الأساس في السنة وفقهها - العبادات في الإسلام
سعيد حوَّى
المقدمة
المقدمة هذا القسم هو القسم الثالث من كتاب الأساس في السنة، وهو في العبادات الرئيسية في الإسلام، وقد جاء بعد قسم العقائد، لأن العقيدة الصحيحة هي أساس العبادة الصحيحة، كما جاء قبل قسم الحياتيات والأخلاقيات والسلوكيات، لأن مناهج الحياة في الإسلام إنما يُستقام عليها عندما توجد عبادة وعقيدة، وكان القسم الأول في السيرة، لتتعرف أولاً على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بالإسلام من عند الله عقيدة وعبادة وشريعة وشعيرة ومنهاج حياة. * * * لقد خلق الله الإنس والجن لعبادته: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1). وأرسل الرسل للعبادة: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2). {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (3). وقال نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (4). * * * وأصل العبودية في اللغة: الخضوع والتذلل، قال الراغبفلا افى في المفردات: "العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال ولهذا قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5).
فالعبادة تعني الطاعة والخضوع لغةً. والعبادة في الشريعة تأتي بمعنى عام وتأتي بمعنى خاص: أما هي بمعناها العام فتأتي: ويراد بها فعل الطاعات واجتناب المعاصي والإخلاص لله في ذلك، ويدخل في العبادة بهذا المعنى: فعل المباح إذا قصد به وجه الله تعالى فالنيات تجعل العادات عبادات، وبعضهم أطلق على العبادة بمعناها العام اصطلاح العبودية، فالعبودية أوسع في الاصطلاح من العبادة بمعناها الخاص، وعُرفت: بأنها أعمال العبد الإرادية الموافقة لما أمر الله به. فالعبادة بالمعنى العام تشمل جميع أعمال المرء الإرادية قلبية كانت أو سلوكية، فإذا وافقت ما أمر الله به فهي طاعة، وإن خالفته فهي معصية. قال ابن تيمية: "العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف النهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك: من العبادة ... ". ثم يقول: "وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .. " أ. هـ. أما العبادة بمعناها الخاص: فتطلق على أعمال من الإسلام بعينها، كُلِّف العباد بالقيام بها لتكون تربية عملية على الخضوع الكامل فقد اتفق العلماء على اعتبار الصلاة وما يحيط بها، والزكوات، والصدقات، والأوقاف، والصوم، والاعتكاف، وصدقة الفطر، والحج، والعمرة، والأضاحي أنها من العبادات بمعناها الخاص، واتفقوا على أن الأذكار والدعوات وتلاوة القرآن وحفظه من العبادات بمعناها الخاص، وأن العلم والتعليم الشرعيين وما يستتبع
ذلك من أمر بمعروف ونهي عن منكر ونصيحة من العبادات بمعناها الخاص، وأن الجهاد في سبيل الله كذلك، فالعبادة بمعناها الخاص ذكرُ وشكرُ وإقامة شعائر، وهذا الذي ذكرناه كله فيه ذكر وشكر وإقامة شعائر، أو أنه يوصل إلى ذلك أو أنه لابد منه لإقامة ذلك كله، ثم إن ما ذكرناه كله فيه معنى التوجه المباشر لله تعالى في فعلٍ أمَرَ به وحضَّ عليه، ومن ههنا جعلنا هذه الموضوعات كلها في هذا القسم، وإنما أسميناه قسم العبادات الرئيسية في الإسلام، ملاحظين معنى العبادة في الاصطلاح العام التي تدخل فيها هذه الأشياء وزيادة. * * * 1 - * روى البخاري عن رسولنا عليه السلام قوله: طولكن أفضل الجهاد حج مبرور". فإذا كان الحج عبادة بيقين، فالجهد إذن عبادة بيقين، والذكر والتسبيح والدعاء والركوع والسجود ومعرفة الله، كل ذلك من عبادات الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (1)، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (2)، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (3)، (4)، {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (5)، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (6) عندما نتأمل هذه المعاني لا شك أن الأذكار والدعوات وتلاوة القرآن والعلم، كل ذلك من العبادات الرئيسية، وإنما نذكر هذا حتى لا يستغرب القارئ جمعنا موضوعات هذا القسم تحت عنوان العبادات الرئيسية. وقد قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (7) فالحكمة من تشريع الصلاة هي ذكر الله تعالى وارتبط بالصلاة لإقامة الذكر - أذكار بعينها وتلاوة قرآن وما يستتبع ذلك من
فكر- ولذلك أتبعنا جزء الصلاة ببحث الأذكار والدعوات وببحث تلاوة القرآن لأنهما ألصق بالصلاة، وإنما جرت عادة المؤلفين في الفقه أن يذكروا الزكاة بعد الصلاة لأنهم يتحدثون في العادة عن الأحكام، وإنما انصب كلامنا في هذا القسم على العبادات الرئيسية، فكان الأليق - في اجتهادنا - أن يكون محل الأذكار وتلاوة القرآن عقب الصلاة مباشرة، لأن هذه المعاني تتكامل مع بعضها في تعميق معاني العقيدة، وتصفية القلب، وهي المنط الرئيسي للسير إلى الله وتحقيق العبودية له جل جلاله. ويكمل عمل الزكاة في الإسلام الصدقات، والأوقاف ولذلك جعلنا هذه المعاني في جزء واحد، ولأن بين الصوم والاعتكاف وصدقة الفطر ارتباطاً ما، فقد جعلناها في جزء واحد، ولأن بين الحج والعمرة والهدي والأضاحي صلات فقد جعلناها في جزء واحد، ولأن بين العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صلات فقد جعلناها في جزء واحد. * * * ولقد ابتدأنا هذا القسم بذكر العلم والأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر وختمناه بذكر الجهاد للإشعار بان العبادة محاطة بهاتين الفريضتين، وأن استمرار العبادة في الأرض منوط بهاتين الفريضتين، وهما فريضتان أصبحتا محل غفلة من الكثيرين، وذلك من جملة الحِكَم التي دعتنا لجعل هذين الجزأين في هذا القسم. ملاحظات: إن القارئ يلحظ في هذا الكتاب أننا قد نعدّد الروايات ومعناها واحد وذلك للتوثيق من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن من بعض أهدافنا من هذا الكتاب إبراز اهتمامات الصحابة رضوان الله عليهم وإبراز السياسات النبوية، فمن خلال كثرة الروايات ندرك أنَّ القضية التي كثرت الروايات فيها كانت محل اهتمام ومحلّ تركيز، فلينتبه المربّون لذلك. إن الأقسام الثلاثة الآتية: قسم العبادات، قسم الحياتيات والعاديات، وقسم الحكم وحقوق الإنسان، فيها أنواع من الأبحاث، أبحاث فقهية، وأبحاث لا تدخل عادة في أبواب الفقه، وإذا كنا نستهدف في هذا الكتاب عرض السنة وفقهها مع الاختصار في الفقهيات
فقد كان علينا أن نرجع إلى كتب الفقه الجامعه، ككتاب الفقه على المذاهب الأربعة، وكتاب بداية المجتهد، كما رجعنا إلى كتب الفقه المذهبية والكتب التي تشرح أحاديث الأحكام، كنبل الأوطار فاعتبرنا أمثال هذه الكتب مراجع لنا. وقد ظهر- ونحن نعمل في الكتاب - كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي فاعتبرناه مرجعاً رئيسياً من مراجعنا. وقد تحرينا في كتابنا ألا نذكر إلا أمّهات المسائل في الاجتهادات الفقهية وما تمسّ الحاجة إليه إلى جانب العرض الإجمالي - مع التبرير لأئمة الاجتهاد فيما اختلفوا فيه- مراعين أن يفتح آفاق الإنسان وما يمكن أن يترخص به الإنسان في حالة الضرورة من آراء الأئمة معتمدين على الفكرة التي أكدناها كثيراً: إنه لابد لكل مسلم أن يتفقه على مذهب إمام ليعرف دقائق الأحكام ومن لم يفعل ذلك فإنه لني كون فقيهاً أبداً، إلا أفراداً عندهم من الفراغ وتوقد الذهن ما يستطيعون أن يصلوا إلى ما لا يصل إليه غيرهم. وبعد فهذا أوان الشروع في عرض أجزاء الكتاب.
تمهيد في: العبادات في الإسلام
تمهيد في: العِبَادات في الإسلام
تمهيد: في العبادات في الإسلام إن أصل معنى العبادة لغةً: - التذلل والخضوع والانقياد والطاعة. وشرعاً: الخضوع والانقياد الكامل لله مع الرضا، والتسليم واليقين والمحبة، والإخلاص لله تعالى. ولذلا قالوا العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل، والخضوع فمن خضع وهو مبغض لا يكون عابداً ومن أحب ولم يخضع لا يكون عابداً وأضاف بعضهم عنصر الخوف لتكون العبادة على الكمال. فلابد من مجموع عناصر لتحقق العبادة التي قصد الشارع إليها: - القيام بالفعل والالتزام بما شرع الله. - الميل النفسي والحب لله. - استحضار الخوف والرجاء. - أن تكون العبادة إرادية مقصودة. ولا تُقبل العبادة إلا إذا كانت صحيحة صواباً وخالصة لله. أي أن تكون على الوجه المشروع، وأن تكون خالصة لله تعالى، فإذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كانت العبادة صواباً ولم تكن خالصة لا تُقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن تكون مع السنة وكما شرع الله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1). وللنية الدور الفاصل في العبادة، فالعادة بالنية الصالحة؛ تصبح عبادة والعبادة بلا نية غير معتبرةُ فالنية تُعطي الفعل قيمته الحقيقية، وتفرق بين العبادة والعادة وعليها يتوقف
قبُول العمل عند الله عز وجل. يقول المناوي: شرعت النية تمييزاً للعبادة عن العادة ولتمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض. أ. هـ. ويفترض في العبادة الحقّة أن تُحدث الأثَر الذي من أجله شرعها الله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1)، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2). فلا يكفي أن تكون العبادة صوراً وحركات تؤدي على انه ينبغي أن ننبه إلى أنه لا يجوز لأحد أن يتذرع لترك العبادة أنها لم تحدث الأثر الذي نص عليه في الكتاب والسنة، بل عليه أن يؤديها، ويحاول أن يرتقي، حتى تحدث الأثر المطلوب وبعض الناس ينفرون من كلمة العبودية إذ يشعرون أنها تعني تقييد حرية الإنسان والحد من كرامته فنقول: إن العبادة هي الحرية الحقيقية إذ يتحرر الإنسان بالعبادة من شهواته وأهوائه ونزوات نفسه كما أن العبادة لله والانقياد له تعني أن تكون هناك حرية لكن حرية مسؤولة ضمن شرع الله والضوابط التي تكفل السعادة والحياة السليمة ثم إن الفطرة بطبعها تميل للخضوع للغير فمن لم يخضع لله خضع لهواه أو لصنم بشري أو شيطاني آخر. إن الضوابط الخُلُقية والقوانين الاجتماعية لاتنفي الحرية وإنما هي أشبه بعلامات لتنظيم المرور وتحقيق العدل في إفساح المجال للحرية أمام الناس بالتساوي، والعبادة تكريم وتشريف، لذا نجد أن الحكمة الأساسية التي ذكرها القرآن لخلق الناس كانت العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3)، وغاية الرسل جميعاً كانت تحقيق العبودية لله تعالى. وعندما وصف الله رسوله وهو في أعلى مقاماته وصفه بالعبودية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (4)، ومدح الله عبادة المؤمنين بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (5).
وأشرنا إلى أن العبادة تأتي بمعنى عام ومعنى خاص وأنها بالمعنى الخاص تعني مجموع الشعائر والطاعات المحددة التي شرعت بقصد العبادة المحضة لإظهار الخضوع والتقرب إلى الله. وأنها بالمعنى العام كل ما يصدر عن المسلم من عمل أو قول بنية صالحة يبتغي بها وجه الله إذا وافقت شرعه. ولذا فإن التصور الإسلامي الشمولي للعبادة يجعل من سائر أنشطة المسلم الاعتقادية والفكرية والعقلية والنفسية والبدنية والمالية قربات وطاعات، ينال بها الأجر من الله إذا ابتغى بها مرضاة الله. والحقيقة فإن العبادة بمعناها الخاص غرضها تهيئة المسلم للعبادة الكبرى الشاملة التي تجعل من المسلم في كل حركة وسكتة عبداً خالصاً لله تعالى. ومن خلال المفهوم الشامل للعبادة تتحقق غاية الوجود الإنساني {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1). ويكون الإنسان دائم الصلة بربه والمراقبة له فيجعل من دنياه وسيلة لآخرته ويخرج الإنسان من دائرة الغفلة والانغماس في الملذات والشهوات. وتعدد أنواع العبادات يمنع الإنسان من السآمة والملل؛ فلا يستغرق في عبادة واحدة بل في أنواع كثيرة حتى في عمله الدنيوي إذا نوى به نية صالحة .. وشمول العبادة يصبغ حياة المسلم بالصبغة الربانية ويجعله مشدوداً لله تعالى. ومن هنا يتبين خطأ من يحصر العبادة في الصلاة والزكاة والحج والصوم. وننوّه إلى أن للعبادة بمعناها الخاص خصائص ومميزات في الإسلام، فمن خصائصها الإخلاص لله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2). وكذلك فإن العبادة صلة مباشرة بني العبد وربه فلا واسطة ولا وسيلة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1). والعبادات بمعناها الخاص أمور توقيفية تؤدي كما وردت فعدد ركعات الفرض وأوقات الفروض محددٌ ونصاب الزكاة وشروطها محددة، ووقت الصيام محدد وأعمال الحج محددة وهكذا. لكن يجب أن نعلم أن من العبادات ما هو خير موضوع، للمسلم أن يتوسع فيه ما يشاء، فله أن يصلي من النوافل ما يشاء، وله أن يتصدق ما يشاء، ويصوم متى شاء، بعد الفريضة، مما لم يرد فيه نهي، والعبادات في الإسلام مبنية على اليسر ورفع الحرج. فهي يسيرة في مقاديرها وشروطها، وما شرع من رخص في الظروف الاستثنائية مظهر من مظاهر التيسير. وللعبادات في الإسلام آثار تشمل نواحي كثيرة في حياة المسلم، فهي تحمي العقيدة وتقويها وتقوي الجانب الروحي في الإنسان، وتجعله ثابتاً في معارك الحياة وذلك أن الصبر هو الوسيلة الأولى لمواجهة الحياة ولا شيء كالعبادة يعلمنا الصبر فالصوم صبر، وتحمل مشاق الحج صبر، ... كما أن العبادة تنمي شعور المراقبة لله تعالى وهي وسيلة شكر واعتراف بعميم فضله تعالى. كما أن العبادة تجعل من المسلم شخصية إنسانية متكاملة متوازنة عندما تحقق فيه الكمال البشري وتطهر ذاته وتنمي روح الإرادة فيه وتجعله يشعر بالعزة والاستعلاء والتميّز وتحمي الفرد والمجتمع من القلق والشقاء والأمراض النفسية وكيف يقلق من كان دائم الصلة بربه يلتجئ إليه يستمد العون منه يخضع له لا لغيره؟!. والعبادة طريق إلى الفضيلة والخلق وإصلاح النفس وتزكيتها. وهي ترسخ مبادئ الإسلام الهامة في حياة المسلم، كاحترام النظام، والوقت، وصيانة قيم الحياة، والمساواة والتعاون والتوحيد وإيجاد مجتمع متحاب غير متباغض ولا متنازع كما
أن للعبادات آثاراً طيبة على جسم الإنسان وصحته، ففي الغسل والوضوء والصوم الشيء الكثير. ولأهم من كل ما مضى، محو الذنوب، وتكفير السيئات، واستحقاق الثواب والفوز برضوان الله. هذه لمحة واضحة سريعة حول العبادة في الإسلام، أردنا أن يدخل القاريء قسم العبادات ولديه مفهوم واضح حول العبادة في الإسلام مما يضيء له الدرب ويساعده على العبادة على وجه أكمل (1).
الجزء الأول في العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والنصيحة
الجزء الأول في العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والنصيحة وفيه مقدمة وبابان: الباب الأول في العلم الباب الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي النصيحة والدعوة إلى الخير
المقدمة في: الجامع بين موضوعات هذا الجزء
المقدمة في: الجامع بين موضوعات هذا الجزء بين الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والنصيحة علاقة جامعة، إنها كلها نصح وإرادة خير للآخرين، وكلها تعليم وزيادة، كما أنها اثر عن العلم ومن ههنا كان بينها وبين العلم ارتباط، والأثر المباشر للعلم هو التعليم، والتعليم أمر عملي بالخير ونهي عملي عن المنكر، ونصيحة علمية لخلق الله ولذلك كان بين هذه الموضوعات كلها علاقة. وقد جعلنا هذا الجزء في العبادات الرئيسية لأن العلم عبادة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير عبادة لأنها طريق الفلاح، وطرق الفلاح كلها عبادة، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)، ولقد جعل الله التواصي بالحق والصبر ركناً من أركان الفلاح بقوله: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3). 2 - *وفيما روى أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة". فالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير والعلم والتعليم كلها عبادات، بل هي من أرقى العبادات، ولذلك جمعناها في هذا الجزء وقدمناها في الذكر لأن العلم هو الطريق للمعرفة التي تسبق العمل، ولأن إشاعة الخير تعين السالكين على السير. * * *
الباب الأول في العلم
الباب الأول في العلم وفيه مقدمة وفصول * المقدمة
المقدمة
المقدمة قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (1) دل ذلك على أن العلم ينبغي الاستزادة منه. وقال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2)، دل ذلك على فضل العلم وأهله، كما أن الآية حددت نوعاً من أنواع العلوم التي ينبغي الاستزادة منها وطلب الزيادة وهو العلم بالله وصفاته ووحيه وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3). دل ذلك على فضل العلم وأهله كما دل على نوع العلم الذي تطلب الاستزادة منه وطلب الزيادة وهو العلم الذي تعقبه الخشية من الله تعالى وأول ذلك العلم بالكتاب والسنة، فهما العلم الذي جاءنا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففسروا المراد بالعلم الذي يعقب خشيةً من الله وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (4)، دل ذلك على أن أهل العلم هم الذين يفضلون الآخرة على الدنيا، ويقومون بواجب النصيحة للخلق. وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (5)، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (6). دل ذلك أن العالم هو الذي رأى أن القرآن هو الحق وأنه يهدي إلى صراط الله، وأنه هو الذي يرى بقلبه أن القرآن معجزات واضحات. وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (7) أي ويرفع الذين أوتوا العلم درجات على غيرهم، فدل ذلك على فضل العلم، وقال تعالى:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1). دل ذلك على أن طلب العلم وتعليم العلم جهاد. وقال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (2) أطلق الدراسة وقيد التعليم للإشعار بأن دراسة الرباني متعددة وأن محل تركيزه في التعليم ينبغي أن يكون على القرآن. * * * إن علوم الدنيا يشترك فيها البر والفاجر، وقد يزيد الرجل العادي في علوم الدنيا على أهل العلوم الربانية. 3 - * روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، فالعلم الذي يتمحض للدنيا من مثل معرفة قوانين الكون المادية، ومن مثل الخبرة بالصناعة والتجارة والزراعة والسياسة الدنيوية المحضة والحياة الاقتصادية المحضة يشترك فيه البر والفاجر وهو مطلوب من المسلمين كفروض كفائية وقد يتقن الكافر في هذه الشؤون ما لا يتقنه المسلم. وقد أثبت الله للكافرين في هذه الشؤون علماً فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (3) {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (4). دل ذلك على أن العلم الذي حضَّ عليه الإسلام بشكل أولي هو العلم الشرعي ومع أن العلوم الدنيوية فروض كفائية لكن المسلم يأخذها غير غافل عن الآخرة، وغير مهمل للعلوم الشرعية.
نقول هذا ليُعلم أن الإسلام فيه حضٌّ على العلوم الدنيوية المرتبطة بالآخرة، ولكن عامة نصوصه تحضُّ على العلوم الشرعية لأنها هي الجانب الذي هو محل الغفلة من الناس وهي الجانب الذي هو محل التكليف العيني في حق كل إنسان، ومع أن بعض العلوم الشرعية من باب فروض الكفايات ولكن هذه الفروض تختلف عن غيرها من فروض الكفايات الدنيوية بأنها لابد منها لإقامة الدين وإيصال فروض العين لكل مسلم. * * * قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1). إنه لا يقوم الإنسان بحمل الأمانة التي تَحمّلها وحُمِّلها، وهي القيام بالتكليف الإلهي إلا بالخروج من الجهل والظلم، وذلك لا يكون إلا بالعلم والعدل، وإنما بُعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعلموا الإنسان وليزكوه فيتحقق بالعلم وبالعدل. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (2). {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (3). فكما أنه بالميزان يقوم الناس بالقسط، فكذلك يقوم بالقرآن القسط، وهكذا فالطريق للعدل هو العلم، وبذلك يخرج الإنسان من الظلم والجهل، والعلم الذي يخرج به الإنسان من الظلم والجهل هو العلم الذي بُعث به الأنبياء ويتمثل في الرسالة الخاتمة: بالكتاب والسنة وما ينبثق عنهما وما يخدمهما ويدخل في ذلك علوم اللغة العربية وأصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم السنة والفقه والعقائد والأخلاق.
والعلم في الإسلام على ستة أحوال: فريضة وواجب وسنة ومندوب ومكروه وحرام. والفريضة نوعان عينية وكفائية، ومن الفروض العينية معرفة الإسلام إجمالاً ومعرفة ما يجب على الإنسان تطبيقه منه تفصيلاً وما يستلزم ذلكن ومن الفروض الكفائية كل العلوم التي تحتاجها إقامة الدين والدنيا، والواجب من العلوم هو ما كان دون الفريضة وفوق السنة، كحفظ شيء من القرآن زائد على ما هو فرض، والمسنون من العلوم هو علم الكتاب والسنة حفظاً وفهماً، والمندوب هو التبحر في كل علم مفروض كفاية أو عيناً، والمكروه من العلوم ما أدى إلى مكروه، ويدخل في ذلك كل ما يعتبر من اللغو الذي لا فائدة منه، والحرام من العلوم هو ما كان حراماً بعينه، كالسحر أو ما أدى إلى حرام. والعَالِم الكامل هو من وَرِثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والعمل والحال والصفة والهيئة وقام بتعليم الكتاب والسنة وتزكية الأنفس. والعلم الشرعي الأخروي هو علم الكتاب، وعلم السنة التي هي شارحة الكتاب، فالله عز وجل وصف كتابه بقوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (1) فهناك من أرجع الضمير في (إنه) على القرآن، فالقرآن هو علم الساعة، ومن ههنا كان علم الكتاب والسنة هو العلم الشرعي المطلوب وكذلك كل ما انبثق عنهما مما يحقق مقاصدهما ثم أحاط بذلك مما يخدمهما أو يفصّل في شيء عن مقاصدهما فهذا أشرف العلم عند أهل الآخرة، وأهله أفضل الناس وأشرفهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 4 - * روى أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن العلماء ورثة الأنبياء ... ". ولقد انعكس الأمر حتى عند بعض المتدينين لانتكاس القلوب والعياذ بالله.
والعلم مطلقاً هو معرفة كل شيء، فهو المقدمة لإقامة الدين أو لإعمار الدنيا وسياستها، وقد مر معنا أن في الإسلام علوماً مفروضة فرض عين على كل مسلم، وهي العلوم التي يطالب بها المسلم للقيام بحق التكليف الرباني عليه، وتختلف من شخص لشخص على حسب الطاقة والمسؤولية. والظروف التي يواجهها، وهناك علوم مفروضة فرض كفاية وهي كل علم اختصاصي مفيد تحتاجه إقامة الدين أو إعمار الدنيا على ضوء الدين، وهذا النوع من العلوم المفروضة فرض كفايةن تُطالب بها الأمة بمجموعها، بمعنى أن على الأمة أن تخرج من أبنائها مَنْ يغطون احتياجاتها في كل علم من العلوم المفروضة فرض كفاية وما أكثر ذلك، وإذا تعين مسلم للقيام بفرض من فروض الكفاية فقد أصبح هذا الفرض في حقه فرض عين فهو آثم إن لم يتعلمه، وأي علم فرطت فيه الأمة فإن الأمة بمجموعها تكون آثمة بسبب ذلك، ويسقط الإثم عمن يبذل استطاعته، ويتأكد الإثم في حق الذي يستطيع ولا يفعل أو لا يبذل جهداً في ذلك، ولعل أهم ما يجب أن ينصب عليه التخطيط للأمة الإسلامية هو أن نُحْصي فروض الكفاية في حق كل بلد وقرية، وفي حق كل قطر أو مجموعة أقطار وفي حق العالم الإسلامي، وفي حق الأمة الإسلامية جميعاً والمسلمين حيث كانوا، ويسار في سياسة تعليمهم لإقامة فروض العين وفروض الكفاية، نقول هذا للتأكيد على أن الإسلام قد حضَّ على العلوم الدينية والعلوم الدنيوية وطالب أهل ذلك أن يخلصوا في كل العلوم لله عز وجل، وعندئذ تصبح العلوم كلها أخروية. * * * ولكن من طبيعة العلوم الدنيوية أن ترى الناس مندفعين إليها وعاكفين عليها. ثم إن العلوم الدنيوية ذات نفع محسوس وبالتالي فنها تغري وتخدع وتغر، ومن ثم انصبت النصوص على الحضِّ على العلوم الدينية حتى لا يظن الظان أن العلوم الدنيوية هي الأفضل، بل العلوم الدينية هي الأفضل، لأنه إذا قام الدين قامت الدنيا، وإذا لم يقم فلا دين ولا دنيا، فالدين الصحيح هو الذي تقوم به الدنيا قياماً سليماً لأنه هو الذي يحدد الفرائض وهو الذي يعلّم الناس أن يضعوا الأمور في مواضعها ويعرِّف الناس على صيغ العدل الكاملة وبدون ذلك لا تقوم دنيا.
- الشريعة الإسلامية هي التي تعلّ العدل الاجتماعي ولذلك فرضت الزكاة، وهي التي تقيم العدل القضائي ولذلك فرض القصاص، وهي التي تعاقب على أي اعتداء على المجتمع ولذلك شرعت الحدود. والشريعة هي التي تقيم العدل في العلاقات الاقتصادية المتوازنة، ولذلك أجازت البيع وحرمت الربا، وهي التي تقيم العدل على مستوى الأسرة والمجتمع والحكم، وهي التي تقيم العدل في باطن الإنسان وظاهره، ومن تأمل الشريعة عرف أنها كلها عدل وأنه لا مطمع بإقامة عدل كامل إلا بها، والعدل مطلب يتطلع إليه كل سويّ. والشريعة الإسلامية هي التي تحدد الفرائض المطلوبة من كل فرد على حدة، ومن الأمة بمجموعها ومن الإنسان والناس، والفرائض كثيرة منها الفرائض نحو الله ومنها الفرائض نحو الناس، ومنها فروض العين وفروض الكفاية، ومنها فروض يطالب بها ظاهر الإنسان ومنها فروض يطالب بها باطنه، وكل ذلك مرتبط بعضه ببعض. والشريعة الإسلامية هي التي تعرّفك كيف تضع الأمور مواضعها فيتحقق الفرد بصفة الحكمة ويتحقق المجموع بهذ الصفة، فهي التي تعرّفك كيف تتعامل مع الآباء، وهي التي تعرّفك كيف تضع الأمور في مواضعها في قضايا الحكم والسياسة وقضايا العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وعلاقة الناس ببعضهم، ثم هي التي تعرّف قلبك كيف يكون على مقتضى الحكمة، وأخلاقك كيف ينبغي أن تكون، لذلك قلنا إنه إذا لم يقم الدين الحق فإن الدنيا نفسها تكون في حالة شقاء ومصداق ذلك في كتاب الله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) ولذلك ولغيره كانت العلوم الدينية أشرف من العلوم الدنيوية، لأنه بها يقوم الدين والدنيا وهذا من حكمة الحضّ على التفقه في دين الله. * * * إن الدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئاً، وإذا كانت الدنيا بالنسبة للآخرة هذا شأنها
فالعلوم التي لا توصل الإنسان إلى النجاة في الآخرة لا تساوي شيئاً، ومن ههنا انصب التذكير والحض على تعلم العلوم الدينية، سواء كانت مفروضة فرض عين أو فرض كفاية، هذا مع أنه قد رأينا أن كل ما تحتاجه إقامة الدنيا على ضوء الشريعة هو من فرائض الكفاية التي تصبح في حق بعض الأشخاص فريضة عينية، لكنها مع ذلك تأتي في الدرجة الثانية. * * * وقولنا إن العلوم الدنيوية تأتي في الدرجة الثانية إنما هو في الشرف والفضل عند الله وعند أهل الإيمان، وليست بالضرورة في الأجر، فقد يؤجر الإنسان على إقامة فرض كفاية دنيوي أكثر بكثير من أجره على فرض كفاية ديني. فمثلاً من فروض الكفاية الدينية تعلّم علم القراءات ومن فروض الكفاية في عصرنا تعلّم علوم الذرة ولو قدر أن بعض المسلمين توجهوا بإخلاص نحو هذه العلوم الكفائية الدنيوية وفتح الله عليهم بها، وترتب على ذلك أن وُجِدَ وضعٌ جديد قَويَ به الإسلامُ والمسلمون مع ضرورة كل من العلمين علم القراءات وعلم الذرة، ترى أن القائمين بفرض الكفاية هذين أكثر أجراً؟ ربما كا الثاني أعظم أجراً. إنه لا يبعد أن يكون القائم ببعض فروض الكفاية الدنيوية أكثر أجراً من القائم بفرض من فروض الكفاية في العلوم الدينية إذا صحت النيات، ولكن على العموم فعلوم الشريعة أشرف وأفضل وأكثر أجراً، وكلما كان العلم أقرب إلى اللب كان أفضل، ويتناقض كلما ابتعدنا عن الغايات إلى الوسائل مع أن الجميع فرض كفاية. فالاختصاص والتبحر في علم الكتاب والسنة والفقه وأصوله أفضل من الاختصاص في علوم اللغة، مع أن علوم اللغة لابد منها لفهم الكتاب والسنة وإدراك كيفية استنباط الأحكام. * * * وعلى كل الأحوال سواء كان العلم فرض عين أو فرض كفاية وسواء كانت فروض الكفاية دينية أو دنيوية، فإذا صحت النية فإنَّ العلم من أفضل العبادات، لأنه في العلوم
الدينية شرط الوجود للعبادة والعبودية، كما أنه شرط صحة القبول، وهو في أمور الدنيا شرط الإتقان والإحكام والتطوير الصالح. * * * وإذا كانت إقامة الدين والدنيا من باب فروض الكفايات، فإنَّ التبحر في هذه العلوم مندوب إليه، كما نص على ذلك ابن عابدين - من فقهاء الحنفية - في حاشيته، وتأمل كيف أنه لو أحكمنا هذه الفكرة، فكرة إيجاد المختصين المتبحرين في كل علم ديني أو دنيوي كيف يكون حال المسلمين؟ ثم كيف يكون حال هذا العالم؟ * * * وكما أن هناك فروضاً عينية وكفائية علمية، فهناك فروض كفائية علمية عملية، فالعلم يسبق العمل، وقد كنا حاولنا أن نبرز هذا المعنى وأن ندلل عليه في رسالة تحت عنوان: (فلنتذكر في عصرنا ثلاثاً) وكان مما ذكرناه في هذه الرسالة ما يلي: من أهم الأفكار الموجهة للمسلم في حياته وللأمة الإسلامية في سيرها فكرة فروض العين وفروض الكفاية، فمن خلال استقراء لنصوص الشريعة، ومعانيها ومبانيها وروحها، وصل العلماء إلى أن الفروض قسمان: فروض عينية ويطالب بها كل مسلم، وفروض كفائية يطالب بها المسلمون .. وكلا النوعين من الفروض ينقسم إلى قسمين: إلى فروض عملية، وفروض علمية: فالصلاة مثلاً، لها جانب نظري علمي هو من باب فروض العين، وكذلك الجانب التطبيقي منها وهو من فروض العين وإتقان علم الطب فريضة كفائية وأن يقوم الطبيب المختص بالخدمة فرض كفائي آخر. إن فهم فكرة فروض العين وفروض الكفاية من أهم ما يطالب به الفرد وتطالب به الأمة، لأنه بمقدار ما يستوعب المسلم ما هو مفروض عليه فرض عين، وبمقدار ما يستوعب فروض الكفاية التي تطالب بها الأمة ويعمل لإقامتها، وبمقدار ما تستوعب الأمة فروض
الكفايات وتعمل من أجل تحقيقها يقوم الإسلام قياماً كاملاً، وأي قصور في إقامة فروض العين وفروض الكفاية من الناحية النظرية أو العملية يترتب عليه ضرر للأمة وللأفراد. إن بعض فروض العين له طابع الاستمرار والديمومة وقد تطرأ على أصل الحكم طوارئ بسبب العوارض، وبعض فروض العين يستجد بسبب من بعض المستجدات أو بسبب من بعض الظروف، وقل مثل ذلك في فروض الكفايات، فكثير من فروض الكفايات تطالب بها الأمة بسبب من مستجدات تحدث. فمثلاً عندما تكون الفطرة سليمة والقلب صالحاً فإن ما يطالب به المسلم في باب تزكية النفس كفريضة عينية أقل مما يطالب به مسلم وجد في بيئة مريضة فوجدت بسبب ذلك أمراض نفسية عنده، مثل هذا فريضة العين في حقه نظرياً وعملياً تختلف عن الإنسان الأول، وفروض الكفاية في بيئة بدوية تختلف عن فروض الكفاية في بيئة مدنية، وفروض الكفاية في عصر الطيران والذرة والكهرباء تختلف عن عصر آخر .. ومن ههنا فإن فهم فروض العين وفروض الكفاية في كل عصر وبيئة مهم لأهل كل عصر وبيئة. ولنبدأ الموضوع من أوله: لحظ العلماء أن هناك نصوصاً تتحدث عن فرائض يطالب بها الفرد من مثل: 5 - * ما رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ومن مثله قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (1) فقد أكدت المطالبة الفردية بذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) بينما هناك فرائض لا يمكن أن ينفذها كل فرد فهي مطلب تطالب به الجماعة ككل من مثل قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} (3) فقد ذكر في هذه السورة بعض الحدود، وبالضرورة العقلية فإنه لا يطالب
كل فرد بإقامة حد الزنى على كل من زنى، وأمثال ذلك في الشريعة كثير من مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) ومن مثل قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) ومن مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (3). ومن مثل ما ذكرناه استنبط العلماء أن هناك فروضاً عينية يطالب بها كل مكلف وهناك فروض كفائية تُطالب بها الأمة. * * * إن إحصاء فروض الكفاية ومعرفة فروض العين من أهم الأمور في حق الفرد أو في حق الأمة، بل يجب أن يكون ذلك هو البداية ولذلك فنه من المهم بالنسبة للدعاة والعاملين للإسلام بل وللعاملين في حقل تطوير الأمة أن يحصوا هذه الأمور وأن يعمموها وأن يعملوا على تحقيقها في أرض الواقع، هذا مع ملاحظة أنه لا يستطيع فرد في الغالب أن يحيط بفروض الكفاية فلابد من تضافر جهود كثيرة ليصار إلى الإحصاء والتحديد .. وأنا سأحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أضع اليد على نقاط علام. * * * هناك عدد من القواعد نستطيع أن نستهدي بها في موضوع فروض الكفايات: أولاً: إن كل ما تحتاجه إقامة الدين والدنيا هو من فروض الكفايات. ثانياً: كل ما تحتاجه عملية أداء الحقوق إلى أصحابها هو من فروض الكفايات. ثالثاً: كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن ذلك فروض الكفاية فالوسائل الموصلة إلى كل فرض منها تدخل في الفروض الكفائية، فإذا اعتبرنا هذه القواعد الثلاث
- وهي من البدهيات عند العلماء - هادية لنا في بحثنا عن فروض الكفايات فكم هي فروض الكفايات؟ إن باستطاعتنا من خلال هذه القواعد الثلاث فقط أن نسجل عشرات الألوف من فروض الكفاية، فإذا عرفنا أن بعض فروض الكفايات لها جانب علمي نظري ولها جانب علمي تطبيقي، وأن الجانب العلمي تدخل فيه عشرات العلوم، وأن الجانب التطبيقي يحتاج إلى عشرات الاختصاصات ندرك سعة دائرة المطلوب .. ولنضرب أمثلة تخدم ما نحن فيه: العلوم التي تحتاجها عملية استخراج البترول كثيرة، والأدوات التي تحتاجها هذه العملية كثيرة، والعلوم والصناعات التي تؤمن هذه الوسائل كثيرة واستخراج البترول من البر أو البحر له علومه ووسائله، وإذا استخرج البترول فهناك تكريره وتسويقه وهناك المواد المتفرعة عنه، وكل مادة لها استعمالاتها وتتوضع حول ذلك صناعات كثيرة والصناعات تحتاج إلى أسواق وتسويق، وكل ذلك يحتاج إلى اختصاصات، وأنابيب البترول وصناعاتها وتركيبها والاستفادة منها وتثمير الأموال واستثمارها بما يحقق مصلحة الأمة، كل ذلك فروض متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض. حاول أن تستقصي هذه السلسلة من المطلوبات والخبرات والأدوات والوسائل التي تتوضع حولها فإنك تصل إلى مئات من فروض الكفاية في هذا الجانب فقط، وعلى مستوى قطر من الأقطار. فإذا نظرت إلى هذا كله من خلال احتياجات الأمة الإسلامية كلها في واقعها وأقطارها، فإنك تصل إلى أنه يجب أن يوجد عشرات الألوف من المختصين وأهل الخبرة في هذا الشأن وحده لتغطية احتياجات الأمة الإسلامية في كل مكان. فإذا عممت مثل هذا التحليل على الزراعات والصناعات والتجارات عسكرياً ومدنياً وأدخلت في الصناعات صناعة الأدوية، وصناعة أدوات الصحة، وصناعة السلاح والعتاد، وصناعة وسائل النقل الجوية والبحرية والبرية .. فهل تستطيع أن تحصي إحصاءً دقيقاً هذه الفروض؟
فإذا عرفت أن العلم سابق العمل، فكم من فروض الكفايات أنت بحاجة إليها علمياً؟ وكم ينبغي أن تكون برامج التعليم والتنمية ضخمة ومتعددة لتغطي مثل هذا؟ وهذا كله بعض ما تحتاجه إقامة الحياة الدنيا. * * * دعنا الآن نضرب أمثلة على بعض ما تحتاجه إقامة الدين من فروض الكفايات: إن الدين لا يقوم قياماً كاملاً إلا إذا قام كل مسلم بواجبه ووجدت دولة مسلمة تقيم الإسلام؛ لان مهمة الدولة المسلمة في تعريفات الفقهاء إقامة الدين والدنيا، وقد ضربنا أمثلة على بعض فروض الكفايات التي تحتاجها إقامة الدنيا ولنر بعض ما تحتاجه إقامة الدين. هناك علوم لابد منها لبقاء الإسلام واستمراره، من ذلك علوم اللغة العربية، المنطق، أصول الفقه، علم العقائد، علم الفقه، علم الأخلاق والسلوك، وعلم التفسير وعلوم القرآن، علم السنة وعلوم الحديث، السيرة وحياة الصحابة، رواة الحديث وطبقات العلماء، التاريخ الإسلامي، علم القراءات، العلوم التي تقتضيها إقامة الحجة على الآخرين، حاضر الأمة الإسلامية وواقع المسلمين، العلوم التي يحتاجها الوعي السياسي الإسلامي ... هذه العلوم وأمثالها تحتاج إلى مختصين يغطون احتياجات المسلمين فهيا -لا في قطر واحد بل على مستوى العالم - على حسب الضرورة والحاجة. فهناك علم يكفي البلد أن يوجد فيه واحد، وهناك علم يجب أن يكون في البلد الواحد عشرات من المختصين فيه، وهذه العلوم لا يكفي أن يوجد فهيا المختص، بل لابد أن تصل إلى العامة، وههنا تأتي فروض الدعوة وفروض التعليم، وعن هذه تنبثق فكرة المدارس وفكرة الكتاب والجريدة والمجلة والإذاعة وأن تقوم كل من هذه بما يملأ ساحة هذه الدوائر كلها بالعلم، ثم أن توجد أدوات ذلك ووسائله واحتياجاته، كل ذلك يدخل في باب فروض الكفايات. هذا كله في الجانب الإعلامي والتعليمي من أجل إقامة الدين فقط. * * *
ومن أجل أن يقوم الدين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أنت بحاجة إلى اختصاصيين كثير وإلى التزام كثير، وهذا يحتاج إلى سياسة وقانون وقضاء فكم من مختصين أنت بحاجة إليهم لتملأ ساحة العمل بما يغطي احتياجات الأمة في كل ساحات العمل هذه. فإذا عرفت أن المجتمع الإسلامي تحرسه الدولة، وهذا يقتضي وجود أجهزة، ويسهر عليه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والدعاة، وهذا يحتاج إلى عاملين، وإذا عرفت أن حياة المجتمع الإسلامي منوطة بالجهاد، والجهاد يحتاج إلى مقاتلين وعتاد ونظريات وتدريب وتخطيط وأنَّ هذا في عصرنا معقد وأن ذلك كله يدخل في باب فروض الكفايات .. عرفت بعض الكفايات التي تحتاجها الأمة في عصرنا لإقامة دينها. * * * دعنا الآن نفكر على مستوى جزء من واقعنا، كأن نفكر على مستوى قطر لم يبق فيه نظام إسلامي وعم فيه الجهل، أو غلب، فما فروض الكفايات في مثل هذه الحالة؟ أول الواجبات هي تغطية فريضة الدعوة إلى الله في القطر، وهذا يقتضي ملاكاً عريضاً لتصل الدعوة إلى كل دوائر القطر، وكل ما يقتضيه ذلك فهو من فروض الكفايات: الدعاة في صفوف الرجال والنساء، وفي صفوف العمال والفلاحين والمثقفين، وفي الأحياء والمؤسسات، وفي المدارس والجامعات، وفي المساجد والمقاهي، والدعاة الذين يغطون هذا كله والجهاز الإداري الذي يدير عجلة الدعوة وينسق بين جهود الدعاة كل ذلك من فروض الكفاية. ثم إن الدعوة هي باب التربية والتكوين والتعليم فمن استجاب للدعوة فقد وجب عليه أن يتعلم وأن يأخذ التربية الإسلامية التي يقتضيها قيام المسلم بواجباته في عصره فأنْ يوجد المسلمون والمربون الذين يغطون احتياجات الأمة في هذا الباب وأن يوجد الجهاز الإداري الذي ينظم هذا كله وينسق بين جهود المعلمين والمربين بحيث يصبح كل مسلم وقد أخذ حظه على الكمال والتمام من العلوم الإسلامية ومن الثقافة والتربية اللتين يقتضيهما وجوده في هذا العصر من خلال الحلقات والمذكرات والدراسات فذلك كله من فروض الكفاية.
والدعوة الإسلامية تقتضي عملاً إعلامياً ضخماً. 6 - * روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". والحديث الآخر يقول: 7 - * روى مسلم "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". إن في العالم أجهزة إعلام ضخمة تنشر مبادئ أو تدافع عن موقف أو تهاجم مبادئ ونصيب الإسلام من عداء هذه الأجهزة ليس قليلاً، ثم إن الإسلام يجب أن ينشر ويعمم وللمسلمين مواقف يجب أن تعرف وأن يقنع بها المسلمون على الأقل، وهذا كله يقتضي جهازاً إعلامياً، والإعلام في عصرنا: جريدة ومجلة وفيديو وشريط مسجل وإذاعة وتليفزيون ورسالة وكتابة وخطابة ومحاضرات وتعليقات، وهو مع هذا كله اختصاص وفن وعلم، وإذا ما أنشأت جريدة أو مجلة فأنت بحاجة إلى ملاك كاتب وطابع وإداري، وإذا ما أنشأت مجلة فالأمر كذلك ويتوضع حول هذا نشر وتوزيع وتعميم وهذا يرتبط به أن يكون هناك مراسلون ووكالات أنباء ومحللون ومحررون واستراتيجيون وكل ذلك إذا تعين يدخل في فروض الكفايات. والإعلام بطبيعته هو الوجه لآخر للعمل السياسي، والعمل السياسي جزء من العمل الإسلامي ألا ترى أن أهم صراعات الإسلام في عصرنا هي الصراعات الفكرية والصراعات السياسية، فالنظريات السياسية العالمية تصارع الإسلام على أرضه. ومن هنا لابد أن يوجد عمل سياسي إسلامي سواء ارتبط بالعمل الدعوي أو لم يرتبط، سواء كان من خلال عمل حزبي أو من خلال توجيهات عفوية .. المهم أن وجود العمل السياسي الإسلامي هو من باب فروض الكفايات بالقدر المتاح والممكن.
وعندما نقول: عمل سياسي إسلامي فهذا يحتاج إلى اختصاصيين كثر في شؤون كثيرة: التوعية السياسية، الإدراك السياسي، القدرة على استيعاب الموقف السياسي، القدرة على اتخاذ القرار السياسي الحكيم المستوعب للزمان والمكان، المشاركة في العمل السياسي المتاح، نقل الأوضاع السياسية إلى أطوار متقدمة ومنسجمة مع الإسلام أو تحقق أهدافه أو تبعد العمل السياسي عن الانحراف، التخطيط للتطوير السياسي الإسلامي في المؤسسات والنقابات، السير المتدرج نحو الأهداف السياسية الكبرى التي لا تتحقق بسرعة، كل هذه القضايا وأمثالها تدخل في باب فروض الكفايات، والجهاز الإداري الذي ينسق بين هذا كله وينظم هذا كله هو من باب فروض الكفايات، كذلك وإذا سقط قطر من أقطار الأمة الإسلامية بيد الكفر والكافرين وتعين الجهاد للإنقاذ فالتحريض، والتدريب، وتركيز النيات، وتأمين السلاح، وإيجاد الملاكات القيادية، ووجود الخطط العملية، وتأمين الشبكات التنظيمية التي خدم الحاضر والمستقبل والتي تصب في خدمة الجهاد، وإنضاج نظريات المعركة، والسير المتواصل نحو الهدف، ووجود الجهاز الإداري والقيادي الذي يضع هذه الأمور كلها موضع التنفيذ، كل ذلك من فروض الكفايات، ولما كان المال هو الوسيلة الضرورية لإقامة فروض الكفايات المذكورة فوجود الجهاز الإداري الذي يقود عملية تأمين المال اللازم ووجود شبكة قوية لجمع التبرعات والوصول إلى كل فرد قادر على الدفع وإقناعه بذلك كل ذلك من باب فروض الكفايات. وفي الحالة التي نتحدث عنها تكون فروض الكفايات التي يطالب بها المسلمون في القطر مضيّعة لا تجد من يقيمها، وههنا تأتي مهمة القائمين على العمل الإسلامي أن يوجهوا المستجيبين لدعوة الله وخاصة الطلاب بحيث يكون لكل فرد اختصاص حياتي يقيم به فريضة كفائية وهؤلاء لابد من التنسيق فيما بينهم، ومن ههنا يأتي تنظيم أمر الاختصاصات الحياتية وترتيبها في كل قطاعات الحياة، والتوجيه نحو ذلك. فالأطباء المسلمون والصيادلة المسلمون والمهندسون المسلمون بل والرياضيون المسلمون، والتجار المسلمون والحرفيون المسلمون ثم الاختصاص المتفرع عن اختصاص أصيل، والجهاز الإداري الذي ينظم ذلك كله، كل ذلك من فروض الكفايات.
ويتوضع حول الجوانب الدعوية والإعلامية والسياسية والمالية والفنية أشياء كثيرة، فأن يوجد المختصون فيها والقائمون عليها والمقيمون لها كل ذلك من فروض الكفايات، وعلى هذا فالقائمون على العمل الإسلامي في قطر من نوعية الأقطار التي ذكرناها عليهم أن يراعوا ذلك. من ههنا ومما تقدم ندرك أهمية حصر العلوم المفروضة فرض كفاية في حق المسلمين في أقطارهم إذا كانوا في السلطة أو لم يكونوا، إذا كانوا في مجتمع غريب أو كانوا في مجتمع قريب لأن ذلك يؤثر تأثيراً جوهرياً على سير العمل، فإذا اتضحت هذه الأمور فقد آن الأوان لنتحدث عن فروض العين: * * * إن المحصلة الكبرى لإقامة فروض الكفاية تظهر في وجود المسلم الذي يقيم فروض العين والمختص بفرض من فروض الكفاية، فالمسلم ينبغي أن يكون له اختصاص حياتي، وأجود أنواع الاختصاص هو ما يحقق به المسلم فرض كفاية، هذا مع ملاحظة أنه إذا تعين مسلم لفرض من فروض الكفاية فقد أصبح هذا الفرض في حقه فرض عين، فلو تعين إنسان للقضاء أو للفتوى أو لتعليم علم بعينه أو لإتقان اختصاص بعينه فعندئذ يكون في حقه فريضة عينية. 1 - إن أول فرض العين في حق المسلم أن يعرف الإسلام معرفة إجمالية وأن يؤمن به، وأن يقر بذلك بإعلانه الشهادتين. 2 - وثاني فروض العين في حقه أن يعرف تفصيلاً من الإسلام ما يستطيع أن يؤدي فرائض التكليف المطالب به. 3 - ومن فروض العين في حق المكلف: التوحيد والعبادة وزكاة النفس. 4 - ومن فروض العين في حقه أن يعرف المحرمات وأن يتركها وأن يعرف المطلوبات ويقوم بها. 5 - ومن فروض العين أن يقيم حق الله في والديه وأرحامه وجيرانه.
6 - ومن فروض العين أن يؤدي حق الله في طاعة الإمام ولزوم الجماعة. 7 - ومن فروض العين أن يكون كسبه حلالاً وأن ينفق على من تجب عليه نفقته بالمعروف. وإذا كان له مال فالزكاة في حقه فرض عين والحج في حقه فرض عين، والجهاد بالمال إذا تعين فريضة عينية، وإذا أصبح الجهاد فريضة عينية فعليه أن يقوم بذلك نية وتدريباً وإعداداً واستعداداً ومباشرة. وجماع فروض العين أن يكون الإنسان تقياً، فالتقوى هي مطلب الله من العبد، والتقوى كما صورتها مقدمة سورة البقرة إيمان وصلاة وإنفاق واتباع للقرآن وخلاص من الكفر والنفاق. * * * وبعض فروض العين واحدة في الأوضاع العادية في حق المسلمين جميعاً، وبعضها يختلف سعة وضيقاً من شخص لشخص فما يُطالب به إنسانٌ صالحُ الفطره من زكاة النفس أقل من إنسان عنده أمراض نفسية. وما يطالب به خالص الإيمان أقل مما يطالب به إنسان في قلبه مرض من أمراض النفاق، وما يطالب به عامل بسيط أقل مما يطالب به تاجر غني واسع الثراء واسع العلاقات. وما يطالب به إنسان في بيئة غير ما يطالب به إنسان في بيئة أخرى، فإنسان يعيش في أرض بدعة وأرض كفر يطالب بما يحصن به نفسه وأهله. وإذا ثارتْ شُبْهةٌ مضلة يجب على المكلّف أن يحصن نفسه من هذه الشُبهة، وإذا وجدت تيارات ضالة وتيارات هادية فعلى المسلم أن يحصن نفسه من التيارات الضالة ويكون جزءاً من التيار الهادي. وإذا وجدت في الشريعة نوافل لتحصين الفرائض، وإذا وجدت في الشريعة فكرة الورع والاحتياط من أجل عدم قربان الحرام فهذا يوصلنا إلى أن المسلم عليه أن يفعل
الكثير ليطمئن على قيامه بفروض عينه، وقبل أن نذكر بعض التفصيلات المطلوبة من مسلم معاصر نحب أن نذكِّر بنوعين من الفروض: 1 - فرض الوقت. 2 - فرض العصر والظرف. 1 - فرض الوقت: لا تغيب الفرائض والمحرمات القطعية عمن يعيشون في البيئات الإسلامية، والتذكير بها مفيد، وهذه مهمة ضرورية متجددة، يقوم بها الوعاظ في مجال الوعظ ويتذاكر بها المسلمون في مذاكراتهم، وقوة الواعظ تظهر في قدرته على التأثير والإقناع واستجاشة العواطف فهو يجذب إلى الفرائض المقصرين ويأخذ بحجز المذنبين فيبعدهم عن الذنب، وهو يبعث على الارتقاء الحثيث، دافعاً بعد الفرائض نحو الواجبات والسنن والآداب، منفراً عن المخالفات ولو لم تصل إلى درجة التحريم، فما أعظمها مهمة!!. فهي جزء من مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن استهان بها أو حقرها فهو على جهل عظيم، وليس غرضي في هذا البحث أن أذكر فيما هو مذكور أو محل تذكر، إنما الغرض أن أذكر فيما عنه غفلة، ومن ههنا جاء هذا العنوان: فرض الوقت. * * * لنتصور أن إنساناً أراد الدخول في الإسلام فما هو فرض وقته؟ لا شك أن فرض وقته المباشر هو أن يعرف بإجمال الشهادتين وأن ينطق بهما مسلماً فإذا دخل في الإسلام مثلاً بعد أن دخل وقت الظهر فما هو فرض وقته المباشر؟ لا شك أن فرضه المباشر هو أن يتعلم الصلاة بإجمال وأن يمارس صلاة الظهر، وإذن فالمراد بفرض الوقت هو ما يطلب من الإنسان في لحظته التي هو فيها. * * * لنتصور أنني رأيت إنساناً يغرق وأنا قادر على إنقاذه أو جائعاً وأنا قادر على إطعامه، أو
يرتكب منكراً وأنا قادر على تغييره، فههنا يفترض علي فوراً أن أفعل ما أستطيع فعله فهذه كلها فرائض وقت وجبت عليَّ بسبب ظرف طارئ، افترض عليّ الإسلام أن أتعامل معه نوع تعامل. إن فرض الوقت هذا يغفل عنه الكثيرون، وقد يقعون بسبب ذلك في محذورات كبيرة، فمثلاً لو أن إنساناً أراد الدخول في الإسلام وطلب من مسلم أن يصفه له فواجب الوقت في حق المسلم أن يبادر فوراً للوصف، حتى قال بعضهم: لو أن المسلم وقتذاك طلب إلى هذا الراغب أن يؤجل فإنه يرتد بذلك. * * * مما مر تعرف المراد من قولنا: فرض الوقت وتعرف أهمية ذلك، وخطورة عدم القيام بفرض الوقت، وخطورة تأجيله عن وقته، ومن ههنا تتوضع حول هذه الفكرة أمور كثيرة: ففي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك فرائض وقت، وفي باب الجهاد هناك فرائض وقت، وفي باب الأسرة والجوار هناك فرائض وقت، وفيما يطرأ على الإنسان أو يعرض له فرائض وقت، والمسلم كما يحاسب نفسه على الفرائض الثابتة فإنه يحاسب نفسه على التقصير في فرائض الوقت، ولما كان العلم يسبق العلم فالعلم بفقه فرض الوقت هو البداية الصحيحة للقيام بهذا النوع من الفرائض. 2 - فرض العصر وفرض الظرف: من المعلوم أن هناك فرائض عينية في الشريعة الإسلامية كالصلاة في حق المكلف، وهناك فروض كفائية تطالب بها الأمة فإذا فعلها بعضهم سقطت عن الأمة، وإلا فإن الأمة كلها تأثم، ويسقط الإثم عمن أمر ونهى وبذل استطاعته، وفروض الكفاية هذه تكون فرض عين في حق من تعين لها فلا يستطيعها غيره، وكذلك هي في حق من يعلم شيئاً عنها يجهله غيره، إذا اتضح هذا نقول:
كل علم تحتاجه الأمة الإسلامية فهو فرض كفاية، والعلوم متوسعة متنامية متطورة، وكل عصر له مستحدثاته التي هي أثر عن علم من العلوم، فالكهرباء والذرة وما تفرع عنهما من مخترعات ومستحدثات هذه كلها وليدة عصرنا وبالتالي فهذان بالنسبة للمسلمين في عصرنا فرضان بينما هما في عصور سابقة لم يكونا موجودين أصلاً فلا مطالبة بهما فهذا نموذج على ما أسميناه فرض العصر. * * * الجهاد في شريعتنا يكون أحياناً فرض عين، وأحياناً فرض كفاية، وأحياناً تكون مباشرته فرض عين إذا توافرت شروط، وأحياناً يكون فرض عين ولا تجب مباشرته لعدم توافر شروط، وأحياناً تكون مقدماته الموصلة إلى الغايات فرائض كفائية أو فرائض عينية، وهناك حالات من الغلبة تصيب المسلمين لا يستطيعون التغلب عليها من خلال معركة جزئية بل تحتاج إلى جهود متواصلة طويلة قد تستغرق جيلاً أو جيلين أو أكثر مثل هذه الأمور تدخل في فرائض العصر من مثل القضية الفلسطينية في زمن الحروب الصليبية وفي عصرنا، وقد يكون هذا النوع من الفرائض واجبات عصر في حق مسلمي العالم وقد تكون فرائض عصر في حق أهل قطر. * * * والمسلمون مكلفون أن تكون كلمة الله هي العليا في العالم، وهذا الصراع منهم يقتضي في مرحلة من المراحل نوعاً من العمل الخاص، تدخل فيه الاقتصاديات والإداريات والاستراتيجيات والتحركات السياسية وغيرها، فالجديد الذي يحتاجه الصراع المستمر بين الحق والباطل يدخل في فرائض العصر. * * * وكل قرن جديد يحتاج معه الإسلام إلى تجديد، وهذا التجديد قد يقتضي أساليب وأسباباً تناسب القرن، فالتنظيم الممتد الواحد الذي يغطي العالم مثلاً تحتاجه الأمة
الإسلامية في كل حين ولكنه في عصرنا يعتبر سبيلاً وحيداً لإقامة فرائض كثيرة، فكل ما يحتاجه هذا التنظيم الذي هو شرط لحسن المواجهة يدخل في فرائض العصر. هذه النماذج على فرائض العصر تعطينا تصوراً عنه ويبقى تحديد كل ما يدخل في فرائض العصر واجب أهل الفتوى، وتذكير المسلمين بذلك ودعوتهم وتفجير طاقاتهم واجب كل من يستطيع ذلك من وعاظ ودعاة وقادرين. * * * والمسلم الذي لا يدرك واجبات عصره مقصر وقد يكون آثماً، وهو في كل الأحوال يعيش في غير عصره، ولعل من أهم فروض عصرنا: محاولة إنقاذ الأمة الإسلامية من تفرقها، والعمل من أجل وحدتها وتقدمها المدني، والعمل لإعادة الأقطار المسلوبة والخلافة المفقودة. إذا اتضح ما مر فقد آن لنا أن نتحدث تفصيلاً عن بعض فروض العين في عصرنا ولنجعلها تحت ثلاثة عناوين: العلم، والعمل، والحال .. ملاحظين فروض العصر والوقت وتيارات العصر وتعقيداته وتأثير ذلك على العقل والقلب والنفس. أولاً: في العلم: أ - أخذ حظ من علم أصول الفقه على قدر استطاعة الإنسان لأنه ما لم يحصل المسلم ذلك فإنه يكون معرضاً للوقوع في خطر الرفض للأحكام أو في خطر الوقوع في براثن الغلاة. ب- أخذ حظ من علوم اللغة العربية على قدر استطاعة الإنسان لأنه ما لم يكن ذلك فقد يقع الإنسان فريسة الخطأ بيد الحَرْفيين أو بيد المؤولين. ج- أخذ حظ من علم الأصول الثلاثة بحيث يكون عند الإنسان تصور عن أدلة وجود الله عز وجل وأدلة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وبحيث يكون عنده تصور شامل عن الإسلام. د- أخذ حظ من علم العقائد حتى لا يكون فريسة الوقوع في أسر فرقة ضالة أو في
أسر أفكارها. هـ- أخذ حظ من الفقه عامة، ومن الفقه المذهبي خاصة، الأول ليعرف كيف يتصرف أمام الوقائع والثاني ليعرف كيف يراجع عويصات المسائل. و- حفظ شيء من القرآن وإتقان تلاوته. ز- حفظ شيء من السنة والاطلاع على ما أمكن من متونها ويدخل في ذلك التعرف على السيرة النبوية ومعالم في حياة الصحابة. ح- الاطلاع على فقه الدعوة والحركة المعاصرين بحيث يطمئن إلى الكينونة في الجماعة التي يعطيها ولاءه وينطلق بالدعوة على بصيرة. ط- الاطلاع على بعض الدراسات الإسلامية الحديثة التي تحتاجها بيئته أو تحتاجها مناعة وحصانة. ي- الاطلاع على شيء من التاريخ الإسلامي وواقع المسلمين يحصنه ويطلق طاقاته في الخدمة الإسلامية. ك- الاطلاع على الثقافة العسكرية الحديثة بحيث يكون عنده شيء من الإلمام بالكيفية التي يمكن أن يمارس فيها الجهاد في هذا العصر. ل- أخذ حظ من علوم تزكية النفس والسير إلى الله. م- المطالعة والمدارسة في كل ما ينمي الوعي الإسلامي بحيث يعرف الإنسان مشكلات المسلمين وكيفية حلها. ن- الاطلاع على ما ينمي حسه الأمني بحيث لا يتصرف تصرفاً يضر أمته. ثانياً: العمل: أ - أول ما يطالب به العبد من العمل بعد التعرف على الله عبادته، والفروض مقدمة على النوافل ويدخل في ذلك الصلاة والصوم والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والجهاد. ب- الكسب الحلال وأداء الحقوق فيه. جـ- القيام بحقوق الوالدين والأرحام والجوار. د- نية الجهاد والتدريب على أدوات القتال ووسائله. هـ- الكينونة في الصف الإسلامي وحسن التعامل مع المسلمين ويدخل في ذلك لزوم إمام المسلمين وجماعتهم إن كان لهم جماعة وإمام. و- القيام بالحقوق الطارئة والعارضة. ز- اجتناب المحرمات وما قاربها وإقامة الفرائض والواجبات. ح- القيام بفروض الكفاية التي يتعين لها. ط- مباشرة الجهاد إذا أصبح فرضاً عينياً وتوافرت شروط فرضية مباشرته. ي- نية المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والالتزام بالأحكام. ثالثاً: الحال القلبي والنفسي: ويدخل في ذلك أن يكون قلبه سليماً وفطرته مستقيمة ونفسه مزكاة، وههنا نلفت النظر إلى أن ما يوصل إلى مثل هذه المعاني المفروضة فهو فريضة، ومن ههنا نقول: قد تكون بعض الأمور في الأصل مندوبة فإذا تعين كطريق للوصول إلى هذه الأحوال الشريفة فإنها تصبح فريضة ومما يدخل في مثل هذه الفريضة: أ - التحقق بالإيمان والإخلاص والتوكل والزهد في الدنيا ومحبة الله ورسوله. ب- والخلاص من الكفر والنفاق والفسوق والعصيان والإثم والأمراض القلبية من مثل الحسد والرياء والغل والحقد وأمثال هذه الأمراض. أ. هـ. وفي غمرة الكلام عن فروض العين وفروض الكفاية بشقيها العلمي والعملي، التي بابها
ومفتاحها العلم فإنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن المطلوبات الشرعية من المسلم أوسع من أن تكون فرضاً فقط، فهناك الفريضة والواجب والسنة والأدب، والمروءة، والأريحية، والذوق والسياسات النبوية، وكلها مطلوبات عينية من المسلم وعلى المسلم أن يحصل العلم فيها وأن يتحقق بالعمل، ولابد - ونحن سنعرض أحاديث باب العلم -أن نتعرض لهذا، وقد كنا كتبنا رسالة تحت عنوان - أخلاقيات وسلوكيات تتأكد في القرن الخامس عشر الهجري - ننقل لك بعض المقتطفات منها ليكون هذا الأمر واضحاً لديك: والكلام عن الذوقيات والمروءات يجرنا إلى الكلام عن أدب العلاقات، فما من شيءٍ أدل على زكاة النفس في الإسلام من أدب العلاقات، وليس هناك شيء أصعب على النفس من الأدب في بعض الأحوال، لذلك كانت مجاهدة النفس لحملها على الكمال في أدب العلاقات من أعظم ما يطالب به المسلم. كان نور الدين الشهيد رحمه الله حازماً ومن حزمه أنه كان لا يسمح لأمير من أمرائه أن يجلس في حضرته إلا بإذنه لم يستثن من ذلك إلا نجم الدين أيوب والد صلاح الدين ولكنه كان مع العلماء والصالحين على غاية من الاحترام والتواضع والإجلال، انظر هذا الأدب وتأمل إلى أي حد يستطيع إنسان ذو صفة رسمية في عصرنا، عصر البروتوكول أن يتواضع لعالم عامل صالح أمام الجماهير. إن كثيراً ما ترفض نفس الصغير توقير الكبير، وكثيراً ما ترفض نفس الكبير رحمة الصغير، وكثيراً ما تأنف أنفس أولي الأمر من استشارة من دونهم، وكثيراً ما يشتط المستشار إذا استشير، وكل هذه مظاهر من جموحات النفس ورعوناتها، ولذلك قلنا: إن من أعظم علامات زكاة النفس قيامها بأدب العلاقات ملاحظاً في ذلك الحكم الشرعي أولاً ثم المروءات والذوقيات. إن أدب العلاقات واسع، فهناك أدب الولد مع الوالدين، وأدب الوالدين مع الأولاد ذكوراً وإناثاً، وأدب الإخوة مع بعضهم ذكوراً وإناثاً، وأدب الصاحب والجار مع الصاحب والجار، وأدب الموظف والعامل مع الزملاء ومع العمل وهكذا دوائر العلاقات البشرية كلها.
وإذا كان أدب العلاقة مع الخلق له هذه الأهمية، فما بالك بأدب العلاقة مع الخالق .. إنك لو حصرت الحياة البشرية الكاملة بأدبين أدب العلاقة مع الخالق وأدب العلاقة مع الخلق لم تعدَّ. وأدب العلاقة مع الخالق يقتضي أدب العلاقة مع الخلق فكلما كملت العلاقة الأولى كملت الثانية. وأدب العلاقة مع الخالق ينحصر بالإيمان والفعل والترك: فالإيمان بالوحي وترك المحرمات والمكروهات وفعل الواجبات والسنن والآداب والأريحيات والمروءات من مقتضى حسن التعامل مع الله عز وجل. وليس هناك في أدب العلاقات مع الخلق أعظم من القيام بحق الوالدين وحق العلماء والأولياء والمربين ثم الأرحام والجوار والأصحاب. وفي أدب العلاقات نجد كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف الخلق جميعاً حتى استخرج النفاق من قلوب أكثرية المنافقين، وكيف استخرج أحقاداً وعداوات من قلوب موتورين حتى أصبح أحب إليهم من أبكارهم .. وكيف كان يضع الحزم في محله واللين في محله، وكان يغلب عليه اللين ويكفي أن الله أدبه بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1). لقد كان ليّن الكلمة، رحيم القلب، حريصاً على المؤمنين، يعفو ويصفح، ويستغفر لذنوبهم، ويشاورهم، فأي أدب في العالم أرفع من هذا الأدب، إن إحياء آداب النبوة وسياستها من أهم ما يطالب به المسلم على مدى العصور وذلك لا يطيقه إلا من اجتمع له علم وذكر وما ذلك إلا لدقة الأدب، انظر إلى أدبه عليه الصلاة والسلام في الإنصات: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} (2)
لقد اتهمه المنافقون بأنه شديد الإصغاء ويستطيع كل إنسان أن يؤثر عليه فأكد الله أنه كثير الإنصات حتى شبهه بالأذن، إلا أنه يعرف من يصدق وأن إنصاته رحمة للمؤمنين أما أن يستجره أحد لموقف غير صحيح فلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (1). ولدقة السياسات النبوية قلنا: إنها تحتاج إلى علم لتعرف وإلى ذكر ليستطيعها الإنسان ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) فمن لم يكن له ذكر كثير فإن اتِّباعه قليل. في الشريعة فرائض وواجبات وسنن وآداب، وفيها محرمات ومكروهات، وهي مع تحديدا لهذه الأمور بشكل صريح أو ضمني يعرف من النصوص مباشرة أو بشكل غير مباشر، فهي قد وضعت أصولاً لضبط التعامل مع الرأي العام مما يدخل في ما يصطلح عليه الناس: الذوق ومراعاة الرأي العام. وهذه قضية تغيب عن الكثيرين حتى إنك لتجد بعض المتدينين المتشددين يسقطون قضايا الذوق ومراعاة عواطف الناس ومشاعرهم، حدثني بعض شيوخنا أنه كان في جلسة علمية فامتخط إنسان وألقى بمخاطه على الأرض بشكل جاف، فاستعمل شيخنا حق الشيخ في التأديب فنبهه على ذلك فسأله التلميذ: أعندك نص في عدم الجواز فهذا نموذج على نمط من التفكير يلغي قضايا الأذواق ومراعاة الرأي العام. * * * ولا شك أن الأذواق قد تمرض وأن الرأي العام قد يكون ضالاً مضللاً، وإذا كان أهل السنة والجماعة لا يعتبرون العقول نفسها ميزاناً للتحسين والتقبيح، فمن باب أولى ألا تعتبر الشريعة الأذواق والرأي العام ميزانين، خاصة وهما مرتبطان إلى حد كبير بالعواطف،
ولذلك نقول ابتداءً: إنه لا قيمة للذوق ولا للرأي العام إذا عارض الفرائض والواجبات والسنن والآداب، أو دخل في دائرة المكروهات أو المحرمات، وإذن فمراعاة الرأي العام وقضايا الأذواق إنما راعاها الشارع في المباحات ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (1). 8 - * روى مسلم قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيم". فالأول جاء في سياق مواقف المسلمين من اليهود، والثاني في مراعاة الرأي العام الجاهلي في قضية لا يترتب عليها عمل .. ولننتقل إلى قضية أخرى وهي قضية الأيحيات والمروءات: 9 - * روى مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْت لأتمم مكارم الأخلاق" فالرسول صلى الله عليه وسلم حصر بعثته بأن المراد منها استكمال بناء الصرح الأخلاقي في هذا العالم، وهذا يفيد انه عليه الصلاة والسلام لم يبدأ البناء الأخلاقي من الصفر، بل هناك أخلاق بعث بها الرسل وأتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك مكارم للأخلاق تعارف عليها الناس أنها من مكارم الأخلاق وهي فعلاً كذلك. وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليقر أمثال هذه الأخلاق وليكملها، ولم تزل الأريحيات والمروءات مما تواطأ الناس على إكبارها واحترامها، إلا من فسدت فطرته ومرض عقله. وقضايا الأريحيات والمروءات لا تدخل تحت حصر، وقد تتجاوز حدها فتصبح جاهلية، وقد تنقص حتى يحتقر المخل، إن بعض ما يدخل في المروءات والأريحيات يدخل في أبواب الحكم الشرعي من فريضة أو واجب أو سنة أو أدب وإذا تجاوزت الأريحيات حدها كأن دخل صاحبها بها في الإسراف والتبذير أو طرأ عليها عارض كالرياء والعجب
وحب الثناء والمدح، فإن ما صاحبها يدخل في باب المحظورات. وقد تكون أحياناً من باب المباحات، ولكنها إذ تؤدي إلى احتقار صاحبها وغيبته وازدرائه فإنها تخرج صاحبها بسبب من ذلك إلى دائرة المحظورات، فمثلاً لو وقعت من إنسان تمرة فأهملها فرآها إنسان فأخذها فطالب الأول الآخر بها فذلك طلب مباح في الأصل ولكنه مخل بالمروءة. إن موضوع الأريحيات والمروءات عميق في الفطرة البشرية وهو يختلف من شعب إلى شعب في القوة والضعف وفي السعة والضيق، ولعل العرب من أكثر الشعوب تأثراً بهذه الموضوعات، وقد يكون ذلك من حكم اختيارهم لحمل الرسالة الإسلامية، فهذه الرسالة تحتاج إلى نوع من النفسيات تهزها الأريحية والمروءة، وتبقى مشدودة، إلى كل كمال. وما أظن شعباً تهزه المروءات والأريحيات يسبق الشعب العربي في ذلك، وادرس أدب هذا الشعب نثراً وشعراً لترى أن الحديث عن الأريحيات والمروءات يشكل جزءاً كبيراً من أدبه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان له في هذا القدم الأعلى، ألا ترى أن الله حرم عليه وعلى آل بيته الأكل من الصدقات .. 10 - * روى البخاري في صحيحه ما قالته خديجة له يوم رجع بالوحي وأخبرها أنه قد خشي على نفسه فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ولقد قال ابن الدغنة وهو مشرك لأبي بكر يوم فكر في الهجرة إلى الحبشة الكلمات نفسها وأجاره، مما يشير إلى أنه قد استقر في ضمير العرب أن هذه المعاني من مكارم الأخلاق التي ترفع صاحبها وتجعله أهلاً للحرص عليه. * * * إن الإسلام والذوق والمروءة مترادفات، ومتكاملات فإذا تعارض ما ظنه الناس ذوقاً
مع الإسلام أو تعارض ما ظنه الناس مروءة مع الإسلام، فذلك علامة على فساد الذوق وسخف المروءة، أما إذا لم يتعارض شيء من ذلك مع الإسلام، فالذوق مقبول، بل مطلوب، والمروءات مقبولة، بل مطلوبة، وهل ذلك إلا العرف والمعروف. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1). {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2). أنْ ترتب بيتك على ما ترتاح له الأذواق بما لا يتناقض مع شريعة، وأن تلبس لكل حالة لبوسها الذي يريح القلوب والأبصار، وأن تقدم للناس النظيف الجميل، أليس ذلك في محله من الحكمة؟ واقرأ هذا النص: 11 - * روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأحسنوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في أعين الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش". وألا تسمح لنفسك أن تسف في القول والعمل، وألا تسمح لحد أن يسف بحضرتك بما ينقض وقاراً أو حلماً أو كمالاً، وألا تسمح لنفسك أن تفعل ما ينكره عقل أو شرع أو عرف أليس ذلك من الحكمة؟، واقرأ ما يقوله علي رضي الله عنه: "لا تفعل ما يسبق إلى العقول إنكاره وإن كان عندك اعتذاره". عندما تدرس التربية النبوية، تجد التربية للأذواق مستمرة، وتجد الحوادث المعبرة عن سلامة الذوق كثيرة في حياة الصحابة. فمثلاً عندما يراق الماء في العلية التي كان يسكنها أبو أيوب والتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكن أسفل منها بناء على رغبته للتسهيل على ضيفانه، نجد أبا أيوب يلتقط الماء خشية أن ينزل منه شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، إنك تجد ههنا ذوقاً رفيعاً.
وعندما تجد أبا طلحة يضع الثوب أمام عينيه، ثم يتقدم ليضعه على صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقعت عن البعير، نجد ههنا ذوقاً رفيعاً، وعندما يُتوفى ابن أم سليم ويأتي أبو طلحة يسألها عن الطفل فتقول له: هو أسكن ما كان وتتزين له حتى يواقعها ثم تتطلف بالإعلام، ثم يدعو رسول الله أن يبارك لهما في ليلتهما، فإنك تجد قمة الذوق، وعندما يُسأل العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. يقول: رسول الله أكبر وأنا أسن تجد كذلك ذوقاً رفيعاً. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي على أنواع من الذوق الرفيع في الأسماء وفي السلوك، فهذا جانب يجب أن نعطيه أهمية في عصرنا وأن نحيي وقائعه، فالإسلام كله ذوق، فالتوحيد أعلى درجات ذوق القلب، والعبادات أعلى درجات ذوق الجسد والاستئذان والسلام ووضع اليد على الفم أثناء التثاؤب، وعلى الأنف أثناء العطاس، ورحمة الكبير للصغير وتوقير الصغير للكبير، وأن يقدم الرجل مهراً للمرأة، وأن يستأنس بين يدي ما يريد، وأن يتلطف في الخطاب، وأن يبتعد عن الكبر والخيلاء والتكلف، كل ذلك ذوق رفيع، وعلى المسلم أن ينمي حسه الذوقي، فإذا دخل على العلماء فبالأدب، وإذا سأل فبالأدب، وإذا خالط أهل الفضل فبالأدب. * * * في قضايا المروءات والأريحيات يذكر وفاء سول الله صلى الله عليه وسلم الذي ليس له مثيل، يذكر وفاءه لخديجة في إدامة ذكرها وإكرام صديقاتها، ويذكر وفاءه للمشركين والكافين إذا أسدوا له معروفاً، فها هو يقول يوم بدر: 12 - * روى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لأعطيتهم له" وها هو يوصي بأقباط مصر خيراً لأن لهم رحماً وصهراً وما ذاك إلا لأن هاجر رضي الله عنها منهم، ولأن مارية القبطية رضي الله عنها منهم. ونجد وفاءه عليه السلام لأهل السابقة والمواقف، فهذا حاطب بن أبي بلتعة يعفو عنه مع عظم ما أتى
لأنه شهد بدراً، وانظر في قضايا المروءات والأريحيات كيف أنه عليه السلام ما ضرب خادماً ولا امرأة في حياته، وكيف أكرم أبو قتادة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يقتل به امرأة، وكان عليه السلام لا يسبقه أحد في خلق. أ. هـ. وبعد هذه المقدمة الطويلة عن العلم وما يستتبعه من عمل فقد آن أن نعرض فصول باب العلم:
الباب الأول في العلم - الفصل الأول: فضل العلم بدين الله. - الفصل الثاني: الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم. - الفصل الثالث: الترهيب من تعلم العلم لغير وجه الله تعالى. - الفصل الرابع: الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير. - الفصل الخامس: الترغيب في سماع الحديث وتبليغه. - الفصل السدس: الترهيب من الدعوى في العلم والقرآن. - الفصل السابع: الترهيب من كتم العلم. - الفصل الثامن: وجوب التعلم والتعليم. - الفصل التاسع: الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ويقول ما لا يفعل. - الفصل العاشر: الترهيب من المراء والجدال والمخاصمة والمحاجة والقهر والغلبة - الفصل الحادي عشر: بعض آداب التعليم والتعلم. - الفصل الثاني عشر: ذهاب العلماء ورفع العلم. - الفصل الثالث عشر: كتابة الحديث ونسخ النهي عن ذلك.
الفصل الأول في فضل العلم بدين الله
الفصل الأول في فضل العلم بدين الله قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1). {كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (2) قال ابن عباس: كونوا عُلماء فُقهاء. وقيل: سُمي العلماء ربانيين، لأنهم يرُبُّون العلم، أي: يقومون به، يُقال لكل منْ قام بإصلاح شيءٍ وإتمامه: قد ربَّه، يرُبُّه، فهو رَبٌّ له. وقيل: سُموا الربانيين، لأنهم يُرَبُّون المتعلمين بصغار العلُوم قَبْلَ كبارها. وقيل: الربانيون: العلماء بالحلال والحرام. وقال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (3)، يُقْتَدى بهُداك وبسُنَّتكَ. وقال مالكٌ: الحكمةُ: الفقهُ في دين الله، وقال العلْمُ: الحكمةُ، ونورٌ يهدي الله به من يشاءُ، وليس بكثرة المسائل. شرح السنة 1/ 183 - 184. 13 - * روى البخاري ومسلم عن حميد [بن عبد الرحمن بن عوف الزهري] قال: سمعتُ معاوية وهو يخطبُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ "مَن يُرد الله به خيراً يُفقههُ في الدين، وإنما أنا قاسمٌ، ويُعطي اللهُ، ولن يزال أمرُ هذه الأمة مستقيماً
حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي أمرُ الله". 14 - * روى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقههُ في الدين وألهمه رُشدَهُ". 15 - * روى الإمام أحمد عن قيس بن كثير رحمه الله قال: كنتُ جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجلٌ، فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتُك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، لحديث بلغني أنك تُحدثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئتُ لحاجةٍ، قال: فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقاً يطلبُ فيه علماً: سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضيً لطالب العلم، وإنَّ العَالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتانُ في جوف الماء، وإنَّ فضل العالِمِ على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، ورثُوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافرٍ". وفي رواية (1) عن عثمان بن أبي سَودة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
16 - * روى البخاري عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجد والناسُ معه، إذْ أقبل ثلاثةُ نفرٍ، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحدٌ، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما: فرأى فُرْجَة في الحلْقَةِ، فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم: فأوى إلى الله عز وجل، فآواه الله، وأما الآخرُ، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر: فأعْرَضَن فأعرضَ الله عنه". 17 - * روى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مَرَّ بسوقِ المدينة فوقف عليها، فقال يا أهل السوق ما أعجزكم!. قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال ذاك ميراثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُقسَمُ وأنتمْ هاهنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكمْ منه قالوا وأين هو؟ قال في المسجد فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: مالكمْ؟ فقالوا يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئاً يُقسمُ فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتمْ في المسجد أحداً؟ قالوا بلى رأينا قوماً يُصلُّون، وقوماً يقرءون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكمْ فذاك ميراُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. 18 - * روى البخار يعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مثلُ ما بعثني الله به مِنَ
الهُدى والعلم كمثَل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيةٌ قَبِلَتِ الماء فأنبتتِ الكلأ والعُشب الكثير، وكانت منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فقِه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثلُ من لم يرفعْ بذلك رأساً ولم يقبلْ هدى الله الذي أُرسلْتُ به". قال البغوي بعد إيراد هذا الحديث: العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع، أما علم الأصول، فهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، والصِّفَات، وتصديق الرسل، فعلى كل مكلفٍ معرفته، ولا ينفع فيه التقليدُ لظهور آياته، ووضوح دلائله، قال الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53]. وأما علمُ الفروع، فهو علم الفقه، ومعرفةُ أحكام الدِّين، فينقسم إلى فرض عينٍ،
وفرض كفاية، أما فرض العين، فمثلُ علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته. 19 - * روى ابن ماجة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ". وكذلك كلُّ عبادة أوجبها الشرع على كل واحدٍ، فعليه معرفة علمها، مثلُ علم الزكاة إن كان له مالٌ، وعلمِ الحجِّ إنْ وجب عليه. وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم ما يبلُغُ به رُتبة الاجتهاد، ودرجة الفُتيا. فإذا قعدَ أهلُ بلدٍ عن تعلمه، عصوْا جميعاً، وإذا قام واحدٌ منهم بتعلمه فتعلمَهُ، سقط الفرضُ عن الآخرين، وعليهم تقليدُه فيما يعِنُّ لهم من الحوادث، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1). قال سفيان الثوريُّ: إنما العِلم عندنا الرُّخَصُ عن الثقات، أما التشديد، فكل إنسان يُحسنه. ا. هـ. روى ابن ماجه عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر لأنْ تغدُوَ فتعلمَ آيةً من كتاب الله خيرٌ لك من أن تُصلِّيَ مائة ركعةٍ، ولأنْ تغدو فتعلَّمَ باباً من العلم عُمِلَ به أو لمْ يُعملْ به خيرٌ لك من أن تُصلِّي ألف ركعةٍ". 20 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله، ما والاه، وعالماً ومُتعلِّماً".
21 - * روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاهُ الله مالاً فسلطهُ على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكة فهو يقضي بها ويُعلِّمُها". 22 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلا مِنْ ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أوْ علمٍ يُنتفعْ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له". 23 - * روى ابن ماجه عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ ما يخلُفُ الرجل من بعده ثلاثٌ: ولدٌ صالحٌ يدعو له، وصدقةٌ تجري يبلغُهُ أجرها، وعلمٌ يُعملُ به من بعده". 24 - * روى الترمذي عن أبي أمامة قال: ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابدٌ، والآخر عالمٌ، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "فضلُ العالِمِ على العابد كفضلي على أدناكُمْ"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحْرِهَا، وحتى الحُوتَ ليُصلُّون على مُعَلِّم الناس الخيرَ". قال: مُعلِّمُ الخير يستغفرُ له كل شيءٍ حتى الحيتانُ في البحرِ. 25 - * روى الطبراني عن حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "فضلُ العلمِ أحبُّ إليّ من فضل العبادة، وخيرُ دينكم الورعُ". 26 - * روى أحمد عن صفوان بن عسالٍ المرادي رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكيءٌ على بُرْدٍ له أحمر، فقلتُ له: يا رسول الله إني جئتُ أطلبُ العلم، فقال: "مرحباً بطالب العلم إن طالب العلم تحفُّهُ الملائكة بأجنحتها يركبُ بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلُبُ". 27 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفَّسَ عن مؤمن كُربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كربِ يوم القيامة ومن سترَ مسلماً سترهُ الله في الدنيا والآخرة، ومن يسَّرَ على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلُون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمةُ، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرعْ به نسبهُ". 28 - * روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخيرٍ يتعلمه أو يُعلمه فهو بمنزلة المُجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظرُ إلى متاع غيره". 29 - * روى البخار يعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الناسُ معادنُ، خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا، الناس تبعٌ لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبعٌ لكافرهم، تجدون من يخر الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن؛ حتى يقع فيه". وفي رواية (1) الناس تبع لقريش في الخير والشر. 30 - * روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الناسُ معادنُ فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقُهوا". 31 - * روى الترمذي عن أنسٍ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كان أخوانِ على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما يحترفُ، وكان الآخرُ يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلمُ منه، فشكا المحترفُ أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال "لعلكَ به تُرْزَقُ". 32 - * روى الترمذي عن الفضيل بن عياضٍ رحمه الله قال: عالمٌ عاملٌ معلمٌ يدعى عظيماً في ملكوت السماء. 33 - * روى البخاري عن مجاهد بن جبير قال: كان ابنُ عباس يُوثِق مولاه عكرمة بقيدٍ على تعليم الفرائض والعلم فقال: قيد ابنُ عباس عكرمة على تعليم القرآن والسنن والفرائض. وإليك هذه النصوص والآثار استئناساً: روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلمُ علماً ثم يعلمه أخاهُ المسلم". روى ابن عبد البر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلْمُ علمان: علمٌ في القلب فذاك العلمُ النافع، وعلمٌ على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم". روى الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: نعم المجلس الذي تذكر فيه الحكمة. روى الطبراني عن أبي العبيد بن العامري وكان ضرير البصر وكان عبد الله بن مسعودٍ يُدنيه، فقال لعبد الله بن مسعود من نسأل إذا لم نسألك؟، فرق له فقال: (1) ما
الأواه؟ قال: الرحيم. قال: فما الأمة؟: قال: الذي يعلمُ الناس الخير. قال: فما القانتُ؟: قال: المطيع. قال فما الماعونُ؟: قال: ما يتعاون الناسُ بينهم. قال فما التبذيرُ؟: قال: إنفاق المال في غير حقه، وفي رواية: في غير حله، وفي رواية (1): كان عبد الله بن مسعود يحدث الناس كل يوم فإذا كان يوم الخميس انتابه الناس من الرساتيق والقرى فجاءه رجلٌ أعمى فذكر نحوه. أقول: سؤاله عن الأمَّة إشارة إلى قوله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ...) (2) وأبو العبيدين هو معاوية بن سبرة بن حصين السُّوائي. وقوله: "فمنْ أخذَ به أخذَ بحظٍ وافرٍ" يعني: من ميراث النبوة. قال ابن عباس: تدارُسُ العلم ساعةً من الليل خيرٌ من إحيائها، وفي رواية: تذاكرُ العلم بعض ليلةٍ أحبُّ إليَّ من إحيائها. وقال قتادة: بابٌ من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده، أفضلُ من عبادة حولٍ. وقال الثوري: ليس عملٌ بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. وعنه أيضاً: ما أعلم اليوم شيئاً أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نيَّةٌ! قال: طلبُهم له نيّةٌ. وقال الحسن: من طلب العلم يُريدُ به ما عند الله، كان خيراً له مما طلعتْ عليه الشمسُ. وقال ابن وهب: كنت عند مالكٍ قاعداً أسأله، فرآني أجمع كتبي لأقومَ، قال مالكٌ: أين تُريد؟ قال: قلت: أبادِرُ إلى الصلاة، قال: ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه إذا صحّ فيه النية، أو ما أشبه ذلك. وقال الزهري: ما عُبِدَ الله بمثلِ الفقه.
وقال سفيان الثوري: ما أعلم عملاً أفضل من طلب العلم وحفظه لمن أراد الله به. وقال سفيان في تفسير الجماعة: لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة. وقال الحسن بن صالح: إن الناس يحتاجون إلى هذا في دينهم، كما يحتاجون إلى الطعام والشراب في دنياهم. قال مطرِّفُ بن عبد الله بن الشِّخِّير: حظّ من علم أحبُّ إليَّ من حظٍ من عبادة. وقال الشافعي: طلبُ العلم أفضلُ من صلاة النافلة. انظر شرح السنة 1/ 279 - 280.
فائدة
فائدة: إن العلوم الإسلامية التي ينبغي أن يركز عليها يمكن حصرها في عشرة: أولاً: القرآن وعلومه ويدخل فيه علم التفسير وعلم التلاوة والقراءات. ثانياً: السنة النبوية وعلومها. ثالثاً: الأصول. رابعاً: علوم اللغة العربية. خامساً: العقائد. سادساً: الفقه. سابعاً: الأخلاق والتزكية. ثامناً: علم الأصول الثلاثة وأنظمة الإسلام. تاسعاً: التاريخ الإسلامي وحاضر العالم الإسلامي ويدخل فيه دراسة التآمر على الإسلام والمسلمين. عاشراً: فقه الدعوة في عصرنا. والملاحظ أن بعض هذه العلوم يحظى بالاهتمام وبعضها لا يحظى بذلك وبعض العلوم تعطي بعض حيثياتها حجماً أكبر مما تحتاجه وبعض العلوم لا يحسن اختيار الزاد المناسب فيه. ومما ورد في متن حاشية ابن عابدين في فقه الحنفية ص 34 ج 1 (العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق وهو علم النحو والأصول وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير وعلم نضج واحترق وهو علم الحديث والفقه). ومن الملاحظات على هذه العبارة أنه اعتبر الفقه قد احترق أي من كثرة ما اشتغل به واستجمعت مسائله والأمر ليس كذلك فلا زال هناك جديد وكل جديد يحتاج إلى فقه.
والنقطة المهمة في العبارة وهي صادقة: أن علم الحديث نضج واحترق فلقد تكلم سلف الأمة في التصحيح والتضعيف وتقعيد أصوله بما لا مزيد عليه ونحن نشهد في عصرنا ضجيجاً ضارياً حول هذه الحقيقة ونشهد محاولات وكأنها تريد استئناف النظر في السنة النبوية وتعطي لهذا الموضوع حجماً يغطي على كل العلوم وهذا نوع من الشغب وإثارة الفوضى واستفراغ جهود في غير محلها وصرف للأمة عما ينبغي. إن وجود المحدثين في الأمة فرض كفاية ولا يمكن أن تكون الأمة كلها من طبقة المحدثين. * * *
الفصل الثاني في: الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم
الفصل الثاني في: الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم 34 - * روى البخاري عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمعُ بين الرجلين من قتْلَى أُحُدٍ (يعني في القبر) ثم يقول: "أيهما أكثرُ أخذاً للقرآنِ؟ فإذا أُشير إلى أحدهما قدمهُ في اللحْدِ". 35 - * روى أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مِنْ إجلال الله إكرامه ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المُقْسِطِ". 36 - * روى أحمد عن عبد الله بن بُسْرٍ رضي الله عنه قال: لقد سمعتُ حديثاً منذ زمانٍ: إذا كنت في قومٍ عشرينَ رجلاً أو أقل أو أكثر فتصفحت وجوههُمْ فلم ترَ فيهمْ رجلاً يُهابُ في الله عز وجل فاعلمْ أن الأمر قد رقَّ. 37 - * روى الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البركةُ مع أكابرِكُمْ". 38 - * روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم قال: "ليس منَّا منْ لم يوقِّرِ الكبيرَ، ويرحمِ الصغير، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر".
39 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يبلغُ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا". وفي رواية (1) للترمذي: ويوقر شرف كبيرنا. 40 - * روى أحمد عن عبادة ابن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من أمتي من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعَالِمنا حقه". رواه الطبراني والحاكم (2) إلا أنه قال: ليس منَّا. * * *
الفصل الثالث في: الترهيب من تعلم العلم لغير وجه الله تعالى
الفصل الثالث في: الترهيب من تعلم العلم لغير وجه الله تعالى 41 - * روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تعلَّمَ علماً مما يُبتغى به وجهُ الله تعالى لا يتعلمه إلا ليُصيبَ به عرضاً من الدنيا لم يجدْ عرْفَ الجنَّةِ يوم القيامةِ يعني ريحَها". 42 - * روى ابن ماجه عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلَّمُوا العِلْمَ لتُبَاهُوا به العلماء، ولا تُمارُوا به السُّفهاء، ولا تخيَّرُوا به المجالس، فمنْ فعل ذلك فالنارُ النارُ". وفي رواية (1) بدل (ولا تخيروا به المجالس) قال (ولا لتحدثوا به في المجالس). 43 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوَّلَ الناس يُقْضَى يوم القيامةِ عليه رجلٌ استشهِدَ فأُتي به فعرفَهُ نعمهُ فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدْتُ. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يُقال جرئٌ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلمهُ، وقرأ القرآن، فأُتيَ به فعرفَهُ نعمهُ فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمته، وقرأتُ فيك القرآن. قال: كبت ولكنك تعلمت ليُقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليُقال
قارئٌ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفهُ نعمهُ فعرفها، قال، فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تُحبُّ أنْ يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال: كذبتَ ولكنك فعلت ليُقال هو جوادٌ فقدْ قيلَ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم ألقى في النار". 44 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رفعه: يكونُ في آخر الزمان رجالٌ يخْتِلون الدنيا بالدين، يلبسَون للناس جلودَ الضأن من اللين، ألسنتهُم أحلى من العسل وقلوبهم قلوبُ الذئاب يقولُ اللهُ تعالى أبي تغترون أم علي تجترئون! فبي حلفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنةً تدعُ الحليم منهم حَيرانَ. 45 - * روى الحاكم عن ابن بريدة أن معاوية خرج من حمام حمص فقال لغلامه ائتني لبْستيَّ فلبسهما ثم دخل مسجد حمص فركع ركعتين فلما فرغ إذا هو بناس جلوس فقال لهم ما يجلسكم؟ قالوا صلينا صلاة المكتوبة ثم قص القاص فلما فرغ قعدنا نتذاكر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال معاوية: ما من رجل أدرك النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أقل حديثاً عنه مني إني سأحدثكم بخصلتين حفظتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من رجل يكون على الناس فيقوم على رأسه الراجل يحب أن تكثر الخصوم عنده فيدخل الجنة قال وكنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فدخل المسجد فإذا هو بقوم في المسجد قعود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "ما يقعدكم؟ " قالوا صلينا الصلاة المكتوبة ثم قعدنا نتذاكر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكره". * * *
الفصل الرابع في: الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير
الفصل الرابع في: الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير 46 - * روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مما يلحَقُ المؤمنَ منْ عملِهِ وحسناتِهِ بعدَ موْتِهِ علماً علمَهُ ونشرَهُ، وولداً صالحاً تركهُ، أو مصحفاً ورثَهُ، أو مسجداً بناهُ، أو بيتاً لابن السبيل بناهُ، أو نهراً أجراهُ، أوْ صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقُهُ من بعدِ موتهِ". 47 - * روى مسلم عن أبي مسعودٍ البدريِّ أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستحمِلَهُ فقال: إنهُ قد أُبْدعَ بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائْتِ فُلاناً فأتاهُ فحملَهُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دلَّ على خيرٍ فلهُ مثلُ أجرِ فاعله، أو قال عاملهِ". 48 - * روى ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "ما عندي ما أُعْطيكَهُ، ولكن ائتِ فلاناً" فأتى الرجُلَ فأعطاهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دلَّ على خير فلهُ مثلُ أجرِ فاعلِهِ، أو عَاملِه". الدالُّ على
الخير كفاعله. 49 - * روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منْ دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجُور منْ تبعهُ لا ينقصُ ذلك من أجورهمْ شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئاً". 50 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (1) قال: علمُوا أهليكُمْ الخيرَ. 51 - * روى أبو داود عن سهل بن سعدٍ الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله، لأن يُهْدَى بُهداك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم".
الفصل الخامس في: الترغيب في سماع الحديث وتبليغه
الفصل الخامس في: الترغيب في سماع الحديث وتبليغه 52 - * روى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "نضَّر الله أمرأ سمع منا شيئاً فبلغهُ كما سمعهُ فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامعٍ". 53 - * روى ابن حبان عن زيدٍ بن ثابتٍ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "نضر الله أمرأ سمع منا حديثاً فبلغَهُ غيرهُ فرُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ ثلاثٌ: لا يغُلُّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ وُلاةِ الأمر ولزومُ الجماعةِ، فإن دعوتهُمْ تحُوطُ من وراءهمْ ومنْ كانت الدنيا نيتهُ فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدُّنيا إلا ما كُتب له، ومنْ كانت الآخرةُ نيتهُ جمع الله أمرهُ
وجعل غناه في قلبه، وأتتهُ الدُّنْيا وهي راغمةٌ". قوله: (ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحوط من وراءهم): أول ما يدخل في كلمة لزوم الجماعة هنا حضور صلاة الجماعة فإن دعاء المسلمين ينفعهم وينفع غيرهم. ومما يدخل في لزوم الجماعة التزام أهل السنة والجماعة وعقائدهم وفقههم والبعد عن الشذوذ العقدي والفقهي. أقول: لزوم جماعة المسلمين هنا تفيد لزوم الإمام الراشد ذي العقيدة السليمة والأعمال المستقيمة، فدعوة هؤلاء تحفظ المسلمين من الضياع والضلال. 54 - * روى أحمد عن جُبير بن مُطعِمٍ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف (خيف مني) يقول: "نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لَمْ يسمعها فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حامِ لفقهٍ إلى من هو أفقهُ منهُ. ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهنَّ قلبُ مؤمنٍ، إخلاصُ العمل لله، والنصيحة لأئمةِ المسلمين، ولزومِ جماعتهم، فإنَّ دعوتهُمْ تحفظُ من وراءهُمْ". 55 - * روى أحمد عن أبان بن عثمان رحمه الله قال: خرج زيدُ بن ثابت من عند مروان نصف النهار، قلنا: ما بعث إليه في هذه الساعة إلا لشيء سأله عنه، فقُمْنَا فسألناه؟ فقال: نعم، سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: "نَضَّر اللهُ أمرأً سمع منَّا حديثاً فحفظه حتى يُبلِّغَه غيره، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورُب حامل فقه ليس بفقيه".
56 - * روى الطبراني عن مكحولٍ قال دخلتُ أنا وابنُ أبي زكريا وسليمان بن حبيبٍ على أبي أمامة بحمص فسلمنا عليه فقال: إنَّ مجلسكم هذا من بلاغ الله لكم واحتجاجه عليكم وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغَ فبلَّغُوا. وفي رواية (1) عن سُليم بن عامر قال: عن سُليم بن عامر قال: كنا نجلس إلى أبي أمامة فيحدثنا حديثاً كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سكت قال: أعَقَلْتُمَ بلغُوا كما بُلِّغْتُم. 57 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بلِّغُو عني ولو آيةً، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ مُتعمداً فليتبوَّأْ مقعده من النار". فائدة: قال الطيبي، ولا منافاة بين إذنِه هنا، ونهيه في خبرٍ آخر عن التحديث، وفي آخر عن النظر في كتبهم لأنه أراد هنا: التحديث بقصصهم نحو قتل أنفسهم لتوبتهم، وأراد بالنهي: العمل بالأحكام لنسخها بشرعه أو النهي في صدر الإسلام قبل استقرار الأحكام الدينية، والقواعد الإسلامية، فلما استقرت أُذن لأمن المحذور. ا. هـ. وقال ابن حجر: قوله (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار، وقيل معنى قوله "لا حرج": لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك وقع
لهم كثيراً، وقيل لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولا "حدثوا" صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله "ولا حرج أي في ترك التحديث عنهم. وقيل المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم (اذهب أنت وربك فقاتلا) وقال مالك المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما عُلِم كذبه فلا. وقيل المعنى حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح. وقيل المراد جواز التحدث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذر الاتصال في التحدث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية فإن الأصل في التحدث بها الاتصال، ولا يتعذر ذلك لقرب العهد. وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم وهو نظير قوله "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث مما يقطع بصدقه" ا. هـ ابن حجر. 58 - * روى أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم وإن كان حقاً لم تكذبوه" ويؤيده ما أخرجه البخاري (1). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "كان أهلُ الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم وقولوا (آمنا بالله وما أنزل ...) ". قال البغوي: وهذا أصل في وجوب التوقف عماي شكل من الأمور والعلوم، فلا يُقضى فيه بجواز ولا بُطلان، وعلى هذا كان السلف، وقد سئل عثمان عن الجمع بين الأختين من ملك اليمين؟ قال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، ولم يقضِ فيه بشيء، وقطع علي بتحريمه، وإليه ذهب عامة الفقهاء.
ولو حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو متَّهَم في حديثه، فلا يُصدق، ولا يُعمل به، لأنه دين، ولو حدثه ثقة وفي إسناده رجل مجهول لا يجب العملُ به، ولا يكذبه صريحاً، لأن المجهول قد يكون صالحاً لحديث أهل الكتاب، بل يقول: هو ضعيف ليس بقوي وما أشبهه. شرح السنة 1/ 269. 59 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهُ: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) (1) ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. 60 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدِّثُوا عن بني إسرائيل ولا حرج". 61 - * روى أحمد عن عمران بن حصين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل لا يقوم إلا إلى عُظْمِ صلاة، وفي رواية (2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح ما يقوم إلا إلى عُظْم صلاة.
62 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: تسمعون ويسمعُ منكم، ويُسمع ممن يَسْمَع منكم. 63 - * روى البخاري عن محمود بن الربيع رضي الله عنه قال: "عَقَلْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مَجةً مَجَّها في وجهي من دَلْوٍ من بئر كانت في دارنا، وأنا ابنُ خمس سنين". أقول: يفهم من هذا أن الطفل عنده قابلية للتلقي والحفظ فليبدأ بتعليمه منذ الصغر، ولذلك ترجم البخاري الحديث بقوله: (متى يصح سماع الصغير). 64 - * روى البخاري ومسلم عن سمرة بن جُندُب رضي الله عنه قال: "لقد كنتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وغلاماً، فكنتُ أحفظُ عنه، فما يمنعُني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسنُّ مني، وقد صليتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها". أقول: في لحديث أدب ألا يتصدر الصغار للتعليم بحضرة كبار أهل العلم إلا إذا احتيج إليهم. قال البخاري في صحيحه: (قال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيِّعَ نفسه). قال ابن حجر: ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم. أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم. أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه. وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضاً للدنيا.
الفصل السادس في: الترهيب من الدعوى في العلم والقرآن
الفصل السادس في: الترهيب من الدعوى في العلمِ والقرآنِ 65 - * روى الشيخان عن أُبِّي بن كعبٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قامَ موسى صلى الله عليه وسلم خطيباً في بني إسرائيل فسُئِلَ أيُّ الناس أعلمْ؟ فقال أنا أعْلَمُ فعَتَبَ الله عليه إذْ لمْ يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلمُ منك. قال يا ربِّ كيف به؟ فقيل له احمِلْ حُوتاً في مكتلٍ فإذا فقدتهُ فهو ثَمَّ. [فذكر الحديث في اجتماع بالخضر إلى أنْ قال]: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينةٌ، فمرتْ بهما سفينةٌ فكلمُوهمْ أن يحملوهما فعُرِفَ الخضرُ فحملُوهُما بغير نولٍ فجاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في هذ البحر". فذكر الحديث بطوله. وفي رواية (1): بينما موسى يمشي في ملإٍ من بني إسرائيل إذ جاءهُ رجلٌ، فقال له: هل تعلمُ أحداً أعلمُ منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى بل عبدنا الخضرُ، فسأل موسى السبيل إليه. 66 - * روى البزار عن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يظهرُ الإسلامُ حتى تختلفَ التُّجَّارُ في البحر، وحتى تخُوضَ الخَيْلُ في سبيل الله، ثم يظهرُ قومٌ يقرؤون القرآن يقولون من أقرأُ منَّا؟ منْ أعلمُ منا؟ من أفقه منا؟ " ثم قال لأصحابه: "هلْ في أولئك من خيرٍ؟ " قالوا: اللهُ
ورسوله أعلمُ. قال: "أولئك منكمُ من هذه الأمة وأولئك هم وقودُ النار". 67 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال: "اللهم هل بلغتُ (ثلاث مرات) " فقام عمر بن الخطاب، وكان أواهاً، فقال: اللهم نعم، وحضت وجهدت ونصحت، فقال: "ليطهرن الإيمان حتى يُرد الكفر إلى مواطنه، ولتُخاضَّنَّ البحارُ بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن يتعلمونه ويقرؤونه، ثم يقولون قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خيرٌ منا، فهل في أولئك من خيرٍ؟ " قالوا يا رسول الله: من أولئك؟ قال: "أولئك منكمْ، وأولئك هم وقود النار".
الفصل السابع في الترهيب من كتم العلم
الفصل السابع في الترهيب من كتم العلم 68 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ سُئل عن علمٍ فكتمهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نارٍ". وفي رواية (1) لابن ماجه قال: "ما مِنْ رجلٍ يحفظُ علمنا فيكتمُهُ إلا أتى يوم القيامة ملجُوماً بلجامٍ من نارٍ". 69 - * روى ابن حبان عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كتم علماً ألْجَمَهُ الله يوم القيامةِ بلجامٍ من نارٍ". 70 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سُئِلَ عن علمٍ فكتمهُ جاء يوْمَ القيامة مُلْجماً بلجامٍ منْ نارٍ". قال ابن الأثير (بلجام من نار) المُمْسِك عن الكلام ممثَّل بمن ألجم نفسه بلجام، والمعنى: أن الملجم نفسه عن قول الحق والإخبار عن العلم يُعاقب في الآخرة بلجام من نار، وذلك في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعين عليه فَرْضه، كمن رأى كافراً يريد الإسلام،
فيقول: علَّموني ما الإسلام، وما الدين؟ وكمن يرى رجلاً حديث عهد بالإسلام، ولا يُحسن الصلاة وقد حضر وقتُها، يقول: علموني كيف أصلي؟ وكمن جاء مُستفتيا في حلال أو حرام يقول: أفتوني، أرشدوني، فإنه يلزم في مثل ذلك أن يُعَرَّف الجواب: فمن منعه استحق الوعيد، (أقول: وكذلك في كل ما يجب بيانه وتعين على إنسان بعينه) وليس الأمر كذلك في نوافل العلم التي لا يلزم تعليمها. قال سفيان الثوري: ذاك إذا كتم سنة، وقال: لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم ولو أني أعلم أحداً يطلب الحديث بنية لأتيته في منزله حتى أحدثه. ومنهم من يقول إنه علم الشهادة. 71 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنكم تقولون: إن أبا هريرة يُكثِرُ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما بالُ المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغَلُهم الصَّفْقُ بالأسواق، وكنتُ ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهدُ إذا غابوا، وأحفظُ إذا نسُوا، وكان يشغل إخواني من الأنصار عملُ أموالهم، وكنت امرأ مسكيناً من مساكين الصُّفَّة، أعي حين ينسوْنَ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يُحدِّثه: "أنه لن يَبْسُط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعي ما أقول"ن فبسطتُ نمرةً عليَّ، حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتُها إلى صدري، فما نسيتُ من مقالة رسول الله صلى الله عليه تلك من شيءٍ. وفي رواية (1): قال أبو هريرة. وذكر نحوه، وفي آخره "ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه
ما حدثت شيئاً أبداً (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (1). وفي أخرى (2) نحوه، مع ذكر الآيتين. وفي آخره "فما نسيتُ شيئاً سمعتُه منه". 72 - * روى البخاري عن أبي هريرة قال: قلت لرسول الله: إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساهُ، قال: "ابسُطْ رداءك، فبسطتُه، فغرف بيده، ثم قال: ضُمَّه، فضممْته، فما نسيت شيئاً بعدُ". وفي أخرى (3) لهما قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، والله الموعدُ، وما كنتُ لأكذب على رسول الله صلى الله علي وسلم كي تهتدُوا وأضِلَّ، ولولا آيتان في كتاب الله عز وجل ما حدثتُ حديثاً، ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ...) إلى قوله (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). 73 - * روى البخاري إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلُهم الصَّفقُ بالأسواق، والأناصر كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبَعِ بطنه، ويحضر مالا يحضُرون، ويحفظُ مالا يحفظون ... الحديث. 74 - * روى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل
الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه". يجب على العالم أن يُعَلَّمَ وأن يعمل فإذا قصر في التعليم والعمل كان مقصراً مرتين وإذا عمل أحدهما كان مقصراً مرة. فإذا كان تقصيره في فريضة متعينة عليه استحق بذلك العذاب إلا أن يعفو الله عز وجل أما العالم المنافق فيكفيه نفاقه يوبقه. 75 - * روى البخار يعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدها: فبثثته فيكم، وأما الآخر: فلو بثثته قُطع هذا البُلْعُوم". أقول: في الحديث إشارة إلى أن ما كل ما يُعلم يقال: فبعض العلم لا يجب الكلام فيه. 76 - * روى البخار يعن أبي ذرٍّ الغِفاري رضي الله عنه قال: "لو وضعتم الصَّمْصامَة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننتُ أني أُنْفِذُ كلمةً سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذْتُها". قال الحافظ في "الفتح": هذا التعليق رويناه موصولاً في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي، حدثني أبو كثير يعني مالك بن مرثد عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فآتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنه عن الفتيا، فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟ ل وضعتم ... فذكر مثله، ورويناه في "الحلية" من هذا الوجه. أقول: هذا دليل على أن نشر العلم الشرعي مأذون به من الشارع ولا يحتاج إلى إذن من أحد.
الفصل الثامن في وجوب التعلم والتعلم
الفصل الثامن في وجوب التعلّم والتعلم 77 - * روى الطبراني عن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى عن أبيه عن جدهِ قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً، ثم قال: "ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهُون جيرانهُمْ، ولا يُعَلِّمُونهُم، ولا يعطونهُمْ، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوامٍ لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتعظون. والله ليُعَلِّمَنَّ قومٌ جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قومٌ من جيرانهِم، ويتفقهون، ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة"، ثم نزل فقال: "قومٌ من ترونهُ عني بهؤلاءِ؟ " قال: "الأشعريين هم قومٌ فقهاء، ولهم جيرانٌ جٌفاةٌ من أهل المياه والأعرابِ". فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذكرت قوماً بخيرٍ، وذكرتنا بشرٌّ فما بالنا؟ فقال: "ليُعَلِّمَنَّ قومٌ جيرانهم، وليعظنهم، وليأمرنَّهُم، ولينهونهم، وليتعلمن قومٌ من جيرانهم، ويتعظون ويتفقهون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا"، فقالوا: يا رسول الله أنُفَطِّنُ غيرنا فأعاد قوله عليهم فأعادوا قولهم، أنفط غيرنا. فقال ذلك أيضاً، فقالوا أمهلنا سنة فأملهم سنة ليفقهوهم، ويعلموهم، ويعظوهم"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (ٹ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (1) الآية. أقول: هذا الحديث نص في فرضية التعلم، والتفقه، وهو أصل أصيل في إلزامية التعليم الشرعي وعلى هذا فالمسلمون مكلفون أن ينظموا عملية إيصال العلوم الشرعية المطلوبة إلى
كل رجل وامرأة وأن يهيئوا كل ما يلزم لذلك، وفي الحديث دليل على أن شر العلم وجلسات الوعظ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير واجبةً على المسلمين. * * *
الفصل التاسع في الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ويقول ولا يفعله
الفصل التاسع في الترهيب من أن يَعْلم ولا يعمل بعلمه ويقول ولا يفعله 78 - * روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهُمَّ إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبعُ، ومنْ دعوةٍ لا يُستجابُ لها". 79 - *روى الشيخان عن أسامة بن زيدٍ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُجاءُ بالرجل يوم القيامة فيُلْقى في النار فتندلقُ أقتابُهُ فيدور بها كما يدور الحمار برحاهُ، فتجتمعُ أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه. قال وإني سمعته يقول: "يعني النبي صلى الله عليه وسلم- "مررتُ ليلة أُسري بي بأقوام تُقْرَضُ شفاههم بمقاريض من نارٍ، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال خطباء أمتك الذين يقولون مالا يفعلون". 80 - * روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يُسأل عن عمرهِ فيم أفناهُ، وعن علمِه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاهُ؟ ". 81 - * روى الترمذي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمسٍ: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وما عمل فيما علمَ؟ ". 82 - * روى الطبراني عن جُندب بن عبد الله الأزدي رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلُ الذي يُعَلِّمُ الناس الخيرَ وينسى نفسه كمثل السراج يضيءُ للناس ويحرقُ نفسهُ". 83 - * روى أحمد عن عمرا نبن حُصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكم بعدي كل منافقٍ عليم اللسانِ". ومما يستأنس به في هذا المقام. عن مالك بن دينار عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما مِنْ عبدٍ يخطبُ خطبةً إلا الله عز وجل سائلهُ عنها" أظنه قال: ما أرادبها. قال جعفر: كان مالكُ بن دينارٍ إذا حدث بهذا الحديث بكى حتى ينقطع، ثم يقول: تحسبُونَ أن عيني تقرُّ بكلامي عليكمْ، وأنا أعلمُ أن الله عز وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به؟. رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرسلاً بإسناد جيد [ترغيب]. وعن لقمان يعني ابْنَ عامرٍ قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إنما أخشى من ربي يوم القيامة أنْ يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي يا عويمرُ فأقولُ لبيك ربِّ، فيقول ما عملت فيما علمت؟. رواه البيهقي (ترغيب، وعليه إشارة الحسن). * * *
الفصل العاشر في الترهيب من المراء والجدال والمخاصمة والمحاججة والقهر والغلبة
الفصل العاشر في الترهيب من المراء والجدال والمخاصمة والمحاججة والقهر والغلبة 84 - * روى أبو داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". 85 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ ترك الكذب وهو باطلٌ بُني له في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محقٌّ بُني له في وسطها، ومن حسن خلقه بُني له في أعلاها". 86 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضلَّ قومٌ بعد هُدىً كانوا عليه إلا أوُتوا الجدل" ثم قرأ: (ما ضربوه لك إلا جدلا) (1). 87 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصمُ". أقول: إن المسلم مطالب بإقامة الحجة وهو ما دام في حدود إقامة الحجة من أجل
الإسلام أو من أجل تأكيد حق أو دفع باطل أو شبهة أو بدعة فإنه مأجور، وقد تكون إقامة الحجة في حق بعض الناس فريضة عينية والمذموم هو ما تجاوز إقامة الحجة، فالله عز وجل نهانا أن نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن قال تعالى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1) فإذا كان هذا مطلوباً في مجادلة أهل الكتاب فمن باب أولى غيرهم، وكثيراً ما يغيب عن الجدال حسن النية، وأحياناً يرافقه غضب وحدة وشدة وإيذاء وتجاوز للحق إلى الباطل، وهذه كلها تنتفي إذا تأدب الإنسان بآداب الشرع فاكتفى بالقدر الذي يحتاجه إحقاق الحق وإبطال الباطل أما الجدال الدنيوي فمهما تساهل الإنسان في حقه الشخصي فيه فذلك من مكارم الأخلاق. 88 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: هجرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آيةٍ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ في وجهه الغضبُ، فقال: "إنما هلك منْ كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". 89 - * روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون، قال الرمادي: يتماروْنَ، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربُوا كتاب الله بعضه ببعضٍ، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يُصَدِّقُ بعضه بعضاً، فلا تُكذبوا بعضه ببعضٍ، فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم فكْلِوهُ إلى عالمه".
90 - * روى أحمد عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المِرَاءُ في القرآن كُفْرٌ". واختلفوا في تأويله، ف قيل: معنى المراء: الشك، كقوله سبحانه وتعالى: (فلا تكن في مرية) (1) أي: في شكٍّ، وقيل: المراء: هو الجدال المشكك، وذلك أنه إذا جادل فيه، أدّاه إلى أن يرتاب في الآي المتشابهة منه، فيؤديه ذلك إلى الجحود، فسماه كفراً باسم ما يُخشى من عاقبته إلا من عصمه الله. وتأوَّله بعضهم على المراء في قراءته، وهو أن يُنكرَ بعض القراءات المروية، وقد أنزل الله القرآن على سبعة أحرُفٍ، فتوَّعدهم بالكفر لينتهوا عن المراء فيها، والتكذيب بها، إذ كلُّها قرآنٌ منزلٌ يجب الإيمان به. وكان أبو العالية الرِّياحي إذا قرأ عنده إنسانٌ لم يقل: ليس هو كذا، ولكن يقول: أما أنا فأقرأ هكذا قال: شُعيب بن أبي الحبحاب: فذكرتُ ذلك لإبراهيم، فقال: أرى صاحبك قد سمع أنه من كفر بحرفٍ، فقد كفر بكُلِّه. شرح السنة (1/ 261 - 263).
الفصل الحادي عشر في بعض آداب التعليم والتعلم
الفصل الحادي عشر في بعض آداب التعليم والتعلم 1 - التَّخَوُّلُ بالموعظةِ: 91 - * روى الشيخان عن شقيق بن سلمة قال: كان عبدُ الله بن مسعود يُذكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، لوددْتُ أنك ذكرتَنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكْرَه أن أُمِلَّكم، وإني أتَخُوَّلُكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلُنَا بها مخافة السآمةِ علينا". واختصره الترمذي (1) والبخاري أيضاً قال: قال عبد الله. "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا". وفي رواية (2) قال: "كنا نَنْتَظِرُ خُروج عبد الله، إذ جاءنا يزيدُ بن معاوية الكوفي النخعي، فقلنا: ألا تجلسُ؟ فقال: لا، ولكن أنا أدخُل، فأُخرجُ لكم صاحبكم، وإلا جئتُ فجلستُ، فدخل فخرج به وأخذ بيده، فقام عبد الله علينا، فقال: أما إني أخبرُ بمكانكم، ولكنه يمنعني من الخروج إليكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا". أقول: هناك موعظة وهناك تعليم فمجالس الوعظ يلاحظ فيها حال الناس وإقبالهم وفراغهم واستعدادهم أما إعطاء العلم لأهله والراغبين فيه فهذا كان دائماً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء الربانيين.
2 - في أدب السؤال والاختبار
روى البخاري عن عكرمةُ أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدِّثِ الناس مرةً في الجمعة، فإن أبَيْتَ فمرتين، فإن أكثرت فثلاثاً، ولا تُملَّ الناس هذا القرآن، ولا ألفيناك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقُصَّ عليهم، فتقْطَع عليهم حديثهم، فتُمِلَّهم، ولكن أنصبت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجعَ من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك. قال ابن مسعود: حدِّث القوم ما حدَجُوك بأبصارهم وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، قيل وما علامة ذلك؟ قال: إذا التفت بعضهم إلى بعض ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم. وقوله حدجُوك: أي رموك بأبصارهم، يشتهون حديثك. شرح السنة 1/ 313. 2 - في أدب السؤال والاختبار: 92 - * روى البخاري عن ابن عمر كنا عند الني صلى الله عليه وسلم فقال "أخبروني بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقُا ولا ولا ولا ولله تؤتي أكلها كلَّ حينٍ" فوقع في نفسي أنها النخلةُ، ورأيتُ أبا بكرٍ وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال صلى الله عليه وسلم: "هي النخلةُ". فلما قمنا، قلتُ لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلةُ فقال ما منعك أن تتكلم؟ قال: لم أركم تكَلَّمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً فقال عمر لئن كنت قُلتها أحبُّ إليَّ من كذا وكذا. ومن روايته (1) فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة. - ومنها (2): بينا نحن عنده صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بجُمَّار نخلة فقال: "إن من
الشجر شجرةً لها بركةٌ كبركة المسلمِ"، فظننت أنه يعني النخلة فأردتُ أن أقول هي الخلةُ، فنظرت فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثُهم. فسكتُ فقال: "فقال: "هي النخلةُ". في دليل على أنه يجوز للعالم أن يطرح على أصحابه ما يختبرُ به علمهم. أما ما رُوي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلُوطاتِ فقال الأوزاعي: هي شرار المسائل، فمعناه: أن يقابل العالِمُ بصعاب المسائل التي يكثُرُ فيها الغلطُ، ليُسْتَزَلَّ ويُستسْقط فيها رأيُه. وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أنذرتكم صِعابَ المنطق. يريد المسائل الدقاق والغوامض. وإنما نهي عنها، لأنها غير نافعة في الدين، ولا يكاد يكون إلا فيما لا يقع أبداً. ويُكره للرجل أن يتكلف بسؤال ما لا حاجة به إليه، فإن دعتِ الحاجة إليه، فلا بأس، كما روي أن عمر أراد إظهار فضل عبد الله بن عباس على القوم، فسألهم عن قول الله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح) قال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نُصرنا وفُتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لابن عباس ما تقول؟ قال: قلت: أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمَهُ الله تعالى له، قال عمر، ما أعلمُ منها إلا ما تعلم. وروى أن رجلاً سأل أُبيَّ بن كعب عن مسألةٍ فيها غموضٌ، فقال: هل كان هذا؟ قال: لا، قال: فأمهلني إلى أن يكون. شرح السنة 1/ 308. 93 - * روى الشيخان عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظمُ المسلمينَ في المسلمينَ جُرماً من سأل عن شيءٍ لم يكنُ حُرِّمَ، فحُرِّمَ من أجل مسألته". قال البغوي: المسألة وجهان. أحدهما: ما كان على وجه التبيُّنِ والتعلم فيما يُحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز مأمور به، قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [النحل: 43] وقال الله تعالى: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) [يونس: 94] وقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل، فأنزل الله سبحانه وتعالى بيانها في كتابه، كما قال الله عز وجل: (ے ےيسألونك عن الأهلة) [البقرة: 189] (ويسألونك عن المحيض) [البقرة: 222] (يسألونك عن الأنفال) [الأنفال: 1]. والوجه الآخر: ما كان على وجه التكلُّفِ، فهو منكروه، فسكوت صاحب الشرع عن الجواب في مثل هذا زجرٌ وردع للسائل، فإذا وقع الجوابُ، كان عقوبة وتغليظاً. والمراد من الحديث هذا النوعُ من السؤال، وقد شدد بنو إسرائيل على أنفسهم بالسؤال عن وصفِ البقرة مع وقوع الغُنيةِ عنه بالبيان المتقدم، فشدد الله عليهم. قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عُبيد بن عمير، قال: إن الله أحل حلالاً، وحرم حراماً، فما أحل، فهو حلال، وما حرم، فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفوٌ. قال سفيان: يريد قوله سبحانه وتعالى: (لا تسألوا عن أشياء) [المائدة: 101]. وروى عن ابن عمر أنه سُئل عن شيء، فقال: لا أدري، ثم قال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جُسوراً لكم في نار جهنم أن تقولوا: أفتانا ابنُ عمر بهذا. شرح السنة 1/ 310. أقول: كان هذا في زمن النبوة أما الآن فلم يعد هناك تشريع مستقل إلا أننا نأخذ من الحديث أدباً: أن الإنسان في حياته العملية لا يكثر من سؤال من تلزم طاعته ولا يثير من المسائل أمام الأمراء ما يترتب عليه مشقة لنفسه أو للناس.
94 - * روى الحاكم عن شعبة عن زياد بن عِلاقةَ سَمع أسامة بن شيكٍ قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عنده كأن على رؤوسهم الطير، فسلمتُ وقعدتُ فجاء أعراب يسألونه حتى قالوا: أنتداوى؟ قال: "تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواءً". فسألوه عن أشياء. فقال: "عباد الله، وضع الله الحرج إلا امرؤٌ افترض أمراً ظلماً فلك حرجٌ وهُلْكٌ" قالوا ما خيرُ ما أُعطي الناسُ؟ قال: "خُلُقٌ حسنٌ". 95 - * روى الشيخان أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه كتب إلى معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان ينهى عن قِيلَ وقال، وإضاعة المال. وكثرة السُّؤال". أقول: كثرة السؤال فيما لا يعني هي المنهي عنها أما فيما يعني فهي مطلوبة. وكذلك يه مطلوبة من طالب العلم، فطالب العلم لا يصل إلى حقيقة العلم إلا بلسان سؤول وقلب عقول. 96 - * روى الطبراني عن أبي فراس رجل من أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم "سلوني عما شئتُم". فقال رجل يا رسول الله: من أبي؟ قال: "أبوك فلان الذي تُدعى إليه". وسأله رجل: في الجنة أنا؟ قال: "في الجنة". وسأله رجل في الجنة أنا؟ قال: "في النار". فقال عمر: رضينا بالله ربا. أٌول: من مجموع الروايات لهذا الحديث ومن قول عمر ي حديث آخر: رضينا بالله رباً نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سلوني عما شئتم في حالة غضب" فكان
إنكاراً على السائلين، يفهم من ذلك أن السائل عليه أن يتخير لسؤاله من الأحوال ما هو مناسب. 97 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالقُ كل شيء، فمن خلق الله؟ " وفي رواية (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إن أُمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خالقُ الخلق؛ فمن خلق الله عز وجل؟ ". وفي رواية عن أبي هريرة (2) رفعه: "لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله"، قال أبو هريرة وهو آخذ بيد رجل صدق الله ورسوله سألني اثنان وهذا ثالث. وفي رواية (3) يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ. 98 - * ولأبي داود نحوه وقال "فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ من الشيطان". وفي أخرى (4): "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلقُ الله فمن خلقَ الله فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ورسله".
قال العلماء: هذا إذا لم تغلب الشبهة على قلبه وتفلسف له وإلا وجب عليه سؤال أهل العلم لكشف تلك الشبهة وإزالتها ووجب على العالم الإجابة لأنه علم واجب. (وهبي). 99 - * روى الدارمي عن سليمان بن يسار إن رجلاً قدم المدينة فجعل يسألُ عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمرُ وقد أعدَّ له عُرجوناً، فقال من أنت! قال أنا عبدُ الله صَبيغ فأخذ عمر العرجون وقال أنا عبد الله عمر، فجعل يضربُه حتى دميَ رأسهُ فقال يا أمير المؤمنين حسبُك قد ذهب الذي كنت أجدُ في رأسي. قال الشوكاني في فصل المحكم والمتشابه من القرآن: اعلم أنه لا اختلاف في وقوع النوعين فيه لقوله سبحانه - منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات - واختلف في تعريفهما فقيل المحكم ما له دلالة واضحة والمتشابه ماله دلالة غير واضحة فيدخل في المتشابه المجمل والمشترك، وقيل في المحكم هو متضح المعنى وفي المتشابه هو غير المتضح المعنى وهو كالأول ويندرج في المتشابه ما تقدم. والفرق بينهما أنه جعل في التعريف الأول الاتضاح وعدمه للدلالة، وفي الثاني لنفس المعنى. وقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، وقيل المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل أوجها، وقيل المحكم الفرائض والوعد والعيد والمتشابه القصص والأمثال، وقيل المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، وقيل المحكم هو معقول المعنى والمتشابه هو غير معقول المعنى، وقيل غير ذلك. اهـ إرشاد الفحول. وقال بعضهم: المحكم: ما حمل على معناه الراجح بحسب وضعه في اللغة. والمتشابه: ما حمل على معناه المرجوح، لقيام الدليل العقلي على استحالة المراد بظاهره الراجح، حتى احتاج إلى تأويل. انظر متشابه القرآن لزرزور ص 15 فما بعدها. واختلافهم في تعريف المتشابه يعود إلى اختلافهم في الآيات المتشابهة وما يدخل فيه وما لا يدخل. قال البغوي:
وقيل: المحكم: هو الذي يُعرف بظاهره معناه (1). وأما المتشابه، ففيه أقاويل، أحدها ما قال الخطابيُّ وجماعةٌ: ما اشتبه منه، فلم يُتَلقَّ معناه من لفظه، وذلك عن ضربين. أحدهما: إذا رُدّ إلى المحكم عُرف معناه، والآخر: مالا سبيل إلى معرفة كُنهه، والوقوف على حقيقته، ولا يعلمه إلا الله، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ يبتغون تأويله، كالإيمان بالقدر والمشيئة، وعلم الصفات ونحوها مما لا نُتَعبَّدْ به، ولم يُكشف لنا عن سره، فالمتبع لها مُبتَغٍ للفتنة، لأنه لا ينتهي منه إلى حدٍّ تسكن إليه نفسه، والفتنة: الغلوُّ في التأويل المظلم. شرح السنة 1/ 222. 100 - * "روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم". روى الحاكم عن الأعمش عن شقيقٍ عن عبد الله قال: لقد سألني رجلٌ عن شيء ما أدري ما أقول؟ قال: أرأيت رجلاً مؤدباً نشيطاً حريصاً على الجهاد يقولُ يعزِمُ علينا أمراؤنا أشياء لا نُحصيها فقلتُ والله ما أدري ما أقول لك إلا أنا كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله لا يأمرنا بشيءٍ إلا فعلناه وما أشبهُ ما غَبرَ من الدنيا إلا كالثَّغْب شُربَ صفْوُه وبقي كدرُهُ وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله، وإذا حاك في نفسه شيء أتى رجلاً فسأله فشفاه، وايمُ الله ليشوكن أن لا يجدوه. روى الدارمي عن ابن مسعود وقد سُئل عن شيءٍ فقال ابن مسعود للسائل: "ما سألتمونا عن شيءٍ من كتاب الله أو سُنةِ نبيه أخبرناكم ولا طاقة لنا بما أحدثتم".
3 - في حسن التلقي والإلقاء والمدارسة
3 - في حسن التلقي والإلقاء والمدارسة: 101 - * روى البخار يعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكذبَ الله ورسوله؟ " 102 - * روى لبخاري عن عبد الله بن أبي مُليكة "أن عائشة رضي الله عنها كانت لا تسمع شيئاً لا تفهمه إلا راجعتْ فيه حتى تفهمه". 103 - * روى الطبراني عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً لكي يُفهم عنه. 104 - * روى أحمد عن أبي أُمامة قال: قال فتى من قيش: يا رسول الله ائذنْ لي في الزنى فأقبل القوم عليه وزجروه فقال: "ادْنُه" فدنا. فقال: "أتحبه لأمِّك؟ " قال لا والله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناسُ يحبونه لأمهاتهم". ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته في كل ذلك يقول: "أتحبُه لكذا؟ " فيقول لا والله، جعلني الله فداك. فيقول صلى الله عليه وسلم "ولا الناسُ يحبونه، فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهِّرْ قلبه وحصِّنْ فرجه"، فلم يكن بعد ذلك يلتفتُ إلى شيء. 105 - * روى الطبراني في الوسط عن ابن عمر قال: لقد عشت برهة من دهري وإن أحدنا يُؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورةُ على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلمُ حلالها وحرامها وما ينبغي أن نقف عنده منها كما تعلمون أنتم القرآن ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأُ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجرهُ وما ينبغي أن يقف عنده وينثره نَثْرَ الدَّقَلِ.
4 - في مجال العلم والعلماء وأدبهما
106 - * روى الطبراني عن فضالة بن عبيد كان إذا أتاه أصحابه قال: تدارسوا وانشروا وزيدوا زادكم الله خيراً وأحبّكم وأحبَّ منْ يحبُّكم، رُدوا علينا المسائل فن أجر آخرها كأجر أولها واخلطوا حديثكم بالاستغفار. 107 - * روى الطبراني عن أبي نضرة (1) كان أبو سعيد يقول: تحدثوا فإن الحديث يُذكر بعضه بعضاً. 108 - * روى الحاكم عن علي: "تذاكروا الحديث فإنكم إن لا تفعلوا يندَرِس". 109 - * روى الحاكم عن عبد الله: "تذاكروا الحديث فإن ذكر الحديث حياته". 110 - * روى الدارمي عن كثير بن مُرة قال: "لا تحدث الباطل للحكماء فيمقتُوك ولا تحدث الحكمة للسفهاء فيكذبوك، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تضعْه في غير أهله فتجهل، إن عليك في علمك حقاً كما أن عليك في مالك حقاً". 4 - في مجال العلم والعلماء وأدبهما: 111 - * روى الحاكم عن أبي سعيد قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلسوا كان حديثهم يعني الفقه إلا أنْ يقرأ رجل سورة أو يأمر رجلاً بقراءة سورةٍ. 112 - * روى الحاكم عن يزيد بن عميرة أن معاذ بن جبلٍ لما حضرته الوفاةُ قالوا يا أبا عبد الرحمن أوصنا، قال: أجلسوني ثم قال إن العلم والإيمان مكانهما من التمسهما وجدهما قال: ذلك ثلاث مرات فالتمسوا العلم عند أربعةِ رهط: عند عويمر، أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند ابن مسعود وعند عبد الله بن سلام فإني سمعتُ رسول الله صلى
5 - من الأدب عدم التكلف
الله عليه وآله وسلم يقول: "إنه عاشرُ عشرةٍ في الجنة". أقول: في الأثر للبحث عمن هم مظنة الإيمان والعلم ليأخذ المسلم علمه منهم. 113 - * روى الحاكم عن بريدة قال: كنا إذا قعدنا عد رسول الله صلى الله عليه سلم لم نرفعْ رؤوسنا إليه إعظاماً له. 114 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن قُرط قال: دخلتُ المسجد فإذا حلقة كأنما قطعتْ رؤوسُهم وإذا رجل يحدثهم فإذا هو حذيفة قال: كان الناسُ يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخيرِ وكنتُ أسألهُ عن الشر ... الحديث. أردنا منه أوله. 115 - * عن الحاكم أيضاً عن سلمان أنه كان في عصابةٍ يذكرون الله فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء نحوهم قاصداً حتى دنا منهم، فكفوا عن الحديث إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ما كنتم تقولون؟ فإني رأيتُ الرحمة تنزلُ عليكم فأحببتُ أن أشارككم فيها". 116 - * روى الحاكم عن جابر: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، قال أولي الفقه والخير". وورد أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وأولي الأمر منكم، يعني أهل الفقه والدين أوجب الله طاعتهم. 5 - من الأدب عدم التكلف: 117 - * روى البخاري عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "كنت عند عُمر،
6 - في الاقتداء
فسمعته يقول: نُهينا عن التكلُّفِ". ويدخل في ذلك عدم التقعر في الكلام، وعدم التكلف للوعظ ولا يعني ذلك عدم التحضير. 6 - في الاقتداء: 118 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: لا يُقلدنَّ أحدكم دينه رجلاً فإن آمن آمن وإن كفر كفر وإن كنتم لابد مقتدين فاقتدوا بالميت فإن الحيَّ لا يؤمنُ عليه الفتنةُ, 7 - من آداب أهل العلم، التواضع والخوف من الله: 119 - * روى الدارمي عن عاصم بن ضمرة أنه رأى أناساً يتبعون سعيد بن جبير قال: فأراه قال نهاهم، وقال: إن صُنْعَكُم هذا أو مشيكُم هذا مذلةٌ للتابع، وفتنةٌ للمتبوع. 120 - * روى الدارمي عن بسطام بن مسلم قال: كان محمد بن سيرين إذا مشى معه الرجل قام فقال: ألك حاجةٌ؟ فإن كنت له حاجة قضاها، وإن عاد يمشي معه قام فقال ألك حاجةً؟ 121 - * روى الدارمي عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن تُوطأ أعقابُهم. 122 - * روى الدارمي عن الحسن: أن ابن مسعودٍ كان يمشي والناس يطؤون عقبهُ فقال: لا تطؤوا عقبي فوالله لو تعلمون ما أغلقُ عليه بابي ما تبعني رجلٌ منكم.
8 - في العلم بالسنن وآداب الرواية
123 - * روى الدارمي عن صالح قال سمعت الشعبي قال: وددْتُ أني نجوتُ من علمي كفافاً لا لي ولا علي (1). 124 - * روى الدارمي عن علي قال إن الفقيه حق الفقيه من لم يُقنط الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من عذاب الله ولا يُرخص لهم في معاصي الله أنه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا خير في علمٍ لا فهم فيه ولا خير في قراءة لا تدبر فيها. 8 - في العلم بالسنن وآداب الرواية: 125 - * روى الطبراني عن حُميدٍ قال كنا مع أنس بن مالك فقال: والله ما كل ما نحدِّثُكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه ولكن لم يكن يُكذب بعضنا بعضاً. 126 - * أخرج الحاكم عن البراء قال ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ فيحدِّث الشاهد الغائب. أقول: هذا أصل في أن الصحابة عدول لا تضر جهالتهم. 127 - * روى أحمد عن البراء قال ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابُه عنه كانت تشغلنا عنه رِعْيةُ الإبل. 128 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال لا يزالُ الناسُ صالحين متماسكين ما أتاهم
العلمُ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا. أقول: هذا أصل في الحرص على الرواية عن الأكابر لأنهم يعرفون كيف يضعون الأمور في مواضعها والنصوص في محالها ويعرفون الدقائق والحقائق والأسباب المؤثرة في الفتوى. 129 - * روى أحمد عن أبي حُميد وأبي أُسيد رفعاه: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفُه قلوبُكم وتلينُ له أشعاركم وأبشارُكم وترون أنه منكم قريبٌ فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفرُ أشعارُكم وأبشارُكم منه وترون أنه منكم بعيدٌ فأنا أبعدكم منه". أقول: هذا الحديث أصل في التفتيش عن علل الحديث الذي أصبح علماً برأسه، ولكن هذا لا يستطيعه إلا الأئمة الذين أحاطوا بالسنة رواية ودراية، أو الأئمة المجتهدون الذين أحاطوا بالشريعة رواية ودراية، ولا يصح أن يدَّعي هذا المقام أحد إذا لم يكن من مثل ما ذكرناه، فإنه إن فعل فذلك باب من أبواب الضلال العريض، فقد قالوا إن منكرَ الحديث الصحيح فاسق ومنكِرَ المتواتر كافر، فلا يؤمن على أحد يتكلم بدون علم إثباتاً أو نفياً لصحة حديث أو لقبول حديث موضوع أن يدخل في دائرة الفسوق أو الضلال أو الكفر. 130 - * روى مسلم عن مجاهد رحمه الله قال: جاء بُشير العدويُّ إلى ابن عباس رضي الله عنه، فجعل يُحدِّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] وجعل ابنُ عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال بُشيرٌ: يا ابن عباس مالي لا أراك تسمعُ لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرةً إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرتْهُ أبصارُنا، وأصْغَيْنَا إليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصعبَةَ والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفُ".
وفي رواية (1) "فأما إذْ ركبتم كل صعبةٍ وذلولٍ، فهيهات". 131 - * روى مسلم عن عبد الله بن أبي مُليكة قال: "كتبتُ إلى ابن عباسٍ، أسأله أن يكتُب لي كتاباً، ولا يُخفي عليَّ، فقال: ولدٌ ناصحٌ، أنا أختارُ له الأمور اختياراً، وأخفي عنه؟ قال: فدعا بقضاء علي بن أبي طالب، فجعل يكتب منه أشياء، [ويمرُّ به الشيء، فيقول: والله ما قضى بهذا عليٌّ، إلا أن يكون ضلَّ] ". وفي أخرى (2) قال: "أتيتُ ابن عباسٍ أسأله أن يكتب لي كتاباً، ولا يخفي عليَّ، فأتى ابن عباس بكتابٍ، يزعُم الذي معه: أنه من قضاء عليٍّ، فأكذب ابن عباس الذي هو معه، ومحاهُ إلا قدر - وأشار سفيان بذراعه". زاد في رواية وقال: ما قضى بهذا عليٌّ قطُّ. أقول: هذا الأثر والذي قبله أصلان في التحقيق والتدقيق والتثبت الذي ينبغي أن يكون عليه أهل العلم. 132 - * روى ابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قلت لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَبُرْنا ونسينا" والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد. 133 - * روى ابن ماجه عن عمرو بن ميمون قال: ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه فما سمعته يقول لشيء قط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكس فنظرت إليه وهو قائم محللة أزرار قميصه قد أغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه، قال أوْ دون ذلك أو فوق ذلك أو قريباً من ذلك أو شبيهاً بذلك.
134 - * روى الطبراني عن أبي إدريس الخولاني قال رأيتُ أبا الدرداء إذا فرغ من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا أو نحوه أو شكله. أقول: هذه أصول في الاحتراس إذا حدث الإنسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 135 - * روى أحمد عن عليّ إذا حدثتكم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا به الذي هو أهياه وأهداه وأتقاه. 136 - * روى الدارمي عن قرظة بن كعبٍ قال بعثنا عمر إلى الكوفة وشيعنا فمشى معنا إلى موضع يقال له صرار. فقال أتدرون لم مشيتُ معكم؟ قلنا: لحقّ صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق الأنصار، قال لكني مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم: إنكم تقدمُون على قومٍ للقرآن في صدورهم هزيزٌ كهزيز المرجَلِ فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأقِلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا شيككم. رواه الحاكم ووافقه الذهبي وهذا لفظه: عن قرظة بن كعب قال خرجنا نُريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ ثم قال أتدرون لم مشيت معكم قالوا: نعم نحن أًحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشيت معنا. قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دَوِيّ بالقرآن كدويِّ النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقِلوّا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال: نهانا ابن الخطاب. إلا أن الحاكم قال: (فلا تبدؤهم بالأحاديث فيشغلونكم) والتصحيح من تذكرة الحفاظ فلا تصدوهم. أقول: هذا أصل في أن العالم ينبغي أن يكون حكيماً (1)، فإذا وجد الناس يشتغلون بالهم
فلا يشغلهم بمهم عن الأهم، كما أنه أصل في إعطاء القرآن أولوية في الحفظ والتلاوة والتدبر. 137 - * روى الشيخان عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذبَ عليَّ مُتعمداً فليتبوأ مقعده من النار". 138 - * روى مسلم عن سَمُرة بن جُندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذبٌ فهو أحدُ الكاذبين". أقول: رُويت كلمة الكاذبين على الجمع وعلى التثنية. 139 - * روى مسلم عن المغيرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على أحدٍ، فمن كذب عليَّ فليتبوأْ مقعدهُ من النار". قال أبو عيسى: سألت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن، قلت: من روى حديثاً وهو يعلم أن إسناده خطأ يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال: لا إنما معنى الحديث إذا روى حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث. قال مالك: لا يكون الرجل إماماً وهو يحدث بكل ما سمع. شرح السنة 1/ 267. قال البغوي: اعلم أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظمُ أنواع الكذب بعد ذلك الكافر على الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على أحدٍ، من كذب عليَّ مُتعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ولذلك كره قوم من الصحابة والتابعين إكثار الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من الزيادة والنقصان، والغلط فيه، حتى إن من التابعين كان يهاب رفع المرفوع، فيوقفه على الصحابي، ويقول: الكذب عليه أهون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ومنهم من يُسنِد
الحديث حتى إذا بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال، ولم يقل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: رفعه، ومنهم من يقول: رواية، ومنهم من يقول: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك هيبتةً للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفاً من الوعيد. شرح السنة 1/ 255. 140 - * روى الطبراني عن أوس بن أوس رفعه: "من كذب على نبيه أو على عينيه أو على والديه لم يرِحْ رائحة الجنة". 141 - * روى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قلت لأبي: ما لي لا أسمعك تُحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدِّث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وفي رواية (1): ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أًحابك؟ قال: أما والله، لقد كان لي منه وجهٌ ومنزلةٌ، ولكني سمعته يقول ... وذكر الحديث. 142 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني ليمنعُني أن أحدثكم حديثاً كثيراً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار". 143 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ - حسبتُ أنه قال: متعمداً - فليتبوأ مقعده من النار". 144 - * روى الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله
9 - في حفظ الحديث
صلى الله عليه وسلم: "لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليَّ يلجُ النار". 9 - في حفظ الحديث: 145 - * روى الطبراني في الأوسط عن أبي نضرة قال قلت لأبي سعيد أكْتِبْنا قال: لن نكتبكم ولن نجعله قرآنا، ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان أبو سعيد يقول تحدثوا فإن الحديث يذكر بعضه بعضاً. أقول: قوله ولن نجعله قرآنا: فيه إشارة إلى أن الصحابة كانوا يعطون للقرآن من الأهمية والأولوية والخصوصية ما لا يعطونه لغيره وليس في ذلك امتهان لما سوى القرآن من العلم ولكن إشارة إلى ما هو أفضل من الفاضل. 146 - *روى الطبراني عن أبي بُردة بن أبي موسى قال: كتبت عن أبي كتاباً فقال لولا أن فيه كتاب الله لأحرقتُه ثم دعا بمركنٍ أو بإجّانة فغسلها ثم قال عِ عني ما سمعت مني ولا تكتبْ عني فإني لم أكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، كدت أن تُهلك أباك. فائدة: سنرى أن الآخِرَ من فعل رسول الله صلى الله لعيه وسلم الإذن بالكتابة للحديث الشريف والأمر به، فقد أمر بكتابة ما طلب أبو شاه فيه فقال: اكتبوا لأبي شاه وسيرد أمره صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رض الله عنه بأن يكتب عنه فإنه لا يُخرج من فمه إلا حقاً، وتمام الكلام في شرح النووي عند حديث مسلم (لا تكتبوا عني غير القرآن ..) ويبقى الحفظ مستحباً ولكن مع وجود الكتابة. وفي العصور المتأخرة أهمل الناس الحفظ ووجد من يروّج لذلك وهو خطأ كبير وشر مستطير يكادان يقضيان على العلم كما عُرف عن السلف وتوارثته الأمة.
10 - الترهيب من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
147 - * روى الطبراني عن ثُمامة قال: قال لنا أنس: قيّدوا العلم بالكتابة. 10 - الترهيب من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: 148 - * روى الترمذي عن المقدام بن معدِ يكرب رفعه: ألا هل عسى رجلٌ يبلغُه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرم الله. ولأبي داود (1) ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته بنحوه. رواه أيضاً ابن ماجه (2) والترمذي وحديث أبي داود من حديثهما. أقول: الإيمان بالسنة والتسليم لها فريضتان وإنكار حديث صحيح مع الأدب فسوق أما إذا رافق الإنكار سوء أدب مع رسول الله صلى الله علي وسلم أو سنته فذلك كفر وإنكار سنة متواترة كفر، وتكذيب النقلة الصادقين فسوق والعلم بالسنة أصل من أصول العلم وشرط من شروط الاجتهاد. 11 - في آداب الفتوى والتثبت والمشاورة فيها: 149 - * روى الطبراني عن زيد بن ثابتٍ قال كنتُ أكتبُ الوحيَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه الوحيُ أخذتهُ برحاءُ شديدةٌ وعرقَ عرقاً شديداً مثل الجُمان، ثم سُرِّيَ عنه،
فكنت أدخل عليه بقطعة الكتفِ أو كسرةٍ فأكتبُ وهو يُملي عليَّ فما أفرغُ حتى تكاد رجلي تنكسرُ من ثقل القرآن حتى أقول لا أمشي على رجلي أبداً فإذا فرغتُ قال: اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقطٌ أقامهُ ثم أخرجُ به إلى الناس. قال النووي في التقريب عن الحديث الذي يدخل في باب الوجادة: هو من باب المنقطع وفيه شوب اتصال وجازف بعضهم وقال: حدثنا وأخبرنا ... أقول: في هذا الحديث أدب التثبت من الكتاب بعد إملائه. 150 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام قال: إنما الأمورُ ثلاثةٌ: أمر تبيَّنَ لك رُشدهُ فاتبعه، وأمرٌ تبين لك غيهُ فاجتنبه، وأمرٌ اختلف فيه فرُدَّهُ إلى عالمٍ. أقول: هذا أصل في أن يرجع المسلم إلى أهل الاختصاص حيثما أشكل عليه أمر. 151 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أُفْتيَ بغير علمٍ، كان إثمه على من أفتاه". زاد في رواية (1): "ومنْ أشار على أخيه بأمرٍ يعلم أن الرُّشد في غيره، فقد خانهُ". 152 - * روى الطبراني في الأوسط عن عليٍّ قال: قلتُ يا رسول الله إن نزل بنا أمرٌ ليس فيه بيان أمرٍ ولا نهي فما تأمرني؟ قال: "شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تُمضوا فيه رأي خاصةٍ".
هذا أصل في فكرة الاجتهاد الجماعي وأن يتذاكر أهل العلم والعبادة في المسائل الجديدة قال الكوثري في إحدى مقالاته عن أبي حنيفة وكان يرأس هناك مجمعاً فقهياً عظمياً كيانه من نحو أربعين عالماً من أفذاذ أصحابه، يتدارسون فيه الفقه ويحاكمون بين أدلة المسائل إلى أن يستبين الصواب ككوكب الصبح فتدون المسائل الممحصة في الكتاب، وهذه كانت طريقة بديعة جداً في التفقيه، وبها ارتفع شأن العراق في الفقه في جميع البيئات العلمية. قال الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد 14 - 247) بسنده إلى ابن كرامة قال: كنا عند وكيع يوماً فقال رجل: أخطأ أبو حنيفة، فقال وكيع كيف يقدر أبو حنيفة يخطئ ومعه مثل أبي يوسف وزفر في قياسهما ومثل يحيى بن أبي زائدة وحفص بن غياث وحبان ومندل في حفظهم الحديث، والقاسم بن معن في معرفته باللغة العربية، وداود الطائي وفضيل بن عياض في زهدهما وورعهما. ومن كان هؤلاء جلساءه لم يكد يخطئ لأنه إن أخطأ ردوه. ا. هـ. ولقد كان شيخنا محمد الحامد رحمه الله يكثر من الاستشارة إذا واجهته مسألة، وفي ذكر العُبَّاد مع العلماء إشارة إلى ضرورة اجتماع العلم مع الورع لتكون الفتوى أكثر انسجاماً مع الشريعة. 153 - * روى البغوي عن ابن سيرين قال: سئل حذيفة عن شيءٍ، فقال: إنما يُفتى أحدُ ثلاثةٍ: من عرف الناسخ والمنسوخ، قالوا: ومن يعرف ذلك؟ قال: عمر. أو رجلٌ ولي سلطاناً فلا يجد بُدا، أو مُتكلِّفٌ. 154 - * روى أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقُصُّ إلا أميرٌ أو مأمورٌ أو مختالٌ". حكى عن ابن شريح أنه قال هذا في الخطبة. وكان الأمراء يلون الخطبة يعظون فيها الناس. والمأمور: من يقيمه الإمام خطيباً،
12 - في فرضية تحصيل العلوم الضرورية
والمختال: من نصب نفسه لذلك اختيالاً وتكبراً، وطلباً للرياسة من غير أن يُؤمر به. شرح السنة 1/ 303. أقول: بعد أن زالت الخلافة الراشدة استبدل العلماء بأمر الأمير الإجازة من أهلها لأهلها. 12 - في فرضية تحصيل العلوم الضرورية: 155 - * روى البخار يعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعلمتُ له كتاب يهود - وفي رواية: بالسريانية - وقال: إني والله، ما آمنُ يهود على كتابي، فما مر بي نصفُ شهرٍ حتى تعلمته وحذفته، فكنت أكتب له إليهم، وأقرأ له كتبهم. أقول: هذا الحديث أصل في أن كل علم احتاجه المسلمون لإقامة دينهم ودنياهم أو احتاجته دولتهم أو تعاملهم مع الآخرين فإن عليهم أن يحصّلوه، وهذه القضية متجددة متوسعة على مدى العصور، فما يطالب به أهل الجيل اللاحق أكثر مما يطالب به الجيل السابق على حسب المستجدات والاحتياجات وضرورات الحياة وضرورات الصراع الإسلامي مع كل ما سوى الإسلام، وهو كذلك دليل من أدلة فكرة فروض الكفاية، وعلى العلماء والأمراء أن يلحظوا ذلك في التربية والتخطيط. 13 - الأدب في تغير اجتهاد العالم: 156 - * روى الدارمي عن الحكم بن مسعودٍ أتينا عمر في المشتركة فلم يُشرِّك ثم أتيناه العام المقبل فشرَّك فقلنا له فقال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضيناه.
14 - في اجتناب أهل الهوى والابتداع
(المسألة المشتركة)، مثل: ماتت زوجة وتركت زوجاً وأماً وإخوة لأم وإخوة لأبوين، فالنصف للزوج والسدس للأم والثلث للإخوة لأمٍّ ولا يشاركهم الأخوة لأبوين به أخذ أبو بكر وأخذ عمر رضي الله عنهما به أولاً، ثم قال بقول عثمان، وهو إشراك الإخوة لأبوين مع الإخوة لأم وتسمى مشتركةٌ وعثمانية. عن مجمع الأنهر 2/ 756. هذا الأثر أصل في أن الظروف من ناحية وتغير الأحوال قد يترتب عليه تغير الاجتهاد وقد يتغير الاجتهاد كأثر عن زيادة العلم، ومن ههنا تتغير الأحكام بتغير الأزمان وتتجدد أقضية لتجدد اجتهاد أو لتجدد حوادث. ومن ههنا فإن عملية التقنين في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية علمية تحتاج إلى إعادة نظر مستمرة ولا يدخل في دائرة النظر ما فيه نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت فلا اجتهاد في مورد النص ولا اجتهاد إلا من أهله في محله. 14 - في اجتناب أهل الهوى والابتداع: 157 - * روى الطبراني عن عوف بن مالك رفعه: "تفترقُ أُمتي على بضعٍ وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال". أقول: هذا نموذج على من يفتون بلا علم كأثر من تحكيم عقل أو هوى لا كما توهَّم بعضهم أنه في القياس الشرعي من أهله. 158 - * روى الحاكم عن أبي عامرٍ عبد الله بن يحيى قال حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة أخبر بقاصٍّ يقصُّ على أهل مكة مولى لبني فروخ فأرسل إليه معاوية فقال أمرت بهذه القصص؟ قال: لا، قال (1): فما حملك على أن تقص بغير إذن: قال: ننشئ علماً علمناه الله عز وجل فقال معاوية لو كنت تقدمت إليك لقطعت منك
طائفة، ثم قام حين صلى الظهر بمكة فقال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ويخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله ليه وآله وسلم لغير ذلك أحرى أن لا تقوموا به. 159 - * روى أبو داود عن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر، إلا قال حين يجلس: الله حكمٌ قسطٌ، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن وراءكم فتناً يكثرُ فيها المال، ويُفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والعبد والحرُّ، والصغير والكبير، فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآنظ؟ وما هم بمُتِّبِعيَّ حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالةً، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان لحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لمعاذ: وما تدري رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنبْ من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله يُراجع، وتلقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نوراً. وفي رواية (1): ولا يُنبئنك ذلك عنه وفيها "بالمشتبهات" عوض "المشتهرات". وفي أخرى (2) قال: بلى، ما تشابه عليك من قول الحكيم، حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟
15 - الاغتباط في العلم والحكمة من الأدب
أقول: هذا نموذج على صنفٍ من الناس يحمله حب الرئاسة على ركوب متن الابتداع والعياذ بالله تعالى. 15 - الاغتباط في العلم والحكمة من الأدب: قال الله سبحانه وتعالى (وقل رب زدني علما) (1). 160 - * روى البخار يعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في حق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويُعلمها". قال البغوي: المراد من الحسد المذكور في الحديث هو الغبطةُ، فإن الغبطة هي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لأخيه من غير أن يتمنى زوالها عن أخيه. والحسد المذموم أن يرى الرجل لأخيه نعمة يتمناها لنفسه وزوالها عن أخيه. قال ابن الأعرابي: الحسد مأخوذ عن الحسدل، وهو القُراد، والحسد يقشِرُ القلب، كما يقشرُ القرادُ الجلد، فيمصُّ الدم. ومعنى الحديث: التحريض والترغيب في التصدق بالمال، وتعلُّمِ العلم. وقيل: إن فيه تخصيصاً لإباحة نوع من الحسد، وإن كانت جملتُه محظورةً، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذبُ في الحرب، ويُصلحُ بين اثنين، ويُحدثُ أهلهُ". وقيل: لا حسد إلا في اثنين، أي: لا يضر الحسد إلا في اثنين، وهو أن يتمنى زوالها عن أخيه، فيضره، والأول أولى. شرح السنة 1/ 229.
16 - من آداب طالب العلم إتقان علوم اللسان: 161 - * روى مسلم عن ابن أبي عتيق قال: تحدثتُ أنا والقاسم عند عائشة حديثاً - وكان القاسم رجلاً لحاناً - وكان لأم ولدٍ، فقالت عائشة: مالك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني [قد] علمتُ من أين أُتيت؟ هذا أدبتْهُ أمه، وأنت أدبتْكَ أمُّكَ، قال: فغضب القاسم وأضبَّ عليها، فلما رأى مائدة عائشة قد أُتي بها قام، قالت: أين؟ قال: أصلي، قالت: اجلس، قال: غني أصلي، قالت: اجلس غُدَرُ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يُدافعه الأخبثان". أقول: كلام عائشة رضي الله عنها يدل على أن من آداب طالب العلم أن يتقن علوم اللسان، وألا يلحن في كلامه (1). * * *
الفصل الثاني عشر في رفع العلم وذهاب العلماء
الفصل الثاني عشر في رفع العلم وذهاب العلماء قال الله سبحانه وتعالى: (1). قال البغوي: قِيلَ هو موتُ العلماء. 162 - * روى الشيخان عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلمُ، ويكثر الجهلُ". 163 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس - وفي رواية: من العباد - ولكن يقبضُ العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً: اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً، فسئلُوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا". زاد في رواية (2)، قال عروة: "ثم لقيتُ عبد الله بن عمرو على رأس الحوْل، فسألته؟ فردَّ عليَّ الحديث كما حدث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول". 164 - * وللبخاري عن عروة: "حجَّ علينا عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا ينزعُ العلم بعد أن أعطاهموه [انتزاعاً]، ولكن ينتزعهُ منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جُهَّال، فيُستفتون، فيفتون برأيهم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون". فحدثتُ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن عبد الله بن عمرو حجَّ بعدُ، فقالت: يا ابن أختي، انطلقْ إلى عبد الله بن عمرو
فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه، فجئته. فسألته، فحدثني به بنحو ما حدثني، فأتيت عائشة فأخبرتها، فعجبت، وقالت: والله، لقد حفظ عبد الله بن عمرو". 165 - * روى مسلم عن أبي الأسود، عن عروة قال: "قالت لي عائشة: يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فألقهُ، فسائله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً، قال: فلقيته، فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فكان فيما ذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينتزعُ العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء، فيرفعُ العلم معهم، ويُبقي في الناس رؤوساً جُهالاً" - وفي أخرى (1) "ويبقى في الناس رؤوسٌ جُهالٌ- يُفْتُونهم بغير علم. فيضلون ويُضِلون". قال عروة: فلما حدثتُ عائشة بذلك أعظمتْ ذلك وأنكرته، وقالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة: حتى إذا كان قابلٌ قالت له: إن ابن عمرو قد قَدِم فألقه، ثم فاتحْهُ حتى نسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم، قال: فلقيته فسألته، فذكره على نحو ما حدثني به في مرَّته الأولى، قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراهُ لم يزدْ فيه شيئاً ولم ينقُص. وله في رواية (2) عمر بن الحكم عن عبد الله بن عمرو، بمثل حديث هشام بن عروة. 166 - * روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخَصَ ببصره إلى السماء، ثم قال: "هذا أوانٌ يُختلسُ العلم م الناس حتى لا يقدروا منه على شيءٍ"، فقال زيادُ بن لبيد الأنصاري: كيف يُختلسُ منا وقد قرأنا
القرآن؟ فوالله لنقرأنه، ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثكلتك أمك زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تُغني عنهم؟ " قال جُبير: فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، فقال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنَّك بأوَّلِ علم يُرفعُ، أول علم يرفع من الناس: الخشوعُ، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً". 167 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكثرُ الفتنُ ويكثرُ الهرجُ ويُرفع العلم" فلما سمع عمر أبا هريرة يقول يرفع العلم قال عمر: أما إنه ليس يُنزعُ من صدور الرجال ولكن تذهبُ العلماء. أقول: إن على العلماء أن يورثوا العلم وأن يخرجوا ورّاثاً كاملين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ذهب عالم وُجد من يسد مسده، والملاحظ أن تلاميذ ابن مسعود كانوا يدركون أن إظهار الإسلام بالعلم والعمل والدعوة عامل من عوامل تجديد الإسلام، وإبقائه، لذلك فإن على أهل العلم أن يتحركوا ويحركوا قضايا العلم والعمل والدعوة. قال البغوي: وقال عبد الله بن مسعود: لا تقومُ الساعة حتى يُرفع القرآنُ، ثم يُفيضون في الشعر. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لا تقومُ الساعة حتى يرجع القرآنُ من حيث نزل، له دويٌّ حول العرش، كدويِّ النحل يقول الرب: مالك؟ فيقول: يا رب أُتلى، ولا يُعملُ بي. قال عمر بن الخطاب: من سَوَّده قومه على الفقه، كان حياةً له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه، كان هلاكاً له ولهم.
وعن زياد بن جُبير، قال: قال عمر، هل تدري ما يهدمُ الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكْمُ الأئمة المضلين. وقال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يُقبَضَ، وقبضهُ: ذهابُ أهله، وعليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يُفتقر إليه، وعليكم بالعلم وإياكم والتنطُّعَ والتعمُّقَ، وعليكم بالعتيق. وقال عقبة بن عامر: تعلموا قبل الظانين: يعني الذين يتكلمون بالظن. وقال ابن مسعود: لا يزالُ الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلمُ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم، هلكُوا. وقال سليمان: لا يزال النسا بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخرُ، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم. وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: مواتُ العالِم ثُلْمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. وقال سفيان بن عيينة: وأي عقوبةٍ أشدُّ على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم. قال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيءٌ من العلم أن يُضيع نفسه. قال سفيان: تعوَّذوا بالله من فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتونٍ. قال الشعبي: ما جاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخُذْهُ، ودعْ ما يقول هؤلاء الصعافقةُ. قيل: الصعافقة: الذين يدخلون السوق بلا رأس مال، وقيل: هم رُذالةُ الناس، أراد الذين لا علم لهم، فهُم بمنزلة التجار الذين ليس لهم رأس مال.
وقال مالك بن أنس: لا تأخذ العلم من أربعةٍ، وخذه مما سوى ذلك: من مُعلن للسفه وإن كان أروى الناس، ولا من كذاب يكذب في حديث الناس وإن كنت لا تتهمُه بكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من صاحب هوى يدعو إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرفُ ما يُحدثُ به. اهـ.
الفصل الثالث عشر في كتابة الحديث ونسخ النهي عن ذلك
الفصل الثالث عشر في كتابة الحديث ونسخ النهي عن ذلك 168 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها قال: كنتُ أكتبُ كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريشُ، وقالوا: تكتبُ كل شيءٍ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضى؟ قال: فأمسكتُ عن الكتاب، حتى ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: "اكتبْ، فوالذي نفسي بيده، ما يُخرجُ منه إلا حقاً". 169 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب - فذكر قصةً في الحديث - فقال أبو شاهٍ: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله لعيه وسلم: "اكتبوا لأبي شاهٍ" وفي الحديث قصة. 170 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ أكثرُ حديثاً عنه مني، إلا ما كان من ابن عمرو، فإنه كان يكتبُ، ولا أكتبُ". 171 - * روى البخاري عن يزيد بن شريك بن طارقٍ التيمي رحمه الله قال: رأيتُ علياً على المنبر يخطبُ، فسمعتُه يقولك لا والله، ما عندنا من كتابٍ نقرؤهُ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنانُ الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينةُ حرمٌ، ما بين عيرٍ إلى ثورٍ (1)، فمن أحدث فيها حدثاً أو
آوى مُحدثاً، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبلُ الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، ذمةُ المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبلُ الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفاً، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه - وفي رواية (1): ومن ادَّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه - فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً". 172 - * روى البخاري عن أبي جُحيفة - وهب بن عبد الله السوائي- قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبَّة، وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتلَ مسلمٌ بكافرٍ. 173 - * روى مسلم عن أبي الطفيل عن علي: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، وأخرج صحيفة مكتوبٌ فيها: "لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن
الله من آوى محدثاً". 174 - * روى النسائي عن أبي حسان قال: قال علي: ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً دون الناس، إلا صحيفة في قرابِ سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها: "المؤمنون تتكافأُ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، ولا يُقتل مؤمن بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده". قال الحافظ في "الفتح" 1/ 182: والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوباً فيها، فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه. (عير إلى ثور) عير جبل بالمدينة معروف فأما "ثور" فجبيل صغير خلف أحدٍ وقد رد الجمال المطري في تاريخه على من أنكر وجود ثور وقال إنه خلف أحد شماليه صغير مدور يعرفه أهل المدينة خلفاً وسلفاً. أقول: عند الحنفية المراد بالكافر في الحديث: الكافر الحربي. 175 - * روى مسلم عن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني غير القرآن، وفي رواية (1) قال: لا تكتبوا عني ومن
كتب عني غير القرآن فليمْحُه - وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ [قال همام: أحسبه قال]: متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار". 176 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة، فلم يأذن لنا. أقول: لقد رأينا أن المنع من كتابة الحديث كان أولاً ثم نسخ إلا أن هذا المنع يجعلنا أن نفهم أن لكتاب الله أولوية وخصوصية تقدمه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت السنة وحياً كذلك. قال النووي: قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث اكتبوا لأبي شاه وحديث صحيفة علي رضي الله عنهُ وحديث كتاب عمرو بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنساً رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب وغير ذلك من الأحاديث وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما آمن ذلك أذن في الكتابة وقيل إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة والله أعلم ا. هـ. 177 - * روى البخاري عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله "كتب إلى أبي بكر بن حزمٍ: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفتُ دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا يُقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليُفشوا العلم (1)، وليجلسوا حتى يُعلَّمَ من لا
يعْلَمُ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً. قال العيني في شرح البخاري: لم يقع وصل هذا التعليق عند الكشميهني ولا كريمة ولا ابن عساكر، ووقع وصله للبخاري عند غيرهم، وهو بقوله في بعض النسخ: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار بذلك، يعني حديث مر بن عبد العزيز، ولكن إلى قوله: ذهاب العلماء، قال الحافظ في "الفتح": وهو محتمل لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه، ولم يدخل في هذه الرواية، والأول أظهر، وبه صرح أبو نعيم في "المستخرج"، ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى هذا فبقيته من كلام المصنف أورده تلو كلام عمر ثم بين أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. * * *
الباب الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي النصيحة والدعوة إلى الخير
الباب الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي النصيحة والدعوة إلى الخير وفيه مقدمة وفصول * المقدمة.
المقدمة
المقدمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ميزان الإيمان: 178 - * روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإنْ لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". 179 - * روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحض على مجاهدة خلف السوء: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وأصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم المؤهلون للتجارة إذا نزل العذاب {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (1) {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} (2) وقد علق الله عز وجل الفلاح في الدنيا والآخرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)، وجعل الخيرية لهذه الأمة على غيرها بأوصاف ثلاثة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (4)، كما جعل التواصي بالحق والتواصي بالصبر من أركان النجاة: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5). وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم الدين بأنه النصيحة وذلك لتبيان أهميتها في دين الله قال عليه الصلاة والسلام:
180 - * فيما رواه مسلم: "الدينُ النصيحةُ قالوا: لمن يا رسول الله قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". ومن ثم كان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والنصيحة لخلق الله المكان العظيم في دين الله. ويدخل في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبواب كثيرة: فالنصح والنصيحة أمر بمعروف ودعوة إلى خير، والوصايا والتناصح كذلك والوعظ أياً كانت صفته فردياً أو جماعياً أمر بمعروف ودعوة إلى خير، والخطب والمحاضرات وتعليم الناس الخير، وأمرهم باجتناب الشر دعوة للخير وأمر ضمني بالمعروف ونهي ضمني عن المنكر، ودوائر الدعوة إلى الخير والمعروف كثيرة، دائرة النفس، ودائرة الأسرة، ودائرة الجوار، ودائرة العمل، ودائرة العامة والخاصة، ودائرة الشعب والحكم، وكلك النهي عن المنكر، ثم وسائل الدعوة كثيرة: الكلمة الطيبة، والكلمة المباشرة والكلمة غير المباشرة، والكلمة المكتوبة والكلمة المسموعة، وكذلك النهي عن المنكر، ثم الدعوة إلى الخير والمعروف والنهي عن المنكر لابد فيه من الجهد الفردي العفوي، ولابد فيه من العمل المنظم فلا هذا يغني عن مبادرة الفرد ولا مبادرة الأفراد تغني عن الترتيب، ثم لابد من جهد الدولة ولابد من جهد الأفراد والمؤسسات والهيئات والجماعات والمجموعات على المستوى المحلي والعالمي. * * * إن تعميق الإسلام في نفس الفرد وتطبيقه في حياة الأمة وتعميمه في العالم كله متوقف على النشاط في العلم والتعليم والدعوة إلى الخير والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك جاءت نصوص الكتاب مؤكدة على هذه المعاني تأكيداً كبيراً فأوجبت الخيرية لمن فعل ذلك وأوجبت اللعنة على من ترك ذلك (1). (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ ٹ
بِاللَّهِ} (1). {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (2). وذكرت الآيات من أخلاق المرسلين النصيحة: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} (3). "وأمرت الآيات بالدعوة". {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (4). {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (5). ولقد كتبت في رسالة أخلاقيات وسلوكيات تتأكد في القرن الخامس عشر الهجري: "إن شعار هذا القرن وشعار كل قرن ينبغي أن يكون: كل مسلم داعية إلى الله، كل مسلم معلم للخير، كل مسلم مرب للنفس البشرية، فذلك يدخل في الاقتداء الذي يطالب به كل مسلم بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (6). فلقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله على بصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (7) ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (8). ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربياً: {وَيُزَكِّيكُمْ} (9). ولابد للمسلم أن يأخذ حظه من ذلك، فهو كذلك مع أهله وجيرانه وأرحامه وأقربائه وأصحابه ومعارفه ومع الناس جميعاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ا. هـ". إن المسلم ينبغي أن تكون عنده ثلاث توجيهات، توجه نحو ذاته بالعكوف على إصلاحها وتزكيتها وتعليمها وتثقيفها والارتقاء بها من خلال العلم والذكر والعبادة وطاعة
أهل الفقه والصلح، وتوجه نحو الخارج بالتعليم والدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهذه قضايا يجب أن ينطلق المسلم فيها بمبادرة ذاتية منه وينبغي أن تكون خلقاً له تنبع من ذاته، وألا يعلقها على شيءٍ، والتوجه الثالث أن يكون على انسجام مع مسيرة الصف الإسلامي في توجهه نحو تحقيق الأهداف وإقامة دين الله وبذلك يؤدي المسلم حق الله عز وجل وينال مرضاته. وفيما يلي فصول في موضوعات هذا الباب:
الفصل الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الفصل الثاني: في الدعوة إلى الخير قولاً وعملاً وفي التضحية. الفصل الثالث: من سنته عليه الصلاة والسلام في الدعوة والنصح والموعظة.
الفصل الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفقرة الأولى في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 181 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعفُ الإيمان". قال محمد بن علان الصديقي: ولا فرق في وجوب الإنكار بين أن يكون الآمر ممتثلاً ما أمر به مجتنباً ما نهى عنه أو لا، ولا بين كون كلامه مؤثراً أو لا، وظاهر كلام المصنف الإجماع على ذلك. فقول البعض بسقوط الوجوب عند العلم بعدم التأثير أخذاً من أحاديث تصرح بذلك ليس في محله، ولا بين كون الآمر ولياً أو غيره إجماعاً أخذاً بعموم "من" الشامل لذلك جميعه. نعم إن خشي من ترك استئذان الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحرافه عليه بأنه افتيات عليه لم يبعد وجوب استئذانه حينئذ. ويشترط لجواز الإنكار ألا يؤدي إلى شهر سلاح، فإن أدى إلى ذلك فلا يكون للعامة بل يرتبط بالسلطان، وشرط وجوبه تارة وجوازه أخرى ألا يخاف على نفس ونحو عضو ومال له أو لغيره وإن قل مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع، وإيجاب بعض العلماء الإنكار بكل حال وإن فعل المنكر وقُبل منه غلوٌ مخالف لظاهر هذا الحديث وغيره ولا حجة له فيما احتج به. وإذا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الخوف أو الإكراه كما في الآية، فليجز ترك الإنكار لذلك بالأولى، لأن الترك دون الفعل ف القبح، وألا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد فيما هو فيه عناداً، وأن يكون المنكر مجمعاً عليه أو يعتقد فاعله حرمته أو حله، ولا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا ضركم من ضل إذا اهتديتم - لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍّ برأيه فعليك بنفسك" الحديث (1). ففيه تصريح بأن الآية محمولة على ما إذا عجز المنكرُ، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذ، على أن معناها عند
المحققين أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم، ومما كلفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلها المخالف فلا عتب حينئذ لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول. دليل الفالحين 1/ 465 (1). 182 - * روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل". قال النووي في شرح مسلم 2/ 28: وأما الحواريون المذكورون فاختلف فيهم، فقال الأزهري وغيره: هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخلصان الذين نُقوا من كل عيب، وقال غيرهم: هم أنصارهم وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم. قال النووي: الضمير في "إنها" هو الذي يسميه النحويون: ضمير القصة والشأن، ومعنى "تخلف": تحدث، وهو بضم اللام، وأما "الخلوف" فبضم الخاء، وهو جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشرٍّ، وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر، وقال جماعة من أهل اللغة، منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوَّز الفتح في الشر، ولم يجوِّز الإسكان في الخير. 183 - * روى الشيخان عن أبي الوليد عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العُسر واليسر، والمنشط والمكره وعلى أثرةٍ علينا،
وعلى أن لا تُنازع الأمر أهلهُ، إلا أن تروْا كفراً بواحاً، عندكم من الله تعالى فيه بُرهان، وعلى أن تقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم". 184 - * روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهمُوا على سفينةٍ، صار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا!!! فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً". 185 - * روى مسلم عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أُمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه يُستعمل عليكم أمراءُ فتعرفُون وتُنكرون، فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع!!! " قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهُمْ؟ قال: "لا. ما أقاموا فيكم الصلاة". معناه من كَرَه بقلبه ولم يستطعْ إنكاراً بيدٍ ولا لسانٍ فقد برئ من الإثم وأدَّى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ومن رضي بفعلهم وتابعهُم فهو العاصي. [الرياض]. 186 - * روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين أم الحكمِ زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: "لا إله إلا الله!!! ويلٌ للعرب من شر! ٍ قد اقترب؛ فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه" (1) وحلَّق بأصبعيه الإبهام
والتي تليها فقلت: يا رسول الله أنهْلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثُر الخبث". 187 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس في الطرقات"، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بُد؛ نتحدَّثُ فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبيتُم إلا المجلس فأعطُوا الطريق حقه"، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهيُّ عن المنكر". قال العلقمي: زاد أبو داود (1) في الخصال المطلوبة لمن جلس على الطرق إرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد. زاد سعيد بن منصور: وإغاثة الملهوف. زاد البزار (2): وأعينوا على الحمولة. زاد الطبراني (3): وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيراً وفي حديث أبي طلحة: وحُسن الكلام وعند الترمذي (4) وأفشوا السلام وعند الطبراني وأهدوا الأغنياء فالمجموع أربعة عشر ا. هـ دليل الفالحين 1/ 476. 188 - * روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجلٍ فنزعه فطرحه وقال: "يعمدُ أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلُهَا في يده؟ " فقيل للرَّجلِ بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذْ خاتمك انتفعْ به، قال: لا والله لا آخذهُ أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
189 - * روى أحمد عن أبي سعيد الحسنِ البصريِّ أن عائذ بن عمرو رضي الله عنهُ دخل على عُبيد الله بن زياد فقال: أي بُنيِّ!! إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شر الرعاء الحُطمةُ"، فإياك أن تكون منهم!! فقال له: اجلس؛ فإنما أنت نُخالةُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: وهل كانت لهم نُخالةٌ؟ إنما كانت النخالة بعدهُم وفي غيرهم. 190 - * روى الترمذي عن حُذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليُوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم". روى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أوَّل ما دخل النقصُ على بني إسرائيل كان الرجلُ يَلْقَى الرجل فيقول: يا هذا!! اتق الله ودع ماتصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعضٍ، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} إلى قوله .. {فَاسِقُونَ} (1). ثم قال: "كلاَّ والله لتأمُرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرُنَّه على الحق أطراً، ولتقصرنَّهُ على الحق قصراً أو ليضربنَّ الله
بقلوب بعضكم على بعضٍ، ثم ليلعننكم كما لعنهم". ولفظ الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما وقعتْ بنو إسرائيل في المعاصي نهتهُم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعضٍ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" -فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً - فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطِرُوهم على الحق أطراً". قال محقق (الجامع) وأخرجه الطبري 10/ 493، من حديث سفيان الثوري، حدثنا علي ابن بذيمة عن أبي عبيدة أظنه عن مسروق، عن عبد الله قال ... فذكره. وقد علق عليه لعلامة أحمد شاكر رحمه الله بقوله: وطريق سفيان عن علي بن بذيمة يأتي مرسلاً عن أبي عبيدة، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر عبد الله بن مسعود وهو المعروف من رواية سفيان. وروى الترمذي في السنن في التفسير. قال عبد الله بن عبد الرحمن: قال يزيد بن هارون: وكان سفيان الثوري لا يقول فيه عبد الله يعني أنه مرسل من خبر أبي عبيدة، فأفادنا الطبراني هنا أن سفيان الثوري رواه مرة أخرى عن أبي عبيدة بقوله: أظنه عن مسروق عن عبد الله فلم يذكر "عبد الله" فحسب، بل شك في أن أبا عبيدة رواه عن مسروق عن عبد الله، فإذا صح ظن سفيان هذا، فإنه حديث صحيح الإسناد غير منقطع ولا مرسل ا. هـ. وإن لم يصح، فهو حديث ضعيف وقد جزم بعض العلماء بضعفه لانقطاع السند. فائدة إملائية: بمناسبة ذكر حرف الألف في كلمة ابن من قوله تعالى: {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}. إن العلم المذكر إذا جاء بعده (ابن) وبعده علم مؤنث: أثبتت ألف (ابن) انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي رحمه الله. وهو كذا في رسم المصاحف. وأخرج مسدد والبيهقي وصححه عن علي قال: "الجهاد ثلاثةٌ: جهادٌ بيد، وجهادٌ
بلسان، وجهادٌ بقلب: فأول ما يُغلبُ عليه من الجهاد: جهادُ اليد، ثم جهادُ اللسان ثم جهادُ القلب، فإذا كان القلب لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً نُكسَ وجُعل أعلاه أسفله". 191 - * روى الطبراني عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "جاهدوا المنافقين بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهِرُّوا في وجوههم فاكفهرُّوا في وجوههم"! 192 - * روى مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرُ الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكُم تعنُون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك يُكفرُها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر التي تموجُ موجَ البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلب أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ، ما دامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مُرباداً، كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرب من هواهُ".
-* روى الطبراني عن طارق بن شهاب قال: جاء عتريسُ بن عرقوبٍ الشيباني إلى عبد الله فقال: هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر فقال بل هلك من لم يعرف قلبه المعروف وينكر المنكر. 194 - * روى أحمد عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنكم منصورُون ومصيبون ومفتوحٌ عليكم، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله، وليأمر بالمعروف، ولينه عن المنكر، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأْ مقعدهُ من النار". 195 - * روى أحمد عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوْشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه". 196 - * روى أبو داود عن أبي أمامة الشعباني قال: سألتُ أبا ثعلبة الخُشْنيَّ رضي الله عنه قال: قلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؟ قال: أما والله لقد سألتُ عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله علي وسلم، فقال: "ائتمرُوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شُحاً مطاعاً، وهوى مُتبعاً ودُنيا
مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودعْ عنك العوامَّ، فإن من ورائكم أيام الصبْرِ، الصبرُ فيهن مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" وزاد أبو داود (1) في حديث: قيل: يا رسول الله، أجرُ خمسين رجلاً منَّا، أو منهم؟ قال: بل أجرُ خمسين رجلاً منكم". الآية محمولة على ما إذا عجز المنكرُ ومعناها عند المحققين أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم. انظر دليل الفالحين 1/ 465. 197 - * روى أبو يعلي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي خُلفاء يعملون بما يعلمون ويفعلون ما يؤمرون، وسيكون بعدي خلفاءُ يعملون بما لا يعلمون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن أنكر عليهم بريء، ومن أمسك يده، سلم ولكن من رضي وتابع". 198 - * روى الطبراني عن عبد الله يعني ابن مسعودٍ قال: إنَّ من أكبر الذنب أنْ يقول الرجل لأخيه اتق الله، فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟
الفقرة الثانية: في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفقرة الثانية: في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 199 - * روى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضلُ الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائرٍ". 200 - * روى النسائي عن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجليِّ الأحمسي رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رِجْلَه في الغرز - أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطانٍ جائرٍ". 201 - * روى الترمذي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبَسُّمُك في وجه أخيك صدقةٌ، وأمرُك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغُك من دلوك في دلو أخيك صدقةٌ". قال القاضي: يحتمل تسميتها صدقة أن لها أجراً كما للصدقة أجر، وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور، وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام وقيل معناها أنها صدقة على نفسه (شرح مسلم للنووي 7/ 11). 202 - * روى مسلم عن عبد الله بن فرُّوخ أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهُ خُلِق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصلٍ، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله (1)، وعزل حجراً
عن طريق الناس، أو شوكةً، أو عظماً، أو أمر بمعروفٍ، أو نهي عن منُكرٍ، عدد تلك الستين والثلاثمائة السُّلاميِّ، فإنه يُمسي يومئذٍ وقد زحزَح نفسه عن النار" وفي رواية (1) "يمشي". 203 - * روى أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسُ محمدٍ بيده إن المعروف والمنكر لخليقتان يُنصبان للناس يوم القيامة؛ فأما المعروفُ فيبشرُ أصحابه ويعدُهم الخير، وأما المنكر فيقول إليكم إليكم وما يستطيعون له إلا لزوماً". 204 - * روى أبو داود عن عُرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عُملتِ الخطيئةُ في الأرض، كان من شهدها وكرهها - وفي رواية (2) - فأنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها". 205 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: "يذهب الصالحون أسلاخاً ويبقى أهل الريبِ من لا يعرف معروفاً ولا يُنكرُ منكراً". 206 - * روى الطبراني عن عبد العزيز بن أبي بكرة أن أبا بكرة، تزوج امرأة من بني غُدانةَ، وأنها هلكتْ فحملها إلى المقابر فحال إخوتُها بينه وبين الصلاة فقال: لهم لا تفعلوا فإني أحق بالصلاة منكم قالوا صدق صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليها، ثم إنه دخل القبر
فدفعوه دفعاً عنيفاً؛ فوقع فغُشي عليه؛ فحُمِلَ إلى أهله فصرخَ عليه يومئذ عشرون من ابن وبنت له، قال عبد العزيز وأنا يومئذ من أصغرهم فأفاق إفاقة فقال لا تصرخوا عليَّ فوالله ما من نفس تخرجُ أحبُّ إلي من نفس أبي بكرة، ففزعَ القومُ فقالوا لم يا أبانا؟ قال إني أخشى أن أدرك زماناً لا أستطيع أن آمُرَ بالمعروف ولا أنهى عن منكر ولا خير يومئذٍ.
الفقرة الثالثة: في الأخذ بالرخصة أو العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفقرة الثالثة: في الأخذ بالرخصة أو العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 207 - * روى البزار عن ابن عمر سمعت الحجاج يخطب فذكر كلاماً أنكرته، فأردت أن غيره فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسهُ"، قلتُ: يا رسول الله كيف يُذل نفسه؟ قال: "يتعرضُ من البلاء لما لا يُطيق". 208 - * روى الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسهُ"، قالوا: كيف يُذلُّ نفسه؟ قال: "يتعرَّض من البلاء لما لا يُطيقُ". 209 - * روى أبو يعلي عن المعلي بن زيادٍ قال: لما هزم يزيدُ بن المُهَلَّب أهل البصرة قال المعلي: فخشيت أن أجلس في حلقة الحسن بن أبي الحسن فأُوجدُ فيها فأُعرَفُ، فأتيت الحسن في منزله فدخلت عليه فقلت يا أبا سعيد: كيف بهذه الآية من كتاب الله؟ قال أيَّةُ آيةٍ من كتاب الله؟ قلت: قول الله في هذه الآية {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال يا عبد الله إن القوم عرضوا عليّ السيفُ فحال السيفُ دون الكلام. قلت: يا أبا سعيد فهل تعرف لمتكلمٍ فضلاً؟ قال: لا. قال المعلى: ثم حدثني بحديثين قال ثنا أبو سعيد الخدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعَنَّ أحدكم رهبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو يذكرُ بعظيم فإنه لا يُقرِّبُ من أجلٍ ولا يُبعدُ من رزقٍ"، قال ثم حدث الحسن بحديثٍ آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) "ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه قيل وما إذلاله نفسه قال يتعرض من البلاء
ما لا يطيقُ" قلت يا أبا سعيد فيزيد الضبي وكلامه في الصلاة، قال: أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم قال المعلى: فقمت من مجلس الحسن فأتيت يزيد فقلت: يا أبا مودودٍ بينما أنا والحسن نتذاكر إذ نصب أمرك نصباً فقال: مه يا أبا الحسن. قال: قلتُ: قد فعلتُ قال: فما قال؟: قلتُ: قال: أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم على مقالته. قال يزيد: ما ندمت على مقالتي وايمُ الله لقد قمت مقاماً أخطر فيه بنفسي قال يزيد: فأتيت الحسن قلت: يا أبا سعيد غُلبنا على كل شيء، نُغلبُ على صلاتنا؟ فقال: يا عبد الله إنك لم تصنع شيئاً، إنك تُعرضُ نفسك لهم، ثم أتيته فقال: مثل مقالته. قال فقمتُ يوم الجمعة في المسجد ولحكم بين أيوب يخطبُ فقلت رحمك الله الصلاة احتوشتني. فلما قلت ذلك قام الرجال يتعاوروني فأخذوا بلحيتي وتلبيبتي وجعلوا يجؤَوُن بطني بنعال سيوفهم، قال: ومضوا بي نحو المقصورة فما وصلتُ إليها حتى ظننتُ أنهم سيقتلوني دونها. قال: ففُتح لي بابُ المقصورة قال: فقمتُ بين يدي الحكم وهو ساكتٌ فقال: أمجنون أنت؟ وما كنا في صلاة فقلتُ: أصلح الله الأمير هل من كلام أفضل من كتاب الله، قال: لا. قلت: أصلح الله الأمير أرأيت لو أن رجلاً نشر مصحفاً يقرؤه غدوةً إلى الليل كان ذلك قاضياً عنه صلاته؟ قال: والله لأحسبك مجنوناً. قال وأنس بن مالك جالس تحت منبره ساكت فقلت يا أنس يا أبا حمزة أنشدُك الله فقدت خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته أبمعروفٍ قلت أم بمنكر؟ أبحقٍ قلت أم بباطلٍ؟ قال: فلا والله ما أجابني بكلمةٍ. قال له الحكم بن أيوب يا أنسُ قال: يقول لبيك أصلحك الله قال: وكان وقت الصلاة قد ذهب. قال: كان بقي من الشمس بقيه. قال: احبسوه قال يزيد: فأقسِمُ لك يا أبا الحسن يعني للمعلى لما لقيتُ من أصحابي كان أشدَّ عليَّ من مقالي قال بعضهم مُراءٍ، وقال بعضهم مجنون. قال: وكتب الحكم إلى الحجاج أن رجلاً من بني ضبة قام يوم الجمعة قال الصلاة وأنا أخطبُ وقد شهد الشهودُ العدول عندي أنه مجنونٌ فكتب إليه الحجاج (1): إن كانت قامت الشهود العدول أنه مجنونٌ
فخل سبيله، وإلا فاقطعْ يديه ورجليه واسمر عينيه واصلبه. قال: فشهدوا عند الحكم أني مجنون فخلى عني، قال المعلى عن يزيد الضبي: مات أخ لنا فتبعنا جنازته فصلنيا عليه فلما دفن تنحيت في عصابة فذكرنا الله وذكرنا معادنا فإنا كذلك إذ رأينا نواصيَ الخيل والحِرابَ فلما رآه أصحابي قاموا وتركوني وحدي فجاء الحكُم حتى وقف عليَّ فقال: ما كنتم تصنعون قلتُ: أصلح الله الأمير مات صاحبٌ لنا فصلينا عليه ودفناه وقعدنا نذكر ربنا ونذكر معادنا ونذكر ما صار إليه، قال: ما منعك أن تفِّرَ كما فروا. قلتُ: أصلح الله الأمير أنا أبرأُ من ذل من ذلك ساحة وآمنُ الأمير أن أفر! َ قال: فسكت الحكم، فقال عبد الملك بن المهلب وكان على شرطته تدري من هذا؟ قال من هذا؟ قال: هذا المتكلم يوم الجمعة قال: فغضب الحكم وقال: أما إنك لجريء خذاه، قال: فأخذت فضربني أربعمائة سوط فما دريتُ متى تركني من شدة ما ضربني قال: وبعثني إلى واسط فكنت في ديماس الحجاج حتى مات الحجاجُ. أقول: في هذه القصة نموذج على ظلمٍ كان يستجيز معه أنس بن مالك والحسن البصري ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكما أن في هذه القصة نموذجاً على من يبذل نفسه ويتحمل الأذى لقوله حقٍّ حتى يقولها عند سلطان جائر وهو بذلك مأجور ومبرور، ولو قتل كان من سادة الشهداء فالأخذ بالعزيمة في ذا المقام هو الأرقى والأخذ بالرخصة جائز، وقد نص فقهاء الحنفية أن من أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ فقُتل فهو شهيد مأجور، ولو لم يتغير المنكر أو يتحقق المعروف. وينبغي أن يوجد بين المسلمين من يقوم بفرض الكفاية، حتى يسقط الإثم عن المسلمين وإذا تعين إنسان بذلك وجب عليه، وعلى المسلمين أن يفتشوا عن الطريق الأقوم لإقامة فروض الكفايات. 210 - * روى الطبراني عن أبي جعفر الخَطْميِّ أن جده عُمير بن حبيب بن حماشة وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عند احتلامه، أوصى ولده فقال: يا بُنيَّ إياك ومجالسة السفهاء فإن مجالستهم داءٌ، ومن يحلُمْ عن السفيه يُسَرَّ ومن يجبْه يندمْ ومن لا يرضى بالقليل مما يأتي به السفيهُ يرضى بالكثير (1)، وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر
فليوطِّنْ نفسه على الصبر على الأذى ويثق بالثواب من الله تعالى فإنه من وثق بالثواب من الله عز وجل لم يضُره مسُّ الأذى. 211 - * روى أحمد على ابن عباس رفعه: "ليس الخبرُ كالمعاينة، إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يُلقِ الألواحَ، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرتْ". أقول: في هذا الأثر إشارة إلى أن حال المؤمن وهو يرى المنكر غير حاله وهو يسمعه فالمسلم إذا شاهد المنكر غضب وبذل جهداً فإنهائه ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات لله كان لا يقوم لغضبه شيء حتى ينتهي المنكر.
الفقرة الرابعة: في الغضب لله والشدة في النهي عن المنكر
الفقرة الرابعة: في الغضب لله والشدة في النهي عن المنكر 212 - * روى الشيخان عن أبي مسعود عُقبة بن عامر البدريِّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصُّبح من أجل فلان مما يُطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظةٍ قط أشد مما غضب يومئذ، فقال "يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فيُوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة". 213 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله من سفر وقد سترت سهوةً بقرامٍ فيه تماثيلُ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكهُ وتلوَّن وجهه وقال: "يا عائشة إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يُضاهون بخلق الله". 214 - * روى الشيخان عنها: أن قريشاً أهمهمْ شأنُ المرأة المخزومية التي سرقتْ، فقالوا: من يكلمُ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يجتريء عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حدٍ من حدود الله تعالى؟!!! " ثم قام فخطب ثم قال: "إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قاموا عليه الحد، وايمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
215 - * روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نُخامةً في القِبلة فشقَّ ذلك عليه حتى رُؤي في وجهه، فقام فحكه بيده فقال: "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يُناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزُقنَّ أحدكمْ قِبَلَ القبلة، ولكن عن يسره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم ردَّ بعضه على بعض فقال: "أو يفعل هكذا". قال النووي: والأمرُ بالبُصاقِ عن يساره أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، فأمَّا في المسجد فلا يبْصق إلا في ثوبه.
الفقرة الخامسة: في وجوب امتثال ما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه
الفقرة الخامسة: في وجوب امتثال ما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه ونختم هذا الفصل بالتذكير بأن من أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ فالأصل في حقه أن يكون متحققاً بما أمر، منتهياً عما نهى. قال الله تعالى: (1). وقال تعالى: (2). وقال تعالى إخباراً عن شُعيبٍ عليه السلام: (3). 216 - *روى الشيخان عن أبي زيد أسامة بن حارثة رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُؤْتَى بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان!! مالك؟ لمْ تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه". 217 - * روى أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررتُ ليلة أُسري بي بأقوام تُقرض شفاههم بمقاريض من نارٍ، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباءُ أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون".
الفصل الثاني في الدعوة إلى الخير قولا وعملا وفي النصيحة
الفصل الثاني في الدعوة إلى الخير قولاً وعملاً وفي النصيحة 218 - * أخرج أحمد والطبراني عن تميم الداريِّ ضضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ، ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليلٍ عزاً يُعزُّ الله به الإسلام وأهله وذُلاً يُذلُّ الله به الكفر" وكان تميم الداري يقول: عرفتُ ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية. أقول: هذه بشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتصار عالمي للإسلام وأرجو أن يكون ما نحن فيه مقدمة لذلك، فليترك المسلم اليأس والقنوط وليباشر الدعوة إلى الله فلعله يكون شريكاً في هذا الخير. 219 - * روى مسلم عن أبي مسعودٍ عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله". 220 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". 221 - * روى الشيخان عن أبي العباس سهل بن سعدٍ الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر (1): "لأعطينَّ هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على
يديه، يُحبُّ الله ورسوله، ويحبهُ الله ورسوله، فبات الناس يدُوكون ليلتهم أيهم يُعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين عليُّ بن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول الله!! هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرئ حتى كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الراية، فقال عليُّ رضي الله عنه يا رسول الله هل أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذْ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجبُ عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يَهْديَ الله بك رجلاً واحداً خرٌ لك من حُمْرِ النعم". 222 - * روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من نفسٍ تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل". المقصود بابن آدم الأول قابيل لأنه أول من سن القتل بقتله أخيه هابيل والكفل: النصيب والحظ أي سينال نصيبه من الظلم كلما قتلت نفسٌ ظلماً. 223 - * روى مسلم عن أبي عمرو جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء قومٌ عُراةٌ مُجتابي النِّمار -أو العباءِ - متقلدي السيوف،
عامتهم بل كلهم من مُضر؛ فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى منهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فمر بلالاً فأذن وأقام، ثم صلى ثم خطب فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1)، والآية الأخرى التي في آخر الحشر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (2) "تصدق رجلٌ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بُرِّه من صاع تمره"، حتى قال ولو بشق تمرةٍ، فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرةٍ كادت كفهُ تعجز عنها - بل قد عجزت - ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه ولم يتهلل كأنه مُذهبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سن في الإسلام سنةٌ سيئةً كان عليه وزرها ووزرهُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". 224 - * روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن سُنة خيرٍ فاتُّبع عليها، فله أجره ومثل أجور من اتبعه، غير منقوصٍ من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة شرٍّ، فاتُّبع عليها، كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه، غير منقوصٍ من أوزارهم شيئاً. 225 - * روى مسلم عن تميم الداريِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال: "إنَّ
الدِّينَ النصيحةُ، قلنا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". وعند النسائي (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الدينَ النصيحةُ، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". وفي رواية (2) أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحةُ، إن الدين النصيحةُ، إن الدين النصيحةُ، قالوا: لمنْ يا رسول الله؟ قال: لله عز وجل، وكتابه، ورسوله، وأئمة المؤمنين وعامتهم، أو أئمة المسلمين وعامتهم". ومما جاء في شرح النووي على صحيح مسلم حول هذا الحديث: (الدين النصيحة) قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: النصيحة كلمة جامعة. معناها حيازة الحظ للمنصوح له. ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة. كقوله "الحج عرفة" أي عماده ومعظمه عرفة. (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الإيمان به ونفي الشريك عنه. وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه. فالله سبحانه وتعالى غني عن نصح الناصح. وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به. وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على لاحق وطاعتهم فيه وأمرهم به. والمراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقومون بأمور المسلمين من أصحاب الولايات. وأما نصيحة عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة الأمور، فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم. (شرح النووي 2/ 38). 226 - * روى الشيخان عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال زياد بن علاقة:
سمعت جرير بن عبد الله [البجلي] يقول- يوم مات المغيرة بن شعبة-: "قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: عليكم باتقاء الله وحدهُ لا شريك له، والوقار والسكينة، حتى يأتيكم أميرٌ، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يُحبُّ العفو، ثم قال: أما بعدُ، فإني أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليَّ: والنُّصُحَ لكل مسلم، فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد، إني لكم لناصحٌ، ثم استغفر ونزل". وفي رواية (1) لهما: قال جرير: "بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلمٍ". وفي رواية (2) النسائي قال: "بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلمٍ". وفي أخرى (3): "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلمٍ". وفي أخرى (4) قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبايعك على السمع والطاعة فيما أحببتُ وكرهتُ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو تستطيعُ ذلك يا جرير؟ أو تطيقُ ذلك؟ قال: قل: فيما استطعتُ، فبايعني، والنُّصح لكل مسلمٍ". وفي أخرى (5) قال: "أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسُطْ دك حتى أبايعك، واشترط عليَّ، وأنت أعلمُ، قال: أبايعُك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين". وأخرج الرواية الثانية، وزاد فيها "وعلى فراق المشرك".
227 - * روى الشيخان عن أبي يعلي معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعيةً يموتُ يوم يموتُ وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة". وفي رواية (1): "فلم يحُطها بنصيحةٍ لم يجد رائحة الجنة". وفي رواية (2) لمسلم: "ما من أميرٍ يلي أمور المسلمين ثم لا يجهدُ لهم وينصحُ لهم إلا لم يدخلْ معهم الجنة". * * *
الفصل الثالث من سنته عليه الصلاة والسلام في الدعوة والنصح والموعظة
الفصل الثالث من سنته عليه الصلاة والسلام في الدعوة والنصح والموعظة 228 - * روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولةٌ عن رعيتها، والخادمُ راعٍ في مال سيده ومسئولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئولٌ عن رعيته". 229 - * روى الشيخان عن عليٍّ رضي الله عنه قال: كنا في جنازةٍ في بيقعِ الغرْقَدِ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حولَهُ، ومعه مخصرةٌ فنكس وجعل ينكُتُ بمخصرتِه ثم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد كُتبَ مقعدهُ من النار ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكِلُ على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خُلقَ له. وذكر تمام الحديث". 230 - * روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهلٍ فقالوا: إن ابن أخيك يشتمُ آلهتنا ويفعلُ ويفعل ويقول ويقولُ فلو بعثت إليه فنهيتهُ، فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدرُ مجلس رجلٍ قال: فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرقَّ له عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قُربَ عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي! ما لقومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (1):
"يا عم! إني أريدُهم على كلمةٍ واحدة يقولونها تدين لهم بها العربُ وتؤدي إليهم بها العجمُ الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القومُ: كلمةً واحدةً نعم أيبك عشراً، فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأيُّ كلمةٍ هي يا ابن أخي؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله"، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: "أجعلَ الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عُجاب"، قال: ونزلت من هذا الموضوع -إلى قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (1). 231 - * روى البخاري عن ابن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاةْ دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهلٍ فقال: "أي عم! قل: "لا إله إلا الله" كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالبٍ! أترغبُ عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخِرَ ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك"، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (2) ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (3). 232 - * روى أحمد عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقربٍ فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فصُفُّوا له". قالت: يا رسول الله! بان الوافد وانقطع الولد وأنا عجوزٌ كبيرةٌ ما بي من خدمة فُمنَّ عليَّ مَنَّ الله عليك، فقال: "ومن وافدُك؟ " قالت: عديُّ بن حاتمٍ، قال: "الذي فر من الله ورسوله؟ " قالت فمُنَّ عليَّ، فلما رجع ورجلٌ إلى جنبه - نرى أنه عليٌّ- قال: "سليه حُملاناً"، قال: فسألته فأمر لها. قال عديٌّ: فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلةً ما كان
أبوك يفعلها وقالت: ايته راغباً أو راهباً فقد أتاه فلانٌ فأصاب منه وأتاه فلانٌ فأصاب منه، قال: فأتيته فإذا عنده امرأةٌ وصبيانِ - أو صبي - فذكر قربهم منه، فعرفتُ أنه ليس مُلك كسرى وقيصر. فقال له: يا عديُّ بن حاتم! ما أفرَك؟ أفرَّك أن يقال: "لا إله إلا الله؟ ما أفرك؟ أفرك أن يقال: "الله أكبر"، فهل شيءٌ هو أكبر من الله عز وجل؟ فأسلمتُ فرأيتُ وجهه استبشر وقال: إن المغضوب عليهم اليهودُ، وإن الضالين النصارى. قال: ثم سألوه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلكم أيها الناس! أن تَرْضخوا من الفضل، ارتضخ امرؤٌ بصاعٍ، ببعض صاعٍ، بقبضةٍ، ببعض قبضةٍ - قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: بتمرة بشق تمرة - وإن أحدكم لاقى الله فقائلٌ ما أقول: ألم أجعلك سميعاً بصيراً؟ ألم أجعل لك ما لا وولداً؟ فماذا قدمتَ؟ فينظرُ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجدُ شيئاً، فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ فإن لم تجدوه فبكلمة لينةٍ، إني لا أخشى عليكم الفاقة لينصرنَّكم الله وليعطينكم - أو ليفتحن عليكم - حتى تسير الظعينةُ بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يُخاف السرقُ على ظعينتها. قال ابن كثير في التفسير: وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. 233 - * روى ابن عبد البر عن معاوية بن حيدة القُشيري قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ما أتيتك حتى حلفتُ أكثر من عدد الأنامل - وطبقَ بين كفيه إحداهما على الأخرى - أن لا آتيك ولا آتي دينك أمراً لا أعقلُ شيئاً إلا ما علمني الله، وإني أسألك بوجه الله العظيم بم بعثك ربُّنا إلينا؟ قال: "بدين الإسلام، قال: وما دينُ الإسلام؟ قال أن تقول: أسلمتُ وجهي لله وتخليتُ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلمٍ على كل مسلم محرمٌ أخوان نصيران، لا يقبل الله ممن أشرك بعد ما أسلم عملاً حتى يُفارق المشركين، ما لي أمسكُ بحُجَزِكم عن النار! ألا! وإن ربي داعيَّ وإنه سائل هل بلغت عبادي؟ فأقولُ: ربّ! قد بلغتُ، ألا (1)!
فليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا! ثم إنكم تُدعون مقدمةً أفواهكم بالقدام، ثم إن أوَّل شيء يُنبيء عن أحدكم لفخذهُ وكفُّهُ، قال: قلتُ: يا رسول الله! هذا ديننا؟ قال: هذا دينك وأينما تُحسن يكفكَ". 234 - * روى أحمد عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحِجْرَ في غزوة تبوك قام فخطب الناس فقال: "يا أيها الناسُ! لاتسألوا نبيكم عن الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً، ففعل، فكانت ترِدُ من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون من لبنها مثل الذي كانوا يُصيبون عن غِبِّها ثم تصدرُ من هذا الفج فعقروها، فأجَّلهم الله ثلاثة أيامٍ - وكان وعد الله غير مكذوبٍ - ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم بين السماء والأرض إلا رجلاً كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله؛ قيل: يا رسول الله! من هو؟ قال: أبو رِغالٍ". 235 - * روى مسلم عن معاوية بن الحكم السُّلَمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أُصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمُك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثكل أماهُ!! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه - فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ثم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس (1)، إنما هي التسبيحُ
والتكبيرُ، وقراءةُ القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكُهَّانَ، قال: "فلا تأتهم"، قلت: ومنا رجالٌ يتطيرون، قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنَّهم". * * *
الجزء الثاني في الصلاة وما يحيط بها
العبادات في الإسلام الجزء الثاني من قسم العبادات الرئيسية وهو في الصلاة وما يحيط بها
المقدمة
المقدمة قد يصيبك العجب عندما ترى سعة هذا الجزء الذي يتحدث عن الصلوات، ولكن إذا عرفت أن الصلاة هي العبادة الأولى وهي العبادة الكبرى، وإذا عرفت أن الصلوات هي حياة الأيام والأسابيع والسنين والأوقات والأوضاع والمناسبات، وإذا عرفت أن الصلوات هي المنظم لحياة المسلم وللحياة الإسلامية كلها، وهي مظهر حياة الإسلام وحيويته وإذا عرفت أن كثيراً من أصول التكليف، وفروعه تعتبر امتداداً لأصول في الصلاة بل إن التكليف كله ينسجم مع الصلاة ويتكامل معها بل يعتبر انبثاقاً عنها، وإذا عرفت أن الصلاة محل التركيز الثاني بعد التوحيد في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها للقلب البشري وللحياة البشرية دواء وغذاء وارتقاء، إذا عرفت هذا كله لما تعجبت من كثرة النصوص الواردة في الصلوات. وخذ أمثلة على التكامل بين الصلاة والتكاليف الإسلامية الأخرى: الطهارة والنظافة تتكاملان، كما أن بين الصلاة والتكاليف الأخلاقية تكاملاً، فالصلاة بما فيها من خضوع لله تنفي الكبر والعجب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وبين ستر العورة في الصلاة وستر العورة خارج الصلاة صلة وتكامل، وبين إعمار المساجد حساً ومعنىً، وبين الذكر والعلم وصلاة الجماعة والجمعة صلة وتكامل. ولئن كان أرقى أنواع العبادة في الإسلام الذكر والفكر والدعاء، فإن أرقى صيغ الأداء للذكر والفكر والداء هي الصلاة، لأنه اشترط لها شروط خاصة، وتؤدي على هيئة خاصة فاجتمع للذكر والفكر والدعاء فيها ما لم يجتمع في غيرها، من استقبال للقبلة إلى الطهارة إلى الستر إلى الركوع إلى السجود .... واستيعاب هذه المواضيع وما يتفرع عنها لابد منه وهذا يقتضي سعةً وتوسعاً، وإذا كان فقه الصلاة هو الذي لي فقه التوحيد في الأهمية، فإن المسلم لا يبالي ما يبذل من جهد في ذات الله للتفقه في الصلاة. إن الصلوات وما يحيط بها هي الإطار الجامع والصاهر، فهي التي تصهر النفس بالإسلام
فتنورها وتزكيها وهي التي تصهر المجتمع الإسلامي ببعضه وبالإسلام حتى يذوب هذا المجتمع في بوتقة الإسلام، وهي التي تجدد قوة الإيمان وتقوي ما ضعف من صلة المسلم بإسلامه وإخوانه المسلمين، وهي مع بقية العبادات تصهر الشعوب والألوان في بوتقة الإنسانية الواحدة، لذلك وغيره أعطاها الكتاب والسنة ما أعطياها. والصلاة لم يخل منها دين بعث الله به رسولاً فقد قال تعالى لموسى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1). وقال إبراهيم عليه السلام: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (2). 236 - * روى أبو داود عن النبي عليه السلام لوفد ثقيف: "ولا خير في دين لا ركوع فيه". والأصل أن تستغرق الصلاة حياة الإنسان لذلك فرضت ليلة الإسراء والمعراج في الملأ الأعلى خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس لها أجر خمسين، وفتح الباب للتطوع. وقد درج بعض الوعاظ والدعاة على أن يركزوا في عصرنا على معانٍ أخرى، ويقولوا ليست الصلاة هي كل شيء في الإسلام وهذا صحيح ولكن قد يشعر السامع أحياناً بعدم أهمية الصلاة نتيجة لذلك، فلابد أن يلحظ الواعظ ذلك. إن للصلاة انعكاساتها على حياة الشخص وعلى حياة الأمة، ولها تأثيراتها الحضارية على حياة الأمة كلها يظهر ذلك في العمران وفي اللباس وفي طرائق الحياة. وتكاد الصلاة أن تحوي كل رموز التكليف الرباني، كما أن تكليفاتها تخرج عن دائرتها إلى دوائر حياتية أخرى، فالطهارة شرط للصلاة لكن لها انعكاساتها خارج الصلاة، وستر العورة شرط في الصلاة ولكنه أدب المسلم خارجها، فالصلاة عبادة لله وهي في الوقت نفسه تدريب على نمط حياة هي الحياة الإسلامية: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (3) {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (4).
ومتى اعتاد المسلم على أن يقيم الصلاة فقد فتحت أمامه أبواب الولوج إلى الإسلام كله، فبواسطتها يسمع المسلم كلمة الخير ويصبح عنده استعداد لقبولها، ولذلك فمن المهم جداً أن يركز الدعاة عليها. وقد شرعت لنا الصلوات الخمس وهي الفريضة المجمع عليها، وشرعت لنا صلاة الجمعة كبديل عن صلاة الظهر يوم الجمعة، وشرعت لنا صلوات يومية زيادة على الفريضة هي رواتب الصلوات الخمس، وسنة الضحى ووتر الليل وقيامه، والنوافل المطلقة وأكدت المطالبه بالوتر وشرعت لنا صلاتان في السنة هي صلاتا العيدين، وشرعت لنا صلاة التسابيح يومياً أو أسبوعياً أو سنوياً أو عُمرياً، كما شرعت لنا صلوات المناسبات: استخارة، كسوف، خسوف، استسقاء، صلاة الحاجة، والمنزل والقدوم وصلاة وداع المنزل وصلا الخوف وصلاة تحية المسجد وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة وسجدة الشكر وشرع للمسلم أن يصلي في غير أوقات المنع أو الكراهة ما شاء من النوافل. وللصلوات شروط وأركان وواجبات وسنن وآداب ومكروهات ونواقض، ولبعض الصلوات أحكام خاصة كصلاة الخوف والعيدين وهناك صلاة الجنازة وسجدتا التلاوة والشكر فهذه لها هيئاتها التي تشارك الصلوات في شيء من مطلوباتها ولها خصوصياتها. وهناك طواريء تطرأ كالمرض والسفر والمطر يوجد بسببها ترخيصات وللمرأة خصوصياتها في الصلاة وهناك صلاة الطواف وهناك طواريء تطرأ بسبب الحركة الجهادية يترتب عليها أحكام خاصة في الجهاد وهناك حالات الإكراه وحالات الضرورة والاضطراب، وكل ذلك له أحكامه. والأئمة المجتهدون حاولوا أن يضعوا كل فعل وكل قول مرتبط في الصلاة في إطار تفصيلي من حيث قوة الإلزام. فهناك الفرائض التي لا تجوز بدونها الصلاة، وهناك ما دون ذلك مما تجوز به الصلاة وتكون ناقصة بحسبه وهناك الأفعال التي تبطل الصلاة أصلاً وهناك ما لا يبطل الصلاة ولكن يجعل فيها خللاً، وفي هذا كله نجد المجمع عليه ونجد المختلف فيه وما اختلف فيه بين الأئمة فالأمر فيه واسع ولا يختلف الأئمة عادة فيما كان قطعيَّ الثبوت قطعي الدلالة وقد
يختلفون فيما سوى ذلك، وما اختلف فيه أئمة الاجتهاد فالأمر فيه واسع، وما دام المرء على مذهب إمام وتوافرت فيه شروط الاجتهاد أو الفتوى فلا حرج عليه، فما اختلفوا إلا حيث يحتمل المقام اختلافاً. * * * إن إقامة الصلاة تعني إقامةً لأوامر كثيرة طالب الله عز وجل بها المكلفين، فحين تقيم الصلاة فإنك تقيم الكثير من أوامر الله عز وجل {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (1) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (2) {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (3) {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (4) {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (5) {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (6) {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (7) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (8) {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (9) {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (10) {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (11) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (12). ويكفيك لتعرف عظمة الصلاة أن تتدبر قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (13). {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (14) فمبنى الدين القيم على توحيد العبادة لله، والإخلاص فيها وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة. * * * وعرض نصوص الصلاة المتعلقة في السُّنَّة على طريقة التقسيمات الفقهية الدقيقة من الصعوبة بمكان لتداخل المواضيع في النصوص بعضها ببعض، ثم إن مجموع الروايات لا يحاط بها، وقد أردنا أن نسهل وأن بسط ما استطعنا، كما حاولنا أن نعرض الصلاة عرضاً يخفُّ على نفس القارئ، كما حاولنا أن نقدم بعض المواضيع لشعورنا أنها تحتاج في عصرنا إلى تركيز وزيادة تذكير. * * * هذا وإننا نذكر القارئ أنه لابد لمريد الآخرة من قراءة كتب الفقه المعتمدة فإنها هي التي جمعت الأحكام بعضها إلى بعض، وذكرت أمهات المسائل وأعطت الجواب على الفرعيات الكثيرة، فحاول يا أخي أن تقرأ كتاباً من كتب الفقه على مذهب إمام، وحاول أن تكون قراءتك على عالمٍ متقنٍ فقيهٍ ورعٍ بصير بموارد الفتوى ومصادرها. فهناك قضايا في الشريعة نصوصها قطعية الثبوت قطعية الدلالة ما ذكرنا فهذه لا يختلف فيها أئمة أهل السُّنة والجماعة أما ما سوى ذلك من النصوص فقد يجمعون على فهم موحد فيه وقد يختلفون وهناك مسائل مبناها على القياس فقد يجمعون عليها وقد يختلفون فما أجمعوا عليه لا يسع مسلماً أن يشذّ فيه وما اختلفوا فيه فإن المسلم يسعه أن يتبع أي واحد منهم. والأصل أن يكون المسلم على مذهب إمام وأن يتفقه في مذهبه ولا يترك مذهبه في مسألة إلى مذهب آخر إلا إذا كانت هناك ضرورة أو ترجح لديه - إن كان من أهل العلم - دليل مذهبٍ آخر، أو نزل على حكم القضاة العدول فيما لا يخرج عن آراء أئمة الاجتهاد. إن أئمة الاجتهاد هم الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تضع كل نص في محله في بناء الشريعة، ومن ههنا، كان لكلامهم وزن خاص عندما يتعاملون مع النصوص فهماً أو توجيهاً أو تخصيصاً أو تقييداً، ويعرفون ما يدخل في دائرة القياس وما لا يدخل وما
يخرق الإجماع وما لا يخرق، نحن في هذا الكتاب نعرض للمواضيع الفقهية عرضاً إجمالياً يتسم بالاختصار المركز ونتخير من المسائل والفوائد والأقوال ما نرى أن هناك ضرورة في التعرف عليه، وفي أقصى حدود الاختصار معتمدين على أن المسلم له دراساته في الفقه والعقائد والأصول وغير ذلك من أصول الثقافة الإسلامية وفروعها. على ضوء هذا التقديم تُقْبِل على كثيرٍ من المواضيع الفقهية التي ستمر بنا فيما يأتي من هذا الكتاب ومن ذلك فقه الصلاة: يَعْرِضُ بعض الفقهاء أحكام الصلوات الخمس فيذكر أن لها شروطاً وأركاناً وواجبات وسنناً وآداباً، وأن هناك مكروهاتٍ تنزيهية وتحريمية ومفسداتٍ تطرأ عليها فالمفسد يبطلها والمكروه تحريماً يوجب إعادتها، والمكروه تنزيهاً يُتساهل فيه، وكذلك الأدب والسنة، أما ترك الواجب عمداً؛ فيوجب إعادتها مادام الوقت باقياً كارتكاب المكروه تحريماً، وإذا أخل إنسان بركن أو شرط لغير عذر مقبول شرعاً فإن صلاته تبطل لأن الشرائط والأركان فرائض في الصلاة. فإذا انتهوا من ذلك تحدثوا عن الوتر على اعتبار أنه الأقوى إلزاماً بعد الصلوات الخمس ويذكرون بعض خصوصيات الوتر، ثم يتحدثون عن نوافل وصلوات بعضها فرض كفاية كصلاة الجنازة وبعضها سنة كفاية كصلاة التراويح في المسجد وبعضها واجب في رأيهم كصلاة العيد وبعضها سنن مؤكدة وبعضها سنن غير مؤكدة، ويتحدثون في هذا الخِضَّم عن نوافل مطلقة ونوافل مقيدة فالصلاة خير موضوع. وهناك بعض الصلوات التي تختص بهيئة، ويلزم فيها بعض الشروط كصلاة الجنازة وهناك سجدتا التلاوة والشكر اللتان يلزم فيهما بعض الشروط ولهما أحكامهما الخاصة، وهناك طوارئ تؤثر على بعض الأحكام، وهناك صلوات لها أحكام زائدة على أحكام الصلوات الخمس ويرافقها آداب، وكل ذلك سيمر معنا تفصيلاً إلا أننا رأينا أن نؤخر صلاة الجنازة فنذكرها في القسم الرابع من هذا الكلام عن آداب التعامل مع الموت. وكنا ذكرنا بعض أحكام النذر ومن ذلك نذر الصلاة في قسم العقائد ونحن في هذا الجزء سنتعرض لما يتعرض له الفقهاء في أمهات مسائل الصلاة.
