمر في لحظاتها والورد في ... وجناتها والكشح غير مفاض في شكل مرجي ونسك مهاجر ... وعفاف سني وسمت إباضي تاهرت أنت خلية وبرية ... عوضت منك ببصرة فاعتاضي لا عذر للحمراء في كلفي بها ... أو تستفيض بأبحر وحياض (1) ما عذرها والعيش عيشي إذ بها ... ملك الملوك ورائض الرواض ومدينة البصرة هذه محدثة أسست في الوقت الذي أسست فيه أصيلة أو قريباً منه، وبين البصرة وفاس مرحلتان أو ثلاث. بصنا (2) : مدينة من كور خوزستان بينها وبين مدينة السوس مرحلة، وهي صغيرة خلقها كثير، وبها طرز للسلطان يعمل بها الستور المنسوبة إليها في جميع الأرض المكتوب على تطريزها " مما عمل ببصنا "، وقد يعمل بغيرها من المدن ستور تكتب عليها " بصنا ". بصرى: من أرض الشام من أعمال دمشق وهي مدينة حوران وفي شرقي هذه المدينة بحيرة تجتمع فيها مياه دمشق وتسير منها في صحراء ورمال مقدار خمسة عشر فرسخاً فتدخل دمشق. وفي الخبر أن آمنة لما حملت بالنبي صلى الله عليه وسلم رأت كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام، روي ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. بعلبك (3) : مدينة بالشام بينها وبين دمشق في جهة الشرق مرحلتان، وهي حصينة في سفح جبل وعليها سور حصين بالحجارة سعته عشرون شبراً، والماء يشق في وسطها ويدخل كثيراً من ديارها وعلى هذا النهر أرحاء ومطاحن، وهي كثيرة الغلات نامية الإصابات والفواكه كثيرة الكروم والأشجار رخيصة الأسعار، وبها من عجيب الآثار الملعبان، والكبير بني في أيام سليمان بن داود عليهما السلام، وطول الحجر من حجارته عشرة أذرع على عمد شاهقة يروع منظرها (4) وبهذه المدينة من الهياكل شيء عجيب. وهذه المدينة هي المذكورة في قول امرئ القيس: لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا وهي قديمة البناء جداً حتى إن عوام أهلها يزعمون أن سورها من بنيان الشياطين لا يغيره زمان ولا يؤثر فيه حدثان، ولكثرة بساتينهم يشترى عندهم من الفواكه بدانق ما يأكل جماعة أهل البيت ويفضلون منه. قيل النسبة إليها بعلبكي وإن شئت قلت بعلي أو بكي وفتحت بصلح في زمان عمر رضي الله عنه سنة أربع عشرة، وإلى أهل بعلبك بعث الله تعالى الياس النبي عليه السلام، وكان لأهل بعلبك صنم يدعى بعلاً والبعل بلغة اليمن الرب، فسميت بعبادة أهلها بعلاً واسم الموضع بك. بعاث (5) : بضم أوله وبالعين المهملة والثاء المثلثة موضع على ليلتين من المدينة النبوية فيه كانت الوقيعة واليوم المنسوب إليها بين الأوس والخزرج قبل الإسلام، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملأهم وقتلت سراتهم وجرحوا فقدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام. بغداد (6) : دار مملكة خلفاء بني العباس، وفيها أربع لغات: بغداد بدالين مهملتين، وبغداذ معجمة (7) الأخيرة، وبغدان بالنون، ومغدان بالميم بدلاً من الباء، وتذكر وتؤنث. قالوا: وبغداذ بالفارسية عطية الصنم لأن بغ صنم وداذ عطية، ولذلك
كره الأصمعي هذه التسمية. وكانت قرية من قرى الفرس فأخذها أبو جعفر غصباً فبنى فيها مدينة وقال الجرجاني: باغ بالفارسية هو البستان الكثير الشجر، وداذ: معطي، فمعناه معطي البساتين. قال أبو عثمان النهدي (1) : كنا نسير مع جرير بن عبد الله البجلي حتى انتهى إلى موضع فقال: أي موضع هذا؟ قالوا: قطربل، فحرك دابته ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تبنى مدينة بين دجلة والدجيل والصراة وقطربل يجبى إليها خراج كل أرض وتجمع إليها جبابرة الأرض، وفي رواية يخسف بها. كذا أحسب. وسميت بغداد لأنه أهدي إلى كسرى خصي من المشرق وكان له صنم يقال له بغ فقال الخصي: بغداذي أي أعطاني إلهي يعني الصنم، ولهذا كان المتورعون يكرهون أن يسموا بغداذ بهذا الاسم ويقولون بغداد بالدال المهملة. وكان أبو جعفر المنصور بعث رجالاً سنة خمس وأربعين ومائة يطلبون له موضعاً يبني فيه مدينة فطلبوا فلم يرضوا موضعاً حتى جاء موضعاً بالصراة وقال: هذا موضع أرضاه تأتيه الميرة من الفرات ودجلة والصراة. وكان أبو جعفر هذا وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بنى مدينة بين الكوفة والجزيرة سماها الهاشمية فأقام بها مدة إلى أن عزم على توجيه ابنه محمد المهدي لغزو الصائفة في سنة أربعين ومائة فصار إلى بغداد فوقف بها وقال: ما اسم هذا الموضع؟ فقيل: بغداد، فقال: هذه والله المدينة التي أعلمني أبي محمد بن علي أني أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي من بعدي، ولقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام حتى يتم تدبير الله تعالى وحكمه في وتصح الروايات وتبين الدلالات والعلامات تأتيها الميرة في الدجلة والفرات من واسط والأبلة والأهواز وفارس وعمان واليمامة وما يتصل بذلك، وكذلك ما يأتي من الموصل وديار ربيعة وأذربيجان وأرمينية والرقة والشام والثغور ومصر والمغرب وأصفهان وكور خراسان فالحمد لله الذي ذخرها لي وأغفل عنها كل من تقدمني والله لأبنينها ثم أسكنها أيام حياتي ويسكنها ولدي من بعدي ثم لتكونن أعمر مدينة في الدنيا ثم لأبنين بعدها أربع مدن لا تخرب واحدة منهن أبداً فبناها وبنى الرافقة ولم يستتمها وبنى ملطية والمصيصة والمنصورة، فوجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، وكان فيمن أحضر الحجاج بن ارطاة وأبو حنيفة فكان أول ما ابتدئ ببنيانها في سنة خمس وأربعين ومائة ثم قسم الأرض أربعة أقسام وقلد القيام بكل ربع رجلاً من قواده ورجلاً من مواليه ورجلاً من المهندسين ونظر عند بنائها من أخذ الطالع فكان المشتري في القوس فدلت النجوم على طول ثباتها وكثرة عمارتها وانصباب الدنيا إليها، قال المخبر: ثم قلنا يا أمير المؤمنين وخلة أخرى فيها تدل النجوم على أنه لا يموت فيها خليفة، فتبسم وقال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك قال بعض مداح المنصور: إن خير القصور قصر السلام ... إذ به حل سائس الإسلام منزل لا يزال من حل فيه ... آمناً من حوادث الأيام ولهذا قالوا: نزل بغداد سبعة خلفاء: المنصور والمهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد ومحمد الأمين وعبد الله المأمون والمعتصم فلم يمت بها واحد منهم إلا محمد الأمين فإنه قتل خارج باب الأنبار عند بستان طاهر، وانتقل المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين إلى سر من رأى، فهذا مصداق ما دلت عليه النجوم. وإنما سميت مدينة السلام لأن دجلة كان يقال لها وادي السلام فقيل لبغداد مدينة السلام. وقيل لأنهم أرادوا مدينة الله واسمها الأول عند الناس الزوراء لانعطافها بانعطاف دجلة، وتسمى القوس زوراء لانعطافها، وكان بعضهم يسميها الصيادة لأنها تصيد قلوب الرجال، وقال رجل من أهل البصرة: مررت ببغداد في السحر فأعجبني كثرة الأذان فيها فهتف بي هاتف: ما الذي يعجبك منها، لقد فجر فيها البارحة سبعون ألفاً. ورأى أبو بكر الهذلي سفيان بن عيينة ببغداد فقال: بأي ذنوبك دخلتها؟ وقيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ فقال: الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها. وقال آخر: لو أن الدنيا خربت وخرج أهل بغداد لعمروها. وكان فراغ المنصور من بنائها ونقل الخزائن إليها والدواوين وبيوت الأموال سنة ست وأربعين ومائة وكان استتمامه لجميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين.
وقال أحمد بن أبي يعقوب (1) : بغداد وسط العراق، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ولا في مغاربها سعة وجلالة وكبراً وعمارة وكثرة مياه وصحة هواء، سكنها أهل الأمصار والكور وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم، يجري في حافتيها النهران الأعظمان دجلة والفرات، فتأتيها التجارات والميرة براً وبحراً بأيسر السعي حتى تكامل فيها كل متجر من المشرق والمغرب من أرض الإسلام ومن غير أرض الإسلام، فإنه يحمل إليها من الهند والسند والصين والتبت والترك والديلم والخزر والحبشة وسائر البلدان القاصية والدانية حتى يكون بها من التجارات أكثر مما في البلدان التي خرجت التجارات منها إليها، وهي مدينة بني هاشم ودار مملكتهم ومحل سلطانهم، لم يستبد بها أحد قبلهم ولم يسكنها سواهم، وهي وسط الدنيا لأنها من الإقليم الرابع، وهو الإقليم الأوسط الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الأزمان والفصول، فيكون الحر شديداً في أيام القيظ، والبرد شديداً في أيام الشتاء ويعتدل الفصلان الربيع والخريف. قال: وباعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها ونضرت وجوههم وانفتقت أذهانهم حتى فضلوا الناس في العلم والفهم والنظر والتمييز والتجارات والحذق بكل مناظرة وإحكام كل مهنة وإتقان كل صناعة، فليس عالم أعلم من عالمهم ولا أروى من رواتهم ولا أجدل من متكلمهم ولا أعرب من نحويهم ولا أفصح من قارئهم ولا أمهر من طبيبهم ولا أحذق من مغنيهم ولا ألطف من صانعهم ولا أكتب من كاتبهم ولا أبين من منطيقهم ولا أعبد من عابدهم ولا أورع من زاهدهم ولا أفقه من حاكمهم ولا أخطب من خطيبهم ولا أشعر من شاعرهم ولا أفتك من ماجنهم. وكانت بغداد في أيام الأكاسرة قرية من قرى طسوج بادوريا، ومدينة الأكاسرة إذ ذاك المدائن، من مدن العراق وهي من بغداد على سبعة فراسخ وبها إيوان كسرى انوشروان، ولم تكن بغداد إلا ديراً على مصب الصراة، ولم يكن ببغداد لملك أثر قديم ولا حديث، أما ملك العرب فبدأ أولاً بالحجاز ثم استقر بدمشق من أيام معاوية رضي الله عنه لا يعرف بنو أمية غيرها، فلما جاء أبو العباس السفاح عرف فضل العراق وتوسطها في الدنيا وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله العباس فنزل الكوفة أول مدة ثم انتقل إلى الأنبار فبنى بأعلى شاطئ الفرات الهاشمية وتوفي قبل أن تستتم المدينة ثم كان من بنيان أبي جعفر لبغداد ما كان، ووضع الأساس وضرب اللبن العظام وحفرت الآبار، وعملت القناة التي من نهر كرخايا وهو الآخذ من الفرات وأجريت إلى داخل المدينة للشرب ولضرب اللبن، وجعل للمدينة أربعة أبواب: باب الكوفة وباب البصرة وباب خراسان وباب الشام، بين كل باب منها إلى الآخر خمسة آلاف ذراع بالذراع السوداء، وعلى كل باب منها بابا حديد عظيمان جليلان لا يغلق الباب الواحد منهما ولا يفتحه إلا جماعة رجال، يدخله الفارس بالعلم والرمح الطويل من غير أن يثنيه ولا يميله، وجعل عرض أساس السور تسعين ذراعاً ثم ينخرط حتى يصير في أعلاه خمس وعشرون ذراعاً وارتفاعه ستون ذراعاً مع الشرفات، وحول السور فصيل عظيم بين حائط السور وحائط الفصيل مائة ذراع، وبالفصيل أبرجة عظام وعليه الشرفات المدورة، وحد لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعاً وان يبنوا في جميع الأرباض والدروب من الأسواق والمساجد والحمامات ما يكتفي به أهل كل ناحية ومحلة، وأمرهم أن يجعلوا قطائع القواد والجند ذرعاً معلوماً وللتجار ذرعاً معلوماً يبنونه وينزلونه، ولسوقة الناس وأهل البلدان، وآخر ما بنى القنطرة الجديدة وبها أسواق كثيرة فيها سائر التجارات مادة متصلة ثم ربض وضاح مولى أمير المؤمنين المعروف بقصر وضاح حاجب خزانة السلاح وهناك أسواق، وأكثر من كان فيه في هذا الوقت القريب (2) الوراقون أصحاب الكتب فإن به أكثر من مائة حانوت للوراقين، والكرخ السوق العظمى مادة من قصر وضاح إلى سوق الثلاثاء طولاً مقدار فرسخين، وكل تجارة لها شوارع معلومة في تلك الشوارع حوانيت، وليس يختلط قوم بقوم ولا تجاور تجارة تجارة، وأحصيت الدروب والسكك فكانت ستة آلاف درب وسكة، وأحصيت المساجد فكانت ثلاثين ألف مسجد سوى ما زاد بعد ذلك، وأحصيت الحمامات عشرين ألف حمام سوى ما زاد بعد ذلك، وحفرت القناة التي تأخذ من الفرات في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فتدخل المدينة وتنفذ في أكثر شوارعها، وشوارع الأرباض صيفاً وشتاء قد هندست هندسة لا ينقطع الماء منها في وقت، وقناة أخرى من دجلة على هذا المثال سماها دجيلاً، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهراً يسمى نهر الدجاج لأن أصحاب الدجاج كانوا يقعدون عنده،
البغيبغة:
ونهر عيسى الأعظم الذي يأخذ من معظم الفرات تدخل فيه السفن العظام التي تأتي من الرقة يحمل فيها الدقيق والتجارات من الشام ومصر، وتصير إلى فرضة عليها الأسواق وحوانيت التجار لا تنقطع صيفاً ولا شتاء، ولهم الآبار التي يدخلها الماء من هذه القنوات، وإنما احتيج إلى هذه القنوات لكبر البلد وسعته، ولها فهم بين دجلة والفرات من جميع النواحي تتدفق عليهم المياه حتى غرسوا النخل الذي حمل من البصرة وغيرها فصار ببغداد أكثر منه بالبصرة والكوفة والسواد، وغرسوا الأشجار فأثمرت ثمرات عجيبة وكثرت البساتين والجنات في أرض بغداد من كل ناحية لطيب المياه وطيب الأرض، وعمل فيها كل ما يعمل في بلد من البلدان، لأن حذاق أهل الصناعات انتقلوا إليها من كل بلد وأتوها من كل أفق ونزعوا إليها من الأداني والأقاصي، فهذا الجانب الغربي من بغداد وهو جانب الكرخ وجانب الأرباض، وفي كل طرف منه مقبرة وقرى متصلة وعمارات مادة، والجانب الشرقي من بغداد نزله المهدي بن المنصور وهو ولي عهد أبيه وابتدأ بناءه سنة ثلاث وأربعين ومائة، واختط المهدي قصوره بالرصافة إلى جانب المسجد الجامع الذي بالرصافة وحفر نهراً يأخذ من النهروان سماه نهر المهدي يجري في هذا الجانب، واقطع المهدي اخوته وقواده بعد من اقطع في الجانب الغربي وهو جانب مدينته، وقسمت القطائع في هذا الجانب، وتنافس الناس في النزول مع المهدي لمحبتهم له ولتوسعته عليهم ولأنه كان أوسع الجانبين أرضاً. وفي الجانب الشرقي الذي نزله المهدي أربعة آلاف درب وسكة وخمسة عشر ألف مسجد سوى ما زاد الناس وخمسة آلاف حمام سوى ما زاد الناس بعد ذلك. قود وثيقة من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فتدخل المدينة وتنفذ في أكثر شوارعها، وشوارع الأرباض صيفاً وشتاء قد هندست هندسة لا ينقطع الماء منها في وقت، وقناة أخرى من دجلة على هذا المثال سماها دجيلاً، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهراً يسمى نهر الدجاج لأن أصحاب الدجاج كانوا يقعدون عنده، ونهر عيسى الأعظم الذي يأخذ من معظم الفرات تدخل فيه السفن العظام التي تأتي من الرقة يحمل فيها الدقيق والتجارات من الشام ومصر، وتصير إلى فرضة عليها الأسواق وحوانيت التجار لا تنقطع صيفاً ولا شتاء، ولهم الآبار التي يدخلها الماء من هذه القنوات، وإنما احتيج إلى هذه القنوات لكبر البلد وسعته، ولها فهم بين دجلة والفرات من جميع النواحي تتدفق عليهم المياه حتى غرسوا النخل الذي حمل من البصرة وغيرها فصار ببغداد أكثر منه بالبصرة والكوفة والسواد، وغرسوا الأشجار فأثمرت ثمرات عجيبة وكثرت البساتين والجنات في أرض بغداد من كل ناحية لطيب المياه وطيب الأرض، وعمل فيها كل ما يعمل في بلد من البلدان، لأن حذاق أهل الصناعات انتقلوا إليها من كل بلد وأتوها من كل أفق ونزعوا إليها من الأداني والأقاصي، فهذا الجانب الغربي من بغداد وهو جانب الكرخ وجانب الأرباض، وفي كل طرف منه مقبرة وقرى متصلة وعمارات مادة، والجانب الشرقي من بغداد نزله المهدي بن المنصور وهو ولي عهد أبيه وابتدأ بناءه سنة ثلاث وأربعين ومائة، واختط المهدي قصوره بالرصافة إلى جانب المسجد الجامع الذي بالرصافة وحفر نهراً يأخذ من النهروان سماه نهر المهدي يجري في هذا الجانب، واقطع المهدي اخوته وقواده بعد من اقطع في الجانب الغربي وهو جانب مدينته، وقسمت القطائع في هذا الجانب، وتنافس الناس في النزول مع المهدي لمحبتهم له ولتوسعته عليهم ولأنه كان أوسع الجانبين أرضاً. وفي الجانب الشرقي الذي نزله المهدي أربعة آلاف درب وسكة وخمسة عشر ألف مسجد سوى ما زاد الناس وخمسة آلاف حمام سوى ما زاد الناس بعد ذلك. وانتقل المعتصم إلى سر من رأى في سنة ثلاث وعشرين ومائتين واتصل مقامه بها مدة حياته وأيام الواثق والمتوكل ولم تخرب بغداد ولا نقضت أسواقها لأنهم لم يجدوا منها عوضاً ولأنه اتصلت العمارة والمنازل بين بغداد وسر من رأى. قال أحمد بن أبي الطاهر: أخذ الطول من الجانب الشرقي من بغداد الأمير الناصر لدين الله عند دخوله مدينة السلام فوجد مائتي حبل وخمسين حبلاً وعرضه مائتي حبل وخمسة أحبل تكون ستة وخمسين ألف جريب ومائتين وخمسين جريباً، ووجد طول الجانب الغربي مائتين وخمسين حبلاً وعرضه خمسين حبلاً يكون ذلك سبعة عشر ألف جريب وخمسمائة جريب، فجميع ذلك ثلاثة وسبعون ألف جريب وسبعمائة جريب وسبعون جريباً. وحكى الهيثم بن عدي (1) أن المنصور لما جلس في قصره بباب الذهب أذن لرسل ملك الروم فدخلوا عليه فقال لرسول ملك الروم: هل ترى عيباً؟ قال: نعم عيوباً ثلاثة، قال: ما هي؟ قال: النفس خضراء ولا خضرة عندك، والحياة في الماء ولا ماء عندك، وعدوك مخالطك ومطلع على سرك، قال: أما الماء فحسبي منه ما بلغ الشفة، وأما الخضرة فللجد خلقت لا للعب، وأما السر فلا أبالي علم سري رعيتي أم ولدي وخاصتي، فأمسك الرومي عن الكلام. ثم تعقب أبو جعفر الرأي فرأى أن القول ما قال، فاتخذ العباسية وأجرى القناة من دجلة وأخرق السوق عن المدينة، فلما فعل ذلك وجلس في قصره بالخلد نظر إلى التجار من البزازين والصيرفي والقصاب وطبقات السوقة فتمثل بهذين البيتين: كما قال الحمار لسهم رام ... لقد جمعت من شتى لأمر جمعت حديدة وجمعت نصلاً ... ومن عقب البعير وريش نسر ثم قال: يا ربيع إن هذه العامة تجمعها كلمة وترأسها السفلة ولا أرينك معرضاً عنها فإن إصلاحها يسير وإصلاحها بعد إفسادها عسير فاجمعها بالرهبة واملأ صدورها بالهيبة وما استطعت من رفق بها وإحسان إليها فافعل. وفي هذا الذي ذكرناه من أولية بغداد كفاية وهي أعظم مما قيل وأشهر حالاً مما ذكر فلنقتصر على هذا القدر. ثم إن دولة بني العباس استمرت بها من مبايعة السفاح بالكوفة يوم الخميس لثلاث عشرة خلون من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن ملكها الططر حين دخلوا العراق واستولوا على تلك الآفاق وقتلوا الخليفة المستعصم. البغيبغة: على التصغير، ضيعة وعين كانت لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه ثم وقفها هي وعين أبي نيزر ونص كتاب الوقف: هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين (2) تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء المدينة وابن السبيل ليقي
البقيع:
الله وجهه بهما حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا تورثا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما طلق لهما ليس لأحد غيرهما. قال: فركب الحسين رضي الله عنه دين فحمل إليه معاوية رضي الله عنه في عين أبي نيزر مائتي ألف دينار فأبى أن يبيعها وقال: إنما تصدق بهما أبي ليقي الله بهما وجهه حر النار. وفي حديث الزبير رضي الله عنه بين أن الحسين رضي الله عنه نحل البغيبغة أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما حين رغبها في نكاح ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر وقد خطبها معاوية رضي الله عنه على ابنه يزيد. فلم تزل هذه الضيعة بأيدي بني جعفر حتى صار الأمر إلى المأمون فعوضهم منها وردها إلى ما كانت عليه وقال: هذه وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال موسى بن إسحاق بن عمارة: مررنا بالبغيبغة مع محمد بن عبد الله بن حسن وهي عامرة فقال: أتعجبون لها والله لتموتن حتى لا يبقى فيها خضراء ثم لتعيشن ثم لتموتن، قالوا: وكانت البغيبغة وغيقة وأذناب الصفراء مياهاً لبني غفار وبني ضمرة. البقيع (1) : وهي بقيع الغرقد، وهو مدفن أهل المدينة النبوية وفيه مدافن أكثر أهل المدينة، وهناك قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقبر الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو يلي باب المدينة الذي في جهة الشرق الذي وراء دار عثمان بن عفان رضي الله عنه وفيه يخرج إلى بقيع الغرقد هذا، قال الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع حين دفن فيه عثمان بن مظعون رضي الله عنه فسمي بقيع الغرقد لهذا وقال الخليل: البقيع من الأرض موضع فيه أروم شجر وبه سمي بقيع الغرقد، والغرقد شجر كان ينبت هناك. وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما أوصى أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يخاف أن يراق في ذلك محجم من دم، فمنعه مروان حتى كادت الفتنة أن تقع وأبى الحسين رضي الله عنه إلا أن يدفن مع جده صلى الله عليه وسلم فكلمه عبد الله بن جعفر والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما فدفنه بالبقيع. بسطة (2) : مدينة بالأندلس بالقرب من وادي آش، وهي متوسطة المقدار حسنة الوضع عامرة آهلة حصينة ذات أسوار وبها تجارات وفعلة بضروب الصناعات وبينها وبين جيان ثلاث مراحل. وهي من كور جيان، وشجر التوت فيها كثير وعلى قدر ذلك غلة الحرير والزيتون وسائر الثمار بها على مثل ذلك من الكثرة، وأرضها عذاة كثيرة الريع، وبها كانت طرز الوطاء البسطي من الديباج الذي لا يعلم له نظير. وببسطة بركة تعرف بالهوتة (3) لا يدرك لها قعر وماؤها على قامة من شفيرها وبها جبل يعرف بجبل الكحل لا يزال ينشر منه كحل أسود يزيد بزيادة القمر وينقص بنقصانه لم يزل على ذلك من قديم الدهر. ومن بسطة إلى قوليه وهي آخر حوز جيان وأول أحواز تدمير، قال البكري (4) : جعلت بسطة مدينة مفردة من الجزء الرابع من قسمة قسطنطين، وهي مشهورة بالمياه والبساتين، وكان الأديب أبو الحسن على بن محمد بن شفيع (5) البسطي يقول: لو طبعت على الزهد لحملني حسن بلدي على المجون والعشق والراحات، وكان شاعر بسطة. بشام (6) : مدينة باليمن تخرح من ذمار على قرى متصلة حتى تأتي مدينة بشام وهي المنزل، وهي مدينة طيبة بها بيوت منقورة في صخرة طويلة طولها ثلثمائة ذراع في مثلها ثم تخرج منها فتنزل وادياً يقال له علان تقطعه حتى تأتي الجند. بست: مدينة من أعمال سجستان منها أبو الفتح البستي الأديب وإياها عنى بعض الشعراء بقوله: أكتاب بست كم تناحركم على ... كتابة بست وهي سخنة عين وخف حنين دون ما تطلبونه ... فكم بينكم في ذاك حرب حنين بسكرة (7) : من بلاد الزاب بأرض المغرب، وهي قاعدة تلك البلاد، وهي كبيرة كثيرة النخل والزيتون وأصناف الثمار، وعليها سور وخنادق وبها جامع ومساجد كثيرة وحمامات وحواليها بساتين كثيرة، وهي في غابة كبيرة مقدار ستة أميال، فيها أجناس من
بشرى:
التمر منها جنس يعرف بالكسبا وهو الصيحاني يضرب به المثل لفضله على غيره، وجنس آخر يعرف بالياوي (1) أبيض أملس، وكان عبيد الله الشيعي صاحب القيروان يأمر عماله بالمنع من بيعه ويبعث ما هناك منه إليه لطيبه وحسنه، وتعرف هذه البلدة ببسكرة النخل، ويشق غابة بسكرة نهر كبير ينحدر من جبل أوراس يسقي بساتينها ونخيلها وهو نحو ستة أميال في غابة متصلة بالمدينة سوى غابات كورها وقراها. وحول بسكرة أرباض خارجة عن الخندق. وبسكرة دار فقه وعلم كثير وفيها العلماء وأهلها على مذهب أهل المدينة ولها من الأبواب باب المقبرة، وباب الحمام، وباب ثالث يسكنه المولدون. وحولها من قبائل البربر سدراتة ومغراوة. وداخل بسكرة آبار عذبة منها في الجامع بئر لا تنزف وداخل المدينة جنان يدخل إليها الماء من النهر، وبها جبل ملح يقطع منه كالصخر الجليل ومنه كان عبيد الله الشيعي وبنوه يستعملون في أطعمتهم وتعرف ببسكرة النخل (2) . ومن قرى بسكرة قرية ملشون منها كان أبو عبد الملك الملشوني، كان فقيهاً عالماً يحمل عنه العلم وهو الذي أخبر أن في طريق بسكرة جبلاً فيه كهف فيه رجل قتيل لم يعرف أحد من أي عهد هو ولم تغيره الدهور ولا تقادم الأزمان كأنما جراحه تقطر دماً، ويخبر الكافة عن الكافة والخلف عن السلف أنهم كذا عرفوه مذ كانوا، وقد نقله أهل تلك النواحي ودفنوه بأفنيتهم تبركاً به ثم لم يلبثوا أن وجدوه في الكهف على حاله، حدث بذلك ثقات أهل تلك النواحي، ويقال إنه من الحواريين، قيل إن هذا القتيل في شق جبل في شرقي عين أوبار (3) وهي عين عظيمة بين مدينة مرماجنة ومدينة سبيبة، وذكر أنه بجبل لواتة وأنه كأنما ذبح من يومه وأنه هناك من قبل فتح إفريقية. بسطام (4) : من عمل قومس مدينة حسنة عليها سور تراب، وبها أسواق عامرة وجبايات قائمة، ومنها أبو يزيد البسطامي واسمه طيفور بن عيسى بن شوشان، كان من قدماء مشايخ القوم، له كلام حسن في المعاملات وأحوال سنية وفراسة حادة ورياضة لأصحابه حسنة؟ قال الجنيد: كان الخلق يركضون فإذا بلغوا ميدان أبي يزيد هملجوا. ومات سنة إحدى وستين ومائتين ابن ثلاث وتسعين سنة وله أخوان آدم أكبر منه وعلي أصغر منه وكانا أيضاً زاهدين عابدين. بشنتار (5) : مدينة بالصين فيها رئيس من قبل البغبوغ وله خيول ورجال وحشم وعبيد وملك عظيم وهو يقاتل الترك الداخلين إليه، ممن يجاوره منهم. بشرى (6) : من مدن نفزاوة وهي مدينة مسورة قديمة لها غابة كبيرة، وهي كثيرة النخل والزيتون وجميع الفواكه. بهرسير (7) : بالعراق، والمدائن على مسافة يوم من بغداد ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبي دجلة شرقاً وغرباً، ودجلة يشق بينها ولذلك سميت المدائن فالغربية منها هذه التي تسمى بهرسير والشرقية تسمى العتيقة وفيها القصر الأبيض الذي لا يدرى من بناه، ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التي كانت الملوك تنزلها وفيها إيوان كسرى العجيب الشأن الشاهد بضخامة ملك بني ساسان، ويقال إن سابور ذا الأكتاف منهم هو الذي بناه. بهنسى (8) : مدينة بصعيد مصر في الجهة الغربية من الخليج الخارج من معظم النيل، وهي عامرة بالناس جامعة لأمم شتى، ومن هذه المدينة إلى مصر سبعة أيام، وبهذه المدينة تعمل الستور البهنسية وتنسج الطرز والمقاطع السلطانية والمضارب الكبار والثياب المتخيرة ويقيم بها التجار الستور الثمينة طول الستر ثلاثون ذراعاً وأزيد وأنقص، قيمة الاثنين منها مائتا مثقال وأكثر من ذلك وأقل، ولا يصنع فيها شيء من الستور والأكسية وسائر الثياب من الصوف والقطن إلا وفيها اسم المتخذ له (9) مكتوباً على ذلك مطرزاً (10) جيلاً بعد جيل، وهذه الأكسية والفرش مشهورة في جميع الأرض.