نبدأ بالحديث عن شروط الصلاة وهي خمسة: الطهارة، ستر العورة، استقبال القبلة، دخول الوقت، النية. ثم نتحدث عن أركان الصلاة وواجباتها وهيئاتها وأهم تلك الأركان والواجبات: تكبيرة الإحرام - القيام للقادر- قراءة القرآن - الركوع - الرفع من الركوع- السجود مرتين لكل ركعة- الجلوس بين السجدتين- القعود الأول في الصلاة الثلاثية والرباعية - القعود الأخير في كل صلاة - التشهد - السلام - الطمأنينة في أفعال الصلاة - الترتيب في أداء الصلاة - موالاة أفعالها - ترك الكلام الأجنبي عن الصلاة - ترك الفعل الكثير من غير جنس الصلاة. وسنن الصلاة وآدابها كثيرة ومن ذلك: أذكارها، والأذكار التي تأتي بعدها، هناك سنن داخل الصلاة وهناك سنن خارجة عنها. والمكروهات المفسدات كل ذلك سيأتي تفصيله معنا، وتفصيل ما يتعلق بالصلاة. وهكذا نجد أمامنا أبواباً كثيرةً كلها تحتاج إلى دراسة وفقه وسنعرض نصوص الصلاة وما يتعلق بها على أبواب، وهذه أبواب هذا الجزء:
الباب الأول: في نصوص مُذكرة ببعض الأصول في الصلاة. الباب الثاني: في شروط الصلاة. الباب الثالث: في أفعال الصلاة وأقوالها وما يدخل فيها من أركان وواجبات وسنن وآداب. الباب الرابع: في أفعال ممتنعة في الصلاة وأفعال جائزة. الباب الخامس: في المساجد والجماعة والجمعة. الباب السادس: في صلوات الليل والنهار في الأحوال العادية عدا الصلوات الخمس. الباب السابع: في الصلوات السنوية. الباب الثامن: في الصلوات في الأحوال العارضة. الباب التاسع: في صلاة المناسبات. الباب العاشر: في السجدات.
الباب الأول في نصوص مذكرة ببعض الأصول في الصلاة
الباب الأول في نصوص مذكرة ببعض الأصول في الصلاة وفيه الفصول التالية * الفصل الأول: في وجوب الصلاة وفرضيتها والمحافظة عليها وتعجيلها. * الفصل الثاني: في قضاء الفائتة. * الفصل الثالث: في صلاة الصبي. * الفصل الرابع: في ذكر بعض من لا تقبل صلاتهم.
الفصل الأول: وجوب الصلاة وفرضيتها والمحافظة عليها، وتعجيلها وما يتصل بذلك.
الفصل الأول: وجوب الصلاة وفرضيتها والمحافظة عليها، وتعجيلها وما يتصل بذلك. وفيه فقرات
الفقرة الأولى: في وجوب الصلاة وفرضيتها
الفقرة الأولى: في وجوب الصلاة وفرضيتها 237 - * روى الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً". 238 - * روى مسلم عن أبي مالكٍ الأشجعي عن أبيه. قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات "اللهم! اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". 239 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين الرَّجُل وبين الشرك: تركُ الصلاة". وفي رواية (1) الترمذي "بين الكفر والإيمان: تركُ الصلاة" وله في أخرى (2) "بين العبد وبن الشرك أو الكفر: تركُ الصلاة". وفي أخرى (3) "بين العبد وبين الكفر: تركُ الصلاة". وأخرج (4) أبو داود الرواية الآخرة من روايات الترمذي. 240 - * روى أحمد عن بُريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العهدُ الذي بيننا وبينهم: الصلاةُ، فمن تركها فقد كفر".
241 - * روى الترمذي عن عبد الله بن شفيقٍ رحمه الله قال: "كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركهُ كفرٌ غير الصلاة". 242 - * روى أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة متعمداً فقد حَبِطَ عملهُ". تعليق: أهل السنة يرون أن الإيمان هو: الإقرار باللسان والتصديق بالجنان وثمرته العمل بالأركان، وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين وقد لقوا الله تعالى عارفين مؤمنين، فهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا نهم، بفضله كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) في كتابه العزيز وإن شاء عذبهم في النار بقدر جنايتهم بعدله ثم يخرجهم منها برحمته ا. هـ (العقيدة الطحاوية) والصلاة والزكاة والصوم من الأعمال فلا يكفُرُ تاركها المؤمن بها. وجماهير العلماء حملت النصوص التي مرت معنا على تارك الصلاة المستحل أو على أن المراد بذلك ما يقابل الشكر - أي كفر عملي - فالحنفية والشافعية والمالكية هذا رأيهم وقال الإمام أحمد بكفر تارك الصلاة كفراً حقيقياً يستوجب الخلود في النار وتارك الصلاة عند الإمام أحمد يقتل كفراً لأنه مرتد عنده، فهذه عقوبته دنيوياً عند أحمد، والحنفية يروْنَ أن عقوبته الدنيوية الحبس والضرب ضرباً شديداً حتى يسيل منه الدم، حتى يصلي ويتوب أو يموت في السجن، وقال الشافعية والمالكية: تارك الصلاة بلا عذر ولو ترك صلاة واحدة يستتاب ثلاثة أيام كالمرتد وإلا قُتِلَ إن لم يتب، ويقتل حداً لا كفراً أي لا يحكم بكفره وإنما يقتل عقوبةً وبعد الموت يغسَّل ويصلي عليه ويدفن مع المسلمين. 243 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "سأل رجلٌ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: يا رسول الله، كم فرض الله على عباده من الصلوات؟ قال: "افترض الله على عباده صلواتٍ خمساً"، قال: يا رسول الله، هل قبْلَهُنَّ أو بعدَهُنَّ من شيء؟ قال: "افترض الله على عباده صلوات خمساً"، فحلف الرجل لا يزيدُ عليه شيئاً، ولا ينقص منه شيئاً"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ليدخُلَنَّ الجنة". 244 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "فُرِضَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به الصلاة خمسين، ثم نُقِصَت حتى جُعلت خمساً، ثم نُودي: يا محمدُ، إنه لا يُبدلُ القول لديَّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين". أقول: قد كانت الصلاة مفروضة قبل ليلة الإسراء والمعراج إلا أن استقرار الفريضة على خمس صلوات في اليوم والليلة هو الذي حصل في تلك الليلة وقد مرت معنا تفصيلات ذلك في قسم السيرة، كما مر معنا الخلاف في تحديد زمن الإسراء والمعراج والذي عليه العمل أنه كان في سبع وعشرين من رجب على خلافٍ كثيرٍ في تحديد السَّنة ومن الأقوال في ذلك أنه كان قبل سنة ونصف من الهجرة. 245 - * روى الترمذي عن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلماتٍ: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يُبطئ بها، فقال له عيسى: إن الله أمرك بخمس كلماتٍ: أن تعمل بها، وتأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها (1)، فإما
أن تأمُرهم، وإما أن آمُرَهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخْسَفَ بي أو أُعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات: أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل من أشرك بالله شيئاً كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صلَّيتُم فلا تلتفتوا، فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ في عصابة معه صُرَّة فيها مسك، كلهم يعجب - أو يعجبه - ريحها، وإنَّ ريح الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، وآمرُكم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدوُّ، فأوثقوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، وكذلك العبدُ لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعةُ، والجهادُ، والهجرةُ، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شِبْر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يُراجع، ومن دعا دعوى الجاهلية، فإنه من جثيِّ جهنم"، فقال رجل: يا رسول الله وإن صام وإن صلَّى؟ قال: "وإن صام وإن صلَّى، فادْعوا بدعوى الله التي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله".
246 - * روى أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخْطُب في حجة الوداع، فقال: "اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخُلوا جنَّةَ ربِّكم" قال الراوي: قلت لأبي أمامة: منذُ كم سمعت هذا الحديث؟ قال: سمعتُه وأنا ابن ثلاثين سنة. 247 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين، أو كُتِبَ من القانتين". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الكلام أربعة، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". 248 - * روى ابن خزيمة عن سَمُرة بن جُندبٍ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "هل رأى أحدٌ منكم رؤيا"؟ فيقُصُّ عليه من شاء الله أن يقُصَّ"، وإنه قال لنا ذات غداةٍ: "إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني، فقالا لي: انطلقْ انطلقْ، فأتينا على رجل مضطجعٍ، وإذا آخَرُ قائم على رأسه بصخرةٍ، وإذا هو يهوي بالصخرة فيبلغُ رأسه فيُدهدَهُ الحجرُ هاهنا، فيتبعُه فيأخذه فما يرجعُ إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به كما فعل المرة الأولى"، فذكر الحديث بطوله، وقال: قالا: أما إنا سنخبرُك، أما الرجل الذي أتيت عليه يُثْلَغُ رأسه، فإنه رجلُ يأخذُ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة". أقول: لقد ثبتت فرضية الصلوات الخمس بالكتاب والسنة والإجماع، أما السنة فقد رأينا في هذا الفصل وفي قسم العقائد مايكفي في إثبات ذلك، وأما الكتاب فأوضح آية تدل على أنها خمس هي قوله تعالى: (1)، فأقل
عدد يدخل في الأمر هو العدد خمسة، وذلك أن الصلوات جمع، وأقل الجمع الذي له وسط هو الخمسة فمثلاً: لو كانت الصلوات ثلاثة لكان ما سوى الوسطى ثنتين وليس ذلك جمعاً، وقد استدل بعضهم أن الصلوات خمس لقوله تعالى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (1)، وعلى كل فالسنة المتواترة أن الصلوات المفروضة خمس، وعلى ذلك انعقد الإجماع. * * *
الفقرة الثانية: في فضل الصلاة مطلقا
الفقرة الثانية: في فضل الصلاة مطلقاً 249 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعةِ: كفاراتٌ لما بينهن" زاد في رواية (1) "ما لم تُغش الكبائر" وزاد في أخرى (2) "ورمضان إلى رمضان: مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ، إذا اجتنبت الكبائرُ". 250 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسلُ فيه كل يوم خمس مرات، ما تقولون ذلك يُبقي من درنه؟ " قالوا: لا يُبقي من درنه شيئاً، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا". وفي رواية (3) "مثل الصلوات الخمس، مثلُ نهرٍ عظيم ببابِ أحدكم يغتسلُ فيه كل يوم خمس مراتٍ، فإنه لا يُبقي من درنه شيئاً". 251 - * روى مسلم عن جابر رض الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهرٍ جارٍ غمرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مراتٍ"، قال الحسن وما يُبقي ذلك من الدَّرن؟. 252 - * روى أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كان رجلان أخوانِ،
فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلةً، فذكرتْ فضيلةُ الأول منهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يكن الآخر مسلماً؟ " قالوا: بلى، وكان لا بأس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يُدريكم ما بلغتْ به صلاتُه؟ إنما مثلُ الصلاة كمثل نهرٍ عذبٍ غمرٍ بباب أحدكم، يَقْتَحِمُ فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يُبقي من درنه؟ فإنكم لا تدرون ما بلغتْ به صلاتهُ". 253 - * روى الشيخان عن حمران مولى عثمان قال: "كنتُ أضعُ لعثمان طهوره، فما أتى عليه يومٌ إلا وهو يُفيضُ عليه نُطفةً - يعني من ماء - وقال: قال عثمان: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافنا من صلاتنا - أُراه قال: العصر - فقال: "ما أدري، أحدِّثُكُم، أو أسْكُتُ؟ " قال: فقلنا: يا رسول الله، إن كان خيراً فحدثنا، وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم، قال: "ما من مسلم يتطهرُ فيُتمُّ الطهارة التي كتب الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس، إلا كانت كفاراتٍ لما بينها". وفي رواية (1) "أنَّ عثمان لما توضأ قال: والله لأحدثنكم حديثاً لولا آيةٌ في كتاب الله ما حدثتكموه، سمعت رسول الله صلى الله لعيه وسلم يقول: "لا يتوضأ رجلٌ وضؤه، ثم يصلي الصلاة، إلا غُفِرَ له ما بينه وبين الصلاة التي تليها". قال عروة بن الزبير: الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله- {اللَّاعِنُونَ} (2). وفي رواية (3) للبخاري: "أن عثمان توضأ، فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: "من توضأ نحو هذا الوضوء، ثم أتى المسجد
فركع ركعتين، ثم جلس، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه". وفي أخرى (1) لمسلم قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد، غُفِرَ له ذنوبُهُ". وفي أخرى (2) لهما "أن عثمان توضأ يوماً وضوءاً حسناً، ثم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فأحسن الوضوء، ثم قال: منْ توضأ هكذا، ثم خرج إلى المسجد، لا ينهزُه إلا الصلاةُ، إلا غُفِرَ له ما خلا من ذنبهِ". وفي أخرى (3) عن عمرو بن سعيد بن العاص "أن عثمان دعا بطهوره، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امريء مسلم تحضُره صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحسِنُ وضوءها، وخُشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأتِ كبيرةً، وذلك الدهر كله". 254 - * روى مالك "ان عثمان جلس يوماً على المقاعد، فجاءه المؤذِّنُ فآذنه بصلاةِ العصر، فدعا بماءٍ، ثم قال: والله لأحدثنكم حديثاً لولا آيةٌ في كتاب الله ما حدثتكموه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الل عليه وسلم يقول: "ما من امرئ يتوضأُ فيُحسنُ وضوءهُ، ثم يصلي الصلاة إلا غُفِرَ له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها". قال مالك: أُراه يريد هذه الآية (4).
255 - * روى مسلم عن أبي أمامة الباهليِّ رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعودٌ معه، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حداً، فأقِمْه عليَّ، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبعه الرجل، فاتبعْتُه أنظر ماذا يرُدُّ عليه، فقال له: "أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: "ثم شهدت الصلاة معنا؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: "فإن الله قد غفر لك حدَّك"- أو قال: "ذنْبَكَ". قال محقق الجامع: وقد جزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر، بدليل أن في بقية الخبر أنه كفَّرته الصلاة، بناء على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر، لا الكبائر، وهو لم يزن، وإنما فعل أشياء دون ذلك، وظن ما ليس زنا زناً، فلذلك كفرت ذنبه الصلاةُ. ا. هـ. 256 - * روى ابن خزيمة في صحيحه ما يبين أن الإثم الذي ارتكبه هو دون الزنا. 257 - * روى أحمد عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتها، إليَّ وباشرتها وقبلتها وفعلت بها كل شيء إلا إني لم أجامعها. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (1). فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه. فقال عمر: يا رسول الله صلى آله خاصة أو للناس كافة؟ فقال: "لا. بل للناس كافة". 258 - * روى أبو داود عن عُقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "عجبُ ربُّكَ من راعي غنمٍ في رأس شَظيَّةٍ للجبل يؤذِّنُ بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّنُ ويقيمُ الصلاة، يخاف مني، قد غفرتُ لعبدي وأدخلتُه الجنة". 259 - * روى أحمد عن مالك بن أنس بلغهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمنٌ". وفي رواية (1) "واعملوا، وخير أعمالكم الصلاة". 260 - * روى أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم "حُبِّبَ إليَّ [وفي رواية: من دنياكم] النساء، والطيبُ، وجُعلتْ قرةُ عيني في الصلاة". 261 - * روى مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: "كنتُ أبيتُ مع رسول الله صلى الله لعيه وسلم، فآتيه بوضوئه وبحاجته، فقال لي: "اسألني"، فقلت: إني أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك؟ "، قلتُ: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السُّجودِ". 262 - * روى مسلم عن معدان بن أبي طلحة قال: "لقيتُ ثوبان مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يُدخلُني الجنة- أو قلت: بأحب الأعمال إلى الله - فسكت، ثم سألته فسكتن ثم سألته الثالثة، فقال: سألتُ عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السُّجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة. قال معدان: ثم أتيتُ أبا الدرداء فسألته، فقال مثل ما قال لي ثوبان". 263 - * روى أحمد عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن رجلاً مر على قوم فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأُبْغِضُ هذا في الله، فقال أهل المجلس: بئس والله ما قُلتَ، لتبينَّه، قُمْ يا فلانُ، رجلٌ منهم فأخبِرْهُ، قال: فأدركه رسولهم فأخبره بما قال، فانصرف الرجل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بمجلسٍ من المسلمين فيهم فلانٌ سلمتُ عليهم فردوا السلام، فلما جاوزتُهم أدركني رجلٌ منهم فأخبرني أن فلاناً قال: لا الله إني لأبْغِضُ هذا الرجل في الله فادعُه يا رسول الله فسله على ما يُبْغِضُني؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما أخبره الرجلُ، فاعترف بذلك وقال: لقد قلتُ ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلِمَ تُبْغِضُه؟ " قال: أنا جارُه وأنا به خابرّ والله ما رأيتُه صلى صلاة قط إلا هذه الصلاة المكتوبة التي يُصليها البَّرُ والفاجرُ قال: سلهُ يا رسول الله هل رآني أخرْتُها عن وقتها أو أسأتُ الركوع والسُّجود فيها فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا. قال: والله ما رأيته يصوم قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر قال: سله يا رسول الله هل رآني فرَّطْتُ فيه أو تنقَّصْتُ من حقه شيئاً فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا. قال: والله ما رأيته يعطي سائلاً قطُّ ولا رأيته ينفق من ماله شيئاً في شيءٍ من سبيل الله بخير إلا هذه الصدقة التي يؤديها البرُّ والفاجرُ قال فسله يا رسول الله هل كتمتُ من الزكاة شيئاً قط أو ما كست فيها طالبها فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم إن أدري لعله خير منك". 264 - * روى الطبراني في الثلاثة عن عبد الله بن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1):
"تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصُبح غسلتْه، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها ثم تنامون فلا يُكتبُ عليكم حتى تستيقظوا". 265 - * روى أحمد عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولُ "إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة". 266 - * روى أحمد عن الحارث مولى عثمان قال: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه، فجاء المؤذن فدعا بماء في إناء أظنه يكون فيه مُدٌّ فتوضأ ثم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما نا بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغُ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غُفِرَ له ما بينها وبين صلاة العشاء وهن الحسناتُ يذهبن السيئات" قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات يا عثمان قال: هن: لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. 267 - * (1) روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال أبو عمرو الشيباني
- واسمه سعد بن إياس - حدثني صاحب هذه الدار - وأشار بيده إلى دار عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة لميقاتها"، قلت: ثم أيُّ؟ قال: برُّ الوالدين، قلت: ثم أيُّ؟ قال: "الجهادُ في سبيل الله"، قال: حدثني بهن، ولو استزدتُه لزادني". وفي رواية الترمذي (1) "أيُّ العمل أفضلُ؟ ". وفي رواية لمسلم (2) "فما تركتُ أستزيدُه إلا إرعاءً عليه". 268 - * روى أبو داود عن عبد الله بن حبشي الخثعميِّ رضي الله عنه قال: "سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: "طولُ القيامِ"، قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: "جُهْدُ المُقِلِّ"، قيل: فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر ما حرم الله عليه"، قيل: فأيُّ الجهاد أفضل؟ قال: "من جاهد المشركين بماله ونفسه"، قيل: فأي القتل أشرفُ؟ قال: "من أهريق دمه وعُقِرَ جوادُه". وفي رواية النسائي (3): أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: "أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ لا شك فيه، وجهاد لا غُلول فيه، وحجةٌ مبرورةٌ"، قيل: فأيُّ الصلاة أفضلُ؟ قال: "طول القنوت"، قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: "جُهْدُ المُقلِّ"، قيل: فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر ما حرم الله عليه"، قيل: فأيُّ الجهاد أفضل؟ قال: "من جاهد المشركين بنفسه وماله"، قيل: فأيُّ القتل أشرف؟ قال: "من أُهريق دمه، وعُقِرَ جوادُه". 269 - * روى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منتظرُ الصلاة بعدَ
الصلاة كفارسٍ اشتد به فرسُه في سبيل الله على كشحِه وهو في الرباط الأكبر. 270 - * روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلة آت من ربي- وفي رواية: أتاني ربي - في أحسن صورةٍ، فقال لي: يا محمد، قلت: لبي ربي وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصمُ الملأُّ الأعلى؟ قلت: لا أعلم، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدتُ بردَها بين ثدييَّ- أو قال: في نحري - فعلمتُ ما في السموات وما في الأرض - أو قال: ما بين المشرق والمغرب - قال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الدرجات والكفارات، ونقلِ الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السَّبَراتِ المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، فقال: إذا صلتَ، فقل: اللهم إني أسألك فعلَ الخيراتِ، وترك المنكرات، وحُبَّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضْني إليك غير مفتون، قال: والدرجاتُ: إفشاءُ السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام".
271 - * روى الطبراني في الأوسط عن المِسْوَر ابن مخرمة قال: دخلتُ على عمر بن الخطاب وهو مُسجَّي، فقلت: كيف ترونه؟ قالوا: كما ترى. قلت: أيقظوه بالصلاة فإنكم لن توقظوه لشيءٍ أفزعَ له من الصلاة. فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين فقال ها الله إذاً ولا حق في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى وإن جُرحَهُ ليثْعُبُ دماً. عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في إثر صلاة، لا لغو بينهما، كتابٌ في عليين". ودخل ابن عمر المسجد، فرأى قوماً يصلون، فقال: يا أيُّها الناس أبشروا، فإنه ما منكم من بعث النار أحد، ثم قرأ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42] (1). شرح السنة 2/ 174.
الفقرة الثالثة: في الترغيب في المحافظة على الصلاة والترهيب من تركها وفضل النوافل
الفقرة الثالثة: في الترغيب في المحافظة على الصلاة والترهيب من تركها وفضل النوافل 272 - * روى مالك عن عُبادة بن الصامت رفعه: "خمس صلوات افترضهن الله على عباده فمن جاء بهن لم ينتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن فإن الله جاعلٌ له يوم القيامة عهداً أن يدخله الجنة ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". 273 - * روى أحمد عن حنظلة الكاتب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حافظ على الصلوات الخمس رُكوعهن وسُجودهن ومواقيتهن وعلم أنهن حقٌ من عند الله دخل الجنة، أو قال، وجبت له الجنة، أو قال، حَرُمَ على النار". 274 - * روى أحمد عن بعد الله بن عمروٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ومن لم يُحافظُ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ؛ وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وأُبي بن خلفٍ". 275 - * روى أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) "لتُنْقَضَنَّ عُرى الإسلام
عروةٌ عروةٌ، فكلما انتقضت عروةٌ تشبث الناسُ بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحُكْمُ، وآخرهن الصلاة". 276 - * روى الطبراني عن عبد الله بن قرْط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاةً ل يُتِمَّها زيد عليها من سبحاته حتى تتم". 277 - * روى أبو داود عن حريث بن قُبيصةَ قدِمْتُ المدينة فقلت اللهم يسرْ لي جليساً صالحاً، فجلست إلى أبي هريرة فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن ينفعني به، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما يحاسبُ به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب تعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على ذلك". 278 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه كان لا يكاد يصومُ وقال: إني إذا صمتُ ضعفتُ عن الصلاة، والصلاة أحبُّ إليَّ من الصيام فإن صام صام ثلاثة أيامٍ من الشهر وفي بعض طرقه ولم يكن يصلي الضحى (مج). 279 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (1): "قال
الله تعالى: من عادى لي ولياً، فقد أذنته بالحرب، وما تقربَّ إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ من أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبهُ، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيتُه، وإن استعاذ بي أعذته، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءتَه".
الفقرة الرابعة: في فضل صلاة الفجر
الفقرة الرابعة: في فضل صلاة الفجر قال الله سبحانه وتعالى: (1)، أي: وصلِّ، يقال: فرغَ فلان من سبحتهِ، أي: من صلاته. وقال الله سبحانه وتعالى: (2)، وأراد بقرآن الفجر: صلاة الصبح (كان مشهوداً)، أي: تحضُرها ملائكةُ الليل، وملائكةُ النهار. 280 - * روى الترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: (3)، قال: "تشهدهُ ملائكةُ الليلِ، وملائكةُ النهارِ. 281 - * روى مسلم عن أنس بن سيرين قال: سمعتُ جندُبَ بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم: "من صلَّى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلُبَنكم الله من ذمَّتِهِ بشيءٍ، فإنه من يطلبهُ من ذمته بشيءٍ يُدركه، ثم يكُبَّه على وجهه في نار جهنم". وفي رواية الترمذي (4) مثله، وقال: "فلا تُخْفِروا الله في ذمته". 282 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعةٍ، ثم قعَد يذكرُ الله حتى تطلُعَ الشمس، ثم صلى
ركعتين، كانت له كأجر حجةٍ وعمرةٍ" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تامةٍ تامةٍ تامةٍ". 283 - * روى مسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمُرَة: "أكنت تجالس رسول الله صلى الله لعيه وسلم؟ قال: نعم، كثيراً، كان لا يقوم من مُصلاه الذي صلى فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمسُ، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية (1) "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مُصلاه حتى تطلُعَ الشمسُ حسناً". وأخرجه الترمذي (2) قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر قعد في مُصلاه حتى تطلُع الشمسُ". وأخرجه أبو داود (3) مثل الأولى إلى قوله: "فإذا طلعت الشمس قام". وأخرج الثانية، وقال: "تربع في مجلسه" وأخرجه النسائي (4).
الفقرة الخامسة: في فضل صلاتي الفجر والعصر
الفقرة الخامسة: في فضل صلاتي الفجر والعصر 284 - * روى مسلم عن عُمارة بن رُويبية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلِجَ النار أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني الفجر والعصر - فقال له رجلٌ من أهل البصرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فقال الرجل: وأنا أشهدُ أني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية (1) أبي داود قال: "سله رجلٌ من أهل البصرة: أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، ولم يفسرهما بالفجر والعصر، فقال له رجلٌ: أنتَ سمعته منه؟ - ثلاث مرات - قال: نعم، كُلُّ ذلك يقول: سمعتهُ أُذُنَاي، ووعاه قلبي، قال الرجل: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. 285 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ صلى البرْدَيْن دخل الجنة". قال ابن حجر: والمراد صلاة الفجر والعصر، ويدل على ذلك قوله في حديث جرير "صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" زاد في رواية لمسلم "يعني العصر والفجر" قال الخطابي: سميتا بردين لأنهما تصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر، ونقل عن أبي عبيد أن صلاة المغرب تدخل في ذلك أيضاً، وقال البزار في توجيه اختصاص هاتين الصلاتين بدخول الجنة دون غيرهما من الصلوات ما محصله: إن من موصولة لا شرطية، والمراد الذين صلوهما أول ما فرضت الصلاة ثم ماتوا قبل فرض الصلوات الخمس، لأنها فرضت أولا ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس، فهو خبر عن ناس مخصوصين لا عموم فيه. قلت [أي ابن حجر]: ولا يخفى ما
فيه من التكلف، والأوجه أن "من" في الحديث شرطية. وقوله "دخل" جواب الشرط، وعدل عن الأصل وهو فعل المضارع كأن يقول يدخل الجنة، إرادة للتأكيد في وقوعه بجعل ما سيقع كالواقع. ا. هـ. 286 - * روى الشيخان عن جرير بن عبد الله: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا". أقول: التأكيد على صلاتي الفجر والعصر لأنهما وقتا غفلة ونوم أو لأنَّ الفجر وقت نوم والعصر وقت عمل لبعض الناس فمن حافظ عليهما كان على غيرهما أكثر محافظة. 287 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل، وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم فيسألُهم ربُّهم وهو أعلم بهم: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلُّون، وتيناهم وهم يُصلون" ولفظه في إحدى روايات ابن خزيمة. عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "تجتمع ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعدُ ملائكةُ الليل وتثبتُ ملائكةُ النهار. ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النهار وتثبت ملائكة الليل. فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يُصلون وتركناهم وهم يُصلون، فاغفر لهم يوم الدين".
الفقرة السادسة: في ما ورد في العشاء والفجر
الفقرة السادسة: في ما ورد في العشاء والفجر 288 - * روى مالك عن سعيد بن المسيب رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بيننا وبين المنافقين شُهودُ العشاء والصبح، لا يستطيعونهما، أو نحو هذا". 289 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الفضل لأتوهما ولو حبواً". 290 - * روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلمُ الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهمُوا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمُون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". قال البغوي والاستهام: الاقتراع، يقال: استهم القومُ فسهمهم فلانٌ، أي: قرعهُمْ، ومنه قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (1) وقيل الإقتراع: استهامٌ، لأنها سهامٌ تكتبُ عليها الأسماء، فمن وقع له منها سهمٌ فاز بالحظ المقسوم. والتهجير: التبكيرُ لصلاة الظهر، والهجير والهاجرةُ: نصف النهار. وقيل: أراد بالتهجير التبكير إلى كل صلاة، لوم يُرد الخروج في الهاجرة، وقال النضرُ بن شُميلٍ عن الخليل قال في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "فالمهَجِّرُ كالمُهدي بدنةَّ" أي: المبكر إلى الجمعة. (شرح السنة 2/ 230). 291 - * روى مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء في جماعةٍ كان كقيام نصف ليلةٍ، ومن صلى الفجر في جماعةٍ كان كقيام ليلةٍ".
الفقرة السابعة: في فضل صلاة العصر وهل هي الصلاة الوسطى؟
الفقرة السابعة: في فضل صلاة العصر وهل هي الصلاة الوسطى؟ 292 - * روى الجماعة عن بعد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوتُه صلاةُ العصر كأنما وُتِرَ أهله وماله". وعند أبي داود في رواية أخرى "أُوتِرَ". 293 - * روى البخاري عن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة رضي الله عنه في غزاةٍ في يوم ذي غيم، فقال: بكرُوا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". 294 - * روى مسلم عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) فقال رجلٌ - كان جالساً عند شقيقٍ - له: فهي إذاً صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم".
295 - * روى الجماعة إلا البخاري عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنهما قال: أمرتني عائشةُ رضي الله عنها أن أكْتُبَ لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذني {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) قال: فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: ما أثبتته عائشة رضي الله عنها له حكم تفسير للآية، وهي من باب منسوخ التلاوة. 296 - * روى الترمذي عن سَمُرة بن جُندب وابن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاةُ الوُسطى: صلاةُ العصرِ". 297 - * روى الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب - وفي رواية يوم الخندق- "ملأ الله قبُورهم وبيوتَهُم ناراً، كما شغلونا عن الصلة الوسطى حتى غابت الشمسُ". وفي رواية (2): "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر"، وذكر نحوه وزاد في أخرى (3): ثم صلاها بين المغرب والعشاء.
298 - * روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حبسَ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمَرَّت الشمس أو اصفرّت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، أو حشا الله أجوافَهُم وقبورهم ناراً". قال البغوي: اختلف أهلُ العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في الصلاة الوُسطى، فذهب قوم إلى أنها صلاة الفجر، يُروى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، [وغيرهم]، وبه قال من التابعين عطاءٌ، وعكرمةُ، ومُجاهدٌ، وهو قول مالك، والشافعي، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] والقُنوت: طولُ القيام، وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام وبالقنوت، ولأن الله تعالى خصَّها في آية أخرى من بين الصلوات، فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] يعني: يشهدُها ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، ولأنها بين صلاتي جمعٍ، وهي لا تُقصر ولا تُجمع إلى غيرها، ولأنها صلاةٌ تُصلى في سوادٍ من الليل، وبياضٍ من النهار، فصارتْ كأنها من الليل والنهار. د وذهب قومٌ إلى أنها صلاة الظهر، يُروى ذلك عن زيد بن ثابت، وأبي سعدٍ الخدري، وأسامة بن زيد، ولأنها في وسط النهار، وهي أوسط صلوات النهار في الطول، ورُفِعت الجماعاتُ لأجلها يوم الجمعة. (1) ا. هـ. 299 - * روى أبو داود عن زيدِ بن ثابتٍ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي للظُهر
بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاةً أشد على أصحاب النبي صلى لله عليه وسلم منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1)، وقال: إن قبْلها صلاتين، وبعدها صلاتين. قال البغوي: وذهب أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم إلى أنها صلاة العصر، رواه جماعةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول أصحاب الرأي. قال شعيب: وقول أحمد، والذي صار إلي معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، وهو قول ابن حبيب، وابن العربي، وابن عطية من المالكية، وقال الحافظ: وهو المعتمد. قال البغوي: وخصها النبي صلى الله عليه وسلم بالتغليظ، روى بُريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ ترك صلاة العصر حبط عملُه" [هو في الصحيح]. وقال قبيصةُ بن ذُؤيب: هي صلاةُ المغرب، لأنها وسط ليس بأقلها، ولا أكثرها، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ من السلف أنها صلاةُ العشاء، وذكرهُ بعض المتأخرين، لأنها بين صلاتين لا تُقصران. وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها، أبهمها الله عز وجل تحيضاً للخلق للمحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القَدرْ في شهر رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة. (شرح السنة 2/ 235 فما بعدها).
الفقرة الثامنة: في تعجيل الصلاة إذا أخر الإمام
الفقرة الثامنة: في تعجيل الصلاة إذا أخر الإمام 300 - * روى مسلم عن أبي ذرَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أمراء يُؤخرون الصلاة عن مواقيتها، ألا صل الصلاة لوقتها، ثم أئئتهم، فإن كانوا قد ضلوا كنت أحرزت صلاتك، وإلا صليت معهم، وكانت لك نافلة". قال البغوي: وفي هذا الحديث دليل على أن الخروج على السلطان لا يجوز ما دام يُقيمُ الصلاة، لأنه لم يرخص في ذلك مع تأخيرهم الصلاة عن الوقت، وكيف يجوزُ على من يُصلِّيها لوقتها؟!. عن أبي ذر قال- يعني النبي صلى الله عليه وسلم-: "كيف بك أو كيف أنت إذا بقيتَ في قومٍ يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ فصلِّ الصلاة لوقتها، ثم نْ أقيمت الصلاةُ، فصلِّ معهم، فإنها زيادة خيرٍ". قال البغوي: هذا قول أكثر أهل العلم يستحبُّون تعجيل الصلوات في أول الوقت إذا أخر الإمام، ولا يترك أول الوقت لأجل الجماعة، ثم يُصلِّي مع الإمام، والأولى هي المكتوبة عند أكثر أهل العلم، والثانية نافلة (شرح السنة 2/ 240). 301 - * روى أحمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعودٍ عن أبيه أن الوليد بن عُقبة أخرَ الصلاة يوماً فقام عبد الله بن مسعود فثوّب بالصلاة بالناس فأرسل إليه الوليدُ ما حملك على ما صنعت أجاءك من أمير المؤمنين أمرٌ فنعما فعلت أم ابتدعتَ؟ فقال: لم يأتني من أمير المؤمنين أمر ولم أبتدع ولكن أبي الله عز وجل علينا ورسوله صلى الله عليه وسلم أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك.
أقول: في تصرف ابن مسعود إشارة إلى أن الأمير إذا أهمل في إقامة سنة فليس على المسلمين حرج في أن يقيموها، وإن خالفوا رغبة الأمير ما دام ذلك ممكناً في حقهم ولا يترتب عليه إيذاء أو ضرر، ولم تكن هناك مصلحة مرعية أكبر مما أهمله الأمير.
الفقرة التاسعة: في الراحة بالصلاة
الفقرة التاسعة: في الراحة بالصلاة 302 - * روى أبو داود عن سالم بن أبي الجعْدِ قال: "قال رجلٌ من خُزاعة: ليتني صليتُ فاسترحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أقم الصلاة يا بلال، أرحنا بها". وفي رواية (1) عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: "انطلقتُ أنا وأبي إلى صهرٍ لنا من الأنصار نعُودهُ، فحضرتِ الصلاةُ، فقال لبعض أهلهِ: يا جاريةُ، ائتوني بوضوء لعلي أُصلي فأستريح، قال: فأنكرنا ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قُمْ يا بلالُ، فأرحنا بالصلاة". أقول: وإنما عابوا على الأنصاري قوله، لأنهم فهموا منه أنه يريد الراحة منها، فأفهمهم أنه أراد ما أراده رسول الله صلى الله من الراحة بها ومن قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن الصلاة بالنسبة للمسلم راحة ومن تأمل واقع الحال وكثرة الأمراض العصبية عند غير المسلم أدرك محل الصلاة في تأمين راحة الإنسان.
الفقرة العاشرة: في السمر بعد العشاء
الفقرة العاشرة: في السَّمَر بعد العشاء 303 - * روى الشيخان عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بكرة النوم قبل العشاء والحديث بعدها". وعند أبي داود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْهي عن النوم قبلها، وعن الحديث بعدها". 304 - * روى أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمُرُ مع أبي بكرٍ في الأمر من أمر المسلمين، وأنا معهما". قال: وفي الباب عند عبد الله بن عمرو، وأوس بن حذيفة، وعمران الحصين. أقول: فهم العلماء أن هذا النص يخصص النهي الوارد في الحديث السابق فأجازوا الحديث بعد العشاء إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة ومن باب أولى إذا تحقق في الحديث بعد العشاء مطلب شرعي.
الفقرة الحادية عشر: في تسمية الصلوات
الفقرة الحادية عشر: في تسمية الصلوات 305 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تغلبنكم الأعرابُ على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء وهم يُعتمون بالإبل". وفي رواية (1): "على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء وأنها تُعتِمُ بحلاب الإبل". قال الشيخ وهبي: ورد في الحديث الصحيح تسمية العشاء العتمة ففي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال " .... ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولوْ حبْوا". أقول: ولذلك فسر الأزهري الحديث بما رأيناه إلا أن المتبادر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن تسمى صلاة العشاء بالعتمة وكان من سنته عليه الصلاة والسلام تغيير الأسماء إلى ما هو أحسن وأجمل، قال السندي: أي الاسم الذي ذكر الله تعالى في كتابه لهذه الصلاة اسم العشاء والأعراب يسمونها العتمة فلا تكثروا من استعمال ذلك الاسم لما فيه من غلبة الأعراب عليكم بل أكثروا استعمال اسم العشاء موافقة للقرآن. 306 - * روى البخاري عن عبد الله بن مُغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغلبنكم الأعرابُ على سام صلاتكم المغرب، قال وتقول الأعراب: هي العشاء". أقول: كما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغلب اصطلاحات الأعراب اسم صلاة العشاء كذلك كره أن تغلب اصطلاحات الأعراب على اسم صلاة المغرب والموضوع يحتمل أكثر من اتجاه في الفهم إلا أنني أميل إلى هذا الفهم.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد إن شروط وجوب الصلاة ثلاثة هي: الإسلام والعقل والبلوغ، فتجب الصلاة على كل مسلم عاقل بالغ، وبالنسبة للمرأة ألا يكون عندها مانع من حيض أو نفاس. أولاً: الإسلام: فلا تجب على كافر عند الجمهور- وجوب مُطالبةٍ - لعدم صحتها منه، وهذه المسألة متفرعة على مسألة أصولية: هل الكافر مطالب بأصول الشريعة وفروعها في الدنيا، أو أنه مطالب في الأصول فقط؟ إلا أن العلماء متفقون على أنه لا قضاء على الكافر إذا أسلم لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1). 307 - * روى أحمد والحديث صحيح: "الإسلام يجبُّ ما قبله". بهذه المناسبة نذكر ما قاله النووي رحمه الله: الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم الإجماع فيه: إن الكافر إذا فعل أفعالاً جميلة، كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام، أن ثواب ذلك يكتب له. ثانياً: البلوغ: فلا تجب الصلاة على الصغير ذكراً أو أنثى، ولكن يؤمر بها إذا بلغ سبع سنين، ويضرب عليها إذا بلغ عشر سنين، وقيَّد بعضهم الضرب بأن يكون باليد لا بخشبة ونحوه بما لا يزيد عن ثلاث ضربات إن أفاد وإلا فلا. ثالثاً: العقل: فلا تجب الصلاة على المجنون والمعتوه وهناك تفصيلات فيمن غُطي عقله بعارض من حيث وجوب القضاء أو عدمه. ولا تطلب الصلاة ولا تقضي من حائض ونفساء ولو طرحتْ نفسها بضرب أو دواء أو نحوها. وإذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون وطهُرَتْ الحائض أو النفساء أو أسلم الكافر وبقي من الوقت عند الحنابلة والشافعية في الأظهر قدر تكبيرة الإحرام فأكثر وجب قضاء صلاة ذلك
الوقت، كما يجب عند جمهور الفقهاء غير الحنفية، قضاء الصلاة الأخرى التي يمكن جمعها مع الصلاة كالظهر بالنسبة للعصر وكالمغرب بالنسبة للعشاء وقال المالكية: إن كان عنده قدر ما يدرك خمس ركعات في الحضر وثلاثاً في السفر من وقت الثانية وجبت الأولى أيضاً وإن أدرك ركعة فقط وجبت الأخيرة وسقطت الأولى وإن بقي من الوقت ما يسع أقل من ركعة سقطت الصلاتان عند المالكية. والقول الأقوى: أنه لا تجب إلا صلاة الوقت وهناك تفصيلات في كتب كل مذهب حول هذه الشروط، فليراجعها المسلم في كتاب من كتب مذهبه. (راجع مراقي الفلاح ص 28، والمهذب 1/ 50 فما بعدها، والمغني 1/ 396 - 401، والفقه الإسلامي 1/ 564 - 567).
الفصل الثاني في قضاء الفائتة
الفصل الثاني في قضاء الفائتة 308 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاةً فليُصلِّ إذا ذكر، لا كفارةَ لها إلا ذلك، وتلا قتادةُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1). وفي رواية (2) "إذا رقد أحدُكم عن الصلاة، أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. وفي رواية (3) الترمذي والنسائي: "من نسي صلاةً فليُصلها إذا ذكرها". وفي أخرى (4) للنسائي، قال: "سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يرقُد عن الصلاة، أو يغفلُ عنها؟ قال: كفارتُها: أن يصليها إذا ذكرها". وفيه دليل: أن الصلاة لا تُجبَر بالمال كما يجبر غيرها من العبادات. لكن قال الحنفية: على المريض والمسافر الذي مات، لم يصل ويصم ما قدر عليه، ولو إيماء بالنسبة للصلاة أن يوصي بما قدر عليه فيخرج عنه وليه من ثلث ما ترك لصوم كل يوم، ولصلاة كل وقت، نصف صاع من بر أو قيمته، وإن لم يوص وتبرع عنه وليه جاز. (مراقي /87 - 88).
309 - * روى البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "سِرْنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال بعض القوم: لو عَرَّستَ بنا يا رسول الله؟ قال: "أخافُ أن تناموا عن الصلاة"، فقال بلالٌ: أنا أُوقظُكُم، فاضطجعوا، وأسند بلالُ ظهرهُ إلى راحلته، فغلبتْهُ عيناه، فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: "يا بلال، أين ما قلت؟ " فقال: ما أُلقيتْ عليَّ نومةٌ مثلُها قطُّ، قال: "إنَّ الله قبضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها عليكم حين شاء، يا بلالُ قُمْ فأذِّنْ الناس بالصلاة"، فتوضأ، فلما ارتفعت الشمسُ وابيَاضَّت، قام فصلى بالناس جماعةً. وفي رواية (1) أبي دواد "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفرٍ، فمال رسول صلى الله عليه وسلم، وملتُ معه، فقال: انظُر، فقلتُ: هذا راكبٌ، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثةً، حتى صرنا سبعةً، فقال: احفظُوا علينا صلاتنا - يعني صلاة الفجر- فضُرِبَ على آذانهم، فما أيقظهُمْ إلا حرُّ الشمس، فقاموا وساروا هُنيهةً، ثم نزلوا فتوضؤوا، وأذَّنَ بلالُ، فصلُّوْا ركعتي الفجر، ثم صلُّوا الفجر، وركِبوا، فقال بعضهم لبعض: قد فرَّطْنا في صلاتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفريطَ في النوم، إنما التفريطُ في اليقظة، فإذا سها أحدُكم عن صلاةٍ فليصلِّها حين يذكرها، ومن الغد للوقت". هذا طرفٌ من حديثٍ طويلٍ قد أخرجه مسلم. وفي أخرى لأبي داود (2)، قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء - بهذه القصة - فلم يوقظْنا إلا حَرُّ الشمس وهي طالعةٌ، فقمنا وهلين لصلاتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رُويداً رُويداً، لا بأس عليكم، حتى إذا تعالت الشمسُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم يركع ركعتي الفجر [أي سنة الفجر] فليركعْهُما، فقام من كان يركعهما ومن لم يكن يركعهما فركعهما، ثم أمر [رسول الله صلى الله عليه وسلم] أن يُنادي بالصلاة، فنُودي لها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فلما انصرف قال: ألا إنا نحمدُ الله أنَّا لم نكنْ في شيء من أمور الدنيا يشغلُنا عن صلاتنا، ولكنْ أرواحُنا كانت بيد الله تعالى، فأرسلها أنَّى شاء، فمن أدرَكَ منكم صلاة الغداةِ من غدٍ صالحاً فلْيَقْضِ معها مثلها". وفي رواية (1) لأبي داود داود والترمذي والنسائي قال: "ذكرُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نومَهم عن الصلاة، فقال: أما إنَّه ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريطُ على من لم يُصلِّ حتى يدْخُل وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلِّها حين ينتبهُ لها". وقال الترمذي والنسائي: "إنما التفريط في اليقظة فإذا نسيَ أحدُكم صلاة أو نامَ عنها، فليصلِّها إذا ذكرها". قال الحافظ في "الفتح": قال الخطابي: لا أعلم أحداً قال بظاهره وجوباً، ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب ليحوز فضيلة الوقت في القضاء. قال الحافظ: ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضاً، بل عدوا الحديث غلطاً من راويه، وحكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري. 310 - * روى أحمد عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ فعَرَّس من الليل فلم يستيقظْ إلا بالشمس قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذَّنَ فصلى ركعتين. قال: فقالَ
ابنُ عرس: ما يسُرُني الدنيا وما فيها يعني للرُخصةِ. أقول: إذا كان فرح ابن عباس لأن الحديث لم يرتب على من فاتته صلاة بسبب النوم إلا القضاء وذلك رخصة ولا شك أن هناك فارقاً بين من نام بعد أن دخل الوقت ففاتته الصلاة وبين من نام قبل دخول الوقت ففاتته الصلاة فالأحاديث المانعة من الإثم هي في من نام قبل الوقت ففاتته الصلاة. 311 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفَلَ من غزوة خيبر سار ليلةً، حتى إذا أدركه الكرَى عرَّسَ وقال لبلال: اكلأْ لنا الليل، فصلى بلال ما قُدر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما تقارب الفجرُ استند بلالُ إلى راحلته مُواجه الفجر، فغلبت بلالاً عيناه وهو مستندٌ إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله ولا بلال ولا أحد من أصحابه، حتى ضربتْهم الشمسُ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلهم استيقاظاً، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بلالُ، فقال بلالٌ: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - قال: اقتادُوا، فاقتدوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً، فأقام للصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1). وكان ابن شهاب يقرؤها (للذكرى) (2). وفي رواية، قال: عَرَّسنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلم نستيقظ حتى طلعتِ الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "ليأخُذْ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزلٌ حضرنا فيه الشيطانُ، قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ، ثم سجد سجدتين - قال بعض الرواة: ثم صلى سجدتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلى الغداة.
312 - * روى أبو داود عن أبي هريرة في هذا الخبر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتْكم فيه الغفلة، قال: فأمر بلالاً فأذن، وأقام، وصلى". أقول: يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاط من أجل أن يستيقظوا للصلاة فكلف بلالاً أن يوقظهم وذلك دأب المسلم في الاحتياط للاستيقاظ للصلاة في وقتها، والملاحظ أن بلالا نام قُبيلَ الفجر ولم يأثم بذلك، ومن ههنا أخذ بعض الفقهاء، أن للمسلم أن ينام قبل دخول الوقت على نية الاستيقاظ للصلاة، وهل يجب على المستيقظ أن يوقظ النائم للصلاة إذا خاف عليه أن تفوته الصلاة، قال الحنفية: يجب عليه الإيقاظ، وقال الشافعية: يستحب له الإيقاظ ولا يجب عليه إلا إذا كان قد كلفه بذلك. قال النووي في المجموع: ويسن إيقاظ النائم للصلاة، ولا سيما إذا ضاق وقتها ويستحب أن يوقظ غيره لصلاة الليل وللتسحر. 313 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: "أقْبَلْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يكلؤُنا؟ " فقال بلالٌ: أنا، فناموا حتى طلعتِ الشمس، فاستيقظ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "افعلوا كما كنتم تفعلون"، قال: ففعلنا، قال: "فكذلك فافعلوا، لمن نام أو نسيَ". 314 - * روى النسائي عن جُبير بن مُطعمٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سفرٍ: "من يكلؤُنا الليلةَ، لا نرْقُدَ عن الصلاة، عن صلاة الصبح؟ " فقال بلال: أنا، فاستقبل مطلِعَ الشمس، فضُرِبَ على آذانهم، حتى أيقظهم حرُّ الشمس، فقاموا، فقال: "توَّضؤوا"، ثم أذَّن بلالٌ، فصلى ركعتين، وصلُّوْا ركعتي الفجر، ثم صلُّوْا الفجر.
315 - * روى النسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أدْلَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عَرَّسَ، فلم يستيقظْ حتى طلعتْ عليه الشمس، أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى. 316 - * روى مالك عن زيد بن أسلم - مولى عمر - رضي الله عنه قال: "عَرَّسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً بطريق مكةَ، ووكَّل بلالاً أن يوقظهم للصلاة، فرقدَ بلال، ورقدُوا، حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم وقد فزعُوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجُوا من ذلك الوادي، وقال: "عن هذا وادٍ به شيطانٌ" فرَكبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزِلوا، وأن يتوَّضؤوا، وأمر بلالا أن يُنادي بالصلاة أو يقيم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم انصرف وقد رأى من فزعهم، فقال: "يا أيُّهَا الناسُ، إنَّ الله قبَضَ أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليُصلها كما كان يُصليها في وقتها"، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق، فقال: "إن الشيطان أتى بلالا وهو قائمٌ يُصلي فأضجعه، فلم يزلْ يهدئهُ كما يُهدأ الصبيُّ حتى نام"، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا، فأخبر بلالاٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: أشهدُ أنك رسولُ الله". 317 - * روى النسائي عن بُريد بن أبي مريم عن أبيه، قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأسْرَينا ليلةً، فلما كان في وجه الصُّبْح نزل رسول الله فنام صلى الله عليه وسلم، ونام الناسُ، ولم يستيقظوا إلا بالشمس قد طلعت علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذِّنَ، فأذن، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس، ثم حدثنا بما هو كائنٌ حتى تقوم الساعةُ".
318 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمسُ، فجعل يسُبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كدتُ أصلي العصر حتى كادت الشمسُ تغربُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتُها"، فقُمنا إلى بُطْحَانَ، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. أقول: من هذا الحديث وأمثاله أخذ الحنفية فكرة قضاء الفائتة قبل فريضة الوقت، وأخذوا فكرة ترتيب الفوائت، فلا تصلي صلاة قبل سابقتها ما دامت الفوائت قليلة كما سنرى في المسائل والفوائد في نهاية هذا الفصل. 319 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن المشركين شغلُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذَّن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء". وفي رواية (1) للنسائي، قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحُبسنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فاشتد ذلك عليَّ، فقلت: نحن مع رسول الله في سبيل الله؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذّن وأقام ... وذكر الحديث، وقال فيه: فصلى بنا، ثم طاف علينا، فقال: ما على الأرض عصابةٌ يذكرون الله غيركم".
320 - * روى النسائي عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: "شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمسُ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل الله عز وجل {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام لصلاة الظهر، فصلاها كما كان يُصليها في وقتها، ثم أقام للعصر، فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام للمغرب، فصلاها كما كان يصليها في وقتها". 321 - * روى مالك عن نافع - مولى ابن عمر "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أغمِيَ عليه، فذهب عقلهُ، فلم يقضِ الصلاة. قال مالك: "ذلك فيما نُرَى - والله أعلم- أن الوقت ذهب، فأما من أفاق وهو في وقت، فنه يُصلي". أقول: ما ورد في النص مذهب مالك وهذه قضية فيها خلاف مذهبي سنراه في المسائل والفوائد. 322 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: "من نسيَ صلاةً فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فإذا سلم الإمام فليصلِّ الصلاة التي نسي، ثم ليصل بعدها الأخرى".
مسائل وفوائد حول قضاء الفائتة
مسائل وفوائد حول قضاء الفائتة - إذا فاتت الإنسان صلاةٌ لعذر وأراد أن يصليها فإنه ينوي فيها القضاء، ويرى بعض الفقهاء أنه ينوي في قضائها صلاة آخر وقت - ويعيِّنه- أدركه ولم يصله. - رأينا أن الإمام أحمد يُكفر تارك الصلاة عمداً فهو عنده مرتد، بينما الأئمة الثلاثة لا يكفرونه إلا إذا جحدها أو استخف بها، وفي مذهب أحمد روايتان في وجوب القضاء عليه، إحداهما لا يلزمه والثانية يلزمه قضاء ما ترك من العبادات في حال ردته، والمذاهب الثلاثة الأخرى متفقة على وجوب قضاء الصلاة سواء تركها لعذر مع استثناءات في بعض الأحوال: عند المالكية: لا يجب القضاء لجنون أو إغماء أو كفر أو لفقد الطهورين إذا استغرق الوقت وأجمع الفقهاء على أن الصلاة تسقط عن المرأة أيام الحيض والنفاس، فلا يجب عليها قضاء ما فاتها من الصلوات أثناء ذلك، وذكر الحنفية: وذكر الحنفية: أن الصلاة تسقط عن المجنون والمغمى عليه إذا استمر الجنون أو الإغماء أكثر من خمس صلوات، أما إذا استمر خمس صلوات فأقل وجب عليه القضاء، وأما المرتد فلا يقضي ما فاته زمن الردة وما قبلها إلا الحج، وقال الشافعية: وأما المرتد إذا أسلم فيلزمه قضاء الصلاة، ومن زال عقله بجنون أو إغماء أو بسبب مباح فلا تجب عليه الصلاة ولا قضاء عليه، أما من زال عقله بسبب محرم كمن شرب المسكر، أو تناول دواء من غير حاجة، فيجب عليه القضاء إذا أفاق. وعند الحنابلة: يقضي المغمى عليه جميع الصلوات التي فاتته في حال إغمائه. - قال الحنفية: تقضي الصلاة على الصفة التي فاتت عليها حضراً أو سفراً، فمن فاتته صلاة مقصورة من الصلاة قضاها ركعتين ولو في الحضر، ومن فاتته صلاة تامة في الحضر قضاها كما هي ولو في السفر، وأما صفة القراءة في القضاء سراً أو جهراً فيراعى فيها نوع الصلاة، فإن كانت سرية كالظهر يسر في القراءة، وإن كانت جهرية يجهر فيها إن كان إماما، ويخير بين لجهر والإسرار إن كان منفرداً. - إذا كان الإنسان مسافراً، وترخص في الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب
والعشاء، ونوى التأخير ووصل إلى بلده، فإنه ينوي القضاء في الصلاة التي فاتته قبل فريضتها. - لا تقضي النوافل عند الحنفية إلا الوتر لأنه واجب عندهم وسنة الصبح إذا فاتت مع فريضتها أما إذا صلى الفريضة في وقتها فلا يصل بعدها سنة الصبح إذا فاتته قبل فريضتها. وتقضي الفائتة في جماعة، ويشترط الحنفية أن تكون صلاة الإمام والمأموم واحدة. - ويجب القضاء فوراً، ويجوز تأخيره عند الحنفية لعذر السعي على العيال، وفي الحوائج على الأصح، وقال الشافعية: إذا فاتت الصلاة لعذر: كنوم ونسيان يندب له القضاء الفوري ندباً، وإذا فاتته لغير عذر يجب عليه القضاء فوراً. - وترتيب الفوائت سنّة عند الشافعية، وهناك تفصيلات كثيرة في المذاهب الثلاثة الأخرى، يمكن أن يعرفها كل إنسان من خلال تفقهه في مذهبه، فجمهور الفقهاء يروْن وجوب الترتيب إذا قلت الفوائت، فعند الحنفية مثلاً: يجب الترتيب ما دامت الفوائت أقل من ست، ولا يجب إذا صارت ستاً فما فوق، وإذا ضاق الوقت الأصليُّ للصلاة الحاضرة أو نسي الفائتة وقت الأداء. - قال الشافعية: وترتيب الحاضرتين المجموعتين تقديماً - بسبب يجيز الجمع عندهم - واجب وأما الترتيب إذا كان الجمع جمع تأخير، فهو سنّة. - من كان عليه فوائت كثيرة لا يدري عددها، فعند الحنفية يجب عليه أن يقضي حتى يغلب على ظنه براءة ذمته وعند المالكية والشافعية والحنابلة حتى يتيقن براءة ذمته. وعند هؤلاء يكفي تعيين الوقت كالظهر، وعند الحنفية ينوي مع تعيين الوقت أول أو آخر صلاة وقت أدركه وقتها ولم يصلِّ. - يجوز عند الحنابلة والشافعية والمالكية القضاء في أي وقت، ولا يجوز عند الحنفية عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع قدر رمح أو رمحين، وعند استواء الشمس في وسط السماء إلا أن تميل إلى جهة المغرب، وعند اصفرار الشمس حتى تغرب، وما عدا ذلك فإنه يجوز له القضاء
ولو بعد صلاة الفجر وبعد العصر وذلك قبل اصفرار الشمس أو طلوعها. - قال الحنفية: إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح فسدت عليه صلاته، وعليه أن ينتظر حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين، فيصليها قضاءً، وقال المالكية والشافعية والحنابلة، يستمر في صلاتها ويتمها وقد صحت. (انظر: الدر المختار 1/ 485 فما بعدها، والشرح الصغير 1/ 364 فما بعدها، والمهذب 1/ 51، 54، والمغني 1/ 607 فما بعدها، والفقه الإسلامي 2/ 131 - 145). * * *
الفصل الثالث في صلاة الصبي
الفصل الثالث في صلاة الصبي 323 - * روى أبو داود عن سبْرَة بن معبد الجُهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" وفي رواية (1) قال: "علموا الصبيَّ الصلاة ابن سبعٍ، واضربوه عليها ابن عشرٍ". أقول: يجب على أولياء الصبي أن يؤهلوه للقيام بالتكليف بعد البلوغ، وذلك يقتضي منهم تعليمه وتأديبه وتعويده على مكارم الأخلاق وترك مساوئها، كما يقتضي تحديد وجهته في أموره الدنيوية على مقتضى الشريعة، فيدرب أو يوجه إلى ما يناسبه من مهنة أو حرفة، وبالنسبة للصلاة فقد حدد الحديث السن التي يجب الأمر فيها بالصلاة وتعليمها، أما ما قبل هذا السن فيندب لأوليائه أن يأمروه ويعلموه، فإذا بلغ عشراً فعلى أوليائه ألا يكتفوا بالأمر بل يزيدوا على ذلك الضرب بيد لا بخشبة ونحوها، إذا لم يصل، وإذا لم يكن لليتيم ولي يرعاه فعلى وصيه وجيرانه ومن يعرفه أن يولوا توجيهه وتعليمه بالقدر الممكن له، وما يقال في حق الذكور، يقال في حق الإناث ويتولى النساء - حال فقد الأولياء - أمر التوجيه والتعليم لهن ولا حرج على الرجال أن يؤدبوا، إذا أُمِنت الفتنة ولم يوجد محظور. 324 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبعٍ، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع". زاد في رواية (2) "وإذا زوَّجَ أحدُكم خادِمَهُ
= عبدهُ أو أجيرهُ - فلا ينظرُ إلى ما دون السُّرةِ وفوق الرُّكبة". أقول: الأصل: أن الأمة بالنسبة لسيدها كالزوجة في جواز النظر والاستمتاع، فإذا زوّج السيد أمته لأحد، فإن الحديث يحظر عليه أن يرى ما بين السرة والركبة. 325 - * روى أبو داود عن معاذ بن عبد الله بن خُبيبٍ الجُهني قال راويه-[هشامُ بن سعدٍ]-: "دخلنا عليه، فقال لامرأته: متى يُصلِّي الصبيُّ؟ قالتْ: نعم كان رجل منا يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن ذلك؟ فقال: "إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة". أقول: هذا الحديث محمول على الندب، والأمر بالصلاة لسبع محمول على الوجوب. 326 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ وأنا ابن أربع عشرة، فلم يُجزْني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني" قال نافع: "فقدمتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفةٌ، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحدُّ ما بين الصغير والكبير، فكتب إلى عُمَّاله: أن يفرضُوا لمن بلغ خمس عشرة سنة، وما كان دون ذلك فاجعلوه في العيال". وانتهت رواية أبي داود والنسائي عند قوله: "فأجازني". وزاد أبو داود في رواية أخرى نحو ما بقي من الحديث. أقول: إن بلوغ الصبي مبلغ الرجال، وبلوغ الفتاة مبلغ النساء هو الذي ينقلهما إلى طور التكليف، فلا يحاسبان على ما يفعلانه قبل البلوغ، والبلوغ بالنسبة للمرأة يكون بالحيض أو بالحبل أو بالاحتلام، فإذا لم يكن شيء من ذلك (1)، فمتى بلغت الخامسة عشرة
سنة قمرية يحكم لها بالبلوغ، وأما الذكر فبلوغه بالاحتلام، أو بالإنزال فإذا لم يكن شيء من ذلك، فمتى بلغ الخامسة عشرة سنة قمرية، ولما كانت بعض القضايا تخفي، ويمكن أن يكون فيها دعوى، فإن السن ف حق الغير أو في بعض الأعمال هي الفيصل. 327 - * روى ابن خزيمة عن حَرْمَلة بن عبد العزيز عن عمه عبد الملك بن الربيع عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علِّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشرٍ". قال البغوي في شرح السنة 2/ 407 حول هذه الأحاديث. وفي الحديث دليل على أن صلاة الصبي بعدما عقلَ صحيحة، واختلف أهل العلم في صحة إسلامه، فذهب قوم إلى أنه لا يصحُّ إسلامهُ، كما لا يصح شيء من تصرفاته وعقوده، وهو قول الشافعي. وذهب قوم إلى صحة إسلامه، وهو قول الحسن، وبه قال أصحاب الرأي، وقالوا: لو ارتد لا يُحكمُ بكفره. ولو أدى الفرض في أوَّلِ الوقت قبل البلوغ، ثم بلغ والوقتُ باقٍ اختلفوا في وجوب الإعادة عليه، وهو قول أصحاب الرأي، فأوجب بعضهم الإعادة، وهو قول أصحاب الرأي، ولم يوجب بعضهم، وهو ظاهرُ قول الشافعي. قال الشافعي، على الآباء والأمهات أن يؤدبُوا أولادهم ويعلموهم الطهارة والصلاة، ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا، فمن احتلم أو حاض، أو استكمل خمس عشرة، لزمه الفرضُ. وروى عن ابن عباس أنه قيد عكرمةَ على تعليم القرآن والسنن والفرائض. قال ابن عمر: أدِّب ابنك فإنك مسؤول عن ولدك ماذا علمْتَهُ، وهو مسؤول عن بِرِّك وطواعيته لك.
قلت [أي البغوي]: وقد قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1) وفي تعليمهم أحكام الدين، وشرائع الإسلام قيام بحفظهم عن عذاب النار، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2) وإثني على إسماعيل صلى الله عليه وسلم بها. فقال {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} (3). وقيل: أراد بالأهل: جميع أمته، وكذلك أهلُ نبي أمته. ورُوي عن علي في قوله: (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً). قال علموهم، أدبوهم، وعن ابن عباس مثله، ا. هـ. 328 - * روى البخاري عن ابن عباس، قال: مرّ عليُّ بن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت، أمر عمر برجمها. فرجَّعَها عليٌّ وقال لعمر: يا أمير المؤمنين ترجُم هذه؟ قال: نعم. قال: أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رُفِع القلمُ عن ثلاثٍ، عن المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم". قال صدقت فخلَّي عنها.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - قاس العلماء الصيام على الصلاة في أن الطفل يؤمر به ويعود عليه من سن السابعة، ويضرب عليه إذا بلغ العاشرة ضرباً خفيفاً من باب إظهار الغضب، إذا كان يطيق جسمه ذلك. - متى بلغ الإنسان ذكراً كان أو أنثى أصبح مكلفاً بكل أنواع التكليف من العقيدة إلى العبادة إلى الأخلاق إلى كسب الحلال إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكلف الذكر بالجهاد، والأنثى لها تكليفاتها الخاصة، هذا وكل نوع من أنواع التكليف يدرب عليه الإنسان قبل البلوغ، وهو بعد أن يبلغ سن التمييز أي السابعة مأجور على ما يفعله من خير غير مأزور على ما يفعله من ذنب، ومن كان له فضل تربيته عليه، فإنه يؤجر بما يفعله من خير، وإذا كان إثم الصبي سببه تقصير من تجبُ عليه تربيته، فإنه يأثم بقدر تقصيره، فكيف إذا دفعه إلى شر، وعوّده عليه، ومما نص عليه الفقهاء أن الأم لا توجه الطفل نحو القبلة لبوله، كنوع من أنواع التعويد على الخير والنهي عن الشر. - لا يعتبر الإنسان مكلفاً قبل البلوغ إلا أن الشافعية والمالكية والحنابلة أوجبوا في ماله الزكاة، والحنفية لا يرون ذلك لأنه عبادة وهو لا يطالب بالعبادات، وإذا كان للإنسان مال قبل البلوغ فنفقته في ماله. - وقد طولب أولياء الولد بأن يبدأوا حياته بأنواع من الخير قياماً بحقه واحتفاءاً به وإشعاراً بما ينبغي في شأنه، ومن ذلك استحباب التأذين في أذن المولود اليمين حين يولد وبعضهم يستحب الإقامة في أذنه اليسرى زيادةً على التأذين في اليمنى، واستحب بعضهم أني قال في أذن المولود اليمنى ما قالته أمُّ مريم (عليها الرضوان): {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1) وتستقبل ولادة الطفل بالعقيقة وحلق شعر رأسه في اليوم السابع أما العقيقة فيؤكل من لحمها ويوزع، وأما شعره فيتصدق بوزنه ذهباً أو فضةً، ومما يستقبل به حسن اختيار الاسم، وكل ذلك من مظاهر الاعتناء بالطفل. - ومما ينبغي أن يلاحظ في حق الطفل ختانه، على خلاف بين الفقهاء في الوقت
المستحب للختان، وبالنسبة لعورة الصغير فالحنفية قالوا: لا عورة لمن عمره أربع سنين فأقل، فيباح النظر إلى بدنه ومسه، ثم ما دام لم يشته فعورته القبل والدبر ثم تغلظ عورته فيجب ستر ما حول القبل والدبر إلى عشر سنين وبعد العاشرة تعتبر عورته كعورة البالغ. أما المالكية، فعورة الصغير والصغيرة في الصلاة بعد تمام السبع كالبالغ، وأما خارج الصلاة فالطفلة ما دامت دون السنتين وثمانية أشهر لا عورة لها، ويباح نظر الرجل إلى البنت كلها حتى الرابعة وينبغي التنزه عن ذلك، ولكن لا يحق للرجل أن يغسلها، ومتى بلغت الفتاة ست سنين أصبحت كالمرأة في الأحكام، أما الطفل فعورته خارج الصلاة يكون لها حكم الرجال متى بلغ ثلاث عشرة سنة، وابن ثمان سنين فأقل لا عورة له، فيجوز للمرأة النظر إلى جميع بدنه وتغسيله، وابن تسع إلى اثنتي عشرة سنة، يجوز للمرأة النظر إلى جميع بدنه ولكن لا يجوز تغسيله. وقال الشافعية: عورة الصغير ولو غير مميز كالرجل ما بين السرة والركبة، وعورة الصغيرة كالكبيرة، وعلى هذا فيحتاط في شأن عورة الطفل والطفلة الصغيرة، إلا فيما لابد منه. وقال الحنابلة: الصغير الذي لم يبلغ سبع سنين لا عورة له، وبنت سبع إلى عشر عورتها في الصلاة ما بين السرة والركبة وأما خارج الصلاة فمثل الكبيرة فعورتها أمام المحارم ما بين السرة والركبة، ويستحب لها الاستتار وستر الرأس كالبالغة احتياطاً أمام الأجانب فعورتها جميع بدنها إلا الوجه والرقبة والرأس واليدين إلى المرفقين والساق والقدم، وابن عشر وبنت عشر كالبالغ في أحكام العورة، والمسلم في شأن ابنه وابنته يحتاط ما أمكن، فيعودهما على الستر منذ الصغر، ويعودهما على عدم الظهور بغير المنظر الأكمل، والأم تراعي ذلك ما أمكن، والحرج مرفوع شرعاً. - ومما ينبغي أن يلحظه الدعاة في عصرنا أن يركزوا في خطاب غير المسلمين أثناء دعوتهم إلى الإسلام، على أن الإسلام دين يرعى الطفولة والأمومة والضعفاء ويراعي حق المرأة، وأنه دين رحمة للإنسان والحيوان، فهذه معان لها تأثيرها في قلوب الكثيرين، إلا أن المسلم ينبغي أن يكون دقيقاً وهو يعرض هذه المعاني، فإن مما يخشى منه، أو يقول كلمة
غير دقيقة فقهياً: فيقع في تحريم حلال أو تحليل حرام، فهو عندئذ بين كفر وفسوق. (انظر في أحكام العورة: رد المحتار 1/ 270 وما بعدها، والشرح الصغير 1/ 285، والمهذب 1/ 64 فما بعدها، والمغني 1/ 577 والفقه الإسلامي 1/ 584 وما بعدها و 596 وما بعدها).
الفصل الرابع في ذكر بعض من لا تقبل صلاتهم
الفصل الرابع في ذكر بعض من لا تُقبل صلاتهم 329 - * روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أبَقَ العبدُ لم يقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه". وفي رواية (1) عن عروة بن رويم: عن ابن الديلمي، الذي كان يسكن بيت المقدس، أنه مكث في طلب عبد الله بن عمرو بن العاص بالمدينة فسأل عنه، قالوا: قد سار، إلى مكة، فأتبعهُ فوجده قد سار إلى الطائف، فأتبعه فوجده في زرعة يمشي مخاصراً رجلاً من قريشٍ، والقرشي يزنُّ بالخمر، فلما لقيتهُ سلمْتُ عليه، وسلم عليَّ. قال: ما غدا بك اليوم ومن أين أقبلت؟ فأخبرته ثم سألته هل سمعت يا عبد الله بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر شراب الخمر بشيء؟ قال نعم. فانتزع القرشي يده ثم ذهب، فقال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يشربُ الخمر رجل من أمتي فيُقْبَلُ له صلاةٌ أربعين صباحاً". أقول: إن هناك حيثيتين في إقامة الصلاة الأولى: سقوط إثم الترك بإقامتها، والثانية: نوال الأجر بفعلها، فمن أقام الصلاة ممن وردت فيهم نصوص أنه لا تُقبل صلاتهم، فهؤلاء يسقط الإثم عنهم بإقامة الصلاة، ولكن لا ينالون ثواب الصلاة التي وُعد بها غيرهم. 330 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَرِب الخمر لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب، تاب الله
عليه، فإن عاد لم يقبل الله صلاة أربعين صباحاً فإن تاب، تاب الله عليه فإن عاد في الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال". قيل: يا أبا عبد الرحمن، وما نهرُ الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار". وفي رواية (1) قال: "من شرب الخمر فلم يُنتشِ، لم تقبل له صلاة ما دام في جوفه أو عروقه منها شيء، وإن مات مات كافراً، وإن انتشى، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإن مات فيها مات كافراً"، جعله موقوفاً على ابن عمر. 331 - * روى مسلم عن مُصعب بن سعدٍ، قال دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعودهُ وهو مريضٌ. فقال: ألا تدعو الله لي، يا ابن عمر؟ قال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ "لا تُقْبَلُ صلاةٌ بغير طهورٍ، ولا صدقةٌ من غلولٍ" وكنت على البصرة. 332 - * روى الشيخان عن همام وهب بن مُنبِّهٍ؛ قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تُقبلُ صلاة أحدكم، إذا أحدث، حتى يتوضأ". 333 - * روى أحمد عن عائشة ترفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبلُ صلاة الحائض
إلا بخمار". 334 - * روى أحمد عن بعض أمهات المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تُقبلْ له صلاةٌ أربعين ليلة" (1). * * *
الباب الثاني في شروط الصلاة
الباب الثاني في شروط الصلاة وفيه مقدمة وفصول * الفصل الأول: في الطهارة وهي الشرط الأول من شروط الصلاة. * الفصل الثاني: في دخول الوقت وهو الشرط الثاني من شرط الصلاة. * الفصل الثالث: في ستر العورة وهي الشرط الثالث من شروط الصلاة. * الفصل الرابع: في استقبال القبلة وهي الشرط الرابع من شروط الصلاة. * الفصل الخامس: في النية وهي الشرط الخامس من شروط الصلاة.
مقدمة
مقدمة الشرط: في اصطلاح العلماء: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان خارجاً عن ماهيته، فالوضوء مثلاً شرط للصلاة خارج عنها. وشروط الصلاة عند الحنفية خمسة، وهي شروط مجمع عليها بين العلماء مع خلاف في بعض التفصيلات، ومع زيادات عند بعضهم عليها، الشرط الأول: الطهارة، الشرط الثاني: دخول الوقت، الشرط الثالث: ستر العورة، الشرط الرابع: استقبال القبلة، الشرط الخامس: النية. والدليل القرآني للنية قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1). والدليل القرآني لاستقبال القبلة قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2). والدليل القرآني لستر العورة قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (3) قال ابن عباس: المراد به الثياب في الصلاة. والدليل القرآني لدخول الوقت: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (4) أي فرضاً مؤقتاً محدوداً بوقت. والدليل القرآني لاشتراط الطهارة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (5). وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (6). والشروط كلها في اصطلاح الفقهاء فرائض، فهي كالأركان في فرضيتها، غير أن الركن يكون داخل الماهية، والشرط خارجها.
فشروط الصلاة إذن خمسة كما ذكرنا، فلا تصح الصلاة بدون معرفة الوقت يقيناً أو بغلبة ظن بالاجتهاد، ويجب ستر العورة في الصلاة ولو كان خالياً في ظلمة عند القدرة، وحد العورة التي يفترض سترها في الصلاة يدخل فيه: القبل والدبر وما حولهما والفخذان والركبة عند الحنفية، وأما المرأة فكلها عورة في الصلاة ما عدا الوجه والكفين وما عدا القدمين عند الحنفية والجمهور وإن خالفوا الحنفية في ستر الركبة بالنسبة للرجال لكنهم يقولون يجب ستر شيء منها ومن السرة، وبعضهم يرى ستر السرة اتفق الفقهاء على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، إلا في شدة الخوف، وصلاة النافلة للمسافر على الراحلة، وإلا مع العجز كالمربوط والمريض الذي لا قدرة له على التحول على خلاف في الأخير فيما إذا كان يجد من يحوله أو لا يجد، ويجب التحري والاجتهاد في القبلة إذا اشتبهت عليه جهتها ولم يجد أحداً ثقة يخبره عن علم. والنية عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله، وهي واجبة في الصلاة باتفاق العلماء لتتميز العبادة عن العادة، وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى. ويدخل في الطهارة: الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، والحدث الأكبر: الجنابة والحيض والنفاس، والطهارة من الحدث الأصغر بالوضوء، ومن الحدث الأكبر بالغسل، والتيمم بديل عنهما بشروطه، والطهارة من الحدثين شرط في كل صلاة- مفروضة أو نافلة - وهي فريضة حتى في سجدة التلاوة وسجدة الشكر، فمن صلى بغير طهارة لم تنعقد صلاته، كما يدخل في الطهارة: الطهارة عما اعتبره الشرع نجاسة على خلاف في القدر المعفو عنه، وعلى خلاف عند بعض المالكية في هذا الموضوع، فمشهور مذهب المالكية أن الطهارة من النجس سنة مؤكدة وهي رخصة يُفتى بها عند الضرورة، إلا أن المفتى به عند المالكية أنها فرض والجمهور على أنه يشترط لصحة الصلاة الطهارة من النجس الذي لا يعفى عنه في الثوب والبدن والمكان. ونحن سنبدأ في عرض الشرط الأول للصلاة وهو الطهارة، وإذ كان يتوضع حول بحث الطهارة مواضيع متعددة لتعلق الطهارة بالصلاة وغيرها، فسنذكر ذلك كله بهذه المناسبة.
الفصل الأول: في الطهارة وهي الشرط الأول من شروط الصلاة
الفصل الأول: في الطهارة وهي الشرط الأول من شروط الصلاة. وفيه مقدمة وفقرات الفقرة الأولى: في أهمية الطهارة. الفقرة الثانية: في أحكام المياه. الفقرة الثالثة: في الأعيان الطاهرة. الفقرة الرابعة: في قضاء الحاجة والاستنجاء. الفقرة الخامسة: في الوضوء ونواقضه. الفقرة السادسة: في المسح على الخفين. الفقرة السابعة: في الغسل وموجباته. الفقرة الثامنة: في التيمم. الفقرة التاسعة: في الأوضاع الاستثنائية التي لها أحكام خاصة في الطهارة.
مقدمة
مقدمة الطهارة: معنى تعبدي من آثارها النظافة ولكنهما لا يتلازمان دائماً، فقد يكون الإنسان نظيفاً وليس طاهراً وقد يكون طاهراً وليس نظيفاً، ولكن لارتباط الطهارة في الغالب بالماء، ولكون الماء أداة النظافة الرئيسية فقد ارتبطت الطهارة بالنظافة، ولكنهما لا يتطابقان ولا يتلازمان، فالطهارة مقصودة بذاتها في شريعتنا، والنظافة مقصودة بذاتها في شريعتنا، وهذه عبادة وهذه عبادة أخرى إذا صحت النية، فإذا اغتسلت المرأة وهي حائض بماء نظيف طاهر فهي نظيفة ولكن لا يحكم لها بالطهارة، وإذا اغتسل الجنب بماء وسخ طاهر فإنه يحكم له بالطهارة مع أنه غير نظيف، وقد تكون الثياب نظيفة وليست طاهرة كأن غسلت بالكحول على رأي من يعتبر الكحول نجساً (وهي قضية خلافية)، وقد تكون وسخة ويحكم لها بالطهارة، فالطهارة إذن معنى تعبدي يحكم به إذا توافرت شروط ذلك من انتفاء مانع وتحقيق مطلوب. * * * والطهارة يقابلها النجاسة، وكما أن الطهارة معنى تعبدي يعطيه الشارع وصفه ويحدد شروطه، فكذلك النجاسات يعطيها الشارع وصفها ويحددها، وهي شيء قد يتلازم مع الضرر والقذارة وقد لا يتلازم، فما يخرج من الإنسان فيه معنى الضرر والقذر والنجاسة، ودم الإنسان والحيوان نجس وضار، ولا يعتبره بعضهم قذراً، والجراثيم ضارة ومستقذرة وليست نجسة، وقد يكون الشيء وسخاً ليس ضاراً ولا نجساً كالثوب الملوث بالطين، ومن ههنا كانت قضية الطهارات والنجاسات لا تخضع لمقاييس الاجتهاد البشري بل هي أحكام شرعة يقررها الشارع. والمسلم مطالب بالعلم بأحكام الطهارة والنجاسة ومطالب بالطهارة حيث وجبت لعبادة، كما أنه مطالب بالنظافة ومطالب بالابتعاد عما هو ضار وقذر. * * * والنجاسات أنواع فمنها الحسي كالبول والغائط والدم ومنها المعنوي كالكفر والحدث
الأكبر والحدث الأصغر. والطهارات أنواع: فمنها الطهارة المعنوية من الشرك والكفر وأمراض القلوب، ومنها الطهارة الحسية بالغسل للحائض والنفساء إذا طهرتا وللجنب، وبالوضوء للمحدث حدثاً أصغر مع إزالة النجاسات الحسية عن الثوب والبدن والمكان لمريد الصلاة أو الطواف، أو إزالة الحدث الأصغر والأكبر لمريد من القرآن، أو إزالة الحدث الأكبر لمريد المرور بالمسجد أو تلاوة القرآن. وعلى هذا فالقدر المطلوب من الطهارة يختلف باختلاف العبادة المرادة: فالإنسان يطالب أولاً بالطهارة من الكفر بأن يُسْلم، فإذا أسلم ودخل وقت صلاة يفترض عليه الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر - إلا المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء، فإذا أحدث حدثاً أصغر وأراد مس القرآن فعليه أن يتوضأ. * * * ولفقه الطهارة صلة بتكليفات كثيرة، فله ارتباط بالصلاة لأن الطهارة شرطها الأول، وله صلة بأحكام المساجد وتلاوة القرآن والطهر من الحيض والنفاس ترتبط به أحكام كثيرة في حق المرأة من عدم وجوب الصيام في رمضان إلى وجوب الغسل والصلاة، وللحيض والنفاس والطهر منهما أحكام تتعلق بالحياة الزوجية كما ترتبط بهما أو بواحد منهما أحكام العدة للمطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن كالحوامل. وللطهارة صلة ببعض أحكام الحج، ومن ثم كان لفقه الطهارة أهمية كبيرة فدع عنك جهل الجاهلين بل كفر الكافرين، وتنطع المتنطعين. * * * والحيض والنفاس والجنابة تسبب الحدث الأكبر الذي يحتاج إلى غسل، والبول والغائط والاستحاضة تسبب الحدث الأصغر الذي يحتاج إلى وضوء، والمادة المطهرة الرئيسية من النجاسات الحسية هي الماء، والمادة المطهرة الأصلية من الحدثين الأكبر والأصغر هي الماء، وهناك حالات استثنائية ينوب فيها عن الماء غيره، وهناك حالات عارضة أو طارئة، وهناك حالات خاصة لها أحكام خاصة ومن ههنا غيره تدخل في أبحاث الطهارة مباحث متعددة:
- البحث في أحكام الوضوء والغسل على اعتبار أنهما العبادتان اللتان يزال بهما الحدث الأصغر والحدث الأكبر. - البحث في أحكام المياه على اعتبار أنها مادة الطهارة الأساسية والرئيسية والأصلية. - البحث في التيمم كنائب عن الغسل والوضوء في حالات تعذر استعمال الماء أو فقدانه. - ويتوضع حول هذا أبحاث المسح على الخفين كنائب عن غسل الرجلين في الوضوء ضمن شروط، وأبحاث المسح على الأربطة والجبائر إذا كانت هناك كسور أو جروح أو حروق أو بثور، وتبحث عادة في أبحاث الطهارة موجبات الحدث الأكبر من حيض أو نفاس أو جنابة بسبب جماع أو احتلام أو خروج مني، وتبحث عادة موضوعات الأعذار التي تؤثر على بعض الأحكام الأصلية كسلس البول وانفلات ريح. وتبحث عادة موضوعات الاستنجاء والاستبراء والحمامات في هذا الباب لارتباطها بالطهارة. ولكون الطهارة هي الشرط الأول من شروط الصلاة فإنها تقدم عادة في الذِّكر. * * * والطهارة وتطبيقاتها العملية تترك بصماتها الواضحة على الحياة الشخصية للمسلم وعلى بيته وعلى بيئته ومجتمعه، ومن ثم فإنها تترك بصماتها المميزة على الحضارة الإسلامية: فالمياه الطهور وطريقة استعمالها للطهارة والحمامات والمراحيض النظيفة ذات المياه الجارية للبيت والمسجد وأدوات الطهارة ولوازمها وتنظيم الحياة التعبدية على أساس الطهارة، وارتباط جواز بعض الأمور أو حرمتها بالطهارة كل ذلك مَعْلَمٌ كبير من معالم الحياة الإسلامية ينعكس بشكل تلقائي على أمور كثيرة: أولها نظافة جسم الإنسان وثيابه ونظافة أطرافه، وثانيها أنه في المجتمع الإسلامي تجد عوازل بين بعض الأشياء والإنسان كالكلاب، وثالثها أن المجتمع الإسلامي مجتمع وقاية. * * * وسنرى أثناء عرض النصوص أن هناك تلازماً بين طهارة الظاهر والباطن فطهارة
الظاهر تنعكس على الباطن فتزيل آثار الخطايا وتساعد على طهارة الروح، وكل ذلك يترك آثاره على التعامل الحياتي بين المسلمين، إن الإمام ليعكر عليه أن تكون طهارة المأموم ناقصة، أليس ذلك دليلاً على أن للطهارة تأثيراتها على الروح والقلب وعلى الغير وبالتالي على السلوك. وكما أن الطهارة مدخل لبعض العبادات فهي عبادة بعينها وكما ارتبطت بها معان روحية كثيرة، فقد ارتبطت بها معان حسية كأثر عفوي عنها. خذ مثلاً ارتباط الوضوء والصلاة بالسواك، إن أمراض الفم لها تأثيراتها على الجسد كله، واستعمال السواك أو ما يقوم مقامه يشكل تسعين بالمائة من لوازم الوقاية، ونظافة الأطراف في الوضوء، ونظافة الجسد بالغسل وتنظيم الليل والنهار على ضوء الصلاة- كل ذلك له تأثيراته الحسية. وكنا ذكرنا أن النظافة والطهارة تتلازمان أحياناً وتتكاملان أحياناً، فليس كل طاهر نظيفاً وليس كل نظيف طاهراً، كما قلنا: إن الطهارة مطلب شرعي والنظافة مطلب شرعي كذلك، وبالتالي فالمسلم مطالب بقدر الاستطاعة أن يكون طاهراً، ونظيفاً وبالتالي فهو مطالب بأن يطهر نفسه وثيابه عن النجاسات الحسية والمعنوية وعن الأوساخ والأقذار الحسية والمعنوية. وكما أن النظافة مطلب، فحسن السَّمْت والهيئة مطلب، إلا إذا أدى إلى مفسدة أو حال دون واجب، فالأصل في المسلم أن يكون حسن السمت حسن الهيئة، لكن هناك مواطن لا يجتمع القيام بالواجب مع مثل هذا فيترك هذا الأصل العام للأصل الخاص، فالإحرام بالحج - عادةً - يرافقه شيء من الشعث، والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة يقتضيان ترك العادات في ذات الله، والقتال والجهاد والقيام ببعض الأعمال الدنيوية كل ذلك يرافقه نوع من التبذل، وتعويد النفس على الاخشيشان وحملها على ترك التعبد للمظهر، كل ذلك حالات راعاها الشارع وأدَّب عليها ولكنها تكاد تكون استثناءً من الأصل العام الذي هو المطالبة بحسن السمت وحسن المظهر من أجل مراعاة أصول خاصة لقضايا خاصة أعطاها الشارع في أوقاتها أو في أوضاعها أحكاماً خاصة بها. وسنرى كثيراً مما له علقة في هذه الشؤون في مواطنها من هذا الكتاب، لكننا أحببنا
أن نُذكر بها ههنا لاستكمال الإشارة إلى تكامل الطهارة مع غيرها في تكميل ذات المسلم، ولأن النظافة وحسن السمت مرتبطان بالصلوات، فلا يعتبر الحديث عنهما ههنا خارجاً عن الصلاة، لأن الصلاة هي المنظم لحياة المسلم، فالمسلم يندب هل أن يدخل الصلاة أو يذهب إلى المسجد وهو طيب الرائحة ويكره أن يدخل الصلاة أو يذهب إلى المسجد في ثياب العمل إذا كانت تؤذي أو تصيب الغير أو المسجد بالأوساخ إلا للضرورة، ويكره للمسلم أن يُشَمَّ منه رائحة كريهة. وبعد، فعدا عن كون الطهارة هي الفطرة، وهي النظافة لهذه الفطرة إذا أصاب الفطرة غبارٌ ودخنٌ فإنها طريق إلى محبة الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1). وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (2). فإلى فقرات هذا الفصل.
الفقرة الأولى: في أهمية الطهارة
الفقرة الأولى: في أهمية الطهارة 335 - * روى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ بُرهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حجةٌ لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها". أقول: تأتي كلمة الإيمان ويراد بها الصلاة كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) فقد جاءت في سياق السؤال عمن صلى قبل تحويل القبلة، وإنما سميت الصلاة إيماناً لأنها تذكر بكل معاني الإيمان، وعن إقامتها تنبثق شعب الإيمان، وسواء كان المراد بالإيمان هنا الصلاة أو الإيمان مطلقاً فالحديث يدل على أهمية الطهارة بالنسبة للصلاة أولاً، وبالنسبة للإيمان مطلقاً إما بشكل مباشر أو من خلال الصلاة. 336 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله صلاةً بغير طُهور، ولا صدقةً من غُلول".
337 - * روى أحمد عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاحُ الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليمُ". أقول: الطهارة رفع حدث أو إزالة نجس بماء أو ما أعطاه الشرع حكمه بشروطه، وطهارة الحدث تختص بالبدن، وطهارة الخبث تكون في البدن والثوب والمكان. والخبث عين مستقذرة شرعاً، والحدث وصف شرعي يحل في الأعضاء يزيل الطهارة، وطهارة الحدث ثلاث: كبرى وهي الغسل، وصغرى وهي الوضوء، وبدل منهما عند تعرهما وهو التيمم.
الفقرة الثانية: أحكام المياه
الفقرة الثانية: أحكام المياه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) وقال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2). الكلام عن المياه أصل أصيل في الطهارة لأنها هي مادتها الأصلية، فالأصل في الماء أنه طاهر مطهر، وتطرأ عليه طوارئ تجعله طاهراً غير مطهر، وعندئذ فهو يزيل الخبث عند الحنفية ولا يزل الحدث، كما تطرأ عليه طوارئ فتجعله متنجساً، وعندئذ فإنه لا يزيل حدثاً ولا خبثاً ويُنجس ما أصابه، والإجماع منعقد على أن النجاسة إذا غيَّرت أحد أوصاف الماء الثلاثة: اللون أو الطعم أو الرائحة، فإنه ينجُس، وقال الحنفية: الماء الطاهر غير المطهر: هو ما استعمل على وجه القربة لله تعالى، فماء الوضوء مثلاً لو جمع، فإنه طاهر غير مطهر، وكل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض، ما دام باقياً على أصل الخلقة أو تغير بشيء لم يسلبه طهوريته كتراب طاهر أو ملح أو نبات مائي ولم يكن مستعملاً فإنه طاهر مطهر، واتفق الفقهاء على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالباً فإنه لا يؤثر على طهوريته، فطول المكث والتراب الطهور والخضرة التي تعلو على وجه الماء، وما يصيبه في مقره وممره، وما يخالطه مما يعسر الاحتراز عنه كالتبن وورق الشجر، وأن ما يخالطه من المعادن والكبريت، كل ذلك لا يؤثر على طهوريته. طهارة ماء البحر وأنواع المياه: 338 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنا نركبُ البحر، ومعنا القليلُ من الماء، فإن توضأنا به
أنواع المياه
عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطَّهُور ماؤه، الحِلُ ميتته". 339 - * روى البزار عن موسى بن سلمة قال أوصاني سنانُ بن سلمة أن اسأل ابن عباس عن ماء البحر وعن أي شهرٍ أصومُ، فأتيتُ ابن عباس فقلت: إن أخي أمرني أن أسألك عن الوضوء من ماء البحر، فقال هما البحران لا يضُرُّك بأيهما توضأت وعن أي الشهر أصومُ فقال أيام البيض. فقلت: إنا نكونُ في هذه المغازي فنُصيبُ السبي أفأعتِقُ عن أمي ولم تأمرني؟ قال: أعتقْ عن أمِّك. أنواع المياه: ماء طاهر مطهر: ويسمى الطهور والمطلق الطاهر في نفسه المطهر لغيره: وهو كل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض وبقي على أصل الخلقة لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة (لون أو طعم أو ريح) أو تغير بما لا يسلب طهوريته كالتراب وذلك كماء الأودية والعيون والينابيع والآبار والأنهار والبحار وماء الثلج والبرد عذب أو مالح. وماء طاهر غير طهور يزيل الخبث ولا يزيل الحدث عند الحنفية كالماء المستعمل وماء النبات والورد. وماء نجس: وهو ما وقعت فيه نجاسة غير معفو عنها بتفصيل عند المذاهب بحسب كثرة الماء أو قلته ونوع النجاسة. ويزيد الحنفية الماء الطاهر المكروه تنزيهاً، وهو ما شربت منه الهرة ونحوها، ومشكوك في طهوريته وهو ما شرب منه حمار أو بغل.
(انظر مراقي الفلاح (3 - 5) والشرح الصغير 1/ 30 - 36 والمهذب 1/ 5 والفقه الإسلامي 1/ 113 فما بعدها). 340 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله، إنه يُستقى لك من بئر بُضاعة، وهي بئر تُلْقَى فيها لحومُ الكلاب، وخرقُ المحائِضِ، وعُذَرُ الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء". وفي رواية (1) قال: "قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بُضاعة، هي يُطرح فيها الحيضُ ولحمُ الكلاب والنتنُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهورٌ لا ينجسه شيء". أخرجه أبو دود، وقال: سمعت قتيبة بن سعيدٍ قال: سألتُ قيِّمَ بئر بُضاعة عن عمقها؟ فقال: أكثرُ ما يكون الماء فيها إلى العانة، قلتُ: فإذا نقص؟ قال: دون العورة". قال أبو داود: قدرْتُ بئر بُضاعة بردائي - مددتُه عليها، ثم ذرعْتُه- فإذا عرضا: ستةُ أذرع، وسألتُ الذي فتح لي باب البُستان فأدخلني إليه: هل غُيِّرَ بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً متغير اللون. ومن وجهات النظر حول بئر بضاعة ما قاله صاحب إعلاء السنن بعد تعليق طويل: فقول القائل "يا رسول الله! أنتوضأ من بير بضاعة؟ وهي بير يطرح فيها لحوم الكلاب والحيض إلخ" معناه: كانت تطرح، ولكنه أبداه في صورة الحال حكاية للحال الماضية، لأجل تصويرها وإحضارها مبالغة في تهجينه والتنفير عنه، ونظيره قولك: "كنت سرت أمس حتى أدخل البلد" كما ذكره الجامي في شرح الكافية (ص 287) وهذا لعمري توجيه حسن. وأسند البيهقي في المعرفة عن الشافعي انه قال: "كانت بير بضاعة كثيرة الماء
واسعة كان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لوناً ولا طعماً ولا تظهر فيها ريح" (آثار السنن 1: 6) قلت: وهذا لا يتصور إلا بكونها أزيد من عشر في عشر لما تشاهد في الحياض الكبيرة، أنها تتغير بإلقاء النجاسة فيها سريعاً، فلابد أن كانت بئر بضاعة أوسع وأزيد من تلك الحياض، حتى أمنت التغير بإلقاء لحوم الكلاب والحيض والنتن فيها. ويؤيده أن تلك البئر قد أطلق عليها اسم الغدير عند عبد الرزاق في مصنفه (1) عن أبي سعيد الخدري بعينه: "أن النبي توضأ أو شرب من غدير كان يلقي فيه لحوم الكلاب والجيف، فذكر ذلك، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء" كذا في كنز العمال (5: 140) ومع الاحتمال لا يصح الاستدلال. فحديث بير بضاعة لا يصلح متمسكاً للشافعية أصلاً. وإنما الذي اضطرنا إلى توضيح حديث بئر بضاعة وأنه لا يمكن حمله على ظاهره مطلقاً إلا أن يكون كبيراً أو فيه ماء كثير، وأنه لا يظن بالنبي أنه كان يتوضأ من بير هذه صفته مع نزاهته وإيثاره الرائحة الطيبة ونهيه عن الامتخاط في الماء والبول في الماء الراكد فدل أن ذلك كان في الجاهلية فشك المسلمون في أمرها، فبين أنه لا أثر لذلك مع كثرة النزح) ا. هـ الإعلاء 1/ 178. ثم ما اتفق عليه الفقهاء وأجمعوا من أحكام حول المياه وطهارتها وما ينجسها قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت للماء طعماً أو لوناً أو رائحة، أنه نجس ما دام كذلك) فالتغير المذكور في بئر بضاعة ينبغي ألا يكون تغيراً بنجس حتى يجوز الوضوء منه، أما إذا وقعت النجاسة في الماء فلم تغير له لوناً أو طعماً أو ريحاً، فالعبرة عند الفقهاء لجريانه أو لكثرته، والمالكية يرون أن ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونهما قليل، وعندئذ فهم يحكمون بكراهة الماء فقط إذا حلت فيه نجاسة قليلة كالقطرة ولم تغيره، ولا كراهة فيما زاد على ذلك، والشافعية والحنابلة يعتبرون أن ما كان دون القُلَّتين فهو قليل ينجس إذا وقعت فيه نجاسة ولو لم تغير أحد أوصافه، والحنفية يرو أن ما كان دون عشرة أذرع في عشرة فهو قليل ينجس ولو بقطرة نجاسة، وينبغي أن يكون عمق الماء إذا بلغ عشرة في عشرة - ليعتبر كثيراً لا تؤثر فيه النجاسة أنه لو اغترف منه المغترف لا يرى قعره، على أنهم يختلفون فيما لو كان الماء سطحه دون العشر
ولكن كثير بحيث لو أنه صب فيما مساحته عشرة في عشرة، فإنه يملؤه بالشرط المذكور، فبعضهم يعتبره في هذه الحالة كثيراً، وعلى هذا فبئر بضاعة متوافر فيه هذا المعنى، فهو كثير، لا تؤثر فيه نجاسة إلا إذا غيرت لوناً أو طعماً أو رائحة. والذراع: حوالي ستين سنتمتراً أو أكثر من ستين سنتمتراً بقليل في اصطلاحاتنا الحالية والقلتان تقدران بـ (270) لتراً. وحول تحديد الحنفية للكثير بعشرة أذرع في عشرة اعتراض لبعض المحدثين، قال البغوي في شرح السنة (2/ 59): وقدَّر بعض أصحاب الرأي الماء الكثير الذي لا ينجس بأن يكون عشرة أذرع في عشرة أذرع وهذا تحديد لا يرجع إلى أصل شرعي يعتمد عليه. وحَدَّه بعضهم بأن يكون في غدير عظيم بحيث لو حرك منه جانب لم يضطرب منه الجانب الآخر وهذا في غاية الجهالة لاختلاف أحوال المحركين في القوة والضعف) ا. هـ. أقول: ليس الأمر كما ذكر الشيخ البغوي فإن الحنفية لم يقولوا باديء الأمر أ، هـ عشرة ف عشرة، ولا أنه بحيث لو حرك طرفه لا يتحرك الطرف الآخر. وإنما في ظاهر الرواية يعتبر فيه رأي المبتلي، وأصح حدَّه ما لا يخلص بعضه إلى بعض في رأي المبتلي واجتهاده ولا يناظر المجتهد فيه، وكان محمد يوقت في ذلك بعشر ثم رجع إلى قول أبي حنيفة، وقال لا أوَقِّت فيه شيئاً فظاهر الرواية أولى. ولكن منعاً للوسوسة وتوسعة على الناس قدَّره الفقهاء عشرة في عشرة أذرع فهو تيسيرٌ وإن لم يرجع إلى أصل ثم هو يعادل القلتين كما سننقل تحقيقه في كلم صاحب إعلاء السنن بعد قليل. وأما موضوع اختلاف القوة فقد ذكرنا أنها تعتبر بحسب كل شخص هو المبتلي بذلك الماء فلا اعتراض على الحنفية وليس من غايته الجهالة كما قال رحم الله. انظر اللباب 1/ 21 - 22.
حد الماء القليل والكثير
حد الماء القليل والكثير: 341 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسألُ عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع؟ فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". وفي رواية (1) أخرى لأبي داود (فإنه لا ينجُس). قال الخطابي وقد استدل بهذا الحديث من يرى سؤرَ السباع نجساً لقوله: "وما ينوبه من السباع" أي: يطرُقُه ويرده، إذ لولا أن شُرب السباع منه ينجسه، لما كان لسؤالهم عنه ولا لجوابه إياهم بتقدير القُلتين معنى. وقيل: معنى قوله: "يحمل الخبث" أي: أنه إذا كان قلتين لم يحتمل أن يكون فيه نجاسة، لأنه ينجس بوقوع الخبث فيه، فيكون على الأول قد قصد أول مقادير المياه التي لا تنجس بوقوع النجاسة فيها، وهو ما بلغ القلتين فصاعداً، وعلى الثاني: قصد آخر المياه التي تنجس بوقوع النجاسة فيها، وهو ما انتهى في القِلَّة إلى القُلتين، فحينئذ تكون القُلتان إذا وقعت فيهما النجاسة نجستين، فإذا زادتا على القلتين احتملتا النجاسة، وهذا هو على خلاف المذهب، فإن من ذهب إلى تحديد الماء بالقُلتين - وهو مذهب الشافعي رحمه
الله تعالى- إنما أراد: أنه إذا كان قُلتين، ووقعت في نجاسة لم تُغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، فإنه لا ينجس، وأما على التأويل الآخر، فليس مذهباً له. أقول: أخذ بهذا الحديث الشافعية والحنابلة، ولم يأخذ به الحنفية والمالكية، لأنهم أعلوه بالاضطراب وجهالة قدر القُّلَّة، ورد الذين أخذوا به على هذه الاعتراضات، والقلتان في اصطلاحات عصرنا تعدل برميلاً، والحديث أصل أصيل في الباب الذي يسميه الفقهاء (الأسار) والأسآر: جمع سؤر، والسؤر هو بقية الماء في الإناء أو في الحوض، واتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، فإذا كان الماء قليلاً باصطلاح الحنفية فحكم السؤر عندهم مرتبط بحكم لعاب الشارب، فإن كان نجساً تنجس الماء القليل، وإن كان طاهراً لم يتنجس. وإليك هذا التحقيق المطَّول في موضوع القُلَّتين: قال صاحب إعلاء السنن: (وأما حديث القلتين فلم يوقف على حقيقته كما سيأتي، فالاحتجاج به لا صح على ما قالوا والحديث رواه الشافعي وأحمد والأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه، ولفظ أبي داود: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، فقال رسول الله: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". ولفظ الحاكم: فقال: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: "فإنه لا ينجس". قال الحاكم: صحيح على شرطهما وقد احتجا بجميع رواته، وقال ابن مندة: إسناده على شرط مسلم. وقال: (وقال ابن عبد البر في التمهيد: "ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر، لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع". وقال في الاستذكار: "حديث معلول رده إسماعيل القاضي، وتكلم فيه" وقال الطحاوي: "إنما لم نقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت" وقال ابن دقيق العيد: "هذا الحديث قد صححه بعضهم وهو صحيح على طريق الفقهاء، لأنه وإن كان مضطرب الإسناد مختلفاً في بعض
ألفاظه، فإنه يجاب عنه بجواب صحيح، بأن يمكن الجمع بين الروايات، ولكني تركته، لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين مقدار القلتين". قلت: كأنه يشير إلى ما رواه ابن عدي من حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء" وفي إسناده المغيرة بن صقلاب، وهو منكر الحديث، قال النفيلي: لم يكن مؤتمناً على الحديث. وفيه أيضاً [يعني التلخيص الحبير]: "لكن أصحاب الشافعي قووا كون المراد قلال هجر، بكثرة استعمال العرب لها في أشعارهم، كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور" وفيه أيضاً: "قال الخطابي: قلا لهجر مشهورة الصنعة، معلومة المقدار، والقلة لفظ مشترك، وبعد صرفها إلى أحد معلوماتها وهي الأواني، تبقى مترددة بين الكبار والصغار، والدليل على أنها من الكبار، جعل الشارع الحد مقدراً بعدد، فدل على أنه أشار إلى أكبرها لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة" (1: 6) وفي فتح الباري (1: 300): "ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز" وفي تابع الآثار (ص 68): "وما روي من أحاديث القلتين يحمل على ما إذا كان الماء مبسوطاً على الأرض، كما يكون في الحياض وقد وقعت الأحاديث في جواب السؤال عنها، والمبسوط من القلتين إذا كان عمقه بحيث لا تنحسر الأرض بالاغتراف منه، كان في السعة حيث لا يتحرك طرف منه بحركة طرف آخر، وهذا هو حد الكثير في المذهب، أي الحنفي وقدروه للضبط على العوام بعشر في عشر. هذا من إفادات سيد العلماء في عصره مولانا (رشيد أحمد المحدث الكنكوهي)، وجربناه نحن، فوجدناه نحن، فوجدناه كذلك، والسرفي قيد البسط أن النجاسة تضمحل ولا تؤثر في كل وجه الماء الذي هو محل للاغتراف للوضوء وإذا قلت السعة قوي أثر النجاسة في أجزاء وجه الماء، فتدبر ا. هـ". وقال صاحب الإعلاء عند حديث (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرقْهُ ثم ليغسله سبع مرات): فيه حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة الماء بولوغ الكلب، وأمر بإراقته، وهو لا يغير، فثبت أن القليل من الماء يفسد بوقوع النجس فيه، تغير أو لا، والإناء يعم الصغير والكبير، فيدخل
فيه الدن أيضاً، وأما حديث القلتين فغير ثابت لاضطراب متنه وإسناده، وقد بسط الكلام فيه العلامة النيموي في آثار السنن (1: 4 - 6) فمن شاء فليراجعه. وحسبنا من ذلك قول الذهبي في الميزان بعد ما نقل كلام الخطيب فيما رواه الحسن بن محمد بن يحيى العلوي بسنده عن جابر مرفوعاً: "عليُّ خير البشر، فمن أبي فقد كفر": هذا حديث منكر، ما رواه سوى العلوي بهذا الإسناد، وليس بثابت. قلت: فإنما يقول الحافظ "ليس بثابت" في مثل خبر القلتين، وخبر "الخال وارث" لا في مثل هذا الباطل الجلي، نعوذ بالله من الخذلان" (1: 242). [يقصد أن الذهبي قد حكم أن حديث القلتين ليس بثابت، في موطن رده على الخطيب]. وإن سَلِمَ ثبوته فمحمول على الماء المبسوط على وجه الأرض، كما يشعر به لفظ الترمذي عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" (1: 11) ولا يخفى أن الماء في الفلاة أكثر ما يكون مبسوطاً على وجه الأرض وقدر القلتين يبلغ العشر في العشر بعد بسطه، أفاده الشيخ في تابع الآثار نقلاً عن الشيخ المحدث (الكنكوهي) فإن قلت: هب أن أكثر ماء الفلاة يكون مبسوطاً، ولكنه ربما يكون غير مبسوط، ولفظ الحديث عام، فما وجه تخصيصه؟ قلت: وجهه ما سيأتي من الأدلة الدالة على نجاسة البئر بوقوع النجاسة فيها ولو لم يتغير ماؤها، وماء الآبار يكون أكثر من القلتين عادة، لا سيما بير زمزم فإن ماءها لا ينقطع، فعلم أن حديث القلتين ليس بوارد في الآبار ونحوها، بل هو وارد في المبسوط على الأرض كما دل ليه بعض ألفاظ الحديث، كما مر. وقال عند الحديث عن الزنجي الذي وقع في زمزم: لا يخفى أن ماء زمزم أكثر من القلتين بكثير ولا يتصور تغيره بمجرد موت واحد فيه، ومع ذلك أمر ابن عباس بنزحه لا ندباً فقط، بل وجوباً مؤكداً، حتى أمر بدس العين التي جاءت من قبل الركن بالقباطي والمطارف، فإن مثل تلك المبالغة لتحصيل مندوب يعد من الغلو في الدين، والصحابة براء منه، وكان ذلك بمحضر منهم، فكان كالإجماع على نجاسة البئر بوقوع نجس فيها، ولو لم يتغير ماؤها، وهو قول أصحابنا. واعلم أن البيهقي
أحكام الأسآر والآبار
قد علَّ أثر ابن سيرين هذا حيث قال في المعرفة: "وابن سيرين عن ابن عباس مرسل" وزاد الزيلعي نقلاً عنه: "لم يلقه ولا سمع منه، وإنما هو بلاغ بلغه" وأجاب عنه العلامة النيموي في التعليق الحسن "بأن الأثر صحيح، وإسناده متصل، وما زعموا من أنه مرسل فليس بصحيح، لأن ابن سيرين كان حين وفاة ابن عباس شاباً ابن خمس وثلاثين أو نحوها، فما المانع له أن يسمع منه؟ ومع ذلك قد صرح بسماعه منه الحافظ الذهبي في الطبقات في ترجمته، قال: سمع محمد أبا هريرة وعمران بن حصين وابن عباس وابن عمر وطائفة". انتهى (1: 9). قلت: وإن سلم إرساله فليس يضرنا، فإن مراسيل ابن سيرين صحاح عند القوم، كمراسيل ابن المسيب، قال في الجوهر النقي (1: 343): طقال أبو عمر في أوائل التمهيد وكل من عرف بأنه لا يأخذ إلا عن ثقة، فتدليسه وترسيله مقبول. فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح ا. هـ (انظر إعلاء السنن 1/ 172 - 177). وإنما أطلنا في هذا الموضوع لإزالة توهُّمٍ عند بعض الناس أن مذهب الحنفية يعارض الحديث. أحكام الأسآر والآبار: 342 - * روى مالك عن يحيى بن عبد الرحمن "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركبٍ، فيهم عمرو بن العاص، حتى وردُوا حوضاً، فقال عمرو: يا صاحب الحوض، هل تردُ حوضك السباعُ؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، فإنا نردُ على السباع وتردُ علينا". قال المالكية: سؤر الدواب والسباع، وحتى سؤر الكلب والخنزير طاهر، ومذهبهم في الأصل أن ما لا يغير طعم الماء أو لونه أو ريحه لا ينجسه، وهذا الأثر يصلح أن يكون دليلاً لهم إلا أن الأثر يحتمل أكثر من اتجاه، فقد يكون عمر رضي الله عنه لا يرى أن يُسأل عما هو خلاف الأصل مما يشاهده الإنسان، فالأصل في الماء الطهارة (1)، فإذا لم يوجد طعم
النجاسة أو لونها أو ريحها فلا ينبغي للإنسان أن يسأل، وقد يكون الماء الموجود في الحوض قلتين فأكثر فلا يؤثر عليه شيء نجس لم يغير أوصافه. 343 - * روى أحمد عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة، أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبتْ له وضوءا، فجاءت هرةٌ تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربتْ، قالت كبشةُ: فرآني أنظرُ إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: قلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليس بنجسٍ إنها من الطوافين عليكمْ أو الطوَّافات". قال البغوي في شرح السنة: قوله: "أصغى لها الإناء" أي: أماله ليسهل عليها التناول. وروى عن عائشة، قالت في الهرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها. وهذا قول عامة أهل العلم أن سُؤرَ الهرةِ طاهر، وقوله "إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" يُتأول على وجهين. أحدهما: شبهها بالمماليك وبخدم البيت الذين يطوفون على أهله للخدمة، كقوله سبحانه وتعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (1) يعني المماليك والخدم. وقال إبراهيم: إنما الهرة كبعض أهل البيت، ومنه قول ابن عباس: إنما هو من متاع البيت. والآخر شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة، يريد أن الأجر في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة والمسألة.
واختلف أهل العلم في سؤر السباع، فذهب أكثرهم إلى طهارته، إلا سؤر الكلب والخنزير، فإنه نجس عند الأكثرين، وذهب قوم إلى نجاسة سؤر السباع إلا سؤر الهرة، وهو قول أصحاب الرأي، وقال مالك والأوزاعي: إذا شرب الكلب من إناء، ولم يجد ماء غيره، توضأ به، وقال الثوري: يتوضأ به، ثم يتيمم. وذهب أصحاب الرأي إلى أن سؤر الحمار والبغل مشكوك فيه، فإذا لم يجد ماء آخر، يجمع بين الوضوء به والتيمم، وبلغنا أن سفيان الثوري قال: لم نجد في أمر الماء إلا السعة. وقال الربيع: سُئل الشافعي عن الذبابة تقع على النتن، ثم تطير فتقع على ثوب الرجل؟ قال الشافعي: يجوز أن يكون في طيرانها ما ييبس ما برجليها، فإن كان كذلك، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع. "ا. هـ شرح السنة 2/ 70 و 72". أقول: سؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر مال م تكن جلالة، وسؤر الكلب نجس وكذا الخنزير وسباع البهائم. وسؤر الهرة مكروه تنزيهاً مع وجود غيره وكذا سؤر الدجاجة المخلاة وسباع الطير وسواكن البيت كالحية ما لم تُرَ النجاسة. وسؤر البغل والحمار الأهلي مشكوك فيه فيتوضأ به أو يغتسل ويتيمم يقدم أيهما شاء ومذهب المالكية في الأسآر واسع. وقال الشافعية والحنابلة سؤر الكلب والخنزير نجس، أما الآدمي والحيوان المأكول اللحم والهر والفأر والخيل والبغال والحمير والسباع فطاهرة. عن: ابن سيرين أن زنجياً وقع في زمزم، يعني فمات، فأمر به ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح، قال: فغلبتهم عين جاءتهم من الركن فأمر بها فدست بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم. رواه الدارقطني، وإسناده صحيح. (إعلام السنن 1/ 176).
عن: عطاء أن حبشياً وقع في زمزم فمات، فأمر ابن الزبير، فنزح ماءها فجعل الماء لا ينقطع، فنظر، فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم. رواه الطحاوي وإسناده صحيح وابن أبي شيبة، ورجاله رجال الصحيحين، وصححه ابن الهمام في (فتح القدير). (إعلاء السنن 1/ 177). وأورد أيضاً عن: أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء". أقول: من الناحية الفقهية فإنه يقاس على الذبابة كل ما لا دم له سائل فإن وقوعه في الإناء لا ينجسه، وقد نقلنا في كتابنا الرسول صلى الله عليه وسلم وفوائد جمة حول هذا الحديث انظرها (ص 36 - 40). وكل ما هو مثل الذباب من حيث إنه لا دم له سائلٌ فهو في حكمه، إلا أن هذا الحكم في الذباب ثبت بالنص، وفي غيره بالقياس. ودلالة حديث الباب ظاهرة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بنجاسة ما في الإناء بوقوع الذباب فيه مطلقاً، سواء مات أو لم يمت (إعلاء السنن 1/ 180). أقول إذا سقط آدمي في بئر وبقي حياً لا ينجس البئر إذا لم يكن على بدنه نجاسة وكذا الحيوان مأكول اللحم إذا أخرج حياً ولا نجاسة على بدنه. أما إذا سقط خنزير ولو خرج حياً أو وصل الماء إلى لعاب الكلب وخرج حياً فإن البئر ينجس وقال الحنابلة: إذا وقعت الفأرة أو الهرة ونحوهما في مائع أو ماء يسير ثم خرجت حية فهو طاهر. وعند الحنفية: إذا مات آدمي في بئر فإن البئر ينجس والجمهور قالوا: لا ينجس ولا ينجس البئر بموت حيوان لا دم له سائل. وتنجس البئر بوقوع نجاسة فيها وإن قلت كقطرة خمر أو بول وينزح جميع ماء البئر
النهي عن البول في الماء
عند الحنفية ولا تنجس البئر بالبعر والروث والخثي إلا إن كان كثيراً ولا تُنجَّس بخره الحمام والصقور مما يؤكل من الطيور غير الدجاج والأوز والبط والأصح أنه لا ينجس بخره الطيور غير المأكولة اللحم، وعند الشافعية روث جميع البهائم والطيور نجس، وقال المالكية والحنابلة: روث وبول الحيوان المأكول طاهر، وروث وبول محرم الأكل نجس. ويجب نزح ماء البئر كله أو مائتي دلو إذا لم يمكن نزح البئر كله: إذا مات آدمي أو حيوان كبير أو كلب أو شاة، وكذا إن تفسخ الحيوان صغيراً كان أو كبيراً ويُنزح أربعون دلواً إلى ستين إذا كان الحيوان متوسطاً كالحمامة والدجاجة. وإذا كان اثنان من الحيوان المتوسط ينزح جميع الماء وإذا احتُمِلَ وجود نجاسة على هذا الحيوان كبول أو دم لسبب ما نزح جميع الماء صغيراً أو كبيراً، فالفأرة الهاربة من الكلب أو المجروحة إذا وقعت في بئر ينزح جميع الماء. وينزح عشرون إلى ثلاثين إذا مات حيوان صغير كالعصفور والفأر. انظر الفقه الإسلامي 1/ 136 - 139. النهي عن البول في الماء: 344 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخِرُون السابقون"، وقال: "لا يبُوَلنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لايجري، ثم يغتسلُ فيه". وفي رواية (1) مثله، ولم يذكر: "نحن الآخِرُون السابقون".
الماء المستعمل وحكمه
وفي رواية (1) الترمذي والنسائي (2) "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه" وللنسائي (الماء الراكد). 345 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُبال في الماء الراكدِ. 346 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم ثم يتوضأُ منه أو يشربُ". 347 - * روى الطبراني في الأوسط عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبال في الماء الجاري. أقول: الحكمة في النهي واضحة، فالبول قَذَرٌ ونجسٌ وفيه ضرر، والذوق يقتضي ألا يفعل الإنسان ذلك في الماء، ولكن هل يؤثر البول على طهارة الماء؟ المسألة مرتبطة بكثرة الماء وقلته، واصطلاحات الفقهاء في الكثرة والقلة، وفيما إذا غَيَّر البول أوصاف الماء أو لم يغير، والحديث الخير يدل على ما ذكرناه من قبل أن المسلم مطالب بالطهارة والنظافة في آن واحد. الماء المستعمل وحكمه: 348 - * روى البخاري عن أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرةِ، فأُتِيَ بوضوء فتوضَّأ ونحن بالبطْحَاء، فجعل الناسُ يأخذون من فضل وضوئه، فيتَمَسَّحون به - وفي رواية (3): فرأيتُ الناس يبْتَدِرُون ذلك الوضوء، من
أصاب منه شيئاً تمسَّحَ به، ومن لم يُصِبْ منه أخذ من بللِ يَدِ صاحبه - ثم رأيت بلالاً أخرج عنزةً فركزها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُلَّةٍ حمراء مُشَمِّراً، فصلى إلى العنزة بالناس ركعتين، ورأيتُ الناس والدوابَّ يمرُّون بين يدي العنزة". وفي أخرى (1) "وقام الناسُ، فجعلوا يأخذون يديه يمْسَحُون بها وُجُوهَهم، قال: فأخذتُ بيده فوضعتُها على وجهي، فإذا هي أبْرَدُ من الثلج، وأطْيَبُ رائحةً من المسك". وفي رواية (2) النسائي قال: شهدتُ النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء وأخرج بلالٌ فضل وضوئه، فابتدره الناس فنلتُ منه شيئاً، وركز له العنزة فصلى بالناس، والحُمُرُ والمرأةُ والكلابُ يمرون بين يديه. 349 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مرضتُ، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعُوداني، فوجداني قد أُغْميَ عليَّ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضبَّ عليَّ وضوءه. أقول: ذكر الحديثين في باب المياه سببه أن الفقهاء يتحدثون عن الماء المستعمل في إزالة حدث أو في ما يقرب إلى الله، فالحديثان يدلان على طهارة الماء المستعمل، فالحنفية يعتبرونه طاهراً غير مطهر، ولكن غير مطهر للحدث وهو مطهر للخبث، والمالكية يكرهون استعماله في إزالة الحدث ويوافقون الحنفية في أنه يزيل النجس، والماء المستعمل عند الشافعية، ولا خلاف بين العلماء أن الماء المستعمل في التبرد والتنظيف طاهرٌ مطهرٌ غير مكروه لكنه غير نظيف، فالأصل ألا يستعمل إلا في الحالة الضرورية.
وذكر الشوكاني في (نيل الأوطار 1/ 24) أن بعض الحنفية قالوا بنجاسة الماء المستعمل لكن قال ابن عابدين خاتمة المحققين في (رد المحتار 1/ 134). (قوله وهو طاهر - أي المستعمل - رواه محمد عن الإمام وهذه الرواية هي المشهورة عنه، واختارها المحققون قالواك عليها الفتوى لا فرق في ذلك بين الجنب والمحدث) ا. هـ. لكن استدل من قال من الحنفية على نجاسة الماء المستعمل بما يلي: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "من اغترف من ماء وهو جنب فما بقي نجس" أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، (عمدة القارئ 2: 23) قلت [أي: سند صحيح، رجاله رجال الصحيحين، إلا أبا سنان، فإنه من رجال مسلم. (قال صاحب إعلاء السنن 1/ 183 - 184). قال العيني: "وهذا الأثر من أقوى الدلائل لمن ذهب من الحنفية إلى نجاسة الماء المستعمل فافهم". ا. هـ (2: 23) وحمله بعضهم على ما إذا كان بيده قذر. قلت: لا يكون إذن لقوله "وهو جنب" معنى، لأن غسل القذر لا يختص بالجنب، بل وجب غسله عام له ولغيره، والقيد يدل على أن لمعنى الجنابة أثراً في الحكم، وليس هو إلا ما قاله الحنفية من نجاسة الماء المستعمل. وأيضاً ففي هذا الأثر مايدل على نجاسة الباقي بعد الاغتراف دون الذي اغترفه، وهذا لا يتصور فيما إذا كان بيده قذر. وبالجملة فتأويله بنحو ذلك لا يخلو ن تعسف مستغنى عنه، والحق ما قاله العيني إنه من أقوى الدلائل لنجاسة الماء المستعمل، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، وروى أبو يوسف عنه أنه نجس نجاسة خفيفة كما في فتح القدير (1: 74)]. أقول: إن صح الحديث فهو في المستعمل في إزالة الجنابة فحسب، على أنه يُتوَقَّف في الأخذ بهذا الحكم لما صح من أحاديث في طهارة الماء المستعمل وقد حققنا أن الرأي المشهور المُفتى به عند الحنفية طهارة الماء المستعمل، أما فائدة القيد وهو جنب أن يغلب وجود النجاسة حال الجنابة.
كيفية الاغتسال من الماء الدائم
كيفية الاغتسال من الماء الدائم: 350 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغتسل أحدُكم في الماء الدائم وهو جُنبٌ"، قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: "يتناوله تناولاً". أقول: إذا كان الماء جارياً أو كثيراً بأن كان عشرة أذرع في عشرة على مذهب الحنفية صح للإنسان أن ينزل فيه وأن يغتسل من الجنابة ولو كان على بدنه نجاسة، أما إذا كان أقل من عشرة في عشرة، وكان على بدنه نجاسة فإن نزوله في الماء ينجسه، وعندئذ فإنه يغترف لإزالة النجاسة وبعد إزالته يصح أن ينزل فيه فيغتسل إذا كان الماء كافياً لأن ينزل فه ويغتسل، وهناك صورة ما إذا كان الماء قليلاً كأن كان في طبق فوضع الإنسان قدميه فيه وأخذ منه وصبّ على رأسه وجسمه فعندئذ يكون ما تقاطر في الطبق مستعملاً فإذا ما غلب المستعمل على الماء لم يعد الماء مطهراً، ففي مثل هذه الحالة لابد أن يغترف الإنسان من الماء وصب على نفسه خارج الإناء وعند الشافعية إذا كان الماء أقل من قلتين، فلا يصح لمريد الوضوء أو الغسل من الجنابة أن يمد يده إلا بنية الاغتراف بأن يقصد نقل الماء من إنائه لغسله ما خارجه، فإذا لم ينو الاغتراف ابتداء، فإن الماء يصبح مستعملاً غير طهور، ولذلك نلحظ في حديث أم سلمة الذي سيمر بعد قليل أنها ذكرت بجواز اغتسال الرجل بفضل المرأة شرط أن تكون كيسة، والمراد بالكيسة هنا الفطنة الفقهية. الاغتسال بفضل المرأة والعكس: 351 - * روى مالك عن نافع - مولى ابن عمر - رضي الله عنهم أن ابن عمر كان يقول: "لا بأس أن يُغتسل بفضل المرأة، ما لم تكن حائضاً أو جنباً". أقول: هذا مذهب لابن عمر، ومن ههنا اشترط بعض الفقهاء شروطاً في طريقة استعمال الماء لتبقي له طهوريته (1)، والحنفية لا يعتبرون الماء المتبقي بعد اغتسال الحائض أو الجنب
مستعملاً أو نجساً إلا إذا أصابته نجاسة أو غلب الماء المستعمل على أًل الماء، فالماء يبقى طاهراً مطهراً، إن أخذت منه الحائض أو الجنب وإن كان قليلاً. 352 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنتُ أغتسلُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحدٍ، تختلفُ أيدينا فيه من الجنابة". وللبخاري (1): قالت: "كنت أغتسلُ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد من الجنابة". وله في أخرى (2): قالت: "كان يُوضعُ لي وللرسول صلى الله عليه وسلم هذا المِرْكَنُ فنشرعُ فيه جميعاً. ولمسلم (3) قالت: "كنت أغتسلُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد فيُبادرُني، حتى أقول: دع لي، دع لي، قال: وهما جُنُبَان". وفي رواية (4) لهما قالت: "كنتُ أغتسلُ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحدٍ، من قدحٍ يُقال له: الفرقُ". وفي رواية (5) لهما نحوه، قال سفيان: والفرَقُ: ثلاثة آصُع. وفي أخرى (6) للنسائي قالتُ: "لقد رأيتُني أغتسلُ أنا والنبيُّ صلى الله عليه وسلم من هذا، فإذا تَوْرٌ
موضوع مثل الصاع، أو دُونه، فنشرعُ فيه جميعاً، فأُفيضُ على رأسي بيدي ثلاث مراتٍ، وما أنقضُ لي شعراً. 353 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كان يغتسلان من إناءٍ واحدٍ. وفي رواية (1) يغتسلُ من فضل ميمونة. 354 - * روى النسائي عن أم هانئ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسلَ هو وميمونة من إناء واحدٍ، في قصعةٍ فيها أثرُ العجين". أقول: من هذا الحديث وأمثاله أخذ الفقهاء أحكام الماء إذا خالطه مائع أو جامد طاهر وتأثير ذلك على طهوريته، قال الحنفية: تجوز الطهارة بماء خالطه شيء جامد طاهر كالتراب والأوراق والأشجار والزعفران والصابون والأشنان ما دام باقياً على رقته وسيلانه، فلو خرج الماء عن طبعه أو حدث له اسم جديد كأن صار ماء الصابون ثخيناً أو صار ماء الزعفران صبغاً لا تجوز الطهارة به، كذلك إذا كان التغير عن طبخ فغير أحد أوصافه أو أوصافه كلها (اللون والطعم والرائحة)، والحديث يذكر أثر العجين مبيناً عدم تأثيره على طهورية الماء، ولا خلاف بين العلماء في جواز التوضؤ بماء خالطه طاهر لم يغيره، ومن كلام الحنفية أن ما خالط الماء مما يُقصد به التنظيف كالصابون والأشنان والخطمي والسدر لا يؤثر على طهوريته. ومن كلام الحنفية ف المائعات الطاهرات إذا خالطت الماء: أن العبرة في ذلك للغلبة في
الوزن إذا كان المخالط لوصف له كالماء المستعمل وماء الورد المنقطع الرائحة أو بالغلبة في الوصف بظهور وصفين لمائع له أوصاف ثلاثة، كالخل: له طعم ورائحة ولون فأي الوصفين ظهر منع صحة الوضوء ولا يضرُّ ظهور وصف واحد لقلته أو بالغلبة كظهور وصف واحد من مائع له وصفان فقط كاللبن له اللون والطعم ولا رائحة له. والمائع الطاهر لا يحصل به التطهير أي إزالة الحدث باتفاق الحنفية لأن إزالة الحدث خص بالماء في النص القرآني، لكن تحصل به الطهارة الحقيقية أي إزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمقصود بالمائع الطاهر ما ينعصر كماء الورد والخل وعصير الشجر والثمر. وقال المالكية يسلب الطهورية عن الماء كل طاهر يخالط الماء مما يفارقه غالباً ويغير أحد أوصافه ولم يكن من أجزاء الأرض ولا دابغاً لإنائه ولا مما يعسر الاحتراز عنه، ومن ذلك اللبن والعسل والزبيب المنبوذ في الماء وعصير الليمون. ومن كلام الشافعية: أن مما يسلب الطهورية: التمر والدقيق المطروح في الماء، والمنقوع في الماء كالعرق سوس. (راجع رد المحتار 1/ 124 وما بعدها، بداية المجتهد 1/ 80 والمغني 1/ 11 وما بعدها والفقه الإسلامي 1/ 93 - 94). 355 - * روى أحمد عن ابن عباسٍ: إن امرأةً من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلت من جنابة فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم بفضله، فذكرت ذلك له، فقال: "إن الماء لا ينجسه شيء" وله عند البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يتوضأ فقالت له امرأة من نسائه إني توضأتُ من هذا فتوضأ منه وقال: "إن الماء لا يُنجسُهُ شيء". أقول: من سياق الحديث نعرف أن المراد من قوله (1): "إن الماء لا يُنَجِّسُه شيء" هو الحدث، فالماء لا ينجسه الحدث كما رأينا والإجماع منعقد على أن الخبث ينجسه إذا غير
طعمه أو ريحه أو لونه، إذا كان كثيراً أما قليلاً فينجسه سواء غيَرَ أو لم يغير. 356 - * روى النسائي عن ناعمٍ - مولى أم سلمة - أن أم سلمة سُئلت: "أتغتسلُ المرأة مع الرجل؟ قالت: نعم، إذا كانت كيسةً، رأيتُني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نغتسلُ من مِرْكنٍ واحدٍ، نُفيضُ على أبداننا حتى نُنْقيها، ثم نُفيضُ عليها الماء". واغتسال أم سلمة مع النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة من إناءٍ واحدٍ مذكور في الصحيحين. 357 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جِفْنَةٍ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها- أو يغتسل - فقالت: إني كنت جنباً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا يُجْنِبُ". أقول: وقد مر معنا أنهما يشترطون لمن أراد أن يُدخل يده في الإناء لإزالة الجنابة أن ينوي الاغتراف، وظاهر الحديث أنه لا يشترط ذلك، والحنفية يرون أن غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء لابد منه إذا كانت على اليد نجاسة فعندئذ يُمِيْلُ الإنسانُ الإناء فيغسل النجاسة عن يديه أو يغترف فيغسل النجاسة ثم يغترف للغسل. 358 - * (1) روى أحمد عن حُميد الحِمْيَري قال: لقيتُ رجلاً صحبَ النبي صلى الله عليه وسلم أربع
سنين، كما صحبهُ أبو هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تَغْتَسِلَ المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة. زاد مُسدد: وليغترفا جميعاً. أخرجه أبو داود والنسائي، إلا أنه زاد في أوله (1) "نهى أن يَمْتَشِط أحدنا كل يوم، أو يبول في مُغْتَسَلِه" وهذه الزيادة قد أخرجها أبو داود وحدها. أقول: سيمر معنا في باب الزينة أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكرام الشعر، فالنهي عن الامتشاط كل يوم إما منسوخ وإما محمول على كراهة التنزيه لمن يفعل ذلك لغير ضرورة، وأما النهي عن الاغتسال بفضل المرأة في الحديث فهو إما منسوخ وإما أنه في حق المرأة التي لا تحسن فقه استعمال الماء، وفي هذه الحالة نفسها فالنهي محمول على كراهة التنزيه. 359 - * روى أبو داود عن الحكم بن عمرو - الغِفاري- أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتوضأ الرجلُ بفضل طهور المرأة". وزاد الترمذي (2) في رواية أو قال: "بسُؤرِها". وقد مر معنا ما يُحملُ عليه مثل هذا الحديث. وقال صاحب (عون المعبود) عن هذا لحديث ما يلي: قال النووي حديث الحكم بن عمرو ضعيف ضعفه أئمة الحديث منهم البخاري وغيره وقال الخطابي: قال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع في النهي لا يصح، واعلم أن تطهير الرجل بفضل المرأة وتطهيرها بفضله فيه مذاهب: الأول: جواز التطهير لكل واحد من الرجل والمرأة بفضل الأخر شرعاً، جميعاً أو تقدم أحدهما على الآخر والثاني: كراهة تطهير الرجل بفضل المرأة وبالعكس والثالث: جواز التطهير لكل منهما إذا اغترفا جميعاً والرابع: جواز التطهير ما لم تكن
المرأة حائضاً والرجل جنباً والخامس: جواز تطهير المرأة بفضل طهور الرجل وكراهة العكس والسادس: جواز التطهير لكل منهما إذا شرعا جميعاً للتطهير في إناء واحد سواء اغترفا جميعاً أو لم يغترفا كذلك ولكل قائل من هذه الأقوال دليل يذهب إليه ويقول به، لكن المختار في ذلك ما ذهب إليه أهل المذهب الأول لما ثبت في الأحاديث الصحيحة تطهيره صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وكل منهما يستعمل فضل صاحبه وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضل بعض أزواجه وجمع الحافظ الخطابي بين أحاديث الإباحة والنهي فقال في معالم السنن: كان وجه الجمع بين الحديثين إن ثبت حديث الأقرع أن النهي إنما وقع عن التطهير بفضل ما تستعمله المرأة من الماء وهو ما سال وفضل عن أعضائها عند التطهير دون الفضل الذي يبقى في الإناء ومن الناس من جعل النهي في ذلك على الاستحباب دون الإيجاب وكان ابن عمر رضي الله عنه يذهب إلى أن النهي عن فضل وضوء المرأة إنما هو إذا كانت جنباً أو حائضاً فإذا كانت طاهراً فلا بأس به قال: وإسناد حديث عائشة في الإباحة أجود من إسناد خبر النهي وقال النووي: إن المراد النهي عن فضل أعضائها وهو المتساقط منها وذلك مستعمل وقال الحافظ في الفتح: وقول أحمد إن الأحاديث من الطريقين مضطربة إنما يصار إليه عند تعذر الجمع وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء والجواز على ما بقي من الماء وبذلك جمع الخطابي أو يحمل النهي على التنزيه جمعاً بن الأدلة والله أعلم. ا. هـ (العون 1/ 31)، وانظر (نيل الأوطار 1/ 31 - 32). 360 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان الرجالُ والنساءُ يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً من إناءٍ واحدٍ".
الاغتسال والوضوء بالماء الحار
ولأبي (1) داود قال: كنا نتوضأ نحن والنساءُ من إناءٍ واحدٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد في رواية (نُدْلي فيه أيدينا). الاغتسال والوضوء بالماء الحار: 361 - * روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "توضأ عمر بالحميم في جَرِّ نصرانية، ومن بيتها". وهو في تراجم أبواب البخاري، فإنه قال في أحدِ أبواب كتاب الوضوء قولاً مجملاً: وتوضأ عمر بالحميم، ومن بيت نصرانية. قال الحافظ في الفتح: وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ "أن عمر كان يتوضأ بالحميم ويغتسل منه" ورواه ابن أبي شيبة والدارقطني بلفظ "كان يسخن له ماء في قمقم ثم يغتسل منه" قال الدارقطني: إسناده صحيح وقوله "من بيت نصرانية" وصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما، عن ابن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه به. ولفظ الشافعي "توضأ من ماء في جرة نصرانية" ولم يسمعه ابن عيينة من زيد بن أسلم، ... ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عنه بإثبات الواسطة (عن زيد بن أسلم عن أبيه) ... ثم قال الحافظ: ففيه دليل أيضاً على جواز التطهر بفضل وضوء المرأة المسلمة لأنها لا تكون أسوأ حالاً من النصرانية، وفيه دليل أيضاً على جواز استعمال مياه أهل الكتاب من غير استفصال. [م]. الوضوء بغير الماء: 362 - * روى أبو يعلي عن عكرمة قال: "النبيذ وضوء لمن لم يجد غيره". قال
الأوزاعي: إن كان مسكراً فلا توضأ به. أقول: المسكر نجس فشيء عادي أن لا يستعمل أصلاً، ونبيذ التمر أو الزبيب لا يصلح لإزالة الحدث، ويصلح عند الحنفية لإزالة الخبث، ولعله المراد هنا، فالوضوء قد يطلق على مجرد النظافة وعلى كل فهذا أثر، فما ورد في النص مذهب لقائله. 363 - * روى الطبراني عن حُميد بن هلال قال كان أبو رِفاعة يُسخِّنُ الماء لأصحابه ثم يقول أحسنوا الوضوء من هذا فأحسن من هذا فيتوضأُ بالماء البارد. قوله (فأحسن من هذا): أي أما أنا فسأتوضأ بالماء البارد وسأحسن الوضوء منه. 364 - * روى الدارقطني عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب كان يُسَخَّنُ له ماءٌ في قُمْقُمَةٍ ويغتسل به. 365 - * روى ابن أبي شيبة عن سلمة بن الأكوع أنه كان يسخن الماء يتوضأ به.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يصاب بعض الناس بمرض الوسوسة في الطهارة ودواء ذلك العلم والأخذ برخص الأئمة، قال سفيان الثوري: (العلم رخصة من ثقة، وأما التشدد فيعرفه كل الناس)، وأي رخصة أقوى من رخصة يقول بها إمام مجتهد، وأدب الفقيه إذا رأى وسوسة إنسان أن يدله على الرخص كقول المالكية في أن الماء ولو قل لا ينجسه إلا ما غَيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، وكقول بعض المالكية إن طهارة البدن والثياب والمكان سنة وليست شرطاً لصحة الصلاة، وكما يلاحظ ذلك من الموسوس يلاحظ في المرضى وأصحاب الأعذار وحالات الضرورة. - من الرخص العظيمة في فقه الشافعية أن النجاسة غير المرئية إذا مر عليها الماء يطهرها، ويبقى الماء طاهراً أما إذا أُدخلت في الماء فإنها تنجس وتبقى نجسة مثال ذلك لو أن امرأة وضعت ثياباً متنجسة بنجاسة غير مرئية في غسالة وصبت عليها الماء فإن هذا الماء يطهرها ويبقى طاهراً، أما لو وضعت الماء أولاً ووضعت الثياب فيه، فإن الثياب تنجسه وتبقى نجسة، وفي الصورة الأولى يصبح الماء مستعملاً عندهم لا يزيل حدثاً ولا خبثاً. وشروط ذلك ثلاثة أن يَرِدَ الماء على النجاسة لا ترد هي عليه وأن ينفصل طاهراً لم يتغير أحد أوصافه وقد طهر المحل، وألا يزيد وزنه بعد اعتبار ما يأخذه الثوب من الماء ويعطيه من الوسخ (الفقه الإسلامي 1/ 124). - مرّ معنا أن الماء الجاري لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريح، والماء الجاري عند الحنفية ما يذهب بتبنة. - إذا كان الماء يصب في حوض ويخرج منه فله حكم الماء الجاري عند الحنفية، ومما له حكم الماء الجاري جرن الحمام الذي يصب فيه الماء والناس يغترفون منه عند الحنفية. - مر معنا أن الماء عند الشافعية والحنابلة إذا بلغ قلتين لا يحمل خبثاً إلا إذا غير لونه أو طعمه أو ريحه، إلا أنه إذا زال اللون أو الطعم أو الريح بنفسه أو بمكاثرة الماء فإنه يعود طاهراً، وتظهر ثمرة ذلك في أشياء كثيرة منها ما لو كان نهر يمر ببلد وتصبُّ فيه قاذوراتها
فيظهر لون النجاسة أو طعمها أو ريحها فإن الماء ينجس، حتى إذا استمر الماء إلى مجراه لم يعد لطعم النجاسة أو ريحها أو لونها أثر عاد طاهراً، وكذلك لو صفي ماء النهر المتنجس مقدار قلتين فأكثر بحيث لا يظهر أثر للنجاسة يعود الماء طاهراً. - من المعروف أن السحاب ماء متبخر، وماء المطر طهور وعلى هذا فأي ماء تبخر ثم جمع يكون طاهراً مطهراً. - مر معنا أن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس عند الحنابلة والشافعية ولا يسري هذا عندهم على غير الماء. - ذكر فقهاء الحنابلة أن من الماء المستعمل الذي يفقد طهوريته ما غسل به الميت، لأنه غسل تعبدي، ومنه الماء اليسير الذي غمس به القائم من الليل يده فغسلها وكان الغاسل مسلماً عاقلاً بالغاً وكان الغمس قبل غسل اليد ثلاثاً. - لا يصير الماء مستعملاً إلا بعد انفصاله عن محل الاستعمال ويعفى عن يسير الماء المستعمل الواقع في الماء. - وههنا نقطة ينبغي التنبه لها، فلو صب الإنسان ماء على يده مثلاً للوضوء، فعليه ألا يفصل يده عن المحل حتى يبلغ الماء المحل، فإذا فصل يده أصبح الماء الذي بيده مستعملاً وما يتقاطر من محل الوضوء يعتبر مستعملاً، فإذا لم يكن قد بلَّغ المحل بالماء فكأنه في هذه الحالة يبلغه بعد الفصل بماء مستعمل. - قال الحنفية: لا تنجس البئر ببعر الإبل والغنم وروث الفرس والبغل والحمار وخثي البقر إلا أن يستكثره الناظر أو ألا يخلو دلو عن بعرة ونحوه، ولا تنجس البئر بخرء حمام وعصفور ونحوهما مما يؤكل من الطيور غير الدجاج والأوز والبط، والأصح أنه لا ينجس البئر بخرء الطيور غير المأكولة اللحم مثل سباع الطير. - وقال المالكية والحنابلة: روث وبول الحيوان المأكول طاهر، وروث وبول المحرم الأكل نجس، إلا أن مذهب الحنابلة على أنه إذا بلغ الماء قلتين لا ينجس إلا إذا تغير طعمه ولونه وريحه.
- وقال المالكية: إذا وقعت دابة نجسة في بئر وغيرت الماء وجب نزح جميعه، فإذا لم تغيره استحب أن ينزح منه بقدر الدابة وبعض الماء، منها، وعند الحنفية تفصيلات كثيرة لأحكام الآبار، ولهم أدلتهم الصحيحة من فتاوى الصحابة والتابعين لا كما يزعم بعضهم. ونكتفي بهذا القدر محيلين كل مسلم على مذهبه الفقهي ليعرف فتاوى المذهب في ما يبتلى به.
الفقرة الثالثة: في الأعيان الطاهرة والنجاسات والمطهرات
الفقرة الثالثة: في الأعيان الطاهرة والنجاسات والمطهرات الأصل في الأشياء الطهارة ما لم تثبت نجاستها بدليل شرعي، وهناك أشياء متفق على نجاستها عند الفقهاء، وهناك أشياء مختلف عل نجاستها، وكذلك المطهرات من النجاسة، هناك أشياء اتفقوا على أنها مطهرة، وأشياء اختلفوا في تطهيرها. والنجاسات ترتبط بها أحكام متنوعة، منها ماله علاقة في الصلاة ومنها ما له علاقة في الطعام والشراب ومنها ماله علاقة بأشياء أخرى. والنجاسات على أنواع: فمنها نجاسة الاعتقاد، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) ومنها النجاسة من الحدث، ومنها النجاسات الحسية، وقد قسم الحنفية النجاسة الحسية إلى مغلظة ومخففة، وإلى جامدة ومائعة، وإلى مرية وغير مرئية، وأوصلوا أنواع المطهرات إلى ثمانية عشر نوعاً. ومن ههنا ندرك أن فقه هذا الموضوع واسع ونحن نستعرض له من خلال النصوص ونذكر من الفوائد والمسائل ما تدعو إليه الحاجة، متقيدين بالمذاهب الأربعة محيلين من يريد التفقه على مذهبه أو من أراد التوسع على كتب الفقه العامة وعلى كتب آيات الأحكام وشرح أحاديث الأحكام. حكم بول الصغير والصغيرة: 366 - * روى الشيخان عن أمِّ قيسٍ بنت محصنٍ رضي الله عنها أنها أتتْ بابنٍ لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْرِه، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فنضحهُ، ولم يغسلهُ. وفي رواية (2): "فلم يزِدْ على أن نضح بالماء".
وفي أخرى (1): فدعا بماءٍ فرشَّه. 367 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي" فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فأتبعه إيَّاه". وفي رواية (2): أُتِيَ بصبي فحَنَّكَه، فبال عليه. ولمسلم (3): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بالصبيان فيُبَرَّكُ عليهم ويحنكهم، فأُتِيَ بصبيٍّ ... وذكر الحديث". 368 - * روى أحمد عن أبي ليلى قال كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدره أو بطنه الحسنُ أو الحسينُ عليهما السلام فبال فرأيتُ بولهُ أساريعَ فقمتُ إليه فقال "دعوا ابني لا تُفْزِعُوه حتى يقضي بوله" ثم اتبعهُ الماء ثم قام فدخل بيت تمرْ الصدقة ومعه الغلام فأخذ تمرةً فجعلها في فيه فاستخرجها النبي صلى الله عليه وسلم وقال "إن الصدقة لا تحلُّ لنا". 369 - * روى أبو داود عن لبابة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: "كان الحسنُ بن عليٍّ في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فبال على ثوبه، فقلتُ: يا رسول الله، البَسْ ثوباً، وأعطني إزارك حتى أغسلهُ، قال: "إنما يُغسلُ من بول الأنثى، ويُنضحُ من بول الذكر".
370 - * روى أبو داود عن أبي السمح رضي الله عنه قال: "كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكان إذا أراد أن يغتسل قال: "وَلِّنِي"، فأوليه قفاي، فأستُرهُ بذلك، فأُتي بحسنٍ - أو حسينٍ - فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: "يُغْسَلُ من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام". واختصره النسائي، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُغسلُ من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام". 371 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الغلام الرضيع: "يُنضحُ بولُ الغلام، ويُغسلُ بول الجارية" قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غُسِلاً جميعاً. وفي رواية (1) أبي داود قال عليٌّ: يُغسل من بول الجارية، ويُنضَحُ من بول الغلام ما لم يَطْعم. فائدة: قال الإمام اللكنوي رحمه الله تعالى: وحمل أصحابنا (أي الحنفية) النَّضح والرش على الصب الخفيف بغير مبالغة ودلك، والغسل على الغسل مبالغة فاستويا في الغسل. ويؤيده ما روى أبو داود عن الحسن عن أمه أنها أبصرت أم سلمة تصب على بول الغلام ما لم يطْعَمْ، فإذا طعم غسلته وكانت تغسل بول الجارية (التعليق الممجد ص 4). وقال الشيخ ظفر أحمد: (فيثبت بهذه الآثار أن حكم بول الغلام الغَسْلُ، إلا أن ذلك الغسل يجزئ عنه الصب، وأن حكم بول الجارية الغسل أيضاً، إلا أن الصب لا يكفي فيه
لأن بول الغلام يكون في موضع واحد لضيق مخرجه، وبول الجارية يتفرق لسعة مخرجه، فأمر في الغلام بالصب يريد به إسالة الماء في موضع واحد، وفي بول الجارية بالغسل لأنه يقع في مواضع متفرقة. قاله الزيلعي عن الطحاوي). ومما يؤيد استعمال النضح بمعنى الغسل ما في الترمذي في المذي يصيب الثوب عن سهل بن حنيف قلت يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: (يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك) الحديث وصححه الترمذي وحسنه (1/ 17). ومنه ما في مسلم عن علي رضي الله عنه قال: أرسلت المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضأ وانضح فرجك" (1/ 143)، قال النووي: أما قوله صلى الله عليه وسلم "وانضح فرجك" فمعناه اغسله فإن النضح يكون غسلاً ويكون رشاً وقد جاء في الرواية الأخرى "يغسل ذكره" (فتعين حمل النضح عليه) ا. هـ عن إعلاء السنن (1/ 293 - 294). أقول: هذا توجيه الحنفية والمالكية للأحاديث الواردة في النضح من بول الصبي، فهم لا يفرقون بين بول الصغير والكبير، إلا أن المالكية قالوا يعفى عما يصيب ثوب المرضعة أو جسدها من بول الطفل أو غائطه سواء كانت أماً أو غيرها إذا كانت تجتهد في درء النجاسة عنها خلال نزولها بخلاف المفرطة، ولكن يندب لها غسله إن تفاحش وقرر الشافعية والحنابلة أن ما تنجس ببول أو قيء صبي لم يطعم غير لبن للتغذي ينضح، وتحنيك الطفل أول ولادته لا يؤثر على الحكم، ولا يجزئ في بول البنت إلا الغسلُ. (اللباب 1/ 51) والشرح الصغير 1/ 73 والمهذب 1/ 49). 372 - * روى أبو داود عن الحسن البصري عن أمه: أنها أبصرتْ أمَّ سلمة تصُبُّ الماء على بول الغلامِ ما لم يطعَمْ، فإذا طعِمَ غسلتْهُ، وكانت تغسِلُ بول الجارية".
نجاسة البول وكيفية تطهيره
نجاسة البول وكيفية تطهيره: 373 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي أعرابياً يبولُ في المسجد، فقال: "دعُوه"، حتى إذا فرغَ دعا بماءٍ فصبَّه عليه. وفي رواية (1) قال: بينما نحنُ في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابيُّ، فقام يبولُ في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهْ، مهْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُزْرِمُوه، دعُوه، فتركوه حتى بال"، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: "إنَّ هذه المساجدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البول والقذَرِ، إنما هي لذكرِ الله، والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "وأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلْوٍ من ماءٍ، فسنَّه عليه". وفي أخرى (2): أن أعرابياً قام إلى ناحية المسجد، فبال فيها، فصاح به الناسُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسل: "دعُوه" فلما فرغَ أمر رسول الله صلى الله بذنُوبٍ، فصُبَّ على بوله". وفي أخرى (3): "فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله: أمر بذنُوبٍ من ماءٍ، فأُهريقَ عليه".
من أنواع المطهرات
أقول: تطهرُ الأرض وكل ما كان ثابتاً بها كالشجر والكلأ والبلاط عند الحنيفة بالجفاف بالشمس أو بالهواء أو بغير ذلك، بشرط زوال أثر النجاسة، وهي طهارة تجيز الصلاة عليها عندهم ولا تجيز التيمم، أما طهارة الأرض لجواز التيمم عندهم فلابد من إسالة الماء عليها ثلاث مرات، وقال غير الحنفية لا تطهر الأرض بالجفاف، وإنما تطهر بكثرة إفاضة الماء عليها من مطر أو غيره حتى تول عين النجاسة أخذاً من هذا الحديث وقد وجه الحنفية هذا الحديث بنحو ما ذكرناه عنهم واستدلوا بنصوص أخرى على مذهبهم والحديث دليل من أدلة الإجماع على أن البول نجس. 374 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فصلى ركعتين ثم قال: اللهُمَّ ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجَّرْتَ واسعاً"، ثم لم يلْبَثْ أن بال في ناحية المسجد، فأسرع إليه الناسُ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "إنما بُعثْتم مُيَسِّرين، ولم تُبْعَثُوا معسرين، صُبُّوا عليه سجلاً من ماءٍ، أو قال: "ذَنُوباً من ماءٍ". من أنواع المطهرات: 375 - * روى مالك عن أم سلمة رضي الله عنها قالت لها امرأة: "إني أُطيلُ ذَيْلي، وأمشي في المكان القذر؟ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُطهرهُ ما بعده". (يطهره ما بعده) قوله: يطهره ما بعده في هذا الحديث، وقوله فالحديث اللاحق: فهذه بهذه معناه عند الشافعي رحمه الله (1): فيما كان يابساً لا يعلقُ بالثوب منه
شيء، فأما إذا كان رطباً، فإنه لا يطهر إلا بالغسل، وقال مالك: هو أن يطأ الأرض القذِرة، ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يُطهر بعضاً، وأما النجاسةُ- مثل البول ونحوه، يُصيب الثوب أو بعض الجسد - فإن ذلك لا يُطهره إلا الماء إجماعاً. 376 - * روى أبو داود عن امرأة من بني عبد الأشهل رضي الله عنها قالتْ: "قلتُ: يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد مُنتْنِةً، فكيف نفعلُ إذا مُطِرنا؟ قالت: فقال: "أليس بعدها طريقٌ هي أطيبُ منها؟ " قلتُ: بلى، قال: "فهذه بهذه". أقول: اعتبر الحنفية: أن تكرار المشي في الثوب الطويل الذي يمس الأرض النجسة ثم الطاهرة يطهر الثوب، وقال المالكية: يطهر ثوب المرأة الطويل الذي تجره على الأرض المتنجسة اليابسة فيتعلق به الغبار بشرط أن تكون إطالته للستر لا للخيلاء (المراقي 30) واختلفوا في النجاسة الرطبة، والتطهير يحصل إذا كانت غير لابسة لخف، فإذا كانت لابسة لخف فلا عفو. (الشرح الصغير 1/ 78) والحنابلة يوافقون الحنفية إلا أنهم يقيدونه بيسير النجاسة وإلا وجب غسله، والشافعية: يحملون الأحاديث على النجاسة اليابسة وإلا فلابد من الغسل. 377 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: "لِمَ خلعْتم نِعالَكُم؟ " فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت، فخلعنا. فقال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيهما خبث، فليمسحهما بالأرض، ثم ليُصْلِّ فيهما".
هذا حديث يزيد بن هارون. وقال محمد بن يحيى في حديث أبي الوليد، فقال: "إن جبريل أخبرني (1) أن فيهما قذراً أو أذى". 378 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطيء أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهُور". وفي رواية (2) "إذا وطيء الأذى بخُفَّيه فطهورهما الترابُ". 379 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: كنا نُصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نتوضأُ من موطيءٍ. أقول: قال الحنفية: يطهر الخف والنعل المتنجس بنجاسة ذات جُرْمٍ سواء كانت جافة أو رطبة بالدّلك، والمراد بالنجاسة ذات الجرم كل ما يرى بعد الجفاف كالغائط والروث والدم والمني والبول والخمر الذي أصابه تراب، فإذا لم تكن النجاسة ذات جرم فيجب غسلها بالماء ثلاث مرات ولو بعد الجفاف ويترك الخف في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب النداوة ولا يشترط اليبس، وقال الشافعي ومحمد من الحنفية: لا يطهر النعل بالدَّلك لا رطباً ولا يابساً. وقال المالكية: يطهر الخف والنعل من أرواث الدواب وأبوالها في الطرق والأماكن التي تطرقها الدواب كثيراً بخلاف غير الدواب كالآدمي والكلب والهر ونحوه، وقال الحنابلة: لا يطهر النعل بالدلك بل يجب غسله، لكن يعفى عن يسير النجاسة على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك. (رد المحتار 1/ 205 فما بعدها، مراقي الفلاح 30، الشرح الصغير 1/ 78 وما بعدها، والفقه الإسلامي 1/ 92 فما بعدها).
حكم المني
حكم المني: 380 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنتُ أغسِلُ الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرُجُ إلى الصلاة وإن بُقَعَ الماء في ثوبه". وفي رواية (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسلُ المنيَّ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظرُ أثر الغسلِ فيه. ولمسلم (2): أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يُجْزئُكَ- إن رأيته - أن تغسل مكانه، فإن لم ترَهُ نضحت حوله، فلقد رأيتُني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيُصلي فيه. وله في أخرى (3): قالت عائشة في المنيِّ كنتُ أفرُكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله في أخرى (4): من حديث عبد الله بن شهاب الخولاني قال: "كنتُ نازلاً على عائشة، فاحتملتُ في ثوبي، فغمستُهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثتُ إليَّ عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتُني وإني لأحكُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظُفُري". وفي رواية (5) الترمذي: "أنها غسلت منيًّا من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وله في أخرى (6): قال همامُ بن الحارث: "ضاف عائشة ضيفٌ، فأمرتْ له بملحفةٍ
صفراء، فنام فيها، فاحتلم، فاستحيي أن يُرسلَ بها إليها وبها أثرُ الاحتلام، فغمسها في الماء، ثم أرسل بها، فقالت عائشةُ: لمَ أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفْرُكه بأصابعه، وربما فركْتُه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي". 381 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: "لقد كنا نسْلتُه بالأذْخَرِ والصوفة يعني المني". أقول: قال الحنفية والمالكية: المني نجس وقال الشافعية على الأظهر والحنابلة المني طاهر، لكن يستحب غسله أو فركه، وقال الحنفية: يجب غسل رطبه فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك، وقال المالكية: يجب غسل أثره رطباً أو يابساً، ويلاحظ أن الجميع متفقون على أن المذي إذا سبق المني ينبغي غسله وأن العضو ينبغي أن يكون مغسولاً مسبقاً بالماء، فإن كان عليه أثر بول بسبب تنشيفه دون غسله فإن المني يتنجس فيجب غسله. وبعد تحقيق طويل في إعلاء السنن (1/ 270 - 273) قال: فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة وهذا خلاصة ما في المسألة من الأدلة من جانب الجميع ا. هـ. والأمور الواردة: الفرك إذا يبس والنضح والغسل وسلتُه بعرق الأذخر. جاء في الدر المختار (1/ 207): ويطهر مني (أي محله) يابس بفرك ولا يضر بقاء أثره إن طهر رأس الحشفة. 382 - * روى ابن خزيمة عن أم قيس بنت محصن، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب. فقال: "اغسليه بالماء والسدر وحكيه بضلع".
فائدة
فائدة: سؤر الإنسان وعرقه طاهر، وإذا عرق الإنسان وكان قد استعمل لمسح الدبر أو القبل أو المني حجراً أو ورقاً أو ما ينوب منابهما وعرق فإن ذلك لا يؤثر على نجاسة ثيابه ولا يزيد من بقعة النجس على بدنه، إلا إذا ظهر أثر الغائط فيجب غسله إذا زاد عن مقدار الدرهم عند الحنفية كما سنرى. 383 - * روى ابن خزيمة عن عائشة، قالت: تتخذُ المرأةُ الخرقة، فإذا فرغ زوجها ناولته فيمسحُ عنه الأذى، ومسحتْ عنها، ثم صليا في ثوبيهما. 384 - * روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: سأل أخته أم حبيبة- زوج النبي صلى الله عليه وسلم-: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يُجامِعُها فيه؟ فقالت: نعم، ما لم ير فيه أذى. 385 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُصلي في شُعُرِنا - أو لُحُفِنا - شك أحد رواته. وفي رواية (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في ملاحفنا. وأخرج النسائي (2) الرواية الثانية، وفي رواية (3) الترمذي: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في لُحُفِ نسائه.
386 - * روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان يعرقُ في الثوب وهو جُنبٌ، ثم يصلي فيه". 387 - * روى مالك عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أنه اعتمَر مع عمر بن الخطاب في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرَّسَ ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يُصبح، فلم يجدْ مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثيابٌ، فدعْ ثوبك يُغسل، فقال له عمر بن الخطاب: واعجباً لك يا ابن العاص، لئن كنت تجدُ ثياباً، أفكلُّ الناس يجدُ ثياباً؟ والله لو فعلتُها لكانت سُنَّة، بل أغسلُ ما رأيتُ، وأنضحُ ما لم أر". قال الزرقاني في شرح الموطأ قال أبو بعد الملك: هذا مما عُدَّ أن مالكاً وَهِمَ فيه لأن أصحاب هشام: الفضل بن فضالة وحماد بن سلمة ومعمراً قالوا عن هشام عن أبيه عن يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه فسقط لمالك عن أبيه (م). حكم الدم ودم الحيض: 388 - * روى الجماعة عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يُصيب ثوبها من الحيضة: كيف تصنع به؟ فقال: "تحُتُّهُ، ثم تقرصُه بالماء، ثم تنضحُه، ثم تُصلي فيه".
وفي رواية (1) النسائي: أن امرأةً استفتت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يُصيب الثوب؟ قال: "حُتِّيه، ثم اقرصيه بالماء، ثم انضحيه وصلي فيه". وفي رواية (2) أخرى لأبي داود قالت: سمعتُ امرأةً تسألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر: اتُصلي فيه؟ قال: "تنظُر، فإن رأت فهي دماً فلتقرُصْهُ بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر، ولتُصلِ فيه". وفي أخرى (3) بهذا المعنى، وفيه "حُتِّيه، ثم اقْرُصيه بالماء، ثم انضحيه". 389 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانتْ إحدانا تحيض، ثم تقرُصُ الدم من ثوبها عند طُهرها، فتغسله، وتنضحُ على سائره، ثم تصلي فيه. وفي رواية (4) أبي داود قالت: "كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارُنا، وقد ألقينا فوقَهُ كساءً، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة، ثم جلس، فقال رجلٌ: يا رسول الله، هذه لُمعةٌ من دمٍ في الكساء، فقبصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها مع ما يليها، وأرسلها إليَّ مصرورةً في يد الغلام، فقال: "اغسلي هذا، وأجفِّيها، ثم أرسلي بها إليَّ"، فدعوتُ بقصعتي فغسلتُها، ثم أجففتُها، فأحرْتُها إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وهو عليه". وفي أخرى (5) له قالت مُعاذةُ: سألتُ عائشة عن الحائض يُصيبُ ثوبها الدمُ؟ قالت: تغسِلُه، فإن لم يذهب أثره فلتغيِّرهُ بشيء من صُفرةٍ، قالت: ولقد كنتُ أحيضُ عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حيضٍ جميعاً، لا أغسِلُ لي ثوباً". وله في أخرى (1) قال خِلاسُ الهجري: سمعت عائشة تقول: "كنتُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيتُ في الشِّعارِ الواحد وأنا حائضٌ طامث، فإن أصابه مني شيءٌ، غَسَل مكانه، لم يعدُهُ، ثم صلى فيه". وأخرج النسائي (2) هذه الرواية الآخرة. 390 - * روى أبو داود عن أم قيسٍ بنت محصن رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكونُ في الثوب؟ قال: "حُكِّيه بضلَع، واغسليه بماءٍ وسدرٍ". أقول: دم الآدمي غير الشهيد، ودم الحيوان غير المائي، نجس بإجماع، على خلاف بين الفقهاء بالقدر المعفو عنه، والمراد بدم الشهيد: الدم الملاصق له، فهذا طاهر في حقه ومن ثم فإن الدم المسفوح ينبغي غسله سواء كان دم حيض أو غيره. ودم المسك ودم الكبد والطحال والقلب وما يبقى في عروق الحيوان بعد الذبح الشرعي ودم القمل والبرغوث ليس بنجس. (اللباب 1/ 49 فما بعدها، والشرح الصغير 1/ 53، والمهذب 1/ 46 فما بعدها).
391 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيءٌ من دم قالت بريقها فمصعتْه بظفرها". وعند أبي داود مثله، وله في أخرى (1) قالت: قد كان يكون لإحدانا الدَّرعُ، فيه تحيضُ، وفيه تُصيبها الجنابةُ، ثم ترى فيه قطرةً من دمٍ، فتقصَعُه بريقها. وفي أخرى (2) له قالت: "ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد، فيه تحيض، فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها، ثم قصعته بريقها". أقول: الرِّيق من المطهرات عند الحنفية، فتطهر أصبعٌ وثديٌ تنجسا بالقيء بلحس ثلاث مرات، وعن طريق الإرضاع للولد، ويطهر فم شارب الخمر بترديد ريقه وبلعه عنده، ولا يجوز للعاقل المكلف أن يبلع ريقه المتنجس. (رد المحتار 1/ 205). حكم لعاب الكلب: 392 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شَرِبَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسله سبع مراتٍ". وفي رواية (3) قال: "وإذا ولَغَ الكلبُ في إناء أحدِكم فيُرِقْهُ، ثم ليغسِلْه سبع مرارٍ".
وفي أخرى (1): "طُهُورُ ناء أحدكم، إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهنَّ بالتراب". وفي رواية (2) لأبي داود بمعناه، ولم يرفعه، وزاد "وإذا ولغَ الهِرُّ غُسِلَ مرةً". وفي أخرى (3) له: "إذا ولغَ الكلبُ في الإناء: فاغسلوه سبع مراتٍ، السابعة بالتراب". وفي رواية (4) الترمذي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُغسلُ الإناءُ إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أُولاهنَّ أو أُخراهنَّ بالتراب، وإذا ولغتْ في الهرةُ غُسِلَ مرةً". 393 - * روى مسلم عن عبد الله بن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالهُمْ وبالُ الكلاب؟ " ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: "إذا ولغ الكلبُ في الإناء فاغسلوه سبع مراتٍ، وعفَّرُوه الثامنة في التراب". 394 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كانت الكلابُ تُقْبِلُ
وتُدْبِرُ في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يَرُشُّون شيئاً من ذلك. وفي رواية (1) أبي داود قال: كنتُ أبيتُ في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ فتي شاباً عزباً، وكانت الكلاب تبول وتُقبلُ وتُدبر في المسجد ... الحديث". (تبول وتقبل وتدبر في المسجد) أراد بقوله: تبول وتقبل وتدبر في المسجد، أنها تبول خارج المسجد، ثم تُقْبلُ وتدبر في المسجد عابرةً، إذْ لا يجوز أن يترك الكلاب حتى تمتهن المسجد وتبول فيه، وإنما كان عبورها فيه حيث لم يكن له أبواب، وأما البول فلا. [ابن الأثير]. 395 - * روى أبو داود عن داود بن صالح بن دينارٍ التمار عن أُمِّه أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة، قالت: فوجدتُها تُصلي، فأشارت إليَّ: أن ضعيها، فجاءت هرةً فأكلت منها، فلما انصرفت عائشةُ من صلاتا أكلتْ من حيثُ أكلت الهرة، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجسٍ، إنما هي من الطوافين عليكم، وإني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه سلم يتوضأ بفضلها. أقول: مر معنا من قبل الإشارة إلى الأسآر، وأن الحنفية يقولون: إن الحكم على سؤر الشارب يختلف بحسب طهارة أو نجاسة لحم الشارب، لأن المؤثر في الحكم مخالطة لعاب الشارب للماء أو لغيره، ولما كان الكلب عندهم نجساً فسؤره نجس، وأما بالنسبة للهرة فسؤرها المائي طاهر مطهر، لكنه يكره عندهم استعماله تنزيهاً مع وجود غيره، عند المالكية: أن سؤر الكلب طاهر، وغسل الإناء الذي ولغ فيه سبع مرات إنما هو عبادة، وأما الهرة فسؤرها طاهر إلا إذا رؤي في فمها نجاسة فيكون سؤرها نجساً ويقولون بكراهة استعمال الماء كالحنفية، قوال الشافعية والحنابلة: سؤر الكلب نجس، وسؤر الهرة طاهر ولا يكره استعماله، والقائلون بنجاسة سؤر الكلب، يقولون بنجاسته إذا شرب من الماء القليل مع ملاحظة الاختلاف في حد القلة والكثرة، ويشهد له: أن بعض الروايات تذكر الإناء، وقد رأينا أن المالكية يقولون بأن غسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات أمر تعبدي
حكم الفأرة وتطهير ما وقعت فيه ونحوها
لا للنجاسة، والشافعية والحنابلة والحنفية: أن الغسل سبع مرات أولاهن أو إحداهن بالتراب للنجاسة، إلا أن الحنفية يعتبرون الثلاثة الأولى فريضة وما سوى ذلك مندوب، والظاهر أن الحكمة في استعمال التراب هي: مراعاة الجانب الصحي. حكم الفأرة وتطهير ما وقعت فيه ونحوها: 396 - * روى البخاري عن ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سُئل عن فأرةٍ وقعت في سمنٍ؟ فقال: "ألقُوها وما حولها، وكلوا سمنكُمْ". 397 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقعت الفأرةُ في السمن، فإذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربُه". أقول: من المطهرات عند الحنفية عزل الجزء المتنجس عن غيره إذا أمكن ذلك، فيطهر الدهن الجامد والسمن الجامد والدبس الجامد بعزل الجزء المتنجس، فإن وقعت النجاسة في مائع كالزيت والسمن الذائب لا يقبل الطهارة عند الجمهور، وعند الحنفية: يطهر بصب الماء عليه بقدره ثلاث مرات أو يوضع في إناء مثقوب ثم يصب عليه الماء فيعلو الدهن ويرفع بشيء أو يفتح الثقب حتى يذهب الماء ومن هذا نعرف موقف الحنفية فيما إذا وقعت فأرة في الدهن الذائب أو الزيت فماتت فيه، فإنهم يخرجونها ويطهرون الدهن بما ذكرنا ويحملون الحديث في إهراق السمن المائع على الندب، هذا إذا ماتت الفأرة، أما إذا بقيت حية فإنها لا تنجس ما وقعت فيه، وقال الحنابلة إذا وقعت الفأرة أو الهرة ونحوهما في مائع أو ماء يسير ثم خرجت حية فهو طاهر. (رد المحتار 1/ 205 فما بعدها)، (المغني 1/ 35 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 98 فما بعدها).
حكم الحيوان المذكى
حكم الحيوان المذَكَّى: 398 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بغلامٍ يسلخُ شاةً وما يُحْسَنُ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَنَحَّ حتى أُريكَ"، فأدْخَل يده بين الجلد واللحم، فدخسَ بها حتى دخلتْ إلى الإبط، ثم مضى فصلى للناس، ولم يتوضأ. زاد في رواية (1): يعني (لم يمسَّ ماءً). أقول: هذا الحديث نص في طهارة الحيوان المأكول اللحم إذا ذُكِّيَ بالذبح، ومن الأشياء المتفق عليها عند الفقهاء طهارة الحيوان المذكى ذكاة شرعية، وعلى هذا فالدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم، ومن كلام المالكية أن من الطاهرات الدم الباقي في العروق من الحيوان المذكي، أو في قلبه أو ما يرشح من اللحم لأنه جزء المذكى، وجزؤه طاهر، لكن ما بقي على محل الذبح هو من باقي المسفوح فهو نجس، وكذا إذا دخل شيء من الدم إلى البلعوم فوصل إلى المعدة فإنه نجس تجب الطهارة منه. حكم الدباغة والإهاب المدبوغ: 399 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دُبغ الإهابُ فقد طهُرَ". وفي رواية (2): قال مرثَدُ بن عبد الله اليزني: "رأيتُ على عبد الرحمن بن وعلة السبئيِّ فروا فمسسْتُهُ، فقال مالك تمسُّه؟ قد سألتُ عبد الله بن عباس قلت: إنا نكون
بالمغرب، ومعنا البربرُ والمجُوس، نُؤتي بالكبش قد ذبحوه، ونحنُ لا نأكلُ ذبائحهم، ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الودَك؟ فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "دبِاغُه طهُورُه". وأخرج الترمذي (1) والنسائي (2): قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما إهابٍ دُبِغَ فقد طهُر". وللنسائي (3): أن [عبد الرحمن] بن وعلة سأل ابن عباس فقال: إنا نغْزُوا هذا المغرب، وإنهم أهل وثَنٍ، ولهم قربٌ يكون فيها اللبنُ والماء؟ فقال ابن عباس: الدباغُ طهور، قال ابن وعلة: عن رأيك، أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". 400 - * روى أبو داود عن عالية بنت سُبيعٍ قالت: كان لي غنمٌ بأُحُدٍ، فوقع فيها الموتُ، فدخلتُ على ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك لها، فقالت لي ميمونةُ: لو أخذت جُلودها فانتفعت بها؟ قالتْ: فقلت: أو يحلُّ ذلك؟ قالت: نعم، مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالٌ من قريشٍ يجُرّثون شاةً لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أخذتم إهابها؟ " قالوا: إنها ميتةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُطهِّرها الماءُ والقَرَظُ". 401 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرَّ
بشاة ميتةٍ، فقال: "هلا انتفعتُم بإهابها؟ " قالوا: إنها ميتةً؟ قال: "إنما حرُم أكلها". وفي رواية (1) قال: تُصُدَّق على مولاةٍ لميمونة بشاةٍ، فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هلا أخذتُم إهابها فدبغتمُوه فانتفعتم به؟ " فقالوا: إنها ميتةٌ؟ فقال: "إنما حَرُمَ أكلها". وللبخاري (2) قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنزٍ ميتةٍ، فقال: "ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ ". 402 - * روى مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يُستمتع بجلود الميتة إذا دُبغتْ. وللنسائي (3) قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جُلود الميتة؟ فقال: "دبغُها ذكاتُها". وفي أخرى (4) قال: "ذكاةُ الميتة دباغُها". 403 - * روى البخاري عن سودة بنت زمعة رضي الله عنها قالت: ماتت لنا شاةٌ، فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبِذُ فيها حتى صار شَنًّا.
404 - * روى أبو داود عن سلمة بن المحَبق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في غزوة تبوك على أهل بيتٍ، فإذا قربةٌ معلقةٌ، فسأل "الماء؟ " فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتةٌ، فقال: "دباغُها طهورُها". أقول: لا خلاف بين الفقهاء أن مأكول اللحم إذا ذبح فجلده طاهر، أما جلد ميتته: فالمشهور عند المالكية والحنابلة أنه نجس دبغ أم لم يدبغ، فهو محرم لا يصح استعماله، وقال الحنفية والشافعية: تطهر الجلود النجسة بالموت وغيره بالدباغ، والحنفية يعتبرون التشميس والتتريب واستعمال المواد التي تساعد على تنشيف فضلات الجلد وتطييبه، كل ذلك دباغاً. ويشترط الشافعية استعمال المواد المعتادة في الدباغ كالقرظ وقشور الرمان وغير ذلك شرطاً للطهارة وصحة الانتفاع. 405 - * استدل المالكية والحنابلة بما روى أحمد عن عبد الله بن عُكَيْم، قال: "كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبْلَ وفاته بشهر: "أنْ لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ". قالوا فهو ناسخ لما قبله من الأحاديث وما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً أيما إهاب دبغ فقد طهر فمحمول على الطهارة اللغوية لا الشرعية فلا تجوز الصلاة به. قبله من الأحاديث وما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً إيما إهاب دبغ فقد طهر فمحمول على الطهارة اللغوية لا الشرعية فلا تجوز الصلاة به.
حكم جلود السباع
ورد الآخرون أن هذا الحديث فيه اختلاف واضطراب لا يقاوم الطرق الصحيحة التي أثبتت طهارة الجلد بالدباغ ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ وحينئذ يسمى إهاباً وبعد الدباغ يسمى جلداً. (انظر نيل الأوطار 1/ 73 فما بعدها) و (بداية المجتهد 1/ 78) و (المغني 1/ 66 وما بعدها). حكم جلود السباع: 406 - * روى أبو داود عن أسامة الهذلي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جُلودِ السِّباع. أقول: قال الحنفية: إذا ذبح السبع كان جلده طاهراً في كل الأحوال، ما عدا جلد الخنزير، أما إذا مات فجلده يطهر بالدباغ إلا أننا منهيون عن استعمال بعض جلود السباع لمعان أخرى، وقال المالكية والحنابلة: إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه يكون جلده نجساً دبغ أو لم يدبغ فمن باب أولى إذا مات موتاً. حكم اللعاب والبزاق: 407 - * روى ابن ماجه عن أبي هريرة رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم حامِلَ الحُسينِ بن علي على عاتقه ولعابه يسيلُ عليه. أقول: وهذا يدل على أن سؤر الإنسان ولعابه طاهر.
408 - * روى أبو داود عن أبي نضرة رضي الله عنه قال: "بزَق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وحَكَّ بعضه ببعضٍ، وعن أنس مثله". بول ما يؤكل لحمه: 409 - * روى الطبراني عن ابن سيرين قال نحر ابن مسعود جزوراً فتلطَّخَ بدمها وفرْثها وأقيمت الصلاةُ فصلى ولم يتوضأ. أقول: قال المالكية والحنابلة: بول ما يؤكل لحمه من الحيوان وروثه طاهر، وقال الشافعية والحنفية: البول والقيء والروث من الحيوان والإنسان مطلقاً نجس، ولكن الحنفية اعتبروا أن بول ما يؤكل لحمه نجساً نجاسة مخففة وكذلك روثه عند أبي يوسف ومحمد، وإذا كانت نجاسته مخففة فإنه يعفى عن مقدار ربع أدنى ثوب تجوز به الصلاة وعلى هذا يحمل تصرف ابن مسعود، أما ما أصابه من دم فهو دم ما بعد الذكاة.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - قال الحنفية: الشيء الصقيل الذي لا مسام له كالسيف والمرآة والزجاج والآنية المدهونة والظفر والعظم والزبدية الصينية، وصفائح الفضة غير المنقوشة، تطهر بالمسح الذي يزول به أثر النجاسة. - قال الحنفية: الأرض وكل ما كان ثابتاً بها لاصقاً فيها كأنه جزء منها، بحيث لا يمكن نقله كالشجر والكلأ والبلاط تطهر بالجفاف سواء بالشمس أو الهواء أو بغير ذلك على شرط زوال أثر النجاسة، ومن نعلم حكم السجاد المسمى الآن بالموكيت إذا لصق في الأرض وحكم الورق الذي يلصق على الجدران فهذان ماداما ملصقين يكفي في طهارتهما الجفاف وزوال أثر النجاسة وإذا أزيل أثر النجاسة بأي شيء وترك حتى جف فقد أصبح طاهراً. - قال الحنفية- يطهر القطن وأمثاله بالندف وذهاب أثر النجاسة منه إذا كانت النجاسة قليلة. - قال الشافعية: لو طبخ لحم في نجس أو تشربت حنطة النجاسة يطهران بصب الماء عليهما. - يستعمل بعضهم لسهولة نتف الريش عن الطيور المذبوحة أن يلقوها بماء يغلي ثم يخرجونها منه وينتفون الريش بعد ذلك فعلى مذهبي الشافعية والحنفية إذا صب عليها الماء تطهر وعند الحنفية إذا صب عليها الماء تطهر وعند الحنفية تغسل ثلاثاً، هذا قبل الطبخ عند الحنفية. - قال الحنفية: إذا استحالت العين النجسة بنفسها أو بواسطة أصبحت طاهرة كالخمر إذا تخللت بنفسها أو بالواسطة، والميتة إذا صارت ملحاً، والروث إذا أحرق فصار رماداً والدهن المتنجس بجعله صابوناً، والنجاسة إذا دفنت في الأرض وذهب أثرها بمرور الزمان وكما تطهر الخمر إذا تخللت فإن وعاءها يطهر لطهارتها. - قال الحنفية: الذبح الشرعي بشروطه يطهر كل الحيوان المأكول اللحم ويطهر جلد الحيوان غير المأكول اللحم إلا الآدمي لكرامته والخنزير لنجاسة عينه. مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: دباغ الأديم ذكاته، فألحق الذكاة بالدباغ وبما أن الجلد يطهر بالدباغ فيطهر بالذكاة
لأن الذكاة كالدباغ، في إزالة الدماء السائلة والرطوبات النجسة فتفيد الذكاة الطهارة كالدبغ، والحديث الذي استدل به الحنفية أخرجه النسائي بلفظ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة فقال: "دباغها ذكاتها" وللدارقطني "طهور كل أديم دباغه" وقال الدارقطني رجال إسناده كلهم ثقات، (الفقه الإسلامي 1/ 104). - قال الحنفية: حفر الأرض وفلاحتها إذا زال أثر النجاسة يطهرها وقالوا: إذا أصيب ثوب الإنسان أو بدنه أو مكان ما بنجاسة ونسي المحل، فأي جزء يغسل يكفي للحكم بالطهارة. - قال المالكية: إذا شك الإنسان في نجاسة ثوب أو حصير أو ما أشبه ذلك يكفي النضح أو ما يشبهه للحكم بالطهارة، والنضح هو رشٌ باليد أو الفم ومثله نزول المطر. - قال الحنفية: من مشى برجل مبلولة على حصير أو سجادة أو ما أشبه ذلك وهي نجسة جافة فلا تنجس رجله وقال المالكية: من مشى برجل مبلولة على نجاسة يابسة يطهره ما بعده، وقالوا: يعفى عن طين المطر ما لم تكن النجاسة غالبة أو عينها قائمة وقالوا يكفي النضح من بول صبي لم يطعم غير الحليب، أو قيئه، قبل مضي حولين عليه. - قال الحنابلة: إذا خَفِيَ موضع النجاسة في مكان كبير، كصحراء واسعة ودار واسعة فلا حكم لها، والمحل كله طاهر. - قال الحنفية: لا ينجس شيء بموت حيوان لا دم له سائل كذبان وصرصور وخنفساء وزنبور وبق وبعوض وعقرب، ولا بموت حيوان مائي كسمك وضفدع وتمساح وسرطان وكلب ماء وخنزيره فإن هذه الأخيرة وإن كان لها دم، لكن ليس لدمها عند الحنفية حكم الدم العادي. - قال العلماء: وجميع النباتات طاهرة ولو كان يحرم استعمالها بسبب أنها سامة أو مخدرة. - قال الحنفية: كل شيء من أجزاء الحيوان والإنسان غير الخنزير، لا يسري فيه الدم سواء كان حياً أو ميتاً، مأكولاً أو غير مأكول، فهو طاهر، كالشعر والريش المجذوذ (أي
المقطوع) والمنقار والظلف والعصب والقرن والحافر والعظم إذا زال دسمه أو طهر مكان الدم منه، ومن ذلك ناب الفيل، أما أصول الشعر المنتوف فنجسة، وأما دمع الحي وعرقه ولعابه ومخاطه فمثل سؤره على اختلاف المذاهب في ذلك مع ملاحظة أن كل حي ولو كلباً أو خنزيراً طاهراً عند المالكية، وعلى هذا فدمعه وعرقه ولعابه ومخاطه طاهر عندهم. - قال الإمام أبو حنيفة: البيضة إذا خرجت من طير طاهرة إلا إذا كان عليها نجاسة ينبغي تطهيرها. - قال الحنفية: لو لف ثوب جاف طاهر في ثوب نجس رطب لا ينعصر الرطب لو عصر لا ينجس كما لا ينجس ثوب رطب نشر على حبل جاف نجس أو على أرض نجسة يابسة ولو تندت الأرض ولم يظهر أثر النجاسة فيه. - قال المالكية البيض الممروق وهو ما اختلط بياضه بصفاره من غير نتونة طاهر، أما البيض المذِرُ وهو ما تغير بعفونة أو زرقة أو صار دماً فنجس، فإذا كسرت بيضة وألقيت على أخواتها وكانت كذلك وأمكن عزلها، فإن ما بقي طاهر. - قال المالكية: فضلات الحيوان المباح أكله من روث وبعر وبول وخرء دجاج وحمام بل وجميع الطيور طاهرة ما لم تستعمل النجاسة أكلاً أو شرباً ففضلتها عندئذ نجسة وخرء الفأر عندهم طاهر كذلك إن لم تصل للنجاسة ولو شكاً، شأنها شأن الدجاج. - قال الشافعية: رطوبة الفرج وهي الماء الأبيض المتردد بين المذي والعرق من الإنسان أو الحيوان ولو غير مأكول طاهر. - من المتفق عليه بين الفقهاء أن ما قطع من الحي في حال حياته كإلية أو سنام جمل أو غير ذلك فحكمه حكم الميتة. - قال الحنفية: يعفي عما دون مقدار درهم وزناً (في الكيف 3.17 غم) أو أقل من قدر مقعر الكف مساحة من النجاسة المغلظة من أجل الصلاة، أما النجاسة المخففة كبول ما يؤكل لحمه فيعفى عن مقدار ربع أدنى ثوب تجوز به الصلاة، وقد أفتى بعض الحنفية بأن نجاسة الكحول نجاسة مخففة، والنجاسات المخففة عند الحنفية، ما تثبت بدليل غير قطعي كبول
ما يؤكل لحمه وخرء طير لا يؤكل، والنجاسات المغلظة عندهم: ما ثبتت بدليل مقطوع به كالدم المسفوح والغائط والبول من غير مأكول اللحم، والخمر وخرء طير لا يزرق في الهواء كدجاج وبط وأوز، ولحم الميتة وإهابها ونجو الكلب ورجيع السباع ولعابها والقيء ملء الفم وكل ما ينقض الوضوء إذا خرج من الإناث كالعذرة والمني والمذي والدم السائل ونجاسة البعر والروث والخثي مغلظة عند أبي حنيفة مخففة عند الصاحبين لعموم البلوى. - قال الحنفية: يعفى عن رشاش بول كرؤوس الإبر في الثوب والبدن، إلا إذا كثر بحيث لو جمع لزاد عن القدر المعفو عنه، ما يعفى عن مثل ذلك في الدم الذي يصيب الجزار وعن أثر الذباب الذي يقع على نجاسة، ويعفى عما يصيب غاسل الميت من غسالته، ويعفى عن بخار النجس وغباره ورماده. - قال المالكية: وسلسل الأحداث عند المعذور وهو عندهم ما خرج بنفسه من غير اختيار كالبول والمذي والمني والغائط يسيل من المخرج بنفسه، فيعفى عنه إذا حكم لصاحبه بأنه صاحب عذر ولا يجب غسله للضرورة إذا لازم كل يوم ولو مرة، وكذلك بلل الباسور إذا أصاب البدن أو الثوب كل يوم ولو مرة، أما اليد أو الخرقة فلا يعفى عن غسلها إلا إذا كثر الرد بها إي إرجاع الباسور بأن يزيد على المرتين كل يوم. وقال المالكية: يطهر موضع الحجامة أو العملية الجراحية إذا مسح بخرقة ونحوها إلى أن يبرأ المحل، كما يعفى عما يسيل من الدمامل بنفسه أو بعصره إذا كان عصره لحاجة أما إذا عصر لغير حاجة فلا يعفى إلا عن قدر الدرهم دون ما زاد عليه. - قال الشافعية: يعفى عن القليل والكثير من دم البثرات والبقابيق والدماميل والقروح والقيح والصديد وموضع الحجامة والفصد وسلسل البول، لكن إذا عصر البثرة أو الدمل فلا يعفى إلا عن قليله فقط. كما يعفى عندهم عن قليل دم الأجنبي ويعفى عندهم عن دم الإنسان ما لم يختلط بدم أجنبي أو يختلط بدم نفسه من موضع آخر، وثياب الخمارين والأطفال والجزارين والكفار طاهرة إذا لم يظهر عليها أثر النجاسة، وكذلك ماء الميزاب الذي لا يقطع بنجاسته ويعفى عندهم عن ميتة دود الفاكهة والخل والجبن والمتخلفة فيها ما لم تخرج منه ثم تطرح فيه بعد موتها وما لم تغيّره، وعن الأنفحة المستعملة للجبن
والكحول المستخدم في الأدوية والعطور، ويعفى عندهم عن روث المحلوبة ونجاسة ثديها إذا وقع في اللبن حال حلبه، وعن نجاسة فم الصبي عند إرضاعه أو تقبيله وعن روث البهائم المختلط بالطين الذي يصيب عسل خلايا النحل. - قال الحنفية: طهارة النجاسة غير المرئية بغسلها ثلاثاً مع العصر أو بوضعها بماء جار أو ماله حكم الماء الجاري كأن وضعت في إناء وصب عليها الماء حتى فاض عن الإناء، أما النجاسة المرئية فطهارتها زوال عينها ويعفى عما يبقى من أثرها إذا شقَّت إزالته، بحيث يحتاج إلى غير الماء القراح كصابون مثلاً. ويطهر الثوب المصبوغ بمتنجس إذا صار الماء صافياً مع بقاء اللون ويطهر الحليب والعسل والدبس إذا أصابته نجاسة بإضافة ماء عليه وغليه على النار ثلاثاً حتى يعود كما كان، ويطهر عند بعض الفقهاء لحم طُبخ بنجس بصبِّ الماء عليه وغليه وتبريده. - إذا ولغ الكلب في إناء فالمالكية يعتبرونه طاهراً وغسله عبادة والحنفية يطهر عندهم هو وسؤر الخنزير بالغسل ثلاثاً وما زاد فمندوب، وعند الشافعية والحنابلة يغسل من ولوغ الكلب والخنزير سبع مرات إحداهن بالتراب ويتعين عند الشافعية التراب بالغسلة الأولى، ويقوم عند الحنابلة الأشنان والصابون والنخالة وأمثال ذلك مقام التواب ولو مع وجوده. - قال الحنفية إذا أصابت النجاسة شيئاً مما لا يعصر: كالحصير والسجاد والخشب فينقع في الماء ثلاث مرات ويجفف في كل مرة فيطهر والأسهل في هذا الشأن مذهب الشافعية كما عرضناه بأن يُمِرَّ الماء على النجاسة بعد إزالة جرمها. - قال الحنفية: لو وقعت ثياب المصلي كالعباءة على أرض نجسة عند السجود لا يضر ذلك. - قال المالكية: من صلى حاملاً نجاسة غير معفو عنها ولا يعلمها ثم عرفها بعد الصلاة، جازت صلاته وليس عليه إعادة وكذلك حكم النسيان عندهم وقالوا: إن لم يجد المصلي غير ثوب عليه نجاسة فإنه يصلي بذلك الثوب، وليس عليه إعادة، ولا يصلي عارياً. - من حمل بيضة استحال باطنها دماً جازت صلاته عند الحنفية بخلاف ما إذا كان
حاملاً قارورة فيها بول أو دم فلا تصح صلاته. - قال الحنفية: لو حمل المصلي صبياً صغيراً في الصلاة عليه نجس، تبطل صلاته إن كان الصبي لا يستمسك بنفسه، أما إذا كان يستمسك بنفسه فلا يُعدُّ حاملاً للنجاسة وتصح صلاته. - قال الشافعية: لو وصل عظمه المنكسر بنجس لفقد الطاهر فهو معذور تصح صلاته معه، ومنه يعرف حكم ما إذا نقل شيء من الإنسان في عملية من مكان إلى مكان آخر، أو نقل إليه شيء من جسم غيره، فهو معفو عنه، مع أن القاعدة التي مرت معنا أن ما أبين من الحي كميتته. - اتفق الفقهاء على أنه إن فرش على المحل النجس شيئاً ساتراً للعورة (أي غير رقيق) جازت صلاته، وقال الحنفية تجوز الصلاة على شيء سميك وجهه الأعلى طاهر والأسفل نجس ولا تصح على ثوب طاهر بطانته نجسة إذا كان مخيطاً بها. - قال الشافعية: إذا حبس في موضع نجس صلى بقدر ما يستطيع إيماءاً أو انحناءاً ولا يسجد على النجاسة في هذه الحالة ويستحب له على المذهب القديم أن يعيدها. - من النجاسات المتفق عليها: لحم الخنزير وجميع أجزائه ودم الآدمي غير الشهيد ودم الحيوان غير المائي الذي انفصل منه إذا كان مسفوحاً. والدم المسفوح نجس ولو كان من سمك وذباب عند المالكية والشافعية وبول الآدمي وقيؤه وغائطه إلا بول الصبي الرضيع فيكتفي برشه عند الشافعية والحنابلة مع أن نجس، وبول الحيوان غير المأكول اللحم وغائطه وقيؤه إلا خرء الطيور وبول الفأر عند الحنفية فيعفى عنهما في الثياب والطعام دون ماء الأواني والخمر نجسة والقيح والمذي والودي كذلك. ولحم ميتة الحيوان غير المائي الذي له دم سائل مأكول أو غير مأكول ولحوم الحيوان غير المأكول وألبانه وما انفصل أو قطع من حي في حال حياته إلا الشعر وما في معناه.
من النجاسات المختلف فيها
من النجاسات المختلف فيها: الكلب فقال الحنفية: إنه ليس بنجس العين، وفم الكلب أو لعابه هو النجس، وقال المالكية إنه طاهر وقال الشافعية والحنابلة: نجس العين. وميتة ما لا دم له سائل، اعتبره الشافعية نجساً، وأجزاء الميتة الصلبة التي لا دم فيها كالقرن والعظم والسن والحافر والخف والظلف نجسة عند غير الحنفية. والفقهاء عدا الشافعية يقولون بطهارة شعر الميتة وصوفها وريشها وجلد الميتة نجس دبغ أو لم يدبغ عند المالكية والحنابلة. أما الحنفية والشافعية فيقولون: تطهر الجلود النجسة بسبب الموت وغيره بالدباغ على اختلاف في وسائل الدباغ. وبول الحيوان المأكول اللحم وفضلاته ورجيعه اعتبره الحنفية والشافعية نجساً إلا أن الحنفية اعتبروا بول ما يؤكل لحمه نجساً نجاسة مخففة إلا روث الخيل وخثي البقر فنجس نجاسة مغلظة عند أبي حنيفة مخففة عند الصاحبين، واعتبره المالكية والحنابلة طاهراً واستثنى المالكية التي تأكل النجاسة أو تشربها. والمني عند الحنفية والمالكية نجس يجب غسل أثره وقال الحنفية إن كان رطباً فيغسل وإن جف أجزأ فيه الفرك. والمذهب الشافعي على طهارة دم البثرات ودم البراغيث وونيم الذباب وماء القروح والنفاطات وموضع الفصد والحجامة، وقال الجمهور غير الحنفية بطهارة الميت الآدمي. انظر: (الدر المختار 1/ 205 فما بعدها)، (اللباب 1/ 24 - 30 و 49 - 54)، (المغني 1/ 52 فما بعدها)، بداية المجتهد 1/ 76 فما بعدها)، (الشرح الصغير 1/ 64 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 92 - 113 و 1/ 140 فما بعدها). * * *
الفقرة الرابعة: في قضاء الحاجة والاستنجاء والاستبراء عرض إجمالي
الفقرة الرابعة: في قضاء الحاجة والاستنجاء والاستبراء عرض إجمالي القبل والدبر هما المخرجان العاديان لفضلات الإنسان، ويخرج من الدبر الغائط وهو نجس بإجماع، ويخرج من القبل البول وكذلك هو نجس بإجماع، ويخرج من قبل الرجل مذي وهو سائل رقيق يخرج أثناء الشهوة كما يخرج منه ودى وهو سائل أبيض غليظ يخرج عقب البول أحياناً يشبه المني وليس بمني، وهذه كلها تسبب الحدث الأصغر، وتفترض الطهارة منها لصحة الصلاة ويخرج من قُبُل الإنسان المني وهو سائل أبيض يخرج بدفق وبشهوة في الأحوال العادية من الرجل، ويخرج من المرأة مني ودم حيض ودم نفاس، وهذه الثلاثة عند المرأة والمني عند الرجل تسبب الحدث الأكبر وتفترض الطهارة منها لصحة الصلاة، ويخرج من المرأة عادة طهر وهو سائل أبيض يميل إلى الصفرة إذا كثر وله أحكامه كذلك في الطهارة لصحة الصلاة، وفي موضوع قضاء الحاجة التي يتلبس الإنسان بها كثيراً، تتوضع فرائض وسنن وآداب ومكروهات ومحرمات، وعلى المسلم أن يكون فقيهاً في ذلك له، ونحن في هذه الفقرة سنعرض لكثير من المسائل الفقهية بمناسبة عرضنا للنصوص المتعلقة بهذا الموضوع. ونتعرض في هذه المقدمة لبعض الاصطلاحات والتعريفات، فإن قارئ كتب الفقه تمر عليه اصطلاحات الاستنجاء والاستجمار والاستبراء والاستنزاه والاستنقاء، وهذه تعريفات وإيضاحات حولها: فالاستنجاء: إزالة نجس عن قبل أو دبر باستعمال الأحجار وما ينوب منابها كالورق أو استعمال الماء، والأصل أن الحجارة وحدها وما ينوب منابها يكفي، والماء وحده يكفي والجمع بينهما أفضل وبذلك يجتمع للإنسان طهارة ونظافة وصحة. والاستجمار: الاستنجاء بالحجارة. والاستبراء: طلب التيقن من زوال أثر الخارج من القبل أو الدبر. والاستنزاه: طلب براءة المخرج عن أثر الرشح من البول.
والاستنقاء: طلب نقاوة المحل الخارج من النجس. والأصل أنه لا يجوز الشروع في الوضوء حتى يطمئن المرء من زوال أثر رشح البول. قال جمهور الفقهاء: يجب الاستنجاء من كل خارج معتاد من السبيلين: كالبول أو المذي أو الغائط كما تجب الطهارة لكل مكان ومحل من ثوب أو بدن. وقال الحنفية: إذا لم تتجاوز النجاسة المخرج، فالاستنجاء سنة مؤكدة للرجال والنساء، فإذا تجاوزت النجاسة المخرج وكان المتجاوز قدر الدرهم، فعندئذ تجب إزالته بالماء، وإن زاد المتجاوز على قدر الدرهم، افترض الغسل بالماء أو بمائع له حكم الماء في قلع النجاسة، وقال الجمهور يجب الاستنجاء من كل خارج معتاد من السبيلين. (الدر المختار 1/ 230) و (الفقه الإسلامي 1/ 192 - 193). قضاء الحاجة من بول أو غائط يضطر إليه الإنسان كثيراً، والأدب والفقه في شأنه مؤشر كبير على أشياء كثيرة، وهذه الأشياء وإن ألِفَ الناس أن يخجلوا من الحديث عنها في الأحوال العادية فإن الحديث عنها في مقام التعليم لابد منه: هناك آداب ينبغي أن تراعى في محل قضاء الحاجة. وهناك أحكام يجب أن يراعيها قاضي الحاجة. ونحب أن نلفت النظر ههنا بإجمال إلى بعض الأمور: فالأصل إذا كان الإنسان في بيته أن يراعي في المحل نظافته وأن يوجد في المحل ما يلزم للطهارة وللنظافة، وأن يكون المحل بالشكل الذي يساعد على الطهارة والنظافة وذهاب الرائحة وأن يتوافر الماء والورق وأن يكون هناك محل لتصريف الماء وملح لجمع الورق. وهناك أشياء تلاحظ من أجل الآخرين تقتضيها الذوقيات الإسلامية: البعد، تجنب قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة أو التي يجلس تحتها الناس للظل، وتجنب قضاء الحاجة في طريق الناس، وتجنب كشف العورة أمامهم، عدم التبول في الماء الراكد أو الجاري، عدم الحديث أثناء قضاء الحاجة، ترك السلام على قاضي الحاجة وعدم
التنزه من البول
رده إن سُلِّم عليه. التنزه من البول: 410 - * روى الشيخان عن ابن عباس: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين يُعذبان، فقال: "إنهما ليُعذبان، وما يُعذبان في كبير، أما أحدهما، فكان لا يستترُ من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة"، ثم أخذ جريدة رطبةً، فشقها بنصفين ثم غرز في كل قبرٍ واحدة فقالوا: يا رسول الله صلى لِمَ صنعتَ هذا؟ فقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا". وفي رواية (1) (لا يستبرئ) (2) وفي أخرى (لا يستنزهُ) بدل (لا يستتر) وعلى رواية الأكثر (لا يستتر) معناه لا يجعل بينه وبين بوله سترة أي لا يتحفظ، فتوافق رواية لا يستنزه، وفي رواية (لا يتوقى) انظر شرح (السنة 1/ 370). قال في شرح السنة (1/ 371): قوله: "وما يُعذبان في كبيرة" معناه: أنهما لم يُعذبا في أمر كان يكبرُ ويشقُّ عليهما الاحترازُ عنه، لأنه لم يكن يشقُّ عليهما الاستتارُ عند البول، وترك النميمة، ولم يُرِدْ أن الأمر فيهما هينٌ غيرُ كبير في أمر الدين، بدليل قوله: "وإنه لكبير". قال شعيب: وقد رجح هذا التفسير ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل: المعنى: ليس بكبير في الصورة، لأن تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وإن كان كبيراً في الجملة، وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما، أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير، كقوله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے). قال البغوي: وقوله: "لعله يُخففُ عنهما ما لم ييبسا".
قال أبو سليمان الخطابي: فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأنه صلى الله عليه وسلم عجل مُدة بقاء النداوة فيهما حداً لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطبِ معنى ليس في اليابس. ا. هـ. أقول: وعند بعضهم مزيد عبارة يرحم بسببها من يجاوره. 411 - * روى أحمد عن أبي بكرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي بيني وبين رجل آخر إذ أتى على قبرين فقال: "إن صاحب هذين القبرين يعذبان فأتياني بجريدة" قال أبو بكر فاستبقتُ أنا وصاحبي فأتيته بجريدة فشقها نصفين فوضع في هذا القبر واحدة وفي ذا القبر واحدة قال: "لعله يخفف عنهما ما دامتا رطبتين إنهما يُعذبان بغير كبير: الغيبة والبول". وقال أحمد "وما يعذبان في كبير وبلى وما يعذبان إلا في الغيبة والنميمة والبول". أقول: إن الاهتمام بإنقاء البول من محال الاهتمام الكبرى عند المسلمين، ولذلك يستبرئون ويستنقون، ومن المستحبات أن يبول الإنسان قعداً لئلا يصيبه رشاش البول ويكره له البول قائماً إلا لعذر، ومن المستحبات ألا يبول في مهبِّ الريح لئلا تعود النجاسة إليه، وكما يحتاط لبدنه يحتاط لثيابه. 412 - * روى أبو داود عن عبد الرحمن بن حسنةَ قال: (انطلقُت أن وعمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج ومعه درقَةٌ، ثم استتر بها، ثم بال، فقلنا: انظُروا إليه يبُول كما تَبُول المرأة، فسمع ذلك، فقال، "ألم تعلموا ما لقي صاحبُ بني إسرائيل (1)؟
كانوا إذا أصابهم البولُ قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم، فعُذب في قبره". 413 - * روى أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشْرٌ من الفطرة: قَصُّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسواكُ، والاستنشاقُ، وقصُّ الأظفار، وغسلُ البراجم، ونتفُ الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء" قال مصعب: نسيتُ العاشرة، إلا أن تكون المضمضة. قال البغوي: قوله: "من الفطرة" فسر أكثر أهل العلم "الفطرة" في هذا الحديث أنها السُّنة، وتأويله: أن هذه الخصال من سُنن الأنبياء صلوات الله عليهم الذين أُمرنا أن نقتدي بهم، وأولُ من أمر بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم فذلك قوله: (? ہ ہ ہ ہ ھ) (1). وكُره قصُّ اللحية ا. هـ، وقد ذكر ابن الرفعة بأن الشافعي رضي الله عنه نص على التحريم (شعيب) وغسلُ البراجم: معناه: معالجةُ المواضع التي تتسخُ فيجتمعُ فيها الوسخ بالغسل والتنظيف، وأصل البراجِم: العُقَد التي تكون في ظهور الأصابع: وانتقاص الماء: هو الاستنجاء بالماء، وقيل: معناه: انتقصا البول بالماء، وهو أن يغسل ذكره، فإنه إذا غسل الذكر ارتد البول، ولم ينزل، فإن لم يغسل، نزل منه شيءٌ، وقيل: هو الانتضاح. أماكن قضاء الحاجة والأماكن المنهي عنها: أقول: حكمة الابتعاد عن الناس لقضاء الحاجة واضحة، وهي ألا يسمع الناس من قاضي الحاجة صوتاً أو يتأذوا برائحة أو يروا عورة، وهذه القضايا يحتاط لها الإنسان إذا كان منه أحد قريباً بالقدر المستطاع، وينبغي أن يلاحظ مهندسو البناء أن يضعوا الحمامات
والمراحيض في أمكنة يسهل الوصول إليها ويراعى فيها ما ذكرناه. 414 - * روى الترمذي عن المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه قال: "كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته، وأبعد في المذْهب". وعند أبي داود (1) "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذْهب أبْعَدَ". وفي رواية النسائي (2) "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذْهَب أبعد، قال: فذهب لحاجته وهو في بعض أسفاره، فقال: ائتني بوضوءٍ، فتوضأ ومسح على الخفين". 415 - * روى أبو داود عن اجبر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا أراد البزار انطلق حتى لا يراه أحدٌ". عن ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب لحاجته في المغمس، قال نافع: نحو ميلين من مكة. للموصلي ورجاله ثقات من أهل الصحيح. أقول: قال العلماء: الاستتار وعدم كشف العورة عمن يراه واجب أثناء الاستنجاء وقضاء الحاجة لحرمته والفسق به، ويمسح المخرج من تحت الثياب، وأما الحديث أثناء قضاء الحاجة مع الغير، فإذا كانت العورات مكشوفة لبعضهم بعضاً، فذلك حرام، وإن لم تكن مكشوفة فإنه مكروه، وإذا تعارض كشف العورة مع الاستنجاء يترك الاستنجاء لوقت آخر. 416 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اتقوا اللاعنين"، قيل: "وما اللاعنان؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم". 417 - * روى أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل". أقول: قال الفقهاء: ولا يقضي حاجة تحت شجرة مثمرة لئلا تسقط عليه الثمرة، قال الشافعية: وكذا في غير وقت الثمر، وأجازه الحنابلة في غير حال الثمر إذا لم يكن المحل يستظل به الناس ويرتفقون به. 418 - * روى أبو داود عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُبال في الجُحْرِ". وفي رواية النسائي (1) قال: "لا يبُولن أحدكم في جُحرٍ". أقول: الكراهة في البول في الجحر أو الشق أو الثقب بسبب ما يحتمل أن يكون فهيا من أحياء، وبعضها قد يخرج بسبب ذلك فيؤذي.
419 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مغفلٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لايبولن أحدكم في مستحمه، فإن عامة الوسواس منه". وفي رواية (1) أبي داود زيادة بعد "مستحمِّه": ثم "يغتسل فيه" وفي أخرى (2) "ثم يتوضأ فيه ... " الحديث. وزاد القزويني أنه سمع الطنافسي يقول إنما هذا في الحفيرة، وأما اليوم فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير فإذا بال فأرسل عليه الماء فلا بأس. وقال ابن المبارك: قد وُسِّعَ في المُغْتَسَلِ إذا جرى فيه الماء. 420 - * روى أبو داود عن أميمة بنت رُقيقة قالت: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدحٌ من عيدان تحت سريره يبولُ فيه من الليل". وعند النسائي (3) "كان للنبي صلى الله عليه وسلم: قدح من عيدانٍ يبُول فيه، ويضعه تحت السرير". أقول: وذلك يدل على جواز أن يفعل الإنسان ذلك في بيته على أن يتخلص منه في أقرب فرصة، ومن كلام الفقهاء: يحرم البول في مسجد ولو في إناء لأن ذلك لا يصح له.
421 - * روى الطبراني في الأوساط عن بكر بن ماعز قال سمعت عبد الله بن يزيد يحدثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُنقعُ بول في طستٍ في البيت فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه بول منتقعٌ ولا تبولنَّ في مغتسلك". أقول: ولهذا الحديث قلنا إن على الإنسان أن يتخلص من البول في أقرب فرصة ونحب هاهنا أن نشير إلى موضوع مهم جداً وهو أنه إذا تعارضت مصلحة الإنسان المباحة مع أدب الملائكة فللإنسان أن يفعل ماهو مصلحته، كأكله الثوم في بيته دون أن يؤذي أحداً من البشر. 422 - * روى الطبراني عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى المسلمين في طُرقهم وجبت عليه لعنتُهم". حكم استقبال القبلة واستدبارها: 423 - * روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يستقبل القِبلةَ ولم يستدبرها في الغائط كُتبتْ له حسنةٌ ومُحي عنه سيئةٌ". 424 - * روى الشيخان عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيتُمُ الغائط فلا تستقبلوا القِبلةَ ولا تستدبرها، ولكن شرقوا أو غربوا"،
قال أبو أيوب: فلما قدِمنا الشام وجدنا مراحيض قد بُنيتْ قِبَلَ القِبلةِ، فنَنْحرِف عنها ونستغفر الله عز وجل". وفي رواية (1) الموطأ: قال رافعُ بن إسحاق - مولى لآل الشفاء، وكان يقال له: مولى أبي طلحة- أنه سمع أبا أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو بمصر يقول: (والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكراييس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدُكم لغائطٍ أو بولٍ، فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها بفرْجه؟ ". وأخرج النسائي (2) رواية الموطأ. وله في أخرى (3): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستقبلوا القِبلة، ولا تستدبروها بغائطٍ أو بولٍ ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". 425 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". وفي رواية أبي داود (4) والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا لكم بمنزلة
الوالد، أعلْمُكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه، وكان يأمرُ بثلاثة أحجارٍ، وينهى عن الرَّوْثِ والرِّمَّة". 426 - * روى أبو داود عن مروان الأصفر قال: "رأيتُ ابن عمر أناخ راحلتهُ مستقبلَ القِبْلَة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى، إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القِبْلة شيء يسْتُرُك فلا بأس". 427 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببولٍ، فرأيته قبل أن يُقْبَضَ بعامٍ يستقبلها". 428 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "ارْتَقَيْتُ فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجتهُ مستقبل الشام، مستدبر القِبْلَةِ". وفي رواية (1) للبخاري ومسلم: "أن ابن عمر كان يقول: "إن ناساً يقولون: إذا
قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين، مستقبل بيت المقدس لحاجته، وقال: لعلك من الذين يُصلُّون على أوراكهم؟ فقلت: لا أدري والله"، قال مالك: يعني الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض، يسجُد وهو لاصقٌ بالأرض. أقول: يكره تحريماً عند الحنفية: استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة ولو في البنيان، وقال الجمهور غير الحنفية: لا يكره ذلك في المكان المُعَدِّ لقضاء الحاجة، ويحرم استقبالها واستدبارها في البناء غير المعد لقضاء الحاجة وفي الصحراء بدون ساتر مرتفع بقدر ثلثي ذراع تقريباً فأكثر، ولا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع، ويكره استقبال عين الشمس والقمر بفرجه، ومما ينبغي أن يراعيه المسلم في بنائه أن لا يجعل المراحيض مستقبلة أو مستدبرة القبلة مراعاة للوارد في ذلك، ولفهم الحنفية في هذا الشأن، فالخروج من الخلاف حيث لا يترتب عليه ضرر أو مكروه عند الآخرين مستحب لدى العلماء. (انظر الدر المختار 1/ 228 والشرح الصغير 1/ 93 والمغني 1/ 162 - 163). حكم البول قائماً: 429 - * روى الشيخان عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فانتهى إلى سُباطةِ قومٍ، فبال قائماً، فتنحيتُ، فقال: "ادْنُهْ"، فدنوتُ حتى كنت عند عقبيه، فتوضأ، ومسح على خفيه". وفي رواية (1) عن أبي وائل قال: "كان أبو موسى يُشددُ في البول ويبول في قارورة،
ويقول: إن بني إسرائيل كانت إذا أصاب جلدَ أحدهم بولٌ قرضه بالمقاريض، فقال حذيفة: لوددتُ أن صاحبكم لا يُشدد هذا التشديد، فلقد رأيتُني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سُباطة قومس خلف حائطٍ، فقام كما يقوم أحدكم، فبال فانتبذْتُ منه، فأشار إليَّ، فجئتُ، فقمتُ عند عقبه صلى الله عليه وسلم، حتى فرغ". قال الخطابيُّ: سبب بوله قائماً: إما مرض اضطره إليه، كما قد روي "أنه صلى الله عليه وسلم بال قائماً من وجعٍ كان بمأبضْيه" والمأبِض: باطن الركبة، وقيل: للتداوي من وجع الصلب، فإنهم كانوا يتداوون بذلك من وجع أصلابهم، أو أن المكان اضطرَّه إليه، لأنه لم يجدْ للقعود سبيلاً، وفيه أن مُدافعة البول مكروهة، لأنه صلى الله لعيه وسلم (بال قائماً، في السباطة) ولم يؤخرْ ذلك، وأما إدناؤه [حذيفة] إليه مع إبعاده عند الحاجة، فلأن السباطة إنما تكون في أفنية الناس، ولا تخلو من لمار، فأدناه إليه ليستتر به. (ابن الأثير). 430 - * روى مالك عن نافع - مولى ابن عمر - رضي الله عنهم قال: "رأيتُ ابن عمر يبُولُ قائماً". قال الحافظ في الفتح: أقول: إن السنة شبه الدائمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم البول قاعداً، وبذلك استحب العلماء للإنسان أن يبول قاعداً إلا لعذر. 431 - * روى الترمذي عن عائشة قالت: "من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه".