بورى:
بورى (1) : في أسفل الديار المصرية، في سنة عشر وستمائة وصل العدو إليها بشوانيه فسباها كما فعل في قره، وكان حلق رشيد قد حرس بالقطائع المصرية فعدل عنها إلى هذا المكان. بونة (2) : من بلاد إفريقية قريبة من فحص قل وهي مدينة قديمة من بناء الأول وبها آثار كثيرة، وهي على ساحل البحر في نشز من الأرض مشرف على البحر وعلى فحوصها وقراها، وهي من أنزه البلاد وأكثرها لبناً ولحماً وعسلاً وحوتاً، والبحر يضرب في سورها وفيها بئر على ضفة البحر منقورة في حجر صلد وماؤها أعذب ماء وأنقعه (3) منها يشرب أكثر أهلها لعذوبته، وبغربي هذه المدينة ماء سائح يسقي بساتينها وأرضها، وموضع جناتها متنزه حسن مشرف على البحر، ويطل على بونة جبل زغوغ وهو كثير الثلج والبرد، وببونة مساجد وأسواق وحمام، وهي ذات ثمر وزرع، وقد سورت بونة بعد الخمسين والأربعمائة. ومن العجائب أن في هذا الجبل مسجداً لا ينزل عليه من ذلك الثلج شيء وإن عم الجبل كله. وأكثر لحمان أهل بونة البقر إلا أنها يصح بها السودان ويسقم البيضان. وحول بونة قبائل كثيرة من البربر مصمودة وأوربة وغيرهما، وأكثر تجارها أندلسيون. ومستخلص بونة غير جباية بيت المال عشرون ألف دينار. وبغربي مدينة بونة بركة في دورها نحو عشرة أميال فيها سمك جليل كثير، وفيها طائر يعرف بالكيكل وهو يعشش على وجه الماء ويفرخ، فإن أحس بحيوان في البر أو إنسان يروم أخذه أخذ عشه بفراخه برجليه حتى يصير في وسط البركة حيث يأمن، وهو طائر حسن وهو الذي يسمى بمصر الغطاس (4) ، وتتخذ مصر من جلوده الفراء لأمنها (5) وجمالها وتباع بالأثمان الغالية. ومرسى بونة من المراسي المشهورة، وبونة في جون من البحر يسمى جون الأزقاق وهو صغير ربما عطبت فيه المراكب، وتسمى بونة بلد العناب لكثرة العناب فيها، ومنه خشب سقوفهم ووقودهم ومنه جميع ما يتصرفون فيه. وفي بونة دفن ملك إفريقية الأمير الأجل أبو زكريا ابن الشيخ الأجل المجاهد أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله (6) وإنه كان تحرك من حضرته تونس في تاسع صفر من سنة سبع وأربعين وستمائة ومعه ولي عهده ابنه أبو عبد الله محمد المستنصر بالله أمير المؤمنين فلما انتهى إلى قسنطينة مرض بها المرض الذي توفي منه وكان أبل منه وطمع له في البرء، وكتب بذلك إلى تونس وتوجه إليه منها الطلبة وغيرهم يهنئونه بالبرء من مرضه وقالت الشعراء في ذلك ثم عاوده مرضه فمات منه ليلة يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة وصلي عليه عصر يوم الجمعة فقرر أخوه أبو عبد الله اللحياني الولاية لابنه المستنصر فبايعه الناس هناك بيعة مجددة ثم جهز إلى روضته وحمل إلى بونة فدفن بجامعها بازاء قبر الشيخ الصالح الولي أبي مروان الفحصلي وهو ابن تسع وأربعين سنة وفي ذلك قال أبو عمرو عثمان بن عربية (7) : ليت شعري عن الخليفة يحيى ... وإلى ليت يستريح الحزين قفل الجيش سالمين ويحيى ... بالمصلى من بونة مدفون وقيل في ذلك من المراثي والأقوال المبكية نظماً ونثراً ما لا يسعه المختصر. البونت (8) : هي قرية من أعمال بلنسية ينسب إليها صاحب الوثائق المجموعة عبد الله بن فتوح بن عبد الواحد (9) . بونية (10) : هي قاعدة مدن لنقبردية، وهي مدينة مبنية بالحجر والآجر والكلس كبيرة جداً كثيرة الأهل تنفجر داخلها العيون وهي على نهر يجتمع تحتها بمقدار نصف ميل بنهر آخر، وفي هذه المدينة قصر حسن على بابه صورة فارس من نحاس متناهية
البويب:
العظم بعثها في الدهر القديم ملك القسطنطينية إلى بلد لنقبردية. وبهذه البلدة ثلثمائة فقيه من المسلمين وعندهم يتحاكم أهل لنقبردية وهم يعقدون لهم وثائق أشريتهم وبيوعهم، وفيها من المسلمين تجار أغنياء عددهم أزيد من أربعمائة ولهم مبان سرية ومتاجر قوية ولذلك صار المتوجهون من التجار والحاج إلى رومة لا بد لهم من بونية. بوليه: مدينة على البحر الشمالي، وهو بحر لا يركبه أحد لغلظ جوهر مائه وظلمته وتكاثف الهواء عليه. البويب (1) : موضع بالعراق قريب من الكوفة فيه كانت وقيعة بين المسلمين والأعاجم أيام عمر رضي الله عنه بعد وقعة جسر أبي عبيد رحمه الله، فإنه لما بلغ عمر والمسلمين مقتل أبي عبيد والمسلمين يوم الجسر أهمهم ذلك وحركهم، فاستخلف عمر رضي الله عنه على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس وقدم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فنزل الأعوص فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فأشاروا عليه بالمقام وقالوا: شاور الناس، فكتب إلى علي وطلحة رضي الله عنهما فقدما عليه فجمع الناس وقال: إني نزلت منزلي هذا وأنا أريد العراق فصرفني عن ذلك قوم من ذوي الرأي منكم، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت فأشيروا علي، فقال علي رضي الله عنه: أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فقدمهم إليهم فتكون دار هجرة لهم حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل السابقة والقدم. فانصرف عمر رضي الله عنه إلى المدينة وكتب إلى المثنى بن حارثة بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحداً حتى يأتيه المدد وقدم من الأزد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت فسيرهم إلى العراق فشخصوا إلى الكوفة فقدموا على المثنى بن حارثة فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب وقدم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط وقدم ألف أهل بيت فيهم ثلثمائة بيت من النخع، ثم قدم المدينة ألف أهل بيت من همدان فقالوا لعمر رضي الله عنه: خر لنا، قال: أرض العراق، قالوا: بل الشام، قال: بل العراق، فصرفوا ركابهم إلى العراق وقدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله وهم أربعة آلاف وقيل ألفان، ففصلوا إلى العراق ممدين إلى المثنى بن حارثة ثم تتابعت الإمداد فنزلوا العذيب بالعيال وهم قبائل اليمن والحجاز والأزد ثم حضرموت وكندة، ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادي من تميم وبكر، وجاءت طيء عليها عدي بن حاتم، وجاءت أسد وقيس والرباب وضبة وحنظلة وطوائف من سعد والنمر بن قاسط. ووجه يزدجرد مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدنى أرض العرب ويقتل كل عربي قدر عليه، فخرج مهران في الجنود يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباع ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات باذقلى، وأرسل إلى جرير رضي الله عنه ومن معه: قد جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى يقدموا علينا فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب ومهران من وراء الفرات بازائه. واجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم وعليهم المثنى وهم بازاء مهران وعسكره، فكاتبه مهران إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران فنزل على شاطئ الفرات، فقال المثنى للناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا ومهران في ثلاثة عشر ألف معه ثلاثة فيلة، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب، وأقبلوا إلى المسلمين في ثلاثة صفوف، مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم وجاءوا لهم زجل، فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت وائتمروا همساً، والمسلمون أربعة آلاف وثمانمائة، وقيل ستة آلاف، وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة في القلب وصير اليمن ميمنة وميسرة وقال: يا معشر المسلمين قد قابلت العجم والعرب بمائة من العرب كانوا أشد علي من ألف من العجم، إن الله تعالى قد أذهب مصدوقتهم وأوهن كيدهم فلا يهولنكم سوادهم، إن للعجم قسياً بحاً وسهاماً طوالاً هي أغنى سلاحهم عندهم، فلو قد لقوكم رموكم بها فإذا أعجلوا عنها وأنفدوها فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى. وركب يومئذ فرساً ذنوباً أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته، وكان لا يركبه إلا لقتال ويودعه ما لم يكن قتال، ومر على الرايات يحض القبائل، وقد صفوا صفوفهم، وقال: الزموا الصمت فإني مكبر ثلاث تكبيرات فإذا كبرت الثالثة فاحملوا، ومر على الرايات
بويرة:
راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم ويكلمهم، وأنصف في القول والفعل، وخالط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد أن يعيب له قولاً ولا عملاً، وانه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على الميسرة فيها بكر وكندة، فقال المثنى: إن الخيل تنكشف ثم تكر، يا معشر طيء الزموا مصافكم واغنوا ما يليكم واعترض الكتيبة التي كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة فأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول: اللهم عليك تمام النصر، هذا منك فلك الحمد، وكانت هزيمة المشركين فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بني سليم، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم ملياً فما تسمع إلا هرير الرجال وحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين والمجنبات قد هد بعضها بعضاً، فلما رآه المسلمون قد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول: إن المثنى يقول لكم عادتكم في أمثالهم، انصروا الله ينصركم حتى هزموا القلب ودارت بينهم رحى الحرب (1) ، وأخذت جرير بن عبد الله رضي الله عنه الرماح فنادى: واقوماه، أنا جرير، فقاتلت عنه جماعة من قيس حتى خلص، وأحصي يومئذ مائة من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة في المعركة، وأبصر جرير بن عبد الله رضي الله عنه مهران يقاتل فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقتلاه، طعنه المنذر فأرداه عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير رضي الله عنه فاحتز رأسه، وقيل في قتله غير هذا، وهزم المشركون فأتوا الفرات فاتبعهم المسلمون فانتهوا إلى الجسر وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر فحالوا بين الباقين وبينه فأخذوا يميناً وشمالاً فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا فلما أصبحوا عقدوا الجسر وأكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاً فما كانت وقعة أبقى رمة منها، وكانوا يحزرونها مائة ألف. ز رأسه، وقيل في قتله غير هذا، وهزم المشركون فأتوا الفرات فاتبعهم المسلمون فانتهوا إلى الجسر وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر فحالوا بين الباقين وبينه فأخذوا يميناً وشمالاً فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا فلما أصبحوا عقدوا الجسر وأكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاً فما كانت وقعة أبقى رمة منها، وكانوا يحزرونها مائة ألف. بورة (2) : مدينة على ضفة البحر الهندي، وهي آخر بلاد الكفرة الذين لا يعتقدون شيئاً بل يدهنون الأحجار بدهن السمك ويسجدون لها فهذه عبادتهم، وهي كثيرة النخل والتجارات متصلة العمارات وافرة الحنطة وبها أرز وشجر مقل شهي للأكل. بويرة (3) : مدينة عظيمة من مدن الأفرنج، قالوا: ولهم من المدن نحو من مائة وخمسين مدينة غير العمائر والكور، وقد كانت مملكتهم قبل ظهور الإسلام بإفريقية وصقلية واقريطش. والافرنجة أكثر الناس عدة وأحسنهم انقياداً لملوكهم وأكثرهم مدناً، والافرنجة والصقالبة والنوكبرد وأشبان ويأجوج ومأجوج والترك والخزر وبرجان واللان والجلالقة كل هؤلاء من ولد يافث بن نوح. وبويرة (4) أيضاً في تيماء، قالوا: أحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع زهو البويرة فنزل الله تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " وقال حسان: لهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير بوصير (5) : قرية من قرى الفيوم بصعيد مصر، إليها انهزم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء بني أمية فقتله عامر بن إسماعيل من أهل خراسان سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان قال حين وصل إلى بوصير: نحن ببوصير والى الله المصير. وكان صالح بن علي دخل في طلب مروان ومعه عامر بن إسماعيل المذحجي فلحقوه بمصر وقد نزل بوصير فهجموا على عسكره وضربوا الطبول وكبروا ونادوا: يا ثارات إبراهيم، فظن من في عسكر مروان أن قد أحاط بهم سائر المسودة فقتل مروان، قتله عامر بن إسماعيل وأراد الكنيسة التي فيها بنات مروان ونساؤه فإذا بخادم لمروان شاهر السيف يريد الدخول عليهن، فأخذوا الغلام
بوشنج
فسئل عن أمره فقال: أمرني مروان إذا هو قتل أن أضرب رقاب بناته ونسائه فلا تقتلوني فإنكم والله إن قتلتموني ليفقدن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: انظر ما تقول، قال: إن كذبت فاقتلوني، هلموا فاتبعوني، فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل فقال: اكشفوا هاهنا، فكشفوا فإذا البرد والقضيب وقعب ومخصر قد دفنها مروان لئلا تصير إلى بني هاشم، فوجه بها عامر بن إسماعيل إلى عبد الله بن علي، فوجه بها عبد الله بن علي إلى أبي العباس السفاح فتداولتها خلفاء بني العباس إلى أيام المقتدر، فيقال إن البرد كان عليه يوم قتل. ثم وجه عامر بن إسماعيل ببنات مروان وجواريه والأسارى إلى صالح بن علي، فتكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه وأسعدك في الأمور كلها بخواص نعمه وعلمك بالعافية في الدنيا والآخرة، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك فليسعنا من عدلكم ما وسعكم من جورنا، قال: إذاً لا نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة، قالت: يا عم أمير المؤمنين فليسعنا عفوكم إذاً، قال: أما العفو فنعم قد وسعكم، فإن أحببت زوجتك من الفضل بن صالح بن علي وزوجت أختك من أخيه، قالت: يا عم أمير المؤمنين وأي أوان عرس هذا فلتلحقنا بحران، قال: أنا أفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فألحقهن بحران. واتصل بأبي العباس السفاح ما كان من عامر بن إسماعيل وقتله لمروان ببوصير وقد قيل إن ابن عم لعامر يقال له نافع قتله في تلك الليلة في المعركة وهو لا يعرفه وان عامراً لما احتز رأسه واحتوى على عسكره دخل الكنيسة التي كان فيها مروان فقعد على فرشه وأكل من طعامه، فخرجت إليه ابنة مروان الكبرى وتعرف بأم مروان، فقالت: يا عامر، إن دهراً أنزل أمير المؤمنين عن فرشه حتى أقعدك عليه فأكلت من طعامه واحتويت على أمره وحكمت في مملكته لقادر أن يغير مآربك، فاغتاظ السفاح من ذلك وكتب إليه: ويلك، أما كان لك في أدب الله عز وجل ما يزجرك عن أن تأكل من طعام مروان وتقعد على مهاده وتتمكن من وساده!! أما والله لولا أن أمير المؤمنين تأول ما فعلت على غير اعتقاد منك لذلك والشهوة لمسك من غضبه وأليم أدبه ما يكون لك زاجراً ولغيرك واعظاً، فإذا أتاك كتاب أمير المؤمنين فتقرب إلى الله عز وجل بصدقة تطفئ بها غضبه وصلاة تظهر بها الاستكانة وصم ثلاثة أيام ومر جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك. فلما جيء برأس مروان ووضع بين يدي أبي العباس السفاح سجد فأطال ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت وقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل: لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم جمعاً ترويني ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود ثم جلس وقد أسفر وجهه وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه من أبيات له: أيا قومنا إن تنصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدما تدرين من أشياخ صدق تقدموا ... بهن إلى يوم الوغى متقدما إذا خالطت هام الرجال تركنها ... كبيض نعام في الوغى قد تحطما بوصا: جزيرة بأرض الهند أهلها ألوانهم إلى البياض، وفي نسائهم جمال، وفيهم نجدة وبأس شديد. وربما قطعوا على الناس في مراكب لهم سابقة في الجري؛ وإنما يفعلون ذلك إذا كانوا مع الصينيين في خلاف ولم تكن بينهم هدنة. بومنجكث (1) : هي أعظم مدن أشروسنة، وهي مدينة جليلة، وينزلها الولاة والعمال، وعليها سور حصين ولها في وسطها نهر كبير عليه أرحاء. ومعظم أسواقها في الربض الخارج عنها، وسور الربض مشتمل على ثلاثة أميال، وعلى ذلك بساتين وزروع وكروم، ولها مسجد جامع. وموضع هذه المدينة في ظهر جبل من اشروسنة وبومنجكث قاعدتها. بوشنج (2) من مدن هراة، وهي في القدر نصف هراة. وهراة في مستو من الأرض وفيها من المدن خركود وغيرها. وبوشنج نصف مدينة هراة ومنها إلى الجبل نحو فرسخين، وإذا
بيانة:
مررت من بوشنج إلى هراة سرت في سواد بوشنج، وقرى متصلة، إلى أن تقرب من هراة. بوغرات (1) : مدينة في آخر عمل غانة من بلاد السودان، فيها فخذ من صنهاجة، قالوا: وفي هذا البلد طائر يشبه الخطاف يفهم من صوته كل سامع إفهاماً لا يشوبه لبس: قتل الحسين، قتل الحسين يكررها مراراً. ثم يقول: بكربلا، مرة واحدة، وهذا مشهور عندهم. بيانه (2) : بالأندلس من أعمال قرطبة، وهي من مدن قبرة وعلى يمين الطريق الذاهب من قرطبة وشرقي قبرة، بينهما عشرة أميال، وهي على ربوة من الأرض طيبة التربة، كثيرة المياه السائحة، ولها حصن منيع، وبها جامع بناه الإمام عبد الرحمن ومنبر. وكانت قبل الفتنة من غرر البلدان، وكان بها أسواق عامرة وحمامات. وهي كثيرة البساتين والكروم والزيتون، وهي على نهر مربلة يأتيها من جهة القبلة، وهو نهر كبير، عليه الأرحاء الكثيرة. ومن بيانة قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح بن عطاء البياني مولى الوليد بن عبد الملك، سمع بقرطبة من بقي بن مخلد وغيره، وبمكة من جماعة، وبالعراق من أحمد بن زهير بن حرب وهو ابن أبي خيثمة، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة ومحمد بن يزيد المبرد وثعلب وغيرهم. البيلقان (3) : مدينة دون برذعة على طريق العراق وهي من عمل الران، دخلها الططر عنوة سنة ثمان عشرة وستمائة، فلم يبق الططر على كبير منهم ولا صغير ولا امرأة، وكانوا إذا رأوا امرأة حسناء فجروا بها ثم قتلوها. بيانة (4) : مخفف، قرية من قرى البصرة منها أحمد بن عبد الله البياني، قال: أنشدني الزبير بن بكار: عتاب ليس ينقطع ... وعذر ليس يستمع ومقتدر على قتلي ... وهجراني له ولع يواصل ثم يهجرني ... ويدنو ثم يمتنع بيهق (5) : مدينة من أعمال نيسابور، سرح ابن عامر إليها الأسود بن كلثوم العدوي من عدي الرباب، ففتحها. وهي من أبرشهر على ستة عشر فرسخاً، وقتل الأسود، وكان فاضلاً في دينه، وكان بعضهم (6) يقول: ما أسفي من العراق على شيء إلا على ظمأ الهواجر، وتجاوب المؤذنين واخوان مثل الأسود بن كلثوم. ومنها البيهقي الإمام والمحدث. وقصبة بيهق يقال لها خسروجرد. بينون (7) وسلحين وغمدان: من حصون اليمن التي كان هدمها أرياط ملك الحبشة، ولم يكن في الناس مثلها، وفيها يقول ذو جدن الحميري: هونك لن يرد الدمع ما فاتا ... لا تهلكن أسفاً في اثر من ماتا أبعد بينون لا عين ولا أثر ... وبعد سلحين يبني الناس أبياتا بيسان (8) : مدينة بالشام صغيرة جداً وتنسب الخمر الطيبة إليها، قال الأخطل (9) : وجاءوا ببيسانية هي بعدما ... يعل بها الساقي ألذ وأسهل ويقال إن الموضع الذي قتل فيه جالوت كان بيسان من أرض الغور من بلاد الأردن. ومنها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب صلاح الدين يوسف بن أيوب والغالب عليه، ذو الترسل البليغ. وينبت ببيسان السامان الذي تعمل منه الحصر السامانية لا يوجد نباته إلا بها وليس في سائر الشام شيء منه. وقال عطية بن قيس الكلابي: وافقني زرعة بن إبراهيم اليهودي فنزلنا بيسان فقال:
بيشة:
ألا أريك شيئاً حسناً، فانحدر إلى البحر فأخذ ضفدعاً، فجعل في عنقها شعرة من ذنب فرس، فحانت مني التفاتة فإذا هو خنزير، في عنقه حبل؛ ثم مشى، فدخل به بيسان، فباعه من بعض الأنباط بخمسة دراهم، ثم ارتحلنا، فسرنا غير بعيد، فإذا الأنباط يتعادون في أثرنا، فقلت: قد أتاك القوم، قال: فأقبل منهم رجل جسيم، فرفع يده فلكمه في أصل لجيته، فصرعه عن الدابة، فإذا برأسه معلق بجلده من رقبته، وأوداجه تشخب دماً. فقلت: قتلتم الرجل. فمضى القوم يتعادون هاربين. فقال لي الرأس: انظر، مروا؟. فقلت: نعم، قال: انظر، أمعنوا؟ فذهبت أنظر إليهم، ثم التفت فإذا هو جالس ليس به بلية. وبيسان (1) : أيضاً بالحجاز. وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بماء يقال له بيسان في غزوة ذي قرد، فسأل عنه فقيل: اسمه بيسان، وهو ملح. فقال: " هو نعمان وهو طيب "، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وغير الله تعالى الماء، واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثم تصدق به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنت يا طلحة إلا فياض " فبذلك سمي الفياض. وقال جابر بن حيوة لعروة بن رويم: اذكر لي رجلين صالحين من أهل بيسان، فبلغني أن الله تعالى اختصهم برجلين من الأبدال لا ينقضي منهم رجل إلا أبدل الله تعالى مكانه رجلاً، لا تذكر لي متماوتاً ولا طعاناً على الأئمة فإنه لا يكون منهم الأبدال. بيشة (2) : واد من أودية تهامة. وبيشة السماوة مأسدة معروفة. بيش (3) : من قواعد بلاد الروم، مشهورة الذكر، كثيرة القطر، عامرة الأسواق والديار، كثيرة البساتين والجنات، متصلة الزراعات، معاقلها كثيرة، وأرضها خصبة، ومياهها مغدودقة، وآثارها عجيبة، ولأهلها مراكب واستعداد لركوب البحر وقصد البلاد. وهي على نهر يأتي إليها من جبل بناحية انكبرده وهو نهر كبير عليه الأرحاء والبساتين. بياش (4) : موضع أو قرية بالبلاد الإفريقية بين القيروان وتونس. فيه كان قتل محمد بن سليمان القوبع التجيبي (5) الخارج بتونس على محمد بن الأغلب، وكان ولاه عليها، فنبذ طاعته، وخالف عليه، وشرع في قتل الجند، فكتب إليه محمد بن الأغلب يعظه ويحضه على الطاعة، فلم يقبل. فوجه إليه جيشاً عليهم محمد بن موسى معه فيه جماعة من وجوه الجند فيهم تمام بن تميم التميمي، فلما صاروا إلى الموضع المعروف بطبريق زحف إليهم القوبع من تونس، فالتقوا وعثر بتمام فرسه، فسقط وأخذ أسيراً، فأتي به القوبع، فأحب أن يستبقيه، فلما رأى ذلك ابنه ضربه بحربة في صدره، فسقط ميتاً، وانهزم عسكر محمد بن الأغلب، ثم حشد الناس ووجوههم مع خفاجة بن سفيان مولاه. فلما صاروا إلى جبل شعيب من حد صطفورة التقوا فاقتتلوا اقتتالاً شديداً، وقتل من الفريقين عدد كبير. ثم انهزم القوبع وأصحابه، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة ومضى المنهزمون يريدون تونس، ولحق القوبع رجل من الجند، فطعنه فأرداه عن فرسه، وهو لا يعرفه، ونزل إليه، فأخذ درعه وسيفه، ولحقه رجل نظر إلى حسن الدرع والسلب، فسأل عن صاحبه، فأشار إليه، فنظر: فإذا هو القوبع، فبدر إليه فضرب عنقه، ومضى برأسه إلى ابن الأغلب، فوصله وأحسن إليه، وكان ذلك في بياش هذه، في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين ومائتين. وبعث إلى أهل تونس، فأمنهم ورغبهم في العافية، وأمرهم بإخراج أخي القوبع وابنه، فأبوا من ذلك، فقاتلهم على أبواب الخنادق قتالاً شديداً، ورموا بأنفسهم عليهم في خندقهم حتى دخلوا عليهم عنوة، وهرب ابن القوبع في قارب، فوجهت إليه القوارب، فأخذوه، فلما أتي به إليه قال لسلمة بن تميم: انزل فاقتله بأخيك، فنزل إليه سلمة فقال له: لا تجزع يا بني، فإنما هو دين يقضى، فضرب عنقه. البيضاء (6) : هي أكبر مدن اصطخر من أرض فارس، لها حصن وربض عامر، وسميت البيضاء لأن قلعتها بيضاء يرى بياضها من بعد، وهي في الكبر تضاهي اصطخر، ولها حروث متسعة وخصب زائد، وأكثر ميرة شيراز منها، وأهلها مياسير وزيهم زي العراقيين في اللباس والعمائم.