الاستتار عند قضاء الحاجة وعدم الكلام
الاستتار عند قضاء الحاجة وعدم الكلام: 432 - * روى مسلم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: "أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه، فأسر إليَّ حديثاً لا أحدثُ به أحداً من الناس، وكان أحبُّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفٌ أو حائشُ نخلٍ. فقال في رواية (1): يعني: حائط نخل". 433 - * روى أحمد عن أبي سعيد رضي الله عن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقتُ على ذلك". من آداب قضاء الحاجة: 434 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه".
الأذكار المأثورة لمن يريد قضاء الحاجة
أقول: يندب لمن يريد قضاء الحاجة ألا يحمل مكتوباً ذُكرَ اسم الله عليه أو فيه اسم مكرم. 435 - * روى ابن خزيمة عن ابن عمر: "أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يردَّ عليه السلام". الأذكار المأثورة لمن يريد قضاء الحاجة: 436 - * روى الجماعة إلا الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء" يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". وفي رواية (1): "إذا أراد أن يدخل الخلاء"، وفي أخرى (2) "كان إذا دخل الكنيف". فائدة: (إذا دخل الخلاء): يعني أراد دخول الخلاء مثل (إذا قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم الصلاة وقصدتم ذلك، والمراد أن الأذكار المأثورة يستحب قولها قبل أن يدخل الإنسان موطن النجاسة أو يكشف عورته، وكذلك أذكار ما بعد قضاء الحاجة، تكون بعد ستر العورة والخروج من محل النجاسة، وإذا عطس حمد الله بقلبه. 437 - * روى أبو داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
هذه الحُشوش محترة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث". 438 - * روى أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عيه وسلم إذا خرج من الخلاء، قال: "غُفرانك". 439 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستْرُ ما بين أعين الجِنِّ وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله". حكم غسل اليدين بعد قضاء الحاجة: 440 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال (1): "أقبَلَ رسول الله
وسائل الاستنجاء وكيفيته
صلى الله عليه وسلم من شعبٍ من الجبلِ وقد قضى حاجته، وبين أيدينا تمرٌ على تُرْسٍ، أو جحفةٍ، فدعوناه، فأكل معنا، وما مس ماء". 441 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من الخلاء، فقُدم إليه طعامٌ، فقالوا: ألا نأتيك بوضوءٍ؟ قال: "إنما أُمرت بالوضوء إذا قمتُ إلى الصلاة". وفي رواية (1) فقال: "أريدُ أن أصلي فأتوضأ؟ ". وفي أخرى (2): "قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه الطعام، فأكل، ولم يمس ماء". أقول: يستحب لمن قضى حاجته واستنجى أن يغسل يديه، وإذا لم تكن عليهما نجاسة فلا حرج أن يأكل بهما، قد بين هذان الحديثان هذا المعنى الأخير لرفع الحرج عن الأمة. وسائل الاستنجاء وكيفيته: 442 - * روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قيل له: د علمكُمْ نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيءٍ حتى الخِراءةَ؟ قال: فقال: أجلْ، لقد نهانا أن نستقبل القِبْلَة بغائطٍ أو بولٍ، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثةِ أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظمٍ".
وفي رواية (1) قال: "قال له المشركون: إنا نرى صاحبكم يعلمُكم، حتى يعلمكم الخراءة؟ فقال: أجل، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القِبْلة، ونهى عن الرَّوْث والعظام، وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار". (نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) فيه: بيان أن الاستنجاء أحدُ الطهرين، فإن لم يستعمل الماء فلابد له من الحجر، وبيان أن الاقتصار على دون الثلاثة لا يجزيء وإن أنقى، لأنه علم أن الإنقاء قد يحصل بدون الثلاثة، ومع هذا اشترط الثلاثة، وكان اشتراطها تعبداً وشرطاً في صحة الطهارة. قاله ابن الأثير وهو شافعي، وقد مر معنا أن الحنفية والمالكية عندهم العبرة للإنقاء ولا يجب عدد الثلاثة بل يستحب، وأما عدد الغسلات حال الاستنجاء بالماء فالصحيح انه مفوض إلى الرأي حتى يطمئن القلب للطهارة بيقين أو غلبة ظن. (نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه) النهيُّ عن الاستنجاء باليمين في قول أكثر العلماء: نهيُ تأديبٍ وتنزيهٍ، لأنها مرصدة للأكل والشرب وأكثر الآداب، فنُزِّهتْ عن مباشرة النجاسة. 443 - * روى أحمد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استجمر أحدُكم فليستجمرْ ثلاثاً". وفي رواية (2) "إذا تغوط أحدكم فليمسحْ ثلاثَ مراتٍ".
444 - * روى الطبراني عن طارق بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استجمرتم فأوتروا وإذا توضأتم فاستنثروا". 445 - * روى البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استجمر أحدُكم فليوتر إن الله وتِر يحبُ الوتر، أما ترى أن السماوات سبعاً والأرضين سبعاً والطواف سبعاً وذكر أشياء". أقول: نصبت كلمة (سبعاً) في الحديث مع أن ظاهرها أنها خبر (أن) فمحلها الرفع، لكنها نصبت على تقدير أنها خلقت أو جعلت سبعاً والله أعلم. 446 - * روى البزار عن علقمة قال: قال رجل من المشركين لعبد الله: إني لأحسب صاحبكم قد علمكم لك شيء حتى علمكُم كيف تأتون الخلاء، قال: إن كنت مستهزئاً فقد علمنا أن لا نستقبل القبلة بفروجنا وأحسبه قال: ولا نستنجي بأيماننا ولا نستنجي بالرجيع ولا نستنجي بالعظم ولا نستنجي بدون ثلاثة أحجار. أقول: قال الحنفية والمالكية: يستحب الاستنجاء بثلاثة أحجار، ولا يجب ويكفي ما دونه إن حصل الإنقاء أو التنظيف به، وقال الشافعية والحنابلة: الواجب الإنقاء وإكمال الثلاثة، وإن لم تكف الثلاثة وجب الإنقاء بأربعة فأكثر، وإذا زاد عن الثلاثة سن الإيتار، ويكره تحريماً عند الحنفية الاستنجاء بالنجس كالبعر والروث، كما يكره بالعظم أو الطعام كما يكره الاستنجاء بغير قالع كالزجاج ويكره الاستنجاء باليد اليمنى إلا لعذر، هناك أرواث مختلفٌ في طهارتها، فإنه يكره الاستنجاء بها لورود النص بذلك.
447 - * روى الطبراني عن سُراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ أنه كان إذا جاء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً، وهو كأنه يلعبُ ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم إلى الغائط فاتقوا المجالس على الظل والطرائق خذوا النُّبل واستنشبوا على سوقكم واستجمروا وأوتروا. 448 - * روى أحمد عن عائشة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يتطيب بهن فإنها تجزئ عنه". أقول: أدب قاضي الحاجة أن يهييء ما يستنجي به قبل قضائها، وأن يستجمر وتراً: أي ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، وسيمر معنا تفصيل الحكم في ذلك، ومن مثل هذا الحديث نأخذ أنه ينبغي أن يحتوي المرحاض في بيت المسلم على ورق يصلح للاستنجاء، وعلى محل يضع فيه هذا الورق بعد استعماله، وقل مثل ذلك في المراحيض العامة كمراحيض المساجد. 449 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استجمر أحدكم فليوتِرْ". 450 - * روى أبو داود عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بال أحدُكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسحْ بيمينه، وإذا شرب فلا يشرب نفساً واحداً". وللبخاري (1): "إذا بال أحدكم فلا يأخُذْ ذكره بيمينه، ولا يستَنْجِ بيمينه،
ولا يتنفس في الإناء". وفي رواية لمسلم (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء، وأن يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه. وفي رواية الترمذي (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس الرجلُ ذكرهُ بيمينه. 451 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى". 452 - * روى أبو داود عن حفصة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك". 453 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته تبعتُه أنا وغلامٌ منا، معنا إداوةٌ من ماء- يعني: يستنجي به. وفي رواية قال (3): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمِلُ أنا وغلامٌ نحوي إداوة من ماء، وعنزةً، يستنجي بالماء". وفي أخرى (4): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً، وتبعه غلامٌ ومعه ميضاةٌ، وهو أصغرنا، فوضعها عند سدرةٍ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، فخرج علينا وقد استنجى بالماء".
أقول: هذا دليل على أن الماء وحده يكفي كما أن الحجر وحده يكفي والجمع بينهما أفضل قال العلماء وصفة الاستنجاء بالماء أن يفرغ الماء على يده اليسرى قبل أن يلاقي بها الأذى ثم يغسل القبل ثم يغسل الدبر ويوالي صب الماء ويدلكه بيده اليسرى ويسترخي قليلاً حتى ينقيَ. 454 - * روى الترمذي عن مُعاذة بنت عبد الرحمن أن عائشة قالت: "مُرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم منه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله". 455 - * روى النسائي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى الخلاء، فقضى الحاجة، ثم قال: "يا جرير، هات طهوراً" فأتيته بالماء، فاستنجى، وقال بيده، فدلك بها الأرض". قوله: (ودلك بها الأرض): دليل على أنه يستحب لمن استنجى أن يغسل يده بصابون أو نحه قياساً على الدلك في الأرض من أجل إزالة ما يمكن أن يكون قد تبقى من رائحة. 456 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل، فقال: يا محمد، إذا توضأت فانتضح". 457 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي "أنه سمع عمر بن الخطاب يتوضأ وضوءاً لما تحت إزاره". أقول: المراد بالأثر: الانتضاح الذي ذكره الحديث السابق.
458 - * روى البزار عن انس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: "إن الله قد أحسن الثناء عليكم في الطهور، فما ذاك؟ " قالوا: تجمع في الاستنجاء بين الأحجار والماء. 459 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجارٍ يستطيب بهن، فإنها تُجزئ عنه". أقول: تحدث الفقهاء عن صفة الاستنجاء بالحجارة فقالوا: يمسح بالحجر الأول من الأمام إلى الخلف، وبالثاني من الخلف إلى الأمام وبالثالث كالأول إذا كانت الخصية مدلاة، وكالثاني إذا كانت الخصية غير مدلاة، والمرأة تبتدأ من الأمام إلى الخلف وتثني وتثلث كذلك وقال الشافعية يبدأ بالأول من مقدم الصفحة اليمنى ويديره برفق إلى محل ابتدائه، وبالثاني من مقدم اليسرى ويديره كذلك، ويُمِرُّ الثالث على صفحته ومسربته جميعاً. (مراقي الفلاح 9 والمهذب 1/ 27). 460 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجارٍ، فوجدتُ حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: "إنها رِكْسٌ". 461 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال (1): قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم، فإنه زادُ إخوانكم من الجن". وقال: وقد روى عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن .. الحديث بطوله. فقال الشعبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنجوا بالروث ... " وذكر الحديث. وفي رواية النسائي (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستطيب أحدُكم بعظمٍ أو روثة. وفي رواية أبي (2) داود قال: "قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، انْه أمتك أن يستنجوا بعظمٍ أو روثةٍ أو حُمَمَةٍ، فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. 462 - * روى البخار يعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اتبعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم وقد خرج لحاجته، وكان لا يلتفتُ - فدنوتُ منه، فقال: "ابغني أحجاراً أستنفضُ بها" أو نحوه، طولا تأتني بعظمٍ ولا روث"، فأتيتُه بأحجارٍ بطرف ثيابي، فوضعتها إلى جنبه، وأعرضتُ عنه، فلما قضى أتبعه بهن. وفي رواية (3) ذكرها رزين وهي في البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابغني أحجاراً أسْتَنْفِضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة" قلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفدُ جنِّ نصيبين - ونعم الجنُّ - فسألوني
الزاد، فدعوتُ الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثةٍ إلا وجدوا عليها طعماً". أقول: من قوله عليه السلام (استنفض بهن): فهم العلماء أن الاستبراء يكون بنتر وسلت خفيفين ثلاثاً بأن يجعل إصبعه السبابة من يده اليسرى تحت ذكره من أصله والإبهام فوقه، ثم يسحبه برفق حتى يخرج ما فيه من البول وذلك حتى يغلب على الظن نقاوة المحل من البول، واستبراء المرأة أن تضع أطراف أصابع يدها اليسرى على عانتها، والاستبراء عموماً يختلف باختلاف الناس والقصد أن يظن أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه. (مراقي الفلاح 8 والمهذب 1/ 37) و (الفقه الإسلامي 1/ 194).
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - ليس على من نام أو خرج منه ريح استنجاء باتفاق العلماء. - الأظهر عند الشافعية ألا استنجاء لدود أو بعر بدون لوث. - استبراء كل إنسان بحسبه، فبعض الناس يحتاجون لانقطاع رشح البول إلى مشي أو تنحنح أو انتظار قليل، فعلى كل إنسان أن يعرف حاله وأن يتصرف على ضوء ذلك وألا يسمح للوسوسة أن تغلبه. - ذكر بعض فقهاء الحنفية أن الإنسان إذا كان يطول رشح بوله أو غلبت عليه الوسوسة فبإمكانه أن يدخل فتيلة صغيرة من ورق لين يمتص إلى داخل الذكر بحيث لا تظهر فهذه تمتص الرشح، وما دام الرشح لم يخرج خارج الذكر فإنه لا ينقض الوضوء، وقد كره بعضهم مثل هذا واعتبره بعضهم نوع معالجة فيها مصلحة خاصة لمن يريد استعجال الوضوء ولا يطمئن إلى انقطاع الرشح .. - هناك حالات لا تكفي فيها الحجارة أو الورق أو ما ينوب منابها فلابد من الماء وقت ذاك، من هذه الحالات إذا جف النجس الخارج، وإذا انتقل عن المحل أو تجاوز مقدار الدرهم زائداً عن المحل، أو طرأ عليه شيء رطب أجنبي فوسع دائرة النجاسة، أو كان الخارج من منفذ غير عادي كما يحدث أثناء العمليات وتلوث ما حول المكان، ففي هذه الحالات يتعين استعمال الماء كما يتعين استعمال الماء عند المالكية من المني والمذي ودم الحيض كما يتعين عند المالكية في إزالة بول المرأة بكراً أو ثيباً لتعدية المخرج إلى جهة المقعدة عادة. - يجوز عند الحنفية: الاستنجاء بمائع غير الماء إذا كان يقلع النجاسة كماء الورد والخل ومر معنا أن الماء المستعمل عندهم يزيل النجاسة الحسية. - قال الحنفية: يكره الاستنجاء بأدنى شيء له قيمة، واتفق الفقهاء على أن الاستنجاء يكون بطاهر قالع غير محترم. - ينشف الصائم مقعدته قبل القيام لئلا تجذب المقعدة شيئاً من الماء ولا يبالغ في إدخال
يده خشية الإفطار. يندب لمريد الحاجة أن يلبس نعليه ويستر رأسه ويدخل الخلاء برجله اليسرى ويخرج برجله اليمنى ويعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى لأنه أسهل لخروج الخارج، ولا يتكلم إلا لضرورة، ولا يطيل المقام أكثر من قدر الحاجة، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ويكره أن يستنجي بماء في موضعه بل ينتقل عنه إن لم يكن معداً لذلك، ويستحب ألا ينظر إلى السماء ولا إلى فرجه ولا إلى ما يخرج منه، وأن يسبل ثوبه شيئاً فشيئاً حين يقوم، ويحرم قضاء الحاجة على القبر المحترم، ويكره عند القبر. - مر معنا أن النجاسة غير المرئية التي لا تزيد جرم الماء، إذا مر عليها الماء يطهرها ويبقى الماء طاهراً، فلو أن إنساناً كان بحيث يراه النسا كان ذكره متنجساً بمذي أو بول لكنه جاف فإنه يستطيع أن يصب الماء وهو ساتر عورته بمئزر أو سروال، فيطهر المحل والماء الذي يصيب ثيابه طاهر. (انظر حاشية ابن عابدين 1/ 223 فما بعدها) و (الشرح الصغير 1/ 87 فما بعدها) (والمهذب 1/ 27) و (المغني 1/ 150 فما بعدها).
الفقرة الخامسة: في الوضوء ونواقضه
الفقرة الخامسة: في الوضوء ونواقضه عرض عام لأحكام الوضوء: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1). فالإجماع منعقد على أن الطهارة من الحدث الأصغر بالوضوء ومن الحدث الأكبر بالغسل لابد منها لصحة الصلاة. وبالوضوء والغسل تنتظم الطهارة والنظافة في حياة المسلم، وفي ذلك راحة الروح، والروح والقلب والعقل والجسد كلها تتأثر بالوضوء والغسل. وقد أجمع العلماء على أن غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس فرائض في الوضوء وزاد المالكية والحنابلة والشافعية النية فريضة خامسة وأوجب الشافعية والحنابلة الترتيب وأوجب المالكية أيضاً الدلك، وأوجب الحنابلة والمالكية الموالاة، فتكون أركان الوضوء سبعة عند المالكية بإضافة النية والدلك والموالاة إلى الأربعة المذكورة في القرآن، وستة عند الشافعية بإضافة النية والترتيب، وسبعة عند الحنابلة بإضافة النية والترتيب والموالاة. وحدُّ الوجه طولاً ما بين منابت شعر الرأس المعتاد إلى منتهى الذقن، ويدخل في ذلك العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى، وحدُّ الوجه عرضاً ما بين شحمتي الأذنين والبياض الذي بين العذار والأذن من الوجه عند الحنفية والشافعية، وقال المالكية والحنابلة إنه من الرأس. ويدخل في غسل اليدين المرفقان، والمرفقان ملتقى عظم العضد وذراعه، فالمرفقان فما دونهما يفترض غسلهما في الوضوء، والكعبان داخلان في غسل الرجلين وهما العظمان الناتئان عند مفصل القدم فهذه الثلاثة: الوجه واليدان والرجلان يفترض غسلها، والغسل إسالة الماء على العضو بحيث يتقاطر وأقله قطرتان في الأصح، والفرض هو الغسل مرة أما تكرار
الغسل ثلاث مرات فهو سنة وليس بفرض. ومسح الرأس فريضة، والمسح هو إمرار اليد المبتلة على العضو، والرأس منبت الشعر المعتاد من المقدم فوق الجبهة إلى نقرة القفا ويدخل فيه الصدغان مما فوق العظم الناتئ من الوجه، ويفترض عند الحنفية مسح ربع الرأس مرة بمقدار الناصية فوق الأذنين لا على طرف ضفيرة، وقال المالكية والحنابلة في أرجح الوايتين عند الحنابلة: يجب مسح جميع الرأس وليس على الماسح نقض ضفائر شعره ولا مسح ما نزل عن الرأس من الشعر. والظاهر عند الحنابلة وجوب الاستيعاب للرجل وأما المرأة فيجزئها مسح مقدم الرأس فقط. وقال الشافعية: الواجب مسح بعض الرأس ولو شعرة واحدة في حد الرأس بألا يخرج بالمد عنه من جهة نزوله. والنية هي أن ينوي المتطهر بقلبه أداء الفرض أو رفع الحدث أو استباحة ما تجب الطهارة له. والحنفية يرون أن النية سنة، ووقتها قبل الاستنجاء، وقال الحنابلة: وقتها عند أول واجب وهو التسمية في الوضوء، وقال المالكية: وقتها عند غسل الوجه، وقيل أول الطهارة، وقال الشافعية: وقتها عند غسل أول جزء من الوجه مقترنة بذلك. أما الترتيب وهو سنة مؤكدة عند الحنفية والمالكية وفريضة عند الحنابلة والشافعية فهو تطهير أعضاء الوضوء واحداً بعد الآخر كما ورد في النص القرآني أي: غسل الوجه أولاً ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، وأما الموالاة وهي سنة عند الشافعية والحنفية، وفريضة عند المالكية والحنابلة، فهي متابعة أفعال الوضوء بحيث لا يقع بينها ما يُعدُّ فاصلاً في العرف، أو هي المتابعة بغسل العضو اللاحق قبل جفاف السابق في حال اعتدال المناخ. وأما الدّك: فإنه سنة عند الحنفية والشافعية والحنابلة وقال المالكية هو فريضة والدلك هو إمرار اليد على العضو بعد صب الماء قبل جفافه، ويكون بباطن الكف لا بظاهر اليد ويندب أن يكون الدلك خفيفاً وتتحقق الفريضة بالمرة الواحدة.
وسنن الوضوء وآدابه كثيرة ستمر معنا من خلال عرض النصوص، ونعرضها ههنا بشكل سريع باختصار شديد كما هي في المذهب الحنفي: سنن الوضوء سبع عشرة: غسل اليدين إلى الرسغين والتسمية والسواك في ابتداء الوضوء والمضمضة ثلاثاً ولو بغرفة، والاستنشاق بثلاث غرفات، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم، وتخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها، وتخليل الأصابع، وتثليث الغسل، واستيعاب الرأس بالمسح مرة، ومسح الأذنين ولو بماء الرأس، والدلك، والولاء، والنية، والترتيب كما نص الله تعالى في كتابه، والبداءة بالميامن ورؤوس الأصابع ومقدم الرأس. أما آداب الوضوء فهي خمسة عشر: مسح الرقبة لا الحلقوم، الجلوس في مكان مرتفع، واستقبال القبلة، وعدم الاستعانة بغيره، وعدم التكلم بكلام الناس، والجمع بين نية القلب وفعل اللسان، والدعاء بالمأثور والتسمية عند كل عضو، وإدخال خنصره في صماخ أذنيه، وتحريك خاتمه الواسع فإن كان الماء لا يصل إلا بالتحريك كان واجباً، والمضمضة والاستنشاق باليد اليمنى، والامتخاط باليسرى، والتوضؤ قبل دخول الوقت لغير المعذور، والإتيان بالشهادتين بعده، وأني شرب من فضل الوضوء قائماً، وأن يقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين. ومن آدابه قراءة سورة القدر وصلاة ركعتين في قوت الكراهة ومن الآداب: تعاهد موقيه وكعبيه وعرقوبيه وإخمصيه. وهناك اختلافات يسيرة بين المذاهب في السنن والآداب فبعض السنن تدخل في الآداب عند البعض وبعض الآداب تدخل في السنن وبعض السنن هنا تدخل في الواجبات أو الفرائض عند البعض كما مر معنا بالنسبة للنية والترتيب والدلك والموالاة. والوضوء عند الحنفية خمسة أنواع: 1 - فرض كأن يكون للصالة سواء كانت فرضاً أو نفلاً أو صلاة جنازة أو سجدة تلاوة ولمس القرآن، 2 - واجب للطواف حول الكعبة وقال الجمهور إنه فرض 3 - مندوب وهو التوضؤ لكل صلاة ولمس الكتب الشرعية وللنوم وعقب
الاستيقاظ من النوم مباشرة وقبل غسل الجنابة، وللجنب عند الأكل والشرب والنوم، ومعاودة الوطء، ولقراءة القرآن وللأذان والإقامة وإلقاء خطبة والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة وبعد ارتكاب خطيئة وبعد قهقهة خارج الصلاة، وبعد غسل ميت وحمله وللخروج من خلاف العلماء 4 - وضوء مكروه كإعادة الوضوء قبل أداء صلاة بالوضوء الأول 5 - وضوء حرام كالوضوء بماء مغصوب أو بماء يتيم. وشروط وجوب الوضوء ثمانية: العقل والبلوغ والإسلام والقدرة على استعمال الماء الطهور الكافي ووجود الحدث وعدم الحض والنفاس وضيق الوقت فلا يفترض الوضوء حالاً في أول الوقت ويفترض إذا ضاق الوقت. وشروط صحة الوضوء ثلاثة: 1 - عموم البشرة بالماء الطهور 2 - إزالة ما يمنع وصول الماء إلى العضو 3 - انقطاع كل ما ينقض الوضوء قبل البدء به لغير المعذور، واعتبر الجمهور غير الحنفية الإسلام شرط صحة لا شرط وجوب. ومن مكروهات الوضوء: الإسراف في صب الماء ولطم الوجه أو غيره بالماء، والتكلم بكلام الناس، والاستعانة بالغير بلا عذر، والتوضؤ في موضع نجس، ومبالغة الصائم في المضمضة والاستنشاق وترك سنة من سنن الوضوء. ونواقض الوضوء: 1 - كل خارج من أحد السبيلين معتاد أو غير معتاد إلا لعذر، فالعذر له أحكامه. 2 - الولادة من غير رؤية دم، فالصحيح عند الحنفية أن المرأة لا تكون حينئذ نفساء وإنما عليها الوضوء. 3 - الخارج النجس من غير السبيلين كالدم والقيح والصديد إذا سال إلى موضع يلحقه حكم التطهير عند الحنفية. 4 - القيء عند الحنفية والحنابلة، وعند الحنفية على تفصيل، فالحنفية يقولون: إنما ينقض إذا كان ملء الفم وهو ما لا ينطبق عليه الفم إلا بتكلف 5 - غيبة العقل أو زواله بالمخدرات أو المسكرات أو بالإغماء أو بالجنون أو بالصرع أو بالنوم على تفصيلات في النوم. 6 - لمس المرأة الأجنبية عند الشافعية أما عند الحنفية لا ينقض الوضوء إلا المباشرة الفاحشة وهي أن يلامس كل عضو من كل عض منها، وعند المالكية والحنابلة إذا التقت بشرتا الرجل والمرأة حال اللذة أو الشهوة بتفصيل عند المالكية 7 - من الفرج القبل أو الدبر عند الجمهور غير
الحنفية أما المالكية فينتقض الوضوء عندهم بمس الذكر لا بمس الدبر 8 - القهقهة في الصلاة عند الحنفية دون غيرهم 9 - أكل لحم الإبل عند الحنابلة دون غيرهم لحديث مرسل 10 - غسل الميت عند أكثر الحنابلة دون غيرهم 11 - الشك في الوضوء عند المالكية وقال الجمهور لا ينتقض الوضوء بالشك فمن تيقن الوضوء وشك بالحدث فهو متوضئ 12 - كل ما أوجب الغسل فهو بالضرورة ناقض للوضوء. هذا ولأصحاب الأعذار أحكامهم الخاصة، ويحرم بالحدث الأصغر الصلاة والطواف ومس المصحف وينوب عن غسل الرجلين المسح على الخفين بشروطه وينوب عن الوضوء التيمم بشروطه. (انظر: حاشية ابن عابدين 1/ 63 وبعدها و 1/ 90 وبعدها) و (الشرح الصغير 1/ 104 وما بعدها)، (المغني 1/ 110 وما بعدها)، (المهذب 1/ 15 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 214 وما بعدها). وإلى عرض النصوص: - فضل الوضوء: 463 - * روى مالك عن أبي هريرة رفعهُ: "ألا أدُلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا بلى يا رسول الله قال: "إسباغُ الوضوء على المكاره وكثرةُ الخُطا إلى المسجد وانتظارُ الصلاة، بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثاً". 464 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسل الله صلى الله عليه سلم قال: (1) "إذا توضأ
العبد المسلم- أو المؤمن - فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرِ الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب". 465 - * روى مسلم عن عقبة بن عامر [الجهني] رضي الله عنه قال: كانت علينا رعايةُ الإبل، فجاءت نوبتي أرعاها، فروَّحْتُها بالعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يُحدث الناس، وأدركت من قوله: "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين يُقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة" فقلت: ما أجوَدَ هذا؟ فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجودُ، فنظرتُ، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: إني قد رأيتك قد جئت آنفاً، قال: "ما منكم من أحدٍ يتوضأ، فيُبْلِغُ الوضوء، أو يسبغُ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء". في رواية (1) الترمذي عن أبي إديرس الخولاني، وأبي عثمان [النهدي]: أن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فُتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء". أقول: قول عقبة (فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً): نموذج على تذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأصحابه، وبهذا الحديث نستأنس بما جرت عليه عادة العلماء أن يخصصوا ما بين
المغرب والعشاء للوعظ والتعليم وبعضهم يخصص ما بعد العشاء لذلك، لأن الناس يكونون في الغالب قد فرغوا من أعمالهم الدنيوية. 466 - * روى مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأسن الوضوء، خرجت خطاياهُ من جسده، ثم تخرجُ من تحت أظفاره". وفي رواية (1) أن عثمان توضأ ثم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ هكذا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة". 467 - *روى الطبراني عن سعد بن عمارة أخى بني سع بن بكر وكانت له صحبة أن رجلاً قال له عظني في نفسي يرحُمك الله. قال: إذا انتهيت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء فإنه لا صلاة لمن لا وضوء له ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثم إذا صليت فصلِّ صلاة مودع واترك طلب كثير من الحاجات فإنه فقرٌ حاضرٌ وأجمعِ اليأس مما عند الناس فإنه هو الغني وانظر ما تعتذر منه من القول الفعل فاجتنبه. 468 - * روى مالك عن عبد الله الصُّنابحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض: خرجت خطاياه من فيه، فإذا استنثر
خرجت الخطايا من أنفه، وإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه، خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيهُ إلى المسجد وصلاته نافلة له". 469 - * روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرُك وأتوبُ إليك كُتب في رقٍّ، ثم طبع بطابعٍ، ثم رُفِعَ تحت العرش فلم يُكْسَرْ إلى يوم القيامة". 470 - * روى النسائي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعتُ عمرو بن عبسة يقول: قلتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف الوضوء؟ قال: "أما الوضوء: فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك فأنقيتهما، خرجت خطاياك من بين أظفارك وأناملك، فإذا مضمضت واستنشقت منخريك، وغسلت وجهك ويديك إلى المرفقين، ومسحت رأسك، وغسلت رجليك، اغتسلت من عامةِ خطاياك كيوم ولدتك أمُّكَ" قال أبو أمامة: فقلتُ: يا عمرو بن عبسة، انظر ما تقول، أكل هذا يُعْطَى في مجلس واحدٍ؟ فقال: أما والله لقد كبرتْ سني، ودنا أجلي، وما بي من فقرٍ فأكذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعتهُ أُذناي، ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 471 - * (1) روى الطبراني عن أبي أمامة قال: إذ وضعت الطهور مواضعه قعْدت مغفوراً
لك. فقال الرجل: يا أبا أمامة: أرأيت إن قام يصلي تكونُ له نافلة؟ قال: لا إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم، كيف تكون له نافلة وهو يسعى في الذنوب والخطايا، تكون له فضيلة وأجراً. 472 - * روى أحمد عن عقبة بن عامر رفعه: رجلان من أُمتي يقوم أحدهما من الليل فيعالج نفسه إلى الطهور وعليه عقدٌ، فيتوضأ، فإذا وضأ يده انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلت عقده وإذا مسح رأسه انحلت عقدة وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب تعالى: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي فهو له. 473 - * روى مالك عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استيقموا ولن تُحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمنٌ". 474 - * روى البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بات طاهراً بات في شعاره ملكٌ فلا يستيقظ من ليل إلا قال الملك اللهم اغفر لعبدك كما بات طاهراً". 475 - * روى مسلم عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتمَّ الوضوء كما أمرهُ الله، فالصلوات الخمس كفارةٌ لما بينهُنَّ".
476 - * روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرةِ فقال: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وإنا بكمْ إن شاء الله لاحقون، وددْتُ أني قد رأيتُ إخواننا" قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: "بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ، وأنا فرطُهمْ على الحوض"، قالوا: يا رسول الله كيف تعرفُ من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: "أرأيت لو كان لرجل خيلٌ غُرٌّ محجلة في خيلٍ دهمٍ بهمٍ، ألا يعرفُ خيله"؟ قالوا: بلى، قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطُهُمْ على الحوض، فليُذادنَّ رجالٌ من حوضي كما يُذادُ البعير الضالُّ، أناديهم: ألا هلُمَّ، ألا هلُمَّ، ألا هلُمَّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: فسحقاً، فسحقاً، فسُحقاً". صفة الوضوء: 477 - * روى الشيخان عن عثمان بن عفان رض الله عنه قال حُمران مولى عثمان: إن عثمان دعا بإناءٍ، فأفرغ على كفيه ثلاث مرارٍ، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض، واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرارٍ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرارٍ إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه". 478 - * روى أبو داود عن حُمْران: رأيتُ عثمان توضأ .. فذكر نحوه، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، وقال فيه: ومسح رأسه ثلاثاً، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا، وقال: "من توضأ دون هذا كفاه" ولم يذكر أمر الصلاة.
وله في أخرى (1) عن ابن أبي مُليكة قال: رأيتُ عثمان بن عفان يسأل عن الوضوء؟ فدعا بماء، فأتى بميضأة، فأصغى على يده اليمنى، ثم أدخلها في الماء، فتمضمض ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى ثلاثاً، وغسل يده اليسرى ثلاثاً، ثم أدخل يده فأخذ ماء، فمسح برأسه وأذنيه، فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه، ثم قال: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. 479 - * روى أحمد عن حمران بن أبان قال رأيت عثمان بن عفان دعا بوضوء وهو على باب المسجد فغسل يديه ثم مضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات ثم مسح برأسه وأمر بيديه على ظاهر أذنيه ثم مر بهما على لحيته ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرات ثم قام فركع ركعتين ثم توضأت لكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ركعت ركعتين كما رأيته ركع قال: ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من ركعتيه "من توضأ كما توضأتُ ثم ركع ركعتين لا يحدثُ فيهما نفسه غُفِر له ما بينهما وبين صلاته بالأمس". أقول: إن تعليم عثمان وعلي رضي الله عنهما الناس الوضوء وهما خليفتان نموذجان على سنن الخلافة الراشدة وطبيعتها وفطريتها وتواضع أصحابها ومعرفتهم بوظائفهم. 480 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال عبد خيرٍ: أتانا عليُّ رضي الله عنه، فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنعُ بالطهور وقد صلى؟ ما يريد إلا ليعلمنا، فأتى بإناء فيه ماء، وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً، فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثاً، وغسل يده اليمنى ثلاثاً، وغسل يده الشمال ثلاثا، ً ثم جعل يده في الإناء، فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ورجله الشمال ثلاثاً، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا. وفي رواية (1) قال: صلى عليَّ الغداة، ثم دخل الرحبة، فدعا بماء، فأتاه الغلامُ بإناء فيه ماء وطستٍ، قال: فأخذ الإناء بيده اليمنى، فأفرغ على يده اليسرى، وغسل كفيه ثلاثاً، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فتمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً ... ثم ساق قريباً من حديث أبي عوانة، يعني الرواية الأولى، قال: ثم مسح رأسه: مقدمه ومؤخره مرة ... ثم ساق الحديث نحوه. وفي أخرى (2) قال: رأيتُ علياً رضي الله عنه أُتي بكرسي، فقعد عليه، ثم أُتي بكوزٍ من ماءٍ، فغسل يده ثلاثاً، ثم تمضمض مع الاستنشاق بماء واحد ... وذكر الحديث. 481 - * روى النسائي عن الحسين بن عليٍّ قال: دعاني أبي عليُّ بوضوءٍ فقربته له، فبدأ فغسل كفيه ثلاث مرات قبل أن يدخلهما في وضوئه، ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاث مراتٍ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم اليسرى كذلك، ثم مسح برأسه مسحةً واحدةً ثم غسل رجلهُ اليمنى إلى الكعبين ثلاثاً، ثم اليسرى كذلك، ثم قام قائماً، فقال: ناولني، فناولته الإناء الذي فيه فضل وضوئه، ثم شرب من فضل وضوئه قائماً، فعجبتُ، فلما رآني، قال: لا تعجبْ، فإني رأيتُ أباك النبي صلى الله عليه وسلم يصنعُ مثل ما رأيتني صنعتُ يقول: لوضوئه هذا وشُرْبِ فضل وضوئه قائماً. وللترمذي (3) [عن عبد خيرٍ] مثله، وفيه فإذا فرغ من طهوره أخذ من فضل طهوره بكفه فشربهُ.
482 - * روى ابن خزيمة عن ابن عباس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة فمضمض استنشق، ثم غرف غرفة فغسل وجهه، ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى، وغرف غرفة فغسل يده اليسرى، وغرف غرفة فغسل يده اليسرى، وغرف غرفة فمسح رأسه وباطن أذنيه وظاهرهما وأدخل أصبعيه فيهما، وغرف غرفة فغسل رجله اليمنى، وغرفة فغسل رجله اليسرى. 483 - *روى الشيخان عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عيه وسلم، فدعا بإناء، فأكْفَأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (1): فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. وفي رواية (2) قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تورٍ من صفرٍ، فتوضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين مرتين، ومسح برأسه، فأقبل به وأدبر، وغسل رجليه. وفي رواية (3) للبخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين.
وله في أخرى (1): أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر وضوءه، قال: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه حتى أنقاهما. وللترمذي (2) بسند حسن صحيح: غسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين وغسل رجليه مرتين، ومسح برأسه مرتين. 484 - * روى أحمد عن يزيد بن البراء بن عازب وكان أميراً بعُمان فكان كخير الأمراء قال: قال أبي اجتمعوا فلأرينكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وكيف كان يصلي فإني لا أدري ما قدر صحبتي إياكم. قال فجمع بنيه وأهله ودعا بوضوءٍ فتمضمض واستنثر وغسل وجهه ثلاثاً وغسل يده اليمنى ثلاثاً وغسل هذه ثلاثاً يعني اليسرى ثم مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وغسل هذه الرجل يعني اليمنى ثلاثاً وغسل هذه الرجل يعني اليسرى ثلاثاً. ثم قال: هكذا ما ألوت أن أيكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. أقول: إنما يفترض الغسل والمسح في الوضوء مرة مرة ويسن الغسل ثلاثاً باتفاق، وبعضهم كره مسح الرأس ثلاثاً وبعضهم أجازه وحمل من كره تثليث المسح رواية تكرار المسح على أنه مسحها من مقدم الرأس إلى قفاه ثم أعادها كما مر في رواية سابقة والأمر واسع. 485 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف الطُّهُور؟ "فدعا بماءٍ في إناءٍ"، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح، بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل
رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، أو نقص فقد أساء وظلم - أو ظلم وأساء". وفي رواية (1) النسائي مختصراً قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الوضوء؟ فأراه: ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم". 486 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه توضأ فغسل وجهه، وأخذ غرفة من ماءٍ، فتمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماءٍ، فجعل بها هكذا - أضافها إلى يده الأخرى - فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماءٍ فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماءٍ فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماءٍ فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى، فغسل بها رجله - يعني اليسرى- ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وله في أخرى (2) قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، لم يزد على هذا. 487 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرني عمر بن الخطاب: أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظُفرٍ على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ارجعْ فأحسنْ وضوءك. قال فرجع فتوضأ ثم صلى". أقول: رأينا أن من شروط صحة الوضوء استيعاب المحل المفروض فمن لم يستوعب لا يصح وضوءه ولا تصح صلاته وعلى مذهب الذين لا يعتبرون الموالاة فريضة فإنه يكفي لمن أهمل شيئاً مما يفترض استيعابه أن يغسل المحل المهمل فقط.
488 - * روى أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدر الدرهم لم يُصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة. 489 - * روى الشيخان عن بعد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلفَ عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "ويلٌ للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثاً. وللبخاري (1): وقد أرهقنا العصرُ. وفي أخرى (2): وقد حضرتْ صلاةُ العصر. ولمسلم (3) قال: رجعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كُنَّا بماءٍ بالطريق تعجل قومٌ عند العصر، فتوضؤوا وهم عجالٌ، فانتهينا إليهم وأعقابُهم تلوحُ لم يمسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار، أسبِغُوا الوضوء". فائدة: (نمسح على أرجلنا) انتزع منه البخاري أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل وفي إفراد مسلم: فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، (فتح الباري 1/ 213).
أقول: فلا متكأ في الرواية الأولى لمن شذ فقال: يكفي مسح الأرجل عن غسلها، ذلك خلاف ما استقر عليه الإجماع. قال في الدين الخالص (1/ 226). بعد عرض أدلة وجوب الغسل للرجلين: والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قد بين للأمة أن المفروض عليهم وهو غسل الرجلين لا مسحهما. فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكلها مصرحة بالغسل، ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين (فإن) كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح، فالواجب الغسل بما وقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من البيان المستمر جميع عمره، وإن كانت غير مجملة، فقد ورد في السنة الأمر بالغسل وروداً ظاهراً. ومنه الأمر بتخليل الأصابع، فإنه يستلزم الأمر بالغسل، لأن المسح لا تخليل فيه، بل يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ أ. هـ. (قال) في حجة الله البالغة (1/ 75): ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية. فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول، وبين من أنكر غزوة بدر وأحد مما هو كالشمس في رابعة النهار ا. هـ. 490 - * روى ابن خزيمة عن ابن مسعود أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء. 491 - * روى أحمد عن أبي هريرة (رفعه) "ويلٌ للأعقاب وبطون الأقدام من النار".
492 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: والله ما خَصَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ دون الناس، إلا ثلاثة أشياء، فإنه أمرنا: أن نُسبغَ الوضوء، ولا نأكل الصدقة، ولا نُنْزِيَ الحُمرَ على الخيل. ونقل ابن خزيمة عن أحد رواة الحديث معللاً للنهي عن إنْزاء الحُمر على الخيل: إن الخيل كانت في بني هاشم قليلة فأحب أن تكثر فيهم. 493 - * روى ابن خزيمة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلىصلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه". 494 - * روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: توضأ للناس كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأُ، فلما بلغ رأسهُ غرف غرفة من ماءٍ، فتلقاها بشماله، حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقْطُر، ثم مسح من مُقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه. 495 - * روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم". 496 - * روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
497 - * روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". فائدة: قال النووي في الأذكار وجاء في التسمية أحاديث ضعيفة، ثبت عن أحمد بن حنبل أنه قال: لا أعلم في التسمية في الوضوء حديثاً ثابتاً ... إلخ عن شرح الزبيدي على الإحياء. أقول: الظاهر أن التسمية ثابتة في السنة لكن حملها الحنفية على الندب أي لا وضوء كاملاً وذلك لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعرابي الوضوء ولم يذكر التسمية ولأن لبعض العلماء كلاماً في ثبوت ذلك في السنة. قال البغوي (1/ 410): قال أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لو ترك التسمية أعاد الوضوء وذهب أكثر العلماء إلى أن تركها لا يمنع صحة الطهارة، والخبر إن ثبت فمحمول على نفي الفضيلة وتأوّله جماعة على النية وجعلوا الذكر ذكر القلب وهو أن يذكر أنه يتوضأ لله امتثالاً لأمره. والتسمية سنة الواجب في ظاهر مذهب أحمد ورواية عنه أنها واجبة في الغسل والوضوء والتيمم، (المغني 1/ 102). 498 - * روى النسائي وابن السني عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فسمعته يقول: "اللهم اغفِرْ لي ذنبي، ووسِّعْ لي في داري، وبارك لي في رزقي".
499 - * روى الطبراني في الصغير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فإن حفظتك لا تبرحُ تكتبُ لك الحسنات حتى تحدِثَ من ذلك الوضوء ... ". أقول: قد مر معنا من قبل أنه يندب للمتوضيء أن يختم وضوءه بالشهادتين وبالدعاء: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين وقوله سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك". التخليل والسواك: 500 - * روى الترمذي والحاكم عن ابن عباسٍ رفعه: "إذا توضأت فخلِّلْ أصابع يديك ورجليك". 501 - * روى الترمذي عن لقيط بن صبرة: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال "أسبغ الوضوء وخللْ بين الأصابع، وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً". 502 - * روى أبو يعلي عن شقيقٍ قال توضأ عثمان بن عفان فخلل أصابع رجليه وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. 503 - * روى أحمد عن المستورد بن شدادٍ رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلُكُ أصابع رجليه بخنصره.
504 - * روى الترمذي عن حسان بن بلال المزني قال: "رأيت عمار بن ياسر توضأ، فخلل لحيته، فقيل له - أو قال: فقلت له - أتخللُ لحيتك؟ قال: وما يمنعني؟ ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُخللُ "لحيتهُ". أقول: يُسن تخليل اللحية الكثّة بكف ماء من أسفلها وتخليل أصابع اليدين والرجلين باتفاق الفقهاء. 505 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"- وفي أخرى (1): "لولا أن أشق على أمتي، أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة". 506 - * روى مسلم "لولا أن أشق على المؤمنين" - وفي رواية (2): "على أمتي - لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وفي رواية (3) أبي داود: "لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة". 507 - * روى أحمد بإسناد حسن "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلوةٍ بوضوء ومع كل وضوءٍ بسواكٍ". 508 - * روى أبو داود عن زيد بن خالد الجُهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشُق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، قال أبو
سلمة - هو ابن عبد الرحمن-: فرأيتُ زيداً يجلسُ في المسجد، وإن السواك من أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، فكلما قام إلى الصلاة استاك". 509 - * روى الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لزمتُ السواك حتى خشيتُ أن يُدردني". 510 - * أخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوضع له ووضؤه وسواكه، فإذا قام من الليل تخلى، ثم استاك". 511 - * روى مسلم عن شُريح بن هانئ قال: "سألت عائشة: بأي شيءٍ كان يبدأُ رسول الله صلى الله علي وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك". 512 - * روى الشيخان عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يَشُوصُ فاهُ بالسواك". وفي أخرى (1) لمسلم "أنه كان إذا قام ليتهجَّدَ". وفي رواية (2) النسائي قال: "كنا نؤمَرُ بالسواك إذا قمنا من الليل: أن نَشُوص أفوانا بالسواك".
513 - * روى الطبراني عن زيد بن خالد الجُهني قال ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته لشيءٍ من الصلوات حتى يستاك. 514 - * روى أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السواكُ مطهرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب". 515 - * روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنُّ بسواك بيده، ويقول: "أُغْ أُغْ"، والسواك في فيه، كأنه يتهَوَّعُ". وعند (1) مسلم قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وطرف السواك على لسانه" وعند أبي (2) داود قال: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحملُه، فرأيته يستاكُ على لسانه". قال أبو داود: قال سليمان "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك، وقد وضع السواك على طرف لسانه، وهو يقول: "إهْ إهْ- يعني: يتهوَّع" قال مسدَّد: كان حديثاً طويلاً اختصرتُه. وعند النسائي (3) قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسْتَنُّ، وطرف السواك على لسانه، وهو يقول: "عأْ عأْ".
516 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أكثرتُ عليكم في السواك". 517 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أراني في المنام أتسوَّكُ بسواكِ، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّرْ، فدفعته إلى الأكبر منهما". 518 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنُّ وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فأوحي إليه في فضل السواك: أن كبِّرْ، أعْطِ السواك أكبرهما. 519 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيُعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاكُ، ثم أغسله وأدفعه إليه". 520 - * روى الطبراني عن أبي خيرة الصُّبَاحي قال: كنتُ في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزودنا الأراك نستاكُ به. فقلنا يا رسول الله: عندنا الجريدُ ولكنا نقبلُ كرامتك وعطيتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفرْ لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير مُكْرهين إذ قعد قومٌ لم يُسلموا إلا خزايا موتورين". أقول (1): السواك أو ما ينوب منابه من فرشاة أو خرقة أو إصبع لتنظيف الأسنان وما حولها من سنن الفطرة، وهو مسنون في كل وقت وسنة عند الحنفية لكل وضوء عند المضمضمة ومن فضائل الوضوء عند المضمضة عند المالكية، وعند الشافعية والحنابلة سنة عند الوضوء بعد غسل الكفين وقبل المضمضة ولتغير رائحة الفم أو الأسنان بنوم أو أكل أو جوع أو
سكوت طويل أو كلام كثير، وهو سنة مستحبة عند كل صلاة، ويتأكد للصلاة ولتغير الفم واصفرار السنان ولقراءة القرآن أو حديث شرعي أو علم شرعي أو ذكر لله تعالى، أو لدخول منزل أو عند الاحتضار وفي السحر وبعد الوتر، وقال الشافعية ويسن التخلل قبل السواك وبعده من آثار الطعام، ويكره عند الشافعية والحنابلة السواك للصائم بعد الزوال ولا يكره عند المالكية والحنفية. ويستاك الإنسان بيده اليمنى مبتدئاً بالجانب الأيمن عرضاً بالنسبة للأسنان لا طولاً من ثناياه إلى أضراسه اليمنى ثم إلى أضراسه اليسرى أما اللسان فيسن أن يستاك فيه طولاً ولا يستعمل للاستياك شيئاً يؤذي (الفقه الإسلامي 1/ 300 - 303). غسل اليدين: 521 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري: أين باتتْ يدهُ؟ ". وفي رواية (1) قال: "إذا استيقظ أحدكم فليفرغ على يده ثلاث مرات قبل أن يدخل يده في إنائه، فإنه لا يدري فيما باتت يدُه؟ ". وفي رواية (2) "حتى يغسلها" - ولم يقل: ثلاثاً. وقد أخرج (3) البخاري هذا المعنى بزيادة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدُكم فليجعلْ في أنفه، ثم لينثُر، ومن استجمر فليوترْ، وإذا استيقظ أحدُكم من نومه فيغسل يده قبل أن يُدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتتْ يدُه".
وأخرج الموطأ (1) رواية البخاري بزيادة، وأخرج أبو داود الرواية (2) الأولى: وله (3) وللترمذي (4) "حتى يُفرغ عليها مرتين أو ثلاثاً". ولأبي داود (5) أيضاً "فإنه لا يدري أين بات يدُهُ؟ " أو أين كانت يده تطوفُ؟ ". فائدة: قال في (حجة الله البالغة): معناه أن بعد العهد بالتطهر والغفلة عنهما ملياً مظنة لوصول النجاسة والأوساخ إليهما مما يكون إدخال الماء معه تنجيساً له أو تكديراً أو شناعة (1/ 180). قال الشيخ وهبي وغسل اليدين إلى الرسغين سنة في الوضوء كان بعد الاستيقاظ من النوم أولاً، والله أعلم. 522 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمِسْ يدَهُ في إنائه أو في وضوئه، حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين أتت يده منه". الاستنثار والاستنشاق والمضمضة: 523 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر". وفي رواية (6) عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله.
وفي رواية (1) لمسلم عن أبي هريرة- يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً، وإذا توضأ أحدُكم فليجعلْ في أنفه ماءً، ثم لينتثر". وفي أخرى (2): أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدُكم فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثرْ". 524 - * روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: دعا بوضوءٍ، فمضمض، واستنشق، ونثر بيده اليسرى، ثم قال: هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم". 525 - * روى الترمذي عن عبد الله بن زيد بن عاصم بن عمرو بن عوف المازني رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم: مضمض واستنشق من كفٍّ واحد فعل ذلك ثلاثاً". 526 - * روى الجماعة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لبناً، فدعا بماءٍ، فمضمض، وقال: "إن له دسماً". 527 - * روى البخاري عن سويد بن النعمان رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كنا بالصهباء- وهي من أدنى خيبر - صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما
صلى دعا بالأطعمة فلم يُؤتَ إلا بالسويق، فأمر به، فثُري، وأكل وأكلنا، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ". 528 - * روى مالك عن أبان بن عثمان رحمه الله أن عثمان بن عفان أكل خُبزاً ولحماً، ثم مضمض وغسل يديه، ومسح بهما وجهه، ثم صلى، ولم يتوضأ". أقول: تندب للإنسان المضمضة إذا قام إلى الصلاة بعد طعام أو شراب يبقى أثره في الفم وفي الأصل فإنه يندب للإنسان السواك عند كل صلاة. 529 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثرْ ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيتُ على خياشيمه". 530 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استنثروا مرتين بالغتين، أو ثلاثاً". أقول: المضمضة والاستنشاق والاستنثار سنن مؤكدة عند الجمهور غير الحنابلة، فالمشهور عند الحنابلة أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء وفي الغُسْل. 531 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه من رواية نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أُمَّتي يُدْعَونَ يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّتَه فليفعل".
وفي رواية (1) قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ: فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال لي: هكذا رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وقال: قال النبي صلى الله ليعه وسلم: "أنتم الغُرُّ المحجلون يوم القيامة: من إسباغ الوضوء" فمن استطاع منكم فليُطل غُرته وتحجيله. وفي أخرى (2) أنه رأى أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً مُحجلين، من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". ولمسلم (3) من رواية أبي حازم قال: كنت خلْفَ أبي هريرة، وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمُدُّ يده حتى تبلُغ إبطَهُ، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فرُّوخَ، أنتم هاهنا؟ لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلُغ الحِلْيَةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوءُ". 532 - * روى الطبراني عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أمتي أحدٌ إلا وأنا أعرفُه يوم القيامة" قالوا يا رسول الله من رأيت ومن لم تر قال "من رأيت ومن لم أر غراً محجلين من آثار الطهور". أقول: إطالة الغرّة تكون بغسل زائد على الواجب من الوجه من جميع جوانبه والتحجيل يكون بغسل زائد على الواجب من اليدين والرجلين إلى ما فوق المرفقين والكعبين وهما مندوبان عند الجمهور، ويكره المالكية إطالة الغرة وتأولوا أحاديث إطالة الغرة.
- في مقدار الماء
- في مقدار الماء: 533 - *روى الشيخان عن أنس بن مالك رض الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصَّاعِ إلى خمسة أمْدادٍ، ويتوضأ بالمُدِّ. وفي رواية (1) كان يغتسل بخمس مكاكيك، ويتوضأ بمكُّوك. وفي رواية (2): بخمس مكاكيَّ. وفي رواية الترمذي (3): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجزيءُ في الوضوء رطلان ماءٍ". وفي أخرى (4) له: أنه كان يتوضأ بالمكُّوك، ويغتسل بخمس مكاكيكَ. 534 - * روى مسلم عن سفينة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغسِّلُه الصاعُ من الماء من الجنابة، ويوضئه المدُّ. 535 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيءُ من الوضوء المُدُّ ومن الجنابة الصاعُ" فقال له رجل: لا يكفينا ذلك يا جابر؟ فقال: قد كفى من هو خيرٌ منك وأكثرُ شعراً.
- آداب تتعلق بالوضوء
قال: ابن خزيمة في قوله صلى الله عليه وسلم: "يجزيءُ من الوضوء المد"، دلالة على أن توقيت المد من الماء للوضوء، أن ذلك يجزيءُ، لا أنه لا يجوز النقصان منه ولا الزيادة فيه. 536 - * روى أبو داود عن أم عُمارة رضي الله عنها أن النبي صلى الله ليه وسلم توضأ، فأُتِيَ بإناءٍ فيه ماء قدر ثلثي المدِّ. وزاد النسائي (1): قال شعبة: فأحفظُ: أنه غسل ذراعيه، وجعل يدلكُهما، ومسح أذنيه باطنهما، ولا أحفظ أنه مسح ظاهرهما. أقول: من مكروهات الوضوء الإسراف في صب الماء بأن يستعمل منه فوق الحاجة الشرعية أو ما يزيد على الكفاية، ومن الإسراف الزيادة على الثلاث في الغسلات وعلى المرة الواحدة في المسح عند الجمهور غير الشافعية، والكراهة تنزيهية إلا إذا اعتقد أن ما زاد على الغسلات الثلاثة من أعمال الوضوء فتكون الكراهة تحريمية أما إذا زاد للنظافة أو للطمأنينة، ونحوها فلا كراهة، والإسراف في الماء الموقوف على الوضوء كالماء المُعَدِّ للوضوء في المساجد كراهته تحريمية. - آداب تتعلق بالوضوء: 1 - استعمال الطيب: 537 - * روى الطبراني عن يزيد بن أبي عبيدٍ أن سلمة بن الأكوع كان إذا توضأ يأخذ المِسْكَ فيديفُه في يده ثم مسح به لحيته.
2 - إحسان الوضوء
2 - إحسان الوضوء: 538 - * روى أحمد عن عبد الملك بن عمير قال سمعت شبيباً أبا روح من ذي الجلاع أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ بالروم فتردد في آية فلما انصرف قال: "إنه لُبِسَ علينا القرآن إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء". 3 - التوضؤ لكل صلاة: 539 - * روى البخاري عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأُ لكلِّ صلاةٍ، قيل كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزيءُ أحدنا الوضوء مالم يُحدِثْ. 540 - * روى مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى الصلوات بوضوءٍ واحدٍ فقال عمر: فعلت شيئاً لمْ تكُنْ تفعلهُ قال: "عمداً فعلتُهُ يا عمر". 541 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر بوضوءٍ واحد.
4 - التيامن
542 - * روى ابن خزيمة عن محمد بن يحيى بن حبان سأل عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهرٍ عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً كان أو غير طاهرٍ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووُضع عنه الوضوء إلا من حدث. وكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك، ففعله حتى مات. هذا حديث يعقوب بن إبراهيم، غير أن محمد بن منصور قال: وكان يفعله حتى مات. 4 - التيامن: 543 - * روى الستة عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامُن ما استطاع في شأنهِ كله في طوهره وترجُّله وتنعُّله. 5 - كراهة الكلام في الوضوء: 544 - * روى ابن خزيمة عن المهاجر بن قُنْقُذ بن عمر بن جدعان: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: "إني كرهت أن أذكُر الله إلا على طُهْر" أو قال: "على طهارة". وكان الحسنُ يأخذ به.
نواقض الوضوء
أقول: لا يُسلم على من يتوضأ ومن سُلم عليه فلا يجبُ عليه أن يرد السلام حتى ينتهي من وضوئه. نواقض الوضوء: قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (1) وذلك كناية عن الحدث من بول أو غائط. واتفق الفقهاء أن كل خارج من أحد السبيلين معتاد كبول أو غائط أو ريح أو مذي أو ودي أو مني أو غير معتاد كدودة وحصاة ودم، قليلاً كان الخارج أو كثيراً فإنه ينقض الوضوء، والمني ينقض الوضوء ويوجب الغسل وكذلك دم الحيض والنفاس بعد الطهر واستثنى الحنفية في الأصح ريح القبل فهو غير ناقض لأنه اختلاج. واستثنى المالكية الخارج غير المعتاد من المخرج المعتاد في حال الصحة، وأصحاب الأعذار لهم أحكامهم كما سنرى. وقد سبق في العرض الإجمالي ذكر تعداد نواقض الوضوء. وإلى عرض النصوص. - من النواقض: الصوت والريح: 545 - * روى الترمذي عن علي بن طلقٍ رضي الله عنه قال: أتى أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الرَّجلُ منَّا يكونُ في الفلاة، فتكون منه الرُّويْحَةُ، ويكون في الماء قِلَّةٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فسا أحدكم فليتوضأْ، ولا تأتُوا النساء في أعجازهنَّ، فإن الله لا يستحي من الحقِّ". وفي رواية (2) أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فسا أحدُكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعُد الصلاة".
- المذي والوضوء منه
546 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تُقْبَلُ صلاةُ من أحدث حتى يتوضأ فقال رجلٌ من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُساءٌ، أو ضُراط. وفي رواية (1) قال: "لا وضوء إلا من حدثٍ"، قال له رجل أعجمي: ما الحدث؟ قال: فُساءٌ أو ضُراط". - المذي والوضوء منه: 547 - * روى الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال محمد بن الحنفية: قالع عليٌّ: كنتُ رجلاً مذاءً، فاستحييتُ أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكان ابنته، فأمرتُ المقداد بن الأسود، فسأله؟ فقال: "يغسلُ ذكره ويتوضأُ". ولأبي (2) داود عن عروة عن علي بن أبي طالب: قال للمقداد ... فذكر نحو هذا، يعني: رواية الموطأ (3)، قال: فسأله المقداد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليغْسِلْ ذكره وأُنثَييه". وله في أخرى (4) قال: كنتُ رجلاً مَذَّاءً، فجعلتُ أغتسلُ، حتى تشقق ظهري، قال: فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله لعيه وسلم - أو ذُكِرَ له - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلْ، إذا رأيت
فائدة
المذي فاغسلْ ذكرك، وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخْتَ الماء فاغتسلْ". وفي رواية (1) الترمذي قال عليٌّ: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغُسْلُ". فائدة: قال الإمام النووي في شرح حديث علي في مسلم أرسلنا المقداد وفيه "انضح فرجك" اغسله فن النضح يكون غسلا ويكون رشاً وقد جاء في الرواية الأخرى "يغسل ذكره" فتعين حمل النضح عليه ا. هـ. 548 - * روى أبو داود عن سهل بن حنيفٍ رضي الله عنه قال: كنتُ ألقى من المذي شدةً وعناءً، وكنتُ أُكثرُ منه الاغتسال، فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "إنما يُجزيك من ذلك الوضوءُ"، قلتُ: يا رسول الله، كيف بما يُصيب الثوب منه؟ فقال: "يكفيك أن تأخذ كفاً من ماءٍ فتنضح به حيثُ ترى أنه أصاب من ثوبك". 549 - * روى أبو داود عن عبد الله بن سعدٍ الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يُوجِبُ الغسل؟ وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: "ذاك المذيُ، وكلُّ فحلٍ يمذي، فلتغسِلْ من ذلك فرجك وأُنْثَييك، وتوضأْ وضوءك للصلاة". 550 - * روى مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إني لأجده ينحدر مني
- القيء والدم وحكم الوضوء منهما
مثل الخُريزة، فإذا وجد ذلك أحدُكم فليغسلْ ذكرهُ، وليتوضأ وضوءه للصلاة- يعني المذي". أقول: يحتمل أن المراد بما ذكره عمر الودي فهو الذي يخرج عادة كثيفاً أبيض عقب البول. - القيء والدم وحكم الوضوء منهما: 551 - * روى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاءَ وكان صائماً، فتوضأ، قال معدانُ: ولقيتُ ثوبان في مسجد دمشق، فسألتُه؟ فقال: صدق، وأنا صببتُ له وضوءه". أقول: قال الحنفية والحنابلة: إن القيء ينقض الوضوء، والنقض عند الحنفية: إذا كان القيء ملء الفم وهو ما لا ينطبق عليه الفم إلا بتكلف، والنقض عند الحنابلة إذا كان القيء كثيراً فاحشاً وهو ما يستكثره صاحبه. وهذا حكم القيء عندهم سواء كان طعاماً أو ماء أو دماً من المعدة أو صفرا، أما البلغم والبصاق والنخامة فإنها طاهرة، والجشاء وهو الريح الذي يخرج من فم الإنسان لا ينقض الوضوء، وقال المالكية والشافعية: إن القيء لا ينقض الوضوء وحملوا هذا الحديث على أن المراد به الغسل للتنظيف. 552 - * روى مالك عن المسور بن مخرمة أنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الليلة التي طُعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى عمر، وجُرْحُ يثْعَبُ دماً. 553 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال (1): خرجنا مع رسول الله
- حكم القبلة واللمس
صلى الله عليه وسلم "يعني: في غزوة ذات الرِّقاع - فأصاب رجلٌ امرأة رجلٍ من المشركين، فحلف: أن لا أنتهي حتى أهريق دماً من أصحاب محمدٍ، فخرج يتبعُ أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلاً، فقال: "مَنْ رجلٌ يكلؤُنا؟ " فانتْدِب رجلٌ من المهاجرين، ورجلٌ من الأنصار فقال: "كونا بفَمِ الشعْبِ" فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجريُّ، وقام الأنصاري يُصلي، فأتى الرجل، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئةٌ للقوم، فرماه بسهمٍ، فوضعه فيه، ونزعه، حتى رماه بثلاثة أسهُم، ثم ركع وسجد، ثم أنبه صاحبه، فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب، فلما رأى المهاجريُّ ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: كنتُ في سورةٍ أقرؤها، فلم أُحِبَّ أن أقطعها. أقول: قال الحنفية: الدم والقيح والصديد ناقض للوضوء إذا سال إلى موضع يلحقه حكم التطهير وهو ظاهر الجسد، وقال الحنابلة: إذا كان الدم كثيراً بالنسبة لكل إنسان بحسبه فإنه ناقض، وقال المالكية، والشافعية: لا ينتقض الوضوء بالدم ونحوه، ولكلٍ دليله، وكل قد وجه النصوص الواردة بما يتفق مع مذهب، فمثلاً كانت حالة عمر ضرورة، وكان فعل الصحابي اجتهاداً منه، وقد طعن الحنفية في الحديث. - حكم القبلة واللمس: 554 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبَّل امرأةً من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأْ، قال عروةُ: فقلتُ لها: ومن هي إلا أنتِ؟ فضحكَتْ".
حكم الوضوء من مس الذكر
وفي رواية (1): "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّلها ولم يتوضأ". وفي رواية (2): "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه، ثم يصلي ولا يتوضأ". أقول: قال الحنفية إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء إلا في حالة المباشرة الفاحشة وهي أن يضع كل عضو منه على كل عضو منها دون أن يلتقي الختانان، لأنه إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. وقال المالكية ينتقض الوضوء بلمس المتوضيء البالغ لشخص يُلتذ به عادة إذا كان اللمس بشهوة ولذة، والقبلة بالفم تنقض الوضوء عندهم، أما في غير الفم فإنها لا تنقض الوضوء إلا إذا كانت بشهوة، وقال الحنابلة في المشهور: ينتقض الوضوء من لمس النساء بشهوة من غير حائل إذا كان الملموس مشتهى عادة، فلا يدخل في ذلك الطفل والطفلة، وقال الشافعية ينتقض الوضوء بلمس الرجل المرأة الأجنبية غير المحرم ولو ميتة أو عجوزاً أو شيخاً هرماً من غير حائل بينما ولو من غير قصد، ولا ينقض مسُّ شعر وسن وظفر، ولا ينتقض الوضوء بلمس صغير أو صغيرة لا يشتهي أحدهما عند ذوي الطباع السليمة. حكم الوضوء من مس الذكر: 555 - * روى أبو داود عن طلق بن عليٍّ اليماني رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجلٌ كأنه بدويٌّ، فقال يا نبي الله، ما ترى في مسِّ الرجل ذكرَهُ بعد ما يتوضأ؟ فقال: "وهل هو إلا مُضغةٌ منه- أو بضعةٌ منه؟ ". وأما الترمذي (3): فإنه لم يخرج من الحديث إلا قوله: "هل هو إلا مُضغة منه- أو بضعة منه؟ " إلا أنه أخرجه في باب ترك الوضوء من مس الذكر.
وأما النسائي (1) فإنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصلينا معه، فلما قضى الصلاة جاءه رجلٌ ... وذكر الحديث. 556 - * روى الترمذي عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فلا يُصلي حتى يتوضأُ". وفي رواية (2) الموطأ عن محمد بن عمرو بن حزمٍ قال: سمعت عروة بن الزبير يقول: دخلتُ على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء؟ فقال مروان: مِنْ مس الذكر الوضوءُ. قال عروة: ما علمتُ هذا. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" وأخرج أبو داود (3) والنسائي (4) رواية الموطأ وللنسائي (5) نحوه، وفيه: قال عروة: فلم أزلْ أُماري مروان، حتى دعا رجلاً من حرسه، فأرسله إلى بُسرة، وسألها عما حدثت من ذلك؟ فأرسلت إليه بسرة بمثل الذي حدثني عنها مروانُ. وأخرج النسائي (6) رواية الترمذي، وله في أخرى (7) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ فرجَهُ فليتوضأ". وفي أخرى (8): "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ".
- الوضوء من النوم
- زاد في الأوسط (1) والكبير بعد ذكره أو أنثييه أو رَفغيه. ونقل ابن خزيمة عن مالك وأحمد استحباب الوضوء من مس الذكر دون الوجوب. أقول: قال الحنفية: لا ينتقض الوضوء بمس القبل أو الدبر، وقال المالكية: ينتقض الوضوء بمس الذكر لا بمس الدبر إذا مسه عمداً أو سهواً من غير حائل ببطن الكف أو جنبه أو ببطن إصبع وبجنبه لا بظهره، وذلك عندهم في حق البالغ والبالغة، وقال الشافعية والحنابلة: ينتقض الوضوء بمس قبل ودبر من المرأة والرجل من نفس الإنسان أو من غيره، صغيراً أو كبيراً حياً أو ميتاً ولا يفرِّق الحنابلة بين باطن الكف وظهره، والشافعية لا يرون أن ظاهر الكف وحرفه ورؤوس الأصابع وما بينها ينقض الوضوء، والذي ينقض الوضوء عندهم هو ما يستتر عند وضع إحدى الراحتين على الأخرى مع تحامل يسير وفي الإبهامين بوضع باطن أحدهما على باطن الآخر فما استتر من الكف بهذا الضابط هو الذي ينقض الوضوء، وكل من الأئمة وجه ما ورد بما يتفق مع مذهبه أو اعتبر ما خالفه منسوخاً أو ضعيفاً أو أقل صحة. (الفقه الإسلامي 1/ 277 - 279). - الوضوء من النوم: 557 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينام جالساً ثم يُصلي ولايتوضأ. 558 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قتادةُ: قال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عيه وسلم ينامون ثم يُصلون ولا يتوضؤون، قال: قلت: أسمعته من أنس؟ قال: إيْ والله.
559 - * روى أبو داود عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكاءُ السَّهِ العينان فمن نام فليتوضأ". أقول: هذا محمول على من نام غير ممكنٍ مقعدته من الأرض أو نام عل هيئة يتوقع معها خروج شيء منه، أما من مكن مقعدته من الأرض أو كان على هيئة لا يتوقع معها خروج شيء منه فلا ينتقض وضوؤه. 560 - * روى أحمد عن رجل قال رأيتُ نبي الله صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ ثم صلى ولم يتوضأ. وهناك روايات تذكر أن ذلك كان في سجوده عليه الصلاة والسلام. أقول: قال الحنفية والشافعية: إن النوم الناقض للوضوء هو الذي لم تتمكن فهي المقعدة من الأرض أو محل الجلوس الذي لا يتوقع معه خروج شيء، ولا ينتقض الوضوء عند الحنفية بالنوم حالة القيام والقعود والسجود في الصلاة وغيرها، لأن بعض الاستمساك باق إذ لو زاد لسقط، فلم يتم الاسترخاء. وقال المالكية والحنابلة: إن النوم الخفيف أو اليسير لاينقض، أما النوم الثقيل فينقض الوضوء، وتعرف النوم الثقيل عند المالكية: هو ما لم يشعر صحبه بالأصوات أو بسقوط شيء من يده أو بسيلان ريقه ونحو ذلك، فإذا شعر بذلك فنومه خفيف ولو طال زمنه فلا ينقض، والنوم اليسير ند الحنابلة: هو ما كان يسيراً عرفاً من جالس أو قائم، فهم كالشافعية في غير الجالس ويزيدون على الحنفية أن النوم الكثير في كل الأحوال ناقض، فإن نام، وشكَّ هل نومه كثير أو يسير اعتبر طاهراً وإن رأى رؤيا فهو نوم كثير. (رد المحتار 1/ 95 المغني 1/ 173 الفقه الإسلامي 1/ 270 - 273).
الوضوء مما مست النار
561 - * روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت في حديث الكسوف: قمت حتى تجلاني الغشيُ، وجعلتُ أُصبُّ فوق رأسي ماء، قال عروة: ولم تتوضأ. هذا طرف من حديث طويل. أقول: لم يصل الحال مع أسماء رضي الله عنها إلى الإغماء الكامل ولذلك لم تتوضأ، أما الإغماء الكامل فإنه يذهب معه الحس وقد يترتب عليه خروج شيء من أحد السبيلين فهو أشد من النوم، فيكون ناقضاً للوضوء، والحديث اللاحق يدل على ذلك. 562 - * روى الشيخان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: بلى، ثَقُل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلي الناسُ؟ " قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: "ضعُوا لي ماء في المخضب"، قالت: ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينُوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: "أصلَّي الناسُ"؟ قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: "ضعُوا لي ماء في المخضب"، قالت: ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال: "أصلي الناسُ؟ " قلنا، لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: "ضعوا لي ماء في المخصب"، قالت: ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلي الناسُ؟ " فقلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله. الوضوء مما مست النار: 563 - * (1) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وجده عبد الله بن قارظٍ يتوضأ على
ظهر المسجد، فقال: إنما أتوضأ من أثوارِ أقِطٍ أكلتُها، لأني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: "توضئوا مما مست النارُ". 564 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله، قال: كان آخرُ الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترك الوضوء مما مستِ النارُ". 565 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاةٍ وصلى ولم يتوضأْ"، وللبخاري (1): "أنه انتشَلَ عرقاً من قدرٍ" وفي أخرى (2): "تعرقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كتفاً"، ولمسلم (3): "أنهُ أكل عرقاً أو لحماً ثم صلى ولم يتوضأ، ولم يمس ماءً". وأخرج أبو داود (4): "أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتفاً ثم مسح يدهُ بمسحٍ كان تحتهُ، ثم قام فصلى" وفي أخرى (5): "انتهَشَ منْ كتفٍ، ثم صلى، ولمْ يتوضأ". وفي رواية (6) النسائي قال: "شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل خُبزاً ولحماً، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأْ".
566 - * روى الشيخان عن ميمونة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفاً، ثم صلى ولم يتوضأ". أقول: الأكل مما طبخ لا يؤثر على نقض الوضوء، ففعل أبي هريرة إما من باب الورع، وأما لأنه لم يعرف أن الحكم قد نسخ، قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (4/ 43) (واحتج هؤلاء بحديث توضؤوا مما مست النار، واحتج الجمهور بالأحاديث الواردة بترك الوضوء مما مسته النار وأجابوا عن حديث الوضوء مما مست النار بجوابين: أحدهما أنه منسوخ بحديث جابر رضي الله عنه، قال: كان آخر الأمرين. فذكره والجواب الثاني: أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار، ا. هـ ملخصاً). وجمع الخطابي وغيره بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب. (انظر إعلاء السنن 1/ 106). 567 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري رضي الله عنه "أن أنس بن مالك قدم من العراق، فدخل عليه أبو طلحة وأُبيُّ بن كعبٍ، فقرب لهما طعامً قد مسته النار، فأكلوا منه، فقام أنسٌ فتوضأ، فقال له أبو طلحة وأُبيُّ بن كعب: ما هذا يا أنسُ؟ أعراقيةٌ؟ فقال أنس: ليتني لم أفعلْ، وقام أبو طلحة وأُبيُّ بن كعبٍ، فصليا ولم يتوضأ". قال الزرقاني في "شرح الموطأ" أي: أبالعراق استفدت هذا العلم وتركت عمل أهل المدينة المتلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزرقاني في "شرح الموطأ": فدل فعلهما وإنكارهما - وهما من هما - على أنس ورجوعه إليهما، على أن إجماع أهل المدينة على أن لا وضوء مما مست النار (1)، وهو من
الحجج القوية الدالة على نسخ الوضوء منه، ومن ثم ختم به الباب - يعني مالكاً في الموطأ - وهو يفيد أيضاً رد ما ذهب إليه الخطابي من حمل أحاديث الأمر على الاستحباب، إذ لو كان مستحباً ما ساغ إنكارهما عليه، والله أعلم. 568 - * روى الطبراني عن وائل بن داود عن إبراهيم قال: الوضوء مماخرج وليس مما دخل والصوم مما دخل وليس مما خرج. وروى هذا الحديث مرفوعاً لكن لم يصح، وروى نحوه البيهقي موقوفاً على ابن عباس بسند صحيح، وهذا من جملة أدلة من قال بعدم الوضوء مما مست النار. 569 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأْ، وإن شئت فلا تتوضأْ"، قال: أتوضأْ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم" فتوضأ من لحوم افبل، قال: أُصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". وذكر النووي أن النهي نهي كراهة لما ذكر. قال الحافظ ولي الدين العراقي: يحتمل أن يكون قوله "فإنها من الشياطين" على حقيقته، وإنها أنفسها شياطين، وقد قال أهل الكوفة: إن الشيطان كل عاتٍ متمرد من الإنس والجن والدواب أو مشبهة بها في النفرة والتشويش أو مقارنة لها، فقد روى النسائي وابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي مرفوعاً: على ظهر كل بعير شيطان، فإذا ركبتموها فسموا الله. الحديث. 570 - * روى أبو داود عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: (1) "سُئلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن
- مما يستحب له الوضوء
الوضوء من لوحم الإبل؟ فقال: "توضؤوا منها"، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: "لا توضؤوا منها"، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: "لا تصلُّوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين"، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: "صلوا فيها، فإنها بركةٌ". وأخرج الترمذي إلى قوله: "لاتوضؤوا (1) منها". أقول: لا ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل إلا عند الحنابلة، واعتبره غيرهم منسوخاً، أما هم فيذهبون إلى أن أكل لحم الإبل على كل حال نيئاً ومطبوخاً ينقض الوضوء علم بذلك الأكل أو لم يعلم. جاء في إعلاء السنن: عن: أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً: إذا كان أحدكم على وضوء فأكل طعاماً فلا يتوضأ إلا أن يكون لبن الإبل إذا شربتموه، فتمضمضوا بالماء". رواه الطبراني في الكبير والضياء (كنز العمال 5: 79) قلت: أما إسناد الطبراني فقال في مجمع الزوائد (1: 102): لم أر من ترجم أحداً منهم، وأما إسناد الضياء فصحيح على قاعدة الإمام السيوطي المذكورة في خطبة كنز العمال. ثم قال: (فالوضوء) هنا محمول على المضمضة فإن الحديث يفسر بعضه بعضاً، (إعلاء السنن 1/ 108 - 109). - مما يستحب له الوضوء: 571 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كُنَّا لا نتوضأ من موطيءٍ، ولا نكُفُّ شعراً ولا ثوباً".
572 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحبُّ إليَّ من أن أتوضأ من الطعام الطيب. 573 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجلٌ يصلي مسبلٌ إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فتوضأْ"، فذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: "إنه كان يصلي وهو مسبلٌ إزاره، وإن الله لا يَقبلُ صلاة رجلٍ مُسبلٍ إزاره". أقول: هذان النصان: أصلان لما ذهب إليه بعضهم أن الإنسان إذا ارتكب كبيرة أو صغيرة يندب له أن يتوضأ فهذا إنسان خالف السنة في إسبال الإزار فأُمر أن يتوضأ بسبب ذلك وابن مسعود يرى الوضوء من الكلمة الخبيثة. 574 - * روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا رعف انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى، ولم يتكلم". أقول: اتفق الفقهاء على أن من سبقه حدث في الصلاة فالأفضل في حقه سواء كان إماماً أو مأموماً، أن يذهب ويتوضأ ويستأنف صلاته وأجازوا له أن يذهب فيتوضأ ويكمل صلاته بشروط كثيرة وتفصيلات كثيرة، ومن أدلتهم في ذلك فعل ابن عمر الذي مر معنا. 575 - * روى أبو يعلي عن جابر قال: سُئل عن الرجُل يضحَكُ في الصلاة، قال: يعيدُ الصلاة ولا يعيد الوضوء. أقول: قال الحنفية إذا ابتسم الإنسان في الصلاة فلا تبطل صلاته ولا ينتقض وضوؤه، والقهقهة ما يكون مسموعاً لجيرانه، والضحك ما يسمعه دون جيرانه (1)، والتبسم
- آداب الانصراف من الصلاة لمن انتقض وضوؤه
ما لا صوت فيه وإن بدت به الأسنان. ويستدل الحنفية لوجوب الوضوء لمن ضحك في الصلاة قهقهة بما ورد عن أبي العالية الرياض أن أعمى تردى في بئر والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه فضحك بعض من كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة، رواه عبد الرزاق ورجاله رجال الصحيحين وفي آثار السنن إسناده مرسل قوي ا. هـ وللحديث روايات أخرى مسندة ومرسلة. (انظر إعلاء السنن 1 - 95 - 98 ونصب الراية 1/ 47). - آداب الانصراف من الصلاة لمن انتقض وضوؤه: 576 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في صلاته فلينصرفْ، فإن كان في صلاة جامعةٍ، فليأخذْ بأنفه ولينصرفْ". 577 - * روى الطبراني عن جرير أن عمر صلى بالناس فخرج من إنسان شيءٌ فقال عزمتُ على صاحب هذا إلا توضأ وأعاد الصلاة، فقال جريرٌ لو تعزمُ على كل من سمعها أن يتوضأ ويعيد الصلاة فقال نعم قلت جزاك الله خيراً فأمرهم بذلك. وهذا دخل في باب الستر على من خرج منه ريح كما يدخل في باب الذوقيات التي يحسن بالمسلم مراعاتها.
حكم الشك في الوضوء
حكم الشك في الوضوء: 578 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا وضوء إلا من صوتٍ أو ريحٍ". في رواية (1): قال: "إذا كان أحدُكم في المسجد فوجد ريحاً ين إليتيْهِ، فلا يخرجْ حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً". في رواية (2): مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء، أم لا، فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمَعَ صوتاً أو يجد ريحاً". في رواية (3): أبي داود قال: "إذا كان أحدُكم في الصلاة، فوجد حركةً في دُبره: أحدث أو لم يُحدث، فأشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً. 579 - * روى الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يدخل إليه في صلاته أنه أحدث في صلاته ولم يُحدثْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته حتى يفتح مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ولم يُحدث فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوت ذلك بأُذُنه أو يجد ريح ذلك بأنفه". ولأحمد (4): "إن أحدكم إذا كن في الصلاة جاءه الشيطانُ فأنس به كما يأنسُ
بدايته فإذا سكن له أضرط بين إليتيه ليفتنهُ عن صلاته فإذا وجد شيئاً من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". ورجاله رجال الصحيح وهو عند أبي داود (1) باختصار كذا في مجمع الزوائد. في رواية (2): "فإذا سكن له زنقهُ أو ألجمهُ قال أبو هريرة فأنتم ترون ذلك أما المزنوق فتراه مائلاً وأما الملجوم فتراه فاتحاً فاه لا يذكر الله". 580 - *روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال إن الشيطان ليطيْفُ بالرجل في صلاته ليْقطع عليه صلاته فإذا أعياه نفخ في دبره فإذا أحس أحدُكم من ذلك شيئاً فلا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً. 581 - * روى الشيخان عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: شُكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يُخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". ولفظ البخاري (3): أنه شثكي إليه الرجل الذي يُخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، ف قال: "لا ينفتلُ- أو لا ينصرفُ - حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً". أقول: اليقين: اليقين لا يزول بالشك فمن توضأ بيقين وشك بالحدث فهو متوضيء ومن أحدث بيقين وشك بالوضوء فهو محدث.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - مر معنا أن النية واجبة عند الجمهور سنة عند الحنفية: وقال صاحب الهداية: فالنية في الوضوء سنة عندنا، وعند الشافعي فرض، لأنه عبادة، فلا يصح بدون النية، كالتيمم. ولنا أنه لا يقع قربة إلا بالنية، لكن يقع مفتاحاً للصلاة لوقوع طهارة باستعمال الطهر بخلاف التيمم، لأن التراب غير مطهر إلا في حالة إرادة الصلاة أو هو ينبئ عن القصد. (1: 13). وقال في البدائع: ولنا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (1) الآية، أمر بالغسل والمسح مطلقاً عن شرط النية، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، ولأن الأمر بالوضوء لحصول الطهارة، لقوله تعالى في آخر آية الوضوء: ولكن يريد ليطهركم، وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة، والماء مطهر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه. وقال تعالى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (2)، والطهور اسم الطاهر في نفسه والمطهر لغيره، والمحل قابل على ما عرف. وبه تبين أن الطهارة عمل الماء خلقة وفعل اللسان فضل في الباب، حتى لو سال عليه المطر أجزأه عن الوضوء والغسل فلا يشترط لهما النية لأن اشتراطها لاعتبار الفعل الاختياري، وبه تبين أن اللازم للوضوء معنى الطهارة ومعنى العبادة فيه من الزوائد، فإن اتصلت به النية يقع عبادة، وإن لم تتصل به لا يقع عبادة، لكنه يقع وسيلة إلى إقامة الصلاة، لحصول الطهارة، كالسعي إلى الجمعة. ا. هـ ملخصاً (1: 20). (انظر لزيادة بيان إعلاء السنن 1 - 51 - 55). - إذا تعمد الإنسان الحدث في الصلاة بطلت صلاته بالإجماع، وقال بعض الحنفية: إذا تعمد ذلك قبل السلام وبعد القعود مقدار التشهد جازت صلاته وكره ذلك تحريماً وعليه
الإعادة ما دام في الوقت، وإن سبقه الحدث بدون تعمد بطلت صلاته حالاً عند الشافعية والحنابلة وقال الحنفية إذا كان الحدث سماوياً كرعاف، بني على صلاته إنشاء بعد استكمال الطهارة والأفضل أن يستأنف الصلاة، وقال المالكية كالحنفية يجوز البناء على الصلاة في حالة الرعاف بشروط ستة: إن لم يتلطخ بالدم بما لا يزيد على الدرهم، وأن لا يتجاوز أقرب مكان ممكن للطهارة، وإن يكون المكان الذي يغسل فيه قريباً وألا يستدبر القبلة بلا عذر، وألا يطأ في طريقه نجساً وألا يتكلم خلال ذلك، ومن مثل هذا نعرف أفضلية استئناف الصلاة. - قال الشافعية: يسن تثليث مسح الرأس، والجمهور على أنه لا يسن تكراره. - من السنة عند الحنفية والشافعية: البداءة برؤوس الأصابع إلى المرفقين، والبدء بمقدم الرأس إلى الخلف، والبدء بأعلى على الوجه وقال المالكية: يندب البدء في الغسل أو المسح بمقدم العضو سواء في ذلك الوجه أو اليدان أو الرأس أو الرجلان. - ومن آداب الوضوء الجلوس في مكان مرتفع عن محل سقوط الغسالة واستقبال القبلة، وعدم التكلم بكلام الناس، تحريك الخاتم الواسع إذا كان الماء صل إليه حتماً، ويندب تحريك الخاتم الضيق إن علم وصول الماء وإلا فيفرض تحريكه إلا عند المالكية فإنه لا يجب تحريك الخاتم الضيق المأذون فيه، ومما ينبغي أن يراعيه المتوضيء أن تكون المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى والامتخاط باليد اليسر، والتوضأ قبل دخول الوقت لغير المعذور، وترك التنشيق بالمنديل عند الحنفية والحنابلة وبعض الشافعية ولم ير ذلك المالكية. ومما ينبغي أن يراعى تخليل اللحية الكثة بأخذ شيء من الماء بالكف وإصابة اللحية من باطنها مع تخليلها بالأصابع، وتخليل أصابع اليدين بالتشبك وأصابع الرجلين بخنصر اليد اليسرى من أسفل خنصر الرجل اليمنى إلى خنصر الرجل اليسرى. - قال المالكية: لا ينتقض الوضوء من السلس الذي يلازم صاحبه نصف الزمن فأكثر وإلا نقضن والسلس عندهم هو ما يسيل بنفسه لمرض: بولاً أو ريحاً أو غائطاً أو مذياً أو دم
استحاضة وعليه أن يتداوى، وإذا انضبط معه في أي وقت أو آخره أو في وسطه وجب عليه أن يصلي حال الانضباط. قال الشافعية: إذا أجريت لإنسان عملية فأصبح الخارج يخرج من مكان دون المعدة، ينتقض الوضوء عندهم بالخارج نتيجة لذلك، وإذا كان ما يخرج من فوق المعدة فلا ينتقض الوضوء، هذا إذا انسد المخرج المعتاد، أما إذا لم ينسد فالأصح أنه لا ينقض سواء كان المخرج تحت المعدة أو فوقها. قال المالكية والشافعية: إن الدم ونحوه لا ينقض الوضوء إلا ما كان دم استحاضة يمكن ضبطها، وعند الحنفية: إذا لم يسل الدم عن محله لا ينقض الوضوء وكذلك إذا سقط لحم من غير سيلان دم أو خرجت دودة من جرح وأنف وأذن. - حرم المالكية والشافعية: مس القرآن بالحدث الأصغر ولو بحائل أو عود، وأجاز الحنفية والحنابلة مسه بعد أو حائل طاهرين وقال الحنفية يحرم على المحدث مس المكتوب من المصحف ولو آية على نقود أو جدار، كما يحرم مس غلاف المصحف المتصل به، ويكره لمسه بالكم تحريماً لتبعيته للامس، ويجوز للصبي مس القرآن أو لوح منه من أجل التعلم والحفظ، ولا يكره مس كتب التفسير إن كان التفسير أكثر، ويجوز حمل الحجب المشتملة على آيات قرآنية ودخول الخلاء بها ومسها ولو للجنب إذا كانت محفوظة بغلاف منفصل عنها. وقال المالكية: ويجوز المس والحمل لمعلمة ومتعلمة بالغتين وإن وجد حيض أو نفاس ولا يجوز ذلك في الجنابة، وقال الحنفية والشافعية: ويباح قلب ورقه بعود، وقال الشافعية: ولا يمنع الصبي المميز من حمل القرآن ومسه للدراسة، ويجوز عندهم حمل التمائم وما على النقد وما على الثياب المطرزة بالآيات القرآنية ككسوة الكعبة، ومن كلام الحنابلة: ويحرم بيع المصحف ولو لمسلم، ولذلك كانوا قديماً يستعملون لفظ (الاستيهاب من الوهبة) إذا أرادوا شراء مصحف وقد تساهل الناس اليوم في ذلك. ودليل عدم جواز مس المصحف إلا لمن كان طاهراً: 582 - * (1) روى الطبراني عن ابن عمر: - "لا يمسُّ القُرآن إلا طاهر" وانظر إعلاء
السنن 1/ 268 باب أنه لا يمس القرآن إلا طاهر. - قال في كتاب (الدين الخالص) (1/ 250 - 251). الدعاء بعد الوضوء: اتفق العلماء على أنه يستحب لمن توضأ أن يدعو بعد الوضوء - مستقبلاً القبلة رافعاً بصره إلى السماء - بما في حديث عمر. 583 - * روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وللترمذي وزاد: "اللهم اجعلني من التوابين والمتطهرين". (ويختم الدعاء) بما في حديث أبي سعيد الخدري: 584 - * روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم طبع بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة". (هذا) الدعاء هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما ما اعتاده بعض الناس وذكره بعض الفقهاء من الدعاء عند كل عضو كقولهم عند غسل الوجه (1): اللهم بيض
وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني لا تعطين كتابي بشمالي. وعند غسل اليد اليسرى: اللهم يسر ولا تعسر، فلم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال النووي في الروضة: هذا الدعاء لا أصل له ولم يذكره الشافعي ولا الجمهور. وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث. وقد روى فيه عليّ كرم الله وجهه من طرق ضعفة جداً أوردها علاء الدين على المتقي في كنز العمال وين ضعفها. ا. هـ.
الفقرة السادسة: في المسح على الخفين عرض إجمالي
الفقرة السادسة: في المسح على الخفين عرض إجمالي المسحُ على الخفين بدلٌ عن غسل الرجلين في الوضوء، وهو جائز في المذاهب الأربعة في السفر والحضر للرجال والنساء. قال النووي في شرح مسلم: (وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة، وصرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين: منهم (العشرة المبشرون بالجنة)، وقال الإمام أحمد فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعاً. وكيفيته: الابتداء من أصابع القدم خطوطاً بأصابع اليد إلى الساق، والواجب في المسح عند الحنفية: قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر مقدم كل رجل مرة واحدة، ولا يسن تكراره، ولا مسح أسفله، والواجب عند المالكية: مسح جميع أعلى الخف ويستحب أسفله، وعند الشافعية: يكفي مسح في محل الفرض، وهو ظاهر الخف لا أسفله وحرفه وعقبه، ويسن مسح جميعه خطوطاً عندهم، وقال الحنابلة: يجزيء في المسح أن يمسح أكثر مقدم ظاهر الخف خطوطاً بالأصابع، ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه. وشروط المسح على الخفين: لبسهما على طهارة كاملة، وأن يكون الخف طاهراً ساتراً للمحل المفروض غسله في الوضوء وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب لا من الأعلى، وإمكان متابعة المشي فيه بحسب المعتاد، وقدَّره الحنفية: باثني عشرة ألف خطوة، والمعتبر عند المالكية أن يمكن تتابع المشي فيه عادة، وأكثر الشافعية على أن الشرط أنه يمكن التردد فيه لقضاء الحاجات للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، ولا يشترط الحنابلة: إلا إمكان المشي فيه عرفاً واشترط الشافعية والحنابلة: ألا يكون في الخف خرق ولو كان يسيراً، وأجاز المالكية والحنفية: المسك على خف فيه خرق يسير وهو دون ثلاثة أصابع من أصغر أصابع القدم واشترط المالكية كذلك أن يكون الخف من الجلد، وقال الشافعية: لا يجزئ المسح على منسوج لا يمنع نفوذ الماء إلى الرجل من غير محل الخرز لو صب عليه
لعدم صفاقته واشترط الحنفية والشافعية أن يكون الخف مانعاً من وصول الماء إلى الجسد ولكنهم أجازوا مع الجمهور المسح على الخف المصنوع من الجلود أو اللبود أو الخرق أو غيرها إذا توفرت فيها الشروط، فأجاز الحنفية المسح على الجوربين الثخينين إذا كانا يتحملان المشي فرسخاً أي اثني عشرة ألف خطوة، وإذا كان يثبت على الساق بنفسه ولا يرى ما تحته ولا يشف بحيث يرى ما وراءه، كما أجاز الحنابلة المسح على الجورب الصفيق إذا أمكن متابعة المشي فيه والذي لا يبد منه شيء من القدم. وأجاز الشافعية والحنابلة المسح على الخف المشقوق القدم كالزربول الذي له ساق إذا شد في الأصح بواسطة العري بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض إذا مشى عليه، ومثله الحذاء الذي يلبسه العسكريون عادة، وإذا لبس الإنسان خفين فوق بعضهما أو ما لهما حكم الخفين فالشافعية لا يجيزون الاقتصار ف المسح على الخف الأعلى، والمذاهب الثلاثة على جوازه، واشترط المالكية والحنابلة لجواز المسح على الخف أن يكون استعماله مباحاً، فلا يصح المسح على خف مغصوب ولا عل حرير بالنسبة للرجل، واشترط الحنفية أن يكون قد بقي من مقدم القدم قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد إذا قطعت القدم لجواز المسح على الخف، ولكن يمسح خف القدم الأخرى، والمالكية لا يؤقتون وقتاً للمسح ما لم يخلعه أو تصيبه جنابة والجمهور على أن مدة المسح للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وتبدأ المدة عند الجمهور من وجود الحدث بعد اللبس، وعلى هذا من توضأ عند طلوع الفجر ولبس الخف، ثم أحدث بعد طلوع الشمس وهو مقيم، فلا تنتهي مدة المسح إلا بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني، وإذا مسح خفيه مقيماً حالة الحضر ثم سافر أو عكس بأن مسح مسافراً ثم أقام أتم عند الشافعية والحنابلة مسح مقيم وعند الحنفية من ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل تمام يوم وليله مسح ثلاثة أيام ولياليها، ولو أقام مسافر بعد مدة مسح المقيم نزع الخف وغسل رجليه، ويُبطل المسح على الخف نواقض الوضوء والجنابة والحيض ونزع أحد الخفين أو كليهما، ولو كان النزع بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف. وخرق الخف أكثر من القدر المعفو عنه عند الحنفية، ومجرد الخرق عند من لا يتساهل بذلك. وإصابة الماء أكثر إحدى القدمين في الخف، ومضي المدة، وهل إذا انتهت مدة المسح أو
- أدلة مشروعيته
بطل بغير الجنابة هل يكفي غسل الرجلين فقط أو لابد من تجديد الوضوء كله؟ قال الحنابلة: ينبغي تجديد الوضوء كله، وقال الحنفية والمالكية والشافعية: على القول الراجح يكفي غسل الرجلين فقط إذا كان متوضئاً. (حاشية ابن عابدين 1/ 173 فما بعدها)، (الشرح الصغير 1/ 152 فما بعدها)، (المهذب 1/ 21 - 22)، (المغني 1/ 282 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 321 فما بعدها). وإلى نصوص هذه الفقرة: - أدلة مشروعيته: 585 - * روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فقال: "يا مغيرةُ، خُذِ الإداوة"، فأخذتها، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني، فقضى حاجته وعليه جُبَّةً شامية، فذهب ليُخرج يده من كُمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببتُ عليه، فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه، ثم صلى. في رواية (1) كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأهْويتُ لأنزِع خفيه، فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما". ولمسلم (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخُفين. زاد أحمد (3) بعد طاهرتين ثُمَّ لم أمش حافياً بعدُ.
586 - * روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البردُ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتَّساخين. 587 - * روى مسلم عن بلال بن رباح رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسح على الخفين والخمار. في رواية: أبي داود (1): أن عبد الرحمن بن عوف سأل بلالاً عن وُضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان يخرج يقضي حاجته، فآتيه بالماء، فيتوضأ، ويمسح على عماته وموقيه". وعند النسائي (2) قال: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والخمار" وفي أخرى: على الخفين. وله في أخرى (3) قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلالٌ الأسواق، فذهب لحاجته، ثم خرج، قال أسامة: فسألت بلالاً: ما صنع؟ فقال بلال: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، ثم توضأ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين، ثم صلى". رواية الترمذي اللاحقة تبين أن المراد بالمسح على العمامة بعد مسح ربع الرأس لفظه (... إنه مسح على ناصيته وعمامته) باب ما جاء في المسح على الجوربين والعمامة، وفي
مسلم في الوضوء (... ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) فليس المراد قط: الاكتفاء بالمسح على العمامة عن مسح الناصية وبني هذا الأمر بأكثر، قول أنس رضي الله عنه، رأيت رسول الله صلى الله عيه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطريةٌ فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. رواه أبو داود في باب المسح على العمامة وسكت عنه، تمام الكلام في إعلاء السنن (1/ 7 - 8) (وهبي). 588 - * روى الترمذي عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: "سألتُ جابر بن عبد الله عن المسح على الخفين؟ فقال: السُّنة يا ابن أخي، وسألته عن المسح على العمامة؟ فقال: أمسَّ الشعر". 589 - * روى الشيخان عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ، ومسح على خفيه". قال الأعمش: قال إبراهيم: وكان أصحابُ عبد الله يُعجبُهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير بعد نزول المائدة". 590 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنهُ كان يمسحُ على الجوربين والنعلين. فائدة: (مسح على الجوربين والنعلين): تأويله أنه صلى الله عليه وسلم أمرَّ اليد على الجورب للمسح قصداً، وعلى النعل تبعاً ليحصل كمال المسح وما كان مسح النعل مقصوداً وهو الظاهر، ولم نقل بمسح النعل لعدم الحاجة إليه، ولعدم بلوغه من الشهرة إلى حد يترك له الغسل الوارد في الكتاب [القرآن]. (إعلاء السنن 1/ 245) (وهبي).
591 - * روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح على الجوْربين والنعلين". قال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يُحدِّثُ بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين" قال: وروى هذا [أيضاً] عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "نه مسح على الجوربين". وليس بالمتصل، ولا بالقوي، قال أبو داود: ومسح على الجوربين عليُّ بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، رضي الله عنهم. فائدة: قال النسائي في سننه الكبرى: لا نعلم أحداً تابع أبا قيس -راوي حديث المسح على الجوربين- على هذه الرواية والصحيح عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (مسح على الخفين) (إعلاء السنن). قال الشيخ محمد يوسف البنوري رحمه الله تعالى: اتفق الأئمة على جواز المسح على الجوربين المجلدين والمنعلين وكذلك اتفقوا على عدم جوازه على الرقيقين يشفان واختلفوا في الثخينين فالجمهور جوزوه ومنعه أبو حنيفة، وروي عنه الرجوع إلى قول صاحبيه قبل وفاته بأيام وذلك. أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعواده فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه، قال صاحب الهداية: وعليه الفتوى، ملتقطة بخبر الواحد وغسل الرجلين قطعي فلا يكون المسح على الجوربين بدلاً عنه إلا إذا كان الجورب كالخف الثابت مسحه بالتواتر). (إعلاء السنن 1/ 245) (وهبي). 592 - * روى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما قالا: (يمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين).
593 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلاه" وفي رواية (1): يمسح على ظاهر خُفيه". قال أبو داود: رواه الأعمش بإسناده قال: "كنتُ أرى باطن القدمَيْنِ أحقَّ بالغسل من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما" وقال وكيع: يعني الخفين. ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه". والمراد بالمرويات كلها المسح على ظاهر الخفين فعبر عن ذلك بغسل ظاهر القدمين وعبر عما يخالفه بغسل باطن القدمين، والمراد أنه إذا ورد نص فلا محل للاجتهاد ولا للنظر. مدة المسح: 594 - * روى مسلم عن شُريح بن هانئ قال: "أتيتُ عائشة أسألُها عن المسح على الخفين؟ فقالت: عليك بابن أبي طالب فسلهُ، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناهُ، فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وليالهُنَّ للمسافر، ويماً وليلةً للمُقيم". 595 - * روى الترمذي عن خُزيمة بن ثابت رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن المسح على الخفين؟ فقال: "للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوماً". وفي رواية: أبي داود (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسحُ على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوماً وليلة".
596 - * روى الترمذي عن صفوان بن عسالٍ المُرادي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهُن، إلا من جنابةٍ، ولكن من بولٍ وغائطٍ ونومٍ". وفي أخرى (1) للنسائي قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين: أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام وليالهُنَّ".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يسن في مسح الخفين أن يمسح الرجل خفه الأيمن بيده اليمنى والأيسر بيده اليسرى. - ورد أثناء الكلام عن المسح على الخفين ذكر المسح على العمامة وعلقنا هنالك بما يقتضيه المقام، وههنا نذكر وجهات النظر في ذلك. قال الحنفية: لا يصح المسح على عمامة وقلنسوة وبرقع وقفازين، وقال الحنابلة: من توضأ من الذكور ثم لبس عمامة ثم أحدث وتوضأ جاز له المسح على العمامة، والواجب عندهم مسح أكثر العمامة، وتمسح دوائرها دون وسطها ولا يجوز المسح عندهم على القلنسوة ويشترط لصحة المسح على العمامة ألا تكون محرمة كمغصوبة أو حرير، وأن تكون محنكة وهي التي يدار فيا تحت الحنك كور أو كوران أو تكون ذات ذؤابة وهي طرف العمامة المرخي من الخلف، فلا يجوز المسح على العمامة الصماء لأنه لا يشق نزعها فهي كالقلنسوة، ولا يجوز لأنثى أن تمسح على عمامة لأنها لا تجوز لها كي لا تتشبه بالرجال، ومن الشروط لجواز لمسح على العمامة أن تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين وجوانب الرأس، وقال الشافعية: لا يجوز الاقتصار على المسح على العمامة فلابد من إشراك شيء من الرأس بالمسح وقال المالكية: يجوز المسح على عمامة خيف ينزعها ضرر، ولم يقدر على مسح ما تحتها مما هي ملفوفة عليه كالقلنسوة فإن قدر على مسح بعض الرأس أتى به وكمل على العمامة. (انظر اللباب 1/ 41 والشرح الصغير 1/ 203، والمغني 1/ 300 فما بعدها).
الفقرة السابعة: في الغسل وموجباته وأنواعه عرض إجمال
الفقرة السابعة: في الغسل وموجباته وأنواعه عرض إجمال قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) وقال: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (2). وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (3). بالغسل والوضوء وما يستتبع ذلك وما يلحقه وما يسبقه كان المسلم أطهر وأنظف إنسان في العالم. والغسل في الإسلام على أنواع: فمنه المفروض ومنه المسنون فالأغسال المفروضة: الغسل من الجنابة: ويكون بخروج المني أو التقاء الختانين ولو من غير إنزال، والغسل من الحيض والنفاس في حق المرأة وتغسيل المسلم الميت غير الشهيد، وإسلام الكافر، سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً، والأخير واجب عند المالكية والحنابلة وقال الحنفية والشافعية يستحب استحباباً إذا لم يكن جنباً ويجزئه الوضوء. والأغسال المسنونة والمندوبة: لغسل لصلاة الجمعة، والغسل لصلاة العيدين، والغسل للإحرام بالحج أو بالعمرة لصلاة، وللوقوف بعرفة بعد الزوال، ولدخول مكة وللمبيت بمزدلفة ولطواف الإفاضة وطواف الوداع، وعند المالكية للسعي، ومن الأغسال المندوبة عند الحنفية الغسل لصلاة الكسوف والخسوف وهي سنة عند الجمهور، ويسن الغسل لمن غسل ميتاً، وبعضهم جعله مستحباً، ويسن الغسل عند الشافعية والحنابلة للمستحاضة عند كل صلاة وقال المالكية إنه مستحب وقال الحنفية يندب لها إذا انقطع دمها. ويندب الغسل للإفاقة من جنون أو إغماء أو سكر، ويندب عند حجامة ونحوها بعد
الشفاء من عملية جراحية مثلاً، ويندب الغسل للتائب من ذنب وللقادم من سفر ولمن أصابته نجاسة وخفي مكانها. وكل غسل ترتبت عليه منفعة أو مصلحة واغتسل صاحبه بنية صالحة فهو مأجور عله، بل الغسل المباح إذا كان بنية صالحة فإن الإنسان يؤجر عليه. وبسبب الغسل كان للحمامات دور كبير في حياة المسلم سواء حمامات البيوت أو الحمامات العامة، وللدخول إليها آداب وأحكام. وفريضة الغسل تعميم الجسد بالماء الطهور ويدخل في ذلك المضمضة والاستنشاق عند الحنفية والحنابلة فقد قالوا: إنهما فريضتان في الغسل وقال المالكية والشافعية: إنهما سنتان وافترض الجمهور غير الحنفية النية عند غسل أول جزء من البدن أي نية فرض الغسل من الجنابة أو من الحدث الأكبر أو استباحة ممنوع لا يصح بدون الغسل كالصلاة والطواف، والنية عند الحنفية سنة والتسمية في ابتداء الغسل سنة عند الجمهور وفرض عند الحنابلة وأوجب المالكية دون غيرهم الدلك ولو بخرقة، ويتعاهد المغتسل بالغسل داخل القلفة إذا لم يكن مختوناً ولا عسر عليه في إيصال الماء إليها، وسُرَّة وبشْرَة الرأس من المرأة وبشرة اللحية والحاجب ولكمال الغسل يبدا المغتسل بالنية والتسمية وغسل ما به من أذى والاستنجاء والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيده وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه ويتعاهد في هذا كله الأمكنة التي يخشى ألا يصل إليها الماء. والمرأة لا يجب عليها أن تنقض ضفائرها، ولكن لابد من إيصال الماء إلى بشرة الرأس أما ضفائر الرجال فيجب نقضها عند الحنفية ومن وافقهم وقال الإمام أحمد تنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض والنفاس لكن قال في المغني وقال بعض أصحابنا هذا مستحب غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله ا. هـ (1/ 226 - 227) وليس عليها نقضه من الجنابة إذا أروت أصوله. ويكره الإسراف في صب الماء، ومهما استطاع الإنسان أن يقلل من استعمال الماء
ليصيب السنة فذلك أبعد عن الإسراف، ويسن عند الشافعية والحنابلة أن لا ينقص ماء الغسل عن صاع تقريباً ويساوي عندهم حوالي (2700) غراماً، وكما يكره الإسراف في الماء يكره التقتير فيه، وضرب الوجه به، والتكلم بكلام الناس، ويكره الاغتسال في الخلاء إذا أمكن غيره ولا يكره عند الحنابلة للجنب أو الحائض والنفساء أن يأخذ شيئاً من شعره وأظفاره قبل الاغتسال وكرهه بعضهم، ويحرم على الجنب والحائض والنفساء الصلاة ومنها سجود التلاوة، والطواف حول الكعبة، ومس القرآن وتلاوة القرآن بلسانه ولو لحرف أو دون آية على المختار عند الحنفية والشافعية بقصد القراءة فلو قصد الدعاء أو الثناء أو افتتاح أمر أو التعليم أو الاستعاذة أو الأذكار فلا يحرم، وأجاز الحنابلة للجنب قراءة بعض آية ولو كرره ما لم تكن طويلة، كما أجازوا له مع الحنفية تهجئة القرآن، واتفق الفقهاء على أن لا يحرم النظر في القرآن لحائض ونفساء وجنب، كما أن لهم أن يستعرضوا القرآن بقلوبهم لا على ألسنتهم وأن يستمعوا إلى القرآن، وعند المالكية يصح للجنب التعوذ بآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، وأن يرقي نفسه أو غيره ويستدل على حكمٍ، وأن للمرأة قراءة قليل من القرآن إذا كانت حائضاً أو نفساء حال استرسال الدم عليها، أما بعد انقطاعه وقبل غسلها فلا تقرأ منه شيئاً، ويحرم الاعتكاف في المسجد على الجنب والحائض والنفساء إجماعاً، وقال الحنفية والمالكية ويحرم عليهم دخول المسجد مطلقاً ولو عبوراً أو اجتيازاً وحملوا قوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} على المسافر الذي حكمه التيمم، وأباح الشافعية والحنابلة عبور المسجد دون المكث فيه، أو التردد فيه لغير عذر، إلا أن إباحة عبور المسجد للحائض والنفساء مقيد بما إذا أمنت تلويثه فإن خافت تلويثه حرم عليها الدخول فيه. ومن كلام النووي: لو احتلم في المسجد وجب عليه الخروج منه إلا أن يعجز عن الخروج لإغلاق المسجد ونحوه، أو خاف على نفسه أو ماله، فإن عجز أو خاف جاز أن يقيم للضرورة. (انظر حاشية ابن عابدين 1/ 102 وما بعدها)، (الشرح الصغير 1/ 160 فما بعدها)، (المهذب 1/ 29 وما بعدها)، المغني 1/ 199 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 359 وما بعدها).
الجنابة والغسل منها
وسنعرض عروضاً إجمالية بمناسباتها في هذه الفقرة، فإلى ذكر بعض النصوص التي وردت في الجنابة: الجنابة والغسل منها: 597 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلى قُباء، حتى إذا كنا في بني سالمٍ، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان [بن مالك] فصرخ به، فخرج يجرُّ إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعجلْنَا الرجل"، فقال عتبان: يا رسول الله، أرأيت الرجل يُعْجَلُ عن امرأته، ولم يُمْنِ، ماذا عليه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء". وفي رواية مختصراً (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الماءُ من الماء". 598 - * روى الترمذي عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه قال: إنما كان الماء من الماء رُخصةً في أول الإسلام، ثم نُهي عنه. وفي رواية (2): أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رُخصةً للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمر بالغسل، ونهى عن ذلك، قال أبو داود: يعني: الماء من الماء. وفي أخرى (3) له قال: إن الفُتيا التي كانوا يفتون: الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعدُ". أقول: قوله إنما الماء من الماء: أي الاغتسال من المني وكان هذا وحده يوجب الغسل ثم استقر التشريع على أن التقاء الختانين ولو لم يكن مني يوجب الغسل كذلك.
599 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "إنما الماء من الماء: في الاحتلام". 600 - * روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "أنهم كانوا جُلوساً، فذكروا ما يوجب الغُسل، فاختلف في ذلك رهطٌ من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجبُ الغُسل إلا من الدفقِ، أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، قال: فقمت فاستأذنت على عائشة، فأُذن لي، فقلت لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين - إني أريد أن أسألك عن شيءٍ، وإني أستحييك؟ فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أُمُّك قلت: فما يُوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شُعبها الأربع، ومسَّ الختانُ الختان، فقد وجب الغسل". وفي رواية الموطأ (1): أن أبا موسى أتى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: لقد شق عليَّ اختلافُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أمرٍ، إني لأُعْظِمُ أن أستقبلك به، فقالت: ما هو؟ ما كنت سائلاً عنه أمك فاسألني عنه، فقال: الرجلُ يصيب أهله، ثم يكسلُ ولا يُنزلُ؟ فقالت: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغُسلُ، فقال أبو موسى الأشعري: لا أسأل عن هذا أحداً بعدك أبداً. في رواية لمسلم (2): أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُجامع أهله ثم يُكْسِلُ، هل عليهما الغسل؟ - وعائشة جالسةٌ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسلُ".
601 - * روى مالك عن سعيد بن المسيب رحمه الله "أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: إذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل". 602 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شُعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغُسْلُ" زاد في وراية (1): "وإن لم يُنزل". 603 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرجل يجدُ البلل، ولا يذكر احتلاماً؟ قال: "يغتسلُ" وعن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد بللاً؟ قال: "لا غُسل عليه"، قالت أم سلمة: والمرأة ترى ذلك: أعليها غسلٌ؟ قال: "نعم، النساء شقائق الرجال". 604 - * روى الشيخان عن أم سلمة رضي الله عنها أن أمَّ سُلمٍ- وهي امرأة أبي طلحة - قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة الغُسْل إذا احتلمتْ؟ قال: "نعم، إذا رأت الماء"، فقالت أم سلمة: أو تحتلمُ المرأة؟ فقال: "تربتُ يداكِ، فبم يثشبهها ولدُها؟ ".
- تعميم الجسد بالماء
وزاد في رواية (1): قالت: فضحْتِ النساء. 605 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "إن امرأةً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: "نعم"، فقالت لها عائشة: تربت يداك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعيها، وهل يكون الشبهُ إلا من قِبَلِ ذلك؟ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولدُ أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه. أقول: علو ماء الرجل على ماء المرأة والعكس، علو قوة في بويضة المرأة أو الحيوان المنوي، والله أعلم. - تعميم الجسد بالماء: 606 - *روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مُوضع شعرةٍ من جنابةٍ لم يغسلها، فُعِلَ به كذا وكذا من النار"، قال عليٌّ: فمن ثم عاديتُ رأسي، فمن ثم عاديتُ رأسي، فمن ثم عاديتُ رأسي ثلاثاً، وكان يجزُّ شعرهُ. هذا الحديث رجاله ثقات إلا أن فيه رجلاً اختلط، والراوي عنه روى عنه قبل الاختلاط وبعده فلذا ضعفه من ضعفه وقال ابن حجر: إسناده صحيح. 607 - * روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: "إنهم استفتوُا النبي صلى الله ليه وسلم عن ذلك - يعني الغُسل من الجنابة- فقال: "أما الرجل، فلينشر رأسه فليغسله، حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة، فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرفْ على رأسها ثلاث غرفات بكفيها".
608 - * روى الطبراني عن ابن عمر كان إذا اغتسل فتح عينيه وأدخل أصبعه في سرته. أقول: لا يلزم فتح العين بل يكره لما فيه من الضرر وإنما يلزم تعاهد المآقي وكذلك المواضع التي تحتاج إلى تعاهد كالأذنين والسرة. كيفية الغسل: 609 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة: بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصبُّ الماء على رأسه ثلاث غرفٍ بيديه، ثم يُفيضُ الماء على جلده كله". وفي رواية (1): ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرتهُ، أفاض الماء عليه ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، وقالت: كنتُ أغتسلُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحدٍ، نغترفُ منه جميعاً. ولمسلم (2): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسِلُ يديه ثم يُفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخلُ أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه. وفي أخرى (3) أنه كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يُدخل يديه في الإناء، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة.
610 - * روى أبو داود عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من الجنابة، بدأ بكفيه فغسلهما، ثم غسل مرافغهُ، وأفاض عليه الماء، فإذا أنقاهما أهوى بهما إلى حائط، ثم يستقبل الوضوء ويُفيض الماء على رأسه". وفي أخرى (1) عن جُميع بن عُمير - أحد بني تيم الله بن ثعلبة - قال: دخلتُ مع أمي وخالتي على عائشة، فسألتها إحدهما: " كيف كنتم تصنعون عند الغُسْلِ؟ فقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يُفيض الماء على رأٍه ثلاث مرات، ونحن نفيضُ على رؤوسنا خمساً من أجل الضُّفُر. 611 - * روى البخاري عن عائشة رض الله عنها قالت: "كنا إذا أصابت إحدانا جنابةٌ، أخذتْ بيدها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر". وأخرجه أبو داود (2) قالت: كانت إحدانا إذا أصابتها جنابةٌ، أخذت ثلاث حفنات هكذا - تعني: بكفيها جميعاً - فتصبُّ على رأسها، وأخذت بيدٍ واحدةٍ، فصبتها عل هذا الشق، والأخرى على الشق الآخر. 612 - * روى الشيخان عن ميمونة رضي الله عنها قالت: "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة، غير رجليه، وغسل فرجَهُ وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء،
ثم نحى رجليه فغسلهما، هذا غُسله من الجنابة". وفي رواية (1) قالت: "سترتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسلُ من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيديه على الحائط، أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه". وفي رواية (2): فغسل فرجه بيده، ثمدلك بها لاحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. وفي أخرى (3) نحوه قالت: "فأتيتُه بخرقةٍ فلم يُردها، وجعل ينفُضُ بيديه". وفي أخرى (4) "فناولته ثوباً فلم يأخذه وانطلق وهو ينقض يديه". وفي أخرى (5): "أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بمنديل، فلم يمسه، وجعل يقول هكذا - تعني ينفضه". أقول: تنحية الرجلين عن مكان الغسل وغسلهما في مكان آخر إنما يكون إذا كان في المكان الذي يتجمع فيه الماء أما إذا كان الماء المستعمل يذهب كما في حماماتنا اليوم فلا تطلب التنحية، وأما عدم التنشيف فهو من المباحات لأن للزمان والمكان والمناخ ونوع اللباس دخلاً في استعمال المنشفة أو عدم استعمالها. ورد في المستدرك رواية سكت عنها الحاكم والهبي تفيد استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم للتنشيف بعد الوضوء. 613 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقةٌ يُنشفُ بها
عدم نقض الضفائر للنساء
بعد الوضوء". عدم نقض الضفائر للنساء: 614 - * روى مسلم عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء - إذا اغتسلن- أن ينقُضن رؤوسهن، قالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ، ولا أزيدُ على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغاتٍ. وقد ذكرت أم سلمة في رواية لأبي (1) داود: أن المرأة تحثي على رأسها ثلاث حثيات وتغمر قرونها عند كل حفنة. فائدة: الجمهور لم يفرق بين الحيضة والجنابة بالنسبة لنقض الضفائر أخذاً من الحديث السابق عن أم سلمة، إذ ورد في رواية (2) (أفأنقضه للحيضة والجنابة). وقال الإمام أحمد في رواية: عنه يجب النقض في الحيض دون الجنابة. وقد اعتبر البعض أن لفظة (للحيضة) الواردة في الرواية الأخرى (أفأنقضه للحيضة وللجنابة) اعتبرها البعض شاذة لانفراد عبد الرزاق بها عن سفيان الثوري دون يزيد بن هارون الي وافقت روايته رواية ابن عيينة وغيره ولم يرد فيها ذكر الحيضة، والذي اعتبرها شاذة وقال بانه يجب النقض في الحيض واستدل بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في الحيض "انقضي رأسك وامتشطي ... ". قال ابن حجر: وظاهر الحديث الوجوب، وبه قال الحسن وطاووس في الحائض دون الجنب، وبه قال
اغتسال المرأة وزوجها
أحمد، ورجح جماعة من أصحابه أنه للاستحباب فيهما، قال ابن قدامة: ولا أعلم أحداً قال بوجوبه فيهما إلا ما روي عن عبد الله بن عمرو. قلت: وهو في مسلم عنه، وفيه إنكار عائشة عليه الأمر بذلك، لكن ليس فيه تصريح بأنه كان يوجبه. وقال النووي: حكاه أصحابنا عن النخعي، واستدل الجمهور على عدم الوجوب بحديث أم سلمة "قالت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: طلا". رواه مسلم وفي رواية له للحيضة والجنابة. وحملوا الأمر في حديث الباب على الاستحباب جمعاً بين الروايتين، أو يجمع بالتفصيل بين ما لا يصل الماء إليها إلا بالنقض فيلزم وإلا فلا. ا. هـ. قال صاحب إعلاء السنن وحمله الشيخ (أي صاحب المنتقي) على الاستحباب وعندي أن الأمر بالنقض والامتشاط كان لرفض إحرام العمرة والتحلل منه. ا. هـ. وقد تقرر في لم الأصول أن زيادة الثقة تُبل إذا كانت من ثقة حافظ يُعتمد على حفظه وكانت غير منافية للأصل قال الحافظ ابن حجر في (نزهة النظر ص 345): (وزيادة رويهما) أي الصحيح والحسن (مقبولة ما لم تقع منافية لـ) رواية (من هو أوثق) ممن لم يذكر تلك الزيادة، لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقاً، لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره، وإما ان تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى، فهذه الي يقع الترجيح بينها وبين معارضها، فيقبل الراجح ويرد المرجوح. ا. هـ. فورود كلمة الحيضة في الرواية الثانية لا تنافي الحديث الأول الذي ورد فيه ذكر الجنابة فقط وتكون الرواية الثانية بمثابة حديث مستقل يُثبت حكما لم يثبته غيره، والله أعلم. وعلى هذا كان رأي المذاهب الثلاثة المساواة بين الجنابة والحيض في حكم الضفائر. اغتسال المرأة وزوجها: 615 - * روى ابن خزيمة عن معاذة - وهي العدويةُ - قالت (1): سألتُ عائشة أتغْتَسِلُ
إذا أراد الرجل العود ماذا يفعل؟
المرأة مع زوجها من الجنابة من الإناء الواحد جميعاً؟ قالت: الماء طهور، ولا يُجنبُ الماء شيء، لقد كنتُ أغتسلُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الواحد. قالت: أبدأه فأفرغُ على يديه من قبل أن يغمسهما في الماء. إذا أراد الرجل العود ماذا يفعل؟ 616 - * روى البخاري عن قتادة "أن أنس بن مالك حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحدٍ". في رواية (1): أن رسول الله صل الله عليه وسلم طاف على نسائه في غسل واحد. 617 - * روى أبو داود عن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه، يغتسلْ عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله ألا تجعله غسلاً واحدا؟ قال: "هذا أزكى وأطيبُ وأطهرُ". أقول: دل هذان النصان على أن كلا من الفعلين جائز. 618* روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم بدا له أن يُعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً". أقول: إن الوضوء قبل المعاودة مندوب وليس واجباً.
- حكم الوضوء بعد الغسل
- حكم الوضوء بعد الغسل: 619 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ بعد الغُسل". وعند أبي داود (1) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلُ ويُصلي الركعتين، وصلاة الغداة، ولا أراه يُحدث وضوءاً بعد الغُسْلِ. أقول: دل ذلك على أن الوضوء يدخل في الغسل فإذا اغتسل الإنسان فقد أصبح طاهراً من الحدث الأكبر والأصغر. مقدار الماء الكافي في الغسل: 620 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عيه وسلم كان يغتسل من إناء - هو الفرْق- من الجنابة". وفي رواية: أخرى (2): "كنتُ أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ، من قدحٍ، يقال له: الفرْق. قال سفيان: والفرْق: ثلاثة آصُعٍ". وفي رواية (3): عن أُمِّ سلمة قالت: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخُذْن من رؤوسهن، حتى تكون كالوفرة. وفي رواية (4): نحواً من صاع.
أقول: أخذ المرأة من شعرها حتى يكون كالوفرة ثابت في هذا النص فلا حرج على من فعلته وقد تشدد بعض الفقهاء فمنعوا ذلك احتراساً من تشبه النساء بالرجال. والحرج منفي بهذا النص، والتشبه ممنوع بنصوص أخرى. الاستتار عند الاغتسال: 621 - * روى أبو داود عن يعلي [بن شداد بن أوس] رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله حيي ستيرٌ يُحبُ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليسترْ". وللنسائي (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ستير، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيءٍ". 622 - * روى النسائي عن أبي السمح رضي الله عنه قال: "كنتُ أخدُم النبي صلىلله عليه وسلم، فكان إذا أراد ان يغتسل قال: "ولِّني"، فأوليه قفاي، فأسترُه به". 623 - * روى مسلم عن أم هانيءٍ رضي الله عنها قالت: "ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدتُه يغتسلُ، وفاطمةُ ابنته تسترُه بثوبٍ". وعند النسائي (2) قالت: "ثم أتيتُه بخرقةٍ فلم يُرِدْها". أقول: يحرم على الإنسان أن يغتسل عرياناً بين الناس لأن كشف العورة للناس محرّم، وإن ستره إنسان بثوب فلا بأس ويستحب التستر وإن كان خالياً، ولا يسبح في ماء صاف
حرمة قراءة القرآن للجنب
إلا مستتراً إذ كان بحضرة من يحرم أن ينظر إليه أما إذا كان الماء كدراً لا يرى فيه الجزء الذي يغطس من الإنسان فعلى الإنسان أن يتستر أثناء الدخول والخروج. 624 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نغتسِلُ وعلينا الضمادُ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحلات ومحرماتٌ". أقول: للمرأة أن تغتسل وهي حائض أو نفساء للتنظيف لا للطهارة. 625 - * روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر علياً فوضع له غُسلاً ثم أعطاه ثوباً فقال: "استرني وولي ظهرك". 626 - * روى الطبراني عن زينب بنت أبي سلمة أنها دخلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فأخذ حفنة من ماءٍ فضرب بها وجهي وقال: "وراءك" أي لكاعِ. للتدليل والتأنيب الرفيق وهي كلمة تستعملها العرب ولا تريد معناها. حرمة قراءة القرآن للجنب: 627 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال عبد الله بن سلمة - وهو المرادي الكوفي: دخلتُ على عليٍّ أنا ورجلان رجلٌ منا، ورجلٌ من بني أسدٍ، أحسب بعثهما عليٌّ وجهاً، وقال: إنكما علجان، فعالجا عن دينكما، ثم قام فدخل المخرج، ثم خرج، فدعا بماءٍ، فأخذ منه حفنةً فتمسح بها، ثم جعل يقرأ القرآن، فأنكروا ذلك، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلا، فيُقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه- أو قال: يحجزُه- عن القرآن شيء، ليس الجنابة.
حكم النوم والأكل للجنب
في رواية: الترمذي (1) والنسائي (2) عن عليّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جُنباً. ولفظ النسائي (3): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل حال إلا الجنابة. 628 - * روى الطبراني في الكبير والصغير عن ابن عمر (رفعه): "لا يمسُّ القرآن إلا طاهرٌ". أقول: لا يجوز لمس القرآن للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر ويجوز للمحدث حدثاً أصغر أن يقرأ القرآن ويقرئه دون لم سالمصحف ولا يجوز لمحدث حدثاً أكبر أن يقرأ أو يقرئ إلا بالنظر وبالقلب دون تحريك اللسان. حكم النوم والأكل للجنب: 629 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال أبو سلمة: "سألت عائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقُد وهو جنبٌ؟ قالت: نعم ويتوضأُ". في رواية (4): عروة قالت: "كان إذا أراد ان ينام وهو جنب غسل فرجهُ وتوضأ للصلاة".
في رواية مسلم (1): "كان إذا أراد أن ينام وهو جُنبٌ توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام". وفي أخرى (2): "كان ذا كان جُنباً، وأراد أن يأكل، أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة". وفي أخرى (3): عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة رضي الله عنها: "قلت كيف كان يصنعُ في الجنابة؟ أكان يغتسلُ قبل أن ينام، أو ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، فربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً". وللنسائي (4): "كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه". أقول: وضوء المجنب قبل النوم مستحب وليس مفروضاً. ومن كلام الحنابلة: ويكره للجنب ومنقطعة دم الحيض والنفاس ترك الوضوء للنوم فقط والكراهة هنا تنزيهية، ومن كلامهم: يستحب الوضوء لمعاودة الوطء. ويستحب للجنب أن يغسل يديه وفمه قبل الأكل أو يتوضأ، ومن أدب المسلم في كل حال إذا أراد الطعام أن يغسل يديه. 630 - * روى أحمد عنعمار "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجُنب إذا أراد أن يأكل أو
مصافحة الجنب ومخالطته
يشرب وينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة". 631 - * روى أحمد عن أم سلمة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجنِبُ ثم ينام ثم ينتبه ثم ينام". 632 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ، واغسلْ ذكرك، ثم نمْ". وللبخاري (1) قال: استفتي عمر النبي صلى الله عليه وسلم: أينامُ أحدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال: "نعم، إذا توضأ". وفي أخرى (2): "أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقُدْ" ولمسلم بنحو ذلك (3). 633 - * روى مالك عن نافع - مولى ابن عمر "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه، ثم طعم أو نام". مصافحة الجنب ومخالطته: 634 - * روى الستة عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيهُ في بعض طريق
المدينة وهو جُنُب، فانخنسْتُ منه، فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال: كنت جُنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، قال: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجُس". أقول: دل هذ النص على أن سؤر الجنب طاهر وأن للجنب مجالسة الناس ومحادثتهم ومصافحتهم. 635 - * روى الترمذي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجنِبُ فيغتسلُ ثم يستدفيء بي قبل أن أغتسل". 636 - * روى مالك "كان ابن عمر يعرقُ في الثوب وهو جنب، ثم يصلي فيه" وكذلك عرق الحائض طاهر عند أهل العلم قال ابن عباس (1): أربعٌ لا يجنبن: الإنسان والثوب والماء والأرض يريد: الإنسان لا يُجنبُ بمماسة الجنب، ولا الثوب إذا لبسه الجنب، ولا الأرض إذا أفضى إليها الجنب، ولا الماء ينجس إذا غمس الجنب فيه يده. وقال عطاء (2): يحتجمُ الجنبُ، ويقلم أظفاره، ويحلق رأسه، وإن لم يتوضأ.
إذا ذكر أنه جنب وهو في الصلاة ماذا يفعل: 637 - * روى الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُقيمت الصلاةُ، وعُدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مُصلاه ذكر أنه جنبٌ، فقال لنا: "مكانكم"، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلأينا ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه". 638 - * روى أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الهل عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده: أن مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطُر، فصلى بهم". وفي رواية: بمعناه (1)، قال في أوله: (فكبر) وقال في آخره: "فلما قضى الصلاة قال: "إنما أنا بشر، وإني كنت جُنباً". 639 - * روى مالك عن سليمان بن يسار "أن عمر رضي الله عن صلى بالناس الصبح، ثم غدا إلى أرضه بالجُرْف، فوجد في ثوبه احتلاماص، فقال: إنا لما أصبنا الودك لانت العروق، فاغتسل، وغسل الاحتلام من ثوبه، وعاد لصلاته". في رواية (2): بعد قوله: (احتلاماً) - فقال: "لقد ابتُليتُ بالاحتلام منذ وليتُ أمر الناس، واغتسل، وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلامِ، ثم صلى بعد أن طلعت الشمسُ". وفي رواية (3): زُيَيْدِ بن الصلت قال: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب إلى الجُرْفِ،
- الاغتسال بالماء والخطمي ونحوه
فنظر فإذا هو قد احتلم وصلى ولم يغتسل، فقال: والله ما أُراني إلا قد احتلمتُ وما شعرت، وصليت وما اغتسلتُ، قال: فاغتسل، وغسل ما رأى في ثوبه، ونضح ما لم ير، وأذن، أو أقام، ثم صلى بعد ارتفاع الضحى متمكناً". أقول: قال فقهاء الحنفية منصلى إماماً ثم تبين له بعد الصلاة أنه كان محدثاً، فعليه أن يبلغ من صلى وراءه بالقدر المستطاع أن يعيدوا صلاتهم، ومذهب الشافعية أنه ليس عليهم إعادة. - الاغتسال بالماء والخطْمِي ونحوه: 640 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا اغتسل أحدُكم وهو جُنُبٌ بالخطمي ثم اغتسل بعد ذلك فليغسلْ رأسه إن شاء بالماء". أقول: الغتسال بماء الخطمي أو السدر أو بماء خالطه ما يزيد التطهير كالصابون جائز، نص على ذلك فقهاء الحنفية وغيرهم. -في الحمام وغُسل الإسلام: اتفقت المذاهب الأربعة على أن من أسلم وهو جنب عليه الاغتسال، قال الحنفية والشافعية يستحب له الاغتسال إذا لم يكن جنباً ويزئه الوضوء وأوجب المالكية والحنابلة الغسل على الكافر إذا أسلم. وأما الحمامات العامة وقد كانت منتشرة كثيراً في الأرض الإسلامية وهي معلم من معالم المدنية الإسلامية، فإن الدخول إليها مباح للرجال ويجب عليهم غض البصر عمال ايحل لهم وصون عوراتهم عن التكشف عند من لا يحل له النظر إليها ويكره له الدخول إذا خشي من المحظور إلا بضوررة وأما النساء فيكره لهن دخول الحمامات العامة بلا عذر من حيض أو نفاس أو مرض أو حاجة للغُسل وعندما لا يمكن أن تغتسل في بيتها لسبب ما.
ويعتبر الماء الذي يجري في حوض الحمام ويخرج منه في حكم الجار من حيث الطهارة، ولا بأس للمستتر من ذكر الله في الحمام، ولا تكره قراءة القرآن في الحمام عند مالك والنخعي وكره أحمد ذلك لأنه محل للتكشف. 641 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الرجال والنساء عن دخول الحمام، قالت: ثم رخص للرجال أن يدخلوه في المآزر". ولهما في رواية (1) أبي المليح الهُذلي قال: "دخل على عائشة نسوةٌ من نساء أهل الشام، فقالت: لعلكنَّ من الكورةِ التي تدخلُ نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم، قالت أما إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأةٍ تخلعُ ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكتْ ما بينها وبين الله من حجاب". 642 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزارٍ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخِلْ حليلتَه الحمام إلا من عذرٍ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدارُ عليها الخمر". في رواية (2): النسائي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمَّام إلا بمئزرٍ".
643 - * روى الطبراني عن ابن عمر "أنه كان يدخل الحمام، فينورُهُ صاحب الحمام، فإذا بلغ حقوهُ قال لصاحب الحمام: أخرجْ". أقول: المراد بالنص أن ما تحت السرة لم يكن ابن عمر يسمح للحماميَّ أن ينظر إليها أو يمسها. 644 - * روى أبو داود عن قيس بن عاصم رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماءٍ وسدرٍ". إلا أن الترمذي والنسائي قالا: "إنه أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: ذكر السدر استدل به الفقهاء على أن مايخالط الماء من طاهر يزيد في تنظيفه لا يؤثر على طهوريته وليس وجود السدر شرطاً لصحة اغتسال من أسلم. 645 - * روى الطبراني عن قتادة أبي هشام قال أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا قتادة اغتسلْ بماءٍ وسدرٍ واحلقْ عنك شعر الكفر" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر من أسلم أن يختتن وإن كان ابن ثمانين سنةً". أقول: إن من عادة الكافرين ألا يستحدوا فيحلقوا شعر عاناتهم أو ينظفوا آباطهم من الشعر الذي هو فيها، وذلك يخالف سنن الفطرة، فالنص محمول على إزالة هذا النو من الشعر، هذا إذا كان موجوداً.
الحيض والنفاس والاستحاضة عرض إجمالي
الحيض والنفاس والاستحاضة عرض إجمالي قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1). الدماء التي تخرج من فرج المرأة ثلاثة: دم حيض ودم نفاس وهما يوجبان الغسل بعد الهر منهما ودم الاستحاضة وهو ما ليس دم حيض ولا دم نفاس. والحيض دم خارج في حال الصحة من رحم المرأة من يغر ولادة ولا مرض في أمد معين، وبه تصبح الأنثى بالغة مكلفة وقد يأتي الأنثى في سن مبكرة كتسع سنين قمرية وفي العادة فإنه يأتي المرأة شهرياً ما لم تكن حاملاً حتى تصل إلى سن الإياس وهو خمس وخمسون سنة عند الحنفية وسبعون عند المالكية لكنهم يقولون: إن ما بعد الخمسين يحكم عليه النساء صاحبات الخبرة وكذلك يسألن في المراهقة عن دمها، وهي ما كانت بنت تسع إلى ثلاث عشرة، وقال الشافعية ما دامت المرأة حية فالحيض ممكن في حقها، وقال الحنابلة: سن اليأس خمسون. وذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الحامل لا تحيض، فما خرج من دم منها قبل الولادة فهو استحاضة، وذهب المالكية والشافعية إلى أن الحامل قد تحيض. والعادة أن أقل طهر بين الحيضتين هو خمسة عشر يوماً عند جمهور الفقهاء فإذا وجد دم قبل ذلك فهو دم استحاضة، وأقل مدة الحيض عند الحنفية ثلاثة أيام بلياليها وأكثره عشرة أيام بلياليها، فما نقص عن ذلك أو زاد فهو استحاضة ومن الاستحاضة عندهم أن لو كان للمرأة عادة أقل من عشرة أيام واستمر الدم معها حتى جاوز العشرة فما زاد على عادتها فهو استحاضة أما إذا لم يتجاوز العشرة فهو حيض فإذا تجاوز فإنها تقضي صلاة الأيام التي زادت عن عادتها ويرى الشافعيةوالحنابلة أن أقل زمن الحيض يوم وليلة: أربع وعشرون ساعة
على الاتصال المعتاد في الحيض بحيث لو وضعت قطنة لتلوثت فإذا رأت الدم أقل من يوم وليلة فهو استحاضة وأثره خمسة عشر يوماً بلياليها فإن زاد فهو استحاضة. وعند المالكية تفصيلات كثيرة تراجع في محلها، وأقل الطهر بين النفاس والحيض أو بين الحيضتين خمسة عشر يوماً عند الجمهور وقال الحنابلة أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً ولاحد لأكثر الطهر باتفاق الفقهاء وللطهر في حق الحائض والنفساء علامتان، جفاف الدم حتى إذ وضعت قطنة لم يظهر عليها شيء والقصة البيضاء وهي ماء أبيض رقيق يأتي في آخر الحيض وكل لون في مدة الحيض أو النفاس يعتبر حيضاً أو نفاساً والنقاء المؤقت في مدة الحيض حيض عند الحنفية والشافعية، وعند المالكية والحنابلة تفصيل يراجع في محله، والنفاس عند الحنفية هو الدم الذي يخرج عند خروج أكثر الولد أما ما قبل ذلك فهو دم استحاضة، فتتوضأ إن قدرت وتصلي أو تتيمم ولا تؤخر الصلاة أما المالكية: الدم الي يخرج قبل الولادة هو دم يحض وعلى هذا فلا صلاة عليها عندئذ وقال الحنابلة: الدم النازل قبل الولادة بيومين أو ثلاثة مع أمارة كالطلق، والدم الخارج مع الولادة هو دم نفاس عندهم كالدم الخارج عقب الولادة وعلى هذا فلا صلاة على مثل هذه وقد تلد بعض النساء بلا دم، والفقهاء في هذه الحالة مختلفون هل عليها غسل أول يس عليها، فبعضهم ومنهم بعض الحنفية لا يوجبون عليها غسلاً ولا تعتبر نفساء. ولا حد لأقل النفاس فقد يكون مجة أو دفعة ثم تطهر فعليها الغسل والصلاة والصوم وأكثره عند المالكية والشافعية ستون يوماً، وعند الحنابلة والحنفية: أربعون يوماً وما زاد عن الحد الأعلى فهو استحاضة. ويحرم بالحيض والنفاس: الصلوات كلها، والصوم، ومس المصحف ودخول المسجد. والطواف، والاعتكاف وقراءة القرآن، والجماع، والطلاق إلا أن الطلاق يقع على الراجح عند الأئمة الأربعة وإن كان محرماً. ويتعلق بالحيض والولادة أحكام لها صلة بالعدة سيأتي تفصيل لها، وليس على من وطيء الحائض والنفساء إلا التوبة والاستغفار عند المالكية والشافعية والحنفية ويرى بعض الحنابلة أن على الواطيء والموطوءة إن طاوعت الرجل كفارة، والكفارة نصف دينار،
وقال الشافعية يسن لمن وطيء في إقبال الدم التصدق بدينار ولمن وطيء في إدباره التصدق بنصف دينار، ويجوز للرجل أن يستمتع بما دون الفرج عند الحنابلة وعند بعض الحنفية والجمهور على أن الاستمتاع بما بين السرة والركبة محرم إلا بحائل، ويجوز الاستمتاع في ما سوى ذلك. وإذا انقطع دم الحائض دون عادتها فوق الأيام الثلاثة قال الحنفية: لم يقربها زوجها حتى تمض عادتها وإن اغتسلت اما إذا انقطع لعادتها فلا يجوز لزوجها عند الحنفية أن يقربها إلا إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة بأن تجد من الوقت زمناً يسع الغسل وتحريمه الصلاة ولم تصل فيحل وطؤها قبل الغسل كما يحل وطؤها قبل الغسل إذا انقطع دمها لعشرة أيام وهو أكثر الحيض عندهم. أما المستحاضة فهي التي يخرج منها الدم لا يعتبر دم حيض أو نفاس فهذه لها أحكامها: فالاستحاضة تعتبر حدثاً أصغر، فلا تمنع شيئاً مما يمنعه الحيض والنفاس من صلاة وصوم ولو نفلاً وطواف وقراءة قرآن ومس مصحف ودخول مسجد واعتكاف ووطء، وحكم المستحاضة كحكم أصحاب الأعذار الذي سيأتي معنا، إذا كان دمها لا ينقطع فهي كالمصاب برعاف دائم أو سلس بول أو خروج ريح لا يتحكم فيه صاحبه، ولذلك تفصيلاته، فإذا كانت المستحاضة كذلك، فقد أوجب الشافعية والحنفية والحنابلة أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وقال المالكية يستحب للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة كما يستحب لها بعد انقطاع الدم الغسل من الاستحاضة وتصلي المستحاضة بوضوئها بعد دخول الوقت ما شاءت من الفرائض والنوافل ويبطل وضوؤها بخروج الوقت. وإذا كان الدم مستمراً عند المرأة فمن الضروري أن تعرف كيف تقدر مدة حيضها والمبادئ الأساسية في هذا التقدير العمل بالتمييز لصفة الدم وبناء المعتادة على عدتها السابقة، ورجوع المستحاضة إلى الغالب من عادة النساء، وعند الحنفية أن المبتدأة بظهور الدم واستمراره تقدر حيضها بعشرة أيام وطهرها بعشرين يوماً من كل شهر، وإذا حملت فالدم كله دم استحاضة، وأما من لها عادة من قبل فترد إلى عادتها، وأما التي نسيت عادتها فإنها تأخذ بالأحوط.
- كيف تتطهر الحائض
(حاشية ابن عابدين 1/ 188 وبعدها)، (الشرح الصغير 1/ 207 وبعدها)، (المغني 1/ 306 وبعدها)، (المهذب 1/ 38 وبعدها)، (الفقه الإسلامي 467 وبعدها). وإلى نصوص هذه الموضوعات: - كيف تتطهر الحائض: 646 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها "أن امرأةً من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسلها من المحيض؟ فأمرها كيف تغتسل، ثم قال: "خُذي فرصةً من مسكٍ، فتطهري بها"، قالت: كيف أتطهرُبها؟ قال: "تطهري بها"، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: "سبحان الله! تطهري بها"، فاجتذبتها إليَّ فقلتُ: تتبعي بها أثر الدم". ومن الرواة (1) من قال فيه: خذي فرصة ممسكةً، فتوضئي بها ثلاثاً، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استحيي، وأعرض بوجهه، وقال: "توضئي بها"، فأخذتُها فاجتذبتها، فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم. ولمسلم (2) عن عائشة: أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكُن ماءها وسدرتها، فتطهرُ فتُحسن الطهور، ثم تصُب على رأسها، فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصبُّ عليه الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة، فتطهرُ بها"، فقالت أسماء: فكيف تطهر بها؟ قال: "سبحان الله! تطهري بها"، قالت عائشة - كأنها تُخفي ذلك - تتبعين بها أثر الدم، وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذُ ماءً، فتطهَّر، فتحسنُ الطهور، أو تبلغُ الطهور، ثم
تصبُّ على رأسها، فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تُفيض عليها الماء"، فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين". وفي أخرى (1): "دخلت أسماء بنتُ شكلٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسلُ إحدانا إذا طهرتْ من الحيض ... وساق الحيدث". ولم يذكر فيه غُسل الجنابة. أقول: يغلط بعض النساء فيظنن أنه متى انقطع الدم فلم يظهر على الخرقة الخارجية، فقد طهرن من الحيض والنفاس وهذا خطأ، فالعبرة لإدخال قطن أو ما يشبهه إلى الفرج الداخلي فإذا خرج وليس عليها شيء أو عليها الطهر الأبيض الخالص، فعندئذ تطهر، فإذا طهرت عندئذ تغتسل وفي هذا النص ندب إلى أن تضع بعد الطهر قبل الاغتسال أو بعده شيء من الطيب في الفرج للمصلحة التي ذكرت في شرح المفردات. حكم قراءة الحائض القرآن: 647 - *روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما يحل من الحائض
"لا يقرأ الجنب والحائض شيئاً من القرآن". ما يحلُّ من الحائض: 648 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن اليهود كانت إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلُوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي؟ فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يُريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أُسيدُ بن حُضيرٍ، وعبادُ بن بشر، فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نُجامعهنَّ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هديةٌ من لبنٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا: أن لم يجد عليهما. أقول: رأينا أن للفقهاء اتجاهين فيما يصنع الرجل أثناء الحيض، اتجاه يقول: إنه يجتنب الفرج فقط واجاه يقول: إن المرأة تأتزر ما بين سرتها إلى ركبتها ثم يصنع الرجل بعد ذلك ما شاء، وكل أصحاب الاتجاهين وجه النصوص بما يتفق مع مذهبه، فحمل الائتزار على الكمال أو على حين الخشية من قال باجتناب الفرج فقط.
649 - * روى الشخيان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزارٍ في فوْرِ حيضتها، ثم يباشرها، وأيُّكم كان يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إرْبَه؟ ". في رواية (1): قالت: كنت أغتسلُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحدٍ وكلانا جنبٌ، وكان يأمرني فأتزرُ، فيُباشرني وأنا حائضٌ، وكان يُخرجُ رأسه إليَّ وهو معتكفٌ، فأغسله وأنا حائضٌ". وأخرج أبو داود (2) الرواية الأولى قوال: "في فوح حيضتها". وفي أخرى لأبي داود والنسائي (3) قالت: كان يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً: أن تأتزر، ثم يُضاجعها زوجها، وقالت مرة: يباشرها. وفي رواية (4): الموطأ أن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائضٌ؟ فقالت: لتشُدَّ إزارها على أسفلها، ثم يباشرها إن شاء. وفي أخرى للنسائي (5) عن جُميع بن عمير قال: دخلتُ على عائشة مع أمي وخالتي،
فسألناها كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا حاضت إحداكهن؟ قالت: كان يأمرنا إذا حاضت إحدانا أن تأتزر بإزارٍ واسعٍ، ثم يلتزم صدرها وثدييها. 650 - * روى البخاري عن ميمونة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُباشر امرأة من نسائه: أمرها فاتزرتْ وهي حائضٌ". وفي رواية (1): كان يباشر نساءه فوق الإزار وهن حُيَّضٌ". وفي رواية (2): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجعُ معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوبٌ". في رواية: أبي داود (3) والنسائي (4): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزارٌ إلى أنصاف الفخدين والركبتين محتجزة". 651 - * روى أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائضٌ؟ قال: "ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل". 652 - * روى أبو داود عن عكرمة بن عبد الله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقي على فرجها ثوباً".
مخالطة الحائض ومؤاكلتها ونحو ذلك
مخالطة الحائض ومؤاكلتها ونحو ذلك: 653 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها "كانت تُرجِّلُ النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو معتكفٌ في المسجد، وهي في حجرتها يُناولها رأسه". 654 - * روى الستة عن عائشة: "كنتُ أغسلُ رأس النبي صلى الله عليه وسلم وأنا حائضٌ". 655 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأُ القرآن". وفي أخرى (1): "كان يقرأ القرآن ورأسهُ في حجري وأنا حائض". وفي رواية النسائي (2) قالت: "كان رأسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر إحدانا وهي حائض، وهو يقرأ القرآن". 656 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ناوليني الخمرة من المسجد"، قالت: قلتُ: إني حائض، قال: "إن حيضتك ليست في يدك". وللنسائي (1) قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد قال: "يا عائشة، ناوليني الثوب"، فقالت: إني لا أصلي، فقال: "ليس في يدك"، فناولتُهُ. أقول: وهي مقدار ما يضع عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من النبات وقوله من المسجد أي من موضع سجودي في بيتك فهي كانت في بيتها رضي الله عنها، ويغلط من يفهم أنه يطلب منها أن تدخل المسجد لتناوله ما أراد فليس للحائض أن تدخل المسجدز 657 - * روى الدارمي أن إبراهيم كان لا يرى بأساً أن تتناول الحائض من المسجد شيئاً دون أن تدخله. 658 - * روى الشيخان عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "بينما أنا مَضطجعةٌ مع رسول الله صلىلله عليه وسلم في الخميلة، إذ حِضْت، فانسلَلْتُ، فأخذت ثياب حيضتي فلبستها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنفستِ؟ " قلت: نعم، فدعاني فاضطجعتُ معه في الخميلة. قالت: وكانت هي ورسول الله يغتسلان في الإناء الواحد من الجنابة".
- حكم من واقع الحائض
659 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أشربُ من الإناء وأنا حائضٌ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضعُ فاهُ على موضع فيِّ". وفي رواية أبي داود (1) والنسائي (2) قالت: كنت أتعرَّق العرق وأنا حائض، فأعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وكنت أشرب من القدح فأناوله إياه، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب". وفي رواية (3): للنسائي عن شُريح بن هانئ "سألها: هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ قالت: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني، فآكل معه وأنا عاركٌ، وكان يأخذ العرق فيُقسم عليَّ فيه، فآخذه فأتعرقُ منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من العِرْق، ويدعو بالشراب، فيُقسم عليَّ فيه، قبل أن يشرب منه، فآخذه فأشرب منه، ثم أضعه، فيأخذه فيشرب منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح". 660 - * روى الترمذي عن عبد الله بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن مُواكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها". - حكم من واقع الحائض: 661 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الجل بأهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار". وفي رواية (4): أنه قال: "إذا أصابها أول الدم - والدمُ أحمر- فدينار وإذا
أصابها في انقطاع الدم - والدمُ أصفر- فنصف دينار". وفي رواية (1): أبي داود أن النبي قال في الذي يأتي أهله وهي حائض، قال "يتصدق بدينارٍ، أو نصف دينارٍ". قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة "دينار، أو نصف دينار" وربما لم يرفعه شعبة. وفي رواية (2): عنه قال: "إذا أصابها في الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار". وأخرج الرواية (3) الأولى من روايتي الترمذي، وقال: وروى الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك عن عبد الحميد بن عبد الرحمن-[وهو ابن زيد بن الخطاب القرشي العدوي]- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمره أن يتصدق بخمسي دينار". وأخرج النسائي (4) رواية أبي داود الأولى. (الدينار) = مثقال من الذهب والمثقال العجمي = 4.80 غرامات والمثقال العراقي = 5 غرامات. أقول: قد اعتبر بعضهم أن الصدقة في هذا المقام من باب {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (5) (واتبع السيئة الحسنة تمحها) وليست من باب الكفارات، وقد نقل. 662 - * روى الدارمي عن الشعبي وسعيد بن جبير وابن سيرين وابن أبي مليكة وعطاء
ترك الحائض الصلاة والصوم وقضاؤها الصوم
والقاسم وغيرهم أنه ليس على من أتى امرأته وهي حائض إلا التوبة والاستغفار، كما نقل عن إبراهيم جواز إتيان الحائض في مراقها وبين أفخاذها وفي سرتها وفي إليتها ونقل عن مجاهد أن المحرم هو الدبر والفرج فقط ونقل عن قتادة ومجاهد تفسير الأذى في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (1) أنه القذر، وإنما ذكرنا هذا للإشارة إلى أن في أقوال الفقهاء من الرخص ما يتسع بحيث لا يحتاج الرجل إلى إتيان المرأة في القبل أثناء الحيض والنفاس، أما الدبر فمحرم في كل الأحوال. ترك الحائض الصلاة والصوم وقضاؤها الصوم: 663 - * روى البخاري عن عائشةرضي الله عنها "أن امرأة قالت لها: أتُجزيءُ إحدانا صلاتها إذا طهرتْ؟ فقالت: أحرُوريَّةٌ أنت؟ كنا نحيضُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يأمرنا به- أو قالت: فلا نفعله". وفي رواية (2): قالت مُعاذة: "سألت عائشة، فقلتُ: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنتِ؟ قلتُ: لستُ بحروريةٍ، ولكني أسألُ، قالت: كان يُصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة". وفي أخرى (3): "أن امرأة سألت عائشة فقالت: أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها، فقالت: أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيضُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا تؤمرُ بقضاءٍ".
فائدة
فائدة: والحكمة في عدم التكليف بقضاء الصلاة لأن في قضاء الصلوات إحراجاً لتضاعف الصلوات لأنها خمس في كل يوم وليلة ولا حرج في قضاء الصوم لأنه في السنة مرة واحدة مع إفصاح النص وهو الأمر بقضاء الصوم فوجب. (الهداية مع البناية 1/ 636) (وهبي). 664 - * روى أبو داود ع أم بُسة - واسمها مُسَّة الأدية قالت: "حججتُ فدخلت على أم سلمة، فقلت: يا أم المؤمنين، إن سمُرة بن جُندب يأمر النساء أن يقضين صلاة المحيض؟ فقالت: لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعدُ في النفاس أربعين ليلة لا تصلي، ولا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة لانفاس". قال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل، فإذا رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قال: ويروي عن الحسن البصري أنه قال: إنها تدع الصلاة خمسين يوماً إذا لم تر الطهر، ويروي عن عطاء بن أبي رباح والشعبي ستين يوماً. أقول: قولها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم كانت تريد به زواته وسراريه، فلم يلد له بعد الهجرة إلا مارية، فإن لم تكن تريد مارية فالراجح أنها تريد أهل بيته كفاطمة ابنته رضي الله عنها وإنما ذكرنا هذا التأويل لأن المشهور أن السيدة خديجة رضي الله عنها توفيت قبل ليلة الإسراء وهي الليلة التي فرضت فيها الصلوات الخمس ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد من غير خديجة إلا مارية سريته رضي الله عنها.
مسائل تتعلق بالحائض والنفساء
مسائل تتعلق بالحائض والنفساء: 665 - * روى مالك عن مرجانة- مولاة عائشة قالت: "كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكُرْسُف، فيه الصُّفرة من دم الحيضة، يسألنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك الطهر من الحيضة". 666 - * روى الطبراني في الأوسط عن أم سلمة قالت: كانت إحدانا تحيض في الثوب فإذا كان يوم طهرها غسلتْ ما أصابه ثم صلتْ فيه وإن إحداكن اليوم تُفرغُ خادمها لغسل ثيابها يوم طهرها. 667 - * روى أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعُدُّ نفاسها أربعين يوما، أو أربعين ليلةً، وكنا نطْلي على وجوهنا الورس- يعني: من الكلف". وفي رواية (1): الترمذي قالت: "كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف". - أحكام المستحاضة: 668 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "أن أمَّ حبيبة بنت جحشٍ - ختنةَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحت عبد الرحمن بن عوف - استحيضتْ سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسل الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عِرْقٌ، فاغتسلي وصلي"، قالت عائشة: فكانت تغتسلُ في مركنِ في حجرة أختها زينب بنت جحشٍ، حتى تلُو حمرةُ الدم الماء" قال ابن شهاب: فحدثت بذلك أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، فقال: يرحم الله هنداً، لو سمعت بهذه الفتيا؟ والله إن كانت لتبكي، لأنها كانت لا تصلي".هذا لفظ حديث مسلم. وهو عند البخاري مختصراً: أن أم حبيبة استُحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل، وقال: "هذا عِرقٌ"، فكانت تغتسلُ لكل صلاة. وفي رواية (1): نحوه إلى قوله: "حتى تعلُو حمرةُ الدم الماء". ولم يذكر ما بعده. وفي أخرى (2) قالت: استفتت أمُّ حبيبة بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحاضُ؟ فقال: "إنما ذلك عِرقٌ، فاغتسلي، ثم صلي"، فكانت تغتسل عند كل صلاة". قال الليث: ولم يكر ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي" [وفي رواية: "بنت جحش" ولم يذكر أم حبيبة]. ولمسلم (3): "أن أم حبيبة بنت جحش - التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم فقال لها: "امكُثي قدر ما كانت تحبسُك حيضتُك، ثم اغتسلي، فكانت تغتسل عند كل صلاة". وفي رواية (4): "ثم اغتسلي وصلي ... " وفيه، قالت عائشة: رأيت مِرْكنها ملآن دماً".
أقول: المستحاضة حال استحاضتها حكمها حكم المعذور الذي يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة بعد دخول الوقت، ولا يعتبر عذره ناقضاً للوضوء في الوقت كله، فيصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل وما فعلته حمنة بنت جحش من الاغتسال لوقت كل صلا كان فهماً لها كما قال ابن شهاب لم يُرده الرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. 669 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حُبيش- وأبو حبيش هو ابن المطلب بن أسد - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني امرأةٌ أُستحاضُ فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها رسلو الله صلى الله عليه وسلم: "إنما لك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". وفي رواية (1): سفيان "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرتْ فاغتسلي وصلي". وفي أخرى (2) "ولكن دعيالصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي". وفي أخرى لأبي (3) داود قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكر خبرها، ثم قال: "اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة وصلي". وفي أخرى للنسائي (4): "أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تُستحاض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دم الحيض دمٌ أسود يُعرفُ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي". أقول: تكرر من رسول الله صلى الله لعيه وسلم وصف الاستحاضة بأنها دم عرق أي إنها نزيف وليس
هو دم الحيض، والمعروف الآن أن دم الحيض إنما يكون أثراً عن انفجار بويضة المرأة كل شهر مرة ضمن وقت محدد، وما سوى ذلك نزيف فهذا المعنى من معجزاته عليه الصلاة والسلام وأعلام نبوته، فهذا شيء لا يعرف إلا بواسطة وحي في ذلك الزمن. 670 - * روى الطبراني في الصغير عن جابر أن فاطمة بنت قيس سألت رسول الله صلى الله عيه وسلم عن المستحاضة فقال: "تقعدُ أيام أقرائها ثم تغتسل عن كل طهرٍ ثم تحتشي وتصلي". 671 - * روى الطبراني في الأوسط عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة. أقول: المراد بالنص والله أعلم: أن المرأة تجلس دون صلاة أيام عادتها ثم تغتسل ثم تتوضأ لوقت كل صلاة وتحاول أن تقطع الدم بالاحتشاء أو تخففه بالقدر الممكن، فإذا كان الدم ينقطع بالاحتشاء، ولا يظهر إلى الخارج مدة الصلاة فلا تعتبر من أصحاب الأعذار وفي هذه الحالة إذا خرج الدم فإنه ينقض وضوءها داخل الوقت وسيأتي معنا تفصيل لموضوع أهل الأعذار. 672 - * روى أبو داود عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه سلم في المستحاضة: "تدعُ الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة". زاد في رواية (1) "وتصوم وتصلي".
أقول: قال المالكية يستحب للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة وقال الحنفية والشافعية والحنابلة يجب على المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة بعد أن تغسل فرجها وتعصبه وتحشوه بقطن وما أشبهه إلا إذا أضر بها الاحتشاء لكن الحنابلة أجازوا لها الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد بحكم أنها مريضة وحمل آخرون الأحاديث التي وردت في الجمع على الجمع الصوري وذلك كأن كان الاحتشاء عندها يقطع الدم لفترة قليلة فعندئذ تؤخر صلاة الظهر إلى ما قبيل العصر، فتصليها حتى إذا دخل وقت العصر صلتها وكذلك المغرب والعشاء. 673 - * روى أبو داود عن حمْنه بنت جحش رضي الله عنها قالت: كنتُ أستحاض حيضةً كثيرةً شديدةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله، إني أُستحاضُ حيضةً كثيرةً شديدة، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم، قال: "أنعتُ لك الكُرْسُف، فإنه يثذهب الدم"، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: "فاتخذي ثوباً"، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثُجُّ ثجَّا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سآمرك بأمرين، فأيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما، فأنت أعلمُ"، قال لها: "إنما هذه ركضعةٌ من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله تعالى، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت: فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء، وكما يطهرن، ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويتِ على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين (1): الظهر
والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: فافعلي، وتغتسلين مع الفجر: فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذا أعجب الأمرين إليَّ". وقال: ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل، فقال: قالت حمنة: هذا أعجب الأمرين إليَّ. لم يجعله قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (1): الترمذي مثله إلى قوله: "فإنه يُذهب الدم" قالت: هو أكثر من ذلك، قال: "فتلجمي" قالت: هو أكثر من ذلك، قال: "فتخذي ثوبا"، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثُجُّ ثجاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سامرُك بأمرين، أيهما صنعت أجزأ عنك، فإن قويت عليهما، فأنت أعلمُ"، فقال: "إنما هي ركضة من الشيطان ... " وذكر الحديث، وفيه: "ثم تغتسلين مع الصبح وتصلين". أقول: المذاهب الأربعة على عدم وجوب الغسل على المستحاضة من أجل دم الاستحاضة وقد رأينا توجيه ابن شهاب لما ورد في حق حمنة أنا فهمت من الغسل الشهري لانتهاء مدة حيضها أنه أمر بالغسل لوقت كل صلاة وعلى فرض أن الأمر ليس كذلك فالغسل محمول على الاستحباب، وجماهير الفقهاء على عدم جواز الجمع بين صلاتين للمستحاضة إلا ما ذهب إليه الحنابلة وحملوا الجمع هنا على الجمع الصوري. 674 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "استَحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُمرتْ أن تُعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلاً، وأن تؤخر المغرب، وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً، قال: فقلت لعبد الرحمن [بن القاسم]: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا أُحدِّثك عن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء".
وفي رواية (1): "أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغُسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصحب". وفي رواية (2): عند عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: "أن امرأة استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بمعناه". وفي رواية (3) النسائي: "أن امرأة مستحاضة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيل لها: إنه عرقٌ عاندٌ، وأُمرتْ أن تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل لما غسلاً واحداً، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلاص واحداً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً واحداً". 675 - * روى أبو داود عن أسماء بنت عُميسٍ رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن فاطمنة بنت أبي حُبيش استحيضت منذ كذا وكذا، فلم تصلِّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! هذا من الشيطان، لتجلسْ في مركنٍ، فإذا رأت صُفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غُسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غُسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك". وقال أبو داود: رواه مجاهد عن ابن عباس قال: لما اشتد عليها الغسل: أمرها أن تجمع بين الصلاتين. 676 - * روى مالك عن أم سلمة رض الله عنها أن امرأة كانت تُهراقُ الدماء في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "لتنظُرْ عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يُصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفِرْ بثوب، ثم لتُصلِّ". 677 - * روى أبو داود عن سُميّ- مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أن القعقاع وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله: كيف تغتسلُ المستحاضة؟ قال: تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، فإن غلبها الدم استثفَرتْ بثوبٍ". قال أبو داود: وروي عن ابن عمر وأنس بن مالك تغتسل "من ظهر إلى ظهر". وكذلك روى داود [بن أبي هند] وعاصم [بن سليمان] عن الشعبي عن امرأته عن قميرٍ عن عائشة، إلا أن داود قال: كل يوم وفي حديث عاصم عند الظهر وهو قول سالم بن عبد الله، والحسن، وعطاء، [قال أبو داود: قال مالك: إني لأظن حديث ابن المسي بمن طهر إلى طهر، فقلبها الناس من ظهر إلى ظهر]. 678 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت" لقد اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة منأزواجه مستحاضة، فكانت ترى الدم والصُّفرة، وهي تصلي، وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي. 679 - * روى مالك عن عبد الله بن سفيان قال: كنت جالساً مع ابن عمر، فجاءته امرأة تستفتيه، فقالت: إني أقبلت أريد أن أطوف بالبيت، حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء، فرجعت حتى ذهب ذلك عني، ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد: هرقت الدماء، فرجعت حتى ذهب ذلك عني، ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد
فائدة
هرقت الدماء، فقال عبد الله بن عمر: إنما ذلك ركضة من الشيطان، فاغتسلي، ثم استثفري بثوبٍ، ثم طوفي". فائدة: في بيان الواجب على المستحاضة دائمة الدم: قال الشيخ ظفر أحمد: ثم اعلم أن ما في رواية الحاكم (ثم لتغتسل في كل يوم غسلاً واحداً) وكذا وما رواه أبو داود عن أسماء بنت عميس قالت قلت: يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله إن هذا من الشيطان لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاص واحداً وتغتسل للفجر غسلاً واحداً وتوضأ فيما بين ذلك" قال أبو داود رواه مجاهد عن ابن عباس "لما اشتد عليها الغسل أمرها أن تجمع بين الصلاتين" وفي عون المعبود (قال المنذري حسن) فكل ذلك محمول على الاستحباب ويدل على أن الواجب عليها غسل واحد ما رواه الطبراني في الوسط بإسناد حسن كما في العزيزي (3/ 377) عن بن عمرو بن العاص مرفوعاً (المستحاضة تغتسل من قرء إلى قرء) وهو ظاهر حديث ابن حبان ثم اعلم أن فقهاءنا قاسوا كل معذور على المستحاضة في الحكم. ا. هـ إعلاء السنن (1/ 262 - 263) تعليقاً (وهبي). 680 - * روى أبو داود عن عكرمة قال: عن حمنة بنت جحشٍ "أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يُجامعها" 681 - * روى أبو داود عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "كنا لا نعدُّ الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً". أقول: قال فقهاء الحنفية ووافقهم آخرون: إن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر
يوماً، فما تراه المرأة في مدة الطهر لا يعتبر حيضاً، وقال فقهاء الحنفية إذا استمر الحيض بأي لون من ألوان الدم إلى ما بعد عادة المرأة وكانت عادتها أقل منعشر فإنها تنتظر حتى العشر فإن طهرت بالعشر اعتبر ذلك كله حيضاً وإن زاد على العشر اعتبر ما زاد على عادتها الأصلية استحاضة، فتغتسل في نهاية الشعر وتقضي ما فاتها من صلاة فيما تركته بعد انقضاء عادتها. كذر في إعلاء السنن (1/ 257) عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم مما تغيض الأرحام، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الله رفع الدم عن الحبلى وجعله رزقاً للولد. انظر الجوهر النقي (2/ 132) ويقرر الطب الآن أن الدم في حال الحمل يكون دم استحاضة دون حيض فلا يكون دم عادة. أقول: ونقل الدارمي عن الحسن وإبراهيم وعطاء والحكم بن عتبة أن الحامل إذا رأت الدم فهي بمنزلة المستحاضة لاتدع الصلاة وذكر عن عبد الله بن مسعود أن المرأة إذا حزبها الطلق ورأت الدم على الولد فإنها تصلي ما لم تضع وعند الحنفية أنها تصلي ما لم يظهر أكثر الولد وفائدة المسألة تظهر في القضاء فلو أنه ظهر أقله قبل العصر ثم ولدت بعد العصر فإن عليها قضاء صلاة لاظهر إذا لم تكن صلتها كما أن عليها قضاء العصر.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - لم يعتبر الحنفية النية فرضاً في غسل أو وضوء، فلو أن إنساناً كان جنباً أو كانت امرأة حائضاً أو نفساء وألقى أو ألقت نفسها في ماء كثير بحيث أصاب كل جسمه أو جسمها فإنه يخرج طاهراً وتخرج طاهرة من الحدث الأكبر والأصغر ولو لم توجد النية وقالوا لو انغمس أو انغمست في الماء الجاري أو ما في حكمه ومكث أو مكثت فقد أكملت السُّنة مع الفرض. - قال في كتاب اللباب (1/ 16) وهو حنفي: (والمعاني الموجبة الغسل إنزال): أي انفصال (المني) وهو ماء أبيض خائر ينكسر منه الذكر عند خروجه تشبه رائحته الطلع رطباً ورائحة البيض يابساً (على وجه الدفق): أي الدفع (والشهوة): أي اللذة عند انفصاله عن مقره، ون لم يخرج من الفرج كذلك، وشرطه أبو يوسف، فلو احتلم وانفصل منه بشهوة فلما قارب الظهور شد على ذكره حتى انكسرت شهوته ثم تركه فسال بغير شهوة: وجب الغسل عندهما، خلافاً له، وكذا إذا اغتسل المجامع قبل أن يبول أو ينام ثم خرج باقي منيه بعد الغسل وجب عليه إعادة الغسل عندهما، خلافاً له، وإن خرج بعد البول أو النوم لا يعيد إجماعاً. ا. هـ. - يسن عند الشافعية والحنابلة: أن تُتْبع المرأة بعد غسلها محل دم الحيض والنفاس مسكاً أو طيباً أو ماء فتجعله في قطنة أو غيرها وتدخله فرجها ليقطع رائح الحيض أو النفاس إلا إذا كانت محرمةً أو معتدةً بوفاة زوج. - لا يسن تجديد الغسل بخلاف الوضوء، فيسن تجديده إذا صلى بالأول صلاة ما. - يتميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بلونه وشدته ورائحته الكريهة وهذا مهم عند من يرى أن المستحاضة يمكن أن تستأنس على حيضها أو استحاضتها من خلال التفريق بين أنواع الدم. - قال الحنفية: المستحاضة إما مبتدأة وهي التي ابتدأها الدم مع البلوغ أو في أول نفاس ثم استمر، أو معتادة وهي التي سبق لها دم وطهر صحيحان، أو متحيرة وهي التي نسيت عادتها، أما المبتدأة فيقدر حيضها بعشرة أيام وطهرها بعشرين يوماً من كل شهر.
وأما المعتادة فترد إلى عادتها المعروفة في الحيض والطهر، وما زاد على ذلك فهو استحاضة، وأما المتحيرة فهذه تأخذ بالأحوط في حق الأحكام الشرعية وذلك يسبب لها حرجاً كثيراً، فهي عليها عندهم ان تجتنب ما تجتنبه الحائض من قراءة القرآن ومسه ودخول المسجد ونحو ذلك ولا يأتيها زوجها وتغتسل لكل صلاة فتصلي به الفرض والوتر وتقرأ به ما تجوز به الصلاة ولا تزيد. والأرفق بها أن تأخذ بمذهب الحنابلة ومن كلامهم في هذا الشأن: المتحيرة وهي التي تحيرت في حضها بجهلها عادتها وعدم التمييز ولها أحوال ثلاثه: أولاً: الناسية لوقت عادتها وعددها، يكون حيضها في كل شهر ستة أيام أو سبعة بحسب اجتهادها ورأيها فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها أو ما يكون أشبه بكونه حيضاً ثم تغتسل وتعتبر فيما بعد ذلك مستحاضة تصوم وتصلي إلى غير ذلك. ثانياً: الناسية عدد عادتها وتذكر وقتها كالتي تعلم أن حيضها في العشر الأول من الشهر ولا تعلم عدده فحكمها كالحالة الأولى تُردُّ إلى غالب الحيض ست أو سبع في أصح الروايتين. ثالثاً: الناسية لوقتها دون عددها بأن لم تدرِ أكانت تحيض في أول الشهر أو أوسطه أو آخره فحكمها أن تجعل أيام حيضتها من أول كل شهر هلالي. وهذا كله إذا لم تكن قادرة على التمييز بين دم الحيض ودم الاستحاضة. (انظر المغني 1/ 321).
الفقرة الثامنة: في التيمم عرض إجمالي
الفقرة الثامنة: في التيمم عرض إجمالي قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1). لقد ذكرنا من قبل أن الصلاة هي أرقى العبادات، ولذلك اشترط لها شروط خاصة منها: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، كما اشترطت الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر لبعض العبادات الأخرى، وذلك لأهمية هذه العبادات، ورأينا أن مادة الطهارة هي الماء، فإذا تعذر الوصول إليه، أو تعذر استعماله فقد جعل الشارع بديلاً عن ذلك هو التيمم وحكمة ذلك والله أعلم: التيسير من جهة، وأن يشعر المسلم أهمية الصلاة والعبادات الأخرى المنوطة بالطهارة حتى لا تؤدي إلا بشروط أصيلة أو بديلة. وعرف الحنفية التيمم بأنه مسح الوجه واليدين من صعيد مطهر، والنية شرط له، وهو ينوب عن الوضوء وعن الغسل للجنابة والحيض والنفاس. والتيمم ينوب عن الماء في كل ما يتطهر له من صلاة مفروضة أو نافلة أو مس مصحف أو قراءة قرآن أو سجود تلاوة أوشكر أو مكث في مسجد إذا توافرت شروط جواز التيمم. قال الحنفية: يجوز التيمم قبل الوقت ولأكثر من فرض ولغير الفرض من النوافل، ويرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء أو القدرة على استعماله، فإذا أصابه حدث انتقض، ونواقضه نواقض الوضوء، وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لا يصح التيمم إلا بعد دخول وقت ما يتيمم له من فرض أو نفل. والنوافل المطلقة يتيمم لها وقت ما شاء إلا في أوقات الكراهة المنهي عن الصلاة فيها، واتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن الأفضل تأخير التيمم لآخر الوقت إن رجا وجود الماء حينئذ، فإن يئس من وجوده استحب تقديمه أول الوقت، وقال أحمد: إن تأخير التيمم
أولى بكل حال. وقيد الشافعية أفضلية الانتظار فيما إذا تيقن وجود الماء آخر الوقت والحنفية لا يرون التأخير لوقت الكراهة. قال الحنفية: إذا تيمم للنفل يجوز له أن يؤدي به النفل والفرض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز للمتيمم أن يؤم المتوضئين إذا لم يكن معهم ماء. والأعذار المبيحة للتيمم: فقد الماء الكافي للوضوء أو الغسل، وفقد القدرة على الاستعمال والمرض المانع من استعمال الماء أو الذي يزيد مدته أو يزداد، والحاجة إلى الماء في الحال أو المستقبل والخوف على النفس أو المال لو طلب الماء، والخوف من الموت، أو على منفعة عضو من أعضائه من شدة البرد إذا استعمل الماء، وفقد آلة استخراج الماء من دلو وحبل، وهناك تفصيلات في كثير من مسائل التيمم تراجع في كتب الفقه. واتفق الفقهاء على أن من تيمم لفقد الماء أو للعجز عن استعماله وصلى ثم وجد الماء أو قدر على استعماله بعد خروج الوقت لا إعادة عليه، وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا إعادة عليه ولا قضاء بعد أن يصلي ولو زالت الأسباب المبيحة للتيمم في الوقت، وإذا وجد الماء أوزالت الأسباب المبيحة للتيمم والمصلي في صلاته تبطل صلاته. وللتيمم فرائض منها: النية باتفاق المذاهب الأربعة، ومنها: مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب، والمطلوب في اليدين عند الحنفية والشافعية مسحهما إلى المرفقن كالوضوء، وعند المالكية والحنابلة إلى الرسغين، أما إلى المرفقين فسنة، والمفروض عند الحنفية والشافعية ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين، وقال المالكية والحنابلة: الفريضة الضربة الأولى: أي ضرب الكفين على الصعيد، وأما الضربة الثانية فهي سنة. واتفق الفقهاء على وجوب نزع الخاتم في التيمم ولا يجب إيصال التراب إلى منبت الشعر الخفيف فضلاً عن الكثيف، ومن الفرائض عند الشافعية والحنابلة الترتيب بين عضوي التيمم، فالوجه أولاً ثم اليدان، وعند الحنفية والمالكية: مستحب، ومن الفرائض عند الحنابلة والمالكية: الموالاة وقيدها الحنابلة بغير الحدث الأكبر، وقال الشافعية والحنفية:
الموالاة سنة، ومن الفرائض أن يكون التيمم بالصعيد الطاهر، وقد اختلف الفقهاء في تعريف الصعيد، ومن كلام المالكية: الصعيد كل ما صعد على الأرض من أجزائها كتراب ورمل وحجارة وحصى، ويجوز التيمم عندهم على الجليد وهو الثلج المجمد من الماء، ومن كلام الحنفية: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والغبار والرمل والحجر والكلس والكحل والزرنيخ، ويجوز عند المالكية والحنفية التيمم بحجر أو صخرة لا غبار عليهما وبتراب نديٍّ لا يعلق باليد منه غبار، كجرة ماء، كما يجوز التيمم بالغبار كأن ضرب يده على ثوب أو لبد فارتفع غبارٌ. وكيفية المسح: أن يُمِرَّ اليد اليسرى على اليمنى من فوق الكف إلى المرفق ثم باطن المرفق إلى الرسغ، ثم يمر اليمنى على اليسرى كذلك، وكيفما فعل أجزأه إذا أوعب، واتفق الفقهاء على أنه إذا تيمم بأكثر من ضربتين جاز. ومن سنن التيمم التسمية في أوله وتفريج الأصابع حين الضرب على الصعيد، والضرب على الصعيد بباطن الكفين وإقبال اليدين وإدبارهما على الصعيد ثم نفضهما، والصمت واستقبال القبلة والتيامن والبدء بأعلى الوجه، والسواك، وتسن صلاة ركعتين عقبه كالوضوء. ونواقض التيمم كل ما ينقض الوضوء والغسل، وزوال العذر المبيح له، والقدرة على استعمال الماء الكافي ولو مرة إذا وجد، وهناك صورة يذكرها الفقهاء وهي التي يسمون صاحبها فاقد الطهورين وهو الذي يفقد الماء والصعيد: كأن حبس في مكان ليس فيه واحد منهما أو في موضع نجس أو كان مصلوباً أو راكب سفينة لا يصل إلى الماء، أو من عجز عن الوضوء والتيمم معاً كمرض ونحوه كمن كان به قروح لا يستطيع معها مس البشرة بوضوء ولا تيمم، فعند الحنفية والشافعية تجب عليه الصلاة وعليه الإعادةوالقضاء، وقال الحنابلة لا تجب عليه الإعادة، وقال المالكية: تسقط عنه الصلاة أداءً وقضاءً، ولا يصح لفاقد الطهورين أن يؤم متطهراً بماء أو تراب، ويصح أن يؤم مثله (1) وإلى نصوص هذه الفقرة.
682 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقدٌ لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماءٌ، فأتى الناسُ إلى أبي بكر، فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعتْ عائشةُ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماءٌ، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءً؟ فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنُ بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرُّك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماءٍ، فأنزل الله تعالى آية التيمم، فتيممُوا، فقال أُسيدُ بن حُضير- وهو أحد النقباء-: ما هي بأول بركتكُمْ يا آل أبي بكر، قالت عائشة" فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحتهُ. وفي رواية (1): أن عائشة قالت: سقطتْ قلادةٌ لي بالبيداء، ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً، فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة؛ وقال: حبست الناس في قلادةٍ، فبي الموتُ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرتِ الصبحُ، فالتمس الماء فلم يوجدْ، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) قال أُسيدُ بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي
بكرٍ، ما أنتم إلا بركةٌ لهم". وفي أخرى (1): "أنها استعارتْ من أسماء قلادةً، فهلكتْ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً منأصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوءٍ، فلما أتوا النبي صلى الله لعيه وسلم شكوا ذلك إليه، فنزلت آيةُ التيمم، فقال أُسيد بنُ حضير: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قطُّ إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين في بركةً". وفي رواية (2) أبي داود قالت: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسيد بن حُضير وأُناساً معه في طلب قلادةٍ أضلتها عائشةُ، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوءٍ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فأُنزلت آية التيمم". زاد في رواية (3): "فقال لها أُسيد: "يرحمُك الله، ما نزل بك أمرٌ تكرهينهُ إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً". 683 - * عن شقيق بن سلمة الأسدي قال: "كنتُ جالساً مع عبد الله بن مسعود أبي
موسى، فقال أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن: لو أن رجلاً أجنبَ، فلم يجِد الماء شهراً: كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم، وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة: (فلم تجدوا ماء) (1)؟ فقال عبد الله: لو رُخِّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمَّمُوا بالصعيد، قلت: وإن كرهتم هذا لذا؟ قال، نعم، فقال أبو موسى لعبد الله: ألم ستمعْ قول عمارٍ لعمر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجبتُ، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغُ الدابةُ، ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك له، فقال: "إنما يكفيك أن تصنع هكذا - وضرب بكفيه ضربةً على الأرض - ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله - أو ظهر شماله بكفه - ثم مسح بها وجهه؟ ". وعند مسلم (2): "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه إلى الأرض ضربةً واحدةً، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيْهِ ووجهه - فقال عبد الله: أو لم ترَ عمر لم يقنعْ بقول عمار؟. وفي رواية (3): قال أبو موسى: فدعنا من قول عمارٍ، فكيف تصنع بهذه الآية؟ فما دري عبد الله ما يقول؟ ". وفي أخرى (4): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بيديه الأرض، فنفض يديه، فمسح وجهه وكفيه". أخرجه البخاري ومسلم، إلا أن مسلماً لم يقل: فقال: إنما كرهتُم هذا لذا؟ قال: نعم. أقول: كانت مناقشة عبد الله بن مسعود في مرحلة، ثم انعقد الإجماع، وحديث عمار هذا أخذ به المالكية والحنابلة ولكنهم استحبوا المسح إلى المرفقين ولم يأخذ به الحنفية
والشافعية وقالوا لابد من مسح اليدين إلى المرفقين كالوضوء، وتأولوا حديث عمار، ورأوا أن الآية ذكرت الأيدي والتيمم بدلاً عن الوضوء، والمراد بالأيدي هنا المراد بها في الوضوء، خاصة وأن هناك روايات لحديث عمار تحتمل هذا المعنى، وهي توافق القياس العام فقدمت على حديث الآحاد. 684 - * روى البزار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصعيدُ وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرة، فإن ذلك خير". 685 - * روى الطبراني عن حكيم بن مُعاويةَ عن عمه قال: قلتُ يا رسول الله إني أغيب الشهر عن الماء ومعي أهلي فأصيب منهم قال: "نعم": قلتُ يا رسول الله إني أغيب أشهراً قال: "وإن غبت ثلاث سنينَ". 686 - * روى الدارمي عن عمار بن ياسرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في التيمم: "ضربة للوجه والكفين". 687 - * روى الشيخان عن عبد الرحمن بن أبزي: أن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبتُ، ولم أجد ماءً؟ فقال: لا تصلِّ، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين: إذ أنا وأنت في سريةٍ، فأصابتنا جنابةٌ، فلم نجد الماء، فأما أنت: فلم تُصلَّ، وأما أنا: فتمعكتُ في التراب وصليتُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يكفيك: أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك؟ " فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئتَ لم أُحدِّثْ به، فقال عمرُ: نوليك ما توليْتَ.
وفي رواية (1) أبي داود قال: كنتُ عند عمر، فجاءه رجلٌ، فقال: إنا نكون بالمكان الشهر والشهرين؟ فقال عمر: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء، قال: فقال عمار: يا أمير المؤمنين، أما تذكُرُ إذ كنتُ أنا وأنت في الإبل، فأصابتنا جنابةٌ، فأما أنا فتمعكتُ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع؟ فقال عمر: يا عمار، اتق الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت والله لم أذكره أبداً، فقال عمر: كلا والله، لنولينك من ذلك ما توليتَ. وهناك روايات متعددة عن عمار وغيره تذكر الذراعين والمرفقين والآباط والمناكب وهي بمجموعها يقوي بعضها بعضاً لذلك ذهب من ذهب من الأئمة إلى وجوب مسح اليدين إلى المرفقين احتياطاً لهذه الروايات وقياساً على الوضوءؤ. وترجم البخاري لأحد الأبواب بقوله (باب التيمم للوجه والكفين) قال الحافظ: أي هو الواجب المجزئ، وأتى بذلك بصيغة الجزم مع شهرة الخلاف فيه لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه. فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط. فاما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيهما مقال، وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكل تيمم صح للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره ولا سيما الصحابي
فائدة
المجتهد. اهـ. فائدة: 688 - * روى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله ليه وسلم: "التيمم ضربتان ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين". وقال الخطابي شارح سنن أبي داود: على الكفين أصح في الرواية، ووجوب الذراعين أشبه بالأصول وأصح في القياس قلت - العيني - لأن الله تعالى أوجب في الوضوء غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس في صدر الآية وأسقط منها عضوين في التيمم فبقي العضوان فيه على ما كانا في الوضوء وإنما ذكر الوجه واليدين لجل إسقاط العضوين الآخرين إذ لولا ذلك لم يحتج إلى ذكرهما، لأنه كان يؤخذ حكمه من الوضوء ا. هـ (البناية على الهداية للعيني) (1/ 496) (وهبي). أقول: قال الحنفية والشافعية: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وذلك هو الواجب، وقال المالكية والحنابلة: التيمم الواجب: ضربة واحدة للوجه واليدين، وتستحب ضربتان، أخذاً من حديث عمار، والملاحظأن الروايات عن عمار مختلفة، ولإنكار عمر عليه وزنٌ عند من رجح الاتجاه الآخر. 689 - * روى الشيخان عن عمران بن حُصينٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يُصلِّ في القوم، فقال: "يا فلانُ، ما منعك أن تُصلي مع القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابةٌ، ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك".
690 - * روى أحمد عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أبا ذر، أبدُ فيها، فبدوت إلأى الربذة، فكانتُ تُصيبني فسكتُّ، فقال ثكلتك أمك أبا ذرٍّ، لأمك الويلُ، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعسٍّ فيه ماءٌ، فسترتني بثوب، واستترت بالراحلة، واغتسلتُ، فكأني ألقيت عني جبلاً. فقال الصعيدُ الطيب وضوء المسلمولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك، فإن ذلك خير". 691 - * روى الطبراني عن قتادة رضي الله عنه قال بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلتْ هذه الآية (ے ولا جنبا إلا عابري سبيل) (1) فرخص للمسافر إذا كان مسافراً وهو جُنُبٌ لا يجدُ الماء أن يتيمم ويُصلي. 692 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجَّه في رأسه، فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدرُ على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُخبرَ بذلك، قال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذْ لم يعلموا، فإنما شفاءُ العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر - أو يعصِبَ، شك موسى - على جرحه خرقةً، ثم يمسحُ عليها، ويغسلُ سائر جسده".
أقول: قال الحنفية والمالكية: يكتفي بالمسح على العصابة التي تكون فوق الجرح ولا يجب التيمم ويرى الشافعية: في الأظهر أنه يجمع بين المسح والتيمم أخذاً من هذا الحديث، وقال الحنابلة: إذا لم تجاوز العصابة قدر الحاجة يكتفي بالمسح عليها وإذا تجاوز لضرورة الربط وغيره يجمع بين التيمم والمسح. قال البغوي (1/ 120): والجريح إذا قدر على غسل بعض أعضاء طهارته عليه أن يغسل الصحيح ويتيمم لأجل الجريح سواء كان أكثر أعضائه صحيحاً أو جريحاً للحديث. وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الجمع بين الغسل والتيمم فإن كان أكثر أعضائه صحيحاً غسل الصحيح ولا تيمم عليه وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم ا. هـ ملخصاً. 693 - * روى أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتملتُ في ليلةٍ باردةٍ في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيممْتُ ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلىلله عليه وسلم، فقال: "يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنبٌ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) (1) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً". وفي رواية (2): أن عمرو بن العاص كان على سرية ... وذكر الحديث نحوه. قال: "فغسل مغابنه وتوضأ وُضوءه للصلاة، ثم صلَّى بهم". فذكر نحوه، ولم يكر التيمم". قال أبو داود: روى هذه القصة عن الأزاعي عن حسَّان بن عطية قال فيه: "فتيمم". أقول: دل هذا النص على أن من خاف على نفسه من استعمال الماء البارد جاز له التيمم
فإذا تيمم سقطت الجنابة، فإذا كان استعمال الماء للوضوء لا يضره توضأ بعد التيمم. 694 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاةُ وليس معهما ماءٌ، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولمي عد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعِدْ: "أصبتَ السُّنَّة، وأجزأتْك صلاتُك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجرُ مرتين". قال: وروي عن عطاء بن يسارٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ... ذِكْرُ أبي سعيد في هذا الحديث: ليس بمحفوظ، وهو مرسل. وفي أخرى (1) عن عطاء بن يسار: أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... بمعناه. وفي رواية (2) النسائي: أن رجلين تيمما وصليا، ثم وجدا ماء في الوقت فتوضأ أحدهما، وعاد لصلاته ما كان في الوقت، ولم يعد الآخر، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال للذي لم يُعِدْ: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: أما أنت فلك مثلُ سهم جمعٍ". 695 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أقْبَل من أرضه بالجُرْفِ، فحضرت العصرُ بمربد النعم، فتيمم وصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعةٌ، فلم يُعِدْ". وفي رواية (3) نافع: "أنه أقبل هو وابن عمر من الجرف، حتى إذا كان بالمربد: نزل عبدُ
الله فتيمم صعيداً طيباً، فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين ثم صلى". وفي أخرى (1): "أن عبد الله بن عمر كان يتيمم إلى المرفقين". 696 - * روى الشيخان عن أبي الجُهَيمِ" "أقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جملٍ فلقيهُ رجلٌ فسلم عليه فلم يرُدَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام". قال في فتح الباري: قال النووي: هذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان عادماً للماء حال التيمم. قلت: وهو مقتضى صنيع البخاري، لكن تعقب استدلاله به على جواز التيمم في الحضر بأنه ورد على سبب، وهو إرادة ذكر الله، لأن لفظ السلام من أسمائه، وما أريد به استباحة الصلاة. وأجيب بأنه لما تيمم في الحضر لرد السلام - مع جوازه بدون الطهارة- فمن خشي فوت الصلاة ف الحضر جاز له التيمم بطريق الأولى لعدم جواز الصلاة بغير طهارة مع القدرة. وقيل يحتمل أنه لم يرد صلى الله عليه وسلم بذلك التيمم رفع الحدث، ولا استباحة محظور، وإنما أراد التشبه بالمتطهرين كما يشرع الإمساك في رمضان لمن يباح له الفطر، أو أراد تخفيف الحدث بالتيمم كما يشرع تخفيف حدث الجنب بالوضوء كما تقدم، واستدل به ابن بطال على عدم اشتراط التراب قال: لأنه معلوم أنه لم يعلق بيده من الجدار تراب، ونوقض بأنه غير معلوم بل هو محتمل، وقد سبق من رواية الشافعي ما يدل على أنه لم يكن على الجدار تراب، ولهذا احتاج إلى حته بالعصا ا. هـ.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - قال الحنفية: يجوز التيمم بأن لم يجد ماءً أصلاً أو وجد ماءً لا يكفيه، أو خاف الطريق إلى الماء أو كان بعيداً عنه بمقدار ميل (1848 م) أو (4000 خطوة أو أكثر) أو مقدار ميلين عند المالكية أو احتاج إلى ثمنه أو وجده بأكثر من ثمن المثل، وقال الشافعية: إن تيقن فقْدَ الماء حوله تيمم بلا طلب، وإن توهم وجود الماء أو ظن قربه أو شك فيه، فتش عنه مقدار حوالي 185 م وقال الحنفية: يجب عليه طلب الماء إلى 400 خطوة إن ظن قربه مع الأمن، وقال الحنابلة يطلبه فيما قرب منه عادة، والأظهر عند الشافعية والحنابلة أنه إذا وجد ماء لا يكفيه وجب استعماله ثم يتيمم. - إذا لم يجد ماءً إلا بالشراء، لا يجب عليه شراؤه فوق ثمن المثل إذا كان يملك ذلك زائداً عن دينه ومؤونة سفره ونفقة من معه ممن عليه نفقته إنسانً أو حيواناً، وإّا وهب له ماء أو أعير دلواً وجب القبول، أما لو وهب له ثمنه فلا يجب قبوله بالإجماع. - لو نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم تذكر وهو في الصلاة يقطع ويعيد ومثله لو ظن فناء الماء فتيمم وكان الماء موجوداً وعرف ذلك أثناء الصلاة يقطع ويعيد، أما إذا أنهى صلاته ثم تذكر أو عرف توضأ وأعاد في الأظهر عند الشافعية وأبي يوسف والمالكية ولم يُعِدْ عند أبي حنيفة ومحمد. - يتيمم العاجز الذي لا قدرة له على الماء كالمكره والمحبوس، ولا يعيد عند الأكثر، واستثنى الحنفية المكره على ترك الوضوء فإنه يتيمم ويعيد صلاته. - يتيمم الإنسان إذا خاف باستعمال الماء على نفس أو منفعةِ عضوٍ أو حدوث مرض من نزلة أوحمى أو نحو ذلك، أو خاف من استعماله زيادة المرض أو طوله، أو تأخر برئه، ويعرف ذلك بإخبار طبيب عارف ولو غير مسلم عند المالكية والشافعية، كماي عرف ذلك بالعادة. - قال أبو حنيفة: القادر بقدرة الغير لا يعتبر قادراً، فمن كان مريضاً لا يقدر على الحركة جاز له التيمم ولو وجد من يناوله الماء، وقال الحنابلة: إذا وجد من يناوله الماء
فعليه الوضوء. (انظر في تفصيل ذلك حاشية ابن عابدين 1/ 470 - 471). - إذا اعتقد الإنسان أوظن أنه يحتاج إلى الماء ولو في المستقبل احتياجاً مؤدياً إلى الهلاك أو شدة الأذى لنفسه، أو لحيانه فإنه يتيمم، وكذا إن كانوا رفقة، ومن أصناف الحاجة الاحتياج للماء لعجن أو طبخ لهم ضرورة، ومن كان على بدنه أوثوبه نجاسة أزالها عند غير المالكية، فإذا لم يبق معه ماء تيمم. - من صور جواز التيمم خوف عدو آدمي أو حريق أو لص سواء خاف على نفسه أو ماله أو على ما اؤتمن عليه كالحارس مثلاً، أو خافت امرأة فاسقاً عند الماء أو خاف مديون مفلس الحبس، أو خاف فوات مطلوبه كتحصيل شارد. - يجوز لمن كان بقربه ماء ولم يقدر على استخراجه بفقد الآلة من حبل أو دلو أن يتيمم، وقال الحنابلة يلزمه طلب الآلة بالاستعارةويلزمه قبول عارية، وإن قدر على استخراج ماء بئر بثوب ببله ثم بعصره لزمه ذلك إلا إذا أدى لك إلى أن ينقص ثمن الثوب أكثر من ثمن الماء المستخرج. - قال الحنابلة إذا علم المسافر وجود الماء في مكان قرب ولكن إذا قصده خاف خروج الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه. - قال الحنفية يتيمم من فقد الماء خوف فوات صلاة جنازة ولو جنباً، أو فوت صلاة عيد، ولخوف فوت صلاة كسوف، وهذا الحكم في الصلوات التي لا بدل لها أو التي لا تقضي أما الجمعة والفرائض الخمس فلا يتيمم لها إذا وجد الماء وخاف خروج الوقت. - الراجح من آراء العلماء: أن الإنسان إذا تيمم ودخل في الصلاة ثم زال عذره أثناء الصلاة بوجود الماء مثلاً بطلت صلاته ويتوضأ ويعيد. - رأينا أن النية شرط لصحة التيمم، قال الحنفية: والنية التي تشترط لصحة الصلاة أن ينوي الطهارة من الحدث، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدونطهارة كالصلاة أو سجدة التلاوة أو صلاة جنازة، أما إذا نوى التيمم لدخول المسجد ومس المصحف أو للأذان والإقامة أو تيمم المحدث حدثاص أصغر لقراءة القرآن أو للسلام أو رده فلا يصح له أن
يصلي بهذا التيمم، أما إذا كان الإنسان جنباً وتيمم لقراءة القرآن يصح له أن يصلي بهذا التيمم. - اتفق الفقهاء على وجوب نزع الخاتم في التيمم بخلاف الوضوء، وأوجب المالكية والحنفية: تخليل الأصابع، وقال الشافعية والحنابلة يندب التخليل إذا استوعب المسحُ اليدين. - قال الحنفية على المقيم في البلد طلب الماء قبل التيمم مطلقاً، سواء ظن قربه أو لم يظن. أما المسافر فلا يجب عليه الطلب إلا إذا غلب على ظنه وجود الماء ويطلبه بنفسه أو برسوله بمنقدار 400 ذراع ويكفيه النظر في الجهات الأربع إذا كان بالإمكان استكشاف الماء بالنظر، وإن لم يغلب على ظنه قرب الماء لا يجب طلبه. انظر: (حاشية ابن عابدين 1/ 153 فما بعدها)، (الشرح الصغير 1/ 179 وما بعدها)، (المهذب 1/ 34 وما بعدها)، (المغني 1/ 234 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 416 وما بعدها).
الفقرة التاسعة: في الأوضاع الاستثنائية التي لها أحكام خاصة في الطهارة
الفقرة التاسعة: في الأوضاع الاستثنائية التي لها أحكام خاصة في الطهارة قال تعالى في سياق الأمر بالوضوء والاغتسال: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (1). وقال في سياق الأمر في الصوم: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2). وقال تعالى في سياق تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (3). من هذه الآيات نعرف أن اليسر ورفع الحرج ومراعاة حالات الضرورة جزء من شريعة الله، ومن ههنا كانت للأوضاع الأصلية أحكامها وللأوضاع الاستثنائية أحكامها. وسنجد هذا المعنى في كثير من مواضيع الفقه ومن ذلك موضوع الطهارة. وقد رأينا فيما مر معنا كثيراً من أحكام الأوضاع الاستثنائية وأخرنا إلى هذه الفقرة موضوعين: موضوع أحكام المعذور في الاصطلاح الفقهي، وموضوع أحكام الجبيرة وما يلحق بها مما يشبهها من ضمادات للجروح وغير ذلك. الحقيقة أن بعض المواضيع الفقهية مماي نبغي أن تهتم به المستشفيات والأطباء المسلمون والممرضون والممرضات، ومن ذلك: أحكام هذين الموضوعين وموضوع الجمع بين الصلوات لعذر، وموضوع الحالات التي تطرأ على قدرة الإنسان على الصلاة، والحالات التي تسقط بها صلاة الجمعة في بعض الحوال، ومن ذلك حالة المرض وحالات رعاية المرضى وأمثال ذلك، ونقتصر هنا على الموضوعين اللذين ذكرناهما:
1 - المعذور
1 - المعذور كلمة المعذور اصطلاح يستعمله الفقهاء لمن وجدت معه حالات خاص بشروط خاصة، فتكون له أحاكم خاصة، فالمعذور في تعريف الحنفية: من به سلس بول لا يمكنه إمساكه، واستطلاق بطن أو انفلات ريح أو رعاف دائم أو نزف دم جرح او استحاضة، وكذا كل ما يخرج بوجع ولو من أذن وثدي وسرة من دم أو قيح أو صديد أو ماء الجرح والنفطة وماء البثرة والثدي والعين والأذن. ولا يعطي الإنسان أحكام المعذور عند الحنفية حتى يستوعب عذره تمام وقت صلاة مفروضة، بألا يجد في جميع وقتها زمناً يتوضأ ويصلي فيه خالياً عن الحدث، كأن يستمر تقاطر بوله مثلاً أو خروج دم مثلاً، من ابتداء الظهر إلى العصر، فإذا وجد ذلك أصبح هذا الإنسان صاحب عذر، وله أحكام أصحاب الأعذار كما سنراها. ويبقى صاحب عذر ما دام عذره يظهر في جزء من أوقات الصلاة اللاحقة ولو مرة في كل وقت كأن يرى الدم مرة واحدة فقط في وقت العصر أو المغرب أو العشاء وهكذا. أي أن شرط الاستمرار في الوقت الأول فقط، أما في باقي الأوقات فيكفي أن يرى العذر مرة واحدة. وعند المالكية إذا ظهر عذره في جزء من اليوم يبقى صاحب عذر، ويخرج عن كونه صاحب عذر عند الحنفية فلا تنطبق عليه أحكامه إذا انطقع عنه عره وقت صلاة كاملاً، ولا يعود صاحب عذر إلا إذا استمر عذره وقت صلاة كاملاً من جديد وعندئذ تعود له أحكام المعذور. ومتى ثبتت لإنسان أحكام المعذور عند الحنفية، فإنه يتوضأ لوقت كل فرض بعد دخول الوقت ولا يعتبر عذره ناقضاً لوضوئه ويصلي بهذا الوضوء داخل الوقت ما شاء من الفرائض والنوافل، وإذا كان عذره لا ينقض الوضوء فإن غير العذر ينقضه وينقضه خروج الوقت الذي توضأ به، وهناك وقت مهمل لا يعتبر وقتاً لفريضة وهو ما بين طلوع الشمس إلى الظهر، فإذا توضأ في هذا الوقت فإنه يصح له أن يصلي وقت الظهر فيه ولا يعتبر عذره ناقضاً لوضوئه حتى يخرج وقت الظهر، وعلى المعذور أن يخفف عذره بالقدر المستطاع كأن تحتشي المستحاضة، أو تضع ضماداً على المحل، أو يحتشي الرجل، وإذا كان الاحتشاء لا يسبب ضرراً وينقطع به العذر يجب الاحتشاء للصلاة.
ولا يجب على المعذور غسل ما يصيب ثوبه أكثر من قدر الدرهم إذا اعتقد أنه لو غُسل تنجس بالسيلان قبل الفراغ من الصلاة، فإن لم يتنجس قبل الفراغ من الصلاة وجب عليه الغسل على ما عليه الفتوى عند الحنفية، وقد رأينا أن المشهور عند المالكية سنية الطهارة من الناجسة فبالإمكان الاستفادة من هذه الرخصة حين المشقة كما رأينا أن من ظهر عذره في 24 ساعة ولو مرة عند المالكية يبقى صاحب عذر وبالتالي فإن عذره لا ينقض وضوءه ما دام كذلك، ويستحب له استحباباً أن يتوضأ إذا لم يوجد ناقض غير العذر. وأدب العلماء أن يفتوا في المسائل المختلف عليها بمذاهبهم ويحضوا على مراعاة المذاهب الأخرى إن كانت أحوط. ومما ذكره المالكية أن وضوء المعذور ينتقض بعذره نفسه إذا خرج عذره خروجاً اعتيادياً كما إذا بال البول المعتاد أو أمذى بلذة معتادة أو أخرج الريح متعمداً، والظاهر أنه لا يخالفهم غيرهم بذلك. والحنابلة يشاركون الحنفية في الحد الذي يعطي به الإنسان حكم المعذور، وفي استمراره، وفي ضرورة الوضوء بعد دخول الوقت. ومن المسائل التي تذكر في بحث المعذور: ما لو أن المعذور توضأ قبل الوقت ولم يخرج عذره حتى صلى بعد دخول الوقت فهذا جائز، ولكن لو خرج عذره بعد ذلك وأراد الصلاة فلابد من وضوء جديد. ومن كلام الحنابلة: وينوي المعذور استباحة الصلاة ولا تكفيه نية رفع الحدث. ومن كلام الشافعية: لو استمسك الحدث بالجلوس في الصلاة وجب الجلوس بلا إعادة. انظر (الدر المختار 1/ 202 وما بعدها)، (المغني 1/ 340 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 288 وما بعدها).
2 - أحكام الجبيرة وما يشبهها
2 - أحكام الجبيرة وما يشبهها الجبيرة هي الكلمة المختصرة للتعبير عن نفسها وعن الأحوال المشابهة لها. فالأصل تطلق الجبيرة على الخشب والقصب أو الجبس التي تشد وتسوى على موضع الكسر أو الخلع لينجبر، وإذاً في كل ما يُعدُّ لوضعه على كسرو العظام لجبرها، وأدخلوا في حكمها عصابة الجراحة ولو بالرأس وعصابة موضع الفصد والكي، وضماد القرحة، والضمادات التي توضع على مواضع العمليات الجراحية قال ابن جزي المالكي: الجبائر هي التي تشد عل الجراح والقروح والفصاد، وعلى هذا فعندما نقول الجبيرة إنما نريد بها هذا المعنى الواسع. والجبيرة منها ما يتجاوز محل الحاجة ومنها ما لا يتجاوز محل الحاجة، ومحل الحاجة هو ما لابد منه للاستمساك، ومن الجبائر ما لو نزع لا يترتب عليه ضرر ومنها ما لو نزع يترتب عليه ضرر، ومن الجبائر ما لا يصل إلى ما تحته الماء ككثير من الضمادات الحالية، منه ما يصل إلى تحته الماء فيسبب ضرراً للإنسان. ولأنواع الجبائر أحكام، وللعلماء تفصيلات كثيرة في شأنها فأول ما يقال: إن المسح على الجبائر أو غسلها مشروع بشروط وعلى تفصيلات، قال الحنفية: المسح على لجبيرة واجب وقال أبو حنيفة: إذا كان المسح على الجبيرة يضره سقط عنه المسح وجازت الصلاة بدونه. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: المسح فرض ولابد منه وشروط جواز المسح: 1 - ألا يمكن نزع الجبيرة أو يخاف من نزعها بسبب الغسل حدوث مرض أو زيادته أو تأخر البرء وقال المالكية يجوز المسح إن خيف شدة الألم وذلك كله إن كان الجرح ونحوه في أعضاء الوضوء في حالة الحدث الأصغر أو في الجسد في حالة الحدث الأكبر. 2 - ألا يمكن غسل أو مسح نفس الموضع بسبب الضرر، فإن كان الغسل لا يسبب ضرراً وجب الغسل على المحل نفسه وإن كان الغسل يسبب ضرراً والمسح لا يسبب ضرراً وجب المسح على الموضع نفسه وإلا مسح على الجبيرة. 3 - ألا تتجاوز الجبيرة قدر الحاجة وهو ما لابد منه للاستمساك، فإن تجاوزت قدر الحاجة وخاف من نزعها تلفاً أو ضرراً تيمم للزائد على قدر الحاجة، ومسح ما حاذي محل
الحاجة وغسل ما سوى ذلك، وأفتى الحنفية: بأن الجبيرة وإن زادت على الحاجة وكان حلها وغسل ما تحت الزيادة يضر بالجرح جاز المسح على الجبيرة ولا يجب التيمم. ولم يشترط الحنفية والمالكية وضع الجبيرة على طهارة، فسواء وضعها وهو متطهر أو غير متطهر، جاز المسح عليها ولا يعيد الصلاة إذا صح. والمفتي به عند الحنفية أن يكفي مسح أكثر الجبيرة مرة واحدة فلا يشترط استيعاب وتكرار ونية، ولا يقدر المسح بمدة وإنما يبطل المسح على الجبيرة إذا أحدث، أما حال نزعها او سقوطها أو تغيرها فإن الحنفية قالوا: إن حدث شيء من هذا لبرءٍ، زال العذر وبطل المسح وغسل المحل وصلى بطهارة كاملة، وإن تم البرء في الصلاة بطلت الصلاة وغسل المحل واستأنف الصلاة ون سقطت أو غيرت من غير برء لم يبطل المسح. وإذا رمد وأمره طبيب مسلم حاذق ألا يغسل عينه، أو انكسر ظفره أو تشققت أقدامه، أو حصل به داء وجعل عليه دواءً جاز له المسح إذا وجدت الضرورة، وإن أضره المسح تركه. ولا يجب الجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم عند الحنفية. وقال الحنابلة إن تجاوزت الجبيرة محل الحاجة وخيف الضرر من نزعها، مسح على المحاذي لمحل الحاجة وتيمم للزائد على قدر الحاجة وغسل ما سوى ذلك، وإذا لم يكن على الجرح ضماد وأضره الغسل او المسح، غسل الصحيح وتيمم للجرح وإذا تعددت العصائب أو الجراحات تيمم لكل واحدة منها. ولا تجب إعادة الصلاة بعد البرء عند المالكية والحنفية سواء وضع الجبيرة على طهارة أو لا. ويأخذ الفقهاء أحكام المعذور والجبيرة مما ورد من نصوص في التيمم والاستحاضة. فائدة: يخدر عادة من تجري لهم عمليات جراحية وقد يستمر غيابهم عن الوعي فترة طويلة، وقد مر معنا أن الشافعية يقولون: لا يجب القضاء على منْ زال عقله بسببمباح إذا أفاق، وقال الحنفية إذا زاد الإغماء على أكثر من خمس صلوات سقط القضاء، أما إن استمر خمس صلوات فأقل وجب عليه القضاء. ولا يجب القضاء على المغمي عليه عند المالكية مطلقاً.
انظر: (الدر المختار 1/ 186 - 188) (المغني 1/ 277 وما بعدها)، (المهذب 1/ 27)، (الفقه الإسلامي 1/ 347) وما بعدها). * * *
الفصل الثاني: في دخول الوقت وهو الشرط الثاني من شروط الصلة وما يتعلق بذلك.
الفصل الثاني: في دخول الوقت وهو الشرط الثاني من شروط الصلة وما يتعلق بذلك. وفيه مقدمة وفقرات المقدمة: وفيها عرض إجمالي لفقرات الفصل. الفقرة الأولى: في مواقيت الصلاة. الفقرة الثانية: في أوقات الكراهة. الفقرة الثالثة: في الجمع بن صلاتين. الفقرة الرابعة: في الأذان والإقامة. الفصل الثالث: في الشرط الثالث من شروط الصلاة وهو ستر العورة. الفصل الرابع: في الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة وهو استقبال القبلة. الفصل الخامس: في الشرط الخامس من شروط الصلاة وهو النية.
المقدمة وفيها عرض إجمالي
المقدمة وفيها عرض إجمالي قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1). أي فريضة مؤقتة بوقت، لذلك وللسنة المتواترة أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، وتجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسعاً إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها فيضيق الوقت، ويفترض مباشرةُ أعمال الصلاة، وفي المناطق القطبية ونحوها يقدرون الأوقات بحسب أقرب البلاد إليهم. ووقت الفجر يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، والفجر الصادق هو البياض المنتشر ضوؤه معترضاً في الأفق ويقابله الفجر الكاذب وهو الذي يطلع مستطيلاً متجهاً إلى الأعلى في سوط السماء، ثم تعقبه ظلمة. والفجر الصادق هو الذي تتعلق به الأحكام الشرعية كلها من بدء الصوم ووقت الصبح وانتهاء وقت العشاء. ووقت الظهر من زوال الشمس إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى ظل أو فيء الزوال، وزوال الشمس هو ميلها عن وسط السماء ويسمى بلوغ الشمس إلى وسط السماء حالة الاستواء، وغذا تحولت الشمس من جهة المشرق إلى جهة المغرب حدث الزوال، وعندئذ يبدأ وقت الظهر، وينتهي وقته عند الجمهور بصيرورة ظل الشيء مثله في القدر والطول مع إضافة مقدار ظل أو فيء الاستواء أي الظل الموجود عند الزوال، ويعرف الزوال بالنظر إلى عمود منتصب في أرض مستوية، فإذا كان الظل ينقص فهو قبل الزوال وإن وقف لا ينقص ولا يزيد فهو وقت الاستواء وإذا أخذ الظل في الزيادة علم ان الشمس زالت. ووقت العصر يبدأ من خروج وقت الظهر وينتهي بغروب الشمس. ووقت المغرب يبدأ من غروب الشمس بالإجماع إلى مغيب الشفق الأحمر عند الشافعية وبعض الحنابلة، أما عند أبي حنيفة فيستمر وقت المغرب حتى غياب الشفق
الأبيض الذي يستمر بعد غياب الشفق الأحمر باثنتي عشرة دققة. ووقت العشاء يبدأ من مغيب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق. وللصلاة في أول وقتها فضل على تفصيلات للفقهاء: فقد استحب الحنفية الإسفار بصلاة الصبح للرجال وتأخير العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، والإبراد بالظهر أثناء الحر مستحب عند عامة الفقهاء، واستحب المالكية التأخير عن أول الوقت رجاء إدراك الجماعة واستحب الحنابلة وآخرون تأخير العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه. وإذا أدرك المصلي جزءاً من الصلاة في الوقت وقعت أداء عند المالكية والشافعية إن وقعت ركعة بسجدتيها في الوقت، وإلا فهي قضاء. وقال الحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد تدرك الفريضة أداء كلها بتكبيرة الإحرام في الوقت المخصص لها وعند الحنفية بالنسبة لصلاة الفجر خاصة تبطل الصلاة إذا طلعت الشمس أثناء الصلاة، وعليه والقضاء بعد ارتفاع الشمس. ومن جهل الوقت بسبب عارض اجتهد وتحرى حتى يتيقن من دخول الوقت أو يغلب على ظنه ذلك ويستحب تأخيرها قليلاً إلا ان يخشى خروج الوقت. وثبت في السنة النهي عن الصلاة في أوقات خمسة على تفصيلات عند الفقهاء: أولاً: ما بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس مقدار رمح في رأي العين وذلك بمقدار ثلث ساعة بعد طلوع الشمس. ثانياً: وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح. ثالثاً: وقت الاستواء إلى أن تزول الشمس أي يدخل وقت الظهر. رابعاً: وقت اصفرار الشمس حتى تغرب. خامساً: بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
وقد حرم الحنابلة النافلة في هذه الأوقات الخمسة، وحرم المالكية النفل عند الشروق والغروب والاستواء وكرهوا تنزيهاً التنفل بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر إلى أن تصفر الشمس، وكره الحنفية كراهة تحريمية الصلاة في الأوقات الخمسة إلا قضاء الفريضة بعد صلاة الفجر والعصر وهناك تفصيلات واستثناءات عند بعض الفقهاء في هذا المقام ستمر معنا. (انظر: حاشية ابن عابدين 1/ 238) و (الشرح الصغير 1/ 219 وما بعدها) و (المهذب 1/ 51) و (المغني 1/ 370 وما بعدها والفق الإسلامي 1/ 507 وما بعدها). أما الجمع فقد أجاز جمهور الفقهاء في حالات الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وهناك حالتان أجمعت المذاهب الأربعة على جواز الجمع فيهما، وهي الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة للمحرم بالحج، والجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير للمحرم بالحج في مزدلفة. وأسباب الجمع عند المالكية بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء هي السفر والمطر والوحل مع الظلمة والمرض، وجمع عرفة ومزدلفة على تفصيلات عندهم. وأجاز الشافعية الجمع في السفر مطلقاً والمطر جمع تقديم، الحج بعرفة ومزدلفة على تفصيلات عندهم، وأجاز الحنابلة الجمع في السفر والمرض والإرضاع والعجز عن الطهارة والعجز عن معرفة الوقت، والاستحاضة ونحوها، والعذر أو الشغل على تفصيلات عندهم، ولا يجوز الجمع عند الحنفية أبداً إلا يوم عرفة للمحرم ومزدلفة، ولكل أدلته المعتبرة. انظر (الشرح الصغير 1/ 487 فما بعدها)، (المهذب 1/ 104)، (المغني 2/ 271 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 2/ 349 وما بعدها). وقد رُبط دخول أوقات الصلوات الخمس بالأذان الذي هو قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة أو افعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصةن وقد دل عليه القرآن والسنة المتواترة والإجماع.
قال تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة) (1). كما ربطت الصلوات الخمس بالإقامة. والأذان والإقامة سنتان مؤكدتان للرجال جماعة في كل مسجد للصلوات الخمس والجمعة، ولا يشرعان لنافلة أو منذورة أو وتر أو صلاة جنازة أو عيد أو كسوف أو تراويح أو استخارة أو غير ذلك من الصلوات. ولكون الأذان من شعائر الإسلام قال الحنابلة: الأذان والإقامة فرضاً كفاية للصلوات الخمس المؤداة والجمعة، وبناء عليه يقاتل أهل بلد تركوهما. والحنفية يفتون بقتال أهل بلدة أو قرية تركوا الأذان. ويشترط في الأذان والإقامة أن يكونا بعد دخول الوقت، وأجاز الجمهور أن يؤذن للصبح قبل طلوع الفجر الصادق، ثم يؤذن بعد دخول الوقت، وأن يكونا باللغة العربية، وأن يكونا مسموعين لبعض الناس، إلا المنفرد فيكفيه إسماع نفسه، وينبغي الترتيب والموالاة بين ألفاظ الأذان والإقامة، وألا يتعاور جمل الأذان والإقامة أكثر من شخص، أما الأذان الجماعي فغير مكروه وينبغي أن يكون المؤذن مسلماً عاقلاً، ويسن في المذاهب الأربعة أن يتولى الإقامة من تولى الأذان فإن أقام غير المؤذن جاز. وصيغة الأذان وكيفيته منقولة تواتراً فينبغي الالتزام به ومن سنن الأذان أن يكون المؤذن حسن الصوت مرتفعه، وأن يؤذن على مكان مرتفع بقرب المسجد، وأن يكون المؤذن متوضئاً طاهراً صالحاً عالماً بأوقات الصلاة، وأن يجعل أصبعيه في أذنيه أثناء الأذان، وأن يتأنى في الأذان ويسرع في الإقامة، وأن يستقبل القبلة في الأذان والإقامة، ويستحب في حي على الصلاة أن يحول وجهه يميناً وفي حي على الفلاح أن يحول وجهه شمالاً من غير أن يحول قدميه، ويستحب أن يكون المؤذن محتسباً، ويستحب أن يؤذن في أول الوقت، ويستحب ألا يقوم الإنسان قبل فراغ المؤذن للصلاة أو للتوجه إليها.
وإجابة المؤذن والمقيم كما ورد في المأثور، والدعاء المأثور بعد ذلك والدعاء فيما بين الأذان والإقامة، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأذان ودعائه المأثور، كل ذلك مما ينبغي أن يراعيه المسلم. ويندب الأذان في أذن المولود اليمنى عن دولادته كما تندب الإقامة في أذنه اليسرى، ويندب الأذان وقت الحريق ووقت الحرب، وخلف المسافر ومنها الأذان حيث أراد الإنسان طرد الشيطان عن نفسه وعن غيره. انظر (حاشية ابن عابدين 1/ 256 وبعدها)، (الشرح الصغير 1/ 246 فما بعدها)، (المهذب 1/ 51)، (المغني 1/ 402 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 535 وما بعدها). وإلى فقرات هذا الفصل.
الفقرة الأولى: في مواقيت الصلاة
الفقرة الأولى: في مواقيت الصلاة: 697 - * روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه سائل، سأله عن مواقيت الصلاة؟ فلم يرُدَّ عليه شيئاً. قال: وأمر بلالاً، فأقام الفجر حين انشقَّ الفجرُ، والناسُ لا يكادُ يعرفُ بعضهم بعضاً، ثم أمرهُ فأقام الظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفقُ، ثم أخرَ الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس، أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد احمرَّت الشمسُ، ثم أخرَ المغرب حتى كان عند سقوط الشفق - وفي رواية: فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفقُ في اليوم الثاني - ثم أخر العشاء حتى كان ثُلُثُ الليل الأول ثم أصبح فدعا السائل، فقال: "الوقتُ بين هذين". وأخرجه (1) أبو داود، وقال فيه: فأقام الفجر حين كان الرجلُ لا يعرفُ وجه صاحبه، أوأن الرجل لا يعرفُ من إلى جنبه وفيه: ثم أخر العصر حتى انصرف منها وقد اصفرت الشمسُ وقال في آخره: ورواه بعضهم، فقال: ثم صلى العشاء إلى شطرِ الليل. وفي ألفاظ أبي داود خلاف عن لفظ مسلم. وأخرجه النسائي (2) مثل لفظ مسلم. 698 - * روى مسلم عن بُريدة رضي الله عنه: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة؟ فقال له: "صلِّ معنا هذين اليومين" وذكر نحو الحديث السابق. 699 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رض الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أمَّني جبريلُ صلوات الله عليه عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيءُ مثل الشِّراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيءٍ مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرُم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظلُّ كل شيءٍ مثله، لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إليَّ جبريلُ، فقال: يا محمدُ، هذا وقتُ الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". 700 - * عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله علي هوسلم خلفهُ والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وذكر نحو الحديث السابق إلا أنه ذكر أن صلاة المغرب في اليومين كانت في أول وقتها. 701 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أوَّل وقت صلاة الظهر: حين تزولُ الشمس، وآخر وقتها: حين يدخل وقت العصر. وإن أول وقت العصر: حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها: حين تصفَرُّ الشمس. وإن أول وقت المغرب: حين تغرُبُ الشمس، وإن آخر وقتها: حين يغيب الشفقُ، وإن أول وقت العشاء: حين يغيب الشفق، وإن آخر وقتها: حين ينتصف الليل. وإن أول وقت الفجر: حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها: حين تطلعُ الشمس". وفي رواية (1) النسائي، قال: قال رسول الله صلى الله علي هوسلم: "هذا جبريل جاءكم يعلمُكم دينكم، فصلى الصبح حين طلع الفجرُ، وصلى الظُهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين رأى الظل مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس وحل فطر الصائم، ثم صىل العشاء حين ذهب شفقُ الليل، ثم جاءه الغد، فصلى به الصبح حين أسفر قليلاً، ثم صلى به الظهر حين كان الظلُّ مثله، ثم صىل العصر حين كان الظل مثليه، ثم صلى المغرب بوقتٍ واحدٍ، حين غربت الشمس وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب ساعةٌ من الليل، ثم قال: الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم". 702 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتُم الفجر فإنه وقتٌ إلى أن يطلُع قرنُ الشمس الأول ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقتٌ إلى أن يحضُر العصر، فإذا صليتم العصر فإنه وقتٌ إلى أن تصفر الشمس، فإذا صليتم المغرب فإنه وقتٌ إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل".
703 - * روى الشيخان عن أبي المِنْهال سيار بن سلامة الرياحي قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى: حين تدحضُ الشمس، ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحْلِه في أقصى المدينة والشمس حيةٌ- ونسيتُ ما قال في المغرب - وكان يستحِبُّ أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكرهُ النوم قبلها، والحديث بعدها، وكان ينفتِلُ من صلاة الغداة حين يعرفُ الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة، وفي رواية (1) ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ثم قال: إلى شطر الليل، ثم قال مُعاذ عن شعبة: ثم لقيتُه مرة أخرى، فقال: أو ثلث الليل. 704 - * روى الشيخان عن محمد بن عمرو بن الحسن بن عليٍّ بن أبي طالب قال: كان الحجاج يؤخرُ الصلوات، فسألنا جابر بن عبد الله؟ - وفي رواية قال: قَدِمَ الحجاجُ المدينة، فسألنا جبار بن عبد الله؟ - فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقيةٌ، والمغرب إذا وجبتْ، والعشاء: أحياناً يؤخرها، وأحياناً يُعجلُ، إذا رآهم اجتمعوا عجلَ، وإذا رآهم أبطؤوا أخر، والصبح كانوا - أو كان النبي صلى الله عليه وسلم- يصليها بغلسٍ.
705 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان قدرُ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في الصف: ثلاثة أقدامٍ إلى خمسة أقدامٍ، وفي الشتاء: خمسة أقدام إلى سبعة أقدامٍ. وقت صلاة الفجر: 706 - * روى الجماعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعاتٍ بمرُوطهنَّ ثم ينقلبن إلىبيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحدٌ من الغلس. وفي رواية (1): ثم ينقلبن إلى بيوتهن، وما يعرفْنَ من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة. وفي رواية (2) بنحوه. وفي أخرى (3) للبخاري: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلسٍ، فينصرفن نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس، ولا يعرف بعضهن بعضاً. 707 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله علي وسلم صلى يوم خيبر صلاة الصبح بغلسٍ وهو قريب منهم، فأغار عليهم، فقال: "الله أكبر، خربتْ خيبرُ وإنا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباح المنذرين". 708 - * روى الترمذي عن رافع بن خديج رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". وفي رواية (1) أبي داود، قال: "أصبحوا بالصبح، فإنه أعظم لأجوركم، أو أعظم للأجر". وفي رواية (2) للنسائي، قال: "أسفروا بالفجر" لم يزد، وإسناده حسن.
709 - * روى النسائي عن محمود بن لبيد رضي الله عنه عن رجال من الأنصار من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفرتم بالصبح، فإنه أعظم للأجر". 710 - * روى ابن ماجه عن مُغيث بن سُمي قال: صليتُ مع بعد الله بن الزبير الصبح بغلسٍ فلما سلم أقبلْتُ على ابن عمر فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاتنا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر فلمَّ طُعن عمر أسفر بها عثمان. وقد استحب الحنفية الإسفار بالفجر واستحب غيرهم التغليس قال الزيلعي: وتأول الخصوم الإسفار في هذه الأحاديث بظهور الفجر. وهذا باطل، فإن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار كما ذكره أهل اللغة، وقبل ظهور الفجر لا يصح صلاة الفجر، فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير، وهو التأخير عن الغلس وزوال الظلمة، وأيضاً فقوله: "اعظم الأجر" يقتضي حصول الأجر في الصلاة بالغلس، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره لم يكن في وقت الغلس أجر، لخروجه عن الوقت ا. هـ وفي رد صاحب الإعلاء على من قال إن الإسفار بمعنى ظهور الفجر مستدلين برواية أبي داود (أصبحوا) قال: ثم إن السيوطي رحمه الله قد عد حديث "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" من المتواترات بهذا اللفظ في رسالته (الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة) ولفظ "أصبحوا" ليس بمتواتر فيكون لفظ "أسفروا" أرجح وأولى، واحتمال تصرف الرواة فيه أبعد. (انظر الإعلاء 2/ 17 - 20)، (وانظر الدين الخالص 2/ 23).
وقت صلاة الظهر
وقت صلاة الظهر: 711 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كنا إذا] كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فقلنا: زالت الشمس أو لم تزلْ؟ صلى الظهر، ثم ارتحل. وفي رواية (1)، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً لم يرتحل حتى يُصلي الظهر، فقال له رجل: وإن كان بنصف النهار؟ قال: "وإن كان بنصف النهار". 712 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيتُ أحداً كان أشد تعجيلاً للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من أبي بكر، ولا من عمر. 713 - * روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تعجيلاً للظهر منكم، وأنتم أشدُّ تعجيلاً للعصر منه. 714 - * روى البخاري عن أنس بن مالك يقول: كان النبي صلىلله عليه وسلم إذا اشتد البر بكر بالصلاة وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة. وقال يونس بن بكير أخبرنا أبو خلدة وقال: بالصلاة ولم يذكر الجمعة. وقال بشر بن ثابت: حدثنا أبو خلدة: صلى بناأمير الجمعة ثم قال لأنس: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر؟ 715 - * روى مالك عن القاسم بن محمد رحمه الله قال: ما أدركتُ الناس إلا وهم يُصلون الظهر بعشي. 716 - * روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتدَّ
الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم". 717 - * روى الشيخان عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأراد المؤذنُ أن يؤذن للظهر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبردْ"، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: "أبردْ"، حتى رأينا فيء التلُول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردا بالصلاة". وفي رواية (1): أذن مؤذنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبرد، أبردْ"- أو قال: "انتظر، انتظر"، وقال: "إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحرُّ فأبردُوا عن الصلاة"، قال أبو ذر: حتى رأينا فيء التلول. 718 - * روى النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلىلله عليه وسلم إذا كان الحرُّ أبرد بالصلاة، وإذا كان البردُ عجلَ. 719 - * روى مسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء، فلم يُشكنا. وفي رواية (2)، قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه
حر الرمضاء، فلم يُشكنا، قال زهير لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجيلها؟ قال: نعم. زاد الطبراني بعد فلم يشكنا قال: إذا زالت الشمس فصلوا. 720 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك، قال: كنا إذا صلنا خلف النبي صلى الله عليه ومسلم سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر. قال البغوي في (شرح السنة 2/ 201): الاختيار عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم تعجيل صلاة الظهر، رُوي عن عائشة قالت: ما رأيتُ أحداً كان أشد تعجيلاً للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر وعمر. وقال في (2/ 206): واختلف أهل العلم في تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، فذهب ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق إلى تأخيرها، والإبراد بها في الصيف، وهو الأشبه بالاتباع. وقال الشافعي: تعجلها أولى، إلا أن يكون إمام مسجد ينتابُه الناسُ من بُعدٍ، فإنه يُبْرِدُ بها في الصيف، فأما من صلى وحده، أو جماعة في مسجدٍ بفناء بيته لا يحضره إلا من كان بحضرته، فإنه يعجلها، لأنه المشقة عليهم في تعجيلها. ا. هـ. قال صاحب إعلاء السنن بعد إيراد حديث أنس في تعجيل الصلاة في البرد وتأخيرها في الحر: والحديث يدل على استحباب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر وتعجيله في الشتاء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قال النووي: اختلفوا في الجمع بين هذه الأحاديث، وحديث خباب رواه مسلم: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا (أي لم يزل
شكوانا) فقيل: الإبراد رخصة والتقديم أفضل، واعتمدوا على حديث خباب (وهذا على قول البعض) وقال آخرون: المختار استحباب الإبراد لكثرة أحاديثه المشتملة على فعله والأمر به، وحديث خباب محمول على أنهم طلبوا تأخيراً زائداً على قدر البراد. والصحيح الإبراد، وبه قال جمهور العلماء، وهو المنصوص للشافعي رحمه الله، وبه قال جمهور الصحابة ا. هـ ملخصاً. وأيضاً فحديث خباب مكي وأحاديث الإبراد بالظهر مدنية. والمتأخر ناسخ للمتقدم فلعله صلى الله عليه وسلم لم يزل شكواهم لكون وقت الإبراد بالظهر اجتماع المشركين في الحرم، وكانوا يستهزءون بالصلاة ويؤذون المصلين فأراد أن يفرغ من صلاة الظهر قبل اجتماعهم، والعصر والمغرب كان يصليهما غالباً في دار الأرقم. والله تعالى أعلم ا. هـ. انظر (الإعلاء 2/ 34 - 36)، (الدين الخالص 2/ 11). فائدة: لأبي حنيفة رأي هو أن آخر وقت الظهر حتى يصير ظل كل شيء مثليه وله أدلة منها: رواية (حتى صار ظل كل شيء مثليه) التي وردت معنا، وحديث أبي ذر السابق الذي فيه حتى رأينا فيء التلول، ففي رواية للبخاري (حتى يساوي الظلُّ التلول)، قال صاحب الإعلاء حتى ساوى الظل التلول. قال الشيخ -أطال الله بقاءه-: الحديث نص في بقاء الوقت بعد المثل، كما هو المشهور من مذهب إمامنا الأعظم - رحمه الله تعالى -إذ من المعلم اللازم عادةً أن الأجسام المنبطحة إذا كان ظلها مساوياً لها يكون ظل الأجسام المنتصبة زائداً على المثل لا محالة، فارتفع احتمال كون هذا الظل مع الظل الأصلي مساوياً للتلول. ثم لما كان الأذان بعد هذه الزيادة على المثل كانت الصلاة بعد الزيادة الكثيرة عليه ضرورة، فانقطع الاحتمال المذكور رأساً وأساساً، وثبت المدعي بلا غبار اهـ. انظر (الإعلاء 2/ 2 - 3). والأحوط في هذا أن يصلي الظهر قبل أن يصير ظل كل شيء مثله والعصر بعد أن يصير ظل كل شيء مثليه على أن الجمهور ومنهم الصاحبان قالوا: أول وقت العصر عندما يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، وانظر موطأ الإمام مالك برواية محمد بن الحسن
وقت العصر
الشياني (ص 31 - 32). وقت العصر: 721 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعةٌ حيةٌ، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة: على أربعة أميال ونحوه. وفي رواية (1): يذهب الذاهب منا إلى قُباء. وفي أخرى (2)، قال: كنا نُصلي العصر، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف، فيجدهم يصلون العصر. وفي أخرى (3)، قال أسعدُ بن سهل بن حُنيفٍ: صلينا مع معمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي معه. وفي أخرى (4) لمسلم، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما انصرف أتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، إنا نريد أن ننحر جزوراً لنا، وإنا نُحب أن تحضرها؟ قال: "نعم"، فانطلق وانطلقنا معه، فوجدنا الجزور لم تُنحرْ، فنُحرت، ثم قطعت، ثم طُبخ منها، ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس. 722 - * روى الشيخان عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كُنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: "إنكم سترون ربكم عياناً، كما
يرون هذا القمر، لا تضامُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا"، ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (1). 723 - * روى أبو داود عن علي بن شيبان رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يُؤخرُ العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. 724 - * روى الطبراني عن أبي أيوب عن عبد الله أظنه ابن عمرو قال شعبة كان أحياناً يرفعه وأحياناً لا يرفعه قال وقت العصر ما لم يحضر وقت المغرب. 725 - * روى الشيخان عن رافع بن خديجٍ قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فننحر جزُوراً، فتُقسمُ عشر قسمٍ، فنأكل لحماً نضيجاً قبل أن تغرب الشمس. 726 - * روى مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه قال: دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهرِ، فقام يُصلي العصر، فلما فرغ من صلاته ذكرنا تعجيل الصلاة، أو ذكرها،
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمسُ، وكانت بين قرني الشيطان، أو على قرن شيطان، قام فنقر أ {بعاً لا يذكر الله فيهن إلا قليلاً". 727 - * روى البخاري عن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم ذي غيمٍ، فقال: بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه سلم قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". وقال الطيبي: وليس ذلك من إحباط ما سبق من عمله، فإن ذلك في حق من مات مرتداً، بل يحمل الحبط على نقصان عمله من يومه لا سيما في الوقت الذي يقرب من أن تُرفع فيه أعمال العباد إلى الله تعالى. كذا في (العزيزي 2 - 134). وقيل المراد بالحبط الإبطال، أي بطل انتفاعه بعمله في وقت ينتفع به غيره في ذلك الوقت، وفي (شرح الترمذي): ذكر أن الحبط على قسمين: حبط إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وحبط موازنة، وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة، فيرجع إليه جزاء حسناته، وأقرب الوجوه في هذا ما قاله ابن بزيزة أن هذا على وجه التغليظ وأن ظاهره غير مراد- والله تعالى أعلم - لأن الأعمال لا يحبطها إلا لاشرك أهـ. (عمدة القاري) ملخصاً. 728 - * روى الشيخان عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نُصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم: فينصرفُ أحدنا وإنه ليُبْصِرُ مواقع نَبْلِهِ.
وقت المغرب
وقت المغرب: 729 - * روى أبو داود عن مرثد بن عبد الله الغنوي رضي الله عنه قال: قدم علينا أبو أيوب غازياً، وعُقبةُ بن عامرٍ يومئذٍ على مصر، فأخرَ عقبةُ المغرب، فقام إليه أبو أيوب، فقال: ما هذه الصلاة يا عقبة؟ قال: إنا شُغلنا، قال: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزالُ أمتي بخير"- أو قال: "على الفطرة" - "ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم؟ ". 730 - * روى ابن ماجه عن (الحارث بن وهبٍ) رفعه: "لن تزال أمتي على الإسلام ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم". 731 - * روى أحمد عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل طلوع النجم". وقت العشاء: 732 - * روى الطبراني في الأسط عن عائشة: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت العشاء قال: "إذا ملأ الليل بطن كل واد". 733 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم
بالعشاء، فخرج عمر، فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطرُ، يقول: "لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس"، وقال سفيان مرة: "على الناس - لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة". كذا في حديث ابن عُيينة. وفي رواية (1)، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة، وذكر فيه: فخرج، وهو مسحُ الماء عن شِقه، يقول: "إنه للوقتُ، لولا أن أشق على أمتي". وعند البخاري (2) من حديث عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: حدثني نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عنها للةً، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ليس أحدٌ من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم"، وكان ابن عمر لا يبالي: أقدمها، أم أخرها، إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقلما كان يرقُد قبلها. قال ابن جريج (3): قلت لعطاءٍ، فقال سمعت ابن عباس يقول: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً بالعشاء، حتى رقد الناسُ، واستيقظوا، ورقدوا، واستيقظوا، فقام عمر، فقال، الصلاة، قال عطاء: قال ابن عباس: فخرج نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم كاني أنظُر إلي الآن يقطُر رأس ماء، واضعاً يده على رأسه، فقال: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم أن يُصلُّوها هكذا"، قال: فاستثبتُّ عطاء: كيف وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، كما أنبأه ابن عباس؟ فبدد لي عطاء بين أصابعه شيئاً من تبديد، ثم وضع شيئاً من أطراف أصابعه على قرن الرأس، ثم ضمها يُمرُّها كذلك على الرأس، حتى مستْ إبهامه طرف الأذن مما يلي الوجه على الصُّدغ وناحية اللحية، لا يُقصر ولا يبطُشُ، إلا كذلك. 734 - * روى مسلم عن أبي بُردة، عن أبيه. قال: صلينا المغرب مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نُصلي معه العشاء! قال فجلسنا. فخرج علينا. فقال: "ما زلتُمْ ههنا" قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلسُ حتى نصلي معك العشاء: قال: "أحسنتم أو أصبتُمْ" قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء. فقال: "النجُومُ أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعدُ. وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنةٌ لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أُمتي ما يُوعدون". 735 - * روى الطبراني في الثلاثة عن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ذات ليلة وقد أخرَ صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هُنيهةٌ أو ساعةٌ والناسُ ينتظرون في المسجد فقال: "ما تنتظرون؟ " قالوا: ننتظرُ الصلاة. قال: "أما إنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتموها"، ثم قال: "أما إنها صلاةٌ لم يُصَلِّها أحدٌ ممن كان قبلكم من الأمم، ثم رفع رأسهُ إلى السماء فقال: النجومُ أمانُ السماء فإن طُمستِ النجومُ أتى السماء ما تُوعدُ وأنا أمان أصحابي فإذا قُبِضْتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمان أمتي فإذا قُبض أصحابي أتى أمتي ما يوعدون يا بلالُ أقم". 736 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نُصفِه". وفي رواية
النسائي (1): "لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة". وهو حديث صحيح. 737 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [حُميدٌ الطويلُ]: سُئل أنسٌ: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً؟ قال: أخرَ ليلة العشاء إلى شطر الليل، ثم أقبل علينا بوجهه، فكأني أنظرُ إلى وبيص خاتمه، وقال: "إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها". وفي أخرى (2)، قال قُرةُ بن خالد: انتظرنا الحسن وراثَ علينا، حتى قرُبْنا من وقت قيامه، فجاء، فقال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال: قال أنس: نظرنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى كان شطرُ الليل، فبلغه، فجاء فصلى بنا، ثم خطبنا، فقال: "ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدُوا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة". قال الحسنُ: إن الناسَ لا يزالون في خيرٍ ما انتظروا الخير، زاد في رواية (3): كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذٍ. وعند مسلم (4) قال: نظرْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً حتى كان قريباً من نصف الليل، ثم جاء فصلى، ثم أقبل علينا بوجهه، فكأنما أنظر إلى وبيصِ خاتمه في يده. وله في أخرى (5): أنهم سألوا أنساً عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أخَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة إلأى شطر الليلن أو كاد يذهبُ شطرُ الليل، ثم جاء، فقال: إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتُم الصلاة. قال أنسٌ: كأني أنظر إلى وبيصِ خاتمه من فضة، ورفع إصبعهُ اليُسرى بالخنصر".
738 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمةِ، فلم يخرجْ حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: "خذوا مقاعدكم"، فأخذنا مقاعدنا، فقال: "إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعفُ الضعيف وسُقمُ السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطرِ الليل". 739 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة نُزولاً في بقيع بُطحان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فكان يتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء كل ليلة نفرٌ منهم، قال أبو موسى: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأصحابي، وله بعضُ الشُّغل في أمره، حتى أعتم بالصلاة، حتى ابنهار الليلُ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: "على رسلكم أعلمُكم وأبشروا أن من نعمة الله عليكم: أنه ليس من الناس أحدٌ يصلي هذه الساعة غيركم - أو قال: ما صلى هذه الساعة أحدٌ غيركم"-، لا ندري أي الكلمتين قال: قال أبوموسى: فرجعنا فرحين بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 740 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُقيمتْ صلاةُ العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُناجيه، حتى نام القومُ، أو بعض القوم، ثم صلوا. 741 - * روى البخاري، قال حميد: سألت ثابتاً عن الرجل يُكلم الرجل بعد ماتُقام الصلاة؟ فحدثني عن أنس قال: أقيمت الصلاة، فعرض للنبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فحبسهُ بعدما
أقيمت. وفي رواية (1) لهما: قال: أقيمت الصلاة، ورجل يُناجي النبي صلى الله عليه وسلم، فما زال يناجيه حتى نام أصحابه، ثم قام فصلى. وأخرج الترمذي (2): لقد رأيتُ، النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تُقام الصلاةُ يكلمه الرجل، يقوم بينه وبين القبلة، فما يزال يكلمه، ولقد رأيت بعضهم ينعُسُ من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم له. من أدرك ركعة في الوقت: 742 - * روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلُع الشمسُ فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرُب الشمسُ فقد أدركَ العصر". وفي رواية للبخاري (3) والنسائي (4): "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليُتمَّ صلاته، وإذا أدرك سجدةً من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليُتمَّ صلاته". إلا أن النسائي قال: أوَّلَ سجدةٍ. في الموضعين. 743 - * روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك
ركعة من الفجر قبل أن تطلع اشمس فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها". فضيلة الصلاة لوقتها: 744 - * روى أبو داود عن أم فروة رضي الله عنها وكانت ممنْ بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها". 745 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة لوقتها الآخِر مرتين، حتى قبضه الله. 746 - * روى مالك عن يحيى بن سعيد رحمه الله قال: إن المصلي ليُصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أعظم من أهله وماله. 747 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال إنكم في زمان الصلاة فيه طويلة والخطبة فيه قصيرة وعلمؤه كثير، وخطباؤه قليلٌ وسيأتي على الناس زمان الصلاة فيه قصيرة والخطبة فيه طويلة خطباؤه كثير وعلمؤه قليلٌ يؤخرون الصلاة صلاة العشي إلى شرق الموتى فمن أدرك ذلك فليصل الصلاة لوقتها وليجعلها معهم تطوعاً إنكم في زمان يُغبطُ فيه الرجلُ على
قلة عياله وخفة حاذِه ما أدعُ بعدي في أهلي أحبُّ إلي موتاً منهم ولا أهلُ بيتٍ من الجعلان وإني لأحبهم كما تحبون أهليكم. 748 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن يزيد يعني النخعي قال صلى عبد الله وجعل رجل ينظر هل غابت الشمس فقال عبد الله ما تنظرون هذا والله الذي لا إله إلا هو ميقات هذه الصلاة لقول الله عز وجل {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) وهذا دلوك الشمس وهذا غسق اللليل. 749 - * روى البزار عن سعد بن أبي وقاصٍ قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (2) قال هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. وعن (3) مصعب بن سعد قال قلت لأبي يا أبتاه أرأيت قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (4) أينا لا يسهو أينا لا يُحدث نفسه قال ليس ذاك إنما هو إضاعة الوقت يلهو حق يضيع الوقت، وفي رواية (5) أخرى قال سعد أو ليس كلنا نفعل ذلك. إذا حضر العِشاء والعَشاء: 750 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
وضع عشاءُ أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا تعجلْ حتى تفرغ منه"، وكان ابن عمر يُوضع له الطعام وتُقام الصلاةُ فلا يأتيها حتى يفرُغَ، وإنه ليسمعُ قراءة الإمام. وفي رواية (1): "إذا كان أحدُكم على الطعام فلا يعجَلْ حتى يقضي حاجته منه وإن أُقيمت الصلاةُ". وأخرجه أبو داود (2) قال: "إذا وُضع عشاءُ أحدكم وأُقيمت الصلاة فلا يقوم حتى يفرغ". زاد في رواية (3): وكان عبد الله إذا وُضع غشاؤه- أو حضر غشاؤه - لم يقمْ حتى يفرغ، وإن سمعَ الإقامة، وإن سمعَ قراءة الإمام. وله في أخرى (4) عن عبد الله بن عُبيد بن عُمير، قال: كنت مع أبي في زمان ابن الزبير، إلى جنبِ عبد الله بن عمر، فقال عبادُ بن عبد الله بن الزبير: إنا سمعنا أنه يُبدأ بالعشاء قبل الصلاة؟ فقال عبد الله بن عمر: ويحك، ما كان عشاؤهم؟ أتراه كان مثل عشاء أبيك؟. وفي رواية (5) الترمذي: "إذا وُضع العشاءُ وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء": وتعشى ابن عمر وهو يسمع قراءة الإمام. أقول: يلاحظ بساطة عشاء الصحابة رضوان الله عليهم.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يلاحظ أن جبريل عليه الصلاة والسلام عندما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات الخمس، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علم أصحابه أوقات الصلاة، لم تؤخر صلاة إلى وقت كراهة، ومن جملة النصوص التي مرت معنا نعرف أن على الإمام أن يراعي حال المأمومين، وأن يراعي الحالات الطارئة دون أن يؤخر صلاةً إلى وقت الكراهة. - مر معنا في أكثر من مكان تعبير (فيء الزوال) وقد عرِّفَ من قبل أكثر من مرة، وههنا نزيد الأمر تفصيلاً. فنقول: إن الشمس عندما تشرق يكون ظل الأشياء نحو الغرب وكلما ارتفعت تقلص ظلها، فإذا كانت في جهة الجنوب مثلاً بالنسبة لخط الاستواء، فإن العود مثلاً يقصر ويتجه شيئاً فشيئاً إلى جهة الجنوب، فحيثما تناهى في حركة الانحسار وقبل أن يتجه نحوالشرق اتجاهاً مواتياً لاتجاه الشمس فعندئذ تكون الشمس قد وصلت إلى كبد السماء، فلو أننا في هذه الحالة أسقطنا من رأس الظل شاقولاً أو خيطاً فإن مركز الشاقول يكون بعيداً عن مركز القضيب من جهة الغرب شيئاً ما، هذا الشيء هو الذي يسمى فيء الزوال، قد يكون كذا سنتمتراً، فعندما نقول يدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، أي إن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله زائداً على فيء الزوال. يغلط بعضهم ف فهم اصطلاحٍ ورد في السنة النبوية ويرد في كلام الفهاء وهو استعمال كلمتي الفجر الصادق والفجر الكاذب، فيظن أن الفجر الصادق هو أن نتشر ضوء الصباح، وعلى هذا أجاز بعضهم أن يأكل النسا بعد تأكد طلوع الفجر في رمضان وه مخالف للإجماع، فالفجر الكاذب اصطلاح على شعاع طولاني يكون قبيل الفجر الصادق يظهر ثم يغيب، أما إذا ظهر الفجر الصادق المنتشر في الأفق عراً ثم يبدأ يزداد وضوحاً، فهذا هو الفجر الصادق الذي عُلِّق عليه إمساك الصائم ودخول وقت الفجر، فمتى عرف الإنسان بالرؤية أو بالتقويم الموثق وقت طلوع الفجر أو سمع أول كلمة من الأذان فلا يجوز أن يدخل شيئاً جوفه. - ومن الملاحظ أن أوقات الصلوات وأوقات الصوم والحج علقت بظواهر كونية لا تخفى
على أحد ليكون ذلك إقامة حجة ودفعاً لأي نوع من أنواع التغيير والتبديل وقد رأينا أن البلدان التي يدوم فيا النهار أو الليل فترات طويلة كالقطبين يعتمد أهلهما توقيت أقرب البلدان التي تظهر فيها علامات دخول الأوقات الخمسة، وهناك بلدان يكون فجرها وعشاؤها واحداً فهذه كذلك يصلي أهلها على حسب توقيت أقرب مكان تتميز أوقات الصلوات إليها، وهذا أحد قولين في المذهب الحنفي، قال في مراقي الفلاح: (ومن لم يجد وقتهما) أي العشاء والوتر (لم يجبا عليه) بأن كان في بلد كبلغار وبأقصى المشرق يطلع فيها الفجر قبل مغيب الشفق في أقصر ليالي السنة لعدم وجود السبب وهو الوقت. قال الطحطاوي: (فإن الشمس تمكث عندهم على وجه الأرض ثلاثاً وعشرين ساعة، وتغرب ساعة واحدة على حسب عرض البلد واستظهر الكمال وجوب القضاء استدلالاً بحديث الدجال وتبعه ابن الشحنة فصححه في ألغازه، وذكر في المنح أنه المذهب ولا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء. وفرق النهر بأن الوقت موجود حقيقة في يوم الدجال، والمفقود بخلاف العلامة فقط ما نحن فيه، فإن الوقت لا وجود له أصلاً. ورد بأن الوقت موجود قطعاً والمفقود هو العلامة فقط فإذن لا فرق). انظر حاشية الطحاطاوي 142 - 143 وفي (الدر المختار 1/ 242): وفاقد وقتهما مكلف بهما فيقدر لهم ولا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء، به أفتى البرهان الكبير واختاره الكمال وتبعه ابن الشحنة في ألغازه فصححه ا. هـ. - بالنسبة لمركبات الفضاء يمكن أن يصلي أصحابها على حسب مواقيت مكان الإقلاع مثلاً أو على حسب مواقيت خط العرض الذي يدورون على سمته، وحيثما تعذر معرفة القبلة أو استقبالها صلى الإنسان إلى أي جهة قدر، وكيفما استطاع، قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وإذا لم يكن ماء فائض
عن الحاجة تيمم الإنسان على شيء من جنس الأرض حجر أو بلاط، وعلى المسلم أن يحتاط فلا يضيع صلاة في كل الظروف، ولكن هل يعيد إذا رجع إلى وضع عادي، كأن عاد مسافر الفضاء إلى الأرض؟ قولان للعلماء والأمر واسع، والاحتياط الإعادة إلا إذا زادت الرحلة على أكثر من خمسة أوقات. - لا خلاف بين الفقهاء أن وقت صلاة الفجر يبدأ من طلوع الفجر الصادق، وينتهي بطلوع الشمس ولكنهم اختلفوا فيما لو طلعت الشمس والإنسان يصلي، هل يتمُّ صلاته أو يقطع؟ فأكثر الفقهاء على أنه يتم، والحنفية قالوا: تبطل صلاته وعليه أن يقضي بعد ارتفاع الشمس مقدار رمح، واختلفوا في الوقت الأفضل لأداء الفجر، فاستحب الحنفية الإسفار للرجال، والتغليس للنساء، واستحب المالكية والشافعية والحنابلة أن تصلي الفجر غلساً في أول وقتها. - لا خلاف بين الفقهاء في أن وقت الظهر يبدأ من زوال الشمس، واختلفوا في نهاية وقته، فقال أكثر العلماء حتى يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، وقال أبو حنيفة: حتى يصير ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، والفارق بين الوقتين حوالي 40 دقيقة، وبالإمكان في حالة الضرورة القصوى الإفتاء بقول أبي حنيفة. واختلفوا هل الأفضل أن تصلي الظهر في أول وقتها دائماً؟ فقال الحنفية والشافعية والحنابلة يستحب الإبراد بها في البلاد الحارة في الصيف بحيث يمشي قاصد المسجد في الظل، وقال المالكية: صلاة الظهر بأول وقتها أفضل، والظاهر أن الأفضلية من أجل مراعاة مشقة الحر في الذهاب إلى المسجد أو لمن كان في وضع يشق عليه، أما لمن كان في بيته أو في حال لا يشق عليه أول الوقت بسبب الحر فالصلاة في أول الوقت هي الأفضل. - لا خلاف بين العلماء أن العصر يدخل بخروج وقت الظهر، لكنا رأينا خلافهم في وقت خروج وقت الظهر، ولا خلاف بينهم أن وقتها ينتهي بغروب الشمس ولا خلاف بينهم أن من بدأها قبل الغروب أتمها بعده، ويكره تأخيرها إلى وقت اصفرار الشمس، ويستحب عند بعض الحنفية تأخير صلاة العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه مراعاة لقول أبي حنيفة.
- لا خلاف بين الفقهاء بأن وقت المغرب يدخل إذا غربت الشمس، والجمهور: على أن وقتها ينتهي بغياب الشفق، والجمهور على أن المراد بالشفق الشفق الأحمر، وبعض الفقهاء قال: إن الشفق الأبيض، وبين غياب الشفقين اثنتا عشرة دقيقة، وهناك اتجاه عند الشافعية والحنفية أن وقت المغرب مضيق ينقضي بمقدار وضوء وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات، ويستدلون على ذلك بأن جبريل عليه السلام صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، إلا أن الجمهور قالوا: على أن هذا يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى وقت اشتباك النجوم. قال الحنفية: لا يفصل بين أذان المغرب وإقامته إلا بقدر ثلاث آيات أو جلسة خفيفة ولا تصلي نافلة بين أذان المغرب وإقامته، واعتبر بعض الفقهاء أن من السنة أن يصلي الإنسان ركعتين بين أذان المغرب وإقامته. - ويبدأ وقت العشاء في القول المفتى به عند المذاهب الأربعة من غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق، وقال الشافعية والمالكية: الأفضل أن يصلي العشاء في أول وقته، وقال الحنفية: يستحب تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل الأول في غير وقت الغيم، وقال الحنابلة: يندب تأخير العشاء إلى آخر وقتها المختار وهو ثلث الليل أو نصفه ما لم يشق على بعض المأمومين، وكره كثير من الفقهاء تأخير العشاء إلى ما بعد منتصف الليل إلا لعذر. - اتفق الفقهاء على أن ما بعد طلوع الشمس إلى وقت الظهر لا فريضة فيه، وأن أول وقت الوتر بعد صلاة العشاء وآخر وقتها ما لم يطع الفجر. - ومن جهل الوقت بسبب عارض كغيم أو حبس في مكان مظلم أو عدم ثقته بأن من يسأله يجيبه بغير علم، فعليه في هذه الحالة الاجتهاد حتى يغلب على ظنه دخول الوقت، ويستحب تأخيرها قليلاً إلا أن يخشى خروج الوقت.
الفقرة الثانية في: أوقات الكراهة
الفقرة الثانية في: أوقات الكراهة 751 - * روى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ثلاثُ ساعاتٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نُصلي فيهن، أو نقبُر فيهن موتانا: حين تطلعُ الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائمُ الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرُب". 752 - * روى مالك عن عب دالله الصنابحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلعُ ومعها قرنُ الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربَتْ فارقها، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات". 753 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها". وفي رواية (1)، قال: "إذا طلع حاجِبُ الشمس فدعُوا الصلاة حتى تبرُزَ، وإذا غاب حاجبُ الشمس فدعو الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس
ولا غروبها، فإنها تطلعُ بين قرني شيطان - أو الشيطان-" لا أدري أي ذلك قال هشام، يعني: ابن عروة. 754 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر كان يقول: لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإن الشيطان يطلعُ قرناه مع طلوع الشمس، ويغرُبان مع غروبها، وكان يضرِبُ الناس على تلك الصلاة. 755 - * روى الطبراني عن عمرو بن دينارٍ قال رأيتُ ابن عمر طاف بعد صلاة الصبح وصلى ركعتين ثم قال إنما تكره الصلاة عند طلوع الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلعُ بين قرني شيطان". 756 - * روى أبو داود عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه قال قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: "جوفُ الليل الآخر، فصلِّ ما شئت فإن الصلاة مشهودةٌ مكتوبةٌ، حتى تُصلي الصبح، ثم أقصرْ حتى تطلُع الشمس فترتفع قيس رُمْحٍ أو رمحين، فإنها تطلع بين قرني شيطان، ويصلي لها الكفار، ثم صل ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى يعدل الرمح ظله، ثم أقصر، فإن جهنم تسجرُ وتُفتح أبوابها، فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت، فإن الصلاة مشهودة، حتى تُصلي العصر، ثم أقصر حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، ويصلي لها الكفار ... ".
وأخرجه النسائي، قال: "قلت: يا رسول الله، هل من ساعةٍ أقرب من الله عز وجل من الأخرى؟ أو هل من ساعة يُبتغى ذكرُها؟ قال: "نعم، إن أقرب ما يكون الربُّ عز وجل من العبد جوفُ الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل في تلك الساعة فكُنْ، فإن الصلاة محضورةٌ مشهودةٌ إلى طلوع الشمس، فإنها تطلعُ بين قرنيْ شيطان وهي ساعةُ صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رُمحٍ، ويذهب شُعاعها، ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تعتدل فدع الصلاة حتى يفيء الفيءُ، ثم الصلاة محضورةٌ مشهودةٌ، حتى تغيب الشمس، فإنها تغيبُ بين قرني شيطان وهي صلاة الكفار". أقول: هاتان الروايتان من أقوى الأدلة على جواز النفل المطلق وأن اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه أن يصلي في الليل عدداً معلوماً لا ينفي جواز صلاة أكثر من ذلك عدداً. جاء في (شرح السنة 3/ 321): قوله: "ومعها قرنُ الشيطان" قيل: أراد به حزبه، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (1) والمرادُ بالقَرْن هاهنا: عبدةُ الشمس، فإنهم يسجدون للشمس في هذه الأوقات، وقيل: "قرْنُ الشيطان" أي: قوَّتُه، من قولهم: فلانٌ مقرنٌ لهذا الأمر، أي: مطيقٌ له، وهو مثلٌ يريد به التسلُّط، وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات، لأنه يُسَوِّلُ لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات الثلاثة، وقيل: معناه: أن الشيطان يُدني رأسه من الشمس في هذه الساعات حتى يكون طلوعها وغروبها بين قرنيه، وهما جانبا رأسه من الشمس، فينقلب سجودُ عبدة الشمس للشمس عبادةً للشيطان. اهـ.
757 - * روى أحمد عن سلمة بن الأكوع قال: "كنت أسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيته صلى بعد العصر ولا بعد الصبح قطُّ". 758 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو مسندٌ ظهره إلى الكعبة فقال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرُب الشمسُ". 759 - * روى أحمد عن أم سلمة قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين فقلت يا رسول الله صليت صلاةً لم تكن تُصليها قال: "قدِمَ مالٌ فشغلني عن ركعتين كنت أركعُهما بعد الظهر فصليتهما الآن" فقلت يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا قال لا. 760 - * روى أحمدعن زيد بن خالد الجُهني أنه رآه عمر بن الخطاب وهو خليفةٌ ركع بعد العصر ركعتين فمشى إليه فضربه بالدرة وهو يصلي كما هو فلما انصرف قال: زيد يا أمير المؤمنين فوالله لا أدعهما أبداً بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما قال: فجلس عمر إليه وقال: يا زيد بن خالدٍ لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سُلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضربُ فيهما.
أقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر قضاء ابتداءً. وكان من سنته إذا فعل شيئاً أثبته، وقد مر معنا حديث أم سلمة: أن قضاء النافلة بعد صلاة العصر خصوصية له عله الصلاة والسلام، ولكن زيداً رأى الفعل ولم يعرف الخصوصية فاقتدى، وسكوت عمر عنه في النهاية ليس إقراراً، وإنما رأى تعلقه بما شاهده من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عنه، وقول زيد لعمر وهو خليفة ما قال يدل على أن من كان له اجتهاد شخصي في محله لا يجب عليه أن يتخلى عن مذهبه لأمر أمير المؤمنين. 761 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرُب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمسُ". 762 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة". وعند النسائي: إلا أن تكون الشمس بضاء نقيةً مرتفعةً. 763 - * روى مسلم عن أبي بصرة الغفاري رض الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمخمصِ صلاة العصر، فقال: "إن هذه صلاةٌ عُرضت على منْ كان قبلكم فضيعُوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلُع الشاهدُ".
764 - * روى مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن رحمه الله: أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، ودارُه بجنبِ المسجد، قال: فلما دخلنا عليه، قال: أًليتم العصر؟ فقلتُ له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلما انصرفنا، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً". وفي رواية الموطأ (1) وأبي داود (2)، قال: دخلنا على أنس بعد الظهر فقام يُصلي العصر، فلما فرغ من صلاته ذكرنا تعجيل الصلاة - أو ذكرها -قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين .. وذكر باقي الحديث".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - اتفق الفقهاء على أنه لا تنفل بعد صلاة لافجر حتى تطلع الشمس، وأجازوا قضاء الفريضة في هذا الوقت، ولا يقضي عند الحنفية في هذا الوقت سنة الصبح إذا لم يؤدها قبل فريضتها، ويكره تحريماً عندهم تحية مسجد أو منذور أو ركعتا طواف ولا يكره عندهم قضاء وتر أو سجدة تلاوة أو صلاة جنازة، ويكره تنزيهاً التنفل عند المالكية بعد طلوع الفجر إلا سنتها وفريضتها، ويستثنون من الكراهة صلاة الجنازة وسجود التلاوة بعد صلاة الصبح، ولا كراهة عند الشافعية لمن قضى سنة الفجر بعد فريضتها، ولا لمن صلى في حرم مكة وخاصة بعد الطواف، ولا صلاة ذات سبب كصلاة كسوف وتحية مسجد وسنة وضوء وسجدة شكر. وتجوز عند الحنابلة ركعتا الطواف وصلاة الجنازة وكذا إعادة الصلاة جماعة بشرط أن تقام وهو في المسجد أو يدخل المسجد وهم يصلون، ويجوز عندهم قضاء سنة الفجر بعد فريضتها، والمختار عند الإمام أحمد أن يقضي سنة الفجر في وقت الضحى، والحنفية والمالكية على أنه لا تنفل قبل صلاة الفجر بعد طلوع الفجر إلا سنة الفجر، لكن الكراهة عند المالكية تنزيهية. وأجازوا لمن كان له ورد في ليلة وفاته، أن يصليه قبل صلاة الفريضة. - واتفق الفقهاء على أنه لا صلاة وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح أي بعد طلوعها بمقدار ثلث ساعة، وفي هذا الوقت لا تنعقد أي صلاة عند الحنفية، وإذا كان الإنسان في صلاة فريضة وطلعت الشمس بطلت الصلاة عندهم، فتحرم أي صلاة عندهم في هذا الوقت وقال المالكية والحنابلة والشافعية لا تبطل صلاة فريضة الصبح بطلوع الشمس. وقال المالكية: يحرم النفل لا الفرض في الأوقات الثلاثةويجوز قضاء الفائتة فيها، ويكره تنزيهاً النفل في الوقتين الآخرين بعد طلوع الفجر وبعد أداء العصر إلا لجنازة وسجود تلاوة. وقال الشافعية: تركه الصلاة تحريماً على المعتمد في الأوقات الثلاثة وتنزيهاً في الوقتين الآخرين ولا تنعقد الصلاة في الحالتين إلا الصلاة عند الاستواء يوم الجمعة سواء حضر إلى الجمعة أم لم يحضر. وكذلك لا تكره عند الشافعية في حرم مكة ولا تكره الصلاة ذات السبب غير المتأخر كفائتة وكسوف وتحية مسجد وسنة وضوء وسجدة شكر
وصلاة جنازة وركعتي الطواف، أما ما له سبب متأخر كركعتي الاستخارة والإحرام فإنه لا ينعقد. وتحرم الصلاة قبل الزوال بثلث ساعة عند الحنفية مهما كان نوعها. وقال الحنابلة: يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وإذا طلعت الشمس على من يصلي الصبح أتمها ويجوز فعل ركعتي الطواف وتجوز الجنازة في الوقتين بعد العصر والفجر وهو رأي الجمهور، ولا تجوز في الأوقات الثلاثة إلا لضرورة، ويحرم سجود التلاوة والنافلة وصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد وسنة الوضوء وسنة الاستخارة في الأوقات الخمسة. - يكره تحريماً عند الحنفية أي تنفل بعد أداء صلاة العصر ولو ركعتي طواف أو قضاء نفل أفسده ويجوز عندهم قضاء الفرائض الفائتة قبل تغيُّرِ الشمس ويكره التنفل تنزيهاً عند المالكية بعد أداء صلاة العصر قبل اصفرار الشمس ويندب عندهم ألا تؤخر صلاة الجنازة أو سجود التلاوة إذا كانا في هذا الوقت، وتجوز الصلاة في هذا الوقت عند الشافعية والحنابلة للطائفين، وصلاة الجنازة والصلاة ذات السبب جائزة عند الشافعية، ويجوز في قول عند الحنابلة قضاء السنن الراتبة بعد العصر لكن الصحيح عندهم أن سنة العصر لا تقضي. - يكره التنفل عند الحنفية والمالكية قبل صلاة المغرب وقال الشافعية تستحب ركعتان، وقال الحنابلة تجوز ركعتان، وليست سنة. يكره عند المالكية والحنفية التنفل أثناء خطبة الإمام في الجمعة والعيد والحج والنكاح والكسوف والاستسقاء وذلك من خروج الخطيب حتى يفرغ من الصلاة، وقال المالكية: ويكره التنفل بعد صلاة الجمعة، إلا في البيت أو إلى انصراف الناس من المسجد، وشارك الشافعية والحنابلة الحنفية والمالكية في كراهة الصلاة فيما ذكرناه إلا تحية المسجد إلا لمن يخشى فوات تكبيرة الإحرام على أن تكون قصيرة خفيفة، إلا أن الكراهة تحريمية عند الحنفية تنزيهية عند الحنابلة والشافعية. - يكره التنفل عند الحنفية والمالكية والحنابلة قبل صلاة العيد وبعده ولكن الحنابلة قالوا لا بأس بالتنفل إذا خرج من المصلى ولم يفرق الحنفية بين الإمام والمأموم في الكراهة
سواء كان في المسجد أم في المصلى. - قال الحنفية يكره تحريماً التطوع عند إقامة الصلاة المفروضة إلا سنة الفجر إن لم يخف فوت جماعة الفرض ولو بإدراك تشهده فأن خاف تركها أصلاً، وإذا صلاها فليحاول أن يصليها في مكان بعيد عن صلاة الجماعة، وقال الشافعية والجمهور يكره افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة سواء أكانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر أو غيرها كتحية المسجد. انظر (حاشية ابن عابدين 1/ 248 - 253)، (المغني 1/ 456 و 2/ 107 وما بعدها)، (2/ 116 - 119)، (الشرح الصغير 1/ 241)، (الفقه الإسلامي 1/ 521 وما بعدها).
الفقرة الثالثة: في الجمع بين صلاتين
الفقرة الثالثة: في الجمع بين صلاتين 765 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمسُ أخَّر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب. وفي رواية (1): كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر، حتى يدخل أولُ وقت العصر. وفي أخرى (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل عليه السيرُ يؤخرُ الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمعُ بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. وزاد أبو داود في رواية أخرى (3) بعد قوله: العشاء: حين يغيبُ الشفقُ. وفي رواية النسائي (4) مثل الرواية الثانية وزيادة أبي داود، وفي أخرى (5) للبخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمعُ بين هاتين الصلاتين في السفر، يعني: المغرب والعشاء. 766 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعُ بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان على ظهر سيرٍ، ويجمعُ بين المغرب والعشاء". وفي رواية (6) مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرةٍ سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
767 - * روى مسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. وفي رواية (1) قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يُحْرِج أمتهُ. وفي رواية (2) الموطأ وأبي داود (3) والنسائي (4): "أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ودخل، ثم خرج فصلى الممغرب والعشاء جميعاً". قال الشيخ شعيب في (شرح السنة 4/ 195): وحسين بن عبد الله بن عبيد الله ضعيف، لكن له شاهد من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال: كان إذا سافر فنزل منزلاً فأعجبه المنزل أخر الظهر حتى يجمع بين الظهر والعصر، وإذا سار ولم يتهيأ له المنزل أخر الظهر حتى يأتي المنزل فيجمع بين الظهر والعصر، وأخرجه أحمد رقم (2191) والبيهقي (3/ 164) ورجاله ثقات، قال الحافظ في "الفتح": إلا أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوماً بوقفه عن ابن عباس، ولفظه: إذا كنتم سائرين ... فذكره نحوه. اهـ. أقول: إذا كان هذا هو نص الحديث فليس شاهداً لحديث حسين بن عبيد الله لأن الشاهد ليس فيه إلا جمع التأخير إذ نه ذكر في المرتين أخر الظهر حتى يجمع بين الظر والعصر، إلا أن لفظ رواية البيهقي هو: 768 - * روى البيهقي عن ابن عباس إذا نزل منزلاً في السفر فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر ثم يرتحل فإذا لم يتهيأ له المنزل مد في السفر فسار فأخر الظهر حتى يأتي المنزل الذي يريد أن يجمع فيه بين الظهر والعصر.
ففهموا منه أنه صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه المنزل صلى الظهر والعصر أي جمع تقديم ثم يرتحل وإلا أخر الظهر حتى يأتي المنزل الذي يريد، والله أعلم. 769 - * روى أحمد عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "كان إذا سافر سار بعدما تغرب الشمس، حتى إذا كاد أن يُظلم، ثم ينزل فيصلي المغرب، ثم يدعو بعشائه فيتعشى، ثم يصلي العشاء، ثم يرتحلُ، ويقول: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع". قال الحنفية: الجمع جمع تقديم لم يثبت لأنه من رواية حسين بن عبيد الله وهو ضعيف وقالوا: إن الحاديث التي استدل بها الجمهور على جواز الجمع جمع تأخير تحتمل احتمالاً قوياً الجمع الصوري وهو تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية لأول وقتها فتؤدي الصلاتان وليس بينهما شيء، واستدل الحنفية على عدم جواز الجمع الحقيقي بأن الأحاديث الواردة بتعيين الأوقات ثبتت بالتواتر أو الشهرة فلا يجوز تركها بغير دليل يساويها ولا تعتبر صالحة لتخصيص النص القرآني {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1)، واستدلوا بما روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: (ما جمع رسول الله صلى الله عليه سولم بين المغرب والعشاء قط في السفر إلا مرة واحدة) وبما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا لوقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بجمعٍ). رواه البخاري ومسلم، وفعل علي في هذا النص يشهد للحنفية، وهناك روايات أخرى كثيرة فهم منها الحنفية الجمع الصوري وهي رخصة إذا عرف حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده صحابته على الصلاة في وقتها. (انظر إعلاء السنن 2/ 81). وإنما أردنا فقط أن يُعرف أن للحنفية دليلهم القوي في المسألة وليس الأمر ما يزعم البعض. 770 - * روىأبو داود عن جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة
قبل غروب الشمس، فجمع بين العشاءين بسرف، وبينهما عشرةُ أميالٍ، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف، قال هشام بن سعد: بينهما عشرة أميال. 771 - * روى ابن خزيمة عن نافع، قال: كنت مع عبد الله بن عمر وحفص بن عاصم ومساحق بن عمرو، قال: فغابت الشمس، فقيل لابن عمر: الصلاة، قال: فسار، فقيل له الصلاة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير أخرَ هذه الصلاة وأنا أريد أن أؤخرها. قال: فسرنا حتى نصف الليل أو قريباً من نصف الليل. قال: فنزل فصلاها. 772 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى. وفي رواية (1) قال: "صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً، قال عمرو: قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء؟ قال: وأنا أظن ذلك. ولمسلم (2) قال: صلى رسول الله صلى اله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، من غير خوف ولا سفر. زاد في رواية (3): قال: قال أبو الزبير: "فسألت سعيداً: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس عما سألتني؟ فقال: أراد
أن لا يُحْرِجَ أمته". وله في أخرى (1) نحوه، وقال "في غير خوف ولا مطر". وله في أخرى (2): قال عبد الله بن شقيق العُقيلي: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة، الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميمي لا يفترُ ولا ينثني: الصلاة، الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلِّمُني بالسُّنة؟ لا أبالك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيءٌ، فأتيتُ أبا هريرة فسألته، فصدق مقالته. وفي رواية (3) قال: قال رجلٌ لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أم لك، تُعلمُنا بالصلاة؟ كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الموطأ (4): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر جميعاً، من غير خوف ولا سفر". قال: قال مالك: أرى ذلك كان في مطرٍ. أقول: من خلال التعليقات والتلعيلات التي وردت في روايات هذا النص: يتضح أن هذا النص محمول على الجمع الصوري أو على عذر غفل بعض الرواة عنه، فلا حجة في النص لمن أجاز الجمع بلا عذر فذلك مخالف لما استقر عليه العلماء وأجمعوا عليه، وقد تعلق بعض الناس بألفاظ وردت في بعض الروايات تفيد جواز الجمع في الحضر لأي حاجة عرضت - واحتمال الخطأ في الرواية وارد - قال صاحب إعلاء السنن (2/ 85) حول حديث ابن عباس هذا: فهو محمول على الجمع الصوري، وحمله على الجمع الحقيقي خلاف الإجماع. قال الترمذي في (علله): جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين حديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر". إلخ. (2/ 235) فهذا الحديث ظاهره متروك بالإجماع لم يقل به أحد.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جمع بين الصلاتين من غير عذرٍ فقد أتى باباً من الكبائر". وفيه حنش حسين بن قيس. قال الترمذي: هو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أحمد وغيره اهـ. (1 - 26) قلت: الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس ثم قال: حنش بن قيس الرحبي يقال له: أبو علي من أهل اليمن سكن الكوفة ثقة اهـ. (1) وفي التهذيب بعد ذكر الكلام الطويل فيه: وزعم أبو محصن أنه شيخ صدوق. وقال أبو بكر البزار [عنه] لين الحديث اهـ. (2 - 36): على أن لما رواه شاهداً صحيحاً موقوفاً، فقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى: "واعلم أن جمعاً بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2) عن معمر عن قتادة عن أبي العالية الرياحي كذا في اللآلئ (2 - 13) ورجاله رجال الصحيح (3). (1) قال الذهبي تحته: (قلت: بل ضعفوه). (2) أخرجه في باب من نسي صلاة الحضر والجمع بين الصلاتين في السفر (2 - 552 رقم 22 - 44). (3) وهو موقوف في حكم المرفوع. 773 - * روى مسلمعن ابن عباس أنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر" قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. قال ابن خزيمة: لم يختلف العلماء كلهم أن الجمع بين الصلاتين في الحضر في غير المطر غير جائز، فعلمنا واستيقنا أن العلماء لا يجمعون على خلاف خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح من جهة النقل، لا معارض له عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يختلف علماءُ الحجاز أن الجمع بين الصلاتين في المطر جائز، فتأولنا جمع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر على المعنى الذي لم يتفق المسلمون على خلافه،
إذ غير جائز أن يتفق المسلمون على خلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يُرْووا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً خلافه، فأما ما روى العراقيون أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر، فهو غلط وسهو وخلاف قول أهل الصلاة جميعاً اهـ. قال الحافظ في (الفتح 2/ 23 - 24): واحتمال المطر قال به أيضاً مالك عقب إخراجه لهذا الحديث عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه، وقال بدل قوله بالمدينة: "من غير خوف ولا سفر". قال مالك: لعله كان في مطر، لكن رواه مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير بلفظ: من غير خوف ولا مطر". فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر، وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقواه النووي، وفيه نظر، لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين لعاض المرض لما صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته، قال النووي: ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلاً فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، قال وهو باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء اهـ. وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه، وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء، فعلى هذا فالاحتمال قائم. قال: ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوري، بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها. قال: وهو احتمال ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل اهـ. وهذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيدالنسا بأن أبا الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما رواه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدري بالمراد من غيره. قلت: لكن لم يجزم بذلك، بل لم يستمر عليه، فقد تقدم كلامه لأيوب وتجويزه لأن يكون الجمع بعذر املطر، لكن يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت
الجمع، فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى والله أعلم. قال المعلق على الفتح في الطبعة السلفية: هذا الجمع ضعيف. والصواب حمل الحديث المذكور على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك. ويدل على ذلك قول ابن عباس لما سئل عن علة هذا الجمع قال: "لئلا يحرج أمته". وهو جواب عظيم سديد شاف. والله أعلم. قال ابن حجر: وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث. فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقاً لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: فقلت لابن عباس لم فعل ذلك قال: أراد ان لا يحرج أحداً من أمته. وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينها شيء، فعل ذلك من شغل، وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم، ثم جمع بين المغرب والعشاء. وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه. وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع، وقد جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعاً أخرجه الطبراني ولفظه: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي". وإرادة نفي الحرج يقدح في حمله على الجمع الصوري، لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج أهـ. 774 - * (1) روى مالك عن نافع: أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في
المطر جمع معهم. 775 - * روى ابن خزيمة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: "حبسنا يوم الخندق حتى كان بعد المغرب هوياً، وذلك قبل أن ينزل في القتال، فلما كفينا القتال، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (1). فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأقام - يعني الظهر - فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام المغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها". وفي رواية (2) في آخرها: وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (3). وقد مر معنا مثل هذه الرواية عن غير ابن خزيمة بأسانيد صحيحة في أكثر من مناسبة: مناسبة غزوة الأحزاب والصلاة الوسطى. قال الحافظ: ونقل الاختلاف في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق هل كان نسياناً أو عمداً؟. وعلى الثاني هل كان الشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة أو قبل نزول آية الخوف؟ وإلى الأول وهو الشغل جنح البخاري في هذا الموضع ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط المذكورة، ولا يرده ما تقدم من ترجيح كون آية الخوف نزلت قبل الخندق لأن وجهه أنه أقر على ذلك، وآية الخوف التي في البقرة لا تخالفه لأن التأخر مشروط بعدم القدرة على الصلاة مطلقاً، وإلى الثاني جنح المالكية والحنابلة لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه، وإلى الثالث جنح الشافعية، وعكس بعضهم فادعى أن تأخيره صلى الله عليه وسلم للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار:
وهوقول من لا يعرف السنن، لأن صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق فكيف ينسخ الأول الآخر؟ فالله المستعان. اهـ. 776 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله نهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً". زاد البخاري (1) في روايةٍ: "كل واحدةٍ منهما بإقامة، ولم يُسبحْ بينهما، ولا على إثر واحدة منهما". ولمسلم (2) قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمعٍ، ليس بينهما سجدةٌ، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين، وكان عبد الله يُصلي بجمعٍ كذلك حتى لحق بالله عز وجل". وله في أخرى (3): "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمعٍ: صلاة المغرب ثلاثاً، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة". أقول: قوله: لم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما: أي لم يتنفل بينهما ولا بعدهما. وجمع: هي مزدلفة نفسها. 777 - * روى ابن خزيمة عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين الظهر والعصر بعرفات بأذان وإقامتين، والمغرب والعشاء بجمعٍ بأذان وإقامتين". 778 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: ما رأيتُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلى صلاةً لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. أقول: قوله: وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها: أي قبل ميقاتها الذي اعتاد أن يصليها فيه وإلا فالإجماع منعقد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بمزدلفة بعد طلوع الفجر.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يجوز الجمع عند الجمهور بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الأولى وتأخيراً في وقت الثانية والجمعة كالظهر في جمع التقديم، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً، والأفضل عند الجميع عدم الجمع خروجاً من الخلاف، وهناك تفصيلات واختلافات عند القائلين بجوازالجمع سنراها. - قال الحنفية: لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في يوم عرفة للمحرم بالحج جمع تقديم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وفي ليلة المزدلفة جمع تأخير بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة واحدة، ولا يفصل بين الصلاتين بتنفل، وهذا الجمع الذي أجازه الحنفية اتفقت عليه المذاهب الأربعة. - أجاز المالكية والشافعية والحنابلة الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً في السفر المبيح بقصر الصلاة الرباعية على تفصيلات عندهم في شروط الجواز فاشترط الشافعية أن ينوي مريد الجمع الجمع، فإن أراد التأخير نوى في وقت الأولى تأخيرها إلى وقت الثانية، وإن أراد التقديم نوى تقديم الثانية في أثناء صلاته الأولى ولو مع السلام منها، والأقوى أن ينويها في أول الصلاة، وإذا أراد جمع التقديم فلابد من الترتيب فيبدأ بالأولى ثم الثانية، وإذا أخر يسن له الترتيب، وعليه ألا يفصل بين الصلاتين بفاصل طويل، أما الفاصل اليسير كالأذان والإقامة والطهارة فلا يضر، ويعرف طول الفصل بالعرف، وإذا كان مسافراً ونوى الجمع وأقام بعد النية لم يجز الجمع بل يصلي كلاً من الصلاتين في وقتها، وإذا فات وقت الأولى قضاها قضاءً، وإذا جمع جمع تقديم وانقطع السفر بعد أداء الثانية ولو في وقت الأولى صح الجمع عند الشافعية، ولابد في جمع التأخير أن يتيقن خروج وقت الصلاة الأولى، وإذا تعددت الجمعة في مكان لغير حاجة وشك في السبق لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم. - أجاز المالكية والحنابلة والشافعية الجمع بسبب المطر ونحوه من الثلج والبرد. قال الشافعية: يجوز الجمع بسبب المطر أو الثلج والبرد جمع تقديم لمن صلى بجماعة في
مسجد بعيد وتأذى في طريقه باملطر، وقال المالكية: إن المطر والبرد والثلثج والطين مع الظلمة كل منها يجيز جمع التقديم فقط لمن يصلي المغرب والعشاء بجماعة في المسجد على شرط أن يكون المطر غزيراً، والطين كثيراً، وأن يجتمع الوحل مع الظلمة، ولو انقطع المطر بعد الشروع في الجمع جاز الاستمرار فيه، وأجاز الحنابلة الجمع للمطر والثلج والبرد بين المغرب والعشاء كما قال المالكية على شرط أن يكون المطر كثيراً يبل الثياب وتلحق المشقة في الخروج منه، ويعتبرون الوحل الكثير عذراً والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة عذرين يبيحان الجمع، وهذه الأعذار تبيح الجمع تقديماً وتأخراً حتى لمن يصلي في بيته أو يصلي في مسجد طريقه مسقوفة وحتى للمقيم في المسجد. - اتفق المالكية على أن المرض يجيز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء على تفصيلات في الحالات التي تجيز الجمع بسبب المرض، قال الحنابلة: المرض الذي يجيز الجمع هو الذي يؤدي إلى مشقة وضعف يصيبان المريض إن ترك الجمع، والمريض مخير في التقديم والتأخير، فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى. - توسع الحنابلة في جواز جمع التقديم والتأخير، فأجازوه للمرضع التي يشق عليها تطهير النجاسة وللعاجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة، وللعاجز عن معرفة الوقت وللمستحاضة ونحوها من أصحاب الأعذار. وأهم ما توسعوا به جواز الجمع لمن له شغل أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله أو لضرر في معيشة يحتاجها لولم يجمع، وعلى هذا يجوز الجمع لمن كان في جيش ملحد لو عُرفت صلاته سُرح منه أو عامل لو ترك عمله لصلاة سُرِّح منه، أو صاحب زرع له نوبة ماء يسقي منها ولا يستطيع أن يصلي إلا بضرر يترتب عليه. - قال المالكية: إذا صلى الناس بسبب المطر وما أشبهه فإنهم يؤذنون ويقيمون لكل من الصلاتين، الأذان الأول للمغرب في المنارة (المئذنة)، والأذان الثاني في المسجد، ولا يتنفل بين الصلاتين، فالنفل مكروه عندهم لكنه لا يمنع صحة الجمع. - من جمع جمع تقديم المغرب والعشاء فله أن يصلي سنة الثانية منهما ويوتر قبل دخول وقت العشاء.
(انظر: الشرح الصغير 1/ 487 - 497) و (المذهب 1/ 104) و (المغني 2/ 273). - فائدة: في التلخيص الحبير: (ولا يجوز الجمع بين الصبح وغيرها ولا بين العصر والمغرب لأنه لم يرد بذلك نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. - فائدة لمن يتمسك من الحنفية بمذهبهم: قال في الدر: ولا بأس بالتقليد عند الضرورة، لكن بشرط أن يلتزم جمع ما يوجبه ذلك الإمام لما قدمنا أن الحكم الملفق باطل بالإجماع. قال العلامة الشامي: فقد شرط الشافعي رضي الله عنه لجمع التقديم ثلاثة شروط: تقديم الأولى، ونية الجمع قبل الفراغ منها، وعدم الفصل بينهما بما يعد فاصلاً عرفاً، ولم يشترط في جمع التأخير سوى نية الجمع قبل خروج الأولى، [نهر] ويشترط أيضاً أن يقرأ الفاتحة في الصلاة ولو مقتدياً وأن يعيد الوضوء من مس فرجه أو أجنبية وغير ذلك من الشروط والأركان المتعلقة بذلك الفعل، والله تعالى أعلم، (1/ 397). وقال الطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح: وكثيراً ما يبتلى المسافر بمثله لا سيما الحاج، ولا بأس بالتقليد كما في البحر والنهر (ص 103). اهـ. وموضوع الجمع بين الصلوات من أهم مواضيع عصرنا، والتفقه فيه مهم وخاصة لمن كان في أوضاع استثنائية، وستمر معنا بمناسبات متعدد صور واقعية تحتاج إلى فتوى عملية.
الفقرة الرابعة: في الأذان والإقامة
الفقرة الرابعة: في الأذان والإقامة تشريع الأذان: 779 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون للصلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فناد بالصلاة. 780 - * روى أبو داود عن أبي عمير بن أنس رحمه الله عن عمومة له من الأنصار قال: اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل: "انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك"، فذكر له القنع- وهو شبور اليهود- فلم يعجبه ذلك، فقال: "هو من أمر اليهود"، فذكر له الناقوس، فقال: "هو من أمر النصارى"، فانصرف عبد الله بن زيد الأنصاري، وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت فأراني الأذان، وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ما منعك أن تخبرنا؟ " فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا بلال، فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعل" فأذن بلال، قال بعضهم: إن الأنصار تزعم: لولا أن عبد الله بن زيد كان يومئذ مريضاً لجعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً. أقول: قوله: (إني لبين نائم ويقظان) فيه إشارة إلى بعض الحالات القلبية التي تحدث للمسلم ويسميها أهل السلوك كشفاً، وإنما شرع الأذان لا بمحض الرؤيا، ولكن بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم. 781 - * روى أبو داود عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما رأيت، فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك"، فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، يقول: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما أُري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد". قال أبو داود (1): قال فيه ابن إسحاق عن الزهري: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. فقال معمر ويونس عن الزهري: الله أكبر الله أكبر. لم يثنيا. وفي أخرى (2)
قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أشياء، لم يصنع منها شيئاً، قال فرأى عبد الله بن زيد الأذان في المنام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: "ألقه على بلال"، فألقاه عليه، فأذن، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده، قال: "فأقم أنت". وأخرجه الترمذي (1) عن عبد الله بن زيد، قال: لما أصبحنا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بالرؤيا، فقال: "إن هذه لرؤيا حق، فقم مع بلال، فإنه أندى وأمد صوتاً منك، فألق عليه ما قيل لك، وليناد بذلك"، قال: فلما سمع عمر بن الخطاب نداء بلال بالصلاة، خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر إزاره، وهو يقول: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد" فذلك أثبت. قال الترمذي (2): وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، وذكر قصة الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة. وله في أخرى (3)، قال: كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً، في الأذان والإقامة. 782 - * روى الطبراني عن سلمة بن الأكوع قال: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى والإقامة فرادى".
783 - * روى الطبراني عن أبي جحيفة قال: أذن بلال للنبي صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى وأقام مثل ذلك". أقول: اتفق الفقهاء على أن الأذان مثنى مثنى كما اتفقوا على التثويب في أذان الفجر وهي أن يقول المؤذن بعد حي على الفلاح: (الصلاة خير من النوم) مرتين، أما الإقامة فقال الحنفية مثنى مثنى مع تربيع التكبير مثل الأذان إلا أنه يزيد فيها بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرتين، وقال المالكية الإقامة فرادى بما في ذلك قد قامت الصلاة، فهي عندهم عشر كلمات، وقال الشافعية والحنابلة: الإقامة فرادى إلا لفظ (قد قامت الصلاة) فإنها تكرر مرتين فهي عندهم إحدى عشرة كلمة والأمر واسع. 784 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن ينوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة. وفي رواية (1): وأن يوتر الإقامة، إلا الإقامة. أقول: قوله (وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة): المراد بالإقامة الأولى إقامة الصلاة، وبالإقامة الثانية قوله قد قامت الصلاة فإنها تثنى وهو الذي أخذ به فقهاء الشافعية والحنابلة. - من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم الأذان: 785 - * روى أبو داود عن أبي محذورة رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله،
علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي، قال: تقول: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر- ترفع بها صوتك- - ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله- "تخفض بها صوتك"- ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". وفي رواية (1) نحو هذا الخبر، وفيه: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، في الأولى من الصبح. قال أبو داود: وحديث مسدد أبين، قال فيه: وعلمني الإقامة مرتين، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وقال عبد الرزاق: فإذا أقمت فقلها مرتين: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، أسمعت؟ قال: نعم. قال: وكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليها. وفي رواية للنسائي (2)، قال: خرجت في نفر، فكنا ببعض طريق حنين، مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون، فظللنا نحكيه، ونهزأ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا حتى وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم سمعت صوته قد ارتفع؟ " فأشار القوم إلي وصدقوا، فأرسلهم كلهم وحبسني، فقال: "قم فأذن بالصلاة"، فقمت، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال: "قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن
لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله"، ثم قال: "ارجع فامدد من صوتك"، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، فقلت: يا رسول الله، مرني بالتأذين بمكة، فقال: قد أمرتك به، فقدمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أخرى لمسلم (1) والنسائي: قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان فقال: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله"، ثم تعود فتقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". قوله: (فأعطاني صرة) استدل به ابن حبان على الرخصة في أخذ الأجرة وعارض به الحديث الوارد في النهي عنه ورده ابن سيد الناس بأن حديث أبي محذورة متقدم على إسلام عثمان بن أبي العاص الراوي لحديث النهي فحديثه متأخر والعبرة بالمتأخر فإنها واقعة يتطرق إليها الاحتمال بل أقرب الاحتمالات فيها أن يكون من باب التأليف لحداثة عهده بالإسلام كما أعطى يومئذ غيره من المؤلفة قلوبهم ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سلبها الاستدلال لما يبقى فيها من الإجمال. وسيرد حديث عثمان بن أبي العاص بعد قليل.
أقول لكن المعتمد في الفتوى في عصرنا جواز أخذ الأجرة. أقول: حمل أبو حنيفة الترجيع على أنه كان تعليماً فظنه أبو محذورة ترجيعاً، واختلف العلماء في الترجيع في الأذان (وهو أن يأتي بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً)، فأثبته المالكية والشافعية، وأنكره الحنفية والحنابلة، لكن قال الحنابلة: لو أتى بالترجيع لم يكره. ولا بأس بأن ننقل هذا التحقيق في شأن الترجيع: قال صاحب إعلاء السنن: قال المحدث ابن الجوزي في التحقيق: حديث عبد الله بن زيد هو أصل في التأذين، وليس فيه ترجيع، فدل على أن الترجيع غير مسنون اهـ (زيلعي 1 - 137). وقال أيضاً: لا يختلف في أن بلالاً كان لا يرجع اهـ (الجوهر النقي 1 - 104). وقال أيضاً: إن أذان أبى محذورة عليه عمل أهل مكة، وما ذهبنا إليه، عليه أهل المدينة، والعمل على المتأخر من الأمور انتهى (التعليق الحسن 1 - 49). قلت: [أي صاحب الإعلاء] مراده صلى الله عليه وسلم أن بلالاً وغيره من مؤذني المسجد النبوي لم يثبت عنهم الترجيع قط، لا قبل إسلام أبي محذورة ولا بعده، وبلال أذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فلو كان الترجيع مسنوناً وزيادته مشروعة لأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادته في أذانه ولثبت عنه الترجيع ولو مرة، والأمر بخلافه، لأنه لا يختلف في أن بلالاً كان لا يرجع اهـ. قال المعلق على الإعلاء: والدليل على أن بلالاً لم يغير أذانه بعد قصة أبي محذورة ما أخرجه الطحاوي (1 - 80) عن سويد بن غفلة قال: سمعت بلالاً يؤذن مثنى ويقيم مثنى. وسويد بن غفلة مخضرم من كبار التابعين، قدم المدينة يوم دفن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في التقريب (ص- 216) فظاهر أنه لم يسمع أذان بلال إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. ثم قال صاحب إعلاء السنن: فالأولى الأخذ بأذانه لأن العمل على المتأخر من الأمور، لا بأذان أبي محذورة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمع أذانه بعد ما علمه، فلا يبعد أنه زاد الترجيع في أذانه لخطأ في فهمه. وظني أن هذا الكلام في غاية القوة لا يمكن رده.
وقد أجاب علماؤنا عن حديث أبي محذورة بأجوبة: منها أن الروايات عنه مختلفة، فقد جاء في بعضها الترجيع وجاء في بعضها ما يدل على أن أذانه كأذان بلال. وقال العلامة ابن الجوزي في التحقيق: أن أبا محذورة كان كافراً قبل أن يسلم فلما أسلم ولقنه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان أعاد عليه الشهادة وكررها ليثبت عنده ويحفظها ويكررها على أصحابه المشركين ... قال بعض الناس: ويرد هذه التأويلات ما روى أبو داود وسكت عنه: حدثنا مسدد ثنا الحارث بن عبيد عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك" الحديث (1 - 189) ورواه ابن حبان في صحيحه. قلت [أي صاحب الإعلاء]: فيه الحارث بن عبيد أبو قدامة ضعفه غير واحد. وأما محمد بن عبد الملك فقد قال الذهبي في الميزان: محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه في الأذان ليس بحجة، يكتب حديثه اعتباراً انتهى. (التعليق الحسن 1 - 50). فثبت أن رواية: "تخفض بها صوتك وترفع بها" ليست بصحيحة؛ والصواب ما رواه الأربعة غير الترمذي بسند جيد من طريق ابن جريح بلفظ: "ارجع وامدد من صوتك". اهـ (إعلاء السنن 2/ 95 - 98). فائدة: المتوارث في الأذان: أن راء (أكبر) في التكبيرتين الأوليين من جملتي (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) مفتوحة، وراء التكبيرتين الثانيتين في الجملتين ساكنة، مع أن المتبادر أن راء التكبيرة الأولى في الجملتين ينبغي أن تكون مرفوعة لأنها في الإعراب خبر، وقد علل العلماء لذلك أن الأصل في جمل الأذان الجزم (الله أكبر الله أكبر) فلما أدرجت التكبيرة الأولى مع التكبيرة الثانية انتقلت حركة الألف من لفظ الجلالة (الله) إلى الراء ففتحت بسبب ذلك فقيل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر). 786 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنما كان الأذان على
- فضيلة النداء وإجابته وكراهية الشيطان له
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه كان يقول: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة"، يثني، فإذا سمعنا الإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة. - فضيلة النداء وإجابته وكراهية الشيطان له: 787 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". أقول: التهجير: هو الرواح لصلاة الظهر، والعتمة هي صلاة العشاء، وقد كره العلماء الإكثار من تسمية العشاء بالعتمة لحديث، وسبق الموضوع، وقال الحنابلة: الأذان مع الإقامة أفضل من الإمامة وقال الحنفية: الإقامة والإمامة أفضل من الأذان، وفي كل الأحوال فإن للأذان والإقامة فضلهما الكبير. 788 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، حتى إذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، واذكر كذا، لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى؟ ". وفي رواية (1): "حتى يضل الرجل". وفي أخرى (2): "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة: أحال له ضراط، حتى
لا يسمع صوته، فإذا انتهت رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا انتهت رجع فوسوس". وفي أخرى (1): "إذا أذن المؤذن: أدبر الشيطان وله حصاص". وفي أخرى (2) قال سهيل بن أبي صالح: أرسلني أبي إلي بني حارثة ومعي غلام لنا، أو صاحب لنا، فناداه مناد من حائط باسمه، قال: وأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئاً، قال: فذكرت ذلك لأبي، قال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص". 789 - * روى البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى". أقول: من روايات هذا النص استحب العلماء الأذان حيث ما شعر الإنسان بتسلط من الشيطان على إنسان كالمصروع والمهموم والغضبان وكذلك حال الشجار. 790 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء".
قال الراوي: والروحاء من المدينة: على ستة وثلاثين ميلاً. 791 - * روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بلال ينادي، فلما سكت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال مثل هذا يقيناً دخل الجنة". 792 - * روى أحمد عن عبد الله بن ربيعة السلمي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع مؤذناً يقول أشهد أن لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله" قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن محمداً رسول الله". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجدونه راعي غنم أو عازباً عن أهله". وزاد قال فهبط الوادي فإذا هو بشاة ميتة فقال: "أترون هذه هينة على أهلها" قالوا نعم قال: "الدنيا على الله أهون من هذه على أهلها". 793 - * روى البزار عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فسمع مؤذناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلع الأنداد"، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله فقال: "خرج من النار" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدونه صاحب معزى معزبة أو صاحب كلاب". 794 - * روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
- ما ينبغي على من سمع الأذان
أسفاره سمع منادياً ينادي الله أكبر الله أكبر فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "على الفطرة". فقال: أشهد أن لا إله إلا الله: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "خرج من النار". فابتدرناه فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فنادى بها. 795 - * روى ابن خزيمة عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا أغار. فاستمع ذات يوم فسمع رجلاً يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال: "على الفطرة". فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: "خرجت من النار". قال ابن خزيمة: فإن كان المرء يطمع بالشهادة بالتوحيد لله في الأذان وهو يرجو أن يخلصه الله من النار بالشهادة بالله بالتوحيد في أذانه، فينبغي لكل مؤمن أن يتسارع إلى هذه الفضيلة طمعاً في أن يخلصه الله من النار. خلا في منزله أو في بادية أو قرية أو مدينة، طلباً لهذه الفضيلة. أقول: الأذان والإقامة سنة مؤكدة للرجال جماعة في كل مسجد للصلوات الخمس والجمعة، والمعتمد عند كثير من العلماء: أنه يستحب الأذان، والإقامة للمنفرد، وقال الشافعية والمالكية تستحب الإقامة وحدها لا الأذان للمرأة أو جامعة النساء، وعند الحنفية لا أذان ولا إقامة على المرأة. - ما ينبغي على من سمع الأذان: 796 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علين فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة: حلت له الشفاعة". أقول: يجب في الراجح عند الحنفية لمن سمع الأذان أن يجيب مشياً بالأقدام إلى الصلاة وتسن الإجابة اللفظية عند الحنفية وغيرهم: بأن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن عقب كل جملة إلا في الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفي التثويب في أذان الفجر يقول بعد (الصلاة خير على النوم) صدقت وبررت وكما تسن الإجابة في الأذان تسن أو تندب الإجابة للمقيم وتسن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يسن الدعاء المأثور لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مظنة استجابة الدعاء الدعاء بين الأذان والإقامة، وقد اعتاد المؤذنون منذ عهد صلاح الدين الأيوبي أن يجهروا بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجابة المؤذن مقدمة في الفضل على قراءة القرآن وتسن الإجابة لكل سامع ولو كان جنباً أو حائضاً أو نفساء ويجيب من شغل عن الأذان أو كان في وضع لا يسمح له بالإجابة بعد فراغ المؤذن ما لم يطل الفصل بينه وبين الأذان. 797 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة". 798 - * روى البخاري عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال
حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً كما وعدته"- وفي رواية: "الذي وعدته"- "حلت له شفاعتي يوم القيامة". 799 - * روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه، دخل الجنة". 800 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً- وفي رواية (1): نبياً- وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه". 801 - * روى البخاري عن أبي أمامة أسعد بن سهل رضي الله عنه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر حين أذن المؤذن، فقال: الله أكبر، الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر، الله أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال معاوية: وأنا، قال:
أشهد أن لا إله الله، قال معاوية: وأنا، قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال معاوية: وأنا، قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال معاوية: وأنا، فلما أن قضى التأذين، قال: يا أيها الناس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر حين أذن المؤذن، يقول مثل ما سمعتم من مقالتي. وفي رواية (1): "أنه سمع معاوية يوماً وسمع المؤذن فقال مثله .. إلى قوله: وأشهد أن محمداً رسول الله". وفي أخرى (2): "أنه لما قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: هكذا سمعنا نبيكم يقول". 802 - * روى الجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". 803 - * روى البزار عن أبي هريرة أنه كان إذا سمع المؤذن يؤذن قال: أشهد بها مع كل شاهد وأتحمل بها على كل جاحد. أقول: كلمة أبي هريرة تدل على أن أمر الذكر والدعاء واسع فمن ذكر أو دعا بشيء داخل في عمومات الشريعة لا يعتبر مبتدعاً إذا لم ينقض سنة أو يفعل منهياً عنه.
- أجر المؤذن: 804 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، وشاهد الصلاة في الجماعة: يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما". وفي رواية (2) النسائي قال: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس وله مثل أجر من صلى". 805 - * روى أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له بمد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه". 806 - * روى أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغفر للمؤذن منتهى أذانه ويستغفر له كل رطب ويابس سمع صوته". 807 - * روى مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد رضي الله
عنه قال له: أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة" قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 808 - * روى مسلم عن [عيسى بن طلحة] قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة". وفي رواية (1) قال راويه: كنت عند معاوية بن أبي سفيان، فجاءه المؤذن يدعوه إلى الصلاة، فقال معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 809 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤذنون أمناء، والأئمة ضمناء، اللهم اغفر للمؤذنين، وسدد الأئمة" (ثلاث مرات). هذا لفظ حديث علي بن حجر. وقال الحسين بن الحسن: "أرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين". [ورواه محمد بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة]. 810 - * روى الطبراني عن أبي محذورة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤذنون أمناء الله على فطرهم وسحورهم". - الدعاء بين الأذان والإقامة: 811 - * روى أحمد عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعوة بين
الأذان والإقامة لا ترد فادعوا". قال ابن خزيمة: يريد الدعوة المجابة. 812 - * روى ابن خزيمة عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان لا تردان أو قل ما تردان، الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلتحم بعضهم بعضاً". وإسناده حسن وصححه (1) ابن حبان 297 ولفظه (ساعتان لا ترد على داع دعوته حين تقام الصلاة وفي الصف في سبيل الله). 813 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط". - متى تقام الصلاة ومتى يقوم القوم: 814 - * روى أبو داود عن سماك بن حرب: أنه سمع جابر بن سمرة رضي الله عنه يقول: "كان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمهل فلا يقيم، حتى إذا رأى رسول الله قد خرج أقام الصلاة حين يراه". وفي رواية (2) مسلم قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس، فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه.
- اتخاذ أكثر من مؤذن
815 - * روى الشيخان عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت". قال البغوي: يدل على جواز تقديم الإقامة على خروج الإمام ثم ينتظر خروجه وقد كره قوم من أهل العلم أن ينتظر الناس الإمام وهم قيام، وقال ابن المبارك يقومون عند قوله (قد قامت الصلاة) وقيل عند قوله (حي على الصلاة) وقيل على قدر طاقتهم وقيل يقومون عند قوله (حي على الصلاة) ويكبر الإمام إذا قال (قد قامت الصلاة). - اتخاذ أكثر من مؤذن: 816 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم الأعمى. قال مسلم في عقب هذا الحديث: وعن عائشة (1) مثله، وفي أخرى (2) له عنها قالت: "كان ابن أم مكتوم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعمى". وأخرج أبو داود (3) الرواية الثانية. أقول: يستحب عند جمهور العلماء أن يكون للجماعة مؤذنان ويصح الاقتصار على واحد وإذا كانت مصلحة الجماعة تقتضي أكثر من اثنين جاز. - حكم أخذ الأجر على الأذان: 817 - * روى أبو داود عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "إن من آخر ما
- الأذان في السفر
عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً". 818 - * روى ابن خزيمة عن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله علمني القرآن واجعلني إمام قومي. قال: فقال: "اقتد بأضعفهم واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً". عن يزيد أبي العلاء بهذا الإسناد: نحوه ولم يقل: علمني القرآن. وقال، قال: "أنت إمامهم واقتد بأضعفهم". قوله: (اقتد بأضعفهم): يعني رعاية الضعيف من المصلين فلا يطيل في صلاته رحمة به. ولهذا النص اتفق العلماء أنه يستحب أن يكون المؤذن محتسباً لا يأخذ على الأذان والإقامة أجراً واستقرت الفتوى على جواز الاستئجار للأذان وغيره من القربات الدينية التي تحتاج إلى ارتباط بها للمصلحة الدينية. قال في عارضة الأحوذي (2/ 12 - 13) وأكثر علمائنا على جواز الإجارة على الأذان وكرهها الشافعي وأبو حنيفة وقال الأوزاعي يجاعل عليه ولا يؤاجر. قال في حاشية ابن عابدين (1/ 263) (... نعم قد يقال إن كان قصده من وجد الله، ولكنه بمراعاته للأوقات والاشتغال به يقل اكتسابه عما يكفيه لنفسه وعياله فيأخذ الأجرة لئلا يمنعه الاكتساب عن إقامة هذه الوظيفة الشريفة ولولا ذلك لم يأخذ أجراً فله الثواب المذكور بل يكون جمع بين عبادتين وهما الأذان والسعي على العيال، وإنما الأعمال بالنيات). - الأذان في السفر: 819 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم: "أن ابن عمر كان لا يزيد
- من آداب الأذان
على الإقامة في السفر إلا في الصبح، فإنه كان ينادي فيها، ويقيم، وكان يقول: إنما الأذان للإمام الذي يجتمع الناس إليه". أقول: هذا اجتهاد من ابن عمر وقد مر معنا ما يدل على أن الأذان للمنفرد في غير العمران مستحب. 820 - * روى أبو داود عن عقبة بن عامر مرفوعاً: "يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية جبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: أنظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة". 821 - * روى البخاري قال صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولابن عم له: "إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما". - من آداب الأذان: 822 - * روى الشيخان عن أبي جحيفة رضي الله عنه: "أنه رأى بلالاً يؤذن، قال: فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا بالأذان". وفي رواية (1)، قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه، فمن ناضح ونائل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه، فتوضأ، وأذن بلال، قال: فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا، يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم فصلى
الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة". أقول: يستحب للمؤذن أن يؤذن على طهارة كاملة، وأن يتوجه بوجهه يميناً عند قوله حي على الصلاة، وشمالاً عند قوله حي على الفلاح. 823 - * روى أبو داود عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة، تعني هذه الكلمات. أن يكون المؤذن يقظاً قائماً على مرتفع حسب الحاجة كمئذنة وسطح مسجد وكان المؤذنون يؤذنون قياماً، قال ابن المنذر: الإجماع على أن القيام في الأذان من السنة.
الفصل الثالث في الشرط الثالث من شروط الصلاة وهو: ستر العورة وما له علاقة بلباس المصلي
الفصل الثالث في الشرط الثالث من شروط الصلاة وهو: ستر العورة وما له علاقة بلباس المصلي عرض إجمالي قال تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما) (1). فستر العورة مطلوب إلا في حالات حددها الشارع، وإذا كان ستر العورة مطلوباً في الأحوال العادية، فإنه مطلوب في الصلاة على وجه آكد قال تعالى: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) (2) قال ابن عباس المراد به الثياب في الصلاة. وأجمع العلماء على وجوب ستر العورة في الصلاة وغيرها، إلا في حالات استثنائية. والعورة شرعاً ما يجب ستره وما يحرم النظر إليه، وإذا قيل العورة في الصلاة، فالمراد بها: ما يجب ستره ولو كان يصلي خالياً في ظلمة عند القدرة، وأما العورة خارج الصلاة فقد تتفق مع العورة الواجب سترها في الصلاة وقد لا تتفق، لأن العورة الواجب سترها خارج الصلاة، تختلف باختلاف الناظر فلا عورة مثلاً بين الرجل وزوجته، وعورة المرأة بالنسبة لمحارمها تختلف عن عورتها لغير محارمها، ثم العورة خارج الصلاة تختلف باختلاف حال المكلفين، فعورة الأمة غير عورة الحرة، وأجاز أبو يوسف للنساء العاملات أن يكشفن عن شيء من أذرعهن إذا كانت الحاجة والعمل يقتضيان ذلك، والعورة الواجبة الستر بالنسبة للصبي تختلف باختلاف سنه. وحيثما وجب ستر العورة، فيجب أن يكون الساتر صفيقاً كثيفاً، يستر لون البشرة ولا يصف العورة، فإذا كان الثوب يصف ما تحته أو يتبين معه لون الجلد من ورائه فيعلم
بياضه أو حمرته لم تجز الصلاة به، وإن كان يستر اللون ويصف الخلقة أو الحجم جازت الصلاة به لكنه عند الشافعية للمرأة مكروه، وللرجل خلاف الأولى. والمطلوب هو ستر العورة من جوانبها على الصحيح عند الحنفية فلا يجب الستر من أسفل أو من فتحة قميصه إلا أن يسن له عند الحنفية أن يزر قميصه أو يشد وسطه إن كانت عورته تظهر منه في الركوع أو غيره لنفسه، أما إن كانت تظهر لغيره فيجب أن يفعل ذلك. ومن لم يجد ساتراً لعورته صلى عرياناً عند المالكية وغيرهم، ويصلي في هذه الحالة عند الشافعية متماً الأركان، ويصلي قاعداً يومئ إيماءً بالركوع والسجود عند الحنفية والحنابلة، وإن لم يجد إلا ساتراً نجساً أو حريراً يصلي به فإن صلى عرياناً مع وجود أحدهما بطلت والحرير الطاهر مقدم على النجس عند اجتماعهما وجوباً. وإذا انكشفت العورة فجأة أثناء الصلاة بالريح مثلاً عن غير عمد فسترها في الحال لم تبطل صلاته عند الشافعية والحنابلة وقال المالكية: تبطل الصلاة مطلقاً بانكشاف العورة المغلظة، وقال الحنفية: إذا انكشف ربع العضو من أعضاء العورة فسدت الصلاة إن استمر بمقدار أداء أدنى ركن كركوع مقدار تسبيحة، هذا إذا كان بلا صنعه، فإن كان بصنعه فسد في الحال، ولا تبطل عندهم بما دون ذلك إذا لم يتعمد الكشف. وعورة الرجل عند الحنفية التي يفترض سترها في الصلاة: هي ما تحت سرته إلى ما تحت ركبته وعورة الأمة في الصلاة كعورة الرجل، وعورة المرأة الحرة ومثلها الخنثى: جميع بدنها حتى شعرها النازل في الأصح ما عدا الوجه والكفين والقدمين ظاهرهما وباطنهما على المعتمد. والمفترض عند المالكية الذي لا تجوز بدون ستره الصلاة لهما: السوأتان من الرجل، فهذه هي العورة المغلظة التي يفترض سترها في الصلاة وما زاد على ذلك إلى الركبة فعورة مخففة يكره كشفها في الصلاة عند الرجل وتجب إعادتها في الوقت، والوقت وقت الظهرين معاً إذا كانت الصلاة فيهما، والليل كله إذا كانت الصلاة المغرب أو العشاء، وإلى طلوع الشمس في الصبح، أما عورة الحرة المغلظة فجميع البدن ما عدا الصدر والأطراف
من رأس ويدين ورجلين وما قابل الصدر من الظهر كالصدر، وأما ما سوى ذلك من الوجه والكفين وباطن القدمين فعورة مخففة تجب إعادة الصلاة إذا انكشف شيء منها، ووقت الإعادة في الظهر أو العصر إلى اصفرار الشمس، وإذا كان الانكشاف في العشاءين فوقت إعادة الصلاة الليل كله، وتجب إعادة الفجر ما لم تطلع الشمس. وتكون قد ارتكبت بصلاتها مع كشف العورة المخففة إثماً وكذلك الرجل. وعورة الرجل عند الشافعية في الصلاة ما بين سرته وركبته والركبة عندهم ليست عورة، وكذلك السرة، وعورة الأمة كالرجل في الأصح، وعورة الحرة ومثلها الخنثى ما سوى الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما إلى الرسغين، ومذهب الحنابلة كمذهب الشافعية. ومن كلام المالكية أن الصغير الذي بلغ السابعة يندب له إذا أراد الصلاة أن يستر العورتين المغلظة والمخففة كالرجل وهي ما بين السرة والركبة، وأما الصغيرة فيندب لها ستر العورتين المخففة والمغلظة ولو سترت ما بين السرة والركبة كفاها ولم يأثم بذلك أهلها. وإذا انصب كلامنا فيما مر على أدنى ثوب تسقط به الفريضة، فالمطلوب من المسلم والمسلمة بالنسبة للصلاة أوسع من ذلك لأن ما ذكرنا تجوز به الصلاة مع الكراهة فالله عز وجل قال: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) (1) فالمطلوب من المسلم والمسلمة أن يصليا في أكمل هيئة ويعرف ذلك من خلال مكروهات الصلاة كما سيمر معنا. فإذا كانت الصلاة مع رفع الكم مكروهة، فكيف بما هو أوسع من ذلك؟ وإذا كانت الصلاة بثياب المهنة أو مع وجود رائحة غير مستساغة في المسجد فإن ذلك يدلنا على أن المسلم يصلي على أكمل حال من الطهارة والنظافة والطيب والثياب، فكمال الصلاة أن يصلي الرجل في ثوبين أو أكثر كما سنرى ذلك، وكمال الصلاة بالنسبة للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: خمار تغطي به الرأس والعنق ودرع تغطي به البدن والرجلين وملحفة صفيقة تستر بها الثياب، والمستحب أن تكثف المرأة جلبابها حتى لا يصف أعضاءها، وتجافي الملحفة عنها في الركوع والسجود حتى لا توصف ثيابها ولقد تفننت المسلمات في استحضار ثياب
نصوص هذا الفصل
لصلواتهن، ففي كل قطر تجد جديداً حميداً، وسيمر معنا موضوع اللباس في أكثر من مكان في هذا الكتاب. انظر: (رد المحتار 1/ 270 - 277)، (الشرح الصغير 1/ 283 - 291)، (المهذب 1/ 64 وما بعدها)، (المغني 1/ 577 وما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 579 وما بعدها). وإلى نصوص هذا الفصل: 824 - * روى أبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده- وكانت له صحبة- قال: "قلت: يا رسول الله، عوراتنا: ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك"، قلت: يا رسول الله، فالرجل يكون مع الرجل؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل، قلت: فالرجل يكون خالياً؟ قال: "الله أحق أن يستحيي منه الناس". وفي رواية (1): قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: "الله أحق أن يستحي منه الناس". 825 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا المرأة إلى المرأة في ثوب واحد". وفي رواية (1) مكان "عورة" "عُرية". 826 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". زاد في رواية (2): وإذا زوج أحدكم خادمه- عبده أو أجيره- فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة". أقول: التفريق بين الأولاد في المضاجع إذا بلغوا عشراً أعم من أن يكون تفريقاً بين الذكور والإناث فقط. 827 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا علي، لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت"، وفي أخرى (3) قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كشف الفخذ وقال: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت". 828 - * روى أبو داود عن زرعة بن مسلم بن جوهر عن أبيه عن جده: "أنه كان من أهل الصفة، وأنه قال: جلس عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فرأى فخذي منكشفة، فقال:
"أما علمت أن الفخذ عورة؟ " وفي رواية (1): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في المسجد وقد كشف فخذه، فقال له: "غط فخذك فإنها من العورة" إلا أن أبا داود قال: زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه قال: كان جرهد. قدم أكثر العلماء الأخذ بما ورد في حديث جرهد وأمثاله على غيره لأنه قول والقول أرجح من الفعل، ولأن النصوص الأخرى قد تفيد الخصوصية وبعضها فيه تردد في الرواية، فالتمسك بأن الفخذ عورة هو الأولى ولذلك وجه العلماء ما ورد مخالفاً لذلك فقد ضبط بعضهم رواية أنس (ثم حسر الإزار). رواها بضم أوله وكسر ثانية بدليل رواية مسلم (فانحسر)، وقد وافق مسلماً على روايته بلفظ (فانحسر) أحمد بن حنبل عن ابن علية وكذا رواه الطبراني عن يعقوب شيخ البخاري ورواه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن يعقوب وقال القرطبي حديث أنس وما معه إنما ورد في قضايا معينة في أوقات مخصوصة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية أو البقاء على أصل الإباحة ما لا يتطرق إلى حديث جرهد وما معه لأنه يتضمن إعطاء حكم كلي. 829 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة". 830 - * روى أحمد عن محمد بن عبد الله بن جحش ختن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على معمر بفناء المسجد محتبياً كاشفاً عن طرف فخذه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خمر فخذك يا معمر فإن الفخذ عورة". وفي رواية له (2) عند أحمد أيضاً قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: يا معمر "غط فخذيك فإن الفخذين عورة". إلا أنه قال في الأولى: "فإن الفخذ من العورة".
831 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب فليخالف بين طرفيه". هذه رواية البخاري، وفي رواية (1) أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم في ثوب فليخالف بطرفيه على عاتقيه". أقول: ومن ههنا كره السدل في الصلاة وهو أن يلقي طرف الرداء من الجانبين ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى أو لا يضم الطرفين بيديه، ومن ههنا نعرف أن الأصل ستر الجسم في الصلاة، ولقد قال العلماء: ليس من المروءة أن يري الإنسان جسمه، فإذا كان هذا مع الخلق، فالأدب مع الخالق في الصلاة أولى. 832 - * روى الجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد؟ فقال: "أو لكلكم ثوبان؟ "، وفي رواية (2) للبخاري ومسلم قال: "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: "أفكلكم يجد ثوبين؟ " زاد في رواية (3): "قال: ثم سأل رجل عمر؟ فقال: إذا وسع الله فوسعوا: جمع رجل عليه ثيابه: صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص- قال: وأحسبه قال: في تبان ورداء، وفي رواية (4) للموطأ عن ابن المسيب قال: سئل أبو هريرة: هل يصلي الرجل في ثوب واحد؟ قال: نعم. فقيل له:
هل تفعل ذلك أنت؟ فقال: نعم، إني لأصلي في ثوب واحد، وإن ثيابي لعلى المشجب". أقول: الصلاة في الثوب الواحد جائزة، وفيما هو أكثر من ذلك كما ورد في رواية عمر أكمل، والأصل أن يتجنب المسلم والمسلمة الثياب التي تصف العورة أو تشف، فمهما استطاع المسلم أن تكون ثيابه غير واصفة للعورة، فذلك أكمل. 833 - * روى النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم مع القوم: صلى في ثوب واحد متوشحاً به، خلف أبي بكر"، وفي (1) رواية الترمذي: "صلى في مرضه خلف أبي بكر، قاعداً في ثوب متوشحاً به". 834 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء"، وقال: "على عاتقيه". أقول: كره العلماء لمن يجد شيئاً زائداً على الإزار يستر به جسمه ثم يصلي بدونه. 835 - * روى أبو داود عن بريدة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني صلى في لحاف لا يتوشح به، والآخر: أني صلى في سراويل ليس عليه رداء". 836 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كان رجال يصلون مع
النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً". وعند أبي داود نحوه، وفيه: من ضيق الأزر، وفيه: "فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن ... وذكره". 837 - * روى ابن خزيمة عن سهل بن سعد، قال: "كن النساء يؤمرن في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعن رؤوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من قباحة الثياب". أقول: لا يفيد ذلك أن الرجال كانوا يصلون مكشوفي العورات وإنما هو أمر للاحتياط. 838 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار". أقول: الخمار في الأصل هو ما تغطي به المرأة رأسها وعنقها، والظاهر أن المراد به هنا أن تلبس ما يكمل ستر بدنها في الصلاة، وقد مر معنا أن المرأة في الصلاة كلها عورة ما عدا وجهها وكفيها وهناك خلاف حول وجوب ستر قدميها. 839 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة
لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي" وفي رواية (1): "أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خميصة لها أعلام، فكان يتشاغل بها في الصلاة، فأعطاها أبا جهم، وأخذ كساء له أنبجانيا. قال البخاري وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن يفتنني" وأخرجه الموطأ (2) وأبو داود (3) والنسائي (4)، وأخرج الموطأ (5) أيضاً عن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، فجعله مرسلاً من هذا الطريق، وفي رواية أخرى لأبي (6) داود: "وأخذ كردياً كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله، الخميصة كانت خيراً من الكردي". 840 - * روى الطبراني عن عبد الله بن سرجس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً وعليه نمرة فقال لرجل من أصحابه: "أعطني نمرتك، وخذ نمرتي"، فقال: يا رسول الله نمرتك أجود من نمرتي فقال: "أجل ولكن فيها خيط أحمر، فخشيت أن أنظر إليها فتفتني عن صلواتي". وفي رواية: فأخاف أن يفتني. أقول: من هذا النص والذي قبله ندرك أن المسلم عليه أن يراعي في ثياب صلاته معاني
متعددة ومن ثم كره العلماء إرسال الثياب على وجه الخيلاء وكره الحنابلة لبس الثوب الأحمر والصلاة فيه. وفي هاتين الروايتين أن المسلم يحتاط فلا يلبس من الثياب ما يشغله التأمل فيه عن صلاته، وهو أمر مستحب ويختلف من إنسان لإنسان، ومن صاحب مقام إلى صاحب مقام، فمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يستبدل ثوبه لأنه شغله قليلاً عن صلاته وذلك أصل في معاقبة الإنسان نفسه بالمباح من أجل ما هو أكمل قال ابن حجر (1/ 483) في قوله: (فألهتني آنفاً عن صلاتي): (قوله: "عن صلاتي" أي عن كمال الحضور فيها، والطريق المعلقة دل على أنه لم يقع له شيء من ذلك وإنما خشي أن يقع لقوله "فأخاف"، وكذا في رواية مالك "فكاد") اهـ. 841 - * روى الشيخان عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فروج حرير، فلبسه فصلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له، وقال: "لا ينبغي هذا للمتقين". أقول: لعل ذلك كان قبل تحريم الحرير، أو كان الثوب فيه سجف حرير بالقدر المباح، فما يحرم في الصلاة وغيرها لبس الحرير على الرجال بالإجماع إلا لعارض أو عذر كما سيمر. قال ابن حجر في (الفتح 1/ 485): (وظاهر هذا الحديث أن صلاته صلى الله عليه وسلم فيه كانت قبل تحريم لبس الحرير، ويدل على ذلك حديث جابر عند مسلم بلفظ: صلى في قباء ديباج ثم نزعه وقال: "نهاني جبريل" ويدل عليه أيضاً مفهوم قوله: "لا ينبغي هذا للمتقين" لأن المتقي وغيره في التحريم سواء، ويحتمل أن يراد بالمتقي المسلم أي المتقي
للكفر، ويكون النهي سبب النزع، ويكون ذلك ابتداء التحريم، وإذا تقرر هذا فلا حجة فيه لمن أجاز الصلاة في ثياب الحرير لكونه صلى الله عليه وسلم لم يعد تلك الصلاة، لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم، أما بعده فعند الجمهور تجزئ لكن مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت. والله أعلم) اهـ. وانظر (شرح مسلم للنووي 14/ 51). 842 - * روى الستة عن أبي هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبستين: اشتمال الصماء وهو أن يجعل ثوبه على عاتقه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب، أو أن يشتمل على يديه في الصلوة، واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء". 843 - * روى أحمد عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد متوشحاً ينقي بفضوله حر الأرض وبردها. 844 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال محمد بن المنكدر: "رأيت جابراً يصلي في ثوب واحد، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب". وفي رواية (4) قال: دخلت على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب، ملتحفاً به، ورداؤه موضوع، فلما انصرف، قلنا: يا أبا عبد الله، تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم، أحببت أن يراني الجهال مثلكم، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي كذلك". وفي أخرى (5) قال: صلى بنا جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب، فقال له
قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. وفي أخرى (1) قال سعيد بن الحارث المعلى: "سألت جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فجئت مرة لبعض أمري، فوجدته يصلي، وعلي ثوب واحد، فاشتملته، وصليت إلى جانبه، فلما انصرف، قال: "ما السرى يا جابر"؟ فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت، قال: "ما هذا الاشتمال الذي رأيت"؟ قلت: كانت ثوب واحد. قال: "فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به". هذه رواية البخاري، وفي رواية (2) مسلم قال محمد بن المنكدر عن جابر: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانتهينا إلى مشرعة، فقال: ألا تشرع يا جابر؟ قلت: بلى. قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشرعت قال: ثم ذهب لحاجته، ووضعت له وضوءاً. قال: فجاء فتوضأ، ثم قام فصلى في ثوب واحد، خالف بين طرفيه، فقمت خلفه، فأخذ بأذني، فجعلني عن يمينه. وفي رواية (3) أبي الزبير عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحاً به، وفي أخرى (4): أنه رأى جابر بن عبد الله يصلي في ثوب واحد، متوشحاً به، وعنده ثيابه، وقال جابر: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. وفي رواية الموطأ (5) قال مالك: بلغه أن جابر بن عبد الله كان يصلي في الثوب الواحد. وفي أخرى (6) بلغه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد ثوبين فليصل في ثوب واحد، ملتحفاً به، فإن كان الثوب قصيراً فليتزر به". وفي رواية أبي داود (7) عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: أتينا جابر بن عبد الله، فقال: سرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقام يصلي، وكانت علي بردة ذهبت أخالف بين طرفيها، فلم تبلغ لي، وكانت لها ذباذب فنكستها، ثم خالفت بين
طرفيها، ثم تواقصت عليها لا تسقط، ثم جئت حتى قمت عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء ابن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعاً حتى أقامنا خلفه، قال: وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فأشار إلي: أن اتزر بها، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك" هذا الذي أخرجه أبو داود طرف من حديث طويل قد أخرجه مسلم بطوله وله في أخرى (1) عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "أمنا جابر في قميص ليس عليه رداء، فلما انصرف قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في قميص". 845 - * روى مسلم عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: حملت حجراً ثقيلاً، فبينا أنا أمشي سقط عني ثوبي، فلم أستطع أخذه، فرآني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "خذ عليك ثوبك، ولا تمشوا عراة". 846 - * روى الشيخان عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في
ثوب واحد، وقد خالف بين طرفيه. وفي رواية (1): انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة، قد ألقى طرفيه على عاتقيه. وفي أخرى (2) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقيه. وفي أخرى (3): متوشحاً. وفي أخرى (4): ملتحفاً- وزاد قال- على منكبيه". 847 - * روى أبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رجل أصيد، فأصلي في القميص الواحد؟ قال: "نعم وازرره عليك، ولو بشوكة". وعند النسائي قال: قلت: يا رسول الله، إني لأكون في الصف وليس علي إلا القميص، أفأصلي فيه؟ قال: "زره عليك ولو بشوكة". وفي نسخة أخرى: إني أكون في الصيف. والأول: هو السماع. 848 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- أو قال: قال عمر: "إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب فليتزر، ولا يشتمل اشتمال اليهود. 849 - * روى مالك عن عبد الله الخولاني وكان في حجر ميمونة زوج النبي: أن ميمونة
كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار". 850 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب بعضه علي". 851 - * روى أبو داود عن ميمونة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه مرط علي بعضه". 852 - * روى ابن خزيمة عن ميمونة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعلي مرط، علي بعضه وعليه بعض وأنا حائض. 853 - * روى البخاري عن أبي هريرة، قال: كنت في سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما بردة أو كساء قد ربطوها في أعناقهم، فمنها ما يبلغ الساق ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. 854 - * روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه. قال في (شرح السنة 2/ 427).
واختلف العلماء فيه، فذهب بعضهم إلى كراهية السدل في الصلاة، وقالوا: هكذا تصنع اليهود، وكرهه الشافعي في الصلاة كما في غير الصلاة، ورخص بعض العلماء في السدل في الصلاة، وقوله: وأن يغطي الرجل فاه. قال أبو سليمان الخطابي: إن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض للمصلي الثوباء، فيغطي فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه. اهـ. 855 - * روى أبو يعلى عن معاوية قال: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد فقلت: يا أم حبيبة أيصلي النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد: قالت: نعم وهو الذي كان فيه ما كان، تعني الجماع. معاوية هو أخو أم حبيبة فكلاهما ولد أبي سفيان. 856 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوشح بثوب قطن وفي يده عنزة وهو متوكئ على أسامة بن زيد فركزها بين يديه ثم صلى إليها. 857 - * روى أبو يعلى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فوجد القر فقال: "يا عائشة أرخي علي مرطك"، قالت: إني حائض، قال: "إن حيضتك ليست في يدك". ولمسلم (1): كان يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط لي بعضه عليه. أقول: مما يفترض على المصلي أن تكون ثيابه طاهرة، وإنما ذكرنا هذا النص وأمثاله
للإشارة إلى أن الثوب الذي يصلي فيه المصلي إذا كان جزء منه على امرأة حائض فذلك يضر. 858 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق من يزين له".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - قال في الظهيرية: إن حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ فلو رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازعه إن لج وفي الفخذ يعنف ولا يضربه إن لج وفي السوءة يؤدبه على ذلك إن لج. وفي العناية (1/ 225) لو صلى والركبتان مكشوفتان والفخذ مغطى جازت صلاته لأن نفس الركبة من الفخذ أقل من الربع وقد قيل: إنها بانفرادها عضو واحد، ولكن الأول أصح لأنها ليست بعضو على حدة في الحقيقة بل هي ملتقى عظم الفخذ والساق وإنما حرم النظر إليها من الرجال لتعذر التمييز. وقال في رد المحتار (1/ 271) فالركبة من العورة لرواية الدارقطني: (ما تحت السرة إلى الركبة من العورة) ولكنه محتمل والاحتياط في دخول الركبة اهـ. - اختلفت الرواية عن أبي حنيفة والمشايخ في القدم بالنسبة للمرأة الحرة، وقد رجح في الكفاية (1/ 226) عدم كون القدم عورة مطلقاً حيث قال: لأن المرأة تحتاج إلى كشف قدميها عند مشيها كما تحتاج إلى إظهار وجهها ويدها عند المعاملة فإذا خرج الوجه والكف عن أن يكونا عورة للحاجة مع أن الكف والوجه في كونهما مشتهيين فوق القدم فلأن يخرج القدم أولى ..
الفصل الرابع في الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة وهو استقبال القبلة، وما له علاقة بموضوع القبلة
الفصل الرابع في الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة وهو استقبال القبلة، وما له علاقة بموضوع القبلة عرض إجمالي: قال تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (1). ولأن هناك حالات خاصة قد يعذر فيها الإنسان قال تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (2). لقد اتفق الفقهاء على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في شدة الخوف، وصلاة النافلة للمسافر، وقيد المالكية والحنفية شرط الاستقبال بحالة الأمن من عدو وسبع، وبحالة القدرة، واتفق العلماء على أن من كان مشاهداً معايناً للكعبة، ففرضه التوجه إلى عينها يقيناً، ومثله عند الحنابلة: أهل مكة أو الناشئون بها وإن كان هناك حائل بينهم وبين الكعبة، وأما غير المعاين للكعبة ففرضه عند الحنفية والمالكية والحنابلة في غير الصورة التي ذكرناها إصابة جهة الكعبة، وقال الشافعي: فرضه إصابة عينها، وبعض الذين قالوا إن فرضه إصابة جهة الكعبة كالحنفية أرادوا بذلك أن يبقى شيء من الوجه حاذياً للكعبة أو لهوائها، والكعبة من الأرض السابعة إلى العرش، فمن صلى في الجبال العالية والآبار العميقة والمناطق الواطئة جازت صلاته كما تجوز على سطحها وفي جوفها، ولو افترض زوال بنائها صحت الصلاة إلى موضعها. وهؤلاء يفسرون إصابة الجهة بأنه لو امتد خط من وجه المصلي في منتصف زاوية قائمة لكان ماراً على الكعبة أو هوائها. ومن عجز عن معرفة جهة القبلة واشتبهت عليه ولم يجد ثقة يخبره بها عن علم اجتهد وتحرى معتمداً على الدلائل الكونية ما أمكن وصلى إلى حيث أدى إليه اجتهاده، فإذا تبين له
بعد الصلاة خطأ اجتهاده جازت الصلاة ولا إعادة عليه عند الحنفية والحنابلة، لكن الحنابلة قيدوا ذلك بألا يكون الإنسان في الحضر، وإن تيقن الخطأ في اجتهاده وهو في الصلاة استدار وأكمل صلاته، ولو تعدد اجتهاده لكل صلاة فإنه يصلي إلى حيث الاجتهاد الجديد، وحيثما توجه في الصلاة داخل الكعبة أو فوقها جازت صلاته فرضاً أو نفلاً عند الشافعية والحنفية، ويجوز التطوع على الراحلة وماله حكمها كالسيارة والطائرة للمسافر قبل جهة مقصده ويومئ بالركوع والسجود، قال الحنابلة: يجوز للمسافر الراكب لا الماشي سواء كان سفره طويلاً أو قصيراً أن يتطوع في السفر على الراحلة حيث كانت وجهته، فإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة كراكب راحلة منفرد تطيعه ففي إلزامه التوجه إلى القبلة في افتتاح الصلاة روايتان: رواية بالإلزام، ورواية بعدمه، وهناك من شارك الحنابلة بأن التوجه نحو القبلة في الاستفتاح غير مطلوب حال العجز أو المشقة. وفي عصرنا وجدت أنواع من البوصلات يستطيع الإنسان أن يعرف جهة القبلة من خلالها ما دام على الأرض أو في جوها، ومن المناسب أن يحوي المسلم بوصلة من هذا النوع ويحملها معه إذا سافر. ومن كلام الحنفية أن قبلة العاجز أو راكب الدابة جهة قدرته ولو مضطجعاً، ويصلي بإيماء إلى أي جهة قدر سواء أكان مسافراً أو خائفاً من عدو أو سبع لكن يشترط في الصلاة على الدابة إيقافها إن قدر، وإلا بأن خاف الضرر كأن تذهب القافلة وينقطع فلا يلزمه إيقافها ولا استقبال القبلة حتى في ابتداء الصلاة بتكبيرة الإحرام، وقال المالكية: لا تصح صلاة فرض على ظهر الدابة، وإن كان المصلي مستقبلاً القبلة، إلا في أحوال أربعة: أولاً: حالة التحام القتال في قتال جائز لا يمكن النزول فيه عن الدابة فيصلي الفرض على ظهرها إيماء للقبلة إن أمكن، ثانياً: حالة الخوف من عدو كسبع أو لص إن نزل عن دابته، فيصلي الفرض على ظهرها إيماء للقبلة إن أمكن، وإن لم يمكن صلى لغير القبلة، فإن أمن الخائف بعد صلاته أعاد في الوقت، ولا يعيد إذا مضى الوقت، ثالثاً: الراكب على دابته في ماء لا يطيق النزول فيه أو خشي تلطخ ثيابه. رابعاً: حالة المرض الذي لا يطيق النزول معه فيوقف الدابة إذا أمكن ويتوجه للقبلة ويصلي إيماء.
ومن كلام الحنابلة: ولا يلزم الملاح في سفينة الاتجاه إلى القبلة ولو في الفرض، ومن صلى في سفينة عليه أن يستقبل القبلة متى قدر على ذلك وعليه إذا غيرت جهتها أن يدور لو دارت السفينة وهو يصلي. قال في (الدين الخالص 2/ 122) ودلت الأحاديث أيضاً على أن المكتوبة لا تصح إلى غير القبلة ولا على الدابة وهو مجمع عليه إلا حال العذر اهـ. وعدَّد الأعذار. وحكى النووي الإجماع على عدم جواز صلاة الفريضة على الدابة من غير ضرورة. يفهم من هذا أن للضرورة أحكامها في هذا المجال أيضاً. انظر: (الدر المختار 1/ 397 فما بعدها)، (المغني 1/ 431 وما بعدها)، (المهذب 1/ 67 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 597 فما بعدها). ومن أقوال الفقهاء السابقة نستطيع أن نقول: إن المسافر في سيارة أو طائرة أو سفينة أو مركبة فضائية يستطيع أن يتنفل وهو في مقعده وحيثما توجهت به الأداة المسافر بها، وأما الفريضة فإن له أن يستعمل رخصة الجمع بين الصلاتين إذا أمكنه ذلك، أما إذا كانت الصلاة ستفوته حتماً فإنه يصلي وقته بالقدر الممكن له، فإن أمكنه أداء الأركان كلها وإقامة الشروط لزمه ذلك، وإلا صلى بالقدر الممكن والمتاح له، والاحتياط بالنسبة للسيارة والطائرة والمركبة الفضائية أن يعيد إلا إذا زادت الصلوات على خمس. وبالنسبة للمركبات الفضائية إذا لم يكن بالإمكان ملاحظة القبلة صلى إلى أي جهة كان. وإذا لم يعرف راكب الطائرة القبلة وخشي إذا صلى واقفاً من خطر يصيبه أو لم يجد محلاً يصلي فيه واقفاً، صلى في مقعده إيماءاً، قال في (الدين الخالص 2/ 125): وإذا دارت السفينة ونحوها في أثناء الصلاة استدار إلى القبلة حيث دارت إن أمكنه، لأنه قادر على تحصيل هذا الشرط بغير مشقة. فيلزمه تحصيله اتفاقاً. فإن عجز عن الاستقبال صلى إلى جهة قدرته ولا إعادة عليه عند الأئمة الثلاثة [غير الشافعية]، وما تقدم من التفصيل
والبيان يجري في الصلاة في القاطرة والطائرة اهـ. وإذا لم يكن متوضئاً ولم يستطع الوضوء ولم يجد شيئاً يتيمم عليه، فحكمه حكم فاقد الطهورين فالحنفية والشافعية: أوجبوا الصلاة عليه مع الإعادة، والحنابلة قالوا: لا تجب عليه الإعادة، والمالكية قالوا: تسقط عنه الصلاة أداء وقضاءً. والكلام عن القبلة يقتضي الكلام عن حفظ المصلي لقبلته وبعض آدابه أثناء استقبال القبلة وما يكره أن يكون أمام المصلي وبعض ما يؤثر على كمال صلاة المصلي بسبب يعرض لقبلته. فمن السنة للمصلي أن يجعل أمامه سترة لمنع المرور بين يديه، وهذه السترة يمكن أن تكون سهماً مغروزاً في الأرض أو عصاً مغروزة في الأرض أو دابة أو جداراً أو سارية. ويجزئ عند الشافعية والحنابلة الخط ومن ذلك أن يكون أمام المصلي خيط أو عصاً معترضة، وحد سجادة الصلاة يعتبر سترة ويقترب المصلي من سترته ما أمكن ولا يزيد على ثلاثة أذرع، والسنة إذا صلى إلى عمود أو شجرة أو سهم أن يجعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر بحيث لا يستقبله، وإنما يضع المصلي السترة احتراماً لقبلته، وكما يسن له أن يضع السترة من أجل قبلته، فإن على الغير أن يراعي ذلك فلا يمر بين المصلي وسترته، وإذا لم يكن أمام المصلي سترة فالمالكية اعتبروا المار بين المصلي فيما يستحقه من محل صلاته آثماً، ويكره أن يصلي الإنسان في موضع يحتاج للمرور فيه، واتفق الفقهاء على أنه يجوز المرور بين يدي المصلي للطائف بالبيت بل قال الحنابلة: إنه لا يحرم المرور بين يدي المصلي في مكة كلها وحرمها، ودفع المار بين يدي المصلي رخصة عند الحنفية والأولى تركه، وما ورد من مقاتلة المار يعتبرونه منسوخاً، واتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة ولا يبطلها. وما ورد من نصوص تذكر قطع الصلاة فهي محمولة على أنها تقطع عن الخشوع والذكر لا أنها تفسد الصلاة. ومما يلاحظه المسلم في صلاته ألا يستقبل وجه إنسان أو يصلي إلى نار من تنور وسراج وقنديل وشمع ومصباح ونحوها، وتكره الصلاة إلى صورة منصوبة في وجه المصلي. وقال الإمام أحمد: يكره أن يكون في القبلة شيء معلق مصحف أو غيره، ولا بأس بذلك عند
- تحويل القبلة
الحنفية ما دام مما لا يعبد، ولا بأس عند الحنفية أن يصلي على بساط فيه تصاوير لاستهانته بها. انظر (حاشية ابن عابدين 1/ 286)، (المهذب 1/ 67)، (المغني 1/ 431)، (الشرح الصغير 1/ 292). وإلى نصوص هذا الفصل: - تحويل القبلة: 859 - * روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر- شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) (1) فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس- وهم اليهود- (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (2) فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة. فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة". قال النووي في (شرح مسلم 5/ 9): وهو دليل على جواز النسخ ووقوعه وفيه قبول خبر الواحد وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين وهذا هو الصحيح عند أصحابنا من صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثناءها فيستدير إلى الجهة الأخرى حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في الصلاة الواحدة فصلى كل ركعة منها إلى جهة صحت صلاته على الأصح لأن أهل هذا المسجد المذكور في الحديث استداروا في صلاتهم واستقبلوا الكعبة ولم يستأنفوها وفيه دليل على أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه فإن قيل هذا نسخ للمقطوع
به بخبر الواحد وذلك ممتنع عند أهل الأصول فالجواب أنه احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم وخرج عن كونه خبراً واحداً مجرداً واختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى في أن استقبال بيت المقدس هل كان ثابتاً بالقرآن أم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فحكى الماوردي في الحاوي وجهين في ذلك لأصحابنا، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنة وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى والقول الثاني له، وبه قال طائفة لا يجوز لأن السنة مبينة للكتاب فكيف ينسخها وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة بل كان بوحي قال الله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) (1) الآية واختلفوا أيضاً في عكسه وهو نسخ السنة للقرآن فجوزه الأكثرون ومنعه الشافعي رحمه الله تعالى وطائفة اهـ. 860 - * روى الجماعة إلا أبا داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء، في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة". قال الحافظ في الفتح (1/ 506): قوله: (في صلاة الصبح) ولمسلم: في صلاة الغداة. وهو أحد أسمائها، وقد نقل بعضهم كراهية تسميتها بذلك. وهذا فيه مغايرة لحديث البراء المتقدم فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر، والجواب أن لا منافاة بين الخبرين. لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر أو ابن نهيك كما تقدم، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر. ومما يدل على تعددهما أن مسلماً روى من حديث أنس: أن رجلاً من بني سلمة مر وهم ركوع في
صلاة الفجر. فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة، ووقع بيان كيفية التحول في حديث ثويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم، وقالت فيه: فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام. قلت: وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد، لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال، وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصلاة فيحتمل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت مفرقة. والله أعلم. اهـ فائدة: أخرج البخاري (1/ 505) تعليقاً في باب ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة: وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم في ركعتي الظهر وأقبل على الناس بوجهه ثم أتى ما بقي. قال الحافظ في (الفتح): قوله: ومن لم ير الإعادة: وأصل هذه المسألة في المجتهد في القبلة إذا تبين خطؤه، فروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وغيرهم أنهم قالوا: لا تجب الإعادة، وهو قول الكوفيين، وعن الزهري، ومالك وغيرهما: تجب في الوقت، لا بعده، وعن الشافعي: يعيد إذا تيقن الخطأ مطلقاً. وقال الحافظ: قوله: وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم من ركعتي الظهر: ومناسبة هذا التعليق للترجمة أن بناءه على الصلاة دال على أنه في حال استدباره القبلة كان في حكم المصلي، ويؤخذ منه أن من ترك الاستقبال ساهياً لا تبطل صلاته. قال في رد المحتار على الدر المختار (1/ 291): فإن ظهر خطؤه لم يعد وإن علم به في صلاته أو تحول رأيه استدار وبنى. قال ابن عابدين: قوله استدار وبنى أي على ما بقي من صلاته لما روي أن أهل قباء كانوا متوجهين إلى بيت المقدس في صلاة الفجر فأخبروا بتحويل القبلة فاستداروا إلى القبلة وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
861 - * روى أحمد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً ثم صرف إلى الكعبة. 862 - * روى ابن خزيمة خبر كعب بن مالك في خروج الأنصار من المدينة إلى مكة في بيعة العقبة وذكر في الخبر أن البراء بن معرور قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام فرأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى؟ قال: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها". قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام. 863 - * روى مسلم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فلما نزلت هذه الآية: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) (1)، مر رجل من بني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فمالوا ركوعاً". 864 - * روى البخاري عن ابن عمر: أن أهل قباء كانوا يصلون قبل بيت المقدس، فأتاهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه القرآن، وتوجه إلى الكعبة، فاستقبلوها، فاستداروا كما هم". وفي خبر عكرمة عن ابن عباس: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة.
التوجه إلى جهة الكعبة
التوجه إلى جهة الكعبة: 865 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن شمالك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. قال محقق الجامع: وهو حديث صحيح، وهذا الحديث يختص بأهل المدينة والشام ومن على سمت تلك البلاد شمالاً وجنوباً فقط، لأنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، والناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حولها، فمن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة، كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان في الجهة الغربية من الكعبة، فإن قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة، فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب، فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال، فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب، فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب، فإن قبلته فيما بين الشمال والمغرب. أقول: هذا الحديث دليل لمن قال بأن فريضة المصلي إصابة جهة القبلة بلا عينها. - المتطوع على الراحلة هل يستقبل القبلة: 866 - * روى أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
سافر، فأراد أن يتطوع: استقبل القبلة بناقته ثم كبر ثم صلى حيث وجهه ركابه". أقول: هذا دليل لمن ذهب إلى أن مصلي النافلة على الراحلة يستفتح بتوجيهها نحو القبلة ثم يوجهها حيث وجهته، وحمل بعضهم الحديث على أن هذا لازم حيث أمكن بلا مشقة. 867 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، ويومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله. ولمسلم (1) قال فيه: يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. ولهما (2) من حديث سعيد بن يسار قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فلما خشيت الصبح، فنزلت فأوترت ثم لحقته، فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح، فنزلت فأوترت، فقال: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير، وللبخاري (3): قال سالم: كان عبد الله يصلي على دابته من الليل وهو مسافر، ما يبالي حيث كان وجهه، قال ابن عمر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة. وذكر مثل الرواية الثانية إلى آخرها: وللبخاري (4): أن ابن عمر كان يصلي على راحلته، ويوتر عليها، ويخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وله في أخرى (5): كان ابن عمر يصلي
في السفر على راحلته أينما توجهت يومئ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وله في أخرى (1) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومي إيماءً صلاة الليل، إلا الفرائض، ويوتر على راحلته. ولمسلم (2) قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر، وفي أخرى (3): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيث توجهت به، وفي أخرى (4): كان يصلي سبحته حيثما توجهت به ناقته. وفي أخرى (5): كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت، وفيه نزلت: (فأينما تولوا فثم وجه الله) (6) وفي أخرى (7): كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، قال: وكان ابن عمر يفعل ذلك، وفي أخرى (8): كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته. وأخرج الترمذي (9) الرواية التي فيها ذكر الآية. وهذا لفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته أينما توجهت به، وهو جاء من مكة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: (ولله المشرق والمغرب ...) (10) وقال: في هذا أنزلت. وأخرج النسائي (11) الرواية الثانية التي فيها: ولا يصلي عليها المكتوبة. 868 - * روى الشيخان عن أنس بن سيرين قال: استقبلنا أنساً حين قدم من الشام، فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار، ووجهه من ذلك الجانب- يعني عن يسار
لغير القبلة- فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة، فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله". وأخرجه الموطأ (1) عن يحيى بن سعيد قال: رأيت أنس بن مالك في سفر وهو يصلي على حمار، وهو متوجه إلى غير القبلة، يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع وجهه على شيء. 869 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع. هذه رواية الترمذي وأبي داود، وفي رواية البخاري (2) ومسلم (3) قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثني في حاجة، فرجعت وهو يصلي على راحلته ووجهه على غير القبلة، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فلما انصرف قال: أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي. وفي رواية البخاري (4): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة. وفي أخرى (5) له: كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة، وله في أخرى (6) قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته، متوجهاً قبل المشرق متطوعاً". وفي أخرى لمسلم (7): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يصلي- وفي رواية- وهو يسير، فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، فقال: "إنك سلمت علي آنفاً وأنا أصلي"، وهو موجه حينئذ قبل المشرق. وفي أخرى (8) له قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو
- تحريم اتخاذ القبور مساجد
يصلي على بعيره، فكلمته، فقال لي بيده هكذا- وأومأ زهير بيده- ثم كلمته فقال لي هكذا- وأومأ زهير بيده نحو الأرض- وأنا أسمعه يقرأ، يومئ برأسه، فلما فرغ قال: "ما فعلت في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت أصلي". وأخرج (1) أبو داود أيضاً رواية مسلم هذه الآخرة، ولم يذكر قول زهير، وأخرج (2) النسائي أيضاً رواية مسلم الأولى، وله في أخرى (3) قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير مشرقاً ومغرباً، فسلمت عليه، فأشار بيده فانصرفت، فناداني: "يا جابر"، فأتيته فقلت: يا رسول الله، سلمت عليك، فلم ترد علي، فقال: "إني كنت أصلي". 870 - * روى الشيخان عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به. وفي أخرى (4) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبح، يومئ برأسه قبل أي وجه توجه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة. 871 - * روى أبو داود عن عطاء بن أبي رباح: سأل عائشة: هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب؟ قالت: لم يرخص لهن ذلك، في شدة ولا رخاء. قال محمد: -[وهو ابن شعيب بن شابور]- هذا في المكتوبة .. - تحريم اتخاذ القبور مساجد: 872 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتل
الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي رواية (1): "لعن الله اليهود والنصارى .. الحديث" وقال: "لعن الله". 873 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، قالت: ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. وفي رواية (2) قالت" ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً. وفي أخرى (3): ولولا ذلك، ولم يذكر: قالت. وفي أخرى (4) عنها وعن ابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم: طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال- وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا". وأخرج النسائي (5) الرواية الآخرة. 874 - * روى مالك عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم
- في اتخاذ سترة بين يدي المصلي
مساجد، لا يبقين دينان في جزيرة العرب". أقول: إن هناك بعض الفرق الإسلامية تتوجه إلى قبور من تعتقد فيهم الصلاح للصلاة مستدبرين القبلة أو مستقبليها، وفي ذلك وثنية ظاهرة حال الاستدبار للقبلة أو التوجه إلى القبر دونها، أما إذا كان متوجهاً للقبلة وبينه وبين القبر ساتر ولم يلحظ معنى العبادة أو التبرك في كينونه القبر بينه وبين القبلة فلا حرج، أما إذا لحظ شيئاً من ذلك فتلك وثنية. - في اتخاذ سترة بين يدي المصلي: 875 - * روى أبو داود عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته". 876 - * روى مسلم عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي من مر وراء ذلك". وفي رواية (1) أبي داود: "فلا يضره ما يمر بين يديه". 877 - * روى أحمد عن سبرة بن معبد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يستر الرجل في
صلاته السهم وإذا صلى أحدكم فليستتر بسهم". 878 - * روى الشيخان عن أبي جحيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء- وبين يديه عنزة- الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، يمر بيد يديه- وفي رواية (1): بين يدي العنزة: المرأة والحمار. وفي أخرى (2): خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، فركز عنزة يصلي إليها، يمر من ورائها الكلب والمرأة والحمار. هذا حديث له طرق عدة. 879 - * روى مسلم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز له الحربة يصلي إليها يوم العيد. 880 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة. وفي رواية (3) أبي داود: كان بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر عنز. 881 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل في غزوة
تبوك عن سترة المصلي؟ فقال: "كمؤخرة الرحل". 882 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليها بالمصلى يعني- العنزة-. قال ابن خزيمة: وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستتار بالسهم في الصلاة ما بان وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالأمر بالاستتار بمثل آخرة الرحل في طولها، لا في طولها وعرضها جميعاً. اهـ. قال في الدين الخالص (2/ 322): وعلى هذا اتفق العلماء إلا أن الشافعية والحنبلية قالوا: يسن اتخاذ السترة وإن لم يخش مرور أحد بين يديه (وقال) الحنفيون ومالك: إنما يسن اتخاذ السترة لمن خشي مرور أحد بين يديه. وأما المأموم فسترة الإمام سترة له عند الحنفيين والشافعي وأحمد وهو قول لمالك. وإذا تعذر إقامة السترة وتثبيتها بالأرض لصلابتها، وضعها بين يديه عرضاً عند أحمد، وروي عن أبي يوسف أنها توضع طولاً كأنها غرزت ثم سقطت: وإن لم يجد ما ينصبه سترة أو يضعه أمامه فليخط بالأرض خطاً عند أحمد وأكثر الشافعية وبعض الحنفيين وهو قول الشافعي في القديم اهـ. 883 - * روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن
- النهي عن المرور أمام المصلي
معه عصاً فليخطط في الأرض خطاً، ثم لا يضره ما مر أمامه". 884 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء. وفي أخرى (2): كان يركز الحربة قدامه يوم الفطر والنحر، ثم يصلي. وفي رواية (3) البخاري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها. - النهي عن المرور أمام المصلي: 885 - * روى ابن ماجة عن بسر بن سعيد قال أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله عن المار بين يدي المصلي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفاً خير له من أن يمر بين يديه". 886 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: إن استطاع أحدكم أن لا يمر بين يديه أحد فليفعل فإن المار على المصلي نقص من الممر. - لا يقطع الصلاة شيء: 887 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان" حديث لا يقطع
الصلاة شيء، رواه أبو داود، وفي سنده مجالد بن سعيد، وهو سيئ الحفظ، لكن له شواهد بمعناه عند الدارقطني والطبراني، وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" رقم 2366 عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر موقوفاً عليه قال: لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، أو قال: ما استطعت، وهذا إسناد صحيح، وقد روى مالك في الموطأ (1/ 156) عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي، وإسناده صحيح، وقال الحافظ في "الفتح": (1/ 486) وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً. والفقرة الثانية لها شواهد صحيحة بمعناها ا. هـ (م 5/ 512). وانظر شرح السنة (2/ 462) وإعلاء السنن (5/ 52 - 54)، هذا وقد ضعف بعضهم هذا الحديث لكن عمل جمهور الأئمة على مقتضاه. 888 - * روى الشيخان عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة". 889 - * روى الشيخان عن عائشة ذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة، فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب! والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأنسل من عند رجليه. قال البغوي (2/ 461): في هذه الأحاديث دليل على أن المرأة إذا مرت بين يدي المصلي لا تقطع صلاته، وعليه أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم أن لا يقطع صلاة المصلي شيء مر بين يديه. أقول: موقف عائشة من باب تقديم قياس العام المستند إلى روح الشريعة وقواعدها
العامة على رواية الآحاد التي تخالفه وهذا الذي اعتمده الحنفية وظن بعضهم أن الحنفية يقدمون قياس الخاص على الحديث الصحيح وهذا وهم. 890 - * روى البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها: "كان فراشها حيال مسجد النبي صلى الله عليه وسلم". 891 - * روى عبد الله بن أحمد عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف قال: كنت أصلي فمر رجل بين يدي فمنعته فسألت عثمان بن عفان قال لا يضرك يا ابن أخي. 892 - * روى أبو يعلى عن ابن عباس قال: جئت أنا وغلام من بني هاشم على حمار فمررنا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فنزلنا عنه وتركنا الحمار يأكل من بقل الأرض أو قال نبات الأرض فدخلنا معه في الصلاة فقال رجل: أكان بين يديه عنزة قال: لا". ذهب قوم إلى أنه يقطع صلاته: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، يروى ذلك عن أنس، وبه قال الحسن. 893 - * روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل: الحمار، والكلب الأسود، والمرأة" فقلت: ما بال الأسود من الأحمر، من الأصفر من الأبيض؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: "الكلب الأسود شيطان". وقالت طائفة: يقطعها المرأة الحائض، والكلب الأسود، روي ذلك عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح.
وقالت طائفة: لا يقطعها إلا الكلب الأسود، روي ذلك عن عائشة، وهو قول أحمد وإسحاق. قال النووي في شرح مسلم (4/ 227): اختلف العلماء في هذا فقال بعضهم يقطع هؤلاء الصلاة وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقطعها الكلب الأسود وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء ووجه قوله إن الكلب لم يجئ في الترخيص فيه شيء يعارض هذا الحديث وأما المرأة ففيها حديث عائشة رضي الله عنها. وفي الحمار حديث ابن عباس وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهم وجمهور العلماء من السلف والخلف لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد إبطالها ومنهم من يدعي نسخه بالحديث الآخر لا يقطع صلاة المرء شيء وادرأوا ما استطعتم وهذا غير مرض لن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وتأويلها وعلمنا التاريخ وليس هنا تاريخ ولا تعذر الجمع والتأويل بل يتأول على ما ذكرناه مع ان حديث لا يقطع صلاة المرء شيء ضعيف والله أعلم اهـ. أقول: قد نقلنا لك قبل صحة حديث لا يقطع الصلاة شيء، وانظر إعلاء السنن (5/ 53). وأوردنا قبل قليل حديث عائشة الذي تذكر فيه مثل هذه الروايات على ظاهرها. قال في الدين الخالص (2/ 328): (فالمراد) بقطع الصلاة فيه قطعها عن الخشوع والتذكر، للشغل بتلك الأشياء والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة (قال) النووي: وهذا أصح الأجوبة وأحسنها وأجاب به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين اهـ. وقال الحافظ في "الفتح": ومال الشافعي وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذر (وما وافقه) بأن المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصلاة، ويؤيد ذلك أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان، وقد علم أن
- مقاتلة المار بين يدي المصلي
الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم تفسد صلاته، كما سيأتي في الصحيح: "إذا ثوب بالصلاة أدبر الشيطان، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه" الحديث، وسيأتي في باب العمل في الصلاة حديث: أن الشيطان عرض لي فشد على ... الحديث. وللنسائي من حديث عائشة: فأخذته فصرعته فخنقته. ولا يقال: قد ذكر في هذا الحديث أنه جاء ليقطع صلاته. لأنا نقول قد بين في رواية مسلم سبب القطع وهو أنه جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهه، وأما مجرد المرور فقد حصل ولم تفسد به الصلاة اهـ. (1 - 486). قال صاحب الإعلاء: ولابد من هذا التأويل ونحوه، لما في حديث عائشة من ذكر الكافر أيضاً، ومروره لا يقطع الصلاة إجماعاً. اهـ. وحديث عائشة هو ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة)، رواه أحمد، قال العراقي ورجاله ثقات وفي مجمع الزوائد 1/ 166 ورجاله موثقون، فلما كان الكافر لا يقطع الصلاة فيؤول ما ورد في الأحاديث مما يقطع الصلاة على غير ظاهره جمعاً بين الأدلة (انظر إعلاء السنن 5/ 53). - مقاتلة المار بين يدي المصلي: 894 - * روى مسلم عن ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصل إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله، فإن معه القرين". 895 - * روى الشيخان عن أبي سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان".- بلفظ: "فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه". قال النووي (4/ 223): وهذا الأمر بالدفع أمر ندب وهو ندب متأكد ولا أعلم أحداً من
العلماء أوجبه بل صرح أصحابنا وغيرهم بأنه مندوب غير واجب قال القاضي عياض وأجمعوا على أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ولا ما يؤدي إلى هلاكه فإن دفعه بما يجوز فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء وهل يجب ديته أم يكون هدراً فيه مذهبان للعلماء وهما قولان في مذهب مالك رضي الله عنه قال واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة أو في مكان يأمن المرور بين يديه ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد في الرواية التي بعد هذه، إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله. قال: وكذا اتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليرده وإنما يدفعه ويرده من موقفه لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه ولهذا أمر بالقرب من سترته وإنما يرده إذا كان بعيداً منه بالإشارة والتسبيح. قال: وكذلك اتفقوا على أنه إذا مر لا يرده لئلا يصير مروراً ثانياً إلا شيئاً؛ روي عن بعض السلف أنه يرده وتأوله بعضهم. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله تعالى وهو كلام نفيس والذي قاله أصحابنا أنه يرده إذا أراد المرور بينه وبين سترته بأسهل الوجوه فإن أبى فبأشدها .. قوله صلى الله عليه وسلم فإنما هو شيطان قال القاضي قبل معناه إنما حمله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان، وقيل معناه يفعل فعل الشيطان لأن الشيطان بعيد من الخير وقبول السنة، وقيل المراد بالشيطان القرين كما جاء في الحديث الآخر فإن معه القرين (1). اهـ. (1) القرين: قال في النهاية: قرين الإنسان هو مصاحبه من الملائكة والشياطين. فقرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه. وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه. قال في إعلاء السنن: وفي إباحة مقاتلة المار بين يديه حقيقة نظر، لحديث عثمان يوم الدار: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق، فقتل به". أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وأخرج الشيخان نحوه بمعناه عن ابن
- الصلاة إلى الكعبة
مسعود كما في "المشكاة" (252 و 254). اهـ. الإعلاء. وهذا هو الذي ألجأ الأئمة من السلف إلى تأويل المقاتلة، في حديث أبي سعيد إلى الدفع العنيف دون القتال الحقيقي لكونه خارجاً عن هذه الثلاثة. قال صاحب "البدائع": ومن المشائخ من قال: إن الدرأ رخصة والأفضل أن لا يدرأ- أي بالدفع باليد- لأنه ليس من أعمال الصلاة، وكذا روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور عن أبي حنيفة أن الأفضل أن يترك الدرأ، والأمر بالدرأ في الحديث لبيان الرخصة- كالأمر بقتل الأسودين-. (انظر الإعلاء 5/ 71 - 74) ومما يؤيد أنه لا يقطع الصلاة شيء: 896 - * روى مسلم عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى راحلته. قال نافع: ورأيت ابن عمر يصلي إلى راحلته. - الصلاة إلى الكعبة: 897 - * روى البزار عن عبد الرحمن بن صفوان قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي فكانت داري على الطريق فذكر الحديث إلى أن قال: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت من كان معه أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركعتين عند السارية الوسطى عن يمينها. حديث عمر بن الخطاب أنه صلى ركعتين. 898 - * روى مسلم عن عثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين قال
حسن في حديثه: وجاهك حين يدخل بين الساريتين. 899 - * روى مسلم عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو على ناقة لأسامة، حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح، فذهب إلى أمه، فأبت أن تعطيه، فقال: لتعطينيه، أو ليخرجن السيف من صلبي، فدفعته إليه، ففتح الباب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه عثمان وبلال وأسامة، فأجافوا الباب ملياً، قال ابن عمر: وكنت رجلاً شاباً قوياً فبدر الناس، فبدرتهم، فوجدت بلالاً قائماً على الباب، قال: يا بلال أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدمين، ونسيت أن أسأله كم صلى. هذا لفظ حديث محمد بن عمرو. 900 - * روى أحمد عن أبي الشعثاء قال خرجت حاجاً فدخلت البيت فلما كنت عند الساريتين مضيت حتى لزقت بالحائط، وجاء ابن عمر حتى قام إلى جنبي فصلى أربعاً. قال: فلما صلى قلت له: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ قال: ها هنا أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى فقلت له: كم صلى؟ قال: على هذا أجدني ألوم نفسي إني مكثت معه عمراً ثم لم أسأله كم صلى؟ قال: فلما كان العام المقبل خرجت حاجاً، قال: فجئت حتى قمت في مقامه، قال: فجاء ابن الزبير حتى قام إلى جنبي فلم يزل يزاحمني حتى أخرجني منه ثم صلى فيه أربعاً. 901 - * روى أبو داود عن ابن عمر، قال: سألت بلالاً أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
- الأدب في التوجه إلى القبلة
فقال: في مقدم البيت بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع أو قدر ثلاثة أذرع. شك أبو عامر. 902 - * روى أبو داود عن عائشة كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأدخلني الحجر، فقال: "يا عائشة إن قومك لما بنوا الكعبة استقصروا، فأخرجوا الحجر من البيت، فإذا أردت أن تصلين في البيت فصلي في الحجر، فإنما هو قطعة من البيت". (أن تصلين) هكذا الرواية بإهمال عمل أن. أقول: إن الروايات التي تتحدث عن الصلاة داخل الكعبة دليل لمن أجاز الصلاة داخلها أو على سطحها. - الأدب في التوجه إلى القبلة: 903 - * روى ابن خزيمة عن أبي وائل: أن شيث بن ربعي صلى إلى جنب حذيفة، فبزق بين يديه، فقال حذيفة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، قال: "إن الرجل إذا دخل في صلاته أقبل الله بوجهه، فلا ينصرف عنه حتى ينصرف عنه أو يحدث حدثاً". أقول: في الحديث إشارة إلى أن التوجه إلى القبلة يلحظ فيه التوجه إلى الله عز وجل، وأن ذلك يقتضي آداباً من المصلي، ومن كان في حكمه كمنتظر الصلاة، أو الجالس في مكانه بعد الصلاة. - النهي عن التصاوير في القبلة: 904 - * روى النسائي عن عائشة: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدودة إلى سهوة،
- فيمن بصق في القبلة
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه. فقال: "أخريه عني". فأخذته فجعلته وسائد. أقول: في النص دليل على أنه لا ينبغي أن يكون أمام المصلي تصاوير، والأصل أن لا يكون في بيت المسلم تصاوير، والتصاوير التي في بيت عائشة إنما كانت ممتهنة، والسهوة شبيهة بالرف أو بالطاقة يوضع عليه الشيء ونحو ذلك. - فيمن بصق في القبلة: 905 - * روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه". 906 - * روى ابن حبان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجئ صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه". 907 - * روى ابن حبان عن السائب بن خلاد: أن رجلاً أم قوماً فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال صلى الله عليه وسلم حين فرغ: "لا يصلي لكم هذا". فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم". حسبت أنه قال: "إنك آذيت الله".
الفصل الخامس في الشرط الخامس من شروط الصلاة وهو النية وما له علاقة بها
الفصل الخامس في الشرط الخامس من شروط الصلاة وهو النية وما له علاقة بها انعقد الإجماع على أن النية فريضة من فرائض الصلاة، والأكثرون من العلماء على أنها شرط، وهي لغة: القصد، وشرعاً: عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (1). قال الماوردي: الإخلاص في كلامهم النية، وقد أخرج البخاري ومسلم قوله (2) صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". وإنما انعقد الإجماع لتضافر شواهد الشرع على وجوبها، ومن شروط صحة النية: الإسلام، والتمييز، والعلم بالمنوي، واتصال النية بالصلاة بلا فاصل أجنبي عند الحنفية بين النية والتكبيرة، والفاصل عمل لا يليق بالصلاة كالأكل والشرب ونحو ذلك. أما إذا فصل بينهما بعمل يليق بالصلاة كالوضوء والمشي إلى المسجد فلا يضر، فلو نوى ثم توضأ أو مشى إلى المسجد فكبر ولم تحضره النية جاز. ويندب اقتران النية بتكبيرة الإحرام، ولا تجزئ النية المتأخرة عن التكبير في الصلاة، ولا يضر عند الحنابلة تقدم النية على التكبير بزمن يسير بعد دخول الوقت في الفريضة، ومطلقاً في النافلة إذا لم يفسخ نيته، وأوجب المالكية استحضار النية عند تكبيرة الإحرام أو قبلها بزمن يسير، وقال بعض الشافعية: يشترط اقتران النية بتكبيرة الإحرام وسنرى كلام النووي في ذلك. ويشترط تعيين نوع الفرض الذي يصليه باتفاق الفقهاء كالظهر أو العصر.
وتجب نية الإمامة للنساء عند الحنفية عند وجودهن، وتندب نية الإمامة أو الاقتداء أو الانفراد. ومحل النية هو القلب بالاتفاق، ويندب عند الجمهور التلفظ بالنية، وقال المالكية: الأولى تركه في صلاة أو غيرها، وكرهه بعضهم. واشترط الحنفية التعيين لفرائض الصلاة والوتر وسجود التلاوة والنذر وصلاة العيدين، ونية قضاء: أول أو آخر وقت عليه ويعين الوقت، وأما صلاة النفل ولو سنة الفجر والتراويح فيكفيها مطلق النية، ولو أدرك شخص قوماً يصلون ولم يدر أفرض وقته أو غيره أم تراويح، ينوي الفرض، فإن كانوا هم فيه صح، وإن لم يكونوا فيه تقع نفلاً، وعند الشافعية تقع فرضاً كما نوى. ولا يشترط عند المالكية نية الأداء أو القضاء أو عدد الركعات فيصح القضاء بنية الأداء وعكسه، وتجب عندهم نية الانفراد والاقتداء ولا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع بين الصلاتين تقديماً للمطر والخوف وزاد ابن رشد الجنائز، وعندهم تفصيلات في بعض الصور. والأصح عند الشافعية أنه يصح الأداء بنية القضاء وعكسه في حالة العذر، كجهل الوقت بسبب غيم أو نحوه، فلو ظن خروج الوقت فصلاها قضاء فبان بقاؤه، أو ظن بقاء الوقت فصلاها أداء فبان خروجه صحت الصلاة. وقال الفقهاء: إذا دخل في الصلاة بنية مترددة بين إتمامها وقطعها لم تصح، ولو دخل في الصلاة بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت عند الجمهور، وقال أبو حنيفة لا تبطل إلا إذا تلبس بفعل يبطل الصلاة، وإن شك في أثناء الصلاة هل نوى أو لا، أو شك في تكبيرة الإحرام استأنف الصلاة عند الشافعية أي بدأها من جديد. وإذا أحرم بفريضة ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى بطلت الاثنتان، فلو حول الفرض إلى نفل جاز له ذلك. وعند الشافعية للإنسان أن يقتدي بإنسان يكمل صلاته بعد سلام إمامه كأن كان مسبوقاً في غير الجمعة. انظر (حاشية ابن عابدين 1/ 277 - 279)، (الشرح الصغير 1/ 303)، (المهذب 1/ 70)، (المغني 1/ 464)، (الفقه الإسلامي 1/ 614).
قال ابن حجر في شرحه لحديث: (إنما الأعمال بالنيات ...): وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذ الحديث: قال أبو عبد الله ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث. واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهدي أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب. ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: نية المؤمن خير من عمله، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا و (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) و (الحلال بين والحرام بين) الحديث ... ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: (يبعثون على نياتهم) وحديث ابن عباس: (ولكن جهاد ونية) وحديث أبي موسى: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) متفق عليهما وحديث ابن مسعود: (رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته) أخرجه أحمد وحديث عبادة: (من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى) أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره، اهـ. قال النووي رحمه الله في المجموع: فالنية فرض لا تصح الصلاة إلا بها ونقل ابن المنذر في كتابه الأشراف وكتاب الإجماع والشيخ أبو حامد الاسفرايني والقاضي أبو الطيب وصاحب الشامل ومحمد بن يحيى وآخرون إجماع العلماء على أن الصلاة لا تصح إلا بالنية اهـ. وفي موضوع استصحاب النية إلى انقضاء التكبير عند الشافعية قال النووي رحمه الله: وفيه وجه ضعيف إنه لا يجب واختار إمام الحرمين والغزالي في البسيط وغيره إنه لا يجب التدقيق المذكور في تحقيق مقارنة النية وإنه تكفي المقارنة العرفية العامية بحيث يعد
مستحضراً لصلاته غير غافل عنها اقتداء بالأولين في تسامحهم في ذلك وهذا الذي اختاراه هو المختار والله أعلم اهـ. وإنما انعقد الإجماع على فرضية النية في الصلاة لنصوص كثيرة تؤكد محل النية في الأعمال، فإن كانت الصلاة سيدة الأعمال في الإسلام، فإن النية في حقها فريضة لتمييز العبادة عن العادة، والنية لها محلها في أعمال الإسلام كلها. وإلى عرض بعض النصوص: قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة) (1) [البينة: 5]. (مخلصين له الدين): أي: يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره. (حنفاء): أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. (وذلك دين القيمة): قال الزجاج: أي: ذلك دين الملة المستقيمة، و (القيمة) نعت لموصوف محذوف، أو يقال: دين الأمة القيمة بالحق، أي: القائمة بالحق. وقال تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) (2). أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج- فيما ذكره ابن كثير في (تفسيره) قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح، فأنزل الله ... هذه الآية. والمعنى- والله أعلم- لن يصل إليه سبحانه إلا ما أريد به وجه الله تعالى فيقبله، ويثيب عليه، وفي هذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إذا عريت عن نية صحيحة. وقال تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) (3).
908 - * روى الشيخان عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. وقد نقلنا قبل قليل بعض ما قاله العلماء في هذا الحديث ونضيف هنا فنقول: قوله (إنما الأعمال بالنيات): لم يرد به حصول أعيانها، لأنها حاصلة حساً وصورة من غير أن تقترن بها النية إنما أراد به صحتها حكماً في حق الدين، فإنها لا تحصل إلا بالنية، وذهب البعض إلى أن العمل يصح بلا نية وقال: التقدير: كمال الأعمال بالنيات أو ثوابها. قوله (وإنما لكل امرئ ما نوى): فيه إيجاب تعيين النية، والنية قصدك الشيء بقلبك وهي تستدعي أموراً في أعمال الدين حتى يصح الامتثال كأن تعرف الشيء الذي تقصده وأن تعلم أنك مأمور به وأن تطلب موافقة الآمر فيما تعبد. (شرح السنة 1/ 402). 909 - * روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- فيما يروي عن ربه- "إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة، وإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة". زاد في رواية (3): "أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك".
قال العلماء: درجات النية المتعلقة بالقلب أو درجات تصديق القلب للعمل أربع: الأولى: حديث النفس (الوسوسة): وهو ما يخطر في الذهن ويبقى في طور المناقشة، واحتمال عدم الفعل أقل من احتمال الفعل. الثانية: التردد: عندما تزيد نسبة احتمال الفعل إلى مرحلة عدم الترجيح بين الفعل وعدمه فيكون في دائرة التردد. الثالثة: الهم: وهو مرحلة ترجيح الفعل مع وجود احتمال لعدم الفعل. الرابعة: العزم والتصميم: عندما يستقر الرأي على الفعل ويصمم ولا يوجد أي احتمال لعدم الفعل. وفي هذه الحالة الرابعة فقط يكتب على الإنسان ما عزم عليه سواء فعل أو لم يفعل فيكتب في الخير والشر، فمن عزم وصمم على شرب الخمر لكن لم يشرب لصارف يكتب كمن شرب ولو عاد من نفسه وتاب بعد أن عزم وصمم فإنه يكتب كمن شرب ثم تاب. أما الهم فإنه إذا هم الإنسان بعمل خير ولم يفعله لعارض خارج عن إراداته يكتب له حسنة واحدة كاملة فإذا عمل يكتب له عشر حسنات .. أما إذا هم بالشر ولم يصل درجة العزم والتصميم فلا يكتب عليه شيء فإن عاد عنها بإرادته كتبت حسنة واحدة وإن فعلها كتبت سيئة واحدة. أما حديث النفس والتردد فلا يكتب في الخير ولا في الشر وكل هذا من رحمة الله بالإنسان الكفور .. هذه درجات تصديق القلب للعمل، وهناك درجات تصديق العقل للعمل وهي أربع: الأولى: الوهم: وهي تقابل حديث النفس السابق الذكر، كأن يتوهم أنه توضأ لكن عدم الوضوء أرجح. الثانية: الشك: وهي تساوي الاحتمالات، فاحتمال الوضوء وعدمه متساويان وتقابل
التردد السابق ذكره .. الثالثة: غلبة الظن: أن يترجح لديه شيء دون أن يتأكد لديه ذلك. الرابعة: اليقين: وهو العلم التام غير القابل للشك أو طروء الظن. 910 - * روى الشيخان عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم". قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم!؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم". 911 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". قال الخطابي فيما نقله عنه الحافظ في (الفتح 7/ 179): كانت الهجرة أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه، وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات، حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) (3) فلما فتحت مكة، ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل، سقطت الهجرة الواجبة، وبقي الاستحباب. 912 - * روى البخاري عن أبي يزيد معن بن يزيد الأخنس رضي الله عنهم، وهو
وأبوه وجده صاحبيون، قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن". 913 - * روى مسلم عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". 914 - * روى الشيخان عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". قال الخطابي فيما نقله الحافظ في (الفتح 12/ 174): هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلاً، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل، فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له في القتال شرعاً. والحديث دليل على عقوبة من عزم على معصية بقلبه ووطن نفسه عليها. اهـ. والنصوص في أهمية النية ووجوبها ودورها وأثرها على العمل كثيرة بلا عدد. قال الحافظ في (الفتح 2/ 181): (لم يختلف في إيجاب النية في الصلاة) وهذا حكاية للإجماع وقال في (الدر المختار 1/ 277): (والخامس النية بالإجماع).
الباب الثالث أفعال الصلاة وأقوالها وما يدخل فيها من أركان وواجبات وسنن وآداب وما يرافقها أو يتبعها أو يتعلق بها
الباب الثالث أفعال الصلاة وأقوالها وما يدخل فيها من أركان وواجبات وسنن وآداب وما يرافقها أو يتبعها أو يتعلق بها وفيه مقدمة وفصول * المقدمة
المقدمة
المقدمة إن تقسيم أفعال الصلاة وأقوالها إلى أركان وواجبات وسنن وآداب أثر عن مباحث أصولية، ونظرة عميقة للنصوص، واستشراف لها، وكثيراً ما يختلف الفقهاء في الحكم على قول، أو فعل في الصلاة. وفي الغالب فإن الأشياء الرئيسية لا يختلفون فيها، وبعض ما يختلفون فيه إنما يختلفون في قوة الإلزام، فمن قائل بالفرضية ومن قائل بالوجوب، أو من قائل بالوجوب وقائل بالسنية. وأحياناً لا يكون هناك اختلاف حقيقي، فتجد بعضهم مثلاً يذكر أن أركان الصلاة ستة كالحنفية، وبعضهم يذكر أن أركان الصلاة أربعة عشر كالمالكية والحنابلة ويقول الشافعية إنها ثلاثة عشر، وعند التأمل نجد أن الحنفية عندما يفصلون في أركان الصلاة، فإن كثيراً مما اعتبره الآخرون ركناً يعتبره الحنفية أنفسهم ركناً، فالرفع مثلاً من السجدة الأولى إلى السجدة الثانية والهوي منه إلى السجدة الثانية والسجدة الثانية نفسها كلها فرائض عند الحنفية، ولكنهم في عملية الإجمال يقولون إن السجود ركن من أركان ستة، وآخرون يفصلون فيزيدون الفرائض. والعوامل التي أدت إلى تقسيم أفعال الصلاة وأقوالها إلى ما ذكرناه كثيرة، تذكر عادة في كتب أصول الفقه، فهناك شيء أمر به القرآن وأمرت به السنة، وداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوجد ما يدل على الترخص فيه أو التخفيف في حكمه، وبين أمر لم تتوافر فيه كل هذه الصفات، ومع أنه قد لا يوجد أمر تتوافر فيه كل هذه الصفات، فقد يكفي الأمر الملزم في بعض الصور في إثبات نفس القوة في الحكم، وهذه موضوعات سنتعرض لها في كتابنا (الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص)، أما هنا فنكتفي بهذه الإشارة بين يدي أفعال الصلاة وأقوالها ليعرف القارئ سبباً من أسباب اختلاف الفقهاء في الحكم على قول أو فعل بأنه ركن أو واجب أو سنة أو أدب. ومن أسباب الاختلاف في قوة الحكم وجود نصوص في ظاهرها تعارضن فيقع اختلاف في
الحكم، وكذلك اختلافهم في الحكم على أثر من الآثار فمن مصحح ومن محسن ومن مضعف، وعلى كل تترتب أحكام. ونكتفي هنا كذلك بالإشارة إلى ما اتفق عليه الفقهاء أنه أركان في الصلاة وهي: أولاً: التحريمة وهي: أن يدخل المصلي في الصلاة بأن يقول وهو قائم يسمع نفسه: (الله أكبر) لقوله تعالى: (وربك فكبر) (1). ثانياً: القيام لقوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) (2). ثالثاً: القراءة: قراءة القرآن لقوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) (3). رابعاً وخامساً: الركوع والسجود لقوله تعالى: (واركعوا واسجدوا) (4). سادساً: القعود الأخير مقدار التشهد. هذه الأركان الستة اتفق الحنفية مع غيرهم عليها في صلاة الفريضة. وهناك أحوال استثنائية وتفصيلات، ولا نحب أن نتوسع ها هنا بل نتحدث عن أحكام أفعال الصلاة وأقوالها بمناسبة ورودها في النصوص، وآراء الفقهاء في شأنها. وفصول هذا الباب هي:
الباب الثالث أفعال الصلاة وأقوالها وما يدخل فيها من أركان وواجبات وسنن وآداب وما يرافقها أو يتبعها أو يتعلق بها * الفصل الأول: في نصوص جامعة تصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. * الفصل الثاني: في تعليم المسيء صلاته. * الفصل الثالث: في روايات في التكبير في الصلاة ووضع اليمين على الشمال. * الفصل الرابع: في الاستفتاح. * الفصل الخامس: في القراءة. * الفصل السادس: في الركوع والسجود وما يتعلق بهما. * الفصل السابع: في القنوت في الصلاة. * الفصل الثامن: في القعود في الصلاة وما يتعلق به. * الفصل التاسع: في الخشوع في الصلاة. * الفصل العاشر: في بعض أدعية الصلاة، وأذكارها المأثورة. * الفصل الحادي عشر: في بعض الأدعية والأذكار المأثورة بعد الصلاة.
الفصل الأول في نصوص جامعة تصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الفصل الأول في نصوص جامعة تصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: 915 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر، ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته، وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك، وكبر". 916 - * روى الشيخان عن مطرف بن عبد الله قال: "صليت خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة اخذ عمران بيدي، فقال: ذكرني هذا صلاة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد صلى بنا صلاة محمد". وفي رواية (3) النسائي، قال: "صلى علي، فكان يكبر في كل خفض ورفع، يتم الركوع، فقال عمران: لقد ذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم". 917 - * روى أبو داود عن سالم البراد قال: "أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري- أبا مسعود- فقلنا له: حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بين أيدينا في المسجد، فكبر، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، فقام حتى استقر كل شيء منه، ثم كبر وسجد، ووضع كفيه على الأرض، ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه، ثم رفع رأسه، فجلس حتى استقر كل شيء منه، ففعل مثل ذلك أيضاً، ثم صلى أربع ركعات مثل
هذه الركعة، فصلى صلاته، ثم قال: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي". 918 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجداً، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس". زاد في رواية (2): ثم يقول أبو هريرة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد هو وغيره: الواو، في قوله: (ولك الحمد). وفي رواية (3) للبخاري قال أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، يدعو لرجال، فيسميهم بأسمائهم، فيقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له". 919 - * روى ابن خزيمة عن سعيد بن سمعان، قال: دخل علينا أبو هريرة مسجد بني زريق، قال: ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بهن، تركهن الناس، كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا- وأشار أبو عامر بيده ولم يفرج بين أصابعه ولم يضمها وقال: هكذا أرانا ابن أبي ذئب. قال ابن خزيمة: وأشار لنا يحيى بن حكيم ورفع يديه ففرج بين أصابعه تفريجاً ليس بالواسع ولم يضم بين أصابعه ولا باعد بينها، رفع يديه فوق رأسه مداً- وكان يقف قبل القراءة هنية يسأل الله تعالى من فضله وكان يكبر في الصلاة كلما سجد ورفع. 920 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إني لا آلو أن أصلي
بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي". وفي رواية نحوه، إلا أنه قال: "وإذا رفع رأسه بين السجدتين" وللبخاري (1) قال: "كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي". وفي رواية أبي داود (2)، قال: "ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يكبر ويسجد، وكان يقعد بين السجدتين، حتى نقول: قد أوهم". 921 - * روى البخاري عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال لأصحابه: "ألا أنبئكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قال: وذاك في غير حين صلاة- فقام ثم ركع فكبر، ثم رفع رأسه، فقام هنيهة ثم سجد ثم رفع رأسه هنيهة، وصلى صلاة عمرو بن سلمة- شيخنا هذا- قال أيوب: كان يفعل شيئاً لم أركم تفعلونه، كان يقعد في الثالثة أو الرابعة". وفي رواية (3)، قال: "قلت لأبي قلابة: كيف كانت صلاتهم؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا- يعني: عمرو بن سلمة- وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام". وفي رواية (4) نحوه، وفيه: "قام فأمكن القيام، ثم ركع فأمكن الركوع، ثم رفع رأسه فانتصب قائماً هنيهة، قال أبو قلابة: صلى بنا صلاة شيخنا هذا- أبي بريد- وكان أبو بريد إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى والثانية، استوى قاعداً، ثم نهض".
في النص إشارة إلى ما يسميه الفقهاء جلسة الاستراحة، وهي عند الشافعية وآخرين سنة ولا يرى آخرون سنيتها مستدلين لذلك بما ورد: 922 - * روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبادروني بركوع ولا بسجود فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت إني قد بدنت". 923 - * روى ابن أبي شيبة عن ابن أبي عياش أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس". وقال الإمام الترمذي بعد أن أورد حديث أبي هريرة في القيام من الركعة الثانية على صدور القدمين (1/ 39) قال: عليه العمل عند أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه (إعلاء السنن (3/ 38) ومن هنا قال الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى الروايتين بالقيام من السجدة الثانية في الركعة الأولى، والثالثة دون جلسة، وإن جلسة استراحة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لما كبرت سنه، والله أعلم. 924 - * روى أبو داود عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: "قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يصلي؟ قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل القبلة، فكبر فرفع يديه حتى حاذى أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، ثم وضع يديه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك، فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلق حلقة، ورأيته يقول هكذا- وحلق بشر الإبهام والوسطى، وأشار بالسبابة". وفي رواية (4) بمعناه، قال فيه: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد- قال فيه: ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه
برد شديد، فرأيت الناس عليهم جل الثياب، تحرك أيديهم تحت الثياب". وفي أخرى (1) للنسائي قال: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما افتتح الصلاة كبر، ورفع يديه، حتى حاذى أذنيه، ثم قرأ بفاتحة الكتاب، فلما فرغ منها قال: آمين، يرفع بها صوته". 925 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا بحذو منكبيه ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود". وفي رواية (2): "إذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، وفي أخرى (3) نحوه، وقال: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود". وللبخاري (4) عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام إلى الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم". وأخرج الموطأ (5) الرواية الأولى وله (6) في أخرى: "أن ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة
رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع من الركوع رفعهما دون ذلك". ولأبي داود (1): قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر وهما كذلك، فيركع، ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ولا يرفع يديه في السجود، ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع، حتى تنقضي صلاته". 926 - * روى البخاري عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال محمد بن عمرو بن عطاء: "سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- منهم أبو قتادة- قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض، فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع، ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الآخر مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله، وقعد متوركاً على شقه الأيسر. قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية (1) قال: "كنت في مجلس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا صلاته، فقال أبو حميد- فذكر بعض هذا الحديث- وقال: فإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه، وفرج بين أصابعه، وهصر ظهره، غير مقنع رأسه، ولا صافح بخده، وقال: فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة". وفي أخرى (2) نحو هذا، قال: "إذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة". وفي رواية (3) في هذا الحديث، قال: "فإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه". 927 - * روى الترمذي عن علقمة قال: "قال لنا ابن مسعود رضي الله عنه يوماً: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلي ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة، مع تكبيرة الافتتاح". وفي رواية (4)، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر".
وللنسائي (1) أيضاً في أخرى زيادة: "ويسلم عن يمينه وشماله: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده- قال: ورأيت أبا بكر وعمر يفعلان ذلك" وأخرج أبو داود الرواية (2) الأولى. وفي حديث ابن مسعود هذا نفي رفع اليدين فيما عدا تكبيرة الإحرام، وقال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وفي حديث ابن عمر الذي قبله إثبات الرفع عند الركوع والرفع عنه، قال الترمذي عقب حديث ابن عمر: وبهذا يقول بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير وغيرهم، ومن التابعين: الحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، ونافع، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن جبير وغيرهم، وبه يقول مالك، ومعمر، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. أقول: قدم الحنفية الأخذ بقول ابن مسعود لأنه أكثر فقهاً، وأكبر سناً وأعرف بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر واسع. 928 - * روى أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود". وفي رواية (3) مثله، ولم يذكره: ثم لا يعود". وفي أخرى (4)، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين افتتح الصلاة، ثم لم يرفعهما حتى انصرف". 929 - * روى الشيخان عن جابر بن سمرة: أن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر
فذكروا من صلاته، فأرسل إليه عمر، فقدم عليه فذكر له ما عابوه من أمر الصلاة، فقال: إني لصلي بهم صلاة رسول الله فما أخرم عنها، إني لأركد بهم في الأوليين وأحذف بهم في الأخريين. فقال له عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق". هذا حديث الدورقي. وقال المخزومي: وأخفف الأخريين. 930 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ (الحمد لله رب العالمين) وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين: التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم". وفي رواية (1): "عن عقب الشيطان".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد الصلوات الخمس مفروضة على المسلمين بإجماع وهي صلاة الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب والعشاء. وصلاة الفجر ركعتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع بإجماع. والركعة الأولى من كل صلاة تبدأ بقيام للقادر عليه، وتفتتح الصلاة بتكبيرة الإحرام من رفع الأيدي، ثم بثناء وتعوذ وبسملة وقراءة فاتحة وشيء من القرآن معها، وهذا يشترك فيه الإمام والمنفرد، أما المأموم فهناك خلاف، هل يقرأ القرآن وراء الإمام أو لا؟ ثم يكبر الإنسان ويركع واضعاً كفيه على ركبتيه قائلاً: (سبحان ربي العظيم) ثلاثاً في ركوعه، ثم يرفع من ركوعه قائلاً: (سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد أو ربنا ولك الحمد)، ثم يكبر مع هويه بالسجود، فيسجد على أعضائه السبعة (الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين)، وينصب القدمين موجهاً أصابعها إلى القبلة ويجافي الرجل فخذيه وعضديه عن جسمه، ويجافي مرفقيه عن الأرض ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثاً، ثم يكبر جالساً مفترشاً رجله اليسرى ناصباً قدمه اليمنى، أما المرأة فتفعل ما هو الأستر في حقها فلا تجافي عضديها عن جسمها ولا فخذيها عن بطنها، ثم يكبر ويسجد السجدة الثانية مسبحاً في السجود، ثم يقوم إلى الركعة الثانية مكبراً رافعاً وجهه فيديه فركبتيه على عكس خروره للسجود فإنه يبدأ بركبتيه ثم بيديه ثم بوجهه، فإذا قام إلى الركعة الثانية قرأ الفاتحة وشيئاً من القرآن معها إن كان منفرداً أو إماماً أما المأموم ففي قراءته وراء الإمام خلاف كما ذكرنا، ثم يركع فيرفع فيسجد سجدتين يجلس بينهما، فإن كانت صلاته ثنائية قعد القعود الأخير على خلاف بين الفقهاء هل يقعد متوركاً أو يقعد مفترشاً رجله اليسرى ناصباً رجله اليمنى كالقعدة بين السجدتين، ويقرأ التشهد ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو ثم يسلم عن يمينه وشماله، فإذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية، اكتفى بقراءة التشهد واختلف في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، ثم يكبر قائماً إلى الركعة الثالثة فيقرأ فيها فاتحة الكتاب إن كان منفرداً أو إماماً، ثم يفعل كما فعل في
الركعة الثانية فإن كانت الصلاة ثلاثية قعد القعود الأخير وسلم كما ذكرنا وإن كانت رباعية قام بعد السجدة الثانية إلى الركعة الرابعة ففعل بها كما فعل بالركعة الثالثة ثم قعد القعود الأخير وسلم، ويستحب له بعد السلام أن يقرأ الأدعية والأذكار المأثورة. هذه صورة إجمالية لصلاة الفرائض وستمر معنا تفصيلات واجتهادات في حكم كل فعل، أو قول، من أفعال الصلاة وأقوالها.
الفصل الثاني في تعليم المسيء صلاته
الفصل الثاني في تعليم المسيء صلاته 931 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد، وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرده وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل"- فرجع ثلاثاً- فقال: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غيره، فعلمني، فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها". وفي رواية (2) بنحوه، وفيه: "وعليك السلام، ارجع"- وفيه: "فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن .. " وذكر نحوه- وزاد في آخره- بعد قوله: "حتى تطمئن جالساً- ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". وزاد أبو داود (3) في رواية: له: "فإذا فعلت هذا تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك". 932 - * روى الترمذي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو
جالس في المسجد يوماً- قال رفاعة: ونحن معه- إذ جاءه رجل كالبدوي، فصلى فأخف صلاته، ثم انصرف فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك، فارجع فصل، فإنك لم تصل"، فرجع فصلى، ثم جاء فسلم عليه، فقال: "وعليك، فارجع فصل فإنك لم تصل"، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيسلم على النبي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك، فارجع فصل، فإنك لم تصل"، فخاف الناس وكبر عليهم: أن يكون من أخف صلاته لم يصل، فقال الرجل في آخر ذلك: فأرني وعلمني، فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فقال: "أجل، إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد فأقم، فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع فاطمئن جالساً، ثم قم، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً فقد انتقصت من صلاتك"، قال: وكان هذا أهون عليهم من الأولى: أنه من انتقص من ذلك شيئاً انتقص من صلاته، ولم تذهب كلها". أقول: لهذه الرواية ولأسباب أخرى قال الحنفية: إن الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال من الركوع واجبة وليست ركناً، والواجب عندهم إذا تركه الإنسان عمداً أثم وتجب عليه إعادة صلاته ما دام في الوقت، ولا تبطل الصلاة بترك الواجب. 933 - * روى أبو داود مثل حديث قبله، وهو حديث أبي هريرة، قال: فذكر نحوه، وقال فيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء- يعني مواضعه- ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل، ويثني عليه، ثم يقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائماً، ويقول: الله أكبر، ثم يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ويرفعه ثانية فيكبر، فإذا فعل ذلك تمت صلاته".
وفي أخرى (1) له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتم صلاة أحد حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ويغسل رجليه إلى الكعبين، ثم يكبر الله ويحمده، ثم يقرأ من القرآن ما أذن له فيه وتيسر. قال: ثم يكبر، فيسجد ويمكن وجهه- وفي رواية: "جبهته- من الأرض، حتى تطمئن مفاصله فتسترخي، ثم يكبر فيستوي قاعداً على مقعده، ويقيم صلبه-" فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات، حتى فرغ- "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك". وفي أخرى (2) بهذه القصة، فقال: "إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ، فإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك"، وقال: "إذا سجدت فمكن بسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى". وفي أخرى (3) بهذه القصة، وقال فيه: "فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد، ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك" وفي أخرى (4) نحوه، فقال فيه: "فتوضأ كما أمرك الله عز وجل، ثم تشهد فأقم، ثم كبر، فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله، وكبره وهلله". وقال فيه: "وإن انتقصت فيه شيئاً: انتقصت من صلاتك". لقوله: "بما تيسر من القرآن": قال الحنفية بأن الفرض مطلق القراءة والواجب الفاتحة لكن قال الشافعية وغيرهم: الفرض الفاتحة لقوله في إحدى الروايات: "ثم اقرأ بأم
القرآن" وقالوا فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن فإن عجز عن تعلمها وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر وإلا انتقل إلى الذكر. وفي الحديث دليل على وجوب الطمأنينة في الأركان، وقال الشافعية: الاطمئنان فرض، وقال الحنفية: واجب لما ورد في الحديث وإن انتقصت من صلاتك. وقوله: "ثم افعل ذلك في الركعات كلها": دليل على وجوب القراءة في الركعات كلها كما يجب الركوع والسجود وجوز بعض الحنفية التسبيح في الركعتين الأخريين بدلاً عن القراءة ويروى كذلك عن علي من طريق الحارث الأعور (شرح السنة 3/ 11)، والحارث هذا ابن عبد الله صاحب علي كذبه الشعبي في رأيه ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف (التقريب). وللإمام أبي حنيفة رواية تنص على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة نقلها عنه الحسن بن زياد وصححها العيني وابن الهمام ومشى عليها في المنية (شعيب). 934 - * روى النسائي عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رضي الله عنه رجلاً يصلي، فطفف، فقال له حذيفة: مذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة، مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الرجل ليخفف ويتم ويحسن. وفي رواية (2) البخاري، قال شقيق: إن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته، دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت- قال- وأحسبه قال: ولو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (3): ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح: واستدل به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل للصلاة.
935 - * روى أحمد عن عطاء بن يسار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يصلي وهو مسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فتوضأ" قال: فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فتوضأ" ثم جاء، فقال: يا رسول الله مالك أمرته يتوضأ ثم سكت عنه، فقال: "إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره". أقول: إن إسبال الإزار مكروه تحريماً للخيلاء، ومن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لمسبل إزاره أن يعيد وضوءه دليل لمن ذهب من العلماء أن الوضوء يسن لمن ارتكب ذنباً.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - نلاحظ مما ورد في أحاديث الفصل أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تعليم الجاهل حيثما رأوا تصرفاً من تصرفاته يدل على جهل، وعلى المسلمين عموماً وعلى العلماء خصوصاً أن يلحظوا هذه السنة وأن يحيوها، وكثيراً ما نجد عدم مبالاة عند بعض الناس إذا رأوا جهلاً أو خطأ، فلا يعلمون ولا يفقهون. - يفرق الحنفية بين الركن والواجب، فالركن عندهم فرض يثبت بالقطعيات من نصوص الشريعة ويكفر منكره، أما الواجب: ففرض عملي يجب القيام به ويأثم تاركه ويفسق منكر النصوص الصحيحة الواردة فيه، وتركه لا يبطل الصلاة بينما ترك الركن يبطل الصلاة. نقول هذا بمناسبة ما مر معنا في بعض روايات الفصل عن أن الطمأنينة عند الحنفية واجبة وليست ركناً. - عرف الحنابلة الطمأنينة بأنها السكون وإن قل، وعرفها الشافعية بأنها استقرار الأعضاء في الركوع والسجود، وفي القيام بعد الركوع وفي الجلوس بين السجدتين بحيث ينفصل الرفع عن الهوي، وعرفها الحنفية بأنها تسكين الجوارح قدر تسبيحة في الركوع والسجود والرفع منهما، وعرفها المالكية بأنها استقرار الأعضاء زمناً ما، في جميع أركان الصلاة، وهي ركن عند المالكية والحنابلة وبعض الشافعية، وشرط في الركن عند بعض الشافعية، وواجب عند الحنفية في الركوع والاعتدال منه والسجود والجلوس بين السجدتين.
الفصل الثالث في روايات في التكبير في الصلاة ووضع اليمين على الشمال
الفصل الثالث في روايات في التكبير في الصلاة ووضع اليمين على الشمال 936 - * روى الترمذي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم". 937 - * روى مسلم عن وائل بن حجر رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر- وصف همام- أحد الرواة- حيال أذنيه- ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفيه. وفي رواية (3) أبي داود قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه. قال: ثم أتيت المدينة بعد فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة، وعليهم برانس وأكسية. وفي أخرى (4)، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشتاء، فرأيت أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم في الصلاة. وفي أخرى (5)، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكان إذا كبر رفع يديه، ثم التحف، ثم أخذ شماله بيمينه، وأدخل يديه في ثوبه، فإذا أراد أن يركع، أخرج يديه، ثم رفعهما، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه، ثم سجد، ووضع وجهه بين كفيه، حتى فرغ من صلاته. قال محمد- وهو ابن جحادة- فذكرت ذلك للحسن بن أبي الحسن فقال: هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعله من فعله، وتركه من تركه. وفي أخرى (6): أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم، حين قام إلى الصلاة: رفع يديه، حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبر.
وفي أخرى (1) رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع إبهاميه في الصلاة إلى شحمة أذنيه. وفي أخرى (2) أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير. 938 - * روى النسائي عن عبد الرحمن بن الأصم قال: "سئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن التكبير في الصلاة؟ فقال: يكبر إذا ركع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود، وإذا قام من الركعتين. فقال له حطيم عمن تحفظ هذا؟ قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ثم سكت، فقال له حطيم: وعثمان؟ قال له: وعثمان". 939 - * روى أحمد عن سعيد بن الحارث قال: اشتكى أبو هريرة- أو غاب- فصلى لنا أبو سعيد الخدري فجهر بالتكبير حين افتتح الصلاة وحين ركع وحين قال سمع الله لمن حمده وحين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين قام من الركعتين حتى قضى صلاته على ذلك فلما صلى قيل له اختلف الناس على صلاتك فخرج فقام على المنبر فقال يا أيها الناس والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أو لم تختلف هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي". 940 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا- معشر الأنبياء- أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة". 941 - * روى الطبراني عن عقبة بن أبي عائشة قال: رأيت عبد الله بن جابر البياضي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إحدى يديه على ذراعه في الصلاة.
أقول: الرسغ مفصل ما بين الكف والساعد، فتحليق الإبهام والخنصر على الرسغ يجعل بقية الأصابع على الذراع، وقد استحب بعض الحنفية أن توضع الأصابع الثلاثة ممدودة على ظاهر الذراع. 942 - * روى مالك عن أبي حازم بن دينار قال: قال سهل بن سعد: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلمه غلا ينمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية [قال إسماعيل]: إلا وينمي ذلك، ولم يقل: ينمي". 943 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كان يصلي، فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى". وفي رواية (3) النسائي، قال: "رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضعت شمالي على يميني في الصلاة، فأخذ بيميني، فوضعها على شمالي". 944 - * روى النسائي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان قائماً في الصلاة، قبض بيمينه على شماله. 945 - * روى أبو داود عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "صف القدمين، ووضع اليد على اليد، من السنة".
أقول: يدخل في صف القدمين أن يكون العقبان على سوية واحدة، بحيث يكون الكعبان الداخليان متقابلين، واستحب بعضهم أن يوجه الإنسان قدميه إلى جهة القبلة فلا يكونان منحرفين، ولم ير بعضهم بأساً بأن لا يتكلف في ذلك، ويسن التفريج بين القدمين في القيام قدر أربع أصابع عند الحنفية وقدر شبر عند الشافعية، وقال المالكية والحنابلة: ويندب تفريج القدمين بأن يكونا بحالة متوسطة فلا يوسعهما كثيراً حتى يتفاحش عرفاً.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - تكبيرة الإحرام فريضة، وهي أن يقول المصلي مسمعاً نفسه (الله أكبر) وينبغي أن تكون بالعربية إلا لعاجز عليها، ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير ليسمعه من خلفه، ولا تنعقد الصلاة إلا بتكبيرة الإحرام، وإن عجز عن التكبير كأن كان أخرس سقطت عنه. وليحذر المصلي أن يمد الهمزة الأولى فيقول (آلله) أو يمد (أكبر) أو يزيد ألفاً بعد باء (أكبر)، لأن المعنى يتغير به فلا تصح الصلاة. وأجاز الشافعية أن يقول (الله الأكبر) أو (الله الجليل أكبر)، وأجاز أبو حنيفة ومحمد افتتاح الصلاة بكل ما يفيد التكبير والتعظيم كقول المصلي (الله أجل) (الله أعظم) (الله كبير) (الرحمن أعظم) والجواز شيء وإقامة الفرض كما ورد شيء آخر. قال في إعلاء السنن (2/ 159) فترك لفظة (الله أكبر) لا يبطل الصلاة، نعم يكره. اهـ. قال محقق شرح السنة (3/ 18) ولكنهم قالوا يجب تعيين لفظ (الله أكبر) ويكره تحريماً الافتتاح بغيره لمن يحسنه. اهـ. أما تكبيرات الانتقال عند الركوع والسجود والرفع منه للجلوس أو للقيام فهي ثابتة بإجماع الأمة إلا في الرفع من الركوع فإنه يقول (سمع الله لمن حمده)، وقد قال الحنابلة بوجوب التكبير، كوجوب (سمع الله لمن حمده)، وقول (ربي اغفر لي) بين السجدتين. وتكبيرات الانتقال عند جماهير العلماء أنها سنة وليست بواجب. - لا خلاف في استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لافتتاح الصلاة، بحيث تكون رسغاه تحاذي أعلى كتفيه، وإبهامه تحاذي أذنيه، وترفع المرأة يديها حذاء منكبيها فقط فلا تتجاوز أطراف أصابعها ذلك الموضع، لما أخرج البخاري في جزء رفع اليدين بسند رجاله ثقات عن عبد ربه بن سلمان بن عمير قال: (رأيت أم الدرداء رضي الله عنها ترفع يديها في الصلاة حذو منكبها) والقياس الجلي أن تكون المرأة كالرجل فإن كفيها ليستا
بعورة ولكن القياس الخفي يوافق الحديث فهذا أستر لها (انظر الإعلاء 2/ 157). وتسن إمالة أطراف الأصابع نحو القبلة لشرفها، والأصح عند الحنفية أنه يرفع يديه أولاً ثم يكبر وقال الحنفية والمالكية والشافعية: يسن نشر الأصابع نشراً خفيفاً فلا تضم كل الضم ولا تفرج كل التفريج، وقال الحنابلة: يستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع ويضم بعضها إلى بعض، ولا يسن عند الحنفية والمالكية رفع اليدين إلا عند تكبيرة الإحرام، وقال الشافعية والحنابلة: يسن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع، وقال النووي: يستحب الرفع أيضاً عند القيام من التشهد الأول، وما دام في السنية أو عدمها فالأمر واسع. - قال الحنابلة والشافعية والحنفية: يسن بعد تكبيرة الإحرام أن يضع المصلي يده اليمنى على ظهر كف ورسغ اليسرى، وصفة الوضع عند الحنابلة والشافعية أن يضع يده اليمنى على رسغ اليسرى أو ما يقاربه وعند الحنفية يجعل الرجل باطن كف اليمنى محلقاً بالخنصر والإبهام على الرسغ، أما المرأة فتضع يديها على صدرها من غير تحليق لأنه أستر لها، ويضعهما الرجل عند الحنابلة والحنفية تحت السرة واستدل الحنفية بعدد من الآثار في ذلك فقد سئل أبو مجلز كيف يضع قال: يضع كف يمينه على ظاهر كف شماله ويجعلها أسفل عن السرة، قال العلامة ابن التركماني: ومذهب أبي مجلز الوضع أسفل السرة حكاه أبو عمرو في التمهيد وجاء ذلك عنه بسند جيد، ويؤيده قول إبراهيم النخعي، وقول التابعي الكبير حجة عند الجمهور، وما ورد عن علي قوله: السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة، وقد حسن هذا الحديث بعض العلماء، كما روي وضع اليدين تحت السرة عن أبي هريرة.
والمستحب عند الشافعية أن يجعلهما تحت الصدر فوق السرة مائلاً إلى جهة اليسار واحتج الشافعية ومن وافقهم بحديث وائل بن حجر صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره وهذا الحديث جاء من طريق مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف والرواية الصحيحة لم تذكر عبارة على صدره (انظر الإعلاء 2/ 165 - 169). والمعمول به عند المالكية إرسال اليدين في الصلاة بوقار، وإنما اعتمدوا ذلك كي لا يظن العامي وجوب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. والخلاف في المذاهب الثلاثة حول سنية الهيئة في الوضع فالأمر واسع. - قال الحنفية: يوضع الوجه في السجود بين الكفين، وعند غير الحنفية توضع اليدان حذو المنكبين والجميع متفقون على أن الأصابع توجه مضمومة ومكشوفة نحو القبلة، ويعتمد الساجد على بطون الكفين أثناء السجود. يستحب عند بعض العلماء للمصلي حال قيامه أن ينظر إلى موضع سجوده، وإلى قدميه عند ركوعه، وإلى حجره في التشهد.
الفصل الرابع في الاستفتاح
الفصل الرابع في الاستفتاح 946 - * روى مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك، لا غله إلا أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك"، وإذا ركع قال: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي"، وإذا رفع رأسه قال: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين، ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت".
وإذاً معناه ليس ذلك مما يتقرب به إليك كقولهم: أنا منك وإليك أي معدود من جندك ومنتم إليك. (ابن الأثير) أو لا يضاف إليك على انفراده أو أن الشر لا يصعد إليك وإنما الكلم الطيب أو معناه أن الشر ليس شراً بالنسبة إليك فإنك خلقته بحكمة بالغة (شرح السنة). 947 - * روى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة كبر، ثم قال: "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت". 948 - * روى النسائي عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعاً قال: "الله أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين ... وذكر الحديث مثل جابر، إلا أنه قال. وأنا من المسلمين- ثم قال: اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك ثم يقرأ". أقول: إن تقييد الاستفتاح بصيغة التوجه في هذه الرواية لأنها في التطوع جعل الحنفية والحنابلة يأخذون بصيغة (سبحانك اللهم وبحمدك) في استفتاح الفريضة، ويرى الحنفية أن باب التطوع أوسع فيما تستفتح به الصلاة. 949 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
افتتح الصلاة قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا غله غيرك". 950 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي أذنيه يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". 951 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". 952 - * روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله قال: "سألت عائشة أم المؤمنين. بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". أقول: الملاحظ أن هذا كان في صلاة الليل وهي تطوع في حق غيره عليه الصلاة والسلام.
953 - * روى أبو داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمرو [بن مرة]: لا أدري أي صلاة هي؟ قال: "الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلا- ثلاثاً- أعوذ بالله من الشيطان: من نفخه، ونفثه وهمزه، قال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة". 954 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل إلى الصلاة كبر ثلاثاً، ثم قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاث مرات، ثم يقول: الله أكبر ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ثم يقرأ". أقول: إن حديث ابن خزيمة فسر الحديث السابق بأن ذلك من استفتاحه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل. 955 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل واستفتح صلاته وكبر قال: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه".
956 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من القائل كلمة كذا وكذا؟ " قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، قال: عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء، قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك"، إلا أن النسائي قال في رواية أخرى (1) له: "لقد رأيت ابتدرها اثنا عشر ملكاً". 957 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، إذ جاء رجل وقد حفزه النفس فقال: الله أكبر، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "أيكم المتكلم بالكلمات؟ " فأرم القوم، فقال: "إنه لم يقل بأساً"، فقال رجل: أنا يا رسول الله قلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها، أيهم يرفعها". وزاد أبو داود في بعض رواياته: "وإذا جاء أحدكم فليمش نحوه ما كان يمشي فليصل ما أدرك، وليقض ما سبقه". أقول: قوله عليه الصلاة والسلام: "وليقض ما سبقه" بنى عليه الحنفية أن المسبوق يقضي ما فاته ويترتب على ذلك مثلاً: لو أنه فاتته الركعة الأولى، فإنه يقرأ دعاء الاستفتاح ويتعوذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة وشيئاً من القرآن معها، وإذاً فهو يقضي ما فاته بإقامة كل ما يطلب في الفائتة.
958 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي، بالثلج والماء والبرد". وزاد أبو داود (1) والنسائي (2) في أول الدعاء قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب" .. والباقي مثله". قال الحافظ في الفتح: واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن، خلافاً للحنفية، ثم هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلامه حتى حفظ الله بهم الدين. 959 - * روى الترمذي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر ذلك عمران بن حصين، قال: حفظنا سكتة، فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة، فكتب أبي: أن حفظ سمرة، فقلنا لقتادة: ما هاتان السكتتان؟ قال: إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ (ولا الضالين) قال: فكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أني سكت حتى يتراد إليه نفسه". 960 - * روى أبو داود، قال سمرة: "حفظت سكتتين في الصلاة، سكتة إذا كبر الإمام حتى يقرأ، وسكتة إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع، قال: فأنكر ذلك عليه عمران بن حصين، فكتبوا في ذلك على المدينة إلى أبي، فصدق سمرة". وفي
رواية (1) "وسكتة إذا فرغ من القراءة" وفي أخرى (2) عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح، وإذا فرغ من القراءة ... ثم ذكر معناه". قال محقق شرح السنة (2/ 42) وفيه عنعنة الحسن ومع ذلك حسنه الترمذي وقال الشيخ شاكر (2/ 31) وهو حديث صحيح رواته ثقات وإنما حسنه الترمذي للخلاف في سماع الحسن من سمرة وقد سبق أن تكلمنا في ذلك وأثبتنا سماعه منه في شرح الحديث (182) والترمذي صحح أحاديث الحسن عن سمرة في كثير من المواضع. ا. هـ أقول: لا يكفي ثبوت السماع لكن ينبغي انتفاء التدليس. أقول: قوله في النص (حتى يتراد إليه نفسه) دليل على أن السكتة كانت خفيفة عادية، وأما السكتة الأولى فهي لقراءة دعاء الثناء والاستفتاح. قال في إعلاء السنن (4/ 108): وأما وجوب القراءة عند سكتات الإمام فلم يثبت بدليل صحيح مرفوع ... وقال في (حجة الله البالغة): الحديث الذي رواه أصحاب السنن ليس بصريح في الإسكاتة التي يفعلها الإمام لقراءة المأموم فإما أنها للتلفظ بآمين أو للتمييز بين الفاتحة وآمين أو سكتة لطيفة ليرد إلى القارئ نفسه واستغراب القرن الأول إياها يدل على أنها ليست سنة مستقرة ولا مما عمل به الجمهور ا. هـ ملخصاً. 961 - * روى ابن خزيمة عن فضالة بن عبيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي لم يحمد الله ولم يمجده، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا". فدعاه وقال له ولغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء".
أقول: الملاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإعادة الصلاة مما يدل على سنية ما تركه وهذا يوافق مذهب القائلين بسنية هذه الأمور، ومن خالف في ذلك وجه النص توجيهات أخرى.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - رأينا أن هناك صيغاً كثيرة في دعاء الاستفتاح والثناء، واستحب بعضهم الجمع بين جميع ذلك للمنفرد ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل، والأصل عند المالكية أن يبدأ المصلي بقراءة القرآن بعد التكبير مباشرة، وقال الجمهور بسنية دعاء الاستفتاح بعد التحريمة في الركعة الأولى، والمختار منها عند الحنفية والحنابلة صيغة (سبحانك اللهم وبحمدك ...) والمختار عند الشافعية صيغة (وجهت وجهي ... وأنا من المسلمين) وأجاز الإمام أحمد الاستفتاح بغير سبحانك اللهم مما فيه تمجيد، وأجاز الحنفية في النافلة الجمع بين الثناء والتوجه، لكن في صلاة الجنازة يقتصر على الثناء فقط، والشافعية توسعوا في سنية الجمع بين ما ورد. وإذا شرع الإمام في القراءة الجهرية أو غيرها، لم يكن للمقتدي عند الحنابلة والحنفية على المعتمد أن يقرأ الثناء. - قال المالكية: يكره التعوذ والبسملة قبل الفاتحة والسورة، وقال الحنفية: يتعوذ في الركعة الأولى فقط الإمام والمأموم والمنفرد، والمنفرد والإمام يتعوذان ويبسملان سراً في الركعة الأولى ويبسملان سراً في بقية الركعات، وقال الشافعية والحنابلة: يسن التعوذ سراً في أول كل ركعة قبل القراءة، ويجهر في الصلاة الجهرية عند الشافعية بالبسملة ولا يجهر بها عند غيرهم. والأمر بالنسبة للتعوذ واسع لأن الخلاف في السنية، وأما الخلاف في البسملة فالأمر فيه أضيق، لأن الذين يرون أن البسملة جزء من الفاتحة كالشافعية يبطلون الصلاة بتركها لفرضية قراءة الفاتحة عندهم على الإمام والمأموم والمنفرد.
الفصل الخامس في: القراءة
الفصل الخامس في: القراءة عرض إجمالي أصل القراءة ركن عند جميع الفقهاء لكنهم يختلفون في بعض التفصيلات فالركن عند الحنفية: هو قراءة آية من القرآن بمقدار ستة أحرف عند أبي حنيفة وثلاث آيات قصار أو آية طويلة بمقدار ثلاث آيات قصار عند الصاحبين للإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يقرأ شيئاً من القرآن، وقراءة الفاتحة وثلاث آيات قصار أو ما يعادلها في الركعتين الأوليين من الفرض، وفي كل ركعات الوتر والنفل واجب. وتكره القراءة للمأموم وراء الإمام، وقراءة الفاتحة فيما سوى الركعتين الأوليين من الفرض سنة لغير المأموم، فالإمام والمنفرد إن شاء قرأ بها وإلا سبحا بمقدارها على قول، ولو قرأ زيادة على الفاتحة لا حرج، وليست البسملة آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، لكن يقرأ المنفرد والإمام البسملة مع الفاتحة في كل ركعة سراً، ويسر الإمام والمأموم والمنفرد بالتأمين عندهم. وقال الشافعية: تتعين قراءة الفاتحة في كل ركعة للإمام والمأموم والمنفرد سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، فرضاً أو نفلاً، والبسملة عندهم آية من الفاتحة، وتشديدات الفاتحة الأربع عشرة شدة، لو خفف واحدة منها ولم يستدركها بطلت صلاته، وعند المالكية والحنابلة: لا يقرأ المأموم شيئاً وراء الإمام فيما يجهر به الإمام. وأما قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، فعند الجمهور أنها سنة وعند الحنفية واجب كما ذكرنا. وإن جهل إنسان الفاتحة أو عجز عنها أتى بقدرها من ذكر ودعاء، فإن لم يحسن شيئاً قرآناً وذكراً وقف بقدر قراءة الفاتحة، ويسن عند الحنابلة والشافعية أن يجهر الإمام والمأموم بالتأمين فيما يجهر فيه بالقراءة، ويخفيا فيما يخفي فيه القراءة. وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجزيء القراءة بغير العربية، لكن أجاز أبو حنيفة لعاجز
عن القراءة بالعربية أن يقرأ الفاتحة بغير العربية. قال الحنابلة: إن ترك المصلي التأمين نسياناً أو عمداً حين شرع في قراءة السورة، لم يأت به لأنه سنة فات محلها، وقال العلماء يؤمن المأموم مع تأمين إمامه. يرى الشافعية: أن يسكت الإمام في الصلاة الجهرية بعد التأمين بقدر ما يقرأ المأموم الفاتحة ويسن للإمام أن يشتغل أثناء السكتة بدعاء أو قراءة سراً، والقراءة أولى، فالمراد بالسكوت عدم الجهر. ويطول الإمام بالركعة الأولى أكثر من الثانية ليدرك الصلاة من أولها أكبر قدر من الناس. قال الحنفية: ولا بأس أن يقرأ سورة ويعيدها في الثانية، ومن أي مكان من القرآن قرأ أجزأه، ويجب أن يقرأ على ترتيب القرآن، وإذا قرأ سورة، فالمستحب أن يقرأ التي بعدها أو يفصل بينها وبين ما يقرأ في الثانية بأكثر من سورة، ولا يكره عدم الترتيب، ولا عدم الفصل في النفل. وقد اتفق الفقهاء على أنه يجهر في الصبح وأوليي المغرب والعشاء والجمعة والعيدين، ووتر رمضان ويسر الإمام والمنفرد عند الحنفية في صلاة الكسوف والاستسقاء، وأما النوافل الليلية فهو مخير فيها وكذلك يخير المنفرد بين الجهر والإسرار في الصلاة الجهرية أداءً أو قضاءً، وفي وقتها أو غير وقتها، إلا أن الجهر أفضل في الجهرية ليلاً، أما الصلاة السرية كالظهر والعصر فيجب على المنفرد والإمام أن يسرا بها، وحيث ما سن الجهر عند الشافعية فإن المرأة تجهر دون جهر الرجل إن لم تكن بحضرة أجانب. ويراعي الإمام حال المأمومين فإذا كان الإمام يصلي بجماعة معروفين يرضون بالتطويل، صلى في الفجر بطوال المفصل أو ما يعادلها، وصلى عند الحنابلة في الظهر بأوساط المفصل، وعند الجمهور يصلي في العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل، وقال المالكية يصلي بالعصر بقصار المفصل كذلك. وطوال المفصل عند الحنفية من سورة الحجرات إلى آخر البروج. وأوساط المفصل من الطارق إلى أول البينة، وقصار المفصل من البينة إلى آخر القرآن الكريم.
- حكم الإسرار بالبسملة
وأقل الجهر عند المالكية أن يسمع من يليه، وأقل سره حركة اللسان، أما المرأة فجهرها إسماع نفسها، وقال الشافعية والحنابلة: أقل الجهر أن يسمع من يليه ولو واحداً وأقل السر أن يسمع نفسه، وقال الحنفية أقل الجهر إسماع غيره مما ليس بقربه كأهل الصف الأول فلو سمع واحد أو اثنان لا يجزئه، وأقل المخافتة إسماع نفسه أو من يقربه من رجل أو رجلين. انظر (الدر المختار 1/ 300)، (الشرح الصغير 1/ 309)، (المغني 1/ 476 و 1/ 562)، (الفقه الإسلامي 1/ 645 وبعدها) وإلى نصوص هذا الفصل: - حكم الإسرار بالبسملة: 962 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وفي رواية (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. ولمسلم (2): أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. قال: وقال الأوزاعي عن قتادة: أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه: أنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها. وفي رواية للنسائي (3)، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا: بسم الله الرحمن الرحيم".
أقول: عدم قراءة البسملة في النص يراد به عدم الجهر بها، وقد حمله المالكية على ظاهره، لذلك كرهوا أن يقرأ المصلي التعوذ والبسملة، والنصوص الأخرى لا تؤيدهم فيما ذهبوا إليه. والسنة عند الحنفية والحنابلة الإسرار بالبسملة قبل الفاتحة، والسنة عند الشافعية الجهر بها في الجهرية والإسرار بها في السرية. 963 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان يختمها بالتسليم. 964 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض في الركعة الثانية: استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت". وذهب قوم إلى أنه يجهر بالتسمية للفاتحة والسورة جميعاً ومن قال بالجهر بالبسملة قال بذلك لكونها من القرآن واستدل بما يلي: 965 - * روى مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت علي آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: (إنا أعطيناك الكوثر) حتى ختمها. قال: هل تدرون ما الكوثر؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة". قال البغوي: ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم إلى ترك الجهر بالتسمية بل يسر بها. 966 - * روى أحمد عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله
- قراءة الفاتحة في الصلاة
الرحمن الرحيم، فقال: أي بني إياك والحدث، قد صليت مع النبي؛ ومع أبي بكر، ومع عمر، ومع عثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقولها، فلا تقلها إذا أنت صليت، فقل: الحمد لله رب العالمين. وأول الشافعي حديث أنس: كانوا يستفتحون الصلاة بـ (الحمد لله رب العالمين) معناه: أنهم كانوا يبدؤون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، ليس معناه أنهم كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم. شرح السنة (3/ 55). قال الإمام الزيلعي في (نصب الراية 1/ 327): والمذاهب في كون البسملة من القرآن ثلاثة: طرفان، ووسط، فالطرف الأول قول من يقول: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، كما قاله مالك وطائفة من الحنفية، وقاله بعض أصحاب أحمد مدعياً أنه مذهبه أو ناقلاً لذلك رواية عنه، والطرف الثاني المقابل له قول من يقول: إنها آية من كل سورة، أو بعض آية، كما هو المشهور عن الشافعي ومن وافقه، فقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة، وإنما يستفتح بها في السور تبركاً بها، والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت وأنها مع ذلك ليست من السور بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة في أول كل سورة، كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه (إنا أعطيناك الكوثر) وهذا قول ابن المبارك، وداود، وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد، وبه قال جماعة من الحنفية، وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة، وهذا قول المحققين من أهل العلم، فإن في هذا القول الجمع بين الأدلة، وكتابتها سطراً مفصلاً عن السورة يؤيد ذلك، وانظر (بداية المجتهد 1/ 124). - قراءة الفاتحة في الصلاة: 967 - * روى الجماعة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وزاد أبو داود: "فصاعداً" قال: وقال سفيان: "لمن يصلي وحده" وزاد النسائي أيضاً في رواية له: "فصاعداً". أقول: حمل الحنفية هذا النص على أن المراد لا صلاة كاملة إلا بفاتحة الكتاب، بدليل النص الذي يذكر كلمة الخداج فيمن لم يقرأ سورة الفاتحة، ولذلك اعتبروا قراءتها واجبة على الإمام والمنفرد حيث أوجبوا قراءتها، أما المأموم فلا يقرأ عندهم شيئاً ما دام وراء الإمام، وأسقطوا قراءتها على من كان مقيماً وصلى وراء مسافر، فإذا أتم المقيم صلاته بعد انتهاء صلاة المسافر المقصورة، فإنه لا يقرأ الفاتحة. 968 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، يقولها ثلاثاً"- وفي رواية (1): فهي خداج، ثلاثاً، غير تمام- فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل"- وفي رواية (2):
"فنصفها لي، ونصفها لعبدي- فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال: مجدني عبدي"- وقال مرة: "فوض إلي عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل". وفي رواية الترمذي (1) وأبي داود (2)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج"، غير تمام، قال أبو السائب- مولى هشام بن زهرة- قلت: يا أبا هريرة، إني أحياناً أكون وراء الإمام؟ قال: فغمز ذراعي، ثم قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي ... وساق نحو ما تقدم، وقال في آخرها: "هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل". وفي أخرى لأبي داود (3)، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرج فناد في المدينة: إنه لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد". وفي رواية للترمذي (4) ولأبي داود (5): "أمرني أن أنادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب"
- القراءة خلف الإمام
زاد أبو داود: "فما زاد". أقول: سؤال السامع لأبي هريرة: (إنا نكون وراء الإمام) دليل على أنه كان مشهوراً عندهم أن الصلاة وراء الإمام لا قراءة فيها، ثم إن قول أبي هريرة: (اقرأ بها في نفسك) دليل عند الحنفية على عدم القراءة وراء الإمام لأن القراءة في النفس تعني القراءة في القلب ولا تعتبر هذه قراءة عندهم. 969 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر". أقول: قال الحنفية إن قراءة الفاتحة وسورة قصيرة أو ما يعادلها في الركعتين الأوليين من الفريضة واجبان وعلى هذا حملوا مثل هذا النص، قراءة الفاتحة وشيء معها واجب عندهم في كل ركعات النفل. واستدل بهذا الحديث على أن البسملة ليست جزءاً من الفاتحة. - القراءة خلف الإمام: 970 - * روى أحمد عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم"! قال: قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". أقول: استدل بهذا الحديث على وجوب القراءة على المأموم في السرية والجهرية ولم يأخذ به من قال بعدم القراءة في الجهرية للآية: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم
ترحمون) (1) وبآثار عديدة تنهى عن القراءة خلف الإمام فحملها المالكية والحنابلة فيما جهر به وجعلها الحنفية عامة، وقد ناقش صاحب إعلاء السنن في صحة هذا الحديث من الناحية الحديثية والفقهية ومما قاله: الحديث مضطرب الإسناد رواه الأوزاعي عن مكحول عن عبد الله بن عمرو ... وفي التمهيد خولف فيه ابن إسحق فرواه الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حيوة عن عبد الله بن عمرو. ورواه الطحاوي في أحكام القرآن من حديث رجاء عن محمود فأوقفه على عبادة. وقال: ورواه مكحول مرة عن عبادة بن الصامت مرسلاً وأخرى عن نافع بن محمود عن عبادة، وتارة عن محمود عن أبي نعيم أنه سمع عبادة ... ولا يدري أبو نعيم، وقال مكحول مرة عن نافع عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت. ثم قال: والصحيح من حديث محمود هو طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت مرفوعاً (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) بدون هذه القصة. أخرجه البخاري. إلى آخر هذه المناقشة (انظرها 4/ 101 - 107). ثم أجاب عن حديث عبادة على طريقة الفقهاء فكان مما قاله: إنه لا يدل على الوجوب بل على الإباحة فحسب، لأن الاستثناء من الحظر يفيد الإباحة والإطلاق، ثم أورد آثاراً تؤيد هذا. وقال بعد ذلك: لو سلم دلالته على الوجوب فإنه يدل على وجوب القراءة على المأمومين وإن جهر بها الإمام، وكذلك يدل على أنه لا بأس بقراءتهم مع قراءة الإمام ولا بمنازعة القرآن إياه فيعارض قول الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وما أخرجه مسلم وغيره من حديث (إذا قرأ فأنصتوا) وما رواه أبو هريرة من حديث النبي عن
المنازعة فعند التعارض يرجح النص وما هو أصح في الباب من الأخبار اهـ. ملخصاً. أقول: وقوله النص: هو اللفظ الواضح الدلالة على المعنى الذي سيق الكلام من أجله ويحتمل التخصيص والتأويل والنسخ في عهد الرسالة وهو يرجح على الظاهر، والظاهر: هو كل لفظ أو كلام ظهر المعنى المراد به للسامع بصيغته من غير توقف على قرينة خارجية أو تأمل سواء أكان مسوقاً للمعنى المراد منه أم لا. واستدل أيضاً من قال: لا يقرأ في الجهرية ويقرأ في السرية بما. 971 - * روى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ معي أحد منكم آنفاً"؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أقول: ما لي أنازع القرآن"؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البغوي (2/ 85): وذهب إلى أنه لا يقرأ أحد خلف الإمام سواء أسر الإمام أو جهر، يروى ذلك عن زيد بن ثابت وجابر. ويروى عن ابن عمر: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام وبه قال سفيان الثوري، وأصحاب الرأي، واحتجوا بحديث أبي هريرة (ما لي أنازع القرآن) اهـ. (شرح السنة 3/ 82) وتحقيقات الشيخ شعيب عليه. (1) أخرجه الطحاوي في (معاني الآثار 1/ 129) من حديث عبيد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، فقالوا: (لا تقرؤوا خلف الإمام في شيء من الصلوات) وإسناده صحيح.