بيران:
بيران (1) : حصن من حصون الأندلس، ومن قصيدة لابن الأبار يمدح بها السيد أبا زيد (2) عند انقياد أهل بيران لابنه السيد أبي يحيى أبي بكر سنة اثنتين وعشرين وستمائة: لله قلعة بيران وعزتها ... على الأعاصير في ماضي الأعاصير عنت ودانت على حكم المنى فرقاً ... من سطو مرهوب أعلى السطو محذور وأذعنت وهي الشماء ذروتها ... على حجاج لها من قبل مذكور ولو أصرت على الإعراض ثانية ... لأصبحت بين تخريب وتدمير مدت إليك أبا زيد بطاعتها ... يداً مخافة صول منك مشهور وأكدت في الرضى والصفح رغبتها ... كما تقدم تأييد المقادير فجدت جودك بالنعمى بما سألت ... من الأمان لها طلق الأسارير بياسة (3) : بالأندلس أيضاً، بينها وبين جيان عشرون ميلاً، وكل واحدة منهما تظهر من الأخرى. وبياسة على كدية من تراب مطلة على النهر الكبير المنحدر إلى قرطبة، وهي مدينة ذات أسوار وأسواق ومتاجر وحولها زراعات، ومستغلات الزعفران بها كبيرة. وفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة (4) ملك الروم بياسة في يوم عرفة من ذي حجتها، وكان صاحب جيان إذ ذاك عبد الله بن محمد بن عمر بن عبد المؤمن قد تغير له عبد الله العادل بن المنصور صاحب إشبيلية فخافه، فخرج إلى بياسة فدخلها وكلم أهلها لمساعدته وامتناعه بهم إلى أن يأخذ لنفسه الأمان، فساعدوه على مراده ومنعوه ممن رامه، فجهز إليه العادل العساكر وقدم عليهم ادريس بن المنصور، فلما نزلوا بظاهر بياسة مكثوا عليها أياماً، والزمان شات، فلم يغنوا شيئاً، وأراد عبد الله صاحب بياسة تفريق ذلك الجمع بما أمكن، فداخله بأن صالحه على أن يدفع له ابناً صغيراً ليكون رهينة لديه بطاعته، فوجد إدريس السبيل إلى الانصراف عنه، وكان أكبر همه، إذ قد جهده وأصحابه شدة البرد ونزول المطر إلى ما كانوا يخافونه من مد النهر ووصول روم طليطلة الذين كانوا أولياء لصاحب بياسة وأنصاراً له، فخاف أن يدعو بهم فيلبوه، إذ كان حل من أنفسهم محلاً كثيراً لشجاعته، فارتحل أبو العلا لذلك ورأى أنه قد صنع شيئاً وأنه قد قام عذره، فلما وصل إلى اشبيلية استقصر فعله واستهجن رأيه وبقي عندهم كالخامل المتخوف. ثم جهزوا بعده جيشاً آخر إلى بياسة قدموا عليه عثمان بن أبي حفص، فسار حتى بلغ قبلي بياسة، فبرز إليهم دون المائة فارس من فرسان عبد الله صاحب بياسة ومن الروم الذين معهم، فلما رأوهم انهزموا وولوا الأدبار ولم يجتمع منهم أحد مع أحد، وبقي صاحب بياسة ببلده ولا أحد يرومه إلى أن تملك قرطبة ومالقة وغيرهما وكاد يستولي على الأمر لو ساعده المقدار، وخرج فأوقع بأهل اشبيلية بفحص القصر سنة اثنتين وعشرين وستمائة وقتل منهم نحو ألفي رجل وانصرف عنها مكسوراً مفلولاً. وقد كان أدخل الروم قصبة بياسة وأسكنهم فيها، والمسلمون معهم في سائر المدينة، وكان دفعه القصبة إليهم على سبيل الرهن في مال كان لهم تعين عليه، فبقوا في القصبة ساكنين، والمسلمون في البلد يداخلونهم ويعاملونهم، وهو إذ ذاك في قرطبة مقيم، فلما غزا اشبيلية وانصرف عنها مفلولاً مكسوراً ثار به أهل قرطبة، إذ توهموا أنه يريد إدخال النصارى مدينتهم، فخرج عنها فاراً إلى الحصن المدور، فأقام هناك وبقيت بياسة بيد الروم، وغلق
بيغو:
الرهن، وأحب أهل بياسة إخراج الروم عن قصبتهم فداخلوا صاحب جيان: عمر بن عيسى بن أبي حفص بن يحيى وسألوه المسير إليهم في جموعه، فجاءهم بحشوده ومعه محمد بن يوسف المسكدالي، فدخلوا بياسة، وأما من كان بالقصبة من الروم فلم يبالوا شيئاً، وأما من كان منهم بالمدينة فأتى عليه القتل بعد أن أبلوا في الدفاع، إلا أنهم غلبوا بالكثرة، وبقي أهل القصبة لا يستطيع أحد الوصول إليهم لحصانتها، ولو أراد الله تعالى لوفق هذا الوالي إلى المقام، فإن أهل القصبة لم يكن عندهم شيء يقتاتونه إلا ما يأتيهم من المدينة مياومة، فلو مكث عليها يوماً أو يومين لضاقوا وخرجوا، ولم يكن أهل ملتهم نصروهم إلا في مدة بعيدة لبعد المسافة، ولكن أبى المقدار إلا أن يفرغ في يومه ذاك ولم يجسر على المبيت ليلة واحدة، وظن أن الفجاج ترميه بالخيل والرجال، فقال لأهل البلد: أنا راجع فمن أحب أن يخرج فليخرج ومن أحب أن يقعد فليقعد، فرغبوا أن يمكث يوماً أو يومين فأبى عليهم إلا الرجوع في يومه، فلم يكن لأهل البلد بد من فراق بلدهم والخروج عن نعمتهم، فتفرقوا في البلاد وبقي الروم في جميع المدينة وملكوها كلها. ومن أهل بياسة الأديب التاريخي أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم البياسي (1) مصنف كتاب " الإعلام بحروب الإسلام " وغيره من تصانيفه. بيغو (2) : مدينة بالأندلس من عمل غرناطة، كان عبد الله صاحب بياسة من بني عبد المؤمن وهو المعروف بالبياسي استدعى عدو الدين لما نزل عليه العادل ببياسة، فحاصره فأقلع عنه دون شيء، فلما لم يجد في المسلمين كبير إعانة استدعى النصارى فوصلوا إليه، فسلم إلى ألفنش بياسة وجازى أهلها شر الجزاء، بعد ما آووه ونصروه، فأخرجهم منها وسار مع الفنش ليأخذ معاقل الإسلام باسمه، فدخل قيجاطة من عمل جيان بالسيف، فقتل العدو فيها خلقاً كثيراً وأسر آخرين، وكان حديثها شنيعاً تنفر منه القلوب والأسماع، ثم نهض أيضاً ومعه العدو إلى لوشة من عمل غرناطة، فاعتصم أهلها بسورها الحصين وقاتلوا أشد القتال، وأسمعوه ما أهاج غيظه، فلما تمكن منها سلط عليهم عدوهم في الدين ففتكوا بهم أشد الفتك، ثم ساروا إلى بيغو هذه فأطال مع الفنش حصارها إلى أن دخل البلد بعد شدة وصالحه أهل القلعة، وما زال أمره يقوى إلى أن احتوى على قرطبة ومالقة وكثير من معاقل هاتين القاعدتين وبلادهما، فخاف منه العادل باشبيلية وجمع من عنده من الجند ونظر في كفه عن جهته، وكان ذلك في سنة اثنتين وعشرين وستمائة. بيروذ (3) : مدينه بين نهر تيرى ومناذر من ناحية فارس فتحت على يد أبي موسى في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. بيروت (4) : في ساحل الشام وهي مرابط دمشق، وفيها كان أبو الدرداء رضي الله عنه نازلاً، قال الأوزاعي: كان عندنا ببيروت عجائب، ذكر عن رجل ممن يوثق به أنه رأى رجلاً راكباً جرادة، وذكر من عظم الرجل وعظم الجرادة، قال: وعليه خفان طويلان أحمران، وهو يقول: الدنيا باطل وباطل ما فيها، ويقول بيده هكذا فحيثما أشار انساب الجراد إلى ذلك الموضع. قال: وكان عندنا رجل صياد يسافر يوم الجمعة ولا يأتي الجمعة، قال: فخرج يوماً فخسف به وببغلته فلم يبق منها إلا أذنها، قال محمد بن بشر: ورأيت موضع مكانه ببيروت يلقى فيه التراب. وفي رواية أخرى قال الأوزاعي: رأيت ببيروت ثلاث عجيبات: رأيت رجلاً من جراد في الماء وإذا رجل راكب على جرادة مسلك بالحديد وفي يده عصا وهو يومئ بيده وهو يقول: الدنيا باطل، يرددها. ورأيت رجلاً يكتب المصاحف بخط جيد في ستة أيام، فكتب مصحفاً فقال: كتبته في ستة أيام وما مسنا من لغوب، فجفت يمينه، ورأيت رجلاً شاباً كان يأوي في المسجد حسن العبادة حسن الصمت قليل الكلام، فكان يلزم المسجد، فخرج ذات يوم من المسجد بعد أن أغلقت الأبواب فجاء إلى باب المدينة فوقف عليه ساعة، فإذا هو قد انفتح له وخرج وخرجت معه حتى وقف على شجر بلوط كثير، فصعد شجرة فجعل يأكل ويرمي إلى الأرض فما يسمع صوت شيء يقع في الأرض، فجئت إليه فقلت: السلام عليكم، فقال: وعليك السلام أبا عمرو، أتحب؟ قلت: نعم، فأخذ ملء كفه فدفعها إلي فإذا هو رطب، فأكلت ثم غاب عني فلم أره.
بيونة:
وعلى بيروت (1) سور حجارة، وبمقربة منها جبل فيه معدن حديد جيد يقطع، ويستخرج منه الكثير ويحمل إلى بلاد الشام، وبها غيضة أشجار صنوبر تتصل إلى جبل لبنان وتكسير هذه الغيضة اثنا عشر ميلاً في مثلها، وشرب أهلها من الآبار، ومنها إلى دمشق يومان. بيونة (2) : في بلاد الروم على ساحل البحر وهي بالقرب من مدينة طودة (3) . بيكند (4) : هي أدنى مدن بخارى إلى النهر، ومنها إلى حائط بخارى فرسخان، وهو الحائط المضروب على جميع عمران بخارى، وافتتحها قتيبة بن مسلم سنة سبع وثمانين، وهو حصن حصين مشبه بالأسوار، وفيها مسجد جامع وبيت نار للمجوس يذكرون أن افريدون بناه، وخارج الحصن سبعمائة رباط. بيت لحم (5) : بقرب إيليا من أرض الشام، وهناك كنيسة يقال لها الجسمانية على فرسخ منها مما يلي قبليها في مستو من أرض بيت لحم، وبه ولد المسيح عليه السلام، وبه النخلة التي تساقطت على مريم رطباً جنياً، والسري الذي جعل الله تحتها فشربت منه وتطهرت به، والمهد الذي جعلت فيه المسيح حين ولدته، وهو حوض أبيض غسلته فيه وهو قريب من العين، وإلى جانب بيت لحم كنيسة يقال لها مايان (6) فيها الصبيان الذين قتلوا على اسم الملك من سنه بين سنة إلى ثلاثة أشهر قتلهم ايرديوس (7) الملك، وعلى فرسخين من بيت لحم تجاه القبلة منه قبر إبراهيم عليه السلام وهناك مسجده، ومن بيت المقدس إلى مسجد إبراهيم ثلاثة عشر ميلاً مما يلي القبلة، وحول القبلة التي فيها قبر إبراهيم غياض وأشجار تفاح أحمر، وفي هذه الغياض أعراب يقال لهم بنو زياد يسكنونها، وعلى فرسخين من شرقي بيت لحم ديارات منها دير يقال له طورزيتا، وإلى جانب هذا الدير جبل يصعد في قلته في قدر ستمائة مرقاة، يقال إن هذا الجبل صعد منه المسيح إلى السماء، وهناك قبر راحيل أم يوسف عليه السلام، وعند بيت لحم كنيسة حسنة البناء متقنة العمل مديدة إلى أبعد غاية في وطاء من الأرض، وفي جهة الشمال المغارة التي ولد فيها المسيح عليه السلام. وفي الخبر (8) عن عكرمة قال: لما أسلم تميم الداري رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله مظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتي من بيت لحم، قال صلى الله عليه وسلم: " هي لك " وكتب له بها، فلما استخلف عمر رضي الله عنه وظهر على الشام جاء تميم رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه: أنا شاهدك، فأعطاه إياها، فهي بأيدي أهل بيته إلى اليوم. وقال بعض المؤلفين: لأهل طبرية، على ثلاثة عشر ميلاً، قرية تعرف بالناصرة (9) فيها ولد المسيح وان أهلها كانوا عيروا مريم بنت عمران فليس يولد في تلك القرية بكر إلى هذه الكائنة (10) وأهل بيت المقدس يدفعون هذا وينكرونه. البينمان (11) : جزيرة من جزر الهند عامرة فيها مدينة كبيرة، وأكل أهلها النارجيل وبه يأتدمون، وهم أهل شدة ونجدة، ومن سيرتهم التي توارثها الأبناء عن الآباء أن الرجل منهم إذا أراد أن يتزوج المرأة لم يزوجها له أهلها حتى يأتيهم برأس رجل يقتله فيخرج الرجل يطوف في جميع النواحي المجاورة لهم حنى يقتل رجلاً ويأتي برأسه، فإذا فعل ذلك زوج من المرأة التي خطبها وإذا جاء برأسين زوج امرأتين وكذلك إن جاء بثلاثة زوج ثلاث زوجات ولو قتل خمسين زوج خمسين امرأة، وينظر إليه أهل بلده بعين الجلالة ويشهدون له بالنجدة ويوجبون له الفخر، وفي هذه الجزيرة فيلة وبها البقم والخيزران والقصب.
بيارة:
بيارة (1) : مدينة بالأندلس قريبة من بلكونة بينهما عشرة أميال وكان مبناها على النهر الأعظم معقوداً بالرصيف، وكانت المحجة العظمى عليها من باب نربونة إلى بابها إلى باب قرطبة، وحنية بابها باقية لم تتثلم وهي عالية لا يدرك أعلاها فارس بعنانه، وكانت من بناء ركارد بن لويلد (2) ملك القوط وهو الذي جمع الفرق وقطع الشعوب وبث الاختلاف وقدم ثمانين أسقفاً على ثمانين مدينة وكان مستقره طليطلة، وهو الذي بنى الكنائس الجليلة في نواحي الأندلس وهو الذي قال بالتثليث.
تاجرا
حرف التاء تاجرا (1) موضع من أحواز قابس في مكان منه يقال له لاقية، وفي تاجرا كانت الوقيعة بين الشيخ المجاهد أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص وبين يحيى بن إسحاق المسوفي الميورقي، وكان سببها أن يحيى بن إسحاق هذا كان تغلب على حصن المهدية في جملة ما تغلب عليه من البلاد الإفريقية، فتحرك إليه صاحب المغرب الملك الناصر أبو عبد الله محمد بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن من مراكش في جمادى الأولى من سنة إحدى وستمائة، فلما فارق بلاد المغرب وأشرف على بلاد العدو، جد في أمره وتدرج حتى أتى المهدية فنزل عليها في صفر من سنة اثنتين وستمائة فحاصرها ونصب عليها المجانيق وواصل حربها، وكان يحيى بن إسحاق ترك بالمهدية نائبه وبقي جوالاً في بلاد إفريقية بعسكره، فلما نزل الناصر على المهدية وجه الشيخ أبا محمد عبد الواحد هذا في أربعة آلاف فارس إلى لقاء يحيى بن إسحاق وأقام الناصر على محاصرة المهدية، وكان أصحاب يحيى بن إسحاق شجعوه وحرضوه على الثبوت فثبت، فالتقى الجمعان بموضع يقال له لاقية من تاجرا، وأمر يحيى أصحابه فعقلوا الإبل وأوقفوا الهوادج إزاءها، وأمر الشيخ أبو محمد عبد الواحد أصحابه بالإعراض عن تلك الإبل والهوادج ومشوا على تعبئة، وصدر الرماة وقدم الطلائع فصدقوا الدفاع ودارت بين الفريقين رحى الحرب ثلاث ساعات من النهار وحمل يحيى حملات وبعد ذلك انهزم أصحابه وركبهم السيف إلى الأصيل، وأجلت الحرب عن قتل جبارة أخي يحيى وكاتبه علي بن اللمطي وعامل له يقال له الفتح بن محمد وبعض الأعراب وجماعة من الجند، وفر يحيى في شرذمة قليلة وتفرقت حشوده وأعرابه وأخذت رايته السوداء وأحاط الموحدون بعسكره وأمواله وما كانوا حازوا من طرابلس إلى منتهى بجاية، وقفل الشيخ أبو محمد غانماً مظفراً وساق معه المتاع والكراع وسائر الغنائم. حكي أنه كان في محلة يحيى نحو ثمانية عشر ألف جمل محملة بالأموال والرجال والنساء وغير ذلك وسلم جميعها وفر، ولم يقتل من جيش الموحدين إلا أربعة نفر، وكان يحيى أنفذ عياله وأولاده وحاشيته مع ثقات أصحابه إلى موضع نحو خمسة فراسخ من محلته فلما فر أخذهم في صدره ولولا ذلك ما سلم له أحد منهم، ومات في عسكر يحيى نحو المائة نفس سوى من قتل في المعركة من الفرسان واستنقذ السيد أبا زيد وجماعة من الأسرى الذين كانوا في يد يحيى أسرى، ورجع الشيخ أبو محمد بجميع ذلك إلى الناصر وهو محاصر للمهدية ومعه الغنائم والأسرى الذين استنقذهم، وقدم الحرسي الذي كان على نكال السيد أبي زيد على قتب سام إشهاراً له وبيده راية سوداء وطيف بذلك كله على المهدية. وكانت هذه الهزيمة في الثاني عشر من ربيع الأول من سنة اثنتين وستمائة وكان بين فتح الموحدين ميورقة وبين هزيمة تاجرا نحو من ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ورفع حماد المالقي وهو مشهور بالإبداع هذين البيتين إلى الناصر في قطع الكاغد: رأى يحيى إمام الخلق يأتي ... ففر أمام من يأتي إليه فشبهت الشقي بياء يفري ... ولام الأمر قد دخلت عليه
تاهرت:
وكمل التبريز بالغنائم على ملاحظة من المحصورين بالمهدية وهم مع ذلك متجلدون مواظبون على القتال بصرامة وشدة شكيمة معلنون بالتكذيب بهزيمة يحيى وينوعون السب ويفحشون، وألح الملك الناصر في قتالهم وجمع المجانيق والآلات على جهة واحدة من السور حتى كثر فيهم الموتان والجراحة، وتحققوا بعد ذلك بانهزام يحيى فسقط في أيديهم وطلبوا الأمان فأسعفهم به، ونزل علي بن الغازي صاحب المهدية وهو ابن عم يحيى وأتباعه وشيعته على أن يخلى سبيله ويسلموا البلد، وكان ذلك في التاسع من جمادى الأولى أو في السابع والعشرين منه من سنة اثنتين وستمائة، فكان بين هزيمة تاجرا وببن فتح المهدية شهران وستة وعشرون يوماً. تاهرت (1) : مدينة مشهورة من مدن الغرب الأوسط على طريق المسيلة من تلمسان، وكانت تاهرت فيما سلف مدينتين كبيرتين إحداهما قديمة والأخرى محدثة، فالقديمة منهما ذات سور على قنة جبل ليس بالعالي وبها ناس وجمل من البرابر ولهم تجارات وبضائع وأسواق عامرة وبأرضها مزارع وضياع جمة وبها من نتاج البراذين والخيل كل شيء حسن، وبها البقر والغنم كثير جداً وكذلك العسل والسمن وسائر غلاتها كثيرة، وبها مياه متدفقة وعيون جارية تدخل أكثر ديارهم ولهم على هذه المياه بساتين وأشجار تحمل ضروباً من الفواكه الحسنة، ولها سور صخري وبها قصبة منيعة مشرفة على سوقها المسماة بالمعصومة. وتاهرت (2) في سفح جبل يسمى قزول (3) وعلى نهر كبير يأتيها من ناحية الغرب ولها نهر آخر يجري من عيون يجتمع منه شرب أرضها وبساتينها، وسفرجلها لا نظير له حسناً وطعماً وشماً، ولها ثلاثة أبواب: باب الصفا وهو باب الأندلس وباب المنازل وباب المطاحن، وهي شديدة البرد كثيرة الغيوم والثلج، قال بكر بن حماد وكان ثقة مأموناً حافظاً للحديث يصف برد تاهرت: ما أصعب البرد وريعانه ... وأطرف الشمس بتاهرت تبدو من الغيم إذا ما بدت ... كأنما تنشر من تحت فنحن في بحر بلا لجة ... تجري بنا الريح على السمت نفرح بالشمس إذا ما بدت ... كفرحة الذمي بالسبت ونظر رجل من تاهرت إلى توقد الشمس بالحجاز فقال: احرقي ما شئت فوالله انك بتاهرت لذليلة. وتاهرت الحديثة (4) في قبليها لواتة وهوارة في قرارات، وبغربيها زواغة وبجوفيها مطماطة وزناتة ومكناسة، وفي شرقيها حصن هو تاهرت القديمة. وكان صاحب تاهرت ميمون بن عبد الرحمن بن رستم بن بهرام من ولد سابور ذي الأكتاف الفارسي، وكان ميمون اباضياً وكان يسلم عليه بالخلافة، وتعاقب مملكة تاهرت بنو ميمون وبنو إخوته إسماعيل وعبد الرحمن بن الرسمية إلى سنة ست وتسعين ومائتين، فوصل أبو عبد الله الشيعي إلى تاهرت فدخلها بالأمان ثم قتل ممن فيها من الرسمية عدداً كثيراً وبعث برؤوسهم إلى أخيه أبي العباس وطيف بها في القيروان ونصبت على باب رقادة، وملك بنو رستم تاهرت مائة وثلاثين سنة. وكان عبد الرحمن بن رستم خليفة لأبي الخطاب (5) عبد الأعلى بن السمح بن عبيد بن حرملة على إفريقية، فلما قتل محمد بن الأشعث الخزاعي أبا الخطاب في صفر سنة أربع وأربعين ومائة هرب عبد الرحمن بأهله وما خف من ماله وترك القيروان، فاجتمعت إليه الاباضية واتفقوا على تقديمه وبنيان مدينة تجمعهم، فنزلوا موضع تاهرت اليوم وهو غيضة أشبة، ونزل عبد الرحمن منه موضعاً مربعاً لا شعراء فيه وأدركتهم صلاة الجمعة فصلى بهم هناك، فلما انقضت الصلاة ثارت صيحة شديدة على أسد ظهر في الشعراء فأخذ حياً وأتي به إلى الموضع الذي صلوا فيه وقتل هناك، فقال عبد الرحمن بن رستم: هذا بلد لا يفارقه سفك دم ولا حرب أبداً، وانتدبوا من تلك الساعة فبنوا في ذلك الموضع مسجداً وقطعوا خشبه من تلك الشعراء فهو كذلك إلى اليوم، وهو مسجد جامعها وهو من أربع بلاطات. وبتاهرت أسواق عامرة وحمامات كثيرة يسمى منها نحو
تاجه:
اثني عشر حماماً، وحواليها من البرابر أمم كثيرة (1) . وفي سنة خمس وستمائة (2) كانت وقعة تاهرت ليحيى بن إسحاق الميورقي على السيد أبي عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن، فإنه لما فر من إفريقية أمام صاحبها الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص الموالي عليه الهزائم تمرس بجهة تلمسان، فكتب أبو محمد إلى أبي عمران بأن لا يعرض له فإنه في اتباعه بالقوم الذين دربوا على قتاله، فقال أولياء السيد: إن هذه لذلة عظيمة نقعد كالنساء في البيوت حتى يأخذه صاحب إفريقية من أيدينا، فخرج إليه السيد من تلمسان بمن اجتمع إليه وساروا إلى جهة تاهرت، فأقبل الميورقي حين أبعدوا من منازلهم بشرذمته التي هي بقايا الحتوف وطرائد السيوف، فحمل عليهم حملة فلم يثبتوا لها وقتل السيد في المعركة وأسر ولده وأقاربه وخواصه، وكان القتلى من عسكره ألفاً وسبعمائة، واحتوى الملثمون على ما أقال عثرتهم من نكبتهم، ورجعوا إلى إفريقية، ففك الأسرى وأخذ الغنائم صاحبها أبو محمد عبد الواحد من أيديهم على عادته، ولما خلت تلمسان من حكام لجهاتها ومصلح لما فسد من أحوالها اختير لها أبو زيد بن يوجان الهنتاتي الذي كان وزير المنصور يعقوب فهو الذي فتح باب الفتنة الآتية على دولتهم، فيالله ماذا فعل وما فعل به وصنع. تاجه (3) : نهر عظيم يشق طليطلة قصبة الأندلس في الزمان الأقدم يخرج من بلاد الجلالقة ويصب في البحر الرومي، وهو نهر موصوف من أنهار العالم، وعليه على بعد من طليطلة قنطرة عظيمة بنتها ملوك سالفة وهي من البنيان الموصوف. تانسيفت (4) : نهر على ثلاثة أميال من مراكش ليس بالكبير لكنه دائم الجري وإذا كان زمن الشتاء حمل بسيل كبير لا يبقي ولا يذر، وكان أمير المؤمنين علي بن يوسف بنى عليه قنطرة عظيمة متقنة البناء بعد أن جلب إلى عملها صناع الأندلس وجملة من أهل المعرفة بالبناء فشيدوها وأتقنوها حتى كملت، ثم لم تلبث بعد أعوام يسيرة حتى أتى عليها السيل فاحتمل أكثرها وحل عقدها وهدمها ورمى بها إلى البحر. وهذا النهر يأتي إليها من عيون ومياه منبعثة من جبل درن من ناحية مدينة اغمات ايلان. تارنانا (5) : مدينة بالمغرب قريبة من ندرومة كبيرة مسورة على ساحل البحر كانت محطاً للسفن ومقصداً لقوافل سجلماسة وغيرها، وكان سكانها من قبائل البربر مطغرة وهم أعدل من هناك من البربر، وعلى هذا الساحل مدن كثيرة قد خربت وكانت في سالف الدهر آهلة كثيرة الخصب. تابحريت (6) : مدينة بينها وبين تارنانا عشرة أميال، وهي مدينة مشهورة على ساحل البحر بها مسجد جامع متقن البناء يشرف على البحر، ولها أسواق جامعة، وهي محط للسفن ومقصد لقوافل سجلماسة وغيرها، وفي الشرق من تابحريت مدينة مسكاك (7) بينهما نحو ثلاثة أميال وهي أقدم من تابحريت وإنما جددت مدينة تابحريت بعد العشرين والأربعمائة (8) وهي ساحل وجدة. تادلى (9) : من بلاد المغرب، وهي مدينة قديمة أزلية فيها آثار للأول، بنى الملثمون فيها حصناً منيعاً هو الآن معمور وفيه الأسواق والجامع، والبلد كله كثير الخيرات والأرزاق أحاطت به القبائل من جميع الجهات. وهي بلد أحمد بن عبد السلام الجراوي (10) الشاعر الباقعة، يقال إنه مدح عبد المؤمن وولده يوسف وولده يعقوب وولده محمداً الناصر ومات عام العقاب، وهو عام تسعة وستمائة، واستوطن مدينة فاس وقرأ بها وكان لا يسلم أحد من لسانه، وكان مسلطاً على بني الملجوم أعيان فاس واستطرد بهجاء قومه وبلده إليهم فقال:
تامزغران:
يا ابن السبيل إذا مررت بتادلى ... لا تنزلن على بني غفجوم قوم طووا طنب السماحة بينهم ... لكنهم نشروا لواء اللوم يا ليتني من غيرهم ولو أنني ... من أهل فاس من بني الملجوم تامدلت (1) : في بلاد السوس، مدينة كبيرة أسسها عبد الله (2) بن ادريس العلوي وتوفي بايكلي وبها قبره. وتامدلت مدينة سهلية كثيرة العمارة حافلة الأسواق على نهر عنصره من جبل على نحو عشرة أميال منها، وما بينهما عمائر وبساتين متصلة، وهذا النهر هو نهر درعة، ومدينة تامدلت على رأس النهر وبينها وبين درعة مسيرة ستة أيام في عمارة متصلة، وعليها سور طوب وحجر وبها حمامان وسوق عامرة، ولأهلها أربعة أبواب وعلى نهرها أرحاء كثيرة وأرضها أكرم أرض وأكثرها زرعاً تعطي الحبة مائة، وبها معدن فضة غزير كثير المادة. تامللت (3) : هو حصن عظيم جداً من حصون جبل درن بالمغرب وهو منيع صعب المرتقى يمسكه أربعة من الرجال، وكان الإمام المهدي زاد في تحصينه وجعل فيه مخازن أمواله وبه الآن قبره، فإنه لما مات بجبل الكواكب حملوه أصحابه فدفنوه في هذا الحصن وقبره هناك يزار وعليه كالقبة العالية، وفي ذكر جبل درن طرف من هذا. تامدوت (4) : مدينة لطيفة بينها وبين اوفرجي مرحلة وبين اوفرجي (5) وبين مراكش مرحلة، وتامدوت طيبة الهواء والماء، ومنها يرتقى إلى جبل درن، ويقال إنه أكبر جبال الدنيا وأنه يتصل بجبل المقطم الذي في بلاد مصر، وفيه قبائل كثيرة من المصامدة ويقال إنهم من العرب دخلوا تلك البلاد وسكنوها في الفتنة الواقعة عند هزيمة ميسرة التي تسمى غزوة الأشراف (6) وكان البربر يطلبون المغرب فتوغلوا في تلك الجبال وتناسلوا. تازا (7) : من بلاد المغرب، أول بلاد تازا حد ما بين المغرب الأوسط وبلاد المغرب في الطول، وفي العرض البلاد الساحلية مثل وهران ومليلة وغيرهما، وقد بني فيها في هذا العهد القريب مدينة الرباط أعني في جبال تازا، ومدينة الرباط هذه كبيرة في سفح جبل عال مشرفة على بسائط تشقها جداول المياه العذبة عليها سور عظيم، وهي في فسحة من نحو ستة أميال ما بين جبال، تنصب إليها من تلك الجبال مياه كثيرة وأنهار تسقي جميع بساتينها، ولها نظر كبير كثير الزرع والفواكه وجميع الخيرات، وسورت هذه المدينة سنة ثمان وستين وخمسمائة، وهي على طريق المار من المغرب إلى المشرق وتسمى مكناسة تازا، ومكناسة قبيلة من البربر سكنوا هناك فسمي الموضع بهم. تامزغران (8) : مدينة بالمغرب بقرب مصب نهر شلف في البحر، بينها وبين مستغانم ثلاثة أميال، وهي مدينة مسورة لها مسجد جامع، وعلى مقربة منها قلعة هوارة وهي قلعة في جبل لها ثمار وزرع. تانكرمت (9) : حصن على الساحل من حصون تلمسان، ولهم مزارع واسعة وبسائط خصيبة. تامسامان (10) : بقرب بلد نكور من البلاد الغربية من أعمال تلمسان، وهي مرسى مشهور. تادمكة (11) : في بلاد السودان، وهي أشبه بلاد الدنيا بمكة شرفها الله تعالى، ومعنى تاد عندهم هيئة أي على هيئة مكة، وهي منيعة كبيرة بين جبال وشعاب وهي أحسن بناء من مدينة غانة وكوكو. وأهل تادمكة بربر مسلمون، وهم يتنقبون كما يتنقب بربر الصحراء وعيشهم من اللحم ومن اللبن ومن حب تنبته الأرض من غير اعتمال،
تبالة:
وتجلب إليهم الذرة وسائر الحبوب من بلاد السودان، ويلبسون الثياب المصبغة من القطن والصوف وغير ذلك، وملكهم يلبس عمامة حمراء وقميصاً أصفر، ودنانيرهم تسمى الصلع لأنها ذهب محض غير مختومة، ونساؤهم فائقات الجمال لا يعدل بهن نساء بلد حسناً، والزنا عندهم مباح وهن يتلقين التجار إذا أقبلوا إلى بلدهم ويتقارعن على الرجل أيتهن تحمله إلى منزلها، وبين تادمكة وغانة نحو خمسين مرحلة، وبينهما مدن وعمائر للسودان والبربر. تاكررت (1) : قلعة منيعة بينها وبين تلمسان مسيرة يوم بها تحصن يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان من بني عبد الوادي في سنة ست وأربعين وستمائة حين توجه إليه ملك المغرب علي بن أبي العلا ابن المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب مراكش الملقب بالسعيد وصعد إليه فقتل علي هنالك وذهبت محلته وفسد أمره واختلت حاله كلها، وربما أوردت طرفاً من خبره في ذكر تلمسان. تاكرنا (2) : مدينة بالأندلس بمقربة من استجة، وهي مدينة أولية إليها تنسب الكورة وبها بلاط من بنيان الأول لم يتغير. وإقليم تاكرنا منضاف إلى إقليم استجة، ومن مدن تاكرنا مدينة رندة وهي قديمة ولها آثار كثيرة، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. تامسنا (3) : إقليم تامسنا في بلاد المغرب، وهناك مات الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز الصنهاجي صاحب المهدية سنة ست وستين وخمسمائة وكان انتقل إلى المغرب بأهله وولده فمات بإقليم تامسنا بموضع يقال له ابارزلو (4) وسكن المهدية ثمانية أعوام أو نحوها تحت لواء الموحدين. تبالة (5) : في الحجاز في طريق مكة من اليمن وبينهما أربع مراحل، وهي قرية صغيرة وبها عيون متدفقة ومزارع ونخل وفيها مسجد جامع ومنبر والماء من العيون والآبار، وهي في أسفل أكمة من تراب، وفيها جاء المثل: " أهون من تبالة على الحجاج " وكانت أول عمل وليه، فلما جاءها قيل له هي خلف هذه الأكمة، فقال: لا خير في بلدة تسترها هذه الأكمة، وولى راجعاً. وكان بتبالة في الجاهلية صنم لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب يقال له ذو الخلصة، وقال الشاعر (6) : لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا ... لم تنه عن قتل العداة زورا ... وكان أبوه قتل فأراد الطلب بدمه فأتى ذا الخلصة فاستقسم عنده بالأزلام فخرج السهم بنهيه عن ذلك فقال هذه الأبيات. وكان النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عكرمة على صدقات عامر فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم (7) انحاز إلى تبالة في أناس من العرب ثبتوا على الإسلام فكان مقيماً بتبالة من أرض كعب بن ربيعة فجاءه كتاب أبي بكر رضي الله عنه، وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة، أن سر في من قبلك من المسلمين إلى أهل دبا فسار إليهم، الخبر بطوله. تبسا (8) : من بلاد إفريقية بقرب وادي ملاق، مدينة قديمة أزلية فيها آثار كثيرة للأول ومبان عجيبة ما بإفريقية بعد قرطاجنة أعظم منها، وبها دار ملعب قد تهدم أكثره أغرب ما يكون من البناء، وفيها هيكل يظن الرائي له أنه كما رفعت اليد عنه ما تكاد تعرف الفرق بين أحجاره، ولو غرزت الإبرة بين حجرين من حجاره ما وجدت منفذاً، وفي داخله أقباء معقودة وبعضها فوق بعض وبيوت تحت الأرض وأدراج كثيرة ولها منظر هائل، ويقال إن ذلك الهيكل كان لاستنزال الروحانيات لأن فيه أثر الدخن وفيه صور جميع الحيوانات وصور شاذة لا يعلم ما هي، وفي وسط المدينة هيكل عظيم مبني على سواري رخام، وقد صور
تبريز:
خارج حيطان هذا الهيكل من خارج صور جميع الحيوانات بأغرب ما يكون من التصوير، ويقال إنها كلها طلاسم قال بعضهم (1) : أعطاني إنسان من أهلها طلسماً وهو صورة أسدين س نحاس أحمر عجز الواحد منهما إلى عجز الآخر قد صورا أعجب ما يكون من التصوير، وكانت هذه البلدة لا يدخلها عقرب ولو أدخل فيها مات حتى حفر إنسان أساس دار فوجد قدر نحاس فيه عقارب من نحاس فسبكها وصرفها فيما احتاج إليه فدخلت العقارب المدينة وأضرت بالناس فيها. والمسكون اليوم من تبسا إنما هو قصرها وعليه سور من حجر جليل متقن العمل كأنما فرغ منه بالأمس، وهو حصن حصين، وفي مدينة تبسا أقباء تدخلها الرفاق بدوابهم أيام الشتاء، يسع القبو منها ألفي دابة وأكثر. وبقرب مدينة تبسا وادي ملاق وهو يقل في أيام الصيف وهو صعب المجاز كثير الدهس وعر المخاض، وعليه جبل يسمى قلب ملاق يرى على مسيرة أيام لعلوه وذهابه في الجو، وعلى مقربة من تبسا جبل يعرف بالمكتف (2) وفي أعلاه مغارة لا يقدر على الوصول إليها لا من فوق الجبل ولا من أسفله، ويقال إن فيها مالاً عظيماً وإن الطير إذا نزلت في تلك المغارة أو طارت عنها سقطت منها دنانير كبار من ذهب نفيس، وهذا متعارف في تلك البلاد، وبمدينة تبسا بساتين كثيرة وفواكه عجيبة ويجود فيها الجوز حتى يضرب به المثل في إفريقية. تبريز (3) : في خراسان من عمل أذربيجان. تبوك (4) : بين الحجر وأول الشام، وشرب أهلها من عين ماء خرارة وبها نخيل كثير، ويقال إن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب النبي عليه السلام كانوا بها، وكان شعيب من مدين. وتبوك أقصى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي أنه جاء في غزوة تبوك وهم يبوكون حسيها بالقدح أي يدخلونه فيه ويحركونه ليستدير ماؤه، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما زلتم تبوكونها " فسميت تبوك، وفي تسع غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الروم في تبوك فكانت أقصى أثره، وبنى بها مسجداً وهو بها إلى اليوم، وقصة تبوك مستوفاة في سيرة ابن إسحاق (5) . تبت (6) : في بلاد الترك، وهي مملكة متميزة من بلاد الصين والغالب عليهم حمير، رتبهم بعض التبابعة، ولهم حضر وبدو، وبواديهم ترك لا يقوم لهم أحد من بلاد الأتراك، وهم معظمون في سائر أجناس الترك لأن الملك كان فيهم في قديم الزمان، وعند سائر أجناس الترك أن الملك سيعود إليهم، وهم قوم يداخلون أهل فرغانة ويتجهزون بالحديد والفضة والحجارة الملونة والجلود النمرية والمسك التبتي المنسوب إليها، وهي مدينة على نشز عال، وفي أسفلها سور منيع، وملكها ينزل فيها، وتصنع بها ثياب غلاظ حسنة لدنة (7) يباع الثوب منها بدنانير كثيرة لأنها حرير في قز، ويتجهز منها أيضاً بالرقيق والمسك إلى بلاد فرغانة وإلى بلاد الهند، وليس على معمور الأرض أحسن ألواناً ولا أرق بشراً ولا أجمل خلقاً ولا أنعم أبداناً من رقيق الترك، يسرق بعضهم أبناء بعض ويبيعونهم من التجار، وقد يبلغ ثمن الجارية منهن ثلثمائة دينار. ولبلد التبت خواص عجيبة في هوائه ومائه وأرضه وسهله وجبله، ولا يزال الإنسان به ضاحكاً فرحاً مسروراً لا تعرض له الأحزان ولا الهموم ولا الأفكار، ولا تحصى عجائب أنواع ثماره وزهره ومروجه وأنهاره، وهو بلد تقوى فيه طبيعة الدم على الحيوان الناطق وغيره من الحيوان، ولا تكاد ترى في هذه البلاد شيخاً حزيناً ولا عجوزاً بل الطرب في الشيوخ والكهول والشبان والأحداث عام، وفي أهله رقة طبع وبشاشة وأريحية تبعث على كثرة استعمال الملاهي بالمعاقرة وأنواع الرقص، حتى إن الميت إذا مات لا يكاد يداخل أهله كثير حزن، ولهم تحنن كثير بعضهم على بعض، والتبسم فيهم عام. والمشهور أنه تبت بالتاء المثناة، وقال المسعودي (8) : سمي هذا البلد بمن ثبت فيه ورتب له من رجال حمير فقيل ثبت لثبوتهم، وقد افتخر دعبل بن علي الخزاعي بذلك في قصيدته التي يناقض فيها الكميت ويفخر بقحطان على نزار:
تدمر:
وهم كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الصين كانوا الكاتبينا وهم سموا سمرقنداً بشمر ... وهم غرسوا هناك الثبتينا وبلاد التبت متاخمة لبلاد الصين وأرضها من إحدى جهاتها ولأرض الهند وخراسان ومفاوز الترك، ولهم مدن وعمائر كثيرة ذوات منعة وقوة، وكانوا في قديم الزمان يسمون ملوكهم تبعاً بتبع ملك اليمن، ثم إن لغاتهم تغيرت عن الحميرية وحالت إلى لغة تلك البلاد بمن جاورهم من الأمم. والأرض التي بها ظباء المسك من التبتي والصيني أرض واحدة متصلة، وإنما بان فضل المسك التبتي على الصيني لأن ظباء التبت ترعى السنبل وأنواع الأفاويه وظباء الصين ترعى الحشيش، ولأن أهل التبت لا يعرضون لإخراج المسك من نوافجه ويتركونه على ما هو عليه، وأهل الصين يخرجونه من النوافج ويلحقه الغش بالدم وغيره، ولو سلم المسك الصيني من ذلك كله لكان كالتبتي، وأجود المسك وأطيبه ما خرج من الظبي بعد بلوغه وتناهيه في النضج، والنافجة اسم فارسي معناه السرة، وأما ما يصاد من الظباء فتقطع منها نوافجها فإنه تكون فيه سهوكة فيبقى زماناً حتى تزول عنه تلك الرائحة، وإنما ذلك كالثمر إذا لم ينضج. وممن ينسب إلى تبت محمد بن محمد التبتي حدث بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الجماعة على خمس وعشرين من صلاة الواحد، وصلاة التطوع حيث لا يراه أحد مثل خمس وعشرين صلاة على أعين الناس ". تثليث (1) : موضع في بلاد بني عقيل، وقيل تثليث واد بنجد وهو على يومين من جرش في شرقيها إلى الجنوب وعلى ثلاث مراحل ونصف من نجران إلى ناحية الشمال، وقالوا: وتثليث لبني زبيد وهم فيها إلى اليوم، وبها كان سكنى عمرو بن معدي كرب، وقال الشاعر (2) : وراكب جاء من تثليث معتمر ... تخارستان: ويقال طخارستان بالطاء، من بلاد خراسان على مقربة من بلخ، وهي في مستو من الأرض، وهي كثيرة الأنهار والأشجار والجبال. تدمر (3) : من مدن الشام بالبرية، أولية يقال إن الجن بنتها لسليمان عليه السلام، وإلى ذلك يشير قول النابغة: ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد ومن حلب إليها خمسة أيام وكذلك من دمشق إليها وكذا من الرقة إليها وكذا من الرحبة إليها، ولها حصون لا ترام يسكنها فلال الناس واليهود واباق العبيد، وإليها يقصد كل قاطع سبيل وحامل نهب، ومتاجرة أهل تدمر فيه، وجبل لبنان بالقرب من هذا الموضع. وكانت الزباء الملكة تصيف بتدمر وتربع بالنجار، وسميت بتدمر بنت حسان بن أذينة، وهي بنتها وفيها قبرها وإنما سكنها سليمان بعدها. وعن عبد الله القسري قال: كنت مع مروان بن محمد فهدم ناحية من تدمر فإذا جرن من رخام طويل فاجتمع قوم فقلبوا عنه الطبق وظن مروان أن فيه كنزاً، وإذا فيه امرأة على قفاها قد ألبست سبعين حلة ولها غدائر سابغة قد ردت على صدرها وفي بعضها صفيحة ذهب مكتوب فيها: أنا تدمر بنت حسان بن أذينة الملك خرب الله بيت من خرب بيتي. فما لبثنا إلا قليلاً حتى جاء عبد الله بن علي لقتل مروان. تدمير (4) : من كور الأندلس سميت باسم ملكها تدمير ونسخة كتاب الصلح (5) الذي صالحه عليه عبد العزيز بن موسى
ترنكة:
نصير: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من عبد العزيز بن موسى ابن نصير لتدمير بن غندرس (1) أنه نزل على الصلح وأن له عهد الله وذمته وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يقدم له ولا لأحد من أصحابه ولا يؤخر ولا ينزع من ملكه، وانهم لا يقتلون ولا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم ولا يكرهوا على دينهم ولا تحرق كنائسهم، ولا تشع عن ملكه ما تعبد ونصح وأدى الذي اشترطنا عليه، وأنه صالح على سبع مدائن اوريولة وبلنتله ولقنت ونوله (2) وبلانة (3) ولورقة وأله (4) ، وأنه لا يؤوي لنا آبقاً ولا يخيف لنا آمناً ولا يكتم خبر عدو، وأن عليه وعلى أصحابه ديناراً كل نسمة (5) وأربعة أمداد شعير وأربعة أقساط طلا وأربعة أقساط خل وقسطي عسل وقسطي زيت، وعلى العبد نصف ذلك، وكتب في رجب سنة أربع وتسعين من الهجرة. تدلس (6) : مدينة كبيرة بحرية بين بجاية والجزائر وبينها وبين مرسى الدجاج أربعة وعشرون ميلاً وهي على شرف متحصنة لها سور حصين وآثار ومتنزهات، وبها من رخص الفواكه والأسعار والمطاعم والمشارب ما لا يوجد في غيرها، والبقر والغنم بها موجودة كثيرة رخيصة الأثمان، وبينها وبين بجاية في البر تسعون ميلاً، وكان يحيى بن إسحاق الميورقي دخلها دخلة منكرة وفعل فيها أفعالاً مشهورة بالتخريب وهتك الأستار. ترمذ (7) : في خراسان، منها الترمذي محمد بن عيسى بن سورة الحافظ صاحب كتاب " الجامع " توفي سنة سبع وتسعين ومائتين، وترمذ على الضفة الشرقية من جيحون وهو يضرب سورها، ولها ربض كبير يحيط بها، ودار الإمارة في قصرها، ولها أسواق وعمارات، وأسواقها في مدينتها، وهي مدينة حسنة عامرة آهلة مفروشة الأزقة في الشوارع بالآجر، وهي فرضة لتلك النواحي التي على جيحون، وشرب أهلها من جيحون، وبينها وبين بلخ مرحلتان وبينها وبين مدينة الصغانيان خمس مراحل، وهي أكبر من الترمذ، والترمذ أكثر أهلاً. وفي سنة إحدى عشرة وستمائة سار خوارزم شاه بجموعه الكثيفة إلى صاحب الترمذ وراء نهر جيحون حتى أخذه وقتله كما فعل بصاحب الباميان واستولى على بلادهما ولم يبق له في تلك الجهات من ملوك الإسلام مجاور، وصار كلما فتح مملكة ولى عليها مملوكاً من مماليكه فخلت الممالك من الذخائر وعدمت تدبير الملوك وصار ذلك توطئة لخراب البلاد. ترشيش: هو اسم لتونس، ونؤخر الكلام عليها إلى موضع ذكر تونس إذ هو الاسم الأشهر لها. ترنكة (8) : من بلاد السودان تلي مدينة قلنبو (9) ، وترنكة مدينة كبيرة على نظر (10) واسع، وبها تصنع الأزر المسماة بالشنكيات (11) وهي من القطن، وليس بهذه المدينة قطن كثير وإنما هو مجلوب إليها وهم يتبركون بشجره، فقل ما عندهم منزل ولا دار إلا وفيه شجرة قطن. وحكم أهل هذه البلاد في السارق أن يخير صاحب السرقة في بيع السارق أو قتله، وحكمهم في الزاني أن يسلخ من جلده. ومن مدينة ترنكة تصل بلاد السودان إلى بلد راكنو (12) وهم من البرابر وهم يعبدون ثعباناً عظيماً له عرف وذنب ورأسه كرأس البخت، وهو في مغارة في أصل جبل وعلى فم المغارة عريش وحوله مواضع يتعبدون فيها لذاك الثعبان، ويعلقون نفيس الثياب والمتاع على تلك المغارة، ويصنعون لذلك الثعبان جفان الطعام وعساس اللبن والشراب، فهم إذا أرادوا خروجه إلى ذلك العريش تكلموا كلاماً معلوماً عندهم وصفروا تصفيراً كذلك فيبرز إليهم، فإذا هلك وال من ولاتهم جمعوا أولاده إن كان له ولد ومن يصلح للملك بعده وقربوهم من ذلك الثعبان فلا يزال يشمهم رجلاً رجلاً حتى ينفخ أحدهم بأنفه، ثم يولي ذلك الثعبان راجعاً إلى مغارته فيتبعه ذلك الرجل والثعبان مسرعاً إلى المغارة والرجل يجهد في الجري خلفه بأشد ما يقدر عليه فيجذب من ذنبه أو عرفه شعرات فتعد
ترجالة:
ويعلمون أنه يملك قومه عدد تلك الشعرات سنين لا يخطئهم ذلك بزعمهم، وهذه سنة استنتها ركاكة عقولهم، عصمنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن (1) . ترنوط (2) : فحص على ستة أميال من المدينة منه زاحف أبو يزيد مخلد بن كيداد النكار المهدية وبه كانت محلته أيام حصاره لها، وفي كتب الحدثان: إذا ربط الخارجي خيله بترنوط لم يبق لأهل السواد محلول ولا مربوط - أهل السواد أهل الساحل -، وفيها: ويل لأهل السواد من مخلد بن كيداد. توبوت (3) : في بلاد كتامة مدينة بقرب تيجس ويسمى هذا الطريق بالجناح الأخضر. ترجالة (4) : مدينة بالأندلس كالحصن المنيع لها أسوار وأسواق عامرة وخيل ورجل يقطعون أعمارهم في الغارات على بلاد الروم والأغلب عليهم التلصص والخداع. وفي سنة ثلاثين وستمائة نزل الروم على ترجالة فحاصروها، فخرج إليهم محمد بن يوسف بن هود طامعاً في انتهاز فرصة فيهم فلم يمكنه ذلك فرحل إلى اشبيلية وأخذ منها ميراً حمله إلى ترجالة فجاءه الخبر بأخذ الروم لها فرجع إلى اشبيلية. وكان تملك الروم لترجالة في ربيع الأول من هذه السنة. تطيلة (5) : مدينة بالأندلس في جوفي وشقة، وبين الجوف والشرق من مدينة سرقسطة، ويطيف بجنات تطيلة نهر كالش، وهي من أكرم تلك الثغور تربة يجود زرعها ويدر ضرعها وتطيب ثمرتها وتكثر بركتها، وأهل تطيله لا يغلقون أبواب مدينتهم ليلاً ولا نهاراً قد انفردوا بذلك من بين سائر البلاد. ومن الغرائب المستطرفة أنه كان بتطيلة، بعد الأربعمائة من الهجرة أو على رأسها، امرأة لها لحية كاملة كلحى الرجال وكانت تتصرف في الأسفار وسائر ما يتصرف فيه الناس فلا يؤبه لها حتى أمر قاضي الناحية بنسوة من القوابل بالنظر إليها، وأحجمن عن تلك المعاينة من منظرها فألزمهن النظر إليها فإذا بها امرأة كسائر النساء، فأمر القاضي بحلق لحيتها وأن تتزيا بزي النساء ولا تسافر إلا مع ذي محرم. ومن بنات تطيلة مدينة طرسونة، ومن تطيلة الشاعر المجيد التطيلي الأعمى صاحب القصيدة المشهورة التي أولها (6) : ألا حدثاني عن فل وفلان ... لعلي أرى باق على الحدثان تكريت (7) : بالعراق بين دجلة والفرات، وقيل هي من كور الموصل، من سر من رأى إلى تكريت، وهي مدينة قديمة كبيرة واسعة الأرجاء جميلة الأسواق كثيرة المساجد غاصة بالأهل، أهلها أحسن أخلاقاً وقسطاً في الموازين من أهل بغداد، ودجلة منها في جوفها ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة ويطيف بالبلد سور، وهي من المدن العتيقة، وهي على شاطئ دجلة في الجانب الغربي ينزلها قوم يقال لهم الجرامقة وبها تجار مياسير، ومنها تأخذ فوهة النهر الإسحاقي (8) الذي حفره المعتصم إلى الضياع التي استنبطها في الجانب الغربي بسر من رأى، وبين تكريت والموصل ثلاث مراحل، والغالب على أهل تكريت أنهم نصارى وأبنيتهم بالجص والآجر، ومن تكريت يشق نهر دجيل الآخذ من الدجلة فيشق ربضها ويمر إلى سواد سر من رأى فيعبره إلى قرب بغداد. قال الخبريون (9) : كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر رضي الله عنهما باجتماع أهل الموصل إلى الانطاق وإقباله بهم إلى تكريت حتى نزل بها وخندق عليه ليحموا أرضه، فأمر عمر سعداً رضي الله عنهما أن يسرح إلى الانطاق عبد الله بن المعتمر (10) ففصل إليه عبد الله من المدائن في آلاف، فسار إلى تكريت حتى
تكرو:
نزل على الأنطاق ومعه الروم وتغلب وإياد والنمر (1) وقد خندقوا فحصرهم أربعين يوماً وتزاحفوا أربعة وعشرين زحفاً في كلها يهزم الله تعالى المشركين ولا يخرجون خرجة إلا كانت عليهم، فلما رأت الروم ذلك تركوا أمراءهم ونقلوا متاعهم إلى السفن. وقد كان عبد الله بن المعتمر وكل بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم رجالاً من تغلب وإياد والنمر فكانوا لا يخفون عنه شيئاً، فأقبلت إليه العيون منهم بما فعلته الروم وسألوه للعرب السلم وقد أخبروه أنهم قد استجابوا، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقروا بما جاء به من عند الله ثم أعلمونا رأيكم (2) ، فردوا إليه رسله بالإسلام، فأرسل إليهم إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التي تلينا لندخل عليهم منها فخذوا بالأبواب التي تلي دجلة (3) وكبروا وقاتلوا واقتلوا من قدرتم عليه، فانطلقوا حتى واطأوهم على ذلك، ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر وقد أخذوا بالأبواب، فحسب القوم أن المسلمين أتوهم من خلفهم فابتدروا الأبواب التي أمامهم، فأخذتهم سيوف المسلمين مستقبليهم وسيوف الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر، واقتسم المسلمون بتكريت ما أفاء الله عليهم على أن لكل سهم ألف درهم: للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولي حرب الموصل ربعي بن الأفكل والخراج عرفطة (4) بن هرثمة. وقد ملح بعض المتأخرين في تسفيه رأي أميره والتهكم به في رميه الغرض الأقصى وهو مقصر عن أدناه في قوله (5) : تكريت تعجزنا ونحن لسخفنا ... نمضي لنأخذ ترمذاً من سنجر والحيص بيص أمير جمع وافر ... وأنا بشعوذتي طبيب العسكر تكرو (6) : مدينة بالمغرب بينها وبين البحر نحو عشرة أميال، وهي بين رواب وجبال ولها نهران أحدهما يعرف بتكرو، به سميت ومخرجه من الجبل الذي ينبعث منه النهر المعروف بورغه، وهو نهر كبير من أنهار المغرب. ومدينة تكرو كثيرة البساتين طيبة الفواكه لا يوجد في بلد مثل رمانها وكمثراها، وهي قديمة افتتحها سعيد بن ادريس بن صالح الحميري المعروف بالعبد الصالح في أيام الوليد بن عبد الملك قبل دخول موسى بن نصير، وعلى يديه أسلم بربر تلك الجهات ثم ارتدوا ولما تثبت عليهم شرائع الإسلام، وتجاور جبل غمارة. تكرور (7) : مدينة في بلاد السودان بقرب مدينة صنغانة على النيل، وهي أكبر من مدينة سلى وأكثر تجارة، وإليها يسافر أهل المغرب الأقصى بالصوف والنحاس والخرز ويخرجون منها بالتبر والخدم، وطعام أهل سلى وأهل تكرور السمك والذرة والألبان، وأكثر مواشيهم الجمال والمعز، ولباس عامة أهلها الصوف وعلى رؤوسهم كرازي الصوف ولباس خاصتهم القطن والمآزر، ومن مدينة سلى وتكرور إلى سجلماسة أربعون يوماً بسير القوافل وأقرب البلاد إليها من بلاد لمتونة الصحراء أزقى وبينهما خمس وعشرون مرحلة. تل (8) : من بلاد الجزيرة بقرب مدينة سميساط، وهي كبيرة آهلة وأهلها أنباط، وبها سوق عظيمة، وهي كثيرة الكروم والزروع. تلعفر: هي مدينة مصاقبة لسنجار منها الموفق التلعفري مظفر بن محمد كان متفنناً في العلوم القديمة والحديثة رقيق الشعر، وكتب من شعره على تقويم صنعه لقطب الدين صاحب سنجار:
تلمسان:
تضمن حسبان مجرى النجوم ... وكاد يبوح بسر الفلك فما كان شراً فللحاسدين ... وما كان خيراً وبشرى فلك تلمسان (1) : قاعدة المغرب الأوسط، وحد المغرب الأوسط من واد يسمى مجمع وهو في نصف الطريق من مدينة مليانة إلى أول بلاد تازا من بلاد المغرب، وبلاد المغرب في الطول والعرض من البحر الذي على ساحله مدينة وهران ومليلة وغيرهما إلى مدينة سول (2) وهي مدينة في أول الصحراء وهي على الطريق إلى سجلماسة وواركلان وغيرهما من بلاد الصحراء. ومدينة تلمسان مدينة عظيمة قديمة فيها آثار للأول كثيرة تدل على أنها كانت دار مملكة لأمم سالفة، وبينها وبين وهران مرحلتان وهي في سفح جبل أكثره شجر الجوز وكان لها ماء مجلوب من عمل الأول من عيون تسمى لوريط (3) بينها وبين المدينة ستة أميال، ولها نهر كبير يسمى سطفسيف. وكانت تلمسان دار مملكة زناتة في هذه العصور القريبة وحواليها قبائل كثيرة من زناتة وغيرهم من البربر. وهي كثيرة الخصب والرخاء كثيرة الخيرات والنعم، ولها قرى كثيرة وعمائر متصلة ومدن كثيرة ترجع إلى نظرها. ولها خمسة أبواب ثلاثة منها في القبلة: باب الحمام وباب وهيب (4) وباب الخوخة وفي الشرق باب العقبة وفي الغرب باب أبي قرة، وفيها بقية من النصارى ولهم بها كنيسة معمورة. ولها (5) سور متقن الوثاقة، وهي مدينتان في واحدة، ولها نهر يأتيها من جبلها المسمى الصخرتين ونهر شرقي المدينة وعليه أرحاء كثيرة، ومزارعها كثيرة وفواكهها جمة ولحومها شحمة، ولم يكن في بلاد المغرب بعد أغماك وفاس أكثر من أهلها أموالاً ولا أرفه حالاً وفاس أكبر من تلمسان نظراً وأجل قدراً وأكثر خيراً ومالاً وأعلى همة في المباني واتخاذ الديار الحسنة. ومدينة تلمسان أول بلاد المغرب، وهي على طريق الداخل والخارج منه ولا بد من الاجتياز عليها على كل حال. ونزلها (6) محمد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ومن ولده عيسى أبو العيش بن ادريس بن محمد بن سليمان الذي بنى جراوة وكان أميرها وبها توفي. ولم تزل تلمسان داراً للعلماء والمحدثين وأهل الرأي على مذهب مالك. وفي الجنوب من تلمسان قلعة ابن الجاهل وهي قلعة منيعة كثيرة الثمار والأنهار ويتصل بها جبل تارني وهو وما يليه جبال مصمودة، وهو جبل كبير معمور فيه القرى الكثيرة والعمائر المتصلة. وفي الشمال من مدينة تلمسان قرية كبيرة تسمى باب القصر فوقها جبل يسمى جبل الفضل (7) ينبعث من أسفله نهر سطفسيف ويصب في بركة عظيمة من عمل الأول ويسمع لوقوعه فيها خرير شديد هائل على مسافة ثم ينبثق من تلك البركة بحكمة مدبرة إلى موضع يسمى المهراز (8) فيسقي هناك مزارع وأولاجاً كثيرة تسمى أولاج الجنان (9) وتلك المواضع من أجل بقاع تلك البلاد ثم يصب في نهر تافنا وهو النهر المتصل بمدينة أرشقول، ولتلمسان فحص طوله خمسة وعشرون ميلاً، ومدينة أرشقول على نهر تافني يقبل من قبليها ويسير بشرقيها، تدخل فيه السفن اللطاف من البحر إلى المدينة، وبينهما ميلان. وكان هذا الغرب الأوسط قد تملكه العلويون (10) من بني ادريس وتسموا بالخلافة، ولم تزل تلمسان على قديم الزمان مخطوبة مرغوباً فيها، وكانت امتنعت على عبد المؤمن بن علي فتوجه إليها بالعساكر صاحبه الشيخ المعظم أبو حفص صاحب الإمام المهدي، فنزل عليها وحاصرها حتى فتحها غب مطاولات ومجاولات، وبعد لأي ما انقادوا وحسنت طاعتهم وذلك في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وقصدها (11) يحيى بن إسحاق في سنة خمس وستمائة لما والى صاحب إفريقية عليه الهزائم الإفريقية ويئس منها وقال لأصحابه:
تماجر:
ما بقي لكم طمع فيها فهلموا إلى بلاد المغرب ففيه ما يجبركم، فوصل في هذه السنة بحشوده إثر الوقيعة التي كانت عليه بوادي الدبوسي من سفح جبل نفوسة مع الشيخ المجاهد أبي محمد عبد الواحد قاصداً إلى صاحب تلمسان موسى بن يوسف بن عبد المؤمن، وخرج إليه موسى بجموعه ومن صحبه من فرسان زناتة فالتقوا بتاهرت في شوال سنة خمس المذكورة، فانهزم أصحاب موسى وأخذهم السيف وأثخن فيهم وقتل موسى وأسر أحد أولاده، وأحاط يحيى بن إسحاق بعسكره ولم تبق له باقية، وكان هذا اليوم من غرر أيام يحيى شفى فيه غيظه وأخذ بثأره وانصرف ظافراً غانماً، وبقي ولد موسى أسيراً في يد الأعراب حتى فداه صاحب إفريقية، وفقد من محلة موسى نحو من ألف وسبعمائة إنسان، وانبسطت جموع يحيى في تلك الجهات وعاثوا فيها وارتاع أهل تلمسان وأغلقوا بابهم وأذهلتهم فجأة هذا الأمر، ودام عيث أصحاب يحيى في أقطارها وجهاتها حتى امتلأت أيديهم بالأسباب والأمتعة والأموال، فكانت هذه الوقيعة شبيهة بوقيعة عمرة الكائنة في مدة المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن. ولما بلغ الملك الناصر بمراكش خبر هذه الوقيعة ومقتل موسى وجه أبا زيد بن يوجان (1) وزير أبيه في عسكر في طلب هذا العدو وقد انكمش لائذاً بصحراء طرابلس. وكان (2) صاحب تلمسان يغمراسن بن زيان من بني عبد الوادي قد تمادى في غيه ونبذ طاعة ملك إفريقية الأمير أبي زكريا وأعلن بالخلاف فتحرك إليه من تونس في عساكره وحشوده، فخرج من تونس في السادس والعشرين من شوال سنة تسع وثلاثين وستمائة، وجعل يتلوم عليه ويأمر من يندبه إلى مراجعة الطاعة إلى أن انتهى إلى تلمسان فنزل عليها، فكان بنو عبد الوادي يخرجون كل يوم فيطاردون العسكر ثم يرجعون إلى مدينتهم، وصابروهم إلى أن ضاق مجالهم وانحجزوا في مدينتهم ورجعوا إلى النشاب وأغلقوا الأبواب فأحرق بعضها ودخلت عليهم البلدة عنوة وخرج يغمراسن من أحد أبوابها فاراً لا يلوي على شيء، وملك الأمير أبو زكريا البلد وأنهبها ثم أمنها بعد ذلك، وعفا عن الناس، ثم عفا عن يغمراسن وأمنه وأذن له في الرجوع إلى بلده، وكان فتحها في العاشر من صفر سنة أربعين وستمائة، وخافه صاحب مراكش يومئذ عبد الواحد بن أبي العلا ادريس بن المنصور يعقوب الملقب بالرشيد، وكان بمراكش يوم تحقق دخوله في طريق إفريقية أفراح عظيمة، وقالت الشعراء في ذلك وأكثرت، من ذلك قول الأديب الكاتب أبي عبد الله محمد بن الأبار من قصيدة: دنت غمرات الموت من يغمراسن ... فأجفل كالخرقاء يعتسف الخرقا فأين الذي كان ادعى من زعامة ... لمعشره يا شد ما اجتنب الصدقا وفروا وكان المكر فيهم سجية ... ومن ذا يطيق الطعن والضرب والرشقا سلا عن سلا هل طلها العارض الذي ... أطل على مراكش يحمل الصعقا وهل سكنت فاس وسبتة بعده ... أم اصطكتا كالخافقين له خفقا وهل أخذت روم الجزيرة حذرها ... من الفتكة النكراء تمحقهم محقا لفتح تلمسان على الشرك عنوة ... أشق بحكم القسر منه على الأشقى رمت للإمام المرتضى بقيادها ... فأحرزها علقاً وأوسعها عتقا وأسرف أهلوها معاصي أوبقت ... فما زاد أن أغضى حناناً وأن أبقى تماجر (3) : بين القيروان والمهدية من القيروان إليها مرحلة، وتماجر كبيرة آهلة بها جامع وأسواق وفنادق وحمام وماؤها زعاق، وفي وسطها غدير ماء وحولها غابة زيتون وأعناب، وبين تماجر والمهدية الوادي المالح الذي كانت فيه الوقيعة المشهورة بين أبي يزيد وأبي القاسم (4) قتل فيها من أصحاب أبي القاسم عدد لا يحصى، وهي مدينة كبيرة قديمة.