(2) رواه مالك في (الموطأ) 1/ 86 في الصلاة: باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به، وإسناده صحيح، وروى ابن أبي شيبة، وأحمد 3/ 339، والدارقطني ص 123، والطحاوي 1/ 128 من عدة طرق عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". وهو حديث حسن بطرقه وشواهده، انظر (نصب الراية) 2/ 7، 12، و (إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام) للكنوي. اهـ شعيب. ولما كان بعض الناس يحملون على الحنفية ويرمونهم بما ليس فيهم أنقل لك مجملاً موجزاً لأدلتهم في عدم القراءة وراء الإمام: استدل الحنفية بالكتاب والسنة والقياس، أما الكتاب فقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) أخرج البيهقي عن الإمام أحمد قال: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة. وأخرج عن مجاهد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار فنزل: (وإذا قرئ القرآن الآية). وعلى فرض أن الآية لم تنزل في الصلاة فالعبرة كما قرر الأصوليون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والآية تطلب من المكلفين استماعاً هو خاص بالجهرية وإنصاتاً وهو يعم السرية والجهرية فيجب على المخاطبين أن يستمعوا فيما يجهر به وأن ينصتوا فيما يسر به وكان مقتضى ذلك أن يكون الاستماع فرضاً تركه حرام. لكن العمومات القاضية بطلب القراءة من كل مصلٍ جعلت دلالة الآية ظنية مقيدة للوجوب الذي يوجب مخالفته كراهة التحريم. أما السنة، فمنها، ما رواه أبو حنيفة عن عبد الله بن شداد عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة. وهذا عام كما ترى فيشمل الجهرية والسرية. ويؤيده ما جاء في إحدى رواياته أن رجلاً قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في الظهر أو العصر. فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة، فلما انصرف أقبل عليه الرجل وقال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعا حتى ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى خلف إمام الحديث"، فهذه
القصة تدل على منع القراءة لأن جواب النبي صلى الله عليه وسلم فيها خرج تقرير النهي للصحابي عن القراءة في الصلاة وقد كانت الصلاة سرية، وإذا تقرر النهي في السرية فمن باب أولى يتقرر في الجهرية وهذا الحديث قد رفعه عدد من المحدثين بطرق صحيحة ورواه أحمد عن جابر بإسناد قال فيه: إسناد صحيح متصل رجاله كلهم ثقات، ومنها ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا". صححه مسلم. ومنها ما روي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه سبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال: "أيكم قرأ أو أيكم القارئ" فقال الرجل: أنا، فقال: "لقد ظننت أن بعضكم خالجنيها"، متفق عليه، ومعنى خالجنيها نازعنيها، وهذا الكلام يدل على إنكار القراءة وإذا أنكرت في الظهر وهي صلاة سرية ففي الجهرية أولى. هذا، وقد وردت آثار عن كثير من الصحابة وكلها صريحة في المنع عن القراءة فعن علي: ليس على الفطرة من قرأ خلف الإمام، وعن ابن مسعود- وقد سئل عن القراءة خلف الإمام- أنه قال: أنصت فإن في الصلاة شغلاً ويكفيك الإمام، وعنه: أن من قرأ خلف الإمام ملئ فوه تراباً وعن سعد بن أبي وقاص: وددت الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة. وأما القياس فقالوا: لو وجبت على المأموم لما سقطت عن المسبوق كسائر الأركان فقاسوا قراءة المؤتم. على قراءة المسبوق في حكم السقوط فتكون غير مشروعة والاشتغال بغير المشروع مكروه. (انظر مقارنة المذاهب في الفقه ص 25 - 26 للسارس) هذا، وقد أطال وأجاد وأفاد الإمام ظفر التهانوي في إعلاء السنن في بيان أدلة الحنفية في هذه المسألة فبلغ عشرات الصفحات، ثم قال (4/ 89 - 93): وبعد ذلك كله فاعلم أن قول أصحابنا بكفاية قراءة الإمام، وعدم افتراض القراءة،
ووجوبها على المأموم خلفه في غاية القوة. وكذا قولهم بكراهة القراءة أو حرمتها مع قراءة الإمام في الجهرية بحيث يخل بالاستماع، ووجوب السكوت عنه ذلك في غاية الوثاقة. ولذا تراهم لم يختلفوا في ذلك بل اتفقوا على ذلك بأسرهم، وأما قولهم بكراهة مطلق القراءة أو حرمتها في الجهرية ولو في حالة السكتات، وكذا بكراهة القراءة في السرية، فإنه وإن كان عندهم عليه دليل كما عرضنا عليك فيما سبق بالتفصيل ولكن لا يخلو الاحتجاج به عن قال وقيل، ولذلك اختلف أقوال أصحابنا في القراءة خلف الإمام في السكتات في الجهرية وفي السرية مطلقاً. قال في إمام الكلام (ص: 30) وفي المفيد والمزيد: لو قرأ خلف الإمام للاحتياط فإن كان في صلاة الجهر يكره إجماعاً، وفي المخافة قيل: لا يكره، والأصح أنه يكره، وكذا في الذخيرة، لكن نقل عن جدي شيخ الإسلام إمام أئمة الأعلام في العالم محي مراسم الدين بين الأمم الماحي بسطوته سياط البدع وآثار الظلم السعيد الشهيد نظام الملة والدين عبد الرحيم المشهور بين الأنام بشيخ التسليم وهو مجتهد في مذهب أبي حنيفة باتفاق علماء ما وراء النهر، وخراسان أنه كان يقول: يستحب للاحتياط فيما يروى عن محمد ويقول: لو كان في فمي جمرة يوم القيامة أحب إلي من أن يقال: (لا صلاة لك) انتهى ملخصاً اهـ. وفيه (ص: 31) وفي شرح النقاية للبرجندي عن الإمام أبي حفص الكبير أنه لا يكره قراءة المؤتم في صلاة لا يجهر فيها، وقيل: على قول محمد لا يكره، وعلى قولهما يكره، وهو الأصح اهـ. وفيه (ص: 32) ناقلاً عن الهداية: ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد، ويكره عندهما لما فيه الوعيد انتهى. وقال في غيث الغمام: وذكر الشعراني أن هذه الرواية (أي استحسان القراءة في السرية) هي التي رجع إليه محمد وأبو حنيفة حيث قال: لأبي حنيفة ومحمد قولان، أحدهما عدم وجوبها على المأموم، بل ولا تسن، وهذا قولهما القديم، وأدخله محمد في تصانيفه القديمة، وانتشرت النسخ إلى الأطراف. وثانيها استحسانها على سبيل الاحتياط وعدم كراهتها عند المخالفة للحديث المرفوع (لا تفعلوا إلا بأم القرآن) إلى أن قال: فرجعا من قولهما الأول إلى الثاني احتياطاً. انتهى. لكن كتب الحنفية أكثرها خالية عن ذكر الرجوع ولو ثبت ذلك كان قاطعاً للنزاع اهـ
- ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة
مخلصاً (ص: 156). ثم قال صاحب الإعلاء: ولم أظفر بهذا الكلام في كتب العلامة الشعراني من الميزان، وكشف الغمة ورحمة الأمة، فلعله في كتب غيرها والله أعلم. وظني أن أقوى المسالك في المسئلة هو ما روي عن محمد، واختاره بعض المشائخ الأعلام وهو وإن كان ضعيفاً رواية، فهو قوي دراية، وبه تجتمع الآثار المروية كلها في هذا الباب، ولما جوز محمد القراءة في السرية، فأرجو، أن تجوز عنده في الجهرية أيضاً في حالة السكتات إذا وجدها المأموم، لعدم الفرق بينهما. اهـ. - ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة: 972 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي، فقال: "اقرؤوا فكل حسن، وسيجئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه". 973 - * روى أبو داود عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني، قال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" قال: يا رسول الله هذا لله، فما لي؟ قال: "قل: اللهم الرحمني، وعافني، واهدني، وارزقني" فلما قام قال هكذا بيده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد ملأ يديه من الخير".
قال البغوي: الواجب في الصلاة قراءة الفاتحة، فإن لم يحسنها ويحسن غيرها من القرآن فعليه أن يقرأ سبع آيات من غيرها، فإن لم يحسن من القرآن شيئاً، فعليه أن يأتي ببدلها من التسبيح والتحميد كما أمر به صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم. (شرح السنة 3/ 89).
القراءة في صلاة الفجر
- كما يقرأ في الصلوات وماذا يقرأ؟: القراءة في صلاة الفجر: 974 - * روى الشيخان عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة". 975 - * روى مسلم عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: "كأني الآن أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة: (فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس) (1). وفي رواية (2) النسائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقرأ في الفجر: (إذا الشمس كورت). أقول: ما زاد على الفاتحة والثلاث آيات قصيرة بعدها يتحقق به شيء من السنة عند الحنفية والإمام يراعي حال المأمومين كما ذكرنا، وهذا النص ونصوص أخرى حول ما كان يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر من أواسط المفصل أو قصاره يدل على ذلك وقراءة ما سوى الفاتحة عند الجمهور تعتبر سنة.
976 - * روى مسلم عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: "صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة (المؤمنين) حتى جاء ذكر موسى وهارون- أو ذكر عيسى- شك الراوي، أو اختلفوا عليه- أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة، فركع، وعبد الله بن السائب حاضر ذلك- وفي رواية (1): فحذف، فركع". 977 - * روى النسائي عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: "ما أخذت (ق. والقرآن المجيد) إلا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصلي بها في الصبح". 978 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ (ق. والقرآن المجيد) ونحوها، وكانت صلاته إلى تخفيف". 979 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة (ألم تنزيل السجدة)، و (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين". 980 - * روى الشيخان عن أبي هريرة مثله في صلاة الفجر ولم يذكر صلاة الجمعة. أقول: قراءة ألم السجدة، وسورة الدهر في فجر الجمعة سنة إلا أن الحنفية خشوا على العامة أن يظنوا المثابرة على ذلك علامة وجوب فاستحبوا للإمام ألا يقرأ بهما بين الفينة والفينة لأن اعتقاد ما ليس واجباً أنه واجب نوع ابتداع إذ لم يقل بوجوبه أحد من الأئمة.
981 - * روى مالك عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: "أن أبا بكر الصديق صلى الصبح، فقرأ فيها بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما". 982 - * روى البزار عن أبي هريرة قال قدمت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ورجل من بني غفار يؤم الناس فقرأ في الركعة الأولى بسورة مريم وفي الثانية (ويل للمطففين) أحسبه قال في صلاة الفجر. 983 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "قرأ في الأولى من الصبح بأربعين آية من (الأنفال)، وفي الثانية بسورة من المفصل". 984 - * روى مالك عن عامر بن ربيعة قال: "صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح، فقرأ فيها بسورة (يوسف)، وسورة (الحج)، قراءة بطيئة، قيل له: إذاً لقد كان يقوم حين يطلع الفجر؟ قال: أجل". 985 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كان يقرأ في الصبح في السفر بالعشر السور الأول من المفصل: في كل ركعة بأم القرآن وسورة". 986 - * روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قرأ في الركعة الأولى من الصبح مائة وعشرين آية من (البقرة)، وفي الثانية بسورة من المثاني".
- القراءة في الظهر والعصر
أقول: المثاني في اجتهادي كما ذكرت ذلك في التفسير تبدأ بسورة العنكبوت وتنتهي بسورة (ق). 987 - * روى البخاري عن الأحنف بن قبس: قرأ في الأولى بـ (الكهف)، وفي الثانية بـ (يوسف) - أو يونس- وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما". 988 - * روى أبو داود عن معاذ بن عبد الله الجهني: "أن رجلاً من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما، فلا أدري أنسي، أم قرأ ذلك عمداً". - القراءة في الظهر والعصر: 989 - * روى الشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين: بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً، ويطيل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح- وفي رواية (1) كذلك-. وفي رواية أبي داود (2) والنسائي (3)، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً، وكان يطول الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح".
وفي أخرى (1) لأبي داود ببعض هذا، وزاد في الأخريين بفاتحة الكتاب، قال: وكان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية، وهكذا في صلاة العصر، وهكذا في صلاة الغداة". زاد في رواية (2): "فظننا أنه يريد بذلك: أن يدرك الناس الركعة الأولى". وفي أخرى للنسائي (3) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر، فيقرأ في الركعتين الأوليين، يسمعنا الآية كذلك، وكان يطيل الركعة الأولى في صلاة الظهر، والركعة- الأولى يعني: في الصبح". 990 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. وقال: كنت أحسب زماناً أن هذا الخبر في ذكر قراءة فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر لم يروه غير أبان بن يزيد وهمام بن يحيى على ما كنت أسمع أصحابنا من أهل الآثار يقولون، فإذا الأوزاعي مع جلالته قد ذكر في خبره هذه الزيادة. قال النووي في شرح مسلم (4/ 175): قوله وكان يسمعنا الآية أحياناً: هذا محمول على أنه أراد به بيان جواز الجهر في القراءة السرية وأن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة بل هو سنة ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر والله أعلم. وقال في إعلاء السنن (4/ 3) بوجوب الجهر في الجهرية والسر في السرية (انظره). 991 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نحرز قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر: قدر (الم تنزيل السجدة)، وحزرنا قيامه من الأخريين: قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في
الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر: على النصف من ذلك. وفي رواية (1): "قدر ثلاثين آية". بدل قوله: (آلم تنزيل). وفي أخرى (2): "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين: قدر خمس عشرة آية- أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين، في كل ركعة: قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين: قدر نصف ذلك". وفي رواية (3) أبي داود، قال: "حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر: على قدر الأخريين من الظهر، وحزرنا قيامه في الأخريين من العصر: على النصف من ذلك". 992 - * روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان، فكان يطول الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بـ (الشمس وضحاها) وبأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين". قال البغوي (4/ 174): فالسنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل وتكون الصبح أطول وفي العشاء والعصر بأوساطه وفي المغرب بقصاره، قالوا والحكمة في إطالة الصبح والظهر أنها في وقت غفلة، بالنوم آخر الليل وفي القائلة فيطولهما ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها، والعصر ليس كذلك بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت عن ذلك والمغرب ضيقة الوقت، ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم والعشاء في وقت غلبة النوم والنعاس ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر والله أعلم .. اهـ. 993 - * روى أبو داود عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقرأ في الظهر والعصر بـ (السماء ذات البروج) (والسماء والطارق) ونحوهما من السور". 994 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ (الليل إذا يغشى) وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك. وفي أخرى (1): "كان يقرأ في الظهر بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الصبح بأطول من ذلك". 995 - * روى النسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كنا نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآيات من (لقمان) و (الذاريات). 996 - * روى مالك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: "ما من المفصل- سورة صغيرة ولا كبيرة- إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة". أقول: من أدب المسلم أن يحفظ المفصل وأن يبدأ بتحفيظه للأولاد، وعندي كما رجحت ذلك في التفسير أن المفصل يبدأ بالذاريات وينتهي بنهاية القرآن. 997 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن شقيق العقيلي، قال: قلت لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور في الركعة؟ قالت: المفصل. هذا حديث وكيع.
وقال الدورقي في حديثه، قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: إذا جاء من مغيبة. قلت: أكان يقرن السور؟ قالت: المفصل. قلت: أكان يصلي جالساً؟ قالت: بعد ما حطمه الناس. أقول: صلاته جالساً عليه الصلاة والسلام كانت في صلاة النافلة أو إذا كان مريضاً. 998 - * روى الطبراني عن الأغر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة الروم. 999 - * روى مسلم عن أبي سعيد: لقد كانت صلوة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها. 1000 - * روى أحمد عن ابن جبير قال: فحزرنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات. 1001 - * روى أحمد عن أبي العالية قال أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل سورة حظها من الركوع والسجود" قال: ثم لقيته بعد فقلت إن ابن عمر كان يقرأ في الركعة بالسور فهل تعرف من حدثك بهذا الحديث قال إني لأعرفه وأعرف منذ كم حدثنيه، حدثني منذ خمسين سنة. معنى (لكل سورة حظها) هو: أن يركع ويسجد لكل سورة ويتأتى ذلك إذا قرأ في
- القراءة في المغرب
كل ركعة سورة تامة ويؤيده رواية الطحاوي لكل سورة ركعة، فالأفضل أن يقرأ بعد الفاتحة بسورة تامة. والجمع بين السورتين في ركعة من الفرض يجوز عندنا (أي الحنفية) ولكن ينبغي أن لا يفعل ذلك (إعلاء السنن). - القراءة في المغرب: 1002 - * روى الشيخان عن أم الفضل رضي الله عنها قالت: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: (المرسلات عرفاً) ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله". وفي أخرى (1): "ثم ما صلى بعد، حتى قبضه الله عز وجل". وفي أخرى (2)، قال ابن عباس: "إن أم الفضل سمعته يقرأ (والمرسلات عرفاً) فقالت: يا بني، لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب". 1003 - * روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولي الطوليين؟ " وزاد أبو داود (3) قال: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: (الأعراف). قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة؟ فقال لي من قبل نفسه (المائدة) و (الأعراف). وفي رواية (4) النسائي، قال: "ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السور، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بأطول الطوليين؟ قلت: يا أبا عبد الله، ما أطول الطوليين؟
قال: الأعراف) ". وفي أخرى (1) له: أنه قال لمروان: يا أبا عبد الملك، أتقرأ في المغرب بـ (قل هو الله أحد) و (إنا أعطيناك الكوثر)؟ قال: نعم، قال: فمحلوفه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بأطول الطوليين: (المص) ". 1004 - * روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلى المغرب بسورة (الأعراف)، فرقها في ركعتين". أقول: إن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعراف لم تكن سنة دائمة له عليه الصلاة والسلام، فلعلها لتبيان جواز الإطالة في المغرب إذا كان المأمومون يتحملون ذلك، وفعل مروان في الاقتصار على قصار المفصل في المغرب ليس فيه ما يعاب عليه. 1005 - * روى الشيخان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ (الطور) ". زاد في رواية (2): "فلما بلغ هذه الآية (أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون؟ أم خلقوا السموات والأرض؟ بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك، أم هم المسيطرون؟) (3) كاد قلبي أن يطير". وفي رواية (4): "أن جبير ابن مطعم- وكان جاء في أسارى بدر- ... وذكر الحديث". 1006 - * روى النسائي عن عبد الله بن عتبة بن مسعود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في
- القراءة في صلاة العشاء
صلاة المغرب بـ (حم الدخان) ". 1007 - * روى مالك عن عبد الله الصنابجي قال: "قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق، فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن، وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه، حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه، فسمعته قرأ بأم القرآن، وبهذه الآية (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب) (1). أقول: هذا دليل لما ذهب إليه الحنفية أن قراءة شيء من القرآن زائد على الفاتحة فيما سوى الركعتين الأوليين من الفريضة لا حرج فيه. وقال النووي: 4/ 174: وأما اختلاف الرواية في السورة في الأخريين فلعل سببه ما ذكرناه من اختلاف إطالة الصلاة وتخفيفها بحسب الأحوال وقد اختلف العلماء في استحباب قراءة السورة في الأخريين من الرباعية والثالثة من المغرب فقيل بالاستحباب وبعدمه وهما قولان للشافعي اهـ. - القراءة في صلاة العشاء: 1008 - * روى الترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء بـ (الشمس وضحاها) ونحوها من السور". وعند النسائي: وأشباهها من السور. 1009 - * روى الشيخان عن البراء عن عازب رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسل كان في سفر، فصلى العشاء الآخرة، فقرأ في إحدى الركعتين بـ (التين والزيتون) فما سمعت
- من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في القراءة
أحداً أحسن صوتاً، أو قراءة، منه صلى الله عليه وسلم". - من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في القراءة: 1010 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح بـ (قل هو الله أحد) حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك لتفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى؟ فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: "يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة كل ركعة؟ " قال: إني أحبها، قال: "حبك إياها أدخلك الجنة". 1011 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ (قل: هو الله أحد) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه: لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه؟ فقال:
لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه". 1012 - * روى الشيخان عن شقيق بن سلمة قال: "جاء رجل يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله بن مسعود، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف: ألفاً تجده، أم ياء (من ماء غير آسن) (1) أو (من ماء غير ياسن)؟ فقال له عبد الله: أو كل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في كل ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر، إن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، سورتين في كل ركعة، ثم قام عبد الله، فدخل علقمة في إثره، فقلنا له: سلة عن النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في كل ركعة، فدخل عليه، فسأله؟ ثم خرج علينا، فقال: عشرون سورة من أول المفصل، على تأليف عبد الله، آخرهن من الحواميم (حم الدخان)، و (عم يتساءلون؟). وفي رواية أبي داود (2) عن علقمة، والأسود، قالا: "أتى ابن مسعود رجل، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: هذا كهذ الشعر، ونثراً كنثر الدقل؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر، السورتين في ركعة (الرحمن) و (النجم) في ركعة، و (اقتربت) و (الحاقة) في ركعة، و (الطور) و (الذاريات) في ركعة، و (إذا وقعت) و (ن) في ركعة، و (سأل سائل) و (النازعات) في ركعة، و (ويل للمطففين) و (عبس) في
ركعة، و (المدثر) و (المزمل) في ركعة، و (هل أتى) و (لا أقسم بيوم القيامة) في ركعة، و (عم يتساءلون) و (المرسلات) في ركعة، و (الدخان) و (إذا الشمس كورت) في ركعة. وقال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود. وفي رواية أخرى (1) لمسلم عن شقيق: (قال عبد الله: إن لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشرين سورة في عشر ركعات، ثم أخذ بيد علقمة، فدخل، ثم خرج إلينا علقمة، فسألناه؟ فأخبرنا بهن). أقول: قراءة: (ياسن) قراءة شاذة لأنها تخالف رسم المصحف، وقراءة: (آسن) هي القراءة المتواترة، فهذا الجواب الصحيح على سؤال الرجل، وابن مسعود كان يرتب مصحفه ترتيباً فيه انفرادات، وقد أجمعت الأمة على الترتيب العثماني للمصحف، وجمهور العلماء على أن هذا الترتيب توقيفي من الشارع، ومن علم حجة على من لا يعلم، وعلى جلالة قدر ابن مسعود في العلم، فإنه قد يفوته ما عند غيره. قال النووي في شرح مسلم (6/ 104): عند قوله (كل القرآن قد أحصيت غير هذا الحرف): هذا محمول على أنه فهم منه أنه غير مسترشد في سؤاله إذ لو كان مسترشداً لوجب جوابه وهذا ليس بجواب .. فقال الرجل: إني لأقرأ المفصل في كل ركعة فقال ابن مسعود: هذاً كهذ الشعر معناه أن الرجل أخبر بكثرة حفظه وإتقانه فقال ابن مسعود: تهذه هذاً وهو شدة الإسراع والإفراط في العجلة وهذا حث على الترتيل والتدبر. وقوله إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم: معناه أن قوماً ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم وليس ذلك المطلوب. وقوله عشرون سورة في عشر ركعات: قال القاضي هذا صحيح موافق لرواية عائشة
وابن عباس أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم كان إحدى عشرة ركعة بالوتر وأن هذا كان قدر قراءته غالباً وأن تطويله الوارد إنما كان في التدبر والترتيل وما ورد من غير ذلك في قراءته البقرة والنساء وآل عمران كان في نادر الأوقات. اهـ ملخصاً. 1013 - * روى مالك عن حفصة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة في الصلاة، فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها". 1014 - * روى مسلم عن (جابر) رفعه: أفضل الصلاة طول القنوت. 1015 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة يقول: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان لأمير كان بالمدينة. قال سليمان: فصليت أنا وراءه، فكان يطيل في الأوليين ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، وكان يقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، وفي الأوليين من العشاء بوسط المفصل، وفي الصبح بطول المفصل. قال ابن خزيمة: هذا الاختلاف في القراءة من جهة المباح، جائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها التي يزاد على فاتحة الكتاب فيها بما أحب وشيئاً من سور القرآن، ليس بمحظور عليه أن يقرأ بما شاء من سور القرآن غير أنه إذا كان إماماً، فالاختيار له أن يخفف في القراءة ولا يطول بالناس في القراءة فيفتنهم كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: أتريد أن تكون فتاناً، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة أن يخففوا الصلاة، فقال: من أم منكم الناس فليخفف اهـ. قال النووي (4/ 174): قال العلماء كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة
والتخفيف باختلاف الأحوال فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل ولا شغل هناك له ولا لهم طول وإذا لم يكن كذلك خفف وقد يريد الإطالة ثم يعرض ما يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف وقيل إنما طول في بعض الأوقات وهو الأقل وخفف في معظمها فالإطالة لبيان جوازها والتخفيف لأنه الأفضل وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف وقال إن منكم منفرين فأيكم صلى بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة وقيل طول في وقت وخفف في وقت ليبين أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراط بل يجوز قليلها وكثيرها وإنما المشترط الفاتحة ولهذا اتفقت الروايات عليها واختلف فيما زاد وعلى الجملة السنة التخفيف كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم للعلة التي بينها وإنما طول في بعض الأوقات لتحققه انتفاء العلة فإن تحقق أحد انتفاء العلة طول اهـ. ولكن كما قيل تطويلنا في هذه الأيام كتخفيفهم. وسيرد معنا أن صلاة الصحابة كانت ثلاثة أضعاف من بعدهم. 1016 - * روى ابن خزيمة عن حذيفة، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ما مر بآية رحمة إلا وقف عندها- فسأل- ولا مر بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ. هذا لفظ حديث أبي موسى. أقول: كان هذا في صلاة الليل ويتوسع فيها ما لم يتوسع في غيره، ويسن لمن يقرأ القرآن في قيام الليل أو يقرأه خارج الصلاة أن يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1017 - * روى ابن خزيمة عن إبراهيم التيمي، قال: كان أبي قد ترك الصلاة معنا قلت: ما لك لا تصلي معنا؟ قال: إنكم تخففون الصلاة، قلت، فأين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فيكم الضعيف والكبير وذا الحاجة؟ " قال: قد سمعت عبد الله بن مسعود يقول
فائدة: في إطالة القراءة وتخفيفها
ذلك، ثم صلى بنا ثلاثة أضعاف ما تصلون. أقول: هذا مذهب لصاحبه وإلا فمهما خفف الإمام فالصلاة معه أفضل. 1018 - * روى مسلم عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام. 1019 - * روى النسائي عن زيد بن أسلم قال: دخلنا على أنس رضي الله عنه فقال: صليتم؟ قلنا: نعم، قال: يا جارية، هلمي وضوئي، ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا- يعني: مر بن عبد العزيز- قال زيد: وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود". فائدة: في إطالة القراءة وتخفيفها: الأصل إطالة القراءة في صلاة الفجر من أربعين إلى ستين آية، والأصل في صلاة الظهر والعصر القراءة بمثل سورة الأعلى، والأصل في صلاة المغرب القراءة مثل سورة الزلزلة والأصل في صلاة العشاء القراءة بمثل الظهر والعصر إلا في حالات فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فقرأ في ركعتين سورة الطور، وصلى الفجر فقرأ بالمعوذتين لأسباب والله أعلم (وهبي). 1020 - * روى الطبراني عن مصعب بن سعد قال: كان أبي إذا صلى في المسجد تجوز وأتم الركوع والسجود وإذا صلى في البيت أطال الركوع والسجود والصلاة، قلت يا أبتاه إذا صليت في المسجد جوزت وإذا صليت في البيت أطلت. قال: يا بني إنا أئمة يقتدى بنا. 1021 - * روى أحمد عن أبي جابر الوالدي قال: قلت لأبي هريرة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بكم؟ قال: وما أنكرتم من صلاتي؟ قلت أردت أن أسأل عن ذلك، قال: نعم وأوجز قال: وكان قيامه قدر ما ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف، وله
في رواية (1) رأيت أبا هريرة صلى صلاة تجوز فيها. 1022 - * روى ابن خزيمة عن ابن عباس في قوله عز وجل: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) (3). قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه جهر بالقرآن، وقال الدورقي: رفع صوته بالقرآن، وقالا (أي الدورقي والراوي الآخر): فكان المشركون إذا سمعوا. سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها). 1023 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر، وسكت فيما أمر (وما كان ربك نسياً) (5) و (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (6). أقول: من المعلوم أن محل قراءة القرآن في الصلاة هو القيام، وما عدا ذلك فلا يقرأ في الصلاة قرآن على نية القراءة، فالنص يشير إلى ذلك والله أعلم. 1024 - * روى البخاري عن عبد الله بن سخبرة رضي الله عنه قال: "سألنا خباباً:
- القراءة في الليل
أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلت: بأي شيء كنتم تعرفون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته". فائدة: عدم العلم بالشيء لا يعني عدم ذلك الشيء، والمقصود هنا التعليم بالثابت المنقول (وهي) وذكرنا قبل قليل رأي النووي وصاحب (الإعلاء) في الإسرار والجهر بالصلاة. - القراءة في الليل: 1025 - * روى أبو داود عن أبي قتادة رضي الله عن: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة، فإذا هو بأبي بكر يصلي، يخفض من صوته، ومر بعمر يصلي، يرفع من صوته، فسأل أبا بكر؟ فقال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله، وسأل عمر؟ فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان". قال: وزاد الحسن في حديثه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً". وأخرجه الترمذي مختصراً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: مررت بك وأنت تقرأ، وأنت تخفض من صوتك؟ " فقال: إني أسمعت من ناجيت، قال: "ارفع قليلاً"، وقال لعمر: "مررت بك وأنت تقرأ، وأنت ترفع من صوتك؟ " قال: [إني] أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان، قال: "اخفض قليلاً". 1026 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه بهذه القصة، ولم يذكر، "فقال لأبي بكر: ارفع شيئاً، ولعمر: اخفض شيئاً وزاد: "وقد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة؟ " قال: كلام طيب يجمع الله بعضه
إلى بعض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم قد أصاب". أقول: يجوز للمنفرد في قيام الليل عند الحنفية الجهر والإسرار فهو مخير بينهما، وجهره مقيد بأن لا يشوش على غيره، وعليه أن يراعي ما هو الأصلح لقلبه، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر بفعل ما هو الأحسن في حقهما تأديب للمربين أن يدلوا الإنسان على ما هو الأكمل في حقه. 1027 - * روى أحمد عن البياضي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن". أقول: كان شيخنا محمد الحامد رحمه الله ينهى عن كل ما يشوش على الناس ولو بأن يضع الناس مسجلات أو مكبرات أو ينشدون في المآذن خوفاً من أن يشوش ذلك على طالب أو دارس أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" فإذا كان في حق ما هو خير، فكيف بمن يشوش على الناس بما فيه فساد وشر. 1028 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال: اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة- زاد عبد الرحمن، وهو في قبة له- وقالا: فكشف الستور وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفعن بعضكم على بعض القراءة". 1029 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
بالليل: يرفع طوراً، ويخفض طوراً". 1030 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت". 1031 - * روى مالك عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه، قال: "كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهم بالبلاط". 1032 - * روى أحمد عن أبي هريرة أن عبد الله بن حذافة قام يصلي فجهر بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن حذافة لا تسمعني وسمع ربك". 1033 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة: أنه إذا سلم الإمام قام عبد الله، فقرأ لنفسه فيما يقضي، وجهر". أقول: يجوز عند الحنفية في هذه الحالة الجهر والإسرار لأنه كالمنفرد في هذه الحالة. 1034 - * روى البخاري عن عبد الله بن شداد قال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) (1). إذا افتتح الصلاة" قال الحافظ في (الفتح): وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد بهذا، وزاد: في صلاة الصبح، قال الحافظ: وفي الباب حديث عبد الله بن
- هل يجهر بالتأمين؟ وفضل التأمين
الشخير: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، رواه أبو داود والنسائي والترمذي في (الشمائل) وإسناده قوي، وصححه ابن حبان وابن خزيمة. أقول: هذه الحال من الخشوع والتأثر بالقرآن هي الأصل الأصيل بالنسبة للمسلم، قال تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً) (1) وقد يتأثر الإنسان بالقرآن ويخشع كأثر عن التدبر، ولا يكون بكاء إلا في بعض الأحوال وذلك طيب، وهو الحال الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولقد افتقدنا هذا الحال في عصرنا إلا قليلاً، بل أصبح كثيرون ينطبق عليهم. 1035 - * روى الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) وهذه الحال تجب معالجتها وعلى المربين أن يفطنوا لها، فيبدؤون بأنفسهم ويعالجون غيرهم. - هل يجهر بالتأمين؟ وفضل التأمين: 1036 - * روى أبو داود عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال: آمين مد بها صوته. قال البغوي (3/ 59): هذا حديث حسن قال محمد بن إسماعيل. حديث سفيان أصح من حديث شعبة، وأراد به أنه روى شعبة عن سلمة: وخفض بها صوته. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الجهر بالتأمين، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، قال عطاء: كنت أسمع الأئمة- وذكر ابن الزبير ومن بعده- يقولون: آمين، ويقول من خلفه: آمين، حتى إن للمسجد للجة اهـ. ولكن سنده ضعيف.
أقول: عند الحنفية والمالكية التأمين سراً وعند الشافعية والحنابلة سراً في الصلاة السرية وجهراً فيما يجهر فيه بالقراءة. 1037 - روى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". قال البغوي: و (آمين) مخففة الميم، ويجوز ممدوداً ومقصوراً على وزن فعيل، ومعناه: اللهم اسمع واستجب، وقيل: معناه: كذلك فليكن، وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، وجاء في الآثار: آمين خاتم رب العالمين، وقيل: معناه: أنه طابع الله على عباده يدفع الله به الآفات والبلايا عنهم، كخاتم الكتاب الذي يصونه، ويمنع من إفساده، وإظهار ما فيه انظر شرح السنة (3/ 63).
- القراءة المنكوسة والترتيب
- القراءة المنكوسة والترتيب: 1038 - * روى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً قال (ذاك منكوس القلب). استدل به الحنفية على كراهة النكس مطلقاً سواء كان في السور أو في الآيات وسوءا كان خارج الصلاة أو داخلها. 1039 - * روى أحمد عن حذيفة قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها ركعة فمضى فقلت يركع بها فمضى ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلاً). وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف أو بيونس وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بها، علقه البخاري ووصله جعفر الفريابي في كتاب الصلاة له من طريق عبد الله بن شفيق (انظر الفتح 2/ 212). فيعارض قول ابن مسعود هذا على تقدير عمومه لنكس السورة حديث حذيفة وأثر عمر. لذا قال صاحب الإعلاء (4/ 128) الراجح عندي القول باستحباب رعاية الترتيب العثماني
في السور مقيداً بالفرائض دون القول بوجوبها وبإطلاقه. وعلى هذا فنكس الترتيب بين السور إنما يكره تنزيهاً لكونه خلاف الأفضل، هذا وقد اتفق الفقهاء على منع النكس في ترتيب الآيات لإخلاله بالإعجاز والحكم. ثم قال صاحب الإعلاء بذلك تجتمع الآثار كلها ولا يشكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ثبت عن عمر من النكس في السور فإن الأول ورد في النفل والثاني لبيان الجواز اهـ ملخصاً.
الفصل السادس في الركوع والسجود وما يتعلق بهما عرض إجمالي
الفصل السادس في الركوع والسجود وما يتعلق بهما عرض إجمالي قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) (1). والركوع هو الانحناء بالظهر والرأس معاً حتى تبلغ كفا المصلي ركبتيه، وأكمله تسوية ظهره وعنقه بانحناء خالص بحيث يصيران كالصحيفة الواحدة، وينصب ساقيه وفخذيه ويساوي رأسه بعجزه فلا يرفع رأسه ولا يخفضه، ويأخذ ركبتيه بيديه مفرقاً أصابعه ويجافي مرفقيه عن جنبيه، والمرأة تضم بعضها إلى بعض. والاطمئنان في الركوع واجب عند الحنفية وفرض عند الجمهور، والاطمئنان أن تستقر أعضاؤه قدر تسبيحة، وقال أبو يوسف من الحنفية: الاطمئنان فريضة. ويكبر من يريد الركوع، وفي رفع اليدين إلى محاذاة الأذنين خلاف كما رأينا، وقال أبو يوسف من الحنفية والجمهور: الرفع من الركوع والاعتدال قائماً مطمئناً فرض في الصلاة وهو أن يعود إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع سواء أكان قائماً أو قاعداً، وقال أبو حنيفة محمد الرفع واجب، فإذا رفع رأسه من الركوع قال: (سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، أو: ربنا ولك الحمد، أو: اللهم ربنا ولك الحمد). ويجمع بينهما المنفرد والإمام ويكتفي المقتدي بالتحميد عند الحنابلة وعلى المعتمد عند الحنفية، وعند المالكية يكتفي الإمام بالتسميع ويسن عند الشافعية الجمع بين التسميع والتحميد في حق كل مصل سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً، ويزيد عند الشافعية والحنابلة على التحميد بما ورد في المأثور، وحمل الحنفية سنية الزيادة على حال الانفراد. ورفع اليدين إلى حذو المنكبين في الرفع من الركوع فيه خلاف كما رأينا، ومما يسن في الركوع تمكين اليدين من الركبتين وتفريج الأصابع للرجل أما المرأة فلا تفرجها، وأن
يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) مرة على الأقل، وأدنى الكمال ثلاث عند الجمهور، ولا حد له عند المالكية ويضيف المالكية والشافعية والحنابلة (وبحمده)، ولا يزيد الإمام على التسبيحات الثلاث تخفيفاً على المأمومين إلا إذا كان إمام قوم راضين بالتطويل ولا يطيل الإمام الركوع والقراءة لإدراك الجائي بنية ذلك، فذلك مكروه تحريماً عند الحنفية، فإذا اعتدل الراكع قائماً فإنه يكبر ويهوي إلى السجود، وهل يرفع يديه حذو منكبيه؟ في ذلك خلاف. والسجود كالركوع ركنان بالإجماع، والأصل في السجود أن يكون على اليدين والركبتين وأطراف القدمين وعلى الجبهة والأنف معاً، فذلك كماله، ويفترض لكل ركعة سجدتان، ويجلس بين السجدتين مطمئناً يفترش الرجل رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويوجه أصابعه نحو القبلة، ويضع يديه على فخذيه مبسوطتين بحيث تتساوى رؤوس الأصابع مع الركبة متجهاً بأصابع اليدين إلى القبلة، أما المرأة فتتورك عند الحنفية بأن تجلس على إليتها وتضع الفخذ على الفخذ وتخرج رجلها اليسرى من تحت وركها، ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) مرة في الحد الأدنى وثلاثاً وهو أدنى الكمال، ويضيف المالكية والشافعية والحنابلة (بحمده). قال الحنفية: ولا يزيد الإمام على الثلاث تخفيفاً على المأمومين، ولا حد للتسبيح عند المالكية ويزيد عند الشافعية إمام قوم راضين بالتطويل بعض ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده، ولا يدعو المفترض في ركوعه وسجوده عند الحنفية، وما ورد في ذلك فهو محمول على النفل، ويندب الدعاء في السجود عند المالكية بأمور الدين أو الدنيا أو الآخرة له أو لغيره، ولا بأس عند الحنابلة بالدعاء المأثور أو الأذكار، ويتأكد طلب الدعاء في السجود عند الشافعية، وليس عند الحنفية بين السجدتين دعاء مسنون وما ورد فمحمول عندهم على النفل أو التهجد، والدعاء بين السجدتين مشروع عند الشافعية، وقال الحنابلة إنه واجب، وأدناه أن يقول مرة (ربي اغفر لي) وأدنى الكمال عند الحنابلة أن يقول ذلك ثلاث مرات ولا يجوز عند الحنابلة الدعاء في الصلاة بغير الوارد في السنة ولا يجوز بما ليس من أمر الآخرة كحوائج الدنيا وملاذها، وتبطل الصلاة به. والصيغة الأكمل للدعاء بين السجدتين
- كيفية الركوع والسجود
عند الشافعية والمالكية والحنابلة: (ربي اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني). فإذا أراد الساجد أن يقوم إلى الركعة الثانية أو الرابعة، تسن له جلسة خفيفة تسمى جلسة الاستراحة عند الشافعية، ولا تستحب جلسة الاستراحة عند الجمهور فإذا أنهى المصلي ركعتيه في الفجر جلس القعود الأخير، وإذا أنهى ركعتين في الصلوات الأربع الأخرى جلس للقعود الأول، ويجلس للقعود الأخير بعد الثالثة في المغرب (وبعد الرابعة في الصلوات الرباعية). (انظر حاشية ابن عابدين 1/ 300 والشرح الصغير وحاشية الصاوي 1/ 313 والمهذب 1/ 74 و 75 والمغني 1/ 499 و 514 والفقه الإسلامي 1/ 655 وما بعدها). وفيما ذكرناه من هيئات الركوع والسجود وما يتعلق بها تفصيلات للفقهاء حول ما هو فريضة منها أو مسنون أو مندوب ستمر معنا أثناء عرض النصوص أو في المسائل والفوائد. وإلى نصوص هذا الفصل: - كيفية الركوع والسجود: 1040 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، فكبر، ورفع يديه، فلما ركع طبق يديه بين ركبتيه. قال: فبلغ ذلك سعداً، فقال: صدق أخي، كنا نفعل هذا، ثم أمرنا بهذا، يعني الإمساك على الركبتين". 1041 - * روى الترمذي عن عمر بن الخطاب: إن الركب سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فخذوا بالركب. 1042 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى فلو
صب على ظهره الماء لاستقر. 1043 - * روى الحاكم عن علقمة بن وائل عن أبيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج أصابعه". 1044 - * روى أبو داود عن أبي إسحاق السبيعي قال: وصف لنا البراء بن عازب رضي الله عنه السجود، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه، ورفع عجيزته، وقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد، وفي رواية (1) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى جنح. 1045 - * روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع- ما خلا القيام والقعود- قريباً من السواء. وفي رواية (2)، قال: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته وجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريباً من السواء. وفي أخرى (3) قال: غلب على الكوفة رجل قد سماه: زمن
بن الأشعث، وسماه غندر في روايته: مطر بن ناجية- فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس، وكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع: قام قدر ما أقول: اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، قال الحكم: فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال: سمعت البراء بن عازب يقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيامه وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع، وسجوده، وما بين السجدتين: قريباً من السواء. قال شعبة: فذكرته لعمرو بن مرة، فقال: قد رأيت ابن أبي ليلى، فلم تكن صلاته هكذا. وفي رواية أبي داود (1) مثل الرواية الثانية. وله في أخرى (2)، قال" رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فوجدت قيامه كركعته وسجدته، واعتداله في الركعة كسجدته، وجلسته بين السجدتين، وجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريباً من السواء. وله في أخرى (3)، قال: كان ركوعه وسجوده وما بين السجدتين: قريباً من السواء. وفي رواية الترمذي (4) والنسائي (5)، قال: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود: قريباً من السواء. الاطمئنان في الركوع والسجود: 1046 - * روى أحمد عن رفاعة بن رافع: أن رجلاً دخل المسجد فصلى، فذكر الحديث بطوله، وقال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم إذا أنت ركعت فأثبت يديك على
ركبتيك حتى يطمئن كل عظم منك". 1047 - * روى أبي داود عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجزئ صلاة أحدكم حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود". 1048 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الركوع والسجود، فو الله، إني لأراكم من بعدي- وربما قال: من بعد ظهري- إذا ركعتم وسجدتم"، وللبخاري: أنه سمع [أي أنس] النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أتموا الركوع والسجود، فو الذي نفسي بيده، إني لأراكم من بعد ظهري، إذا ما ركعتم وإذا سجدتم". 1049 - * روى البخاري عن سليمان قال: سمعت زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود قال: (ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم). 1050 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته" قال: وكيف يسرق صلاته قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها". استدل بهذه الأحاديث على فرضية إقامة الصلب في الركوع والسجود وأخذ بذلك الجمهور أما أبو حنيفة ومحمد فقالوا بالوجوب.
النهي عن الافتراش في السجود وعن الإقعاء
النهي عن الافتراش في السجود وعن الإقعاء: 1051 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب". 1052 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". وزاد البخاري في رواية أخرى (3): "وإذا بزق فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، فإنه يناجي ربه". 1053 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد أحدكم فلا يفترش يديه افتراش الكلب، وليضم فخذيه". 1054 - * روى ابن خزيمة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبسط ذراعيك كبسط السبع وأدغم على راحتيك، وتجاف عن ضبعيك، فإنك إذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك". 1055 - * روى مسلم عن طاوس بن كيسان اليماني قال: "قلنا لابن عباس في الإقعاء
- كيف يهوي إلى السجود
على القدمين؟ فقال: هي السنة، فقلنا له: أما تراه جفاء بالرجل؟ فقال ابن عباس: بل هي سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وزاد أبو داود بعد (القدمين): (في السجود). أقول: نصب القدمين والجلوس على العقبين بين الركعتين يسمى إقعاء المحدثين ولم يقل باستحبابه من الفقهاء إلا النووي وهو رواية عن الشافعي والظاهر أن السنة الأغلبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس بين الركعتين كانت افتراش القدم اليسرى ونصب القدم اليمنى كما سنرى ذلك في أحاديث لاحقة، وأما الإقعاء المتفق على كراهته فهو أن يجلس على أليتيه وأن يستند على يديه وأن يرفع ركبتيه ضاماً إياهما إلى الصدر فهذا لا خلاف في كراهته. - كيف يهوي إلى السجود: 1056 - * روى أبو داود عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". وفي رواية (1) لأبي داود، قال: "فلما سجد وقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن يقعا كفاه، فلما سجد وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه". قال أبو داود: وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه بمثل هذا، وفي حديث أحد رواته: "وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه". قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. اهـ وفي سنده شريك بن عبد الله النخعي القاضي وهو صدوق يخطئ وللحديث شواهد يتقوى بها (انظر شرح السنة 3/ 133 وجامع الأصول 5/ 378).
قال أبو سليمان الخطابي: حديث وائل أثبت من هذا- يقصد حديث أبي هريرة الآتي- وزعم بعض العلماء أنه منسوخ وروى في ذلك خبراً ضعيفاً اهـ ملخصاً. قال البغوي واختلف العلماء في هذا- أي تقديم الركبتين أو اليدين- فذهب أكثرهم إلى أنه يضع الركبتين قبل اليدين اهـ ملخصاً. واستدل من قال إنه يقدم يديه بحديث أبي هريرة. أقول: وضع الإنسان ركبتيه ثم يديه ثم وجهه إذا سجد، ورفع وجهه ثم يديه ثم ركبتيه إذا قام، السنة عند الشافعية والحنابلة والحنفية، أما المالكية فيضعون أيديهم قبل ركبهم إذا سجدوا ويعتمدون على أيديهم في القيام، والنص الذي مر معنا حجة للمذاهب الثلاثة، والهيئة الأولى أدل على النشاط والهيئة الثانية تناسب بعض الناس لعارض، والأمر واسع لأن الخلاف حول السنية. 1057 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وفي رواية، قال: "يعمد أحدكم فيبرك في صلاته كما يبرك الجمل". قوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) بلفظ الأمر مشكل لأن البعير يضع يديه قبل رجليه فكيف ينهى عن بروك البعير ثم يأمر بتقديم اليد. ولذا أورده- والله أعلم- صاحب جامع الأصول بلفظ (يضع ..) ولا يرفع هذا الإشكال قول بعضهم ركبتا البعير في يديه لأنه لو كان كما قالوا لقال فليبرك كما يبرك البعير فإن أول ما يمس الأرض من البعير يده. وفي حاشية الترمذي ما نصه: (ولا يخفى أن أول هذا الحديث يخالف آخره لأنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك بروك البعير وما قيل في توقيفه: إن الركبة من الإنسان في الرجلين ومن ذوات الأربع في اليدين فرده
- صفة السجود
صاحب القاموس في سفر السعادة وقال هذا وهم وغلط ومخالف لأئمة اللغة، وقال ابن القيم: وأما حديث أبي هريرة فقد علله البخاري والترمذي والدارقطني. (انظر الإعلاء 3/ 26 - 27 وشرح السنة 3/ 134 - 135 وجامع الأصول 5/ 378). ويحتج لمن قال بتقديم اليدين بما: 1058 - * روى الدارقطني عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه". وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. أخرجه الطحاوي في (شرح المعاني). - صفة السجود: 1059 - * روى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك". وفي رواية الترمذي (3)، قال: "قلت للبراء: أين كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع وجهه إذا سجد؟ فقال: بين كفيه". 1060 - * روى مسلم عن ميمونة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد لو أن بهمة أرادت أن تمر بين يديه مرت". وزاد أبو داود (5) والنسائي (6) بعد قوله: "سجد":
"جافى بين جنبيه حتى- وفي أخرى (1) للنسائي- كان إذا سجد خوى يده حتى يرى وضح إبطيه من ورائه، وإذا رفع اطمأن على فخذه اليسرى". 1061 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه". وفي رواية (2): كان إذا سجد يجنح في سجوده، حتى يرى وضح إبطيه. (بحينة): أم عبد الله، وأبوه مالك. 1062 - * روى أبو داود عن أحمر بن جزء رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه، حتى نأوي له". 1063 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده". وفي رواية (3): "نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة". وفي أخرى (4): "نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده. وفي أخرى (5): أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض من الصلاة". 1064 - * روى الطبراني عن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا في الصلاة
- أعضاء السجود
ورفعنا رؤوسنا من السجود أن نطمئن على الأرض جلوساً ولا نستوفز على أطراف الأقدام". أقول: السنة في الجلوس بين السجدتين أن يفترش الإنسان رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى موجهاً أصابعها نحو القبلة ويجلس عليهما وهما كذلك، أما المرأة فتتورك عند الحنفية كما ذكرنا. 1065 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رمقت عبد الله بن مسعود في الصلاة فرأيته ينهض ولا يجلس قال ينهض على صدور قدميه في الركعة الأولى والثالثة". أقول: في النص دلالة على أن ابن مسعود لم يكن يرى أن جلسة الاستراحة من السنة وهي سنة عند الشافعية. 1066 - * روى ابن خزيمة عن ابن عمر، قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس الرجل في الصلاة أن يعتمد على يده اليسرى". أقول: المنهي عنه هو أن يجلس الإنسان بين السجدتين ويميل على يساره معتمداً على يده اليسرى وهي على الأرض وهذا منهي عنه في القعودين الأول والأخير. - أعضاء السجود: 1067 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه، قال: إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضعهما، وإذا رفعه فليرفعهما.
1068 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر: أن ابن عمر كان يقول: "من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي وضع عليه جبهته، ثم إذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه". مسألة: لو سجد على كوري عمامته إذا كان على جبهته أو على طرف ثوبه أو جزء منه جاز عند الحنفية والمالكية والحنابلة، ويكره عندهم إلا من عذر. وقال الشافعية: إن سجد على متصل يتحرك بحركته لم يجز وإن كان متعمداً عالماً بطلت صلاته، وإن كان ناسياً أو جاهلاً لم تبطل وأعاد السجود. 1069 - * روى الترمذي عن أبي حميد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه". أقول: يستحب وضع الأنف مع الجبهة عند الشافعية والمالكية في السجود ويجب عند الحنابلة وضع جزء من الأنف، وقال الحنفية: إن اقتصر على الجبهة في السجود دون الأنف جاز مع الكراهة. 1070 - * روى أحمد عن أبي إسحاق، قال، سمعت البراء، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على إليتي الكف. أقول: المراد هنا: أن السجود يكون بباطن الكفين وليس على طرفيهما، وكلما قدر الإنسان أن يمس من باطن كفه الأرض فذلك أفضل. 1071 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي
بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي. وفي رواية نحوه (1)، إلا أنه قال: وإذا رفع رأسه بين السجدتين، وللبخاري (2) قال: كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي. وفي رواية (3) أبي داود، قال: "ما صليت خلف رجل أوجر صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يكبر ويسجد، وكان يقعد بين السجدتين، حتى نقول: قد أوهم". 1072 - * روى الترمذي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين. وقال: وقد روي عن عامر (4) مرسلاً. أقول: تنصب القدمان في السجود ويتجه بالأصابع نحو القبلة، فيكون السجود على باطن الأصابع ولا يجزئ أن يسجد على ظاهر قدميه ولا على حرفهما. 1073 - * روى النسائي عن يوسف بن ماهك قال: قال حكيم بن حزام: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا أخر إلا قائماً. 1074 - * روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: إنه سمع
- المنهي عنه في السجود
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه". فائدة: المنع من كف الشعر لما فيه من حرمانه من السجود، قال ابن حجر الحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبر (فتح الباري 2/ 235). - المنهي عنه في السجود: 1075 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء، ولا نكف شعراً ولا ثوباً-: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين. وفي أخرى (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب ولا الشعر". وفي أخرى (3)، قال: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد منه على سبعة: ونهي أن يكفت الشعر والثياب".
1076 - * روى الشيخان عن أبي سلمة حدثني معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال: "إن كان فاعلاً فواحدة". كره أهل العلم مسح الحصاة في الصلاة ورخص بمرة واحدة تسوية لمكان سجوده ورخص فيه مالك أكثر من مرة. 1077 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه مر على رجل ساجد ورأسه معقوص فحله فلما انصرف قال له عبد الله لا تعقص فإن الشعر يسجد وإن لك بكل شعرة أجراً قال إنما عقصته لكي لا يتترب قال: أن يتترب خير لك. 1078 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال إذا سجد أحدكم فلا يسجد مضطجعاً ولا متوركاً فإنه إذا أحسن السجود سجد كل عضو فيه. 1079 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر: (أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سجد وضع كفيه على الذي وضع عليه وجهه، قال نافع: ولقد رأيته في يوم شديد البرد، وإنه ليخرج كفيه من تحت برنس له، حتى يضعهما على الحصباء). 1080 - * روى البخاري عن مجزأة بن زاهر: عن رجل من أصحاب الشجرة اسمه أهبان بن أوس، وكان يشتكي ركبتيه، فكان إذا سجد: جعل تحت ركبتيه وسادة.
1081 - * روى البخاري عن أنس، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا أراد أحدنا أن يسجد بسط ثوبه من شدة الحر وسجد عليه. وقال الصنعاني: فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. 1082 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود: أومأ برأسه إيماءً، ولم يرفع إلى جبهته شيئاً. - أذكار الركوع والسجود: 1083 - * روى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة: 74، 96] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى: 1] قال: "اجعلوها في سجودكم". زاد في رواية (4) قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده- ثلاثاً- وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً". 1084 - * روى الطبراني عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح في ركوعه
سبحان ربي العظيم ثلاثاً وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثاً. 1085 - * روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ. 1086 - * روى الجماعة إلا الموطأ والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن. 1087 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس، رب الملائكة الروح".
أقول: هذان النصان محمولان عند الحنفية على صلاة النافلة أو قيام الليل، وله أن يقول مثل ذلك في الفريضة والنفل عند آخرين. 1088 - * روى مسلم عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد". زاد في رواية (2): "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس". وفي رواية (3) الترمذي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم برد قلبي بالثلج والبرد .. الحديث" ولم يذكر أول حديث مسلم. 1089 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". 1090 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد- وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".
1091 - * روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد". 1092 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك لحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد". 1093 - * روى مالك عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: "كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده"، وقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف قال: "من المتكلم آنفاً؟ " قال: أنا، قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول" هذه رواية البخاري والموطأ. وفي رواية (1) الترمذي قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطست فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مباركاً عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرف فقال: "من المتكلم في الصلاة؟ " فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: "من المتكلم في الصلاة؟ " فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: "من المتكلم في الصلاة؟ " فقال رفاعة: أنا يا رسول الله. فقال: "كيف قلت؟ " قال: قلت: الحمد
لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مباركاً عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً أيهم يصعد بها؟ " وأخرج أبو داود (1) والنسائي (2) نفس الروايتين معاً. قال الحافظ في الفتح: (2/ 238): واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه، وعلى أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس، وعلى تطويل الاعتدال بالذكر. أقول: الزيادة على: اللهم ربنا ولك الحمد، حين الاعتدال من الركوع تسن عند الشافعية والحنابلة وعند الحنفية للمنفرد، أما الإمام فيلحظ استعداد المصلين للتطويل، فلا يطيل ولو ظن أن هنا واحداً على عجل. 1094 - * روى مسلم عن ابن عباس، قال: "كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: "أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً. فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم". هذا حديث عبد الجبار. أقول: يندب الدعاء في السجود عند المالكية في الفريضة والنافلة، والحنفية يحملون ما ورد في الندب إلى الدعاء في السجود على النافلة. 1095 - * روى الطبراني عن عبد الله بن زياد الأسدي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول وهو راكع لا حول ولا قوة إلا بالله.
1096 - * روى النسائي عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان إذا قام يصلي تطوعاً يقول إذا ركع: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ولحمي ودمي ومخي وعصبي لله رب العالمين". 1097 - * روى النسائي عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة". أقول: هذا محمول عند الحنفية على أنه كان يصلي نافلة. 1098 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلانيته". 1099 - * روى البزار عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده إذا سجد: "سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي أبوء بنعمتك علي، هذه يدي وما جنيت على نفسي". 1100 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله بن مسعود
يسوي الحصى بيده مرة واحدة إذا أراد أن يسجد وهو يقول في سجوده لبيك وسعديك. 1101 - * روى الطبراني عن أبي الأسود وشداد بن الأزمع عن ابن مسعود قال: اختلفا فقال أبو الأسود كان عبد الله يقول في سجوده: سبحانك اللهم لا رب غيرك، وقال شداد كان يقول: سبحانك لا إله غيرك. 1102 - * روى مالك عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفراشن فالتمسته، فوقعت يدي في بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ بك برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". وفي رواية (3) قالت: افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست، ثم رجعت، فإذا هو راكع- أو ساجد- يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، فقلت: بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن، وإنك لفي آخر". 1103 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين".
1104 - * روى النسائي عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي تطوعاً قال إذا سجد: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، اللهم أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين". 1105 - * روى مسلم عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر، فذكر الحديث. وقال: ثم إذا سجد قال في سجوده: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت ولك أسلمت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين". أقول: هذا الحديث يشهد لمذهب المالكية في الندب إلى الدعاء في السجود ولو كان الإنسان في فريضة. 1106 - * روى الترمذي عن ابن عباس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني رأيت في هذه الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فرأيت كأني قرأت سجدة، فسجدت فرأيت الشجرة كأنها تسجد بسجودي، فسمعتها- وهي ساجدة- وهي تقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود. قال ابن عباس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة ثم سجد، فسمعته- وهو ساجد- يقول مثل ما قال الرجل عن كلام الشجرة. 1107 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان
- ما ورد في جلسة الاستراحة
يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني". وفي رواية (1) أبي داود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". 1108 - * روى أحمد عن عائشة رضي الله عنها: أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول: "رب أعط نفسي تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها". - ما ورد في جلسة الاستراحة: 1109 - * روى أبو داود عن عباس أو عياش بن سهل الساعدي أنه كان في مجلس فيه أبوه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المجلس أبو هريرة وأبو حميد الساعدي وأبو أسيد فذكر الحديث، وفيه: ثم كبر فسجد، ثم كبر فقام، ولم يتورك. (آثار السنن 1 - 120). 1110 - * روى ابن أبي شيبة عن النعمان بن أبي عياش قال: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة والثالثة، قام كما هو، ولم يجلس. (آثار السنن 1/ 121). 1111 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رمقت عبد الله بن مسعود في
الصلاة فرأيته ينهض ولا يجلس، قال: ينهض على صدور قدميه في الركعة الأولى والثالثة. (آثار السنن 1 - 121). 1112 - * روى ابن أبي شيبة عن وهب بن كيسان قال: رأيت ابن الزبير رضي الله عنه إذا سجد السجدة الثانية قام كما هو على صدور قدميه. (آثار السنن 1 - 121). 1113 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض على صدور قدميه. قال صاحب الإعلاء (3/ 39): وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله اهـ (ص- 12). وبعد ذلك فاندفع ما قاله الشوكاني ونصه: وما روى ابن المنذر عن النعمان بن أبي عياش قال: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو، ولم يجلس، وذلك لا ينافي القول بأنها سنة، لأن الترك لها من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحالات إنما ينافي وجوبها فقط، وكذلك ترك بعض الصحابة لا يقدح في سنيتها لأن ترك ما ليس بواجب جائز اهـ (2/ 164) ووجه الاندفاع ما ورد في حديث الترمذي من لفظة كان الدالة على المواظبة، وكذا ورد عند سعيد بن منصور عن ابن مسعود بسند صحيح، وما في [الآثار الأخرى]. بلفظة كان الدالة على المواظبة يدل على أن أكابر الصحابة رضي الله عنهم. كانوا مواظبين على ترك هذه الجلسة، وذلك ينافي القول بسنيتها قطعاً. وأما ما رواه الجماعة إلا
- فضل السجود
مسلماً وابن ماجه كما في النيل (1 - 163) عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً اهـ، فالجواب عنه ما ذكره في الهداية (1 - 92) ونصه: محمول على حالة الكبر، ولأن هذه قعدة استراحة، والصلاة ما وضعت لها اهـ. قلت: [صاحب الإعلاء] ويؤيده ما رواه أبو داود وسكت عنه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبادروني بركوع ولا بسجود فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدنت" اهـ. وأما ما رواه البخاري في الاستيذان بعد ما ترجم من رد فقال: عليك السلام (2 - 923) في حديث المسيء صلاته: ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها اهـ فهذا لا يصح الاحتجاج به أصلاً، فإن البخاري أشار إلى أن هذه اللفظة أي قوله: حتى تطمئن جالساً في المرة الثانية وهم، فإنه عقبه بقوله: قال أبو أسامة في الأخير: حتى يستوي قائماً اهـ. صرح به الحافظ في الفتح (2 - 231). أو يمكن أن يحمل إن كان محفوظاً على الجلوس للتشهد. ا. هـ فمذهب الحنفية ترك جلسة الاستراحة. وقال الشافعية بجلسة الاستراحة واستدلوا بما روي عن مالك بن الحويرث السابق ذكره. قال البغوي: والجلسة سنة عقيب السجدتين في الركعة الأولى والثالثة عند بعض أهل العلم، ثم يقوم، وبه قال الشافعي. وذهب مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي إلى أنه لا يقعدها. ولا يكبر بعد ما رفع من السجود إلى أن يقوم إلا تكبيرة واحدة بالاتفاق. ا. هـ شرح السنة (3/ 165). - فضل السجود: 1114 - * روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم
السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود، فعصيت، فلي النار". 1115 - * روى مسلم عن معدان قال: سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: حدثني حديثاً ينفعني الله سبحانه به، فسكت، ثم قلت: حدثني حديثاً ينفعني الله سبحانه به، فسكت، ثم قلت: حدثني حديثاً ينفعني الله سبحانه به، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسجد لله سجدة، إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة". 1116 - * روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يحدث أحياناً أن يكتظ المسجد بالناس بسبب مطر أو شدة حر، فيصعب على الناس أن يصلوا إلا حيث يوجد ما يقيهم المطر أو الشمس، وفي بعض الأحوال يضيق على الناس أن يركعوا أو يسجدوا ركوعهم وسجودهم المعتادين، وعندئذ يجوز للإنسان أن يسجد على ظهر من أمامه، وكذلك لو وضع صدره على ظهر من أمامه في الركوع فإن الركوع يصح. قال الشافعية والحنفية والحنابلة: من منعه الزحام من السجود على أرض أو نحوها مع الإمام فله السجود على ظهر المصلي أمامه. 1117 - * روى البيهقي عن عمر: (إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه). - تتحقق عند الحنفية إقامة الركنية في الركوع بمجرد الانحناء بالظهر والرأس حتى تبلغ رؤوس أصابعه ركبتيه، وما زاد على ذلك من اطمئنان فإنه واجب وبقية هيئات الركوع سنة عندهم، وتتحقق عندهم فرضية الاعتدال من الركوع بأدنى قيام. - وتتحقق عند الحنفية ركنية السجود بوضع بعض الجبهة مكشوفة على الأرض أو غيرها من المصلي والقدمين وما زاد على ذلك من هيئات السجود، فهو عندهم إما واجب كالطمأنينة أو سنة. والواجب عند المالكية السجود على أيسر جزء من الجبهة، وهي ما فوق الحاجبين وبين الجبينين ويندب إلصاق جميع الجبهة بالأرض وتمكينها عندهم. - ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده، أما لو سجد على الجبهة دون الأنف جاز مع الكراهة. ويتحقق الفرض عند الحنفية والمالكية بوضع جزء من الجبهة ولو كان قليلاً، والواجب عند الحنفية وضع أكثرها.
- يتحقق فرض وضع الرجلين في السجود ولو بوضع أصبع واحدة من القدمين، والواجب أن يضعهما جميعاً والشافعية والحنابلة متفقون على وجوب السجود على جميع الأعضاء السبعة، ويجب عند الحنابلة وضع جزء من الأنف ويستحب عند الشافعية وضع الأنف مع الجبهة. - تتحقق الفرضية بأدنى رفع من السجدة الأولى إلى السجدة الثانية عند أبي حنيفة ومحمد، والطمأنينة والاعتدال الكامل واجب عندهما، وقال أبو يوسف والأئمة الآخرون إذا لم يعتدل بطلت صلاته. - قال الحنابلة والحنفية: تصح الصلاة على الثلج بحائل أو لا، إذا وجد حجمه لاستقرار أعضاء السجود كما تصح على قطن منتفش وأمثاله إذا وجد حجمه، وإذا كانت الجبهة لا تجد استقراراً لم تصح الصلاة. - وضع الوجه بين الكفين عند الحنفية سنة، ووضعهما حذو المنكبين أثناء السجود هو السنة عند غير الحنفية، ويفرق الساجد بين القدمين والركبتين والفخذين بمقدار شبر عند الشافعية.
الفصل السابع في القنوت في الصلاة عرض إجمالي
الفصل السابع في القنوت في الصلاة عرض إجمالي قال الحنفية والحنابلة: يقنت المصلي في الوتر قبل الركوع عند الحنفية وبعد الركوع عند الحنابلة، ومحل القنوت دائماً في الركعة الأخيرة وقال المالكية والشافعية: يقنت في صلاة الصبح، والأفضل عند المالكية أن يكون قبل الركوع في الركعة الثانية ويكره القنوت في غير الصبح عندهم أم الشافعية فقالوا: يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع من الركعة الثانية، ويستحب عند الحنفية والشافعية والحنابلة القنوت في الصلوات المفروضة إذا نزلت بالمسلمين نازلة على تفصيل في ذلك. والقنوت في النوازل يتناسب مع النازلة وما عدا ذلك يكون بالمأثور كما ثبت عند القائلين به. وصيغة الدعاء في قنوت الوتر عند الحنفية وعند المالكية واحدة وهي المأثورة عن ابن عمر وستأتي معنا. وقنوت الصبح عند المالكية يكون سراً وهو نفس قنوت الوتر عند الحنفية ولا بأس عند المالكية برفع اليدين فيه ويسن عند الشافعية القنوت في اعتدال ثانية الصبح أي بعد الرفع من ركوعها وستأتي صيغته معنا، ويصح الدعاء في القنوت بكل ذكر مشتمل على دعاء وثناء وتكره عندهم إطالة القنوت ويستحب عندهم الجمع بين الدعاء المأثور المبدوء بـ (اللهم اهدني) وبين الدعاء المأثور عند الحنفية والمالكية عن ابن عمر والمبدوء بقوله: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك). والقنوت عند الشافعية في صلاة الصبح من أبعاض الصلاة فإن ترك بعض المأثور أو ترك شيئاً من دعاء القنوت عند الحنفية والمالكية إذا بدء به في حال الجمع بينهما أو ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده سجد للسهو كما يسجد للسهو إن ترك القنوت تبعاً لإمامه، أو تركه إمامه وأتى به هو.
وقنوت الوتر ستمر معنا أحكامه أثناء الكلام عن الوتر، أما قنوت الصبح والنوازل فسنتعرض لحكامهما في هذا الفصل. والنازلة التي يشرع القنوت بسببها أن ينزل بالمسلمين خوف أو قحط أو وباء أو اعتداء على بعض المسلمين أو عامة المسلمين، ويجهر في دعائه في قنوت النوازل، ويشرع عند بعض الحنفية في الجهرية فقط، وفي سائر الصلوات المكتوبة عند الشافعية والحنابلة، وهو المعمول به عند الحنفية واستثنى الحنابلة منه صلاة الجمعة اكتفاء بالدعاء في خطبتها. 1118 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهراً في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت. قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنساً عن القنوت، أبعد الركوع، أو بعد فراغ القراءة؟ قال لا، بل عند فراغ القراءة. وفي أخرى (2)، قال أنس: قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً بعد الركوع، يدعو على أحياء من العرب. وفي رواية (3)، قال محمد بن سيرين: قلت لأنس: هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة؟ قال: نعم بعد الركوع يسيراً. وفي أخرى (4)، قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً بعد الركوع في صلاة الصبح، يدعو على رعل وذكوان، ويقول: عصية عصت الله ورسوله. وفي أخرى (5) قال سليمان الأحول: سألت أنساً عن القنوت: قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ قال: قبل الركوع. قلت: فإن ناساً
يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، فقال: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، يدعو على ناس قتلوا ناساً من أصحابه يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلاً". زاد في رواية (1): "وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد". وفي أخرى (2): أصيبوا يوم بئر معونة. وفي أخرى (3): قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية يقال لهم: القراء، فأصيبوا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهراً في صلاة الفجر، ويقول: "إن عصية عصت الله". ولمسلم (4): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع في صلاة الفجر، يدعو على بني عصية". وللبخاري (5)، قال: "كان القنوت في المغرب والفجر". أقول: الملاحظ أن الروايات عن أنس متعددة، بعضها يذكر القنوت قبل الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر وبه أخذ المالكية، وبعضها يذكر القنوت بعد الركوع وبه أخذ الشافعية، وبعضها ذكر التوقيت وبذلك وجه بعضهم الروايات بأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان قنوتاً بسبب النازلة، فلم يروا القنوت لصلاة الفجر، وبعضهم ذكر الفجر مع المغرب ولذلك قال الحنفية بسنية القنوت للنوازل في الصلوات الجهرية. 1119 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً: في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، من الركعة الآخرة: يدعو على أحياء من سليم، على رعل، وذكوان، وعصية، ويؤمن من خلفه".
أقول: هذا دليل لمن ذهب أن القنوت في النوازل يكون في الصلوات كلها، ومن النص نعرف أن القنوت بعد الرفع من الركوع في الركعة الأخيرة، وأن الإمام يدعو ومن خلفه يؤمنون على دعائه. 1120 - * روى مسلم عن خفاف بن إيماء رضي الله عنه قال: "ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه، فقال: "غفار: غفر الله لها، وأسلم: سالمها الله، وعصية: عصت الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان، والعن رعلاً وذكوان"، ثم وقع ساجداً- قال خفاف بن إيماء: فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك". قوله: (فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك): هي ما ورد في بعض أدعية القنوت: عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك. 1121 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر- يقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً- بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد- فأنزل الله عليه: (ليس لك من الأمر شيء، أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) (3). 1122 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية، قال: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"- قال في رواية (5) - وكان يقول في بعض صلاته: في صلاة الفجر- قال يونس: حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة، ويكبر، ويرفع
رأسه: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" ثم يقول وهو قائم: "اللهم أنج الوليد ... - وذكره ... إلى قوله: كسني يوسف"-. وفي رواية (1) قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد، فقلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء؟ قال: "وما تراهم قد قدموا؟ ". قال البخاري: قال ابن أبي الزناد: "هذا كله في الصبح". وفي أخرى (2) لهما: أنه قال: لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار. وهؤلاء الثلاثة كانوا ممن حبسهم مشركو مكة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الله تعالى. أقول: في هذه الروايات دليل على أنه قد تكون النازلة خاصة بأفراد من الأمة الإسلامية، ومع ذلك يقنت من أجلهم المسلمون، وفي الرواية التي جاءت قبل الأخيرتين دليل لمن ذهب إلى أن لا قنوت دائم في الفجر، وهذه الأحاديث كلها في القنوت في المكتوبة في النازلة وقد استدل بها بعضهم على أن القنوت في الوتر بعد الركوع وسبب ذلك قياس الوتر على الفريضة وفي صحة هذا القياس نظر، والصحيح الثابت عن الصحابة هو القنوت قبل الركوع في الوتر (انظر إرواء الغليل 2/ 163 - 166). هذا وقد قال من قال باستمرار القنوت في الفجر أخذاً بروايات ضعفها بعضهم من مثل ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت حتى مات- قال في المجمع (2/ 139) رجاله موثقون اهـ. لكن فيه الربيع وكانوا يتقون حديثه الذي يرويه أبو جعفر الرازي عنه لأن فيه اضطراباً. كما استدلوا بما. 1123 - * روى أحمد عن أنس: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقنت حتى مات).
1124 - * روى الطبراني عن عبد الملك بن أبي بكر قال فر عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد بن المغيرة من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعياش وسلمة متكفلان مرتدفان على بعير والوليد يسوق بهما فكلمت أصبع الوليد فقال: هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمخرجهم إليه وشأنهم قبل أن نعلم فصلى الصبح فركع أول ركعة منها فلما رفع رأسه دعا لهم فقال: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". 1125 - * روى الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أقنت لتدعوا ربكم وتسألوه حوائجكم". أقول: في قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما أقنت لتدعوا ربكم وتسألوه حوائجكم" دليل للمالكية فيما ذهبوا إليه أن الدعاء في الصلاة جائز في أمور الدنيا والآخرة، ولكن الأحوط أن لا يدعو الإنسان في أمور الدنيا في صلاة الفريضة مراعاة لمن قال ببطلان الصلاة بسبب ذلك وهم يحملون ما ورد من مثل هذه النصوص على الدعاء الذي فيه مصلحة عامة للمسلمين. 1126 - * روى ابن خزيمة عن أبي بن كعب في عهد عمر بن الخطاب موقوفاً أنهم كانوا يقنتون بعد النصف، يعني من رمضان.
أقول: والقنوت في آخر ركعة من الوتر في النصف الثاني من رمضان هو الذي عليه عمل الناس اليوم، والحنفية يقنتون على الدوام في الوتر قبل الركوع والشافعية بعد الركوع في النصف الأخير من رمضان. 1127 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". 1128 - * روى أبو داود عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت"، وفي أخرى (3) لأبي داود، وقال في آخره: قال: "هذا تقول في الوتر في القنوت" ولم يذكر: "أقولهن في الوتر". وله في أخرى (4) بدل قوله: "أقولهن في الوتر": "أقولهن في قنوت الوتر". أقول: باب الدعاء في قيام الليل والوتر واسع، وصيغه متعددة وقد أخذ الحنفية في قنوت الوتر بصيغة مأثورة عن ابن عمر كما سنرى، والأمر واسع، وهذه الصيغة التي رواها
الحسن رضي الله عنه هي التي يقنت بها الشافعية في صلاة الصبح بعد الركوع فإذا كانوا منفردين دعوا بها بصيغة المفرد وإذا كانوا في جماعة دعا بها الإمام بصيغة الجمع وهم يؤمنون. 1129 - * روى ابن ماجه عن أبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع. أقول: بذلك أخذ الحنفية فإنهم يقنتون في آخر ركعة من الوتر قبل الركوع. 1130 - * روى أبو داود عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "رب أعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكاراً، لك ذكاراً لك رهاباً، لك مطيعاً، إليك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل دعوتي واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وسدد لساني، وثبت حجتي واسلل سخيمة قلبي"، قال أبو الحسن الطنافسي، قلت لوكيع أقوله في قنوت الوتر، قال نعم. 1131 - * روى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال سئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده. أقول: هذا دليل على أن أمر القنوت واسع، وكل من الأئمة أخذ في شأنها بالأحوط. لكن لما كان يعارض بعض الأحاديث التي نصت على القنوت قبل الركوع فقد خصص بعض العلماء مثل هذه الأحاديث بالنوازل، ويمكن أن يستأنس بما ورد في القنوت إلى أنه يوجد في النصوص ما يمكن اعتباره اختلاف تنوع لا تضاد، فالشريعة منزهة عن التضاد في حقيقة الأمر.
1132 - * روى الترمذي عن أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قلت لأبي: يا أبت، قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، ها هنا بالكوفة خمس سنين، أكانوا يقنتون في الفجر، قال: أي بني، محدث. وفي رواية (2) للنسائي، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني بدعة. وهو حديث صحيح، أي القنوت بدعة في الفجر بدليل الحديث السابق. 1133 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر: أن ابن عمر رضي الله عنهما: كان لا يقنت في شيء من الصلاة. وقد ثبت فيما قبله القنوت في النوازل وفي رواية الطبراني: إلا في الوتر قبل الركعة وصححها العلماء. خلاصة الأحكام التي تؤخذ من الأحاديث بما يجمع بينها ويزيل تعارضها: أن القنوت الذي استمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو قنوت الوتر فحسب. وهناك قنوت النوازل وهذا يكون في الصلوات كلها أو في الجهرية فقط أو في الفجر والمغرب وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في القنوت في غير الوتر وهذه لا يستمر عليها بل في وقت النازلة. وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته من بعده. لكن الشافعية ومن وافقهم عمم الأمر فجعل القنوت في الفجر مستمراً وما روي أنه صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا فلم يصح سنداً. وهل القنوت قبل الركوع أو بعده؟
الصحيح أن القنوت الذي استمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قنوت الوتر والثابت أنه كان قبل الركوع من الركعة الأخيرة كما مر معنا في الأحاديث أما في النوازل فالثابت أنه كان يقنت بعد الركوع. وفي قنوت النوازل يجهر الإمام ويؤمن المأمومون. وبذلك يجمع بين الروايات التي ذكرت القنوت قبل الركوع وبعده، والروايات التي ذكرت القنوت في الفجر وفي الصلوات، والله أعلم.
الدعاء في القنوت
الدعاء في القنوت: 1134 - * روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبزى قال: صليت خلف عمر بن الخطاب الصبح فلما فرغ من السورة في الركعة الثانية قال قبل الركوع: (وفي رواية الطحاوي بعد الركوع): "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك". 1135 - * روى أبو داود: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع (أي نخضع) ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق". ومن مجموع الروايات الواردة أخذ الحنفية الدعاء الذي سنذكره في الفوائد عن أبي الحوراء قال. 1136 - * روى أحمد عن الحسن بن علي: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني واصرف عني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت". أقول: من خلال الروايات فالأشبه بالصواب والله أعلم أن يكون الدعاء الثاني في القنوت قبل الركوع والأول في القنوت للنوازل بعد الركوع لأن بعض الروايات توضح أن ذلك كان في النوازل ... وسنذكر في الفوائد آراء العلماء في ذلك.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - القنوت في النوازل مظهر من مظاهر تماسك الأمة الإسلامية ووحدتها، وبه تتحقق حكم كثيرة، فالكل يشعر بالآم الجزء، وببركة دعاء عامة المسلمين فإن البلاء يرتفع سواء كان عاماً أو خاصاً، وبه تتحقق فوائد كثيرة، فبه تجتمع قلوب المسلمين مثلاً على عدو ينزل بأسه ببعضهم فيوجد رأي عام موحد بين المسلمين ضد عدوهم. تصور أن بلداً من بلدان المسلمين هاجمها الكافرون فلم يبق مسجد في العالم إلا وأهله يدعون لإخوانهم ويلعنون عدوهم، كم يكون لذلك من آثار مباركة غير أن هذا يحتاج إلى جهة مركزية يثق بها المسلمون ويطيعونها إذا أمرتهم، وعلى العلماء الربانيين العاملين أني كونوا هم هذه الجهة. - يقنت الحنفية في آخر ركعة من الوتر قبل الركوع بهذا الدعاء: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق. وهو دعاء مشهور مأثور عن ابن عمر، وهو الذي يقنت به المالكية قبل ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر. - الإمام عند الشافعية مخير بين الجهر والإسرار في قنوت الفجر وكذلك المنفرد، ويختم دعاء القنوت عندهم بقول: (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم). وقال الحنفية إذا قنت الإمام في صلاة الفجر سكت من خلفه لأنه منسوخ ولا متابعة فيه، وقال أبو يوسف يتابع المأموم الإمام فيه. - من الملاحظ أن دعاء القنوت عند الشافعية قسمان: قسم فيه دعاء وهو: (اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت). فهذا القسم دعاء يؤمن عليه المأموم.
والقسم الثاني من دعاء القنوت ثناء على الله عز وجل وهو: (فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وغنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك) فهذا القسم من الثناء يقوله المنفرد، وأما المأموم فإما أن يقوله سراً أو يقول عندما يتلوه الإمام أشهد، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن فيها ويشارك في قولها، ويرفع يديه بالدعاء أثناء القنوت نحو السماء، والصحيح أنه لا يمسح بيديه وجهه، وإذا لم يسمع المأموم قنوت الإمام قنت سراً، وجرت عادة بعض الشافعية بأن يجعل ظهر كفيه إلى السماء عند قوله: وقني شر ما قضيت، وقد أفتى بعض الشافعية بأنه لا يسن ذلك. - يسن القنوت عند الحنابلة كالحنفية في الوتر إلا أنه يكون عندهم بعد الركوع ولو قنت قبل الركوع فلا بأس ويجهر في القنوت إن كان إماماً أو منفرداً، ويقنت بأي من قنوت الحنفية أو الشافعية أو بما شاء، وإذا أخذ الإمام في القنوت أمن من خلفه ويرفع يديه ويمسح وجهه بيديه.
الفصل الثامن في القعود في الصلاة وما يتعلق به عرض إجمالي
الفصل الثامن في القعود في الصلاة وما يتعلق به عرض إجمالي الصلاة إما ثنائية أو ثلاثية أو رباعية. فالثنائية لها قعود واحد هو القعود الأخير، والثلاثية والرباعية فيها قعودان: القعود الأول والقعود الأخير. والقعود الأخير ركن عند الحنفية مقدار التشهد وهو ركن كذلك عند الحنابلة والشافعية ولكن الركنية عندهما تزيد على مقدار التشهد كما سنرى، وتتحقق الركنية عند المالكية بمقدار الجلوس للسلام. والقعود الأول واجب عند الحنفية، سنة عند الجمهور، وقراءة التشهد في القعود الأول والأخير واجب عند الحنفية سنة عند الجمهور، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير سنة عند الحنفية والمالكية، وتكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود الأول بعد التشهد عند الحنفية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فرض عند الحنابلة والشافعية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود الأول بعد التشهد سنة عند الشافعية. وصفة الجلوس للقعود الأول والأخير عند الحنفية كصفة الجلوس بين السجدتين: يفترش اليسرى وينصب اليمنى كما ذكرنا وقال المالكية يجلس متوركاً في التشهد الأول والأخير وقال الحنابلة والشافعية يسن التورك في التشهد الأخير، واستثنى من ذلك الحنابلة صلاة الصبح، فالسنة فيها الافتراش. وللتشهد صيغ مأثورة، وقد أخذ الحنفية والحنابلة بتشهد ابن مسعود والمالكية بتشهد عمر بن الخطاب وأخذ الشافعية بتشهد ابن عباس كما سنرى ذلك. وأقل ما تتحقق به الفرضية عند الشافعية والحنابلة في التشهد الأخير بالنسبة للصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (اللهم صلي على محمد) وأكمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الجميع:
- كيفية الجلوس
الصلوات الإبراهيمية ويجب أن يكون التشهد بالعربية، وعلى غير العربي أن يتعلمه وريثما يتعلمه أتى بما يمكنه وإن لم يحسن شيئاً بالكلية سقط كله عنه. وبعد التشهد في القعود الأخير، والصلوات الإبراهيمية يدعو بما هو مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند الحنفية أو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة عند الأئمة الآخرين وقال الحنفية: ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يشبه كلام الناس، وبعد الدعاء يختتم الصلاة بالتسليمتين، والسلام واجب عند الحنفية ركن عند الجمهور ويسن عند الجميع الالتفات يميناً وشمالاً حتى يرى بياض خده قائلاً عند الجمهور: (السلام عليكم ورحمة الله) ويزيد عند المالكية (وبركاته). ويستحب للمصلي بعد انتهاء صلاته أن ينتظر قليلاً، وإذا أتى بأذكار ما بعد الصلاة وهو في محله فذلك أفضل، وإذا أراد الانصراف لم يتقيد بيمين أو شمال بل ينصرف إلى جهة حاجته، وإذا أراد صلاة السنة يندب له أن يفصل بين الفرض والسنة بانتقال أو بشيء من كلام أو ذكر مأثور، والأفضل أن يصلي التطوع في بيته. وهناك تفصيلات حول القعودين والتشهد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء والسلام حول ما هو المفروض والواجب والسنة والمندوب سنراها أثناء عرض نصوص الفصل ومسائله وفوائده. (انظر الدر المختار 1/ 301 و 306 و 312 والشرح الصغير 1/ 314 وحاشية الصاوي عليه، والمنتقى 1/ 167 وما بعدها والمغني 1/ 522 فما بعدها والفقه الإسلامي 1/ 664 فما بعدها و 1/ 710 وما بعدها). وإلى نصوص هذا الفصل: - كيفية الجلوس: 1137 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف، قال شعبة: ثم حرك سعد شفتيه بشيء، فأقول: حتى يقوم؟ فيقول: حتى يقوم. قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص): وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف، وقال الحافظ: إسناده صحيح، وعن ابن عمر نحوه، قال: وروى أحمد وابن خزيمة من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: التحيات ... إلى قوله: عبده ورسوله، ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها بعد تشهده دعا بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم، أقول: وهذه شواهد لحديث الباب. أقول: القعود الأول في الصلاة الثلاثية والرباعية عند الحنفية والحنابلة واجب، وهو سنة عند المالكية والشافعية، والتشهد في القعود الأول واجب عند الحنابلة، سنة في المذاهب الثلاثة الأخرى. ويسن باتفاق الفقهاء الإسرار بقراءة التشهد، وحديث ابن مسعود يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسرع في القيام من القعود الأول، ولذلك كرهوا أن يزيد المصلي على التشهد فيه، ويسن عند الشافعية أن يضم إليه (اللهم صلي على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي)، وصفة القعود الأول للتشهد الأول هي افتراش القدم اليسرى ونصب اليمنى عند الحنفية والشافعية والحنابلة، والتورك عند المالكية، وصيغة التشهد عن ابن مسعود هي: (التحيات لله، والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباده الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). 1138 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال عبد الله بن عبد الله
- الجلوس للتشهد وآدابه
بن عمر: "إنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته وأنا يومئذ حديث السن، فنهاني عبد الله بن عمر، وقال إنما سُنَّةُ الصلاة: أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني رجلك اليسرى، فقلت: إنك تفعل ذلك؟ قال: إن رجلي لا تحملاني". وفي رواية (1) النسائي قال: "إن من سنة الصلاة: أن تضجع رجلك اليسرى وتنصب اليمنى". وفي أخرى (2): "أن تنصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى". وفي أخرى (3) للموطأ عن عبد الله بن دينار: "أ، هـ سمع ابن عمر- وصلى رجل إلى جنبه- فلما جلس الرجل في أربع: تربع، وثنى رجليه، فلما انصرف عبد الله عاب ذلك عليه، فقال الرجل: إنك لتفعل ذلك، فقال عبد الله: إني اشتكي". وفي أخرى للموطأ (4) عن المغيرة بن حكيم: "أنه رأى ابن عمر تربع في السجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر ذلك له، فقال: إنها ليست بسنة الصلاة، وإنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي". - الجلوس للتشهد وآدابه: 1139 - * روى مسلم عن علي بن عبد الرحمن المعاوي قال: "رآني ابن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرف نهاني فقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، فقلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى".
وفي رواية (1) نافع عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها: وفي أخرى (2) لنافع عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة" وللنسائي (3). قال: قال علي بن عبد الرحمن: "صليت إلى جنب ابن عمر، فقلبت الحصى، فقال لي ابن عمر: لا تقلب الحصى، فإن تقليب الحصى من الشيطان، وافعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، قلت: وكيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؟ قال: هكذا، ونصب اليمنى وأضجع اليسرى، ووضع يده على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة". وفي أخرى (4) له نحوه، وقال: "كيف كان يصنع؟ قال: فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمى ببصره إليها، أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع". قال النووي في (شرح المهذب): وإسناده صحيح، وفي حديث وائل بن حجر عند ابن حبان والنسائي والبيهقي: فرأيته يحركها يدعو بها، وإسناده صحيح، قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها، لا تكرير تحريكها، فيكون موافقاً لرواية ابن الزبير، والله تعالى أعلم. أقول: وقد استدل آخرون بحديث وائل عن استحباب تحريك الأصبع، كما لك وغيره، وقال به بعض الشافعية، كما في (شرح المهذب) للنووي. قوله: (عقد ثلاثاً وخمسين): هو نوع من الحساب يعرف قديماً، قال النووي: (قوله عقد ثلاثاً وخمسين شرطه عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر وليس ذلك مراداً هنا بل المراد أن يضع الخنصر على الراحة ويكون على الصورة التي يسميها أهل الحساب تسعة وخمسين والله أعلم) شرح مسلم (5/ 82).
1140 - * روى مسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى، ووضع اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه- قال رواية: وأرانا عبد الواحد- وأشار بالسبابة. وفي رواية (2) لأبي داود: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويتحامل النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على فخذه اليسرى". وزاد في رواية (3): "لا يجاوز بصره إشارته". وللنسائي (4) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الثنتين أو في الأربع: يضع يديه على ركبتيه، ثم أشار بإصبعه". وللترمذي (5) نحو ذلك عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه عن جده وفيه: وقبض أصابعه وبسط السبابة وهو يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". 1141 - * روى الترمذي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: قدمت المدينة، فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جلس- يعني للتشهد- افترش رجله اليسرى ووضع يده- يعني على فخذه اليسرى- ونصب رجله اليمنى". وفي رواية (7) النسائي: "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جلس في الصلاة فافترش رجله اليسرى، ووضع ذراعيه على فخذيه، وأشار بالسبابة يدعو". 1142 - * روى ابن خزيمة عن عاصم بن كليب الجرمي، أخبرني أبي أن وائل بن حجر أخبره، قال:
قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي؟ قال، فنظرت إليه يصلي، فكبر، فذكر بعض الحديث وقال: ثم قعد فافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها، يدعو بها. أقول: افتراش الرجل اليسرى ونصب اليمنى في القعود الأول هو الذي عليه أكثر الروايات وقد أخذت به المذاهب الثلاثة غير المالكية، وأخذ المالكية بالتورك الذي ورد في حديث عبد الله بن الزبير، والأمر واسع لأن الخلاف في الأفضلية، وأما وضع اليدين على الفخذين فهي تشبه وضع اليدين على الفخذين فيما بين السجدتين إلا ما له علاقة بما يصنع بكفه اليمنى وما يفعل بسبابتها. فالحنفية يرون أنه يشير بسبابة يده اليمنى برفعها عند نفي الألوهية عما سوى الله تعالى عندما يقول: (لا إله) ويضعها عند قوله: (إلا الله)، ولا يعقد شيئاً من أصابعه، لأن رواية مسلم عن ابن الزبير لا تحتمل إلا الوضع والإشارة. وقال المالكية يضم المصلي الخنصر والبنصر والوسطى ويمد أصبعه السبابة ويحركها وسطاً من أول التشهد إلى آخره يميناً وشمالاً أخذاً بحديث وائل. وأما الشافعية فقد قالوا يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويشير بالسبابة رافعاً إياها عند قوله (إلا الله) ولا يحركها. وقال الحنابلة: يحلق الإبهام مع الوسطى ويقبض الخنصر والبنصر ويرفع السبابة عند قوله (إلا الله) كالشافعية، ويديم النظر إليها، ولا يحرك الأصبع. وإنما الخلاف بين الأئمة في هذه المسألة في الأفضلية كذلك ولا يترتب على فعل أي هيئة إثم، إلا أن الحنفية يعتبرون تحريك الأصبع مكروهاً، والأمر واسع. 1143 - * روى مسلم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة، وضع
يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه التي تلي الإبهام اليمنى فيدعو بها، ويده اليسرى على ركبتيه باسطها عليه. 1144 - * روى أحمد عن خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في آخر صلاته يشير بأصبعه السبابة وكان المشركون يقولون يسحر بها وكذبوا ولكنه التوحيد. 1145 - * روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "مر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو، وأشير بإصبعي، فقال: "أحد أحد"، وأشار بالسبابة". 1146 - * روى أبو يعلى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يدعو بأصبعيه جميعاً فنهاه وقال: "بإحداهما باليمين". أقول: الخلاف في وضع الكف اليمنى في القعود الأخير كالخلاف في القعود الأول، فعند الحنفية تبقى كفه اليمنى مبسوطة طوال القعود ويرفع السبابة عند (لا إله) ثم يرجعها كما كانت عندما يقول (إلا الله) وأما المالكية فيحركون السبابة- مع تحليق الأصابع الثلاثة- يميناً وشمالاً تحريكاً وسطاً في كل القعود، وأما الحنابلة والشافعية فيحلقون من ابتداء القعود ولا يرفعون السبابة إلا عند قولهم (إلا الله) ويستمرون برفعها متجهة نحو القبلة دون تحريك إلى نهاية الصلاة، والأمر كما قلنا واسع.
- ألفاظ التشهد المسنونة
- ألفاظ التشهد المسنونة: 1147 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في الركعتين: التحية، وكان يفرش رجله اليسرى تحت اليمنى. أقول: في الحديث إشارة إلى التورك، فإن كان المراد بالركعتين: الصلاة الثنائية كالفجر فقد قال بالتورك فيه المالكية، وقال بسنية التورك الأخير الحنابلة والشافعية، وإن كان مرادها القعود الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية، فقد أخذ المالكية بسنية التورك في القعود الأول والأخير والمذاهب الثلاثة على سنية افتراش اليسرى ونصب اليمنى في القعود الأول. 1148 - * روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها قال: فكان يقول: إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: "التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" قال ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم. 1149 - * روى أحمد ورواه بسند آخر وقال بعد قوله: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" قال: "فإذا قضيت هذا أو قال فإذا فعلت هذا فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد". أقول: هذه الصيغة للتشهد هي التي أخذ بها الحنفية ولاحنابلة وبمذهب ابن مسعود في
أن القعود مقدار التشهد تتحقق فيه الركنية في القعود الأخير هو الذي أخذ به الحنفية، وقال المالكية: الركنية تتحقق بمجرد الجلوس للسلام، وقال الشافعية والحنابلة لابد من أن يكون بعض التشهد شيء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحد المفترض بالتشهد عند الشافعية مختصر، فلو أنا جمعنا ما تقوم به الفرضية من التشهد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلغ مقدار التشهد عند الحنفية. 1150 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد- كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن: "التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله". وفي رواية (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله ... وذكره"، وزاد عند ذكر- عباد الله الصالحين-: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض ... " وفي آخره: ثم يتخير من المسألة ما شاء. وأخرج النسائي (3) الرواية الأولى، إلا أنه قال: "وقعدت بين يديه". عوض كفي بين كفيه". وفي رواية (4) أبي داود، قال: "كنا إذا جلسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن إذا جلس أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم ذلك: أصابك ل عبد صالح في
السماء- أو بين السماء- والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به". وفي رواية (1)، قال: "كنا لا ندري ما نقول إذا جلسنا في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُلِّمْ ... فذكر نحوه. قال شريك: وفي رواية عنه مثله، قال: وكان يعلمناهن كما يعلمنا التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا". وفي أخرى (2)، قال علقمة: إن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله، فعلمه التشهد في الصلاة ... فذكر مثل دعاء حديث الأعمش، وهي الرواية الأولى، وقال: "إذا قلت هذا أو قضيت هذا: فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد" وقد سكت عن هذه الرواية المنذري. وفي رواية (3) النسائي، قال: "كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم علم مفاتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: "التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله". وفي أخرى (4) قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة، والتشهد في الحاجة، فقال: "التشهد في الصلاة: التحيات ... وذكر مثله". وله في أخرى (5)، قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعلم شيئاً، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا في كل جلسة: التحيات لله ... الحديث".
رواه أيضاً الدارقطني وقال الصحيح إن قوله إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك من كلام ابن مسعود فصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود وقوله أشبه بالصواب ممن درجه. وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه نقلاً عن المجد بن تيمية في المنتقى. وفي النيل (2/ 314) وأما حديث ابن مسعود فقال البيهقي في الخلافيات: إنه كالشاذ من قول عبد الله وإنما جعله كالشاذ لأن أكثر أصحاب الحسن بن الحر لم يذكروا هذه الزيادة لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث ولا مدرجة في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عن عبد الرحمن بن ثابت عن الحسن فجعلها من قول ابن مسعود وزهير بن معاوية عن الحسن فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه. ورواها شبابة بن سوار عنه مفصولة كما ذكره الدارقطني. وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الزيادة بلفظ (مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم إذا سلم الإمام فقم إن شئت) قال وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود وقد صرح بأن تلك الزيادة المذكورة في الحديث مدرجة جماعة من الحفاظ منهم الحاكم والبيهقي والخطيب وقال النووي في الخلاصة اتفق الحفاظ على أنها مدرجة. أقول: على كل الأحوال فإنه من الثابت عن ابن مسعود قوله بعد التشهد (فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد) ومن ذلك أخذ الحنفية أن الركنية تقوم بهذا القدر، وأن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم واجبان في نهاية الصلاة، وأن الدعاء قبل السلام سنة، ومن الأهمية بمكان أن نقف عند قول ابن مسعود: (كفي بين كفيه) أثناء تعليمه التشهد، وقول علقمة (إن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله) فهذا الأخذ بالأيد أثناء التلقين للأذكار أو أثناء تعليم لمهم في الشريعة مما ينبغي أن يفطن له العلماء، وكذلك إجلاس المتعلم بين يدي العالم، مما ينبغي أن يلاحظه العالم على هيئة معينة كما ورد في إحدى روايات هذا النص مما ينبغي أن يراعيه العالم إذا أراد أن يلقي مهما في الدين على أحد تلاميذه وحديث جبريل الذي فيه الحديث عن الإسلام والإيمان والإحسان وكيفية جلوسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد لما ذكرناه.
1151 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: "التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله". إلا أن الترمذي قال: "سلام عليك- سلام علينا". بغير ألف ولام، وزاد البزار والأوسط: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد ويقول تعلموا فإنه لا صلوة إلا بتشهد. لكن شيئاً مما كانوا يحيون به الملوك لا يصلح للثناء على الله. وقيل (التحيات لله): هي أسماء الله سبحانه وتعالى: السلام، المؤمن، المهيمن، الحي، القيوم، الأحد، الصمد، يعني التحية بهذه الأسماء لله عز وجل. وقوله (الصلوات لله): أي الرحمة لله على العباد. وقوله (الطيبات لله): معناه الطيبات من الكلام مصروفات إلى الله سبحانه (انظر شرح السنة 3/ 182). قال البغوي (3/ 183): قال أهل المعرفة بالحديث: أصح حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد حديث ابن مسعود واختاره أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.
أقول: هذه الصيغة من التشهد أخذ بها الشافعية، والتشهد الأول عند الجمهور سنة وواجب عند الحنابلة، والتشهد الأخير سنة عند المالكية وواجب عند الحنفية وفرض عند الشافعية والحنابلة، ويسن باتفاق الفقهاء الإسرار بقراءة التشهد، وأقل ما يجزئ من التشهد عند الشافعية: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا غله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. 1152 - * روى النسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه صلوا معه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات لله، الطيبات، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله". 1153 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد: "التحيات لله، الصلوات، الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله- قال ابن عمر: زدت فيها: وبركاته- السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله- قال ابن عمر: زدت فيها: وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وفي رواية (3) الموطأ، قال نافع: "إن ابن عمر كان يتشهد: بسم الله، التحيات لله، الصلوات لله، الزاكيات لله، السلام على النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن محمداً رسول الله يقول هذا في الركعتين الأوليين، ويدعو إذا قضى تشهده بما بدا له، فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضاً، إلا أنه يقدم التشهد، ثم يدعو بما بدا له، فإذا أراد أن يسلم قال: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم يقول: السلام عليكم، عن يمينه، ثم يرد على الإمام، وإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه".
أقول: قال الحنفية وينوي الإمام بالتسليمتين السلام على من على يمينه ويساره من ملائكة ومسلمي الإنس والجن، وينوي المأموم: الرد على الإمام في التسليمة الأولى إن كان في جهة اليمين وفي التسليمة الثانية إن كان في جهة اليسار، وإن حاذاه نواه في التسليمتين وتسن نية المنفرد للملائكة فقط. قال الباجي في المنتقى (1/ 168): (وقوله: فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضاً إلا أن يقدم التشهد: بيان أن التشهدين عنده على صفة واحدة ولفظ واحد متقدمين على الدعاء من موضعيهما. قوله فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين: يريد أنه يعيد من آخر التشهد ما هو من جنس السلام وهو السلام على النبي وعلى المصلي وعلى عباد الله الصالحين ثم يصل بذلك سلامه من الصلاة ليدخل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء بعده في حكمه ويكون آخر التشهد المسنون متصلاً بسلامه). اهـ. 1154 - * روى مالك عن القاسم بن محمد رحمه الله أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول إذا تشهدت: "التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم". وله في أخرى (2) مثله ولم يقل: "وحده لا شريك له". 1155 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن عبد القاري: أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: "قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
- الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس الأخير
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". أقول: وبهذه الصيغة أخذ بعض المالكية. 1156 - * روى الطبراني عن الشعبي قال كان ابن مسعود يقول بعد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته: السلام علينا من ربنا. 1157 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: "من السنة: إخفاء التشهد". وفي رواية: "أن يخفي". أقول: التشهد مطلوب من الإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة ويسن فيه الإسرار للجميع. 1158 - * روى البزار عن (الأسود) كان ابن مسعود يعلمنا التشهد في الصلوة، فيأخذ علينا الألف والواو. - الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس الأخير: 1159 - * روى الشيخان عن كعب بن عجرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا يا رسول الله قد علمنا الله كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد،
- التسليم في انتهاء الصلاة وكيفيته
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". أقول: قال الشافعية والحنابلة: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن في القعود الأخير بعد التشهد، لهذا الحديث وللآية: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) (1) وتتحقق الركنية عند الشافعية بأن يقول المصلي (اللهم صل على محمد) وأكمل الصلاة على النبي أن يقول (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، وقال الحنفية والمالكية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود الأخير بعد التشهد سنة، وقال الحنفية: الصلاة على النبي صلى الله عليه سلم في القعود الأول من الصلاة الثلاثية والرباعية مكروه، وقال الشافعية والمالكية بسنتها وقال الحنابلة بوجوبها، قال البغوي (3/ 185): وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فعامة العلماء على أن التشهد الأول ليس محلاً لها. اهـ، وأما الصلاة على الآل في القعود الأخير فهي سنة عند الشافعية واجبة عند الحنابلة ويسن الدعاء بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام وقد مرت معنا بعض صيغه، وستمر معنا بعض صيغه فيما بعد. ويقتصر عند الحنفية على الدعاء المأثور، وأما الأئمة الآخرون فيقولون إن له أن يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، والمأثور أفضل ويندب تعميم الدعاء له ولغيره من المسلمين. - التسليم في انتهاء الصلاة وكيفيته: 1160 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".
أقول: السلام الأول للخروج من الصلاة حال القعود فرض عند المالكية والشافعية، والتسليمتان فرض عند الحنابلة في صلاة الفريضة، وقال الحنفية: التسليمتان واجبتان، فمن خرج بصنعه من الصلاة بغير سلام فصلاته جائزة عند الحنفية إلا أنها مكروهة كراهة تحريم وأقل ما يجزئ عند الحنفية (السلام) دون قوله (عليكم) وأكمله وهو السنة: أن يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) وأكمله عند المالكية (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته). وقوله: وتحليلها التسليم يفيد فرضية السلام ظاهراً كما قال الإمام الشافعي لكن عارضه حديث علي وغيره: (إذا جلس مقدار التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته) وهو موقوف في حكم المرفوع وإسناده حسن أخرجه البيهقي فأورث شبهة في فرضيته، فقال الحنفية بوجوبه) اهـ (انظر إعلاء السنن 3/ 14 و 117 و 141 ونيل الأوطار 2/ 344). (تحريمها التكبير) أصل التحريم، من قولك: حرمت فلاناً عطاءه، أي منعته إياه، وأحرم الرجل بالحج: إذا دخل فيما يمتنع معه من أشياء كانت مطلقة له قبل، وكذلك المصلي: بالتكبير صار ممنوعاً من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها، فقيل للتكبير: تحريم، لمنعه المصلي من ذلك: وتحليلها التسليم. أي: دخل بالتسليم في الحل والإباحة لما كان ممنوعاً منه، كما يستحل المحرم بالحج عند الفراغ منه ما كان محظوراً عليه. 1161 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله".
وزاد أبو داود (1) بعد قوله: "شماله": "حتى يرى بياض خده". وفي رواية النسائي (2): "حتى يرى بياض خده من ها هنا، [وبياض خده من ها هنا] ". 1162 - * روى أبو داود عن وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وعن شماله: "السلام عليكم ورحمة الله". 1163 - * روى مسلم عن أبي معمر الأزدي الكوفي قال: إن أميراً كان بمكة يسلم تسليمتين، فسمع به عبد الله، فقال: أنى علقها؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله. أقول: ليس هذا إنكاراً، بل تعجباً من علم الرجل وكان بعض الناس يجهلون مثل هذا أو يقتصرون على السلام الأول، وهو دليل لمن ذهب إلى سنية السلام الثاني، قال ابن المنذر: (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم إلى أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة) وقال الحنفية: لكنه مكروه تحريماً. 1164 - * روى ابن خزيمة عن هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يسلم واحدة السلام عليكم. 1165 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله- وأشار بيده إلى
الجانبين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علام تؤمنون بأيديكم، كأنها أذناب خيل شمس؟ وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله". وفي رواية (1) أبي داود، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم أحدنا: أشار بيده من عن يمينه، ومن عن يساره، فلما صلى قال: "ما بال أحدكم يومئ بيديه كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي- أو ألا يكفي- أحدكم أن يقول هكذا"- وأشار بإصبعه- "يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله". وفي أخرى (2) له بمعناه، وقال: "إنما يكفي أحدكم- أو أحدهم أن يضع يده على فخذيه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله". وفي أخرى (3) له، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعوا أيديهم- قال زهير: أراه قال: في الصلاة- قال: "مالي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة"، هذه الرواية الآخرة قد أخرجها مسلم (4) في جملة حديث يتضمن معنى آخر. أقول: من هذا الحديث وأمثاله أخذ الحنفية عدم رفع الأيدي في الصلاة إلى حذاء الأذنين إلا عند تكبيرة الإحرام تقليلاً للحركة في الصلاة، على أن القائلين بسنية الرفع لا يعتبرون ذلك من غير أفعال الصلاة. 1166 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يختم الصلاة بالتسليم، وينهى عن عقبة الشيطان.
أقول: فسر بعضهم عقبة الشيطان بأن يفترش الإنسان كلاً من قدميه فيما بين السجدتين أو أثناء القعود وهو مكروه، وفسره بعضهم بالإقعاء المعهود، أما أن ينصب الإنسان كلاً من قدميه ويجلس على عقبيه ما بين السجدتين فقد مر معنا أنه مسنون عند بعض المحدثين، ونقل عن الشافعي أنه مستحب والظاهر أنه خلاف السنة الأغلبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 1167 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". أقول: يستحب لمن فرغ من صلاة الفريضة ألا يصلي النافلة بعدها إلا بفاصل أو انتقال، ويجزئ في الفاصل عند الحنفية أن يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام) ويقرأ عند غير الحنفية أوراد الصلاة بعد التسليم وقبل صلاة النافلة، ويقرؤها عند الحنفية بعد صلاة النافلة لأن النافلة عندهم تجبر نقص الفريضة، فكان من المناسب أن يسارع إليها بعد أدنى فاصل. 1168 - * روى مسلم عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال: سألت أنس بن مالك: كيف أنصرف إذا سلمت: عن يميني، أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. 1169 - * روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً، ويصلي حافياً ومنتعلاً، وينصرف عن يمينه وعن شماله. 1170 - * روى مالك عن واسع بن حبان قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند
ظهره إلى جدار القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من قبل شقي الأيسر، فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال: فقلت: رأيتك فانصرفت إليك: قال عبد الله: فإنك قد أصبت، إن قائلاً يقول: انصرف عن يمينك، فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت: إن شئت على يمينك، وإن شئت على يسارك. 1171 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره. إلا أن أبا داود قال: أكثر ما ينصرف عن شماله. قال عمارة: أتيت المدينة بعد، فرأيت منازل النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره. 1172 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه كان ينفتل عن يمينه وعن يساره ثم يعيب على من يتوخى أو يعمد الانفتال عن يمينه. علقه البخاري بصيغة الجزم، قال الحافظ: وظاهر هذا الأثر يخالف ما رواه مسلم من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال: سألت أنساً كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري؟ قال أما أنا، فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. ويجمع بينهما بأن أنساً عاب من يعتقد تحتم ذلك ووجوبه، وأما إذا استوى الأمر فجهة اليمين أولى. قال البغوي (3/ 213): إذا كان المصلي له حاجة ينصرف إلى جانب حاجته فإن استوى الجانبان فينصرف إلى أي جانب شاء واليمين أولاهما لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب من التيمن وإن لم يرد الخروج من المسجد فليقبل على الناس بوجهه من جانب يمينه لحديث البراء الآتي. 1173 - * روى أبو داود عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انصرف انحرف.
وفي رواية (1) النسائي: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى انحرف. 1174 - * روى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، فيقبل علينا بوجهه، قال فسمعته يقول: "رب قني عذابك يوم تبعث عبادك أو تجمع عبادك". أقول: من ههنا استحب العلماء أن يحول الإمام جلسته بعد السلام فيتجه نوع اتجاه نحو المصلين، وقد جرت العادة في بعض البلدان أن يقيم الإمام والمأمومون أوراد الصلاة على هذه الصفة، وقيد الحنفية توجه الإمام نحو المصلين بأن يكون في صلاة ليس بعدها تنفل أو أن يتجه إليهم بعد التنفل. 1175 - * رو الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال إذا سلم الإمام وللرجل حاجة فلا ينتظره إذا سلم أن يستقبله بوجهه وإن فصل الصلاة التسليم، وكان عبد الله إذا سلم لم يلبث أن يقوم أو يتحول من مكانه أو يستقبلهم بوجهه. 1176 - * روى البخاري عن هند بنت الحارث، أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها: أن النساء كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى خلفه من الرجال، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال. 1177 - * روى البخاري عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا سلم من الصلاة لم يمكث إلا يسيراً حتى يقوم. قال الزهري: فنرى ذلك- والله أعلم- أن ذاك ليذهب النساء قبل أن يخرج أحد من الرجال. أقول: هذه من الأفعال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم فيها الناس ما هو من باب الذوق والمروءات، وهو شيء نجده في كثير من تعاليمه ومن تصرفاته عليه الصلاة والسلام وتصرفات أصحابه، لذلك كان للمروءات شأنها في الإسلام حتى قال الفقهاء: إن من فعل فعلاً يخل بالمروءة ولو كان مباحاً سقطت عدالته، ومن مثل هذا النص أخذ بعض القائمين على التعليم في بعض البلدان الإسلامية بمبدأ صرف الطالبات من مدارسهن قبل صرف الذكور. 1178 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن رفع الصوت بالذكر، حين ينصرف الناس من المكتوبة: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته. وفي رواية (2): ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير قال عمر [بن دينار]: وأخبرني به أبو معبد، ثم أنكره بعده. إلا أن أبا داود قال في الأولى: [كنت أعلم إذا انصرفوا] بذلك، وأسمعه. وأخرج النسائي الرواية الثانية (3)، وقال الحافظ في (الفتح) قال النووي: حمل الشافعي هذا الحديث على أنهم جهروا به وقتاً يسيراً لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داموا على الجهر به، والمختار أن الإمام والمأموم يخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم.
1179 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم، وإذا سلمت فعجلت بك حاجة فانطلق قبل أن تقبل بوجهك. أقول: الظاهر أن الخطاب في الأثر للإمام الذي يندب له بعد الصلاة أن يتوجه إلى المصلين، فله إذا انتهت الصلاة أن يخرج مباشرة لحاجته، وقد يراد بالإقبال الإقبال على أوراد الصلاة وأذكارها فيكون الخطاب موجهاً لكل مصل، وهذا يفيد أن الإمام والمأموم يقتصران على مجرد الصلاة، دون أذكارها إذا كان هناك وضع خاص يقتضي الإقبال على مهمة من دين أو دنيا، كأن يكون الناس في اجتماع يتدارسون فيه أمراً مهماً، والإقبال على الأذكار والدعوات يكون على حساب هذا المهم.
الفصل التاسع في الخشوع في الصلاة
الفصل التاسع في الخشوع في الصلاة قال الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (1) قال مجاهد: السكون (فيها)، وقال مجاهد في قوله تعالى: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) (2) قال: هو الخشوع والتواضع، والخشوع قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في البدن والبصر والصوت، قال تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن) (3)، أي انخفضت. 1180 - * روى أحمد عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء". وفي رواية (5) النسائي "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل- يعني يبكي". 1181 - * روى ابن خزيمة عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا، وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح". قال ابن خزيمة: قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة
بالناس، فقيل له: إنه رجل رقيق كثير البكاء حين يقرأ القرآن، من هذا الباب. 1182 - * روى أبو يعلى عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت فيناديه بلال بالأذان فيقوم فيغتسل فإني لأرى الماء ينحدر على خده وشعره ثم يخرج فيصلي فأسمع بكاءه". 1183 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، ثم انصرف، فقال: "يا فلان، ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه، إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي". أقول: هذه الحالة هي مما أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا موضوع للروح دخل فيه، وظاهرة التلباثي التي يتحدث عنها مسلمون وكافرون تبين لنا أن للروح استشفافاتها وحال رسل الله صلى الله عليه وسلم لا يشبهه حال وإنما ذكرنا هذا للتقريب. 1184 - * روى أحمد عن أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فلما سلم نادى رجلاً كان في آخر الصفوف، فقال: "يا فلان ألا تتقي الله، ألا تنظر كيف تصلي؟ إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يقوم يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه. إنكم ترون أني لا أراكم، إني والله لأرى من خلف ظهري كما أرى من بين يدي". 1185 - * روى مالك عن النعمان بن مرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما ترون في الشارب والزاني والسارق؟ " وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود، قالوا:
الله ورسوله أعلم، قال: "هن فواحش، وفيهن عقوبة وأسوأ السرقة: الذي يسرق صلاته"، قالوا: كيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" قال النعمان: وكان عمر يقول: "إن وجه دينكم الصلاة، فزينوا وجه دينكم بالخشوع". 1186 - * روى أحمد عن أبي قتادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته" قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها أو لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود". 1187 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرق الناس الذي يسرق صلاته"، قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته قال "لا يتم ركوعها ولا سجودها وأبخل الناس من بخل بالسلام". 1188 - * روى البزار عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من الجفاء أن يبول الرجل وهو قائم أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته أو ينفخ في سجوده". وقد روي هذا الحديث موقوفاً عن ابن مسعود من طريق قتادة عن عبد الله بن بريدة عن ابن مسعود موقوفاً ومن طريق الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود موقوفاً، وهنا روي عن سعيد بن عبيد الله ثنا عبد الله بن بريدة عن بريدة مرفوعاً، فأعله لذلك بعضهم بالاضطراب، إذ أن سعيد بن عبيد الله فيه ضعف يسير قال عنه الحافظ (صدوق ربما وهم)، قال البخاري حديث منكر يضطربون فيه، وقال الترمذي: (حديث بريدة في هذا
غير محفوظ، (انظر سنن الترمذي 1/ 18)، (السنن الكبرى للبيهقي 2/ 285)، وقال في (النيل 2/ 268): (قال العراقي ورجاله رجال الصحيح، ورأيت بخط الحافظ على كلام زين الدين ما لفظه: وقوله رجاله رجال الصحيح ليس بصحيح)، قال العيني في (شرح البخاري 3/ 135): في قول الترمذي هذا نظر، لأن البزار أخرجه بسند صحيح ... ، قال العلامة المباركفوري: (الترمذي من أئمة هذا الشأن فقوله حديث بريدة في هذا غير محفوظ: يعتمد عليه وأما إخراج البزار حديثه بسند ظاهره الصحة فلا ينافي كونه غير محفوظ) انظر (سنن الترمذي 1/ 18) تعليق العلامة أحمد شاكر. 1189 - * روى الطبراني عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً". 1190 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة"، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: "لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم". 1191 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء، أو لتخطفن أبصارهم". 1192 - * روى الطبراني عن عبد الله قال ما يأمن الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يعود رأسه رأس كلب ولينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم.
1193 - * روى أبو داود عن أبي ذر الغفاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه". 1194 - * روى أحمد عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثه أن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يفعل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يفعلوا بهن، يعظ الناس ثم قال: إن الله أمركم بالصلاة، فإذا نصبتم وجوهكم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده حين يصلي له، فلا يصرف عنه وجهه حتى يكون العبد هو ينصرف. 1195 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو الاختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". 1196 - * روى أبو داود عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها". 1197 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال: قاروا الصلاة يقول: اسكنوا اطمئنوا.
1198 - * روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه وأنا حاضر: "لو كان لأحدكم هذه السارية لكره أن يخدع. كيف يعمل أحدكم فيخدع صلاته التي هي لله، فأتموا صلاتكم فإن الله لا يقبل إلا تاماً". 1199 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث ونهاني عن ثلاث، فنهاني عن نقرة كنقرة الديك وإقعاء كإقعاء الكلب والتفات كالتفات الثعلب". 1200 - * روى الشيخان عن عائشة: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام فقال: "شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية". قال البغوي (3/ 256): فيه دليل على كراهية تنقيش مواضع الصلاة، والصلاة على المصلى المنقوش وفيه أن من استثبت خطاً مكتوباً وهو في الصلاة لم تفسد صلاته، وفيه أن التفكر في الشيء لا يبطل الصلاة. قال عمر إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال إني لأضطجع على فراشي فما يأتيني النوم وأقوم إلى الصلاة فما تتوجه إلي القراءة من اهتمامي بأمر الناس، قال مالك: يريد أن يطاع الله ولا يعصى الله. 1201 - * روى مسلم عن ابن عمر: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم على طعام فلا يعجلن حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة".
1202 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء". وفي رواية (1) "إذا وضع العشاء". 1203 - * روى مسلم عن عائشة: رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان". 1204 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا لمن يدافعه الأخبثان". 1205 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم". 1206 - * روى البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فأتوها، وعليكم السكينة والوقار، فصلوا ما أدركتم، وأتموا ما فاتكم". 1207 - * روى الشيخان عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وأنتم تمشون، عليكم السكينة فما أدركتم
- حقيقة الخشوع وطرق تحصيله.
فصلوا، وما فاتكم فاقضوا". 1208 - * روى مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله". - حقيقة الخشوع وطرق تحصيله. مما قلته في كتابنا المستخلص في تزكية الأنفس: إن الخشوع هو المظهر الأرقى لصحة القلب فإذ يرتفع علم الخشوع فهذا يعني أن القلب المسلم قد خرب، فما ذهب الخشوع إلا وقد غُلب القلب بأمراض خطيرة وأحوال شريرة كحب الدنيا والتنافس عليها، ومتى غلب القلب بالأمراض فقد التطلع إلى الآخرة، ومتى وصل إلى ذلك فلا صلاح للمسلمين، فحب الدنيا يعقبه التنافس عليها، والتنافس عليها لا يقوم به أمر دنيا ودين. إن فقدان الخشوع علامة على فقدان القلب حياته وحيويته فالموعظة فيه لا تؤثر، والأهواء فيه غلابة، وتصوره بعد ذلك كيف يكون الحال؟ عندما تتغلب الأهواء ولا ينفع وعظ ولا تذكير فعندئذ تتغلب الشهوات ويقوم سوق التنافس على الجاه والغلبة والسيطرة والمال والشهوات. وهذه إذا سيطرت لا يصلح معها دنيا أو دين؟. والخشوع علم بنص الحديث النبوي، وهذا العلم قل العارفون به، فإذا ظفرت أيها المسلم بالخاشع الذي يستطيع أن يوصلك إلى الخشوع فتمسك به فإنه العالم حقاً إذ هذه علامة علماء الآخرة.
(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (1). إن علم الخشوع مرتبط بعلم تصفية القلوب من أمراضها وتحققها بصحتها وذلك باب واسع، ولذلك فعلماء الآخرة يبدؤون بتلقين السالك إلى الله الذكر والحكمة حتى يحيا قلبه، فإذا حيي قلبه نقوه من الأوصاف الذميمة ودلوه على الأوصاف الحميدة، وههنا يأتي تعويد قلبه على الخشوع من خلال الحضور مع الله والتأمل في المعاني ولكل ذلك طريقه المشروع عندهم. وخشوع الجوارح في الصلاة هو ميزان خشوع القلب فبقدر ما تخشع في صلاتك فذلك علامة الخشوع في قلبك، (انظر المستخلص 36 - 37). قال في مختصر منهاج القاصدين. "- واعلم أن للصلاة أركاناً وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فإن الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضراً، لم يحصل المقصود، فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، قال الله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) (2) والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذي استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلابد من حضور القلب في الصلاة، ولكن سامح الشارع في غفلة تطرأ، لأن حضور القلب في أولها ينسحب حكمه على باقيها.
والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة: المعنى الأول: حضور القلب كما ذكرنا، ومعناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا، فمتى رأيت قلبك لا يحضر في الصلاة، فاعلم أن سببه ضعف الإيمان، فاجتهد في تقويته. والمعنى الثاني: التفهم لمعنى الكلام فإنه أمر وراء حضور القلب، لأنه ربما كان القلب حاضراً مع اللفظ دون المعنى، فينبغي صرف الذهن إلى إدراك المعنى بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها، فإن المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر عنها. والمواد، إما ظاهرة، وهي ما يشغل السمع والبصر، وإما باطنة وهي أشد كمن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا، فإنه لا ينحصر فكره في فن واحد، ولم يغنه غض البصر، لأن ما وقع في القلب كاف في الاشتغال به. وعلاج ذلك إن كان من المواد الظاهرة، بقطع ما يشغل السمع والبصر، وهو القرب من القبلة، والنظر إلى موضع سجوده، والاحتراز في الصلاة من المواضع المنقوشة، وأن لا يترك عنده ما يشغل حسه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى في أنبجانية لها أعلام نزعها وقال: "إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي". وإن كان من المواد الباطنة، فطريق علاجه أن يرد النفس قهراً إلى ما يقرأ في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويستعد لذلك قبل الدخول في الصلاة، بأن يقضي أشغاله، ويجتهد في تفريغ قلبه، ويجدد عل نفسه ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عز وجل وهول المطلع، فإن لم تسكن الأفكار بذلك، فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه، فليترك تلك الشهوات وليقطع تلك العلائق. واعلم: أن العلة متى تمكنت لا ينفعها إلا الدواء القوي، والعلة إذا قويت جاذبت المصلي وجاذبها إلى أن تنقضي الصلاة في المجاذبة، ومثل ذلك كمثل رجل تحت شجرة أراد أن
يصفو له فكره، وكانت أصوات العصافير تشوش عليه وفي يده خشبة يطيرها بها، فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها، فقيل له. هذا شيء لا ينقطع، فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوة إذا علت وتفرقت أغصانها انجذبت إليها الأفكار كانجذاب العصافير إلى الأشجار والذباب إلى الأقذار، فذهب العمر النفيس في دفع ما لا يندفع، وسبب هذه الشهوة التي توجب هذه الأفكار حب الدنيا. قيل لعامر بن عبد قيس رحمه الله: هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا في الصلاة؟ فقال: لأن تختلف الأسنة في أحب إلي من أن أجد هذا. واعلم: أن قطع حب الدنيا من القلب أمر صعب، وزواله بالكلية عزيز، فليقع الاجتهاد في الممكن منه، والله الموفق المعين. المعنى الثالث: التعظيم لله والهيبة، وذلك يتولد من شيئين: معرفة جلال الله تعالى وعظمته، ومعرفة حقارة النفس وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين: الاستكانة، والخشوع. ومن ذلك الرجاء: فإنه زائد على الخوف، فكم من معظم ملكاً يهابه لخوف سطوته كما يرجو بره. والمصلي ينبغي أن يكون راجياً بصلاته الثواب، كما يخاف من تقصيره العقاب. وينبغي للمصلي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء للقيامة ويشمر للإجابة، ولينظر ماذا يجيب، وبأي بدن يحضر. وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق، فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق، وليس لها عنه ساتر، وأنها يكفرها الندم، والحياء، والخوف. وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، فصرف قلبه إلى الله تعالى أولى من ذلك، فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى الله تعالى إلا بالانصراف عما سواه.
إذا كبرت أيها المصلي، فلا يكذبن قلبك لسانك، لأنه إذا كان في قلبك شيء أكبر من الله تعالى فقد كذبت، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى. فإذا استعذت، فاعلم أن الاستعاذة هي لجأ إلى الله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وتفهم معنى ما تتلو، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: (الحمد لله رب العالمين)، واستحضر لطفه عند قولك: (الرحمن الرحيم)، وعظمته عند قولك: (مالك يوم الدين)، وكذلك في جميع ما تتلو. وقد روينا عن زرارة بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قرأ في صلاته: (فإذا نقر في الناقور) [المدثر: 8] فخر ميتاً، وما ذاك إلا لأنه صور تلك الحال فأثرت عنده التلف. واستشعر في ركوعك التواضع، وفي سجودك زيادة الذل، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خلقت منه وتفهم معنى الأذكار بالذوق. واعلم: أن أداء الصلاة بهذه الشروط الباطنة سبب لجلاء القلب من الصدأ، وحصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمة المعبود، وتطلع على أسراره وما يعقلها إلا العالمون. فأما من هو قائم بصورة الصلاة دون معانيها، فإنه لا يطلع على شيء من ذلك بل ينكر وجوده. (مختصر منهاج القاصدين 29 - 31) وانظر (إحياء علوم الدين 1/ 134 و 142) وقال في (شرح السنة 3/ 261): وقال عكرمة عن ابن عباس قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه. قال سلمان: الصلاة مكيال، فمن أوفى أوفي له، ومن طفف، فقد علمتم ما قال الله للمطففين.
ورأى سعيد بن المسيب رجلاً يعبث في صلاته، فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه. وقال مجاهد في قوله سبحانه وتعالى (فإذا فرغت فانصب) قال إذا فرغت من دنياك، فانصب في صلاتك، (وإلى ربك فارغب) اجعل نيتك ورغبتك إلى ربك. وقال مجاهد في قوله (وقوموا لله قانتين) (البقرة: 238] قال: من القنوت. الركود، والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله. ا. هـ.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - في عملية التفصيل الفقهي في الصلاة يتحدث عما هو ركن وواجب وسنة وأدب لتبيان قوة الإلزام في النصوص، وللفتوى فيما يبطل الصلاة أو لا يبطلها، ولتراعى بعض الحالات الاستثنائية التي لا يكون فيها أمام المسلم الخيار إلا أن يراعي الأهم فالمهم. والأصل في الصلاة أن تؤدى تامة الأركان والواجبات والسنن والآداب، والعلم ينبغي أن يزيد من حرص العالم على الكمال ولكن بعض الناس يعكسون الأمر، فيتساهلون في واجبات أو سنن أو آداب، فهؤلاء لم يكن العلم في حقهم هو العلم النافع، والنصوص التي مرت معنا في هذا الفصل تحذر أمثال هؤلاء كما تحذر الجاهلين من أن ينتقص الإنسان من صلاته. - الخشوع من مقاصد الإسلام العظيمة في الصلاة وتلاوة القرآن وفي الحياة العامة، فالأصل في المسلم أن يكون خاشعاً في الصلاة وخارجها قال تعالى: (وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والصابرين على ما أصابهم، والمقيمي الصلاة) (1)، وقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) (2). وفي شأن تعظيم الخشوع في الصلاة قال تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (3) وقال تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرجوا سجداً وبكياً) (4) وفي شأن الخشوع لسماع القرآن قال تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (5) (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (6).
- ولأهمية الخشوع في الصلاة نهى الشارع أن يصلي الإنسان وهناك صارف طبيعي يصرفه عن الخشوع كوجود الطعام، ونهى عن إتيان الصلاة إلا بهيئة خشوع فلا يركض الإنسان من أجلها وأمر بإتمام هيئاتها الظاهرة من طمأنينة وعدم التفات وأمر بالإقلال من الحركة، ونهى عما يصرف عن الخشوع من نظر إلى السماء أو انشغال فيها عما ليس منها. ومن هنا نعرف أن للخشوع سمتاً ظاهراً وهو أن تؤدى الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، وكما أن للخشوع مظهراً خارجياً فإن له حقيقة باطنة وهي التدبر والتأثر. وذروة التأثر أن تفيض العينان بالبكاء من خشية الله عز وجل. - والخشوع علم بنص الحديث الذي رواه أبو الدرداء، وهذا العلم قل العارفون به ولذلك قل الخشوع، ومبنى علم الخشوع معرفة علم ما يصلح القلب وما يفسده ومعالجة فساد القلوب للوصول بها إلى القلب السليم، (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) (1). - ولا شيء أصلح للقلب من كثرة ذكر الله عز وجل، قال تعالى: (ويهدي إليه من أناب، الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (2). وأول ما يقبل الإنسان على الله بالذكر، يذكر مع الغفلة، فإذا استمر مع الذكر نقله الله إلى الحضور معه، فإذا استمر على الذكر وصل إلى مقام المراقبة والمشاهدة، فإذا أديت الصلاة في هذين المقامين فذلك من كمال الخشوع. - من مظاهر الخشوع عند الحنفية نظر المصلي إلى موضع سجوده قائماً، وإلى ظاهر قدميه راكعاً وإلى أرنبة أنفه ساجداً وإلى حجره جالساً وإلى منكبيه مسلماً، وأن يمسك فمه عند التثاؤب فإن لم يقدر غطاه بظهر يده اليسرى أو بكمه بأقل ما يمكن من الحركة، وأن يدفع السعال ما استطاع، والسعال عندهم بلا عذر يفسد الصلاة إذا خرج حرفان أو أكثر بسببه، ومما ينبغي أن يلاحظه الإنسان بأن يقوم إلى الصلاة بنشاط، قال تعالى في وصف
المنافقين: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) (1) وقال الشافعية ويسن للمصلي أن يفرغ قلبه من الشواغل الدنيوية لأنه أعون على الخضوع والخشوع. ونحن إذ اقتصرنا في فضل الخشوع على ما ذكرناه من نصوص فلأن النصوص المرتبطة بالخشوع كثيرة جداً، تمر بمناسبات متعددة، فاقتصرنا ها هنا لأن النصوص الأخرى لا تغيب عن القارئ إذا جاءت في مناسباتها.
الفصل العاشر في بعض أدعية الصلاة وأذكارها المأثورة
الفصل العاشر في بعض أدعية الصلاة وأذكارها المأثورة من خلال الفصول السابقة ورد معنا كثير من الأذكار في فضل القنوت وفضل القراءة والاستفتاح والسجود والركوع، وهنا نؤكد على بعض المعاني ونستكمل ما لم يذكر. نصوص جامعة عامة: 1209 - * روى مسلم عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك، وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". وإذا ركع قال: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي". وإذا رفع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد". وإذا سجد قال: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد
وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين. ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". 1210 - * روى الشيخان عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم". 1211 - * روى أحمد عن أبي صالح رحمه الله عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "كيف تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ودندنة معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حول ذلك ندندن أنا ومعاذ". 1212 - * روى النسائي عن عطاء بن السائب رحمه الله عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة، فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت وأوجزت الصلاة، فقال: أما علي ذلك، لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجل
من القوم- هو أبي، غير أنه كنى عن نفسه- فسأله عن الدعاء؟ ثم جاء، فأخبر به القوم: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين". وفي رواية عن قيس بن عباد قال: صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخفها، فكأنهم أنكروها، فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى، قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به: اللهم ... وذكر الحديث، وفيه كلمة: الإخلاص، بدل: الحق". 1213 - * روى النسائي عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: "كنت أبيت عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول "سبحان رب العالمين، الهوي، ثم يقول: سبحان الله وبحمده، الهوي". وفي رواية (2) الترمذي: "كنت أبيت عند باب النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطيه وضوءه فأسمعه يقول الهوي من الليل: "سمع الله لمن حمده، وأسمعه الهوي من الليل يقول: الحمد لله رب العالمين". هذا النص يدل على أن للتسبيح والتحميد في تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم محلاً كبيراً. 1214 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأعرابي وهو يدعو في
صلاته وهو يقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي رجلاً فقال: "إذا صلى فائتني به"، فلما صلى أتاه وقد كان أهدي له ذهب من بعض المعادن، فلما أتاه الأعرابي وهب له الذهب وقال: "ممن أنت يا أعرابي؟ " قال من بني عامر بن صعصعة، قال: "هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ " قال للرحم بيننا وبينك، قال: "إن للرحم حقاً، ولكن وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله تعالى". أقول: من دعاء هذا الأعرابي نعرف كم ارتقت المعرفة بالله عند أي إنسان صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء يجب أن يلحظه المربون فأول ما يعمقونه في قلوب أصحابهم معرفة الله وتنزيهه من خلال العلم والذكر وتلاوة القرآن الكريم. 1215 - * روى أحمد عن زادان عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وهو يقول: "اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة". 1216 - * روى أبو داود والترمذي عن ابن عمر بإسناد حسن صحيح أنه كان يعد للرسول صلى الله عليه وسلم: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" والظاهر من هذا النص أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في بعض مجالسه خارج الصلاة، وحديث زادان يدل على أنه فعل ذلك في صلاة نافلة. 1217 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أم سليم غدت على رسول
- أدعية الاستفتاح
الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: علمني كلمات أقولهن في صلاتي، فقال: "كبري الله عشراً، وسبحي الله عشراً، واحمديه عشراً، ثم سلي ما شئت"، يقول: "نعم، نعم". الضمير في قوله يقول نعم: يعود على الله عز وجل. 1218 - * روى أحمد عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حساباً يسيراً". فلما انصرف، قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتبه ويتجاوز له عنه. إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك. وكل ما يصيب المؤمن يكفر الله به عنه حتى الشوكة تشوكه". 1219 - * روى أحمد عن يحيى بن حسان يعني الفلسطيني عن رجل من بني كنانة قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول: "اللهم لا تخزني يوم القيامة". - أدعية الاستفتاح: سبق معنا الحديث عن ذلك ونؤكد هنا بعض المعاني لمناسبة الباب: 1220 - * روى الشيخان عن أبي هريرة قال: سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكبير والقراءة إسكاتة قال: حسبته قال: هنيهة، قال: قلت بأبي وأمي يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد". 1221 - * روى أحمد عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال:
- التعوذ بعد الاستفتاح
"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". بعد أن ذكر الإمام النووي- وهو شافعي- هذه الأذكار وما ورد في حديث علي رضي الله عنه في الفقرة السابقة قال: (فصل) هذا ما ورد من الأذكار في دعاء التوجه، فيستحب الجمع بينها كلها لمن صلى منفرداً وللإمام إذا أذن له المأمومون. واعلم أن هذا الذكر مستحب في الفريضة والنافلة، فلو تركه في الركعة الأولى عامداً أو ساهياً لم يفعله بعدها لفوات محله، ولو فعله كان مكروهاً ولا تبطل صلاته، ولو تركه عقيب التكبيرة حتى شرع في القراءة أو التعوذ فقد فات محله فلا يأتي به، فلو أتى به لم تبطل صلاته، ولو كان مسبوقاً أدرك الإمام في إحدى الركعات أتى به إلا أن يخاف من اشتغاله به فوات الفاتحة، فيشتغل بالفاتحة فإنها آكد لأنها واجبة، وهذا سنة. ولو أدرك المسبوق الإمام في غير القيام إما في الركوع وإما في السجود وإما في التشهد أحرم معه وأتى بالذكر الذي يأتي به الإمام، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح في الحال ولا فيما بعد. واختلف أصحابنا في استحباب دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة، والأصح أنه لا يستحب لأنها مبنية على التخفيف. واعلم أن دعاء الاستفتاح سنة ليس بواجب، ولو تركه لم يسجد للسهو، والسنة فيه الإسرار، فلو جهر به كان مكروهاً ولا تبطل صلاته. ا. هـ. - التعوذ بعد الاستفتاح: 1222 - * روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل القراءة في الصلاة "أعوذ بالله من
- أذكار الركوع والرفع منه واعتداله
الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه" في رواية (1): "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" وجاء في تفسيره في الحديث، أن همزه: الموتة وهي الجنون، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر، والله أعلم. قال النووي- وهو شافعي: (فصل) اعلم أن التعوذ مستحب ليس بواجب، لو تركه لم يأثم ولا تبطل صلاته سواء تركه عمداً أو سهواً ولا يسجد للسهو، وهو مستحب في جميع الصلوات الفرائض والنوافل كلها، ويستحب في صلاة الجنازة على الأصح، ويستحب للقارئ خارج الصلاة بإجماع أيضاً. (فصل) واعلم أن التعوذ مستحب في الركعة الأولى بالاتفاق، فإن لم يتعوذ في الأولى أتى به في الثانية، فإن لم يفعل ففيما بعدها، فلو تعوذ في الأولى هل يستحب في الثانية؟ فيه وجهان لأصحابنا، وإذا تعوذ في الصلاة التي يسر فيها بالقراءة أسر بالتعوذ، فإن تعوذ في التي يجهر فيها بالقراءة فهل يجهر؟ فيه خلاف. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسر، وهو الأصح عند جمهور أصحابنا، وهو المختار، والله أعلم. (انظر الأذكار 45). - أذكار الركوع والرفع منه واعتداله: 1223 - * روى مسلم من حديث حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه الطويل
الذي كان قريباً من قراءة البقرة والنساء وآل عمران "سبحان ربي العظيم" ومعناه: كرر سبحان ربي العظيم فيه، كما جاء مبيناً في سنن أبي داود وغيره. وجاء في كتب (1) السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال أحدكم سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه". 1224 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده. "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". 1225 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده "سبوح قدوس رب الملائكة والروح". 1226 - * عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب". واعلم أن الذكر في الركوع سنة عندنا وعند جماهير العلماء، فلو تركه عمداً أو سهواً لا تبطل صلاته ولا يأثم ولا يسجد للسهو. وذهب الإمام أحمد بن حنبل وجماعة إلى أنه واجب، فينبغي للمصلي المحافظة عليه للأحاديث الصريحة الصحيحة في الأمر به كحديث: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" وغيره مما سبق، وليخرج عن خلاف العلماء رحمهم الله، والله أعلم. (فصل) يكره قراءة القرآن في الركوع والسجود، فإن قرأ غير الفاتحة لم تبطل صلاته، وكذا لو قرأ الفاتحة لا تبطل صلاته على الأصح، وقال بعض أصحابنا: تبطل. 1227 - * روى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعاً
أو ساجداً". (انظر الأذكار 51). 1228 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: "ربنا لك الحمد" وفي روايات "ولك الحمد" بالواو، وكلاهما حسن وروينا مثله في الصحيحين عن جماعة من الصحابة. 1229 - * روى مسلم عن علي وابن أبي أوفى رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه قال: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". 1230 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". (فصل) اعلم أنه يستحب أن يجمع بين هذه الأذكار كلها على ما قدمناه في أذكار الركوع، فإن اقتصر على بعضها فليقتصر على سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، فإن بالغ في الاقتصار اقتصر على سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، فلا أقل من ذلك. واعلم أن هذه الأذكار كلها مستحبة للإمام والمأموم والمنفرد، إلا أن الإمام لا يأتي بجميعها إلا أن يعلم من حال المأمومين أنهم يؤثرون التطويل. واعلم أن هذا الذكر سنة ليس بواجب، فلو تركه كره له كراهة تنزيه ولا يسجد
فائدة
للسهو، ويكره قراءة القرآن في هذا الاعتدال كما يكره في الركوع والسجود، والله أعلم. (انظر الأذكار 53). - أذكار السجود: 1231 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". 1232 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها ما قدمناه في الركوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس، رب الملائكة والروح". 1233 - * روى مسلم أيضاً عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد قال: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين". 1234 - * روى مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره". 1235 - * روى مسلم عن حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى"، وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ. فائدة: إذا سجد للتلاوة استحب أن يقول في سجوده ما ذكرناه في سجود الصلاة
- ما يقول بعد التشهد
ويستحب أن يقول معه. 1236 - * روى الترمذي عن ابن عباس "اللهم اجعلها لي عندك ذخراً وأعظم لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من داود عليه السلام". ويستحب أن يقول أيضاً "سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً" نص الشافعي على هذا الأخير أيضاً. (انظر الأذكار 55). - ما يقول بعد التشهد: 1237 - * رو أبو داود عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عجل هذا" ثم دعاه فقال له: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد بما شاء". 1238 - * روى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته بعد التشهد: "أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد". أقول: هذا محمول على أن ذلك في صلاة نافلة أو أن المراد بالتشهد القعود الأخير، وأن هذا كان يقوله بعد السلام، ويمكن أن يحمل هذا الكلام على أن المراد به الإقرار كالإقرار بالشهادتين، وعندئذ فمحله بعد التشهد مباشرة وقبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
1239 - * روى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". أقول: محل هذا الدعاء بعد الصلوات الإبراهيمية وقبل السلام، ومثله كل دعاء ورد قبل السلام فإن محله بعد الصلوات الإبراهيمية كما استقر عليه العمل. 1240 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال". هذا لفظ مسلم، ووافقه البخاري على الاستعاذة، ولم يذكر التشهد. وفي رواية (3) أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد فليتعوذ بالله من أربع ... " وذكرها. وزاد (4) النسائي: "ثم ليدع لنفسه بما بدا له". أقول: مما يدل على أن هذه الدعوات محلها بعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمع بين روايتي أبي داود والبخاري ثم القياس العام وهو أن يقدم الإنسان بين يدي دعائه الصلاة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1241 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة يقول: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف". في رواية (2) قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال. 1242 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم من الدعاء بعد التشهد: "ألف اللهم على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها، وأتمها علينا".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - إنه من خلال الأذكار والدعوات الواردة في نصوص الكتاب والسنة يتعرف الإنسان حق المعرفة على الله عز وجل ويأخذ تصوراً عاماً عما هو خير وعما هو شر وتأثير ذلك على صحة القلوب واستقامة السلوك كبير جداً، ولذلك كان من المهم الاعتناء بالأذكار المأثورة وهي مبثوثة في آيات كثيرة ونصوص كثيرة من السنة النبوية، ويكاد الإنسان أن يجد شيئاً منها في أكثر الموضوعات التي تمر عليه وهو يدرس السنة. - يطلب من الإمام أن يدعو لنفسه ولمن يصلي معه فذلك جزء من مهمات الإمام، وبشكل عام إذا دعا المسلم معمماً في دعائه فذلك أكثر أجراً وأقرب إلى الاستجابة، ولكن له أن يخص نفسه. - يندب الدعاء بالمأثور في الصلاة مراعاة لمذهب الحنفية الذين لا يرون جواز الدعاء في الصلاة بما يشبه كلام الناس، وأما خارج الصلاة فيطلب الإنسان من الله عز وجل كل شيء مباح أو مطلوب. - على غير العربي أن يتعلم الدعاء بالعربية في صلاته، قال الحنفية: الدعاء في الصلاة بغير العربية حرام، وأجاز الشافعية ترجمة الدعاء للعاجز عن العربية.
الفصل الحادي عشر في بعض الأدعية والأذكار المأثورة بعد الصلاة
الفصل الحادي عشر في بعض الأدعية والأذكار المأثورة بعد الصلاة 1243 - * روى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: "رب قني عذابك يوم تبعث عبادك"- أو "تجمع عبادك". 1244 - * روى الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة". مر معنا أن الصلاة عند طلوع الشمس مباشرة منهي عنها إلا بعد أن ترتفع قدر رمح أو رمحين أي حوالي ثلث ساعة على الأقل، فالمراد بالحديث أن يصلي الإنسان بعد طلوع الشمس الذي تجوز عنده الصلاة. 1245 - * روى الطبراني في الصغير عن جبار بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس". 1246 - * روى الطبراني عن مدرك قال مررت ببلال وهو جالس حين صلى الغداة فقلت ما يجلسك يا أبا عبد الله قال أنتظر طلوع الشمس. 1247 - * روى أحمد عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن أقعد أذكر الله
وأكبره وأحمده وأسبحه وأهلله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبتين من ولد إسماعيل ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقبات من ولد إسماعيل"، وفي رواية "لأن أذكر الله إلى طلوع الشمس أكبر وأهلل وأسبح أحب إلى من أن أعتق أربعاً من ولد إسماعيل ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلى من أن أعتق كذا وكذا من ولد إسماعيل". 1248 - * روى البخاري عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". زاد في رواية (2): "وكتب إليه: أنه كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وكان ينهى عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات". وفي رواية (3) قال وراد: "ثم وفدت بعد على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك".
ولم يخرج مسلم إلا ذكر ما يقال في دبر الصلوات، وأخرج في موضع آخر الزيادة التي ذكرها البخاري (1) وقال في آخر إحدى رواياته: (كم مرة يقول ذلك؟). وله في أخرى إلى قوله: (على كل شيء قدير) ثم زاد: (ثلاث مرات). وفي رواية لابن حبان (2). "اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من نقمتك وأعوذ بك منك، اللهم لا مانع لما أعطيت" وساق الحديث بنحوه. 1249 - * روى الطبراني عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير". 1250 - * روى مسلم عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون" وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة.
وفي رواية (1) قال أبو الزبير: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب على هذا المنبر، وهو يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلم في دبر الصلاة، أو قال: الصلوات ... ثم ذكر مثله". 1251 - * روى الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال دبر كل صلاة الغداة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير مائة مرة قبل أن يثني رجليه كان يومئذ من أفضل أهل الأرض عملاً إلا من قال مثل ما قال أو زاد على ما قال". 1252 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عتبة قال بينما ابن مسعود في المسجد وهو يدعو مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فلما حاذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع دعاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال "من هذا سل تعطه" فرجع أبو بكر إلى عبد الله بن مسعود فقال: الدعاء الذي كنت تدعو به فقال حمدت الله ومجدته ثم قلت اللهم لا إله إلا أنت وعدك حق ولقاؤك حق وكتابك حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والجنة حق والنار حق ورسلك حق. 1253 - * روى أبو داود عن الفضل بن حسن الضمري رحمه الله أن ابن أم الحكم أو ضباعة بنتي الزبير- حدثه عن إحداهما- قالت: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبياً، فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت رسول الله، فشكونا إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبقكن يتامى بدر، ولكن سأدلكن على ما هو خير لكن من ذلك: تكبرن الله عز وجل على أثر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين
تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، هو على كل شيء قدير". 1254 - * روى أحمد عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة بعث بها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين فقال علي لفاطمة ذات يوم والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه فقالت وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما جاء بك أي بنية" قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعاً النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي: يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخذ منا فقال: "لا والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم" فرجعا. فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فقال "مكانكما". ثم قال: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني"، قالا: بلى، قال: "كلمات علمنيهن جبريل صلى الله عليه وسلم فقال: تسبحان دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً فإذا آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين" قال: فو الله ما تركتهن منذ سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال له ابن الكوا: ولا ليلة صفين فقال قاتلكم الله يا أهل العراق ولا ليلة صفين. 1255 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن الأغنياء يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم،
ولهم أموال يعتقون ويتصدقون، قال: "فإذا صليتم، فقولوا: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة، والله أكبر أربعاً وثلاثين مرة، ولا إله إلا الله عشر مرات، فإنكم تدركون به من سبقكم، ولا يسبقكم من بعدكم". وقال الترمذي (1): وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة: يسبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره أربعاً وثلاثين، ويسبح الله عند منامه عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً". وقال الترمذي: وفي الباب عن زيد بن ثابت وأنس وابن عباس أقول: ورواه أيضاً أحمد (2) والبخاري (3) في الأدب المفرد، وأبو داود (4)، والنسائي (5)، وابن ماجه (6) وصححه (7) ابن حبان، وهو حديث صحيح. [م]. 1256 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فتلك مائة باللسان،
وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة". 1257 - * روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين فذلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". 1258 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم ثم جلس مجلسه الذي صلى فيه لم تزل الملائكة تصلي عليه، اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث". هذا حديث ابن فضيل، وفي خبر ابن وهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى المسلم ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تدعو له، اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يحدث أو يقوم". 1259 - * روى أحمد عن أبي موسى قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ وصلى وقال: "اللهم أصلح لي ديني ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي". 1260 - * روى أبو داود عن حنظلة بن علي أن محجن بن الأدرع حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول: "اللهم
إني أسألك بالله الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد غفر له، غفر له"، ثلاث مرات. 1261 - * روى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة". قال النووي فينبغي أن يقرأ (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس). الأذكار 69. 1262 - * روى مسلم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "معقبات لا يخيب قائلهن- أو فاعلهن- دبر كل صلاة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة". 1263 - * روى النسائي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويحمدوا ثلاثاً وثلاثين، ويكبروا أربعاً وثلاثين، فأري رجل من الأنصار في منامه، قيل: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا ثلاثاً وثلاثين، وتكبروا أربعاً وثلاثين؟ قال: نعم، قال: فاجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، قال: "فاجعلوها كذلك".
1264 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". وفي أخرى (2) له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون"، ثم قال: "تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". 1265 - * روى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم يستغفر الله ثلاثاً، ويقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". قيل للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: يقول: "أستغفر الله، أستغفر الله". إلا أن النسائي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته ... وذكر الحديث.
وفي رواية (1) أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر الله ثلاث مرات، ثم قال: "اللهم ... " وذكر معنى حديث عائشة. هكذا قال أبو داود. 1266 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". أقول: قال الحنفية يفصل بين الفريضة والنافلة بقوله عليه السلام: "اللهم أنت السلام .. " وبعد الإتيان بالنافلة يقول أذكار الصلاة من الاستغفار إلى غيره، أما إذا لم يكن وراء الفريضة نافلة فإنه يباشر الأذكار المأثورة. 1267 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". 1268 - * روى أحمد عن مسلم بن أبي بكرة رحمه الله قال: كان أبي يقول في دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، فكنت أقولهن، فقال: أي بني، عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن في دبر الصلاة. وفي أخرى قال: فالزمهن يا بني.
1269 - * روى أبو داود عن الحارث بن مسلم بن الحارث رحمه الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليه فقال: "إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات"- زاد في رواية (2): "قبل أن تكلم أحداً- فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك، فإنك إذا مت من يومك كتب لك جوار منها"، قال الحارث: أسرها إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نخص بها إخواننا. 1270 - * روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حر النار وعذاب القبر". 1271 - * روى أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الفجر إذا صلى: "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً طيباً". 1272 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته يقول حين انصرف: "اللهم اغفر لي خطأي وعمدي اللهم اهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت".
1273 - * روى الطبراني عن أبي أيوب قال ما صليت خلف نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته يقول حين ينصرف: "اللهم اغفر خطاياي وذنوبي كلها اللهم وأنعشني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت". 1274 - * روى مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه، قال: كنا نغدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجيء الرجل وتجيء المرأة، فيقول يا رسول الله كيف أقول إذا صليت؟ قال: قل "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني. فقد جمع لك دنياك وآخرتك". 1275 - * روى أحمد عن عمرو بن ميمون الأزدي، قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المكتب الغلمان، يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة، "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر". 1276 - * روى أبو داود عن معاذ بن جبل أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بيدي فقال لي: "يا معاذ والله إني لأحبك" فقلت: بأبي أنت وأمي والله إني لأحبك. قال: "يا معاذ إني أوصيك لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
1277 - * روى الشيخان عن ابن عباس قال: "كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير". 1278 - * روى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قلنا لأبي سعيد: هل حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان يقوله بعد ما سلم، قال: نعم، كان يقول "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - الذكر هو عبادة الوجود كله، قال تعالى عن الملائكة: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (1) وقال تعالى عن الكون بما فيه: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (2)، وقال تعالى: (سبح لله ما في السموات والأرض) (3) وقال: (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) (4) وقال: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير) (5). وإنما ينسجم الإنسان مع كل شيء في إقامة العبودية بقدر ما يذكر الله عز وجل، ولذلك شرع في الإسلام للإنسان أن يذكر الله على كل أحواله، وتلك كانت سنة رسول صلى الله عليه وسلم كما وصفته عائشة رضي الله عنها. والصلاة بالنسبة للذكر هي مرتكزه الأعلى ومنظمه الأول، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) (6) فمن أقامها فقد أقام ركن الذكر الأول، ولكن المشروع في موضوع الذكر أوسع، ولذلك نجد أنواعاً من الذكر أو الدعاء الذي هو ذكر وزيادة تمر معنا بمناسبات كثيرة، وسنخصص جزءاً من هذا الكتاب للأذكار والدعوات، هو لا يستوعب كل ما ورد في الذكر والدعاء، لأن الاستيعاب يقتضي دراسة الكتاب والسنة جميعاً. - قلنا إن الصلاة ركن الذكر ومرتكزه ومنظمه فنقول كذلك: إنها أرقى صيغ الأداء للذكر لأنه يجتمع فيها مع إقامة الذكر هيئات القيام والركوع والسجود وغير ذلك من الهيئات، ويشترط أن تتم ضمن شروط معينة، فهي العبادة الأرقى والأعلى والتي اجتمعت فيها أرقى عبادات الملائكة والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
- رأينا أن الصيغ التي وردت في أذكار الصلاة أو أذكار ما بعد الصلاة كثيرة، والمسلم يعطي الأولوية لما تتحقق به الركنية، ثم الوجوب، ثم السنية، ثم المستحب والمندوب، وفي دائرة المستحب والمندوب يتخير ويرتب على نفسه شيئاً يداوم عليه بقدر استطاعته، ويحاول ألا يبقي صيغة من المأثور إلا ويؤديها ولو مرة في حياته. والأصل أن أوراد ما بعد الصلاة أن يؤديها كل فرد على حدة، والأصل أن تكون سراً بين العبد وربه، ورأينا روايات تذكر الجهر وهي محمولة على إعلام أو على تعليم. - جرى علماء المسلمين في العصور المتأخرة لغلبة الجهل والتفلت والإدبار عن الصلاة وعن الجماعة وعن حلقات العلم، وبسبب ضعف حماس المتعلم للتعليم، وقلة حرص الجاهل على التعلم، لضعف الإقبال على الذكر ولاحتمال مجيء جديد إلى المسجد كالذي تاب بعد غفلة، نتيجة لهذا كله فقد أجاز العلماء ترتيب أوراد ما بعد الصلوات وتخيروا لذلك ما اعتبروه أكثر أجراً، وجرت العادة أن يدير ذلك الإمام والمؤذن وأن تختتم الأوراد بدعاء الإمام، ولم ير العلماء في ذلك حرجاً لأن كل جزء من ذلك له دليله المنفرد، وبعض الناس يحاربون مثل هذا على أنه بدعة، وهي حرب في غير محلها، وفي ترتيب الأوراد وإقامتها وتنظيمها بعد الصلاة خير كثير، ولا يدخل ذلك في باب البدع، بل يدخل ذلك في باب العمل الذي يدخل تحت أصل عام في الشريعة. - والسنة في المذاهب الأربعة أن تكون أوراد ما بعد الصلاة بعد فريضتي الصبح والعصر، أما الفرائض الثلاث الأخر التي بعدها سنة راتبة فهي عند الحنفية تكون بعد أداء السنة الراتبة. 1279 - * روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". وعند المذاهب الثلاثة الأخرى تكون قبل الراتبة وبعد الفريضة مباشرة. - يستحب للإمام أن يقبل على المأمومين جاعلاً يساره إلى جهة المحراب، وأما غير الإمام فيبقى في مجلسه إذا أراد إقامة أوراده متجهاً نحو القبلة.
- جرت العادة في كثير من مساجد المسلمين إذا أرادوا إقامة الأوراد أن يبدؤوا بالاستغفار ثلاثاً ثم بقولهم (اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام) ثم بقولهم (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وإذا كانوا في صلاة الصبح والمغرب، فإنهم يقولون وهم على هيئتهم في الصلاة عشر مرات (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)، وسبع مرات (اللهم أجرني من النار) ثم بعد ذلك في صلاتي المغرب والعشاء وبعد (اللهم أعني على ذكرك وشكرك) في بقية الصلوات يقرؤون آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين ثم يسبحون ويحمدون ويكبرون ثلاثاً وثلاثين، ويختمون بقولهم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)، ثم يدعو لهم إمامهم ويؤمنون أو يدعو كل منهم لنفسه وللمسلمين بما شاء من خيري الدنيا والآخرة. ومن كان له ورد خاص بعد ذلك فإنه يفعله منفرداً، ولكن جرت أكثر مساجد المسلمين على فعل ما ذكرناه، ويلاحظ الداعي آداب الدعاء من رفع اليدين والبدء بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء على الله، وتكرار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط الدعاء وآخره، ويختم الجلسة بما ورد في البخاري في الحض على أن يكون آخر الكلام: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) وستمر معنا آداب الدعاء في جزء الأذكار والأدعية. - إن من تأمل صلاة المسلمين وأذكارهم ودعواتهم عرف أنه ما من أحد في هذا العالم يعرف الله حق المعرفة ويعظمه حق التعظيم إلا المسلمون، هذا وحده كاف ليجعل المنصف يعرف أن هذا الإسلام حق، فكيف إذا كانت أدلة حقية الإسلام لا تعد ولا تحصى. قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً) (1).
الفصل الثاني عشر: في لواحق الباب الثالث
الفصل الثاني عشر: في لواحق الباب الثالث وفيه الفقرات التالية: الفقرة الأولى: في الصلاة في النعال. الفقرة الثانية: في الصلاة على الحصير وغيرها. الفقرة الثالثة: في مكان الصلاة. الفقرة الرابعة: في الصلاة في البيوت.
الفقرة الأولى: في الصلاة في النعال
الفقرة الأولى: في الصلاة في النعال 1280 - * روى الطبراني في الأوسط عن فيروز الديلمي أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا رأيناه يصلي في نعلين متقابلتين. 1281 - * روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومتنعلاً. أقول: تنطع قوم وغلوا في عصرنا وأصبحوا يدخلون المساجد في النعال وكأن ذلك فريضة مع أنه طرأت مستجدات منها مد أرض المسجد بالسجاد وغيره بعد أن وسع الله، وندر في أوضاعنا الحالية من يحافظ على طهارة نعليه، هذا النص يجعل في الأمر سعة ويرد على الغلاة في هذا الشأن. 1282 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه"، وفي رواية (4): "إذا صلى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما". أقول: مر معنا في فصل الطهارة اشتراط بعض الفقهاء لجواز الصلاة في النعلين أن تكونا طاهرتين، والخلاف فيما يطهر النعلين، والأحوط لمن أراد أن يصلي بالنعلين لضرورة ما أن يحافظ على طهارتهما، وإذا اشتدت الضرورة كحال الجندي الذي يصعب عليه خلع خفيه، فإنه يستطيع أن يترخص فيصلي بالنعلين، بناءً على المشهور في مذهب المالكية، أن طهارة
الثياب والبدن من النجاسة الحسية. ليسا شرطين في صحة الصلاة. 1283 - * روى أبو داود عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يصلي، ووضع نعليه عن يساره. 1284 - * روى الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً ويصلي منتعلاً وحافياً ويتفل عن يمينه وعن شماله. 1285 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه في نعليه، إذ خلعهما فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك أصحابه ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "ما حملكم على خلع نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني، فأخبرني: أن فيهما قذراً"، وقال: "إذا جاء أحدكم المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً، أو أذى، فليمسحه، وليُصَلِّ فيهما" وفي رواية (4): "خبثاً" في الموضعين. أقول: هذا دليل لمن اشترط طهارة النعلين لجواز الصلاة بهما، كما أنه دليل لمن ذهب أن دلك الخف من النجاسة ذات الجرم كاف لطهارته. 1286 - * روى الشيخان عن سعيد بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم. قال ابن دقيق العيد: إنه لا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب لأن ذلك لا مدخل له
في الصلاة. 1287 - * روى أبو داود عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم". وقد استدل من قال باستحباب الصلاة في النعال بمثل هذا الحديث. إلا أن من نفى الاستحباب وقصره على الجواز استدل بمثل حديث عمرو بن شعيب الذي أخرجه أبو داود السابق ذكره وحديث أبي هريرة الذي يليه.
الفقرة الثانية في الصلاة على الحصير وغيرها
الفقرة الثانية في الصلاة على الحصير وغيرها 1288 - * روى أبو يعلى عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يسجد على ثوبه. أقول: كره العلماء السجود على الثوب الذي يلبسه المصلي ويتحرك بحركته إلا إذا كان لدفع الضرر من الحر وغيره، والنص يمكن أن يحمل ههنا على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ثوبه بعد أن خلعه كمن يصلي على جبته أو عباءته بعد أن يخلعهما. 1289 - * روى أبو يعلى عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخُمرة. أقول: تنطع بعضهم فمنع الصلاة إلا على الأرض، وذلك من الغلو، فالصلاة على الأرض أو على الثوب أو على الحصير أو على السجاد كل ذلك جائز، فالأفضل الصلاة على الأرض لأنها أقرب إلى التواضع ولكن أن يجعل الفاضل وكأنه فريضة ويجعل المفضول وكأنه حرام فذلك من الغلو، وصاحبه لا يراعي اختلاف الزمان والمكان والأحوال، ومراعاة هذه الأمور مهمة في باب الفتوى. 1290 - * روى الطبراني عن إبراهيم أنه كان يقوم على البردي ويسجد على الأرض، قلنا وما البردي قال الحصير.
أقول: هذا يدل على أن التابعين بإحسان كانوا يتوسعون في هذا الشأن. 1291 - * روى أحمد عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة. 1292 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة. 1293 - * روى أحمد عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على خمرة فقال: "يا عائشة ارفعي حصيرك فقد خشيت أن يكون يفتن الناس". أقول: هذه الرواية تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن يظن الناس أنه لا تجوز الصلاة إلا على خمرة فأراد أن يبين أن الأمر واسع ونحن لا ننكر على من خصص شيئاً طاهراً لسجوده، ولكن ننكر على من غلا في ذلك، فلم يجز الصلاة إلا على مثله. 1294 - * روى النسائي عن ميمونة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخمرة. وفي رواية: أبي داود (5) والبخاري (6) قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخمرة. ولمسلم (7) نحوه.
قال في (النيل 2/ 130): والحديث يدل على أنه لا بأس بالصلاة على السجاد سواء كانت من الخرق أو الخوص أو غير ذلك وسواء كانت صغيرة كالخمرة على القول بأنها لا تسمى خمرة إلا إذا كانت صغيرة أو كانت كبيرة كالحصير والبساط لما تقدم من صلاته صلى الله عليه وسلم على الحصير والبساط والفروة. 1295 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه، قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحاً به". 1296 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. 1297 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: "قوموا فأصلي لكم"، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف. ولمسلم (4) "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه- أو خالته- قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا. وفي أخرى (5) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، قال: فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقوم خلفه، فيصلي بنا، قال: وكان بساطهم من جريد النخل".
في رواية: للنسائي (1) أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيها فيصلي في بيتها، فتتخذه مصلى، فأتاها، فعمدت إلى حصير، فنضحته بماء، فصلى عليه، وصلوا معه. 1298 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل من الأنصار- وكان ضخماً- للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أستطيع الصلاة معك، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فدعاه إلى بيته، ونضح له طرف حصير بماء، فصلى عليه ركعتين، فقال فلان بن فلان بن الجارود لأنس: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلى غير ذلك اليوم. وفي رواية (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيت من الأنصار، فطعم عندهم طعاماً، فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح له على بساط، فصلى عليه، ودعا لهم. وأخرج أبو داود الرواية الأولى، إلا أنه قال فيه: فلان ابن الجارود. وفي الباب روى أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بساط. وثمة شواهد تؤيد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على البساط ذكرنا بعضها، قال في "النيل" (والحديث يدل على جواز الصلاة على البسط وقد حكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ...) ا. هـ. وفي الباب روى أحمد عن المغيرة بن شعبة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة)، قال في "النيل": وقد ذهب إلى استحباب الصلاة على الحصير أكثر أهل
العلم إلا أن قوماً من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحباباً، وفي الباب. روى البخاري عن أبي الدرداء قال: ما أبالي لو صليت على خمس طنافس. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه صلى على طنفسة: وعن أبي وائل أنه صلى على طنفسة وعن الحسن قال لا بأس بالصلاة على الطنفسة: وعنه أنه كان يصلي على طنفسة قدماه وركبتاه عليها ويداه ووجهه على الأرض ... وإلى جواز الصلاة على الطنافس ذهب جمهور العلماء والفقهاء كما تقدم في الصلاة على البسط وخالف في ذلك من خالف في الصلاة على البسط لأن الطنافس البسط التي تحتها حمل كما تقدم. انظر (نيل الأوطار 2/ 127 - 131). وأورد البغوي حديث المغيرة بن شعبة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة، ثم قال: وكان بعض السلف يكره الصلاة على ما يتخذ من صوف الحيوان وشعرها، ولا يكره على ما يعمل من نبات الأرض، وكان بعضهم يكره أن يصلي إلا على جديد الأرض، وعامة أهل الحديث على أن لا كراهية فيه، والحديث أولى بالاتباع. (شرح السنة 2/ 441).
الفقرة الثالثة: في مكان الصلاة
الفقرة الثالثة: في مكان الصلاة 1299 - * روى أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم، فإنها مباركة، ولا تصلوا في عطن الإبل، فإنها من الشيطان" وفي رواية (2) قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: "لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: "صلوا في مرابض الغنم فإنها بركة". أقول: الصلاة في معاطن الإبل أي مباركها، مكروهة عند القائلين بنجاسة أبوالها وأرواثها وهم الحنفية، أو لما فيها من النفور إن كانت الأرض طاهرة، والكراهة في معاطن الإبل متفق عليها بين الفقهاء، وإنما اختلفوا في التعليل، هل هو النجاسة والنفور، أو النفور فقط، فإذا كانت العلة هي النجاسة كما يرى الحنفية، فالصلاة مكروهة تحريماً حيثما كانت النجاسة سواء في مرابض الإبل أو الغنم أو المزارع التي تسمد بالنجاسات، وقد مر معنا من قبل الخلاف في نجاسة بول وروث ما يؤكل لحمه. قال في (النيل 2/ 141): (والحديث) يدل على جواز الصلاة في مرابض الغنم وعلى تحريمها في مطاعن الإبل وإليه ذهب أحمد بن حنبل فقال: لا تصح بحال وقال: من صلى في عطن إبل أعاد أبداً وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن إبل قال: لا يصلي فيه، قيل فإن بسط عليه ثوباً قال لا. وقال ابن حزم: لا تحل في عطن إبل ذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة وعلى التحريم مع وجودها وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها ولو سطت النجاسة فيه لم يصح
جعلها علة لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم إذ لا قائل بالفرق بين أرواث كل من الجنسين وأبوالها كما قال العراقي وأيضاً قد قيل إن حكمة النهي ما فيها من النفور فربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها أو أذى يحصل له منها أو تشوش الخاطر الملهى عن الخشوع في الصلاة وبهذا علل النهي أصحاب الشافعي وأصحاب مالك. وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم فأمر بإباحة ليس للوجوب قال العراقي اتفاقاً وإنما نبه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين فأجاب في الإبل بالمنع وفي الغنم بالإذن وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ "فإنها بركة" فهو إنما ذكر لقصد تبعيدها عن حكم الإبل، كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة ووصف أصحاب الغنم بالسكينة. ا. هـ. 1300 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم. وزاد البخاري ومسلم: ثم قال بعد ذلك: قبل أن يبنى المسجد. أقول: ظاهر النص يدل على أن الصلاة في مرابض الغنم كانت في أول مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان ذلك من باب تخير المكان الواسع للصلاة فمرابض الغنم تكون واسعة ومنتقاة ومنقاة من الحجارة وما يشبهها. 1301 - * روى مالك عن عروة بن الزبير عن رجل من المهاجرين لم نر به بأساً أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص قال، أصلي في عطن الإبل؟ فقال عبد الله: لا، ولكن صل في مراح الغنم".
أقول: في النص دليل على أن الإنسان يتخير لصلاته من الأمكنة والمحيط ما لا يفسد عليه الخشوع، فوجود الإبل وأمثالها مما يخشى منه الأذى تجعل قلب الإنسان مشغولاً قلقاً فلا يتفرغ للمناجاة. 1302 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله". أقول: كره الحنفية والشافعية الصلاة في الطريق لأن الطريق ممر الناس وقد لا تخلو من النجاسة، فالصلاة فيها تؤثر على الخشوع، أو تؤثر على حركة المرور وأضاف الشافعية أن الصلاة تكره في الأسواق لنفس السبب، وقال الحنابلة: لا تصح الصلاة في قارعة الطريق والمزبلة والمقبرة والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل، والمالكية أجازوا الصلاة حيث أمنت النجاسة وأمن المرور من بين يديه، واستثنى الحنابلة فأجازوا صلاة الجنازة في المقبرة وطريق البيوت القليلة، وما علا عن جادة الطريق يمنة ويسرة، والضرورة تجيز الصلاة في الأماكن التي ورد النهي عنها في النص وأما العلة في النهي عن الصلاة فوق بيت الله ما يوهم الاستخفاف عند الحنفية. قال في (النيل 2/ 143) وأما في ظهر الكعبة فلأنه إذا لم يكن بين يديه سترة ثابتة تستره لم تصح صلاته لأنه مصل على البيت لا إلى البيت: وذهب الشافعي إلى الصحة بشرط أن يستقبل من بنائها قدر ثلثي ذراع وعند أبي حنيفة لا يشترط ذلك وكذا قال ابن سريج
قال لأنه كمستقبل العرصة لو هدم البيت والعيال بالله. ا. هـ. وهذا عدل عن أن في الحديث مقالاً. والحنابلة عللوا تحريم الصلاة في المقبرة أن يتوصل بذلك إلى ما هو شرك كأن يلحظ صاحب القبر في الصلاة. فائدة: قال القاضي أبو بكر بن العربي والمواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر فذكر السبعة المذكورة في حديث الباب وزاد الصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة والكنيسة والبيعة وإلى التماثيل وفي دار العذاب وزاد العراقي الصلاة في الدار المغصوبة والصلاة إلى النائم والمتحدث والصلاة في بطن الوادي والصلاة في الأرض المغصوبة والصلاة في مسجد الضرار والصلاة إلى التنور فصارت تسعة عشر موضعاً. أقول: وبعض ما هو مذكور هنا كراهته تنزيهية عند بعض العلماء كما سنرى في الفوائد. 1303 - * روى الشيخان عن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: "كنت أقرأ على أبي القرآن في السدة، فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت له: يا أبت أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، فأينما أدركتك الصلاة فصل" زاد في رواية (2) البخاري "فإن الفضل فيه" وأول حديثه قلنا: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ .. ".
1304 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد، إلا الحمام، والمقبرة". أقول: رأينا أن الصلاة في المقبرة محرمة عند الحنابلة خشية الشرك، إلا أنهم قالوا: إن المقبرة ما احتوت على ثلاثة قبور فأكثر في أرض موقوفة للدفن، فإذا لم تحتو على ثلاثة قبور فأكثر فالصلاة فيها صحيحة إن لم يستقبل القبر وإلا كرهت، وعلل الشافعية للنهي عن الصلاة في المقبرة إذا احتملت فيها النجاسة أو قصد التعظيم، فإذا انتفى الأمران فالنهي محمول على كراهة التنزيه. وعلل الحنفية للنهي عن الصلاة في المقبرة إذا كان القبر بين يدي المصلي بحيث لو صلى خاشعاً وقع بصره عليه، فإذا كان المكان طاهراً ولم يرد الإنسان التعظيم، وكان بعيداً شيئاً ما عن القبر فلا كراهة. وأما النهي عن الصلاة داخل الحمام لأنها مظنة انكشاف العورات ومصب الغسالات والنجاسات لذلك كرهت عند الحنفية والشافعية والحنابلة، وجازت عند المالكية إذا كان المكان طاهراً. قال في (نيل الأوطار): والحديث يدل على المنع من الصلاة في المقبرة والحمام وقد اختلف الناس في ذلك. أما المقبرة فذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها ولا بين أن يفرش عليها شيئاً يقيه من النجاسة أم لا ولا بين أن يكون في القبور أو في مكان منفرد عنها كالبيت وإلى ذلك ذهبت الظاهرية ولم يفرقوا بين مقابر المسلمين والكفار. وذهب الشافعي إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة فإن صلى رجل في مكان طاهر منها
أجزأته، وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب وأبو العباس والإمام يحيى من أهل البيت وقال الرافعي أما المقبرة فالصلاة مكروهة فيها بكل حال. وذهب الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة ولم يفرقوا كما فرق الشافعي ومن معه بين المنبوشة وغيرها. وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة. وأما الحمام فذهب أحمد إلى عدم صحة الصلاة فيه ومن صلى فيه أعاد أبداً: وقال أبو ثور لا يصلي في الحمام ولا مقبرة على ظاهر الحديث. وذهب الجمهور إلى صحة الصلاة في الحمام مع الطهارة وتكون مكروهة وتمسكوا بعمومات نحو حديث "أينما أدركت الصلاة فصل" وحملوا النهي على حمام متنجس وحكمة المنع من الصلاة في المقبرة قيل هو ما تحت المصلي من النجاسة وقيل لحرمة الموتى وحكمة المنع من الصلاة في الحمام أنه يكثر فيه النجاسات وقيل إنه مأوى الشيطان. 1305 - * روى أبو داود عن أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" الحديث يدل على منع الصلاة إلى القبور وقد تقدم الكلام في ذلك وعلى منع الجلوس عليها وظاهر النهي التحريم وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر أخيه" وروي عن مالك أنه لا يكره القعود عليها ونحوه قال وإنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة. 1306 - * روى مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون
قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". والحديث يدل على تحريم اتخاذ قبور الأنبياء والصلحاء مساجد قال العلماء إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية انظر (النيل 2/ 136 - 139). 1307 - * روى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلى".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - كره بعض العلماء الصلاة في بيت بني فوق المراحيض، لأنهم اعتبروا أن ما فوق المرحاض له نوع حكم المرحاض، وهو تعليل بعيد، وفيه حرج، فالورع ألا يصلي الإنسان فيه ولو فعل جاز. - والصلاة في الكنيسة ومعابد غير المسلمين مكروهة عند جماهير العلماء، وقال الحنابلة لا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، وقد رخص فيها كثيرون. - كره العلماء الصلاة في كل موضع فيه معصية إلا لضرورة. - تحرم الصلاة في الأرض المغصوبة بالإجماع ولكن اعتبر الجمهور أن الصلاة فيها صحيحة مع الحرمة والأرجح عند الحنابلة أن الصلاة باطلة في الأرض المغصوبة. - من صلى في أرض مغصوبة جاهلاً أو ناسياً أو حبس في مكان مغصوب صحت صلاته بلا إثم. - تصح الصلاة في أرض قد عذب أهلها كأرض ثمود مثلاً ولكن مع الكراهة التنزيهية إذا كان بإمكانه أن يصلي خارجاً عنها دون مشقة أو تأخير وقت.
الفقرة الرابعة: في الصلاة في البيوت
الفقرة الرابعة: في الصلاة في البيوت 1308 - * روى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً". قوله "من صلاتكم" قال القرطبي من للتبعيض والمراد النوافل بدليل ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعاً "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته" وقد حكى القاضي عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن: قال الحافظ وهذا وإن كان محتملاً لكن الأول هو الراجح واستنبط البخاري من هذا الحديث كراهية الصلاة في المقابر. 1309 - * روى أحمد عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة". 1310 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً".
1311 - * روى مالك عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم". 1312 - * روى الشيخان عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها قال فتتبع إليه رجال وجاؤا يصلون بصلاته قال ثم جاؤا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم قال فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم. فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". 1313 - * روى الشيخان عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت". أقول: الأصل في صلاة النافلة أن تكون في البيوت إلا إذا عرف الإنسان من نفسه أنه إذا
أخر صلاة النافلة إلى البيت لم يصلها، أو كان يجد نشاطاً في صلاته في المسجد من غير مراءاة وعلى كل الأحوال فأدب المسلم أن تكون له صلاة في بيته، والأصل أن تصلى الفرائض في المسجد، ومن كلام الحنابلة أن صلاة الجماعة واجبة، والذهاب إلى المسجد سنة، وتتحقق الجماعة عند الحنفية ولو أن يصلي الإنسان بزوجة أو طفل عمره سبع سنين.
مسائل وفوائد حول الباب الثالث
مسائل وفوائد حول الباب الثالث - من فروض الصلاة ترتيب أركان الصلاة على النحو المشروع في صفة الصلاة في السنة وموالاة أفعالها، بأن يقدم: النية على تكبيرة الإحرام، والتكبير على الفاتحة، والفاتحة على الركوع، والركوع على الرفع منه، والاعتدال على السجود، والسجود على التشهد الأخير، والتشهد الأخير على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على السلام. ويترتب على كون الترتيب والموالاة فريضتين أن من تركهما عمداً بطلت صلاته إلا أن هناك حالات استثنائية تبيح ترك الموالاة بشروط كثيرة، كأن سبقه حدث سماوي كأن أصابه رعاف غير متعمد فيه فإنه يحق له أن يذهب ويتوضأ ويكمل صلاته، والأفضل بالإجماع أن يقطع صلاته، وأن يستأنفها بعد الوضوء. ويترتب على كون الترتيب فريضة التزامات فصلت فيها المذاهب، فمثلاً قال الشافعية: إن سها عن الترتيب فما فعله بعد المتروك يعتبر لغواً، فإن تذكر المتروك قبل بلوغ مثله من ركعة أخرى فعله بعد تذكره فوراً، فإن تأخر بطلت صلاته، وإن لم يتذكر حتى بلغ مثله تمت به ركعته المتروك آخرها ولغا ما بين ذلك وتدارك ما بقي من صلاته، ولو تيقن في آخر صلاته ترك سجدة من الركعة الأخيرة، سجدها وأعاد تشهده وسجد للسهو، وإن كانت السجدة من ركعة أخرى غير الأخيرة أو شك هل ترك السجدة من الأخيرة أو من غيرها، لزمه ركعة ويسجد للسهو، وهناك تفصيلات كثيرة في المذاهب تترتب على السهو في الترتيب، ومن كلام الحنفية أنه لو سجد ثم ركع لم يعتبر سجوده ويلزمه سجود آخر، فإن سجد صحت صلاته ويلزمه سجود السهو، ولو قعد القعود الأخير وتذكر سجدة نسيها من صلب الصلاة فإنه يسجدها ويعيد القعود ويسجد للسهو، ولو ترك ركوعاً وتذكره في آخر الصلاة فإنه يقضيه مع ما بعده من السجود ويعيد القعود والتشهد. ولو تذكر أنه نسي قياماً أو قراءة صلى ركعة ويعيد التشهد ويسجد للسهو، ولو نسي
سجدة في الركعة الأولى قضاها ولو بعد السلام قبل الكلام ثم يتشهد ثم يسجد السهو، ثم يتشهد من جديد ويسلم. - اتفق الفقهاء على أن الإمام يجهر بقدر الحاجة بالتكبير والتسميع والسلام، فإذا كان صوته لا يبلغ المأمومين جاز التبليغ من غيره، ويجب أن يقصد المبلغ سواء أكان إماماً أو غيره الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد التبليغ فقط فلم تنعقد صلاته، وكذا لا تنعقد عند الشافعية إذا أطلق فلم يقصد شيئاً، وإذا قصد مع الإحرام الإعلان صحت الصلاة عند الشافعية والحنفية، أما غير تكبيرة الإحرام فإن قصد بها التبليغ فقط لا تبطل صلاته عند الجمهور وقال الشافعية إذا قصد بذلك مجرد التبليغ أو لم يقصد شيئاً بطلت صلاته إن كان عالماً، أما العامي فلا تبطل صلاته. - ذكر الشافعية أربعة أمور تخالف فيها المرأة الرجل في الصلاة: أولاً: الرجل يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه في الركوع والسجود، والمرأة تضم بعضها إلى بعضن فتلصق بطنها بفخذيها وتضم ركبتيها وقدميها في ركوعها وسجودها. ثانياً: تخفض المرأة صوتها في الصلاة الجهرية إن صلت بحضرة الرجال الأجانب بحيث لا يسمعها من صلت بحضرته من الأجانب. ثالثاً: إذا كانت المرأة وراء الإمام وسها الإمام تذكره بضرب بطن كفها اليمين على ظهر كفها الشمال. رابعاً: جميع بدن المرأة الحرة في الصلاة عورة إلا وجهها وكفيها، وهناك خلاف رأيناه حول قدميها، أما خارج الصلاة فعورتها عند الجمهور جميع البدن.
الباب الرابع في أفعال ممتنعة في الصلاة وأفعال جائزة
الباب الرابع في أفعال ممتنعة في الصلاة وأفعال جائزة وفيه عرض إجمالي ونصوص
عرض إجمالي
عرض إجمالي تشمل الأفعال الممتنعة في الصلاة: مبطلات الصلاة مكروهاتها التحريمية والتنزيهية وما هو خلاف الأولى. فمن مبطلات الصلاة ترك شرط من شروطها الصحيحة على ضوء الفتوى وتفصيلات الأئمة في ذلك كترك الطهارة أو ستر العورة أو استقبال القبلة أو الصلاة قبل دخول وقتها أو ترك النية، ومن مبطلات الصلاة: الكلام وهو النطق بحرفين فأكثر ولو لم تفهم معنى، والنطق بحرف مفهم واحد خارج عن الصلاة يبطلها عمداً أو سهواً، ومن الكلام المبطل: التنحنح بلا عذر إذا صحبه حرفان فأكثر ومنه: التأوه والأنين والتأفف والبكاء إذا اشتمل على حروف مسموعة إلا إذا نشأ من مرض أو من خشية الله. قال الحنفية: ومن ارتفع بكاؤه لمصيبة بلغته فسدت صلاته، وإذا تنحنح لعذر كأن نشأ من طبعه أو كان لغرضه صحيح كتحسين الصوت أو ليهتدي إمامه إلى الصواب أو للإعلام أنه في الصلاة فلا فساد على الصحيح. والنفخ بصوت مسموع يفسد الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد، وتفسد بكل ما قصد به الجواب أو النداء ولو كان بذكر أو قراءة قرآن. وعند المالكية لا تبطل الصلاة إن كان الكلام لإصلاح الصلاة وبقدر الحاجة، كأن سلم الإمام قبل تمام صلاته، وتبطل عندهم بتقليد صوت حيوان. وقال الشافعية: ويعذر في يسير الكلام إن سبق لسانه إليه، ولا تبطل عند الحنابلة إن تكلم من سلم قبل إتمام صلاته سهواً بكلام يسير عرفاً لمصلحة الصلاة. وأجاز الحنابلة القراءة في أثناء الصلاة في المصحف لمن لا يحفظه، ويجوز للمأموم أن يفتح على إمامه، وينبغي للمقتدي ألا يبادر بالفتح على إمامه، ويكره للإمام أن يلجئ المأموم إليه، وتبطل الصلاة عند الحنفية إن فتح المأموم على غير إمامه كما تبطل بامتثال أمر الغير، فإن أمره غيره بأمر فيه مصلحة للصلاة يتريث ثم يفعل بنية مبتدأة لا بنية تنفيذ الأمر.
ويكره عند الحنابلة للمصلي الفتح على من هو في صلاة أخرى ولا تبطل صلاته به. ومن مبطلات الصلاة الأكل والشرب، واستثنى الحنفية ما إذا دخل الصلاة وكان بين أسنانه مأكول دون الحمصة فابتلعه. ومن كلام الشافعية والحنابلة أن الصلاة تبطل بكثير المضغ وإن لم يصل إلى الجوف شيء من الممضوغ. ومن مبطلات الصلاة العمل الكثير المتوالي، والعمل الكثير عند أبي حنيفة هو الذي لا يشك الناظر لفاعله أنه ليس في الصلاة فإن اشتبه فهو قليل على الأصح، والحركات الثلاث المتواليات عند الشافعية كثير، فمن أراد أن يحك رأسه لضرورة فإذا أسند راحته إلى رأسه وحكه بأصبع واحدة لا تبطل صلاته لأن القاعدة عندهم أن العمل الكثير إن كان بعضو ثقيل أبطل الصلاة فإن كان بعضو خفيف فلا بطلان، كما لو حرك أصابعه من غير تحريك كفه، أما إذا حرك يده بحركة أصبعه ثلاث مرات بطلت صلاته ولا يضر عند الشافعية والحنابلة العمل المتفرق وإن كثر ولا الحاصل بعذر كمرض يستدعي حركة لا يستطيع الصبر عنها. وقال الحنابلة: ويكره العمل الكثير غير المتوالي بلا حاجة، ولا يقدر عندهم بثلاث ولا بعدد. ولا تبطل الصلاة إن مشى مستقبلاً القبلة بخطى متقطعة، كأن يفصل بين تقديم كل رجل وأخرى بقدر أداء ركن فيقف ثم يمشي وهكذا، وأدنى الركن عند الحنفية هو مقدار أن يقول: سبحان الله في الركوع. ومن مبطلات الصلاة: القهقهة، وقد رأينا أنها تبطل الوضوء كذلك عند الحنفية. ومن مبطلات الصلاة: الغلط في القراءة بما يغير المعنى تغييراً يكون اعتقاده كفراً، وبكل ما لم يكن مثله في القرآن أو ليس له معنى، والخطأ في الإعراب عند متأخري الحنفية لا يفسد الصلاة مطلقاً ولا تفسد بإظهار لام شمسية ولا تفسد لو زاد كلمة موجودة في القرآن أو أنقص كلمة أو كرر كلمة ولو تغير المعنى.
وقال الحنابلة: إن أحال اللحان المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الائتمام به إلا أن يتعمد فتبطل صلاتها. ومن مبطلات الصلاة ترك ركن بلا قضاء أو شرط بلا عذر، وأن يسبق المقتدي إمامه عمداً بركن لم يشاركه فيه عند الحنفية. وقال الشافعية: لا تبطل إلا بتقدمه على الإمام بركنين فعليين وتبطل الصلاة عند الحنفية بمحاذاة المرأة الرجل في صلاة مشتركة من غير فرجة على تفصيلات عندهم. وأوصل الحنفية مبطلات الصلاة إلى ثمانية وستين سبباً، وأوصلها المالكية إلى حوالي الثلاثين وأوصلها الشافعية إلى سبعة وعشرين وأوصلها الحنابلة إلى ستة وثلاثين سبباً. وهذا يفيد أن على المسلم أن يتفقه في مذهب من المذاهب الأربعة ليؤدي صلاته مطمئناً أنها جائزة على مذهب من مذاهب الأئمة المجتهدين. ومن مكروهات الصلاة التحريمية عند الحنفية ترك واجب من واجبات الصلاة عمداً، ومن المكروهات التنزيهية ترك سنة من سنن الصلاة عمداً، وتطويل القراءة في الركعة الثانية على الأولى بأكثر من ثلاث آيات، والقراءة بعكس ترتيب القرآن. ويكره تحريماً عند الحنفية قراءة قرآن في ركوع أو سجود أو إتمام قراءة السورة في الركوع ويكره الجهر بالتشهد، ويكره العبث القليل بيده بالثياب أو بالبدن أو باللحية، ويكره التلثم بأن يغطي أنفه بدون حاجة، ويكره رفع أو جمع الثوب باليدين في الركوع والسجود، وجمع الشعر وضمه وتشبيك الأصابع والتخصر بأن يضع يديه أو إحداهما على خاصرتيه، ويكره تغميض العينين إلا لطلب خشوع، ويكره الالتفات في الصلاة بالوجه، أما إذا نظر بمؤخر عينه فلا يكره، ويكره رفع البصر إلى السماء والقيام على رجل واحدة إلا لضرورة، وتكره الصلاة حاقناً بالبول أو حاقباً بالغائط أو حازقاً بالريح إن وسع الوقت.
وتكره الصلاة مع اشتهاء الطعام الحاضر أو القريب الحضور، ويكره التثاؤب والتمطي، والكراهة هنا تنزيهية عند الحنفية إلا إن تعمده، ويكره تنزيهاً عند الحنفية رد السلام بالإشارة أو بالرأس، فإن صافح بنية التسليم فسدت صلاته، وتكره كل إشارة بالعين أو باليد ونحوها، ويجوز عند المالكية الإشارة الخفيفة لأي حاجة كما يجوز عند الحنفية تكليم المصلي وإجابته برأسه، ويكره عقص الشعر وتشمير الكم، وقيد المالكية كراهة تشمير الكم بأن يكون لأجل الصلاة، ويكره للمصلي أن يفترش ذراعيه، وأن يصلي في ثياب البذلة التي يلبسها في بيته، وثياب المهنة إن كان له غيرها والكراهة هنا تنزيهية وتكره الصلاة بثياب فيها تصاوير، كما تكره إلى صورة منصوبة أو تمثال فوق رأسه أو بين يديه أو بحذائه يمنة أو يسرة ولو في وسادة منصوبة لا مفروشة، وتكره الصلاة إلى نار موقدة ويكره سدل الثوب على الكتفين بلا لبس معتاد ودون أن يرد أحد الطرفين على الآخر، ويكره اشتمال الصماء وهو أن يجلل جسده بثوب يحيط بيديه وجسمه بحيث لا تخرج منه يده، ويكره لباس يحدد العورة لضيقه ولو خارج الصلاة، ويكره الإتيان بأذكار الصلاة في غير محلها، كأن يكبر للركوع بعد أن يتم ركوعه أو يقول سمع الله لمن حمده بعد تمام القيام، وينبغي لمن يريد التفقه في الصلاة أن يرجع إلى كتب المذاهب الأربعة ليتفقه حق الفقه. ويجب على المصلي قطع صلاته لإغاثة شخص ملهوف أو لإنقاذ حياة إنسان أو لخوف اندلاع نار أو مهاجمة ذئب لغنم، ويجوز قطع الصلاة ولو فرضاً إذا سرق له أو لغيره ما يساوي درهماً أو أكثر أو خافت المرأة على ولدها أو خيف من فوران القدر أو احتراق الطعام ولقتل الحيوان المؤذي ورد الدابة إذا شردت وإذا دافعه البول أو الغائط، أما إذا خافت القابلة على الولد أو على أمه أثناء الولادة فإنها يجب عليها تأخير الصلاة عن وقتها أو قطعها إن كانت فيها، وإذا نادى أحد الأبوين فإن كان نداء استغاثة يفترض عليه قطع الصلاة فرضاً أو نفلاً، أما إذا لم يكن نداء استغاثة فلا يقطع صلاته في الفريضة، أما إذا كان في صلاة نافلة وناداه أحد الأبوين وهو لا يعلم أنه في صلاة يجوز له أن يقطع صلاته. ومن الأفعال الجائزة في الصلاة أن يصلي الإنسان إلى ظاهر قائم أو قاعد ولو كان
يتحدث ما لم يكن منه تشويش للصلاة. ولا بأس عند الحنفية أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق، ولا يكره عندهم السجود على بساط فيه تصاوير لذي روح على ألا يسجد على الصورة، وإذا قتل حية أو عقرباً بعمل قليل فلا تقطع الصلاة ولا يكره أن يقطع صلاته من أجل ذلك. وإذا قام من ركوع أو سجود فلا مانع من نفض ثوبه كي لا يلتصق بجسده فتتشكل العورة، ولا مانع من المراوحة بين الرجلين بأن يعتمد مرة على هذه ومرة على هذه، وتكره إذا كثرت. انظر (حاشية ابن عابدين 1/ 412 و 1/ 429 فما بعدها)، (الشرح الصغير 1/ 337 فما بعدها)، (المهذب 1/ 88)، (المغني 2/ 5)، (الفقه الإسلامي 1/ 771 و 2/ 5 فما بعدها). وإلى نصوص هذا الباب.
- النهي عن الكلام والسلام في الصلاة
- النهي عن الكلام والسلام في الصلاة: 1314 - * روى الشيخان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه، حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) (2) فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. 1315 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: "إن في الصلاة لشغلاً". وفي رواية (4) لأبي داود قال: كنا نسلم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة، فرد علي السلام". وفي رواية للنسائي (5) قال: كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فأسلم عليه، فيرد علي، فأتيته فسلمت عليه وهو يصلي، فلم يرد علي، فلما سلم أشار إلى القوم: "إن الله تبارك وتعالى أحدث في الصلاة: أن لا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين".
قال (البغوي 3/ 235). قوله: فأخذني ما قرب وما بعد ويروى: "ما قدم وما حدث". تقول العرب هذه اللفظة للرجل إذا أقلقه الشيء وأزعجه وغمه، تقول أيضاً: أخذه المقيم والمقعد، كأنه يهتم لما نأى من أمره ولما دنا، قال الخطابي: معناه: الحزن، والكآبة، يريد: أنه قد عاوده قليم الأحزان، واتصل بحديثها. ما قدم وما حدث: ما كان قديماً وما هو حديث جديد. أقول: قوله عليه الصلاة والسلام إن في الصلاة لشغلاً، اعتبره الحنفية ناسخاً لكثير من التوسعات ومن جملتها كثرة الحركة في الصلاة. يشكل على حديث زيد بن أرقم وهو أنصاري مدني أن حديث ابن مسعود فيه أنه لما رجع من عند النجاشي كان تحريم الكلام وكان رجوعه من الحبشة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقبل قدوم الأنصار للبيعة فيكون تحريم الكلام بمكة، وحديث زيد يشير إلى أن تحريم الكلام كان بالمدينة وأجيب عن ذلك بإجابات فيها نظر. ومن الأجوبة أن الكلام نسخ بمكة ثم أبيح ثم نسخت الإباحة بالمدينة، ومنها حمل حديث ابن مسعود على تحريم الكلام لغير مصلحة الصلاة وحديث زيد على تحريم سائر الكلام، ومنها أن زيد بن أرقم أراد بقوله: كنا نتكلم في الصلاة، الحكاية عمن كان يفعل ذلك في مكة وهو بعيد، والله أعلم. 1316 - * روى أبو داود عن صهيب رضي الله عنه قال: "مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد إلي إشارة- وقال: لا أعلم إلا أنه قال: إشارة بأصبعه". قال في "عون المعبود": اعلم أنه ورد الإشارة لرد السلام في هذا الحديث بجميع الكف، وفي حديث جابر باليد، وفي حديث ابن عمر عن صهيب بالأصبع، وفي حديث
ابن مسعود عند البيهقي بلفظ: فأومأ برأسه، وفي رواية له: فقال برأسه، يعني الرد، ويجمع بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة، وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزاً. أقول: يكره تنزيهاً عند الحنفية رد السلام بالإشارة باليد أو الرأس ويستحب عند الشافعية رد السلام بالإشارة ولا يكره عند المالكية رد السلام بالإشارة ودليل الحنفية حديث عبد الله بن مسعود: إن في الصلاة لشغلاً، ودليل الآخرين ما رأيناه. 1317 - * روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء يصلي فيه، فجاءته الأنصار، فسلموا عليه وهو يصلي، قال ابن عمر: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: هكذا- وبسط كفه، وجعل بطنه أسفل، وظهره إلى فوق. 1318 - * روى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون غلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنام هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"- أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- قلت: يا رسول الله إني
حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان؟ قال: "فلا تأتهم". قال: ومنا رجال يتطيرون؟ قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم"- قال ابن الصباح: "فلا يصدنكم"- قال: قلت: ومنا رجال يخطون؟ قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه: فذاك"، قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها، فقال لها: أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". قال (النووي 5/ 23): اختلف العلماء في معناه فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح والمقصود أنه حرام لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين بها وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن وافق خطه فذاك ولم يقل هو حرام بغير تعليق على الموافقة لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة ذاك النبي مع بيان الحكم في حقنا فالمعنى أن ذلك النبي لا منع
في حقه وكذا لو علمتم موافقته ولكن لا علم لكم بها وقال الخطابي هذا الحديث يحتمل النهي عن هذا الخط إذ كان علماً لنبوة ذاك النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقطعت فنهينا عن تعاطي ذلك. أ. هـ. أقول: كانت معرفة الغيب من خلال الخط في حق النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه معجزة لذلك النبي وهو المفهوم من كلام الخطابي فلذلك لا يقاس عليه وما يفعله بعض الناس في هذا الشأن خرص وظنون والإيمان بها باطل بل ادعاؤه واستحلاله كفر. أقول: قال الشافعية: يجوز لمن عطس أن يحمد الله ويسمع نفسه وليس لأحد أن يشمته وإذا شمته إنسان مخطئاً فرد برأس أو يد فإنه مكروه عند المالكية، وقال الحنفية: من شمت عاطساً بلسانه بطلت صلاته وإنما لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب القصة بإعادة الصلاة لأنه كان حديث عهد بالإسلام. وقوله لكني سكت: قال المنذري: يريد لم أتكلم لكني سكت وورود (لكن) هنا مشكل لأنه لابد أن يتقدمها كلام مناقض لما بعدها ويحتمل أن يكون التقدير فلما رأيتهم يسكتوني لم أكلمهم لكني سكت. (نيل 2/ 364). قال النووي في (شرح مسلم 5/ 21): فيه تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لحاجة أو غيرها وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها فإن احتاج إلى تنبيه أو إذن لداخل ونحوه سبح إن كان رجلاً وصفقت إن كانت امرأة هذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم الجمهور من السلف والخلف وقال طائفة منهم الأوزاعي يجوز الكلام لمصلحة الصلاة لحديث ذي اليدين. هذا في كلام العامد العالم أما الناسي فلا تبطل صلاته بالكلام القليل عندنا وبه قال مالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة رضي الله عنه والكوفيون تبطل، دليلنا حديث ذي اليدين فإن كثر كلام الناسي ففيه وجهان مشهوران لأصحابنا أصحهما تبطل صلاته لأنه نادر وأما كلام الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام فهو ككلام الناسي فلا تبطل الصلاة بقليله لحديث معاوية بن الحكم هذا الذي نحن فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الصلاة
لكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل. وأما قوله صلى الله عليه وسلم إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن فمعناه هذا ونحوه فإن التشهد والدعاء والتسليم من الصلاة وغير ذلك من الأذكار مشروع فيها .. وفيه دليل على أن من حلف أن لا يتكلم فسبح أو كبر أو قرأ القرآن لا يحنث ... وفي هذا الحديث النهي عن تشميت العاطس في الصلاة وأنه من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة وتفسد به إذا أتى به عالماً عامداً قال أصحابنا إن قال يرحمك الله بكاف الخطاب بطلت صلاته وإن قال يرحمه الله أو اللهم ارحمه أو رحم الله فلاناً لم تبطل صلاته لأنه ليس بخطاب وأما العاطس في الصلاة فيستحب له أن يحمد الله تعالى سراً. وقال النووي في (شرح مسلم 5/ 24). قوله صلى الله عليه وسلم "أين الله" قالت في السماء "قال من أنا" قالت أنت: رسول الله قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان تقدم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات والثاني: تأويله بما يليق به فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصراً في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم فلما قالت في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول في السماء أي على السماء والذي أجمع عليه أهل السنة وجوب الإمساك عن الفكر في الذات كما أمروا وسكتوا لحيرة العقل واتفقوا على ترك التكييف والتشكيل. ا. هـ. أقول: سقنا هذا النقل مع حرصنا على عدم الخوض في الصفات للإشعار بأن كثيراً من
أهل السنة والجماعة أصحاب الرسوخ في العلم والذين تثق بهم الأمة خاضوا في التأويل فليس كل مؤول ضالاً ولا كافراً بل يجب الاحتياط إذا تحدث عن تأويل هؤلاء *. 1319 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فلا يقل: هاه، فإن الشيطان يضحك في جوفه". 1320 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع". يكره لمن تثاءب خارج الصلاة أن يخرج صوتاً ويسن له أن يستر فمه أما إذا أخرج صوتاً داخل الصلاة يتألف من حرفين فإن صلاته تبطل أما إذا تثاءب بلا صوت فلا تبطل صلاته وعليه أن يكظم ما استطاع فإن لم يكظم فقد وقع في كراهته التنزيهية، وإذا تعمد التثاؤب في الصلاة فذلك مكروه تحريماً. 1321 - * روى البخاري عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً حتى يرضى ربنا، وبعد ما يرضى من أمر الدنيا والآخرة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "من القائل الكلمة؟ " قال: فسكت الشاب، ثم قال: "من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً" فقال: يا رسول الله أنا قلتها، ولم أرد بها إلا خيراً، قال: "ما تناهت دون عرش الرحمن عز وجل". أقول: وأجاز الشافعية لمن عطس أن يحمد الله في نفسه. قال في (النيل 2/ 371): استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور. 1322 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا غرار في صلاة ولا تسليم". وفي رواية (2) قال: أراه رفعه، قال: "لا غرار في تسليم ولا صلاة" قال أبو داود: وقد روي غير مرفوع، قال أبو داود: قال أحمد: يعني- فيما أرى- أن لا تسلم ولا يسلم عليك، ويغرر الرجل بصلاته، فينصرف وهو فيها شاك. أقول: إذا سلم الإنسان على إنسان بلسانه أثناء الصلاة أو رد السلام أثناء الصلاة بلسانه فإن الصلاة تبطل بذلك. 1323 - * روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فلما سلم النبي
صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي "لقد تحجرت واسعاً يريد رحمة الله". استدل بهذا الحديث على أنها لا تبطل صلاة من دعا بما لا يجوز جاهلاً لعدم أمر هذا الداعي بالإعادة.
- البكاء من خشية الله.
- البكاء من خشية الله. قال الله تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً) (1). 1324 - * روى أحمد عن عبد الله بن الشخير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. قال في (النيل 2/ 369): فيه دليل أن البكاء لا يبطل الصلاة سواء ظهر منه حرفان أم لا وقد قيل إن كان البكاء من خشية الله لم يبطل وهذا الحديث يدل عليه. 1325 - * روى البخاري عن ابن عمر قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه قيل له الصلاة قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء فقال: "مروه فليصل فعاودته فقال مروه فليصل إنكن صواحب يوسف". وقد استدل به على جواز البكاء في الصلاة. ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صمم على استخلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز. فامرأة العزيز أظهرت الإكرام للنساء في دعوتها إياهن ومرادها أن يعذرنها في محبة يوسف. وعائشة أظهرت أن سبب إراداتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين لبكائه
ومرادها أن لا يتشاءم الناس به. ا. هـ نيل بتصرف (2/ 369). قال البغوي (3/ 246): ولو نفخ في صلاته، فظهر حرفان، أو قال: أف فسدت صلاته، وإن لم يظهر حرفان، فلا تفسد، هذا قول الأكثرين، وسئل سفيان الثوري عن الرجل يقول في الصلاة: آه؟ قال: يعيد، ومثله عن الشعبي، واتفقوا على الكراهة. وذهب قوم إلى أنه لو نفخ لا تبطل صلاته، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال أبو يوسف: إذا قال: أف لا تبطل، ولو ضحك فظهر حرفان بطلت صلاته، قال جابر: إذا ضحك في الصلاة، أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء، وهو قول عامة أهل العلم وذهب أصحاب الرأي إلى أن القهقهة في الصلاة تبطل الوضوء والصلاة جميعاً ا. هـ وانظر بسط القول فيه في (نصب الراية) 1/ 47، 53 وسيرد معنا حكم القهقة بعد قليل.
- العمل القليل لا يبطل الصلاة
- العمل القليل لا يبطل الصلاة: 1326 - * روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك" ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" ثلاثاً- وبسط يده، كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك؟ قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهين فقلت: أعوذ بالله منك- ثلاث مرات- ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر- ثلاث مرات- ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة". 1327 - * روى الطبراني عن عقبة بن عامر يقول: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فأطال القيام، ثم رأيته هوى بيده ليتناول شيئاً، فلما سلم، قال: "ما من شيء وعدتموه إلا قد عرض علي في مقامي هذا. حتى لقد عرضت علي النار وأقبل إلي منها شرر حتى حاذاني مكاني هذا، فخشيت أن يغشاكم". أقول: هذا النص وأمثاله مما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة وقد أدنيت منه مما لم يره غيره مع أن الجنة فوق السماء السابعة من جملة الأدلة التي جعلتني أقول إن السموات السبع والكرسي والعرش من عالم الغيب فهي موجودة ولكنها مغيبة عن الإنسان. 1328 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه،
فذعته، فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) (1) فرده الله خاسئاً". وفي رواية (2) "فأخذته بدل فذعته". 1329 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، قال: فبينما هو في الصلاة مد يده ثم أخرها، فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله صنعت في صلاتك هذه ما لم تصنع في صلاة قبلها. قال: "إني رأيت الجنة قد عرضت علي ورأيت فيها ... قطوفها دانية حبها كالدباء، فأردت أن أتناول منها، فأوحي إليها أن استأخري، فاستأخرت. ثم عرضت علي النار، بيني وبينكم حتى رأيت ظلي وظلكم فأومأت إليكم أن استأخروا، فأوحي إلي أن أقرهم فإنك أسلمت وأسلموا، وهاجرت وهاجروا، وجاهدت وجاهدوا، فلم أر لي عليكم فضلاً إلا بالنبوة". 1330 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، ثم أتاهم ليصلح بينهم، ثم قال لبلال: "يا بلال إذا
حضرت صلاة العصر ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس". فلما حضرت العصر أذن بلال، ثم أقام، ثم قال لأبي بكر: تقدم فتقدم أبو بكر فدخل في الصلاة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر، قال، وصفح القوم، وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لا يلتفت. فلما رأى أبو بكر التصفيح لا يمسك عنه، التفت، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي امضه، فلما قال: لبث أبو بكر هنيهة يحمد لله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امضه"، ثم مشى أبو بكر القهقرى على عقبيه فتأخر، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تقدم فصلى بالناس. فلما قضى صلاته، قال: "يا أبا بكر: ما منعك إذ أومأت إليك ألا تكون مضيت"؟ قال: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: "إذا نابكم في صلاتكم شيء فليسبح الرجال وليصفح النساء". وقال ابن أبي حازم في حديثه: فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، يأمره أن يصلي، فرفع أبو بكر يده، فحمد الله ثم رجع القهقرى وراءه. وقال عبد الأعلى في حديثه: فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كما أنت، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله وأثنى عليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع القهقرى. هذا دليل أن الخطو المتقطع القليل لا يفسد الصلاة ما دام صاحبه متجهاً نحو القبلة وأن الحركة القليلة لا تفسد الصلاة وأن للإمام أن يستخلف غيره وهو في الصلاة في حالات خاصة وهو موضوع سيأتي. 1331 - * روى البخاري عن أنس بن مالك الأنصاري إن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي بهم لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم فضحك. فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده: أن أتموا صلاتكم. 1332 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: جئت يوماً من خارج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فاستفتحت فتقدم وفتح لي، ثم رجع القهقرى إلى مصلاه، فأتم صلاته. وقال الترمذي: ووصفت: أن الباب كان في القبلة. وفي رواية النسائي (2) قالت: استفتحت الباب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعاً، والباب على القبلة، فمشى عن يمينه- أو عن يساره- ففتح الباب، ثم رجع إلى مصلاه. أقول: المشي في الصلاة يحتاج إلى فقه، فقد ذكر الفقهاء أن من اضطر للمشي يخطو وهو متوجه نحو القبلة ويقف وقفة قليلة عند كل خطوة مقدار سبحان ربي العظيم ثم ينتقل إلى خطوة أخرى وهكذا فإن صلاته لا تبطل وإن كثرت الخطا ذهاباً وإياباً ما لم يختلف المكان بأن خرج من المسجد مثلاً كما أن الحركة لفتح باب أو غيره تحتاج إلى فقه فتكون بأقل ما يمكن من العمل الذي لا يعتبر كثيراً عرفاً في الصلاة. قال في النيل: الحديث يدل على إباحة المشي في صلاة التطوع للحاجة. 1333 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب". أقول: قال الفقهاء لا تبطل الصلاة بقتل الحية والعقرب إذا تم ذلك بعمل قليل عرفاً أما إذا كثر فإنه يقطع الصلاة ويستأنفها من الابتداء، قال الفقهاء: لا يكره عند بعض
العلماء قتل حية وعقرب ونحوهما من كل حيوان مؤذ ولو بضربتين ولم يقتض عملاً كثيراً ولو أدى إلى انحراف عن القبلة. 1334 - * روى البخاري عن الأزرق بن قيس قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف نهر، إذ جاء رجل، فقام يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها- قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي- فجعل الرجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ قال: إني سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عزوات/ أو سبع غزوات، أو ثمان- وشهدت تيسيره، وإني إن كنت أرجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلي مألفها فيشق علي. وفي أخرى (2) قال: كنا على شاطئ النهر بالأهواز، وقد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة على فرس، فصلى، وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها، حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ؟ ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال: إن منزلي متراخ فلو صليت وتركته لم آت أهلي إلى الليل. وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى من تيسيره. أقول: مما أجازه الفقهاء قطع الصلاة من أجل رد الدابة إذا شردت، وفعل أبي برزة دليل على ذلك.
- عمل القلب لا يبطل الصلاة وإن طال: 1335 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان فإذا قضي الأذان أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل إن يدري كم صلى فإذا لم يدر أحدكم ثلاثاً صلى أو أربعاً فليسجد سجدتين وهو جالس" وقال البخاري قال عمر: "إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة". يدل على أن الوسوسة في الصلاة غير مبطلة لها وكذا سائر الأعمال القلبية لعدم الفارق ومعنى قول عمر: أنه يدبر تجهيزه ويفكر فيه.
- حمل الأطفال في الصلاة
- حمل الأطفال في الصلاة: 1336 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره، فقال: "من أحبني فليحب هذين". 1337 - * روى الشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس- فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وفي رواية (3): "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها". وفي أخرى (4) لأبي داود: قال: "بينا نحن جلوس في المسجد، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي صبية، فحملها على عاتقه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه، يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته، يفعل ذلك بها". وفي أخرى (5) له قال: "بينا نحن ننظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت بنته على عنقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه، وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه، قال: فكبر فكبرنا، حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام، أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته. أقول: ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الروايات، هو الفاصل بين العمل الكثير
والقليل عند الحنابلة، فما كان في هذا الحد فهو قليل لا تبطل به الصلاة، واعتبر كثير من العلماء أن هذا الحديث منسوخ بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "إن في الصلاة لشغلاً" وبالتالي فحد العمل الكثير عندهم الذي تبطل به الصلاة يختلف عن حده عند الحنابلة، وقد مر معنا، وبعض الناس أصبحوا في عصرنا يعتبرون الاستثناء أصلاً، فهذه الحادثة وما أشبهها كانت نادرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى فرض النسخ، فالأصل أن لا يفعل مثلها المسلم إلا لحاجة أو ضرورة، أما أن تصبح الحركات في الصلاة وكأنها الأصل فذلك بعيد عن السنة.
- من نابه شيء في صلاته فإنه يسبح والمرأة تصفق
- من نابه شيء في صلاته فإنه يسبح والمرأة تصفق: 1338 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء". 1339 - * روى الجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء في الصلاة". قال في (النيل 2/ 372): وأحاديث الباب تدل على جواز التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا ناب أمر من الأمور وهي ترد على ما ذهب إليه مالك في المشهور عنه من أن المشروع في حق الجميع التسبيح دون التصفيق وقد اختلف في حكم التسبيح والتصفيح هل الوجوب أو الندب أو الإباحة فذهب جماعة من الشافعية إلى أنه سنة، منهم الخطابي وتقي الدين السبكي والرافعي وحكاه عن أصحاب الشافعي.
- كراهة رفع البصر إلى السماء في الصلاة
- كراهة رفع البصر إلى السماء في الصلاة: 1340 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم"، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: "لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم". قال ابن بطال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا في خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون، لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. - النهي عن القراءة في الركوع والسجود: 1341 - * روى مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن وأنا راكع أو ساجد، ولا أقول: نهاكم". أقول: ما ظنه الإمام علي خاصاً به هو عام في حق كل مسلم، فقراءة القرآن في الركوع والسجود مكروهة لأنها في غير محلها، والكراهة عند الحنفية تحريمية.
- النهي عن نقر الصلاة
- النهي عن نقر الصلاة: 1342 - * روى الطبراني عن أبي عبد الله الأشعري قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي، فجعل يركع وينقر في سجوده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا، من مات على هذا، مات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم، إنما مثل الذي يركع وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا التمرة والتمرتين فماذا تغنيان عنه، فأسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار، أتموا الركوع والسجود". قال أبو صالح، فقلت لأبي عبد الله الأشعري: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: أمراء الأجناد عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة كل هؤلاء سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: مر معنا أن الطمأنينة في السجود والركوع وبعض أفعال الصلاة فريضة عند الجمهور وواجب عند الحنفية، فتركها عند الحنفية حيث وجبت مكروه تحريماً يأثم به صاحبه ويجب عليه إعادة الصلاة ما دام في الوقت. - النهي عن الافتراض في الصلاة، ونحوه: 1343 - * روى أحمد عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل بالمكان في المسجد كما يوطن البعير".
1344 - * روى الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت فلا تبسط ذراعيك بسط السبع وادعم على راحتيك وجاف مرفقيك عن ضبعيك". أقول: إن افتراش المصلي ذراعيه، أي مدهما كما يفعل السبع، مكروه تحريماً عند الحنفية والملاحظ أنه في كثير من أعمال الصلاة وغيرها نهي الإنسان عن التشبه بالحيوان، وذلك مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تتحقق إنسانية الإنسان وأن يتعمق تميزه عن الحيوان ومن عرف بعض توجهات الكافرين في عصرنا في تقليد الحيوان عرف حكمة الشارع في هذه الشؤون.
- حكم القهقهة
- حكم القهقهة: 1345 - * روى الطبراني في الصغير عن جابر (رفعه): لا يقطع الصلاة الكشر ولكن يقطعها القهقهة. أقول: القهقهة في الصلاة تبطلها باتفاق الفقهاء وهي تبطل الوضوء كذلك عند الحنفية، وأما التبسم بلا صوت فلا يفسد الصلاة عند أحد وهو المراد هنا بالكشر، وأما الضحك الذي يسمع به الإنسان نفسه دون أن يسمع غيره فإنه يفسد الصلاة فقط دون الوضوء. 1346 - * روى أبو يعلى عن جابر قال: سئل عن الرجل يضحك في الصلاة قال يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. 1347 - * روى الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة. أقول: من حكمة الأمر بالوضوء لمن قهقه في الصلاة أن يجري تغييراً بذلك على حاله النفسي فقد جرت العادة أن من غلبه شيء على الضحك الكثير، فإنه يعاوده إذا ذكره مرة بعد مرة.
- النهي عن تزيين الصلاة
- النهي عن تزيين الصلاة: 1348 - * روى ابن خزيمة عن محمود بن لبيد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيها الناس إياكم وشرك السرائر". قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته، جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر". أقول: على المسلم أن يجاهد نفسه في تحقيق الإخلاص ولا ينبغي أن يترك العمل الصالح خشية الرياء بل عليه أن يفعله وأن يجاهد نفسه لتحقيق الإخلاص فيه. - النهي عن السدل والإسبال: 1349 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه. أقول: السدل هو أن يضع الإنسان شيئاً على عاتقه ويرخي طرفيه على جسمه، وهو عند الجمهور مكروه، الكراهة عند الحنفية تحريمية، وأما التلثم بأن يغطي الإنسان أنفه فهو مكروه تحريماً وتغطية فمه مكروه تنزيهاً. 1350 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء، فليس من الله في حل ولا حرام"، قال: ورواه جماعة [عن عاصم] موقوفاً على ابن مسعود.
أقول: إسبال الإزار بما يجاوز الكعبين خيلاء مكروه تحريماً، فمن صلى وحاله كذلك لا تقبل صلاته، ويسن عند الحنفية أن يتوب عن الخيلاء وأن يرفع ثوبه وأن يتوضأ لذنبه، وقد مر معنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحب ذلك بالوضوء.
- كراهة الصلاة مع المدافعة
- كراهة الصلاة مع المدافعة: 1351 - * روى مالك عن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه كان يؤم أصحابه. فحضرت الصلاة يوماً، فذهب لحاجته، ثم رجع فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة"، وعند الترمذي قال: أقيمت الصلاة، فأخذ بيد رجل فقدمه- وكان إمام القوم- وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء" وعند أبي داود: أنه خرج حاجاً أو معتمراً، ومعه الناس، وكان يؤمهم، فلما كان ذات يوم أقام الصلاة: صلاة الصبح، ثم قال: ليتقدم أحدكم- وذهب إلى الخلاء- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء، وقامت الصلاة، فليبدأ بالخلاء". أقول: تكره تحريماً الصلاة لمن كان يدافع البول أو الغائط أو الريح إلا إذا ضاق وقت الصلاة. 1352 - * روى الطبراني في الصغير عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وجد أحدكم وهو في صلاته رزاً فلينصرف فليتوضأ". 1353 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى يتخفف ... " ثم ساق
نحوه على هذا اللفظ قال: "ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم". 1354 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان".
- النهي عن الالتفات
- النهي عن الالتفات: 1355 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو الاختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". أقول: يكره تنزيهاً عند الحنفية الالتفات بالوجه، وقال الشافعية يكره تنزيهاً الالتفات بالوجه إلا لحاجة، وقال الحنابلة: يكره في الصلاة التفات يسير بلا حاجة. 1356 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. أقول: هذا يدل على جواز اللحظ في الصلاة بلا حرج إذا كان لضرورة. 1357 - * روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: ثوب بالصلاة- يعني: صلاة الصبح- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب. وقال: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس. أقول: الالتفات في الصلاة في حاجة مهمة جائز عند المالكية والشافعية والحنابلة ولغير حاجة يكره تنزيهاً. قال في (النيل: 2/ 379):
وأحاديث الباب تدل على كراهة الالتفات في الصلاة وهو قول الأكثر والجمهور على أنها كراهة تنزيهية ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة والحكمة في التنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع والإعراض عن الله تعالى وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان.
- الرخصة في مسح الحصى لضرورة
- الرخصة في مسح الحصى لضرورة: 1358 - * روى مالك عن أبي جعفر القارئ قال كنت أرى عبد الله بن عمر إذا أهوى ليسجد مسح الحصى لموضع جبهته مسحاً خفيفاً. 1359 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي أضعها لجبهتي، أسجد عليها لشدة الحر. في رواية النسائي (3) قال: كنا نصلي معر سول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فآخذ قبضة من حصى في كفي أبرده، ثم أحوله في كفي الآخر، فإذا سجدت وضعته لجبهتي. 1360 - * روى الشيخان عن معيقيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يسوي التراب حيث يسجد، قال: "إن كنت فاعلاً فواحدة". ولمسلم (5) قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسح في المسجد- يعني الحصباء- قال: "إن كنت لابد فاعلاًُ فواحدة". أقول: مر معنا أن الحركة القليلة لا تفسد الصلاة فإذا كانت لضرورة فإنها مباحة. وفي (النيل 2/ 387): الأحاديث المذكورة في الباب تدل على كراهة المسح على الحصى ... وحكى النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على كراهته وفي حكاية الاتفاق نظر فإن مالكاً لم ير به بأساً وكان ابن عمر وابن مسعود يفعلانه، وعن ابن مسعود أنه كان يفعله مرة واحدة وذهب أهل الظاهر إلى تحريم ما زاد على المرة ا. هـ باختصار.
- النهي عن الاختصار والتشبيك وفرقعة الأصابع في الصلاة
- النهي عن الاختصار والتشبيك وفرقعة الأصابع في الصلاة: 1361 - * روى الجماعة إلا الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه، قال: نهى الرجل أن يصلي مختصراً. وفي رواية (2) نهى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى (3): نهى عن الخصر في الصلاة. وفي أخرى (4) نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة. 1362 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله. في رواية (6) ذكرها رزين، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة وغيرها. 1363 - * روى أبو داود عن زياد بن صبيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، وفي رواية النسائي (8)، قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فوضعت يدي على
خصري، فقال لي: هكذا- ضربه بيده- فلما صليت، قلت لرجل: من هذا؟ قال: عبد الله بن عمر، قلت: يا أبا عبد الرحمن، ما رابك مني؟ قال: إن هذا الصلب، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عنه. أقول اشتهرت هذه الوقفة عن بعض كبار العسكريين وأصبح الناس يقلدونهم فيها، وفيها معنى الاعتداد بالنفس وعدم المبالاة بالآخرين، فهي لغير المصلي مكروهة، وللمصلي أشد كراهة قال الحنفية: التخصر في الصلاة مكروه تحريماً ويكره تنزيهاً خارج الصلاة وكل شيء فيه تصليب، فسنة الإسلام الابتعاد عنه. 1364 - * روى الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه"، لذلك كره الصليب في ثوب وكرهت الصلاة في ثوب فيه صليب. 1365 - * عن إسماعيل بن أمية قال: سألت نافعاً عن الرجل يصلي وهو مشبك يديه؟ فقال: سمعت ابن عمر يقول: تلك صلاة المغضوب عليهم. وزاد رزين (1): قال: ورأى ابن عمر رجلاً يتكئ على ألية يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة، فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون. أقول تكره فرقعة الأصابع وتشبيكها ولو كان الإنسان ينتظر الصلاة أو يمشي إليها وكذلك ما دام في المسجد، فمن باب أولى أن تكون مكروهة في الصلاة. 1366 - * روى أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم في المسجد
فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه". وقد اختلف في الحكمة في النهي عن التشبيك في المسجد كما في حديث أبي سعيد وغيره فقيل لما فيه من العبث وقيل لما فيه من التشبه بالشيطان. وظاهر النهي عن التشبيك التحريم لولا ما ورد عن ذي اليدين أنه عليه الصلاة والسلام شبك أصابعه في المسجد وذلك يفيد عدم التحريم ولا يمنع الكراهة لكون فعله نادراً، قال العراقي: وفي معنى التشبيك بين الأصابع تفقيعها فيكره في الصلاة ولقاصد الصلاة. 1367 - * روى ابن ماجه عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تفقع أصابعك في الصلاة". قال في "النيل": ويؤيده حديث أنس بن معاذ مرفوعاً (إن الضاحك في الصلاة والملتفت والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة) وفي إسناده ابن لهيعة انظر (النيل 2/ 381 - 382) بتصرف.
- النهي عن المرور بين يدي المصلي
- النهي عن المرور بين يدي المصلي: 1368 - * روى أبو داود عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته: الحمار، ولامرأة، والكلب الأسود"، قلت: يا أبا ذر: ما الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: "الكلب الأسود شيطان" وزاد الترمذي بعد قوله: كآخرة الرحل. أو كواسطة الرحل. وجعل عوض الأصفر الأبيض، وأول روايته قال: يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كقدر آخرة الرحل ... الحديث. أقول: حمل بعضهم قطع الصلاة هنا على نقص أجرها أما إذا أريد بالقطع البطلان فالعلماء يرون أن الحديث على هذا الفهم منسوخ إلا أن الحنابلة ذكروا من مبطلات الصلاة مرور الكلب الأسود الذي ليس في بدنه شيء سوى السواد بين يدي المصلي، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في بحث استقبال القبلة. 1369 - * روى مالك عن عبد الله بن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي الصف فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد. زاد في
رواية "بمنى في حجة الوداع". 1370 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقطع الصلاة: الكلب، والمرأة والحمار، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل". 1371 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة. وفي أخرى (3) قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت. ولمسلم (4) قالت عائشة: ما يقطع الصلاة؟ قال عروة: فقلنا: المرأة، والحمار، فقالت: إن المرأة لدابة سوء؟ لقد رأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي. وفي أخرى (5) لهما: أن عائشة ذكر عندها ما يقطع الصلاة، فذكر الكلب والحمار والمرأة، فقالت: لقد شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على السرير وأنا بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأنسل من قبل رجليه. وفي أخرى (6) لهما، قالت: عدلتمونا بالكلاب والحمر؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير، حتى أنسل من لحافي. قال النووي (4/ 228): استدلت به عائشة رضي الله عنها والعلماء بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل وفيه جواز صلاته إليها وكره العلماء أو جماعة منهم الصلاة إليها- أي
إلى المرأة- لغير النبي صلى الله عليه وسلم لخوف الفتنة وتذكرها ... أما النبي صلى الله عليه وسلم فمنزه عن هذا ا. هـ. ومن كلام النووي (2/ 227): والجمهور على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وبعضهم قال بالنسخ. وقال أحمد يقطعها الكلب الأسود وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء. ا. هـ. بتصرف وقد سبق عرض هذا الموضوع في بحث استقبال القبلة. أقول: إن حديث عائشة رضي الله عنها يدل إما على صرف القطع عن ظاهره بأن يراد به نقصان الصلاة أو هو دليل على أن قطع الصلاة بشيء يمر بين يدي المصلي منسوخ، وهذا الحديث أصل كبير لما ذهب إليه الحنفية وغلط في فهمه الكثيرون، وهو أنه إذا عارض حديث الآحاد قواعد الشريعة، وروحها العامة المعروفة من نصوص قطعية فإن الحنفية لا يأخذون به، وقد يسمى هذا قياساً وهو غير القياس المتعارف عليه في أصول الفقه، بل هو من نوع القياس العقلي، ويلبس خصوم الحنفية على الناس فيقولون: إن الحنفية يقدمون القياس على الحديث الصحيح، وهذا ليس صحيحاً فالحنفية يقدمون الحديث الضعيف- إذا لم يوجد غيره- على القياس المتعارف عليه في أصول الفقه، ولكنهم يقدمون العمل بقطعيات الشريعة إذا تعارض مع أحاديث الآحاد، وقد يسمى هذا قياساً فيلتبس على الناس. 1372 - * أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان". وفي أخرى (1): أن حاجب بن سليمان قال: رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي، فذهبت أمر بين يديه، فردني، ثم قال: حدثني أبو سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل" وفي رواية (2) قال أبو صالح
السمان: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكى إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد،؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس. فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان"، وأخرج مسلم (1) منه المسند، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان" وأخرج الموطأ (2) المسند منه فقط، وأخرج أبو داود (3) في أخرى: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها .. " وساق الحديث. وله في أخرى (4) قال: مر شاب من قريش بين يدي أبي سعيد وهو يصلي، فدفعه، ثم عاد، فدفعه- ثلاث مرات- فلما انصرف قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان". وللنسائي (5) عن عطاء بن يسار أنه رأى أبا سعيد كان يصلي، فأراد ابن لمروان أن يمر بين يديه، فدرأه، فلم يرجع، فضربه، فخرج الغلام يبكي، حتى أتى مروان فأخبره، فقال مروان لأبي سعيد:
لم ضربت ابن أخيك؟ قال: ما ضربته، إنما ضربت الشيطان، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان أحدكم في الصلاة، فأراد إنسان أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنه شيطان". أقول: إن قول ابن عمر لا يقطع الصلاة شيء هو الذي استقر عليه العمل، وأما درء المار بين يدي المصلي فقد قال الحنفية هو رخصة والأولى تركه، وأما الأمر بمقاتلة المار فكان في بدء الإسلام حين كان العمل في الصلاة مباحاً فهو منسوخ، والدفع عندهم يكون بالإشارة أو التسبيح أو الجهر بالقراءة ولا يزاد عليها، ويكره الجمع بين شيئين، وتدفع المرأة بالإشارة أو بالتصفيق ببطن الكف اليمنى على ظهر اليسرى، وقال المالكية يندب للمصلي أن يدفع المار بين يديه دفعاً خفيفاً فإن كثر بطلت صلاته، وقال الشافعية والحنابلة، يسن للمصلي أن يدفع المار بينه وبين سترته ولا يدرأ المار بين يدي المصلي في مكة والحرم. 1373 - * روى الجماعة عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله: ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي؟ قال أبو جهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؟ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه"- قال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة؟ وقال الترمذي (1): وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي".
أقول: لا خلاف أن للإنسان أن يمر بين يدي سترة المصلي، وقد رأينا أن بعضهم يعتبر الخط على الأرض سترة وأن المالكية حملوا المنع من المرور إذا مر الإنسان في موضع سجود الإنسان، والحنفية يرون أن المسجد إذا كانت مساحته أربعين ذراعاً فلا يصح المرور بين يدي المصلي، إذا لم يكن أمامه سترة زاد على ذلك أو كانت الصلاة في الصحراء فله المرور فيما بعد موضع سجوده. 1374 - * روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جئت أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره يحول بيننا وبينه. 1375 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فذهب جدي يمر بين يديه، فجعل يتقيه. 1376 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: هبطنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة- يعني [فصلى] إلى جدار- أو جدر- فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى ألصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه- أو كما قال مسدد.
- النهي عن الصلاة مع مغالبة النعاس
- النهي عن الصلاة مع مغالبة النعاس: 1377 - * روى الجماعة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري: لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه". في رواية (2) "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف، فلعله يدعو على نفسه وهو لا يدري". 1378 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس في الصلاة فلينم، حتى يعلم ما يقرأ". أقول: هذا محمول على صلاة النافلة، وأما صلاة الفريضة إذا ضاق وقتها فإنه يصليها مهما كان نعساً أو تعباً، وفي النصين إشارة للمربين أن يلحظوا حال الإنسان وقدرته واستعداده ونوع عمله فيما يكلفونه به من تكاليف. 1379 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع". أقول: أخذ أهل السلوك والتربية من هذا النص وأمثاله أنه إذا تعسر على الإنسان شيء
- النهي عن الصلاة لمعقوص الرأس
من باب المباحات فليتركه حتى يجد سهولة فيه، فإذا كان النص يأمرنا بما أمر به في قراءة القرآن فمن باب أولى غيره من المباحات. - النهي عن الصلاة لمعقوص الرأس: 1380 - * روى الطبراني في الكبير عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص. 1381 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رأى عبد الله بن الحارث ورأسه معقوص من ورائه، فقام وراءه فجعل يحله، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس، فقال: مالك ورأسي؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف". وزاد أبو داود بعد قوله: فجعل يحله: فأقر له الآخر. 1382 - * روى أبو داود عن أبي سعيد المقبري أن أبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالحسن بن علي وهو يصلي قائماً، وقد غرز ضفر رأسه. وعند الترمذي (4): وقد عقص ضفرة في قفاه، فحلها أبو رافع، فالتفت حسن إليه مغضباً، فقال أبو رافع: أقبل إلى صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذلك كفل الشيطان"، يعني: مقعد الشيطان، يعني مغرز ضفره.
- كراهية الصلاة بعد العصر
أقول: كراهة اللاة والشعر معقوص كراهة تنزيهية باتفاق العلماء. 1383 - * روى الجماعة عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً. - كراهية الصلاة بعد العصر: 1384 - * روى أحمد عن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فقام رجل يصلي فرآه عمر فقال له اجلس فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسن ابن الخطاب". أقول: هذا دليل على كراهة صلاة النافلة بعد أداء صلاة العصر، والظاهر أن مراد عمر بالفصل: الأوقات التي منعت بها الصلاة لتكون هناك فواصل لا يصلي فيها، وقد يحمله آخرون على غير هذا الفهم لنصوص أخرى وردت عن عمر رضي الله عنه ولكن الظاهر أن المراد بهذا النص ما ذكرناه. وقد سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع في مواقيت الصلاة.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - من مبطلات الصلاة عند الحنفية التكبير بنية الانتقال لصلاة أخرى فإنه يبطل الصلاة الأولى ولا يدخله في الصلاة الأخرى، فإذا أراد الانتقال إلى صلاة أخرى قطع الأولى بسلام وكلام ثم دخل في الثانية بنية وتكبيرة إحرام، ومن مبطلاتها مد الهمزة في التكبير سواء كانت همزة لفظ الجلالة أو همزة لفظ (أكبر). ومن مبطلاتها عدم إعادة الجلوس الأخير بعد أداء سجدة صلبية أو تلاوية تذكرها بعد الجلوس وعدم إعادة ركن أداه نائماً، وتقدم المأموم على الإمام بقدمه أما مساواته فلا تبطل، والمشهور عند المالكية أن تقدم المأموم على الإمام لا يبطل صلاته ولذلك يتوسع الناس في الصلاة في موسم الحج فيصلون أمام المسجد النبوي متقدمين على الإمام. - من مبطلات الصلاة عند المالكية طروء ناقض للوضوء وترك ثلاث سنن من سنن الصلاة سهواً مع ترك السجود لها حتى سلم وطال الأمر عرفاً، والاتكاء حال قيامه على حائط أو عصا بغير عذر بحيث لو أزيل عنه متكؤه لسقط، واختلاف نية المأموم والإمام. - قال فقهاء الحنفية لو نسي الإنسان القعود الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية فإن كان القعود أقرب وتذكر قعد وتشهد وإن كان القيام أقرب وجب عليه متابعة القيام، فلو أنه تذكر فقعد بعد قيامه أو ذكره غيره فقعد بطلت صلاته، واستثنى الشافعية الناسي أنه في صلاة أو الجاهل بتحريم العود، فلا تبطل صلاتهما في الأصح عندهم. - ومن مبطلات الصلاة عند الشافعية طروء الحدث ولو بلا قصد، ولا تبطل الصلاة عندهم بالفعل الكثير إذا كان لشدة حرب، وتبطل الصلاة عندهم الردة والجنون في الصلاة، ومن مبطلات الصلاة عندهم تبين المصلي أنه يصلي وراء من لا تجوز الصلاة وراءه وتطويل ركن قصير عمداً بأن يزيد الاعتدال من الركوع على الدعاء الوارد فيه بقدر الفاتحة أو أن يزيد من الجلوس بين السجدتين على الدعاء الوارد فيه بقدر التشهد، ويستثنى من ذلك تطويل الاعتدال في الركعة الأخيرة لقنوت، وتطويل الجلوس بين السجدتين لصلاة التسابيح، ومن مبطلات الصلاة عندهم تكرير تكبيرة الإحرام مرة ثانية بنية الافتتاح.
- ومن مبطلات الصلاة عند الحنابلة الدعاء بملاذ الدنيا كأن يسأل عروساً في صلاته، وهو مبطل عند الحنفية كذلك. ومن كلامهم: ومن علم ببطلان الصلاة ومضى فيها أذنب، ومن كلام بعض الحنفية: أن من صلى بلا طهارة عامداً كفر. ملاحظة: قد ينسب إلى مذهب قول ويكون هناك من يشارك هذا المذهب في هذا القول، فليس نسبتنا قولاً إلى مذهب يفيد أن هذا القول خاص بالمذهب المنسوب إليه الكلام إلا إذا قيدنا ذلك وإنما توسعنا في هذا الموضوع لكثرة المشقة في تحقيق أقوال العلماء في كل مسألة وجمعها للاختصار.
الباب الخامس في المساجد والجماعة والجمعة
الباب الخامس في المساجد والجماعة والجمعة وفيه مقدمة وفصول * المقدمة
مقدمة الباب
مقدمة الباب مر معنا من قبل فضل الصلاة عامة وفضل الصلوات الخمس خاصة، ثم ذكرنا ما له علاقة بشروط الصلاة وهيئتها وما يتصل فيها من أركان وواجبات وسنن وآداب ومكروهات ومفسدات، وذلك ليس مرتبطاً بالصلوات الخمس فقط بل مرتبط كذلك بالنوافل والوتر وصلاة الجمعة وصلاتي العيدين وصلاة الاستسقاء وصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وصلاتي الخسوف والكسوف وصلوات أخرى، مع اختلاف بسيط سنراه في مناسباته. وقد شرع لنا الأذان والإقامة- وقد مرتا معنا- وهما مرتبطان بالصلوات الخمس، وصلاة الجمعة وهي إحدى الصلوات الخمس في يومها- إذا أديت بشروطها- وهي لمن صلاها تسقط عنه فريضة الظهر لأنها في حقها فريضة الوقت. والأذان في الأصل دعوة إلى الصلاة في المسجد جمعة وجماعة، ولذلك ستكون فصول الباب الخامس مخصصة للمساجد والجماعة والجمعة. فعمارة المساجد حساً ومعنى من أرقى عبادات الإسلام، قال تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) (1). فمن اجتمعت له هذه الشؤون فهو الذي يعمر مساجد الله حقاً، ومن ليس كذلك فعمارته لمساجد الله ضعيفة. والعمارة تكون بتشييد المساجد، وبحضور الجماعة والجمعة فيها، وبحضور مجالس الذكر والعلم، وبإقامة ذلك كله. وعمارة المسجد بها حياة الإسلام وحيويته ولذلك فإن على أهل العلم والدعوة والتربية أن يركزوا عليها.
وتجربة العصور تقول: حيثما وجد الالتصاق بالمسجد والتربية المسجدية من قبل الربانيين فذلك مظنة الثقافة الإسلامية وسلامة السلوك ونظافة العقل وطهارة الجسد، وحيثما ابتعدت التربية والتعليم عن أجواء المساجد وعن العلماء الربانيين ضعف الأمر، لذلك فإنني أدعو أن يوجد لكل جامع ومسجد مجلس مهمته إحياء المسجد بالعلم والذكر. ولقد ذكرنا في كتابنا (تربيتنا الروحية) آيات: (الله نور السموات والأرض ...) (1) وذكرنا هناك أن ذلك النوع من القلوب المشار إليه في قوله تعالى: (المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة) (2)، أن هذا النوع من القلوب مظنة وجوده رواد المساجد بدليل قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (3). والأصل أن تؤدى في المسجد الفرائض جماعة وصلاة الجمعة، وأما النوافل فالأصل فيها أن تؤدى في البيوت إلا تحية المسجد وصلاة الكسوف وصلاة التراويح. وأما صلاتا العيدين فالأصل فيهما الخروج إلى مصلى العيد فإن لم يكن ففي المسجد وبشكل عادي فإن صلوات المعتكف كلها تكون في المسجد. إن المساجد والأذان والإقامة والجمعة والجماعة من شعائر الإسلام، (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (4).
وهناك مساجد لها خصوصية هي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ومسجد قباء وسنتحدث عن هذا الموضوع في جزء الحج والعمرة. والمسجد والجمعة والجماعة مظاهر حيوية الإسلام واستمراره في الأمة الإسلامية ولذلك فلابد من العناية بالمساجد والاهتمام بصلاة الجماعة، والتركيز على صلاة الجمعة، والاستفادة بأقصى ما يكون من خطبة الجمعة. فلابد من بذل الجهود لتكثير المساجد ولحسن إقامتها ولحسن ترتيب أمورها الحسية والمعنوية وينبغي للهندسة الإسلامية أن تستفيد من تجارب العصور وتجارب الأقطار في إحسان بناء المساجد بحيث يتحقق في المسجد الجديد أرقى اجتهادات المسلمين في إقامة المساجد وتحسينها وتحسين مرافقها فيلحظ في المرافق إيجاد المراحيض العامة والحمامات وأن تكون بمعزل عن بناء المسجد وأن تهيأ لها وسائل الطهارة والنظافة من مياه وخراطيم ماء، وإحكام نظافة الخراطيم بأن يكون لها محل تعلق فيه، وأن يكون في كل مرحاض ورق وسلة مهملات، وأن يكون ماء المراحيض والحمامات يناسب فصول السنة، وأن يعتنى بمحل الوضوء في مياهه وراحة المتوضئ حين يتوضأ بأن يكون هناك مجالس من الحجارة يجلس عليها أثناء الوضوء، وأن تكون هناك مناشف يستفيد منها المتوضئ والمغتسل ويلحظ في بناء المسجد جماله وبهاؤه ومده واحتمال كثرة المقبلين عليه، فتهيأ لذلك الأروقة ويكون في كل رواق ما يمكن أن يمد به وان توجد مياه الشرب ووسائل التكييف، وهذا كله مع إتقان اختيار المؤذن والخدم والخطيب والإمام والمدرسين والدعاة إلى المسجد ودروسه، وأن يكون هناك ضبط للمواقيت بحيث يعرف رواد المسجد متى تقام الصلاة في كل وقت، وما هي مواعيد الدروس المنتظمة، ولابد من مراقبة دقيقة لحسن استعمال المسجد ومرافقه بحيث لا يستغل من أهل الفساد، وإذا كان بالإمكان على ضوء التجربة إيجاد نشاطات تتناسب مع مواعيد الإجازات والعطل، وأن يرافق هذه النشاطات نوع من الرحلات الهادفة، ولعله من المناسب أن يكون لكل مسجد مجلس يختار أعضاؤه من رواد المسجد والحريصين عليه، يتابعون هذه الأمور كما يقومون بزيارات منتظمة لمن هم في دائرة المسجد، كما يقومون بمتابعة بناء المكتبة المسجدية ذات الكتب الهادفة، ويكثرون من عدد النسخ التي يحتاجها
كل مسلم بدراسته المسجدية، وقد درجت بعض المساجد على أن تكون فيها أمكنة خاصة للنساء، وقاعات للمطالعة يمكن أن يستفاد منها في محاضرات أو دروس للعلوم الكفائية، وقد خصص بعض المسلمين في بعض المساجد غرفاً لأضياف المسجد كما خصصوا غرفاً لمريدي الاعتكاف والخلوات والأذكار، وخصص بعض بناة المساجد مرافق خاصة للقائمين بشؤون المسجد من إمام وخطيب، واعتنى بعضهم بإقامة مطعم يمكن أن يستفاد منه حين وجود الأضياف، ومن القديم فطن المسلمون إلى فكرة وجود الأوقاف التي تسد حاجات المسجد، وإنما نذكر هذا كله تذكيراً لأصحاب الإمكانات بأن يبذلوا جهوداً لإيجاد المسجد الذي يجمع بين المعاصرة وبين المركزية التي كانت للمسجد في كونه مركزاً لكل النشاطات الإسلامية الجادة، وقد ذهب بعضهم إلى أنه مما ينبغي أن يلحق بالمسجد المعاصر النادي الرياضي الإسلامي والنادي الكشفي الإسلامي، وأن يسهر المختصون على هذا كله بحيث يكون المسجد محضناً يتخرج فيه المسلم الكامل ثقافة وخصائصاً والتزاماً وتخصصاً في فرض من فروض الكفاية، ومن تتبع اجتهادات المسلمين في موضوع المساجد وفطنتهم للصغيرة والكبيرة مما يحتاجه المسجد ورواده يرى العجب، فبعض رواد المساجد نظموا جمع التبرعات والزكوات بحيث لا يضيع أحد في دائرة المسجد وما أجمل أن يقوم مجلس المسجد بالتهيئة لإحياء المناسبات والتحضير لمواسم العبادات كرمضان والحج، وعلى القائمين على شؤون المسجد أن يرتبوا لمشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم، فإذا ولد مولود زاروا أهله وقدموا الهدايا باسم المسجد، وإذا تزوج إنسان قاموا بشؤون الأفراح على الطريقة الإسلامية، وقدم الرجال والنساء الهدايا باسم المسجد، وإذا توفي إنسان قاموا بحقوق الميت وحقوق أهله، وما لا يدرك كله لا يترك جله. وإنما حياة المسجد بالجمعة والجماعة فعليهما يجب أن ينصب أكبر الاهتمام وعلى خطيب المسجد أن يجعل أسبوعه كله في خدمة الخطبة، فلقد رأينا خطباء لا يهتمون بالتحضير للخطبة فتفوتهم أشياء كثيرة بسبب ذلك، فلا هم يحسنون اختيار الموضوعات المتكاملة ولا هم يحسنون العرض، وكثيراً ما تفوتهم الدقة العلمية أو الفقهية، فيلقنون الناس الخطأ، فأصبحنا نستشعر أننا في العصر الذي كثر خطباؤه وقل علماؤه.
ولقد خصصنا هذا الباب للمسجد والجماعة والجمعة لارتباط هذه الأمور ببعضها وجعلنا لكل موضوع فصلاً، ففصول هذا الباب ثلاثة: الفصل الأول: في المساجد، والثاني في الجماعة، والثالث في الجمعة. فإلى الفصل الأول في هذا الباب:
الفصل الأول في المساجد وأحكامها
الفصل الأول في المساجد وأحكامها وفيه عرض إجمالي وفقرات ومسائل وفوائد الفقرة الأولى: الاهتمام ببناء المساجد وخدمتها. الفقرة الثانية: في بعض ما ورد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. الفقرة الثالثة: في بعض آداب وأحكام المسجد. الفقرة الرابعة: في صلاة المرأة في المسجد.
عرض إجمالي
عرض إجمالي أفضل بقاع الأرض المساجد، وأفضل المساجد ثلاثة: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، وأفضل الثلاثة عند الجمهور مسجد مكة، وعند مالك مسجد المدينة، وقال الحنفية: مسجد أستاذه للعلوم له فضله، ومسجد الحي له حقه. ومن أحكام المساجد: حرمة دخول المساجد على الجنب والحائض والنفساء، وأباح الشافعية والحنابلة العبور من غير مكث ولا كراهة فيه، سواء أكان لحاجة أو لغيرها، ويكره تحريماً عند الحنفية اتخاذ المسجد طريقاً بغير عذر، ومن احتلم في المسجد وجب عليه الخروج منه إلا لعذر لخوف على نفسه أو ماله أو عجز عن الخروج لإغلاق المسجد، ولو أجنب خارج المسجد والماء في المسجد لم يجز أن يدخل ويغتسل فيه، ولو دخل للاستقاء لا يجوز أن يقف إلا قدر حاجة الاستقاء أما المحدث حدثاً أصغر فيجوز له الجلوس في المسجد بإجماع المسلمين، ويجوز النوم في المسجد بلا كراهة عند الشافعية، وقال الحنفية يكره إلا للغريب والمعتكف، وكره الحنابلة اتخاذ المسجد مبيتاً أو مقيلاً، ومنع المالكية دخول الكافر المسجد إلا لضرورة عمل كأن كان أقل أجرة أو أكثر إتقاناً، وأجاز أبو حنيفة للكافر دخول كل مسجد، واستثنى الشافعية المسجد الحرام وحرم مكة، ويجوز عندهم أن يبيت فيه ولو كان جنباً بإذن المسلمين، ويجوز الوضوء في المسجد إذا لم يؤذ بمائه والأولى أن يكون في إناء، وقال مالك وأبو حنيفة يكره الوضوء فيه تنزيهاً واستثنى الحنفية الوضوء في مكان أعد له، ولا بأس بالأكل والشرب ووضع المائدة فيه وغسل اليد فيه بشرط ألا يلوثه وأن ينظفه بعد ذلك، ويكره لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو غيرها مما له رائحة كريهة وبقيت رائحته أن يدخل المسجد من غير ضرورة، ومن باب أولى أن يأكل هذه الأشياء داخل المسجد أو يدخل شيئاً كريه الرائحة إليه، وكل ذلك مكروه تحريماً عند الحنفية ومحرم عند المالكية، ويكره البصاق في المسجد على أرضه أو جدرانه إلا إذا دفن البصاق أو كان في شيء يحمله، ويحرم البول والفصد والحجامة في المسجد بغير إناء ويكره الفصد والحجامة فيه في إناء، ويكره إدخال نجاسة إلى المسجد، ولا يجوز عند الحنفية الاستصباح فيه بدهن نجس ولا تطيينه بنجس، ويحرم الوطء في المسجد أو على ظهره، ومن كان على بدنه نجاسة أو كان
به جرح، فإن خاف تلويث المسجد حرم عليه دخوله، وإن أمن لم يحرم، ولا يجوز بناء المسجد ولا تجصيصه بنجس. ويكره غرس الشجر في المسجد، ويكره حفر البئر فيه إلا لمصلحته، ولكن هذا بعد أن يكون مسجداً أما إذا كان الواقف قد جعل حيزاً من المسجد لمثل هذه الشؤون وغيرها فلا حرج، وتكره الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشدان الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود الدنيوية، ويحرم عند الحنابلة البيع والشراء في المسجد وإن وقع فهو باطل، ويكره رفع الصوت بالذكر إن شوش على المصلين عند الحنفية والحنابلة إلا للمتفقه، كما يكره عندهم الكلام، كلام اللغو الذي قد يجر إلى ما ليس مباحاً، أما الكلام المباح فلا يكره إن لم يشوش على المصلين ولا بأس عند الشافعية أن يعطى السائل في المسجد شيئاً، ولكن السؤال نفسه في المسجد مكروه عند الشافعية والمالكية والحنابلة، إلا أنهم يجيزون الإعطاء، وحرم الحنفية السؤال في المسجد وكرهوا الإعطاء، ويكره إدخال البهائم والمجانين والصبيان الذين لا يميزون المسجد عن غيره. ويكره أن يجعل المسجد مقعداً لحرفة كالخياطة مثلاً. أما نسخ العلم والعمل المؤقت فلا بأس به، ويجوز الاستلقاء في المسجد على القفا، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، وتشبيك الأصابع ونحوه إلا في حالات سنراها. ويستحب عقد حلق العلم والوعظ في المساجد، ويجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات، وإن حصل فيه ضحك ونحوه ما دام مباحاً. ولا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحاً للنبوة والإسلام أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق أو الزهد أو نحو ذلك من أنواع الخير، أو كان فيه دفاع عن الإسلام وأهله أو هجاء للكفر والكافرين، أما الشعر المذموم كالذي فيه هجاء للمسلم أو تهييج على معصية أو كان فيه معصية كمدح الظالمين إلى غير ذلك فإنه غير جائز، ويسن كنس المسجد وتنظيفه وإزالة ما يرى فيه مما لا يليق فيه، وإذا دخل إنسان للمسجد ومعه سلاح يمكن أن يجرح فإنه يمسك على حده، ويسن للقادم من سفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين وينبغي للجالس في المسجد أن ينوي الاعتكاف ما دام فيه، فإن له بذلك مزيد أجر،
والأصل ألا يغلق المسجد إلا لصيانة أو لحفظ أو لخوف مفسدة أو خوف من أن تنتهك حرمته. ويسن لداخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية المسجد إلا إذا دخل في وقت لا تجوز فيه الصلاة أو تكره فيه صلاة النافلة عند من ذهب إلى ذلك من الفقهاء فعند الحنفية مثلاً لا تصلى تحية المسجد بعد صلاة الفجر أو العصر ولا في الأوقات التي لا تجوز فيها الصلاة: عند طلوع الشمس وقبيل الزوال وعند غروب الشمس. ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ مجلساً للقضاء إلا ما يقع فيه صدفة، وقال الجمهور لا تقام الحدود في المساجد، وإذا وجد المسجد فيحرم أن يحفر فيه قبر، أما من دفن في مكان فبني بسبب ذلك مسجد ولم يكن يتوجه إلى القبر في صلاة، أو كان بينه وبين المصلين حاجز فالكراهة حاصلة ولكن لا حرمة في ذلك. وتكره الكتابة عند الشافعية والحنابلة والمالكية على جدران المسجد وسقوفه، وقال المالكية والحنابلة تكره الكتابة في القبلة ولا تكره فيما عدا ذلك. وحائط المسجد من دخله وخارجه وكذا سطحه ورحبته إذا كان عليها باب ومنارته التي تكون فيه أو التي بابها فيه من المسجد لها أحكام المسجد، وكذا كل ما زيد في المسجد مهما كثر له حكم أصل المسجد. ومن أراد دخول المسجد تفقد نعليه ومسح ما فيهما من الأذى قبل دخوله، ويستحب أن يدعو عند دخول المسجد بدعاء الدخول وبدعاء الخروج عند الخروج من المسجد كما سيمر معنا، ويقدم رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج. ولا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر أو حصاة أو تراب إلا إذا كان من باب التنظيف، وينبغي أن يكثر المسلمون من بناء المساجد وعمارتها وتعهدها وإصلاح ما يطرأ عليها، قال الحنابلة يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحال ونحوها حسب الحاجة، وذلك فرض كفاية ويجوز بناء المسجد في موضع كان كنيسة أو بيعة أو مقبرة درست إذا أصلح ترابها.
ورخص الحنفية بتزيين المسجد وزخرفته مراعاة لما طرأ على أعراف الناس، فلا ينبغي أن يكون المسجد أقل جمالاً من بيوت رواده، وخاصة حيث يكون لذلك أثره في إثارة المشاعر بقوة الإسلام وعظمته أمام الآخرين، ويجب أن تكون النية في ذلك صالحة. ومصلى العيد الذي ليس مسجداً في الأصل، ليس له حكم المسجد فلا يحرم فيه المكث على الجنب والحائض. قال الحنابلة: يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، أما الخروج بعذر فمباح، وقال الشافعية يكره الخروج من المسجد بعد الأذان بغير صلاة إلا لعذر. قال أبو حنيفة وصاحباه: يكره للنساء الشواب حضور الجماعة مطلقاً، وقال أبو حنيفة ولا بأس أن تخرج العجوز في الفجر والمغرب والعشاء، وأفتى متأخرو الحنفية بكراهة حضور النساء الجماعة مطلقاً ولو لجمعة وعيد ووعظ ولو عجوزاً، وقال المالكية: إن خروج المرأة محتمشة للمسجد ولجماعة العيد والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف خلاف الأولى، وللشابة المأمونة الفتنة الخروج لمسجد وجنازة بشرط القرب من أهلها، أما التي تخشى منها الفتنة فلا يجوز لها الخروج مطلقاً، وقال الشافعية والحنابلة: يكره للحسناء أو ذات الهيئة شابة أو غيرها حضور جماعة الرجال وتصلي في بيتها، ويباح الحضور لغير الحسناء إذا خرجت تفلة بإذن زوجها، وبيتها خير لها. واستحب الشافعية جماعة النساء، وتقف الإمامة وسطهن، وقال الحنفية يكره تحريماً جماعة النساء وحدهن بغير الرجال وأجازوا لهن صلاة الجنازة جماعة وتقف الإمامة وسطهن. قال الحنفية: ولو خرب المسجد وليس له ما يعمر به أو استغنى الناس عنه ببناء مسجد آخر يبقى مسجداً إلى قيام الساعة، فلا يعود إلى ملك الباني وورثته، ولا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر. ولا يحل وضع جذوع على جدار المسجد ولو دفع أجرة، وقال محمد إذا انهدم الوقف وليس له من الغلة ما يعمر به يرجع إلى الباني أو إلى ورثته، وهذا الخلاف عند الحنفية
يسري على بسط المسجد وحصره وقناديله إذا استغني عنها، قال أبو يوسف: تنقل إلى مسجد آخر، وقال محمد ترجع إلى مالكه، والخلاف بين أبي يوسف ومحمد يسري على أنقاض المسجد، فأبو يوسف يفتي بنقله إلى مسجد آخر، ومحمد يعيده إلى ورثة الواقف وأبو حنيفة يمنع الاثنين. وإذا وقف واقف واحد وقفين على مسجد أحدهما لترميمه والآخر للإمام أو المؤذن أو المدرس فقل مخصص الإمام ونحوه فللحاكم أن يصرف من فاضل وقف المصالح والعمارة إلى الإمام والمؤذن بعد استشارة أهل الصلاح من أهل المحلة، أما إذا اختلفت الجهة التي كان عليها الوقف أو اختلف الواقف فلا يصح للحاكم نقل مخصص أحدهما للآخر. ويجوز للباني أو لصاحب الإذن جعل شيء من الطريق مسجداً لضيقه إذا وافق أهل المحلة والجهة ذات العلاقة، ولا يضر بالمارين ويجوز العكس وهو أن يوسع الطريق على حساب المسجد إذا اضطر لذلك المسلمون، وجاز في هذه الحالة للكافر أن يمر فيه ويتحاشى الجنب والحائض عن المرور فيه، ويجنب الدواب كذلك المرور فيه احتراماً للأصل. (انظر المجموع 2/ 187 - 196)، (إعلام المساجد بأحكام المساجد للزركشي)، (الدر المختار 1/ 441 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي 1/ 392 فما بعدها).
الفقرة الأولى الاهتمام ببناء المساجد وخدمتها وفضلها
الفقرة الأولى الاهتمام ببناء المساجد وخدمتها وفضلها 1385 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب البلاد إلى الله المساجد، وأبغض البلاد إلى الله الأسواق". 1386 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل في علو المدينة، في حي يقال لهم: [بنو] عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم إنه أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاؤوا متقلدين بسيوفهم، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب. قال: وكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، ثم إنه أمر بالمسجد، قال: فأرسل إلى ملأ بني النجار، فجاؤوا، فقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله، ما نطلب ثمنه إلا إلى الله، قال أنس: فكان فيه ما أقول، كان فيه نخل، وقبور المشركين، وخرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، والخرب فسويت، قال: وصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجره وعند أبي داود "حرث" قال: وكان عبد الوارث يقول "خرب".
وفي رواية للبخاري (1) وأبي داود (2) نحوه، وفيه: "فجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون". اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة قال الحافظ: وفي الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع، وجواز نبش القبور الدراسة إذا لم تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها، وجواز بناء المساجد في أماكنها، قيل وفيه جواز قطع الأشجار المثمرة للحاجة أخذاً من قوله "وأمر بالنخل فقطع" وفيه نظر لاحتمال أن يكون ذلك مما لا يثمر إما بأن يكون ذكوراً وإما أن يكون طرأ عليه ما قطع ثمرته، ا. هـ (الفتح 1/ 526). 1387 - * روى البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما، ولابنه علي: "انطلقاً إلى أبي سعيد، فاسمعا من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، قال: ويقول عمار: أعوذ بالله من الفتن". 1388 - * روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان سقف المسجد من جريد النخل، فأمر عمر في خلافته ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس". أقول: تزيين المساجد ونقشها لا حرج فيه، وتورع عمر عن ذلك من سياسته في الأخذ بعزائم الأمور، والقرب من الفطرة، والبعد عن التكلف، وبعض الفقهاء بنوا على ذلك كراهة تزيين المساجد كما أخذوه من النصوص التي تذكر أن ذلك من علامات الساعة،
وقال بعضهم ليس كل علامة من علامات الساعة من باب المنكرات ومراعاة الزمان والمكان تقتضي الاعتناء ببناء المسجد على ألا يتجاوز الحد المتعارف عليه إذا كان يبنى بمال الوقف، أما إذا كان صاحبه يبنيه بماله فله أن يتوسع في ذلك بما شاء، وكذلك إذا كان المتبرعون ببناء المسجد راضين بخريطة المسجد كما يضعها المهندسون، وهذه قضية يشدد فيه سلباً أو إيجاباً بعض الناس، والأمر واسع، وقد درج أمراء المسلمين على أن يشيدوا أوابد المساجد دون نكير، بل كان يعتبر ذلك منهم اجتهاداً لإظهار عظمة الإسلام. 1389 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه بالجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه ساجاً" .. وفي رواية لأبي داود (2) أيضاً "أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جذوع النخل، وأعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، ثم إنها نخرت في خلافة عثمان، فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن". 1390 - * روى أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". وفي رواية (4) "أن من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد".
1391 - * روى الشيخان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: عند قول الناس فيه "حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة". أقول: أنكر بعض الناس على عثمان رضي الله تعالى عنه تحسين بناء المسجد وهو الخليفة الراشد الذي يعتبر عمله قدوة تتأسى به الأمة الإسلامية في الوقت الذي لم يفعل إلا خيراً، وهكذا فإن جميع ما أنكر على عثمان رضي الله عنه كان من باب الاجتهاد من أهله وما كان على الناس من ضير لو أنهم سلموا له بل يكونون مأجورين. 1392 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى مسجداً- صغيراً كان أو كبيراً- بنى الله له بيتاً في الجنة" .. 1393 - * روى النسائي عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى لله مسجداً، ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتاً في الجنة". ولأحمد (4) عن أسماء بنت يزيد: بيتاً أوسع منه .. 1394 - * روى ابن ماجه عن أبي ذر رفعه: "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة". وفي رواية ابن ماجه (6) "ولو كمفحص قطاة أو
أصغر"، وفي رواية لأحمد (1) "ولو كمفحص قطاة لبيضها". 1395 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر ماء لم يشرب منه كبد حري من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة. ومن بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة". قال يونس: من سبع ولا طائر، وقال: كمفحص قطاة. 1396 - * روى أبو داود عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره: أن يجعل مسجد أهل الطائف حيث كانت طواغيتهم". 1397 - * روى الطبراني عن زيد بن عيسى الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بنيت مسجد صنعاء فاجعله عن يمين جبل يقال له ضين". 1398 - * روى النسائي عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: "خرجنا وفداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء، فتوضأ وتمضمض، ثم صبه لنا في إداوة وأمرنا، فقال: "اخرجوا، فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مسجداً، قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف، فقال: مدوه من الماء، لا يزيده إلا طيباً، فخرجنا حتى قدمنا بلدنا، فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها،
واتخذناها مسجداً، فنادينا فيه بالأذان. قال: والراهب رجل من طيء، فلما سمع الأذان، قال: دعوة حق، ثم استقبل تلعة من تلاعنا فلم نره بعد". 1399 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد". قال ابن عباس (1): "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى". المراد من التشييد: رفع البناء وتطويله ومنه قوله سبحانه (في بروج مشيدة) كذا في (شرح السنة 2/ 349). قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أمرت بتشييد المساجد) لا ينفي جواز تشييدها، وقد بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بناه على أبسط ما يمكن أن يكون البناء، وكان بناء الناس لبيوتهم وقت ذاك بسيطاً فلما تحسن الحال، وتحسن بناء البيوت أصبح الناس يحسنون في بناء المساجد وليس في ذلك من حرج إن شاء الله، ومن الأدلة على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في أمكنة الطواغيت، ومنه أخذ المسلمون تحويل الكنائس والبيع إلى مساجد إذا كان ذلك جزءاً من الصلح أو غلبوا على ذلك قهراً، فكان مما ورثوه كنائس فخمة حولوها إلى مساجد وصلى بها المسلمون دون نكير، ولم يكن المسجد الأموي ومسجد أيا صوفيا في الأصل إلا من هذا القبيل. وهذه خلاصة رأي المذاهب الأربعة في نقش المسجد من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 287): وأما نقش المسجد وتزويقه بغير الذهب والفضة فهو جائز، أما نقشه بهما فهو حرام وهذا
حكم متفق عليه بين الشافعية والحنابلة أما المالكية فرأيهم يكره نقش المسجد وتزويقه ولو بالذهب والفضة سواء كان ذلك في محرابه أو غيره كسقفه وجدرانه أما تجصيص المسجد وتشييده فهو مندوب ورأي الحنفية يكره نقش المحراب وجدرانه من القبلة بجص ماء ذهب إذا كان النقش بمال حلال لا من مال الوقف فإن كان بمال حرام أو من مال الوقف حرم ولا يكره نقش سقفه وباقي جدرانه بالمال الحلال المملوك وإلا حرم ولا بأس بنقشه من مال الوقف إذا خيف ضياع المال في أيدي الظلمة أو كان فيه صيانة للبناء أو فعل الواقف ا. هـ. 1400 - * روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن امرأة كانت تلقط القذى من المسجد فتوفيت فلم يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بدفنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات لكم ميت فآذنوني وصلى عليها" وقال: "إني رأيتها في الجنة تلقط القذى من المسجد".
الفقرة الثانية في بعض ما ورد عن مسجد الرسول
الفقرة الثانية في بعض ما ورد عن مسجد الرسول 1401 - * روى أبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كان بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحائط كقدر ممر الشاة". وعند البخاري ومسلم (2) قال: "كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه". وفي أخرى (3) لمسلم "أن سلمة كان يتحرى موضع المصحف يسبح فيه، وذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة". وفي رواية (4) لهما "كان سلمة يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت له: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند الأسطوانة؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها". قوله: مكان المصحف: هو المكان الذي وضع فيه صندوق المصحف في المسجد النبوي الشريف وذاك المصحف هو الذي سمي إماماً من عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، وكان في ذلك المكان أسطوانة تعرف بأسطوانة المهاجرين وكانت متوسطة في الروضة المكرمة، انظر (صحيح مسلم 1/ 364 و 365). ذكر الحافظ العسقلاني أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها وروي عن الصديقة أنها كانت تقول لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام وإنها أسرتها إلى ابن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها. قوله يسبح فيه: التسبيح يعم صلاة النفل وتسمى صلاة الضحى بالسبحة.
1402 - * روى أحمد عن سهل بن سعد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "منبري على ترعة من ترع الجنة فقلت ما الترعة يا أبا العباس قال الباب". 1403 - * روى البخاري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". 1404 - * روى مالك عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". 1405 - * روى الترمذي عن علي وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". 1406 - * روى مالك عن أبي هريرة أو أبي سعيد رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". 1407 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لمسجد المدينة". وفي رواية الترمذي (1) والنسائي (2) قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا". أخذه صلى الله عليه وسلم الحصباء وضربه في الأرض المراد به المبالغة في الإيضاح لبيان أنه مسجد المدينة والحصباء الحصى الصغار. (النووي). وللمساجد الثلاثة ولمسجد قباء فضل وسنذكر ماله علاقة في ذلك في جزء الحج.
الفقرة الثالثة في بعض آداب المسجد وأحكام المسجد
الفقرة الثالثة في بعض آداب المسجد وأحكام المسجد - النهي عن البيع والشراء ونشدان الضالة: 1408 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا". وعند الترمذي قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك". 1409 - * روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة". 1410 - * روى مسلم عن بريدة رضي الله عنه "أن رجلاً نشد في المسجد، فقال: من
- إنشاد الشعر في المسجد
دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له". وفي رواية قال: "الواجد غيرك ... وذكره". أراد بقوله: من دعا إلى الجمل الأحمر: من وجد الجمل الأحمر فدعا إليه صاحبه ليأخذه. قال ابن رسلان: فيه دليل على جواز الدعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان معاقبة له في ماله معاملة له بنقيض قصده. وقال: ويلحق بذلك من رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته قال وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة وما في معناه من البيع والشراء والإجارة والعقود: قال جماعة من العلماء يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس لأنه مجمعهم ولابد لهم منه: قوله "وإنما بنيت المساجد لما بنيت له" قال النووي معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ا. هـ. وأما البيع والشراء فذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة، قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه وهكذا قال الموردي ا. هـ ذهب (الشوكاني 2/ 167) إلى أن النهي للتحريم. 1411 - * روى ابن خزيمة عن أبي عثمان، قال: سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فغضب وسبه، فقال له رجل: ما كنت فحاشاً يا ابن مسعود. قال: إنا كنا نؤمر بذلك. - إنشاد الشعر في المسجد: 1412 - * روى الشيخان عن أبي هريرة، قال: مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد
فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"،؟ قال: نعم. قال ابن حجر: وروح القدس المراد بها هنا جبريل بدليل حديث البراء عند البخاري (وجبريل معك) والمراد بالإجابة على الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال: وأما ما رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي وحسنه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد" وإسناده صحيح إلى عمرو- فمن يصحح نسخته يصححه- وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيده مقال، فالجمع بينها وبين حديث الباب أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك. وقيل: المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد حتى يتشاغل به من فيه. ا. هـ (فتح الباري 1/ 549) وانظر (النيل 2/ 167). 1413 - * روى أبو داود عن حكيم بن حزام نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تقام فيه الحدود. أقول: ورد في إباحة إنشاد الشعر في المسجد نصوص، وورد في النهي عنه نصوص. والأول محمول على الشعر الحسن والثاني محمول على الشعر القبيح من المحرم أو المكروه. وانظر (النيل 2/ 169) وقال في (النيل 2/ 166): والحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها. ا. هـ.
- منع المشركين من المسجد الحرام
- منع المشركين من المسجد الحرام: 1414 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) (2) قال: إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. 1415 - * روى الشيخان عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد". قال ابن حجر (1/ 560) وقد اختصر المصنف الحديث مقتصراً على المقصود منه، وفي دخول المشرك المسجد مذاهب: فعن الحنفية الجواز مطلقاً، وعن المالكية والمزني المنع مطلقاً، وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره للآية. وقيل: يؤذن للكتابي خاصة، وحديث الباب يرد عليه، فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب. - التصدق في المسجد: 1416 - * روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه". قال في (عون المعبود 2/ 53): قال السيوطي: الحديث فيه استحباب الصدقة على من سأل في المسجد، ذكره النووي
- منع الحائض والجنب من المسجد
في (شرح المهذب) وغلط من أفتى بخلافه، قال المنذري: قال أبو بكر البزار وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا الإسناد وذكر أنه روي مرسلاً وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي حازم سلمان الأشجعي عن أبي هريرة بنحوه أتم منه اهـ، وانظر (نيل الأوطار 2/ 171 - 172). وقال في كتاب الهدية العلائية- من كتب الحنفية- (346): يكره إعطاء سائل المسجد إذا تخطى رقاب الناس أو مر بين يدي المصلين لأنه إعانة على أذى الناس وإلا لا يكره. - منع الحائض والجنب من المسجد: 1417 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعد. فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". - تنزيه المسجد عن غير الصلاة والذكر ونحو ذلك: 1418 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكر أو صلاة". أقول: يستحب لمن دخل المسجد أن يصلي تحية المسجد ولو أراد المرور فيه إلا إذا كثر مروره ويستحب للإنسان ما لم يكن مضطراً أن لا يجعل المسجد طريقه إذا كان لا يصلي تحية المسجد. 1419 - * روى الطبراني عن أبي عمرو الشيباني "قال كان ابن مسعود يعس في المسجد
النهي عن البصاق في المسجد
فلا يجد سواداً إلا أخرجه إلا رجلاً مصلياً". أقول: ينبغي أن تكون هناك مراقبة دائمة للمساجد بحيث لا تستعمل فيما يخل بآدابها. النهي عن البصاق في المسجد: 1420 - * روى ابن خزيمة عن أبي ذر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة في المسجد لا تدفن". 1421 - * روى الجماعة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها". وفي أخرى لأبي داود (1) قال: "التفل في المسجد خطيئة، وكفارته أن يواريه". وفي أخرى (2) له "النخاعة". 1422 - * روى الطبراني عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تنخع في
المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة". 1423 - * روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه". 1424 - * روى ابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يجيء صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه". 1425 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقاً في جدار القبلة، فحكه، ثم أقبل على الناس، فقال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى". وفي رواية (4) قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده، وتغيط". وفي رواية أبي داود (5) قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوماً، إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس، ثم حكها- قال: وأحسبه قال: ودعا بزعفران فلطخه به- ثم قال: إن الله تعالى قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبصق بين يديه".
1426 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه، حتى رئي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: "إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، فإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا". وفي رواية (2) له ولمسلم (3) قال: "إن المؤمن إذا كان في الصلاة، فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، تحت قدمه". وفي رواية للنسائي (4) قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد، فغضب، حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها، وجعلت مكانه خلوقاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا! ". قال في (سبل السلام 1/ 150): الحديث نهى عن البصاق إلى جهة القبلة أو جهة اليمين إذا كان العبد في الصلاة وقد ورد النهي مطلقاً عن أبي هريرة وأبي سعيد- وسيرد بعد قليل حديثهما- وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أو غيره. 1427 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا مع عبد الله بن مسعود وأراد أن يبصق وما عن يمينه فارغ فكره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة. 1428 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا، فقال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟ فجشعنا، ثم قال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟ قلنا: لا أينا يا رسول الله، قال: فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله قِبَل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصقن عن يساره، أو تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة، فليقل بثوبه هكذا- ثم لوى ثوبه بعضه على بعض- وقال: أروني عبيراً، فثار فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة، قال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم". 1429 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله، ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فيدفنها". 1430 - * روى أبو داود عن طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه قال: "إذا قام الرجل إلى الصلاة- أو صلى أحدكم- فلا يبزق أمامه، ولا عن يمينه، ولكن تلقاء يساره، إن كان فارغاً، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به هكذا- وبزق يحيى تحت رجله ودلكه-".
1431 - * روى ابن خزيمة عن سعد بن أبي وقاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيب نخامته أن يصيب جلد مؤمن أو ثوبه فيؤذيه". 1432 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبزق في ثوبه في الصلاة فيفتله بأصبعيه". 1433 - * روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحتها، فقال: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى". 1434 - * روى أبو داود عن السائب بن خلاد رضي الله عنه هو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلاً أم قوماً، فبصق في القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه حين فرغ: لا يصلي لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم- أحسب أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله". 1435 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بالناس الظهر فتفل في القبلة وهو يصلي للناس فلما كانت صلاة العصر أرسل إلى آخر، فأشفق الرجل الأول فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنزل في؟ قال: "لا ولكنك تفلت بين يديك وأنت تؤم الناس فآذيت الله والملائكة".
- النوم في المسجد.
- النوم في المسجد. 1436 - * روى الدارمي عن أبي ذر قال "أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في المسجد فضربني برجله قال: ألا أراك نائماً فيه قلت يا نبي الله غلبتني عيني". 1437 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نعس أحدكم وهو في المسجد، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره". 1438 - * روى البخاري عن عبد الله بن مر رضي الله عنهما "أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعند الترمذي "كنا ننام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن شباب". قال الترمذي (2/ 139) وقد رخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد وقال ابن عباس لا يتخذه مبيتاً ولا مقيلاً وقوم من أهل العلم ذهبوا إلى قول ابن عباس اهـ. وترجم البخاري للباب بقوله: باب نوم الرجال في المسجد، قال ابن حجر أي جواز ذلك وهو قول الجمهور وروي عن ابن عباس كراهته إلا لمن يريد الصلاة وعن ابن مسعود مطلقاً وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح اهـ. 1439 - * روى البخاري عن سهل بن سعد قال: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه
تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب". قال ابن حجر قوله (هو راقد في المسجد) فيه مراد الترجمة، لأن حديث ابن عمر يدل على إباحته لمن لا مسكن له، وكذا بقية أحاديث الباب، إلا قصة علي فإنها تقتضي التعميم، لكن يمكن أن يفرق بين نوم الليل وبين قيلولة النهار. وفي حديث سهل هذا من الفوائد أيضاً جواز القائلة في المسجد، وممازحة المغضب بما لا يغضب منه بل يحصل به تأنيسه وفيه التكنية بغير الولد وتكنية من له كنية والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب، وفيه مداراة الصهر وتسكينه من غضبه، ودخول الوالد بيت ابنته بغير إذن زوجها حيث يعلم رضاه، وأنه لا بأس بإبداء المنكبين في غير الصلاة. اهـ انظر (الفتح 1/ 535 - 536). 1440 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفش في المسجد، قالت: فكانت تأتينا، فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ... على أنه من بلدة الكفر أنجاني فلما أكثرت، قالت لها عائشة: وما يوم الوشاح؟ - وفي رواية: فقلت لها: ما شأنك؟ - قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليها الحديا- وهي تحسبه لحماً- فأخذته، فاتهموني، فعذبوني، حتى بلغوا من أمري أنهم طلبوا في قبلي، فبيناهم حولي، وأنا في كربي، إذ أقبلت الحديا، حتى وازت رؤوسنا، ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به، وأنا منه بريئة؟ ". قال الحافظ في "الفتح": وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة، وإباحة استظلاله فيه بالخيمة ونحوها وفيه
- اللعب بالحراب في المسجد
الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه المحنة ولعله يتحول إلى ما هو خير له كما وقع لهذه المرأة، وفيه فضل الهجرة من دار الكفر وإجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً، لأن في السياق أن إسلامها كان بعد قدومها المدينة، والله أعلم. 1441 - * روى الشيخان عن عائشة قالت "أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب". والحديث يدل على جواز ترك المريض في المسجد وإن كان في ذلك مظنة لخروج شيء منه يتنجس به المسجد. - اللعب بالحراب في المسجد: 1442 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إليهم". وفي رواية (3) "والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي، حتى أكون أنا التي أنصرف". قال ابن حجر: واللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو وقال المهلب المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه وفي الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح وفيه
- من آداب الذهاب إلى المسجد والجلوس فيه
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله وكرم معاشرته، وفضل عائشة وعظيم محلها عنده. (فتح 1/ 549). - من آداب الذهاب إلى المسجد والجلوس فيه: 1443 - * روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط أن كعب بن عجرة أدركه وهو يريد المسجد- أدرك أحدهما صاحبه- قال: فوجدني وأنا مشبك يدي، فنهاني عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول "إذا توضأ أحدكم، فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة". 1444 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة، قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يقل هكذا: وشبك بين أصابعه". 1445 - * روى الطبراني عن ابن مسعود أنه رأى قوماً قد أسندوا ظهورهم إلى قبلة المسجد بين أذان الفجر والإقامة فقال: لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتها. 1446 - * روى أحمد عن مولى لأبي سعيد الخدري قال بينا أنا مع أبي سعيد وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلنا المسجد فإذا رجل جالس في وسط المسجد محتبياً مشبكاً أصابعه بعضها في بعض فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن الرجل لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتفت إلى أبي سعيد فقال: "إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما كان في المسجد حتى يخرج منه".
- الإكثار من اتخاذ المساجد
- الإكثار من اتخاذ المساجد: 1447 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب". قال سفيان "بناء المساجد في الدور، يعني: في القبائل". قوله: في الدور قال البغوي يريد المحال التي فيها الدور ... لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة داراً، وقال سفيان بناء المساجد في الدور يعني القبائل .. أي يبنى لكل قبيلة مسجد، فيستحب بناء المسجد من حجر أو لبن أو مدر ... في كل محلة يحلها المقيمون بها وكل بساتين مجتمعة. وفي شرح المشكاة ذكر نحوها .. أو محمول على اتخاذ بيت للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهل البيت وقال شارح المصابيح: يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن أن يبني الرجل في داره مسجداً يصلي فيه أهل بيته. انظر (النيل 2/ 160 - 161). 1448 - * روى أحمد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه كتب إلى بنيه "أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نصنع المساجد في ديارنا، ونصلح صنعتها ونطهرها". 1449 - * روى مالك عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: "يا رسول الله، إن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه مسجداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنفعل، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين تريد؟ فأشار إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه، فصلى بنا ركعتين". وفي أخرى (4):
- الإخلاص في عمارة المساجد
قال: "فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه بعد ما اشتد النهار، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلمن فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: "أين تحب أن أصلي من بيتك؟ " فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام فصلى بنا، فصففنا خلفه، ثم سلم وسلمنا حين سلم". - الإخلاص في عمارة المساجد: 1450 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". وعند النسائي قال: "من أشراط الساعة: أن يتباهى الناس في المساجد". أقول: إقامة المساجد وتزيينها للتفاخر والتباهي يتنافى مع الإخلاص، أما إقامتها وتشييدها وتكميل مرافقها بحيث يرتاح المصلون فيها حساً ومعنى بنية خالصة لله، فالرجاء من فضل الله أن يجعل لأصحاب ذلك من الأجر والفضل الكثير. 1451 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى المسجد لشيء، فهو حظه". - الوضوء في المسجد: 1452 - * روى أحمد عن أبي العالية عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: حفظت لك أن رسول الله صلى الله عليه سلم توضأ في المسجد.
- فضل الإقامة في المسجد
- فضل الإقامة في المسجد: 1453 - * روى البزار عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسجد بيت كل تقي وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة". 1454 - * روى الشيخان عن أبي هريرة: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه". 1455 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه: أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء". وفي رواية (4): "إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، قال: فقال أبو موسى الأشعري: والله ما متنا حتى سددناها بعضنا في وجوه بعض".
- ما جاء في المحراب
1456 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "مر رجل بسهام في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بنصالها". وفي رواية (2) "فأمره أن يأخذ بنصالها كيلا يخدش مسلماً". وفي رواية لمسلم (3) وأبي داود (4) "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً كان ينصرف بالنبل في المسجد: أن لا يمر بها إلا وهو آخذ بنصالها". 1457 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلاً كان يتصدق بالنبل في المسجد ألا يمر بها إلا وهو آخذ بنصالها. - ما جاء في المحراب: 1458 - * روى البزار عن عبد الله بن مسعود أنه كره الصلاة في المحراب وقال: إنما كانت للكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب، يعني أنه كره الصلاة في الطاق. أقول: هذا محمول على من دخل بجملته في المحراب أما من كان بارزاً إلى الناس وسجوده في المحراب فلا يدخل في النهي.
- تنزيه المسجد عن الرائحة الكريهة
- تنزيه المسجد عن الرائحة الكريهة: 1459 - * روى الستة عن جابر رفعه: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته، وأنه أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحاً فسأل: فأخبر بما فيها من البقول فقال: قربوها إلى بعض أصحابه فلما رآه كره أكلها: قال: كل فإني أناجي من لا تناجي". وفي رواية (2) نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس". أقول: لم يفهم الصحابة النهي على التحريم، بل فهموه على أنه خلاف الأولى أو فهموه على أنه مباح لكن يراعى به حق الغير من الملائكة والناس في عدم الإيذاء، وههنا قاعدة عظيمة في الإسلام وهي: أن المباح الذي تتأذى منه الملائكة يجوز للإنسان أن يفعله لأن حق المسلم في استعمال المباح مقدم والملائكة عليهم السلام لهم مندوحة في أن يتجنبوا ما يؤذيهم أو عليهم أن يتحملوه إذا كانوا مكلفين بصحبة المكلف. قال النووي بعد أن ذكر حديث مسلم بلفظ "فلا يقربن المساجد" هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد وهذا مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله في رواية "مسجدنا" وحجة الجمهور فلا يقربن المساجد ... ثم إن النهي إنما هو عن حضور المسجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما فهذه البقول
حلال بإجماع من يعتد به. وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها لأنها تمنع عن حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين "وحجة الجمهور" قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث الباب "كل فإني أناجي من لا تناجي". وقوله صلى الله عليه وسلم "أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها" أخرجه مسلم وغيره. قال العلماء ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها ... قال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلحق بها الأسواق ونحوها. انظر (النيل 2/ 161). وإذا كان هذا الحكم بالنسبة للثوم والبصل وهما حلالان بالإجماع فكيف بالدخان وقد رجح كثير من العلماء أنه مكروه تحريماً، قال ابن عابدين: (أقول ظاهر كلام العمادي أنه مكروه تحريماً ويفسق متعاطيه فإنه قال في فضل الجماعة: ويكره الاقتداء بالمعروف بأكل الربا أو شيء من المحرمات أو يداوم على شيء من البدع المكروهات كالدخان المبتدع في هذا الزمان ولا سيما بعد صدور منع السلطان. ويؤخذ منه كراهة التحريم في المسجد للنهي الوارد في الثوم والبصل وهو ملحق بهما، والظاهر كراهة تعاطيه حال القراءة لما فيه من الإخلال بتعظيم كتاب الله تعالى) حاشية ابن عابدين (5/ 296). 1460 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". 1461 - * روى أبو داود عن حذيفة رفعه: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً".
ولأبي داود (1) وللشيخين (2) عن ابن عمر: "فلا يقربن المساجد حتى يذهب ريحها". أقول: ويقاس على الثوم والبصل كل ما من شأنه أن يؤذي المصلين أو يشوه نظافة المسجد وطهارته وريحه، فأمثال هؤلاء من يتأتى منه ذلك له أن يصلي خارج المسجد، وهذا يقتضي من رواد المساجد أن يلحظوا نظافتهم وطهارتهم وريحهم قياماً بحق المسجد، والقصد محمود والتعمق والتنطع والمطالبة بما يشق كل ذلك منفي وبعيد عن فطرية هذا الدين. 1462 - * روى مسلم عن معدان: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوم الجمعة، ثم قال: يا أيها الناس إنكم تأكلون شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين، هذا الثوم، وهذا البصل، وقد كنت أرى الرجل يوجد ريحه فيؤخذ بيده فيخرج به إلى البقيع، ومن كان آكلهما فليمتهما طبخاً". 1463 - * روى ابن خزيمة عن المغيرة: أكلت ثوماً، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني بركعة، فلما صلى قمت أقضي، فوجد ريح الثوم، فقال: "من أكل هذه البقلة، فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها". فلما قضيت الصلاة، أتيته، فقلت: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن لي عذراً، ناولني يدك، فوجدته سهلاً، فناولني يده، فأدخلتها
- النهي عن اتخاذ القبور مساجد
من كمي إلى صدري فوجدته معصوباً، فقال: "إن لك عذراً". - النهي عن اتخاذ القبور مساجد: 1464 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، خشي أن يتخذ مسجداً". وفي رواية (2) "ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً" ولم يذكر "قالت". 1465 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة، يقال لها: مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه، فقال: "أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار خلق الله". قال ابن حجر: وقد استشكل ذكر النصارى فيه لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى فليس بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وسلم نبي غيره وليس له قبر، والجواب أنه كان فيهم أنبياء أيضاً لكنهم غير مرسلين كالحواريين ومريم في قوله، أو الجمع في قوله "أنبيائهم" بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم من طريق جندب "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" ولهذا لما أفرد النصارى في الحديث الذي قبله قال "إذا مات فيهم الرجل الصالح" ... أو المراد
بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعاً أو اتباعاً فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود. اهـ (فتح 1/ 532) وفائدة النص على زمن النهي هي الإشارة إلى أنه من الأمر المحكم الذي لم ينسخ لكونه صدر في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، كما قال الحافظ. (فتح 1/ 525). قال ابن حجر: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. وفي الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا. وقد أطنب ابن دقيق العيد في رد ذلك ... وقال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً لعنهم: ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد وفي الحديث جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وذم فاعل المحرمات، وأن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل. وفيه كراهية الصلاة في المقابر سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه (فتح 1/ 525). 1466 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد". 1467 - * روى مالك عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
- ما يقول إذا دخل المسجد وإذا خرج.
- ما يقول إذا دخل المسجد وإذا خرج. 1468 - * روى أبو داود عن حيوة بن شريح رحمه الله قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: "بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا دخل المسجد: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: قد قلت؟ قال: نعم، قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائل اليوم". 1469 - * روى مسلم عن أبي أسيد، وأبي قتادة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك". وزاد أبو داود (3) في الدخول "فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي ... وذكره". 1470 - * روى الترمذي عن فاطمة بنت الحسين رحمها الله عن جدتها فاطمة الكبرى قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم: وقال: رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك". قال إسماعيل بن إبراهيم: فلقيت عبد الله بن الحسين بمكة، فسألته عن هذا الحديث؟ فحدثني به، قال: "كان إذا دخل قال: رب افتح لي باب رحمتك، وإذا خرج، قال: رب افتح لي باب فضلك".
وهو حسن لشواهده، وفي رواية ابن ماجه (1): بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي .. وساق الحديث، وإذا خرج: بسم الله والسلام على رسول الله ... وساق الحديث. قال الشوكاني: وزيادة التسمية ثابتة عند ابن السني من حديث أنس ... فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء بالمغفرة والدعاء بالفتح لأبواب الرحمة داخلاً ولأبواب الفضل خارجاً، يزيد في الخروج سؤال الفضل ويضم إلى ذلك ما أخرجه أبو داود، وذكر حديث عمرو بن العاص السابق ذكر الذي رواه حيوة بن شريح .. (النيل 2/ 163 - 164) بتصرف يسير. 1471 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي، وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم". 1472 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق خروجي إليك، إنك تعلم أنه لم يخرجني أشر ولا بطر، ولا سمعة ولا رياء، خرجت هرباً وفراراً من ذنوبي إليك، خرجت رجاء رحمتك، وشفقاً من عذابك، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار برحمتك، وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون الله له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يفرغ من صلاته".
الفقرة الرابعة في صلاة المرأة في المسجد
الفقرة الرابعة في صلاة المرأة في المسجد 1473 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات". قال النووي في (شرح مسلم 4/ 161) قوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهو أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثياب فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد ووجدت الشروط المذكورة فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حرم المنع إذا وجدت الشروط. 1474 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها". وفي رواية (3) قال: فقال بلال بن عبد الله: "والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله، فسبه سباً سيئاً، ما سمعت سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن؟ ". وفي أخرى (4): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن".
وفي أخرى (1) أنه قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". وفي أخرى (2) قال: "كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أنه يكره ذلك ويغار؟ قالت: فما يمنعه أن ينهاني؟ قالوا: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". وفي أخرى (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل". وفي أخرى (4) "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد، فقال ابن له، يقال له واقد: إذن يتخذنه دغلا، قال: فضرب في صدره وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا؟ ". وفي أخرى (5) "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم، فقال بلال: والله لنمنعهن، فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول أنت: لنمنعهن؟ ". ولأبي داود (6) "لا تمنعوا نساءكم المساجد، ودورهن خير لهن". قال الحافظ في (الفتح 2/ 349) على قول بلال: (والله لنمنعهن): وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة،
وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا لو قال مثلاً إن الزمان قد تغير وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره لكان يظهر أن لا ينكر عليه، وإلى ذلك أشارت عائشة بما ذكر في الحديث الأخير. وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيراً إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد "فما كلمه عبد الله حتى مات" وهذا إن كان محفوظاً يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. 1475 - * روى ابن خزيمة عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شهدت إحداكن المسجد، فلا تمس طيباً". وقال يحيى بن حكيم، قال: حدثني بكير، وقال: إنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. 1476 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة، قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف، فقال لها: إلى أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد. قال: تطيبت؟ قالت: نعم: قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل". 1477 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها". وللكبير نحوه موقوفاً على ابن مسعود واستثنى مسجد مكة والمدينة.
1478 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال ما صلت امرأة في موضع خير لها من قعر بيتها إلا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا امرأة تخرج في منقليها يعني خفيها. 1479 - * روى الطبراني عن ابن مسعود أنه كان يحلف فيبلغ في اليمين: ما من مصلى للمرأة خير من بيتها إلا في حج أو عمرة إلا امرأة قد يئست من البعولة وهي في منقليها، قلت: ما منقليها؟ قال: امرأة عجوز قد تقارب خطوها. 1480 - * روى مالك عن عمرة [بنت عبد الرحمن] رحمها الله قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء، لمنعهن المسجد، كما منعه نساء بني إسرائيل، قيل لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم". قال الحافظ في (فتح 2/ 350) وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، ... ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة ما قالت، وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقاً وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت "لو رأى لمنع" فيقال عليه: لم ير ولم يمنع، فاستمر الحكم. حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع. وأيضاً فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان
منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضاً فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع الطيب والزينة، وكذلك التقيد بالليل كما سبق اهـ. 1481 - * روى ابن خزيمة عن امرأة أبي حميد الساعدي: أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب الصلاة معك. فقال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي". فأمرت، فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل. 1482 - * روى ابن خزيمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن". 1483 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال: ما صلت امرأة من صلاة أحب إلى الله من أشد مكان في بيتها ظلمة. 1484 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها". 1485 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: إنما النساء عورة وإن المرأة
لتخرج من بيتها وما بها من بأس، فيستشرفها الشيطان فيقول إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال أين تريدين؟ فتقول أعود مريضاً أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها. 1486 - * روى الطبراني عن أبي عمرو الشيباني أنه رأى عبد الله يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول أخرجن إلى بيوتكن خير لكن. 1487 - * روى أبو داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو تركنا هذا الباب للنساء؟ " قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وفي رواية (1) عن نافع قال: قال عمر، وهو أصح.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - من أهم ما ينبغي أن يركز عليه في إحياء رسالة المسجد حلقات العلم والذكر، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والأصحاب رضي الله عنهم منارات كثيرة في هذا الشأن فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة ويتخول أصحابه بالموعظة، وكان تعليم القرآن وتحفيظه قائمين على قدم وساق في المسجد وخارج المسجد، وكان بعض الصحابة يلازمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذوا عنه مع القرآن السنة والحكمة والعلم والفقه، وكانوا أحياناً يتناوبون فيعلم الحاضر الغائب ثم يحضر الثاني ويغيب الأول فيعلمه بكل جديد ومن سنن الصحابة تقسيم الناس إلى حلقات، على كل حلقة عريف يعلمهم القرآن، وللجميع مرجع يرجعون إليه أو هو يطوف عليهم فيقعد مع كل حلقة ليختبر ويفيد، وفي التاريخ الإسلامي وجدت حلقات الوعظ، والحلقات الروحية، والدروس التخصصية كما وجدت المساجد المتخصصة، فهذا مسجد للفقه، وهذا مسجد للحديث، ولقد رأينا من سنن الأشياخ الذين عاصرناهم ما هو إحياء أو استمرار لما كان عليه السلف فلقد كان بعض الأشياخ يقيم حلقة يومية صباحاً للفقه كأصل، ويقرأ معه غيره أحياناً، كما أن له حلقة يومية بين المغرب والعشاء- ما عدا ليلة الجمعة- يدرس في يوم منها الحديث الشريف، وفي يوم السيرة النبوية ويخصص يومين للفقه، ويومين للتفسير، وكان بعض الأشياخ له جلسة يومية لقراءة الفقه، ويقرأ في آخر الجلسة التفسير، وكان لبعضهم حلقة يومية للفقه بعد العصر، وكان لبعضهم حلقة للفقه صباح كل جمعة، وحلقتن بعد صلاة العشاء كل أسبوع وكان لبعضهم حلقات يومية بعد صلاة الفجر، وكان بعضهم يتخصص لتعليم القرآن وتحفيظه، وكان بعضهم يتخصص لتعليم العربية وبعضهم يتخصص في علم من العلوم، وكان لبعضهم ترتيبات يوزع تلاميذه على حلقات صغيرة بعد المغرب مباشرة ثم يجتمع الجميع على درسه بعد ذلك، وكان بعضهم يقيم المدارس والمعاهد التي تدرس كل العلوم الشرعية وبعض العلوم الكونية، وكان بعضهم يقيم جلسة روحية يخصصها للأذكار المأثورة في الأسبوع مرة، ويقيم درساً جامعاً واعظاً في الأسبوع مرة واحدة، ومع هذا وهذا كان يوزع التلاميذ على حلقات خاصة، لكل حلقة عريف، ويأخذ من كل إنسان الوقت الذي يناسبه، ومع الحلقات الخاصة في المسجد،
فهناك حلقات البيوت ومع هذا كله فهناك المتخصصون بالتفسير أو بتحفيظ القرآن أو بالعربية وغير ذلك من العلوم، وكان يتخرج لذلك مسلمون مهديون وائمة هداة يقتدى بهم، وكان يقيم مع هذا كله دورات في علوم معاصرة للطلاب يخرجون بها متفوقين على غيرهم، وكان هناك متخصصون في المسجد في الرحلات الدعوية أو الرياضية، هذا مع القيام بنشاطات اجتماعية واسعة، فوجد بذلك نوع من التجديد نادر المثال. وقد دعونا في كتاب (كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر) إلى القيام بحركة تعليمية تربوية تلحظ جميع العلوم التي يحتاجها المسلم المعاصر ليتخرج بذلك الوارث الكامل لرسولنا عليه الصلاة والسلام، ولنا رسالة أخرى تحدد ميادين العمل الذي يجب أن يقيمه العلماء الربانيون في عصرنا أسميناها (رسالة التعرف). - من المعروف أن رحبة المسجد ومنارته وكل ما كان محيطاً في المسجد داخل سور المسجد الذي له باب فإن له حكم المسجد، وأحياناً تكون مرافق المسجد من حمامات ومراحيض وغرف داخل هذا السور وعلى مذهب الحنفية والمالكية فإنه يحرم على الجنب والحائض والنفساء الدخول إلى هذه المرافق ويسن عند الجميع لمن دخل دائرة المسجد أن يصلي تحية المسجد على خلاف في أوقات الكراهة، وأباح الشافعية والحنابلة العبور من غير مكث ولا كراهة سواء أكان لحاجة أم لغيرها، لكن الأولى ألا يعبر إلا لحاجة، وعلى هذا القول فبالإمكان لجميع الناس استعمال مراحيض المسجد إذا كانت داخل سوره، والأحوط ألا يفعل الإنسان ذلك مراعاة لمذهب المالكية والحنفية. وقد مر معنا أن الحنفية يجيزون للكافر دخول كل مسجد وعلى هذا فإنه يمكن للكافر أن يستعمل مرافق المسجد وأن يحضر دروسه ومحاضراته. - الأصل أن تكون المراحيض داخل دائرة المسجد، والحنفية يرون الكراهة التحريمية في البول والتغوط والوطء في المسجد وعلى هذا لا ينبغي أن يكون داخل سور المسجد من المرافق ما تكون فيه هذه الأشياء، وتوسع بعضهم فأجاز ذلك إذا كان الواقف قد حدد بعض ما هو داخل السور وخارج بناء المسجد لمثل هذه الأشياء، ومراعاة للخلاف فالأولى أن تكون بعض المرافق خارج دائرة سور المسجد مراعاة للاجتهادات التي تحرم فعل بعض
الأشياء فيما يعتبر مسجداً. - يرى فقهاء الحنفية أن المسجد مسجد إلى عنان السماء وإلى أعماق الأرض، وعلى هذا فما تحت المسجد وما فوقه له حكم المسجد عندهم، وبناءً على هذا فإنه لا يصح أن تقام بيوت أو محلات عمل أو تجارة فوق المسجد أو تحته لأنه لا يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يدخلها ولا يجوز الوطء فيها، وكما أن النوم في المسجد مكروه عند الحنفية إلا للغريب والمعتكف، فكذلك حكم ما كان فوقه أو تحته، وكما يكره رفع الصوت في المسجد ونشدان الضالة والبيع والشراء والإجارة فكذلك يكره فيما فوقه أو تحته، وكما يكره أن يجعل المسجد مقعداً لحرفة فكذلك يكره لما فوقه أو تحته، وعلى هذا فإن الحنفية يرون أن يتمحض المسجد للمسجدية، فلا يبنى فوقه أو تحته ما يتنافى مع ذلك، بل إن أريد البناء تحته أو فوقه فليكن كل ذلك مسجداً وعلى هذا لا يصح أن يكون تحت المسجد مراحيض أو دكاكين ولا فوقه. وقد ترخص بعض العلماء في هذه الشؤون لمصلحة الناس والمسجد، والأحوط ألا يكون ذلك وخاصة في المساجد القديمة التي يعاد بناؤها، فمثل هذه لا ينبغي أن يبنى فوقها أو تحتها إلا ما هو مسجد مراعاة لشرط الواقف. (انظر رد المحتار على الدر المختار 1/ 441 فما بعدها).
الفصل الثاني في صلاة الجماعة وما يتعلق بها
الفصل الثاني في صلاة الجماعة وما يتعلق بها وفيه عرض إجمالي وفقرات * الفقرة الأولى: فضل صلاة الجماعة والمشي إلى المساجد وانتظار الصلاة والترهيب من ترك الجماعة. * الفقرة الثانية: أحكام الإمام والمأموم. * الفقرة الثالثة: في أحكام الصفوف.
عرض إجمالي
عرض إجمالي الجماعة هي الارتباط الحاصل بين صلاة الإمام والمأموم، وقد شرعت الجماعة للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة ولصلاتي العيدين ولصلوات أخرى سنراها. وقد قال الحنفية والمالكية: الجماعة في الصلوات الخمس غير الجمعة سنة مؤكدة للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعدين والمرضى والشيوخ الهرمين ومن قطعت يده ورجله من خلاف، أما الجمعة فإنها فريضة كما سنرى وقال الشافعية في القول الأصح عندهم: الجماعة فرض كفاية لرجال أحرار مقيمين فإن امتنعوا في بلد صغير أو كبير كلهم من إقامتها قاتلهم الإمام أو من له حكم الإمام، وقال الحنابلة: الجماعة واجبة وجوب عين لقوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين) (1) ولكنهم قالوا بأن الجماعة ليست شرطاً لصحة الصلاة وأقل الجماعة عند الشافعية والحنابلة إمام ومأموم ولو كان المأموم صبياً، ولا تنعقد الجماعة مع صبي مميز عند المالكية، وتنعقد الجماعة مع صبي مميز عند الحنابلة في الفرض فقط وأفضل الجماعة ما كانت في المسجد إلا للمرأة والخنثى، فالبيت في حقهما أفضل ويفضل للمكلف أن يصلي في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره أو إذا كان حضوره يشجع غيره على صلاة الجماعة ثم ما كان أكثر جماعة والمسجد الأبعد أفضل من الصلاة في الأقرب وإقامتها في الوقت المفضل على ما فصله الفقهاء أفضل من انتظار كثرة الجمع، وقال المالكية: لا نزاع في أن الصلاة مع العلماء والصلحاء وأهل الخير أفضل من غيرها، وقد فصل بعضهم في صلاة الجماعة بالنسبة للنساء في المسجد فالعجوز التي انقطعت حاجة الرجال منها فهذه تخرج للمسجد ولمجالس الذكر والعلم ولصلاة العيدين والاستسقاء والجنازة ولقضاء حوائجها أو حوائج غيرها بلا حرج وأما من قاربت الأولى في السن فهذه مثل الأولى تحتاط أكثر وأما الشابة التي لا تلفت
النظر فهذه تخرج للمسجد لصلاة الفرض جماعة وفي جنازة أهلها وأقاربها ولا تخرج لعيد ولا استسقاء ولا لمجالس ذكر أو علم إلا إذا كان هناك ضرورة بالنسبة للعلم، وأما الشابة التي تلفت النظر فعند الشافعية والحنابلة يكره لها حضور جماعة الرجال، والثواب الأكمل يحصل لمن أدرك الصلاة مع الإمام من أولها إلى آخرها فإن إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام فضيلة، ويدرك الإنسان فضيلة الجماعة ما لم يسلم الإمام وإن لم يقعد معه بأن انتهى سلام الإمام عقب تكبيره إحرامه، وقال المالكية: لا يدرك فضل الجماعة كاملاً إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام والأجر حاصل لمن أدرك أقل من ركعة واتفق أئمة المذاهب على أن من أدرك الإمام راكعاً في ركوعه فإنه يدرك الركعة مع الإمام وشرط ذلك أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم أو أقرب إلى القيام فإن ركع بعد رفع الإمام رأسه من الركوع لم تحسب الركعة وفصل المالكية بأنه إذا وافق ركوع المأموم رفع الإمام وهو أقرب إلى الركوع جازت الركعة، وتجزئ تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع عند الحنابلة ولا تسقط سنية تكبيرة الانتقال عند الشافعية والمالكية بتكبيرة الإحرام، وقال المالكية: إذا خشي القادم إلى الصلاة أن تفوته الركعة فله أن يركع دون الصف إذا خاف فوات الركعة وقال الحنابلة وغيرهم: لا يركع دون الصف إلا إذا أتى آخر ووقف معه، والأصح عند الحنابلة أن الجماعة واجبة والسعي إلى المسجد سنة ويستحب عند العلماء لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها وعليه السكينة والوقار وأجاز المالكية الإسراع المعتدل لإدراك الجماعة، ويبادر المصلي فيقتدي بالإمام سواء أكان الإمام قائماً أو راكعاً أو ساجداً وإذا أقيمت الصلاة لإمام راتب فقد قال المالكية يحرم على المتخلف أن يبتدئ صلاة منفرداً فريضة أو نافلة وإن أقيمت صلاة المسجد والمصلي في صلاة فريضة أو نافلة بالمسجد أو رحبته فإن خشي فوات ركعة مع الإمام قطع صلاته بسلام أو كلام بنية إبطال وإن لم يخش فوات الركعة فإن كانت الصلاة نافلة أتمها ركعتين وإن كان يصلي نفس صلاة الإمام ينصرف عن شفع إن كان في الشفع الأول ويقطعها ويلحق بالإمام وإن كان في الثالثة قبل كمالها بسجودها رجع للجلوس فتشهد وسلم، ودخل في صلاة الإمام، هذا إن كان في صلاة رباعية فإن كان في صلاة صبح أو مغرب فأقيمت قطع صلاته ودخل مع الإمام وإن أتم ثانية المغرب أو الثالثة أو ثانية الصبح كملها بنية الفريضة وقال الشافعية إن كان المصلي في صلاة نافلة ثم أقيمت الجماعة فإن لم يخش
فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة وإن خشي فوات الجماعة قطع النافلة وإن دخل في فرض الوقت ثم أقمت الجماعة فالأفضل أن يقطع ويدخل في الجماعة، وإن حضر وقد أقيمت الصلاة لم ينشغل عنها بنافلة وعند الحنابلة متى شرع مقيم الصلاة في إقامة الصلاة فلا يشرع الدخول في نفل مطلق ولا سنة راتبة في المسجد أو غيره فإن شرع في نافلة لم تنعقد وإن أقيمت الصلاة وهو في النافلة ولو كان خارج الصلاة أتمها خفيفة ولو فاتته ركعة ولا يزيد على ركعتين إلا إذا كان قد شرع في الركعة الثالثة فإنه يتمها أربعاً فإن سلم ولحق بالإمام جاز وإذا خشي المتنفل فوات الجماعة قطع نافلته. وعند الحنفية إن شرع في سنة الظهر القبلية مثلاً فأقيمت الجمعة أو في سنة الجمعة فصعد الخطيب المنبر سلم بعد ركعتين ثم قضى السنة أربعاً بعد أداء الفرض والسنة البعدية وعند محمد يقضي قبل السنة البعدية ويكره عند الحنفية تكرار الجماعة بأذان وإقامة في مسجد محلة أما مسجد الطريق أو المسجد الذي لا إمام له ولا مؤذن فلا كراهة لو صلى الناس فيه فوجاً بعد فوج والأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حدة، وقال المالكية يكره تكرار الجماعة في إمام له راتب وكذلك يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب ويحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب، ومن دخل المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى بعد صلاة الإمام الراتب يصلي منفرداً عند المالكية ويكره عندهم تعدد الأئمة الراتبين ويكره بأن يصلي أحدهم بعد الآخر ويكره تعدد الجماعات في وقت واحد ولا يكره عند الشافعية تكرار الجماعة في المسجد المطروق في ممر الناس أو في السوق أو فيما ليس له إمام راتب أو له إما مراتب وضاق المسجد عن الجميع أو خيف خروج الوقت وقال الحنابلة: يحرم إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه كما يحرم إقامة جماعة أخرى أثناء صلاة الإمام الراتب ولا تصح الصلاة في تلك الحالتين ولا يكره أن يصلي الناس جماعة إذا تأخر الإمام الراتب لعذر أو ظن عدم حضوره أو ظن حضوره ولم يكن يكره صلاة غيره في حالة حضوره، ومن باب أولى ما إذا كان قد أذن، ولا يكره عندهم تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب إلا في مسجدي مكة والمدينة فقط فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما إلا لعذر كنوم ونحوه فمن فاتته صلاة الجماعة في المسجدين لعذر لا يكره له أن يصلي جماعة بعد صلاة
الإمام الراتب ويكره تعدد الأئمة الراتبين بالمسجدين المذكورين ويكره للإمام عندهم إعادة الصلاة مرتين، ويجوز للمنفرد أن يعيد الصلاة في جماعة وتكون الثانية له نفلاً والحنفية كما نعلم لا يجيزون التنفل بعد صلاة العصر وتكره عندهم إعادة الصلاة بعد العصر، وقل مثل ذلك في صلاة الصبح عند الحنفية، ولكون الحنفية لا يتنفلون بوتر فإنه يكره عندهم إعادة صلاة المغرب كذلك، وعند المالكية يندب لكل منفرد أن يعيد صلاته في جماعة إلا إذا صلى في أحد المساجد الثلاثة، فيندب له إعادتها فيها لا خارجها، والشافعية يرون إجازة إعادة الصلاة للمنفرد وغيره بنية الفرض، وفي المذهب الجديد عند الشافعية إذا صلى وأعاد مع الجماعة فالفرض هو الأولى وتكون الثانية نفلاً، وقال الحنابلة يستحب لمن صلى فرضه منفرداً أو في جماعة أن يعيد الصلاة إذا أقيمت الجماعة وهو في المسجد ولو كان وقت الإعادة وقت نهي، سواء كانت الإعادة مع الإمام الراتب أو مع غيره إلا المغرب فلا تسن إعادته، وتكون صلاة الأولى هي الفريضة وينوي بالثانية الإعادة، وفي كل الأحوال فإن الثانية تعتبر نفلاً، وهذا كله إذا كان داخل المسجد، أما من كان خارج المسجد وصلى صلاته ودخل بذلك وقت النهي كالصبح والعصر فلا يستحب له دخول المسجد حتى تفرغ صلاة الجماعة وتحرم عليه الإعادة، أما إذا لم يكن الوقت وقت نهي ودخل المسجد لا بنية الإعادة وكان الناس يصلون فإنه يسن له أن يعيد، ويسن للناس عند الحنفية أن يقوموا جميعاً إماماً ومأمومين إلى الصلاة عند (حي على الفلاح)، وذهب الحنابلة إلى أن القيام عند: (قد قامت الصلاة) ويرى الشافعية أن القيام يكون بعد انتهاء المقيم من الإقامة، ولم يحدد المالكية للقيام إلى الصلاة وقتاً فمتى بدأت الإقامة جاز للإنسان أن يقوم إلى الصلاة. والأعذار التي تجيز للإنسان ترك الجمعة والجماعة كثيرة منها: المرض الذي يشق معه الحضور أما المرض الخفيف كصداع يسير وحمى خفيفة فليس بعذر، ومنها التمريض لمن لا متعهد له سواء كان قريباً أو نحوه إذا خاف على المريض، ومن ذلك الخوف من حدوث المرض لو أنه خرج إلى الجمعة أو الجماعة، ولا تجب الجماعة والجمعة على مقعد وزمن ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط، ومفلوج وشيخ كبير عاجز وأعمى وإن وجد قائداً في رأي الحنفية، ولا يعذر إذا وجد قائداً عند الحنابلة والمالكية والشافعية في ترك الجمعة دون
الجماعة، ومن الأعذار التي تسقط الجمعة والجماعة أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو عرضه، كأن خاف ظالماً أو حبساً لأنه معسر، أو خاف ملازمة غريم وهو معسر، أو خاف عقوبة يرجو سقوطها لو تأخر اعتقاله، مما يمكن أن يدخل في دائرة العفو، والعري عذر، وكذلك خوف زيادة المرض أو بطء البرء، والقادر بقدرة الغير لا يعتبر قادراً عند الحنفية، ويعتبر قادراً عند الحنابلة والمالكية والشافعية في حق الجمعة ولا تجب الجمعة والجماعة بسبب الخوف من الانقطاع عن الرفقة في السفر ولو سفر نزهة أو بسبب الخوف من تلف مال كخبز في تنور وطبيخ على نار أو الخوف من فوات فرصة كالخوف من ذهاب شخص يدله على ضائع، ومن الأعذار التي تبيح ترك الجمعة والجماعة المطر والوحل والبرد الشديد والحر الشديد ظهراً، ومن الأعذار التي تبيح ترك الجماعة: الريح الشديدة في الليل لا في النهار والظلمة الشديدة، والثلج والجليد كالمطر والطين في إباحة ترك الجمعة والجماعة. ومما يجيز ترك الجماعة مدافعة الأخبثين: البول والغائط أو أحدهما، وحضور طعام تتوقه نفسه وغلبة نعاس ومشقة، ومن أعذار ترك الجماعة عند الحنفية: الاشتغال بالفقه لا بغيره. ومن أعذار ترك الجماعة: أكل ثوم أو بصل أو فجل أو منتن تظهر رائحته حتى يذهب ريحه وكل من تظهر منه رائحة منتنة بسبب عمله، وتسقط الجماعة عمن به برص أو جذام أو مرض يمكن انتقاله، ومما يسقط الجمعة والجماعة الحبس، ومن مسقطات الجماعة عند الشافعية تقطير سقوف الأسواق والزلزلة والريح الحارة ليلاً أو نهاراً والبحث عن ضالة يرجوها والسعي في استرداد مغصوب والسمن المفرط، والهم المانع من الخشوع، والاشتغال بتجهيز ميت، ووجود من يؤذيه في طريقه أو في المسجد وزفاف زوجته إليه في الصلاة الليلية، وزيادة الإمام على المسنون، وتركه سنة مقصودة، وكون الإمام سريع القراءة والمأموم بطيئاً، أو كون الإمام ممن يكره الاقتداء به، ومن أعذار ترك الجماعة أن يخشى الإنسان وقوع فتنة له أو به وتسقط الجمعة والجماعة عند المالكية لمدة ستة أيام بسبب الزفاف. ومن انقطع عن الجماعة لعذر من أعذارها المبيحة للتخلف يحصل له ثوابها. والجماعة في الصلاة تكون بإمام ومأموم ويتم بها ارتباط صلاة المؤتم بالإمام.
وشروط صحة إمامة الإمام: الإسلام والذكورة في إمامة الرجال أو الرجال مع النساء، ولا تصح إمامة الخنثى للرجال أو النساء وتصح إمامته لمثله وتصح إمامة النساء للنساء. ومن شروط صحة الإمامة: العقل، ولا تصح إمامة المجنون ولا المعتوه ولا السكران كما لا تصح صلاتهما، واشترط الحنفية لصحة الإمامة في فرض أو نفل البلوغ واشترطه الحنابلة والمالكية في الفرض فقط، فلا تصح عندهم غير إمامة البالغ في الفرض، وأجاز الشافعية اقتداء البالغ بالصبي المميز حتى في الجمعة مع الكراهة، ولا تكره عند الشافعية جماعة النساء بل تستحب وتقف وسطهن، وقال الحنفية يكره تحريماً جماعة النساء وحدهن إلا في صلاة الجنازة، وتقف الإمامة وسطهن، ويكره عند الحنفية والحنابلة أن يؤم الرجال النساء في بيت ليس معهن رجل غيره ولا محرم منه أو زوجته. ومن شروط صحة الإمامة الطهارة من الحدث والخبث، وهناك تفصيلات في المذاهب حول لزوم إعادة صلاة الإمام أو المأموم إذا وجد فساد، فالمشهور عند الشافعية أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة لا فساداً. ومن شروط صحة الإمامة: إحسان القراءة وإقامة الأركان، فلا تصح الصلاة خلف أخرس ولو صلى بأخرس مثله، ولا تصح الصلاة خلف عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو استقبال قبلة أو اجتناب النجاسة، وتصح الصلاة خلف المماثل فيما ذكرناه، قال المالكية يشترط في الإمام القدرة على الأركان القولية كالفاتحة، والفعلية كالركوع والسجود والقيام فإن عجز لم يصح الاقتداء به إلا إذا تساوى الإمام والمأموم في العجز. ولا يصح الاقتداء بمأموم حال اقتدائه، أما الاقتداء بمن كان مقتدياً بالإمام بعد انقطاع القدوة كأن كان مسبوقاً، فقد قال الحنفية والمالكية: لا يجوز اقتداء المسبوق بغيره ولا الاقتداء به، وقال الشافعية: يصح الاقتداء بمن كان مسبوقاً بعد أن سلم إمامه أو بعد أن نوى مفارقته، وتصح عندهم نية المفارقة في غير صلاة الجمعة أما فيها فلا يصح الاقتداء، ومذهب الحنابلة قريب من مذهب الشافعية واشترط الحنفية والحنابلة لصحة الإمامة السلامة من الأعذار كسلس البول ونحوه، فلا تصح إمامة من قام به عذر من الأعذار إلا بمعذور مثله بشرط أن يتحد عذرهما، ومن عنده عذران لا يصح أن يؤم من له عذر واحد،
وعند المالكية يكره أن يؤم صاحب العذر من ليس له عذر وعند الشافعية تصح إمامة صاحب العذر الذي لا تجب معه إعادة الصلاة لمقتد سليم، ولا تصح عند الحنفية إمامة الألثغ وهو من يبدل بعض الحروف بأخرى إلا إذا كان المقتدي مثله، ولا تصح عندهم إمامة التمتام الذي يكرر التاء، والفأفاء الذي يكرر الفاء إلا لمن ماثلهما، وأجاز الحنابلة إمامة من يبدل ضاد المغضوب والضالين بظاء، ولا تجوز إمامة الأرت وهو الذي يدغم بعض الحروف ببعضها في غير موضوع الإدغام كأن يقول: المتقيم بدل المستقيم، وقال الشافعية ومن يخل بحرف أو تشديدة من الفاتحة يعدان كالألثغ لا تصح إمامتهما إلا للمثل، وأكثر العلماء على أنه تصح إمامة التمتام والفأفاء ولو لغير المماثل مع الكراهة. ولم يكن الاختلاف في الفروع الفقهية مانعاً من صلاة الصحابة بعضهم وراء بعض، وعلى هذا فالصلاة خلف المخالف في الفروع المذهبية من أتباع أئمة الاجتهاد من مذاهب أهل السنة والجماعة صحيحة غير مكروهة، ولكن من الأفضل للإمام أن يراعي مذاهب المصلين وراءه ما أمكن كي لا يدخل في إشكال مع المتعصبين لمذاهبهم، والأصل أن يكون الإمام عدلاً تقياً ورعاً، وشدد الحنابلة بأن منعوا إمامة الفاسق ولو بمثله وأوجبوا إعادة الصلاة في مثل هذه الحالة إلا في صلاة الجمعة والعيدين فإنهما تصحان عندهما خلف الفاسق إن لم تتيسر الصلاة خلف عدل، واشترط المالكية أن يكون الإمام سليماً من الفسق الذي سببه الصلاة كمن يتهاون في شرائطها وفرائضها، وجماهير العلماء على أن الصلاة خلف البر والفاجر جائزة، لأن الصحابة صلوا وراء أئمة الجور، وكره عامة العلماء الصلاة وراء المبتدعة الذين صلوا ببدعتهم. والجمهور على أنه لا يصح لمفترض أن يصلي وراء متنفل، وخالف في ذلك الشافعية، والأحق بالإمامة عند الحنفية: الأعلم بأحكام الصلاة صحة وفساداً مع العدالة والحفظ من القرآن بقدر ما يؤدي فرضه، ثم الأحسن تلاوة ثم الأورع ثم الأسن، ثم الأحسن خلقاً ومن اجتمع له كل هذا فهو المقدم، فإن استووا يقرع بينهم أو الخيار إلى القوم وإن اختلفوا اعتبر الأكثر، وإذا وجد الخليفة المسلم فهو المقدم، ثم السلطان ثم الأمير ثم القاضي ثم صاحب المنزل ولو مستأجراً، ويقدم القاضي على إمام المسجد، فإذا لم يوجد سلطان أو قاض يقدم
في البيت صاحب البيت وفي المسجد إمام المسجد الراتب. وهذه الأحكام مأخوذة من فقه الحنفية وهناك تفصيلات في بقية المذاهب وشيء من الاختلاف في الأحق بالإمامة. ومن كلام المالكية: إن كان صاحب المنزل امرأة أنابت من يصلح للإمامة وتستخلف الأفضل، والأحق بالإمامة عندهم: السلطان ثم نائبه، ثم الإمام الراتب ثم رب المنزل ثم الأفقه ثم الأعلم بالسنة أو الحديث، ثم الأقرأ والأمكن في مخارج الحروف، ثم الأعبد ثم الأقدم إسلاماً ثم الأرقى نسباً، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن لباساً، فإن تساووا قدم الأورع والزاهد ويقدم الأعدل على مجهول الحال، والأب على ابنه، والعم على ابن أخيه، فإن تساووا في كل شيء قرع بينهم إلا إن رضوا بتقديم أحدهم. قال الشوكاني: والظاهر أن الولاية للسلطان الذي له ولاية أمور الناس. أقول: فإذا ما ذكر فهو المراد. وليراجع كل صاحب مذهب وجهة نظره في هذا الموضوع وما ذكرناه نموذج. وتكره إمامة الفاسق ولو كان عالماً والمبتدع الذي لا يكفر ببدعته، أما إذا كفر فلا تجوز الصلاة وراءه، وتكره صلاة الأعمى تنزيهاً عند الحنفية والمالكية والحنابلة إلا إن كان يحتاط في نظافته وطهارته وكان أعلم القوم، وأجاز الشافعية إمامته بدون كراهة، والأصم كالأعمى عند الحنابلة تصح إمامته مع الكراهة التنزيهية، وذكر الحنابلة مسألة أقطع اليدين فأجازوا إمامته في رواية، ومن المسائل التي ذكروها أن لا يصح الائتمام بأقطع الرجلين. ويكره لإمام كراهة تحريمية عند الحنفية أن يؤم قوماً هم له كارهون. ويكره تطويل الصلاة على القوم تطويلاً زائداً على السنة أو على القدر الذي يحتمله حالهم، واستثنى الشافعية والحنابلة حال الرضى بالتطويل من جماعة محصورين فلا حرج في ذلك. ويكره للإمام أن يتكلف في قيامه وركوعه وسجوده وغير ذلك انتظاراً لداخل جديد،
هذا قول الجمهور، أما الشافعية فاستحبوا انتظار الداخل على تفصيلات عندهم ملاحظين في ذلك مساعدة المتأخرين لإدراك فضل ما أمكن من الجماعة وتكره إمامة اللحان الذي يكثر اللحن، هذا إذا كان لا يحيل المعنى، أما إذا أحال المعنى فقد تساهل فيه متأخرو الحنفية إلا إذا عبر المعنى الذي فيه اللحن عما يعتبر كفراً فتبطل الصلاة عندهم. وتكره إمامة من لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف، وتصح إمامته، ومر معنا أن التمتام والفأفاء لا تجوز الصلاة خلفهما عند الحنفية وتجوز الصلاة خلفهما عند الجمهور مع الكراهة، وتكره إمامة العامي وأمثاله ممن لا يعيش في البيئات العلمية والبيئات المهذبة فالجهل والقسوة تكره الإمامة وراء أصحابهما. ويكره أن يصلي على مكان مرتفع على المأمومين إذا كان الارتفاع بقدر ذراع أو أكثر. ويكره أيضاً عند الحنفية والمالكية والشافعية ارتفاع المقتدين عن مكان الإمام بقدر ذراع، وإذا كان بجانب الإمام واحد أو أكثر في تلك الحالتين ارتفعت الكراهة، والعذر عند الشافعية يرفع الكراهة، ومن كلامهم: إن قصد الإمام والمأموم بعلوه الكبر بطلت الصلاة، والعلو اليسير معفو عنه عند الحنابلة والمالكية. وتكره الصلاة وراء كل إمام ينظر إليه الناس باحتقار لأن ذلك ينفر من صلاة الجماعة، ويكره عند الحنفية تنزيهاً إمامة الأمرد الصبيح الوجه إن كان يخشى من إمامته الفتنة والشهوة كما تكره عندهم إمامة السفيه، ويكره تنزيهاً عندهم قيام الإمام في غير المحراب لئلا يلزم عدم القيام في الوسط. وذكر المالكية أنه تكره إمامة غير المختون ومن يتكسر في كلامه كالنساء، وتكره الصلاة بين الأعمدة، وتكره عندهم صلاة المأموم أمام الإمام إلا لضرورة فلا كراهة، وكره عندهم صلاة رجل بين نساء أو صلاة امرأة بين رجال، ومن كلامهم أنه يجوز التبليغ خلف الإمام واقتداء الناس بسماع صوت المبلغ، وجاز الاقتداء برؤية الإمام أو المأموم وإن كان المأموم بدار مثلاً والإمام بمسجد ولا يشترط إمكان التوصل إليه. ومن كلام الشافعية: أنه تكره إمامة من يكرهه أكثر القوم لأمر مذموم كالإكثار من الضحك.
ومن كلام الحنابلة: وتصح مع الكراهة إمامة مقطوع الرجلين أو إحداهما إذا كان يستطيع القيام بأن يتخذ له رجلين من خشب أو نحوه، وتكره عندهم إمامة المفضول مع وجود الأفضل. وشروط صحة الاقتداء عند الشافعية ألا يعلم المقتدي بطلان صلاة إمامه وألا يعتقد أنه يجب على الإمام وجوب قضاء الصلاة التي يصليها، وألا يكون الإمام مأموماً في الوقت نفسه، وألا يكون مشكوكاً في كونه إماماً أو مأموماً، وألا يكون مخلاً بشيء من الفاتحة أو لا يحفظها، وألا يقتدي الرجل بالمرأة، والمقتدي وراء الإمام له ثلاثة أحوال: مدرك ولاحق ومسبوق. قال الحنفية: المدرك من صلى جميع الصلاة كاملة مع الإمام، والمسبوق من سبقه الإمام بكل الصلاة أو بعضها وحكمه بعد انقضاء صلاة الإمام أنه كالمنفرد يقضي ما فاته قضاء، فيقضي أول صلاته في حق الثناء والقراءة ويجوز له في الجهرية الإسرار والجهر كالمنفرد، والمسبوق إن أدرك الإمام وهو راكع كبر للإحرام قائماً ثم يركع معه وتحسب له هذه الركعة، فإن أدركه بعد ركوع كبر قائماً وتابعه ولا تحسب له هذه الركعة، والمسبوق كالمنفرد إلا إنه لا يجوز اقتداؤه بغيره ولا يجوز الاقتداء به، وإذا كبر ناوياً استئناف صلاة جديدة وقطعها صار مستأنفاً وقاطعاً للصلاة الأولى بخلاف المنفرد، وإذا قام إلى قضاء ما سبق به وعلى الإمام سجود سهو فسجد الإمام بعد أن قام المقتدي، فما دام لم يقيد ركعته بسجدة فعليه أن يتابع الإمام، وكذلك إذا قضى الإمام سجدة التلاوة، ويأتي بتكبيرات التشريق بعد انتهاء صلاته اتفاقاً بين الحنفية بخلاف المنفرد حيث لا يأتي بها عند أبي حنيفة، ويكره تحريماً للمسبوق أن يقوم لقضاء ما فاته قبل سلام إمامه إلا في حالات فصلها فقهاء الحنفية، واللاحق عند الحنفية هو من أدرك أول الصلاة مع الإمام ثم حدث له عارض فلم يشارك الإمام في قسم من صلاته، كأن أصابته غفلة أو نوم أو زحمة أو سبق إمامه في ركوع وسجود فإنه في الحالة الأخيرة يقضي ركعة، وحكمه أنه كمؤتم حقيقة فيما فاته، فلا تنقطع تبعيته للإمام فلا يقرأ في قضاء ما فاته ولا يسجد لسهو ويبدأ بقضاء ما فاته أثناء صلاة الإمام ثم يتابعه فيما بقي إن أدركه ويسلم معه فإن لم يدركه مضى في صلاته إلى النهاية.
وإن كان اللاحق مسبوقاً بأن بدأ مع الإمام في الركعة الثانية مثلاً ثم فاتته ركعة فأكثر خلف الإمام فعليه قضاء ما سبق به وتفصيلات أحكام اللاحق والمسبوق والمدرك في مذهب الحنفية وبقية المذاهب متشعبة ولابد للمسلم أن يتفقه ليعرف تفصيلات الأحكام على مذهب من المذاهب الأربعة. ولابد أن ينوي المأموم مع تكبيرات الإحرام أو قبلها الاقتداء أو الجماعة أو المأمومية ولا يجب تعيين الإمام باسمه فإن عينه وأخطأه بطلت صلاته عند الشافعية، ولذلك فإن الإنسان إذا لم يعرف الإمام ينوي الاقتداء بالإمام الواقف بالمحراب أو بالإمام الذي يشاهده إن كان يشاهده أو بإمام ذلك الجمع، ولو ظن أنه فلان ولم يكن كذلك لا تبطل صلاته عند الحنفية. أما نية الإمام الإمامة فلا تشترط عند الجمهور غير الحنابلة بل تستحب، واستثنى الشافعية والمالكية الصلاة التي تتوقف صحتها على الجماعة كالجمعة وصلاة الخوف فلابد من نية الإمام الإمامة، واستثنى الحنفية اقتداء النساء بالرجال فإنه يشترط نية الإمام الإمامة لصحة اقتداء النساء به، ومن كلام الحنفية: أنه لا يصح الاقتداء إلا إذا اتحدت صلاتا الإمام والمأموم واستثنوا من ذلك جواز اقتداء المتنفل بالمفترض ولم يجيزوا العكس. وجماهير العلماء لا يجيزون للمأموم أن يتقدم على إمامه بعقبه إن صلى قائماً، أو بعجزه إن صلى قاعداً أو بجنبه عن صلى مضطجعاً، والجمهور على وجوب اتحاد المكان بين صلاة الإمام والمقتدي برؤية أو سماع ولو بمبلغ. ويجب على المأموم أن يتابع إمامه، إما بالمقارنة وإما بالتعقيب المباشر وإما بتعقيب متراخ يلحق به الإمام، في جزء مما هو فيه. ولا يصح عند الحنفية أن تحاذي المرأة الرجل ولو كانت محرماً فإذا حدثت المحاذاة في صلاة مشتركة، ونوى الإمام إمامة النساء بطلت صلاة المحاذي يميناً والمحاذي شمالاً ومن خلفها وهذا إذا كانت المرأة المحاذية مشتهاة، وان تكون الصلاة كاملة الأركان وهي التي لها ركوع وسجود وأن تكون الصلاة مشتركة وألا يكون هناك حائل بمقدار ذراع في غلظ أصبع
أو فرجة تسع رجلاً، وإنما تبطل الصلاة إذا كانت هذه المحاذاة في ركن كامل وأن تتحد الجهة. والجمهور على أن وقوف المرأة في صف الرجال لا يبطل صلاتها ولا صلاتهم ولا صلاة من خلفها. وإذا كان الإمام يصلي برجل أوقفه عن يمينه وإن صلى بامرأة منفردة أوقفها خلفه، وإن صلى برجل منفرد أوقفه عن يمينه ولو كان صبياً مميزاً مع تأخره قليلاً بعقبه، وإن صلى برجل أو امرأة قام الرجل عن يمين الإمام والمرأة خلفه، وإن صلى خلفه رجلان أو رجل وصبي أو نساء فقط، صلوا خلف الإمام، وإذا اجتمع رجال وصبيان وخناثي ونساء، صف الرجال ثم الصبيان ثم الخناثي ولو منفرداً ثم النساء. ويقف الإمام وسط القوم في الصف متقدماً عليهم بمقدار ما يسع من وراءه أن يسجد على الأقل. هذا، وللصف الأول فضل وبذلك يستحب أني سارع أهل الفضل إلى الصف الأول وأن يعطى لأهل الكمال ما يلي الإمام ويستحب للإمام أن يأمر بتسوية الصفوف وسد الخلل وتسوية المناكب، ومن صلى منفرداً خلف الصف فقد جازت صلاته مع الكراهة، وقال الحنابلة: لا تجوز صلاته إذا صلى ركعة كاملة خلف الصف وحده، والكمال في مثل هذه الحالة عند الشافعية أن يحرم الإنسان بالصلاة ثم يجر واحداً من الصف إليه، أما إذا جر إليه أحداً قبل الإحرام وتابعه المصلي دون نية تخدم الصلاة فقد بطلت الصلاة عند الحنفية. ونكرر ما ذكرناه سابقاً أن التفقه لا يتم للإنسان إلا بدراسة مذهب من المذاهب الأربعة على يد فقيه، فهذا الذي يجعل الإنسان عارفاً بالكيفية الكاملة لما ينبغي فعله في كل جزئية، والذين يفرون من مثل هذا أقل ما يوصفون به أنهم جهلة. انظر فيما سبق: (حاشية ابن عابدين)، (الدر 1/ 367 - 401)، (الشرح الصغير 1/ 424 - 464)، (المهذب 1/ 93 - 100)، (المغني 2/ 176 فما بعدها)، (بداية المجتهد 1/ 140 - 156)، (الفقه الإسلامي 2/ 149 فما بعدها و 2/ 174 فما بعدها)، (الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 404 فما بعدها).
الفقرة الأولى فضل صلاة الجماعة والمشي إلى المساجد وانتظار الصلاة والترهيب من ترك الجماعة، وبعض الأعذار التي تبيح ترك الجماعة
الفقرة الأولى فضل صلاة الجماعة والمشي إلى المساجد وانتظار الصلاة والترهيب من ترك الجماعة، وبعض الأعذار التي تبيح ترك الجماعة - فضل صلاة الجماعة: 1488 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم (وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهوداً) (2). قال البخاري (3): قال شعيب: وحدثني نافع عن ابن عمر "تفضلها بسبع وعشرين". وفي رواية لمسلم (4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة من صلاة الفذ". وفي أخرى (5) له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده". قال الحافظ: وطريق شعيب هذه موصولة، وجوز الكرماني أن تكون معلقة وهو بعيد بل هي معطوفة على الإسناد الأول والتقدير حدثنا أبو اليمان، قال شعيب: ونظائر هذا في الكتاب كثيرة اهـ (فتح 2/ 137).
وقال (2/ 132): قوله (بسبع وعشرين درجة): قال الترمذي: عامة من رواه قال خمسة وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال سبعاً وعشرين، ثم قال ابن حجر بعد كلام: فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع .. واختلف في أيهما أرجح فقيل رواية الخمس لكثرة روايتها وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ اهـ. وقد حاول البعض أن يوفق بين روايتي الخمس والسبع فذكروا وجوهاً منها: أن القليل لا ينفي الكثير، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بالسبع، أو الفرق بقرب المسجد وبعده أو الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع أو بإيقاعها في المسجد أو في غيره أو في انتظار الصلاة. ورجح ابن حجر أن السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية ذلك أنه ساق عن العلماء خمساً وعشرين فضيلة جعلت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ وزادها اثنتين للصلاة الجهرية، وهذه الفوائد هي: قال: إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، والتبكير إليها في أول الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعياً، وصلاة التحية عند دخول كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة، سادسها: انتظار الجماعة، سابعها: صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، ثامنها: شهادتهم له، تاسعها: إجابة الإقامة، عاشرها: السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة، حادي عشرها: الوقوف منتظراً إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها، ثاني عشرها: إدراك تكبيرة الإحرام كذلك، ثالث عشرها: تسوية الصفوف وسد فرجها، رابع عشرها: جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده، خامس عشرها: الأمن من السهو غالباً وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه، سعشرها: حصول الخشوع والسلامة عما يلهي غالباً، سابع عشرها: تحسين الهيئة غالباً، ثامن عشرها: احتفاف الملائكة به، تاسع عشرها: التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون: إظهار شعائر الإسلام، الحادي والعشرون: إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، الثاني والعشرون: السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه ترك الصلاة رأساً، الثالث والعشرون: رد السلام على الإمام، الرابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص، الخامس
والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات. فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية. اهـ (الفتح 2/ 132 - 134) وتعقب أن في هذا نظراً ورجح بعضهم أن ذلك من زيادة فضل الله ... 1489 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة". وفي رواية (2) نحوه، إلا أن فيه "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه" وزاد في دعاء الملائكة "اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه". وفي رواية (3) الموطأ قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج عامداً إلى الصلاة، فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى صلاة، وإنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة، ويمحى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسع، فإن أعظمكم أجراً أبعدكم داراً، قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخطا. 1490 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". وللبخاري (1) أيضاً قال: " [لا يزال] أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يقم من مصلاه، أو يحدث". وله في أخرى (2) قال: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة، ما لم يحدث" فقال رجل أعجمي، ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت- يعني الضرطة. ولمسلم (3) قال: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، وأحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه". وفي أخرى (4): "لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يحدث، قلت: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط". 1491 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة في الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها، بلغت خمسين". أقول: هذا التضعيف في حق من كان يصلي في الحضر جماعة فله هذا التضعيف في الفلاة
إن صلاها بحسب الإمكان جماعة أو منفرداً. قال في عون المعبود (1/ 6220). والمعنى يحصل له أجر خمسين صلاة وذلك يحصل له في الصلاة مع الجماعة لأن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود الشمقة فإذا صلاها منفرداً لا يحصل له هذا التضعيف وإنما يحصل له إذا صلاها مع الجماعة خمسة وعشرين لأجل أنه صلاها مع الجماعة وخمسة وعشرون أخرى للتي هي ضعف تلك لأجل أنه أتم ركوع صلاته وسجودها وهو في السفر الذي هو مظنة التخفيف قاله العيني وفي "النيل" قوله فإذا صلاها في فلاة هو أعم من أن يصليها منفرداً أو في جماعة قال ابن رسلان: لكن حمله على الجماعة أولى وهو الذي يظهر من السياق انتهى قال الشوكاني: والأولى حمله على الانفراد. وجاء في (حاشية الفتح 2/ 134): وإنما يجب حمل هذا النص على من صلى في الفلاة حسب طاقته من غير ترك للجماعة عند إمكانها فأتم ركوعها وسجودها مع كونه خالياً بربه بعيداً عن الناس فشكر الله له هذا الإخلاص والاهتمام بأمر الصلاة فضاعف له هذا التضعيف. 1492 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "جاء رجل وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيكم يتجر على هذا؟ فقام رجل فصلى معه". وفي رواية (2) أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: "ألا رجل
يتصدق على هذا فيصلي معه؟ ". 1493 - * روى مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله". وفي رواية الموطأ (2) قال: "جاء عثمان إلى صلاة العشاء، فرأى أهل المسجد قليلاً، فاضطع في مؤخر المسجد ينتظر الناس أن يكثروا، فأتاه ابن أبي عمرة فجلس إليه، فسأله: من هو؟ فأخبره فقال: ما معك من القرآن؟ فأخبره، فقال له عثمان: من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة". وفي رواية الترمذي (3) وأبي داود (4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة". قال في المنتقى (1/ 232): اضطجاع عثمان بن عفان رضي الله عنه في مؤخر المسجد ينتظر الناس ليكثروا من أدب الأئمة ورفقهم بالناس وانتظارهم الصلاة إذا تأخروا وتعجيلها إذا اجتمعوا وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك في صلاة العشاء. وقوله فأتاه ابن أبي عمرة فجلس إليه يحتمل أن يكون جلس إليه ليقتبس منه علماً أو يقتدي به في عمل أو يسأله حاجة فسأله عثمان رضي الله عنه من هو وما معه من القرآن وهذا اهتمام من الأئمة بأحوال الناس وبما يحصل معهم من العلم والقرآن ويعرف منازلهم بذلك وهذا مما ينظر الناس إليه وإخبار عثمان له بما كان عنده م العلم في صلاة العشاء وصلاة
الصبح لما رآه أهلاً لذلك ولما رجا أن ينشط بذلك على المواظبة عليها وهذا يدل على أن حضور الجماعة ليس بفرض على الأعيان لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى بينه وبين النوافل ولا يعدل الفرض النفل ولا يساويه ألا ترى أن من ترك صلاة فرض لا يجزئ عنه قيام ليلة اهـ. وقوله كقيام ليلة: أي كأجر قيامها، وجعل بعضهم حديث مسلم على ظاهره وأن جماعة العتمة توازي في فضيلتها قيام نصف ليلة وصلاة الصبح في جماعة توازي في فضيلتها قيام ليلة واللفظ الذي خرجه أبو داود ويبين أن المراد بقوله ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله يعني ومن صلى الصبح والعشاء، وطرق هذا الحديث مصرحة بذلك وإن كل واحد منهما يقوم مقام نصف ليلة وإن اجتماعهما يقوم مقام ليلة اهـ (عون المعبود 1/ 218). 1494 - * روى مالك عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وأن عمر غدا إلى السوق، ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي، فغلبته عيناه فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة". 1495 - * روى أحمد عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح، فلما سلم قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة،
ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل". 1496 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى أربعين يوماً في جماعة، لم تفته التكبيرة الأولى كتب الله له براءتين: براءة من النار، وبراءة من النفاق". قال صاحب "المنتقى" تعليقاً على حديث: (بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح) هذا الحديث يدل على أن الذين كانوا يتخلفون عن الصلاة- إذ هم أن يحرق بيوتهم- المنافقون وأن بحضور هاتين يتميز المؤمن من المنافق. 1497 - * روى الطبراني في الكبير عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه". 1498 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة
يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، وحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف". 1499 - * روى أحمد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا عليه بالإيمان. قال الله: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" (1). 1500 - * روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلة آت من ربي- وفي رواية: أتاني ربي- في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي- أو قال: في نحري- فعلمت ما في السموات وما في الأرض- أو قال: ما بين المشرق والمغرب- قال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في
الدرجات والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، فقال: إذا صليت، فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام". 1501 - * روى أحمد بن معاذ بن جبل أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلس في بيت من بيوت أزواجه وعائشة عنده فدخل عليه نفر من اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد قال: "وعليكم فجلسوا فتحدثوا وقد فهمت عائشة تحيتهم التي حيوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فاستجمعت غضباً وتصبرت فلم تملك غيظها فقالت: بل عليكم السام وغضب الله ولعنته بهذا تحيون نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما قلت؟ قالت أولم تسمع كيف حيوك يا رسول الله والله ما ملكت نفسي حين سمعت تحيتهم إياك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا جرم كيف رأيت رددت عليهم إن اليهود قوم سئموا دينهم وهم قوم حسد ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: رد السلام وإقامة الصفوف وقولهم خلف إمامهم في المكتوبة آمين". 1502 - * روى مالك عن مولى ابن عمر- رضي الله عنهم "أن ابن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع، فأسرع المشي إلى المسجد".
1503 - * روى البخاري عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: "دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ قال: والله، ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً". قال في (الفتح 2/ 138): ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فياليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟ وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع اهـ. 1504 - * روى الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل ليعجب من الصلاة في الجميع". 1505 - * روى الطبراني عن أبي بكرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم". 1506 - * روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: "من صلى المغرب أو الصبح، ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما". 1507 - * روى مالك عن بسر بن محجن عن أبيه محجن "أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ورجع ومحجن في مجلسه، فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تصلي مع الناس، ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله، ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جئت المسجد وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصلِّ مع الناس وإن كنت قد صليت". قال في (المنتقى 1/ 132): قوله عليه السلام ألست برجل مسلم يحتمل معنيين، أحدهما الاستفهام، والثاني التوبيخ وهو الأظهر والله أعلم أنه إنما ذهب إلى توبيخه على ترك الصلاة مع الجماعة التي لا يتركها مسلم وإنما تركها من علامات المنافق ولا يقتضي قوله ذلك أن من لم يصل مع الناس فليس بمسلم وهذا لا يقوله أحد وإنما ذلك كما يقول القائل لمن علم أنه قرشي مالك لا تكون كريماً ألست بقرشي لا يريد بذلك نفيه عن قريش وإنما يوبخه على أنه قد ترك أخلاق قريش. أقول: الصلاة الثانية تكون نافلة، ولذلك فإن الفقهاء الذين لا يرون التنفل بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، ولا يرون التنفل بالثلاثية كالحنفية مثلاً لا يرون أن يعيد الإنسان إحدى هذه الصلوات الثلاث بعد أن يكون قد صلاها، ولو دخل المسجد فأقيمت الصلاة. 1508 - * روى أحمد عن رجل من بني الديل قال خرجت بأباعر لي لأصدرها إلى الراعي فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس الظهر فمضيت فلم أصل معه فلما أصدرت أباعري ورجعت ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "يا فلان ما منعك أن تصلي معنا حين مررت بنا؛ فقلت: يا رسول الله إني كنت قد صليت في بيتي. قال: وإن". 1509 - * روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رجلاً سأله فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة في المسجد مع الإمام، أفأصلي معه؟ قال له: نعم، قال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: أو ذلك إليك؟ إنما ذلك إلي الله عز وجل، يجعل أيتهما شاء".
مسألة: إذا أعاد المسلم الصلاة فأيهما الفرض وهل تجوز الإعادة ومتى؟
مسألة: إذا أعاد المسلم الصلاة فأيهما الفرض وهل تجوز الإعادة ومتى؟ 1 - ما هي الصلوات التي تجوز إعادتها؟ قال أبو حنيفة باستحباب الإعادة لمن صلى في بيته منفرداً في الظهر والعشاء فقط واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: 1510 - * روى مالك عن نافع عن ابن عمر "من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما". ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما: 1511 - * روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس". واستدل على استحباب إعادة الظهر والعشاء لمن صلى منفرداً بالحديث السابق ذكره عن رجل من بني الديل. 2 - ثم أيتهما النافلة وأيتهما الفريضة؟ فمذهب الحنفية أن المعادة هي النافلة، وقال الشافعي في القديم أن الأولى هي النافلة والفريضة الثانية. استدل أبو حنيفة بما: 1512 - * روى الترمذي عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب فلما صلى فإذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما
ترعد فرائصهما، فقال ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا، فقال لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة. وفي رواية لأبي حنيفة اخرجها محمد في الآثار: واجعلوا الأولى فريضة وهذه نافلة. وطعن الشافعي في هذا الحديث بأن (في) إسناده مجهولاً، واستدل ببعض النصوص منها ما رواه الدارقطني: (وليجعل التي صلى في بيته نافلة) لكن ضعفها النووي والدارقطني. ويؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة ما. 1513 - * روى مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة فصل الصلاة لوقتها فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة وأحرزت صلاتك". ويوضحها ما روي (2) بلفظ: صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة. انظر (إعلاء السنن 4/ 253 - 255 و 4/ 273 - 274). وقال في المنتقى (1/ 133) تعليقاً على حديث ابن عمر الذي معنا: (قال ابن حبيب معناه أن الله يعلم التي تقبلها منه فأما على وجه الاعتداد بها فهي الأولى وهذا يقتضي أني صلي الصلاتين بنية الفرض ولو صلى أحدهما بنية النفل لم يشك أن الأخرى هي فرضه وقد اختلف قول مالك فيمن صلى وحده ثم صلى مع الإمام فروي عنه أن الأولى فرض والثانية نفل وروي عنه أنه قال لا تدري وذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء فرضه والقولان في هذه المسئلة مبنيان على صحة رفض [أي إلغاء] الصلاة بعد تمامها فإذا قلنا لا يصح ذلك فالأولى فرضه على كل حال وإذا قلنا يصح رفضها جاز أن يقال بالقول الثاني والله أعلم) اهـ.
3 - هل الإعادة مختصة بمن صلى منفردا أولا أم لا؟.
3 - هل الإعادة مختصة بمن صلى منفرداً أولاً أم لا؟. قال التهانوي: واعلم أن إعادة الصلاة في جماعة تختص بمن كان صلى منفرداً ثم أدرك الجماعة، وأما من صلى بجماعة ثم أدرك جماعة أخرى، فلا تستحب له الإعادة، ففي نيل الأوطار: قال ابن عبد البر: قال جمهور الفقهاء: إنما يعيد الصلاة مع الإمام في جماعة من صلى وحده في بيته أو في غير بيته، وأما من صلى في جماعة وإن قلَّت، فلا يعيد في أخرى قلت أو كثرت، ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية له، وهذا لا يخفى فساده. قال: وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم اهـ (2: 341) قال الشيخ: ووجه ذلك أن هذه الإعادة خلاف القياس، فإن من صلى مرة فرغت ذمته، فما معنى الإعادة؟ ولكن قيل به لورود النص، فيراعى كل ما ورد به، والنص قد ورد فيمن صلى في رحله، والانفراد فيه أظهر، فإن الجماعة في البيت نادرة (لا سيما وقد ورد في رواية "إذا صلى أحدكم في بيته ثم دخل المسجد والقوم يصلون" كذا في مجمع الزوائد (1: 160) فهو صريح في الانفراد)، فلذا لم يجوزه جمهور الأئمة لمن صلى جماعة لأن النص لم يرد فيه اهـ. قلت: ويستثنى منه من صلى بجماعة ثم رأى أحداً يصلي وحده، فيستحب له الاقتداء به، فإنهم قد أجمعوا على ذلك كما تقدم عن ابن الرافعة، ودليله حديث أبي سعيد ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه، فتذكر. اهـ إعلاء السنن (4/ 55). 1514 - * روى الطبراني عن أبي أيوب أنه كان يخالف مروان بن الحكم في صلاته فقال له مروان: ما يحملك على هذا؟ قال إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة إن وافقته وافقتك وإن خالفته صليت وانقلبت إلى أهلي. - فضل المشي إلى المسجد والجماعات: 1515 - * روى البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى
المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح". 1516 - * روى أبو داود عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". 1517 - * روى الطبراني عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة". 1518 - * روى الطبراني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة". 1519 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تطهر في بيته، ثم مضي إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة". 1520 - * روى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال: "من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى- لا ينصبه إلا ذلك- كان أجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة، لا لغو بينهما كتاب في عليين".
1521 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأبعد فالأبعد من المسجد: أعظم أجراً". 1522 - * روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له- أو قلت له- لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء؟ قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جمع الله لك كله" وفي رواية (3) نحوه، وفيها فتوجعت له، فقلت له: يا فلان، لو أنك اشتريت حماراً يقيك الرمضاء وهوام الأرض؟ قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فحملت به حملاً حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعاه، فقال له مثل ذلك، فذكر أنه يرجو أثر الأجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن ذلك لك ما احتسبت". وفي رواية (4) أبي داود قال: فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله، فقال: أردت يا رسول الله أن يكتب لي إقبالي إلى المسجد، ورجوعي إلى أهلي، فقال: "أعطاك الله ذلك كله، أنطاك الله ما احتسبت كله أجمع". قوله: (ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم)، قال النووي: أي ما أحب أنه مشدود بالأطناب وهي الحبال إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم بل أحب أن يكون بعيداً منه لتكثير ثوابي وخطاي إليه، وقوله (فحملت به حملاً ..) قال القاضي معناه أنه عظم علي وثقل واستعظمته لبشاعة لفظه وهمني ذلك وليس المراد به الحمل على الظهر. وقوله (ورجوعي
إلى أهلي): فيه إثبات الثواب في الخطا في الرجوع من الصلاة كما يثبت في الذهاب. (شرح مسلم 5/ 168). 1523 - * روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة، دياركم، تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا" وفي رواية (2) بمعناه، وفي آخره "إن لكم بكل خطوة درجة". 1524 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم، فكره رسول الله أن تعرى المدينة، فقال: ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا". 1525 - * روى أحمد عن أبي عشانة أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يحدث: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه- أو كاتباه- بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى للصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حيث يخرج من بيته حتى يرجع". 1526 - * روى الطبراني عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ في بيته فأحسن
الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر". 1527 - * روى البزار عن أبي هريرة قال: طعم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت العباس أو في بيت حمزة فقال: "ليتخوضن ناس من أمتي على ما أفاء الله على رسوله لا يكن لهم حظ غيره وكفارات الخطايا: إسباغ الوضوء وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة". 1528 - * روى البزار عن جابر أن بني سلمة قالوا يا رسول الله أنبيع دورنا ونتحول إليك فإن بيننا وبينك وادياً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثبتوا فإنك أوتادها وما من عبد يخطو إلى الصلاة خطوة إلا كتب الله له بها أجراً". 1529 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن عمرو: أن عبد الله بن عمرو مر بمعاذ بن جبل وهو قائم على بابه يشير بيده كأنه يحدث نفسه، فقال له عبد الله: ما شأنك يا أبا عبد الرحمن تحدث نفسك؟ قال: وما لي أيريد عدو الله أن بلهيني عن كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكابد دهرك الآن في بيتك ألا تخرج إلى المجلس فتحدث"، فأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جاهد في سبيل الله كان ضامناً على الله، ومن عاد مريضاً كان ضامناً على الله، ومن غدا إلى المسجد أو راح كان ضامناً على الله، ومن دخل على إمام يعوده كان ضامناً على الله، ومن جلس في بيته لم يغتب أحداً بسوء كان ضامناً على الله" فيريد عدو الله أن يخرجني من بيتي إلى المجلس".
- فضل انتظار الصلاة
- فضل انتظار الصلاة: 1530 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر اصلاة حتى يصليها مع الإمام: أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام". 1531 - * روى أحمد عن أبي هريرة رفعه: "منتظر الصلوة بعد الصلوة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كشحه وهو في الرباط الأكبر". 1532 - * روى أحمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم، إذا قدم عليهم". 1533 - * روى أحمد عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته".
- الترهيب من ترك الصلاة لوقتها والترهيب من ترك الجماعة
- الترهيب من ترك الصلاة لوقتها والترهيب من ترك الجماعة: 1534 - * روى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة، زاد رزين "وإن ذئب الإنسان: الشيطان، إذا خلا به أكله". 1535 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وفي رواية (3) نحوه، وقال في آخره: "فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة يقدر".
ولمسلم (1) وأبي داود (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد همت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، فأحرقها عليهم" قيل ليزيد- هو ابن الأصم-[يا أبا عوف]: الجمعة عني، أو غيرها؟ قال: صمتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر جمعة ولا غيرها. أقول: دل النص على أن من به عاهة وكان عاجزاً تسقط عنه صلاة الجماعة، وذكر الفقهاء أن الجمعة كالجماعة ههنا. 1536 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلاً دعا الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه وهم يدعون إلي هذه الصلاة في جماعة فلا يأتونها، لقد هممت أن آمر رجلاً أن يصلي بالناس في جماعة ثم أنصرف إلى قوم سمعوا النداء فلم يجيبوا فأضرمها عليهم ناراً إنه لا يتخلف عنها إلا منافق". 1537 - * روى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء الآخرة في الجميع أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب".
1538 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال من سمع حي على الفلاح فلم يجب فقد ترك سنة محمد صلى الله عليه وسلم. 1539 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمر: "كنا إذا فقدنا الإنسان في صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا به الظن". 1540 - * روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها، حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، فقال رجل: يا رسول الله، أصلي معهم؟ قال: "نعم" وفي رواية (4) "إن أدركتها أصليها معهم"؟ قال: "نعم إن شئت". أقول: في هذا النص أبلغ رد على ناشئة نشأت في دار الإسلام يرون جواز الجمع بين صلاتين من غير عذر يبيح الجمع فخالفوا بذلك إجماع المسلمين الذي انعقد قبل وجود المخالف. 1541 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم، فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة".
1542 - * روى أحمد عن أبي علي المصري قال سافرنا مع عقبة بن عامر الجهني فحضرتنا الصلاة فأردنا أن يتقدمنا قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أم قوماً فإن أتم فله التمام ولهم التمام وإن لم يتم فلهم التمام وعليه الإثم". 1543 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". 1544 - * روى البزار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين قالوا يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يكون بعدي- أو بعدكم- قوم سفلتهم مؤذنوهم". قال في النهاية: أراد بالضمان ها هنا الحفظ والرعاية، لا ضمان الغرامة لأنه يحفظ عليهم صلاتهم وقيل إن صلاة المقتدين به في عهدته وصحتها مقرونة بصحة صلاته فهو كالمتكفل لهم صحة صلاتهم. أقول: وهذا القول هو مذهب الحنفية. 1545 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
- بعض الأعذار التي تبيح ترك الجماعة
أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" قال حماد: ثم لقيت عمرو بن دينار فحدثني به، ولم يرفعه. 1546 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو الشعثاء: "كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام رجل يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد. فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". 1547 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: خرج رجل بعد ما أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ثم قال أمرنا رسول الهل صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي". 1548 - * روى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق". - بعض الأعذار التي تبيح ترك الجماعة: 1549 - * روى ابن ماجه عن أبي المليح: قال: خرجت في ليلة مظلمة إلى المسجد صلاة العشاء، فلما رجعت استفتحت، فقال أبي: من هذا؟، قالوا: أبو مليح، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وأصابتنا سماء لم تبل أسفل نعالنا، فنادى
منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن صلوا في رحالكم". أقول: في النص دليل على أن المطر يبيح ترك الجماعة. 1550 - * روى أبو داود عن ابن عمر قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فكانت ليلة ظلماء أو ليلة مطيرة أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نادى مناديه: أن صلوا في رحالكم. أقول: في النص دليل على أن شدة الظلمة تبيح ترك الجماعة، ومن صلى جماعة كان له مزيد فضل. 1551 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر- قال: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى". 1552 - * روى أبو داود عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الله بن الأرقم كان يسافر، فيصحبه قوم يقتدون به، قال: وكان يؤذن لأصحابه ويؤمهم. قال: فنودي بالصلاة يوماً، ثم قال: يؤمكم أحدكم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم الخلاء وأقيمت الصلاة فليبدأ بالخلاء". أقول: دل النص على أن من كان يدافعه الأخبثان البول أو الغائط ومثل ذلك الريح المؤذية فإن له ترك الجماعة ليتخفف ويتوضأ ويصلي مرتاحاً.
1553 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال أتى ابن أم مكتوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن منزلي شاسع وأنا مكفوف البصر وأنا أسمع الأذان قال: "فإن سمعت الأذان فأجب ولو حبواً أو زحفاً". 1554 - * روى أحمد عن نعيم بن النحام قال نودي بالصبح في يوم بارد وأنا في مرط امرأتي فقلت ليت المنادي قال ومن قعد فلا حرج فإذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أذانه قال ومن قعد فلا حرج. 1555 - * روى أبو داود عن ابن أم مكتوم قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟ قال: "تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ " قال: نعم، فقال: "فحي هلا"، ولم يرخص. 1556 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له؟ فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء
بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب". 1557 - * روى مالك عن محمود بن الربيع الأنصاري "أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة والمطر والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أين تحب أن أصلي؟ فأشار له إلى مكان من البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم". أقول: الذي استقر عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه الفقهاء أن الأعمى الذي لا يجد قائداً يرخص له في ترك الجماعة، إلا أن الفقهاء اختلفوا في الأعمى الذي يجد قائداً هل تسقط عنه صلاة الجماعة أو لا تسقط، قال أبو حنيفة تسقط عنه صلاة الجماعة لأن القادر بقدرة الغير لا يعتبر قادراً. 1558 - * روى الطبراني عن عنبسة بن الأزهر قال تزوج الحارث بن حسان وكانت له صحبة وكان الرجل إذ ذاك إذا تزوج تخدر أياماً فلا يخرج لصلاة الغداة فقيل له أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الليلة؟ قال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء".
الفقرة الثانية أحكام الإمام والمأموم
الفقرة الثانية أحكام الإمام والمأموم - الأحق بالإمامة: 1559 - * روى مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" وفي رواية (2) "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله، ولا في سلطانه" وذكر الباقي. قال النووي في (شرح مسلم 5/ 172): فيه دليل لمن يقول بتقديم الأقرأ على الأفقه وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وبعض أصحابنا وقال مالك والشافعي وأصحابهما الأفقه مقدم على الأقرأ لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه قالوا ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحاية كان هو الأفقه لكن في قوله فإن كانوا في القراءة سواء أعلمهم بالسنة دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً. وقال (5/ 173): قوله صلى الله عليه وسلم "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" معناه ما ذكره أصحابنا وغيرهم أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه وصاحب المكان أحق فإن شاء تقدم وإن شاء قدم من
يريده وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة إلى باقي الحاضرين لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء قال أصحابنا فإن حضر السلطان أو نائبه قدم على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما لأن ولايته وسلطنته عامة قالوا ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. أقول: إن الذين قدموا الأعلم على الأقرأ في الإمامة- كالحنفية مثلاً- ربطوا العلم بالقراءة في العصر الأول، فكان الأعلم هو الأقرأ، وقد كان الصحابة يأخذون القرآن والعلم والعمل، فلما تخلف العلم بالقرآن عن حفظه، قدم الحنفية الأعلم لأنه هو الذي يستطيع أن يأتي بالصلاة على وجهها ويكفيه أن يحفظ شيئاً من القرآن وأن يتقن تلاوة ما يحفظ فلو سبقه إنسان بالحفظ فإنه لا يقدم عليه، والعبرة العلم بالإسلام عامة كي لا يكون على بدعة، وبأحكام الصلاة خاصة كي لا يأتي ناقضاً أو مكروهاً أو يترك ركناً. 1560 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة: أقرؤهم". 1561 - * روى أحمد عن عمرو بن سلمة قال: كان يأتينا الركبان من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليؤمكم أكثركم قرآناً". 1562 - * روى الطبراني عن إبراهيم قال: أتى عبد الله أبا موسى فتحدث عنده فحضرت الصلاة فلما أقيمت تأخر أبو موسى فقال له عبد الله: أبا موسى لقد علمت أن من السنة أن يتقدم صاحب البيت فأبى أبو موسى حتى تقدم مولى لأحدهما". 1563 - * روى الشيخان عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: "أتينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، وظن أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا؟ فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ومرهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". وللبخاري "وصلوا كما رأيتموني أصلي" ولمسلم (1) مختصراً قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فقال لنا: إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما". وفي أخرى (2) له نحوه قال: "أتاه رجلان يريدان السفر- زاد في رواية (3) - قال: وكانا متقاربين في القراءة". وفي رواية (4) النسائي مختصراً قال: قال: "أتيت أنا وابن عم لي- وقال مرة: أنا وصاحب لي- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما". وفي رواية الترمذي (5) وأبي داود (6) هذه المختصرة: قال الترمذي: "أنا وابن عم لي". وفي أخرى (7) لأبي داود زيادة: قال: "وكنا متقاربين في العلم". قال النووي في (شرح مسلم 5/ 175): فيه الحث على الآذان والجماعة وتقديم الأكبر في الإمامة إذا استووا في باقي الخصال وهؤلاء كانوا مستوين في باقي الخصال لأنهم هاجروا جميعاً وأسلموا جميعاً وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازموه عشرين ليلة فاستووا في الأخذ عنه ولم يبق ما يقدم به إلا السن واستدل جماعة بهذا على تفضيل الإمامة على الأذان لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "يؤذن أحدكم" وخص الإمامة بالأكبر وفيه أن الأذان والجماعة مشروعان للمسافرين وفيه الحث على المحافظة على الأذان في الحضر والسفر وفيه أن الجماعة تصح بإمام ومأموم وهو
إجماع المسلمين وفيه تقديم الصلاة في أول الوقت. اهـ. وقال في (فتح الباري 2/ 172): وفي الحديث أيضاً فضل الهجرة ولارحلة في طلب العلم وفضل التعليم، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها من أمور الدين، وإجازة خبر الواحد وقيام الحجة به اهـ. فائدة: قال ابن حجر في (الفتح 2/ 171): اقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم دون قصد التعليم هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بتصريح القول منه صلى الله عليه وسلم وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة صادق شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين وهو أهلية التعليم كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث: حظ وافق حقاً. اهـ. أقول: إن مراعاة النفس البشرية في المباحات من سياسات النبوة فكل عالم ينبغي أن يراعي النفس البشرية في المباح ويندبها إلى العزائم على أن لا يحملها على عزيمة تسبب فترة، فالإغراق في المباحات قد يؤدي إلى قسوة قلب كما أن حمل الناس على العزائم ومخالفة النفوس قد يؤدي إلى عكس المراد. 1564 - * روى أبو داود عن أبي عطية العقيلي قال: "كان مالك بن الحويرث يأتينا إلى مصلانا يتحدث، فحضرت الصلاة يوماً، قال أبو عطية، فقلنا له: تقدم فصله، قال لنا: قدموا رجلاً منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لم لا أصلي بكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم". أقول: في النص دليل على قضية سياسية هامة وهي مراعاة أن يكون لكل ولاية إسلامية أميرها ووزراؤها الذين هم من أهلها إذا وجدت الكفاءة والثقة، وهذا المعنى يلحظ في الولايات الأصغر ما أمكن لأن الأصل أن يبعث لكل قوم رسول منهم لأن ذلك أدعى
لمعرفة طبيعتهم ولأن يستسلموا له أكثر من الغريب عنهم، أما عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهذه خصوصية خص بها من بين الرسل، وأما تأمير الصحابة على الأنصار، فلفضل الصحبة، ولأن البلدان المفتوحة لم يكن يوجد من أهلها من فقه وقوي على تدبير أمور أهلها بالإسلام، وعلى هذا فينبغي لدعاة الإسلام أني حرصوا أن يكون لكل قطر مؤسساته الاصة به وأمراؤه الذين هم من أهله، ومهما استطعنا أن نعمم ذلك فيما دون ذلك فعلينا أن نفعل ما لم تترتب على ذلك مفسدة محققة أو تفوتنا بذلك مصلحة محققة. 1565 - * روى البخاري عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: "كنا بما ممر الناس، يمر بنا الركبان نسألهم: ما للناس، ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يغرى في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: ارتكوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست، أو سبع سنين، وكانت علي بردة، كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا عنا است قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص". أقول: لا يجيز فقهاء الحنفية ومن وافقهم أني صلي غير البالغ إماماً بالبالغين لأنه غير مكلف، وهم مكلفون، ولا يعتبرون هذه الحادثة دليلاً لجواز صلاة الصبي بالبالغين، لأنه من تصرف القوم بناءً على نص عام مخصص بنصوص أخرى.
1566 - * روى الترمذي عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم نفر، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ماذا معك من القرآن"؟ فاستقرأهم، حتى مر على رجل منهم وهو من أحدثهم سناً، قال: "ماذا معك يا فلان" قال: معي كذا وكذا، سوورة البقرة. قال: "معك سورة البقرة"؟ قال: نعم. قال: "اذهب فأنت أميرهم". فقال رجل هو من أشرفهم- والذي كذا وكذا يا رسول الله ما منعني أن أتعلم القرآن إلا خشية أن لا أقوم به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلم القرآن، فاقرأه وارقد، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه على كل مكان، ومن تعلمه ورقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ على مس". 1567 - * روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة- موضعاً بقباء- قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا" وفي رواية (3) "لما قدم المهاجرون الأولون المدينة كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وفيهم عمر، وأبو سلمة بن عبد الأسد" وفي أخرى (4) نحوه وفيه "وفيهم عمر، وأبو سلمة، وزيد وعامر بن ربيعة". - الصلاة خلف البر والفاجر. 1568 - * روى البخاري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار "أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام العامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج من الصلاة معه؟ فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم".
- من أم قوما وهم له كارهون
- من أم قوماً وهم له كارهون: 1569 - * روى الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخ، وإمام قوم وهم له كارهون". أقول: العبرة في كراهة إمامة إنسان كراهة العدول لإمامته. - إمامة العبد. 1570 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها "كان يؤمها عبدها ذكوان من المصحف". وقال الحافظ في "الفتح": وصله ابن أبي داود في "كتاب المصاحف" من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف، ووصله ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة أنها أعتقت غلاماً لها عن دبر فكان يؤمها في رمضان في المصحف، ووصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق أخرى عن ابن أبي مليكة أنه كان يأتي عائشة بأعلى الوادي هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وهو يومئذ غلام لم يعتق، وأبو عمرو المذكور هو ذكوان، وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئاً وهم لا يقرؤون، فيؤمهم، إلا في الجمعة لأنها لا تجب عليه، وخالفه أشهب، واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. أقول: أجاز بعض العلماء كبعض الحنابلة أن يقرأ الإمام من المصحف وهو يؤم القوم، بأن يمسكه أو يضعه في مكان يستطيع أني قرأ فيه، وخالفهم في ذلك الجمهور ومنهم الحنفية واعتبروا أن ذلك مذهب لصحابي، ومذهب الصحابي إذا لم يكن إجماعاً لا يعتبر حجة ملزمة.
- إمامة الأعمى
- إمامة الأعمى: 1571 - * روى أبو داود عن أنس قال: "استخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى". أقول: هذا دليل لمن ذهب إلى أنه لا كراهة في إمامة الأعمى وقيد بعضهم عدم الكراهة بأن يكون عالماً يحتاط لنظافته وطهارته. 1572 - * روى أبو يعلى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة يصلي بالناس. 1573 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمير إمام بني خطمة أنه كان إماماً لبني خطمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعمى وغزا معه وهو أعمى. - إمامة النساء: 1574 - * روى ابن خزيمة عن أم ورقة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "انطلقوا بنا نزور الشهيدة". وأذن لها أن يؤذن لها، وأن تؤم أهل دارها في الفريضة، وكانت قد جمعت القرآن. أقول: هذا النص محمول على الإذن للمرأة أن تؤم النساء، ولا يجوز باتفاق العلماء أن تؤم الرجال، وفي النص دليل على جواز جماعة النساء، وتقف المرأة التي تؤمهن في وسطهن بينهن متقدمة عليهن قليلاً لأن ذلك أكثر ستراً وأبعد عن التشبه بالرجال، وممن نص على ذلك فقهاء الحنفية.
- تخفيف الإمام الصلاة على العامة
- تخفيف الإمام الصلاة على العامة: 1575 - * روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم أتى قومه فأمهم، فافتتح بـ (سورة البقرة)، فانحرف رجل فسلم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بـ (سورة البقرة)، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ، فقال: يا معاذ، أفتان أنت؟ اقرأ بكذا، واقرأ بكذا، قال سفيان: فقلت لعمرو [بن دينار]: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: اقرأ (والشمس وضحاها) (والضحى) (والليل إذا يغشى) و (سبح اسم ربك الأعلى) فقال عمرو نحو هذا"، وفي رواية (2) للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". وفي رواية (3) لأبي داود قال: فقال: "يا معاذ لا تكن فتاناً، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمسافر". أقول: لا يجيز فقهاء الحنفية ومن وافقهم أن يصلي المتنفل إماماً بالمفترض، وأجازه آخرون، وحمل فقهاء الحنفية هذا النص على أنه إما منسوخ وإما أن معاذاً وهو العالم الفقيه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية النافلة، ويصلي فريضته إماماً بقومه. قال في "إعلاء السنن": قال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": اختلف الفقهاء في جواز اختلاف نية الإمام والمأموم على مذاهب، أوسعها الجواز مطلقاً، فيجوز أن يقتدي المفترض بالمتنفل وعكسه، والقاضي بالمؤدي وعكسه سواء اتفقت الصلاتان أم لا إلا أن
تختلف الأفعال الظاهرة، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. الثاني مقابله وهو أضيقها أنه لا يجوز اختلاف النيات حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض، والثالث أوسطها أنه يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض لا عكسه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك رحمهما الله، ومن نقل عن مذهب مالك مثل المذهب الثاني فليس بجيد فليعلم ذلك اهـ (2: 59). قلت أي صاحب الإعلاء وخير الأمور أوساطها. قال الزيلعي: وبقولنا قال أحمد ومالك اهـ (2: 52). وقال أحمد في رواية بما قال الشافعي: كذا في عمدة القارى (2: 773). واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بما أخرجه البخاري ومسلم عن جابر "أن معاذاً كان يصلي مع رسول الله صلى الله علي وسلم عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة" لفظ مسلم. ولأصحابنا عنه أجوبة أحدها أن الاحتجاج به من باب ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم، وشرط ذلك علمه بالواقعة، وجاز أن لا يكون علم بها، ويدل عليه ما رواه أحمد في مسنده عن معاذ بن رفاعة عن سليم رجل من بني سلمة "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام، ونكون في أعمالنا بالنهار، فينادي بالصلاة فنخرج إليه، فيطول علينا، فقال له عليه السلام: "يا معاذ! لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك"، فدل على أنه كان يفعل أحد الأمرين في علمه، ولم يكن يجمعهما، لأنه قال: "إما أن تصلي معي" أي ولا تصل بقومك، "وإما أن تخفف على قومك" أي ولا تصل معي. وقال الشيخ ابن تيمية في المنتقى: وقوله عليه السلام: "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك" ظاهر في منع اقتداء المفترض بالمتنفل، لنه يدل على أنه متى صلى معه امتنعت إمامته لقومه، وبالإجماع لا يمتنع إمامته بصلاة النفل معه، فعلم أنه أراد به صلاة الفرض، وأن الذي كان يصليه معه كان ينويه نفلاً، كذا في نصب الراية للزيلعي (2: 53). وفي كلام الشيخ ابن تيمية إشارة إلى احتمال آخر هو أن يكون معاذ كان يجعل صلاته معه عليه السلام نفلاً ليتعلم سنة القراءة، وأفعال الصلاة. وأجاب الحافظ في الفتح (2/ 197) عن الاحتمال الأول بأن للمخالف أن يقول بل التقدير إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي وهو أولى من التقدير الأول ورد العيني على
ابن حجر هذا الاحتمال اهـ ثم في الموضوع نقاش طويل انظره في (الفتح 2/ 196 - 197)، (إعلاء السنن 4/ 257 - 264). وسئل أحمد عن رجل صلى في جماعة أيؤم بتلك الصلاة؟ قال: لا، ومن صلى خلفه يعيد، قيل له: فحديث معاذ؟ قال فيه اضطراب، إذا ثبت فله معنى دقيق لا يجوز مثله اليوم. (طبقات الحنابلة ص 53 نقلاً عن نصب الراية 2/ 52). وفي حديث الباب من الفوائد أيضاً استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال لا يكره التطويل إذا علم رضاء المأمومين فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقاً إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم. وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وأما بغير عذر فاستدل به بعضهم وتعقب، وقال ابن المنير: لو كان كذلك لم يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدة، وفيه نظر لأن فائدة الأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفرداً، وهذا كما استدل بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة وفيه نحو هذا النظر. وفيه جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر. وفيه الإنكار بلطف لوقوعه بصورة الاستفهام، ويؤخذ منه تعزير كل أحد بحسبه، والاكتفاء في التعزير بالقول، والإنكار في المكروهات، وأما تكراره ثلاثاً فللتأكيد، وقد تقدم في العلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثاً لتفهم عنه. وفيه اعتذار من وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر وإن كان له عذر باطن للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك متأولاً، وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافق. اهـ. 1576 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء" وفي أخرى (1) "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة" وفي أخرى (2) بدل "السقيم": "الكبير" وفي أخرى (3) "إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، وإذا صلى وحده فليصل كيف شاء". 1577 - * روى الشيخان عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة". 1578 - * روى الطبراني عن الحارث بن سويد قال: كان عبد الله يقول تجوزوا في الصلاة فإن خلفكم الكبير ولاضعيف وذا الحاجة وكنا نصلي مع إمامنا الفجر وعلينا ثيابنا فيقرأ السورة من المائين ثم ننطلق إلى عبد الله فنجده في الصلاة. 1579 - * روى أحمد عن أنس بن مالك قال: "لقد كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة لو صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عليه".
1580 - * روى أحمد عن عدي بن حاتم قال: "من أمنا فليتمم الركوع والسجود فإن فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر سبيل وذا الحاجة هكذا كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". 1581 - * روى أحمد عن أبي واقد الكندي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة بالناس وأطول الناس صلاة لنفسه". 1582 - * روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بـ (الصافات) ". 1583 - * روى أحمد عن مالك بن عبد الله قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أصل خلف إمام كان أوجز صلاة منه في تمام الركوع والسجود. 1584 - * روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أم قومك، قال: قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئاً، قال: ادنه، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري بين ثديي، ثم قال: تحول، فوضعها في ظهري بين كتفي قال: أم قومك، فمن أم قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء".
وفي رواية (1) أبي داود والنسائي (2) قال: "قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً". 1585 - * روىلطبراني في الأوسط عن عثمان بن أبي العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى ثقيف تجوز في الصلاة يا عثمان وأم الناس بأضعفهم فإن فيهم الضعيف وذا الحاجة والحامل والمرض". 1586 - * روى البزار عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي رضي الله عنهم فلم يكن أحد منهم أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1587 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه" وفي رواية (3) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة" وفي رواية (4): "وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه" وفي أخرى (5) "ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت صلاته متقاربة،
وصلاة أبي بكر متقاربة، فلما كان عمر مد في صلاة الصبح". زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء أو تتركه فيضيع. فتح (2/ 202). قال في (الفيض 3/ 17): قوله في بعض الطرق لمسلم كان يسمع بكاء الطفل مع أمه وفي معناه ما لو كان الصبي في بيت أمه وأمه في المسجد في الصلاة وهذا من كريم عوائده ومحاسن أخلاقه وشفقته على أمته (وكان بالمؤمنين رحيماً) وقد خصه الله من صفة الرحمة بأتمها وأعمها، وذكر الأم غالبي فإنه كان أرحم الناس بالصبيان فمثلها من قام مقامها كحاضنته أو أبيه مثلاً والقصد به بيان الرفق بالمقتدين وفيه إيذان بفرط رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيه أن الإمام إذا أحس بداخل وهو في ركوعه أو تشهده الأخير له انتظار لحوقه راكعاً ليدرك الركعة أو قاعداً ليدرك الجماعة لأنه إذا جاز له أن يقصر صلاته لحاجة غيره في أمر دنيوي فللعبادة أولى وفيه جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد وإدخال الصبيان وإن كان الأولى تنزيهه عنه والرفق بالمأموم والاتباع وإيثار تخفيف الصلاة لأمر حدث وإن كان الأفضل في تلك الصلاة التطويل كالصبح. اهـ. 1588 - * روى البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، كراهية أن أشق على أمه". الأمر بالسكينة والوقار في إتيان الصلاة. 1589 - * روى الشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "بينما نحن نصلي مع
- ماذا يفعل من دخل المسجد والإمام راكع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: "ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة، فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا". 1590 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" وفي رواية (1) قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، ولمسلم (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ثوب بالصلاة، فلا يسع إليها أحدكم، ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار، فصل ما أدركت، واقض ما سبقك" زاد في رواية (3): "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة". 1591 - * روى البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت، وعليكم بالسكينة". - ماذا يفعل من دخل المسجد والإمام راكع: 1592 - * روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه "أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: زادك الله حرصاً،
ولا تعد"، وفي رواية (1) أبي دود "أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع، قال: فركعت دون الصف، ومشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ قلت: أنا، قال: زادك الله حرصاً ولا تعد". وفي حديث أبي بكرة دليل على أن إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام وكراهة صلاة المنفرد خلف الصف واستحباب دخول المسبوق مع الإمام على أي حال كان. في سبل السلام: واختلف فيما إذا أدرك الإمام راكعاً، فيركع معه هل تسقط قراءة تلك الركعة عند من أوجب الفاتحة، فيعتد بها أو لا تسقط، فلا يعتد بها، فقيل: يعتد بها، لأنه قد أدرك الإمام قبل أن يقيم صلبه، وقيل: لا يعتد بها، لأنه فاتته الفاتحة، ورجح عندنا الإجزاء. اهـ (2/ 34). أقول: بل لا يعتد بخلاف المخالف في هذا الأمر أما دلالة حديث أبي بكرة على كراهة الصلاة منفرداً لقوله: لا تعد أي لا تعد إلى الركوع دون الصف منفرداً والنهي محمول على التنزيه ولو كان للتحريم لأمر أبا بكرة بالإعادة وإنما نهاه عن العود إرشاداً إلى الأفضل وذهب أحمد وبعض الشافعية إلى التحريم لحديث وابصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد وفي رواية لابن خزيمة لا صلاة لمنفرد خلف الصف وأجاب الجمهور بأن المراد: لا صلاة كاملة. انظر (الإعلاء 4/ 299). 1593 - * روى مالك عن مالك بن أنس رحمه الله قال ك"كان ابن مسعود إذا أعجل يدب إلى الصف راكعاً، وزيد بن ثابت مثله". 1594 - * روى الطبراني في الأوسط عن عطاء أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعاً حتى
- إقامة الصلاة إذا تأخر الإمام
يدخل في الصف فإن ذلك السنة، قال عطاء وقد رأيته يصنع ذلك، قال ابن جريج وقد رأيت عطاء يصنع ذلك. أقول: من كان عالماً بكيفية الدبيب إلى الصف بحيث لا تكون خطواته متوالية بدون توقف ثم انطلاق بحيث لا يوالي ثلاث خطوات معاً فإن صلاته على شفا خطر ولذلك كان الأولى أن نأخذ بحديث أبي بكرة الذي فيه (زادك الله حرصاً ولا تعد) فليبق الإنسان ماشياً دون أن يدخل في الصلاة حتى يصل إلى الصف فيدخل في الصلاة وما فاته قضاه. وقال في (الإعلاء 4/ 310): لعل ابن الزبير لم يبلغه النهي عن ذلك وقد كان جائزاً قبل، فإن النهي لا يكون إلا بعد الإباحة فظن أن الحكم الأول باق وعزاه إلى السنة. اهـ. - إقامة الصلاة إذا تأخر الإمام: 1595 - * روى ابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى لهم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه سولم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، أقبل عليهم، ثم قال: "أحسنتم"، أو قال: "أصبتم". يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها. قال ابن خزيمة: في الخبر دلالة على أن الصلاة إذا حضرت وكان الإمام الأعظم غائباً عن الناس، أو متخلفاً عنهم في سفر، فجائز للرعية أن يقدموا رجلاً منهم يؤمهم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعل القوم أو صوبه، إذ صلوا الصلاة لوقتها بتقديمهم عبد الرحمن بن عوف ليؤمهم، ولمي أمرهم بانتظار النبي صلى الله عليه وسلم. فأما إذا كان الإمام الأعظم حاضراً، فغير جائز أن يؤمهم أحد بغير إذنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد زجر عن أن يؤم السلطان بغير أمره.
- وجوب متابعة الإمام
- وجوب متابعة الإمام: 1596 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما انصرف من الصلاة، أقبل إلينا بوجهه، فقال: "أيها الناس إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالقعود، ولا بالانصراف، وإني أراكم خلفي، وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً". قال، قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأيت؟ قال: "رأيت الجنة والنار". 1597 - * روى مسلم عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: "صليت مع أبي موسى الأشعري صلاة، فلما كان عند القعدة قال رجل من القوم: أقرت الصلاة بالبر والزكاة؟ قال: فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلم، انصرف فقال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ قال: فأرم القوم، ثم قال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأرم القوم، فقال: لعلك يا حطان قلتها؟ قال: ما قلتها، ولقد رهبت أن تبكعني بها، فقال رجل من القوم: أنا قلتها، ولم أرد بها إلا الخير، فقال أبو موسى: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا" .. وفي رواية (3): "فإذا قرأ فأنصتوا" .. وإذا قال: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين: يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتلك بتلك"، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد: يسمع الله لكم، فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: "سمع الله لمن حمده"، وإذا كبر وسجد، فكبروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتلك بتلك"، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات، الطيبات، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله". وفي رواية (1) النسائي قال: "صلى بنا أبو موسى، فلما كان في القعدة دخل رجل من القوم، فقال: أقرت الصلاة بالبر والزكاة؟ فلما سلم أبو موسى أقبل على القوم، فقال: أيكم القائل هذه الكلمة؟. وذكر نحو رواية مسلم. أقول: الكلمة هذه التي قالها الرجل في النص كلمة خارجة عن أفعال الصلاة وأذكارها وما يجوز فيها، ولذلك فإنها تبطل الصلاة وعلى صاحبها أن يعيد الصلاة وكل من قال كلاماً خارجاً عن أعمال الصلاة فإن صلاته تبطل بذلك حتى قال الحنفية ومن وافقهم من تنحنح بدون عذر فخرج معه حرفان أثناء التنحنح فإن صلاته تبطل بذلك، وبعض العلماء توسع في مثل التنحنح، ولكن الاحتياط أن يحفظ الإنسان صلاته عن كل كلام خارج عن ماهية الصلاة كأن يحفزه النفس فيقول: (آه) أو (إه) أو (هيه) أو غير ذلك، كي تكون صلاته مقبولة بإجماع الأئمة، لكن الشافعية أجازوا الكليمات اليسيرة للجاهل والناسي. انظر (المهذب 1/ 87). 1598 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "سقط رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً، فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون" زاد بعض (1) الرواة "وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً". قال الحميدي: ومعاني سائر الروايات متقاربة. قال: وزاد في كتاب البخاري قوله: "إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" هو في مرضه القديم، وقد صلى في مرضه الذي مات فيه جالساً، والناس خلفه قيام، لم يأمرهم بالقعود، وإنما نأخذ بالآخر فالآخر من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال في (إعلاء السنن): الأمر بجلوس القوم بجلوس الإمام منسوخ، هذا هو قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور السلف أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائماً كذا في شرح مسلم للنووي (1: 177). وذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر، وداود وبقية أهل الظاهر إلى أن المأموم يتابع الإمام في الصلاة قاعداً وإن لم يكن المأموم معذوراً، وتمسكوا بما مر في قصة صلاته صلى الله عليه وسلم حيث سقط عن الفرس، وبما روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن فهد (2) الأنصاري أن إمامهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكان يؤمنا وهو جالس، ونحن جلوس، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أنه كان يؤم قومه، فاشتكى فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروا أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع ان أصلي قائماً، فاقعدوا، فصلى بهم قاعداً وهم قعود اهـ وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى، فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالساً، وصلوا معه جلوساً، وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك، وإسناده صحيح أيضاً ذكر كله الحافظ في الفتح (2) وقال: وقد ادعى ابن حبان الإجماع على العمل به، وكأنه أراد السكوتي، لأنه حكاه عن اربعة من الصحابة
الذين تقدم ذكرهم، وقال: إنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة غيرهم، القول بخلافه لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم: أنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك اهـ. والجواب عنه ما قال الإمام الشافعي كما في الاعتبار للحازمي: بأنه محمول على أنه لم يبلغهم النسخ، وعلم الخاصة يوجد عند بعض، ويغرب عن بعض اهـ (113) وأما دعوى ابن حبان الإجماع على ذلك، فقد حكى الخطابي في المعالم، والقاضي عياض عن أكثر الفقهاء خلافه، وحكى النووي عن جمهور السلف خلاف ما حكى ابن حزم (وابن حبان) عنهم، وحكاه ابن دقيق العيد عن أكثر الفقهاء المشهورين، وقال الحازمي في الاعتبار ما لفظه: وقال أكثر أهل العلم: يصلون قياماً، ولا يتابعون الإمام في الجلوس كذا في "النيل" وقال الحافظ في الفتح تحت حديث عائشة الذي سيرد في موضوع صلاة الإمام قاعداً- واستدل به على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعداً إذا صلى الإمام قاعداً لكونه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا قرره الشافعي، وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي. وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك، وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين إحداهما إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلوة قاعداً لمرض يرجى برؤه، فحينئذ يصلون خلفه قعوداً، وثانيتهما إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً اهـ. وقد نوقش في ذلك انظر (الإعلاء 4/ 239 - 242). 1599 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا (غير المغضوب عليهم، ولا الضالين) قال: "آمين"، حتى يسمع من يليه من الصف الأول".
قال في (الإعلاء 2/ 211): في حديث أبي هريرة "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم" إلخ. دلالة الحديث على قول المأموم "آمين" بعد قول الإمام "ولا الضالين" ظاهرة، ويستفاد منه الإمام يخفي بها لأن تأمين الإمام لو كان مشروعاً بالجهر لما علق النبي صلى الله عليه وسلم تأمينهم بقوله: "ولا الضالين" بل علق بقوله "آمين". فإن قلت: قد جاء في الحديث "إذا أمن الإمام فأمنوا" وفيه علق تأمين المأمومين بتأمينه إلا أن يسمعوا. قلت: أجاب عنه في "التعليق الحسن" بأن الجمهور حملوا قوله إذا آمن على المجاز للجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين، قالوا: بأن المراد إذا أراد التأمين وهذا كما قال الله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم إقامة الصلاة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": قالوا فالجمع بين الروايتين يقتضي حمل قوله إذا أمن على المجاز اهـ. وقال السيوطي في "تنوير الحوالك": والجمهور على القول الأخير لكن أولوا قوله إذا أمن على أن المراد إذا أراد التأمين ليقع تأمين الإمام والمأموم معاً فإنه يستحب فيه المقارنة. قلت: فإذا كان معناه إذا أراد التأمين لا يستفاد منه الجهر بالتأمين للإمام اهـ (1 - 91). وفي "الجوهر النقي" (1 - 132): ذكر ذلك (الحديث) شارح "العمدة" (يعني العلامة ابن دقيق العيد الشافعي) أنه يدل على أن الإمام يؤمن ثم قال: دلالته على الجهر أضعف من دلالته على نفس التأمين قليلاً لأنه قد يدل دليل على تأمين الإمام من غير جهر اهـ. 1600 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام". 1601 - * روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبادروني بركوع ولا بسجود، فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني
به إذا رفعت، إني قد بدنت". في رواية (1) للنسائي عن أبي هريرة: "وإذا قرأ- الإمام- فأنصتوا". 1602 - * روى الطبراني عن أبي الأحوص أن ابن مسعود قال: إذا كنت خلف الإمام فلا تركع حتى يركع ولا تسجد حتى يسجد ولا ترفع رأسك قبله وإذا فرغ الإمام ولم يقم ولم ينحرف وكانت لك حاجة فاذهب ودعه فقد تمت صلاتك". 1603 - * روى البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان". 1604 - * روى الستة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما يخشى أحدكم- أو ألا يخشى أحدكم- إذا رفع رأسه من ركوع أو سجود قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار؟ ". 1605 - * روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كنا نصلي خلف
- الفتح على الإمام
النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض". ولمسلم (1) قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يحني أحد منا ظهره حتى نراه قد سجد" زاد في رواية (2) "ثم نخر من ورائه سجداً" وفي رواية (3) أبي داود "أنهم كانوا إذا رفعوا رؤوسهم من الركوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا قياماً، فإذا رأوه قد سجد سجدوا" وفي أخرى (4) له "أنهم كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ركع ركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم نزل قياماً حتى نراه قد وضع جبهته بالأرض، ثم يتبعونه" وفي أخرى (5) له "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحنو أحد منا ظهره حتى نرى النبي صلى الله عليه وسلم يضع". 1606 - * روى مسلم عن مرو بن حريث رضي الله عنه قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، فسمعته يقرأ: (فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس) وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجداً". - الفتح على الإمام: 1607 - * روى النسائي عن شبيب بن نعيم أبي روح: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى صلاة الصبح، فقرأ (الروم) فالتبس عليه، فلما صلى قال: "ما بال أقوام يصلون معنا، لا يحسنون الطهور؟ وإنما يلبس علينا القرآن أولئك"".
أقول: هذا دليل على أن نقص حال مسلم يؤثر على من سواه، فإذا كان هذا في الصلاة فغيرها يقاس عليها، ومن ههنا كان على المسلمين أن يبذلوا جهداً في أن يكمل بعضهم بعضاً، وأن على المتآخين في الله أني بذلوا جهداً لتكميل أنفسهم وتكميل بعضهم وتكميل غيرهم، فإذا لم يفعلوا تأثر الجميع بجريرة البعض. 1608 - * روى أبو داود عن المسور بن يزيد المالكي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وربما قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الصلاة، فيترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله، تركت آية كذا وكذا، قال: "فهلا أذكرتنيها؟ ". زاد في رواية (2) قال: "كنت أرى أنها نسخت". أقول: هذا دليل على أنه يجوز لمن كان وراء الإمام أن يصحح له أو يذكره أو يفتح عليه إذا نسي إلا أنه يستحب للإمام إذا نسي ألا يحوج المأمومين إلى الفتح عليه وذلك إما بأن ينتقل إلى سورة أخرى أو بأن يركع، ولا حرج على المأمومين لو أنهم سكتوا إذا نسي الإمام آية فانتقل إلى ما بعدها إذا لم يكن ذلك مؤثراً على المعنى، وكذلك لا حرج عليهم إذا لم يصوبوا خطأه إذا لم يكن ذلك مؤثراً على صحة الصلاة. 1609 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقرأ فيها، فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبي: "أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك". والحديثان يدلان على مشروعية الفتح على الإمام، قال الحافظ ابن حجر: وقد صح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال علي: إذا استطعمك الإمام فأطعمه. 1610 - * روى الطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فالتبس عليه فيها
- القراءة خلف الإمام
فلما انصرف قال لأبي بن كعب "أصليت معنا قال نعم قال فما منعك أن تفتح علي". - القراءة خلف الإمام: 1611 - * روى الطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب". أقول: القراءة وراء الإمام بفاتحة الكتاب قضية خلافية، وقد تعرضنا إليها من قبل. 1612 - * روى الطبراني عن حميد بن هلال قال جاء هشام بن عامر إلى الصلاة فأسرع المشي فدخل في الصلاة وقد حفزه النفس فجهر بالقراءة خلف الإمام فلما قضى صلاته قيل له أتقرأ خلف الإمام قال إنا لنفعل. أقول: في قولهم (أتقرأ خلف الإمام): دليل على أن الشائعة المعروفة بين الصحابة عدم القراءة وراء الإمام، ولذلك أنكروا على هشام بن عامر فعله. وفي إجابته ما يدل على أنه منذ الصدر الأول كان يرى بعضهم القراءة وراء الإمام، فالخلاف في هذا الموضوع مستمر منذ عصر الصحابة. 1613 - * روى مالك عن جابر رضي الله عنه قال: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل، إلا أن يكون وراء الإمام". 1614 - * روى أبو يعلى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه فلما قضى صلاته
أقبل عليهم بوجهه فقال: "أتقرؤون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ؟ " فسكتوا قالها ثلاث مرات. فقال قائل: أو قال قائلون: إنا لنفعل قال "فلا تفعلوا ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". أقول: فسر الذين لا يرون القراءة وراء الإمام القراءة بالنفس أي بالقلب وذلك في غير الصلاة الجهرية والقراءة بالقلب لا تعتبر قراءة. 1615 - * روى أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ" قالها ثلاثاً قالوا إنا لنفعل ذلك قال "فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". 1616 - * روى أحمد عن عبد الله بن بحينة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ قالوا: نعم قال: إني أقول مالي أنازع القرآن". فانتهى الناس عن القراءة معه حين قال ذلك. 1617 - * روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال خلطتم علي القرآن. 1618 - * روى الطبراني عن أبي وائل قال جاء رجل إلى ابن مسعود فقال أقرأ خلف الإمام؟ قال: أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلا وسيكفيك ذلك الإمام.
1619 - * روى النسائي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: "نعم". قال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فالتفت إلي وكنت أقرب القوم منه، فقال: "ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم" قال النسائي: هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ، إنما هو قول أبي الدرداء. 1620 - * روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري: "أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة، فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه، حتى صففنا خلف أبي نعيم وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بـ (أم القرآن)، فلما انصرف قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بـ (أم القرآن) وابو نعيم يجهر؟ قال: أجل، صلى بنا النبي بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، قال: فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه، وقال: هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: فلا تفعلوا، وأنا أقول: مالي أنازع القرآن؟ فلا تقرؤون بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بـ (أم القرآن) "، وفي رواية الترمذي (3) وأبي داود (4) قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: فلا تفعلوا، إلا بـ (أم القرآن) فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وفي رواية النسائي (5) قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فقال: "لا يقرأن أحد منكم إذا جهرت بالقراءة إلا بـ (أم القرآن) ".
1621 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أقول: مالي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يجهر فيه حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي أخرى (2) لأبي داود قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة- نظن أنها الصبح- بمعناه- إلى قوله: مالي أنازع القرآن؟ " قال أبو داود: قال معمر: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي أخرى (3) قال أبو هريرة: "فانتهى الناس". وفي أخرى (4): أن قوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري. أقول: أخذ بعض الفقهاء بهذه الرواية فلم يروا القراءة وراء الإمام فيما يجهر به الإمام ورأوا القراءة وراءه فيما يسر به الإمام، والأمر واسع، وما دام الإنسان على مذهب إمام من أئمة الاجتهاد، فهو على خير، ولكن عليه أن يتفقه في مذهبه لأن هناك دقائق في فقه المذاهب لا تعرف إلا من خلال التفقه الجيد في المذهب. 1622 - * روى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه بـ (سبح اسم ربك) فلما انصرف قال: أيكم قرأ، أو أيكم القارئ؟ قال رجل: أنا، فقال: قد ظننت أن بعضكم خالجنيها" وفي رواية (6):
- التأمين خلف الإمام
صلاة الظهر- أو العصر- بالشك"، وفي رواية أبي داود (1) والنسائي (2) قال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها. أقول: هذا النص دليل لمن ذهب إلى أنه لا قراءة وراء الإمام في سرية ولا جهرية. ومن قال بالقراءة قال هذا نهي عما سوى الفاتحة أو نهي عن التشويش في القراءة. 1623 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ قال: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ، قال: وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام". أقول: إنما أوردنا هذه النصوص والآثار ههنا في القراءة خلف الإمام استكمالاً لأبحاث أحكام الإمام والمأموم وكنا قد تعرضنا لهذا الموضوع في الباب الثالث في أركان الصلاة وأفعالها في مبحث القراءة باستيفاء أشمل. - التأمين خلف الإمام: 1624 - * روى الترمذي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "قرأ: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال: آمين، ومد بها صوته- وفي رواية (3): وخفض بها صوته". وفي رواية (4) أبي داود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ (ولا الضالين) قال: آمين: ورفع بها صوته". وفي رواية (5) "أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجهر بآمين، وسلم عن يمينه، وعن شماله، حتى رأيت بياض خده". وقد تكلم العلماء على رواية وخفض بها صوته قال في (الإعلاء 2/ 216): قال
الدارقطني: هكذا قال شعبة وأخفى بها صوته ويقال إنه وهم فيه لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل رووه عن سلمة فقالوا ورفع بها صوته وهو الصواب اهـ. وطعن صاحب "التنقيح" في حديث شعبة هذا بأنه قد روي عنه خلافه كما أخرجه البيهقي في "سننه" عن أبي الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت حجراً أبا عنبس يحدث عن وائل الحضرمي "أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال: ولا الضالين قال: آمين رافعاً بها صوته". قال: فهذه الرواية توافق رواية سفيان. وقال البيهقي في "المعرفة": إسناد هذه الرواية صحيح وكان شعبة يقول سفيان أحفظ، وقال يحيى القطان ويحيى بن معين إذا خالف شعبة سفيان فالقول قول سفيان. قال: وقد أجمع الحفاظ البخاري وغيره على أن شعبة أخطأ فقد روى من غير أوجه فجهر بها انتهى. ثم قال في (الإعلاء 2/ 219) بعد كلام طويل: فنقول: حديث الخفض عندنا أرجح رواية ودراية أما بحسب الرواية فلكون شعبة أحفظ من سفيان وأبعد من التدليس وهو أمير المؤمنين في الحديث، وأما بحسب الدراية فلأن آمين دعاء والأصل في الدعاء الإخفاء، قال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) وقال البخاري في "صحيحه" وقال عطاء: آمين دعاء اهـ. ثم قال: قال الطبري: وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وروي عن النخعي والشعبي وإبراهيم التيمي: كانوا يخفون "بآمين" والصواب أن الخبرين بالجهر والمخافتة صحيحان وعمل بكل من فعليه جماعة من العلماء وإن كنت مختاراً خفض الصوت بها إذ كان أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على ذلك اهـ. فتلك وجوه تقتضي ترجيح حديث شعبة من حيث الدراية. وحديث سفيان بلفظ "مد بها صوته" عندنا محمول على أنه تكلم بها على لغة المد دون القصر من جهة اللفظ لأن مذهب سفيان الثوري خفض الصوت بآمين دون الجهر بها، وما قال بعضهم أن رواية من قال "رفع بها صوته" تبعد هذا الاحتمال اهـ ففيه أن هذه الروايات كلها لا يخلو من كلام كما سنبين ذلك ولو سلم صحتها فهي محمولة على أن الجهر كان تعليماً للمأمومين كما جهر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالثناء عند الافتتاح تارة وأبو هريرة بالتعوذ أورد في (الإعلاء 2/ 220 - 223) أدلة من قال بالجهر
بالتأمين وناقشها جميعاً فانظره. 1625 - * روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين وإن الإمام يقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". قال في "إعلاء السنن": فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الإمام يقول آمين". قلت: فيه دلالة ظاهرة على الإخفاء بآمين للإمام وإلا لم يحتج إلى إظهار فعله بقوله وإن الإمام يقول آمين كما يخفي. قلت: وفي قوله صلى الله عليه وسلم "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم" إلخ. دلالة على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة وإلا كان الأنسب أن يقول: إذا قال أحدكم غير المغضوب عليهم إلخ. واورد عليه الحافظ في "الفتح" بأنه قد يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة حال قراءة الإمام لها لا أنه لا يقرؤها أصلاً اهـ. قلت: وفيه ما فيه فتأمل. وقال: الأمر في قوله "فأمنوا" للندب عند الجمهور صرح به الحافظ في "الفتح" وثبتت السنية بمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها ودليل المواظبة مرسل ابن شهاب ومراسيله وإن كانت ضعيفة ولكنه اعتضد بالموصول. 1626 - * روى أبو داود عن بلال بن رباح رضي الله عنه قال "يا رسول الله لا تسبقني بآمين". استمهل بلال الرسول صلى الله عليه وسلم في التأمين ليوافق تأمينه تأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينال
- الاستخلاف في الصلاة وتقديم الأولى
بركة موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في التأمين. 1627 - * روى الستة عن أبي هريرة رفعه: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". وفي رواية (2): إذا قال الإمام: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين" بنحوه. 1628 - * روى أحمد عن عائشة رفعته: ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم، على الإسلام والتأمين. - الاستخلاف في الصلاة وتقديم الأولى: 1629 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه: "أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح في أناس معه، فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر، فقال: يا أبا بكر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وحانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم، إن شئت، فأقام بلال، وتقدم أبو بكر فكبر وكبر الناس وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف حتى قام في الصف، فأخذ الناس في التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يده، فحمد الله، ورجع القهقرى وراءه، حتى قام في الصف، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: يا أيها الناس ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق، إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله، إلا التفت، يا أبا بكر، ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك؟ فقال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي أخرى (1) مختصراً "أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهبوا بنا حتى نصلح بينهم"، وليس عند مسلم في هذه الرواية الآخرة قول النبي صلى الله عليه وسلم ولأبي داود (2) "كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم ليصلح بينهم بعد الظهر، فقال لبلال: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك، فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال، ثم أقام، ثم أمر أبا بكر فتقدم" وقال في آخره: "إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال، وليصفح النساء". أقول: في تأخر أبي بكر رضي الله عنه عن الإمامة وتقديمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أساس بنى عليه الفقهاء موضوع الاستخلاف في الصلاة، وسنتعرض لهذا الموضوع في آخر هذا الفصل أثناء الكلام عن المسائل والفوائد. قال النووي في شرح مسلم: (فيه أن الإمام إذا تأخر عن الصلاة تقدم غيره إذا لم يخف فتنة وإناراً من الإمام وفيه أن المقدم نيابة عن الإمام يكون أفضل القوم وأصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به وفيه أن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل وأن الفاضل يوافقه وفيه أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة لقوله صفق الناس وفيه جواز الالتفات في الصلاة للحاجة واستحباب حمد الله تعالى لمن تجددت له نعمة ورفع اليدين بالدعاء وفعل ذلك الحمد والدعاء
- ما يقول المأموم إذا رفع رأسه من الركوع
عقب النعمة وإن كان في صلاة وفيه جواز مشي الخطوة والخطوتين في الصلاة وفيه أن هذا القدر لا يكره إذا كان لحاجة وفيه جواز استخلاف المصلي بالقوم من يتم الصلاة لهم وهذا هو الصحيح في مذهبنا وفيه أن التابع إذا أمره المتبوع بشيء وفهم منه إكرامه بذلك الشيء لا تختم الفعل فله أن يتركه ولا يكون هذا مخالفة للأمر بل يكون أدباً وتواضعاً وتحذقاً في فهم المقاصد وفيه ملازمة الأدب مع الكبار وفيه أن السنة لمن نابه شيء في صلاته كإعلام من يستأذن عليه وتنبيه الإمام وغير ذلك أن يسبح إن كان رجلاً فيقول سبحان الله وأن تصفق وهو التصفيح إن كان امرأة فتضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر ولا تضرب بطن كف على بطن كف على وجه اللعب واللهو فإن فعلت هكذا على جهة اللعب بطلت صلاتها لمنافاته الصلاة وفيه فضائل كثيرة لأبي بكر رضي الله عنه وتقديم الجماعة له واتفاقهم على فضله عليهم ورجحانه وفيه تقديم الصلاة في أول وقتها وفيه أن الإقامة لا تصح إلا عند إرادة الدخول في الصلاة لقوله أتصلي فأقيم وفيه أن المؤذن هو الذي يقيم الصلاة فهذا هو السنة ولو أقام غيره كان خلاف السنة ولكن يعتد بإقامته عندنا وعند جمهور العلماء وفيه جواز خرق الإمام الصفوف ليصل إلى موضعه إذا احتاج إلى خرقها لخروجه لطهارة أو رعاف أو نحوهما ورجوعه وكذا من احتاج إلى الخروج من المأمومين لعذر وكذا له خرقها في الدخول إذا رأى قدامهم فرجة فإنهم مقصورون بتركها واستدل به أصحابنا على جواز اقتداء المصلي بمن يحرم بالصلاة بعده فإن الصديق رضي الله عنه أحرم بالصلاة أولاً ثم اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم حين أحرم بعده هذا هو الصحيح في مذهبنا) (4/ 144 - 146). 1630 - * روى ابن خزيمة عن عائشة: أن أبا بكر صلى بالناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف. - ما يقول المأموم إذا رفع رأسه من الركوع: 1631 - * روى أبو داود عن مطرف بن طريف بن الحارثي عن عامر قال: "لا يقول
- حكم من أدرك ركعة خلف الإمام
القوم خلف الإمام: سمع الله لمن حمده، ولكن يقولون: ربنا لك الحمد". قال الخطابي في "معالم السنن": اختلف الناس فيما يقوله المأموم إذا رفع رأسه من الركوع، فقالت طائفة: يقتصر على "ربنا لك الحمد" وهو الذي جاء به الحديث، لا يزيد عليه، وهو قول الشعبي، وغليه ذهب مالك وابن حنبل، وقال أحمد: إلى هذا انتهى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت طائفة: يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، يجمع بينهما، هذا قول ابن سيرين وعطاء، وإليه ذهب الشافعي، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد. - حكم من أدرك ركعة خلف الإمام: 1632 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". وقال في رواية (2): "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام". وفي أخرى (3) "فقد أدرك الصلاة كلها". وفي رواية (4) صحيحة للنسائي: "من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات فقد أدركها، إلا أنه يقضي ما فاته". أقول: بعض الفقهاء أخذ بظاهر هذه الروايات فلم يعتبر إدراك أجر الجماعة كائناً إلا بإدراك ركعة مع الإمام وبعضهم حمل هذه الروايات على الإدراك الكامل لأجر الجماعة أما أصل الجماعة فيدركها الإنسان بأن يصلي مع الإمام ما لم يخرج الإمام من الصلاة حتى لو أدركه في سجود السهو فإنه يدرك فضيلة الجماعة إلا أنه ليس له من الكمال في الأجر كذلك الذي يدرك ركعة أو أكثر مع الإمام.
1633 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة كلها". وفي رواية (2) أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وفي رواية (3) الموطأ قال: كان أبو هريرة يقول: "من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير". 1634 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: "إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة". 1635 - * روى الطبراني في الكبير عن علي وابن مسعود قالا: من لم يدرك الركعة فلا يعتد بالسجدة. 1636 - * روى الطبراني عن ابن مسعود في الذي يفوته بعض الصلوة مع الإمام قال يجعل ما يدرك مع الإمام آخر صلواته. 1637 - * روى الطبراني عن زيد بن وهب قال: دخلت أنا وابن مسعود المسجد والإمام راكع فركعنا ثم مضينا حتى استوينا بالصف فلما فرغ الإمام قمت أقضي فقال قد أدركته.
- جواز صلاة القائم خلف القاعد، وعدم جواز جلوس المقتدي بجلوس إمامه.
- جواز صلاة القائم خلف القاعد، وعدم جواز جلوس المقتدي بجلوس إمامه. 1638 - * روى البخاري عن عائشة في حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم: وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر، فقال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر. قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد. ولمسلم (2): وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، وأبو بكر يسمعهم التكبير اهـ وفي حديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائم يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر اهـ. ذكره الحازمي في الاعتبار، وصححه. وفي رواية عنها: وأبو بكر قائم يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو وراءه قيام. علقه الإمام الشافعي في رسالته عن إبراهيم النخعي، وقد نوقش في ذلك. انظر (الإعلاء 4/ 339 - 242). - الصلاة على المكان المرتفع: 1639 - * روى أبو داود عن همام بن الحارث النخعي الكوفي قال: "إن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، تذكرت حين مددتني. فائدة: يكره تميز الإمام عن المصلين بأني قوم على شيء مرتفع، لذا قالوا لا يصلي الإمام في داخل الطاق (المحراب) لكن يجعل السجود فيه. (وهبي). 1640 - * روى مسلم عن أبي حازم بن دينار "أن نفراً جاؤوا إلى سهل بن سعد رضي
الله عنه قد تماروا في المنبر: من أي عود هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو، ومن عمله، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه قال: فقلت له يا أبا عباس، فحدثنا، فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة- قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ- انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها، فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر، وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي". وفي رواية (1): "ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. " وذكر نحوه في أعواد المنبر، ثم قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال ... الحديث". وفي رواية (2) "أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر، وقام الناس خلفه، فقرأ، وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ففعل مثل ذلك، فهذا شأنه" قال البخاري: قال علي بن عبد الله: سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ وقال: إنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث، قال: فقلت له: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيراً فلم تسمعه منه؟ قال: لا، قال الحميدي: ففي هذا استفادة أحمد من ابن المديني، ورواية البخاري عن رجل عن أحمد.
- تأخر الرجال عن النساء في الخروج من المسجد
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 331): ويستفاد من الحديث أن من فعل شيئاً يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه، وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره، وفيه جواز قصد تعليم المأمومين، أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وكذا في جواز ارتفاع الإمام، وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد، إما شكراً، وإما تبركاً. أقول: يستفاد من الحديث أن الإمام إذا ارتفع عن المأمومين مرة لتعليمهم، فلا بأس بذلك على ألا يكون عادة، واعتبر بعضهم أن هذا الحديث منسوخ بالنهي عن ارتفاع الإمام على المأمومين. 1641 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه كره أن يؤمهم على المكان المرتفع. - تأخر الرجال عن النساء في الخروج من المسجد: 1642 - * روى البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكث في مكانه يسيراً، قالت: فنرى- والله أعلم- لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال" وفي رواية (3) "أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال"، وأخرج النسائي (4) الثانية، وفي رواية (5) أبي داود قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال".
الفقرة الثالثة في أحكام الصفوف
الفقرة الثالثة في أحكام الصفوف - فضل الصف الأول: 1643 - * روى أحمد عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول- أو الصفوف الأول". 1644 - * روى أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني، قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا يا رسول الله وعلى الثاني، قال: وعلى الثاني، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف"- يعني أولاد الضأن الصغار. 1645 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو تعلمون- أو يعلمون- ما في الصف الأول لكانت قرعة" وفي أخرى (4). "ما كانت إلا قرعة". 1646 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا،
ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". وفي رواية (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له فغفر له، ثم قال: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله، وقال: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ... ثم ذكر الحديث إلى آخره- مثل ما تقدم". 1647 - * روى النسائي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الصف الأول ثلاثاً، وعلى الصف الثاني واحدة". ولفظ الحاكم وابن خزيمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً، وللثاني مرة. 1648 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف". من أولى بالصف الأول: 1649 - * روى مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً". 1650 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم- ثلاثاً- وإياكم وهيشات الأسواق"، وزاد الترمذي وأبو داود "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" قبل قوله: "وإياكم" قال الترمذي (2): وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يعجبه أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه". 1651 - * روى ابن خزيمة عن قيس بن عباد قال: بينما أنا بالمدينة في المسجد في الصف المقدم قائم أصلي، فجبذني رجل من خلفي جبذة، فنحاني وقام مقامي. قال: فو الله ما عقلت صلاتي، فلما انصرف، فإذا هو أبي بن كعب، فقال: يا فتى لا يسؤك الله، إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه، ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة ثلاثاً، ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا، قال: قلت: من تعني بهذا؟ قال: الأمراء. إذا كان مع الإمام رجل واحد يقوم على يمينه: 1652 - * روى الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صليت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ بذوائبتي فجعلني عن يمينه: وفي رواية (1) قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت ... وذكر الحديث". وفي رواية (2) "برأسي: وفي أخرى (3) "بيدي" وفي أخرى (4) "بعضدي"، وفي أخرى (5) لمسلم قال: "بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت خالتي ميمونة، فبت معه تلك الليلة، فقمت عن يساره، فتناولني من خلف ظهره، فجعلني عن يمينه". 1653 - * روى البزار عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأقامني عن يمينه. 1654 - * روى أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، فيقبل علينا بوجهه". 1655 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم قال: "قمت وراء ابن عمر في صلاة من الصلوات، وليس معه أحد غيري، فخالف عبد الله بيده، فجعلني حذاءه عن يمينه".
- ترتيب الصفوف
1656 - * روى مالك عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: "دخلت على عمر ابن الخطاب بالهاجرة، فوجدته يسبح، فقمت وراءه، فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يرفأ تأخرت فصففنا وراءه". - ترتيب الصفوف: 1657 - * روى أبو داود عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: "ألا أحدثكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقام الصلاة، فصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثم قال: هكذا صلاة- قال عبد الأعلى: لا أحسبه إلا قال-: أمتي". 1658 - * روى النسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "صليت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة خلفنا تصلي معنا، وأنا إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم أصلي معه". 1659 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا" وفي رواية (5): "أنه صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا"، وفي رواية (6) أبي داود قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم حرام، فأتوه بسمن وتمر، فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فإني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعاً، فقامت أم سليم، وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه على بساط" وفي أخرى (7)
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه وامرأة منهم، فجعله عن يمينه، والمرأة خلف ذلك". وفي أخرى (1) للنسائي قال: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، فقال: قوموا فلأصل لكم، قال: في غير وقت الصلاة، قال: فصلى بنا". 1660 - * روى الترمذي عن سمرة بن جندب قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة: أن يتقدمنا أحدنا". قال في (الإعلاء 4/ 217): دلت الأحاديث على أن الواحد يقوم عن يمين الإمام. قال الحافظ في "الفتح": وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقوم عن يمين الإمام إلا النخعي، فقال: إذا كان الإمام ورجل، قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه. أخرجه سعيد بن منصور. ووجهه بعضهم بأن الإمامة مظنة الاجتماع، فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن لكنه مخالف للنص، وهو قياس فاسد، ثم ظهر لي أن إبراهيم إنما كان يقول بذلك حيث يظن ظناً قوياً مجيء ثان، وقد روى سعيد بن منصور أيضاً عنه قال: ربما قمت خلف الأسود وحدي حتى يجيء المؤذن اهـ (2/ 191). قال الحافظ: وقال أصحابنا: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلاً. اهـ (2: 190). قال التهانوي: وكذلك استحبه أصحابنا، فروي عن محمد أنه يضع أصابعه عند عقب الإمام، كذا في الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 177). واختاره الشرنبلالي فقال: يقف الواحد عن يمين الإمام مساوياً له متأخراً بعقبه اهـ. والذي في شروح الهداية، والقدوري، والكنز، والبرهان، والقهستاني أنه يقف مساوياً له بدون تقدم، وبدون تأخر من غير فرجة في ظاهر الرواية كذا في الطحطاوي. ولعل ما في ظاهر الرواية هو الأصل، وإنما استحبوا التأخر قليلاً لئلا يتقدم أحد من العوام على إمامه بشيء، فهو الأحوط لهم.
1661 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها". 1662 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وخير صفوف الرجال المقدم، وشرها المؤخر، وخير صفوف النساء المؤخر، وشرها المقدم. يا معشر النساء إذا سجد الرجال، فاحفظن أبصاركن". قلت لعبد الله: مم ذاك؟ قال: من ضيق الإزار. قال في (الفيض 3/ 487): (خير صفوف الرجال أولها) لاختصاصه بكمال الأوصاف كالضبط عن الإمام والتبليغ عنه [عند الحاجة] ونحو ذلك (وشرها آخرها) لاتصاله بأول صفوف النساء فهو شرها من جهة قربهن والمراد أن الأول أكثرها أجراً والآخر أقلها ثواباً وأبعدها عن مطلوب الشرع (وخير صفوف النساء آخرها) لبعده عن مخالطة الرجال وقربهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاهم وسماع كلامهم ونحو ذلك (وشرها أولها) لكونها بعكس ذلك قال النووي وهذا على عمومه إن صلين مع الرجال فإن تميزن فهن كالرجال خيرها أولها وشرها آخرها قال الطيبي والخير والشر في صفي الرجال والنساء للتفضيل لئلا يلزم من نسبة الخير إلى أحد الصفين شركة الآخر فيه ومن نسبة الشر إلى أحدهما شركة الآخر فيه فيتناقض. ونسبة الشر إلى الصف الأخير وصفوف الصلاة كلها خير إشارة إلى أن تأخر الرجل عن مقام القرب مع تمكنه منه هضم لحقه وتسفيه لرأيه فلا يبعد أن يسمى شراً.
- تسوية الصفوف
- تسوية الصفوف: 1663 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة". وفي رواية (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري" ومنهم من قال فيه: "أقيموا الصفوف". وللبخاري (3) قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري"- زاد في رواية (4) - وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه" وفي رواية (5) أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فو الذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يتخللكم ويدخل من خلل الصف كأنها الحذف" وله في أخرى (6) قال محمد بن السائب: "صليت إلى جانب أنس يوماً، فقال: هل تدري: لم جعل هذا العود في القبلة؟ قلت: لا والله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه سولم يضع يده عليه، فيقول: "استووا، وعدلوا صفوفكم" وفي أخرى (7): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه، ثم التفت، فقال: اعتدلوا، سووا صفوفكم، ثم أخذه بيساره، وقال: اعتدلوا، سووا صفوفكم" وفي أخرى (8) له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من
نقص فليكن في الصف المؤخر" وفي رواية (1) للنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "استووا، استووا، استووا، فو الذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي". أقول: من تصورنا لحجم الحذف نعرف أن ما ينبغي أن يكون بين قدم الرجل والرجل أقل من ذلك، وأن إلصاق القدم بالقدم نوع من المبالغة في تحقيق ذلك ولكنه لا يلزم بالتحديد إذا ما تحقق تضييق الفرجة، ولكن محاذاة الكعب للكعب مطلوبة كمحاذاة المنكب للمنكب. قال في "الفتح" (2/ 211): قوله (باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله، وقد ورد الأمر بسد خلل الصف والترغيب فيه في أحاديث كثيرة أجمعها حديث ابن عمر عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم ولفظه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله". واستدل بحديث النعمان [رايت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه] على أن المراد بالكعب في آية الوضوء العظم الناتئ في جانبي الرجل- وهو عند ملتقى الساق والقدم- وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه، خلافاً لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية ولم يثبته محققوهم وأثبته بعضهم في مسألة الحج لا الوضوء، وأنكر الأصمعي قول من زعم أن الكعب في ظهر القدم. اهـ. قال في الإعلاء وتسوية الصفوف سنة وإن وقع فيه لفظ الأمر وأصله الوجوب ولكنه
محمول على الندب لما جاء في الباب أحاديث بألفاظ مختلفة ففي البخاري عن ابي هريرة مرفوعاً "وأقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة"، وفيه أيضاً عن أنس مرفوعاً "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" اهـ. قال الحافظ في الفتح: قوله "من إقامة الصلاة" هكذا ذكره البخاري عن أبي الوليد، وذكره غيره عنه بلفظ "من تمام الصلاة" كذلك أخرجه الإسمعيلي عن ابن حذيفة، والبيهقي من طريق عثمان الدارمي كلاهما عنه، وكذلك أخرجه أبو داؤد عن أبي الوليد وغيره، وكذا مسلم وغيره من طريق جماعة عن شعبة اهـ (2: 174). قال الحافظ: وقد استدل ابن حزم بقوله: "إقامة الصلاة" على وجوب تسوية الصفوف، قال: لأن إقامة الصلاة واجبة، وكل شيء من الواجب واجب، ولا يخفى ما فيه، لاسيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة. وتمسك ابن بطال بظاهر حديث أبي هريرة فاستدل به على أن التسوية سنة قال: لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وأورد عليه رواية من تمام الصلاة، وأجاب ابن دقيق العيد، فقال: قد يؤخذ من قوله: "تمام الصلاة" الاستحباب. أقول: يبالغ بعض الناس بإلصاق كعبه بكعب مصل آخر لدرجة أن يوجد بين رجليه من الفرجة الكثير وبهذا يكون قد خالف الحكمة من الأمر بإلصاق الكعب بالكعب. 1664 - * روى مالك عن أبي سهيل [نافع] بن مالك [الأصبحي] عن أبيه قال: "كنت مع عثمان، فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصباء بنعليه، حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أن قد استوت، فقال: استو في الصف، ثم كبر". 1665 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "لما قدم المدينة، قيل له: ما أنكرت مما عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنكرت شيئاً، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف".
1666 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصف، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة" وفي أخرى (2): "أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه". 1667 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات الشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطعه قطعه الله". قال في "عون المعبود: 1/ 251): (وصله الله) أي برحمته (ومن قطع) أي بالغيبة أو بعدم السداد أو بوضع شيء مانع (قطعه الله) أي من رحمته الشاملة وعنايته الكاملة. 1668 - * روى ابن خزيمة عن عائشة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف". 1669 - * روى ابن خزيمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيركم ألينكم مناكب في الصلاة". 1670 - * روى الطبراني عن بلال قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي مناكبنا في الصلاة.
1671 - * روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال لقد رأيتنا وما تقام الصلاة حتى تكامل بنا الصفوف. 1672 - * روى أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، قال: وكان يقول: "إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول"، وعند (3) النسائي "الصفوف المقدمة" وفي أخرى (4) لأبي داود قال كهمس [بن الحسن]: "قمنا بمنى إلى الصلاة والإمام لم يخرج، فقعد بعضنا، فقال لي شيخ من أهل الكوفة: ما يقعدك؟ قلت: ابن بريدة، قال: هذا السمود، فقال لي الشيخ: حدثني عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: كنا نقوم في الصفوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً قبل أن يكبر، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون: الصفوف الأول، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها العبد، يصل بها صفاً". أقول: (قلت: ابن بريدة): أي إن ابن بريدة هو الذي أقعده بوصفه القيام قبل خروج الإمام بأنه السمود، وقوله: إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون الصفوف الأول: الصفوف الأول ههنا: بدل عن الذين يلون، لأن الصفوف الأول مختصة بنوع من الرحمة أكثر من غيرها. ورواية البراء لا تتعارض مع الإنكار على السمود، لأن رواية البراء تفيد أن الإمام
- الصلاة بين السواري
خارج للناس لكنه مشغول بترتيب الصفوف، والحادثة التي هي محل الإنكار أن يقوم الناس منتظرين الإمام قبل خروجه. 1673 - * روى ابن خزيمة عن البراء بن عازب يحدث، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا إذا قمنا إلى الصلاة فيمسح عواتقنا وصدورنا ويقول: "لا تختلف صدوركم فتختلف قلوبكم، إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن". قال عبد الرحمن بن عوسجة: كنت نسيت: "زينوا القرآن بأصواتكم"، حتى ذكرنيه الضحاك بن مزاحم. 1674 - * روى البزار عن أبي جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سد فرجة في الصف غفر له". 1675 - * روى أبو داود عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المقدمة، ويتراصون في الصف". - الصلاة بين السواري: 1676 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال: لا تصطفوا بين السواري ولا تأتموا بقوم وهم يتحدثون.