تنيس:
تنور: قال المفسرون في قوله تعالى: " وفار التنور " كان في موضع مسجد الكوفة اليوم، وانظر ما قاله المفسرون في ذلك (1) . تنيس (2) : من مدن مصر، وهي مدينة كبيرة أولية فيها آثار كثيرة للأول، وأهلها ذوو يسار وثروة وأكثرهم حاكة وبها تحاك ثياب الشروب التي لا يصنع مثلها في الدنيا، ويصنع فيها لصاحب مصر قميص لا يدخل فيه من الغزل سدى ولحمة غير أوقيتين وينسج (3) من الذهب أربعمائة دينار قد أحكمه صانعه حتى لم يخرج إلى تفصيل ولا خياطة غير الجيب واللبات تبلغ القيمة فيه ألف دينار، وكذلك إلى الآن يصنع لكل ملك يملك مصر هذا الثوب في كل عام ويسمى هذا القميص البدنة، وليس في جميع الدنيا طراز ثوب كتان يبلغ الثوب منه وهو ساذج دون ذهب مائة دينار عيناً غير طراز تنيس ودمياط. ويسكن بجزيرة تنيس ودمياط نصارى تحت الذمة. وأهل تنيس يصيدون السمانى وغير ذلك من الطير على أبواب دورهم، والسمانى طائر يخرج من البحر فيقع في تلك الشباك، ويقال (4) إن بحيرة تنيس بها كانت الجنتان المذكورتان في القرآن كانتا لرجلين أحدهما مؤمن والآخر كافر فافتخر الكافر بكثرة ماله وولده فقال له أخوه: ما أراك شاكراً على ما رزقت، فنزع ذلك منه، ويقال إنه دعا عليه فغرق الله تعالى جميع ما كان للكافر في البحر حتى كأنها لم تكن في ليلة واحدة. وهذه البحيرة قليلة العمق يسار فيها بالمعادي وتلتقي فيها السفينتان هذه صاعدة وهذه نازلة بريح واحدة وقلع كل واحدة منهما مملوء بالريح، سيرهما في السرعة مستو، وكانت تنيس أخصب بلاد الله تعالى وأكثرها ثماراً وفاكهة، وكانت مقسومة بين ملكين أخوين كان أحدهما مؤمناً والآخر كافراً، فأنفق المؤمن أمواله في وجوه البر حتى باع من أخيه الكافر حصته من تنيس وزاد فيها الكافر غروساً وأنهاراً وبنى فيها مصانع فاحتاج أخوه إلى ما في يده فمنعه وسطا عليه بماله وحشمه واحتقره لفقره، فقال له أخوه المؤمن: ما لي أراك غير شاكر لله تعالى على ما رزقك ويوشك أن ينتزع ذلك منك ويغير نعمته عندك، فأرسل الله تعالى على جناته ومصانعه الماء فأصبحت خاوية على عروشها فهما اللذان عنى الله عز وجل في سورة الكهف: " واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً " إلى آخر الآية، وتركب السفن من تنيس إلى الفرما وهي على ساحل البحر. وحكى الحافظ محمد بن طاهر المقدسي (5) وكان أحد الرحالين في طلب الحديث والحذق بالتصنيف قال: أقمت في تنيس مدة أقرأ على أبي محمد الحداد ونظرائه فضاقت حالي ولم يبق معي غير درهم وكنت في ذلك اليوم أحتاج إلى خبز وأحتاج إلى كاغد وكنت أتردد إن صرفته في الخبز لم يكن لي كاغد، وإن صرفته في الكاغد لم يكن لي خبز، ومضى على هذا ثلاثة أيام بلياليها لم أطعم فيها، فلما كان بكرة اليوم الرابع قلت في نفسي: لو كان في اليوم كاغد لم يمكني أن أكتب فيه شيئاً لما بي من الجوع، فجعلت الدرهم في فمي وخرجت لأشتري الخبز فبلعته، ووقع علي الضحك، فلقيني بعض الناس فقال لي: ما أضحكك؟ قلت: خير، فألح علي فأبيت أن أخبره، فحلف بالطلاق لتصدقني فأخبرته، فأخذ بيدي وأدخلني منزله وتكلف لي طعمة، فلما كان وقت الظهر خرجت أنا وهو إلى الصلاة فاجتمع به بعض وكلاء عامل تنيس يعرف بابن قادوس فسأله عني وقال: إن صاحبي منذ شهر أمرني أن أوصل إليه في كل يوم عشرة دراهم قيمتها ربع دينار وسهوت عنه، فأخذت منه ثلثمائة درهم وكان بعد ذلك يصلني ذلك المقدار إلى أن خرجت إلى الشام. وفي خبر (6) ابن طولون صاحب مصر أنه لما استدعى القبطي الذي كان ساكناً بصعيد مصر وسأله عن بحيرة تنيس ودمياط قال: كان موضع البحيرة أرضاً لم يكن بديار مصر مثلها في طيب
التنعيم:
التربة وزكاء الريع، قال: وكانت جناناً متصلة ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبه الفيوم إلا هي وحدها، وكانت أكثر فاكهة منه وكان الماء ينحدر إلى قرى موضع البحر صيفاً وشتاء يسقون منه متى شاءوا، وفضل الماء ينصب في البحيرة. وكان بين العريش وقبرس طريق مسلوكة في تنيس وبينهما اليوم سير طويل في البحر، فلما كان قبل افتتاح المسلمين البلاد المصرية بمائة سنة طغى ماء البحر وزاد فأغرق القرى التي كانت في موضع البحيرة فما كان منها في البقاع المرتفعة، فهي باقية إلى الآن وقد أحاط بها الماء. وأذكر حكايته في حرف الصاد في رسم صعيد وبقية الخطاب في قصة له هي مذكورة هناك (1) . تنس (2) : مدينة بقرب مليانة بينها وبين البحر ميلان، وهي مسورة حصينة وبعضها على جبل وقد أحاط به السور، وبعضها في سهل الأرض، وهي قديمة أزلية، وشرب أهلها من عين بها، وبها فواكه وخصب وإقلاع وانحطاط، ولها أقاليم وأعمال ومزارع، وبها حنطة ممكنة وسائر الحبوب بها موجودة، ويخرج عنها إلى كل الآفاق في المراكب وبها من السفرجل الطيب مما لا يوجد في غيرها، وداخلها قلعة صعبة المرتقى ينفرد بسكناها عامل تنس لمنعتها، وبها مسجد جامع وأسواق جميلة (3) كثيرة وهي على نهر يسمى نتاتين (4) يأتيها من جبال على مسيرة يوم فيأتيها من القبلة ويستدبرها من جهة الشرق والجوف، ويصب في البحر، وبها حمامان (5) وهي كثيرة الزرع رخيصة الأسعار منها يحمل الطعام إلى الأندلس وإلى أكثر بلاد إفريقية والمغرب لكثرة الزرع عندهم ولكنها وبيئة يكاد من يدخلها لا يسلم من المرض وكثيراً ما يموت بها الغرباء، وتنس هذه هي التي تسمى الحديثة، وعلى البحر حصن يذكر أهل تنس أنه كان المعمور قبل هذه الحديثة، وتنس الحديثة أسسها وبناها البحريون من أهل الأندلس سنة اثنتين وستين ومائتين، ولها بابان إلى القبلة وباب البحر وباب ابن ناصح وباب الخوخة ويخرج منه إلى عين تعرف بعين عبد السلام ثرة عذبة، وفيها يقول الشاعر: أيها السائل عن أرض تنس ... بلد اللؤم لعمري والدنس بلدة لا ينزل القطر بها ... للندى في أهلها حرف درس فصحاء النطق في لا أبداً ... وهم في نعم بكم خرس فمتى يلمم بها جاهلها ... يرتحل عن أرضها قبل الغلس ماؤها من قبح ما خصت به ... نجس يجري على أرض نجس فمتى تلعن بلاداً مرة ... فاجعل اللعنة دأباً لتنس ومن تنس علي بن الملثم التنسي، جيء به إلى المعتمد والي دمشق وادعي عليه أنه كشف وجه غلام جميل من أبناء عمال الديوان وقد خرج من الحمام فقبله فهم الوالي بضربه، فقال: لا تعجل علي حتى تسمع ما قلت، ثم أنشد: أتواني حملت في الفلك الدا ... ئر أم جال بي كرى من خيال أم تعالت أرض وحطت سماء ... أم رقى الجن بي لأقصى منال بيدي هذه كشفت حجاب ال ... سجف حتى لثمت وجه الهلال فاستظرفه وسأل والد الغلام فخلى سبيله. التنعيم (6) : موضع بين مر وسرف، بينه وبين مكة فرسخان، وإنما سمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمينه يقال له نعيم والذي عن يساره يقال له ناعم، والوادي نعمان. ومن التنعيم يحرم من أراد العمرة. وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن
تقيوس:
أبى بكر رضي الله عنهما أن يعمر منه عائشة رضي الله عنها فقال: " يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فاعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم فإنها عمرة متقبلة ". وفي الخبر أن ابن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة خلقها من داخلها وخارجها، من أعلاها إلى أسفلها وكساها القباطي وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكراً لله عز وجل ولم ير يوم كان أكثر عتيقاً وعتيقة ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة مبذولة من ذلك اليوم ونحر ابن الزبير رضي الله عنهما مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والغربي لأن البيت لم يكن على قواعد إبراهيم، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير رضي الله عنهما حتى قتل، ودخل الحجاج مكة فهدم منه ست أذرع بإذن عبد الملك وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش وسد الباب الذي في ظهرها وترك سائرها، وآخر من زاد في الكعبة كرمها الله، المهدي سنة أربع وستين ومائة، فهي على ذلك إلى الآن. تنومة (1) : جزيرة من جزر الهند عامرة لباس أهلها الأزر، وبها مياه عذبة وأرز وقصب سكر ونارجيل، وبها مغايص الجوهر (2) وبها يوجد العود الهندي والكافور، وأصول العود تستخرج في وقت لا يكون في غيره بعد أن يتقدم في قطع أغصانه قبل ذلك بأشهر ثم ينحت أعلاها ويزال رخوها وتؤخذ قلوبها الصلبة فتجرد بالاسكرفاج وهو مبرد العود حتى تنقى ثم تجرد بالزجاج ثم توضع في أوعية الخيش وتصقل صقلاً كثيراً ثم تخرج من تلك الأوعية وتباع من التجار الواصلين هناك ويخرجه التجار إلى جميع البلاد. تعشار (3) : قيل فيه تعشار بكسر أوله وروي فيه الفتح، موضع في بلاد بني تميم وقيل جبل في بني ضبة، وقيل ماء لبني ضبة بنجد وقيل تعشار أرض لكلب، وأنشد للنابغة: وبنو جذيمة حي صدق سادة ... غلبوا على خبت إلى تعشار وحدث لبطة بن الفرزدق عن أبيه قال: خرجنا حجاجاً فلما كنا بالصفاح إذا بركب عليهم اليلامق ومعهم الدرق، فلما دنوت منهم إذا بالحسين فقلت: أين أبو عبد الله؟ قال: يا فرزدق ما وراءك قلت: أنت أحب الناس إلى الناس والعطاء في السماء، والسيوف مع بني أمية. قال: ودخلنا مكة فقلنا لعبد الله بن عمرو خبر حسين فقال: إما إنه لا يحيك فيه السلاح، قال: ثم خرجنا إلى موضع يقال له تعشار فجعلنا لا يمر بنا ركب إلا سألناه عن حسين، حتى مر بنا ركب فناديناهم: ما فعل حسين؟ قالوا: قتل، فقلت: فعل الله بعبد الله بن عمرو وفعل قال سفيان: ذهب الفرزدق إلى غير المعنى، إنما معنى لا يحيك فيه السلاح أي لا يضره القتل مع ما قد سبق له. تفليس (4) : أول حدود أرمينية بينها وبين قالي قلا أربع مراحل، وهي على نهر، وبها سوران من طين، وهي في غاية من الرفه والخصب، وأهلها أهل مروات ولها حمامات مثل حمامات طبرية مياهها حامية من غير أن يوقد عليها نار، أسعارها رخيصة والعسل والسمن بها كثيران جداً. وفي سنة ثمان عشرة وستمائة استولى الططر على مدينة تفليس وكانت قبل للمسلمين وأكثر منازلها من خشب فأطلقوا فيها النار حتى صارت جمرة واحدة. تقيوس (5) : في بلاد قسطيلية، وهي أربع مدن متقاربة عليها أسوار يكاد يكلم بعض أهلها بعضاً لتقاربها، ولهم غابات كثيرة النخل والزيتون وجميع الفواكه وهي أكثر بلاد قسطيلية زيتوناً وأكثر جباية وفيها العيون الكثيرة العذبة والمياه السائحة. وبينها (6) وبين الحمة عشرون ميلاً وهي مدينة عامرة بها
تستر:
غلات الحناء والكمون والكراويا وبها تمر حسن وجملة بقول طيبة. وكان أبو يزيد مخلد بن كيداد النكار الخارج على بني عبيد الله الشيعي في بلاد المغرب ينزل تقيوس في أول أمره ويعلم أطفالهم القرآن على بابها. تستر (1) : مدينة بالأهواز بينها وبين عسكر مكرم ثمانية فراسخ، وفتحها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وبينها وبين مدينة سابور ثمانية فراسخ، وهي مرتفعة الأرض والماء يرتفع في الشاذروان إلى بابها، وبها وجد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبر دانيال وكان أهل الكتاب يديرونه بينهم على مجامعهم يتبركون به ويستسقون به المطر إذا أجدبوا وأخذه أبو موسى رضي الله عنه، وشق النهر إلى أعلى باب السوس خلجانات جعل فيها ثلاثة قبور مطوية بالآجر ودفن تابوته في أحد القبور ثم استوثق منها كلها وعماها ثم فتح عليها الماء حتى اختلط الثرى الكثير على ظهور القبور هناك. ومن أهل تستر كان نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أصابه عبد الله في غزواته ومات سنة سبع عشرة ومائة، وقال: دخلت مع ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم فأعطي في اثني عشر ألفاً فأبى أن يبيعني وأعتقني أعتقه الله من النار. وكان (2) أبو موسى الأشعري رضي الله عنه سار بعد فتح الأهواز والسوس إلى تستر وبها شوكة العدو وحده وكتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده، فكتب عمر إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه يأمره بالمسير إليه في أهل الكوفة، فقدم عمار جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وسار أبو موسى رضي الله عنه حتى أتى تستر وعلى ميمنته البراء بن مالك وعلى ميسرته مجزأة بن ثور السدوسي وعلى الخيل أنس بن مالك رضي الله عنه وعلى ميمنة عمار البراء ابن عازب الأنصاري رضي الله عنهما وعلى الميسرة حذيفة بن أبي اليمان رضي الله عنه وعلى خيله قرظة بن كعب الأنصاري وعلى رجالته النعمان بن مقرن المزني، فقاتلهم أهل تستر قتالاً شديداً وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى بلغوا باب تستر، فقاتلهم البراء بن مالك على الباب حتى استشهد رضي الله عنه، ودخل الهرمزان وأصحابه المدينة بشر حال وقد قتل منهم في المعركة تسعمائة وأسر ستمائة وضربت أعناقهم بعد وكان الهرمزان قد حضر وقعة جلولاء مع الأعاجم، ثم إن رجلاً من الأعاجم استأمن إلى المسلمين على أن يدلهم على عورة العدو، فأسلم واشترط أن يفرض له ولولده، فعاقده أبو موسى على ذلك، ووجه معه رجلاً من بني شيبان يقال له أشرس بن عوف فخاض به دجيلاً على عرق (3) من حجارة ثم علا به المدينة وأراه الهرمزان ثم رده إلى العسكر، فندب أبو موسى رضي الله عنه أربعين رجلاً مع مجزأة بن ثور وأتبعهم مائتي رجل وذلك في الليل والمستأمن يتقدمهم فأدخلهم المدينة فقتلوا الحرس وكبروا على سور المدينة، فلما سمع ذلك الهرمزان هرب إلى قلعته وكانت موضع خزانته وأمواله، وعبر أبو موسى رضي الله عنه حين أصبح حتى دخل المدينة فاحتوى عليها، وجعل الرجل من الأعاجم يقتل أهله وولده ويلقيهم في دجيل خوفاً من أن يظفر بهم العرب (4) ، وطلب الهرمزان الأمان فأبى أبو موسى أن يعطيه ذلك إلا على حكم عمر رضي الله عنه فنزل على ذلك. وقتل أبو موسى من كان في القلعة ممن لا أمان له وحمل الهرمزان إلى عمر رضي الله عنه فاستحياه وكان الذي قدم عليه به أنس بن مالك رضي الله عنه فاستشار عمر أنساً فيه فقال: يا أمير المؤمنين تركت خلفي شوكة شديدة وعدواً كلباً وإن قتلته يئس القوم من الحياة، فاستحياه وأسلم وفرض له عمر رضي الله عنه ثم إنه اتهم بممالأة أبي لؤلؤة على قتل عمر رضي الله عنه، فقال له عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما: امض بنا ننظر إلى فرس فمضى وعبيد الله خلفه فضربه بالسيف فقتله. ويقال (5) إن أجناد المسلمين لما نزلوا على تستر وبها الهرمزان وجنود أهل فارس وأهل الجبال والأهواز فحاصروهم أشهراً وأكثروا القتل فيهم، وقتل البراء بن مالك رضي الله عنه في ما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مبارزة مائة سوى من قتل في غير المبارزة، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك وكعب بن سور وأبو تميمة كل واحد منهم مثل ذلك وهؤلاء من أهل البصرة، وفعل جماعة من الكوفيين مثل ذلك، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفاً تكون عليهم مرة ولهم أخرى، حتى إذا كانوا في آخر
تشومس:
زحف منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء أقسم على ربك ليهزمهم، فقال البراء بن مالك: اللهم اهزمهم لنا واستشهدني، فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم وأرزوا إلى مدينتهم فأحاط المسلمون بها وضاقت المدينة بهم وطالت حربهم، فخرج رجل إلى النعمان واستأمنه على أن يدله على مدخل يدخل منه إلى المدينة ويكون منه فتحها فأمنه النعمان فدلهم على مخرج الماء فنهدوا إلى ذلك المخرج فدخل منه من دخل وكبر المسلمون من خارج وفتحت الأبواب، ورضي الهرمزان أن ينزل على حكم عمر رضي الله عنه فشدوه وثاقاً واقتسموا ما أفاء الله عليهم فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف والراجل ألفاً، وخرج المسلمون بالهرمزان إلى المدينة وقد هيئوه في هيئته فألبسوه كسوته من الديباج ووضعوا على رأسه تاجاً مكللاً بالياقوت كيما يراه عمر رضي الله عنه في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه فسألوا عنه فقيل لهم جلس في المسجد لوفد قدموا عليه، فانطلقوا إلى المسجد فلم يجدوه إلى أن دلوهم عليه في جهة من المسجد نائماً، فكان من أمره مع الهرمزان وإسلام الهرمزان ما هو مشهور، وفي الخبر طول. تشومس (1) : مدينة في المغرب في جهة أصيلة وهي مدينة قديمة فيها آثار كثيرة للأول، وهي على نظر واسع كثير الخصب والزرع والضرع وهي تمير (2) بلاد الأندلس، وبقربها بحيرة كبيرة تسمى أمسنا يصب فيها ماء البحر سبعة أعوام وتصب هي في البحر سبعة أعوام وينقطع البحر فتظهر فيها جزائر بينها غدران يتصيد فيها أنواع السمك، وبين البحر والبحيرة مسجد مقصود معظم يسكن حوله النساك وأهل الخير وأمرهم مشهور بتلك الناحية معروف. تهامة: في " مختصر العين " تهامة: مكة، والنازل متهم، والصحيح أن مكة من تهامة كما أن المدينة من نجد، وقيل (3) أرض تهامة قطعة من اليمن وهي جبال مشتبكة أولها في البحر القلزمي ومشرفة عليه وحدودها في غربيها بحر القلزم وفي شرقيها جبال متصلة من الجنوب إلى الشمال، وطول أرض تهامة من الشرجة إلى عدن على الساحل اثنتا عشرة مرحلة، وفي شرقيها مدينة صعدة وجرش ونجران، وفي شمالها مكة وجدة وفي جنوبها صنعاء نحو عشرين مرحلة. وسميت تهامة لتغير هوائها من قولهم تهم الدهن وتمه إذا تغير ريحه. وينسب إلى تهامة علي بن محمد التهامي الشاعر (4) صاحب القصيدة الرائعة المشهورة في رثاء ابنه التي أولها (5) : حكم المنية في البرية جار ... ما دارك الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار يقول فيها: يا كوكباً ما كان أقصر عمره ... وكذاك حكم كواكب الأسحار وهي طويلة، وكان التهامي هذا الشاعر من مشهوري دولة الحاكم صاحب مصر، ورام التوثب على الملك وقال (6) : سأطلب العلاء بكل ليث ... له زأر بذكر الله وحده له مما تصوغ الهند ناب ... ومما حاكه داود لبده يرد الرمح أزرق ذا احمرار ... كمقلة أزرق كحلت برمده ثم تجول في أمراء أعراب الشام، ومدح ولاة الحاكم ومدح الوزير ابن المغربي وعرض بالحاكم وسارت له أشعار أحقدت قلب الحاكم فوضع له من زين له الوصول إلى مصر، فعندما وقعت العين عليه حبس في خزانة البنود حتى مات، قالوا: وهو أشعر من
تهودة:
أخرجته مكة فيما قرب من الزمان وبعد بلا استثناء، ومن مفرداته (1) : أملت فيه الغنى من قبل رؤيته ... فالآن أكبرته عن ذلك الأمل علا فما يستقر المال في يده ... وكيف تقبل ماء قنة الجبل وقوله (2) : أفدي الكتاب بناظري فبياضه ... ببياضه وسواده بسواده وقوله (3) : أهتز عند تمني وصلها طرباً ... ورب أمنية أحلى من الظفر تجني علي وأجني من مراشفها ... ففي الجنى والجنايات انقضى عمري وأما قول المتنبي لممدوحه من قصيدة: وأشهر آيات التهامي انه ... أبوك وأجدى ما لكم من مناقب فعنى بالتهامي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه العبارة تقتضي جهله أو قلة أدبه، فض الله تعالى فاه. تهودة (4) : من بلاد الزاب بالقرب من بسكرة، وهي مدينة أولية بنيانها بالحجر الجليل وعليها سور عظيم، ولها ربض ويدور بجميعها خندق، ولها نهر كبير ينصب إليها من جبل أوراس، فإذا كان بينهم وبين أحد حرب وخافوا النزول عليهم أجروا ماء ذلك النهر في الخندق المحيط ببلدهم فامتنعوا به وشربوا منه، وهي كثيرة البساتين والنخيل والزرع وجميع الثمار. وفي هذه المدينة حديث مشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه شهر بن حوشب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سكنى هذه البقعة الملعونة التي هي تهودة وقال: " سوف يقتل بها رجال من أمتي على (5) الجهاد في سبيل الله تعالى ثوابهم كثواب أهل بدر وأهل أحد وانهم مابدلوا حتى ماتوا "، وكان شهر بن حوشب رضي الله عنه يقول: واشوقاه إليهم. قال شهر رضي الله عنه: سألت جماعة من التابعين عن هذه العصابة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذلك عقبة بن نافع وأصحابه قتلهم البربر والنصارى بمدينة يقال لها تهودة فمنها يحشرون يوم القيامة وسيوفهم على عواتقهم حتى يقفوا بين يدي الله عز وجل. قالوا: قدم عقبة بن نافع رضي الله عنه مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه، وعليها عمرو بن العاصي رضي الله عنه، فنزل منزلاً في بعض قرى مصر ومعه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، فوضعت بين أيديهم سفرة فيها طعام، فلما تناولوا من الطعام سقطت حدأة على ما بين أيديهم من الطعام فأخذت منه عرقاً، فقال عقبة رضي الله عنه: اللهم دق عنقها، فأقبلت منقضة حتى ضربت بدفيها الأرض فاندقت عنقها، فاسترجع ابن عمرو، فسمعه عقبة فقال: ما لك يا أبا عبد الله، قال: بلغني أن قوماً يغزون إلى هذه الناحية فيستشهدون بها جميعاً، فقال عقبة: اللهم أنا منهم، وكان مستجاب الدعوة. ثم إن عقبة بن نافع رضي الله عنه خرج في أيام يزيد بن معاوية على جيش كبير غازياً إلى بلاد المغرب، فمر على عبد الله بن عمرو بمصر فقال له: يا عقبة لعلك من الجيش الذي يدخل الجنة، فقدر أن افتتح عقبة بلاد المغرب حتى وصل إلى أقصاها وهي على ضفة البحر المحيط فأدخل فرسه في البحر حتى بلغ الماء السرج وقال: اللهم إني أطلب السبب الذي طلب عبدك ذو القرنين فقيل له: يا ولي الله وما السبب الذي طلبه؟ فقال: ألا يعبد في الأرض إلا الله وحده. وانصرف إلى إفريقية، فلما دنا منها تفرق أصحابه فوجاً فوجاً، فلما وصل إلى مدينة طبنة من أرض الزاب أذن لسائر جيشه وبقي في عدة يسيرة من أصحابه، وكان في دخوله المغرب خطر على مدينة تهودة وعلى مدينة بادس فرأى فيهما قوة كبيرة من النصارى والبربر، وكانت في ذلك الوقت
تونس:
من أعظم مدن المغرب، فلما رجع قال: أمر على مدينتي تهودة وبادس لأعرف ما يكفيهما من العدة والجيوش، فلما انتهى إلى مدينة تهودة اعتمده كسيلة بن أقدم وكان أميرها في جيش الروم، وكان قد سمع بتفرق جيش عقبة، وأقبلت إليه أيضاً عساكر البربر فلما رآهم عقبة وأصحابه كسروا أجفان سيوفهم وزحفوا إليهم فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً رحمة الله عليهم، وقبر عقبة اليوم بتهودة على مقربة منها بمرحلة. توريز: وهي المعروفة في كتب الأدب بتبريز، نزل عليها الططر سنة ثمان عشرة وستمائة فلما قاربوها فارقها سلطان أذربيجان أزبك بن البهلول بنسائه وأهله وما خف من ذخائره واعتصم بقلعة خوي وخلف على توريز نائباً جمع كلمة أهلها وظهر منهم حزم وجلد، وتحالف مع رجال البلد على الموت ووعظهم وحذرهم ما نزل بغيرهم كأهل الطالقان وقزوين وهمذان، فعملوا حساب الموت وفي مدينتهم منعة بالمياه والسباخ التي يحرزونها، وبلغ ذلك الططر فراسلوه في مال وهدايا، فحمل لهم من ذلك ما أرضاهم فرحلوا عنهم إلى إقليم الران. توج: مدينة في أرض فارس كان قصدها مجاشع بن مسعود (1) فيمن معه من المسلمين فالتقوا بتوج مع أهل فارس فاقتتلوا ما شاء الله تعالى، ثم إن الله عز وجل سلط المسلمين على أهل توج فهزموهم وقتلوهم كل قتلة وبلغوا منهم ما شاءوا وغنمهم ما في عسكرهم فحووه ثم دعوا إلى الجزية والذمة فراجعوا وأقروا وخمس (2) مجاشع الغنائم وبعث بجميعها ووفد وفداً. وحدث عاصم بن كليب عن أبيه قال: خرجنا مع مجاشع غازين توج، فحاصرناها وقاتلناها ما شاء الله فلما افتتحناها حوينا نهباً كثيراً وقتلنا قتلى عظيمة وكان علي قميص قد تخرق فنظرت إلى رجل في القتلى عليه (3) قميص فنزعته فأتيت به الماء فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه فلبسته، فلما جمعت الغنائم قام مجاشع خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا تغلوا فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة ردوا ولو المخيط فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته في الأخماس وفي ذلك يقول مجاشع: ونحن ولينا مرة بعد مرة ... بتوج أبناء الملوك الأكابر لقينا جيوش الماهيان بسحرة ... على ساعة تلوي بأهل الخطائر فما فتئت خيلي تكر عليهم ... ويلحق منهم لاحق غير جائر لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ... وقد عولجوا بالمرهفات البواتر وكان كذاك الدأب في كل كورة ... أجابت لإحدى المنكرات الكبائر تونس (4) : مدينة بإفريقية محدثة إسلامية، سمعت من يحدث أنها أحدثت عام ثمانين، قال بعضهم: لم يقصد بها أول أمرها وضع مدينة، وإنما اجتمع الناس إليها وبنوا وسكنوا وزادوا حتى صارت مدينة وعمرت، وكان أبو جعفر المنصور إذا قدم عليه رسول صاحب القيروان يقول له: ما فعلت إحدى القيروانين يعني تونس تعظيماً لها ويوصف أهلها في قديم الزمان بالقيام على الأمراء. وهي اليوم قاعدة البلاد الإفريقية وأم بلادها وحضرة السلاطين من الخلفاء الحفصيين ومهاجر أهل الأقطار من الأندلس والمغرب وغيرهما فكثر خلقها واتسع بشرها ورغب الناس في سكناها وأحدثوا بها المباني والكروم والبساتين والغروس حتى بلغ ذلك النهاية التي لا توجد في غيرها، وبينها وبين القيروان مسيرة ثلاثة أيام وبينها وبين البحر نحو أربعة أميال وبين تونس وقرطاجنة نحو عشرة أميال وبين تونس ومرساها بحيرة يقال إنها كانت منذ مائتي سنة أرضاً كثيرة الجنات والمياه والزرع طيبة الفواكه فغلب عليها ماء البحر، ولها سور يدور بها ويقال إن دورها أربع وعشرون ألف ذراع، وجامعها مليح الصنعة حسن الوضع متقن البناء مطل على البحر بناه عبيد الله بن الحبحاب هو ودار الصناعة سنة أربع عشرة ومائة وأنفذ إليها البحر. وتونس في سفح جبل وبها مبان عجيبة وجل عضادات أبواب دورها رخام أبيض، لوحان قائمان وثالث معترض مكان العتبة، ومن الأمثال بإفريقية: دور تونس أبوابها رخام وداخلها سخام. قالوا: وهي دار علم وفقه وأكثر البلاد
توزر:
باعة وغوغاء، وعلى نحو عشرة أميال منها نهر بجردة وهو على الطريق إلى المغرب، ويقال إن من شرب منه قسا قلبه، فأكثر الناس يجتنبون شربه. وتونس من أشرف مدن إفريقية وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة، وسميت تونس لأن المسلمين كانوا لما فتحوا إفريقية ينزلون بازاء صومعة ترشيش - راهب كان هناك - ويأنسون بصوت الراهب فيقولون: هذه الصومعة تؤنس، فلزمها هذا الاسم. وامتحن أهل تونس أيام أبي يزيد بالقتل والسبي وذهاب الأموال وقال بعضهم: لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها ... ولكنني ألفيتها وهي توحش وبها أصناف من الحوت الذي لا يكون مثله في غيرها ما لا يحصى كثرة (1) ، أجناس كثيرة تجري في البحر مع شهور العجم، فهم منه في لذة موصولة، وفيه صنف يقال له البقونس، ومن أمثالهم: لولا البقونس لم يخالف أهل تونس. ومن تونس علي بن زياد الفقيه صاحب مالك بن أنس، والإمام العابد محرز بن خلف التميمي ذو المناقب المشهورة والآثار المأثورة أخباره مصنفة وقبره بتونس بدار يتبرك به، وبها من الصالحين والأخيار عدة لا تحصى، ويقال إن تونس تقصم الجبابرة وهم ينشدون: وكل جبار إذا ما طغى ... وكان في طغيانه يسرف أرسله الله إلى تونس ... فكل جبار بها يقصف ونزل عليها عبد المؤمن بن علي سنة أربع وخمسين وخمسمائة فحصرها ثم دخلها عليهم، واختلفت عليها ولاة الموحدين إلى أن نزل عليها يحيى بن إسحاق الميورقي فحاصرها أيضاً ثم ملكها وأغرم أهلها مائة ألف دينار وعنف نوابه على التأني في تقاضيها ثم خرج عنها لما بلغه تحرك صاحب المغرب أبى عبد الله محمد بن المنصور يعقوب إليه، ووالى عليه الهزائم كبير أصحابه الشيخ أبو محمد عبد الواحد المرة بعد المرة، ثم ولي تونس بعد انفصال الملك الناصر أبي عبد الله إلى المغرب فساس الناس سياسة طال عهدهم بها، وأمنهم ورعاهم فرأوا من بركات أيامه وحسن رعيته ما غبطهم به وأحبوه الحب الشديد، ووليها بعده الملوك من ولده فاشتهر ذكرها واستوسق أمرها وصارت حضرة الملوك وانعكس أمر المغرب وسقط نجم مراكش. توسيهان: مدينة كانت للروم قديمة بجزيرة أبي شريك فخربت وبقي في مكانها قصر هو بالقرب من نابل (2) . توزر (3) : هي قاعدة كور قصطيلية من البلاد الجريدية، ولها سور عظيم حصين وبها نخل كثير جداً وتمرها كثير يعم بلاد إفريقية وبها الأترج الكثير الطيب، والبقول بها موجودة متناهية في اللذة والجودة، وسعر طعامها غال في أكثر الأوقات لأنه يجلب إليها والحنطة والشعير بها قليلان، وبينها وبين الحمة مرحلة صغيرة. وعليها (4) هلك علي بن إسحاق الميورقي جاءه سهم في ترقوته فقضى نحبه، وكان انتقم من أهلها سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة وحصرها مدة وضيق عليها وتحرك إليه صاحب مراكش فكان من أمره ما ذكر. وهي مدينة كبيرة قديمة عليها سور مبني بالحجارة والطوب وحولها أرباض واسعة ولها أربعة أبواب وعليها غابة كبيرة وهي أكثر بلاد الجريد تمراً ومنها تمتار جميع بلاد إفريقية وبلاد الصحراء بالتمر لكثرته بها ورخصه، ولأنها على طرف الصحراء لا يعلم ما وراءها ولا قدر أحد قط على الدخول في الصحراء التي في قبلتها، ويقال إن بتلك الصحراء وادي رمل يجري مجرى المياه وهذا مستفيض، وأهلها من بقايا الروم الذين كانوا بإفريقية قبل الفتح، وكذلك أكثر أهل قصطيلية ببلاد الجريد لأنهم في دخول
تيطاوان:
المسلمين إفريقية أسلموا على أموالهم، وفيهم من العرب الذين سكنوا فيها من المسلمين عند افتتاحها، وفيهم من البربر الذين دخلوها في قديم الزمان عند خروجهم من بلادهم وانجلائهم عنها، فإن بلاد البربر إنما كانت أرض فلسطين من ديار الشام وما جاور تلك البقاع، وكان ملكهم جالوت الجبار الذي قتله داود عليه السلام، فتفرقوا في البلاد ومضى أكثرهم نحو المغرب حتى وصلوا أقاصي بلاد المغرب على أزيد من ألفي ميل من القيروان فأوطنوها، وكانت بلاد إفريقية للافرنجة فأجلتها البرابر عنها إلى جزائر البحر مثل صقلية وغيرها ثم تراجعت الافرنجة إلى مدنها على موادعة وصلح مع البربر، فاختارت البربر سكنى الجبال والرمال وأطراف البلاد، وصارت الروم إلى المدن والعمائر حتى جاء الإسلام وافتتحت إفريقية فانجلت الروم أمامهما إلى جزائر البحر وغيرها إلا من أسلم وبقي في بلده وعلى ماله، مثل أهل قصطيلية وغيرها من البلاد. وأهل توزر يبيعون زبل مراحيضهم، وهم يعيرون بذلك، لأنهما لا يدخلون المراحيض بالماء لئلا يفسد الزبل، فإذا دخل أحدهم المرحاض مشى إلى أحد السواقي التي تشق مدينتهما أو إلى الوادي فاغتسل، ويمشي عندهم دلال المراحيض بالزبل في الإناء فإذا كان جافاً حرص عليه وإذا كان رطباً زهد فيه، ويصنعون في جناتهم مراحيض على الطرق للعامة لمن كان مضطراً أو غريباً ليس من أهلها، أما البلدي فلو أمسك ذلك يومين ما رماه إلا في مرحاضه وذلك لتدمين أرضهم لأنها في غاية الجفوف لقربها من الصحراء. وتتفاضل بلاد الجريد في رطوبة الأرض ودهنيتها، وتوزر أيبسها. التوبة (1) : جزيرة بالأندلس على البحر المحيط قد أحاط بها خليج وهي مأوى للصالحين ورباط لخيار المسلمين، وبها آبار عذبة يعتملون عليها من أصناف البقول ما يقوم لمعايشهم مع مرافق البحر. تيليت (2) : في بلاد المغرب متوسطة بين القبائل القبلية وفيها تمر القوافل وفيها حصن منيع رتب فيه الجند ويعمره الوالي وحوله الأعناب الكثيرة والثمار والمياه المطردة والعمائر. تيطاوان (3) : بقرب مليلة مدينة قديمة كثيرة العيون والفواكه والزرع طيبة الهواء والماء. تيركى (4) : من عمل غانة من بلاد السودان، وهي مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يجتمع فيها أمم كثيرة من بلاد مفترقة من بلد غانة ومن تادمكة، وهي في طاعة صاحب غانة وله يخطبون وإليه يتحاكمون، وبينها وبين غانة ستة أيام. وتعظم السلاحف بأرض تيركى حتى تخرج عن القياس وهي تحفر في الأرض أسراباً يمشي فيها الإنسان وهم يأكلونها فلا يستطيعون استخراج واحد منها من تلك الأسراب إلا بعد شد الحبال فيها واجتماع العدد الكثير عليها. حدث أحد الثقات (5) المسافرين في تلك الطريق أن قوماً نزلوا في بعض طريق تيركى فعرسوا ومعهم متاعهم وبتلك الطريق الأرضة كثيرة وهي تفسد ما وجدت من متاع أو غيره ولها بتلك الطريق أجحار من التراب أكواماً فوق أحجارها، ومن العجب أن ذلك التراب ند والماء هناك غير موجود على أبعد حفر، فلا يضع التجار أمتعتهم إلا على الحجارة المجموعة أو الخشب، فلما نزل أولئك التجار بذلك الموضع ارتاد كل واحد منهم لمتاعه حزناً من الأرض أو حجراً فبدر أحدهم في الليل إلى صخرة عظيمة فيما ظن فأنزل عليها متاعه، وكان وقر بعيرين، ثم نام بقرب رحله، فلما هب من نومه سحراً لم يجد الصخرة ولا ما كان عليها، فارتاع ونادى بالويل والحرب، فاجتمع إليه أهل القافلة يسألونه عن خطبه فقالوا: لو طرقك لص لذهب بالمتاع وبقيت الصخرة، فنظروا فإذا أثر سلحفاة ذاهبة من الموضع فاقتفوا آثارها ومشوا أميالاً حتى أدركوا السلحفاة وحمل المتاع على ظهرها وهي تنهض به من غير تكلف، فانظر هذه السلحفاة العظيمة التي تحمل وقر جملين.
تيماء
ومدينة تيركى على النيل ومن هناك يرجع نحو الجنوب، ويلي مدينة تيركى إلى ناحية الجنوب مدينة تادمكة من أرض السودان أيضاً. تيسر (1) : صحراء تيسر تلي جبل بنبوان (2) وعليها يدخل المسافرون إلى أودغشت وغانة وغيرهما (3) ، وهذه الصحراء قليلة الأنس لا عامر بها، والماء بها قليل يتزودونه من مجابات معلومة، وفي هذه الصحراء حيات كثيرة طويلة القدود غليظة الأجسام يصيدونها السودان ويقطعون رؤوسها ويطبخونها بالماء والملح ويأكلونها وهي عندهم أطيب طعام يأكلونه. تيفاش (4) : ببلاد إفريقية بينها وبين الأربس مرحلة وهي بقرب ملاق وهي مدينة أولية شامخة البناء وتسمى تيفاش الظالمة، وفيها عيون ومزارع كثيرة، وهي في سفح جبل وفيها آثار للأول كثيرة وعليها سور قديم بالحجر، ولها بساتين ورياضات وأكثر غلاتها الشعير، وإليها ينسب مؤلف كتاب " مشكاة أنوار الخلفاء وعيون أخبار الظرفاء " عمر التيفاشي، وهو كتاب مطول حسن ممتع ضاهى به عقد ابن عبد ربه فأبدع، وله " قادمة الجناح في آداب النكاح " وبأرض تيفاش كانت الوقيعة العظيمة لسلطان إفريقية الأمير أبي زكريا على هوارة في سنة ست وثلاثين وستمائة بمقربة من جبل أوراس، وكانوا طغوا وبغوا وصارت لهم شوكة ومنعوا الحقوق للسلطان. تيمليمن (5) : من مدن نفزاوة، وهو نظر (6) مثل قسطيلية فيه مدن وقصور وعمل كبير، وهذه البلدة تيمليمن مدينة لطيفة حصينة لها أرباض ولها غابة نخل وزيتون وجميع الفواكه فيها قال بعضهم: تيمليمن سبعة أحرف على لطفها وخمول ذكرها ومصر ثلاثة أحرف على عظمها وسمو ذكرها. تيجس (7) : بمقربة من تيفاش بقرب وادي الدنانير عند قصر الإفريقي، وهي مدينة أولية شامخة البناء كثيرة الكلأ والربيع. وفي أيام محمد بن أحمد بن الأغلب المعروف بأبي الغرانيق (8) صاحب القيروان كانت وقيعة تيجس، وذلك أنه قدم محمد بن سالم بن غلبون والياً على باغاية وتيجس فأشار عليه أهل باغاية ألا يمضي إلى تيجس حتى يأخذ رهائنهم ويتوثق منهم فلم يفعل ومضى إلى تيجس فلما توسط البربر وثبوا عليه من كل ناحية فقتلوه وقتلوا أصحابه وأخذوا أثقاله، فلما اتصل ذلك بمحمد بن أحمد أمر بحشد الجند والموالي والأنصار فلما توافوا بعثهم إلى تيجس فقتلوا بربرها قتلاً عظيماً واستباحوا أموالهم. تيماء (8) : من أمهات القرى، على سبع ليال من المدينة المكرمة، ولها سور على شاطئ بحر طوله فرسخ، ويخرج من تيماء إلى الشام على حوران والبثنية وحسمى، وبين تيماء وأول الشام ثلاثة أيام، وبتيماء مياه ونخل، ومنه تمتار البادية وبه تجارات قلائل. وفي تيماء يقول الشاعر (10) في قصة السموأل بن عادياء حين استودع أموال امرئ القيس بن حجر وسلاحه وكراعه فبعث إليه الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذ كل ذلك منه فمنعه ولم يجبه إلى ذلك: بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار في أبيات، وأظنها قد تقدمت. وكانت (11) أمة من العماليق نزلوا في قديم الزمان الحجاز وكان ملكهم بتيماء يقال له الأرقم بن أبي الأرقم فسكنوا مكة. والمدينة والحجاز كله وعتوا عتوا كبيراً، فلما أظهر الله عز وجل
تيكلات:
موسى عليه السلام على فرعون وأهله وجنوده وطئ الشام وأهله وبعث بعثاً من بني إسرائيل إلى الحجاز وأمرهم أن لا يستبقوا منهم أحداً بلغ الحلم فأظهرهم الله عز وجل عليهم فقتلوهم حتى انتهوا إلى مليكهم بتيماء، الأرقم بن أبي الأرقم، فقتلوه وأصابوا ابناً له وكان من أحسن الناس فضنوا به عن القتل وقالوا: نتركه حتى نقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فيه رأيه، فأقبلوا به، وقبض الله موسى عليه السلام قبل قدوم الجيش فلما سمع بهم الناس تلقوهم فسألوهم عن أمرهم فأخبروهم بفتح الله عليهم وقالوا: إنا لم نستبق منهم أحداً إلا هذا الفتى لنقدم به على نبي الله موسى فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن هذه لمعصية منكم لما خالفتم أمر نبيكم، لا والله لا تدخلوا علينا أبداً، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال الجيش بعضهم لبعض: إن منعتم بلدكم فخير منه البلد الذي قدمتم منه، وكانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله تعالى وأظهره ماء فكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز، فكانوا بزهرة بين السافلة والحرة، ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب يجمع السيول، سيول بطحان والعقيق وسيل قناة مما يلي زغابة (1) وتفرقت هناك قريظة والنضير واتخذوا الآطام والمنازل ونزل بعض قبائل العرب عليهم. قال أصحاب المغازي (2) : قدم الصديق رضي الله عنه خالد بن سعيد بن العاصي حين وجه الجنود إلى الشام، جعله ردءاً بتيماء وأمره أن لا يبرحها وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه، فأقام، فاجتمعت عليه جنود كثيرة، وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث إليهم، فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله تعالى، فسار إليهم خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم فنزله، ودخل من كان تجمع له في الإسلام، فكتب بذلك إلى أبي بكر، فكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه: أقدم فصار في تيماء فيمن كان معه، فسار إليهم بطريق من بطارقة الروم يدعى ماهان (3) فهزمه وفل جنده، فكتب بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه واستمده، فعند ذلك اهتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى الشام وعناه أمره. تيكلات (4) : حصن هو ثاني مرحلة للخارج من بجاية وبه المنزل، وهو حصن منيع على شرف مطل على وادي بجاية، وبه سوق قائمة وفواكه ولحوم كثيرة رخيصة، وبحصن تيكلات قصور حسان وجنات ليحيى بن العزيز. تينجة (5) : مدينة صغيرة من عمل بنزرت المسمى عمل صطفورة، ولها بحيرة طولها أربعة أميال وتتصل ببحيرة بنزرت من فم بينهما وفي هاتين البحيرتين أمر عجيب وذلك أن ماء بحيرة تينجة عذب وماء بحيرة بنزرت ملح، وكل واحدة من هاتين البحيرتين تصب في الأخرى ستة أشهر ثم ينعكس جريها فتمسك الجارية عن الجري وتصب الثانية إلى الأولى ستة أشهر فلا بحيرة تينجة تملح ولا بحيرة بنزرت تعذب. التيه (6) : أرض التيه بمقربة من أيلة بينهما عقبة لا يصعدها راكب لصعوبتها، ولا تقطع إلا في طول اليوم لطولها، ثم يسير مرحلتين في فحص التيه الذي تاه فيه بنو إسرائيل حتى يوافي ساحل بحر فاران وهو الذي غرق فيه فرعون، وينسب البحر إلى فاران وهي مدينة من مدن العماليق على تل بين جبلين وفي هذين الجبلين نقوب كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتاً، ومن هناك إلى بحر القلزم مرحلة واحدة، والتيه مقدار أربعين فرسخاً في مثلها أو أربعة فراسخ في مثلها، وفيه هام بنو إسرائيل كما قلناه أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدلوا ثوباً، وطول فحص التيه في قول نحو من ستة أيام وفي فحص التيه مات موسى وهارون عليهما السلام. التينات (7) : مدينة بالشام بينها وبين طرابلس مسيرة أيام، منها أبو الخير التيناتي (8) أحد المشايخ الأكابر العارفين بالله تعالى كان صاحب مشاهدة وكان يسمى علام الله من أخباره قال أبو الحسن القرافي أتيت التينات أزوره فوافقت إنساناً جاء يزوره فقال لي: ندخل الآن عليه فيقدم لنا الخبز واللبن وأنا لا آكله فإني
صفراوي قال: فدخلنا على الشيخ فقام ودخل بيته وجاء على يده قصعة فيها لبن وخبز وقال لي: كل أنت هذا، وفي يده الأخرى رمان حلو وحامض فقال للرجل: كل أنت هذا. وقال عبد العزيز البحراني: قصدت التينات أزوره فسألت صبياً عن مسجده فقال: قد آذيتم الشيخ الزمن، كم تأكلون خبز هذا الضعيف، فوقع في قلبي قوله فاعتقدت أن لا آكل طعاماً ما دمت بتينات، فبت ليلتي ما قدم لي شيئاً ولا عرض علي، فلما خرجت وصرت إلى الزيتون فإذا به يصيح خلفي فالتفت فإذا به، فدفع لي ثلاثة أرغفة ملطوخة بلبن وقال لي: كل، قد خرجت من عقدك، ثم قال لي: أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الضيف إذا نزل نزل برزقه "، فقلت: بلى، فقال: فلم شغلت قلبي بقول صبي. قال القرافي: قدم أبو الخير تنيس فقال لي: قم حتى نصعد السور ونكبر. ثم قلت في نفسي ونحن على السور: هذا عبد أسود بم نال ما هو فيه؟ فالتفت إلي وقال: يعلم ما في نفوسكم فاحذروه، فلما سمعت ذلك فزعت وغشي علي، فمر وتركني، فلما أفقت جعلت أذم نفسي وأستغفر الله، فجاء وقال: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فقمت معه. وقال: كنت واقفاً أركع فإذا اللعين إبليس قد جاء في صورة حية عظيمة فتطوق بين يدي سجودي فنفضته وقلت: يا لعين لولا أنك نجس لسجدت على ظهرك، وقال: كنت بطرابلس الشام ليلاً فذكرت الحرم وطيبه فاشتقته، فسجدت ورفعت رأسي فإذا أنا في المسجد الحرام. قال إبراهيم بن عبد الله: قصدته في مسجده فإذا هو مع شخص يحدثه فقال لي: يا إبراهيم اخرج ورد الباب، فخرجت وجلست بالباب طويلاً وكانت لي حاجة إليه، فقلت في نفسي: إن كانا في سر فقد فرغا، ففتحت الباب فإذا به جالس وحده، فقلت: وأين الرجل فإنه لم يخرج؟ فقال: يا بني هو لم يخرج من الباب فقلت: من هو؟ قال: الخضر، فبكيت وقلت: لو عرفته لسألته الدعاء. ثم مضت مدة فبعثني الشيخ أبتاع له حوائج فحملتها في كساء على ظهري فلقيت رجلاً في الطريق فسلم علي وقد بقي إلى التينات ستة أميال وقد تعبت فقال: ناولني أحمل عنك، فناولته فحملها وجعل يحادثني بأخبار الصالحين حتى بلغنا باب التينات، فدفعه وودعني وقال: اقرأ على الشيخ السلام فقلت: أقول من؟ فقال: هو يعرف، فلما دخلت على الشيخ قال: يا إبراهيم ما استحيت حملته ستة أميال ما حسدتك، وحسدتني على كلامه، فبكيت فقلت: هو هو؟ فقال: هو هو ولا حيلة، تبكي إذا لم تلقه وتبكي إذا لقيته.
ثرمة
حرف الثاء ثبير هو أعلى جبال مكة وأعظمها يكون ارتفاعه علواً نحو ميل ونصف، وهو الذي عنى امرؤ القيس: كأن ثبيراً في أفانين ودقه ... في بعض الروايات، وهو من الناحية المتصلة بمنى، وثبير وحراء ما بين الشرق والشمال من مكة وهو الذي كانت قريش تعني بقولها: أشرق ثبير كيما نغير. قال البكري (1) : هي أربعة أثبرة: ثبير بمكة وهو هذا، وثبير غينا، والثالث ثبير الأعرج، والرابع ثبير الأحدب. وفي ثبير مكة تقول سبيعة بنت الأحب لابن لها تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها: ابني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير ... واحفظ محارمها بني ولا يغرنك الغرور ... ابني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور ... والله أمن طيرها والعصم تأمن في ثبير ... وفي ثبير هذا خلا إبراهيم عليه السلام بابنه وأضجعه للذبح وذلك في الشعب من ثبير. ثبت على رواية المسعودي قال: لأنه سمي بمن ثبت فيه، وقد تقدم القول فيه في حرف التاء المثناة على ما هو المشهور. الثرثار ماء معروف قبل تكريت، أنشد المبرد (2) : لعمري لقد لاقت سليم وعامر ... على جانب الثرثار راغية البكر قال: أراد أن بكر ثمود رغا فيهم فأهلكوا فضربته العرب مثلاً، وقال الهمداني: الثرثار نهر يصب من الهرماس إلى دجلة، وقال أبو حنيفة: الثرثار بالجزيرة، وبالثرثار قتلت تغلب عمير بن الحباب. ثرمة (3) قلعة في جزيرة صقلية، وهي في الشرق من المدينة (4) وعلى مرحلة منها، وهي، على أكمة مطلة على البحر، وهي من أجل القلاع وعليها سور يطيف بها، وبها آثار أولية، وبها ملعب غريب الصنعة يدل على قدرة بانيه، وبها حصن محدث وحمتان متقاربتان من أجل الحمات، وبها مياه جارية عليها كثير من الأرحاء، ولها بادية ورباع رائقة، ويصنع بها من الأطرية ما يتجهز به إلى كثير من الآفاق من جميع بلاد قلورية وغيرها من بلاد المسلمين وبلاد النصارى وتحمل منها الأوساق الكثيرة، وبها وادي السلة (5) وهو نهر كثير الماء غزيره يصاد به البوري في زمن الربيع والسمك الكبير المعروف بالتن، وفي أسفل البلد قلعة، وحماتها أغنت أهلها عن اتخاذ الحمام، وهي على غاية من الخصب وسعة الرزق، وبينها وبين بلرمة المعروفة بالمدينة خمسة وعشرون ميلاً.
الثنى:
ثمانين (1) : سوق ثمانين بين الجزيرة وبلاد الموصل حيث جبل الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام حين أرسل الله تعالى الطوفان على قومه، وهو قبل بازبدى، وسوق ثمانين أول مجمع بني أو عرش بعد الغرق، ولم توجد تحت الماء قرية سوى نهاوند، وجدت كما هي لم تتغير، وأهرام الصعيد وبرابيها وهي التي بناها هرمس الأول والعرب تسميه ادريس، وكان (2) قد ألهمه الله تعالى علم النجوم فدلته على أن ستنزل بالأرض آفة وأنه ستبقى من العالم بقية يحتاجون فيها إلى علم، فبنى هو وأهل عصره الأهرام والبرابي وكتب علمه فيها. وحدث من دخل الجودي أنه دخل الموضع الذي استوت عليه السفينة وذكر أنه ثلاثة أجبل بعضها فوق بعض، يصعد إلى الأول وفي أعلاه جب للماء ثم يصعد إلى الثاني وفي أعلاه جب للماء أيضاً ثم يصعد إلى الجبل الثالث وهو الذي استقرت عليه السفينة، وهناك حجر يقولون إن عليه نزلت وهو شبيه سفينة، وهناك بيعتان للنصارى ومسجد للمسلمين، وسنذكر ذلك في حرف الجيم إن شاء الله تعالى. وفي أسفل هذا الجبل مدينة ثمانين وهي أول ما ابتنى نوح عليه السلام حين نزل من السفينة فابتنى فيها الثمانون رجلاً الذين كانوا معه ثمانين بيتاً بجنب قرية ثمانين وقيل كان عدد الخارجين من السفينة ثمانين فهذا أصل تسميتها، وليس لهذه المدينة سور، وبها أربعون قبة يذكرون أن في كل قبة منها قبر رجل من أهل السفينة، ولهذه القباب مشهد عظيم يجتمع فيه المسلمون في كل عام ثلاثة أيام. ومدينة ثمانين أرخص بلاد الله لحماً وسمناً، يكون اللحم فيها سبعة أرطال بدرهم، ورطلهم أربعمائة وخمسون درهماً، والتمر أربعة عشر رطلاً بدرهم. الثنى (3) : الثني والمذار بالعراق، وكانت الوقيعة هناك لخالد بن الوليد رضي الله عنه على العجم سنة اثنتي عشرة ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار فيه قتل كل جبار على مجمع الأنهار، وهو مذكور في حرف الميم في المذار. ثنية البيضاء (4) : موضع قريب من مكة فيه وجد الحجاج بن علاط بعد فتح خيبر، وكان أسلم فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة ومالاً متفرقاً في تجار أهل مكة فأذن لي يا رسول الله، فأذن له، قال: لا بد يا رسول الله من أن أقول، قال صلى الله عليه وسلم: " قل "، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجالاً فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان، فلما رأوني ولم يكونوا علموا بإسلامي قالوا: الحجاج بن علاط عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا محمد، فإنه بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر، وهي بلد يهود وريف الحجاز، قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسر، قال: فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: ايه يا حجاج، قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسراً وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بما كان أصاب من رجالهم، قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم، قال، قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك، فقاموا فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به، وجئت صاحبتي فقلت: مالي، وقد كان لي عندها مال موضوع، لعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار، قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الخبر وجاءه عني أقبل حتى وقف إلى جني وأنا في خيمة من خيام التجار فقال: يا حجاج ما هذا الذي جئت به؟ قلت: هل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم، قلت: فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف عني حتى أفرغ، قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس رضي الله عنه فقلت: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى الطلب ثلاثاً ثم قل ما شئت
ثور:
قال: أفعل، قال: فإني والله تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم، يعني صفية بنت حيي، ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه، قال: ما تقول يا حجاج؟ قلت: أي والله فاكتم عني ولقد أسلمت وما جئت إلا لأخذ مالي فرقاً من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب، قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس رضي الله عنه حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة، قال: كلا والذي حلفتم به لقد افتتح محمد صلى الله عليه وسلم خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً وأخذ ماله وانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه، قالوا: يا لعباد الله انفلت عدو الله أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك، وقال كعب بن مالك الأنصاري في يوم خيبر: ونحن وردنا خيبراً وفروضه ... بكل فتى عاري الأشاجع مذود جواد لدى الغايات لا واهن القوى ... جريء على الأعداء في كل مشهد عظيم رماد القدر في كل شتوة ... ضروب بنصل المشرفي المهند يرى القتل مدحاً إن أصاب شهادة ... من الله يرجوها وفوزاً بأحمد يذود ويحمي عن ذمار محمد ... ويدفع عنه باللسان وباليد وينصره من كل أمر يريبه ... يجود بنفس دون نفس محمد ؟ ثنية العقاب (1) : بدمشق، سميت بذلك براية لخالد بن الوليد رضي الله عنه تسمى العقاب كان إذا غزا اطلع عليهم بتلك الراية من تلك الثنية وذلك حين نزلها المسلمون. ثنية الوداع (2) : عن يمين المدينة أحسب أنه كان الخارج من المدينة يودعه المشيع من هناك، ولما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الهجرة لقيته نساء الأنصار يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع ثهلان (3) : جبل باليمن، وقيل بالعالية، والعرب تضرب المثل بهذا الجبل في الثقل فتقول: أثقل من ثهلان. ثور (4) : ويقال ثور أطحل، أحد جبال مكة في الجنوب منها بينه وبين مكة ميلان، وهو جبل مشرف يكون ارتفاعه نحو الميل، وفي أعلاه الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وعن عائشة قالت: لحق رسول الله أبو بكر، بغار في جبل ثور، وسيأتي ذكره إن شاء الله في حرف الغين المعجمة. وعن علي رضي الله عنه: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عير إلى ثور، قال: وثور الجبل الذي فيه غار النبي صلى الله عليه وسلم وهو الغار المذكور في القرآن، والبحر يرى من أعلاه، وفيه من كل نبات الحجاز شجرة، وفيه شجر البان، وفيه شجرة من يحمل منها شيئاً لم تلدغه هامة. الثوية (5) : موضع على ميل من الكوفة فيها قبر زياد بن أبيه، وكان طعن في يده فشاور شريحاً القاضي في قطعها فقال له: لك رزق مقسوم وأجل معلوم وأكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجذم وإن حم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها قلت بغضاً للقائك وفراراً من قضائك. فلام الناس شريحاً فقال: إنه استشارني والمستشار مؤتمن ولولا أمانة المشورة لوددت أن الله قطع يده يوماً ورجله يوماً وسائر جسده يوماً.