1677 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود: قال: إنما كرهت الصلاة بين السواري للواحد والاثنين. أقول: قول ابن مسعود: (لا تأتموا بقوم وهم يتحدثون) معناه: أي لا تصلوا وأمامكم قوم يتحدثون، لأن ذلك يشغل المصلي ويزعج المتحدثين ويوافق أن يتوجه المصلي إلى وجوه بعض المتحدثين إذا كانوا متحلقين وكل ذلك مكروه، وفي تقييد ابن مسعود كراهية الصلاة بين السواري للواحد والاثنين فيها فسحة حين يضيق المسجد بالمصلين فيضطرون للصلاة بين السواري. 1678 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والفرج يعني في الصلاة". 1679 - * روى الترمذي عن عبد الحميد بن محمود قال: "صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناس، فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال أنس: كنا نتقي هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية (4) أبي داود قال: "صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة، فدفعنا إلى السواري، فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس ... وذكر الحديث". أقول: مذهب أنس يخالف مذهب ابن مسعود الذي مر معنا، فالصحابة حين ضيق المكان وكثرة المصلين مذهبان في الصلاة بين السواري. قال في (إعلاء السنن 4/ 339): قال العيني في العمدة: إذا كان منفرداً لا بأس في الصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وقيد بغير جماعة لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة اهـ (2/ 478). وقال الحافظ في "الفتح": قال المحب
- النهي عن التأخر عن الصف الأول بلا وجه شرعي
الطبري: كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد عن ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إما لانقطاع الصف أو لأنه موضع النعال اهـ. وقال ابن سيد الناس: والأول أشبه لأن الثاني. محدث وقال ابن العربي: ولا خلاف في جوازه عند الضيق، وأما عند السعة، فهو مكروه للجماعة، وأما الواحد فلا بأس به، وقد صلى صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين سواريها اهـ كذا في النيل (3: 235). وذكر في النيل أيضاً أنه رخص في الصف بين السواري أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن المنذر قياساً على الإمام، والمنفرد اهـ. والظاهر من كلام العيني المار أنه مكروه عند الحنفية لما فيه من قطع الصف، وقد تقدم أن قطع الصف مكروه عندنا تحريماً، وكرهه أبو حنيفة للإمام أيضاً، كما ذكره في رد المحتار عن معراج الدراية: الأصح ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: أكره للإمام أن يقوم بين الساريتين أو زاوية أو ناحية المسجد أو إلى سارية لأنه بخلاف عمل الأمة اهـ (1: 675) ففسد قياس المأموم على الإمام كما عزاه الشوكاني إلى أبي حنيفة، فلم يبق إلا القياس على المنفرد، وهو قياس مع الفارق فافهم. 1680 - * روى ابن خزيمة عن قرة، قال: "كنا ننهى عن الصلاة بين السواري، ونطرد عنها طرداً". - النهي عن التأخر عن الصف الأول بلا وجه شرعي: 1681 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار". 1682 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في
أصحابه تأخراً، فقال لهم: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله". 1683 - * روى الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم" ولمسلم (2) أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلاً بادياً صدره، فقال: "عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" وأخرج أبو داود (3) أيضاً قال: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم- ثلاثاً- والله لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، قال: فرأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه" وله في أخرى (4) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبر". قوله "أو ليخالفن الله بين وجوهكم" أي إن لم تسووا والمراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد ويراد بها أيضاً سد الخلل الذي في الصف واختلف في الوعيد المذكور فقيل هو على حقيقته والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن موضعه بجعله موضع القفا أو نحو ذلك وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة. ومنهم من حمل الوعيد المذكور على المجاز قال النووي معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب كما تقول تغير وجه فلان أي ظهر لي من وجهه كراهة لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن ويؤيده رواية أبي
- حكم الصلاة منفردا خلف الصف
داود بلفظ "أو ليخالفن الله بين قلوبكم" وقال القرطبي معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجهاً غير الذي يأخذه صاحبه لأن تقدم الشخص على غيره مظنة للتكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطيعة اهـ انظر (النيل 3/ 23)، (عون المعبود 1/ 350). وقال في "الفتح" في تعليقه على قول البخاري باب إثم من لم يتم الصفوف: ويحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله "سووا صفوفكم" ومن عموم قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" ومن ورود الوعيد على تركه، فرجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان، ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وبما صح عن سويد بن غفلة قال "كان بلال يسوي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة" فقال: ما كان عمر وبلال يضربان أحداً على ترك غير الواجب، وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة اهـ (2/ 210). - حكم الصلاة منفرداً خلف الصف: 1684 - * روى أبو داود عن هلال بن يساف قال: "أخذ زياد بن الجعد بيدي ونحن بالرقة، فقام بي على شيخ يقال له: وابصة بن معبد من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ وهو يسمع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة"، وأخرج أبو داود منه المسند، وفيه "فأمره أن يعيد" قال سليمان بن حرب "الصلاة". 1685 - * روى أحمد عن علي بن شيبان صلينا خلفه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى نبي الله
صلى الله عليه وسلم الصلاة، فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف، فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قضى صلاته، ثم قال له: "استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف". أقول: الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى وحده جماعة خلف الصفوف، لأن صلاته مكروهة لا باطلة، فالصلاة المكروهة تجب إعادتها قبل خروج الوقت لحديث أبي بكرة السابق، ومن وجد نفسه منفرداً وراء الصفوف فإنه يدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام ثم يشد واحداً من أمامه إليه ليخرج من الانفراد وراء الصف، فإذا لم يفهم من أمامه ولم يأت أحد يصلي معه فقد سقط عنه الحرج. قال في "الإعلاء": وحديث وابصة: محمول على الاستحباب، لأن حديث أبي بكرة المتقدم دل على صحة الصلاة، وعدم وجوب إعادتها. قال الحافظ في الفتح: واستدل الشافعي وغيره بحدييث أبي بكرة على أن الأمر في حديث وابصة للاستحباب لكون أبي بكرة أتى بجزء من الصلاة خلف الصف، ولم يؤمر بالإعادة لكن نهي عن العود إلى ذلك، فكأنه أرشد إلى ما هو الأفضل اهـ. وفيه أيضاً: وجمع أحمد وغيره عن الحديثين بوجه آخر، وهو أن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفرداً خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة، وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان اهـ. (الإعلاء 4/ 310). وقال في (4/ 322) هذا وعيد شديد، ومقتضاه في الظاهر وجوب التقدم إلى الصف الأول، كما زعمه بعض الناس ولكن لم يقل به أحد من الأئمة، والمذهب استحباب ذلك، كما في الهندية عن القنية، والقيام في الصف الأول أفضل من الثاني، وفي الثاني أفضل من الثالث اهـ (1: 56). والذي ظهر لي في معنى الحديث أن الوعيد ليس على التأخر من الصف الأول بخصوصه، كما يتبادر من ظاهر لفظه، بل الوعيد على منشأ هذا التأخر الذي هو أمر باطني وهو تقاعد باطن المرء عن السبق إلى الخيرات والمبرات،
واعتياده لذلك حتى يظهر أثره في التأخر عن الصف الأول أيضاً. وفي "الدر المختار": وإن سبق أحد إلى الصف الأول، فدخل رجل أكبر منه سناً أو أهل علم ينبغي أن يتأخر ويقدمه تعظيماً له اهـ قال: فهذا يفيد جواز الإيثار بالقرب بلا كراهة خلافاً للشافعية، وقال في الأشباه: لم أره لأصحابنا أقول: - أي صاحب الإعلاء- وينبغي تقييد المسألة بما إذا عارض تلك القربة ما هو أفضل منها كاحترام أهل العلم، والأشياخ كما أفاده الفرع السابق، أما لو آثر على مكانه في الصف مثلاً من ليس كذلك يكون أعرض عن القربة بلا داع، وهو خلاف المطلوب شرعاً اهـ ملخصاً.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يستحب للإمام بعد أن ينتهي من صلاة الفريضة أن يتحول عن مكانه قليلاً إذا أراد أن يتنفل ويستحب للمأمومين كسر الصفوف بعد صلاة الجماعة إذا أرادوا أن يتنفلوا بتقدم على الصف أو بتأخر حتى لا يشتبه الحال على الداخل الجديد بأن القوم ما زالوا في جماعة، ولابن حجر في "فتح الباري" تحقيق ذكر فيه بعض الأدلة على هذا الذي ذكرناه ومن كلامه: روى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه، وحكى ابن قدامة في "المغني" عن أحمد أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير علي، فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة ولا المغيرة، وكأن المعني في كراهة ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة، وفي مسلم عن السائب بن يزيد أنه صلى مع معاوية الجمعة فتنفل بعدها، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك، ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة، ويؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالاً، لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها، أو لا يتطوع، الأول اختلف، هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور ثم يتطوع، وهذا الذي عليه عمل الأكثر، وعند الحنفية: يبدأ بالتطوع، وحجة الجمهور حديث معاوية، ويمكن أن يقال: لا يتعين الفصل بين الفريضة والذكر، بل إذا تنحى من مكانه كفى، فإن قيل: لم يثبت الحديث في التنحي، قلنا: قد ثبت في حديث معاوية: "أو تخرج" ويترجح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة. - من أقوال الحنفية في أحكام الجماعة: صلاة الجماعة سنة للرجال الأحرار بلا عذر، وصح اقتداء قائم بقاعد يركع إيماءً ويسجد، ولا يصح الاقتداء بمومئ لا يسجد، وصح اقتداء متوضئ بمتيمم وغاسل بماسح ومومئ بمثله ومتنفل بمفترض ولا يصح اقتداء مفترض بمتنفل. - قال الحنفية: يسقط حضور الجماعة بواحد من ثمانية عشر شيئاً: مطر وبرد وخوف وظلمة وحبس وعمى وفلج وقطع يد ورجل وسقام وإقعاد ووجل وزمانة وشيخوخة
وتكرار فقه- أي اشتغال لعلوم شرعية ولو لم تكن مفروضة فرض عين- وحضور طعام تتوقه نفسه وإرادة سفر وقيامه بمريض وشدة ريح ليلاً لا نهاراً وإذا انقطع عن الجماعة بعذر من أعذارها المبيحة للتخلف يحصل له ثوابها. ومثل الفقه عندهم العلوم الشرعية في إسقاطه الجماعة وطلاب العلوم الكفائية ولو كانت دنيوية يحاولون أن يصلوا جماعة بعد خروجهم من مدارسهم أو صفوفهم ما أمكنهم ذلك وإلا جازت صلاتهم بلا إثم لأن صلاة الجماعة سنة عند الحنفية. - إذا سلم الإمام قبل فراغ المقتدي من التشهد يتمه ثم يسلم. - من أبحاث الفقهاء أثناء الكلام عن الجماعة بحث الاستخلاف وهو أن ينيب الإمام غيره من المقتدين إن كان صالحاً للإمامة لإتمام الصلاة بدل الإمام فيصير الثاني إماماً ويخرج الأول عن الإمامة ويصبح في حكم المقتدي بالثاني، وعند الحنفية يجوز الاستخلاف إن سبق الإمام حدث واستئناف الصلاة في حق جميع المصلين أفضل خروجاً من الخلاف لمن منعه. وشرط صحة الاستخلاف سبق حدث اضطراري لا اختيار للإمام فيه ولا في سببه، ومنه الحدث من نحو عطاس أو عجز عن قراءة قدر المفروض ولا يصح الاستخلاف في كل حالة تفسد بها صلاة القوم بسبب فساد صلاة الإمام كانكشاف عورة الإمام في صلاة بقدر ركن. ومن دخل في الصلاة ثم تبين له أنه في الأصل كان محدثاً فلا صلاة له وبطلت صلاته وصلاة من خلفه، نص على ذلك الحنفية وغيرهم. والأعذار التي تبيح الاستخلاف عند المالكية ثلاثة. 1 - الخوف على مال له أو لغيره أو خاف على نفسه من التلف. 2 - أن يطرأ على الإمام ما يمنعه من الإمامة كالعجز عن ركن أو حصول رعاف مانع للإمام أو تذكره لنجاسة على جسمه أو ثوبه. 3 - أن يطرأ على الإمام ما يبطل الصلاة من بول أو ريح أو يتذكر أنه كان محدثاً قبل الصلاة.
وقال الشافعية في المذهب الجديد: يجوز الاستخلاف للإمام إذا أصابه حدث أو رعاف. وعند الشافعية يجوز للمصلين أنفسهم أن يستخلفوا إذا لم يستخلف الإمام. وقال الحنابلة يجوز الاستخلاف لخوف ومرض شديد وعجز عن ركن قولي أو واجب قولي ولا يجوز الاستخلاف لسبق الحدث للإمام لأن صلاته تبطل به ويلزمه الاستئناف. ويحمل كثير من الفقهاء ما فعله أبو بكر حين تراجع عن الإمامة واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه فعل ذلك لأنه دخل في حالة لا يستطيع معها القيام بأقوال الصلاة وأفعالها إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهيبته له. والفقهاء متفقون على أن الإمام إذا أراد الاستخلاف والانسحاب يمسك بأنفه مشعراً إياهم بأنه قد رعف لرفع الحرج عنه، كما أن الجمهور يرون أني ستأنف الإمام والمأموم الصلاة إذا طرأ طارئ بسبب كثرة الشروط التي يحتاج إليها الاستخلاف وبناء الإمام الأول على صلاته الأولى وكذلك من أصابه حدث سماوي فإنه وإن أجاز له بعض الفقهاء أن يذهب ويتوضأ ويبني على صلاته الأولى فالأفضل في حقه الاستئناف لكثرة الشروط التي ينبغي مراعاتها. وموضوع جواز البناء على الصلاة بسبب عذر طارئ في استخلاف الإمام موضوع دقيق يحتاج فيه صاحب كل مذهب أن يدرسه في كتب الفقه الموسعة في مذهبه لإدراك حيثياته الدقيقة، وإنما أشرنا إليه ههنا كي لا يخلو الكتاب من بحث مهم اعتاد الفقهاء أن يتوسعوا فيه بمناسبة الكلام عن الجمعة والجماعة. وإليك ما ذكره الحنفية في هذا الموضوع منقولاً من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته: ويشترط لصحة الاستخلاف عند الحنفية شروط ثلاثة: أولها- توافر شروط البناء على الصلاة السابقة؛ لأن الاستخلاف في الحقيقة بناء من الخليفة على ما صلاه الإمام، وهي ثلاثة عشر شرطاً: كون الحدث قهرياً، من بدنه لا من نجاسة غيره، وكونه غير موجب للغسل كإنزال بتفكر، وغير نادر كالإغماء والجنون والقهقهة، وألا يؤدي ركناً مع الحدث، أو يمشي، ولم
يفعل منافياً عمداً كأن يحدث باختياره، ولا ما لحاجة له به كالذهاب لماء بعيد مع وجود القريب، وألا يتراخى قدر ركن بغير عذر كزحمة، وألا يتبين أنه كان محدثاً سابقاً قبل الدخول في الصلاة، وألا يتذكر فائتة إن كان صاحب ترتيب مطلوب منه (بأن خرج وقت الصلاة السادسة بعد الفائتة) لأنه تفسد الصلاة الوقتية التي يصليها بذلك السبب، والا يتم المؤتم في غير مكانه، فمن سبقه الحدث إماماً أو مأموماً وجب عليه أن يعود بعد الوضوء ليصلي مع الإمام إذا لم يكن قد فرغ إمامه من صلاته، فلو أتم في مكانه فسدت صلاته، أما المنفرد فله أن يتم في مكانه أو غيره، وألا يستخلف الإمام غير صالح للإمامة كصبي وامرأة وأمي، فإذا استخلف أحدهم فسدت صلاته وصلاة القوم. ثانيها- ألا يخرج الإمام من المسجد أو المصلى العام في الصحراء، أو الدار التي كان يصلي فيها قبل الاستخلاف، لأنه على إمامته ما لم يجاوز هذا الحد، فإن خرج بطلت الصلاة أي صلاة القوم والخليفة دون الإمام في الأصح، ما لم يتقدم أحد المصلين بنفسه ناوياً الإمامة ... ثالثها- ألا يجاوز الصفوف قبل الاستخلاف إن ذهب يمنة أو يسرة، وألا يجاوز السترة قدامه، أو موضع السجود إن لم تكن له سترة على المعتمد، إن كان يصلي في الصحراء. وإذا لم يحصل استخلاف، واتم القوم الصلاة فرادى، بطلت صلاة الجميع اهـ (انظر: (حاشية ابن عابدين 1/ 403)، (الشرح الصغير 1/ 465 - 472)، (المهذب 1/ 96)، (المغني 2/ 102)، (الفقه الإسلامي 2/ 252 فما بعدها). - لابد عند الحنفية لصحة صلاة المرأة وراء الإمام أن ينوي الإمام إمامتها، أما إذا لم يكن من ورائه نساء فإن نوى الإمامة كان مأجوراً وإن لم ينو الإمامة صح الاقتداء به، أما المأموم فلابد أن ينوي الاقتداء. - إذا كان ارتفاع الإمام عن المأمومين يسيراً فلا كراهة فيه عند المالكية والحنابلة، أما إذا كان الارتفاع كثيراً فالمذاهب الأربعة على كراهة الارتفاع وقال الشافعية: إذا كان ذلك لضرورة أو بقصد التعليم فلا كراهة.
اتفقت المذاهب الأربعة على إجازة الفتح على الإمام إذا أرتج عليه. - قال المالكية: إذا قال الإمام (ولا الضالين) فإن المأمومين يؤمنون ولا يؤمن الإمام وجمهور العلماء على أن الإمام يؤمن كما يؤمن المأموم. - في القراءة وراء الإمام ثلاثة مذاهب: مذهب الحنفية أنه لا يقرأ المأموم معه شيئاً. ومذهب الشافعية يقرأ المأموم فيما أسر الإمام الفاتحة وغيرها وفيما جهر يقرأ الفاتحة فقط. ومذهب المالكية والحنابلة أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر به ولا يقرأ فيما جهر به، وزاد الحنابلة: إن للمأموم أن يقرأ وراء الإمام في الجهرية إذا لم يكن يسمع صوت الإمام. - قال الحنفية: يتحمل الإمام سهو المأموم إلا إذا سها عن فريضة، فقد اتفق الفقهاء جميعاً على أن الإمام لا يحمل عن المأموم ما كان من فرائض الصلاة إلا أن هناك خلافاً بين الفقهاء حول ما هو فريضة في الصلاة. - قال الحنفية: إن دخل الإمام بالصلاة وهو محدث فإن صلاته باطلة وصلاة من وراءه باطلة، وإذا تذكر بعد انتهاء الصلاة يجب عليه أن يعلم المأمومين ليعيدوا صلاتهم، وإذا تذكر أثناء الصلاة أعلن عن بطلان الصلاة وقدم المأمومون غيره وبدأوا الصلاة من جديد، وإذا تذكر بعد ما انفض الناس فعليه أن يعلم من صلى وراءه قدر الإمكان ليعيدوا صلاتهم، أما إذا طرأ مفسد على صلاة الإمام وجاز له أن يتوضأ ويبني على صلاته فله أن يستخلف كما مر معنا ولا تبطل صلاة المأمومين، وقال المالكية: إذا صلى الإمام بجنابة أو على غير وضوء بطلت صلاته في العمد والنسيان وتبطل صلاة المأموم في العمد دون النسيان، ولا تبطل صلاة المأموم عند الشافعية في كل الأحوال إلا إذا صلى وراء امرأة أو كافر، وقال الحنابلة: كما قال الشافعية بالنسبة للصلاة وراء المرأة أو الكافر، وعند الحنابلة: إذا قضى الإمام والمأمومون الصلاة وكان الجميع يجهلون حدث الإمام أو نجاسة ثوبه
وبدنه ثم تذكر الإمام أو علم المأمومون فصلاتهم جائزة وصلاته باطلة، أما إذا صلى إنسان يحدث أو نجس إماماً وهو يعلم ذلك وعلم من وراءه بحاله فصلاته باطلة وصلاتهم كذلك باطلة، وقد أكفر بعض الحنفية من صلى محدثاً وهو يعلم.
الفصل الثالث في: صلاة الجمعة وما يتعلق بها
الفصل الثالث في: صلاة الجمعة وما يتعلق بها وفيه: عرض إجمالي وفقرات ومسائل وفوائد الفقرة الأولى: في فضل يوم الجمعة وفي بعض خصائصه. الفقرة الثانية: في وجوب صلاة الجمعة على المكلفين بها إلا لعذر وفي الترهيب من تركها وفي بعض آدابها. الفقرة الثالثة: وقت الجمعة ونداؤها وخطبتها وآدابها. الفقرة الرابعة: راتبة الجمعة.
العرض الإجمالي
العرض الإجمالي قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1). فصلاة الجمعة فرض عين على المكلفين بها، يكفر جاحدها لثبوتها بالدليل القطعي فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وهي أفضل الصلوات، كما أنها فرض مستقل بالنسبة للمكلف بها، فليست بدلاً عن الظهر في حقه، وكما أن الجمعة فريضة في حق المكلفين بها فإن السعي إليها فريضة لأنه الوسيلة لتحقيق هذه الفريضة ويبدأ وجوب السعي إليها عند الجمهور بالأذان الذي يكون بين يدي الخطيب، وعند الحنفية بالأذان الأول عند الزوال، إلا إذا كان بعيد الدار عن المسجد فيجب عليه السعي بقدر ما يدرك الفريضة، والتبكير إليها فضيلة. وفي يوم الجمعة ساعة يستجاب الدعاء فيها وقد ذهب بعضهم إلى أنها بعد عصر يوم الجمعة وذهب آخرون إلى أنها عند جلوس الإمام للخطبة إلى نهاية الصلاة. قال الحنفية: ومن سعى يريد الجمعة وقضاء حوائجه وكان معظم مقصوده الجمعة نال ثواب السعي إليها ومتى وجب السعي إليها- بالأذان الأول عند الحنفية وبالأذان الثاني عند الجمهور- فقد حرم البيع وغيره من العقود وسائر الصنائع والأعمال وإذا وقع البيع وقت النداء فقد قال الحنفية البيع صحيح مكروه تحريماً وقال الشافعية البيع صحيح حرام. وتجب الجمعة على البالغ العاقل الحر الذكر المقيم غير المسافر الخالي من الأعذار التي تسقط وجوب الجمعة والذي يكون في مكان قريب من المكان الذي تصلي به الجمعة بحيث يسمع النداء، لكن إن حضر من لم تجب عليه الجمعة إليها وصلى مع الناس أجزأه ذلك عن فرض الوقت. ويجوز عند الحنفية والمالكية للمكلف بالجمعة السفر يوم الجمعة بعد الفجر. وقبل الزوال على أن يكون خارج عمران المصر قبل دخول وقت الظهر والصحيح من مذهب الحنفية: أنه يكره السفر بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة ولا يكره قبل الزوال، وقال الشافعية
والحنابلة: يحرم على من تجب عليه الجمعة السفر قبل الزوال وبعده إلا إذا أمكنه أن يصلي الجمعة في طريقه أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة أو كان السفر واجباً كالسفر لحج ضاق وقته وخاف فوته. وتسقط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام عند الحنابلة. وللجمعة ركنان: الصلاة والخطبة، والصلاة ركعتان بقراءة جهرية إجماعاً، والخطبة فرض وهي خطبتان قبل الصلاة وهي شرط في صحة الجمعة على الأصح. ويشترط لصحة الجمعة: أن تؤدى في وقت الظهر وخالف الحنابلة في هذا الشرط فأجازوا أداءها قبل الزوال. ومن شروط صحة الجمعة: البلد أي كونها في مصر جامع وتعريفه عند الحنفية: هو كل موضع له أمير وقاض أو هو ما لا يسع أكبر مساجدها أهلها المكلفين بالجمعة. ومن شروط صحة الجمعة: الجماعة وأقلهم عند أبي حنيفة ومحمد في الأصح ثلاثة رجال سوى الإمام ولو كانوا مسافرين أو مرضى، وقال المالكية: لابد من حضور اثني عشر رجلاً للصلاة والخطبة على الأقل على أن يكونوا من أهل البلد وأن يستمروا مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام من صلاتها وقال الشافعية والحنابلة: أقل عدد تجوز به صلاة الجمعة أربعون بالإمام على أن يكونوا من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين المستمرين في الإقامة. ومن شروط صحة الجمعة عند الحنفية: أن يأذن الإمام أو نائبه أو من له حكم الإمام بصلاة الجمعة وأن يكون هناك إذن عام يستطيع به كل من أراد صلاة الجمعة أن يدخل إلى الجامع ولم يشترط غير الحنفية هذين الشرطين، واشترط المالكية لصحة الجمعة أن تكون في مسجد جامع يجمع فيه على الدوام فلا تصح في البيوت ولا في رحبة دار ولا في خان ولا في ساحة من الأرض، كما اشترطوا أن تصلى بإمام مقيم وأن يكون هو الخطيب إلا لعذر يبيح الاستخلاف وتصح الجمعة عندهم في رحال المسجد، واشترط الشافعية لصحة الجمعة: عدم تعدد الجمع في المكان الواحد إلا إذا كان التعدد لحاجة، فإذا كان التعدد لحاجة سن عندهم صلاة الظهر احتياطاً، والفتوى عند الحنفية أنه يجوز تعدد الجمعة في العصر الواحد رفعاً للحرج.
ومن شروط صحة الجمعة الخطبة قبلها وهي خطبتان قبل الصلاة اتفاقاً. ويدرك صلاة الجمعة من أدرك الإمام يوم الجمعة في أي جزء من صلاته، فيصلي معه ما أدرك ويكمل الجمعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال الجمهور: من أدرك الركعة الثانية مع الإمام أدرك الجمعة وأتمها جمعة وإن لم يدرك الركعة الثانية أتمها ظهراً. والترقية بين يدي الخطيب من مثل قراءة الفاتحة بعد أن يصعد الخطيب إلى المنبر مكروهة تحريماً عند أبي حنيفة وجائزة عند الصاحبين وبدعة حسنة عند الشافعية. ومن سنن الجمعة: الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب لمن يأتي الجمعة، والتبكير للجمعة ماشياً بسكينة ووقار والاقتراب من الإمام والاشتغال في طريقه بتلاوة أو ذكر، ومن سنن الجمعة تقليم الأظافر والشارب ونتف الإبط وحلق العانة وإزالة الرائحة الكريهة من الفم بالسواك وغيره وكذلك إزالة مواطن الرائحة الكريهة من الجسم، ويسن للإمام أن يزيد في حسن الهيئة والعمة والارتداء. ومن سنن الجمعة: قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلتها والإكثار من الدعاء يومها وليلتها والإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها وليلتها ويسن للإمام أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى سورة الجمعة وفي الثانية سورة المنافقون، أو سبح اسم ربك الأعلى في الأولى وهل أتاك حديث الغاشية في الثانية. وتسن قراءة ألم السجدة وهل أتى على الإنسان في صلاة صبح الجمعة، ولا تستحب المداومة عليهما خشية أن يظن افتراضهما ويسن صلاة أربع ركعات قبل الجمعة وأربع بعدها وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وقال الحنفية: إذا دخل الإنسان المسجد فوجد الإمام قد خرج إلى مكان الخطبة فإنه يجلس ولا يصلي شيئاً وأجاز بعض العلماء أن يصلي الداخل ركعتين خفيفتين ولو خرج الإمام للخطبة، وتتأكد تلاوة أذكار الصلاة بعد الجمعة ويستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول عن موضعه. قال الحنفية: يكره تحريماً صلاة الظهر يوم الجمعة بجماعة في مكان إقامة الجمعة، وهو المصر للسجناء والمعذورين وقال الجمهور غير الحنفية: يجوز لمن فاتتهم الجمعة لعذر أو لمن لا تجب
عليهم أن يصلوها ظهراً في جماعة، ولا يجوز لأحد أن يقيم إنساناً من مكانه ويجلس فيه لأن من سبق إلى مكان فهو أحق به وإذا وجد مكاناً مفروشاً خاصاً فليس لغير صاحبه عند الحنابلة أن يرفعه لما فيه من الافتيات على صاحبه وذلك ما لم تحضر الصلاة ويبقى صاحب المكان غائباً فلغيره حينئذ رفعه والصلاة مكانه، ومن كلام المالكية: يكره ترك العمل يوم الجمعة لأجله ويحرم السلام من داخل أو جالس على أحد ويحرم رد السلام ولو بالإشارة وتشميت عاطس والرد عليه ونهي لاغ أو إشارة له بأن ينكف عن اللغو متى خرج الخطيب للخطبة وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إذا كثر الزحام جاز سجود الإنسان على ظهر إنسان أمامه أو قدمه وقال المالكية: لا يجوز ذلك ولا تصح به الصلاة. ومن مفسدات الجمعة خروج وقت الظهر أثناء الصلاة عند الجمهور وقال المالكية: لا تفسد وكذلك الفتوى عند الصاحبين وقال الحنفية: من صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له حرم ذلك وجازت صلاته فإن بدا له أن يتوجه إلى الجمعة فبمجرد سعيه إليها ما دامت لم تقم بعد بطلت صلاة الظهر وصارت نفلاً وإن لم يدركها، وهذا مذهب أبي حنيفة وقال الصاحبان: لا تبطل حتى يدخل مع الإمام، والجمهور على أن صلاة الظهر قبل الجمعة لا تصح وتجب عليه الجمعة والسعي إليها، فإن كانت صلاة الجمعة قد انقضت يصلي الظهر ويجزئه ذلك على عصيانه وأكثر أهل العلم قالوا: إن من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر والعبد والمرأة، له أن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام يوم الجمعة وإذا خرج وقت الظهر يوم الجمعة ولم تصل الجمعة أو ضاق وقتها عن أدائها صلى أصحاب ذلك الظهر قضاء، وإذا لم يتوافر شرط من شرائط صحة الجمعة صلى الناس الظهر بدلاً عنها. وقد رأينا أن الخطبة قبل الصلاة ركن من أركان الجمعة وشرط من شروط صحتها وهي خطبتان قبل الصلاة اتفاقاً، بينهما جلسة خفيفة، قال الحنفية: وتكون الخطبتان بعد الزوال قبل الصلاة وتكون خفيفتين بقدر سورة من طوال المفصل يفصل بينهما بقعدة قدر قراءة ثلاث آيات ويخطب قائماً مستقبل الناس، ولو اختصر الخطيب على تحميدة أو تهليلة أو تسبيحة جاز عند أبي حنيفة مع الكراهة وقال الصاحبان: لابد من ذكر طويل يسمى خطبة أقله قدر التشهد ويشترط ألاي فصل فاصل كثير أجنبي بين الخطبة والصلاة كطعام
مثلاً، ولا يشترط اتحاد الإمام والخطيب ولكن لا يصلي غير الخطيب إلا لعذر وأجازوا الخطبة بغير العربية، وكمال كل من الخطبتين أن يتعوذ سراً ثم يجهر بحمد الله ويثني عليه ويأتي بالشهادتين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذكر ويعظ، ويندب في الخطبة الثانية ذكر الخلفاء الراشدين والعمين حمزة والعباس وذكر الحسن والحسين وذكر الصحابة بالخير إظهاراً لعقائد أهل السنة والجماعة، ومن شروط صحة الخطبة عند المالكية: أن تكون داخل المسجد فلو خطبهما خارجه لم يصحا، وللخطبة عند الشافعية خمسة أركان: حمد الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية بالتقوى وتجب هذه الثلاثة في كل من الخطبتين وقراءة آية مفهمة في إحدى الخطبتين والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بأمر أخروي في الخطبة الأخيرة، واشترط الكثير من الفقهاء أن تكون الخطبة بالعربية، ومن سنن الخطبة كونها على منبر وأن يكون المنبر على يمين المحراب فإن لم يتيسر المنبر فعلى موضع مرتفع والجلوس على المنبر قبل الشروع في الخطبة واستقبال القوم بوجهه دون الالتفات يميناً وشمالاً سنة بالاتفاق ولا يسن للخطيب أن يسلم على القوم عند الحنفية ويسن له ذلك عند الشافعية والحنابلة إذا صعد المنبر وواجه الناس قبل الجلوس، أما المالكية فقد قالوا يسلم حال خروجه للخطبة ومن السنة أن يؤذن مؤذن واحد بين يدي الخطيب إذا جلس على المنبر وقال الشافعية يسن أن يختم الخطبة الثانية بقوله: أستغفر الله لي ولكم ويسن أن يرفع صوته في الخطبة لإسماع الناس وأن يعتمد الخطيب بيساره على شيء أثناء الخطبة وأن يقصر الخطبتين وأن تكون الثانية أقصر من الأولى ويسن أن تكون الخطبة بليغة مفهومة واعظة وأن يكون الخطيب عاملاً بما يدعو إليه ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة عند المالكية والحنابلة وبمجرد صعود الإمام المنبر عند الحنفية ويحرم الكلام عند المالكية والحنابلة من غير الخطيب وقال الشافعية: إن الإنصات أثناء الخطبة سنة، وذكر الشافعية والحنابلة أنه يجوز أثناء الخطبة إنذار أعمى من الوقوع في خطر كما ذكروا أنه تستحب تحية المسجد للداخل بركعتين خفيفتين، وأجازوا تشميت العاطس، وأجازوا رد السلام وإن كان البدء به للداخل مكروهاً وأجازوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره ولا يحرم الكلام على الخطيب ولا على من سأله الخطيب ويسن عند الشافعية أن يبادر الخطيب بالنزول عن المنبر ليبلغ المحراب مع فراغ المؤذن من الإقامة،
ويستحب للخطيب أن يصعد المنبر على تؤدة وأن يسرع في النزول من غير عجلة. ومن مكروهات الخطبة: تطويلها ويكره باتفاق العلماء تخطي الرقاب أثناء الخطبة لغير الإمام ولغير فرجة، وأجاز المالكية المشي بين الصفوف ولو حال الخطبة لأنه ليس من التخطي، ومن مكروهات الخطبة أن يشير الخطيب بيده أو غيرها وأن يدق درج المنبر ويكره الاحتباء للحاضرين في الخطبة ولا ينبغي للسامع ولا للإمام تغميض عينيه من غير حاجة حال الخطبة ومن المكروه عند الحنابلة استدبار الخطيب القوم أثناء الخطبة من أجل الدعاء ورفع يديه لدعاء الخطبة ووافقهم على ذلك المالكية والشافعية، وأجاز الحنابلة الاحتباء مع ستر العورة، ويكره عند الحنابلة والشافعية التشبك في المساجد ومن حين يخرج المصلي من بيته قاصداً المسجد، ويكره العبث حال الخطبة كما يكره الشرب ما لم يشتد عطشه ويكره عند الحنفية والحنابلة وغيرهم التخطي للسؤال بكل حال وأجاز بعض الفقهاء السؤال والإعطاء إن كان السائل لا يمر بين يدي المصلي ولا يتخطى الرقاب ولا يسأل إلحافاً ولا يتصدق على سائل وقت الخطبة وأجاز الحنابلة الصدقة حال الخطبة على من يسأل وعلى من سألها الإمام له والصدقة على دار المسجد عند الدخول والخروج لا حرج فيهما (1). ...
الفقرة الأولى: في فضل يوم الجمعة وفي بعض خصائصه
الفقرة الأولى: في فضل يوم الجمعة وفي بعض خصائصه 1686 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن أول جمعة جمعت- بعد جمعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم- في مسجد عبد القيس بجواثا من البحرين" وفي رواية (2) أبي داود: أن أول جمعة في الإسلام- بعد جمعة جمعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة- لجمعة جمعت بجواثا من قرى البحرين. قال عثمان: -[وهو ابن أبي شيبة]- "قرية من قرى عبد القيس". أقول: هي قرية لم تزل آثارها باقية بجانب مدينة الهفوف في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وكانت البحرين قديماً تطلق على ما يسمى الآن بالمنطقة الشرقية والإمارات العربية وجزيرة البحرين وقطر والكويت تقريباً. 1687 - * روى ابن خزيمة عن ابن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي كعب بن مالك حين ذهب بصره، وكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال: فمكث حيناً على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له، فقلت في نفسي: والله إن هذا لعجز بي حيث لا أسأله، ماله إذا سمع الأذان بالجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟ قال: فخرجت به يوم الجمعة كما كنت أخرج به، فلما سمع الأذان بالجمعة صلى على أبي أمامة واستغفر له، فقلت له، يا أبت مالك إذا سمعت الأذان بالجمعة صليت على أبي أمامة؟ قال: أي بني كان أول من جمع بالمدينة في هزم بني بياضة، يقال له نقيع الخضمات. قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً. هذا حديث سلمة بن الفضل.
- الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وما فيه من عظائم الأمور
- الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وما فيه من عظائم الأمور: 1688 - * روى أحمد عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي"، فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ - قال: يقولون: بليت- قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". قال الشيخ أحمد البنا: الحديث يدل على أن يوم الجمعة له فضل كبير عند الله عز وجل ومزايا عظمى، بل تدل بظاهرها على أنه أفضل الأيام، وبه جزم ابن العربي، ويشكل على ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن قرط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الأيام عند الله يوم النحر" وما رواه ابن حبان أيضاً في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من يوم أفضل عند الله تعالى من يوم عرفة" وقد جمع العراقي فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الأسبوع وتفضيل يوم عرفة أو يوم النحر بالنسبة إلى أيام السنة، وصرح بأن حديث أفضلية يوم الجمعة أصح. وفي الحديث دليل على أن آدم عليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام خلق في يوم الجمعة، وفيه دخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وفيه تبعث الخلائق بعد الموت (قال القاضي عياض) الظاهر أن هذه الفضائل المعدودة ليست لذكر فضيلته، وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحة لنيل رحمة الله ودفع نقمته، وهذا كلام القاضي عياض رحمه الله (وقال أبو بكر بن العربي) في
كتابه الأحوذي في شرح الترمذي الجميع من الفضائل، وفي هذا الحديث فضيلة يوم الجمعة ومزيته على سائر الأيام. اهـ. وفيه استحباب الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بل وفي ليلتها كما جاء في بعض الأحاديث وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وسلم والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة (منها) ما رواه الإمام الشافعي في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة فأكثروا الصلاة علي" [وهو حديث حسن] (ومنها) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها"، قال: قلت: وبعد الموت، قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" رواه ابن ماجه بسند جيد (وعن ابن مسعود) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" رواه النسائي وابن حبان في صحيحه [وهو صحيح]، وكذلك رواه الإمام أحمد. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تبارك وتعالى ملكاً أعطاه أسماء الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت فليس أحد يصلي علي صلاة إلا قال: يا محمد صلى عليك فلان بن فلان: قال فيصلي الرب تبارك وتعالى على ذلك الرجل بكل واحدة عشر، [رواه الطبراني وابن حبان وهو صحيح] وغير ذلك كثير "وقد ذكر الحافظ ابن القيم" رحمه الله تعالى في كتابه زاد المعاد [نحو ذلك] ... (وفيها) أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره وأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء والأحاديث في ذلك كثيرة قال الشوكاني وقد ذهب جماعة من المحققين إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي بعد وفاته وانه يسر بطاعات أمته؛ وأن الأنبياء لا يبلون مع أن مطلق الإدراك كالعلم والسماع ثابت لسائر الموتى، وورد النص في كتاب الله في حق الشهداء أنهم أحياء يرزقون، وأن الحياة فيهم متعلقة بالجسد، فكيف بالأنبياء والمرسلين، وقد ثبت في الحديث أن الأنبياء أحياء في قبورهم وصححه البيهقي، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مررت بموسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره". الفتح الرباني 6/ 10 - 12.
ساعة الإجابة يوم الجمعة
1689 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها" زاد في رواية (1) "ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة". ساعة الإجابة يوم الجمعة: 1690 - * روى الترمذي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف رحمه الله عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه"، قالوا: يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال: "حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها". 1691 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إليه، وأشار بيده- "يقللها". وفي رواية (2): قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إن في يوم الجمعة ساعة ... " وذكر نحوه- وقال بيده، قلنا: يقللها يزهدها؟. وفي أخرى (3) نحوه، وفي آخره: وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر- قلنا: يزهدها؟.
ولمسلم (1): عن في الجمعة لساعة ... وذكره، وفي آخره: وهي ساعة خفيفة. 1692 - * روى مسلم عن أبي بردة رحمه الله قال: قالت لي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة يوم الجمعة؟ قال: قلت: نعم سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام على أن تقضى الصلاة". 1693 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس". 1694 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم الجمعة ثنتا عشرة- يريد ساعة، وقال النسائي: ثنتا عشرة ساعة- لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئاً، إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر". 1695 - * روى أحمد بن أبي سلمة قال: كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو يصلي يسأل الله خيراً إلا آتاه
إياه"، قال وقللها أبو هريرة بيده. قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: والله لقد جئت أبا سعيد فسألت عن هذه الساعة إن يكن عنده منها علم، فأتيته فوجدته يقوم عراجين فقلت: يا أبا سعيد ما هذه العراجين التي أراك تقوم؟ قال هذه عراجين جعل الله لنا فيها بركة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ويتخصر بها، فكنا نقومها ونأتيه بها، فرأى بصاقاً في قبلة المسجد وفي يده عرجون من تلك العراجين فحكه وقال: "إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصقن أمامه فإن ربه أمامه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه". قال: ثم قال سريج: فإن لم يجد مبصقاً ففي ثوبه أو نعله. قال ثم هاجت السماء من تلك الليلة فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة فرأى قتادة بن النعمان فقال: "ما السير أبا قتادة" قال علمت يا رسول الله أن شاهد الصلاة قليل فأحببت أن أشهدها، قال "فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك". فلما انصرف أعطاه العرجون قال: "خذ هذا فسيضئ لك أمامك عشراً وخلفك عشراً فإذا دخلت البيت ورأيت سواداً في زاوية البيت فاضربه قبل أن تتكلم فإنه الشيطان". قال: ففعل، فنحن نحب هذه العراجين لذلك. قال: قلت: يا أبا سعيد إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة فهل عندك علم فيها؟ فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: "إني كنت أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر". وزاد ثم خرجت من عنده- يعني من عند أبي سعيد- حتى أتيت دار رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: هذا رجل قد قرأ التوراة وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فدخلت عليه فقلت أخبرني عن هذه الساعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيها ما يقول في يوم الجمعة. قال: نعم خلق الله آدم يوم الجمعة وأسكنه الجنة يوم الجمعة وأهبطه إلى الأرض يوم الجمعة وتوفاه يوم الجمعة وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة وهي آخر ساعة من يوم الجمعة. قال: قلت ألست تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في صلاة، قال: أولست تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من انتظر صلاة فهو في صلاة". قوله: (فإن ربه أمامه ...) وفي رواية (وإن ربه بينه وبين القبلة) وكذا (فإن الله
قبل وجهه)، قال الحافظ ابن حجر: (قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه فصار في التقدير: فإن مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على حذف مضاف أي عظمة الله أو ثواب الله. وقال ابن عبد البر: هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة. اهـ. 1696 - * روى أبو يعلى عن أنس بن مالك قال: عرضت الجمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءه جبريل في كفه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء فقال: "ما هذا يا جبريل؟ " قال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير تكون أنت الأول ويكون اليهود والنصارى من بعدك، وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة: يوم المزيد .. " فذكر الحديث. ولأنس في رواية عنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأيام فعرض علي فيها يوم الجمعة فإذا هي كمرآة بيضاء فإذا في وسطها نكتة سوداء فقلت ما هذه؟ قيل الساعة". 1697 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته، أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع
الشمس، شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه"، قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو هريرة: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء، أو بيت المقدس" يشك- قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام- فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار، وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، قال عبد الله بن سلام: كذب كعب: فقلت: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي؟ قال أبو هريرة: فقلت: أخبرني بها، ولا تكن عني- وفي نسخة ولا تضن علي- فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة، قال أبو هريرة: فقلت: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فتلك ساعة لا يصلى فيها"؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس مجلساً ينتظر فيه الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي"؟ قال أبو هريرة: فقلت: بلى، قال: فهو ذلك. أقول: الأقوال في ساعة الاستجابة يوم الجمعة كثيرة تبلغ ثلاثين قولاً، أرجحها أنها تبدأ منذ إقامة صلاة الجمعة إلى انصراف الناس منها أو أنها قبيل الغروب بعد العصر، وفي هذين الوقتين مرت معنا روايات منها ما ناقش بعضهم في ثبوته ومنها ما كان بعضه من أهل الكتاب، ولذلك بقي الاختلاف فيها قائماً وسر ذلك أن يكثر الإنسان من الدعاء في كل
ساعات الجمعة، لكن الترجيح أنها في أحد هذين الوقتين والأدلة على هذا وهذا قائمة. قال في (الفتح الرباني 6 - 18): قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى وهو: ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام وهو: آخر ساعة يوم الجمعة اهـ قال الحافظ: وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره (وقد اختلف السلف) في أيهما أرجح، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن مسلماً قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره (وقال النووي): هو الصحيح بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً وفي أحد الصحيحين (وذهب آخرون) إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة أيضاً (كأحمد وإسحاق) ومن المالكية (الطرطوشي)، وحكى العلائي: أن شيخه الزملكان شيخ الشافعية في وقته كان يختاره ويحكيه عن الشافعي، وأجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب، أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، كذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد إنما هي كتب كانت عندنا (وقال علي بن المديني) لم أسمع أحداً من أهل المدينة يقول عن مخرمة إنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي، ولا يقال مسلم يكتفي بالمعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا، لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع، وأما الاضطراب
فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله وهؤلاء من أهل الكوفة وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني وهم عدد وهو واحد، وأيضاً فلو كان عند أبي بردة مرفوعاً لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع، ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب (وسلك صاحب الهدى) مسلكاً آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر "الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين" وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد وهو أولى في طريق الجمع، قال ابن المنير في الحاشية: إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لا تكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها. اهـ ما نقله الحافظ والله أعلم. 1698 - * روى مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق". 1699 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تطلع الشمس بيوم، ولا تغرب أفضل أو أعظم من يوم الجمعة، وما من دابة لا تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين: الجن والإنس". قال علي بن حجر وابن بزيع ومحمد بن الوليد: "على يوم أفضل"، ولم يشكوا. 1700 - * روى أحمد عن أبي لبابة نحوه وفيه: وهو أي يوم الجمعة أعظم عند الله من
يوم الأضحى ويوم الفطر. 1701 - * روى ابن حبان عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من صام يوم الجمعة وراح إلى الجمعة وشهد جنازة وأعتق رقبة". 1702 - * روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم أحدكم". ففسر العلماء حديث أبي سعيد أنه إذا كان صوم أحدكم في يوم الجمعة اتفاقاً لا قصداً. والحكمة والله أعلم في النهي عن اختصاص ليلتها بقيام دون الليالي ليصبح نشيطاً في تأدية وظائفها من تبكير إلى الصلاة وانتظار ودعاء وذكر وعبادة واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها لقوله عز وجل {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا] (1) وغير ذلك من العبادات في يومها، وكذلك الحكمة في النهي عن صوم يومها، لأن الفطر فيه يكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة، فإن السنة له الفطر، وقيل سبب النهي عن خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت، وقيل سبب النهي لئلا يعتقد وجوبه، أفاده النووي ورجح الأول والله أعلم.
1703 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر، فرجل حضرها يلغو، فذلك حظه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك: أن الله عز وجل يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (1).
الفقرة الثانية في وجوب صلاة الجمعة على المكلفين بها إلا لعذر، وفي الترهيب من تركها وفي بعض آدابها
الفقرة الثانية في وجوب صلاة الجمعة على المكلفين بها إلا لعذر، وفي الترهيب من تركها وفي بعض آدابها وجوب صلاة الجمعة والترهيب من تركها لغير عذر: 1704 - * روى البخاري عن يونس بن يزيد الأبلي قال: كتب رزيق بن حكيم إلى ابن شهاب وأنا معه يومئذ بوادي القرى: هل ترى أن أجمع؟ ورزيق عامل على أرض يعملها، وفيها جماعة من السودان وغيرهم يعملون فيها، ورزيق يومئذ على أيلة، فكتب ابن شهاب وأنا أسمع يأمره أن يجمع، يخبره أن سالماً حدثه: أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، ومسؤول عن رعيته، قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه، ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته". 1705 - * روى أحمد عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع على قلبه".
أقول: والحديث محمول على التغليظ والتحذير وعلى نوع من الطبع على القلب لا يصل إلى درجة الطبع في حق الكافر. 1706 - * روى الطبراني عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين". 1707 - * روى أبو يعلى عن ابن عباس قال: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره. 1708 - * روى مالك عن صفوان بن سليم رضي الله عنه: قال مالك: لا أدري أعن النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا، إلا أنه قال: من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر ولا علة، طبع الله على قلبه. 1709 - * روى أبو داود عن أبي الجعد الضمري رضي الله عنه- وكانت له صحبة-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه". وعند الترمذي "من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه". 1710 - * روى أبو يعلى عن جابر قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: "عسى رجل تحضره الجمعة وهو على قدر ميل من المدينة فلا يحضر الجمعة، ثم
قال في الثانية عسى رجل تحضره الجمعة وهو على قدر ميلين من المدينة فلا يحضرها وقال في الثالثة عسى يكون على قدر ثلاثة أميال من المدينة فلا يحضر الجمعة ويطبع الله على قلبه". 1711 - * روى مسلم عن الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه: أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". 1712 - * روى الطبراني عن كعب بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يأتونها أو ليطبعن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين". 1713 - * روى ابن خزيمة عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (1). 1714 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على
- الترغيب في صلاة الجمعة
رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم". 1715 - * روى مالك عن مالك بن أنس رحمه الله: أنه سأل ابن شهاب عن قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) فقال ابن شهاب: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرؤها: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فامضوا إلى ذكر الله). أقول: قراءة فامضوا تعتبر بمثابة التفسير لأنها تخالف رسم القرآن فلا تعتبر قراءة متواترة واصطلح القراء على أن يسموها قراءة شاذة. - الترغيب في صلاة الجمعة: 1716 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر". 1717 - * روى أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله تبارك وتعالى ليعجب من الصلاة في الجمع". 1718 - * روى الطبراني عن مسلم بن عياض قال: سألت الحسن بن علي عن ركعتي الجمعة قال هما قاضيتان مما سواهما. أي ركعتا الجمعة تقضيان فريضة الوقت.
بعض آداب يوم الجمعة
بعض آداب يوم الجمعة: التبكير إلى الصلاة 1719 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". وفي رواية (1) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر". وفي أخرى (2): "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول: ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم، وجاؤوا يستمعون الذكر". ولمسلم (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب
الأول فالأول، فالأول مثل الجزور، ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة، فإذا جلس الإمام طويت الصحف، وحضروا الذكر". وأخرج الموطأ (1) والترمذي (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) الرواية الأولى، وزاد الموطأ، في الساعة الأولى. وللنسائي (5) أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي بدنة، ثم الذي على إثره كالذي يهدي بقرة، ثم الذي على إثره كالذي يهدي الكبش، ثم الذي على إثره كالذي يهدي الدجاجة، ثم الذي على إثره كالذي يهدي البيضة". وللنسائي (6) أيضاً نحو الأولى، وفيها: "ومثل المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم كالمهدي بقرة، ثم كالمهدي شاة، ثم كالمهدي بطة، ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة". وفي أخرى (7) نحوها، وفيه بعد الدجاجة عصفور، وأسقط "البطة". 1720 - * روى ابن خزيمة عن أنس، قال: كنا نبكر- يعني الجمعة- ثم نقيل. 1721 - * روى ابن ماجه عن علقمة خرجت مع عبد الله إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد
- الاغتسال للصلاة ومس الطيب ولبس أحسن الثياب والإنصات وعدم تخطي الرقاب
سبقوه فقال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات الأول والثاني والثالث ثم قال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد". - الاغتسال للصلاة ومس الطيب ولبس أحسن الثياب والإنصات وعدم تخطي الرقاب: 1722 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا". وفي رواية (1) قال: "من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم صلى معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام". ولأبي داود (2) عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها" قال: ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام. ويقول: "عن الحسنة بعشر أمثالها". أقول: أجاز بعض الفقهاء للخطيب أن يسأل الناس أو أحداً منهم فإذا سئل واحد منهم فأجابه فلا يعتبر ذلك من اللغو.
1723 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل، وغسل رأسه، ثم تطيب من أطيب طيبه، ولبس من صالح ثيابه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يفرق بين اثنين، ثم استمع للإمام، غفر له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام". 1724 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف قال: افتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه فقال: "أين كنت فإني لم أرك، ألم تشهد الصلاة؟ قال: بلى ولكني جئت وقد ثبت الناس، فكرهت أن أتخطى رقاب الناس قال: بلى". 1725 - * روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب الله له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". وفي رواية (1) النسائي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، وينصت حتى يقضي صلاته، إلا كانت كفارة لما قبله من الجمعة". قال معلق (شرح السنة 4/ 268): قد فرق النووي بين التخطي والتفريق بين الاثنين، وجعل ابن قدامة في "المغني" التخطي: هو التفريق؛ قال العراقي: والظاهر الأول، لأن التفريق يحصل بالجلوس بينهما وإن لم يتخط، وقد اختلف أهل العلم في حكم التخطي يوم الجمعة: فقال الترمذي حاكياً عن أهل العلم: أنهم كرهوا تخطي الرقاب يوم الجمعة، وشددوا في ذلك، وحكى أبو حامد في تعليقه عن الشافعي التصريح بالتحريم،
وقال النووي في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط. أقول: الظاهر كراهة التخطي إلا إذا كان لإملاء محل فارغ قصر المتقدمون فلم يملؤوه. 1726 - * روى أبو داود عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، ولم يلغ واستمع: كان له بكل خطوة أجر عمل سنة: صيامها، وقيامها". وللنسائي (1) والترمذي (2): "من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكر وابتكر ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة، صيامها وقيامها". قال أبو داود: وسئل مكحول عن "غسَّل واغتسل" فقال: غسل رأسه وجسده، وكذلك قال سعيد بن عبد العزيز. 1727 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر "أن ابن عمر كان لا يروح إلى الجمعة إلا
ادهن وتطيب، إلا أن يكون حراماً". 1728 - * روى الطبراني عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان هل تدري ما يوم الجمعة؟ قلت: هو الذي جمع الله فيه أباك أو أبويك، قال: لا ولكن أحدثك عن يوم الجمعة: ما من مسلم يتطهر ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب من طيب أهله إن كان لهم طيب وإلا فالماء ثم يأتي المسجد فينصت حتى يخرج الإمام ثم يصلي إلا كانت كفارة له بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة وذلك الدهر كله". 1729 - * روى الطبراني في الأوسط والصغير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعة من الجمع: "معاشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله لكم عيداً فاغتسلوا وعليكم بالسواك". 1730 - * روى أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب امرأته- إن كان لها- ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينها، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً". 1731 - * روى أحمد عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت حتى يصلي كانت كفارة
له لما بينها وبين الجمعة الأخرى، وفي رواية (1) ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد. 1732 - * روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم". وفي أخرى (2) "الغسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم". وفي أخرى (3) قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد"، قال عمرو-[يعني ابن سليم راوي الحديث]- أما الغسل: فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم: أواجب هو، أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث". ولمسلم (4) قال: "غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه". وفي رواية (5) قال في الطيب "ولو من طيب المرأة". أقول: الذي استقر عليه العمل عند جماهير المسلمين أن غسل الجمعة سنة كما سنرى أدلة ذلك. 1733 - * روى مالك عن عبيد الله بن السباق المدني الثقفي رحمه الله أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: "يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيداً، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك". 1734 - * روى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". 1735 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن أبي قتادة قال: دخل علي أبو قتادة يوم الجمعة وأنا أغتسل. قال: غسلك هذا من جنابة؟ قلت نعم. قال: فأعد غسلاً آخر. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهراً إلى الجمعة الأخرى". أقول: هذا مذهب لأبي قتادة وهو مذهب صحابي إذا عارضته السنة فالسنة مقدمة والنصوص واضحة في أن غسل الجنابة يوم الجمعة ينوب عن غسل الجمعة والأفضل أن ينوي المغتسل إذا كان جنباً الغسل من الجنابة وغسل الجمعة. 1736 - * روى الشيخان عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أن عمر بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة، غذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين
- وفي رواية أبي هريرة من رواية الأوزاعي إذ دخل عثمان بن عفان- فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت اليوم، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت، فقال عمر، والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل؟ وفي حديث أبي هريرة أنه قال: ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دخل أحدكم إلى الجمعة فليغتسل"؟ 1737 - * روى أبو داود عن عكرمة مولى ابن عباس: أن ناساً من أهل العراق جاؤوا، فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر، وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح، آذى بذلك بعضهم بعضاً: فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: "أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه"، قال ابن عباس: ثم جاء الله تعالى ذكره بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق. 1738 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العباء، ويصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم الريح،
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا؟ ". وفي رواية (1) يحيى بن سعيد "أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة؟ فقالت: قالت عائشة: كان الناس مهنة أنفسهم، فكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم؟ ". وفي أخرى (2) "كان الناس أهل عمل، ولم يكن لهم كفاة، فكانوا يكون لهم تفل، فقيل لهم: لو اغتسلتم يوم الجمعة؟ ". 1739 - * روى أحمد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". 1740 - * روى ابن خزيمة عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- اتخاذ لباس خاص للجمعة
"من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأت فليس عليه غسل من الرجال والنساء". أقول: قوله عليه الصلاة والسلام ومن لم يأتها: أي لعذر من الأعذار التي تبيح ترك الجمعة. 1741 - * روى الطبراني في الأوسط عن علي قال: يستحب الغسل يوم الجمعة وليس بحتم. 1742 - * روى البزار عن عبد الله بن مسعود قال: من السنة الغسل يوم الجمعة. - اتخاذ لباس خاص للجمعة: 1743 - * روى مالك عن يحيى بن سعيد رحمه الله بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته". 1744 - * روى أبو داود عن محمد بن يحيى بن حبان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما على أحدكم إن وجد- أو ما على أحدكم إن وجدتم- أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته". وفي رواية (5) عنه عن ابن سلام: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على المنبر.
- متى تدرك الجمعة
- متى تدرك الجمعة: 1745 - * روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك". - من نعس في صلاة الجمعة فليتحول من مكانه: 1746 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك". الأمر بالتحول للندب، قال في (فيض القدير 1/ 449): لأن الحركة تذهب الفتور الموجب للنوم فإن لم يكن في الصف محل يتحول له قام وجلس، قال في الأم: ولو ثبت في مجلسه وتحفظ من النعاس لم أكرهه والتحول الانتقال من موضع لآخر وهذا عام في جميع الأيام، وتخصيصه بالجمعة في خبر الترمذي إنما هو لإطالة مكث المبكر بل أجراه بعضهم في كل من قعد ينتظر عبادة في أي محل أي يوم كان، وفيه حث على استقبال الصلاة بنشاط وخشوع وفراغ قلب وتعقل لما يقرأه أو يدعو به والمحافظة على الإتيان بالأركان والسنن والآداب اهـ. - إذا اجتمع العيد والجمعة لا تسقط الجمعة به: 1747 - * روى مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان، فجاء، فصلى ثم انصرف، فخطب، وقال: "إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة. فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له". عن عمر بن عبد العزيز قال: اجتمع عيدان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أحب
أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج". أخرجه الإمام الشافعي، قال في الإعلاء، وإسناده مرسل حسن. وشيخ الإمام ضعيف عند الجمهور، وثقة عنده وعند حمدان بن الإصبهاني، وقال ابن عقدة: "نظرت في حديث إبراهيم كثيراً، وليس بمنكر الحديث". قال ابن عدي: "وهذا الذي قاله كما قاله" اهـ (تهذيب) وإبراهيم بن عقبة من رجال مسلم ثقة (تهذيب) وعمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين من خير التابعين، وإرسال مثله مقبول حجة عندنا، وله شاهد مرفوع موصول مقيداً بأهل العوالي. رواه البيهقي من حديث سفيان بن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة، وإسناده ضعيف اهـ التلخيص الحبير (1/ 46). والمرسل إذا تأيد بموصول ولو ضعيفاً، فهو حجة عند الكل، كما مر غير مرة .. اهـ. قال في (إعلاء السنن 8/ 74 - 75): وأنما رخص عثمان في الجمعة لأهل العالية لأنهم ليسوا من أهل المصر. وهو قول أبي حنيفة اهـ. وكان عثمان قال ذلك بمحضر من الصحابة، فلو كانت الرخصة تعم أهل القرى، وأهل البلد جميعاً، كما زعمه أحمد بن حنبل رحمه الله لأنكروا عليه تخصيصها بأهل العالية، فثبت أن الرخصة مخصوصة بمن لم تجب عليهم الجمعة، فلا تترك الجمعة بالعيد، كيف؟ وأن فريضة الجمعة ثابتة بالكتاب والإجماع، لازمة على أهل البلد، فلا يجوز إسقاطها عنهم بما هو دون إلا بنص قطعي مثله. ودونه خرط القتاد، فإن الآثار التي استدل بها أحمد رحمه الله على سقوط الجمعة بالعيد عن أهل البلد من الآحاد مع احتمال اختصاصها بأهل القرى، والعوالي. ثم أورد الإمام التهانوي في الإعلاء أدلة الآخرين القائلين بسقوط الجمعة إذا اجتمعت مع صلاة العيد فقال: فمنها ما رواه ابن ماجة (ص- 203) عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون إن شاء الله. قال السندي وفي الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات ورواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة بهذا الإسناد اهـ. ثم قال بعد كلام حول سند الحديث: وإن سلمنا صحته مرفوعاً فنقول: كان أهل القرى يجتمعون لصلاة العيدين ما لا يجتمعون لغيرهما، كما هو العادة، وكان في انتظارهم الجمعة
بعد الفراغ من العيد حرج عليهم، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة العيد نادى مناديه: "من شاء منكم أن يصلي الجمعة، فليصل، ومن شاء الرجوع، فليرجع". وكان ذلك خطاباً لأهل القرى المجتمعين هناك. والقرينة على ذلك بأنه قد صرح فيه بأنا مجمعون، والمراد به من جمع المتكلم أهل المدينة بلا شك وفيه دلالة واضحة على أن الخطاب بقوله: "من شاء منك أن يصلي" لأهل القرى، دون أهل المدينة، ويؤيده ما ذكرنا في المتن من مرسل عمر بن عبد العزيز قال: اجتمع عيدان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من أحب من أهل العالية أن يجلس فليجلس في غير حرج". وكذا هو في رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة مقيداً "بأهل العوالي". وقد ذكرنا أن مجموع المرسل، والموصول صالح للاحتجاج به حتماً على أن إبداء الاحتمال يجوز بالضعيف أيضاً، فلا يصح الاستدلال بظاهر ما في رواية ابن ماجة، وأبي داود من العموم في قوله: "فمن شاء أجزأه من الجمعة" على سقوط الجمعة بالعيد عن أهل البلد، لاحتمال كونه مختصاً بأهل القرى، بقرينة قوله: "وإنا لمجمعون". وبقرينة مرسل عمر بن عبد العزيز وموصول أبي هريرة مقيداً لهم وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. واندحض بما ذكرنا ما قاله العلامة الشوكاني في النيل: "إن قول عثمان لا يخصص قوله صلى الله عليه وسلم" اهـ (1 - 164). فقد رأيت أنا لم نخصص المرفوع إلا بالمرفوع، وإذا جاز تخصيص خبر الواحد بدلالة العقل، والعرف، والقياس، كما تقرر في الأصول، فجواز تخصيصه بقول الصحابي أولى، لكونه أعرف الناس بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم، لاسيما عند من يجعل أقوال الصحابة حجة. فافهم. وهذا هو الجواب عما رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: "من شاء أن يصلي فليصل" كذا في بلوغ المرام (1 - 183). فإن قوله: "من شاء أن يصلي فليصل" مختص بأهل القرى والعوالي، بدليل ما ذكرناه. وفي التلخيص الحبير: وصححه ابن المديني. وقال ابن المنذر: "هذا الحديث لا يثبت. وأياس بن أبي رملة راويه عن زيد مجهول" اهـ (1 - 146). قلت: وصححه الحاكم في المستدرك، والذهبي في تلخيصه (1 - 288).
والعجب منهم كيف صححوه؟ وفيه أياس بن أبي رملة وهو مجهول. اهـ بكما قال الذهبي في الميزان وابن حجر في التقريب]. ثم قال في الإعلاء بعد كلام حول حديث أياس وجهالته (8/ 77): واحتجت الحنابلة أيضاً بما رواه مسدد والمروزي في العيدين، وصحح، كما في كنز العمال (4 - 337)، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي (1 - 296) عن وهب بن كيسان قال: "اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج، فخطب فأطال ثم نزل، فصلى ركعتين، ولم يصل الناس الجمعة. فعاب ذلك عليه ناس، فذكر ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة. فذكروا ذلك لابن الزبير، فقال: رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع على عهده عيدان صنع هكذا. اهـ. وقد رواه النسائي: وسكت عنه إلى قوله: السنة (1 - 236). وفي النيل: "رجاله رجال الصحيح، وقد رواه أبو داود (1/ 417) وسكت عنه. وقال النووي: "إسناده حسن" كما في نصب الراية. وعن عطاء بن أبي رباح عند أبي داود أيضاً قال: "صلى بنا الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا فصلينا [أي الظهر] وحدانا وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال: أصاب السنة" اهـ قال الزيلعي: قال النووي: "إسناده على شرط مسلم" (1 - 326). وفي رواية له "فجمعهما جميعاً، فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر" اهـ. وفي النيل: رجاله رجال الصحيح (3 - 164). قلت: لا حجة لهم في ذلك أصلاً، فإن الناس كلهم أنكروا على ابن الزبير، ولم يوافقه على فعله من الصحابة غير ابن عباس، وأمر لا يعرفه أكثر الناس في عهد الصحابة، بل ينكرونه لا يجوز به إسقاط فريضة قد أجمع عليها، ولا يخفى أن ابن الزبير، وابن عباس كان صغيرين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلعلهما سمعا منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: "من شاء منكم أن يصلي فليصل ومن شاء الرجوع فليرجع"، وكان ذلك خطاباً لأهل القرى، فلم يفهما المراد به، وظناه عاماً لأهل البلد أيضاً. فجمع ابن الزبير الجمعة والعيد، وقال فيه ابن عباس: "إنه أصاب السنة" أي أصاب ما سمعه من منادي النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "من شاء
فليصل" بالمعنى الذي فهمه، وأما قول ابن الزبير: "رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع هكذا" فلعل عمر رضي الله عنه فعل ذلك بعذر عرفه الناس، ولم يعرفه ابن الزبير ولذا أنكروا عليه، ولم ينكروا على عمر وإلا فيبعد كل البعد أن يصنع ابن الزبير مثل ما صنعه، فعرفه الناس من عمر وأنكروه منه. وأيضاً مجموع ما روي في ذلك عن ابن الزبير لا يدل على ترك الجمعة بالعيد، بل غايته أنه صلى الجمعة قبل الزوال إذا اجتمع العيدان؛ بدليل تقديمه الخطبة على الصلاة حينئذ وخطبة العيد بعد الصلاة إجماعاً، كما سيأتي، وبدليل ما في رواية لأبي داود "فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين". فلا يصح الاستدلال به على الرخصة في ترك الجمعة بصلاة العيد، بل غاية ما يؤخذ منه جواز تقديم الجمعة عن الزوال في يوم العيد، فيؤل البحث إلى وقت صلاة الجمعة وقد فرغنا منه في الباب المتقدم قبل أبواب، وقد أثبتنا أن لا حجة للحنابلة فيما استدلوا به على جواز الجمعة قبل الزوال، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم توقيتها بما بعد الزوال (سيأتي البحث في ذلك) ولا حجة لهم في أثر ابن الزبير أيضاً، فإنه يفيد أن تقديم الجمعة على الزوال مختص بما إذا اجتمع العيدان لا غير وهم لا يقولون بالتخصيص. وأيضاً، فلا حجة بقول الصحابي، وفعله في معارضة قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفعله لا سيما وقد ثبت أن الناس أنكروا على ابن الزبير ما صنعه، وعاتبوه عليه. فافهم. على أن الحنابلة يقولون: إنه إذا اتفق عيد في يوم جمعة سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وإنا لمجمعون"، ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها ممن سقطت عنه. ذكره ابن قدامة في المغني (2/ 212 و 213). فصنع ابن الزبير وقع خلاف الإجماع لكونه لم يزد على الركعتين قبل الزوال بكرة حتى صلى العصر مع أنه قد اجتمع له من يصلي به الجمعة. قال عطاء: "ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدانا"، كما تقدم. أقول: وفي كل الأحوال لا يدل عدم خروج ابن الزبير إلى الجمعة أنه لم يصل الظهر وإنما أشرنا إلى ذلك لأنه وجد من استند على فعل ابن الزبير فاسقط الجمعة والظهر بأن واحد على من صلى العيد.
- أعذار ترك الجمعة والسفر يوم الجمعة
قال التهانوي: ولا يخفى أن عطاء أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة، وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة [الذي] يكون عيداً لهذه الرواية غير صحيح لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله. بل في قول عطاء أنهم صلوا وحداناً أي الظهر ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: إن مراده صلوا الجمعة وحداناً، فإنها لا تصح إلا جماعة إجماعاً. ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة صلاة الجمعة، والظهر بدل عنها قول مرجوح، بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء والجمعة متأخر فرضها. ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعاً، فهي البدل عنه، وقد حققناه في رسالة مستقلة اهـ (1 - 164). وقال الإمام الشافعي في (الأم) بعد ما ذكر مرسل عمر بن عبد العزيز، وأثر عثمان رضي الله عنه ما نصه: قال الشافعي: وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلى الإمام العيد حين تحل الصلاة، ثم أذن لمن حضره من غير أهل المصر في أن ينصرفوا إن شاؤوا إلى أهلهم، ولا يعودون إلى الجمعة، والاختيار لهم أن يقيموا حتى يجمعوا، أو يعودوا بعد انصرافهم إن قدروا حتى يجمعوا، وإن لم يفعلوا فلا حرج إن شاء الله تعالى. قال: ولا يجوز هذا لأحد من أهل المصر أن يدعوا أن يجمعوا إلا من عذر يجوز لهم به ترك الجمعة وإن كان يوم عيد. قال: وهكذا إن كان يوم الأضحى، ولا الجمعة لأنها ليست بمصر اهـ (1 - 212). وفي شرح الهداية للعيني: قال ابن عبد البر: سقوط الجمعة والظهر بصلاة العيد متروك مهجور، ولا يعول عليه. وتأويل ذلك [أي سقوط الجمعة] في حق أهل البادية، ومن لا تجب عليه الجمعة اهـ (3 - 1019). والله تعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم. انظر إعلاء السنن (8/ 74 - 80). - أعذار ترك الجمعة والسفر يوم الجمعة: 1748 - * روى أبو داود عن أبي المليح عن أبيه "أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم زمن الحديبية يوم الجمعة، وقد أصابهم مطر لم يبل أسفل نعالهم، فأمرهم أن يصلوا في رحالهم" وفي رواية (1) "أن يوم حنين كان يوم مطر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه: أن الصلاة في الرحال" زاد في رواية (2) "أن ذلك كان يوم الجمعة". 1749 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال عبد الله بن الحارث البصري- وهو ابن عم محمد بن سيرين- قال: "خطبنا ابن عباس في يوم ذي ردغ، فأمر المؤذن- لما بلغ حي على الصلاة- قال: قل: الصلاة في الرحال، فنظر بعضهم إلى بعض، كأنهم أنكروا، فقال: كأنكم أنكرتم هذا؟ إن هذا فعله من هو خير مني- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- إنها عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم- وفي رواية (3) - أن أؤثمكم- فتجيؤون فتدوسون في الطين إلى ركبكم" وفي أخرى (4) "أن ابن عباس قال لمؤذنه في يوم مطير- وكان يوم جمعة- إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، فكأن الناس استنكروا، فقال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض والزلل". 1750 - * روى أبو داود عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "تجب الجمعة على كل مسلم، إلا امرأة أو صبياً أو مملوكاً". قال النووي في الخلاصة: وهذا غير قادح في صحته فإنه يكون مرسل صحابي وهو حجة والحديث على شرط الصحيحين. كذا في نصب الراية. قال البغوي في (شرح السنة 4/ 226 - 227) عن الجمعة: هي واجبة على كل من جمع: العقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذ لم يكن له عذر. أما الصبي والمجنون، فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل أن يلزمهما فروض الأبدان، لنقصان أبدانهما، واتفقوا على أن لا جمعة على النساء. وذهب أكثرهم إلى أن لا جمعة على العبيد، وقال داود: تجب عليهم الجمعة، وقال الحسن وقتادة: تجب الجمعة على العبد المخارج (1)، وهو قول الأوزاعي، ولا تجب على المسافر، وذهب النخعي والزهري إلى أن المسافر إذا سمع النداء، فعليه حضور الجمعة. وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة، فإذا حضر وصلى سقط عنه فرض الظهر بأداء الجمعة، ولكن لا يكمل به عدد الجمعة، إلا من له عذر من مرض، أو تعهد مريض، أو خوف، أو منعه مطر، أو وحل، فإنه لا يجب عليه حضور الجمعة، غير أنه حضر يكمل به العدد. قال عبد الله بن مسعود للنساء يوم الجمعة: إذا صليتن مع الإمام فصلين بصلاته، فإذا صليتن وحدكن فصلين أربعاً. قال رحمه الله: وكل من لا يلزمه حضور الجمعة، فلو صلى الظهر قبل فوات الجمعة جازت صلاته، ومن يلزمه الحضور لا يصح ظهره قبل فوات الجمعة. اهـ. 1751 - * روى الترمذي عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في
سرية، فوافق ذلك الجمعة، فغدا أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ألحقهم، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه، فقال: "ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ " قال: أردت أن أصلي معك، ثم ألحقهم، فقال: "لو أنفقت ما في الأرض ما أدرك فضل غدوتهم". قال البغوي وهو شافعي: وكل من تلزمه الجمعة لا يجوز له أن يسافر بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة، وإن سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر، فلا بأس، غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة من غزو أو حج، فالأولى أن يخرج، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة فلا يسافر حتى يصلي الجمعة. وقال أصحاب الرأي: يجوز أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت. وروي أن عمر بن الخطاب سمع رجلاً عليه هيئة السفر يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحسب عن السفر. أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 54). قال الشيخ شعيب: سنده قوي. 1752 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الجمعة على من سمع النداء". وقال فيه "إنما الجمعة على من سمع النداء". قال في النيل (3/ 276): الحديث قال أبو داود في السنن رواه جماعة عن سفيان مقصوراً على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة انتهى. وفي إسناده محمد بن سعيد الطائفي قال المنذري: وفيه مقال وقال في التقريب: صدوق. وقال في (3/ 277 - 278): (يدل على أن الجمعة لا تجب إلا على من سمع النداء
وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحق، حكى ذلك الترمذي عنهم وحكاه ابن العربي عن مالك وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو راوي الحديث. وحديث الباب وإن كان فيه المقال المتقدم فيشهد لصحته قوله تعالى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية. قال النووي في الخلاصة: إن البيهقي قال: له شاهد فذكره بإسناد جيد. وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجاً عن البلد الذي تقام فيه الجمعة فقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة وأنس والحسن وعطاء ونافع وعكرمة والحكم والأوزاعي والإمام يحيى: إنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، والمراد أنه إذا جمع مع الإمام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار وأول الليل واستدلوا بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الجمعة على من آواه الليل إلى أهله" قال الترمذي: وهذا إسناد ضعيف. وقال العراقي: إنه غير صحيح فلا حجة فيه. وذهب الهادي والناصر ومالك إلى أنها تلزم من سمع النداء بصوت الصيت من سور البلد. وقال عطاء: تلزم من على عشرة أميال. وقال الزهري: من على ستة أميال. وقال ربيعة: من على أربعة وروي عن مالك: ثلاثة. وروي عن الشافعي: فرسخ وكذلك روي عن أحمد. قال ابن قدامة: وهذا قول أصحاب الرأي. وروي في البحر عن زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله وابن أبي حنيفة: أنها لا تجب على من كان خارج البلد وقال أيضاً: والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد لأنه الذي كان في زمن النبوة اهـ. أقول: وهذا الحكم لمن كان خارج المصر أما من كان داخل المصر فإن الصلاة تجب عليه ولو لم يسمع النداء والأرجح أن من كان خارج المصر يسمع النداء لا بالمكبرات فإنه تجب عليه أما من كان لا يسمع إلا بالمكبرات للصوت فلا تجب عليه.
الفقرة الثالثة: وقت الجمعة ونداؤها وخطبتها وآدابها
الفقرة الثالثة: وقت الجمعة ونداؤها وخطبتها وآدابها - وقت صلاة الجمعة: 1753 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس". أقول: هذا دليل على أن وقت الجمعة هو وقت الظهر كما هو قول الجمهور لا كما رأى أحمد أنه يجوز قبل الزوال. قال صاحب (الإعلاء 8/ 46): دلالتها على مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وأجله الصحابة على أدائهم الجمعة بعد الزوال ظاهرة. وقال الحافظ في الفتح: فيه- أي في حديث أنس- إشعار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس. وأما رواية حميد التي (أخرجها البخاري) بعد هذا عن أنس رضي الله عنه "كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة" فظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكرة النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض. وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد ههنا والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت عادتهم في صلاة الظهر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد اهـ (2 - 322). 1754 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة- يعني الجمعة. قال الزين ابن المنير: إذا تقرر أن الإبراد يشرع في الجمعة أخذ منه أنها لا تشرع قبل الزوال، لأنه لو شرع لما كان اشتداد الحر سبباً لتأخيرها، بل كان يستغنى عنه بتعجيلها قبل الزوال. واستدل به ابن بطال على أن وقت الجمعة وقت الظهر، لأن أنساً سوَّى بينهما
في جوابه (أي السائل عن الوقت) خلافاً لمن أجاز الجمعة قبل الزوال اهـ (2 - 324). واحتج بعض الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين" قال: فلما سماه عيداً جازت الصلاة فيه في وقت العيد، كالفطر، والأضحى. وتعقب بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيداً أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقاً سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتفاقهم اهـ (2/ 322). قال في (الإعلاء 8/ 48): وأيضاً فالخطبة في العيد بعد الصلاة، وتجب في الجمعة مقدمة عليها، ويكره التنفل في العيد قبل الصلاة، وبعدها في المصلى، ولا كذلك الجمعة، ولا يشرع النداء لصلاة العيد، والجمعة بخلافها. اهـ. 1755 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة" وفي رواية (1) قال: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة" زاد في رواية (2) "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال في (الإعلاء 8/ 47): واستدل بهذا الحديث لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال وترجم عليه ابن أبي شيبة "باب من كان يقول: الجمعة أول النهار" وأورد فيه حديث سهل هذا، وحديث أنس رضي الله عنه الذي بعده: وعن ابن عمر رضي الله عنه مثله، وعن عمر رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه، وسعد رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه مثل قولهم، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء، والقائلة بالتهيؤ للجمعة، ثم بالصلاة، ثم ينصرفون، فيتذاكرون ذلك. بل ادعى الزين ابن المنير أنه يؤخذ منه أن الجمعة تكون بعد الزوال، لأن العادة في القائلة أن تكون قبل الزوال، فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ
للجمعة عن القائلة، ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة اهـ (2 - 356). 1756 - * روى الشيخان عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان فيء" وفي أخرى (1) "ظل نستظل به" وفي أخرى (2) "كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء". أقول: في هذا النص إشارة إلى عدم إطالة الجمعة وخاصة في شدة الحر ويقاس عليه البرد وسنورد مناقشة ذلك بعد قليل. 1757 - * روى مالك عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه قال: "كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر فصلى الجمعة، قال: ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحى". في النص إشارة إلى أنهم كانوا يؤخرون نومة القيلولة التي هي قبل صلاة الظهر إلى ما بعد الجمعة يوم الجمعة لاهتمامهم بصلاة الجمعة ولا يفيد النص أنهم كانوا يصلون قبل الزوال بدليل أن الظل كان يغشى الطنفسة مع أنها في جهة الغرب. وانظر (شرح السنة 4/ 239). 1758 - * روى مسلم عن جابر رضي الله عنه سأله محمد بن علي بن الحسين: "متى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة؟ قال: كان يصلي، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس- يعني النواضح". أقول: في النص إشارة إلى الإسراع من الانتهاء من صلاة الجمعة وليس فيه أن صلاة
الجمعة تقام قبل دخول وقت الزوال، فإن جماهير علماء المسلمين كما قلنا على أن وقت صلاة الجمعة هو وقت الظهر بعد الزوال وأنه لا تجوز قبل زوال الشمس. لكن قال أحمد وإسحاق وابن راهويه بأنه يجوز أن تؤدى قبل الزوال، وقد قدمنا بعض الأدلة في ذلك وفيما يلي مزيد بيان، قال صاحب (الإعلاء 8/ 45): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين لجميع الصلوات أول الوقت وآخره، كما ورد في رواية جبريل وحديث السائل عن وقت الصلاة فلو كان للجمعة وقت قبل الزوال لبينه قولاً أو فعلاً، ولم يثبت أنه صلى الجمعة قبله يوماً أو أجاز ذلك لأحد قولاً. بل الثابت عنه خلافه أنه أمر ابن عمير لأول جمعة جمعت في الإسلام أن يصليها بعد الزوال، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يصليها، لم يجمع قبله قط، فهذا مما يفيد العلم بأن وقتها إنما هو بعد أن تزول الشمس عن شطر النهار. كيف؟ وأن الجمعة أقيمت مقام الظهر بالنص، فيصير وقت الظهر وقتاً لها، وما أقيمت مقام غيرها من الصلوات، فلم تكن مشروعة في غير وقته والله تعالى أعلم. قال النووي: وقد قال مالك وأبو حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس. ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل، وإسحاق، فجوزاها قبل الزوال. قال القاضي: وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصلح منها شيء إلا ما عليه الجمهور. وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها، وأنهم كانوا يؤخرون الغداء، والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة، لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها اهـ (1 - 283). احتجت الحنابلة بما رواه مسلم عن أياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، فنرجع؛ وما نجد للحيطان فيئاً نستظل به". قالوا: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين، ويجلس بينهما، ويقرأ القرآن، ويذكر الناس كما في مسلم من حديث أم هشام بنت حارثة أنها قالت: "ما حفظت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها على المنبر كل جمعة". وعند ابن ماجة من حديث أبي بن كعب، "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم". وكان يصلي الجمعة بسورة الجمعة،
- مشروعية الأذان الثالث وهو الأول الآن
والمنافقين، كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث علي وأبي هريرة وابن عباس. ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به. كذا في النيل (3 - 138). قلنا: إنما كان كذلك لأن الجدران كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، (لاسيما في زمان تكون فيه الشمس على سمت الرأس، ويطول النهار) فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال (بل كانوا يصلون إذا زالت الشمس مع الخطبتين والقراءة والذكر الذي ذكرتموه، وينصرفون عن الصلاة قبل توسط الوقت، وليس للحيطان ظل يستظل به) كذا في النيل أيضاً (3 - 137) يدل على ذلك ما رواه مسلم عن أياس بن سلمة عن أبيه أيضاً قال: "كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء" (1 - 283) ففيه تصريح بأنهم كانوا يجمعون بعد الزوال، ومع ذلك لا يجدون للحيطان فيئاً يستظل به بعد انصرافهم عن الصلاة، لقصر الحيطان، والجدران. قال النووي: قوله: "نتتبع الفيء" إنما كان ذلك لشدة التبكير، وقصر حيطانه، وفيه تصريح بأنه كان قد صار فيء يسيراً. وقوله: "وما نجد فيئاً نستظل به" موافق لهذا فإنه لم ينف الفيء من أصله، وإنما نفى ما يستظل به، وهذا مع قصر الحيطان ظاهر في أن الصلاة كانت بعد الزوال متصلة به اهـ (1 - 283) انظر تفصيل ذلك في (الإعلاء 8/ 45 - 49). 1759 - * روى ابن خزيمة عن الزبير بن العوام، قال: كنا نصلي الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتدر الفيء فما يكون إلا قدر قدم أو قدمين. - مشروعية الأذان الثالث وهو الأول الآن: 1760 - * روى البخاري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "كان النداء يوم
- من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة
الجمعة: أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان- وكثر الناس- زاد النداء الثالث على الزوراء". وزاد في رواية (1): "فثبت الأمر على ذلك"وفي أخرى (2) قال: "ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد"، وهذا لفظ الترمذي، قال: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر: إذا خرج الإمام أقيمت الصلاة، فلما كان عثمان نادى النداء الثالث على الزوراء" وفي رواية (3) لأبي داود قال: "كان يؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، وأبي بكر وعمر، ... ثم ساق نحو ما تقدم. أقول: إذا جلس الخطيب على المنبر كان الأذان بين يديه فإذا أنهى خطبته كانت الإقامة للصلاة وهي الأذان الثاني وقد أضاف عثمان وهو خليفة راشد عمله سنة الأذان الثالث وهو الأول الذي يعلم فيه الناس أن وقت الجمعة قد دخل. قال الحافظ (2/ 394): والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر ثم قال: وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال "الأذان الأول يوم الجمعة بدعة" فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسناً ومنها ما يكون بخلاف ذلك. وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى. اهـ. - من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة: 1761 - * روى أبو داود عن الحكم بن حزن الكلفي قال: "وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
سابع سبعة- أو تاسع تسعة- فدخلنا عليه، فقلنا: يا رسول الله، زرناك، فادع لنا لنا بخير، فدعا، وأمر بنا- أو أمر لنا- بشيء من التمر، والشأن إذ ذاك دون، فأقمنا بها أياماً، وشهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا- أو قوس- فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: "أيها الناس، إنكم لن تطيقوا- أو لن تفعلوا- كل ما أمرتم به، ولكن سددوا وقاربوا، وأبشروا ويسروا". 1762 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب: احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: "صبحكم ومساكم"، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي"، وفي رواية (1) قال: "كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: يحمد الله، ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته ... وذكر نحوه" وفي أخرى (2) "كان يخطب الناس: يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله ... ثم ذكر نحو ما تقدم"، وفي رواية (3) النسائي قال: "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله"، ثم يقول: "من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، ثم يقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش، يقول: "صبحكم ومساكم"، ثم قال: "من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي، أو علي، وأنا أولى بالمؤمنين". 1763 - * روى أحمد عن علي أو عن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى يعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكاً حتى يرتفع. 1764 - * روى أحمد عن النعمان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "أنذركم النار أنذركم النار"، حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه، وفي رواية وسمع أهل السوق صوته وهو على المنبر. 1765 - * روى ابن خزيمة عن جرير بن عبد الله: قال: لما دنوت من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنخت راحلتي وحللت عيبتي، فلبست حلتي، فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب، فسلم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليس لي: يا عبد الله هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمري شيئاً؟ قال: نعم ذكرك بأحسن الذكر بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته،
قال: "إنه سيدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفج من خير ذي يمن، وإن على وجهه لمسحة ملك". قال: فحمدت الله على ما أبلاني. أقول: حديث جرير مع جليسه أثناء الخطبة لا يقتدى به لأن جريراً كان حديث عهد بإسلام ويحتمل أن السؤال كان بعد الفراغ من الخطبة أو الصلاة. 1766 - * روى أبو داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم، فقال: "أما بعد". 1767 - * روى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال: "الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً". وفي رواية (1): أن يونس بن يزيد سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؟ ... فذكر نحوه، قال: "ومن يعصهما فقد غوى، ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه، ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله". قال في النيل (3/ 326): اختلف أهل العلم في حكم خطبة الجمعة فذهبت العترة والشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الوجوب ونسبه القاضي عياض إلى عامة العلماء واستدلوا على الوجوب بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الصحيحة ثبوتاً مستمراً أنه كان يخطب في كل جمعة ... وذهب الحسن البصري ورواه الظاهري إلى أن الخطبة مندوبة مع
وقوع الاتفاق على وجوب الصلاة. اهـ. 1768 - * روى مسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه "أن رجلاً خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله". وفي رواية (1) أبي داود "أن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من يطع الله ورسوله، ومن يعصهما، فقال: قم- أو قال: اذهب- بئس الخطيب أنت". وأخرج النسائي (2) قال: "تشهد رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت". أفاده ابن الأثير وهو شافعي ولا يرى الحنفية أن مراد العطف بالواو يفيد الترتيب. أقول: قال النووي بعد أن أورد هذا الرأي (6/ 159): والصواب أن سبب النهي أن الخطب شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم أعادها ثلاثاً ليفهم وأما قول الأوليين فيضعف بأشياء منها أن مثل هذا الضمير قد تكرر في الأحاديث الصحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وغيره من الأحاديث وإنما ثنى الضمير ههنا لأنه ليس خطبة وعظ وإنما هو تعليم حكم فكلما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف خطبة الوعظ فإنه ليس المراد حفظه وإنما يراد الاتعاظ بها ومما يؤيد هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً والله أعلم. أقول: وذهب بعضهم إلى أن سبب اللوم كان الوقوف على يعصهما مع عطفه على ما قبله فأخل المعنى وهذا سبب قوله عليه الصلاة والسلام بئس الخطيب أنت، وفي ذلك إشارة على استحسان معرفة علم الوقوف وإلى استحسان علم الترقيم الذي استحدثه العلماء فيما بعد ليدللوا على أنواع الجمل ونهاياتها. - اتخاذ المنبر: 1769 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد فيخطب فجاء رومي فقال: ألا نصنع لك شيئاً تقعد وكأنك قائم؟ فصنع له منبراً، له درجتان، ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خار الجذع خوار الثور؛ حتى ارتج المسجد بخواره حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل غليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت، ثم قال: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه ما زال هكذا حتى تقوم الساعة حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن يعني الجذع. وفي خبر جابر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا بكى لما فقد من الذكر". أقول: حنين الجذع منقول بروايات كثيرة عن الصحابة تكاد تبلغ مبلغ التواتر.
- القيام في الخطبة
- القيام في الخطبة: 1770 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة" وفي أخرى (1) قال: "كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما، يقرأ القرآن، ويذكر الناس". حول قوله (أكثر من ألفي صلاة)، قال الإمام النووي: المراد الصلوات الخمس لا الجمعة. اهـ. قال (الشوكاني 3/ 330): ولابد من هذا لأن الجمع التي صلاها صلى الله عليه وسلم من عند افتراض صلاة الجمعة إلى عند موته لا تبلغ ذلك المقدار ولا نصفه. 1771 - * روى أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب يوم الجمعة قائماً ثم يقعد ثم يقوم فيخطب. وفي البزار (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة خطبتين يفصل بينهما بجلسة. 1772 - * روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب". وفي رواية البخاري (3) ومسلم (4) "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، يقعد بينهما، وفي أخرى (5) لهما: كان يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يجلس، ثم
- قصر الخطبة وإطالة الصلاة
يقوم فيتم، كما تفعلون الآن". في الأحاديث أن القيام حال الخطبة مشروع، قال ابن المنذر: وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار. اهـ. واختلف في وجوبه فذهب الجمهور إلى الوجوب ونقل عن أبي حنيفة: أن القيام سنة وليس بواجب واستدل الجمهور بأحاديث الباب. ولا شك أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب. انظر (النيل 3/ 329). 1773 - * روى مسلم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه "أنه دخل المسجد وعبد الرحمن ابن أم الحكم يخطب قاعداً فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً! وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (1). - قصر الخطبة وإطالة الصلاة: 1774 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً". وفي رواية (2) أبي داود قال: "كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قصداً، وخطبته قصداً يقرأ بآيات من القرآن، ويذكر الناس" وله في أخرى (3) "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات" وفي رواية (4) للنسائي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم
- التشهد والحمدلة في الخطبة
يقوم ويقرأ آيات، ويذكر الله، وكانت خطبته قصداً، وصلاته قصداً". 1775 - * روى مسلم عن أبي وائل قال: "خطبنا عمار، فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فاقصروا الخطبة وأطيلوا الصلاة، وإن من البيان سحراً". وفي رواية (1) أبي داود عن عمار قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخطب". - التشهد والحمدلة في الخطبة: 1776 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء". 1777 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم". وروى (2) بلفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع".
- الخطيب لا يرفع يديه بالدعاء
- الخطيب لا يرفع يديه بالدعاء: 1778 - * روى مسلم عن عمارة بن رويبة "أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: قبح الله تينك اليدين، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على أن يقول بيده هكذا- وأشار بإصبعه المسبحة". أقول: رفع الخطيب يديه في الدعاء في خطبة الجمعة مما اعتبره الصحابة بدعة وهذا النص يبين ذلك ويبين أن الخطيب إذا أراد الدعاء اكتفى بالإشارة بالسبابة. 1779 - * روى ابن خزيمة عن حميد، قال: سئل أنس هل كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه؟ قال: قيل يوم الجمعة يا رسول الله قحط المطر، وأجدبت الأرض، وهلك المال. قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه فاستسقى، وما نرى في السماء سحابة. قال: فما قضينا الصلاة حتى إن الشاب القريب المنزل ليهمه الرجوع إلى أهله من شدة المطر، فدامت جمعة. فقالوا: يا رسول الله، تهدمت البيوت، واحتبست الركبان، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بيده: "اللهم حوالينا ولا علينا" فكشطت عن المدينة. أقول: هذا الرفع في اليدين في صلاة الجمعة كان لعارض الاستسقاء والسنة الدائمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة عدم رفع اليدين للدعاء. قال (النووي 6/ 162): فيه- أي في حديث عمارة- أن السنة أن لا يرفع اليدين بالدعاء في الخطبة وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى وأجاب الأولون بأن
- استقبال الناس الخطيب
هذا الرفع كان لعارض. اهـ (وانظر شرح السنة 4/ 257) و (نيل الأوطار 3/ 333). - استقبال الناس الخطيب: 1780 - * روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. قال ابن حجر في بلوغ المرام: وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة فالحديث حسن بشواهده. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وذكر البخاري تعليقاً فقال: واستقبل ابن عمر وأنس رضي الله عنهم الإمام، قال الحافظ في "الفتح": أما ابن عمر، فرواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم قال: ذكرت لليث بن سعد، فأخبرني عن ابن عجلان أنه أخبره عن نافع أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله، وأما أنس، فرويناه في نسخة نعيم بن حماد بإسناد صحيح عنه أنه كان إذا أخذ الإمام في الخطبة يوم الجمعة يستقبله بوجهه حتى يفرغ من الخطبة، ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن أنس أنه جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط واستقبل الإمام، قال ابن المنذر: لا أعلم في ذلك خلافاً بين العلماء. - استحباب الدنو من الإمام: 1781 - * روى أحمد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها".
- التحدث أثناء الأذان والإمام على المنبر
وفي رواية (1) عن سمرة مرفوعاً: "احضروا الجمعة وادنوا من الإمام فإن الرجل ليتخلف عن الجمعة حتى إنه يتخلف عن الجنة وإنه من أهلها". - التحدث أثناء الأذان والإمام على المنبر: 1782 - * روى أحمد عن موسى بن طلحة قال: سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم وأسعارهم. 1783 - * روى مالك عن محمد بن شهاب الزهري رحمه الله قال: قال ثعلبة بن مالك القرظي: "إنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة، حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن، قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون، وقام عمر يخطب أنصتنا، فلم يتكلم منا أحد" قال ابن شهاب: فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه: يقطع الكلام. قال في (النيل 3/ 339): فيه جواز الكلام حال قعود الإمام على المنبر قبل شروعه في الخطبة لأن ظهور ذلك بين الصحابة من دون نكير يدل على أنه إجماع لهم. - الإنصات للخطبة: 1784 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما "أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة، فحصبهما: أن اصمتا". 1785 - * روى مالك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول في خطبته- قل ما يدع ذلك إذا خطب-: "إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا له وأنصتوا، فإن
للمنصت الذي لا يسمع من الحظ مثل ما للمنصت السامع، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف، وحاذوا بالمناكب، فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة، ثم لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف، فيخبرونه أن قد استوت فيكبر". 1786 - * روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت- والإمام يخطب- فقد لغوت". 1787 - * روى أبو يعلى عن جابر قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى جنبه أبي بن كعب فسأله عن شيء أو كلمه بشيء فلم يرد عليه أبي فظن ابن مسعود أنها موجدة فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال ابن مسعود: يا أبي ما منعك أن ترد علي، قال: إنك لم تحضر معنا الجمعة قال: ولم؟ قال تكلمت والنبي يخطب فقام ابن مسعود فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أبي أطع أبياً". 1788 - * روى أحمد عن أبي الدرداك قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على المنبر فخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له يا أبي متى أنزلت هذه الآية؟ قال: فأبى أن يكلمني، ثم سألته فأبى أن يكلمني حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
- الصلاة والإمام يخطب
فقال أبي: مالك من جمعتك إلا ما لغيت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم جئته فأخبرته فقلت أي رسول الله إنك تلوت آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له: متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني حتى إذا نزلت زعم أُبي أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغيت، فقال: "صدق أبي إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ". ويشهد له ما أخرجه أبو يعلى والطبراني عن جابر قال: دخل ابن مسعود والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى جنبه أُبي فذكر نحو حديث أبي الدرداء، قال العراقي: ورجاله ثقات (الفتح الرباني 6/ 100). 1789 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: كفى لغواً أن تقول لصاحبك أنصت إذا خرج الإمام في الجمعة. 1790 - * روى الطبراني عن إبراهيم النخعي قال: استقرأ رجل عبد الله بن مسعود والإمام يخطب يوم الجمعة، فلم يكلمه عبد الله، فلما قضى الصلاة قال له عبد الله: الذي سألت عنه نصيبك من الجمعة. - الصلاة والإمام يخطب: 1791 - * روى أحمد عن السليك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين". 1792 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد، قال: كان مروان يخطب فصلى أبو سعيد، فجاءت إليه الأحراس ليجلسوه، فأبى حتى صلى، فلما قضى الصلاة أتيناه، فقلنا له:
كادوا يفعلون بك، غفر الله لك. فقال: لن أدعهما أبداً بعد أن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1793 - * روى الخمسة عن أبي سعيد رضي الله عنه "أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر فأمره أن يصلي ركعتين". 1794 - * روى الجماعة عن جابر رضي الله عنه قال "دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال: "صليت" قال لا قال: "فصل ركعتين". وفي رواية (1) "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" .. وفي رواية (2) "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين". قال الشوكاني: والأحاديث المذكورة في الباب تدل على مشروعية تحية المسجد حال
الخطبة وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحق ومكحول وأبو ثور وابن المنذر وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين. وحكى ابن العربي: أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك. وذهب الثوري وأهل الكوفة إلى أنه يجلس ولا يصليهما حال الخطبة حكى ذلك الترمذي وحكاه القاضي عياض عن مالك والليث وأبي حنيفة وحكاه العراقي عن محمد بن سيرين وشريح القاضي والنخعي وقتادة والزهري. ورواه ابن أبي شيبة عن علي وابن عمر وابن عباس وابن المسيب ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير ورواه النووي عن عثمان اهـ. وفي الموضوع نقاشات كثيرة منها أن ما في قصة سليك واقعة عين لا عموم لها وأن الأمر معارض لقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1). 1795 - * روى الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت". وبقوله صلى الله عليه وسلم للذي دخل يتخطى رقاب الناس قد آذيت فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية، ومنها أن عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك: أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً. واستدلوا أيضاً بالمعقول إذ أن الإنصات إلى الخطبة واجب وتحية المسجد سنة فيقدم الواجب على السنة، لكن علق النووي على حديث إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين ... قال: لا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ صحيحاً فيخالفه، واعتبر القائلون بالسنية هذا النص مخصصاً للعمومات التي استدل بها المانعون. انظر (نيل الأوطار 3/ 314 - 317). 1796 - * روى مالك عن محمد بن شهاب الزهري رحمه الله قال: قال ثعلبة بن مالك القرظي: "إنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة، حتى يخرج عمر، فإذا
- قطع الخطبة للحاجة
خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن، قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون، وقام عمر يخطب أنصتنا، فلم يتكلم منا أحد" قال ابن شهاب: فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه: يقطع الكلام فحمل بعض العلماء الأمر بالصلاة والإمام يخطب على أنها حوادث لها تأويلها. - قطع الخطبة للحاجة: 1797 - * روى مسلم عن أبي رفاعة العدوي رضي الله عنه قال: "انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك خطبته، حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى الخطبة، فأتم آخرها". قال في النيل (3/ 338): فيه جواز الكلام في الخطبة للأمر يحدث. وقال بعض الفقهاء إذا تكلم أعاد الخطبة قال الخطابي والسنة أولى ما اتبع. 1798 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكلم بالحاجة إذا نزل من المنبر". وفي رواية أبي داود (1) والنسائي (2): "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر؛ فيعرض له الرجل في الحاجة فيقوم معه حتى يقضي حاجته ثم يقوم فيصلي". قال أبو داود: الحديث ليس بمعروف عن ثابت، وهو مما تفرد به جرير بن حازم، وعند النسائي (3): "يقضي حاجته، ثم يتقدم إلى مصلاه فيصلي".
- النهي عن تخطي الرقاب
قال في (النيل 3/ 338): فيه أنه لا بأس بالكلام بعد فراغ الخطيب من الخطبة وأنه لا يحرم ولا يكره، ونقله ابن قدامة في المغني عن عطاء وطاووس والزهري وبكر المزني والنخعي ومالك والشافعي وإسحق ويعقوب ومحمد، قال: وروي ذلك عن ابن عمر انتهى. وإلى ذلك ذهبت الهادوية. وروي عن أبي حنيفة أنه يكره الكلام بعد الخطبة قال ابن العربي: والأصح عندي أن لا يتكلم بعد الخطبة لأن مسلماً قد روى أن الساعة التي في يوم الجمعة هي من حين يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقام الصلاة فينبغي أن يتجرد للذكر والتضرع والذي في مسلم أنها: ما بين أن يجلس الإمام وإلى أن تقضى الصلاة. ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الأحاديث الواردة في الإنصات حتى تقضى الصلاة كما عند النسائي بإسناد جيد من حديث سلمان بلفظ "فينصت حتى يقضي صلاته" وأحمد بإسناد صحيح من حديث لبيشة بلفظ "فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه" وقد تقدما، ويجمع بين الأحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة هو كلام الإمام لحاجة أو كلام الرجل للرجل لحاجة. 1799 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فأقبل الحسن ولاحسين، عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل، فأخذهما، فوضعهما بين يديه، ثم قال: "صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة رأيت هذين فلم أصبر" ثم أخذ في خطبته. عنون صاحب (الإعلام 8/ 80) لهذا الحديث بقوله: باب جواز الكلام والعمل للخطيب عند الضرورة وكراهتهما لغيرها. وقال: فإن قطع الخطبة بكلام غيرها والعمل فيها إن كان جائزاً مطلقاً لم يعتذر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به، فافهم. - النهي عن تخطي الرقاب: 1800 - * روى ابن خزيمة عن أبي الزاهرية قال كنت جالساً مع عبد الله بن بسر يوم
- النهي عن أن يقيم الرجل الرجل من مقعده
الجمعة، فما زال يحدثنا حتى خرج الإمام، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال لي: جاء رجل يتخطى رقاب الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: "اجلس فقد آذيت وآنيت". - النهي عن أن يقيم الرجل الرجل من مقعده: 1801 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا". 1802 - * روى الشيخان عن نافع قال: سمعت ابن عمر يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه، قيل لنافع: في الجمعة؟ قال: في الجمعة وغيرها". - النهي عن الاحتباء: 1803 - * روى أبو داود عن معاذ بن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب". قال الترمذي: وقد كره قوم من أهل العلم الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب، ورخص في ذلك بعضهم، منهم عبد الله بن عمر وغيره، وبه يقول أحمد وإسحاق، لا يريان بالحبوة والإمام يخطب بأساً، وحديث معاذ بن أنس يؤيد من قال بكراهته. أقول: من لم ير بالحبوة بأساً حمل النص الذي مر معنا على الاحتباء الذي يرافقه انكشاف عورة.
- النهي عن الحلق
- النهي عن الحلق: 1804 - * روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة". أقول: إذا دخل الإنسان المسجد لصلاة الجمعة فحق الجمعة عليه أن يتفرغ للصلاة والذكر وتلاوة القرآن؛ وتحلق الناس قبل الجمعة يستدعي الأحاديث، والحديث يجر بعضه بعضاً، وقد يؤدي التحلق إلى اللغو أو الغيبة وهذا يتنافى مع مقاصد الذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، ومما اعتاده الناس في بعض المساجد في عصرنا أن يقيموا درساً عاماً قبل صلاة الجمعة يكسبون فيه اجتماع الناس لإيصال المعاني لأن همم الناس انصرفت عن طلب العلم والاشتغال به، ولم ير كثير من العلماء في ذلك بأساً بل حبذوه ولم يعتبروه من باب التحلق المنهي عنه. القراءة في صلاة الجمعة: 1805 - * روى مسلم عن عبد الله بن أبي رافع قال: "استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة فقرأ- بعد الحمد لله- (سورة الجمعة) في الأولى، و (إذا جاءك المنافقون) في الثانية، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة، قال أبو هريرة: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما". 1806 - * روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قال: "لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً سنتين- أو سنة وبعض سنة- ما أخذت (ق، والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس" وفي رواية (1) "أخذت (ق، والقرآن المجيد) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ بها على
المنبر في كل جمعة". 1807 - * روى الشيخان عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر (ونادوا يا مالك) (1). 1808 - * روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". 1809 - * روى مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه كتب الضحاك بن قيس إلى النعمان بن بشير يسأله: "أي شيء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، سوى (سورة الجمعة)؟ فقال: كان يقرأ (هل أتاك) ". وفي رواية قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين". 1810 - * روى عبد الله بن أحمد عن أُبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة براءة وهو قائم يذكر بأيام الله.
الفقرة الرابعة: راتبة الجمعة
الفقرة الرابعة: راتبة الجمعة 1811 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً". وفي رواية (1) قال: "من كان مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً". وفي أخرى (2) "من كان منكم مصلياً ... الحديث". وفي أخرى (3) "إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً". وزاد في رواية (4): قال سهيل: "فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت". 1812 - * روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن في سفر ولا حضر: نوم على وتر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين بعد الجمعة، ثم إن أبا هريرة جعل بعد ركعتين بعد الجمعة ركعتي الضحى. أقول: الظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه مرة بالضحى وأوصاه مرة بسنة الجمعة البعدية، فكان يحدث عن هذا تارة وعن هذا تارة فمجموع الوصايا أربع. 1813 - * روى أبو داود عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم "أن ابن عمر رأى رجلاً يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟! قال: وكان عبد الله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته، ويقول: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية (1) "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين". وفي أخرى (2) "كان ابن عمر إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ويحدِّث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك". وفي أخرى (3) "أن ابن عمر كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإذا صلى الجمعة ... وذكر الحديث". وفي أخرى (4) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين". أقول: الأصل في النوافل أن تكون في البيت ولكن ليس هذا بمحتم، وفعل أبي هريرة يدل عليه، ومن كلام ابن عمر نعرف أنه كان يخشى من صلاة ركعتين بعد الصلاة في المسجد أن يظن ظان أن هذا إكمال لفريضة الجمعة. وفعل ابن عمر في إطالة الصلاة قبل فريضة الجمعة واستمراره في الصلاة كما مر معنا من قبل حتى يصعد الخطيب إلى المنبر دليل على أنه لا حرج في الصلاة قبل فريضة الجمعة، والنصوص كثيرة في الندب إلى الصلاة قبل أن يخرج الإمام للخطبة، ولهذا كله وللنصوص التي ستمر معنا وقياساً للجمعة على الظهر اعتبر العلماء أن لصلاة الجمعة سنة قبلية كسنة الظهر القبلية، وقد درج العامة والخاصة على أن يصلوا سنة الجمعة القبلية بين الآذان الأول والآذان الثاني، وليس للإنكار على من فعل ذلك محل، ثم إنه جرت عادة أكثر الناس أن يصلوا سنة الجمعة البعدية في المسجد دون نكير وقد سكت العلماء على ذلك لأن التخوف لم يعد له كبير محل ولأنهم رأوا أن أكثر الناس إذا لم يصلوا السنة في المسجد لم يفعلوها في بيوتهم، فلضعف همة الناس سكتوا عن كثير مما هو
أفضل لخوفهم من أن يضيع الفاضل والأفضل معاً. وقد ورد بالنسبة للسنة القبلية يوم الجمعة نصوص خاصة بها وفيها كلام ومنها: 1814 - * روى الطبراني عن ابن عباس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً)، وعلق عليه المنذري في فيض القدير (5/ 216) فقال: فيه أمور: الأول: أن الذي لابن ماجة إنما هو بدون لفظ وبعدها أربعاً وإنما هذه الزيادة للطبراني كما ذكره ابن حجر وغيره، الثاني: سكت عليه فأوهم سلامته من العلل وليس كما أوهم فإن ابن ماجة رواه عن مبشر بن عبيد عن حجاج بن أرطأة عن عطية العوفي عن الحبر قال الزيلعي: ومبشر معدود من الوضاعين وحجاج وعطية ضعيفان اهـ. وقال النووي في الخلاصة: هذا حديث باطل اجتمع هؤلاء الأربعة فيه وهم ضعفاء وبشر وضاع صاحب أباطيل وقال الحافظ العراقي: ثم ابن حجر سنده ضعيف جداً وقال الهيثمي: رواه الطبراني بلفظ كان يركع قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً لا يفصل بينهن ورواه ابن ماجة باقتصار الأربع بعدها وفيه الحجاج بن أرطاة وعطية العوفي وكلاهما ضعيف إلى هنا كلامه، الثالث: أنه قد أساء التصرف حيث عدل لهذا الطريق المعلول واقتصر عليه مع وروده من طريق مقبول فقد رواه الخلعي في فوائده من حديث علي كرم الله وجهه قال الحافظ الزين العراقي: وإسناده جيد اهـ. وإنما أوردنا الحديث في كتابنا لرواية الخلعي هذه. وسننقل بعد قليل فتوى الشيخ محمد يوسف الدجوي في سنة الجمعة القبلية. 1815 - * روى أبو داود عن عطاء بن أبي رباح "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا
صلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعاً، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد، فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله". وفي رواية (1): قال [عطاء]: "رأيت ابن عمر يصلي بعد الجمعة، فينماز عن مصلاه الذي صلى الجمعة فيه قليلاً غير كثير، قال: فيركع ركعتين قال: ثم يمشي أنفس من ذلك، فيركع أربع ركعات، قال ابن جريج: قلت لعطاء: كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال: مراراً". واختصره الترمذي قال: "رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعاً". أقول: هذا دليل على أن السنة الأغلبية لابن عمر أن يصلي سنة الجمعة البعدية في البيت، وصلاته أربع ركعات بعد الركعتين دليل على النفل المطلق في غير الأوقات الخمسة التي ورد فيها نهي- جائز- وانتقال ابن عمر من محل صلاة الفريضة إلى غيره لصلاة النافلة ثم انتقاله من مكان الصلاة الراتبة إلى مكان آخر أصل من الأصول التي بنى عليها العلماء في أنه يسن للإمام إذا أراد أن ينتفل بعد الفريضة أن يتحول قليلاً عن مكانه ويسن للمأمومين أني كسروا الصفوف بتقديم أو تأخر لكي لا يشتبه على الداخل أنهم في صلاة جماعة، وسنرى بعض ما يدل على ذلك في الفوائد والمسائل. 1816 - * روى الطبراني عن علقمة بن قيس أن ابن مسعود صلى يوم الجمعة بعد ما سلم الإمام أربع ركعات.
1817 - * روى ابن خزيمة عن أيوب، قال: قلت لنافع: أكان ابن عمر يصلي قبل الجمعة؟ فقال: قد كان يطيل الصلاة قبلها، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. قال ابن خزيمة: باب إباحة ما أراد المصلي من الصلاة قبل الجمعة من غير حظر أن يصلي ما شاء وأراد من عدد الركعات والدليل على أن كل ما صلى قبل الجمعة فتطوع لا فرض منها. قال ابن خزيمة في خبر أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وصلى ما كتب له". وفي خبر سلمان: "ما قدر له"، وفي خبر أبي أيوب "فيركع إن بدا له". 1818 - * روى مسلم عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار رحمه الله "أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة. فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: أن لا توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج". وفي رواية (1): "فلما سلم" ولم يذكر الإمام، وقال أبو داود: "فلما سلمت قمت في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما صنعت" وقال: فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أن لا توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم أو يخرج". أقول: لا يشترط في الفاصل بين صلاة الفريضة والنافلة الكلام الدنيوي، بل يكفي الذكر ولو كان قليلاً، وعند الحنفية يكفي أن يفصل بين الفريضة والنافلة بقوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
تحقيق في سنة الجمعة القبلية
تحقيق في سنة الجمعة القبلية: قال الشوكاني في (النيل 3/ 312): وقد اختلف العلماء هل للجمعة سنة قبلها أو لا؟ فأنكر جماعة أن لها سنة قبلها وبالغوا في ذلك، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه ولم يكن يصليها وكذلك الصحابة لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة ... اهـ. وبعد أن ذكر حديث ابن عمر السابق ذكره، إنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، وإسناده صحيح. 1819 - * روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام". قال (الشوكاني 3/ 313): والحديثان يدلان على مشروعية الصلاة قبل الجمعة ولم يتمسك المانع من ذلك إلا بحديث النهي عن الصلاة وقت الزوال وهو مع كون عمومه مخصصاً بيوم الجمعة كما تقدم ليس فيه ما يدل على المنع من الصلاة قبل الجمعة على الإطلاق، وغاية ما فيه المنع في وقت الزوال وهو غير محل النزاع، والحاصل أن الصلاة قبل الجمعة مرغب فيها عموماً وخصوصاً، فالدليل على مدعي الكراهة على الإطلاق اهـ، وانظر (المغني 2/ 366) (وإعلاء السنن 7/ 7 - 10). وقد سئل الشيخ محمد يوسف الدجوي عن سنة الجمعة القبلية فأفتى رحمه الله في مجلة الأزهر (ج 10/ مجلد 4/ سنة 1352) بما يلي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه، وبعد: قبل أن نخوض بك في غمرات البحث والاستدلال يجب أن تعرف أن هنا شيئاً ينبغي التنبيه له، وهو أن المسائل الاجتهادية الفرعية يكفي فيها الظن ولا ينبغي فيها التنازع. وكل من طلب فيها الدليل القطعي فهو جاهل لا ينبغي أن يكون في عداد
العلماء، ولو عقلوا لعرفوا أن الناس لا يتركون أئمتهم المشهود لهم بالخير والدين والعلم والتبريز في كل فضيلة، ويتبعوا هؤلاء المشهود لهم بما لا نطيل القول فيه، وهو غني عن البيان وأي شيء يريدون بعد أن عرَّفنا صلى الله عليه وسلم أن "المخطئ له أجر والمصيب له أجران" فلم يكتف برفع الوزر عن المخطئ بل جعل له أجراً. وقد عرف ذلك العلماء من أئمة الهدى، حتى ذهب كثير منهم إلى أن الحق يتعدد تبعاً لظن المجتهد، فإن الله لم يكلفه إلا بما أداه إليه اجتهاده، فكأن الحق بالنسبة إليه هو ما اعتقده، وليس المقصود من التكليف إلا تحقيق العبودية، وعدم الخروج على الله ورسوله، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقد قالوا: إن المجتهد يجب عليه اتباع ظنه، ويحرم عليه التقليد. فأي شيء بقي بعد ذلك؟ ولكنهم ملبسون يريدون التهويش حباً في الظهور، أو جاهلون لا يمكنهم التعمق في البحث ولا الوقوف على منازع الأئمة، ولا ما أصله العلماء في ذلك. وإن من أكبر بلايانا التي نئن منها ولا ندري منتهاها وجود طائفة بيننا لا تفهم ولا تقلد من يفهم {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1). ولو كان عندهم أدنى شفقة على المسلمين أو إخلاص لهم لعرفوا أن الدين النصيحة، وأنه ليس من الدين ولا من العقل أن نعرض العامة للخوض في الأدلة والموازنة بين المجتهدين، فذلك ليس من شأنهم ولا هو في متناول قدرتهم، ولا نتيجة له إلا ضعف الثقة بأئمتهم وتشكيكهم في دينهم وعقيدتهم والآن نذكر لك مما استدل به الشافعي- رضي الله عنه- على سنة الجمعة ما يكفي بعضه للاجتهاد المعقول المقبول. ولا نزال نكرر أن الظن كاف في هذا الباب ولا يطلب غيره، وأنه متى وصل إليه المجتهد وجب عليه اتباعه والقول به. وهاك قليلاً من كثير. فمن ذلك:
1820 - * روى عبد الله بن الزبير عن ابن حبان في صحيحه والدارقطني والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان". 1821 - * روى الطبراني في الأوسط "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً" ذكره العيني في (عمدة القارئ) ولم يعلق عليه، وقد ساقه للاستدلال. وقال في الفتح: روى الطبراني في الأوسط عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً" وعلق عليه بقوله: وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، وهو ضعيف عند البخاري وغيره. ولكن هذا الطعن الذي ذكره الفتح لا يمنع الاستدلال به، لا لأن الجرح غير مفسر كما قال بعضهم، بل لأن الطعن غير متفق عليه، فإن البخاري ضعفه، ولكن إماماً آخر من أئمة الحديث وثقه وهو ابن عدي، فيصح أن نقول: إن هذا مثل عكرمة الذي وثقه البخاري واحتج به، وضعفه غيره، ومثل سويد بن سعيد الذي احتج به مسلم وقد اشتهر الطعن فيه. وبالجملة فحديثنا هذا غير متفق على تجريح رواته، فيصح الاحتجاج به عند من لا يرى تجريح محمد بن عبد الرحمن السهمي المذكور. 1822 - * روى أبو داود عن ابن عمر أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
1823 - * روى الترمذي: "من صلى في يوم وليلة ثنتى عشرة ركعة بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر". 1824 - * روى مسلم عن أم حبيبة نحوه غير أنه لم يذكر هذا التفصيل. وفي رواية (1) عن أم حبيبة بنت أبي سفيان: "ما من عبد مسلم توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بني له بيت في الجنة". أفترى أن ذلك مطلوب كل يوم إلا يوم الجمعة الذي تتأكد فيه الطاعة، ويزداد فيه الحرص على العبادة وعمل الخير؟! وقد صرح الحديث بالتعميم فقال: كل يوم، كما سمعت. وفصل الترمذي في روايته المتقدمة هذه الركعات غاية التفصيل. ورواية الترمذي وإن لم يذكر فيها لفظ كل يوم ففيها ذكر النكرة في سياق الشرط وهو يفيد العموم، ولا معنى لإخراج يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام وأولاها بالصلاة والعبادة. 1825 - * روى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدِّر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"، وجاء في بعض الروايات (2) عند الإمام أحمد بلفظ: "فإن لم يجد الإمام خرج، صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج، جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته" الحديث.
فجعل الغاية خروج الإمام وهو لا يخرج إلا بعد الزوال. وقال أبو عيسى الترمذي: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وإليه ذهب سفيان الثوري وابن المبارك. وروى الشافعي عن ثعلبة بن أبي مالك عن عامة الصحابة أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة. إلى غير ذلك وهو كثير. وبعض هذا كاف للاستدلال على ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه. وهنا روايات ضعيفة لا بأس أن نسمعك شيئاً منها وليس التعويل عليها، فإن عندنا غيرها على ما سمعت. ولا شك أن كثرة الروايات تفيد قوة الظن ويؤكد بعضها بعضاً. ولا داعي لأن نقول إن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، فالأمر هنا أعظم من ذلك، ولو لم يكن للشافعي إلا قياس الجمعة على الظهر. وما روى ابن حبان في صحيحه وغيره عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "بين يدي كل فريضة". وغيره لكفى وشقى على تلك الجعجعة الحمقاء. وهاك بعض الروايات الضعيفة التي وردت في الموضوع. روى الشافعي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" ولكن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهما ضعيفان. ورواه البيهقي من طريق أبي خالد الأحمر عن عبد الله- شيخ من أهل المدينة- عن سعيد بن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الأثرم بسند فيه الواقدي وهو متروك. ورواه البيهقي أيضاً بسند فيه عطاء بن عجلان وهو متروك أيضاً. وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال: "إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة". وفيها ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. ومن ذلك حديث ابن ماجة الذي فيه بقية بن الوليد وغيره من الضعاف. فهذه الروايات الكثيرة يقوي بعضها بعضاً وإن كان فيها مقال. وقد تقدم لك ما يصح الاعتماد عليه من غير هذه الروايات.
والخلاصة أن الصلاة قبل الجمعة مرغب فيها عموماً وخصوصاً. وقد قال بعض العلماء: لم يتمسك المانع من الصلاة قبل الجمعة إلا بحديث النهي عن الصلاة وقت الزوال، وهو مع كون عمومه مخصصاً بيوم الجمعة ليس فيه ما يدل على المنع من الصلاة قبل الجمعة على الإطلاق، فإن غاية ما فيه المنع في وقت الزوال وهو غير محل النزاع. وعلى كل حال فما تقدم كاف للمنصف، ولا حاجة للإطالة فيه. وبعد: فهؤلاء الناس إنما يقصدون التلبيس على المسلمين وإيقاع الشقاق فيما بينهم بتفريق كلمتهم وفصم عرى وحدتهم، وحباً في الظهور. فعلى ولاة الأمر أن يردعوهم عن ذلك بالزجر البليغ والتأديب الشديد، كما كان يفعله الحكام في العصور الأولى، وكما تفعله الحقانية الآن مع من يحكم برأيه ويقضي بمذهبه الخاص. فعلى الوعاظ وأئمة المساجد ألا يتعرضوا لمن يقلد إماماً من الأئمة الأربعة، ويدعوه وما اختار لنفسه من تلك المذاهب التي تلقاها المسلمون بالقبول، وقامت البراهين على أنها مستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله. وإني مالكي والمالكية لا يرون سنة الجمعة. ولكني لا أحب الخروج على أئمة الهدى وورثة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسائل الاجتهادية يكفي فيها هذا وأقل من هذا على ما شرحنا لك. وما من أمة لا تعظم أئمتها ولا تحترم علماءها وعظماءها إلا ذهب ريحها وحق القول عليها. نسأل الله أن يقينا شر مضلات الفتن، ومزالق الأهواء بمنه وكرمه. يوسف الدجوي عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف
وإنما أطلنا في هذا لأن بعض الناس يتشددون في النهي عن الصلاة قبل الجمعة ويحدثون بلبلة بين المسلمين، حتى إن احدهم صعد المنبر قبل الأذان ثم أمر المؤذن أن يؤذن وبعد انتهاء الأذان بدأ الخطبة وبدأ الناس بالصلاة، فأي مفسدة هذه التي يحدثها أمثال هؤلاء، وليس في السنة نهي عن الصلاة قبلها ولا دليل لهم سوى أن رسول الله لم يفعلها وقد قال علماء الأصول: إن هذا ليس دليلاً على البدعية.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - من كلام الحنفية في صلاة الجمعة نبدأ بنقل شيء من متن "نور الإيضاح" وبعض شروحه ونثني بنقل من "تنوير الأبصار" وشرحه وحاشية ابن عابدين عليه. قال في نور الإيضاح: صلاة الجمعة فرض عين على من اجتمع فيه سبعة شرائط: الذكورة، والحرية، والإقامة بمصر أو فيما هو داخل في حد الإقامة بها في الأصح (قوله: أي بمصر وهو المكان الذي من فارقه بنية السفر يصير مسافراً أو من وصل إليه يصير مقيماً في الأصح كربض المصر وفنائه الذي لم ينفصل عنه بحوالي 185 م، ولا تجب على من كان خارجه، وذكر بعض الحنفية أنا لعبرة لمن كان في فناء المصر بسماعه النداء فعلاً أو حكماً بأن تصور مؤذناً يؤذن في طرف البلد فإنه يسمعه، وعند المالكية يعتبر في دائرة المصر من كان بينه وبين أطراف المصر حوالي 550 م). والصحة، والأمن من ظالم، وسلامة العينين وسلامة الرجلين، ويشترط لصحتها ستة أشياء: المصر أو فناؤه، والسلطان أو نائبه (المسلمان أو من أذن له بطريق ذلك وفي حال فقد السلطان المسلم فإن إذن وزارات الأوقاف أو إذن العلماء أو إذن أعلم العلماء في القطر يكفي لإقامة الجمعة) ووقت الظهر، فلا تصح قبله وتبطل بخروجه والخطبة قبلها بقصدها في وقتها وحضور أحد لسماعها ممن تنعقد بهم الجمعة ولو واحداً في الصحيح، والإذن العام (أي بأن يكون مكان إقامة الجمعة مسموحاً بالدخول به لكل إنسان) والجماعة وهم ثلاثة رجال غير الإمام ولو كانوا عبيداً أو مسافرين أو مرضى، والشرط بقاؤهم مع الإمام حتى يسجد فإن نفروا بعد سجوده أتمها وحده جمعة وإن نفروا قبل سجوده بطلت، ولا تصح بامرأة أو صبي مع رجلين، وجاز للعبد وللمسافر والمريض أن يؤم فيها، والمصر: كل موضع له مفت وأمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود (وإذا كان المفتي هو الأمير والقاضي واحداً يعتبر المكان مصراً وبعض الحنفية عرف المصر بأنه: الذي لا يسع أكبر مساجده أهله، فاعتبروا كثرة العدد في مكان إقامة كالقرية الواسعة ولا يعتبرون الخيام والصحراء مكاناً لإقامة الجمعة). وقال في "تنوير الأبصار" وشرحه "الدار المختار وحاشية ابن عابدين" عليه ما يلي: (وشرط لافتراضها) تسعة تختص بها: (قوله تختص بها) إنما وصف التسعة
بالاختصاص لأن المذكور في المتن أحد عشر لكن العقل والبلوغ منها ليسا خاصين كما نبه عليه الشارح اهـ ح. 1 - (إقامة بمصر) وأما المنفصل عنه فإن كان يسمع النداء تجب عليه عند محمد وبه يفتي كذا في "الملتقى" وقدمناه عن "الولوالجية" تقديره بفرسخ، ورجح في "البحر" اعتبار عوده لبيته بلا كلفة. (قوله إقامة) خرج به المسافر لقوله بمصر أخرج الإقامة في غيره إلا ما استثنى بقوله فإن كان يسمع النداء. ح. (قوله يسمع النداء) أي من المنابر بأعلى صوت كما في "القهستاني" (قوله وقدّمنا إلخ) فيه أن ما مر عن الولوالجية في حد الفناء الذي تصح إقامة الجمعة فيه والكلام هنا في حد المكان الذي من كان فيه يلزمه الحضور إلى المصر ليصليها فيه؛ نعم. في "التتارخانية" عن "الذخيرة" أن من بينه وبين المصر فرسخ يلزمه حضور الجمعة وهو المختار للفتوى. (قوله ورجح في البحر إلخ) هو استحسنه في "البدائع" وصحح في مواهب الرحمن" قول أبي يوسف بوجوبها على من كان دخل حد الإقامة أي الذي من فارقه يصير مسافراً وإذا وصل إليه يصير مقيماً وعلله في شرحه المسمى "بالبرهان": بأن وجوبها مختص بأهل المصر والخارج عن هذا الحد ليس أهله. اهـ. قلت: وهو ظاهر المتون وفي "المعراج" أنه أصح ما قيل وفي "الخانية" المقيم في موضع من أطراف المصر إن كان بينه وبين عمران المصر فرجه من مزارع لا جمعة عليه وإن بلغه النداء، وتقدير البعد بغلوة أو ميل بشيء، هكذا رواه أبو جعفر بن الإمامين وهو اختيار الحلواني، وفي "التتارخانية": ثم ظاهر رواية أصحابنا لا تجب إلا على من يسكن المصر أو ما يتصل به، فلا تجب على أهل السواد ولو قريباً وهذا أصح ما قيل فيه. اهـ. وبه جزم في "التجنيس" قال في "الأمداد": تنبيه قد علمت بنص الحديث والأثر والروايات عن أئمتنا الثلاثة واختيار المحققين من أهل الترجيح أنه لا عبرة ببلوغ النداء ولا بالغلوة والأميال فلا عليك من مخالفة غيره وإن صحح اهـ. أقول وينبغي تقييد ما في "الخانية" "والتتارخانية" بما إذا لم يكن في فناء المصر لما مر أنها تصح إقامتها في الفناء ولو منفصلاً بمزارع فإذا صحت في الفناء لأنه ملحق بالمصر يجب على من كان فيه أن يصليها لأنه من أهل المصر كما يعلم من تعليل "البرهان" والله الموفق.
2 - (وصحة) وألحق بالمريض الممرض والشيخ الفاني. (قوله وصحة) قال في "النهر": فلا تجب على مريض ساء مزاجه وأمكن في الأغلب علاجه فخرج المقعد والأعمى ولذا عطفهما عليه فلا تكرار في كلامه كما توهمه في "البحر" اهـ. فلو وجد المريض ما يركبه ففي القنية هو كالأعمى على الخلاف إذا وجد قائداً وقيل: لا يجب عليه اتفاقاً كالمقعد وقيل: هو كالقادر على المشي فتجب في قولهم، وتعقبه السروجي بأنه ينبغي تصحيح عدمه لأن في التزامه الركوب والحضور زيادة المرض. قلت: فينبغي تصحيح عدم الوجوب إن كان الأمر في حقه كذلك. حلية (قوله والحق بالمريض الممرض) أي من يعول المريض وهذا إن بقي المريض ضائعاً بخروجه في الأصح. (حلية وجوهرة). 3 - (وحرية) والأصح وجوبها على مكاتب ومبعض وأجير ويسقط من الأجر بحسابه لو بعيداً وإلا لا؛ ولو أذن له مولاه وجبت وقيل يخير "جوهرة" ورجح في "البحر" التخيير. (قوله والأصح إلخ) ذكره في "السراج" قال في "البحر" ولا يخفى ما فيه. اهـ. أي لوجود الرق فيهما والمراد بالمبعض من أعتق بعضه وصار يسعى كما في "الخانية" (قوله واجير) مفاده أنه ليس للمستأجر منعه وهو أحد قولين، وظاهر المتون يشهد له كما في "البحر" (قوله بحسابه لو بعيداً) فإن كان قدر ربع النهار حط عنه ربع الأجرة وليس للأجير أن يطالبه من الربع المحطوط بمقدار اشتغاله بالصلاة، "تاترخانية" (قوله ولو أذن له مولاه) أي بالصلاة وليس المراد المأذون بالتجارة فإنه لا يجب عليه اتفاقاً كما يعلم من عبارة "البحر". ح (قوله ورجح في البحر التخيير) أي بأنه جزم به في الظهيرية وبأنه أليق بالقواعد. اهـ. قلت ويؤيده أنه في (الجوهرة) أعاد المسألة في الباب الآتي وجزم بعدم وجوبها عليه حيث ذكر أن من لا تجب عليه الجمعة لا تجب عليه العيد إلا المملوك فإنها تجب عليه إذا أذن له مولاه لا الجمعة لأن لها بدلاً يقوم مقامها في حقه وهو الظهر بخلاف العيد ثم قال: وينبغي أن لا تجب عليه كالجمعة لأن منافعه لا تصير مملوكة له بالإذن فحاله بعده كحاله قبله ألا ترى أنه لو حج بالإذن لا تسقط عنه حجة الإسلام. اهـ. ولا يخفى أنه إذا لم تجب عليه يخير لأنه فرع عدم الوجوب وفي "البحر" أيضاً، وهل يحل له الخروج إليها أو إلى العيدين بلا إذن مولاه ففي "التجنيس" إن علم رضاه أو رآه فسكت حل وكذا إذا كان يمسك دابة المولى عند الجامع ولا يخل بحقه في الإمساك له ذلك في الأصح.
4 - (وذكورة) محققة. (قوله محققة) ذكره في "النهر" بحثاً لإخراج الخنثى المشكل، ونقله الشيخ إسماعيل عن البرجندي: قيل: معاملته بالأضر تقتضي وجوبها عليه أقول: فيه نظر بل تقتضي عدم خروجه إلى مجامع الرجال ولذا لا تجب على المرأة فافهم. 5، 6 - (وبلوغ وعقل) ذكره الزيلعي وغيره وليسا خاصين. (قوله وليسا خاصين) أي بالجمعة بل هما شرطا التكليف بالعبادات كلها كالإسلام على أن المجنون يخرج بقيد الصحة لأنه مرض بل قال الشاعر: وأصعب أمراض النفوس جنونها. 7 - (ووجود بصر) فتجب على الأعور (قوله تجب على الأعور) وكذا ضعيف البصر فيما يظهر أما الأعمى فلا وإن قدر على قائد متبرع أو بأجرة وعندهما: إن قدر على ذلك تجب وتوقف في "البحر" فيما لو أقيمت وهو حاضر في المسجد وأجاب بعض العلماء بأنه إن كان متطهراً فالظاهر الوجوب لأن العلة الحرج وهو منتف وأقول: بل يظهر لي وجوبها على بعض العميان الذي يمشي في الأسواق ويعرف الطرق بلا قائد ولا كلفة ويعرف أي مسجد أراده بلا سؤال أحد لأنه حينئذ كالمريض القادر على الخروج بنفسه بل ربما تلحقه مشقة أكثر من هذا فتأمل. 8 - (وقدرته على المشي) جزم في "البحر": بأن سلامة أحدهما له كاف في الوجوب لكن قال الشمني وغيره: لا تجب على مفلوج الرجل ومقطوعها. (قوله وقدرته على المشي) فلا تجب على المقعد وإن وجد حاملاً اتفاقاً (خانية) لأنه غير قادر على السعي أصلاً فلا يجري فيه الخلاف في الأعمى كما نبه عليه القهستاني. (قوله أحدهما) أي أحد الرجلين ح والمناسب إحداهما (قوله لكن إلخ) أجاب السيد أبو السعود بحمل ما في "البحر" على العرج غير المانع من المشي وما هنا على المانع منه). 9 - (وعدم حبس). (وقوله عدم حبس) ينبغي تقييده بكونه مظلوماً كمديون معسر فلو موسراً قادراً على الأداء حالاً وجبت. 10 - (وعدم خوف) (قوله وعدم خوف) أي من سلطان أو لص "منح" قال في "الأمداد": ويلحق به المفلس إذا خاف الحبس كما جاز له التيمم به.
11 - (وعدم مطر شديد) ووحل وثلج ونحوهما. (قوله ووحل وثلج) أي شديدين (قوله ونحوهما) أي كبرد شديد. (وفاقدها) أي هذه الشروط أو بعضها (إن) اختار العزيمة و (صلاها وهو مكلف) بالغ عقل (وقعت فرضاً) عن الوقت لئلا يعود على موضوعه بالنقض وفي "البحر": هي أفضل إلا للمرأة. (قوله أي هذه الشروط) أي شروط الافتراض (قوله إن اختار العزيمة) أي صلاة الجمعة لأنه رخص له في تركها إلى الظهر فصارت الظهر في حقه رخصة والجمعة عزيمة كالفطر للمسافر وهو رخصة له والصوم عزيمة في حقه لأنه أشق فافهم. (قوله بالغ عاقل) تفسير للمكلف وخرج به الصبي فإنها تقع منه نفلاً والمجنون فإنه لا صلاة له أصلاً (بحر عن البدائع). (قوله لئلا يعود على موضوع بالنقض) يعني لو لم نقل بوقوعها فرضاً بل ألزمناه بصلاة الظهر لعاد على موضوعه بالنقض وذلك لأن صلاة الظهر في حقه رخصة فإذا أتى بالعزيمة وتحمل المشقة صح ولو ألزمناه بالظهر بعدها لحملناه مشقة ونقضنا الموضوع في حقه وهو التسهيل. اهـ ح. قلت: فالمراد بالموضوع الأصل الذي بني عليه سقوط الجمعة هنا وهو التسهيل والترخيص الذي استدعاه العذر ومنه النظر للمولى في جانب العبد قال في "البحر": لأنا لو لم نجوزها وقد تعطلت منافعه على المولى لوجب عليه الظهر فتتعطل عليه منافعه ثانياً فينقلب النظر ضرراً (قوله وفي البحر إلخ) أخذه في "البحر" من ظاهر قولهم إن الظهر لهم رخصة فدل على أن الجمعة عزيمة وهي أفضل إلا للمرأة لأن صلاتها في بيتها أفضل وأقره في "النهر" ومقتضى التعليل أنه لو كان بيتها لصيق جدار المسجد بلا مانع من صحة الاقتداء تكون أفضل لها أيضاً (ويصلح للإمامة فيها من صلح لغيرها فجازت لمسافر وعبد ومريض وتنعقد) الجمعة (بهم) أي بحضورهم بالطريق الأولى (قوله من صلح لغيرها) أي لإمامة غير الجمعة فهو على تقدير مضاف والمراد الإمامة للرجال فخرج الصبي لأنه مسلوب الأهلية والمرأة لأنها لا تصلح إماماً للرجال (قوله تنعقد بهم) أشار به إلى خلاف الشافعي رحمه الله حيث قال بصحة إمامتهم وعدم الاعتداد بهم في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة وذلك لأنهم لما صلحوا للإمامة فلأن يصلحوا للاقتداء أولى عناية (وكره) تحريماً (لمعذور ومسجون) ومسافر (أداء ظهر بجماعة في مصر) قبل الجمعة وبعدها لتقليل الجماعة وصورة المعارضة وأفاد أن المساجد تغلق يوم الجمعة إلا الجامع (وكذا أهل مصر فاتتهم الجمعة) فإنهم يصلون
الظهر بغير أذان ولا إقامة ولا جماعة ويستحب للمريض تأخيرها إلى فراغ الإمام وكره إن لم يؤخر هو الصحيح. (قوله لمعذور) وكذا غيره بالأولى "نهر" (قوله ومسبحون) صرح به كالكنز وغيره مع دخوله في المعذور لرد ما قيل إنها تلزمه لأنه إن كان ظالماً قدر على إرضاء خصمه وإلا أمكنه الاستغاثة اهـ. قال الخير الرملي: وفي زماننا لا مغيث للمظلوم والغلبة للظالمين فمن عارضهم بحق أهلكوه (قوله تحريماً) ذكر في "البحر" أنه ظاهر كلامهم قلت بل صرح به القهستاني (قوله أداء ظهر بجماعة) مفهومه أن القضاء بالجماعة غير مكروه وفي "البحر" وقيد بالظهر لأن في غيرها لا بأس أني صلوا جماعة اهـ (قوله في مصر) بخلاف القرى لأنه لا جمعة عليهم فكان هذا اليوم في حقهم كغيره من الأيام "شرح المنية" وفي "المعراج" عن المجتبى من لا تجب عليهم الجمعة لبعد الموضع صلوا الظهر بجماعة (قوله لتقليل الجماعة) لأن المعذور قد يقتدي به غيره فيؤدي إلى تركها "بحر" وكذا إذا علم أنه يصلي بعدها بجماعة ربما يتركها ليصلي معه فافهم. (قوله وصورة المعارضة) لأن شعار المسلمين في هذا اليوم صلاة الجمعة وقصد المعارضة لهم يؤدي إلى أمر عظيم فكان في صورتها كراهة التحريم وحتى (قوله تغلق) لئلا تجتمع فيها جماعة "بحر" عن "السراج" (قوله إلا الجامع) أي الذي تقام فيه الجمعة فإن فتحه في وقت الظهر ضروري والظاهر أنه يغلق أيضاً بعد إقامة الجمعة لئلا يجتمع فيه أحد بعدها إلا أن يقال إن العادة الجارية هي اجتماع الناس في أول الوقت فيغلق ما سواه مما لا تقام فيه الجمعة ليضطروا إلى المجيء إليه وعلى هذا فيغلق غيره إلى الفراغ منها لكن لا داعي إلى فتحه بعدها فيبقى مغلوقاً إلى وقت العصر ثم كل هذا مبالغة في المنع عن صلاة غير الجمعة وإظهار لتأكدها (قوله وكذا أهل مصر إلخ) الظاهر أن الكراهة هنا تنزيهية لعدم التقليل والمعارضة المذكورين ويؤيده ما في "القهستاني" عن المضمرات يصلون وحدانا استحباباً (قوله بغير أذان ولا إقامة) قال في "الولوالجية" ولا يصلي يوم الجمعة جماعة بمصر ولا يؤذن ولا يقيم في سجن وغيره لصلاة الظهر اهـ قال في "النهر": وهذا أولى مما في "السراج" معزياً إلى جمع التفاريق من أن الأذان والإقامة غير مكروهين (قوله ويستحب للمريض) عبارة القسهتاني المعذور وهي أعم (قوله وكره) ظاهر قوله يستحب أن الكراهة تنزيهية "نهر" وعليه فما في "شرح الدرر" للشيخ إسماعيل عن "المحيط" من عدم الكراهة اتفاقاً محمول على نفي التحريمية.
(ومن أدركها في تشهد أو سجود سهو) على القول به فيها (يتمها جمعة) خلافاً لمحمد (كما) يتم (في العيد) اتفاقاً كما في عيد الفتح لكن في "السراج": أنه عند محمد لم يصر مدركاً له (وينوي جمعة لا ظهراً) اتفاقاً فلو نوى الظهر لم يصح اقتداؤه ثم الظاهر أنه لا فرق بين المسافر وغيره "نهر" بحثاً. (قوله ومن أدركها) أي الجمعة (قوله أو سجود سهو) ولو في تشهده ط (قوله على القول به فيها) أي على القول بفعله في الجمعة والمختار عند المتأخرين أن لا يسجد للسهو في الجمعة والعيدين لتوهم الزيادة من الجهال كذا في "السراج" وغيره "بحر". وليس المراد عدم جوازه بل الأولى تركه كيلا يقع الناس في فتنة. "أبو السعود عن العزمية ومثله في الإيضاح لابن كمال" (قوله يتمها جمعة) وهو مخير في القراءة إن شاء جهر وإن شاء خافت "بحر". (قوله خلافاً لمحمد) حيث قال: إن أدرك معه ركوع الركعة الثانية بنى عليها الجمعة وإن أدرك فيما بعد ذلك بنى عليها الظهر لأنه جمعة من وجه وظهر من وجه لفوات بعض الشرائط في حقه فيصلي أربعاً اعتباراً للظهر ويقعد لا محالة على رأس الركعتين اعتباراً للجمعة ويقرأ في الأخريين لاحتمال النفلية، ولهما: أنه مدرك للجمعة في هذه الحالة حتى تشترط له نية الجمعة وهي ركعتان ولا وجه لما ذكر لأنهما مختلفان لا يبني أحدهما على تحريمه الآخر كذا في "الهداية". (قوله لكن في السراج إلخ) أقول: ما في "السراج" ذكره في عيد الظهيرية عن بعض المشايخ ثم ذكر عن بعضهم أنه يصير مدركاً بلا خلاف وقال: وهو الصحيح. (قوله اتفاقاً) لما علمت أنها عند محمد ليست ظهراً من كل وجه. (قوله ثم الظاهر الخ) ذكر في "الظهيرية" معزياً إلى "المنتقى" مسافراً أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد يصلي أربعاً بالتكبير الذي دخل فيه اهـ. قال في "البحر": وهو مخصص لما في المتون مقتض لحملها على ما إذا كانت الجمعة واجبة على المسبوق أما إذا لم تكن واجبة فإنه يتم ظهراً اهـ. وأجاب في "النهر" بأن الظاهر أن هذا مخرج على قول محمد غاية الأمر أن صاحب "المنتقى" جزم به لاختياره إياه والمسافر مثال لا قيد اهـ. قلت ويؤيده ما جاء عن "الهداية" من أنه لا وجه عندهما لبناء الظهر على الجمعة لأنهما مختلفان على أن المسافر لما التزم الجمعة صارت واجبة عليه ولذا صحت إمامته فيها وأيضاً المسافر إذا صلى الظهر قبلها ثم سعى إليها بطل ظهره وإن لم يدركها فكيف إذا أدركها لا يصليها بل يصليها ظهراً والظهر لا يبطل الظهر فالظاهر ما في "النهر" ووجه تخصيص المسافر بالذكر
دفع توهم أنه يصليها ظهراً مقصورة على قول محمد لأن فرض إمامه ركعتان فنبه على أنه يتمها أربعاً عنده لأن جمعة إمامه قائمة مقام الظهر والله أعلم. اهـ- (حاشية ابن عابدين 1/ 546 - 550). - لا يشترط للجماعة بالإجماع أن تكون في مسجد، أما الجمعة فقد اشترط المالكية وحدهم أن تكون في مسجد جامع، واشترط الشافعي أن تكون في البنيان، واشترط الحنفية أن تكون في البنيان أو في فنائه ومذهب الحنابلة مثل مذهب الحنفية في هذا الموضوع. - اتفقت المذاهب الأربعة على أنه لا تصح الجماعة من أهل الخيام ولو كان مكثهم طويلاً أو مستمراً واشترط الحنفية أن تكون الجمعة في بلد أو في قرية كبيرة لا يسع أكبر مساجدها المكلفين فيها، أو أن يكون للقرية أمير وقاض ومفت أي أن تكون فيها تمثيل إداري للدولة على مستوى معين ولم يشترط الحنابلة والشافعية والمالكية إلا وجود البناء المتجمع الذي يسمى به المكان قرية أو بلداً لكن الشافعية والحنابلة اشترطوا أن يكون المكان يضم أربعين مكلفاً مستوطناً مقيماً فأكثر، ولم يشترطوا للبناء شروطاً معينة إلا ما جرى به العرف في مكان ما أن تبنى به القرية. واشترط المالكية لصحة الجمعة في قرية أن تستغني القرية بأهلها عادة بالأمن على أنفسهم والاكتفاء في معاشهم عن غيرهم ضمن ما تعورف عليه في أمن القرى واستغنائها، ولا يحدون بحد كمائة أو أقل أو أكثر ولكنهم اشترطوا لصحة الجمعة أن يكون أقل العدد اثني عشر مكلفاً من بدء الخطبة إلى نهاية الصلاة. - لم يشترط غير الحنفية إذن الأمير أو نائبه لإقامة الجمعة ولا الإذن العام لكن اشترطوا أن تكون البوابة الموصلة إلى مكان الجمعة مفتوحة وعلى هذا يصح عند الأئمة الآخرين صلاة الجمعة بدون إذن وفي المكان المحصور إذا توافرت الشروط التي وضعها كل إمام لجواز صلاة الجمعة. - اشترط الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية عدداً لصحة الجمعة وقد اختلفوا في هذا العدد كما اختلفوا في بعض شروط الصحة أو الوجوب أو الصحة والوجوب معاً فأقل العدد
عند الحنفية: ثلاثة وأقل العدد عند المالكية: اثنا عشر وأقل عدد عند الشافعية والحنابلة: أربعون واشترط الأربعة التكليف في العدد الذي تقام به الجمعة وزاد المالكية والشافعية والحنابلة مع التكليف الاستيطان والإقامة، فعند الشافعية مثلاً لابد أن يكون الأربعون مقيمين مستوطنين لا ينزح الواحد منهم من قريته أو بلده طوال العام إلا لحاجة ثم يرجع إليها، فمحل الجمعة أن يكون محل إقامة واستيطان بهذا الشرط ساعة إقامة الجمعة ولا يضر أن تتغير النية بعد ذلك في أن ينوي الإنسان استيطان بلد أخرى. - لا تصح إقامة الجمعة في سجن أو ثكنة عسكرية أو مدرسة، فعلَّته عند الحنفية لعدم الإذن العام ولعدم توفر شروط أخرى عندهم، ولا تصح عند المالكية لعدم وجود المسجد وهو شرط عندهم فإذا وجد المسجد ووجد اثنا عشر مكلفاً مقيماً إقامة استيطان جازت الصلاة عندهم، ولابد عند الشافعية والحنابلة من أن يكون المكلفون مستوطنين مقيمين بشرط الاستيطان المذكور فيما مر معنا. وهل السجين المحكوم عليه بالإقامة في مكان أو الجندي المكلف بالإقامة في مكان يعتبر من أهل المكان وبالتالي تصح به صلاة الجمعة إذا أكمل العدد؟ والظاهر أن الأمر كذلك إذا تحدد المكث في المكان سنة فأكثر أما إذا لم يتحدد فلا يعتبرون مقيمين مستوطنين وبالتالي فالحكم في استكمال العدد للمقيمين المستوطنين من أهل البلد التي فيها الثكنة أو المدرسة أو السجن فإذا رغب أهل الثكنة أو مدرسة أو قلعة أن يقيموا صلاة الجمعة دون أن تتوافر في إقامتها شروط مذهب ما فهم بين أمرين: إما أن يلفقوا بين أقوال العلماء وإما أن يجتمعوا على خطبة ثم يصلون الظهر مع ملاحظة أن الحنفية يكرهون لمن لا تجب عليه الجمعة من أهل الأعذار أن يصلوا الظهر جماعة فالأولى لمن حبسه حابس لعذر فيه عن إتيان الجمعة بشروطها المتعارف عليها عند الأئمة أني صلوا الظهر فرادى أو مجتمعين كل على حسب مذهبه وقد ترخص ناس في إقامة الجمعة في البيوت وفي أمكنة مغلقة غير مراعين توافر الشروط مع إمكانهم أني صلوا في المساجد التي تقام بها الجمعة إما لغلو وإما لتكاسل، وكل ذلك ينبغي الاحتياط فيه إلا إذا وجد من الأعذار ما أفتاهم بسببه المؤهلون للفتوى بجواز أن يفعلوا شيئاً من ذلك، وقد وجد قوم يفرون من مساجد البلدة إلى الصحراء المحيطة بالبلد لصلاة الجمعة
فيها، فهؤلاء ما داموا في فناء البلد الملاصق له والذي يعتبر من مرافق البلد فصلاتهم جائزة على بعض المذاهب إذا توافرت الشروط التي اشترطها أئمة المذاهب وهي غير جائزة حتماً على مذهب المالكية الذين يشترطون المسجد. - لا تجب صلاة الجمعة على مسافر وإذا صلاها أجزأته وجاز له عند بعض الأئمة أن يخطب الجمعة ويصلي بالناس إماماً ولا حرج في ذلك عليه ولا على المقتدين واشترط المالكية أن يكون الإمام مقيماً لتصح خطبته وإمامته في الجمعة. - رأينا أن من شروط وجوب الجمعة الإقامة في بلد أو قرية على خلاف في حجم القرية كما مر معنا. والسؤال الآن: على من تجب صلاة الجمعة لمن كان خارج أبنية البلدة أو القرية أو ما هو البعد الذي تسقط عنه به صلاة الجمعة؟ قال المالكية: من كان يبعد عن أطراف القرية أو البلد مقدار (5544 م) تجب عليه، والعبرة عند الشافعية لمن سمع النداء بأن يفترض المؤذن في طرف البلد أو القرية والأصوات هادئة والريح ساكنة وهو مستمع فإذا كان بإمكانه أن يسمع النداء لو كان الأمر كذلك فإنه يجب عليه حضور الجمعة ولا عبرة بسماعه من خلال المكبرات، والعبرة أن يسمعه من منارة لا من داخل المسجد، والحنابلة كالمالكية في اعتبار الفرسخ (5544 م) غير بعيد عن طرق المكان الذي تجب فيه الجمعة، فمن كان يبعد مقدار فرسخ فأقل تجب عليه صلاة الجمعة. وقد اختلف الحنفية اختلافاً كبيراً في تقدير المسافة التي تجب معها صلاة الجمعة لمن كان خارج البلد أو القرية التي تجب فيهما إقامة الصلاة فذهب بعضهم إلى أن من كان بعيداً عن طرف القرية أو البلد أربعمائة ذراع تجب عليه، فإن كان أكثر من ذلك لا تجب عليه وقيل: إن الميل فما دونه (1848 م) هو الذي تجب به الجمعة، وذهب بعضهم إلى أن العبرة بسماع النداء من المنارة بأعلى صوت بأن افترض المؤذن في طرف القرية أو البلد وهذا الرأي رأي الشافعية كما ذكرنا، وذهب بعضهم إلى أنه إذا فصل بين الإنسان وبين القرية أو البلد مزارع ونحوها فإنه لا تجب عليه الصلاة ولو سمع النداء وأفتى بعضهم بأن الفرسخ هو الفيصل بين البعد والقرب فمن كان بعيداً عن أطراف المدينة فرسخاً فأقل وجبت عليه صلاة الجمعة، وإلا فإنها لا تجب وقد وافقهم بهذا القول المالكية والحنابلة، وذهب بعض الحنفية
إلى أن من كان يستطيع أن يصلي الجمعة ثم يرجع إلى بيته قبل أن يدخل المساء فيجب عليه أن يصلي الجمعة. والملاحظ أن بعض النصوص التي مرت معنا تندب من كان بعيداً عن المدينة لحضور صلاة الجمعة وأن بعض الصحابة كانوا يتكلفون الحضور من الأمكنة البعيدة للمدينة وهذا يجعلنا نشجع سكان الأطراف ولو بعدوا على حضور صلاة الجمعة إذا توافرت شروط الصحة في مكان، خاصة وأن كثيرين من الناس أصبحوا يملكون من الوسائل ما يستطيعون به أن يأتوا من المكان البعيد لصلاة الجمعة ثم يرجعون وهم في غاية الراحة فحضور الجمعة وإن لم يكن واجباً، له بركاته وتأثيراته على من حضر الجمعة، من غفران ذنب فيما بينه وبين الجمعة السابقة وكثرة أجر كلما كثرت الخطا وبعد المكان.
الباب السادس في صلوات الليل والنهار في الأحوال العادية عدا الصلوات الخمس وفيه مقدمة وعرض إجمالي وفقرات ومسائل وفوائد
الباب السادس في صلوات الليل والنهار في الأحوال العادية عدا الصلوات الخمس وفيه مقدمة وعرض إجمالي وفقرات ومسائل وفوائد الفقرة الأولى: في أحاديث ومسائل متنوعة تتحدث عن النوافل. الفقرة الثانية: في رواتب الصلوات الخمس. الفقرة الثالثة: في صلاة الوتر. الفقرة الرابعة: في صلاة الضحى. الفقرة الخامسة: في قيام الليل. الفقرة السادسة: في نوافل تتكرر يومياً ولها سبب: تحية المسجد، سنة الوضوء، صلاة دخول المنزل والخروج منه. الفقرة السابعة: في النفل المطلق. الفقرة الثامنة: في صلاة التسابيح.
المقدمة قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (1) {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}: أي يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه. {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ}: لمن أراد أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيقوم بحق الله عليه، وفي قراءة لحمزة والكسائي: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ}: أي من أجل أن يذكر الله عز وجل. {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي أن يشكر الله عز وجل على ما فيه من النعم باستعمال كل ما أعطاه الله عز وجل في الأحب إلى الله عز وجل. فالمراد إذن: أن الليل والنهار يتعاقبان ليكونا وقتين للذاكرين والشاكرين، فمن فاته ورده في أحدهما تذكره في الآخر. وأعلى درجات الذكر والتذكر والشكر هي الصلاة، ولذلك قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) (2) وقال عليه الصلاة والسلام تعليلاً لقوة اشتغاله بقيام الله حتى تورمت قدماه: "أفلا أكون عبداً شكوراً". وفي الصلاة يتذكر الإنسان كل ما ينبغي تذكره، فيجتمع له تذكر وأفعال وأقوال يقتضيها هذا التذكر من تنزيه وخضوع وتوحيد وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. وقد فرض الله عز وجل الصلوات الخمس لتكون المرتكزات الأساسية للذكر والشكر وشرعت لنا صلوات أخرى تتكرر يومياً، وشرعت لنا صلوات مرتبطة بمناسبات أو بأحوال أو بأعمال، وتمر على الإنسان حالات طارئة كالسفر والمرض والخوف، فيصلي الصلوات الخمس نفسها بما يتفق مع المشروع للحالة الطارئة، وهناك سجدات مشروعة وصلاة مشروعة على الجنازة لها أحكام خاصة.
وهكذا من خلال الصلوات التي تتكرر أو يمكن أن تتكرر يومياً، ومن خلال صلوات المناسبات ومن خلال ما شرع لحالات طارئة، ومن خلال سجدات ونوع صلاة مع ما ندب إليه المسلم من تلاوة وأذكار يبقى المسلم في ذكر وشكر وتذكر يسهل عليه معه أن يؤدي ما طلب الله منه وأن ينتهي عما نهاه الله عز وجل عنه. والأساس المنظم لهذا كله هو الصلوات الخمس خاصة، والصلوات عامة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) وقد خصصنا هذا الباب للصلوات التي شرعت مع الصلوات الخمس التي تتكرر يومياً أو يمكن أن تكرر يومياً، وهاك عرضاً لهذه الصلوات، وسيأتي الكلام عما سوى ذلك من الصلوات في أبواب لاحقة.
العرض الإجمالي
العرض الإجمالي مما شرع لنا ركعتان بعد طلوع الفجر وقبل فريضتها، ثم لا صلاة حتى تطلع الشمس وترتفع مقدار رمح أو رمحين، ومن هذا الوقت إلى ما قبيل الزوال شرعت لنا سنة الضحى، كما جاز لمن أراد التنفل المطلق أن يتنفل في هذا الوقت، فإذا زالت الشمس ودخل وقت الظهر شرعت لنا راتبة الظهر القبلية وراتبة الظهر البعدية، فما قبل فريضة الظهر وما بعدها شرعت لنا صلاتان راتبتان، ثم ما بعد راتبة الظهر البعدية يجوز التنفل المطلق لمن شاء فإذا دخل وقت العصر شرعت لنا راتبة العصر القبلية فإذا صلى الإنسان العصر فلا صلاة حتى تغرب الشمس فإذا دخل وقت المغرب فقد اختلف الفقهاء هل هناك راتبة قبل فريضة المغرب أو لا؟، على قولين، واتفقوا على مشروعية الراتبة لصلاة المغرب، وهناك من يرى أنه بعد راتبة المغرب تندب صلاة الأوابين ثم ما بين المغرب والعشاء يجوز النفل المطلق، فإذا دخل وقت العشاء كانت هناك راتبة قبل الفريضة وراتبة بعد الفريضة. وشرع لنا قيام الليل والتهجد، وبعضهم فرق بين التهجد وقيام الليل، فالتهجد ما كان بعد النوم، والقيام ما كان قبله، وشرع لنا أن نختم صلاة الليل بالوتر، وجاز النفل المطلق فيما بين العشاء والفجر، وقد شرع لنا تحية المسجد وهي في الأحوال العادية تتكرر من المسلم يومياً كما شرعت لنا سنة الوضوء وهي كذلك تتكرر في العادة يومياً وشرعت لنا سنة الدخول والخروج من البيت وإليه. أما صلاة التسابيح فقد شرعت على التخيير فمن شاء صلاها يومياً، فهذه الصلوات في العادة تتكرر يومياً أو يمكن أن تتكرر وهي كلها نوافل ما عدا صلاة الوتر فالحنفية يرون أنها واجبة. وما ذكرناه ها هنا هو محل العرض الإجمالي لهذا الباب: 1 - رواتب الصلوات الخمس: ركعتا الفجر وأربع ركعات قبل صلاة الظهر أو قبل صلاة الجمعة بتسليمة واحدة عند الحنفية وهي سنة مؤكدة عندهم، ويتأكد النفل عند المالكية
قبل صلاة الظهر وأقل ما يحصل به ركعتان، والراتبة القبلية عند الشافعية: أربع ركعات وتسن أربع ركعات قبل الجمعة عندهم، والمؤكدة عندهم ركعتان قبل الظهر وقبل الجمعة. وعند الحنابلة راتبة الظهر القبلية المؤكدة ركعتان، ركعتان غير مؤكدة قبل الظهر فالمذاهب الأربعة متفقة على أن: راتبة الظهر القبلية أربع ركعات ولكنه مختلفون في قوة الإلزام فبعضهم كالحنفية يعتبرون الأربع سنة مؤكدة والحنابلة والشافعية والمالكية يعتبرون ركعتين هما المؤكدتين، فإذا أضيفت إليهما ركعتان فإنهما سنة غير مؤكدة، وصلاة الجمعة عند الجميع كصلاة الظهر في راتبتها القبلية، وبعد صلاة الفريضة تؤدى ركعتان بعد الظهر وهما سنة مؤكدة عند الحنفية ويندب عندهم أن يضم لهما ركعتين، فالسنة الراتبة عندهم بعد الظهر والجمعة أربع: ثنتان مؤكدتان، وثنتان غير مؤكدتين، والشافعية والحنابلة والمالكية كالحنفية في راتبة الظهر البعدية أربع ركعات فهم متفقون على أنها أربع ركعات: اثنتان منها مؤكدة واثنتان غير مؤكدة. وراتبة العصر عند الحنفية أربع ركعات قبل العصر بتسليمة واحدة وهي غير مؤكدة. وتتأكد عند المالكية قبل صلاة العصر ركعتان والأولى الأربع، وراتبة العصر عند الشافعية: أربع تؤدى قبل الفريضة وهي سنة غير مؤكدة عندهم وكذلك هي عند الحنابلة. وراتبة المغرب مؤكدة عند الحنفية ركعتان بعد صلاة المغرب ويكره عندهم أن يصلي قبل المغرب شيئاً، وتتأكد هاتان الركعتان بعد المغرب في المذاهب الثلاثة الأخرى، وتندب ركعتان قبل صلاة فريضة المغرب عند الشافعية والمالكية والحنابلة، وبعد راتبة المغرب المؤكدة تندب صلاة الأوابين وهي: أربع ركعات غير مؤكدة عند الحنفية والمالكية والحنابلة. وصلاة الأوابين عند الشافعية: عشرون ركعة بين الغرب والعشاء وأقلها ركعتان. ومن السنن المؤكدة عند الحنفية: ركعتان بعد فرض العشاء، ومن السنن غير المؤكدة عندهم: أربع ركعات قبل صلاة العشاء وركعتان تضافان إلى السنة المؤكدة بعد فرض العشاء، فتصلى أربعاً بتسليمة واحدة، ومن صلى أربعاً بعد فريضة العشاء عند المالكية فهو أفضل، وركعتان تكفيان في تحصيل الفضيلة. وتندب ركعتان قبل فريضة العشاء، ويندب عند الشافعية ركعتان قبل العشاء وهما سنة غير مؤكدة، وعند الحنابلة: ركعتان بعد العشاء
مؤكدتان، ويضاف إليهما ثنتان غير مؤكدتين، وركعتان غير مؤكدتين قبل العشاء. 2 - الوتر: وهو سنة عند المالكية، وأقله: ركعة عندهم، وأكثره: إحدى عشرة ركعة، ووقته: بين صلاة العشاء وطلوع الفجر. والوتر سنة مؤكدة عند الشافعية، وأقله عندهم ركعة وأكثره ثلاثة عشر ركعة، والأفضل عندهم: إذا أوتر بثلاث أن يفصل بين الركعتين الأوليين والركعة الأخيرة بسلام وجاز له أن لا يفصل، والوتر عند الحنابلة سنة مؤكدة أقله ركعة وإن أوتر بثلاث أو أكثر فذلك أكمل، والوتر عند صاحبي أبي حنيفة والمذاهب الثلاثة سنة مؤكدة، وهو عند أبي حنيفة واجب، والواجب عند الحنفية فوق السنة ودون الفريضة، ويسميه الحنفية فرضاً عملياً، ومقداره عند الحنفية ثلاث ركعات لا يفصل بينهما بسلام وسلامه في آخره كصلاة المغرب، ويجب أن يصليه بنية وتر الليلة التي هو فيها، ويقرأ الفاتحة وسورة في الركعات الثلاث ويتشهد تشهدين الأول والأخير، ولا يقرأ دعاء الاستفتاح في الركعة الثالثة، ويكبر ويرفع يديه ثم يقنت قبل ركوع الثالثة، ومن وثق من استيقاظه في الليل فالأفضل أن يؤخر الوتر وإلا فالأفضل في حقه أن يوتر قبل أن ينام، وإذا أوتر ثم أراد أن يقوم الليل أو يتهجد فله ذلك، ولا يعيد وتره عند الجمهور، وجاز عند الحنابلة أن يوتر مرة أخرى بركعة، ولا يفصل بعض الفقهاء بين قيام الليل والتهجد والوتر، والحنفية يفرقون بين الوتر الذي هو واجب وبين ما سواه من قيام أو تهجد والذي هو نافلة. 3 - وصلاة الضحى: سنة غير مؤكدة عند الحنفية وأقلها: ركعتان وأوسطها: أربع وأكثرها: ثمان، ووقتها: يبدأ بعد حوالي ثلث أو نصف ساعة بعد طلوع الشمس إلى ما قبيل الزوال. وهي سنة مؤكدة عند المالكية أقلها: ركعتان، وأكثرها: ثمان، وعند الشافعية: أقل صلاة الضحى ركعتان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة، وعند الحنابلة: مستحبة غير مؤكدة، وأكثرها ثمان وأقلها ثنتان وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتد حرها. 4 - قال الحنفية: تندب صلاة التهجد ليلاً وعدد ركعاتها من ركعتين إلى ثمان وطول القيام عندهم أفضل من كثرة السجود، وقيام الليل عند المالكية سنة مؤكدة وأفضله: أن
يكون في الثلث الأخير وهو عشر ركعات غير الثلاث التي هي الشفع التي يسبق ركعة الوتر، وقيام الليل عند الشافعية والحنابلة غير الثلاث: عشر أو ثمان وأقله ركعتان. 5 - ويندب عند الحنفية: ركعتا الوضوء وتحية المسجد وهما سنتان غير مؤكدتين عندهم ولا تؤدى هاتان السنتان في أوقات النهي الخمسة عندهم، والمسجد الحرام تحيته الطواف، وأداء الفرض أو غيره ينوب عن ركعتي الوضوء وتحية المسجد، ومن تكرر دخوله إلى المسجد لعذر تكفيه كل يوم مرة. ومن النوافل عند المالكية: سنة دخول المنزل، وسنة الخروج منه، ومن السنن عنده ركعتان بعد الوضوء وركعتان تحية المسجد للداخل يريد الجلوس به لا المرور فيه وإن كان في وقت النهي وتتأدى بفريضة. ومن السنن غير المؤكدة عند الشافعية: تحية المسجد ركعتين والأصح عندهم أنها تكرر بتكرر الدخول إلى المسجد مراراً، وتحصل التحية بفرض أو نفل آخر وإن لم ينو، ومن السنن غير المؤكدة عندهم: ركعتا الوضوء، ومن السنن غير المؤكدة عند الحنابلة: سنة الوضوء وسنة تحية المسجد. 6 - والنفل المطلق جائز عند الحنفية في غير أوقات النهي، كما أن النفل المطلق جائز في غير الأوقات الخمسة المكروهة، وكذلك هو عند الشافعية، وتعريف النفل المطلق عند الشافعية: هو ما لا يتقيد بوقت ولا سبب، أي لا حصر لعدده ولا ركعاته، وقال الحنابلة: شرعت النوافل المطلقة في الليل كله، وفي النهار فيما سوى أوقات النهي، وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار. وهكذا ترى أن التنفل المطلق في غير الأوقات المنهي عنها جائز في المذاهب الأربعة. 7 - وصلاة التسابيح ليست مستحبة عند الإمام أحمد لكن إن فعلها إنسان ففعله جائز وهو مأجور. وعند الشافعية صلاة التسابيح سنة غير مؤكدة، ووصفها عندهم أن تكون أربع ركعات يقول في كل ركعة بعد القراءة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ويقول في كل من الركوع والرفع منه والسجدتين والجلوس بينهما وجلسة
الاستراحة وما قبل التشهد عشراً فلذلك خمس وسبعون في كل ركعة. ومن النوافل عند المالكية: صلاة التسبيح أربع ركعات، ومن السنن غير المؤكدة عند الحنفية: صلاة التسبيح ويفعلها المسلم في كل وقت لا كراهة فيه أو في كل يوم أو ليلة مرة وإلا ففي كل أسبوع أو شهر أو سنة أو في العمر كله مرة واحدة، وهي أربع ركعات يقرأ في كل منها بفاتحة الكتاب وسورة وتصح بتسليمة واحدة أو بتسليمتين ويقول فيها ثلاثمائة مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر في كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة، فبعد الثناء خمس عشرة ثم بعد القراءة وفي الركوع والرفع منه وكل من السجدتين وفي الجلسة بينهما عشر تسبيحات. وعلى هذا فإن العدد خمس عشرة تسبيحة لا يوجد إلا مرة واحدة بعد الثناء وما عدا ذلك فعشر عشر. فصلاة التسبيح مشروعة في المذاهب الأربعة إلا أن الحنابلة اعتبروها صلاة جائزة. انظر (حاشية ابن عابدين 1/ 445 فما بعدها)، (الشرح الصغير 1/ 401 - 415)، (المهذب 1/ 82 - 85)، (الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 326 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي وأدلته 2/ 41 - 49 و 2/ 55 فما بعدها). وإلى فقرات هذا الباب:
الفقرة الأولى في أحاديث ومسائل متنوعة تتحدث عن النوافل
الفقرة الأولى في أحاديث ومسائل متنوعة تتحدث عن النوافل - الصلاة في البيوت: 1827 - * روى أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة". وأخرج الترمذي (1) أيضاً والموطأ (2) موقوفاً على زيد قالا: قال زيد: "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم، إلا المكتوبة". 1828 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى أحدكم صلاته في المسجد، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً". 1829 - * روى أحمد عن زيد بن خالد الجهني رفعه: "صلوا في بيوتكم ولا
- الاقتصاد والمداومة في العبادة
تتخذوها قبوراً". 1830 - * روى الطبراني في الكبير عن مسروق قال كنا إذا قام عبد الله نجلس بعده فيثبت الناس في القراءة فإذا قمنا صلينا فبلغه ذلك فدخلنا عليه فقال أتحملون الناس ما لا يحملهم الله عز وجل تصلون فيرون ذلك واجباً عليهم إن كنتم لابد فاعلين ففي بيوتكم. 1831 - * روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يؤمهم ثم يتطوع في مكانه قال: وكان إذا صلى المكتوبة سبح مكانه. - الاقتصاد والمداومة في العبادة: 1832 - * روى أبو يعلى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم سورة البقرة في ركعتين. 1833 - * روى الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم من العمل بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا". 1834 - * روى ابن خزيمة عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر. 1835 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي صلى الله
عليه وسلم قوم يجتهدون في العبادة اجتهاداً شديداً. فقال: "تلك ضرورة الإسلام وشرته ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون". قال في النهاية (3/ 86): إن للإسلام ضراوة أي عادة ولهجاً به لا يصبر عنه. 1836 - * روى البخاري عن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: "حلوه"، ثم قال: "ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد". 1837 - * روى البخاري عن عائشة قالت: كان أحب العمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما داوم وإن قل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها. وقال أبو سلمة {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (3). 1838 - * روى مسلم عن عائشة قالت: كان عندي امرأة من بني أسد فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من هذه؟ " فقلت: فلانة تذكر من صلاتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مه، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا". قالت: وكان أحب الدين إليه الذي يدوم عليه صاحبه.
- من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة
1839 - * روى البخاري عن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟! هذا لفظ حديث أبي عمار. وقال يوسف: قالت: لا، كان عمله ديمة. - من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة: 1840 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "صلاتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركهما سراً وعلانية، في سفر ولا حضر: ركعتان قبل الصبح، وركعتان بعد العصر". وفي رواية (3) قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة". أقول: صلاة النافلة بعد فريضة العصر مكروهة لنصوص ثابتة، ولكن فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة راتبة الظهر البعدية فقضاها بعد صلاة العصر، وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه إذا فعل شيئاً أثبته وداوم عليه، ولذلك داوم على ركعتين بعد العصر فهي خصوصية له.
1841 - * روى أبو داود عن طاووس قال: "سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: ما رأيت أحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما، ورخص في الركعتين بعد العصر". 1842 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين، إلا الفجر والعصر". 1843 - * روى الستة عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، قال في الثالثة: لمن شاء". 1844 - * روى مالك عن حفصة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها". وفي رواية نحوه (1)، إلا أنه قال: "بعام أو عامين".
1845 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: حُدِّثت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة"، قال: فأتيته فوجدته يصلي جالساً، فوضعت يدي على رأسه- وفي رواية: فوضعت يدي على رأسي- فقال: "مالك يا عبد الله بن عمرو؟ " قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: "صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة"، وأنت تصلي قاعداً- وفي رواية: على النصف من صلاة القائم؟ - قال: "أجل، ولكني لست كأحد منكم". وفي رواية (1) الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة أحدكم وهو قاعد مثل نصف صلاته وهو قائم". وفي أخرى (2) له، قال: لما قدمنا المدينة نالنا وباء من وعكها شديد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون في سبحتهم قعوداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - مما ذكره فقهاء الحنفية عن التطوع: أن التطوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: سنن مؤكدة وسنن غير مؤكدة، ونفل مطلق، والنفل المطلق: إما أن يكون في ليل أو نهار، والسنن غير المؤكدة: إما أن تكون في ليل أو نهار، ثم السنن عامة تنقسم إلى قسمين: راتبة وغير راتبة، والراتبة نفسها منها: المؤكدة ومنها غير المؤكدة، ومنها ما يكون الركعتان الأوليان منها مؤكدة، والركعتان الأخيرتان غير مؤكدة، فإذا كانت الركعتان المؤكدتان من السنن الرواتب خالصتين فإنهما لا يفترقان عن الفريضة في شيء، إلا أنهما يصليان بدون جماعة والأفضل فيهما. وأما إذا كانت الراتبة المؤكدة أربعاً كصلاة الظهر القبلية، فإنها لا تفترق عن صلاة الفريضة إلا بوجوب قراءة الفاتحة مع شيء من القرآن في كل ركعة من الركعات، أما إذا كانت الصلاة الراتبة غير مؤكدة وصلاها الإنسان ثنتين فهي كالسنة المؤكدة في الأحكام، أما إذا أراد الإنسان أن يصلي غير المؤكدة أربعاً أو يضيف إلى المؤكدة ركعتين غير مؤكدتين ففي هذه الحالة يتم مع التشهد الأول الصلوات الإبراهيمية ثم إن شاء سلم وقام إلى الركعتين الأخريين وإن لم يشأ أن يسلم وأتم الصلاة أربعاً فإنه يبدأ الركعة الثالثة كما بدأ الأولى بالثناء والتعوذ والبسملة ويقرأ في كل الركعات فاتحة وسورة أو شيئاً من القرآن مضافاً إلى الفاتحة وفي القعود الأول يقرأ الصلوات الإبراهيمية وفي الرواتب لا يزاد على أربع، وأما ما سوى الصلوات الراتبة فإن صلاها ثنتين ثنتين فالأمر واضح فهي كالمؤكدة، وإن صلاها أربعاً فإنها تعامل كالسنة غير المؤكدة، بل ذهب أبو حنيفة إلى جواز أن تصلى ثماني ركعات بتسليمة واحدة، والمفتى به عند الحنفية أن ما سوى السنن الرواتب المحددة فالأفضل في صلاة الليل أن تكون مثنى مثنى وفي النهار أربعاً، ومن كلام الحنفية أن من شرع في نفل فقد وجب عليه إتمامه وإذا لم يتمه وجب عليه قضاؤه، وإذا نوى أربعاً أو ثمانياً واضطر للتسليم على رأس ركعتين فقد وجب عليه أن يصلي ما فاته مما نواه، وإذا كان هذا في النافلة فمن باب أولى فيما هو أرقى منها، ولم ير الشافعية وجوب إتمام النافلة، ولكنهم يرون وجوب إتمام الحج والعمرة لمن بدأ بهما، وكذلك وجوب إتمام ما بدأ به من فروض الكفاية كصلاة
الجنازة والجهاد، وهذه المسألة- أي وجوب إتمام ما بدأ على المذهبين- يتفرع عنها مسائل كثيرة وخاصة في مسائل الدعوة والعمل الإسلامي فليتنبه القارئ لما يمكن أن يدخل من تفريعات تحت هذه المسألة. - ومما قاله الحنفية: لو ترك الإنسان القعود الأول في السنن غير المؤكدة أو في النفل المطلق عامداً، بل لو أنه صلى ثمانياً على مذهب أبي حنيفة فلم يقعد إلا في الأخيرة وسلم على رأسها جازت صلاته، أما إذا ترك القعود غير الأخير ساهياً فإن عليه سجود السهو. - وتجوز صلاة النفل إذا صلى الإنسان قاعداً لغير عذر، كما تجوز صلاة النافلة على الدابة ولو لغير القبلة يومئ إيماءً على خلاف ذكرناه، هل يتوجه حين الشروع نحو القبلة أو لا يطالب بذلك؟ للعلماء رأيان وعلى هذا يجوز لمن كان جالساً في سيارة أو طائرة أن يتنفل في محله بما شاء، ولا يتحرى من صلى النافلة في سيارة أو طائرة أو على دابة النجاسة. - يسن عند الشافعية والحنابلة الاضطجاع بعد أداء سنة الفجر ولم ير الحنفية والمالكية سنية هذه الضجعة، ويندب أن يتفرغ الإنسان بعد فريضة الصبح للأذكار حتى ترتفع الشمس مقدار رمح أو رمحين فيصلي بعد ذلك ما شاء من سنة الضحى أو نفل مطلق، ويندب أني تفرغ بعد المغرب للصلاة والذكر، ويكره الكلام بعد العشاء إلا في ما فيه مصلحة مشروعة. ومن السنة أن يخصص وقتاً من ليلته للصلاة والقرآن والأذكار، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (1) وقال تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (2) وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3). قال المالكية: يكره الجمع الكثير لصلاة النافلة لأن الأصل فيها الانفراد، كما يكره الجمع القليل في مكان مشتهر، وقد جاءت نصوص في السنة تدل على أنه قد صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، وفي نفل مطلق في نهار، واستقر الإجماع
على مشروعية صلاة التراويح في رمضان في جماعة. وقال الشافعية: لا تسن صلاة الجماعة في السنن الرواتب ولا في النفل المطلق. - للعلماء في قضاء النوافل أربعة مذاهب: فمنهم من أجاز قضاءها مطلقاً كالشافعية، ومنهم من منعها مطلقاً إلا سنة الفجر إذا فاتت مع فريضتها وهؤلاء قالوا: إن من فاته شيء من السنن الرواتب يصلي بدله نفلاً مطلقاً إن شاء بدون نية القضاء كالحنفية ومنهم من أجاز القضاء إلا أن يقع في وقت منهي عنه كبعض الحنابلة، ومنهم من أجاز قضاء راتبة الفجر فقط على خلاف بينهم في وقت القضاء هل يصح بعد صلاة الفريضة في وقت الفجر أو أنها تقضى في وقت الضحى.
الفقرة الثانية في رواتب الصلوات الخمس
الفقرة الثانية في رواتب الصلوات الخمس - نصوص جامعة: 1846 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. وعند النسائي (1): "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دخل الجنة .. الحديث". أقول: اعتبر فقهاء الحنفية هذه الثنتي عشرة ركعة بالتفصيل المذكور في النص هي: السنن المؤكدة من رواتب الصلوات الخمس، وما سوى ذلك من رواتب السنن الخمس اعتبروه سنة غير مؤكدة. 1847 - * روى الترمذي عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة" وذكرت مثل حديث عائشة قالت: "وركعتين قبل صلاة الغداة"، وفي أخرى للنسائي (2): "من ركع ثنتي
عشرة ركعة في يوم وليلة سوى المكتوبة بنى الله له بيتاً في الجنة". وفي أخرى (1): "من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة ... الحديث". وفي أخرى (2): "بالنهار أو بالليل". وأخرج مسلم (3) وأبو داود (4) نحو رواية النسائي المفردة. 1848 - * روى مسلم عن عبد الله بن شقيق رحمه الله قال: "سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن تطوعه؟ - فقالت: كان [النبي صلى الله عليه وسلم] يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات، فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين". وزاد أبو داود (5): "ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر". وفي رواية (6) الترمذي: قال: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ثنتين، وبعد العشاء ثنتين، وقبل الفجر ثنتين".
أقول: وردت أكثر من رواية ثابتة عن عدد الركعات التي كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل مع الوتر، فذكر تسع وذكرت إحدى عشرة وذكرت ثلاث عشرة وذكر في رواية عن علي ست عشرة وهذا يفيد أنها غير الوتر، وذكر ما هو أقل من التسع مما يدل على أن الأمر واسع. 1849 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الجمعة، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء". وفي رواية (1) بمعناه، وزاد: "فأما المغرب والعشاء والجمعة: ففي بيته". وعند البخاري (2) لم يذكر الجمعة، وزاد البخاري في رواية (3) قال: وحدثتني حفصة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها". قال البخاري في أخرى (4): "بعد العشاء في أهله". وفي رواية (5) لهما، وفيه "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته". وللبخاري (6) قال: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة، وكانت ساعة لا أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فحدثتني حفصة: أنه كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن
- راتبة الفجر
صلى ركعتين". 1850 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال أنس بن سيرين: "قلت لابن عمر: أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة: أطيل فيهما القراءة؟ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة من آخر الليل، ويصلي ركعتين قبل صلاة الغداة، وكأن الأذان بأذنيه" قال حماد: أي بسرعة. - راتبة الفجر: 1851 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر". وفي رواية (1) "معاهدة منه على ركعتي الفجر". وفي رواية (2): قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع منه إلى ركعتين قبل الفجر". ولمسلم (3): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". وله في أخرى (4): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً".
1852 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح". وفي رواية (1) "أنه كان يصلي ركعتي الفجر، فيخففهما حتى أقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ ". ولمسلم (2): "كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان، ويخففهما". وفي أخرى (3): "إذا طلع الفجر". وللنسائي (4): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأذان الأول من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يستنير الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن". أقول: لم يعتبر فقهاء الحنفية والمالكية هذا الاضطجاع سنة تعبدية، بل هي من باب المباح استعداداً لصلاة الصبح واستراحة من قيام الليل، فمن شاء فعلها ومن لم يشأ فلا حرج عليه. 1853 - * روى مالك عن حفصة رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن للصبح، وبدا الصبح، صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة".
- ما يقرأ في راتبة الفجر
وفي رواية (1): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين". 1854 - * روى أبو داود عن يسار- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر وأسلم من ركعتين، فقال: يا يسار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي كما تصلي، فقال لنا: "ليبلغ الشاهد الغائب: لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين". وأخرجه الترمذي مختصراً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين" قال محقق الجامع: وفي سنده محمد بن الحصين، ويقال: أيوب بن الحصين التميمي الحنظلي، وهو مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، ولكن في الباب عن عبد الله بن عمرو، وحفصة، وحديث حفصة رواه الشيخان وغيرهما من حديث أخيها عبد الله بن عمر عنها، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين، فالحديث حسن بهذه الشواهد. أقول: المراد بالسجدتين: راتبة الفجر وهي ركعتان قبل الفريضة، ولا يصلي غيرهما بين الأذان والإقامة، قال الحنفية: وهاتان الركعتان لا تقضيان إذا لم يصلهما الإنسان قبل الفريضة إلا إذا فاتته الفريضة فصلاها بعد ارتفاع الشمس، فإن له أن يصليها قضاء قبل الفريضة. - ما يقرأ في راتبة الفجر: 1855 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا
أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ..} (1)، وفي الآخرة {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2). وفي رواية (3): كان يقرأ في ركعتي الفجر (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) (4) والتي في آل عمران {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (5). 1856 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركعتي الفجر {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (6) في الركعة الأولى، وبهذه الآية {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (7) أو {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (8). 1857 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (9) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (10). 1858 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رمقت رسول الله
- الاضطجاع بعد راتبة الفجر
صلى الله عليه وسلم شهراً، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". وفي رواية النسائي (1) قال: "رمقت النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". - الاضطجاع بعد راتبة الفجر: 1859 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع" زاد في رواية (2) "حتى يؤذن بالصلاة". وللبخاري (3): "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن" ولمسلم (4) مثل الأولى، بغير زيادة. وفي رواية أبي داود (5): "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قضى صلاته من آخر الليل، نظر، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإن كنت نائمة أيقظني وصلى بالركعتين، ثم اضطجع حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بصلاة الصبح، فيصلي ركعتين خفيفتين، ثم يخرج إلى الصلاة". وفي رواية الترمذي (6) قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كانت له إلي حاجة كلمني، وإلا خرج إلى الصلاة". أقول: استدل العلماء بهذه الروايات على أنه لا يكره الحديث قبل أداء فريضة الصبح،
استحب العلماء التفرغ للذكر بعد صلاة فريضة الصبح، على أن بعض الناس تبدأ أعمالهم الدنيوية بعد صلاة الصحب مباشرة فلا حرج عليهم في ذلك. قال (النووي 6/ 23): فيه دليل على إباحة الكلام بعد سنة الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور قال: القاضي وكرهه الكوفيون وروي عن ابن مسعود وبعض السلف لأنه وقت استغفار؛ والصواب الإباحة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع الكلام اهـ. 1860 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه"، وزاد أبو داود (1) "فقال له مروان بن الحكم: أما يجزئ أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه؟ قال: لا، فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: أكثر أبو هريرة على نفسه، فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئاً مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنَّا، قال: فبلغ ذلك أبا هريرة، قال: فما ذنبي: أن كنت حفظت ونسوا". قال في (إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر): ويسن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر على جنبه الأيمن سواء كان له تهجد بالليل أم لا وهذا هو الحق والمروي من حديث أربعة أنفس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. كذا في (عون المعبود 1/ 488). وقال أيضاً في "العون": وقد اختلف في حكم هذا الاضطجاع على ستة أقوال: الأول وهو الصحيح أنه مشروع على سبيل الاستحباب .. اهـ. أقول: ولم ير الحنفية استحبابه بل اعتبروه مباحاً إذا لم يؤد إلى مكروه فإذا أدى إلى مكروه كان مكروهاً. قال محقق جامع الأصول: وقد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم، وهو في "الصحيحين" وغيرهما، والظاهر أن المراد من الأحاديث الواردة في ذلك
- قضاء راتبة الفجر وحكم صلاتها إذا افتتحت الصلاة
قولاً وفعلاً: أن يستريح المصلي بعد طول صلاة الليل لينشط لفريضة الصلاة، أو هي استراحة لانتظار الصلاة فقط، وقد أفاض القول في هذا البحث العلامة أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي الهندي في كتابه "إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر" ص 14 - 20 فارجع إليه. - قضاء راتبة الفجر وحكم صلاتها إذا افتتحت الصلاة: 1861 - * روى الترمذي عن محمد بن إبراهيم [التيمي] عن قيس [بن عمرو] قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقيمت الصلاة، فصليت معه الصبح، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فوجدني أصلي، فقال: "مهلاً يا قيس، أصلاتان معاً؟ " فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال "فلا إذاً". وفي رواية أبي داود (1) عن قيس [بن عمرو] قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن"، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية عبد ربه ويحيى ابني سعيد: "أن جدهم صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم" .. بهذه القصة، مرسل. 1862 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل- وفي رواية: أنه رأى رجلاً- قد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصبح أربعاً؟ الصبح أربعاً؟ ".
ولمسلم (1) قال: أقيمت صلاة الصبح، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم، فقال: "أتصلي الصبح أربعاً؟ ". وفي أخرى (2) له: "أنه مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو؟ فلما انصرفنا أحطنا به، نقول: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي: "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً". أقول: قال الحنفية إذا أقيمت صلاة الفجر ولم يكن الإنسان قد صلى راتبة الفجر، فله أن يصليها إذا كان يثق بلحوق الإمام على أن يصليها إما في بيته أو في رحبة المسجد، ولم يأخذوا بحديث قضاء راتبة الفجر للاختلاف فيه، وأخذ به آخرون كالشافعية، ورأى الحنفية أن الأصح من النصوص ينكر على من صلى بعد الفريضة أي نافلة. 1863 - * روي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان، بأي الصلاتين اعتددت: أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا؟ ". 1864 - * روى مالك عن أبي سلمة [بن عبد الرحمن] قال: "سمع قوم الإقامة، فقاموا يصلون، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أصلاتان معاً؟ أصلاتان معاً؟ " وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح.
أقول: هناك صورة لا حرج فيها: وهي أن يبدأ الإنسان صلاة راتبة الفجر قبل الإقامة، فيكملها ثم يلحق بالجماعة، والسنة أن تكون راتبة الفجر خفيفة. 1865 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس". أقول: حمل الحنفية هذا النص على ما إذا فاتت راتبة الفجر مع فريضتها أو أنه منسوخ بالأحاديث المعارضة، والذين يرون جواز قضاء راتبة الفجر بعد طلوع الشمس حتى ترتفع أخذوا بهذا الحديث. 1866 - * روى الطبراني عن عبد الله بن أبي موسى قال: جاءنا ابن مسعود والإمام يصلي الصبح فصلى ركعتين إلى سارية ولم يكن صلى ركعتي الفجر. أقول: بنى الحنفية على فعل ابن مسعود هذا واعتبروه علامة على النسخ لما سواه من النصوص التي تنكر أن يصلي الإنسان راتبة الفجر إذا وثق من لحوقه بالإمام في مكان بعيد عن الصفوف، وإنما اعتبروه علامة نسخ لفقه ابن مسعود ولملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن فعله كان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه مظنة أن يعلم آخر ما استقر عليه الأمر في هذه المسألة. 1867 - * روى الطبراني عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً صلى ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم فغمز النبي صلى الله عليه وسلم منكبه وقال: "ألا كان هذا قبل ذا". 1868 - * روى أبو داود عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال: "شهدت مع
فائدة
رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف، فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكم نافلة". علق ابن خزيمة على الحديث فقال: النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر قد أمر من صلى الفجر في رحله أن يصلي مع الإمام، وأعلم أن صلاته تكون مع الإمام نافلة، فلو كان النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس نهياً عاماً لا نهياً خاصاً، لم يجز لمن صلى الفجر في الرحل أن يصلي مع الإمام فيجعلهما تطوعاً. وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم: سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة، فيها دلالة على أن الإمام إذا أخر العصر أو الفجر أو هما، إن على المرء أن يصلي الصلاتين جميعاً لوقتهما، ثم يصلي مع الإمام ويجعل صلاته معه سبحة، وهذا تطوع بعد الفجر وبعد العصر. أقول: اعتبر الحنفية الأحاديث الواردة في النهي عن التنفل بعد صلاتي الصبح والعصر ناسخة لهذا الحديث وأمثاله، وهي قضية خلافية، والأمر فيها واسع، وقد أجاز الحنابلة لكل من صلى خارج المسجد ثم دخل المسجد والصلاة قائمة أن يصليها متنفلاً ولو في أوقات الكراهة أخذاً بهذا النص وأمثاله. فائدة: قال الحنفية عن راتبة الفجر أنها آكد السنن ولذلك فإنها لا تصلى عند بعضهم والمصلي جالس إلا العذر، ولكن لا تقضى عندهم إلا إذا فاتت مع فريضتها فتقضى إذا قضى المصلي فريضته قبل الزوال، واختار أحمد جواز قضاء سنة الفجر عند الضحى، وإن صلاها بعد فريضة الفجر أجزأه ومذهب الشافعية جواز قضاء سنة الفجر بعد أداء فريضتها. (1)
- راتبة الظهر والعصر
- راتبة الظهر والعصر: 1869 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها". 1870 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعاً، وبعدها ركعتين". 1871 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاها بعدها". أقول: يجوز عند بعض العلماء قضاء النوافل مطلقاً كالشافعية وبعضهم منع قضاء النوافل إلا سنة الفجر مع فريضتها كما رأينا الحنفية مثلاً، إلا أن من لا يرى قضاء الفوائت يجيز أن يصلي الإنسان في غير أوقات الكراهة نفلاً مطلقاً بقدر ما فاته أو أكثر أو أقل، وإذن فالخلاف في النهاية في النية، هل ينوي الإنسان القضاء أو النفل المطلق؟، ثم الخلاف في قضاء صلاة النافلة في الأوقات المنهي عنها، فالحنفية لا يرون جواز صلاة النوافل في الأوقات المنهي عنها قضاء ولا غيره. 1872 - * روى الترمذي عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الله على النار".
وفي رواية (1) قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها، حرمه الله على النار". وفي أخرى (2) للنسائي "فتمس وجهه النار أبداً إن شاء الله". 1873 - * روى الترمذي عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح". 1874 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر ركعتين". 1875 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين". 1876 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً". 1877 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني
في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين" وفي رواية (1) قالت: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط". وللبخاري (2) عن عبد العزيز بن رفيع قال: "رأيت عبد الله بن الزبير يطوف بعد الفجر ويصلي ركعتين، ورأيت عبد الله بن الزبير يصلي بعد العصر، ويخبر أن عائشة حدثته: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيتها إلا صلاهما". وله في أخرى (3) عن أيمن المكي: أنه سمع عائشة تقول: والذي ذهب به، ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصلي كثيراً من صلاته قاعداً تعني- الركعتين بعد العصر- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما، ولا يصليهما في المسجد، مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم". ولمسلم (4): "أن أبا سلمة سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر؟ فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شُغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني: داوم عليها". وله في أخرى (5) قالت: "لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر" وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتحروا طلوع الشمس، ولا غروبها، فتصلوا عند ذلك". ولأبي داود (6) قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال".
1878 - * روى الشيخان عن كريب مولى ابن عباس "أن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أزهر، والمسور بن مخرمة، أرسلوه إلى عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد العصر، وقل: إنا أخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنهما؟ قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنها، قال كريب: فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني به، فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلي أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما؟ فإن أشار بيده فأستأخري عنه؛ ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: "يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر فهما هاتان". وفي رواية للنسائي (1) بلا قصة، وهذا لفظه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة، وأنها ذكرت ذلك له، فقال: هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلت عنهما حتى صليت العصر". حول قول ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنها، قال النووي (6/ 119 - 120): هكذا وقع في بعض الأصول وفي بعض: أصرف الناس عنها، وكلاهما صحيح ولا منافاة بينهما وكان يضربهم عليها في وقت ويصرفهم عنها في وقت من غير ضرب
أو يصرفهم مع الضرب ولعله كان يضرب من بلغه النهي ويصرف من لم يبلغه من غير ضرب .. وفيه احتياط الإمام لرعيته ومنعهم من البدع والمنهيات الشرعية وتعزيرهم عليها اهـ. وقال حول الحديث (6/ 121): فيه فوائد منها إثبات سنة الظهر بعدها ومنها أن السنن الراتبة إذا فاتت يستحب قضاؤها وهو الصحيح عندنا ومنها أن الصلاة التي لها سبب لا تكره في وقت النهي وإنما يكره ما لا سبب لها وهذا الحديث هو عمدة أصحابنا في المسألة وليس لنا أصح دلالة منه ودلالته ظاهرة، فإن قيل: فقد داوم النبي صلى الله عليه وسلم عليها [أي على ركعتي ما بعد العصر] ولا يقولون بهذا، قلنا لأصحابنا: في هذا وجهان حكاهما المتولي وغيره: أحدهما: القول به فمن دأبه سنة راتبة فقضاها في وقت النهي كان له أن يداوم على صلاة مثلها في ذلك الوقت. والثاني: وهو الأصح الأشهر ليس له ذلك وهذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحصل الدلالة بفعله صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول فإن قيل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم قلنا الأصل الاقتداء به صلى الله عليه وسلم وعدم التخصيص حتى يقوم دليل به بل هنا دلالة ظاهرة على عدم التخصيص وهي أنه صلى الله عليه وسلم بين أنها سنة الظهر ولم يقل هذا الفعل مختص بي وسكوته ظاهر في جواز الاقتداء. أقول: بينت عائشة علة دوام النبي صلى الله عليه وسلم على الركعتين بعد العصر بقولها: (وكان إذا صلى صلاة أثبتها) تعني داوم عليها، مما يدل على أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الموافق لرأي الحنفية وآخرين. 1879 - * روى أحمد عن زيد بن خالد الجهني: أنه رآه عمر ركع بعد العصر ركعتين فضربه بالدرة وهو يصلي فلما انصرف قال: يا أمير المؤمنين فو الله لا أدعهما أبداً بعد إذ رأيت
- راتبة المغرب والعشاء
النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما فجلس عمر إليه فقال: يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلوة حتى الليل لم أضرب فيهما. 1880 - * روى أحمد عن عبد الله بن رباح عن رجل من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر فقام رجل يصلي فرآه عمر فقال اجلس فإنما أهلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل فقال صلى الله عليه وسلم "أحسن ابن الخطاب". فائدة: لا خلاف بين العلماء أنه ليس لصلاة العصر بعدية وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خصوصية له، ففهم بعضهم أن الأمر عام، ولا خلاف بين العلماء أن سنة العصر القبلية غير مؤكدة والأمر فيها واسع: أن يصليها أربعاً بتسليمتين أو بتسليمة واحدة أو يصليها ركعتين فقط، ولا خلاف بين العلماء أن السنة المؤكدة بعد فريضة الظهر ركعتان، وأن الأربع بعد الظهر راتبة إلا أن الأخيرتين غير مؤكدتين، ولا خلاف بين الفقهاء: أن راتبة الظهر القبلية أربع، وإنما الخلاف: هل الأربع سنة مؤكدة أو أن الاثنتين سنة مؤكدة والثنتان الأخيرتان سنة غير مؤكدة؟ - راتبة المغرب والعشاء: 1881 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء". وفي رواية (1) "لم يكن بينهما إلا قليل". وفي رواية (2) قال: "كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة الغرب ابتدروا السواري،
فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما". 1882 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المختار بن فلفل: قلت لأنس: أرآكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، رآنا، فلم يأمرنا ولم ينهنا". 1883 - * روى البخاري عن مرثد بن عبد الله رحمه الله قال: "أتيت عقبة [ابن عامر] الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم!؟ يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل". 1884 - * روى أبو داود عن عبد الله المزني بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، لمن شاء، خشية أن يتخذها الناس سُنَّة". وفي أخرى (4) قال: "صلوا قبل صلاة المغرب- قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة". أقول: يباح عند الحنابلة صلاة ركعتين خفيفتين قبل المغرب، وتسن هاتان الركعتان سنة غير مؤكدة عند الشافعية، وكره الحنفية إلا الكمال بن الهمام، صلاة شيء قبل فريضة المغرب، لأن السنة في المغرب التعجيل (5).
1885 - * روى أحمد عن حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم صلى حتى صلى العشاء. أقول: في هذا النص دليل على جواز النفل المطلق في غير أوقات الكراهة، كما أنه دليل لمن استحب أن يصلي بعد راتبة المغرب سنة الأوابين، فمن هذا النص ومن حديث أخرجه الترمذي ووصفه بالغرابة وأخرجه ابن ماجه وابن خزيمة وفيه ندب إلى صلاة ست ركعات لا يتكلم بينهن بسوء بعد صلاة المغرب واتكأ بعض الفقهاء على أن من التزم بست ركعات بعد المغرب أو أكثر فله ذلك وبعضهم ذكر العشرين ركعة، وما دام الفقهاء متفقين على جواز النفل المطلق في غير أوقات الكراهة فإن للمسلم أن يلتزم فيما بين المغرب والعشاء بما شاء خاصة وأنه وقت كان يهتم به الصحابة، والعمل بالحديث الضعيف إذا تحققت فيه شروط في فضائل الأعمال مما ذهب إليه أعلام كبار. 1886 - * روى أحمد عن محمود بن لبيد أحد بني عبد الأشهل قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا فصلى بنا المغرب فلما سلم قال "اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسُّبحة بعد المغرب". أقول: مما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، فمن كان يريد الانتظار إلى العشاء فالأفضل في حقه أن يصلي راتبة المغرب في المسجد، وإلا فالأولى أن يصليها في بيته، وقل مثل ذلك في كل راتبة بعدية لفريضة.
1887 - * روى الترمذي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد الأشهل المغرب، فقام قوم يتنفلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بهذه الصلاة في البيوت". أقول: قوله يتنفلون: فيه إشارة إلى نفل مطلق يحتمل أن تدخل فيه الراتبة وغيرها كما يحتمل أن تراد به الراتبة وحدها. 1888 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد". أقول: هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يصلي راتبة المغرب في المسجد مما يدل على الجواز، والأفضلية بين البيت والمسجد نسبية، فمن كان يكسل عن صلاتها لو ذهب إلى البيت فأداؤها في المسجد أفضل، ومن كان ينوي انتظار صلاة أخرى أو ينوي الاعتكاف فصلاته في المسجد أفضل، والمسألة كلها تدور بين فاضل وأفضل.
الفقرة الثالثة: في الوتر
الفقرة الثالثة: في الوتر - مشروعية الوتر: 1889 - * روى أحمد عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا". أقول: هذا الحديث أحد أدلة أبي حنيفة على أن قوة الإلزام في الوتر أكثر من غيرها ولذا فإنه واجب عنده، ولذلك فإنه يشبه الفريضة في الأحكام عنده كما سنرى، وأما المذاهب الثلاثة وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة فإنهم اكتفوا بالقول بأن قوة الإلزام فيه ترفعه إلى أن يكون آكد السنن. 1890 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "الوتر ليس بحتم كصلاة المكتوبة، ولكن سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله وتر يحب الوتر،
فأوتروا يا أهل القرآن". وفي رواية (1) "الوتر ليس بحتم، كهيئة الصلاة المكتوبة، ولكنه سُنَّة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية أبي داود (2) والنسائي (3) قال: "يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر". 1891 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله تبارك وتعالى وتر يحب الوتر" قال نافع: وكان ابن عمر لا يصنع شيئاً إلا وتراً. 1892 - * روى مالك عن عبد [الله] بن محيريز رحمه الله "أن رجلاً من كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام، يكنى: أبا محمد، يقول: إن الوتر واجب، فقال المخدجي: فرحت إلى عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، ولم يضيع منهن شيئاً، استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة". وفي أخرى (6) لأبي داود قال: قال عبد الله الصنابحي: "قلت لابن الصامت: زعم أبو
محمد أن الوتر واجب، قال ابن الصامت: كذب أبو محمد أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن، كان على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". (كذب أبو محمد) لم يرد بقوله: كذب أبو محمد: تعمد الكذب الذي هو ضد الصدق، لأن الكذب إنما يجيء في الإخبار، وأبو محمد إنما أفتى فتيا، رأى فيها رأياً، وهو رجل من الأنصار، له صحبة، ولا يجوز أن يكذب في الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعرب من عادتها أن تضع الكذب موضع الخطأ، فتقول: كذب سمعي، وكذب بصري، أي: أخطأ. 1893 - * روى ابن خزيمة عن عبد الرحمن بن أبي عمرة النجاري: أنه سأل عبادة بن الصامت عن الوتر، قال: أمر حسن جميل، عمل به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، وليس بواجب. أقول: الواجب في اصطلاح العامة وأكثر العلماء هو الفريضة، واصطلح أبو حنيفة لما تأكد الإلزام به بخبر الآحاد اسم الواجب له، وهو دون الفريضة عنده، ومن ههنا حدث إشكال عند أكثر الناس بسبب هذا الاصطلاح، فقد استقر في عقول الناس أن الواجب هو الفريضة وليس عندهم إلا الصلوات الخمس فريضة، فتوهم بعضهم أن أبا حنيفة يزيد على الفرائض الخمس فريضة سادسة فحدث اللبس نتيجة لذلك. 1894 - * روى أحمد عن أبي تميم الجيشاني قال: سمعت عمرو بن العاص يقول: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى الصبح: الوتر الوتر" ألا وإنه: أبو بصرة الغفاري،
- وقت صلاة الوتر
قال أبو تميم فكنت أنا وأبو ذر قاعدين قال: فأخذ بيدي أبو ذر فانطلقنا إلى أبي بصرة فوجدناه على الباب الذي يلي باب عمرو فقال أبو ذر يا أبا بصرة أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله عز وجل زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصبح الوتر الوتر"؟ قال: نعم، قال: أنت سمعته؟ قال: نعم. - وقت صلاة الوتر: 1895 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً". أقول: ومن ههنا لم ير العلماء أنه ليس بعد الوتر شيء مسنون، وروي عن أحمد قوله بصلاة ركعتين بعد الوتر، وهو قول مرجوح في مذهبه، لكن أجاز الفقهاء لمن صلى الوتر ثم بدا له أن يتنفل فله ذلك، وفي المسألة تفصيل سنراه إن شاء الله. 1896 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوتروا قبل أن تصبحوا". وفي رواية (3) النسائي "قبل الصبح" وفي أخرى (4) "قبل الفجر". أقول: وقت الوتر عند الحنفية يبدأ بدخول وقت العشاء ولكن لا يصلى إلا بعد فريضة العشاء ويخرج وقته بطلوع الفجر، وإذا فات فإنه يقضى عند الحنفية، ويستمر
وقته عند المالكية حتى صلاة فريضة الصبح، والظاهر أنهم مع بقية الفقهاء في أن وقته يخرج بطلوع الفجر، إلا أنهم أجازوا لمن لم يصله في الليل أن يصليه بعد طلوع الفجر قبل أداء فريضة الصبح، ويستحب تأخيره عند الحنفية والحنابلة إلى آخر الليل لمن وثق من الانتباه، وجميع الفقهاء متفقون على أنه يستحب لمن لم يثق من استيقاظه أن يصليه قبل نومه، وينتهي وقته المستحب عند الشافعية عند منتصف الليل، وعند المالكية: الوقت الأفضل لصلاته ينتهي بثلث الليل الأول. 1897 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً قبل الصبح". وفي أخرى (2) له وللترمذي (3): أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا الصبح بالوتر". وفي أخرى (4) للترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل الفجر". أقول: إذا تعارض مذهب الصحابي مع نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنص هو المقدم وهذا النص دليل على أن وقت الوتر ينتهي بدخول وقت الفجر، ولذلك حملنا الروايات التي وردت عن بعض الصحابة خلاف ذلك على أنه يراد بها قضاء الوتر لمن فاته الوتر في وقته. 1898 - * روى أبو داود عن خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: "خرج علينا يوماً
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قد أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر". 1899 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أول الليل، وأوسطه، وآخره، وانتهى وتره إلى السحر". ولفظ البخاري "كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى وتره إلى السحر". وفي رواية (1) الترمذي "وانتهى وتره حين مات في السحر". وأخرجه الترمذي (2) بزيادة معنى آخر عن عبد الله بن أبي قيس. فقال: "سألت عائشة عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان يوتر، من أول الليل، أو من آخره؟ فقالت: كل ذلك قد كان يصنع، ربما أوتر من أول الليل، وربما أوتر من آخره، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، فقلت: كيف كانت قراءته: أكان يسر بالقراءة، أم يجهر؟ فقالت: كل ذلك كن يفعل، قد كان ربما أسر، وربما جهر، قال: فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قال: فقلت: كيف كان يصنع في الجنابة: أكان يغتسل قبل أن ينام، أو ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة".
1900 - * روى الطبراني عن عروة بن مسعود قال: ما أبالي أن يثوب لصلاة الفجر وأنا في وردي لم أوتر بعد. أقول: لعل مراده الأذان الأول، فإنه يكون قبل طلوع الفجر عادة بحوالي ربع ساعة، وإذا كان المراد أذان الفجر الثاني فذلك مشكل إلا على رأي المالكية الذين يرون أن وقت الضرورة لصلاة الوتر يمتد حتى تقام صلاة فريضة الصبح. 1901 - * روى الطبراني عن عروة بن الزبير قال: كان ابن مسعود يوتر بعد الفجر وكان أبي يوتر قبل الفجر. أقول: من المعروف أن الحنفية بنوا على مذهب ابن مسعود، فلعل ابن مسعود فعل ذلك لأن الوتر قد فاته في وقت فقضاه بعد الفجر فظنها الراوي عنه أنها عادة دائمة له. 1902 - * روى أحمد عن أبي نهيك أن أبا الدرداء كان يخطب الناس أن لا وتر لمن أدرك الصبح فانطلق رجال من المؤمنين إلى عائشة فأخبروها فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح فيوتر. أقول: هذا محمول عند الجمهور على أن ذلك كان قضاء. 1903 - * روى الطبراني عن الأغر المزني أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر قال: "فأوتر".
- متى يوتر
1904 - * روى النسائي عن محمد بن المنتشر كان في مسجد عمرو بن شرحبيل فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فقال: إني كنت أوتر، قال: وسئل عبد الله: هل بعد الأذان وتر؟ قال: نعم، وبعد الإقامة، وحدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس، ثم صلى". 1905 - * روى الطبراني عن الأسود بن هلال قال: أشهد على عبد الله بن مسعود لقد سمعته ينادي بها نداء الوتر ما بين صلاة العشاء الآخرة التي تسمون العتمة وصلاة الفجر متى أوترت فحسن. أقول: لعل مراده لصلاة الصبح: حين دخول وقتها. - متى يوتر: 1906 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتر قبل أن أنام". 1907 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ثم ليرقد، ومن طمع أن يقوم آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة، وذلك أفضل". 1908 - * روى أبو داود عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "متى توتر؟ " قال: أوتر من أول الليل، وقال لعمر: "متى توتر؟ " قال: آخر
- قضاء الوتر
الليل، فقال لأبي بكر: "أخذ هذا بالحذر" وقال لعمر: "أخذ هذا بالقوة". 1909 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فإذا أوتر قال: "قومي فأوتري يا عائشة". - قضاء الوتر: 1910 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نام عن وتره فليصل إذا أصبح". وله في أخرى (1): أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكره وإذا استيقظ". وأخرج أبو داود (2) الرواية الثانية إلى قوله: "إذا ذكره". - عدد ركعات الوتر: 1911 - * روى أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". وفي النسائي (3) مثله وزاد: "من شاء أوتر إيماء". وله في أخرى بزيادة (4) في أوله: "فمن شاء أن يوتر بسبع فليفعل".
أقول: أقل الوتر عند المالكية والحنابلة والشافعية ركعة واحدة، وأقلها عند الحنفية ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام ويعتبرون النصوص التي تجيز الوتر بواحدة منسوخة، وعندهم لا يصح الوتر إلا بقيام، أما صاحب العذر فإنه يصلي بقدر استطاعته ويعتبرون الصلاة إيماءً لغير صاحب عذر منسوخاً، ولم يوافقهم كثيرون على مذهبهم في الوتر، ويترتب على الخلاف بين الحنفية وغيرهم فروع يختلفون فيها منها: جواز صلاة الوتر على الدابة أو وهو جالس في سيارة أو طيارة، فالحنفية لا يجيزون ذلك، ويجيزه غيرهم. 1912 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته، ثم نزل فصلى عشر ركعات وأوتر بواحدة، صلى ركعتين ركعتين ثم أوتر بواحدة، ثم صلى ركعتي الفجر، ثم صلى بنا الصبح. 1913 - * روى أبو داود عن عبد الله بن أبي قيس قال: "سألت عائشة رضي الله عنها: بكم كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة، زاد في رواية (1): "لم يكن يوتر ركعتين قبل الفجر، قلت: ما يوتر؟ قالت: لم يكن يدع ذلك"، ولم يذكر فيها "ست: وثلاث". أقول: لا يفصل جمهور العلماء بين الوتر وقيام الليل، وكثيراً ما يطلقون على قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيتاره أنه وتر، ويميز الحنفية بين الوتر وقيام الليل وإن كان الوتر نوع قيام من الليل. 1914 - * روى ابن خزيمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسمل يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر.
1915 - * روى أحمد عن أبي أمامة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع حتى إذا بدن وكثر لحمه أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس يقرأ بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. 1916 - * روى أحمد عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتر بخمس فإن لم تستطع فبثلاث فإن لم تستطع فبواحدة فإن لم تستطع فأومئ إيماءً". 1917 - * روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع. إلا أن النسائي قال: "فلما أسن وثقل". قال الترمذي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الوتر بثلاث عشرة، وإحدى عشرة، وتسع، وسبع، وخمس، وثلاث، وواحدة" قال: وقال إسحاق بن إبراهيم: معنى ما روي: "أنه كان يوتر بثلاث عشرة"، [إنما معناه] أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إلى الوتر. وفي رواية أخرى (1) للنسائي قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع، أو خمس، لا يفصل بينهن بتسليم". وفي أخرى (2) له "كان يوتر بخمس وسبع، لا يفصل بينها بسلام ولا بكلام".
أقول: هذا يشهد لمذهب أبي حنيفة الذي يقول بجواز أن يصلي الإنسان ثماني ركعات بتسليمة واحدة، ولكنه من حيثية أخرى يعارض ما ذهب إليه الحنفية في أن الوتر ثلاث ركعات متحدات ومنفصلات عن غيرهن. 1918 - * روى النسائي عن مقسم بن بجرة قال: "الوتر سبع، ولا أقل من خمس، قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: عمن ذكره؟ قلت: لا أدري، قال الحكم: فحججت، فلقيت مقسماً، فقلت له: عمن؟ قال: عن عائشة وميمونة". وفي رواية (1): عن عروة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس، ولا يجلس إلا في آخرهن". أقول: هذا النص يشهد لمذهب أبي حنيفة القائل بجواز صلاة ثمان ركعات متواليات بتسليمة واحدة ودون جلوس على رأس كل ركعتين ولكنه لا يشهد لما ذهب إليه الحنفية باستقلالية الوتر عن غيره في اصطلاحهم أنه ثلاث ركعات يجلس فيهما جلوسين ويسلم في آخرهن لأنهم يعتبرون أن ما سوى هذه الصيغة في الوتر منسوخة. 1919 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه". وفي رواية (2): قال ابن أبي مليكة: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فأخبره، فقال: دعه، فإنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم". 1920 - * روى مالك عن محمد بن شهاب الزهري رحمه الله قال: أخبرني عبد الله بن
ثعلبة- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مسح عينه: "أنه رأى سعد بن أبي وقاص يوتر بركعة". وفي رواية: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه عام الفتح". 1921 - * روى النسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "كان بين مكة والمدينة، فصلى العشاء ركعتين، ثم قام فصلى ركعة أوتر بها، فقرأ فيها بمائة آية من النساء، ثم قال: ما ألوت أن أضع قدمي حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدميه، وأن أقرأ بما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم". 1922 - * روى مسلم عن أبي مجلز قال: "سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن الوتر؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ركعة من آخر الليل، قال: وسألت ابن عمر؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ركعة من آخر الليل". وفي رواية (1) قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت أن الصبح مدركك فأوتر بواحدة، فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم في كل ركعتين". وفي أخرى (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت"، قال القاسم: ورأينا أناساً منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع، وأرجو أن لا يكون بشيء منه بأس". وفي أخرى (3) زيادة: "أن ابن عمر كان يسلم بين الركعتين في الوتر، حتى يأمر
ببعض حاجته". وفي أخرى (1) قال: قام رجل، فقال: يا رسول الله، كيف صلاة الليل؟ قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". وزاد: "واجعل آخر صلاتك وتراً". أقول: ما قاله القاسم يدل على أن ما اختلف فيه فقهاء الحنفية مع غيرهم في شأن الوتر كان موجوداً منذ زمن الصحابة والتابعين، وكما قال القاسم: فإن الأمر واسع، فكل من كان على رأي إمام مجتهد من أئمة الهدى فهو على خير. 1923 - * روى ابن خزيمة عن المطلب بن عبد الله المخزومي قال: كان ابن عمر يوتر بركعة فجاءه رجل فسأله عن الوتر، فأمره أن يفصل، فقال الرجل: إني أخشى أن يقول الناس: إنها البتيراء، فقال ابن عمر: أسُنَّة الله ورسوله تريد؟ هذه سنة الله ورسوله. - القراءة في الوتر: 1924 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) في ركعة ركعة". وعند النسائي (2): "كان يوتر بثلاث ... وذكر الحديث".
1925 - * روى أبو داود عن عبد العزيز بن جريج رحمه الله قال: "سألنا عائشة: بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين". 1926 - * روى النسائي عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". وفي أخرى (1) مثلها، وزاد: "وكان يقول إذا سلم: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويرفع صوته في الثالثة". وفي أخرى (2) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ". 1927 - * روى أبو داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى وقل للذين كفروا والله الواحد الصمد". وله في أخرى (3) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم في الوتر قال: سبحان الملك القدوس".
- القنوت في الوتر
وفي رواية النسائي (1) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه: سبحان الملك القدوس، ثلاث مرات، يطيل في آخرهن". وفي أخرى (2) له "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ... وذكره، وقال: ولا يسلم إلا في آخرهن، ويقول بعد التسليم: سبحان الملك القدوس، ثلاثاً". أقول: عبر أُبي عن سورة الإخلاص فسماها بسورة (الله الواحد الصمد) وهذه الروايات التي تذكر التسليم على رأس الثلاث في الوتر تشهد لمذهب الحنفية ومن وافقهم، ولذلك فإن بعض مخالفيهم أجازوا الصورتين في الوتر: أن يفصل بين الثنتين والثالثة بتسليمة وأجازوا بتسليمة واحدة بعد القعود الأخير. - القنوت في الوتر: 1928 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه كان لا يقنت في صلاة الغداة وإذا قنت في الوتر قنت قبل الركعة، وفي رواية (4) عنه أيضاً قال كان عبد الله لا يقنت في شيء من الصلوات إلا في الوتر قبل الركعة. 1929 - * روى ابن خزيمة عن الحسن بن علي، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات
- هل ينقض الوتر
أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت". أقول: لا خلاف بين الفقهاء بأن الدعاء المأثور أياً كان يجزئ في قنوت الوتر، ولكن الكلام عن الأفضلية، فالأفضل عند الحنفية الدعاء الذي ذكرناه. - هل ينقض الوتر: 1930 - * روى البخاري عن أبي جمرة قال: سألت عائذ بن عمرو- وكان من أصحاب الشجرة: هل ينقض الوتر؟ قال: إذا أوترت من أوله فلا توتر من آخره. 1931 - * روى الترمذي عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وتران في ليلة". وفي رواية (1) أبي داود والنسائي (2): قال قيس بن طلق: "زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان، وأمسى عندنا وأفطر، ثم قام بنا تلك الليلة وأوتر، ثم انحدر إلى مسجده، فصلى بأصحابه، حتى إذا بقي الوتر قدَّم رجلاً، فقال: أوتر بأصحابك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وتران في ليلة". 1932 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم قال: "كنت مع ابن عمر بمكة والسماء مغيمة، فخشي الصبح، فأوتر بواحدة ثم انكشف الغيم، فرأى أن عليه ليلاً، فشفع بواحدة، ثم صلى ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة". أقول: أخذ بعض الفقهاء ومنهم الحنابلة بفعل ابن عمر، إذا ما أوتروا ثم بدا لهم أن
- الصلاة بعد الوتر
يصلوا بدأوا بواحدة ليشفعوا وترهم ثم سلموا ثم صلوا ما شاؤوا ثم أوتروا مختتمين صلاة الليل، وأخذ آخرون بالروايتين السابقتين على هذه الرواية ومنهم الحنفية، بأن من أوتر ثم بدا له أن يصلي فله أن يصلي ما شاء وليس عليه وتر جديد. - الصلاة بعد الوتر: 1933 - * روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين". أقول: أخذ بهذا بعض الحنابلة فاستحبوا ركعتين بعد الوتر، ولم يقبل ذلك جمهور العلماء، والفتوى عند الحنابلة على غير ذلك وإن كان النص يدل على شيء فإنه يدل على جواز النفل المطلق فقد جرت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوتر في آخر قيامه، فإذا صلى بعد الوتر فذلك نفل مطلق. - هل يسلم بعد ركعتي الوتر: 1934 - * روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر". 1935 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الركعتين في الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته". 1936 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: "صلاة المغرب وتر صلاة النهار".