ثوراب:
قالوا (1) : وكان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره ليعرضهم على أمر علي رضي الله عنه، فمن أبى ذلك عرضه على السيف. قال عبد الرحمن بن السائب: حضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالس في الجماعة، وقد خفقت، فرأيت شيئاً طويلاً قد أقبل فقلت: ما هذا؟ قال: أنا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعاً، فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر فقال: انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه في يده ما أصابه، وفي ذلك يقول ابن السائب: ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تأتى له النقاد ذو الرقبه فأسقط الشق منه ضربة ثبتت ... لما تناول ظلماً صاحب الرحبه يعني بصاحب الرحبة علي رضى الله عنه. ولما بلغ ابن عمر رضي الله عنهما موته قال: إيهاً إليك يا ابن سمية لا الدنيا بقيت ولا الآخرة أدركت ومات وهو على المصرين الكوفة والبصرة، ويكنى أبا المغيرة، ودفن في ظهر الكوفة بالثوية، وثم قبر أبي موسى وقبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، ورثاه حارثة بن بدر الغداني فقال: صلى الاله على قبر وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المور زفت إليه قريش نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبور أبا المغيرة والدنيا مفجعة ... وإن من غرت الدنيا لمغرور قد كان عندك بالمعروف معرفة ... وكان عندك للنكراء تنكير وكنت تغشى وتؤتي المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصير ثوراب (2) : مدينة بينها وبين الصغانيان مرحلة بين شرق وجنوب وهي مدينة حسنة كثيرة التجارات والعمارات وأهلها مياسير وبها طرز وصناعات عالية.
الجار
حرف الجيم جامدة مدينة بالبطاح بين البصرة وواسط، أنشد الثعالبي في اليتيمة (1) لأبي عبد الله الجامدي: مشتاقة طرقت في الليل مشتاقا ... أهلاً بمن لم يخن عهداً وميثاقا أهلاً بمن ساق لي طيف الأحبة بل ... أهلاً وسهلاً وترحيباً بما ساقا يا زائراً زار من قرب على بعد ... أنست مستوحشاً لا ذقت ما ذاقا الجار (2) مدينة بالحجاز على ساحل البحر مما يلي المدينة وهي آهلة عامرة كانت قبل هذا مدينة قريبة من جدة والمراكب إليها قاصدة ومقلعة وليس بها كبير تجارة، ومن الجار إلى جدة نحو عشرة أيام في البر بطول الساحل، والبحر يبعد تارة ويقرب أخرى، وأكثر هذه المراحل في رمال ناشفة وطرق دارسة يستدل فيها بالبحر والجبال. وقالوا: البحر الأعظم من المدينة على ثلاثة أيام وساحلها موضع يقال له الجار، وفيه ترسي المراكب التي تحمل الطعام من مصر ومدينة الجار مدينة مسورة وهي ساحل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حسنة البناء جداً والبحر يضرب سورها، ولها أسواق ومسجد جامع ولها أحساء خارج المدينة يسقون منها ولهم مواجل لماء المطر، ومنها يصعد من أراد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم،ويخرج أهلها كل يوم إذا فتح باب مدينتها الشرقي إلى باب محني هناك يسمى باب النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبلون بوجوههم المدينة شرقاً ويسلمون ويدعون وينصرفون لا بد لهم من ذلك. ومن الجار إلى بدر نحو المشرق إذا أردت المدينة عشرون ميلاً. وقال يوما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خطر على قلبي شهوة الحيتان فركب يرفأ راحلة إلى الجار فسار أربعاً وأتى بها، فرأى عمر رضي الله عنه الراحلة فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر، والله لا يذوقه عمر. منها سعد الجاري مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال كعب (3) لعمر رضي الله عنه: إنا نجدك في كتاب الله تعالى على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها فإذا مت لم يزالوا يقتحمونها إلى يوم القيامة. الجابية بالشام، قال البكري (4) : وهي قنسرين، وبالجابية ضرب أيوب عليه السلام برجله الأرض فنبعت عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، وبين العين والعين أربعون ذراعاً، وبين الجابية ومنبج أربعة فراسخ، ومن حلب إليها ستة فراسخ، وبالجابية خطب عمر رضي الله عنه حين صار إلى إيليا إذ حاصرها أبو عبيدة رضي الله عنه، فرغب أهلها في الصلح على أن يكون عمر رضي الله عنه هو المتولي لعقده معهم، فكتب إليه بذلك أبو عبيدة رضي الله عنه ورغب إليه في القدوم لما فيه من النظر
جالوس:
لصالح المسلمين فتوجه عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة، فلقيه أبو عبيدة رضي الله عنه فترجل كل واحد منهما لصاحبه واعتنقا ولقيه سائر الأمراء فأقام بالجابية عشرين يوماً يقصر الصلاة فقام في الناس فقال (1) : الحمد لله الحميد، المستحمد المجيد الدفاع الغفور الودود الذي من أراد أن يهديه من عباده اهتدى، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، قال: وإذا رجل من القسيسين (2) من النصارى عندهم وعليه جبة صوف، فلما قال عمر رضي الله عنه: من يهد الله فهو المهتدي قال: وأنا أشهد، فقال عمر رضي الله عنه: ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، فقبض النصراني جيبه عن صدره وقال: معاذ الله لا يضل الله أحداً يريد الهدى، فقال عمر رضي الله عنه: ماذا يقول عدو الله هذا النصراني؟ فأخبروه، فرفع عمر رضي الله عنه صوته وعاد في خطبته بمثل مقالته الأولى، ففعل النصراني كفعله الأول، فغضب عمر رضي الله عنه وقال: والله لئن أعادها لأضربن عنقه، فتفهمها العلج فسكت إذ عاد عمر رضي الله عنه في خطبته وقال: من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ثم قال: أما والله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن خيار أمتي الذين يلونكم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ولا يبالي شذوذ من شذ " وذكر بقية الحديث. ثم خرج عمر رضي الله عنه من الجابية إلى إيليا فخرج إليه المسلمون يستقبلونه، وخرج أبو عبيدة رضي الله عنه بالناس أجمعين، وأقبل هو على جمل له وعليه فروة من جلد كبش حولي فانتهى إلى مخاضة، فأقبلوا يبتدرونه فقال للمسلمين: مكانكم، ثم نزل عن بعيره وأخذ بزمامه وهو من ليف ثم دخل الماء بين يديه جمله حتى جاز الماء إلى أصحاب أبي عبيدة رضي الله عنه، فإذا معهم برذون يجنبونه فقالوا: يا أمير المؤمنين اركب هذا البرذون فإنه أجمل بك ولا نحب أن يراك أهل الذمة في مثل هذه الهيئة واستقبلوه بثياب بيض، فنزل عمر رضي الله عنه عن جمله وركب البرذون وترك الثياب، فلما هملج به البرذون نزل عنه وقال: خذوا هذا عني فإنه شيطان، وأخاف أن يغير علي قلبي، فقالوا: يا أمير المؤمنين لو لبست هذه الثياب البيض وركبت هذا البرذون لكان أجمل في المروءة وأحسن في الذكر، فقال عمر رضي الله عنه: ويحكم لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيليا فنزل بها وأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمي قد لبسوا ثياب الروم وتشبهوا بهم في هيئتهم، فقال عمر رضي الله عنه: احثوا في وجوههم التراب حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا، وكانوا أظهروا شيئاً من الديباج فأمر به فحرق عليهم. وفي خبر آخر أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لقيه عند مقدمه الجابية في الخيل عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة فرماهم بها وقال (3) : سرعان ما لفتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي وإنما شبعتم منذ سنتين، سرعان ما نزت بكم البطنة، والله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنها يلامقة وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذاً. وقال له يزيد بن أبي سفيان: يا أمير المؤمنين إن الثياب والدواب عندنا كثير، والعيش عندنا رفيغ والسعر رخيص، وحال المسلمين كما تحب فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفره وأطعمت المسلمين هذا الطعام الكثير كان أبعد في الصوت وأزين لك في هذا الأمر وأعظم لك في الأعاجم، فقال له: يا يزيد والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبي ولا أتزين للناس. بما أخاف أن يشينني عند ربي، ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس ويصغر عند الله تعالى، فلم يزل عمر رضي الله عنه على الأمر الأول الذي كان عليه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر رضي الله عنه حتى خرج من الدنيا. ثم بعث إلى أهل إيليا فصالحهم على ما هو مذكور في كتب الأخبار، وفي وقت قدوم عمر رضي الله عنه الشام كان إسلام كعب الحبر. جالوس (4) : جزيرة بالهند وأهلها قوم سود عراة يأكلون الناس وذلك أنه إذا سقط في أيديهم إنسان من غير بلادهم علقوه منكساً وقطعوه قطعاً وذكر بعض رؤساء المراكب أن أهل هذه الجزيرة أخذوا رجلاً من أصحابه فنظر إليهم حتى علقوه وقطعوه قطعاً
الجاثليق:
وأكلوه، وليس لهؤلاء القوم ملك، وغذاؤهم السمك والموز والنارجيل وقصب السكر، ولهم مواضع يأوون إليها شبيهة بالغياض والآجام وأكثر نباتهم الخيزران، وهم عراة لا يستترون بشيء وكذلك نساؤهم أيضاً، لا يستترون في النكاح بل يأتونه جهاراً ولا يرون بذلك بأساً، وربما فعل الرجل منهم بابنته وأخته وليس يرى بذلك عاراً ولا قبيحاً، وهم سود مناكير الوجوه مفلفلو الشعور طوال الأعناق والسوق مشوهو الوجوه جداً. جابة (1) : جزيرة من جزر الهند أيضاً تلي جزيرة كله، ولها ملك اسمه جابة وقد تكون سميت به، وهو يلبس حلة الذهب وقلنسوة الذهب مكللة بالدر والياقوت، ودراهمه مطبوعة بصورته، وهو يعبد البد، والبدود هي الكنائس بلغة أهل الهند، وبد الملك حسن البناء والهيئة، وفي داخل البد أصنام من كل جهة مصنوعة من حجارة الرخام وعلى رؤوسها التيجان المكللة بالذهب، وصلاتهم في هذه الكنائس غناء وتلحين وتصفيق لطيف بالأكف وزفن الجواري الحسان ولعبهن فيكون ذلك كله بين أيدي المصلين والمجتمعين في البد، ولكل بد من تلك الجواري عدة يأكلن ويلبسن من مال البد، وإن المرأة إذا ولدت بنتاً حسنة الصورة جميلة القد تصدقت بها على البدود وإذا ترعرعت وشبت كستها أبلغ ما تقدر عليه من الثياب وأخذت أمها بيدها، وحولها أهلها نساء ورجالاً، وسيرتها إلى البد الذي تصدقت بها عليه وتدفعها إلى خدامه وتنصرف، فإذا صارت الطفلة بيد خدام البد دفعوها إلى نساء عارفات بالزفن وجمل اللعب مما تحتاج إليه، فإذا قبلت التعليم لبست أفضل الثياب وحليت بأرفع الحلى ولزمت البد ولم يكن لها خروج عنه ولا زوال، وكذلك سنة الهنديين الذين يعبدون البدود. وبهذه الجزيرة شجر النارجيل كثير والموز المتناهي طيباً وكثرة وبها قصب السكر والأرز. جامة: من بلاد الإفريقية (2) . الجاثليق (3) : من أرض السواد بالعراق وفيه نزل عبد الملك بن مروان حين توجه إلى لقاء مصعب بن الزبير وذلك سنة اثنتين وسبعين، وهو في عساكر مصر والجزيرة والشام، وجاء مصعب في أهل العراق فالتقيا بمسكن، قرية من أرض العراق على شاطئ دجلة، وكاتب عبد الملك رؤساء أهل العراق ممن كان مع مصعب سراً يرغبهم ويرهبهم، وكان إبراهيم بن الأشتر على مقدمة مصعب، فاقتتلوا حتى غشيهم المساء وقتل إبراهيم بن الأشتر بعد أن نكا فيهم، وسار عبد الملك حتى نزل دير الجاثليق ثم تصاف القوم، فأفرد مصعب وتخلى عنه من كان معه من مضر واليمن، وبقي في سبعة نفر منهم إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله وابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه مصعب: يا بني اركب فرسك والحق بعمك ودعني فإني مقتول، فقال له: لا والله لا تتحدث نساء قريش أني فررت عنك ولا أحدثهم عنك أبداً، فقال له المصعب: أما إذ أبيت فتقدم أحتسبك، فتقدم عيسى فقاتل حتى قتل، وأمر عبد الملك أخاه محمداً أن يمضي إلى مصعب فيؤمنه ويعطيه عنه ما أراد، فمضى محمد فوقف قريباً من مصعب ثم قال: يا مصعب هلم إلي أنا ابن عمك محمد بن مروان، قد أمنك أمير المؤمنين على نفسك ومالك وكل ما أخذت وأن تنزل أي البلاد شئت ولو أراد بك غير ذلك لأنزله بك فأنشدك الله في نفسك، وأقبل رجل من أهل الشام إلى عيسى بن مصعب ليحتز رأسه فعطف عليه مصعب فقده وعرقب فرس مصعب وبقي راجلاً، وأقبل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاختلفا ضربتين سبقه مصعب بالضربة إلى رأسه، وكان مصعب قد اثخن بالجراح، وضربه عبيد الله فقتله واحتز رأسه وأتى به عبد الملك فسجد وقبض عبيد الله على قائم سيفه فاجتذبه من غمده حتى أتى على أكثره سلاً ليضرب به عبد الملك حال سجوده ثم تذمم واسترجع، وكان يقول بعد ذلك: ذهب الفتك من الناس إذ هممت ولم أفعل، فأكون قد قتلت عبد الملك ومصعباً ملكي العرب في ساعة واحدة، وتمثل عبيد الله عند مجيئه برأس مصعب رضي الله عنه: نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم وقال عبد الملك: ما تلد قريش مثل مصعب، فأمر عبد الملك بمصعب وابنه فدفنا بدير الجاثليق. وفي مصرع مصعب بدير الجاثليق يقول عبيد الله بن قيس الرقيات (4) :
الجامور:
لقد أورث المصرين عاراً وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم ولكنه ضاع الذمار ولم يكن ... بها مضري يوم ذاك كريم جزى الله بصري بذاك ملامة ... وكوفيهم إن المليم مليم جالطة (1) : جزيرة قريبة من جزيرة سردانية تقابل الجانب الشرقي منها بينهما مجاز، وجالطة في حيز بلاد إفريقية تقابل طبرقة من بر إفريقية، وهي جبل منيف كثير الزعفران يأوي إليها الروم والغزاة من المسلمين، وينبت الفول فيها بطبع أرضها من غير فلاحة ولا اعتمال ويحمل منها أخضر ويابساً، وهي كثيرة الوعول. الجامور (2) : جبل في شرقي مرسى بحر تونس كبير غير معمور بينه وبين المرسى نحو سبعين ميلاً، وفيه بئر معينة وآثار قديمة وفيه يختفي عدو البحر إذا رام الوثوب على ما يستفرصه. جباي (3) : من مدن خوزستان ورستاق عظيم مشتبك العمارة بالنخل وقصب السكر وغيرهما من الفواكه، ولأهلها رفاهية وخصب، ومنها أبو علي الجبائي إمام المعتزلة ورئيس المتكلمين في عصره (4) . الجبوبة: جزيرة فيها عين من شرب منها من الخلق ذهب عقله تسمى العين كونياطش. جبريل، بيت جبريل (5) : مدينة قديمة بالشام أهلها قوم من جذام وبها المومياء. جبنيانة (6) : قرية في بلاد إفريقية بقرب سفاقس منها أبو إسحاق الجبنياني الصالح المشهور الكرامات والفضائل، وأخباره ومناقبه مجموعة مصنفة (7) . جبل (8) : بالعراق عند جرجرايا وهي مدينة بها جوامع وأسواق. الجحفة (9) : بالحجاز قرية جامعة لها منبر بينها وبين البحر ستة أميال وبينها وبين مكة نحو ستة وسبعين ميلاً، وهي منزل عامر آهل فيه خلق ولا سور عليه، والجحفة ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، وبين الجحفة وعسفان غدير خم وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقل وبأ المدينة إلى مهيعة لما استوبأ المهاجرون المدينة. وعن الأصمعي أنه قال: لم يولد بغدير خم مولود فعاش إلى زمن الاحتلام إلا أن يتحول عنها، وبقرب غدير خم موضع خيمتي أم معبد الخزاعية، وبين خيمتي أم معبد وقديد ميلان، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم عرس في غدير خم وقال هناك: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وذلك منصرفه من حجة الوداع، وسميت الجحفة جحفة لأن السيول أجحفتها. وذكر ابن الكلبي أن العماليق أخرجوا بني عبيل وهم أخوة عاد من يثرب فنزلوا الجحفة، وكان اسمها مهيعة، فجاءهم سيل فأجحفهم فسميت الجحفة، وفي أول الجحفة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين الجحفة والبحر نحو ستة أميال. وغدير خم على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق، وهذا الغدير تصب فيه عين وحولها شجر كثير ملتف وهي الغيضة التي تسمى خم، وبين الغدير والعين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عليه
جرباتن:
الصلاة والسلام: " اللهم انقل وبأ المدينة إلى مهيعة "، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت عائشة رضي الله عنها: فدخلت عليهما فقلت: يا أبة كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله ... وكان بلال رضي الله عنه إذا أقلعت عنه يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة رضي الله عنها: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد وصححها وانقل حماها إلى الجحفة ". جخندة (1) : من مدن فرغانة وعلى نهر يأتي من الجنوب، وهي متاخمة لفرغانة وهي في غربي نهر الشاش، وطولها أكثر من عرضها، وهي منضافة إلى فرغانة إلا أنها منفردة عن الأعمال، وقهندز جخندة وجامعها في المدينة، وهي حسنة المنصب كثيرة المتنزهات طيبة الفواكه وبها رمان لا يعدل به يشف حبه لرقة قشره، وفي أهلها جمال ظاهر ومروءة بواطن وزروعها لا تقوم بأهلها فهي تمار من فرغانة واشروسنة وتنحدر إليهم السفن من نهر الشاش، وهو نهر عظيم تجتمع فيه أنهار من حدود بلاد الترك والإسلام، ووراء جخندة مما يلي الشمال جبل شاهق مطل عليها يسمى شاوعر. جدة (2) : بلد على ساحل مكة شرفها الله تعالى بينهما أربعون ميلاً، وأهلها مياسير وذوو أموال واسعة ولهم موسم قبل وقت الحج مشهور البركة تنفق فيه البضائع المجلوبة والأمتعة المنتخبة، وليس بعد مكة مدينة من مدن الحجاز أكثر من أهلها مالاً، وبها وال من جهة ناحية صاحب مكة يقبض صدقاتها ولوازمها ومكوسها ولها مراكب كثيرة تتصرف إلى جهات كثيرة، ويصاد بها السمك الكثير، والبقول بها ممكنة، وهي من بنيان الفرس بنوا سورها أتقن بناء وكذلك مساكنها ودورها حتى لا يكون بناء أتقن منها، وكان ينزلها ملوك الفرس التجار القادمين من الآفاق فإنها محط السفن من الهند وعدن واليمن وعيذاب والقلزم وغيرها، وبجدة رباط لأبي هريرة رضي الله عنه معروف، وهي مبنية بالآجر والجص وخشب الساج الهندي والأبنوس الجيد الوافي العود من عشرين شبراً إلى أزيد، وهو على أربع طبقات وخمس، وفي دورها مواجل للماء، وفي أعلى منازلها قباب محكمة، ويذكر أهلها أن من بلغ كسبه مائة ألف دينار بنى على داره قبة يعلم بذلك أن كسبه قد بلغ العدد المذكور، وأهلها أغنى الناس وأكثرهم مالاً، وبها دور كبيرة لها ثلاث قباب وأربع، وبجدة نزلت حواء عليها السلام، وبعرفات تعرفت بآدم، وقيل بجدة قبرها، ومن سار إلى القلزم في البحر من جدة لم يفارق الساحل. جرباتن (3) : مدينة بالهند بينها وبين فندرينة خمس مراحل، وهي بلد أرز كثير وحبوب كثيرة، ويذكر أن منها ميرة سرنديب، وفيها ينبت شجر الفلفل كثيراً جداً. جرجرايا: بالعراق مدينة على شرقي دجلة بقرب دير العاقول؛ قالوا (4) : من المدائن إلى واسط خمس مراحل أولها دير عاقول وهي مدينة النهروان الأوسط وبها قوم دهاقين، ثم جرجرايا وهي مدينة النهروان الأسفل وهي ديار الأشراف والفرس (5) وهي مدينة كبيرة وبها مسجد جامع ويسقى زرعها بالزرابيق، وبها تتخذ الثياب الميسانية. وكان محمد بن سيرين من أهل جرجرايا بزازاً وكان مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، ومات سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم، وكان أبوه سيرين عبداً لأنس بن مالك كاتبه على
جربة:
عشرين ألفاً فأدى الكتابة، وكان من سبي ميسان، وكان المغيرة افتتحها، وقيل كان من سبي عين التمر، وكانت أمه صفية مولاة أبي بكر رضي الله عنه، طيبها ثلاث من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ودعون لها وحضر إملاكها ثمانية عشر بدرياً فيهم أبي بن كعب رضي الله عنه يدعو وهم يؤمنون. ومن أهل جرجرايا أبو القاسم أحمد بن علي بن أحمد الجرجرائي (1) والزير الظاهر وابنه المستنصر خليفتي مصر العبيديين وكان أحد رجال الدنيا دهاء وسياسة وبعد غور قالوا: اشتهى خليفة مصر الشيعي أن يسمع كلام المغاربة فأدخل إليه وزيره الجرجرائي رجلاً يعرف بالدقي فكلمه والخليفة محتجب عنه بحيث يسمع كلامهما، فقال له الوزير الجرجرائي: ما اسمك وبماذا تعرف قال: أنا فلان بن فلان الدقي، فقال له الوزير: وما الدقي، أمن دقة الملح فقال: لا، دقة بينها وبين القيروان مثل ما بين جرجرايا وبغداد، فضحك منه وانصرف. وكان هذا الوزير من أدهى الناس وأشدهم فكرة، بلغه أن ملك القسطنطينية خرج في جمع عظيم مصمماً على بلاد المسلمين بالشام فأعمل الحيلة بالأموال وإفساد قلوب الرجال فلم يفده فنظر نصرانياً عارفاً بلغاتهم وصور له كتاباً مذهباً فيه معاقل الشام ومدنها وترجم عليه وذكر وجوه الحيل في فتحها ودفعه لذلك النصراني واتفق معه بما يرضيه من المال والجاه فتوجه إلى ملك القسطنطينية وهو في سفره مصر على الشام، فقدم له الكتاب، وذكر أنه صنعه لمعرفته بالبلاد وطلباً للأجر في حق النصرانية، فأخذه الملك وغيب النصراني وجهه، والتصقت الأوراق المذهبة فجعل الملك يمد أنامله إلى فيه على العادة في ذلك ويلمس ورقه، وكانت مسمومة، فسرى إليه السم، فهلك وكفى الله شره. ومن طريف أخبار الجرجرائي أن خليفته قطع يده فخرج من فوره فجلس في دسته غير مكترث، وقيل له في ذلك فقال: إن الخليفة قطع يدي عقوبة ولم يعزلني. وقال فيه أبو طالب عبد الله الأنصاري وكان قصده بمصر وتردد إليه فلم يحل منه بطائل، وسمعه كثيراً ما يقول للعمال: أبيتم إلا الخيانة، وكان كثير المصادرة لهم والقبض عليهم، فقال: قل للوزير وقد أبا ... نوا قبل خطته بنانه اغمد لسانك والتزم ... طرق السلامة والصيانه كم ذا تقول أبيتم ... إلا الجناية والخيانه أتراهم قطعوا يد ... يك على النزاهة والأمانه وبلغت الأبيات الجرجرائي، فهرب أبو طالب إلى نيسابور، واتصل بالوزير نظام الملك فرفع له معرضاً بالوزير الجرجرائي: قل للأقيطع قد وصل ... ت لمن له ألفا يد ثنتان جارحتان وال ... باقي لجبر المقصد وتوفي هذا الوزير الجرجرائي في آخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة. جربة (2) : جزيرة في بحر إفريقية أقرب بلادها إليها قابس، يسكنها قوم من الخوارج وغيرهم والشر والنفاق موجود في جبلتهم ولا يتكلمون بالعربية وهم أهل فتنة وخروج عن الطاعة، وتغلب عليها طاغية صقلية سنة تسع وعشرين وخمسمائة ثم نبذوا طاعته فغزاهم ثانية ورفع جميع سبيها إلى المدينة، وطول جربة ستون ميلاً من المغرب إلى المشرق، وعرض الرأس الشرقي خمسة عشر ميلاً، ويتصل بها من بعض نواحيها جزيرة زيزو (3) وهي صغيرة جداً ذات نخل وكروم، وبينها وبين البر نحو ميل، وهم نكار خوارج، وجميع أهل هاتين الجزيرتين وهبية لا يماسح ثوب أحدهم ثوب رجل غريب ولا يمسه بيده ولا يؤاكله ولا يأكل له في آنية إلا أن تكون آنية لا يقربها سواه، ورجالهم ونساؤهم يتطهرون في كل يوم عند الصباح ويتوضؤون ثم يتيممون لكل صلاة، وإن استقى عابر سبيل شيئاً من مياههم وعاينوه طردوه واستخرجوا ذلك الماء من البئر، وثياب الجنب لا يقربها الطاهر، وثياب الطاهر لا يقربها الجنب، وهم مع ذلك كله يطعمون الطعام ويندبون إليه ويسالمون الناس في أحوالهم، وفيهم عدالة بينة لمن نزل بهم. وجزيرة زيزو طولها أربعون ميلاً وعرضها نصف ميل، وبعضها معمور بالقصور والكروم والنخيل وبعضها تحت الماء يشف على وجهها نحو قامة وأزيد، وخيرات جربة كثيرة وفواكهها طيبة وأرضها عذاة كريمة.
الجرف:
قالوا (1) : وافتتح رويفع بن ثابت قرية من قرى المغرب يقال لها جربة، فقام خطيباً فقال: يا أيها الناس إني لا أقول لكم إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر: قام فينا فقال: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب المرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه "، وكان رويفع هذا ولاه معاوية رضي الله عنه طرابلس فغزا منها إفريقية ودخلها وانصرف من عامه فيقال مات ببرقة، ويقال مات بالشام. جرش: باليمن، وهي من البلاد التي كان أهلها اتخذوا الأصنام بعد دين إسماعيل عليه السلام وهم مذحج بن أدد، وهم من الذين قالوا " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً " قال ابن إسحاق (2) : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدي فحسن إسلامه في وفد من الأزد، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج صرد يسير بأمر رسول صلى الله عليه وسلم حتى نزل بجرش وهي يومئذ مدينة مغلقة وبها قبائل من اليمن وقد ضوت إليه خثعم، فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم فحاصروهم فيها قريباً من شهر وامتنعوا فيها منه، ثم إنه رجع عنهم قافلاً حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزماً، فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلاً شديداً، وكان أهل جرش بعثوا رجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بأي بلاد الله شكر؟ "، فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له كشر (3) ، وكذلك تسميه أهل جرش، فقال لهما: " ليس بكشر ولكنه شكر "، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " إن بدن الله لتنحر عنده الآن "، فجلس الرجلان إلى أبي بكر أو إلى عثمان رضي الله عنهما فقال لهما: ويحكما إن رسول صلى الله عليه وسلم الآن لينعي لكما قومكما، فقوما إليه فسلاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألاه ذلك، فقال: " اللهم ارفع عنهم "، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما فوجداهم أصيبوا يوم أصابهم صرد في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال وفي الساعة التي ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر، فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا. الجرف (4) : موضع بقرب ودان، وهو على ثلاثة أميال من المدينة، مر به تبع في مسيره فقال: هذا جرف الأرض فلزمه. وقال الزبير رضي الله عنه: الجرف على ميل من المدينة، وقيل على فرسخ من المدينة، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو وفي حديث أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يأتي الدجال إلى المدينة فيجد على كل نقب من أنقابها صنوفاً من الملائكة فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه فترجف الملائكة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة ". وفي " الموطأ ": خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أرضه بالجرف فرأى في ثوبه احتلاماً فقال: إني بليت بالاحتلام منذ ولينا أمور المسلمين، فاغتسل وغسل ما في ثوبه من الاحتلام، ثم صلى بعد أن طلعت الشمس. وبالجرف مات المقداد بن الأسود رضي الله عنه وحمل على أعناق الرجال حتى دفن بالبقيع وصلى عليه عثمان رضي الله عنه ولم يكن في بدر إلا فرس المقداد، وكان أبلق. جرف مواز (5) : بالأندلس، على قرطبة جبل يقال له جلطراء يشرف على قرطبة وجميع متنزهاتها وقصورها، وهو وعر في الشتاء مزلة لا يستمسك عليه قدم، وفيه يقول بعض الظرفاء: نشبتي في إخاء من ليس يرعى ... لأخيه الودود حق الإخاء تشبه الجمر والهواء مطير ... في جنوب الأجراف من جلطراء وفي هذا الجبل جرف منقطع عال جداً تحته هواء بعيد مشرف
جرجان:
على جميع بساتين رملة قرطبة يعرف بجرف مواز، ومواز رجل أسود من أهل هذه القرية كان يأتي كل غداة فيقف بأعلى هذا الجرف فينادي بأعلى صوته: يا أهل الرملة، ثلاثاً، يسمعهم عن آخرهم بجهارة صوته وإشراف معانيه، فإذا تشوفوا كشف لهم عن دبره ويركع على أربع قابضاً على أصل شجرة كبيرة هناك نابتة يعتصم بها من السقوط، فلما طال ذلك عليهم من فعله دسوا من قطع عروق تلك الشجرة التي كان يتمسك بها وسوى عليها التراب كحالتها الأولى وأتى مواز بالغد فصاح بهم على عادته وصنع كمعهود صنيعه فتهور من أعلى ذلك الجرف فما وصل إلى الأرض إلا ميتاً فضرب به المثل، حتى قال بعض الشعراء: وعدتني وعداً وقربته ... تقريب من يثني بإنجاز حتى إذا قلت انقضت حاجتي ... رميت بي من جرف مواز جرجان (1) : في خراسان، أول من نزلها جرجان بن أميم بن لاوذ بن سام فسميت به، وسار وبار بن اميم أخوه إلى جانب الدهناء مما يلي اليمامة فسميت به أرض وبار. والغالب (2) على أعمال جرجان الجبال والقلاع، وربما بلغت قلاعها تسعمائة قلعة، وجرجان وطبرستان مدينتان من عمل خراسان، والري وجرجان وأعمالها مضافة (3) لطبرستان، وجرجان مدينة كبيرة جداً ليس لها نظير في نواحيها، وبناؤها بالطين وأمطارها دائمة، وهي مدينتان والنهر يشق بينهما، ونهرها كثير الماء وعليه قنطرة معقودة، وجرجان اسم المدينة الشرقية واسم الغربية بكراباذ وهي أصغر من جرجان ولها ضياع وبساتين وزروع وعمارات، وبها كثير من الكروم والتمر الكثير والتين والزيتون وقصب السكر وسائر الفواكه، وفي أهلها مروءة ظاهرة، وفيهم علماء وطلاب الأدب، ونقودهم ونقود أهل طبرستان الدنانير والدراهم، وبجرجان فرضة على البحر تسمى ابسكون (4) وهي مدينة صالحة، ويركب من ابسكون إلى بلاد الخزر وباب الأبواب والجيل والديلم. ومن الري إلى جرجان سبع مراحل، وجرجان على نهر الديلم وافتتحها سعيد بن عثمان في خلافة سليمان بن عبد الملك وجرجان مدينة كبيرة جداً كما قلنا، وهي سهلية جبلية بحرية، الجبل منها يساير الداخل فيها، وفيها قصب السكر، وعلى النهر الذي يشق بين المدينتين جسر معقود. ولا تخلو (5) جرجان وطبرستان مشتى ومصيفاً من الأمطار الدائمة المؤذية القاطعة عن الأشغال. وكان أهل جرجان يأخذون أنفسهم بالتأتي للأخلاق المحمودة، وكانوا أظهر مروءة ووقاراً ويساراً من أهل طبرستان، فبدد شملهم جور السلطان واحتلال العساكر، وافترقوا في البلاد وخربت المدينة إلا الأقل. ولها مياه كثيرة وضياع واسعة ولم يكن بالمشرق بعد أن تجاوز الري والعراق مدينة أجمع ولا أظهر خصباً من جرجان وأصل ابريسم طبرستان من جرجان لأن بزره يؤخذ كل سنة من جرجان ولا يخرج من بزر طبرستان. ومدينة ابسكون المذكورة مدينة صالحة ليس بجميع هذه النواحي فرضة أجل من ابسكون. وكان العجم من الفرس قد حصنوا جرجان بحائط من آجر لا يرام تمنعوا به من الأتراك، وهو حائط طويل أحد طرفيه داخل في البحر أربعة فراسخ والطرف الآخر حيال جبال خراسان، وعلى كل فرسخ حصن، فكانت الترك تأتيهم من ناحية خوارزم فلا يصلون إليهم، ثم إن الترك تحيلوا حتى ظهروا عليهم وتغلبوا عليها، وسمة الملك منهم صول، وأذاقوا أهل خراسان شراً، وتملكوا معها دهستان والبحيرة وهي جزيرة، بينهما ثلاثون فرسخاً، ورامها سابور ذو الأكتاف وخسر بن قباذ وخسر بن هرمز فأعيتهم حتى جاء الإسلام (6) ، فغزاها سويد بن مقرن سنة ثمان عشرة من الهجرة، وصاحبها رزبان صول، فكاتبه رزبان صول فانصرف عنه، ثم غزاها سعيد بن العاصي في خلافة عثمان سنة ثلاثين فصالحوه على مائتي ألف فلم يأتها بعد سعيد أحد، ومنعوا طريق
خراسان فلم يسلكه أحد من ناحية قومس إلا على خوف، إنما كان الطريق على فارس إلى كرمان إلى خراسان فأول من صير الطريق من قومس إلى خراسان قتيبة بن مسلم وكان يكتب إلى الحجاج يستأذنه في غزو جرجان فيأبى عليه، ويكتب إليه: الأنوق والعيوق، إياي والورطات، لنا السهل ولهم الجبل، فلما ولي يزيد بن المهلب خراسان أيام سليمان كانت جرجان من همه، فلما انتهى إلى قومس وجد ريحاً منتنة، فقال: ما هذه الريح؟ قيل له: أغار صول التركي على هذه الناحية فقتل هؤلاء فهذه ريح القتلى، فقالا: قبح الله قتيبة، ترك هؤلاء في قبضة المسلمين وهو يغزو المسلمين، فقال له رجل من بني تميم: قد أرادها قتيبة ولكن الحجاج منعه منها فامض إلى خراسان حتى يتمكن أمرك ثم ناهضها. وخرج عن جرجان بعض المرازبة مغاضباً لصول فأتى يزيد فقرب عليه أمر جرجان، فأقبل يزيد في جند الشام وخراسان ودهاقينها في عشرين ومائة ألف يؤم جرجان، فتحول عنها صول إلى البحيرة، فاجتمع الترك في مدخل جرجان، فلقوا يزيد فقاتلهم فهزمهم فبلغت هزيمتهم دهستان، ووضع يزيد بجرجان وضائع من جنده وأتى البحيرة فحصر صولاً فقاتلوه مراراً، وأكثر يزيد فيهم القتل يوماً فدخلوا حصنهم فلم يخرجوا بعد ذلك، وحصر أهل البحيرة ستة أشهر فنزلوا على حكمه على أن يؤمن صولاً وأهله وثلثمائة ممن أحب، ويقال خمسمائة، ولا يعرض لماله وتدفع إليه البحيرة بما فيها ففتحها وسبى أهلها ثم توجه إلى طبرستان فجرت بينه وبين الأصبهبذ صاحبها خطوب كثيرة آل الأمر في ذلك إلى أن صالحه على ألفي ألف وعلى أربعمائة وقر من زعفران وثلثمائة أمير من العرب كانوا هناك وعلى أن يدفع إليه خمسمائة من الأتراك كانوا غدروا بالمسلمين، وكان الذي توسط في الأمر بينهما حيان النبطي، فحمل الأصبهبذ إليه صلحه، وبعث بالأتراك فقتلهم. وخلا لهم الطريق إلى جرجان فمشى يزيد إلى جرجان وأعطى الله عهداً (1) إن ظهر عليهم أن لا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويختبز ذلك الطحن فيأكله، فلما بلغ المرزبان بجرجان مسيره تحصن منه في قلعتها وليست تحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب وحولها غياض ملتفة وليس يعرف لها إلا طريق واحد، فنزل بها يزيد فأقام سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لها مأتى، فبينا هم كذلك إذ خرج الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان مولعاً بالصيد، فرأى ظبية أو وعلاً متوقلاً في الجبل فاتبعها يقفوها في مثل شراك النعل حتى اطلع على قلعتهم من طريق خفي، فلما عاين ذلك انصرف راجعاً وخاف أن يشتبه عليه الطريق فجعل يخرق ما عليه من الثياب ويضعه على الشجر يتخذ ذلك علماً حتى انتهى إلى العسكر فأعلم يزيد فأمر له بجائزة وبعث معه بأربعة آلاف، فقال إن الطريق لا تحمل هذه الجماعة فاتخذ ثمانمائة (2) وقال: لا بد من سلم من جلود فاتخذها وقال له يزيد: متى تصل إليهم؟ قال: غداً عند صلاة العصر، فنهض فلما انتصف النهار من الغد أمر يزيد أن يشعل النار في حطب كان جمعه في حصاره لهم فصار آكاماً فأضرموه فصار حول العسكر أمثال الجبال من النيران، فهال ذلك العدو فخرجوا، وأمر يزيد الناس فجمعوا بين الظهر والعصر، وزحفوا إلى المشركين يقاتلونهم والمشركون آمنون من الوجه الآخر فلم يرعهم بعد العصر إلا التكبير من ورائهم فعطفوا عليهم، وركب المسلمون أكتافهم فأعطوا بأيديهم وفتحوا القلعة ونزلوا على حكم يزيد فقتل المقاتلة وسبى الذرية وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي جرجان وقال: من يطلبهم بثأر فليقتل، وكان الرجل يقتل الأربعة والخمسة في النهر، وجرى الماء بدمائهم فطحن له عليه واختبز من ذلك الطحن وأكل ليبر قسمه وصلبهم نحو فرسخين وبنى مدينة جرجان وقصبتها وكتب يزيد إلى سليمان: إن الله تعالى قد فتح لأمير المؤمنين جرجان ودهستان وطبرستان والبحيرة وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسرى بن هرمز وكسرى بن قباذ وأعيا ذلك الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما ومن بعدهما من خلفاء الله تعالى، وفتح الله ذلك لأمير المؤمنين كرامة من الله له وزيادة من نعمه عليه، وقد صار في يدي ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة عشرون ألف ألف فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تفعل أيها الأمير، إن هذا يبقى عليك مخلداً بكتابك في دواوينهم فإن ولي بعده وال فتحامل عليك لم يرض منك إلا بأضعافه وإن عدل عليك أخذ بما في كتابك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بالفتح وألغ ذكر المال، فإذا
جراوة مكناسة:
لقيت أمير المؤمنين شافهته بالمال فلا ينعقد عليك ما ينعقد، فأبى يزيد وأمضى الكتاب ومات سليمان قبل أن يصل إليه الكتاب، وطولب يزيد بعد ذلك بالمال، وكأن الذي أشار عليه رأى الغيب من ستر رقيق. وكرز (1) من أهل جرجان أزهد الناس في زمانه حتى قال سفيان بن عيينة: لو كان أحد يكتفي بالتراب قوتاً لاكتفى به كرز، وقبره بجرجان يزار ويقصد، وقال الشاعر: لو شئت كنت ككرز في تعبده ... أو كابن طارق حول البيت والحرم قد حال دون لذيذ العيش خوفهما ... وسارعا في طلاب الفوز والكرم والقاضي الجرجاني هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني (2) قاضي القضاة بالري، وهو صاحب الأبيات المشهورة الشريفة: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لاخدما أأغرسه عزاً وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما الجرجانية (3) : هي المدينة الكبرى والقاعدة العظمى من خوارزم، وهي مدينتان على ضفة النهر يجاز بينهما بالمراكب، واسم المدينة الشرقية منها درغاش والمدينة الغربية هي الجرجانية، وهي كبيرة عامرة ذات أسواق وربض وسور محيط بالربض، والمدينة طولها نحو من تسعة أميال في مثلها، وهي متجر الغزية، ومنها يخرج الرفاق إلى أرض جرجان وكانت تخرج إلى الخزر على مر الأيام وإلى سائر بلاد خراسان. قالوا: ومرو ونيسابور وبلخ مع عظم كل واحدة من هذه تقصر عن الجرجانية بانفرادها وانها كانت سرير السلطان الأعظم صاحب الأقاليم السلطانية ورب العساكر الكثيفة خوارزم شاه. ونزل عليها الططر سنة ثمان عشرة وستمائة وكان بها حينئذ عسكر جليل وأمراء مشهورون فحاصروها الحصار الشديد، فدام عليها الحصار المتصل خمسة أشهر، وقتل من الفريقين خلق عظيم، فأرسل الططر المحاصرون إلى خاقانهم وهو مشغول بثقاف خراسان فأمدهم بعشرين ألف مقاتل، وقاتلهم أهل الجرجانية قتالاً شديداً حتى ظهر في ذلك النساء والصبيان، إلى أن ملك الططر المدينة وقتلوا فيها كل ذي روح، وقيل لهم إن الناس اختفوا في سراديب وأماكن غامضة ففتحوا سكر جيحون وغرقوا المدينة بذلك النهر الأعظم، وتركوا موضعها أجمة فما نجا من أهلها أحد، ومن ذلك الحين عدل جيحون عن الصب في بحيرة خوارزم وسلك غير طريقه في الرمال إلى أن صير في بحر طبرستان بساحل دهستان. جرباذقان (4) : مدينة في داخل المشرق، ذكرها السلفي في الأربعين البلدانية. جراوة مكناسة (5) : مدينة في سهل من الأرض وكان عليها سور مبني بالطوب، وداخلها قصبة، وحولها أرباض من جميع جهاتها وعيون متفجرة، وداخلها آبار عذبة وخمسة حمامات أحدها ينسب إلى عمرو بن العاصي رضي الله عنه، وجامع من خمس بلاطات على أعمدة حجارة. وأسسها أبو العيش عيسى بن ادريس بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن سنة تسع وخمسين ومائتين، وكان لها بابان شرقيان وثالث غربي ورابع
الجزائر:
جوفي وحواليها بسائط عريضة للزرع والضرع، وحولها عدة من القبائل من البربر مطغرة وبني يفرن وغيرهم، وبينها وبين البحر ستة أميال. ولعل أحمد بن عبد السلام الجراوي (1) شاعر بني عبد المؤمن من هذه المدينة إذ كان يدعى الجراوي، ويقال إنه مدح في صباه عبد المؤمن ثم مدح ابنه يوسف وابنه يعقوب المنصور ومحمداً الناصر بن المنصور، وتوفي في عام العقاب سنة تسع وستمائة، وكان حافظاً وصنف للمنصور يعقوب مجموعاً من أشعار الناس رتبه على أبواب " الحماسة " وكان غيوراً على الشعر حسوداً للشعراء ناقداً عليهم غير مسلم لأحد منهم. الجزائر (2) : من أشير إلى جزائر بني مزغنا، وبين مدينة شرشال والجزائر سبعون ميلاً، والجزائر مدينة جليلة قديمة البناء فيها آثار للأول، ومتيجة (3) قريبة منها، وتدل الآثار العجيبة التي بالجزائر على أنها كانت دار مملكة لسالف الأمم؛ وصحن دار الملعب فيها قد فرش بحجارة ملونة صغار مثل الفسيفساء وفيها صور الحيوان بأحكم عمل وأبدع صناعة لم يغيرها تقادم الأزمان ولا تعاقب القرون، ولها أسواق ومسجد جامع، وكانت بها كنيسة عظيمة بقي منها جدار هو اليوم قبلة شريعة العيدين مفصص كثير النقوش والصور، ومرساها مأمون به عين عذبة يقصدها أصحاب السفن من إفريقية والأندلس وغيرهما. والجزائر (4) على ضفة البحر، وشرب أهلها من عيون على البحر عذبة ومن آبار، وهي عامرة آهلة وأسواقها قائمة، وفي جبالها قبائل البربر وزراعاتهم الحنطة والشعير، وأكثر أموالهم المواشي البقر والغنم، ويتخذون النحل كثيراً والعسل والسمن في بلدهم كثير ولذلك يتجهز به منها إلى الأقطار المجاورة لها والمتباعدة عنها، وأهلها قبائل ولهم حزم وفيهم منعة (5) . ويتصل بجزائر بني مزغنا فحص متيجة وهو فحص عظيم كثير الخصب والقرى والعمائر تشقه الأنهار، وهو نحو مرحلتين في مثلها وقد أحدقت به جبال مثل الاكليل. جزيرة العرب: في الحديث: " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان في جزيرة العرب ". قيل جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن، والعرج أول تهامة، وقيل جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة، وحفر أبي موسى على خمس مراحل من البصرة. وقال الأصمعي (6) : جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام. قالوا: وكانت أرض العرب خاوية ليس في تهائمها ونجدها وحجازها كثير أحد لإخراب بختنصر إياها وإخلائها من أهلها إلا من اعتصم برؤوس الجبال والشعاب. وبلاد العرب هي التي صارت في قسم من أنطق الله عز وجل باللسان العربي حين تبلبلت الألسن ببابل في زمن نمرود، وإنما سمتها العرب جزيرة (7) لإحاطة البحار والأنهار بها من أقطارها وصاروا منها في مثل الجزيرة، لأن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط عن الجزيرة وهي ما بين الفرات ودجلة وعن سواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأبلة، وامتد البحر من ذلك الموضع مغرباً مطيفاً ببلاد العرب منعطفاً عليها فأتى منها على سفوان وكاظمة، ونفذ إلى القطيف وهجر وأسياف عمان والشحر، وسال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن ببلاد حكم والأشعريين وعك ومضى إلى جدة ساحل مكة، وإلى الجار ساحل المدينة وإلى ساحل تيماء حتى بلغ إلى قلزم بمصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا من أعلى بلاد السودان مستطيلاً معارضاً البحر حتى وقع في بحر مصر والشام، وأقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها وأتى على صور ساحل الأردن وعلى بيروت وغيرها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى ساحل حمص وسواحل قنسرين ثم يجيء حتى يخالط الأرض التي أقبل منها الفرات منحطاً عن أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق.
قالوا (1) : فجزيرة العرب مما يلي الشمال في الخط الذي يخرج من ساحل أيلة فيمر مستقبل الشرق في أرض مدين إلى تبوك ودومة الجندل إلى البلقاء وتيماء ومآب وهي كلها من الشام، ويمضي في وادي شيبان وتغلب وبكر، ويتصل بالكوفة والنجف والقادسية والحيرة، وعن يمين هذا الخط مما يلي الجنوب أرض الحجر ووادي القرى وهي أرض ثمود وما دونها إلى الأغوار والتهائم والنجود إلى أن يصل إلى ساحل حضرموت، كل ذلك من أرض العرب، ومما يلي المشرق، وهو مهب الصبا، بطائح البصرة حتى ينتهي إلى الجزيرة ثم فيض البصرة، وهو نهرها الذي البصرة عليه وكان زياد بن سمية حفره إلى الأبلة، ثم إلى سفوان وكاظمة وقطيف وأسياف البحرين وعمان، ثم ينحدر مع الشمال إلى ساحل البحر حتى يأتي غب عدن، والغب ينزوي فيه الماء شبه الخليج، فينعطف عنق من البحر ويأخذ مع الصبا منعطفاً على جزيرة العرب ويستمر نحو الهند مع الشمال والبحر مع دجلة البصرة، وهذا البحر غربيه يسمى أرض العرب وشرقيه يسمى شاطئ فارس، وما وراء ذلك من شرقي البحر عند منقطع أرض فارس فهو من بلاد الهند، ويتسع البحر ويضيق بالجزائر، وحد جزيرة العرب مما يلي الجنوب ساحل هذا العنق المنعطف مع الصبا، وهذا العنق عن يمين الذاهب منه جزيرة العرب إلى ضفة البحر، وعن يساره بلاد الزنج، وفي ساحل هذا البحر يصاب العنبر، ويمضي ذلك العنق حتى يمر بساحل حضرموت وأبين وينتهي إلى عدن على منتهى هذا العنق، ثم ينعطف هذا العنق من عدن مع الجنوب فيمر منعطفاً على جزيرة العرب وغيرها، ثم يمر العنق ببلاد اليمن على سواحلها حتى يصل إلى جدة وهو ساحل مكة، ثم يصير إلى الجار وهو ساحل المدينة ثم يمضي إلى الحوراء وهو ساحل وادي القرى ويقارب بلاد مصر، ثم ينقطع ذلك العنق ويقف. فصارت (2) بلاد العرب من هذه الجزيرة على خمسة أقسام: تهامة والغور والحجاز والعروض واليمن، لأن جبل السراة وهو أعظم جبال العرب أقبل من أرض اليمن حتى بلغ أطراف بوادي الشام فسمته العرب حجازاً، لأنه حجز بين الغور وهو هابط وبين نجد وهو ظاهر فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الأشعريين وعك وكنانة وغيرها إلى ذات عرق والجحفة وما طابقها وغار من أرضها فهو غور تهامة، وتهامة تجمع ذلك كله، وصار ما دون ذلك الجبل وشرقيه من صحارى النجد إلى أرض العراق والسماوة وما يليهما، ونجد يجمع ذلك كله، وصار الجبل نفسه وما انحجز في شرقيه من الجبال وانحاز إلى ناحية فيد إلى المدينة ومن بلاد مذحج تثليث وما دونها إلى ناحية فيد حجازاً، والحجاز يجمع ذلك كله، وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما والاهما العروض، وصار ما خلف تثليث وما قاربها إلى صنعاء وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشحر وعمان: اليمن، وفيها التهائم والنجود، واليمن يجمع ذلك كله. وطول جزيرة العرب، من آخر حدود الشام وأول حدود الحجاز إلى عدن أبين، اثنان وخمسون مرحلة بسير الإبل وذلك ألف وخمسمائة ميل، وعرضها من بحر جدة إلى بحر الأبلة على الاستقامة ثلاثون مرحلة بسير الإبل وذلك تسعمائة ميل، وفي مواضع منها يختلف هذا الطول والعرض على حسب دخول البحر في أرضها وخروجه عنها، وقد خالفنا شرط الاختصار في هذا الموضع كما وقع لنا في مواضع أخر منه، فلنقتصر على هذا القدر. وعلى الجملة فكل موضع أحاط به البحر أو النهر أو جوز عن وسطه فهو جزيرة وما بين دجلة والموصل يقال له الجزيرة أيضاً وقاعدة هذا العمل الموصل ولها كور وعمائر وقرى وبلاد واسعة وأعمال كثيرة وتشتمل على ديار ربيعة ومضر، وسيأتي ذكر بلادها أو ما تيسر منها في مواضعه إن شاء الله تعالى. وفي سنة ثمان وعشرين ومائة غلب الضحاك بن قيس الحروري على عامة الجزيرة والموصل والعراق. قالوا (3) : وكان هرقل أغزى حمص في البحر بعد أن غلب عليها المسلمون، واستمد أهل الجزيرة على أبي عبيدة ومن فيها من المسلمين فأجابوه، وبلغت امداد الجزيرة ثلاثين ألفاً سوى امداد قنسرين من تنوخ وغيرهم فبلغوا من المسلمين كل مبلغ، فضم أبو عبيدة إليه مسالحه وعسكروا بفناء مدينة حمص وخندقوا عليها، وكتبوا إلى عمر رضي الله عنه يستصرخونه، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص،
جزيرة القرود:
فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وكتب إليه: سرح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة ثم استطاروا (1) الروم على أهل حمص، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب، ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص أن الجنود قد خرجت من الكوفة تفرقوا في بلدانهم خوفاً عليها وخلوا الروم، فقالوا فيما بينهم: إنكم بين أهل العراق وأهل الشام فما بقاؤكم على حرب هؤلاء؟ فرغبوا في الصلح، فقبل منهم وهم أهل الرقة ونصيبين وحران وكلهم دخلوا على الجزية، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمراً. وقال في ذلك سهل بن عدي (2) : فضاربنا العداة غداة سرنا ... إلى أهل الجزيرة بالعوالي ولم نثن الأعنة حين سرنا ... بجرد الخيل والأسل النهال وأجهضنا الأولى ثاروا بحمص ... وقد منوا أماني الضلال أخذنا الرقة البيضاء لما ... رأينا الشهر لوح بالهلال وأزعجت الجزيرة بعد خفض ... وقد كانت تخوف بالزوال وصار الخرج صافيه (3) إلينا ... بأكناف الجزيرة عن قتال والجزيرة أيضاً بالأندلس، وتعرف بالجزيرة الخضراء وسيأتي الكلام عليها في حرف الخاء المعجمة إن شاء الله تعالى. وفي قبلي تونس من إفريقية جزيرة شريك العبسي (4) وكان عاملاً عليها، وأم أقاليمها مدينة باشو، وهي عمل كبير محتو على بلاد وقرى وأنظار كثيرة. وكذلك أعمال صطفورة، وتعرف الآن ببنزرت، من جملة كورها عمل الجزيرة، ويقال جزيرة بنزرت لإحاطة البحر بها ولها أيضاً كور وأقاليم وبلاد وأعمال. جزيرة القرود (5) : بالقرب من جزيرة الرانج وبمقربة من أرض الحبشة، وهي جزيرة كبيرة فيها غياض وشجر وجراف منيعة وبها أنواع من التمر، والقرود بهذه الجزيرة كثيرة تتولد وتتزايد حتى إنها قد تغلبت على هذه المدينة لكثرتها، ويقال إن لها أميراً تنقاد إليه وتحمله على أعناقها ويحكم عليها حتى لا يظلم بعضها بعضاً، وألوان هذه القرود إلى الحمرة، وهي ذات أذناب ولها ذكاء وحدة فهم، وإذا انكسر على جزيرتها مركب أو لجأ إليها أحد من الناس عذبته عذاباً بليغاً بالعض والرجم بالقاذورات وعبثت بمن سقط في أيديها عبثاً عظيماً وربما قتلته سرعاً، وقد يتصيدها الناس ويخرجونها إلى بلاد اليمن فتباع بالثمن الكثير، وتجار اليمن يتخذونها في حوانيتهم حراساً كالعبيد تحرس أمتعة مواليها فلا يقدر أحد على خدعتها ولا على أخذ شيء مما بأيديها لما هي عليه من نهاية الذكاء. جزيرة السامري (6) : في بحر القلزم، ويسكنها قوم من اليهود السامرية، وعلامتهم أن يقول أحدهم إذا لاقى إنساناً: لا مساس، وبهذه اللفظة يعرف أنهم من اليهود المنسوبين إلى السامري صاحب العجل في زمن موسى عليه السلام. وفي هذا البحر من السمك حوت مربع عرضه قريب من طوله، وربما بلغ الواحد منه قنطاراً وهو حوت أحمر شهي الطعم حسن الذوق لا سهك فيه (7) ، وفيه سمك آخر طوله شبر ونصف له رأسان: رأس في موضع رأسه ورأس في موضع ذنبه، وفي كل واحد من هذين الرأسين عينان وفم، وتصرفه في البحر يكون مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا، إلى أمام وإلى خلف، ويسمى هذا السمك الخنجر، وفيه سمك يقال له القرش، هو نوع من كلاب البحر، في فمه سبعة صفوف أضراس، فيه ما طوله عشرة أشبار وأكثر وأقل، ومراكب هذا البحر كلها مؤلفة بالدسر، محررة (8) بحبال
جزيرة البركان:
الليف مجلفطة بدقيق اللبان ودهن كلاب البحر المعد لذلك، ونواتية هذه المراكب لهم آلات محكمة موضوعة في أعلى الصاري (1) الذي يكون في مقدم المركب فيجلس النوتي يبصر ما لاح أمامه من التروش التي تحت الماء م