- صلاة الوتر على الراحلة
1937 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال وتر الليل كوتر النهار صلاة المغرب ثلاث. أقول: صلاة الوتر تشبه صلاة المغرب من حيث كونها وتراً ومن حيث كونها ثلاثاً ومن حيث إن فيها قعودين، وإنها تنتهي بتسليمة واحدة، وهذا كله قد أخذ به الحنفية في صلاة الوتر، وأوجبوا النية بأن ينوي الإنسان إذا أراد صلاة الوتر بقلبه أنه يريد صلاة وتر هذه الليلة، وبعضهم يغلط فينوي وتر صلاة العشاء وهذا غلط لا تصح معه صلاة الوتر، ويقوم الموتر بعد قراءة التشهد في القعود الأول قبل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضيف الحنفية: أنه يقرأ في الركعة الثالثة مع الفاتحة سورة أو شيئاً من القرآن- وقد مر معنا دليل ذلك- ثم يقنت بعد القراءة في الثالثة وقبل الركوع حذاء أذنيه مكبراً ثم يعيد يديه كما كانتا ويدعو، والمستحب أن يدعو بالدعاء المأثور وهو: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق). وبعد دعاء القنوت يكبر للركوع ويتم صلاته بلا فارق بين أفعالها وأفعال الركعة الثالثة في المغرب، وهذه معاني بعض مفردات الدعاء: "نخلع": نلقي ونترك، و"نحفد": أي نبادر ونسرع في تحصيل عبادتك بنشاط، كالمشي إلى المسجد، و"الجد": الحق، أي ضد الهزل، و"ملحق": أي لاحق بهم، بكسر الحاء وفتحها والكسر أفصح. وقد مر معنا الكلام عن القنوت من قبل فليراجع، وهذه الصيغة لصلاة الوتر هي الصيغة المعتمدة عند الحنفية لصلاة الوتر. - صلاة الوتر على الراحلة: 1938 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - القنوت في الوتر عند أبي حنيفة واجب كالوتر وهو سنة عند الصاحبين، وتكبيرة القنوت عند أبي حنيفة واجبة وكذا شيء من الدعاء ولو قل، أما رفع اليدين إلى حذو المنكبين أو إلى حذاء الأذنين أثناء تكبيرة القنوت والدعاء بالمأثور، ووضع اليد اليمنى على اليسرى أثناء الدعاء كل ذلك من السنن عند أبي حنيفة. - اتفق الحنفية والحنابلة على مشروعية القنوت في الوتر وحده في الأحوال العادية إلا أن الحنابلة يقنتون بعد الركوع والحنفية يقنتون قبل الركوع. واتفق الحنفية والمالكية على أن الصيغة المفضلة في دعاء القنوت وإن اختلفوا في مكانه هي الصيغة المأثورة عن عمر وابنه وقد ذكرت صيغته في مراسيل أبي داود كما في نصب الراية: (اللهم إنا نستعينك ..) وإذا أضاف إليه الدعاء المأثور الذي رواه الحسن بن علي: (اللهم اهدني فيمن هديت) فذلك أفضل. - من لم يحفظ الدعاء المأثور في القنوت فإنه يدعو بمثل: (رب اغفر لي) ثلاث مرات أو (يا رب) ثلاث مرات أو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) فذلك يجزئه عند الحنفية عن دعاء القنوت المأثور. - ويصلي الوتر جماعة في رمضان كله عند الحنفية وهو أفضل من صلاته في بيته أو تأخيره إلى آخر الليل على ما رجحه قاضيخان وفقهاء الحنفية. قال في "مراقي الفلاح" من كتب الحنفية بمناسبة الكلام عن استحباب صلاة الوتر في جماعة في رمضان ما يلي: (ويوتر بجماعة) استحباباً (في رمضان فقط) عليه إجماع المسلمين لأنه نفل من وجه والجماعة في النفل في غير التراويح مكروهة فالاحتياط تركها في الوتر خارج رمضان وعن شمس الأئمة: أن هذا فيما كان على سبيل التداعي أما لو اقتدى واحد بواحد أو اثنان بواحد لا يكره وإذا اقتدى ثلاثة بواحد اختلف فيه وإذا اقتدى أربعة بواحد كره اتفاقاً.
الفقرة الرابعة في: الضحى
الفقرة الرابعة في: الضحى 1939 - * روى مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". وفي رواية أبي داود (1)، قال: "يصبح على كل سلامى من بني آدم صدقة تسليمه على من لقي صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبضعة أهله صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان من الضحى" زاد في رواية (2) "قالوا" يا رسول الله أحدنا يقضي شهوته، فتكون له صدقة؟ قال: أرأيت لو وضعها في غير حلها، ألم يكن يأثم؟ ". وفي أخرى (3) قال: "يصبح على كل سلامى في كل يوم صدقة، فله بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، فعد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأعمال الصالحة، ثم قال: يجزئ أحدكم من ذلك كله ركعتا الضحى". 1940 - * روى أحمد عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه
بصدقة"، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: "النخامة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك". 1941 - * روى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة فقال رجل: يا رسول الله ما رأينا بعثاً قط أسرع كرَّة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث، فقال: "ألا أخبركم بأسرع كرة منه وأعظم غنيمة، رجل توضأ فأحسن الوضوء ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة ثم عقب بصلاة الضحوة فقد أسرع وأعظم الغنيمة". 1942 - * روى أحمد عن سعيد بن نافع قال رآني أبو بشير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس فعاب علي ونهاني وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصل حتى ترتفع الشمس فإنها تطلع في قرني الشيطان. أقول: يبدأ جواز الصلاة بعد ارتفاع الشمس مقدار رمح أو رمحين فيما يراه الناظر ويقدر ذلك بحوالي عشرين دقيقة، والأحوط أن يصلي بعد نصف ساعة من طلوع الشمس. 1943 - * روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه "رأى قوماً يصلون من الضحى، فقال: لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". وفي رواية (1): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أهل قباء وهم يصلون، فقال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال".
أقول: يبدأ وقت الضحى منذ ارتفاع الشمس مقدار رمح أو رمحين وينتهي إلى ما قبيل الزوال والوقت الأفضل لأدائها يكون حين ارتفاع الشمس وظهور تأثير حرارتها. 1944 - * روى أحمد عن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره". 1945 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب". قال: "وهي صلاة الأوابين". 1946 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تامة تامة تامة". 1947 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قال عبد الله بن شقيق: قلت لعائشة: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه". وفي رواية (1) مثله، وزاد: "قلت: هل كان يقرن بين السورتين؟ قالت: من المفصل؟ ". وأخرج النسائي (2) الأولى، وزاد "قال: قلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً
-كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله، ولا أفطره حتى يصوم منه، حتى مضى لسبيله". وفي أخرى (1) قلت: "والله إن صام شهراً معلوماً سوى رمضان، حتى مضى لوجهه، ولا أفطره حتى يصوم منه". وفي رواية أخرجها البخاري (2) ومسلم (3) والموطأ (4) وأبو داود (5)، قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم، وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها". قال ابن خزيمة في حديث عائشة رضي الله عنها هذا: هذه اللفظة من الجنس الذي أعلمت أنها تكلمت بها على المسامحة والمساهلة، وإنما معناها ما قالوا في خبر خالد الحذاء: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والدليل على صحة ما تأولت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الضحى في غير اليوم الذي كان يقدم فيه من الغيبة. 1948 - * روى الشيخان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قال: "ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، غير أم هانئ، فإنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود". ولمسلم (7) في رواية عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي، قال: "سألت وحرصت
على أن أجد أحداً من الناس يخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى، فلم أجد أحداً يحدثني ذلك، غير أم هانئ بنت أبي طالب أخبرتني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعدما ارتفع النهار يوم الفتح، فأتي بثوب فستر عليه، فاغتسل، ثم قام فركع ثماني ركعات، لا أدري: أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده؟ كل ذلك منه متقارب، قالت: فلم أره سبحها قبل ولا بعد. ولمسلم (1) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح ثماني ركعات في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه". وفي رواية النسائي (2) "أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يغتسل، قد سترته فاطمة بثوب دونه في قصعة فيها أثر العجين، قالت: فصلى الضحى، فما أدري: كم صلى حين قضى غسله؟ ". وفي أخرى (3): "أنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت، فقال: من هذا قلت: أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد". وأخرج الموطأ (4) رواية مسلم الآخرة إلى قوله: "في ثوب واحد". ولأبي داود (5) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين". 1949 - * روى مالك عن عائشة رضي الله عنها "كانت تصلي الضحى ثماني ركعات،
ثم تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتهما". أقول: بعض الصحابة علم بندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الضحى وأنه لم يصلها، وكان هؤلاء يصلونها، وبعض الصحابة لم يعلم بالندب القولي ولا الفعلي كابن عمر ومع ذلك أثنى على من يصليها وأثنى على فعلها، والأول يدل على أن الندب القولي كاف للفعل ولو لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسري ذلك على ما ورد من ندب قولي إلا الاجتماع على الذكر كالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد الوارد في الحديث المتفق عليه ولو لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل الثاني على أن الصحابة لم يكونوا يعتبرون أن الفعل التعبدي إذا دخل في دائرة المطلوبات العامة لا يعتبر بدعة وإن لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1950 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت معاذة: إنها سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله". أقول: الجمع بين هذا النص وبين النص الذي تحدثت فيه عائشة رضي الله عنها أنها ما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى إلا إذا قدم من سفر، يكون بأحد وجهين: إما أنها ها هنا تخبر عن صلاة الضحى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره، أو أنها نفت صلاته الضحى عليه الصلاة والسلام على وجه المسامحة والمساهلة كما قال ابن خزيمة، والوجه الأول أقوى في التوفيق. 1951 - * روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث
أن لا أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وأن لا أنام إلا على وتر". 1952 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد". وفي رواية الترمذي (1) والنسائي (2) قال: "عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: أن لا أنام إلا على وتر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أصلي الضحى". 1953 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات، فلما انصرف قال: "إني صليت صلاة رغبة ورهبة، فسالت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يقتل أمتي بالسنين ففعل، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى علي". قال أحمد بن عبد الرحمن: أن لا يبتلي أمتي بالسنين. أقول: المراد بالحديث ألا يستأصل الله عز وجل هذه الأمة بالجوع وألا يظهر عليها جميعاً عدوها، وليس المراد بالحديث ألا يظهر العدو على بعض منها أو أن يبتلي قطراً من أقطارها بالجوع فقد حدثت مجاعة في عهد عمر عام الرمادة، لكن كانت هناك أقطار إسلامية في عافية، وقد انتصر أعداء الإسلام على بعض المسلمين في معارك كثيرة ولكن لم يحدث قط أن تمت السيطرة من قبل الكافرين على شعوب الأمة الإسلامية، فالزحف المغولي والتتري
انتهى من بلاد الشام وبقيت مصر وما وراءها في عافية منه، والغزو الصليبي القديم لم يصل إلا إلى أجزاء قليلة من أرض الإسلام، والغزو الاستعماري الحديث لم يشمل كل بلاد الإسلام فقد بقيت اليمن الشمالية ونجد الحجاز مثلاً بمنأى عن الاحتلال الكافر لها. 1954 - * روى ابن خزيمة عن عتبان بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا في بيته". أقول: على أن ما سوى السنن الرواتب يمكن أن يصلي جماعة على ألا يكثر الجمع، وألا يكون في مكان مشتهر وعلى ألا يدعى إليها، وهذا مذهب المالكية، وسترى مذهب الحنفية في هذا الموضوع. 1955 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى إلا مرة". 1956 - * روى الترمذي عن عاصم بن ضمرة رحمه الله قال: "سألنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهار؟ فقال: إنكم لا تطيقون ذلك، فقلنا: من أطاق ذلك منا، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الشمس من ها هنا كهيئتها من ها هنا عند العصر صلى ركعتين، وإذا كانت الشمس من ها هنا كهيئتها من ها هنا عند الظهر صلى أربعاً، وصلى أربعاً قبل الظهر، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين".
وللنسائي (1): قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حين تزيغ الشمس ركعتين، وقبل نصف النهار أربع ركعات، ويجعل التسليم في آخره". أقول: دلت الرواية الأولى على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في وقت الضحى ست ركعات: ركعتين متقدمتين، ثم بعد زمن يصلي أربعاً قبل الزوال، ثم يصلي أربعاً قبل الظهر وركعتين بعد الظهر، وأربعاً بعد العصر وهذا يشير إلى أن أمر الصلاة النافلة منذ ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزوال واسع. 1957 - * روى البخاري عن نافع- مولى ابن عمر "أن ابن عمر كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين: يوم يقدم مكة، فإنه كان يقدمها ضحى، فيطوف بالبيت، فيصلي ركعتين خلف المقام، ويوم يأتي مسجد قباء، فإنه كان يأتيه كل سبت، وإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكباً وماشياً، قال: وكان يقول لنا: إنما أصنع كما رأيت أصحابي يصنعون، ولا أمنع أحداً يصلي في أي ساعة من ليل أو نهار، غير أن لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها". أقول: كلام ابن عمر يدل على أنه يرى جواز النفل المطلق في غير أوقات الكراهة وهو الذي عليه المذاهب الأربعة وأدلته كثيرة، مرت معنا في سياقات متعددة وسنخص النفل المطلق بفقرة نذكر فيها بعض أدلته.
الفقرة الخامسة: في قيام الليل.
الفقرة الخامسة: في قيام الليل. - فضل قيام الليل والترغيب فيه: 1958 - * روى الترمذي عن بلال، وأبي أمامة، رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه من دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الآثام، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد". 1959 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام بعشر آيات، لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين". 1960 - * روى أبو داود عن عبد الله بن حبشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: طول القيام". 1961 - * روى أحمد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي
فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام". 1962 - * روى الطبراني في الكبير عن يزيد بن الأخنس وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنافس بينكم إلا في اثنتين: رجل أعطاه الله قرآناً فهو يقوم به آناء الليل والنهار ويتبع ما فيه فيقول رجل: لو أن الله أعطاني ما أعطى فلاناً فأقوم به كما يقوم به. ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفق ويتصدق فيقول رجل مثل تلك". 1963 - * روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ". وفي رواية (3) "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم- أو ليصلي- حتى ترم قدماه- أو ساقاه- فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ". وفي أخرى (4) "حتى ترم أو تنتفخ". وفي أخرى (5) "أنه صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا، وقد غفر لك؟ فقال ... وذكره". 1964 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
تفطرت قدماه"، وفي أخرى (1): "كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟ " قالت: فلما بدَّن وكثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ، ثم ركع". 1965 - * روى مسلم عن حفصة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في سبحته جالساً، حتى إذا كان قبل موته بعام فكان يصلي في سبحته جالساً، فيقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. 1966 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة: أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً. فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائماً، فإذا صلى قاعداً ركع قاعداً، وإذا صلى قائماً ركع قائماً. فقال أبو خالد: فحدثت بن هشام بن عروة، فقال: كذب حميد وكذب عبد الله ابن شقيق، حدثني أبي عن عائشة، قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً قط حتى دخل في السن فكان يقرأ السور فإذا بقي منها آيات قام فقرأهن ثم ركع، هكذا قال أبو بكر: السور. قال أبو بكر- هو ابن خزيمة-: قد أنكر هشام بن عروة خبر عبد الله بن شقيق إذ ظاهره كان عنده خلاف خبره عن أبيه عن عائشة وهو عندي غير مخالف لخبره. لأن في رواية خالد عن عبد الله بن شقيق عن عائشة: فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد، فعلى هذه اللفظة هذا الخبر
ليس بخلاف خبر عروة وعمرة عن عائشة، لأن هذه اللفظة التي ذكرها خالد دالة على أنه كان إذا كان جميع القراءة قاعداً ركع قاعداً، وإذا كان جميع القراءة قائماً ركع قائماً، ولم يذكر عبد الله بن شقيق صفة صلاته إذا كان بعض القراءة قائماً وبعضها قاعداً، وإنما ذكره عروة وأبو سلمة وعمرة عن عائشة إذا كانت القراءة في الحالتين جميعاً بعضها قائماً وبعضها قاعداً فذكر أنه كان يركع وهو قائم، إذا كانت قراءته في الحالتين كلتيها. ولم يذكر عروة ولا أبو سلمة ولا عمرة: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح هذه الصلاة التي يقرأ فيها قائماً وقاعداً ويركع قائماً. وذكر ابن سيرين عن عبد الله ابن شقيق عن عائشة ما دل على أنه كان يفتتحها قائماً. 1967 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء". 1968 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا- أو صلى- ركعتين جميعاً، كتبا في الذاكرين والذاكرات". قال أبو داود: رواه ابن كثير موقوفاً على أبي سعيد، ولم يذكر أبا هريرة. وفي رواية (1) أخرى "كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات". 1969 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أباه عمر بن الخطاب "كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله
للصلاة، يقول لهم: الصلاة، الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقاً، نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى) (1). 1970 - * روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". 1971 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل: فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه- أو قال: في أذنيه". قال النووي في "شرح مسلم": اختلفوا في معناه، فقال ابن قتيبة: معناه: أفسده، يقال: بال في كذا: إذا أفسده، وقال المهلب والطحاوي وآخرون: هو استعارة وإشارة إلى انقياده للشيطان، وتحكمه فيه، وعقده على قافية رأسه "عليك ليل طويل" وإذلاله له وقيل معناه: استخف به واحتقره واستعلى عليه، يقال لمن استخف بإنسان وخدعه: بال في أذنه، وأصل ذلك في دابة تفعل ذلك بالأسد إذلالاً
- من غلب عن صلاة الليل
له، وقال الحربي: معناه: ظهر عليه وسخر منه، وقال القاضي عياض: ولا يبعد أن يكون على ظاهره، قال: وخص الأذن لأنها حاسة الانتباه. - من غلب عن صلاة الليل: 1972 - * روى مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل، فيغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة". 1973 - * روى النسائي عن أبي الدرداء رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عينه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه" وفي رواية (3) عن أبي الدرداء وأبي ذر، موقوف. - من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل. 1974 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوقظه الله من الليل، فما يجيء السحر حتى يفرغ من حزبه" وفي رواية "من جزئه". 1975 - * روى الشيخان عن مسروق قال: "سألت عائشة رضي الله عنها: أي
العمل كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: الدائم قلت: فأي حين كان يقوم من الليل؟ قالت: كان يقوم من الليل إذا سمع الصارخ". 1976 - * روى النسائي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صلاته جالساً، إلا المكتوبة- وفي رواية (2): إلا الفريضة- وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل". 1977 - * روى الشيخان عن الأسود بن يزيد قال: "سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ قالت: كان ينام أوله، ويقوم آخره فيصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج". وفي رواية (4) أبي سلمة [عن عائشة] قالت: "ما ألفاه السحر عندي إلا نائماً، تعني النبي صلى الله عليه وسلم". وفي أخرى (5) قالت: "ما ألفى رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر الأعلى في بيتي- أو عندي- إلا نائماً". 1978 - * روى النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه".
1979 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فأطال حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه". 1980 - * روى مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في الركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده"- زاد في رواية (3): ربنا لك الحمد- ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه". وزاد النسائي في رواية (4) أخرى "لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره". وفي رواية أبي داود (5) قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فاستفتح يقول: الله أكبر- ثلاثاً- ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ
البقرة، ثم ركع، فكان ركوعه نحواً من قيامه، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحواً من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم يسجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، وكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة- أو الأنعام- شك شعبة". 1981 - * روى أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: سبحان ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة". 1982 - * روى مسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "قلت: لأرمقن الليلة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين. طويلتين. طويلتين. ثم صلى ركعتين، هما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاثة عشرة ركعة". 1983 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي صلى الله عليه ومن الليل، فتوضأ من شن معلق وضوءاً خفيفاً- يخففه عمرو [بن دينار] ويقلله- وقام يصلي قال: فقمت، فتوضأت نحواً
مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره- وربما قال سفيان: عن شماله- فحولني، فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام إلى الصلاة، فصلى الصبح، ولم يتوضأ". قال سفيان: وهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنه بلغنا "أن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه". وفي رواية (1) ابن المديني عن سفيان "قال: قلت لعمرو: إن ناساً يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ فقال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (2). وفي رواية (3) قال: بت في بيت خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد، فنظر إلى السماء فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (4). ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج". وفي أخرى (5) قال: "رقدت في بيت ميمونة ليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم عندها لأنظر: كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ... وذكر الحديث". وفي رواية (6): "أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين، وهي خالته، قال: فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة، قال:
فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة، فتوضأ منها، وأحسن وضوءه، ثم قام يصلي، قال عبد الله بن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى ففتلها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم أضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح". وفي أخرى (1) قال: "بت عند ميمونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندها تلك الليلة، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فصلى، فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة، ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن، فخرج فصلى ولم يتوضأ". وفي أخرى (2) قال "بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث، فقلت لها: إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم فأيقظني، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم احتبى، حتى إني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين". وفي أخرى (3) قال: "بت عند ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القربة، فأطلق شناقها، ثم توضأ وضوءاً بين الوضوءين لم يكثر، وقد ابلغ، ثم قام فصلى، فقمت كراهية أن يرى أني كنت أبقيه، فتوضأت، وقام يصلي، فقمت عن يساره فأخذ بيدي، فأدارني عن يمينه،
فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام يصلي ولم يتوضأ، وكان في دعائه: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراًن وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً". قال كريب: وسبعاً في التابوت، فلقيت رجلاً من ولد العباس فحدثني بهن، فذكر: "عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين". وزاد في رواية (1) "وأعظم لي نوراً" بدل قوله: "واجعل لي نوراً" وفيه كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له". وفي رواية (2) أخرى قال: "بت في بيت خالتي ميمونة "فبقيت- وفي رواية (3): فرقبت- كيف يصلي النبي صلى الله عليه وسلم؟ وذكر نحوه ... إلى أن قال: ثم نام حتى نفخ، وكنا نعرفه إذا نام بنفخه، ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته- أو في سجوده-: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً- أو قال: اجعلني نوراً-" ولم يذكر "فلقيت بعض ولد العباس" وفي رواية (4) قال: "اجعلني نوراً" ولم يشك. وفي أخرى (5) "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ بتسع عشرة كلمة، قال سلمة: حدثنيها كريب، فحفظت منها ثنتي عشرة، ونسيت ما بقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل لي في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن
شمالي نوراً، ومن بين يدي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً". وفي أخرى (1) "بت عند خالتي ميمونة ... فاقتص الحديث، ولم يذكر غسل الوجه والكفين، غير أنه قال: أتى القربة، فحل شناقها فتوضأ وضوءاً بين الوضوء، ثم أتى فراشه فنام، ثم قام قومة أخرى، فأتى القربة فحل شناقها، ثم توضأ وضوءاً هو الوضوء" وقال فيه: "أعظم لي نوراً" ولم يذكر "واجعلني نوراً". قوله: (وسبعاً في التابوت). قال النووي في "شرح مسلم": قال العلماء: معناه: وذكر في الدعاء سبعاً، أي سبع كلمات نسيتها، قالوا: والمراد بالتابوت: الأضلاع وما يحويه من القلب وغيره، تشبيهاً بالتابوت الذي هو كالصندوق يحرز فيه المتاع، أي: وسبعاً في قلبي، ولكن نسيتها. والقائل: "لقيت بعض ولد العباس". هو سلمة بن كهيل- يعني الراوي عن كريب مولى ابن عباس. أقول: رأينا تعليل سفيان لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعد ما نام دون أن يتوضأ، وهو أنه خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه ويمكن أن يعلل بأنه أوحي إليه بأنه لم ينتقض وضوؤه، لأن النوم نفسه ليس ناقضاً، وإنما الناقض احتمال خروج شيء من الإنسان إذا نام غير متمكن. 1984 - * روى مسلم عن سعد بن هشام رضي الله عنه "أراد أن يغزو في سبيل الله، فقدم المدينة، وأراد أن يبيع عقاراً بها، فيجعله في السلاح والكراع، ويجاهد
الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة لقي أناساً من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أليس لكم في أسوة؟ فلما حدثوه بذلك راجع امرأته- وقد كان طلقها- وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس، فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: ألا أدلك على من هو أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة، فائتها فسلها، ثم ائتني فأخبرني بردها عليك. قال: فانطلقت إليها، فأتيت على حكيم بن أفلح، فاستلحقته إليها، فقال: ما أنا بقاربها، لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً، فأبت إلا مضيا، قال: فأقسمت عليه فجاء، فانطلقنا إلى عائشة، فاستأذنا عليها، فأذنت لنا، فدخلنا عليها، فقالت: حكيم؟ فعرفته، فقال: نعم، فقالت: من معط؟ قال: سعد بن هشام. قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر. فترحمت عليه، وقالت خيراً- قال قتادة: وكان أصيب يوم أحد- فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن قال: فهممت أن أقوم، ولا أسأل أحداً عن شيء حتى أموت، ثم بدا لي، فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ (يا أيها المزمل)؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة، قال: قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت، كنا نعد له سواكه، وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده (1)
ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير شهر رمضان، قال: فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها، فقال: صدقت، ولو كنت أقربها، أو أدخل عليها، لأتيتها حتى تشافهني به، قال: قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها". وفي أخرى (1) لأبي داود قال: "إن عائشة سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل؟ فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه ينام، وطهوره مغطى عند رأسه، وسواكه موضوع، حتى يبعثه الله عز وجل ساعته التي يبعثه من الليل، فيتسوك ويسبغ الوضوء، ثم يقوم إلى مصلاه، فيصلي ثماني ركعات، يقرأ فيهن بأم القرآن وسورة من القرآن، وما شاء الله، ولا يقعد في شيء منها حتى يقعد في الثامنة ولا يسلم، ويقرأ في التاسعة حتى يقعد، فيدعو بما شاء الله أن يدعو، ويسأله، ويسلم تسليمة واحدة شديدة، يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه، ثم يقرأ وهو قاعد بأم الكتاب، ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ في الثانية، فيركع ويسجد وهو قاعد، ثم يدعو بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم وينصرف، فلم تزل تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدن، فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع والركعتين وهو قاعد، حتى قُبض على ذلك". وفي أخرى (2) بهذا الحديث قال: "يصلي العشاء، ثم يأوي إلى فراشه" ولم يذكر الأربع ركعات. وقال فيه: "فيصلي ثماني ركعات، يسوي بينهن بالقراءة والركوع
والسجود" وقال: "لا يجلس في شيء منهن إلا في الثامنة، فإنه كان يجلس، ثم يقوم ولا يسلم، فيصلي ركعة يوتر بها، ثم يسلم تسليمة يرفع بها صوته، حتى يوقظنا ... وساق معناه". وفي أخرى (1) بمعناه ونحوه، وفيه "كان يخيل إلي أنه سوى بينهن في القراءة والركوع والسجود "ثم يوتر بركعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، ثم يضع جنبه، فربما جاء بلال فآذنه بالصلاة: ثم يغفي، وربما شككت: أغفى، أولاً؟ حتى يؤذنه بالصلاة، فكانت تلك صلاته حتى أسن ولحم، فذكرت من لحمه ما شاء الله ... وساق الحديث". وفي رواية (2) للنسائي: ثم يضع جنبه، فربما جاء بلال فآذنه بالصلاة قبل أن يغفي، وربما شككت: أغفى، أو لم يغف؟ حتى يؤذنه بالصلاة، فكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أسن ولحم- فذكرت من لحمه ما شاء الله. وله في أخرى (3)، قالت: "كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره، فيبعثه الله عز وجل ما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، ويحمد الله، ويصلي على نبيه، ويدعو بينهن، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة، ويقعد، يذكر كلمة نحوها، ويحمد الله ويصلي على نبيه، ويدعو، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد- زاد في أخرى (4): فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني- فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ اللحم، أوتر بسبع، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم، فتلك تسع أي بني. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها". الشيعتان هنا: شيعة علي من جهة وشيعة طلحة والزبير من جهة أخرى.
أقول: الظاهر من هذه الروايات عن عائشة أنها قيلت بعد مقتل عثمان إذ حدثت الفتنة وتنافرت القلوب، والصيغة التي ذكرتها ها هنا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم هي إحدى الصيغ المأثورة عن قيامه وتهجده عليه الصلاة والسلام، والأمر في تهجده وقيامه واسع لكثرة الصيغ فيه، وروايتها أنه كان يصلي ركعتين بعد الوتر دليل على جواز التنفل المطلق في الليل بعد الوتر، وأن من تنفل بعد الوتر لا يوتر مرة أخرى. 1985 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين". وزاد أبو داود في رواية (1) "ثم ليطول بعد ما شاء الله". 1986 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة". 1987 - * روى أبو يعلى عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً قبل العشاء ولا لاغياً بعدها إما ذاكراً فيغنم وإما نائماً فيسلم: قالت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت السمر لثلاثة لعروس أو مسافر أو متهجد بالليل". أقول: والسهر جائز لعلم وموعظة وتدارس شؤون المسلمين وعمل دنيوي يكسب فيه الإنسان مالاً حلالاً، ومسألة السهر بعد العشاء والحديث بعده منوطة بالمصالح الدينية والدنيوية المباحة، وللفتوى من أهلها محل في بعض صورها.
1988 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل، فترك قيام الليل". 1989 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر". وفي أخرى (3) قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يجيء المؤذن فيؤذنه". وفي أخرى (4) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته- تعني: بالليل- فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة". وفي أخرى (5) "أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين". وفي أخرى (6) قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة
العشاء- وهي التي يدعو الناس العتمة- إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن: قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة". وفي أخرى (1) قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها". وفي أخرى (2) قالت: "كان [النبي صلى الله عليه وسلم] يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين". وفي أخرى (3) عن أبي سلمة "أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي". وللبخاري (4) قالت: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم صلى ثماني ركعات، وركعتين جالساً، وركعتين بعد النداءين، ولم يكن يدعهما أبداً". وفي أخرى (5) له عن مسروق [بن الأجدع] قال: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة، سوى ركعتي الفجر".
ولمسلم (1): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر". 1990 - * روى أبو داود عن الفل بن العباس رضي الله عنهما قال: "بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنظر كيف يصلي من الليل، فقام فتوضأ وصلى ركعتين؛ قيامه مثل ركوعه، وركوعه مثل سجوده، ثم نام، ثم استيقظ فتوضأ، واستنثر، ثم قرأ بخمس آيات من آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} فلم يزل يفعل هكذا حتى صلى عشر ركعات، ثم قام فصلى سجدة واحدة فأوتر بها، ونادى المنادي عند ذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سكت المؤذن، فصلى سجدتين خفيفتين، ثم جلس حتى صلى الصبح". 1991 - * روى أبو داود عن عبد الله بن أبي قيس قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً". 1992 - * روى الطبراني عن الحجاج بن غزنة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلي حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد: المرء يصلي الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة وتلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1993 - * روى أحمد عن ربيعة الجرشي قال: "سألت عائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من الليل وبما كان يستفتح؟ فقالت كان يكبر عشراً ويحمد عشراً ويسبح عشراً ويهلل عشراً ويستغفر عشراً ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني عشراً،
ما يقول إذا قام يتهجد من الليل
ويقول اللهم إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب عشراً". 1994 - * روى أحمد عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ست عشرة ركعة سوى المكتوبة. أقول: هذا يدل على أن كل من علم عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً تحدث به وبعضهم ظن أن ما علمه هو الصيغة الوحيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر ليس كذلك، فهذه الرواية تذكر ست عشرة ركعة بعد المكتوبة ولا تذكر الوتر، وراتبة العشاء المؤكدة ركعتان فقط مما يدل على أن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزيد وينقص، وفي ذلك دليل لمن رأى أن قيام الليل لا يتقيد بعدد، وإذا تقيد بعدد فإن باب النفل المطلق مفتوح في الليل والنهار في غير أوقات الكراهة، وفي معنى بعض ما قلنا: 1995 - * قال ابن خزيمة: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بعض الليالي أكثر مما يصلي في بعضن فكل من أخبر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو من أزواجه أو غيرهن من النساء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل عدداً من الصلاة، أو صلى بصفة فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة في بعض الليالي بذلك العدد وبتلك الصفة، وهذا الاختلاف من جنس المباح، فجائز للمرء أن يصلي أي عدد أحب من الصلاة مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاهن، وعلى الصفة التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها لا حظر على أحد في شيء منها. ما يقول إذا قام يتهجد من الليل: 1996 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت" وفي رواية (1): "وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك" وفي رواية (2): "اللهم لك الحمد، رب السموات والأرض ومن فيهن". 1997 - * روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله قال: سألت عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". 1998 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
قام من الليل كبر، ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، ثم يقول: "الله أكبر كبيراً"، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه". وزاد أبو داود (1) بعد قوله: "غيرك" ثم يقول: "لا إله إلا الله" ثلاثاً. وفي آخر الحديث: "ثم يقرأ". وفي رواية (2) النسائي مثل رواية الترمذي، وله في أخرى مثله. 1999 - * روى أبو داود عن عاصم بن حميد رحمه الله قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح قيام الليل؟ فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبر عشراً، وحمد الله عشراً، وسبح الله عشراً، وهلل عشراً، واستغفر عشراً، وقال: "اللهم اغفر لي واهدني، وارزقني وعافني، كان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة". 2000 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، سمعت دعاءك الليلة، وكل الذي وصل إلي منه أنك تقول: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي فيما رزقتني". قال: فهل
- الصلاة في الليل لرفع الفتن
تراهن تركن شيئاً؟ ". - الصلاة في الليل لرفع الفتن: 2001 - * روى مالك عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فزعاً، وهو يقول: "لا إله إلا الله، ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ "- وفي رواية (2): "ماذا فتح من الخزائن-؟ من يوقظ صواحب الحجرات"- يريد: أزواجه- "فيصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة". قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية على أوجه، أحدها: كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب، لعدم العمل في الدنيا، ثانيها: كاسية بالثياب، لكنها شفافة لا تستر عورتها، فتعاقب في الآخرة بالعري جزاء على ذلك. ثالثها: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب، رابعها: كاسية جسدها، لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها فتصير عارية فتعاقب في الآخرة، خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}، ذكر هذا الأخير الطيبي، ورجحه لمناسبة المقام، واللفظة وإن وردت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد سبق لنحوه الداودي، فقال: كاسية للشرف في الدنيا، لكونها أهل التشريف، وعارية يوم القيامة، قال: ويحتمل أن يراد: عارية في
- الاقتصاد في القيام
النار، قال ابن بطال: في هذا الحديث أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله، وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك، وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولاسيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له، وبالله التوفيق. - الاقتصاد في القيام: 2002 - * روى ابن خزيمة عن عائشة، قالت: كان لنا حصير نبسطه بالنهار ويتحجره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فيصلي فيه، فتتبع له ناس من المسلمين يصلون بصلاته فعلم بهم، فقال: "إكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". وكان أحب الأعمال إليه ما ديم عليه وغن قل، وكان إذا صلى صلاة أثبتها هذا حديث عبد الجبار. وقال سعيد بن عبد الرحمن: فسمع به ناس (171 ب) فصلوا بصلاته، وزاد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني خشيت أن أؤمر فيكم بأمر لا تطيقونه". 2003 - * روى الطبراني في الأوسط عن سهل بن سعد قال: جاء جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس". 2004 - * روى أبو يعلى عن ابن عباس قال: تذكرت قيام الليل فقال بعضهم:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نصفه ثلثه ربعه فواق حلب ناقة فواق حلب شاة". 2005 - * روى ابن خزيمة عن علي بن أبي طالب قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وعلى فاطمة من الليل، فقال لنا: "قوما فصليا"، ثم رجع إلى بيته، فلما مضى هوي من الليل، رجع فلم يسمع لنا حساً، فقال: "قوما فصليا"، قال: فقمت وأنا أعرك عيني، فقلت: يا رسول الله والله ما نصلي إلا ما كتب الله لنا، إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء يبعثنا بعثنا، فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب بيده على فخذه، وهو يقول: "ما نصلي إلا ما كتب الله لنا! "، " {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} " (1). 2006 - * روى أبو يعلى عن علي بن أبي طالب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل التطوع: ثماني ركعات وبالنهار اثنتي عشرة ركعة". 2007 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: "لا تغالبوا هذا الليل فإنكم لن تطيقوه فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه فإنه أسلم له".
الفقرة السادسة: في نوافل تتكرر يوميا ولها سبب
الفقرة السادسة: في نوافل تتكرر يومياً ولها سبب - تحية المسجد: 2008 - * روى الجماعة عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". وعند أبي داود "فليصل سجدتين". وله في أخرى (1) زيادة "ثم ليقعد بعد إن شاء، أو ليذهب لحاجته". وفي أخرى للبخاري (2) ومسلم (3) قال: "دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، قال: فجلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ قال: فقلت: يا رسول الله، رأيتك جالساً والناس جلوس، قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين". 2009 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين، فقضاني وزادني، فدخلت عليه المسجد، فقال: صل ركعتين".
- سنة الوضوء
2010 - * روى ابن خزيمة عن ابن لاس الخزاعي قال: دخل عمار بن ياسر المسجد فركع فيه ركعتين أخفهما، وأتمهما، قال: ثم جلس فقمنا إليه فجلسنا عنده ثم قلنا له: لقد خففت ركعتيك هاتين جداً با أبا اليقظان، فقال: فقال: إني بادرت بهما الشيطان أن يدخل علي فيهما. - سنة الوضوء: 2011 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك منفعة في الإسلام، فإني قد سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة". فقال: ما عملت يا رسول الله في الإسلام عندي عملاً أرجى منفعة من أني لم أتطهر طهوراً تاماً قط في ساعة من ليل. أو نهار إلا صليت بذلك الطهور لربي ما كتب لي أن أصلي. 2012 - * روى أبو داود عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن وضوءه، ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما، غفر له ما تقدم من ذنبه". 2013 - * روى مسلم عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما، إلا وجبت له الجنة".
- صلاة دخول المنزل والخروج منه
2014 - * روى أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: أتيت أبا الدرداء في مرضه الذي قبض فيه، فقال: يا ابن أخي ما أعملك إلى هذا البلد أو ما جاء بك؟ قال: قلت: لا إلا صلة ما كان بينك وبين والدي عبد الله بن سلام. فقال: بئس ساعة الكذب هذه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين أو أربعاً- شك سهل- يحسن فيهما الركوع والخشوع ثم استغفر الله غفر له". - صلاة دخول المنزل والخروج منه: 2015 - * روى البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلت منزلك فصل ركعتين تمنعانك مدخل السوء وإذا خرجت من منزلك فصل ركعتين تمنعانك مخرج السوء".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد ذكر فقهاء المالكية الصلوات ذوات السبب فأوصلوها كما ذكر صاحب (الفقه الإسلامي وأدلته) إلى ثنتي عشرة قال: (ماله سبب: وهي عشرة: الصلاة عند الخروج إلى السفر، وعند الرجوع منه، وعند دخول المنزل، وعند الخروج منه، وصلاة الاستخارة: ركعتان، وصلاة الحاجة: ركعتان، وصلاة التسبيح: أربع ركعات، وركعتان بين الأذان والإقامة، وأربع ركعات بعد الزوال، وركعتان عند التوبة، وزاد بعض المالكية: ركعتين عند الدعاء، وركعتين لمن قدم للقتل اقتداء بخبيب بن عدي رضي الله عنه). وهذه الصلوات ذوات السبب منها ما يتكرر يومياً ومنه ما هو مرتبط بمناسبة: ولما كان قد خصصنا هذا الباب للصلوات التي تتكرر يومياً فقد اخترنا من هذه الصلوات ما هو ألصق بذلك لكنا أدخلنا ما اخترناه في أكثر من فقرة من فقرات هذا الباب، فصلاة التسبيح جعلناها في فقرة مستقلة ستأتي معنا لأنه يجوز للإنسان أن يصليها يومياً كما يجوز له أن يصليها أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً أو عمرياً فخصصناها بفقرة، وقد مرت معنا بمناسبة الكلام عن السنن الرواتب الصلاة بين الأذانين والصلاة بعد الزوال وخصصنا هذه الفقرة التي مرت معنا بذكر سنتي دخول البيت والخروج منه، ولما كان الفقهاء ومنهم المالكية يذكرون من السنن ذوات السبب والتي تتجدد يومياً سنة تحية المسجد وسنة الوضوء فقد أدخلناهما في هذه الفقرة وإن لم يذكرا مع هذه الاثنتي عشرة صلاة، وستمر معنا في أبواب لاحقة بقية الصلوات التي لها سبب بمناسباتها الألصق بها. لا تصلى عند الحنفية النوافل ذوات السبب كتحية المسجد وسنة الوضوء ولا غيرها من النوافل في أوقات النهي الخمسة وهي: ما بعد فريضة الصبح وما بعدها فريضة العصر وعند طلوع الشمس وقبيل زوالها وعند غروبها، ويجوز عند الشافعية قضاء النوافل في أي وقت كما تجوز صلاة النوافل ذوات السبب غير المتأخر والمقارن في أي وقت: كالكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة وركعتي الطواف، وكتحية
المسجد وسنة الوضوء وسجدة الشكر، وأما الصلاة ذات السبب المتأخر كركعتي الاستخارة والإحرام فإنها لا تنعقد في الأوقات المنهي عنها.
الفقرة السابعة: في النفل المطلق
الفقرة السابعة: في النفل المطلق 2016 - * روى ابن خزيمة عن عمرو بن عنبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخف، فقلت: ما أنت؟ قال: "أنا نبي". قلت: وما النبي؟ قال: "رسول الله". قال: آالله أرسلك؟ قال: "نعم". قلت: بم أرسلك؟ قال: "بأن نعبد الله، ونكسر الأوثان، ودار الأوثان، ونوصل الأرحام". قلت: نعم ما أرسلك به. قلت: فمن تبعك على هذا؟ قال: "عبد وحر" يعني أبا بكر وبلالاً. فكان عمرو يقول: رأيتني وأنا ربع الإسلام- أو رابع الإسلام- قال فأسلمت. قالت: أتبعك يا رسول الله؟ قال: "لا. ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت إني قد خرجت فاتبعني". قال: فلحقت بقومي، وجعلت أتوقع خبره، وخروجه، حتى أقبلت رفقة من يثرب، فلقيتهم فسألتهم عن الخبر. فقالوا: قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فقلت: وقد أتاها؟ قالوا: نعم. أنت الرجل الذي أتاني بمكة". فجعلت أتحين خلوته، فلما خلا قلت: يا رسول الله علمني مما علمك الله وأجهل. قال: "سل عما شئت" قلت: أي الليل أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر فصل ما شئت" فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى تصلي الصبح، ثم أقصر حتى تطلع الشمس، فترتفع قيد رمح أو رمحين، فإنها تطلع بين قرني الشيطان وتصلي لها الكفار. ثم صل ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله، ثم اقصر فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها، فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى تصلي العصر، ثم اقصر حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين
قرني الشيطان وتصلي لها الكفار. وإذا توضأت فاغسل يديك، فإنك إذا غسلت يديك خرجت خطاياك من أطراف أناملك. ثم إذا غسلت وجهك خرجت خطاياك من وجهك. ثم إذا مضمضت واستنثرت خرجت خطاياك من مناخرك، ثم إذا غسلت يديك خرجت خطاياك من ذراعيك، ثم إذا مسحت برأسك خرجت خطاياك من أطراف شعرك، ثم إذا غسلت رجليك خرجت خطاياك من رجليك، فإن ثبت في مجلسك كان ذلك حظك من وضوئك، وإن قمت فذكرت ربك، وحمدت، وركعت ركعتين مقبلاً عليهما بقلبك، كنت من خطاياك كيوم ولدتك أمك". قال: قلت يا عمرو: اعلم ما تقول، فإنك تقول أمراً عظيماً. قال: والله لقد كبرت سني، ودنى أجلي، وإني لغني عن الكذب، ولو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين ما حدثته، ولكني قد سمعته أكثر من ذلك. هكذا حدثني أبو سلام عن أبي أمامة إلا أن أخطئ شيئاً لا أريده، فأستغفر الله وأتوب إليه. أقول: يلاحظ في هذا النص ورود أقواله عليه الصلاة والسلام الآتية: أي الليل أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر فصل ما شئت". وبعد ارتفاع الشمس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم صل ما شئت) ثم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت)، نلاحظ في هذه الأوقات الثلاثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق للصحابي أن يصلي ما شاء بدون تقيد بعدد، وقد مر معنا من قبل أن حذيفة صلى في المسجد بعد المغرب حتى دخل وقت العشاء، ذلك كله يفيد أن النفل المطلق جائز في غير الأوقات المنهي عنها، وهو الذي ذهب إليه أئمة الاجتهاد، والمذاهب الأربعة على ذلك. وقد مرت معنا بمناسبات متعددة أدلة تدل على ذلك، وههنا نقتصر على ذكر بعض أدلة ذلك ومنها النص الذي مر معنا.
2017 - * روى أبو داود عن يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً". وفي أخرى (1) للنسائي "أنه سألها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يصلي العتمة، ثم يسبح، ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل، ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى، ثم يستيقظ من نومه ذلك، فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح". أقول: الملاحظ أن أم سلمة رضي الله عنها لم تقيد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل بعدد في هذه الرواية مما يدل على أن الأمر واسع، وإلا لو كان في الأمر تضييق لذكرت العدد لأنه يناسب السؤال. 2018 - * روى البزار عن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له إنها تصوم النهار وتقوم الليل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شرة والشرة إلى فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل". أقول: تبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمر على الإنسان حالات ينشط فيها للعمل ثم تعقبها فترة، وعلى الإنسان في هذه الحالة أن تكون فترته إلى سُنة،
يدل على أنه لا حرج لمن كان عنده نشاط أن يقبل على الله عز وجل بما شاء من النوافل المطلقة، وإن لم تكن من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2019 - * روى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر". 2020 - * روى أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع، من شاء أقل ومن شاء أكثر". أقول: يلاحظ أن النص الوارد عن أبي هريرة ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله عن الصلاة: "فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر" وأن رواية أبي ذر: (من شاء أقل ومن شاء أكثر) فهذان الإطلاقان أخذ منهما الأئمة جواز النفل المطلق في غير أوقات النهي بلا عدد محدد. 2021 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: من عادى لي ولياً، فقد آذنته بحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، وإن استعاذ بي أعذته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نف المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته". أقول: في قوله عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل في هذا الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل" ما يفيد الإطلاق، ومن ههنا وغيره أجاز الفقهاء النفل المطلق في الصلاة إلا في الأوقات المنهي عنها، كما أجازوا الإكثار من الذكر وتلاوة القرآن بقدر نشاط الإنسان، وقل مثل ذلك في كل نافلة لم يرد فيها
نهي يخصص إطلاقها. 2022 - * روى ابن خزيمة عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب إن كان إليكم من الأمر شيء فلا أعرفن ما منعتم أحداً يصلي عند هذا البيت أي ساعة شاء من ليل أو نهار". هذا لفظ حديث ابن جريج، غير أن أحمد بن المقدام قال: إن كان لكم من الأمر شيء، وقال: أي ساعة من ليل أو نهار. أقول: هذا النص وإن كان وارداً في الصلاة في المسجد الحرام إلا أن فيه إطلاق الصلاة دون تقييد للبحث عن العدد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مكثه بمكة في حجه وعمراته بعد الهجرة، مما يستأنس به لجواز النفل المطلق، ولكن لورود النهي في غير هذا المقام عن الصلاة في الأوقات الخمسة ولذلك قيدنا جواز النفل المطلق لئلا تقع في هذه الأوقات. 2023 - * روى ابن خزيمة عن محمود بن الربيع الأنصاري قال: قال لي عتبان بن مالك: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: "أين تحب أن أصلي في بيتك"؟ قال: فأشرت له إلى ناحية البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين، ثم سلم. أقول: يحتمل أن يراد بهذه الصلاة سنة الضحى أو سنة دخول البيت كما تحتمل النفل المطلق وفي النص دلالة على أن الصحابة كانوا يتبركون بأن يصلوا حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهم أن الأمر بالإقبال على الله بالنوافل واسع لا كما يريد بعض الناس أني ضيقه، فذلك نوع من المنع عن الخير إذا لم يرد نص يدل على
المنع عن شيء بخصوصه. 2024 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: إنك ما كنت في صلاة فإنك تقرع باب الملك ومن يكثر قرع باب الملك يوشك أن يفتح له. أقول: يلاحظ أن عبد الله بن مسعود ذكر الإكثار من قرع باب الله عز وجل بالصلاة دون تقييد بعدد مما يدل على جواز النفل المطلق. 2025 - * روى الطبراني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال: من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال: "ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم". 2026 - * روى مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: "كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وبحاجته، فقال لي: اسألني، فقلت: إني أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود". 2027 - * روى مسلم عن معدان بن أبي طلحة قال: "لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة- أو قلت: بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة. قال معدان: ثم أتيت أبا
الدرداء فسألته، فقال مثل ما قال لي ثوبان. أقول: في النصين الأخيرين ندب إلى كثرة السجود بإطلاق دون تقييد بعدد وذلك من أدلة جواز النفل المطلق عند العلماء. فائدة: الإكثار من التعبد ليس ببدعة. من أهم الكتب التي ألفت في موضوع جواز النفل المطلق والإكثار من التعبد وأكثرها فوائد وأغرزها علماً وتحقيقاً كتاب (إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة) للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله، وسبب تأليف الكتاب كما ذكر المؤلف في المقدمة أنه سمع قائلاً يقول: الاجتهاد في التعبد كإحياء الليل كله وقراءة القرآن في ركعة وأداء ألف ركعة ونحو ذلك مما نقل عن الأئمة: بدعة وكل بدعة ضلالة. فجاء الكتاب في أصلين ومقصدين وخاتمة، ولغزارة فوائد هذا الكتاب ودقة تحقيقه وشموله فإننا سنقتطف أجزاء من كلامه تفي بالمقصود وتعطي القارئ تصوراً عاماً عنه ومن أراد المزيد فعليه بالكتاب فإنه مهم. وقد خصص المؤلف الأصل الأول للحديث عن البدعة وحكم الصحابة والتابعين ومما قاله رحمه الله عن ذلك: (... البدعة: ما لم يكن في القرون الثلاثة، ولا يوجد له أصل من الأصول الأربعة): أي القرآن والسنة والإجماع والقياس، ونقل عن المحقق التفتازاني كلاماً منه (البدعة المذمومة هو المحدث في الدين، من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين، ولا دل عليه الدليل الشرعي. ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة وإن لم يقم دليل على قبحه، تمسكاً بقوله عليه السلام: "إياكم ومحدثات الأمور". ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه). ونقل عن كتاب "مجالس الأبرار": البدعة لها معنيان، أحدهما لغوي عام، وهو: المحدث مطلقاً، سواء كان من العادات أو العبادات. والثاني شرعي خاص، وهو: الزيادة في الدين أو النقصان منه بعد الصحابة، بغير إذن الشارع لا قولاً ولا
فعلاً ولا صريحاً ولا إشارة. وعمومها في الحديث بحسب معناها الشرعي. انتهى ملخصاً. وقال أيضاً: وفي "حواشي الطريقة المحمدية" لخواجه زادة: قوله: بعد الصحابة ... أما الحادث في زمن الخلفاء الراشدين فليس ببدعة، لأن سنتهم كسنة الرسول، بدليل الأمر بالتمسك بسنتهم. ومما ذكره في كتابه: أن ما وقع في زمن الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور المحدثة وأنكروه فهو بدعة ضلالة، وما لم ينكروه بل وجد منهم الرضى والتوافق فليس ببدعة شرعية، وإن أطلق عليه بدعة بالمعنى العام فيقيد بأنه بدعة حسنة وإنما أطلق عليه اسم البدعة بالمعنى اللغوي وهو المحدث مطلقاً لا الشرعي كما سبقت الإشارة إليه ... واعلم أن ما فعله الصحابة إما أن يكون موافقاً لنص من كتاب أو سنة فالأخذ به أولى وإن لم يعرف في العهد النبوي لظهور اندراجه في أصول الشرع وإما أن يكون مخالفاً لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجمع بينهما حتى الوسع بحيث لا يخرج ما فعله الصحابي عن حيز الشرع فإن لم يكن ذلك فلا نأخذ به لورود النص المخالف ويعذر الصحابي بعدم علمه بذلك النص وإلا لم يقل بخلافه، وإن وجدنا قولاً أو فعلاً من صحابي ولم نجد في الكتاب والسنة ما يخالفه ولا يوافقه فالأخذ بفعل الصحابي أو قوله أولى من تركه. ثم قال: فإن قلت: إذا اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أمر محدث فأولوية الأخذ به ظاهر، وأما إذا اختلفوا فيه فماذا يفعل؟ قلت: يتخير فيه الآخذ بأيهم اقتدى اهتدى، كما نص عليه الأصوليون في كتبهم. وأما الحادث في زمان التابعين وتابعيهم فالتفصيل فيه: هو التفصيل المذكور سابقاً، فإن كان المحدث في أزمنتهم قد وقع النكير منهم عليه كان بدعة. وإلا فليس ببدعة. [أقول: العبرة لنكير أئمة الاجتهاد وإجماعهم أما إذا لم يجمعوا فالأمر واسع]. وأما الحادث بعد الأزمنة الثلاثة: فيعرض على أدلة الشرع، فإن وجد نظيره في
العهود الثلاثة أو دخل في قاعدة من قواعد الشرع: لم يكن بدعة، لأنها عبارة عما لا يوجد في القرون الثلاثة وليس له أصل من أصول الشرع، وإن أطلقت عليه: (البدعة) قيدته بـ (الحسنة). وإن لم يوجد له أصل من أصول الشرع صار بدعة ضلالة وإن ارتكبه من يعد من أرباب الفضيلة أو من يشتهر بالمشيخة، فإن أفعال العلماء والعُبَّاد ليست بحجة ما لم تكن مطابقة للشرع. اه. هـ هذا فيما يتعلق بالبدعة وأن ما فعله الصحابة أو الأئمة من التابعين وتبعهم وما فعل في زمانهم ن غير نكير منهم ليس ببدعة. ثم ذكر الأصل الثاني: (في ذكر جماعة من الذين اجتهدوا في العبادة، وصرفوا تمام أعمارهم في الجهاد في الطاعة، على سبيل الاختصار، إذ الإحاطة بأحوال جميع المجاهدين مما يقصر عنه البشر، إنما هو شأن خالق القوى والقدر) فذكر ستاً من الصحابة هم: عثمان وعلي وتميم الداري وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وشداد بن أوس رضي الله عنهم وذكر من التابعين ثمانية عشر إماماً عرفوا بالاجتهاد والإكثار من العبادة منهم: أويس القرني ومسروق وابن المسيب وثابت البناني وسعيد بن جبير ومالك بن دينار، ثم ذكر أحد عشر رجلاً من بعد التابعين منهم: إبراهيم بن أدهم وشعبة بن الحجاج والشافعي وأحمد بن حنبل ووكيع، وأضاف المحقق- الشيخ عبد الفتاح أبو غدة- سبعة آخرين تمم بها بعض مقاصد الكتاب وفوائده ونقل تحقيقاً نافعاً عن الإمام النووي حول الإكثار من تلاوة القرآن ونحو ذلك فليراجع (ص 198). ثم شرع الإمام اللكنوي رحمه الله في بيان المقصد الأول وهو في إثبات أن مثل هذه الاجتهادات في العبادة ليست ببدعة وضلالة لوجوه: [ونقتطف من كلامه ما يلي]: الأول: أنه قد وُجد الاجتهاد في العبادة حسب الطاقة من الصحابة والتابعين وتابع التابعين من غير إنكار أحد منهم، وكل ما كان كذلك: فهو ليس ببدعة. الثاني: أنه قد وُجِد بعض ذلك من بعض الخلفاء، كعمر وعثمان كما مر في الأصل الثاني وكل ما وجد منهم من غير نكير: سُنَّة، فإن السنة ليست مختصة بما فعله النبي
صلى الله عليه وسلم، بل تعمه وتعم ما فعله الخلفاء- كلهم أو بعضهم- وما شرعوا في الدين ورضوا به وإن لم يباشروا به. الثالث: أنه قد وُجد ذلك من الأئمة المجتهدين وأجلة الفقهاء والمحدثين، فإن كان ذلك بدعة وضلالة: لزم كونهم مبتدعين ضالين، واللازم باطل بإجماع من يعتد به من المسلمين. الرابع: أن أجلة المؤرخين الذين هم المعتمد عليهم بين المسلمين، وقد اشتهر ورعهم في الدين وتحرزهم عن الابتداع في الدين، قد أوردوا في تصانيفهم في تراجم العلماء ذكر اجتهادهم في العبادة وأدرجوا ذلك مدرج المدح والجلالة، وهذا أدل دليل على عدم اشتهارهم ببدعة عندهم، فإن المدح بما هو بدعة ليس من شأن العلماء. الخامس: أنه قد ثبت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما ثبت منه ليس ببدعة. 2028 - * روى البخاري عن عائشة "كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم- أو ليصلي- حتى ترم قدماه، فيقال له؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ". فإن قلت لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة كلها أو قرأ القرآن في ركعة أو زاد على إحدى عشرة ركعة. قلت: أولاً: إنه قد ثبت إحياء الليل من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سهر الليل كله للعبادة أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "كتاب التفكر". 2029 - * روى ابن حبان في "صحيحه" وابن مردويه والأصبهاني في كتاب "الترغيب والترهيب" وابن عساكر، عن عطاء قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وأي شأنه لم يكن عجباً؟ .. إنه أتاني ليلة فدخل معي لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي، فبكى حتى
سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله، وما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم لا أفعل وقد أنزل الله علي هذه الليلة (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (1) ... الآيات. فدل ذلك على أن نفي عائشة قيام الليل كله محمول على غالب أوقاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكذلك خبر عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة محمول على ما هو الأغلب، وإلا فقد ثبت بروايات متعددة الزيادة على ذلك إلى خمس عشرة ركعة. كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم". وثانياً: [وإن سلمنا] أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم ليلة كلها ولا قرأ القرآن في ليلة ولا زاد على إحدى عشرة ركعة- نقول: قد ثبت منه مثله وما يشبهه في التشدد، وهو قيامه حتى تورمت قدماه، وذلك كاف في ارتفاع اسم البدعة عن هذه الاجتهادات، فإن البدعة: ما لا يكون هو ولا مثله في العهد النبوي، وليس بشرط أن يثبت كل جزئي من جزئيات العبادة منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وثالثاً: أنه وإن لم [يتجشم] هذه الاجتهادات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفقة على أمته، فقد تجشمه من أمرنا رسول الله بالاهتداء بسنتهم والسلوك على مسلكهم، فكيف يكون بدعة؟ كما مر ذكر ذلك. السادس: أنه قد أجاز النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العبادة على حسب الطاقة. 2030 - * روى أبو داود عن عائشة قالت: إن رسول الله قال: "اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله
أدومه وإن قل، وكان إذا عمل عملاً أثبته". 2031 - * وروى البخاري عنها مرفوعاً "عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا". وإذا ثبت جواز العمل حسب الطاقة إلى أن لا يحصل الإعياء والملل فنقول: طاقة الناس مختلفة، فكم من رجل يطيق شيئاً ولا يطيقه آخر؟ وكم من رجل يمل من شيء ولا يمل منه آخر؟ وكم من رجل أعطي السرعة في القراءة ولم ينلها الآخر. فمن أطاق كثرة العبادة والقراءة وقيام الليل ونحو ذلك من دون حصول ملل يجوز له ذلك، بالأحاديث السابقة، ومن حصل له ملل أو عرض له خلل لزم له ترك ذلك. فالحكم بأن الزيادة على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً غير جائزة: خطأ فاحش. ثم شرع الإمام اللكنوي رحمه الله في المقصد الثاني وهو في دفع الشبهات الواردة على المجاهدات وذكر عبارات العلماء في جواز التشدد، بالشروط العديدة فقال: "اعلم أنه قد ورد بعض الأخبار في المنع عن التشدد في العبادة، فظن منها الظانون أنه منهي عنه مطلقاً، ولم يتأملوا ما هو مورد النهي وما ليس بمورد النهي. وساق عدداً من هذه الأخبار ثم أجاب عنها بما مضمونه: - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع من كثرة الصلاة بل أجاز العمل بحسب الطاقة وإلى أن لا يسأم العامل فيترك العمل. - أو أنه نهى من علم من حاله أنه لا يتمكن من الدوام على ما التزمه فهذه إلى سبيل الرخصة وعلله بأن لنفسه عليه حقاً، ولأهله عليه حقاً، وبأنه إذا فعل ذلك ضعفت عينه، ونهك بدنه (1)، فدل ذلك على أن الجهاد (2) بحيث يورث ملال الخاطر وكسله، أو يخل بشيء من الحقوق الشرعية: ممنوع عنه (3). ولا دلالة له على منعه مطلقاً.
- أو أن هناك من التزم العبادة وترك الحقوق الواجبة كما حدث لأبي الدرداء حينما اعتزل زوجه فهذا يدل على أن التشدد بحيث يفضي إلى الفتور في الحقوق (هو المنهي عنه، لا مطلقاً). وأما عن حديث رهط من الصحابة، فهو أنهم تقالوا عمل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وظنوا أنه إنما لا يجتهد لكونه مغفوراً له، وأوجبوا على أنفسهم ما لم يوجبه الله، وأعرضوا عن الطريقة السهلة، فلذلك زجرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، وهداهم إلى طريقته، وقال: "من رغب عن سنتي". أي أعرض عنها غير معتقد حسن ما أنا عليه، كما ظنه ذلك النفر من الصحابة "فليس مني". أي ليس ممن يسلك مسلكي ويهتدي بهديي، ولا دلالة له على أنه إذا اجتهد رجل حسب طاقته غير موجب ما لم يوجبه الله وغير مفضل مسلكه على المسلك النبوي لا يجوز ذلك. أو أن النهي ورد على قوم حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله، وأوجبوا على أنفسهم ما لم يوجبه الله، فنهوا عن ذلك، ولا دلالة له على نفي التشدد مطلقاً، بل على التزامه بحيث يورث إلى إبداع أمر في الشرع ليس منه. ونقل عن البركلي تحقيقاً لدفع التعارض بين هذه الأحاديث وبين مجاهدات السلف ما مضمونه أن المنع عن التشديد في العبادة. إما أن يفضي إلى إهلاك النفس أو إضاعة الحق الواجب للغير أو ترك العبادة أو ترك مداومتها، وإما أن النبي صلى الله عليه وسلم وكونه أرسل رحمة للعالمين. ومؤيد من عند الله فيقوى على ما لا يقوى عليه آحاد الأمة، وإنه أخشى الناس من الله وأتقاهم وأعلمهم بالله، فلا يتصور منه البخل وترك النصح، ولا التواني والتكاسل، ولا الجهل في أمر الدين، فلو كان في العبادة والقرب من الله طريق أفضل وأنفع غير ما هو عليه لفعل أو بيَّنه وحث عليه، فيجزم قطعاً أن ما هو عليه أفضل وأقرب إلى معرفة الله. فيحمل ما روي عنهم على أنهم إنما فعلوا ذلك التشديد إما مداواة لأمراض
القلوب، أو يكون العبادة عادة لهم وطبعاً كالغذاء للصحيح، فيتلذذون بها بلا إضاعة حق ولا ترك مداومة ولا اعتقاد أنه أفضل مما عليه أفضل البشر أو قاله. وأما نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقد بلغ الدرجة العليا من الكمال، وهي أن لا يمنعه عن توجه القلب شيء، لا التكلم مع الخلق ولا الأكل ولا الشرب ولا النوم ولا ملامسة النساء. ويكون الخلطة والعزلة سواء، فاقتصاره على بعض العبادات الظاهرة لكونها أفضل له ولأمته. وتلذذه عليه السلام دائم لا يختص بالعبادة الظاهر، ومما قاله اللكنوي في هذا المقام نقلاً عن كتاب "الحديقة الندية للنابلسي": فالحاصل: أن السلف الماضين اختاروا العزائم في أنفسهم لأنهم أهل الهمم والعزائم، وكانوا معترفين بصحة الرخص الشرعية يفتون بها للعامة، ويحرضونهم على فعلها. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل أحياناً: يأمر بالرخص ويفعل بالعزائم، كما أخبر في قضية صوم الوصال". انتهى كلامه ملخصاً. ثم قال اللكنوي: وخلاصة المرام في هذا المقام- وهو الذي أختار تبعاً للعلماء الكرام: أن قيام الليل كله، وقراءة القرآن في يوم وليلة مرة ومرات، وأداء ألف ركعة أو أزيد من ذلك، ونحو ذلك من المجاهدات والرياضات ليس ببدعة، وليس بمنهي عنه في الشرع، بل هو أمر حسن مرغوب إليه، لكن بشروط: أحدها: أن لا يحصل من ذلك ملال الخاطر، يفوت به التذاذ العبادة وحضور القلب، يؤخذ ذلك من حديث: "ليصل أحدكم نشاطه". أي مدة نشاط خاطره وسرور طبيعته. وثانيها: أن لا يتحمل بذلك على نفسه مشقة لا يمكن له تحملها بل يكون ذلك مطاقاً له، يؤخذ ذلك من حديث: "عليكم من الأعمال ما تطيقون". وثالثها: أن لا يفوت بذلك ما هو أهم من ذلك، مثلاً إن كان قيامه بالليل
يفوت صلاة الصبح لا يجوز له قيام الليل كله، فإن أداء الفرض أهم من أداء النوافل. ورابعها: أن لا يفوت بذلك حق من الحقوق الشرعية، كحق الأهل والأولاد والضيف وغير ذلك، يؤخذ ذلك من قصة عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء. وخامسها: أن لا يكون فيه إبطال للرخص الشرعية بحيث يعد الترخيص الشرعي باطلاً والعامل بالرخص عاطلاً، يؤخذ ذلك من حديث الصحابة الذين تقالوا عمل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وسادسها: أن لا يكون فيه إيجاب ما ليس بواجب في الشرع وتحريم ما لم يحرم في الشرع، يؤخذ من حديث عثمان بن مظعون. وسابعها: أن يوفي أركان العبادات حظها، فلا يجوز أن يكثر من ركعات الصلاة ويؤديها كنقر الديك، أو يكثر قراءة القرآن من غير تدبر وترتيل ونحو ذلك، وعليه يحمل قوله عليه السلام: "لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث" ... وثامنها: أن يدوم على ما يختار من العبادة لا يتركه إلا لعذر، يؤخذ ذلك: 2032 - * روى مسلم من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". وتاسعها: أن لا يكون اجتهاده مورثاً للملال إلى أحد من المسلمين، كأن يجتهد في قراءة السور الطوال أو تمام القرآن في صلاة الجماعة، فإن ذلك مما يورث ملال المقتدين. فإن فيهم الضعيف والسقيم وصاحب الحاجة ... عاشرها: أن لا يكون اجتهاده مورثاً إلى اعتقاد أنه أفضل عملاً مما كان عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه من تقليل العمل. فمن وجدت فيه هذه الشروط فالتشدد في العبادة أحق له؛ وأصحاب الرياضات السابقين كانوا جامعين لهذه الشروط فجاز لهم ذلك، ولم ينكر عليهم أحد ذلك. ومن فات له شرط منها فالاقتصاد في العمل والتوسط أليق له. هذا هو الطريق الوسط الذي يرتضيه كل منصف، لا إفراط فيه ولا تفريط مما يذهب إليه كل متعسف. ولعل هذا التحقيق الأنيق مما لم يقرع سمعك به أحد من السابقين! فخذه بقوة وكن من الشاكرين. اهـ. مقتطفاً من كتاب الإمام اللكنوي بتحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة.
الفقرة الثامنة: في صلاة التسابيح
الفقرة الثامنة: في صلاة التسابيح 2033 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس وأبي رافع رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: "يا عباس، يا عماه، ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أجيزك، ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك: أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته! عشر خصال: أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم، قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر- خمس عشرة مرة- ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي كل عمرك مرة". ولأبي داود في أخرى (1) عن أبي الجوزاء: حدثني رجل كانت له صحبة- يرون
أنه عبد الله بن عمرو- قال: "ائتني غداً أحبوك، وأثيبك، وأعطيك، حتى ظننت أنه يعطيني عطية، قال: "إذا زال النهار فقم فصل أربع ركعات" ... فذكر نحوه، قال: ثم ترفع رأسك- يعني: من السجود- وفي نسخة من السجدة الثانية- فاستو جالساً ولا تقم حتى تسبح عشراً، وتهلل عشراً وتحمد عشراً، وتكبر عشراً، ثم تصنع ذلك في الأربع ركعات، قال: فإنك لو كنت أعظم أهل الأرض ذنباً غفر لك بذلك، قلت: فإن لم أستطع أن أصليها تلك الساعة؟ قال: صلها من الليل والنهار". قال أبو داود: رواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. وفي رواية الأنصاري (1) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجعفر بهذا ... الحديث، فذكر نحوه- قال: في السجدة الثانية من الركعة الأولى". وأخرجه الترمذي (2) عن أبي رافع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: يا عم، ألا أصلك ألا أحبوك، ألا أنفعك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: يا عم، صل أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا انقضت القراءة فقل: الله أكبر، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وسبحان الله، خمس عشرة مرة قبل أن تركع ... وذكر مثله، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، وهي ثلاثمائة في أربع ركعات، فلو كانت ذنوبك مثل رمل عالج غفرها الله لك، قال: يا رسول الله، ومن لم يستطع أن يقولها في يوم؟ قال: إن لم تستطع أن تقولها في يوم فقلها في جمعة، فإن لم تستطع أن تقولها في جمعة فقلها في شهر، فلم يزل يقول له حتى قال: فقلها في سنة". أقول: وقد نمي إلي أثناء عملي في الكتاب أن بعض فضلاء عصرنا ضعف هذا
الحديث لوجوه منها أن الحديث لا يتفق والبلاغة النبوية، قلت: وهذا باب واسع- أي التضعيف بسبب البلاغة- والخوض فيه ذو مزالق ... وليس من عبث أن يورد الإمام أبو داود للحديث ثلاث طرق كل طريق بمفردها لا تنزل عن درجة الحسن فكيف إذا اجتمعت ... فإذا أضفنا إليها طريق الترمذي وطرقه الأخرى عرفنا صحة الحديث وممن صحح الحديث من المعاصرين العلامة أحمد شاكر (السنن للترمذي 2/ 351 - 252) وانظر ما نقله عن ابن المبارك والحاكم والذهبي والمنذري والآجري والمقدسي ومسلم بن الحجاج ... وغيرهم.
الباب السابع في الصلوات السنوية
الباب السابع في الصلوات السنوية وفيه مقدمة وفقرات الفقرة الأولى: صلاة التراويح وقيام رمضان وتهجده. وفيها نصوص ومسائل وفوائد. الفقرة الثانية: في صلاة العيدين. وفيها عرض إجمالي ونصوص.
مقدمة
مقدمة قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)، وقد بعث الله الرسل وأنزل الوحي من أجل التوحيد لله وإقامة العبودية له، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2). وأنواع العبادات كثيرة ومظاهر العبودية لله كثيرة، ولا تعرف العبادة والعبودية إلا بدراسة شاملة لنصوص الكتاب والسنة، فمن العبادات: العبادات البدنية، ومنها العبادات المالية ومنها العبادات المالية والبدنية، ومظاهر العبودية كثيرة في الموت والحياة، وفي دوائر الأسرة والجوار والمجتمع وفي التعامل والمعاملات، وفي العقود والعهود إلى غير ذلك مما سنرى. والركن الأصيل في العبادة الذي هو تحقيق للعقيدة، والذي هو معين على تحقيق بقية العبادات وإقامة العبودية هو الصلاة. وكما أن هناك صلوات يومية فهناك صلاة أسبوعية هي الجمعة، وهناك صلوات سنوية هي صلاتا العيدين التي تختص ببعض الأحكام، وقيام رمضان جماعة في المسجد وهي التي تسمى صلاة التراويح. ولو أننا تأملنا في صلاة الجماعة والجمعة والعيدين لوجدنا أن هذه الصلوات لها حكمها الكثير، والتي من جملتها: صهر المسلمين مع بعضهم في إطار التوحيد والوحدة على أساس من العبادة والعبودية لله تعالى. وفي صلاة الجماعة اليومية يلتقي أهل المسجد الواحد يومياً خمس مرات ليقيموا الصلوات الخمس ومن فاتته صلاة الجماعة يومياً فإنه يجتمع مع إخوانه المسلمين يوم الجمعة اجتماعاً أشمل وأكبر، والأصل أن يكون اجتماع الجمعة في مسجد جامع كبير يضم أهل البلد جميعاً، لكنه لتعذر وجود الجامع الواحد الذي يضم أهل البلد بعد توسع العمران تسوهل في تعدد الجمع
حيث ما ألجأت الضرورة لذلك، أما صلاة العيدين فالأصل فيها أن يجتمع سكان البلد جميعاً رجالاً ونساء دون اختلاط، فيستشعر المسلمون والمسلمات في البلد الواحد أخوتهم ووحدتهم على التوحيد والعبادة والعبودية. فالصلوات اليومية والأسبوعية والسنوية تكمل بعضها في تحقيق التوحيد والعبادة والعبودية كما أنها تتكامل في تحقيق التوحيد والوحدة، وقد جعل الله عز وجل للمسلمين موسمين عظيمين في السنة للعبادة، موسم رمضان وموسم الحج وجعل لكل موسم عيداً وجعل لكل عيد صلاة، فأعياد المسلمين أفراح بفضل الله، وتعبير عن التعظيم لله والشكر له فإذا كانت أعياد غير المسلمين فرحاً بدنياً تعبيراً عن الالتصاق في الدنيا، فإن أفراح المسلمين تعبير عن الشكر لله على ما آتاهم في الدنيا وبما يحققون به شعارهم أنهم طلاب آخرة، ورمز ذلك كله صلاتا العيدين وربطهما بموسمين للعبادة موسم رمضان وموسم الحج. ولرمضان أحكامه، وللصوم محله في عبادات الإسلام، وسيأتي الكلام عن هذا في جزء مستقل إلا أن مما يتميز به رمضان في موضوع الصلاة قيام رمضان في جماعة في المسجد هي صلاة التراويح لذلك اقتضى ذكرها في جزء الصلاة وجعلناها في هذا الباب لأنها من العبادات السنوية، وجعلنا صلاة العيدين في هذا الباب لأنهما صلاتان سنويتان وجعلناهما في جزء الصلاة حتى يأخذ المسلم تصوراً كاملاً عن عبادة الصلاة في جزء واحد من هذا الكتاب. وإذا كانت صلاة عيد الأضحى قد ارتبطت بموسم الحج، وكان للحج بحثه المنفرد في قسم العبادات فسنشير إليها هناك إشارة ولكن محل تفصيلها هنا، وليوم عيد الفطر واجبات أخرى كصدقة الفطر، وليوم عيد الأضحى واجباته الأخرى كالأضحية، لغير الحاج وواجباته للحاج فسنقتصر ههنا على إشارات ونؤخر الكلام تفصيلاً إلى مباحث الصوم والحج اكتفاء بذكر ما هو الألصق بموضوعات هذا الجزء. ويسبق عيد الفطر شهر رمضان بما فيه من إلزامات والتزامات وفضائل وبركات وتأتي صلاة العيد متوجة لموسم رمضان، وقد جعل الله عز وجل صلاة عيد الأضحى في أيام موسم الحج وزيادة على ذلك فقد جعلها واقعة في جزء من الأيام المعلومات وقبل الأيام
المعدودات وهي أيام ذكرها القرآن وتحدثت السنة عن فضلها وفضيلتها. فالأيام العشر من ذي الحجة هي الأيام المعلومات ولها فضلها الكبير، وصلاة العيد تكون في اليوم العاشر منها، وتعقبها الأيام المعدودات وهي أيام التشريق التي يكمل فيها الحجاج إقامة مناسكهم، فصلاة عيد الأضحى تأتي في قلب أيام ذات فضل كبير. ولكون صلاة التراويح وصلاتي العيدين لها صفة التكرر السنوي فقد جعلناها في باب واحد.
الفقرة الأولى صلاة التراويح وقيام رمضان وتهجده
الفقرة الأولى صلاة التراويح وقيام رمضان وتهجده 2034 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر. في رواية (1) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرمضان: "من قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". في رواية (2) قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". قال النووي (6/ 39 - 40): قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً" معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق مقتصده فضيلته ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح واتفق العلماء على استحبابها واختلفوا في أن الأفضل صلاتها منفرداً في بيته أم في جماعة في المسجد فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمر عمل المسلمين عليه لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد. وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". قوله صلى الله عليه وسلم: "غفر له
ما تقدم من ذنبه": المعروف عند الفقهاء أن هذا مختص بغفران الصغائر دون الكبائر قال بعضهم: ويجوز أن يخفق من الكبائر ما لم يصادف صغيرة. قوله: (من غير أن يأمرهم بعزيمة) معناه: لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب ثم فسره بقوله: فيقول: "من قام رمضان" وهذه الصيغة تقتضي الترغيب والندب دون الإيجاب واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب. قوله: (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر) معناه استمر الأمر هذه المدة على أن كل واحد يقوم رمضان في بيته منفرداً حتى انقضى صدر من خلافة عمر ثم جمعهم عمر على أبي بن كعب فصلى بهم جماعة واستمر العمل على فعلها جماعة، وقد جاءت هذه الزيادة في صحيح البخاري في كتاب الصيام. اهـ. 2035 - * روى النسائي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، ففضله على الشهور، فقال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وفي أخرى (1) - فذكر مثله- وقال: "من صامه وقامه إيماناً واحتساباً". وفي أخرى (2) قال: "إن الله فرض صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". 2036 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيى الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر".
ولمسلم (1) قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره. قال النووي (8/ 71): (ففي هذا الحديث أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان واستحباب إحياء لياليه بالعبادات). 2037 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان". 2038 - * روى الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير- قال عفان: في المسجد، وقال عبد الأعلى: في رمضان- فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال، وجاؤوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة، فحضروا، وأبطأ برسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقال لهم: "ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". وفي حديث عفان "ولو كتب عليكم ما قمتم به"، وفيه "فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
وفي رواية (1) النسائي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي، فاجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج، فلم يخرج، فلما خرج للصبح قال: "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يُكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". قال التهانوي: (في الحديث دلالة على كون النوافل في البيت أفضل منها في المسجد وعلى كون الجماعة مختصة بالمكتوبة، وأما النوافل فالأصل فيها الإخفاء) وقال: (ومقتضى هذا الدليل أن تكره الجماعة في النفل والوتر مطلقاً إلا أنا قيدناه بالتداعي وهو أن يدعو بعضهم بعضاً، وفسره الفقهاء بالكثرة لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم التنفل بالجماعة أحياناً من غير تداع منه). ثم قال: (وتفسير التداعي بالاهتمام والمواظبة أولى من تفسيرها بالعدد والكثرة كما لا يخفى. واستثنى العلماء صلاة التطوع في ليالي رمضان جماعة لما سيرد من الأدلة). قال في الخلاصة: (ولا يصلى التطوع بجماعة إلا في رمضان) ا. هـ (إعلاء السنن 7/ 77 - 81). لكن ذكر النووي (6/ 41) استدلالاً بالحديث التالي جواز النافلة جماعة وقال: ولكن الاختيار فيها الانفراد إلا في نوافل مخصوصة وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح عند الجمهور. ا. هـ. وجاء في رد المحتار على الدر المختار أثناء حديثه عن الجماعة في التطوع والوتر: ويمكن أن يقال: الظاهر أن الجماعة فيه- أي في الوتر- غير مستحبة، ثم إن كان
أحياناً كان مباحاً غير مكروه وإن كان على سبيل المواظبة كان بدعة مكروهة لأنه خلاف المتوارث. ا. هـ. قال التهانوي: ويؤيده ما في البدائع: (إن الجماعة في التطوع ليست بسنة إلا في قيام رمضان) فإن نفي السنية لا يستلزم الكراهة. ا. هـ. 2039 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان". وفي رواية (1) قالت: كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزعاً، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت له حصيراً، فصلى عليه ... بهذه القصة، قالت فيه: قال: تعني النبي صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، أما والله ما بت ليلتي هذه بحمد الله غافلاً، ولا خفي علي مكانكم". وفي رواية البخاري (2) ومسلم (3) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد فقال: "أما بعد، فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة، ولكني خشيت
أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها". وفي رواية (1) بنحوه ومعناه مختصراً، قال: "وذلك في رمضان". زاد في أخرى (2) "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك". 2040 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام ناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية يصلي، فقام ناس يصلون بصلاته، فصنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثاً، حتى إذا كان بعد ذلك جلس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك له الناس، فقال: "إني خفت أن تكتب عليكم صلاة الليل". قال: قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته والناس يأتمون به من وراء الحجرة". بعد أن ناقش ابن حجر رحمه الله أسباب الخشية من أن تفرض الصلاة في الليل، قال (3/ 14): (... لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب). ا. هـ. قال السيوطي في شرحه على سنن النسائي (3/ 202 - 203): قال المحب الطبري: يحتمل أن يكون الله أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم بترك المواظبة، قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه ما اتفق في بعض القرب التي داوم عليها فافترضت. وسئل الشيخ عز الدين بن عبد
السلام عن هذا الحديث أنه يدل على أن المداومة على ما ليس بواجب تصيره واجباً، والمداومة لم تعهد في الشرع مغيرة لأحكام الأفعال، فكيف خشي عليه الصلاة والسلام أن يغير بالمداومة حكم القيام؟ فأجاب بأنه صلى الله عليه وسلم منه تتلقى الأحكام والأسباب فإن أخبر أن ههنا مناسبة اعتقدنا ذلك واقتصرنا بهذا الحكم على مورده. 2041 - * روى النسائي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين، حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور". 2042 - * روى الترمذي عن جبير بن نفير، عن أبي ذر، قال: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل به حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام به في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلت: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلث من الشهر وصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح قلت له وما الفلاح؟ قال: السحور. قال التهانوي (7/ 59): دلالته على ثبوت التراويح بالجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، وفيه أيضاً: أنه صلاها بجماعة بالتداعي لما فيه أنه دعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، وهذا دليل من قال بسنية الجماعة لها مع مواظبة الصحابة على أدائها في جماعة، ولم يرو صريحاً أنه صلى الله عليه وسلم تهجد في هذه الليالي مستقلاً أم لا، وهل كانتا صلاتين أو صلاة واحدة؟ لكن الظاهر تغاير التراويح والتهجد، كما يدل عليه تغاير عنواني أحاديث الترغيب في قيام الليل، وفي قيام رمضان. وكذلك يدل عليه افتراض صوم رمضان بالمدينة بآية البقرة، وقد شرع التهجد قبل ذلك بمكة حين نزلت سورة المزمل، فدل ظاهراً على تغايرهما.
ولكن يعكر عليه ما رواه البخاري في باب فضل من قام رمضان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة". الحديث، وفي "فتح الباري" (3/ 217): ذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، وأعرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. ا. هـ. ثم قال التهانوي: قال بعض الناس: فالصحيح عندي عدم التغابر إلا أن التهجد في رمضان آكد، فافهم وتأمل، وحمل الحديث على التهجد فقط في رمضان بعيد. ا. هـ. أقول: حمل التهانوي حديث عائشة على تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك لا يتنافى مع كونه صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل أكثر من إحدى عشرة ركعة، واستدل على ذلك ببعض الروايات الضعيفة التي حسنها لغيرها. انظر (الإعلاء 7/ 69 - 73). 2043 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء رجل فقام أيضاً، حتى كنا رهطاً، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة، ثم دخل رحله، فصلى صلاة لا يصليها عندنا. قال: فقلنا له حين أصبحنا: فطنت لنا الليلة؟ قال: نعم، ذاك الذي حملني على ما صنعت، قال: فأخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في آخر الشهر، فأخذ رجال من أصحابه يواصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي، أما والله لو تمادى بي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم". 2044 - * روى البيهقي عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي رضي الله عنه، قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في رمضان، فرأى ناساً في ناحية المسجد يصلون، فقال:
"ما يصنع هؤلاء؟ " قال قائل: يا رسول الله: هؤلاء ناس ليس معهم القرآن وأبي بن كعب يقرأ وهم معه يصلون بصلاته، قال: "قد أحسنوا وقد أصابوا" ولم يكره ذلك لهم. قال التهانوي: دلالته على تقرير التراويح بالجماعة من النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، فكان سنة التقرير والرضا. 2045 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون- يريد: آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله. قال ابن الأثير: وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" فإنه يريد بها صلاة التراويح، فإنه في حيز المدح، لأنه فعل من أفعال الخير، وحرص على الجماعة المندوب إليها، وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، فقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قطعها إشفاقاً من أن تفرض على أمته، وكان عمر ممن نبه عليها وسنها على الدوام، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد قال في آخر الحديث: "والتي تنامون عنها أفضل". تنبيهاً منه على أن صلاة آخر الليل أفضل، قال: وقد أخذ بذلك أهل مكة، فإنهم يصلون التراويح بعد أن يناموا. 2046 - * روى ابن خزيمة عن عروة بن الزبير: أن عبد الرحمن بن عبد القاري- وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال- أن مر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون،
يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم عمر على ذلك، وأمر أُبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان. فخرج عمر عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعم البدعة هي، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون- يريد آخر الليل- فكان الناس يقومون أوله، وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، والق عليهم رجزك وعذابك إله الحق، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين، قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي، واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك لمن عاديت ملحق، ثم يكبر ويهوي ساجداً". أقول: إن أهل الحرمين في عصرنا يصلون التراويح عشرين ركعة بعد فريضة العشاء وراتبتها مباشرة، ويصلون بعدها الوتر ويقرؤون في التراويح جزءاً من القرآن في كل ليلة، وبعد النصف من رمضان يصلون التهجد بعد منتصف الليل فيقرؤون في تهجدهم كل ليلة جزئين من القرآن. وظاهر من النصين اللذين مرا معنا أن أهل الحرمين يراعون ما جاء فيهما من الإشارة إلى التهجد في النص الأول، ومن ذك النصف في النص الثاني، وفي النص الثاني إشارة إلى صيغة القنوت التي كانوا يقنتون بها في الوتر وهي قريبة من الصيغة التي يقنت بها الحنفية والمالكية في الوتر، وقد علق البغوي في شرح السنة على حديث عبد الرحمن بن عبد القاري بما يلي: قوله: (أوزاع) أي: جماعات متفرقة لا واحد لها من لفظها، يقال: وزعت الشيء بينهم، أي: فرقته وقسمته. وقوله: (نعمت البدعة هذه) إنما دعاه بدعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وأثنى عليها بقوله: (نعم) ليدل على فضلها، ولئلا يمنع هذا اللقب من فعلها، ويقال: (نعم) كلمة تجمع المحاسن كلها، (وبئس) كلمة تجمع المساوئ كلها.
وقيام شهر رمضان جماعة سُنة غير بدعة، لقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" [جزء من حديث رواه أصحاب السنن عن أبي نجيح بسند صحيح]. اهـ. قال ابن حجر في (الفتح 4/ 253): والبدعة أصلها: ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق: أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. اهـ. 2047 - * روى مالك عن يزيد بن رومان قال: "كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2048 - * روى مالك عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميماً الداري: أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. قال الشيخ شعيب في شرح السنة (1/ 120). أخرجه مالك في الموطأ (1/ 115) في الصلاة في رمضان: باب ما جاء في قيام رمضان، وإسناده صحيح، وقال الحافظ في الفتح (4/ 253): ورواه الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال: إحدى وعشرين. أقول: ومحمد بن يوسف بن عبد الله الكندي المدني، ثقة ثبت، كذا في التقريب. ومن كلام البغوي في شرح السنة: اختلف أهل العلم في قيام شهر رمضان، فذكر حديث السائب بن يزيد وحديث يزيد بن رومان ثم قال: ورأى بعضهم أن يصلي إحدى
وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم، وهو اختيار إسحاق وأما أكثر أهل العلم، فعلى عشرين ركعة يروى ذلك عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأصحاب الرأي، قال الشافعي: وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة. ولم يقض أحمد فيه بشيء. واختار ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، الصلاة مع الإمام في شهر رمضان، واختار الشافعي أن يصلي وحده إذا كان قارئاً. ولعل أهل الحرمين الآن يجمعون عملياً بين الروايتين بفعلهم وهناك اتجاهات أخرى في الجمع بين الروايتين، قال ابن حجر (4/ 253): (الجمع) ممكن باختلاف الأحوال ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس. أقول: والذي يظهر لي أن الجمع بين روايتي السائب بن يزيد ورواية يزيد بن رومان أن رواية السائب بن يزيد في التهجد بدليل ذكره أنهم كانوا يصلون فيها إلى قُرَيب الفجر وأما رواية يزيد بن رومان فهي في التراويح. قال التهانوي (7/ 73): لا يقال: إن عمر رضي الله عنه لم يجمع الناس على عشرين ركعة حتماً، بل جمعهم على قيام رمضان موسعاً بين إحدى عشرة ركعة، وثلاث وعشرين ركعة، لما روى مالك، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، أنه قال: "أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. وكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام" كذا في [آثار السنن (2/ 52)] لأن هذا أثر مضطرب المتن، اختلف فيه على محمد بن يوسف، فروى عنه مالك في الموطأ، ويحيى القطان عند ابن أبي شيبة، وعبد العزيز بن محمد عند سعيد بن منصور هكذا إحدى عشرة ركعة. ورواه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن
يوسف، فقال: ثلاث عشرة. ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال: إحدى وعشرين. قاله الحافظ في [الفتح (4 - 219)]، وهذا اختلاف يسقط الاحتجاج بالأثر. قال ابن عبد البر: روى غير مالك في هذا الحديث إحدى وعشرين، وهو الصحيح، ولا أعلم أحداً قال فيه إحدى عشرة إلا مالكاً، إلى أن قال: الأغلب عندي أن قوله: "إحدى عشرة" وهم، كذا في "التعليق الحسن" نقلاً عن الزرقاني في [شرح الموطأ (2 - 52)]. قلت- أي التهانوي-: لم يهم فيه مالك لمتابعة اثنين له في ذلك عن محمد بن يوسف، بل الوهم عندي فيه من محمد بن يوسف، فإنه قال مرة: "إحدى وعشرين"، ومرة: "إحدى عشرة"، وتارة: "ثلاث عشرة". والجمع بينهما بالحمل على اختلاف الأحوال ونحوه كما قال الحافظ وغيره بعيد مستغنى عنه، فإن المخرج واحد، فكيف يصح حمله على اختلاف الأحوال؟ والمحفوظ ما رواه يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد، قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. كما ذكرناه في المتن. أخرجه البيهقي وسنده صحيح، وعزاه الحافظ في ["الفتح" (4 - 219)] إلى مالك أيضاً فإن له شواهد كثيرة صحيحة. ا. هـ. 2049 - * روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر [بن محمد بن عمرو بن حزم] قال: سمعت أبي يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنستعجل الخدم بالطعام، مخافة فوت السحور. وفي أخرى "مخافة الفجر". أقول: هذا كذلك محمول على التهجد.
2050 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج سمع يقول: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، قال: وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى النسا أن قد خفف.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد جاء في "المدونة" (1/ 193) للإمام مالك رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك: بعث إلى الأمير، وأراد أن ينقص من قيام رمضان الذي كان يقوم الناس بالمدينة- قال ابن القاسم: وهو تسعة وثلاثون ركعة بالوتر، ست وثلاثون ركعة، والوتر ثلاث- قال مالك: فنهيته أن ينقص من ذلك شيئاً، وقلت له: هذا ما أدركت الناس عليه، وهذا الأمر القديم الذي لم يزل الناس عليه. أقول: الظاهر أن المراد بالقيام هنا مجموع صلاة التراويح والتهجد والوتر بآن واحد، وقد مرت معنا روايات تذكر أن أهل المدينة توارثوا صلاة التراويح عشرين ركعة، ولكن الظاهر أنهم حافظوا على العشرين وأحيوا سنة التهجد بعد النوم، فكان مجموع قيامهم ما ذكر في المدونة، وعلى ذلك نحمل كل رأي يزيد عن العشرين ركعة في قيام رمضان جماعة، لأن الذي استقرت عليه فتاوى المذاهب الأربعة كما سنرى هو أن صلاة التراويح عشرون ركعة وعليه العمل في مساجد المسلمين. - جاء في فتاوى ابن تيمية رحمه الله (2/ 401) أن قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان، ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن، والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها، جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك،
وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه، ولا ينقص منه، فقد أخطأ. - لقد ذكرنا أن الذي استقرت عليه الفتوى في المذاهب الأربعة واستقر عليه العمل أن تصلى التراويح عشرين ركعة في رمضان وأن يوتر بعدها بثلاث جماعة لمن ليس في نيته أن يتهجد، فيوتر بعد تهجده، وها نحن نستخلص لك مع شيء من التصرف الذي لا يخل بالمعنى فتاوي المذاهب الأربعة في صلاة التراويح مع مقدمة تمهد لهذا الموضوع. - روى الطحاوي بسند لا بأس به عن مجاهد، قال: "قال رجل لابن عمر رضي الله عنه: أصلي خلف الإمام في رمضان، فقال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم! قال: في بيتك". ا. هـ (1 - 207). وفي "المغني" للحافظ ابن قدامة: والمختار عند أبي عبد الله (أحمد) فعلها في الجماعة، وإن كان رجل يقتدى به فصلاها في بيته مخافة أن يقتدي الناس به، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا بالخلفاء"، وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة، وبهذا قال المزني، وابن عبد الحكم، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة. قال أحمد: كان جابر، وعلي وعبد الله، يصلونها في جماعة، قال الطحاوي: كل من اختار التفرد ينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا، ويروى نحو هذا عن الليث بن سعد. وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب إلينا، لما روى زيد بن ثابت في قصة صلاة الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ليالي رمضان، ثم جاؤوا ليلة فأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ولم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقال: "ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". رواه مسلم. ولنا إجماع الصحابة على ذلك، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله في حديث أبي ذر، (رواه الترمذي وصححه وقد تقدم في المتن) وقوله: "إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة"، عام وهذا خاص في قيام رمضان، فيقدم على عموم ما احتجوا به، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم معلل بخشية فرضه عليهم، ولذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم
القيام بهم معلاً بذلك أيضاً. وقد أمن أن يفعل بعده. أ. هـ (الإعلاء السنن 7/ 62). أقول: صلى الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض أصحابه جماعة في رمضان أياماً ثم خشي أن تفرض صلاة القيام في رمضان جماعة على المسلمين لرغبتهم وحرصهم، وهو يعلم من سنة الله ما لا نعلم فيعلم من سنة الله أن عباده إذا شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم، ولذلك فقد ترك الخروج حتى لا تفرض صلاة قيام الليل في رمضان على المسلمين جماعة في المسجد، إلا أن المسلمين فهموا من عدم النهي عن صلاة الجماعة في قيام رمضان جوازها، فكانوا يصلونها جماعات متفرقة، وبقي الأمر على ذلك حتى عهد عمر رضي الله عنه، فرأى عمر بثاقب بصره أن العلة التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتابع إمامة الناس في قيام رمضان وهي الخشية من الفرضية قد انتهت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، فجمع الناس على إمام واحد وعلى عدد من الركعات محدد، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة الجمع أو العدد، فكان ذلك إجماعاً منهم على جواز ما فعل، وإذ كان بإجماع أهل السنة والجماعة من الخلفاء الراشدين وإذا كانت النصوص تخصه بمزيد شهادة على أن الله أجرى الحق على لسانه، وقد اعتبر علماء المسلمين أن الاقتداء بما فعل على سلامة القلب من الزيغ واعتبروا أن من لا يرى جواز ما فعل مبتدع، فالأصل أن يرى المسلم جواز صلاة التراويح بالعدد الذي جمع عمر المسلمين عليه وهو عشرون ركعة والأصل أن تصلى التراويح في المساجد عشرين ركعة والمسلم بالخيار أن يصلي ما شاء منها مع الإمام، فلو صلى ركعتين أو أكثر أو لو لم يصل شيئاً- على ألا تعطل التراويح في أي مسجد- فلا حرج عليه، ولو صلاها كلها وأخر الوتر وذهب إلى بيته وصلى ما شاء فلا حرج عليه، المهم ألا ينكر على من فعلها فيخالف بذلك إجماعاً ويدخل في دائرة البدعة والمبتدعة الذين يسيئون لأنفسهم ولغيرهم، ويضلون أنفسهم ويضلون غيرهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولنا عودة على قيام رمضان وصلاة التراويح إن شاء الله تعالى في جزء الصوم، أما ههنا فنكتفي بذكر أقوال المذاهب الأربعة في هذا الشأن. قال الحنفية: التراويح سنة مؤكدة للرجال والنساء، ويسن فيها الجماعة، ووقتها في رمضان بعد صلاة العشاء إلى الفجر قبل الوتر وبعده، وتصلى في أي جزء من الليل ويستحب ألا تؤخر عن نصف الليل، ولا تقضى عندهم إذا فاتت، ومن أراد أن يعوض عما فاته فإنه يصلي بعد ارتفاع الشمس نفلاً مطلقاً، والجماعة فيها في المسجد سنة على الكفاية،
فلو تركها أهل مسجد أثموا، وتؤدى أيضاً فرادى أو جماعة في البيوت، وإذا كان عند المسلمين همة فالأفضل أن يختم فيها القرآن مرة في شهر رمضان وإلا روعي حال المصلين، فيصلي بهم الإمام بقدر طاقتهم، على أن تؤدى أركان الصلاة وواجباتها وسننها وآدابها كاملة، وعدد ركعاتها عشرون ركعة، تؤدى ركعتين ركعتين بعشر تسليمات ثم يوتر بعدها بجماعة وقراءة جهرية وقنوت سري قبل الركوع في الركعة الثالثة، ويراعي الإمام حال المأمومين فيجلس بعد كل أربع ركعات جلسة خفيفة يستريح بها الناس قليلاً، فمن أراد أن يشرب مثلاً يتاح له ذلك، وقد جرت عادة الناس في كثير من مساجد المسلمين أن يقرؤوا في كل جلسة استراحة بعد كل أربع ركعات سورة الإخلاص ثلاث مرات يقرؤها ثلاثة كل يقرؤها مرة واحدة وذلك يفعلونه تعويضاً عن إطالة القراءة في الصلاة، ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى. انظر: (اللباب 1/ 122)، و (الدار المختار، حاشية ابن عابدين 1/ 472 - 475). وقال المالكية: التراويح عشرون ركعة وهي سنة مؤكدة يسلم في نهاية كل ركعتين، ومن صلاها في بيته منفرداً فله أجره على ألا تعطل المساجد، ويندب لمن هم محل القدوة أن يصلوها في المساجد، وإذا كان عند القوم همة فإنه يندب للإمام أن يختم بهم القرآن ختمة فيها، ثم بعد العشرين ركعة تصلى الوتر. (انظر الشرح الصغير 1/ 404 - 405). وقال الشافعية: صلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات، ثم يصلى الوتر بعدها جماعة. (انظر المهذب 1/ 84). وقال الحنابلة: صلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات يوتر بعدها إن لم يكن له تهجد، ولا يكره الدعاء بعدها لقوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) (1) ومن كان له تهجد جاز له أن يصليه جماعة، لذلك فإن أهل الحرمين يتهجدون بعد النصف الأخير من رمضان جماعة ويقرؤون في تهجدهم كل يوم جزئين من القرآن فيختمون القرآن مرتين، مرة في التراويح ومرة في التهجد، ونقل الحنابلة عن أهل
مكة قديماً أنهم كانوا يطوفون بعد كل أربع ركعات حول الكعبة سبع مرات ولم يذكروا ذلك في معرض الإنكار، وقد نقل الحنابلة الإجماع على أن صلاة التراويح عشرون ركعة. (انظر المغني 2/ 165 - 170)، (الفقه الإسلامي 2/ 72). فها أنت ترى أن المذاهب الأربعة والمسلمين جميعاً مجمعون على أن صلاة التراويح عشرون ركعة وسيأتيك في جزء الصوم مزيد بيان.
الفقرة الثانية في صلاة العيدين عرض إجمالي
الفقرة الثانية في صلاة العيدين عرض إجمالي سمي العيد عيداً لأنه يعود ويتكرر كل عام، ولأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان، فهو جل جلاله يتفضل بأنواع الإحسان العائدة على عباده في كل عام، منها الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر، وعوده تعالى بالمغفرة على عباده، ومنها إتمام الحج بطواف الزيارة ولحوم الأضاحي، والمن على عباده بما شرع لهم بما يخرجون به من آثامهم كالحجاج ومن دعا له الحاج، وقد شرعت لعيد الفطر ولعيد الأضحى صلاة العيد، وقد انعقد على ذلك إجماع المسلمين، وقد جاء في صلاة الأضحى قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1)، والمشهور أن المراد بذلك صلاة عيد الأضحى وذبح الأضحية بعده، ونصوص السنة كثيرة في مشروعية صلاتي العيدين. وحكم هذه الصلاة عند الحنابلة: أنها فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقي، فإن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر قاتلهم الإمام، كالأذان. وقال الحنفية: إن صلاتي العيدين واجبة على من تجب عليه الجمعة بشرائطها المتقدمة سوى الخطبة، فإنها سنة بعدها. وقال المالكية والشافعية: إن كلاً من صلاتي العيد سنة مؤكدة لمن تجب عليه الجمعة، ولا يشترط عند الشافعية أن تتوافر في صلاة العيد شروط الجمعة لصحتها، (انظر صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 171). وقال الحنفية والمالكية: لا يرخص للشابات من النساء بالخروج إلى الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة، وقال الشافعية والحنابلة: لا بأس بحضور النساء مصلى العيد إذا كن غير متطيبات ولا لابسات ثياب الزينة والشهرة، ويعتزلن الرجال، وتحضر الحيض المصلى فيسمعن الذكر والخطبة ويعتزلن المكان الذي تصلي فيه النساء، واتفق الفقهاء على أن وقت صلاة العيد يبدأ بعد حوالي نصف ساعة من طلوع
الشمس، وينتهي وقتها قبيل الزوال، فوقتها وقت صلاة الضحى، ويسن تعجيل صلاة الأضحى في أول وقتها من أجل التفرغ لطبخ الأضاحي ويسن تأخير صلاة الفطر لأداء صدقة الفطر، ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام لا يقضيها عند الحنفية والمالكية، وإنما يصلي إن شاء تطوعاً دون أن ينوي صلاة العيد، قال الشافعية والحنابلة: من فاتته صلاة العيد مع الإمام سن له قضاؤها على صفتها وله قضاؤها متى شاء في العيد وما بعده والأفضل قضاؤها في بقية يومه. وتجوز صلاة العيد للمنفرد والعبد والمسافر والمرأة ومذهب الشافعية والحنابلة: أن من حضر والإمام يخطب صلى تحية المسجد ثم جلس فسمع الخطبة ثم صلى العيد متى شاء، ومن أدرك الإمام في التشهد جلس معه، فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين يأتي فيهما بالتكبير وعلى ذلك جماهير العلماء. والأصل في صلاة العيد أن تكون خارج البلد أو في مكان يخصص لذلك بحيث يسع أهل البلد، ولا تصلى عند الحنابلة في المسجد إلا من ضرورة أو من عذر وتكره في المسجد إذا لم يكن ضرورة أو عذر إلا في مكة، فالأفضل فعلها في المسجد الحرام، وقال الشافعية: صلاة العيد في المسجد أفضل إلا إذا كان مسجد البلد ضيقاً فالسنة أن تصلى في المصلى، وإذا خرج الناس إلى المصلى سن للإمام أن يستخلف في مسجد البلد من يصلي بالضعفاء. وعلى هذا فالأمر واسع أن يصليها الناس في مساجدهم أو في المصلى. وصلاة كل من العيدين ركعتان بالاتفاق، وهي تشتمل بعد الإحرام على تكبيرات ثلاث عند الحنفية في كل من الركعتين، وست في الأولى، وخمس في الثانية عند المالكية والحنابلة، وسبع في الأولى وخمس في الثانية عند الشافعية. والحنفية يكبرون في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع، ولا يؤذن لها ولا يقام، وإنما ينادى (الصلاة جامعة) وينوي من يصليها أنه يصلي صلاة العيد لله تعالى. والتكبيرات عند الحنفية تكون بعد دعاء الثناء في الركعة الأولى ويرفع يديه عند كل تكبيرة ويرسلهما فلا يضعهما تحت سرته ولا يسن عندهم ذكر بين تكبيرتين ولو قال بينهما
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فلا بأس، وتكبيرة الركوع في الركعة الثانية بعد تكبيرات الزوائد واجبة وبعد تكبيرات الزوائد في الركعة الأولى يتعوذ الإمام ويسمي سراً ثم يقرأ، والقراءة في الأولى والثانية تكون جهرية، وتكون بالفاتحة وشيء من القرآن معها، فإذا قدم التكبيرات في الثانية على القراءة جاز، وكذا إذا زاد على التكبيرات الثلاث في كل ركعة إلى ست عشرة تكبيرة، فإذا زاد على ذلك لا تبطل الصلاة ولا يلزم المؤتم أن يتابعه، وعلى هذا فالخلف بينهم وبين بقية المذاهب خلاف في الأفضلية فقط بالنسبة للتكبيرات ومحلها، وإذا نسي الإمام التكبيرات وركع قام فكبر ولا يعيد القراءة لكنه يعيد الركوع، ومن أدرك الإمام بعد التكبيرات كبر تكبيرة الإحرام ثم أتى بتكبيرات الزوائد في نفسه، وإن أدرك الإمام في الركوع فإن لم يخف فوت الركعة مع الإمام يكبر للافتتاح قائماً ويأتي بالزوائد ثم يتابع الإمام في الركوع وإذا خاف أن تفوته الركعة ركع وأتى بتكبيرات الزوائد في ركوعه عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا يكبر وتسقط عنه تكبيرات الزوائد. ومتابعة الإمام على مذهبه في تكبيرات الزوائد لا حرج فيها وإن خالفت مذهب المأموم، لكن المسبوق إذا قام لقضاء ما فاته يعمل بمذهبه. وتقدم صلاة العيد على صلاة الجنازة إذا اجتمعتا، وتقدم صلاة الجنازة على الخطبة. وقال المالكية: فإن أخر التكبير على القراءة صح وخالف المندوب ولا يتبع المؤتم الإمام في التأخير عن القراءة ولا في الزيادة على العدد المسنون عندهم وهو ست في الأولى وخمس في الثانية سوى تكبيرتي الإحرام في الأولى وفي القيام في الثانية ويندب عندهم موالاة التكبير إلا للإمام، فيندب له الانتظار بعد كل تكبيرة حتى يكبر المقتدون به ولا يرفع يديه إلا مع تكبيرة الإحرام ويكره أن يقول شيئاً بين التكبيرات، والتكبيرات عندهم سنة مؤكدة. وقال الشافعية: يرفع اليدين في جميع تكبيرات الزوائد ويقول بين كل تكبيرتين: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ويضع يمناه على يسراه بين التكبيرتين، وإذا ترك الإمام التكبير تابعه المأموم في تركه، وعند الحنابلة يرفع يديه مع كل تكبيرة ويرفع يديه في التكبير ويقول بين كل تكبيرتين زائدتين: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان
الله بكرة وأصيلاً وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً. وتسن عند الجمهور، وتندب عند المالكية خطبتان للعيد كخطبتي الجمعة في الأركان والشروط والسنن والمكروهات بعد صلاة العيد بلا خلاف بين المسلمين في أنها بعد الصلاة فيحسن للخطيب أن ينبه المسلمين في الجمعة التي تسبق عيد الفطر على أحكام زكاة الفطر وسنن العيد، وفي خطبة الجمعة التي تسبق عيد الأضحى ينبههم على أحكام الأضحية وتكبيرات التشريق ووقوف الناس بعرفة ويعلم الحجاج أحكام الحج، فإن لم يفعل في الجمعة فكر بما يخص كلاً من العيدين في خطبة العيد، وإذا صعد الخطيب على المنبر في خطبة العيد لا يجلس عند الحنفية ويجلس عند الحنابلة والمالكية والشافعية، ويبدأ الخطيب خطبته بالتكبير كما يكبر في أثنائها من غير تحديد عند المالكية ويكبر عند الجمهور في الخطبة الأولى تسع تكبيرات متوالية ويكبر في الثانية بسبع متوالية ويستحب عند الحنفية أن يكبر الإمام قبل نزوله من المنبر أربع عشرة مرة وتختلف خطبة العيد عن خطبة الجمعة في أن خطبة العيد تكون بعد الصلاة، ومنها أن خطبة العيد تبدأ بالتكبير بينما خطبة الجمعة تبدأ بالحمد لله، ومنها أن خطبة العيدين سنة بينما خطبة الجمعة ركن، ويسن عند الحنفية والحنابلة والمالكية أن يكبر المأموم سراً عند تكبير الخطيب بينما لا يصح عند الجمهور أي كلام أثناء خطبة الجمعة ولو كان ذكراً، وإذا أحدث الخطيب عند المالكية أثناء الخطبة تابع خطبته بخلاف خطبة الجمعة فإنه يستخلف غيره، وعند الشافية لا يشترط في خطبة العيد ما يشترط في خطبة الجمعة من قيام وطهارة وجلوس بين الخطبتين وإنما يسن ذلك فقط. واتفق الفقهاء على مشروعية التكبير في العيدين في الغدو إلى الصلاة، وقال الحنفية: يندب التكبير سراً في عيد الفطر في الخروج إلى المصلى وقال الصاحبان يكبر جهراً ويقطع التكبير في رواية إذا قيم إلى الصلاة، واتفق فقهاء الحنفية على التكبير جهراً في عيد الأضحى في الطريق، وقال الجمهور يكبر في المنازل والمساجد والأسواق والطرق عند الغدو إلى صلاتي العيدين جهراً إلى أن تبدأ الصلاة، وعند الحنابلة هو في الفطر آكد من تكبير الأضحى لقوله تعالى في سياق الكلام عن رمضان: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)، ويندب التكبير المطلق ما أمكن عند الشافعية من غروب الشمس ليلتي العيدين لا ما قبلها. وأما التكبير في أدبار الصلوات أيام الحج في عيد الأضحى وهي ما يسمى بتكبيرات التشريق فإنها تجب على الرجال والنساء مرة في الأصح وإن زاد عليها فلا حرج في القول الأصح عقب كل فرض عيني بلا فصل يمنع البناء على الصلاة، ويؤدى بجماعة أو منفرداً ولو قضاء، ويكون التكبير للرجال جهراً وتخافت المرأة في التكبير، ومدته عند أبي حنيفة من فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الأول من العيد، فالتكبير عنده يكون في ثمان صلوات. وعند الصاحبين يمتد إلى آخر أيام التشريق أي إلى صلاة العصر في رابع أيام العيد، فالتكبير عندهما يكون في ثلاث وعشرين صلاة وهو واجب على كل مصل، ولو تركه الإمام كبر المقتدي. وعند المالكية يندب للجماعة والفرد التكبير إثر كل صلاة من الصلوات المكتوبات من ظهر يوم النحر إلى صبح اليوم الرابع، وإن نسي التكبير كبر إذا تذكر إن قرب الزمن. والشافعية كالمالكية في عدد الصلوات التي يكبر فيها، ولهم قول كقول الصاحبين إلا أن الحاج عندهم يشتغل بالتلبية ليلة اليوم الأول من عيد الأضحى، والأظهر عند الشافعية أنه يكبر بعد كل صلاة في هذه الأوقات فريضة أو غير فريضة، ولا يكبر عند الحنابلة من صلى وحده، ويأتي الإمام عندهم بالتكبير مستقبلاً الناس ويكبر غير الإمام مستقبلاً القبلة ويجزئه التكبير مرة واحدة إن كرره فحسن، ويكبر عندهم عقب صلاة العيد ويستحب التكبير عندهم في أيام العشر من ذي الحجة لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (2) كما يستحب في أيام التشريق لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (3). وصيغة التكبير عند الحنفية والحنابلة شفعاً في التكبير وهي: الله أكبر والله أكبر لا إله
إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ويستحب عند الشافعية بعد تكرار هذه الصيغة ثلاثاً أن يقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ويسن أن يزيد على هذا: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر، ويختمها بقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى أصحاب محمد وعلى أزواج محمد وسلم تسليماً كثيراً، ويقتصر في تكبيرات التشريق بعد الصلوات على الصيغة الأولى أو الثانية دون هذه الزيادات. ويستحب في الأيام العشر من ذي الحجة أن يكثر من الاجتهاد في عمل الخير: من ذكر الله تعالى والصدقة وسائر أعمال البر والصيام إلا عيد الأضحى فإنه لا يصومه، ويتأكد صوم اليوم التاسع لغير الحاج، ويندب الامتناع عن تقليم الأظفار وحلق الرأس في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، ويندب إحياء ليلتي العيدين بطاعة الله تعالى من ذكر وصلاة وقراءة قرآن وصلاة العشاء والصبح جماعة. قال الحنفية: ويندب إحياء ليالي العيدين وليالي العشر الأخيرة من رمضان لإحياء ليلة القدر، وليالي العشر من ذي الحجة وليلة النصف من شعبان ويكثر من الاستغفار في هذه الليالي لكنهم قالوا: يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي في المساجد وغيرها، وقد تساهل بعض العلماء في الاجتماع على مثل هذا لضعف همة الناس إذا انفردوا، والأصل أن ما كان من اجتماع مباح في غير هذه الأيام ألا يدخل في الكراهة. ويستحب للعيدين الغسل والتطيب والاستياك ولبس الرجال أحسن الثياب، ويدخل وقت الغسل عند الشافعية بنصف الليل وعند المالكية بالسدس الأخير من الليل، ويندب كونه بعد صلاة الصبح عند الحنفية والحنابلة، ويندب إزالة الظفر وما يتنافى مع حسن الهيئة وطيب الرائحة ويتأكد هذا في حق الإمام، وإذا استطاع الإنسان أن يذهب إلى الصلاة ماشياً مع التكبير والسكينة والوقار فإن ذلك أفضل، والإمام يتحين الوصول وقت الصلاة. وقال الحنفية لا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين والمشي أفضل في حق من يقدر عليه
ويندب الذهاب إلى المصلى من طريق، والرجوع من أخرى، ويندب أن يأكل في عيد الفطر قبل الصلاة، ويندب أن يكون المأكول تمرات وتراً، ويؤخر في الأضحى الأكل حتى يرجع من الصلاة، ويؤدي صدقة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة ولا بأس بإهدائها قبل العيد بأيام، وتندب التوسعة على الأهل وكثرة الصدقة بحسب الطاقة في العيدين وإظهار البشاشة في وجه من يلقاه من المؤمنين، وتندب زيارة الأرحام والأحباب والأصحاب وأهل الفضل والعلم، والأفضل عند الحنفية أن يصلي الصبح في مسجده والأفضل عند الجمهور أن يصلي الصبح في المصلى إن أراد الصلاة فيه، والجمهور على أنه لا يصلي قبل صلاة العيد ولا بعدها، ولا يرى الشافعية حرجاً في الصلاة بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام كما أنه لا حرج في الصلاة بعدها. والتنفل عند الحنفية والمالكية والحنابلة مكروه قبل صلاة العيد أو بعدها، إلا أن الحنفية لم يكرهوا التنفل بعدها في البيت. ويظهر الخلاف في تحية المسجد، فالشافعية يجيزونها قبل الصلاة، كما أنهم يجيزونها لمن دخل والخطيب يخطب إذا كانت صلاة العيد في المسجد أما في الصحراء فلا مسجد أصلاً. انظر: (الدر المختار، حاشية ابن عابدين 1/ 555 - 565)، (الشرح الصغير 1/ 523 - 531)، (المهذب 1/ 118 - 122)، (المغني 1/ 367 - 400)، (الفقه الإسلامي 2/ 362 فما بعدها). وإلى نصوص هذه الفقرة:
نصوص في صلاتي العيدين
نصوص في صلاتي العيدين - تشريع يومي العيد وفضلهما: 2051 - * روى أبو داود عن- أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، قال: "ما هذان اليومان؟ " قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر". قال في (عون المعبود 1/ 440) بعد أن بين أن اليومين المنهي عنهما يوما النيروز والمهرجان: ونهى عن اللعب والسرور فيهما- أي في النيروز والمهرجان- وفيه نهاية من اللطف وأمر بالعبادة لأن السرور الحقيقي فيها قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} قال المظهر فيه دليل على أن تعظيم النيروز والمهرجان وغيرهما- أي من أعياد الكفار- منهي عنه قال أبو حفص الكبير الحنفي من أهدى في النيروز بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالى وأحبط أعماله وقال القاضي أبو المحاسن الحسن بن منصور الحنفي: من اشترى فيه شيئاً لم يكن يشتريه في غيره أو أهدى فيه هدية إلى غيره فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر وإن أراد بالشراء التنعم والتنزه وبالإهداء التحاب جرياً على العادة لم يكن كفراً لكنه مكروه كراهة التشبه بالكفرة حينئذ فيحترز عنه. قاله علي القاري ا. هـ. 2052 - * روى الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة". قال الترمذي: قال أحمد: معنى هذا الحديث: لا ينقصان معاً في سنة واحدة، أن
نقص أحدهما تم الآخر، قال: وقال إسحاق: معناه: إن يكن تسعاً وعشرين فهو تمام غير نقصان. أقول: قوله عليه السلام: "شهرا عيد لا ينقصان" يحتمل أكثر من فهم فهو يحتمل أنه إذا نقص أحدهما عن الثلاثين كان الثاني تسعة وعشرين، ولا يجتمع أن يكون كل منهما تسعة وعشرين ويحتمل أن يراد بالأخبار النهي عن التعبير بكلمة النقص عن هذين الشهرين، ويحتمل أن يكون أجر كل من الشهرين كاملاً ولو كان الشهر أنقص من ثلاثين، فإذا ثبت من خلال الاستقراء الوجه الأول فلا يعدل عنه إلى غيره وإلا عدل عنه إلى غيره مما يحتمله النص كالوجهين الأخيرين الذين ذكرناهما. قال ابن الأثير: (شهرا عيد لا ينقصان) قال الخطابي: اختلف الناس في معنى قوله شهرا عيد لا ينقصان، فقال بعضهم: معناه: أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم وإن وُجدا ناقصين في عدد الحساب، وقال بعضهم: معناه: أنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعين في النقصان، إن كان أحدهما تسعة وعشرين كان الآخر ثلاثين. قال الخطابي: قلت: وهذا القول لا يعتمد عليه، لأن الواقع يخالفه، إلا أن يحمل الأمر على الغالب والأكثر. وقال بعضهم: إنما أراد بهذا تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة، فإنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. وقال في (الفيض 4/ 165): يعني لا يكاد يتفق نقصانهما جميعاً في سنة واحدة غالباً وغلا فلو حمل الكلام على عمومه اختل ضرورة لأن اجتماعهما ناقصين في سنة واحدة قد وجد بل قال الطحاوي: وجدناهما ينقصان معاً في أعوام وقيل لا ينقصان في ثواب العمل فيهما وإنما خصهما لتعلق حكم الصوم والحج بهما فكل ما ورد من الفضائل والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعاً وعشرين وسواء صادف الوقوف التاسع أو غيره قال النووي: وهذا هو الصواب وقال الطيبي: المراد رفع الحرج عما يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعقدين وجواز الخطأ فيهما ا. هـ. 2053 - * روى أبو داود عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
أعظم الأيام عند الله عز وجل يوم النحر، ثم يوم القر"- قال ثور: وهو اليوم الثاني- قال: وقرِّب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس، أو ست، فطفقن يزدلفن إليه، بأيتهن يبدأ؟ قال: فلما وجبت جنوبها- قال: فتكلم بكلمة خفيفة لم أفهمها، فقلت: ما قال؟ قال: "من شاء اقتطع". - الاغتسال والتجمل والتزين يوم العيد: 2054 - * روى مالك عن مالك بن أنس رحمه الله [عن نافع]: "أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى". 2055 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس يوم العيد بردة حمراء. - من آداب صلاة يوم العيد: 2056 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً. في رواية (1) الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على تمرات يوم الفطر، قبل أن يخرج إلى المصلى.
2057 - * روى الترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يَطعم يوم الأضحى حتى يصلي". 2058 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً، وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج". 2059 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره". 2060 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق". أقول: إن في مخالفة طريق الذهاب والإياب حكماً كثيرة في يوم العيد منها كثرة الخطا وشهادة الأرض ورؤية أكبر قدر من الناس ومنها الجانب الأمني وخاصة لمن يمكن أن يتعرضوا لخطر لو أنهم عادوا من الطريق نفسه، والأصل في المسلم في حالة الخوف أن يكون حذراً قال تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1). وهناك جانب آخر تظهر حكمته في عصرنا حيث السيارات والباصات وهو ألا يصطدم الذاهب بالآيب.
- وقت صلاة العيدين
- وقت صلاة العيدين: 2061 - * روى أبو داود عن عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: خرج مع الناس في يوم فطر- أو أضحى- فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح". أقول: الأفضل في سنة الضحى أن تكون بعد ارتفاع الشمس وظهور تأثير حرها على الأرض في أوقات عادية لا غيم فيها ولا برد، والأصل في صلاة العيد أن تكون قبل ذلك ليتفرغ الناس لشؤون العيد ولكن الأفضل أن يبكر في صلاة الأضحى فتقع بعد انتهاء الوقت المنهي عنه وأن تؤخر صلاة الفطر يوم العيد قليلاً من أجل الأضحية في الأولى ومن أجل صدقة الفطر في الثانية. قال التهانوي في (الإعلاء 8/ 99 - 100): دل الحديث على أن صلاة العيد ينبغي أن تصلى قبل صلاة الضحى، ففيه بيان الوقت المستحب حيث أنكر الصحابي، ولم يبطل الصلاة، وليس فيه بيان أوله وآخره. وفي فتح الباري (2/ 380): قال ابن بطال: أجمع الفقهاء على أن العيد لا تصلى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها، وإنما تجوز عند جواز النافلة ويعكر عليه إطلاق من أطلق أن أول وقتها عند طلوع الشمس. واختلفوا هل يمتد وقتها إلى الزوال أو لا؟ اهـ. قلت: مراد من أطلق هو مراد من قيد، فلا تعارض. وفي الدر المختار: (وقتها من الارتفاع) قدر رمح، فلا تصح قبله، بل تكون نفلاً محرماً (إلى الزوال) بإسقاط الغاية اهـ. وفي رد المحتار: (قدر رمح) هو اثنا عشر شبراً والمراد به حل النافلة (1/ 870). وهذا التحديد قالوا به لأنه وقت جواز النافلة، والعيد منها، فاحفظه. ا. هـ.
- صلاة العيد من غير أذان ولا إقامة
- صلاة العيد من غير أذان ولا إقامة 2062 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين، غير مرة ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة". 2063 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: "لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى". قال ابن جريج: ثم سألته- يعني: عطاء- بعد حين عن ذلك؟ فأخبرني قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعد ما يخرج، ولا إقامة ولا نداء ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة. وأخرجه النسائي (1) عن جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة. وأخرجه أبو داود (2) عن ابن عباس وحده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة، وأن أبا بكر، وعمر أو عثمان، شك أحد رواته. أقول: اتفق العلماء على أنه لا أذان ولا إقامة في صلاة العيدين، ولكن استحب بعضهم أن ينبه المصلون ليقوموا إلى الصلاة وليشعروا أن الإمام قد تهيأ لافتتاحها بأن يقال: الصلاة جامعة.
- عدد ركعات صلاة العيد
- عدد ركعات صلاة العيد: 2064 - * روى ابن خزيمة عن عمر: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم وقد خاب من افترى". - تكبيرات صلاة العيد: 2065 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يكبِّر في الفطر والأضحى، في الأولى: سبع تكبيرات، وفي الثانية: خمس تكبيرات". زاد في رواية (1) سوى تكبيرتي الركوع. 2066 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر: سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما". وفي أخرى (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبِّر في الفطر في الأولى سبعاً، ثم يقرأ، ثم يكبِّرُ، ثم يقوم فيكبِّر أربعاً، ثم يقرأ، ثم يركع. 2067 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبَّر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الأخرى خمس تكبيرات قبل القراءة.
2068 - * روى الترمذي عن كثير بن عبد الله رحمه الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة. أقول: الخلاف بين الفقهاء في تكبيرات الزوائد خلاف في الأفضلية فقط، ولكل دليله، والأمر واسع، فالحنفية يرون أنه في الركعة الأولى يكبر ثلاثاً بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة، ويكبر في الركعة الثانية ثلاثاً قبل تكبيرة الركوع التي هي واجبة عندهم في صلاة العيد بعد القراءة وبعض المذاهب يكبر سبعاً في الأولى عدا تكبيرة الإحرام قبل القراءة وستاً في الثانية عدا تكبيرة القيام من السجود وبعضهم يكبر ستاً في الأولى فيكون المجموع مع تكبيرة الإحرام سبعاً قبل القراءة ويكبر خمساً قبل القراءة في الركعة الثانية فيكون المجموع مع تكبيرة الرفع من السجود ستاً والأمر كما قلنا واسع لأن الخلاف في الأفضلية والأفضل أن يتابع المؤتم إمامه لو خالفه في المذهب إلا إذا كان مسبوقاً، فله أن يلتزم بمذهبه فيما يقضي. قال النووي (6/ 179): قال القاضي: التكبير في العيدين أربعة مواطن في السعي إلى الصلاة إلى حين يخرج الإمام، والتكبير في الصلاة وفي الخطبة وبعد الصلاة، أما الأول فاختلفوا فيه فاستحبه جماعة من الصحابة والسلف فكانوا يكبرون إذا خرجوا حتى يبلغوا المصلى يرفعون أصواتهم وقال الأوزاعي ومالك والشافعي: وزاد استحبابه ليلة العيدين وقال أبو حنيفة يكبر في الخروج للأضحى دون الفطر وخالفه أصحابه فقالوا بقول الجمهور وأما التكبير بتكبير الإمام في الخطبة فمالك يراه، وغيره يأباه، وأما التكبير المشروع في أول صلاة العيد فقال الشافعي: هو سبع في الأولى غير تكبيرة الإحرام وخمس في الثانية غير تكبيرة القيام وقال مالك وأحمد وأبو ثور: كذلك لكن سبع في الأولى إحداهن تكبيرة الإحرام وقال الثوري وأبو حنيفة: خمس في الأولى وأربع في الثانية بتكبيرة الإحرام والقيام وجمهور العلماء يرى هذه التكبيرات متوالية متصلة وقال عطاء والشافعي وأحمد: يستحب بين كل تكبيرتين ذكر الله تعالى وروي هذا أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه وأما التكبير بعد الصلاة في عيد الأضحى
- القراءة في صلاة العيد
فاختلف علماء السلف ومن بعدهم فيه على نحو عشرة مذاهب. ا. هـ وسبق أن ذكرنا شيئاً منها. 2069 - * روى الطبراني عن كردوس قال: "كان عبد الله بن مسعود يكبِّر في الأضحى والفطر تسعاً تسعاً يبدأ فيكبر أربعاً ثم يقرأ ثم يكبر واحدة فيركع بها ثم يقوم في الركعة الآخرة فيبدأ فيقرأ ثم يكبر أربعاً يركع بإحداهن. - القراءة في صلاة العيد: 2070 - * روى مسلم عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود: "أن مر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ قال: كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال عمر: صدقت". وفي أخرى (1) "قال أبو واقد الليثي: قد سألني مر بن الخطاب عما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؟ فلت: بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} و {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ". وأخرج الموطأ (2) وأبو داود (3) والترمذي (4) والنسائي (5) الرواية الأولى. أقول: ترد سورة (ق) في ترتيب القرآن قبل سورة القمر، والرواية الأولى تذكر (ق) قبل القمر في القراءة ولا تعارض بينها وبين الرواية التي تذكر القمر قبل (ق) لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب وبعد استقرار ترتيب المصحف على ما هو عليه وهو
- الخطبة وبعض آدابها وموقعها
ترتيب توقيفي فإنه يسن أن يقرأ القرآن في الصلاة مرتباً فلا يقرأ بسورة أو بآية متأخرة ثم يقرأ بسورة سابقة، وما ورد على خلاف ذلك محمول على أنه كان قبل استقرار القرآن على الترتيب الحالي الذي كان على آخر عرضة للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل كما هو في القول الراجح لدى العلماء. 2071 - * روى الجماعة إلا البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما. - الخطبة وبعض آدابها وموقعها: 2072 - * روى الشيخان عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم أن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة". 2073 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يبدؤون بالصلاة قبل الخطبة في العيد". 2074 - * روى أحمد عن وهب بن كيسان قال: "سمعت عبد الله بن الزبير يوم العيد
يقول: حين صلى قبل الخُطبة ثم قام يخطب الناس أيها الناس كل سنة الله وسنة رسوله". أقول: أي كل من الصلاة في محلها والخطبة بعدها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2075 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة". في رواية (1) "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة، قلت لعطاء: أترى حقاً على الإمام أن يأتي النساء، فيذكرهن؟ قال: إن ذلك لحق عليهم، وما لهم أن لا يفعلوا؟ ". وفي أخرى (2) قال: "شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم"، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ فقال طلأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير". قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن. أقول: من هذه الحادثة أخذ بعض العلماء أنه يستحب للإمام أن يذكر من يحتمل أنه لم
يسمع خطبته بأن يمر على أمثال هؤلاء ويذكرهم. 2076 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة، ثم يخطب بعد، فنزل صلى الله عليه وسلم، وكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقرأ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ، وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (1). حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة، لم يجبه غيرها منهن: نعم يا رسول الله- لا يدري الحسن [بن مسلم] من هي؟ قال: "فتصدقن" فبسط بلال ثوبه، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. في رواية (2) فبسط بلال ثوبه، وقال: هلم فدى لكن أبي وأمي، فيلقين الفتخ والخواتيم. قال: عبد الرازق: الفتخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية. ا. هـ. وهي تستعمل في أصابع الأيدي والأرجل بدون فص. وفي أخرى (3) أنه قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وقال عطاء: أشهد على ابن عباس- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء، فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، والشيء، وبلال يأخذ في طرف ثوبه. وفي أخرى (4): أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير- أول ما بويع له-: إنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر، فلا تؤذن لها، قال: فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه، وأرسل
إليه مع ذلك: إنما الخطبة بعد الصلاة، وإن ذلك قد كان يفعل، قال: فصلى ابن الزبير قبل الخطبة. ولأبي داود (1) قال: "فجعل بلال يجعله في كسائه، قال: فقسمه على فقراء المسلمين". وله في أخرى (2) عن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس قال له رجل: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلى، ثم خطب- ولم يذكر أذاناً ولا إقامة- قال: ثم أمر بالصدقة، فجعل النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن، فأمر بلالاً فأتاهن. ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم". وأخرج النسائي (3) رواية أبي داود الآخرة إلى قوله: "ثم خطب، وقال: فأتى النساء فوعظهن وذكرهن، وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال". أقول: يستفاد من هذه الحادثة الاستفادة من المناسبات التي يجتمع فيها الناس بأن يحض الناس فيها على ما فيه فائدة للفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات وأن يتولى ذلك الخطيب نفسه. 2077 - * روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس- والناس جلوس على صفوفهم- فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف، وقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على
ذلك، حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في أضحى- أو فطر- فلما أتينا المصلى إذا منبر قد بناه كثير بن الصلت، فإذا هو يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني وارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: أبا سعيد، ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة. في رواية (1) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم، فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان يقول: تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا، فكان أكثر من يتصدق النساء، ثم انصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده، كأنه يجرني نحو المنبر، وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ قال: لا، يا أبا سعيد، قد ترك ما تعلم، قلت: كلا، والذي نفسي بيده، لا تأتون بخير مما أعلم- ثلاث مرات- ثم انصرف. وفي أخرى (2) قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى- أو فطر- إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: "يا معشر النساء، تصدقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار"، فقلن: لم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"، قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة منكن مثل نصف شهادة الرجل؟ " قلن: بلى؟ قال: "فذلك من نقصان عقلها" قال: "أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ " قلن بلى، قال: "وذلك من نقصان دينها".
- حكم الاستماع لخطبة العيد
وأخرج النسائي (1) رواية مسلم إلى قوله: أكثر من يتصدق النساء. أقول: إن إنكار أبي سعيد على مروان الخطبة قبل الصلاة مع وجود النصوص التي تبين فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة قبل الخطبة دليل على بدعية ما فعله مروان، واقتطاع البعوث وإرسالها يوم العيد وهو اليوم الذي يجتمع فيه أكبر قدر من الناس يفيد أن من السنة الاستفادة من الاجتماع يوم العيد وغيره مما يجتمع له المسلمون في إرسال بعوث الجهاد، ومن الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، فحبذا لو أحييت هذه السنة بأن انتدب الناس للخروج جماعات لزيارة البيوت وغيرها والقرى والأرياف والخيام للدعوة إلى الله، وقد دأب بعض العاملين للإسلام في عصرنا على إحياء هذه السنة فجزاهم الله خيراً وسدد خطاهم ورزقنا وإياهم حسن النية. - حكم الاستماع لخطبة العيد: 2078 - * روى أبو داود عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد يوم الفطر، فكبَّر تكبير العيد، فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب". في رواية (2) النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد، فقال: "من أحب أن ينصرف فلينصرف، ومن أحب أن يقيم للخطبة فليقم". أقول: ولهذا النص وما يشهد له اعتبر الفقهاء أن سماع الخطبة في العيدين مستحب وليس من باب الفرائض والواجبات إلا أنني أريد أن أنبه إلى أن كثيرين من الناس بدلاً من أن يحرصوا على فعل السنة والمستحب والأدب وما يدخل في المروءات طلباً للكمالات،
- إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات الرجال
رق دينهم فإذا ما سمعوا أن هذا سنة أو مستحب أو مروءة لا يبالون به، أما أصحاب الأعذار والمبتدئون فهؤلاء لهم حكمهم. - إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات الرجال: 2079 - * روى الشيخان عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أُمِرْنا- في رواية أمَرنا- تعني: النبي صلى الله عليه وسلم- أن نخرج في العيدين: العواتق وذوات الخدور، وأمر الحُيَّضَ أن يعتزلن مصلى المسلمين. وفي أخرى (1) أمرنا أن نخرج، ونُخرج الحُيَّضَ العواتق وذوات الخدور قال بن عون: أو العواتق ذوات الخدور- فأما الحُيَّض فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزلن مصلاهم. قال البخاري عن ابن سيرين: قالت أم عطية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (2) قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نُخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحُيَّض فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وفي أخرى (3): كنا نؤمر بالخروج في العيدين، والمخبأة، والبكر قالت: والحُيَّض يخرجن، فيكن خلف الناس، يكبِّرن مع الناس. وفي أخرى (4) عن حفصة بنت سيرين قالت: كنا نمنع جوارينا- وفي رواية عواتقنا-
أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة، فنزلت قصر بني خلف، فأتيتها فحدَّثت أن زوج أختها غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، فكانت أختها معه في ست غزوات، قالت: فكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى، فقالت: يا رسول الله، على إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج- تعني في العيد-؟ قال: "لتلبسها صاحبتها من جلبابها، ويشهدن الخير ودعوة المؤمنين". قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها، فسألتها: أسمعت في كذا [وكذا]؟ قالت: نعم بأبي- وقلما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قالت: بأبي- قال: "لتخرج العواتق وذوات الخدور" أو قال: "العواتق ذوات الخدور"، شك أيوب- والحُيَّضُ، فتعتزل الحائض المصلى، ولتشهد الخير ودعوة المؤمنين، قالت: فقلت لها: الحُيَّضُ؟ قالت: نعم، أليس الحائض تشهد عرفات، وتشهد كذا وتشهد كذا؟. وفي أخرى (1) قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض، فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: "لتلبسها أختها من جلبابها". في رواية الترمذي (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج الأبكار، والعواتق، وذوات الخدور، والحيَّض في العيدين، فأما الحُيَّضُ فيعتزلن المصلى، ويشهدن دعوة المسلمين، قالت إحداهن: يا رسول الله إن لم يكن لها جلباب؟ قال: "فلتعرها أختها من جلابيبها". ولأبي داود (3) قالت: والحيض يكن خلف الناس، فيكبرن مع الناس.
- الخطبة على الراحلة واتخاذ عصا
وله في أخرى (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، فأرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم علينا، فرددنا عليه السلام، ثم قال: "أنا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن، وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحُيَّض والعُتَّق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز". أقول: يشهد النساء صلاة العيد إذا كانت في المصلى بدليل أن الحائض لا يحل لها أن تدخل المسجد والمرأة تكبر يوم العيد سراً، وإذا خرجن إلى المصلى لا يخرجن بزينة ولا طيب ولا أبهة ولا تكشف، ومع ذلك فإن بعض الفقهاء تحرجوا من خروج المرأة يوم العيد لما رأوا في بعض الأزمنة والأمكنة من كثرة الفساد، والأصل أن تخرج المرأة إلى المصلى، وأهل الفتوى إذا وجدوا وضعاً استثنائياً أو إذا رأت المرأة نفسها فساد نية أو احتمال فتنة، فلا يعتبر عدم الخروج في هذه الحالات مخالفة للسنة، وقد رأينا أن أكثر الفقهاء على أن صلاة العيد سنة في حق من تجب عليه الجمعة، والمرأة في الأصل لا تجب عليها الجمعة، فخروجها إذا لم يكن ثمة فساد يخشى منه هو من باب المندوبات أو الآداب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فكيف إذا كان هناك مفسدة، فلا شك أن تعطيل الآداب والمندوبات أولى. - الخطبة على الراحلة واتخاذ عصاً: 2080 - * روى النسائي عن أبي كاهل الأحمسي رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقته وحبشي يأخذ بخطام الناقة. أقول: والظاهر أن الخطبة على الراحلة يوم العيد كانت في الحج والله أعلم. 2081 - * روى أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد على راحلته.
- نصب الحربة للإمام يوم العيد
2082 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عيد على راحلته. وقال- أي بن خزيمة-: قال أبو بكر: هذه اللفظة تحتمل معنيين، أحدهما أنه خطب قائماً لا جالساً، والثاني أنه خطب على الأرض. كإنكار أبي سعيد على مروان لما أخرج المنبر، فقال: لم يكن يخرج المنبر. أقول: إذا كانت صلاة العيد في المسجد فالأصل أن يخطب على المنبر أما إذا كانت الصلاة في المصلى، فإن كان في المصلى منبر خطب عليه الخطيب وإن لم يكن فيه منبر فلا يتكلف إخراج منبر له وإنما يخطب الخطيب واقفاً على الأرض، وهناك حالة يحسن أن تكون خطبة العيد على مكان مرتفع لكثرة الناس وحتى يرى الناس خطيبهم، وعلى هذا تحمل خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم على الناقة على أحد الوجوه التي حملت عليها هذه الروايات والظاهر أن ذلك كان في الحج. 2083 - * روى أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوول يوم العيد قوساً يخطب عليه. - نصب الحربة للإمام يوم العيد: 2084 - * روى النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج العنزة يوم الفطر ويوم الأضحى، يركزها فيصلي إليها. - حكم التنفل قبل وبعد صلاة العيد: 2085 - * روى الجماعة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
يوم عيد، فصلى ركعتين، لم يصلِّ قبلها ولا بعدها ثم أتى النساء وبلال معه، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تصدَّق بخرصها وسخابها. في رواية (1) خرج في يوم أضحى، أو فطر. وفي أخرى (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين. الحديث. 2086 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم أن عبد الله بن عمر لم يكن يصلي يوم الفطر قبل الصلاة ولا بعدها. وعند الترمذي: أن ابن عمر خرج يوم عيد، ولم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. 2087 - * روى أبو يعلى عن أيوب قال: رأيت أنس بن مالك والحسن يصليان يوم
العيد قبل أن يخرج الإمام قال: ورأيت محمد بن سيرين جاء فجلس ولم يصل. أقول: الخلاف في الصلاة قبل العيدين وبعدها موجود منذ زمن الصحابة، وقد استمر الخلاف في هذا الموضوع، فالمذاهب الثلاثة غير الشافعية لا يرون الصلاة قبل صلاة العيدين، والشافعية يرون جوازها قبل وبعد، والحنفية أجازوا التنفل بعدها في البيت، والأمر واسع، وترجيح ما عليه الجمهور أولى. 2088 - * روى الطبراني عن أبي مسعود ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد. 2089 - * روى الطبراني عن ابن سيرين أن ابن مسعود وحذيفة كانا ينهيان الناس أو قال: يجلسان من يريانه يصلي قبل خروج الإمام. 2090 - * روى الطبراني عن ابن سيرين وقتادة أن ابن مسعود كان يصلي بعدها أربع ركعات أو ثمان وكان لا يصلي قبلها. أقول: رأينا مذهب الحنفية الذي هو امتداد لاجتهادات ابن مسعود أن الحنفية يجيزون التنفل في البيوت بعد صلاة العيد ويشهد لذلك هذا النص: 2091 - * روى ابن خزيمة عن أبي سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم العيد حتى يطعم، فإذا خرج صلى للناس ركعتين،
- اجتماع العيد والجمعة
فإذا رجع صلى في بيته ركعتين، وكان لا يصلي قبل الصلاة شيئاً. - اجتماع العيد والجمعة: 2092 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون". 2093 - * روى أبو داود عن عطاء بن أبي رباح قال: "صلى بنا ابن الزبير يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحداناً، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال: أصاب السُّنة". وفي رواية (1) قال: "اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعاً، فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر". وفي رواية النسائي (2) قال: "اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب، فأطال الخطبة، ثم نزل فصلى، ولم يصل الناس يومئذ الجمعة، فذكر ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة". 2094 - * روى ابن خزيمة عن وهب بن كيسان، قال: شهدت ابن الزبير بمكة وهو أمير فوافق يوم فطر- أو أضحى- يوم الجمعة، فأخر الخروج حتى ارتفع النهار، فخرج وصعد المنبر، فخطب وأطال، ثم صلى ركعتين ولم يصل الجمعة. فعاب عليه ناس من بني
- قضاء صلاة العيد وصلاتها في اليوم الثاني لعذر.
أمية بن عبد شمس، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: أصاب ابن الزبير السنة وبلغ ابن الزبير، فقال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا. هذا لفظ حديث أحمد بن عبدة. وقال- أي بن خزيمة-: قول ابن عباس: أصاب ابن الزبير السنة، يحتمل أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجائز أن يكون أراد سنة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي. ولا أخال أنه أراد به أصاب السنة في تقديمه الخطبة قبل صلاة العيد، لأن هذا الفعل خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وإنما أراد تركه أن يجمع بهم بعد ما قد صلى بهم صلاة العيد فقط، دون تقديم الخطبة قبل صلاة العيد. 2095 - * روى مالك عن أبي عبيد سعد بن عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عثمان وكان يوم جمعة فقال لأهل العوالي: من أحب أن ينتظر الجمعة فليفعل ومن أحب أن يرجع إلى أهله فقد أذنا له. أقول: رخص الحنابلة أن تصلى الجمعة قبل الزوال كما رخصوا إذا اجتمعت جمعة وعيد للعامة ألا يصلوا الجمعة وأوجبوها على الإمام ودليلهم ما ورد في بعض هذه النصوص ولم يوافقهم جماهير العلماء على ذلك وحملوا الروايات التي ترخص بترك الجمعة لمن صلى العيد على أنه ترخيص لمن يحضر العيد من مكان بعيد فهذا في الأصل لا تجب عليه الجمعة أصلاً كما أنهم لم يروا أن النصوص الواردة في تقديم الجمعة على الزوال قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، وعلى كل فالقضيتان خلافيتان منذ زمن الصحابة واستمر الخلاف فيهما بين أئمة المذاهب، ورأي الجمهور أحوط والأمر واسع، وقد تعرضنا لتفصيل هذا في مبحث الجمعة السابق. - قضاء صلاة العيد وصلاتها في اليوم الثاني لعذر. 2096 - * روى أبو داود عن أبي عمير بن أنس عن عمومة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن
- الصلاة لمن فاته العيد
ركباً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم". أقول: الجمهور على أنه إذا تأخر وصول الشهود على هلال شوال، إلى ما بعد الزوال في الأول من شوال فإن صلاة عيد الفطر تؤدى في اليوم التالي وكذلك إذا غم في مكان وثبت في مكان آخر ولم يصل الخبر إلا في اليوم الثاني بعد الزوال أفطروا وصلوا العيد في اليوم التالي، وذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر كذلك فيما لو حصل عذر في يوم العيد كمطر شديد فإنها تؤدى في اليوم التالي لعيد الفطر وإن استمر العذر سقطت، وفي عيد الأضحى يمكن أن تؤخر لثلاثة أيام، فإذا استمر العذر سقطت. قال في (الإعلاء 8/ 100): فيه دلالة على أن صلاة العيد لا تصلى بعد زوال الشمس لأن الركب شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أنهم رأوا الهلال، فأمر الناس بالفطر، ولم يصل العيد تلك الساعة، بل أخرها إلى الغد، فدل على عدم جوازها بعد الزوال، وإلا لما أخرها إلى الغد. وقد عرفت إجماع الفقهاء على أن صلاة العيد لا تصلى قبل طلوع الشمس. والحديث يدل على عدم صحتها بعد الزوال، فكان وقتها من الطلوع إلى الزوال. أقول: لابد من ملاحظة وقتي الكراهة فلا تصليان فيهما. - الصلاة لمن فاته العيد 2097 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أمر مولاه ابن أبي
- النحر يوم الأضحى
عتبة- وكان في الزاوية- فجمع أهله وبنيه، وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم". أقول: لم يشترط بعض الفقهاء ومنهم الشافعية لإقامة صلاة العيد ما يشترط في صلاة الجمعة ويشهد له فعل أنس رضي الله عنه، وقد اشترط بعض الفقهاء كالحنفية بجواز إقامة العيد بنفس الشروط التي تشترط لإقامة الجمعة. فالقضية خلافية والأمر فيها أوسع من الأمر في صلاة الجمعة. 2098 - * روى الطبراني عن الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: "من فاتته العيد فليصل أربعاً". وقال في عمدة القاري تحت ما بوب البخاري (إذا فاته العيد يصلي ركعتين) ما نصه: وقالت طائفة يصليها إن شاء أربعاً روي ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال الثوري وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل فإن شاء صلى أربعاً وإن شاء ركعتين، وفي "الدر المختار" فإن عجز صلى أربعاً كالضحى، وفي "رد المحتار": أي استحباباً، وقوله كالضحى معناه أنه لا يكبر فيها للزوائد مثل العيد. فهي صلاة نافلة تقوم مقام العيد اهـ (الإعلاء). وقد مر معنا رأي المذاهب فيمن فاتته صلاة العيد فعند المالكية والحنفية: لا تقضى وعند الحنابلة والشافعية: تقضى كصفتها لفعل أنس رضي الله عنه. - النحر يوم الأضحى: 2099 - * روى الجماعة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله يوم
- الرخصة في اللعب واللهو يوم العيد
الأضحى إلى البقيع، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، وخطب، وقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا: أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدَّمه لأهله، ليس من النسك في شيء. - الرخصة في اللعب واللهو يوم العيد: 2100 - * روى ابن ماجة عن قيس بن سعد؛ قال: ما كان شيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد رأيته إلا شيء واحد. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقلس له يوم الفطر. 2101 - * روى الشيخان عن عائشة قالت "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه. ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: دعهما. فلما غفل غمزتهما فخرجتا". وفي رواية لمسلم (1) تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين ... قال النووي (6/ 182 - 183): اختلف العلماء في الغناء فأباحه جماعة من أهل الحجاز وهي رواية عن مالك وحرمه أبو حنيفة وأهل العراق ومذهب الشافعي كراهته وهو المشهور من مذهب مالك واحتج المجوزون بهذا الحديث وأجاب الآخرون بأن هذا الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر ويحملها على البطالة والقبيح قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار
الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة وهذا لا يهيج الجواري على شر ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد ولهذا قالت وليستا بمغنيتين أي ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل كما قيل الغنا فيه الزنا، وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن ويبعث الكامن ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسبا والعرب تسمي الإنشاد غناء وليس هو من الغناء المختلف فيه بل هو مباح وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاء والترنم وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه وهذا ومثله ليس بحرام ا. هـ. 2102 - * روى البخاري عن عائشة قالت: "وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم فأقامني وراءه خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة. حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم. قال: فاذهبي". قال ابن حجر (2/ 443) ك هذا حديث آخر وقد جمعهما بعض الرواة وأفردهما بعضهم، وقد تقدم هذا الحديث الثاني من وجه آخر عن الزهري عن عروة في أبواب المساجد، ووقع عند الجوزقي في حديث الباب هنا "وقالت- أي عائشة- كان يوم عيد" فتبين أنه موصول كالأول. ...
الباب الثامن في الصلوات في الأحوال العارضة
الباب الثامن في الصلوات في الأحوال العارضة وفيه مقدمة وفقرات الفقرة الأولى: في صلاة المسافر. الفقرة الثانية: في صلاة المريض. الفقرة الثالثة: في صلاة الخوف.
المقدمة
المقدمة من رحمة الله تعالى بهذه الإنسانية أن جعل الدين الذي كلفها به هو الإسلام الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم كاملاً، ومن كماله أنه رفع فيه الحرج وجعل فيه اليسر، ومن كماله أنه جعله مراعياً لفطرة الإنسان بحيث أعطى لهذه الفطرة ما يمكن أن تتطلع إليه من تطلعات صحيحة سليمة، ومن كماله أنه دين واقعي جعل للأوضاع الأصلية أحكامها وللأوضاع الاستثنائية أحكامها، وراعى الحالات الطارئة التي يمكن أن تطرأ على الإنسان فأعطاها أحكاماً تناسبها دون أن يخل ذلك بما أراده الله عز وجل لهذا الإنسان بهذا الدين من عبادة وعبودية واستسلام لله وتسليم، وأبرز ما تظهر فيه هذه المعاني جميعها في موضوع الصلاة ما نجده في فقرات هذا الباب. فمما يعرض للإنسان: المرض قد يلازمه أحياناً، وهناك نوع من الأمراض يتعذر على الإنسان فيها أن يقيم الصلاة كما يقيمها في الأوضاع العادية، فراعى الشارع ذلك، وخفف على الإنسان بعض الأحكام، ومما يطرأ على حياة الإنسان السفر وبعض الناس يضطرون للأسفار الطويلة، فالسفر فيه مشقة، وقد لا يتاح للإنسان فيه ما يتاح له وهو مقيم، ولذلك كان للسفر أحكامه، وتمر على الإنسان حالات يدخل بها في دائرة الخطر، كأن يدخل في قتال أو يكون معرضاً في بعض الصور من الاحتياج لو أنه أدى الصلاة المعهودة ما هي، ولذلك فقد جعل الله عز وجل لحالات الخوف أحكاماً خاصة، ولذلك عقدنا هذا الباب الذي نتحدث فيه عن صلاة المسافر وصلاة المريض وصلاة الخوف، وقد مرت معنا بمناسبات أخرى بعض الأحكام التي ترتبط بمثل هذه الشؤون، ففي أبحاث الطهارة كلام عما يؤثر على الأحكام الأصلية بسبب سفر أو مرض أو خوف، وفي بحث أوقات الصلاة مر معنا بعض الأحكام الاستثنائية المتعلقة بهذه الأوضاع الطارئة، وها هنا نكمل الحديث عن هذه الأشياء وما تتأثر به الصلاة بسببها، وبين صلاة الخوف والسفر ارتباط يظهر ذلك في أن الحديث عنهما جاء في سياق واحد في سورة النساء، كما أن بعض النصوص ربطت بين السفر والمرض بأن ذكرتهما في سياق واحد، ولذلك جعلنا فقرات هذا الباب مع بعضها، مع أن هناك أوضاعاً طارئة أخرى تؤثر على الأحكام العادية للصلاة،
ولكنها مرت معنا بسياقات مناسبة أخرى. انظر إلى الربط بين صلاة المسافر وصلاة الخوف في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (1). {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (2). وانظر مجيء المرض والسفر في سياق واحد في قوله تعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3). ولذلك جعلنا صلاة المسافر والمريض وصلاة الخوف في باب واحد، وها نحن نبدأ بعرض الفقرة الأولى:
الفقرة الأولى في صلاة المسافر عرض إجمالي
الفقرة الأولى في صلاة المسافر عرض إجمالي للسفر أحكام خاصة وآداب، وبعض آداب السفر سنذكرها في جزء مستقل في القسم الرابع من هذا الكتاب، قسم العاديات والحياتيات، وهناك أحكام خاصة بصلاة المسافر موضعها جزء الصلاة عامة وههنا نذكر بعضاً منها. فمن آداب المسافر إذا أراد الخروج للسفر أن يصلي ركعتين، وإذا عاد من سفره أن يصلي ركعتين، وفيما بين الذهاب والإياب فإن لصلاة المسافر أحكاماً منها ما هو محل خلاف كجواز الجمع بين الصلاتين في السفر، فالحنفية لا يرون ذلك إلا في عرفة ومزدلفة فالجمع تقديماً بين الظهر والعصر في عرفة والجمع تأخيراً بين المغرب والعشاء في مزدلفة، وقد رأينا الخلاف في ذلك. ومن الأحكام المتفق عليها بين الفقهاء مشروعية القصر في الصلاة الرباعية للمسافر على خلاف كثير في بعض التفصيلات: إن قصر الصلاة الرباعية جائز في القرآن والسنة والإجماع، وقد ربط القرآن بين القصر والخوف، ربطاً اتفاقياً لأنه كان هناك تلازم في الأغلب بين السفر والخوف في أول الإسلام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن صلاة السفر مطلقاً تقصر وأن الربط بين صلاة السفر والخوف في القرآن كان اتفاقياً إذ لم تكن مشروعية القصر في السفر مرتبطة ارتباطاً دائماً بالخوف، والقصر هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين فلا قصر في الفجر والمغرب. وقد قال الحنفية: إن القصر واجب على المسافر، ففرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان ولا تجوز له الزيادة عليهما عمداً، ويجب سجود السهو إن زاد عليهما سهواً، فإن أتم الرباعية وصلى أربعاً وقد قعد في الثانية مقدار التشهد أجزأته الركعتان عن فرضه وكانت الركعتان الأخريان له نافلة ويكون مسيئاً وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد بطلت صلاته عندهم.
وقال بعض المالكية: القصر سنة مؤكدة، وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة، والمسافر مخير بين الإتمام والقصر، والقصر عند الحنابلة أفضل، وعند الشافعية تفصيل في الأفضلية، والجمهور يرون أن المسافر سفر معصية لا يباح له القصر، وخالف في ذلك الحنفية فأجازوا القصر لكل مسافر. وقد اختلف الفقهاء في تقدير المسافة التي إذا قصدها الإنسان أو قصد أكثر منها جاز له القصر، فعند الحنفية تقدر بحوالي 81 كيلو متراً وعند الحنابلة والشافعية تقدر بحوالي 77 كيلو متراً، وعند المالكية تقدر بحوالي 89 كيلو متراً. والعبرة بالمسافة عند الجميع لا بالزمن الذي يقطع به هذه المسافة، وهذا كله إذا كان يقصد السفر. قال الحنفية: من خرج دون أن يقصد السفر ثم انتقل من مكان إلى مكان لا بنية سفر لا يعتبر مسافراً. ولا يضر عند الحنابلة نقصان المسافة حوالي 5 كيلو متراً ونيف ولا يضر عند المالكية نقصان المسافة 21 كيلو متراً. واستثنى المالكية خلافاً لغيرهم من هذه المسافات أهل مكة ومنى ومزدلفة والمحصب إذا خرجوا في الحج للوقوف في عرفة، فإنهم يقصرون ما داموا في الحج إلا في وطنهم، وقد ترخص بعضهم بأن أباح القصر لأدنى سفر وهو ليس بشيء، لأن الانتقال من موطن الإنسان إلى مكانه قريب منه لا يعتبر سفراً. ولا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد. وقد اتفق الفقهاء على أن أول السفر الذي يجوز به القصر أن يجاوز العمران من الجانب الذي يخرج منه، فإذا عاد إلى بلده وجب عليه الإتمام متى دخل أول بيوت البلد. ويصير المسافر مقيماً عند الحنفية ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً فصاعداً، فإذا لم ينو الإقامة في بلد واحد هذه المدة فإنه يجب عليه القصر منذ مجاوزته حدود بلده حتى عودته، وإذا خرج بنية قضاء حاجة معينة ثم العود إذا قضاها ولم ينو
إقامة وكان يترقب السفر بأن ينوي الخروج غداً أو بعد غد مثلاً فإنه يعتبر مسافراً ولو طال الزمن. ومن كان تبعاً لغيره وليس أمره له فالعبرة بنية الغير والمقاتلون في حالة الحرب أو حالة الحصار يقصرون ولو نووا الإقامة خمسة عشر يوماً لأنه لا عبرة بهذه النية لأنه لا يعرف ماذا يجري في حالة الحرب والحصار، وقال المالكية والشافعية إذا نوى المسافر الإقامة أربعة أيام بموضع أتم صلاته ولم يحسب بعض المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج، وقال الحنابلة: إذا نوى أكثر من أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة أتم، ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج، فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت، أو يرجو نجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يوماً فيوماً جاز له القصر عند المالكية والحنابلة والحنفية مهما طالت المدة ما لم ينو الإقامة، وقال الشافعية له القصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج. وهناك صورة يعرف الإنسان فيها بواقع الحال أو بالاستئناس إن كان أمره تبعاً لغيره كالسجين غير المحكوم أو الطالب في البلد البعيد، فمثل هذا يجب عليه الإتمام متى تيقن الإقامة أو غلب على ظنه أنه سيطيل البقاء أكثر من المدة التي يجب عليه فيها أن يقصر. وإذا اقتدى مسافر بمقيم فعلى المسافر أن يتم صلاته ولو اقتدى به في التشهد الأخير، لكن الحنفية لم يجيزوا اقتداء المسافر بالمقيم إلا في الوقت، ولابد عند الشافعية والحنابلة أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة، واكتفى المالكية بأن ينوي القصر في أول صلاة يقصرها في السفر، أما الحنفية فلا يحتاج قصر الصلاة للمسافر إلى نية القصر عندهم. واشترط الشافعية أن يدوم سفره من أول الصلاة إلى آخرها فمثلاً لو انتهت به سفينته إلى محل إقامته أو شك هل نوى الإقامة أتم صلاته وإذا اقتدى المقيم بالمسافر فإنه يكمل صلاته بعد تسليم المسافر، ويستحب للمسافر الإمام أن يقول عقب التسليمتين أتموا صلاتكم فإني مسافر، ولو نبه المأمومين قبل الصلاة يكون حسناً، ومن أتم بعد تسليم إمامه المسافر يعتبر عند الحنفية وكأنه وراء الإمام فلا يقرأ شيئاً من القرآن في بقية صلاته بل يقف مقدار الفاتحة ثم يركع.
ومن فاتته صلاة في سفر قضاها عند الحنفية والمالكية في الإقامة ركعتين كما أن من فاتته صلاة في الحضر قضاها في السفر كما وجبت عليه في الحضر، وقال الشافعية والحنابلة: صلاة الحضر تقضى في السفر كما وجبت في الحضر وفائتة السفر تقضى تامة دون قصر في حالة نية الإقامة. قال النووي: اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة في السفر، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، وقال الحنفية ويأتي المسافر بالسنن الرواتب حال الأمن والقرار، أي إذا كان نازلاً مستقراً، وإلا فإن كان في حال خوف أو فرار أو سير أو مع صحبة يتأذون بتطويل مكثه، فإنه يترك الرواتب والنفل والمطلق من باب أولى. وقد مر معنا موضوع الجمع بين الصلاتين للمسافر في بحث أوقات الصلاة فليراجع هناك، وفي تعليقاتنا على النصوص وفي المسائل والفوائد سنستكمل ما يحتاج إليه القارئ في هذا الموضوع. انظر (اللباب 1/ 106)، (رد المحتار، حاشية ابن عابدين 1/ 525 - 535)، (الشرح الصغير 1/ 474 - 486)، (والمهذب 1/ 101 - 104)، (المغني 2/ 255 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي 2/ 320 فما بعدها). فإلى النصوص:
نصوص في صلاة المسافر
نصوص في صلاة المسافر - مسافة القصر: 2103 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال يحيى بن يزيد الهنائي: "سألت أنساً عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ- شك شعبة- صلى ركعتين". أقول: لا يفهم من النص أن مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ بل المقصود ههنا أنه إذا جاوز العمران هذا القدر وحان وقت صلاة رباعية صلاها ركعتين، وللمسافر حق القصر بمجرد مجاوزة عمران البلد ومرافقها التابعة لها والملاصقة لها إذا كانت مسافة سفره تزيد عن ما ذكرناه من أقوال الفقهاء. 2104 - * روى مالك عن مالك بن أنس بلغه أن ابن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: أربعة برد. أقول: والفرسخ يساوي 5544 م ولذلك قدر المالكية الأربعة برد بحوالي 89 كيلو متراً، والبريد على القول بأنه 4 فراسخ يعدل حوالي 23 كم ويتساهل جماهير العلماء فيما لو نقص المكان المقصود في السفر عن أربعة برد شيئاً قليلاً ذكرناه في العرض الإجمالي، والمسافة بين
مكة وجدة ومكة والطائف تنقص الآن قليلاً عن ثمانين كيلو متراً، ومن القول إن البريد فرسخان فقد نعرف أن هناك اتجاهاً عند العلماء لكنه ليس مفتى به أن مسافة السفر التي يجوز معها القصر حوالي 45 كم. 2105 - * روى مالك عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن أباه ركب إلى ريم أو ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك: وذلك أربعة برد، وفي أخرى له (1) "أنه ركب إلى ذات النصب، فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد" وفي أخرى (2) له "أن ابن عمر كان يقصر الصلاة في مسيره اليوم التام" وفي أخرى (3) له عن نافع: "أنه كان يسافر مع عبد الله بن عمر البريد فلا يقصر الصلاة" وفي أخرى (4) عن نافع "أن ابن عمر كان يسافر من المدينة إلى خيبر فيقصر الصلاة". أقول ما بين خيبر والمدينة المنورة حوالي 140 كم، وقد نصت إحدى الروايات على أنه لا يقصر إذا كان قصده مسيرة بريد، وهذا دليل للقول المفتى به في المذاهب الأربعة أن ليس كل سفر تقصر فيه الصلاة، وأما الرواية التي تذكر اليوم التام فهي دليل على ما ذكرناه من ناحية، وتحتمل السير المتواصل الجاد الذي يقطع به الراكب في يوم ما يقطعه الراكب في الأوضاع العادية بثلاثة أيام كما قدره الحنفية، أو يومين كما قدره الشافعية والحنابلة وعلى كل فالتقديرات في القول المفتى به في المذاهب الأربعة متقاربة كما رأينا لأن المقياس الذي قيس به السير مختلف، فلو قدره بعضهم بيومين وبعضهم بثلاثة فالمحصلة نتيجة الاختلاف في مقياس السير متقاربة. 2106 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً، وخرج يريد مكة، فصلى بذي الحليفة العصر ركعتين، وعند
البخاري (1) أيضاً قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب واستوت به: أهلَّ. وفي أخرى (2) قال: وأحسبه بات بها حتى أصبح. وفي أخرى (3) وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً. أقول: هذا دليل على أن المسافر لا يقصر حتى يتجاوز عمران البلد، فإذا تجاوزها قصر الصلاة الرباعية، ولعل هذا الحديث يفسر أول حديث ذكرناه في الفقرة وهو عن أنس أيضاً، فذكرنا هناك أن مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً ولكن حانت أول صلاة على مسافة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ فصلاها ركعتين وذو الحليفة تبعد عن المدينة المنورة حوالي 8 كم، فقد تكون هذه الرواية مفسرة للرواية الأولى التي ذكرناها عن أنس. 2107 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر أن ابن عمر كان إذا خرج حاجاً أو معتمراً قصر الصلاة بذي الحليفة". وهذا الأثر يؤكد فهمنا الذي ذكرناه آنفاً. 2108 - * روى مسلم عن جبير بن نفير رضي الله عنه قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً- أو ثمانية عشر ميلاً- فصلى ركعتين، فقلت له: فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. وفي رواية لمسلم (6) قال بهذا الإسناد، وقال: عن ابن السمط، ولم يسم شرحبيل، وقال: إنه أتى أرضاً يقال لها: دومين من حمص، على رأس ثمانية عشر ميلاً.
- وجوب القصر في السفر
قال النووي في شرح مسلم (دومين بضم الدال وفتحها: وجهان مشهوران). أقول: لا يعتبر ما ورد في هذا النص حجة في تقدير المسافة التي يجوز فيها القصر، لأن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي الحليفة قصراً كانت في سفر يقصد فيه مسافة بعيدة، والمفروض أن عمر رضي الله عنه فعل ذلك وهو يقصد سفراً طويلاً فظن من ظن أن أدنى خروج من البلد يعتبر سفراً، وهذا خطأ فقد يخرج للنزهة فيبتعد عن العمران أكثر من ذي الحليفة من المدينة ولا يعتبر ذلك سفراً في عرف أحد، ولا يعتبر ضرباً في الأرض وهو الشيء الذي علق به قصر الصلاة في القرآن قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1). - وجوب القصر في السفر: 2109 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة، إلا أن يصليها مع الإمام، فيصليها بصلاته. وفي أخرى (2) أنه كان يقول: أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثاً، وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة". 2110 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام أربعاً، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين. 2111 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال عبد الرحمن بن
يزيد- وهو أخو الأسود النخعي-: "صلى بنا عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود، فقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فيا ليت حظي من أربع ركعات: ركعتان متقبلتان. وفي أخرى (1) لأبي داود زيادة ومع عثمان صدراً من إمارته، ثم أتمها ... وذكر الحديث وفي رواية النسائي (2) قال: صلى عثمان بمنى أربعاً، حتى بلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فقال: لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وله في أخرى (3) قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين. أقول: مما عاب الناس على عثمان رضي الله عنه أنه أتم الصلاة وهو مسافر ولم يكن لهم أن يعيبوه لأنه خليفة راشد يقتدى به لا شك أن له ملحظاً جعله يفعل ذلك وقد رأينا أن الشافعية والحنابلة يرون جواز الإتمام والقصر في السفر. قال ابن القيم في زاد المعاد: إن عثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه، وقد خرج لفعله تأويلات: أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا حديثي العهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب، ومع هذا فلم يرجع بهم النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه كان إماماً للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه،
ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك، وكان هو الإمام المطلق ولم يربع. التأويل الثالث: أن منى كانت قد بينت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت فضاء، فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة. التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً" فسماه مقيماً والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشراً يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة. التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمان من المهاجرين الأولي، وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكه، ورخص لهم فيها ثلاثة أيام، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى (أو بمكة) والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى عكرمة ابن إبراهيم الأزدي، عن أبي ذناب، عن أبيه قال: "صلى عثمان بأهل منى أربعاً، وقال: يا أيها الناس! لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تأهل الرجل ببلده فإنه يصلي بها صلاة مقيم". رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده، وعبد الله بن الزبير الحميدي في "مسنده" أيضاً، وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، وقال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان ا. هـ. لكن رد هذا الاعتذار ابن حجر فقال (2/ 571):
والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكان أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد (4/ 94) بإسناد حسن، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجاً صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان، فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك، لأنه كان قد أتم الصلاة، قال وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة. فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة. وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته فأخذا لأنفسهما بالشدة. 2112 - * روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صلى بنا النبي بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم ن عثمان صلى بعد أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين". وأخرجه مسلم (1) من طريق أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه صلى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، ركعتين صدراً من خلافته، ثم أتمها أربعاً" وأخرجه البخاري (2) نحوه، ولم يقل "وغيره" وفي رواية النسائي (3) مختصراً قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين". قال التهانوي (7/ 251): ودلالته على وجوب القصر لما فيه من مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر الصحابة عليه في السفر دائماً، وهي تكفي لإثبات الوجوب عند صاحب الهداية ومن وافقه، وأما من لم يكتف بها فله الأحاديث الآتية المشتملة على الإنكار على الإتمام.
قال الشوكاني في "النيل": واعلم أنه قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أم رخصة أو الإتمام أفضل؟ فذهب إلى الأول الحنفية والهادوية، وروي عن علي وعمر ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم، قال الخطابي في "المعالم": كان مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر، وهو قول علي، وعمر، وابن عمر، وابن عباس، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وقال حماد بن أبي سليمان: يعيد من يصلي في السفر أربعاً، وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت اهـ. قال: واحتج القائلون بوجوب القصر بحجج، الأولى ملازمته صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره، كما في حديث ابن عمر المذكور في الباب، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم الرباعية في السفر ألبته، كما قال ابن المقيم: وأما حديث عائشة الآتي على أنه صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة في السفر فسيأتي أنه لم يصح اهـ. 2113 - * روى النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، ومع أبي بكر، وعمر، ركعتين، ومع عثمان ركعتين صدراً من إمارته". 2114 - * روى الترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال- وقد سئل عن صلاة المسافر؟ - فقال: "حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، وحججت مع أبي بكر فصلى ركعتين، وحججت مع عمر فصلى ركعتين، ومع عثمان ست سنين من خلافته- أو ثماني سنين- فصلى ركعتين". قال ابن خزيمة: وقد كنت بينت في كتاب الصلاة معنى خبر يحيى بن أبي إسحاق عن أنس. وفي خبر ابن عباس وعائشة دلالة بينة على أن الواجب على أهل مكة ومن أقام بها من غير أهلها أنه يجب عليه إتمام الصلاة بمنى إذ هو مقيم لا مسافر لأن فرض المقيم أربع.
فلا يجوز لغير المسافر ولغير الخائف في القتال قصر الصلاة، وأهل مكة، ومن أقام بها من غير أهلها إقامة يجب عليهم إتمام الصلاة إذا خرجوا إلى منى ناوين الرجوع إلى مكة غير مسافرين فغير جائز لهم قصر الصلاة بمنى. أقول: ما قاله ابن خزيمة هو مذهب جمهور العلماء إلا أن المالكية أجازوا لمن نوى الحج من أهل مكة ومنى ومزدلفة أن يقصروا الصلاة إلا في موطنهم الذي يسكنون فيه فمن كان يسكن مكة يصلي قصراً في منى ومزدلفة وعرفة ومن كان يسكن منى يصلي قصراً في مزدلفة وعرفة مكة وهكذا. 2115 - * روى مسلم عن موسى بن سلمة قال: "سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة، إذا لم أصل مع الإمام؟ قال: ركعتين، سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم" وفي رواية النسائي (1) قال: تفوتني الصلاة في جماعة وأنا بالبطحاء، ما ترى أصلي؟ قال: ركعتين، سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. أقول: من كان مسافراً وصلى وراء الإمام المقيم أتم أربعاً أما إذا كان منفرداً أو إمامه مسافر وهو مسافر صلى ركعتين. 2116 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى" وفي رواية (2)، قالت: "فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين، في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر". وفي أخرى (3)، قالت: "فرضت الصلاة ركعتين،
ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى" قال الزهري: "قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت كما تأول عثمان". قال ابن الأثير (كما تأول عثمان) أراد بقوله: كما تأول عثمان، ما روي عنه رضي الله عنه أنه أتم الصلاة في السفر، وكان تأويله لذلك: أنه نوى الإقامة بمكة، فلذلك أتم. أقول: وقد رأينا أن الحنفية يوجبون القصر على من لم ينو الإقامة في مكان واحد خمسة عشر يوماً، وأن المالكية والشافعية يوجبون الإتمام إذا نوى الإنسان الإقامة أربعة أيام سوى يومي الدخول والخروج وأن الحنابلة يوجبون الإتمام على من نوى الإقامة أربعة أيام مع الدخول والخروج فما فعله عثمان وعائشة رضي الله عنهما أصل لمن أجاز الإتمام في كل حال، وأصل لمن يرى طول المدة لتحقيق معنى الإقامة التي يجب الإتمام فيها. قال ابن حجر (2/ 570): قوله (تأولت ما تأول عثمان) هذا فيه رد على من زعم أن عثمان إنما أتم لكونه تأهل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين وكل موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجد له أرضاً بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة، لأن جميع ذلك منتف في حق عائشة وأكثره لا دليل عليه بل هي ظنون ممن قالها، ويرد الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته وقصر، والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك، والثالث أن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام والرابع والخامس لم ينقلا فلا يكفي التخرص في ذلك، والأول وإن كان نقل من حديث عثمان [مرفوعاً] (من تأهل ببلدة فإنه يصلي صلاة مقيم) [أخرجه أحمد والبيهقي]. فهذا الحديث لا يصح لأنه منقطع، وفي رواته من لا يحتج به، ويرده قول عروة: إن عائشة تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلاً فدل على وهن ذلك الخبر. ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله (كما تأول عثمان) التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما. ا. هـ. ثم ذكر ابن حجر ما نقلناه عنه قبل قليل أن عثمان أتم لأنه كان يرى القصر مختصاً بمن
كان شاخصاً سائراً وذكر رأي ابن بطال الذي أوردناه ورجح ما قاله هو. 2117 - * روى أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام من غير قصر، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى وصلاة النحر مكان صلاة الأضحى. أقول: صلاة المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها تبقى ثلاث ركعات كما هو الأصل فيها، وفي الأحاديث إنكار أن يفعل الإنسان ذلك بعد أن ثبت أن صلاة المسافر ركعتان مما تفهم منه أن العزيمة في السفر أن يصلي المسافر الرباعية ركعتين ولذلك جعل الحنفية قصر الصلاة واجباً. 2118 - * روى الطبراني عن مورق قال سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر. أقول: ليس المراد بالكفر هنا الكفر الذي ينقض الإيمان، لأن القصر في الصلاة مختلف فيه ولكن المراد به كفر النعمة إذ يترك المسافر رخصة الله له في القصر. 2119 - * روى أحمد عن عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ثلاثاً لأنها وتر قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى إلا المغرب وإذا أقام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر، والصبح لأنها يطول فيها القراءة. وفي رواية (4) عنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين فذكر نحوه. وعند أحمد (1) عنها أيضاً قالت: كان أول ما افترض الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب فإنها كانت ثلاثاً، وذكر معناه ورجالها كلها ثقات. قال الجصاص في "أحكام القرآن" له بعدما ذكر أحاديث وآثاراً في القصر ما نصه: فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما، وفي ذلك الدلالة على أنهما فرض المسافر من وجهين، أحدهما أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب، وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله، كفعله صلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات، والوجه الثاني لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر، وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر، فلما ورد البيان إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه كما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم، ورد البيان إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم تارة بالإفطار، وتارة بالصوم. واحتج من خير بين القصر والإتمام بأنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام، فدل على أنه مخير في الأصل، وهذا فاسد، لأن الدخول في صلة الإمام يغير الفرض، ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربعة، ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين، ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين اهـ. 2120 - * روى أحمد عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح
- مدة السفر التي يصح معها القصر
وهو في قبة له حمراء، قال: فخرج بلال بفضل وضوئه فبين ناضح ونائل، فأذن بلال، فكنت أتتبع فاه، هكذا وهكذا، يعني يميناً وشمالاً، قال: ثم ركزت له عنزة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة له حمراء أو حلة له حمراء، فكأني أنظر إلى بريق ساقيه، فصلى إلى العنزة الظهر أو العصر، ركعتين تمر المرأة، والحمار، والكلب، وراها لا يمنع. ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى أتى المدينة. 2121 - * روى مالك عن صفوان بن عبد الله قال جاء عبد الله بن عمر رضي الله عنه يعود عبد الله بن صفوان، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف، فقمنا فأتممنا". أقول: ظاهر النص أن ابن مر كان مسافراً والآخرون مقيمين، فصلى هو ركعتين ثم أتموا. 2122 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته". - مدة السفر التي يصح معها القصر 2123 - * روى الجماعة عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً"، وفي رواية البخاري (1) ومسلم (2) مختصراً قال: "أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة نقصر الصلاة". 2124 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة يقصر الصلاة، فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتممنا، وفي رواية الترمذي (3) قال: سافر النبي صلى الله عليه وسلم سفراً، فصلى تسعة عشر يوماً ركعتين ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً قال (4): وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين ... وذكر نحوه، وفي رواية أبي داود (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة، قال ابن عباس: ومن أقام سبع عشرة قصر، ومن أقام أكثر أتم وله في أخرى (6) تسع عشرة. وله في أخرى (7) قال: أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة وأخرجه النسائي (8)، وفيه خمسة عشر. وهذه الرواية الأخيرة قواها ابن حجر في "الفتح" راداً على النووي تضعيفها. أقول: رأينا أن مذهب الحنفية يجعل نية الإقامة خمسة عشر يوماً، فمن نواها فعليه الإتمام ومن نوى الإقامة أقل من ذلك فعليه القصر، واستثنوا من ذلك ما إذا كان على عزم السفر ولم ينو الإقامة فإنه يقصر مهما طال الزمن، ورأينا أن مذهب الشافعية يعتبر الثمانية
عشر يوماً هي الحد الذي ينتهي إليه من عزم على السفر ولم يتهيأ له سوى يومي الدخول والخروج، فإذا ما تجاوزت إقامته ولو كان على عزم السفر تسعة عشر يوماً مع يومي الدخول فعليه الإتمام، ويعتبرون كلام ابن عباس دليلاً لهم، والحنفية يحملون فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه لم ينو الإقامة وأنه كان على عزم السفر ولم يتهيأ له ذلك، وما دام المجتهد على مذهب إمام مجتهد فالأمر واسع في حقه. عن: مجاهد، قال: "إن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوماً أتم الصلاة". رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وإسناده صحيح (آثار السنن) (2/ 66). وعنه أيضاً، عن ابن عمر: "أنه إذا أراد أن يقيم بمكة خمسة عشر سرح ظهره وصلى أربعاً". رواه محمد بن الحسن في (كتاب الحجج)، وإسناده صحيح (آثار السنن) (2/ 66). وعنه أيضاً، عن عبد الله بن عمر، قال: "إذا كنت مسافراً فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوماً فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر". رواه محمد بن الحسن في (الآثار)، وإسناده حسن، (آثار السنن) (2/ 66). وأخرجه الحافظ في (الدراية) (صـ 129) عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وعزاه إلى الطحاوي وسكت عنه. قال صاحب الإعلاء (7/ 275): وقد ذكر الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" والحافظ ابن حجر في "الدراية" والعيني في "العمدة" (3 - 530) والشوكاني في "النيل" (3 - 85) والزرقاني في شرح الموطأ (1 - 268): إن التحديد بخمسة عشر يوماً مروي عن ابن عباس وعن ابن عمر كليهما دون ابن عمر فقط، فقد روى ذلك الطحاوي عنهما وأبو حنيفة، فما قاله صاحب الهداية وهو- أي مذهبنا- مأثور عن ابن عباس وابن عمر إلخ. لا شك في صحته بعد عزو هؤلاء الأعلام ذلك إليهما، لا سيما الحافظ ابن حجر فإنه لم يكن ليعزو القول به إلى ابن عباس رضي الله عنه إلا وقد ثبت ذلك عنه عنده. وقال التهانوي حول حديث:
لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتممنا. ا. هـ. كذا في [النيل (3/ 85)]. وعزاه إلى البخاري وأحمد وابن ماجة. قلنا في الجواب عنه إن مبنى هذا القول هو إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشرة يوماً، ولا حجة فيه ما لم يعلم أن عزمه صلى الله عليه وسلم ماذا كان؟ فإن المدار على العزم دون القيام، فلما اطلعنا على مبنى قوله وهو ضعيف علمنا ضعف قوله هذا، ولم يكن مثل هذا المبنى في قوله: بخمسة عشر يوماً، فأخذنا به لا سيما وقد وجدنا ابن عمر وافقه في التحديد بذلك، ولم يوافقه في التحديد بتسعة عشر يوماً أحد من الصحابة. وإن سلمنا أن قيامه صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح كان بنية الإقامة فنقول: قد اضطربت الروايات في بيان مدة إقامته إذ ذاك، فروى البخاري من طريق عاصم، وحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر" كما مر، وأخرجه أبو داود من طريق حفص بن غياث، عن عاصم، عن عكرمة، عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة". قال ابن عباس: "ومن أقام سبع عشرة قصر، ومن أقام أكثر أتم" ا. هـ. ثم أخرجه بطريق ابن الأصبهاني، عن عكرمة، عنه كذلك، بلفظ سبع عشرة (1/ 475). وإسناد الأول قال النووي في "الخلاصة": على شرط البخاري، كما في الزيلعي (1/ 308) وفي "الدراية": إسناده صحيح ا. هـ. ورواه ابن حبان في "صحيحه" كما في التلخيص الجبير: (1/ 129) ولأبي داود أيضاً من طريق محمد ابن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة". قال الحافظ في "الفتح": وضعفها النووي في "الخلاصة" وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق. قلت (التهانوي): لكن تأولها ابن حجر أن الراوي حذف يومي الدخول والخروج فتوافق سبعة عشر فلما اضطربت الروايات في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح أخذ الثوري وأهل الكوفة وأصحابنا الحنفية برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، والأقل المتيقن، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً، وهذه وإن لم تكن من رواية البخاري ولا كرواية تسع عشرة في قوة الإسناد ولكن رواتها كلهم ثقات، وهي راجحة على سائر الروايات "دراية" كما
- القصر لمن لم ينو الإقامة وإن طال مكثه
قلنا لا سيما وقد أيدها فتوى ابن عباس وابن عمر التي ذكرها صاحب "الهداية"، وأخرجها الطحاوي وأبو حنيفة كما تقدم، فلا وجه لقول بعض الناس: إن ما ثبت عنه- أي عن ابن عباس- في الصحيح يكون أولى أو تساقط القولان ا. هـ. بل الساقط ما تردد فيه، والمتيقن هو الأولى فافهم. ا. هـ. - القصر لمن لم ينو الإقامة وإن طال مكثه: 2125 - * روى ابن أبي شيبة عن أبي جمرة نصر بن عمران، قال: قلت لابن عباس: "إنا نطيل القيم بخراسان فكيف ترى؟ قال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين". 2126 - * روى البيهقي عن: نافع، عن ابن عمر، قال: "ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر: وكنا نصلي ركعتين". 2127 - * روى عبد الرزاق عن: الحسن، قال: "كنا مع عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنتين، فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين". 2128 - * روى البيهقي عن: أنس رضي الله عنه: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة". 2129 - * روى أبو داود عن: جابر بن عبد الله، قال: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك
- قصر الصلاة في السفر من غير خوف
عشرين يوماً يقصر الصلاة". قال الترمذي: ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع الإقامة وإن أتى عليه سنون ا. هـ (1 - 72). وكذا قاله ابن المنذر، وقد أخرج أحمد في مسنده عن ثمامة بن شراحبيل، قال: خرجت على ابن عمر، فقلت: ما صلاة المسافر: فقال: ركعتين ركعتين إلا المغرب ثلاثاً، قلت: أرأيت إن كنا بذي المجاز؟ قال: وما ذي المجاز؟ قال: مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة، فقال: يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال: أربعة أشهر أو شهرين، يصلون ركعتين ركعتين ا. هـ ذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه كذا في "النيل". وفيه دلالة على قصر المسافر ما لم يجمع مكثاً انظر (الإعلاء 7/ 282). أقول: ما سأل عنه ثمامة غير ما أجاب عنه ابن عمر فما سأل عنه السائل هو ما الحكم فيمن نوى الإقامة في مكان خمسة عشر يوماً أو عشرين يوماً فالمذاهب الأربعة على وجوب الإتمام في الصورتين وما أجاب عنه ابن عمر محمول على من لم ينو الإقامة وكان على عزم السفر ثم استجرته الظروف يوماً بعد يوم فطال سفره، وهذه النصوص كلها محمولة على من لم يتيقن الإقامة وكان على الأهبة للسفر أما من تيقن الإقامة فإنه مطالب بأحكام المقيم، وقد غلط ناس أفتوا بجواز القصر مع التيقن من الإقامة التي لا يباح معها القصر. - قصر الصلاة في السفر من غير خوف: 2130 - * روى مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر، فقال له: إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن، ولا نجد صلاة السفر؟ فقال ابن عمر: يا ابن أخي، إن الله بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل.
- رخصة الإتمام في السفر
2131 - * روى البخاري عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه، بمنى: ركعتين، وفي رواية أبي داود (1) والنسائي (2) قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أكثر ما كانوا، فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع. 2132 - * روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين، فصلى ركعتين". 2133 - * روى مسلم عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: عجبت للناس وقصرهم للصلاة وقد قال الله عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3). وقد ذهب هذا فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". - رخصة الإتمام في السفر: 2134 - * روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت، قال: "أحسنت يا عائشة، وما عاب علي".
أقول: هذا النص يشهد لمن أجاز الإتمام للمسافر لكن للعلماء كلام كثير حول هذا الحديث ومما قيل فيه ما ذكره التهانوي (7/ 251): وفي إسناده العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عنها، والعلاء بن زهير قال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات. وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها، واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في "السنن": إسناده حسن، وقال في "العلل": المرسل أشبه. قال في "البدر المنير": إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان، والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، فكان إحرامها في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة، قال: هذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما، واعترض عليه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث، وقال: وهم في هذا في غير موضع، وذكر أحاديث في الرد عليه، وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه وطعن فيه. قال (ابن القيم) في الهدي بعد ذكره هذا الحديث: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا حديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف؟ وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله، وتخالف رسول الله وأصحابه، وقال الزهري لهشام لما حدثه عن أبيه عنها بذلك (الحديث فرضت الصلاة ركعتين إلخ): فما شأنها كانت تتم الصلاة؟ قال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها فأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، ا. هـ من "النيل" ملخصاً. وحديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه الدارقطني بلفظ آخر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم
- التطوع في السفر
كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم. وقال: إسناده صحيح، كما في "المنتقى" مع "النيل". قلت: أي التهانوي لا حجة فيه أصلاً، فإن الحافظ ضبط لفظ تتم وتصوم بالمثناة من فوق ومعناه أن عائشة كانت تتم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في "التلخيص الحبير". قال الحافظ: وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة، (أي مع كون لفظ تتم وتصوم بالمثناة من فوق) فإن عائشة كانت تتم، وذكره عروة أنها تأولت ما تأولت ما تأول عثمان كما في الصحيح، فلو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية لم يقل عروة عنها أنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك ا. هـ. وقال النووي في شرح مسلم له: واحتج الشافعي وموافقوه بالأحاديث المشهورة في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة وغيرها، وهو ظاهر قول الله عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}، وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة ا. هـ. وأجاب الشوكاني عن الأول: بأنا لم نجد في صحيح مسلم قوله: فمنهم القاصر ومنهم المتم، وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار، وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وقررهم عليه، إلى أن قال: وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب (أي وجوب القصر) وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره، وعدم صدور التمام عنه كما تقدم، ويبعد أن يلازم النبي صلى الله عليه وسلم طول عمره المفضول ويدع الأفضل ا. هـ. - التطوع في السفر: 2135 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم، فلم أره يسبح في السفر، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} (1). وفي رواية (2) يزيد بن زريع قال: مرضت، فجاء ابن عمر يعودني، فسألته عن السبحة في السفر؟ فقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيته يسبح، ولو كنت مسبحاً لأتممت، وللبخاري (3) عن عاصم أنه سمع ابن عمر يقول: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك". ولمسلم (4) عن عاصم قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر وعثمان ثماني سنين، أو قال: ست سنين، قال حفص: وكان ابن عمر يصلي بمنى ركعتين، ثم يأتي فراشه، فقلت لابن عمر: لو صليت بعد هذا ركعتين؟ قال: لو فعلت لأتممت الصلاة؛ وله في أخرى (5) عنه قال: "صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله وجلس، وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى أناساً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت يسبحون، قال: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين، حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عمر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وفي رواية الترمذي (6) قال: "سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، كانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، لا يصلون قبلها ولا بعدها، وقال ابن عمر: لو كنت مصلياً قبلها أو بعدها لأتممتها. وفي رواية الموطأ (7): أن عبد الله بن عمر لم يكن يصلي مع صلاة الفريضة في السفر
شيئاً قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل، فإنه كان يصلي على الأرض، وعلى راحلته حيث توجهت". أقول: هذه الروايات أصل لمن ذهب أنه لا تصلى مع الفرائض رواتبها في السفر، فيصلي من أراد النفل المطلق ما شاء، والحنفية يرون للمسافر أن يصلي الرواتب في حال الأمن والقرار ولا يصليها حال السير والخوف والفرار، قال محقق الجامع: وفي الباب أحاديث يدل مجموعها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي السنن أو بعضها في السفر أحياناً، أقول: منها:. 2136 - * روى الترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفراً، فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر. 2137 - * روى الترمذي عن: ابن عمر رضي الله عنه، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وصليت معه في الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين. ولم يصل بعدها شيئاً، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، لا ينقص في حضر ولا سفر وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين. قال الترمذي: ثم اختلف أهل العلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم ير طائفة من أهل العلم أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في ذلك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر ا. هـ. وفي "رد المحتار": وقيل الأفضل الترك ترخيصاً، وقيل: الفعل تقرباً، وقال الهندواني: الفعل
- صلاة النفل على الراحلة في السفر
حال النزول والترك حال السير، وقيل: يصلي سنة الفجر خاصة، وقيل: سنة المغرب أيضاً "بحر"، قال في "شرح المنية": والأعدل ما قاله الهندواني ا. هـ "الإعلاء". 2138 - * روى الدارمي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر: فقال: "إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن استيقظ وإلا كانتا له". أقول: هذا النص يدل على مشروعية صلاة الوتر في السفر كما يدل على مشروعية صلاة النفل المطلق في السفر. 2139 - * روى ابن خزيمة عن عثمان بن عبد الله بن سراقة: أنه رأى حفص بن عاصم يسبح في السفر ومعهم في ذلك السفر عبد الله بن عمر، فقيل: إن خالك ينهى عن هذا، فسألت ابن عمر عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصنع ذلك، لا يصلي قبل الصلاة ولا بعدها، قلت: أصلي بالليل؟ فقال: صلِّ بالليل ما بدا لك. - صلاة النفل على الراحلة في السفر: 2140 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة". أقول: هذا النص يدل على مشروعية النفل المطلق للمسافر. 2141 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على
راحلته متوجهاً إلى تبوك. 2142 - * روى مسلم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته متوجهاً من مكة، فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (2). 2143 - * روى البخاري عن ابن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. قال البغوي في (شرح السنة 4/ 190): اتفق أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على جواز النافلة في السفر على الدابة متوجهاً إلى الطريق، ويجب أن ينزل لأداء الفريضة. واختلفوا في الوتر، فذهب أكثرهم إلى جوازها على الراحلة، روي ذلك عن: علي، وعبد الله بن عباس، وابن عمر، وهو قول عطاء، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أصحاب الرأي: لا يوتر على الراحلة، وقال النخعي: كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض. ويجوز أداء النافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير جميعاً عند أكثرهم، وهو قول الأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. وإذا صلى على الدابة يفتتح الصلاة إلى القبلة إن تيسر عليه، ثم يقرأ ويركع، ويسجد حيث توجهت به راحلته، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع.
الصلاة على الراحلة في السفر لعذر
روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته، فكبر، ثم صلى حيث وجهة ركابه [أخرجه أبو داود وحسنه المنذري وغيره]. وجوّز الأوزاعي للماشي على رجله أن يصلي بالإيماء مسافراً كان أو غير مسافر، وكذلك على الدابة إذا خرج من بلده لبعض حاجته. قال البغوي: ومن صلى في سفينة يصلي قائماً، إلا أن يدور رأسه فلا يقدر على القيام. 2144 - * روى أحمد عن سعيد بن جبير أن ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعاً فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض. أقول: هذا النص يشهد لمذهب الحنفية الذين يرون أن الوتر واجب، لذلك عامله ابن عمر معاملة الفريضة بنزوله عن الدابة من أجله، والأمر واسع ما دام أئمة الاجتهاد مختلفين، والاحتياط أولى إذا لم توجد ضرورة. الصلاة على الراحلة في السفر لعذر: 2145 - * روى أحمد عن سمرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر في يوم مطير: "الصلاة في الرحال". 2146 - * روى أحمد عن عمرو بن أوس قال أخبرني من سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قامت الصلاة أو حين حانت الصلاة أو نحوها أن صلوا في رحالكم لمطر كان.
2147 - * روى النسائي عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فأصابنا مطر، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن صلوا في رحالكم. 2148 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا، فقال: "ليصل من شاء منكم في رحله". 2149 - * روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نادى للصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، وقال في آخر ندائه ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: "ألا صلوا في رحالكم" وفي رواية (1) أذن ابن عمر في ليلة باردة، ونحن بضجنان، ثم قال: "ألا صلوا في رحالكم"، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذناً يؤذن، ثم يقول على إثره: "ألا صلوا في الرحال، وفي الليلة الباردة، أو المطيرة في السفر". وحدث نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كانت ليلة باردة أو مطيرة، أمر المنادي فنادى: "إن الصلاة في الرحال" وله في أخرى (2): قال: نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك [في المدينة] في الليلة المطيرة، والغداة القرة. 2150 - * روى الطبراني عن يعلى بن أمية قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابتنا
السماء، فكانت البلة من تحتنا والسماء من فوقنا وكان في مضيق فحضرت الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأذن وأقام وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى على راحلته والقوم على رواحلهم يومي إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع". أقول: هذا يدل على أنه تجوز صلاة الفريضة على الراحلة إذا كانت الأرض موحلة، مما يدل على أن للعذر دوره في جواز صلاة الفريضة على الدابة ويقاس على ذلك الصلاة في الطائرة، فالعذر واضح فيمن يركب طائرة أن يصلي فرضه فيها، فإن استطاع القيام والتوجه إلى القبلة دون خوف فعليه ذلك وإلا صلى جالساً في مكانه وأعاد احتياطاً مراعاة لقول القائلين بعدم جواز ذلك. 2151 - * روى الطبراني عن أنس بن سيرين قال: أقبلنا مع أنس بن مالك من الكوفة حتى إذا كنا بأطيط أصبحنا والأرض طين وماء فصلى المكتوبة على دابة ثم قال ما صليت المكتوبة قط على دابتي قبل اليوم. 2152 - * روى الطبراني عن أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرض بلبق سرين حتى إذا كنا بدجلة حضرت الظهر فأمنا قاعداً على بساط في السفينة، وإن السفينة لتجر بنا جراً. أقول: إذا خاف المصلي في سفينة أن يطرأ عليه طارئ بسبب القيام للفريضة فله أن يصلي جالساً.
- صلاة المقيم خلف المسافر
- صلاة المقيم خلف المسافر: 2153 - * روى مالك عن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى لهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وفي شرح السنة (4/ 182): والعمل على هذا عند أهل العلم أن المسافر والمقيم يجوز اقتداء كل واحد منهما بصاحبه في الصلاة، ثم إذا اقتدى المقيم بالمسافر، فقصر الإمام، فإذا سلم من صلاته، قام المقيم فأتم لنفسه الصلاة، وليس له أن يقصر لموافقته. وإذا اقتدى المسافر بالمقيم، عليه أن يتم لموافقة إمامه، قال نافع: كان عبد الله بن عمر يصلي وراء الإمام بمنى أربعاً، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين [كذا في الموطأ 1/ 149 وإسناده صحيح]. 2154 - * روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه "أن عمر بن الخطاب لما قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم انصرف وقال: "يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر"، ثم صلى عمر ركعتين بمنى، ولم يبلغني أنه قال لهم شيئاً". قال البغوي (4/ 183): قال مالك في أهل مكة: إنهم يصلون بمنى إذا حجوا ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة، ومن كان ساكناً بمنى يتم الصلاة بمنى، وكذلك من كان ساكناً بعرفة يتم الصلاة بعرفة. قال رحمه الله: وأكثر أهل العلم على أن أهل مكة لا قصر لهم بمنى ولا بعرفة. - الصلاة لمن يريد السفر والقادم منه: 2155 - * روى أبو داود عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس". 2156 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إني أريد أن اخرج إلى البحرين في تجارة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صل ركعتين". 2157 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينزل منزلاً إلا ودعه بركعتين.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - قال الحنابلة: لو وجد قريتان متدانيتان، واتصل بناء إحداهما بالأخرى فهما كالواحدة لا يقصر المسافر حتى يتجاوز بناء الثنتين وإن لم يتصل بناؤهما فلكل قرية حكم نفسها. والملاح الذي يسير بسفينة وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله ومتاعه وحاجته لا يباح له القصر. - من كان تابعاً لغيره ممن يملك أمره كالزوجة مع زوجها والجندي مع أميره والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، والسجين مع السلطة، فحكم هؤلاء تابع لنية المتبوع. - قال الحنفية من نوى الإقامة في بلدتين ولو متقاربتين خمسة عشر يوماً لا يعتبر مقيماً ويجب عليه القصر ما دامت البلدتان مستقلتين ولو كانت إحداهما قرية منفصلة عن البلدة. - في بحث السفر يتحدث الحنفية أن الوطن ثلاثة أنواع: الوطن الأصلي وهو الذي ولد فيه أو تزوج أو لم يتزوج وقصد التعيش فيه لا الارتحال عنه، أو تزوج فيه ولو زوجة ثانية أو ثالثة. ووطن الإقامة وهو الموضع الذي نوى الإقامة فيه نصف شهر فما فوقه، ووطن السكنى وهو ما ينوي الإقامة فيه دون نصف شهر، فهذا الوطن يجب القصر فيه أما وطن الإقامة فيلغيه سفره منه إلى غيره أو عودته إلى الوطن الأصلي، ومتى دخل الوطن الأصلي فعليه إتمام الصلاة فيه ولو مر فيه مروراً. وقال الشافعية: الوطن هو محل الإقامة الدائمة صيفاً وشتاءً، ويمتنع القصر برجوعه إلى وطنه وإلى موضع نوى الإقامة فيه مطلقاً أو أربعة أيام صحيحة أو لحاجة لا تنقضي إلا في المدة المذكورة، وعندهم أنه يقصر إذا مر بوطنه مروراً فقط كما أنه يقصر في بلد أقام فيها إن كان يتوقع قضاء حاجة كل يوم إلى ثمانية عشر يوماً.
وقال الحنابلة من رجع إلى الوطن الذي سافر منه أتم كما أنه يتم إذا مر بوطنه الأصلي ولو لم يكن له حاجة سوى المرور، ويتم إذا مر ببلد له فيه امرأة أو مر ببلد تزوج فيه ولو أنه طلق زوجته، أما لو كان له به أقارب كأم وأب أو ماشية أو مال لم يمتنع عليه القصر إن لم يكن مما سبق. - قال الحنفية: من خرج من بلده يريد سفراً يوجب القصر ثم غير نيته قبل قطع مسافة السفر أتم بمجرد نية العودة. - من ولد في مكان وكان وطنه في الأصل ثم انتقل إلى مكان آخر للاستقرار، ولم يبق له أهل في بلده الأصلي لم يعد هذا الوطن في حقه أصلياً فإن عاد إليه قصر ولو كان له فيه أرض أو عقار فالوطن الأصلي للإنسان يبطل إذا هاجر بنفسه وأهله ومتاعه إلى بلد آخر، فإن عاد إلى بلده الأول لا للإقامة قصر كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة، فالوطن الأصلي يبطل بمثله ولا يبطل الوطن الأصلي بوطن الإقامة، ولا بالسفر. - توسع قوم في الفتوى في إباحة القصر حتى شذوا، فقد أفتى بعضهم بجواز القصر للطالب إذا سافر لطلب العلم واستقر في مكان للدراسة، وكانت نيته الإقامة الطويلة كما أفتى بعضهم للهاربين من أوطانهم بجواز القصر مع استقرارهم في وطن آخر وارتباط معيشتهم به أو تزوجهم فيه مع وضوح استحالة عودتهم السريعة في ظاهر الحال، كما أفتى بعضهم لبعض المعتقلين السياسيين غير المحكومين بالقصر إذا كانوا بعيدين عن وطنهم الأصلي مع وضوح نية السلطة أو تصريحها بعدم الإفراج السريع عنهم، وذلك شذوذ في الفتوى، نسأل الله التسديد والعون.
الفقرة الثانية في صلاة المريض عرض إجمالي
الفقرة الثانية في صلاة المريض عرض إجمالي للمرض أنواع ولبعض أنواعه درجات، ومن مظاهر يسر الإسلام، ورفع الحرج فيه أن خفف بسبب المرض بعض التكاليف يظهر ذلك في دوائر كثيرة وتمر معنا أثناء عرض نصوص الكتاب والسنة أحكام كثيرة لها صلة بالتخفيف عن المريض، وكثيراً ما تمر في أبواب الفقه أحكام تتعلق بالمريض، وقد مرت معنا من قبل في جزء الصلاة كثير من الأحكام التي تتعلق بالمريض والمرض ففي أبحاث الطهارة مرت مخففات بسبب المرض، وفي أبحاث الجمعة والجماعة مرت مخففات بسبب المرض، وسيمر معنا في جزء الصوم وفي جزء الحج وفي جزء الجهاد وفي أجزاء أخرى من هذا الكتاب أحكام كثيرة خفف الله عز وجل بها عن المكلف بسبب المرض. وقد خصصنا هذه الفقرة لصلاة المريض وها نحن نستخلص بعض أحكام صلاة المريض من كتب الفقه. لقد اتفق الفقهاء على أنه يسقط القيام في الفرض والنافلة للعاجز عنه. ولكن إذا قدر على بعض القراءة ولو آية قائماً لزمه بقدرها، ومن حالات العجز المسقطة للقيام: حالة المداواة كمن يسيل جرحه إذا قام أو أثناء مداواة العين استلقاء، ومن الحالات المسقطة للقيام: حالة سلس البول فإن كان يسيل بوله لو قام، وإن قعد لم يسل صلى قاعداً ولا إعادة عليه. ومن الحالات التي يسقط فيها القيام عند الحنابلة أن يصلي الإنسان خلف إمام حي عاجز. ومن كلام الحنفية في صلاة المريض إذا عجز المريض عن القيام سقط عنه وصلى قاعداً كيف تيسر له، يركع ويسجد إن استطاع، فإن لم يستطع الركوع والسجود أو السجود فقط أومأ إيماء برأسه وجعل إيماءه للسجود أخفض من ركوعه، ولا يرفع إلى وجهه شيئاً مثل الكرسي والوسادة وأمثاله ليسجد عليه.
فإن لم يستطع القعود استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة وأومأ بالركوع والسجود، وإن استلقى على جنبه ووجهه إلى القبلة وأومأ جاز، والاستلقاء أولى من الاضطجاع، والاضطجاع على الشق الأيمن أولى من الأيسر، وإذا عجز عن التوجه إلى القبلة سقط عنه التوجه على مذهب الإمام أبي حنيفة في كل الأحوال ولو وجد من يوجهه، وقال آخرون إن وجد من يوجهه نحو القبلة استعان بهم وصلى نحو القبلة، فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخر الصلاة عند الحنفية ولا يومئ بعينه ولا بقلبه ولا بحاجبيه، وما دام يفهم مضمون الخطبة فإن الصلاة لا تسقط عنه ويجب عليه القضاء ولو كثرت الصلوات، ولكن ذكر الكاساني في البدائع كما ذكر غيره عدم لزوم القضاء إذا كثرت الصلوات فزادت عن صلاة يوم وليلة وعليه الفتوى. وإن قدر المريض على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود لم يلزمه القيام وجاز أن يصلي قاعداً يومئ برأسه إيماءً. وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائماً ثم مرض أتمها قاعداً يركع ويسجد أو يومئ إذا لم يستطع الركوع والسجود أو مستلقياً إذا لم يستطع القعود. ومن صلى قاعداً يركع ويسجد لمرض ثم صح أتم صلاته قائماً، أما إذا كان يومئ إيماء ثم قدر على القيام والركوع والسجود بطلت صلاته واستأنف الصلاة من جديد. (انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1/ 508 - 512). ومن كلام المالكية في صلاة المريض:. إذا لم يقدر المصلي على القيام استقلالاً لعجز أو لمشقة فادحة كدوخة في صلاة الفرض، جاز فيه الجلوس، ولا يجوز الاضطجاع إلا لعذر. ويجوز أداء بعض الصلاة قائماً وبعضها جالساً باتفاق أهل المذهب. ومن قدر على القيام في الفرض، ولكن خاف به ضرراً كالضرر المبيح للتيمم (وهو خوف حدوث مرض من نزلة أو إغماء أو زيادته لمتصف به، أو تأخر برء)، أو خاف
بالقيام خروج حدث كريح، استند ندباً لحائط أو على قضيب أو لحبل معلق بسقف البيت يمسكه عند قيامه، أو على شخص غير جنب أو حائض. فإن استند على جنب أو حائض أعاد بوقت ضروري. وإن صلى جالساً مستقلاً عن غيره، مع القدرة على القيام مستنداً، صحت صلاته. وإن تعذر القيام بحالتيه (مستقلاً أو مستنداً)، جلس وجوباً إن قدر، وإن لم يقدر جلس مستنداً. وتربع ندباً للجلوس البديل عن القيام: وهو حالة تكبيرة الإحرام، والقراءة والركوع، ثم يغير جلسته في الجلوس بين السجدتين والتشهد. وإن لم يقدر على الجلوس بحالتيه (مستقلاً أو مستنداً)، صلى على شق أيمن ندباً، فأيسر إن عجز عن الأيمن، ثم مستلقياً على ظهره ورجلاه للقبلة، فإن لم يقدر فعلى بطنه ورأسه للقبلة. وإن كان بجبهته قروح، فسجد على أنفه، صحت صلاته، لأنه أتى بما في طاقته من الإيماء، علماً بأن حقيقة السجود: وضع الجبهة على الأرض. إن لم يقدر المصلي على شيء من الأركان إلا على نية، بأن ينوي الدخول في الصلاة ويستحضرها، أو قدر على النية مع إيماء بطرف، وجبت الصلاة بما قدر عليه، وسقط عنه غير المقدور عليه. وإن قدر مع ذلك على "السلام" سلم. ولا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بما قدر عليه، ما دام المكلف في عقله. (انظر الشرح الصغير 1/ 358 - 363) وقال الشافعية: إن لم يقدر على القيام في الفرض مع نصب عموده الفقري، وقف منحنياً، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. وإن عجز عن القيام أصلاً (بأن لحقته مشقة شديدة لا تحتمل في العادة كدوران رأس راكب السفينة)، قعد كيف شاء وقعوده مفترشاً كهيئة الجالس للتشهد الأول أفضل من تربعه في الأظهر، فإن لم يقدر على القعود: بأن نالته المشقة السابقة، اضطجع وجوباً على
جنبه، مستقبلاً القبلة بوجهه ومقدم بدنه. والجنب الأيمن أفضل للاضطجاع عليه من الأيسر، والأيسر بلا عذر مكروه. فإن لم يقدر على الاضطجاع استلقى، ويرفع وجوباً رأسه بشيء كوسادة ليتوجه إلى القبلة بوجهه ومقدم بدنه. ويركع ويسجد بقدر إمكانه، فيومئ برأسه للركوع والسجود، وإيماؤه للسجود أكثر، قدر إمكانه. فإن لم يقدر، أومأ بطرفه (أي بصره) إلى أفعال الصلاة. فإن لم يقدر، أجرى الأركان على قلبه، مع السنن، بأن يمثل نفسه قائماً وراكعاً، وهكذا؛ لأنه الممكن. فإن اعتقل لسانه، أجرى القراءة وغيرها على قلبه كذلك. ولا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله ثابتاً، لوجود مناط التكليف. ومتى قدر على مرتبة من المراتب السابقة في أثناء الصلاة، لزمه الإتيان بها. وللقادر على القيام: أن يتنفل قاعداً، أو مضطجعاً في الأصح، لا مستلقياً، ويقعد للركوع والسجود ولا يومئ بهما إن اضطجع، لعدم وروده في السنة. والخلاصة: أن المريض يصلي كيف أمكنه ولو مومياً ولا يعيد، والغريق والمحبوس يصليان موميين ويعيدان. انظر (المهذب 1/ 101)، (الفقه الإسلامي 1/ 642). وقال الحنابلة: إن لم يستطع المريض القيم أو شق عليه مشقة شديدة لضرر من زيادة مرض، أو تأخر برء ونحوه، فإنه يصلي قاعداً، متربعاً ندباً كمتنفل وكيف قعد جاز كالمتنفل، ويثني رجليه في ركوع وسجود، كمتنفل. انظر (المغني 2/ 143 - 149). والخلاصة: أن أقصى حالات التيسير للمريض هو الإيماء بالرأس عند الحنفية، والإيماء بالطرف (البصر أو العين) أو مجرد النية عند المالكية، وإجراء الأركان على القلب عند الشافعية والحنابلة.
واتفق الكل على أنه لا تسقط الصلاة عن المرء ما دام في عقله. انظر (الفقه الإسلامي 1/ 644 - 645). وهذه نصوص تتعلق بصلاة المريض:
نصوص في صلاة المريض
نصوص في صلاة المريض 2158 - * روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" وفي رواية (1) "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً؟ قال: إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد"، إلا أنه لم يذكر البواسير، وقال: "سألته عن صلاة المريض؟ ". ولأبي داود في أخرى (2) "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً؟ قال: صلاته قائماً أفضل من صلاته قاعداً، وصلاته قاعداً على النصف من صلاته قائماً، وصلاته نائماً على النصف من صلاته قاعداً"، وله في أخرى (3) قال: "كان بي الناصور، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وذكر مثل الرواية الأولى". وللبخاري (4) عن عمران بن حصين- وكان مبسوراً "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قائماً؟ .. الحديث" وأخرج النسائي (5) الرواية الثانية. وأخرج ابن خزيمة (6) الرواية الأولى.
قال ابن خزيمة: قد كنت أعلمت قبل أن العرب توقع اسم النائم على المضطجع وعلى النائم الزائل العقل بالنوم، وإنما أراد المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: وصلاة النائم: المضطجع لا زائل العقل بالنوم، إذ زائل العقل بالنوم لا يعقل الصلاة في وقت زوال العقل. أقول: لا تجوز صلاة الفريضة إلا بقيام إلا إذا كان هناك عذر يجيز القعود فما سواه، كالمرض مثلاً وما ذكر في النص عن أن صلاة القاعد على النصف من أجر القائم فذلك محمول على التنفل، وللمتنفل أن يصلي قاعداً أو مضطجعاً أو على دابة وفي صلاته مضطجعاً خلاف وما ذكر في الحديث مما يفهم منه أن من كان معه بواسير جاز له أن يصلي قاعداً فذلك محمول على صورتين: الأولى أن تصيبه بسبب القيام آلام شديدة، والصورة الثانية: أن ينزف دماً حال القيام ويقل أو ينعدم نزيفه حال القعود، ومن صلى قاعداً أو غير ذلك بسبب المرض فله أجره كما لو صلى قائماً. انظر (فتح الباري 2/ 585). 2159 - * روى البخاري عن الزهري سمع أنس بن مالك- وهذا حديث عبد الجبار- قال: "سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس فجحش شقه الأيمن، فدخلنا نعوده فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً". 2160 - * روى الشيخان عن عائشة قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، جاءه بلال يؤذنه بالصلاة فقال: "مروا أبا بكر، فليصل بالناس". قلنا: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف، ومتى ما يقوم مقامك يبكي، فلا يستطيع، فلو أمرت عمر أن يصلي بالناس قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس- ثلاث مرات-
"فإنكن صواحبات يوسف". قالت: فأرسلنا إلى أبي بكر، فصلى بالناس، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض. فلما أحس به أبو بكر، ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أن مكانك. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر رضوان الله عليه. هذا حديث وكيع وقال في حديث أبي معاوية: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداًن وأبو بكر قائماً. قال ابن خزيمة: قال قوم من أهل الحديث إذا صلى الإمام المريض جالساً، صلى من خلفه قياماً إذا قدروا على القيام، وقالوا: خبر الأسود وعروة عن عائشة ناسخ للأخبار التي تقدم ذكرنا لها في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالجلوس إذا صلى الإمام جالساً. قالوا: لأن تلك الأخبار عند سقوط النبي صلى الله عليه وسلم من الفرس، وهذا الخبر في مرضه الذي توفي فيه: قالوا: والفعل الآخر ناسخ لما تقدم من فعله وقوله. 2161 - * روى البزار عن جابر بن عبد الله قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مريضاً وأنا معه فرآه يصلي ويسجد على وسادة فنهاه وقال: "إن استطعت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأومئ إيماءً واجعل السجود أخفض من الركوع". 2162 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن يسجد فليسجد ومن لم يستطع فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه ولكن ركوعه وسجوده يومئ إيماءً".
2163 - * روى أحمد عن المختار قال سألت أنساً عن صلاة المريض فقال: يركع ويسجد قاعداً في المكتوبة. 2164 - * روى الطبراني عن ابن مسعود أنه دخل على أخيه عتبة وهو يصلي على سواك يرفعه إلى وجهه فأخذه فرمى به ثم قال: أوم إيماءً ولتكن ركعتك أرفع من سجدتك.
الفقرة الثالثة في صلاة الخوف
الفقرة الثالثة في صلاة الخوف مقدمة من معجزات هذا الدين انسجام تكاليفه مع بعضها ومن معجزاته شمولية بعض النصوص بحيث تسع الزمان والمكان، ومن معجزاته أن كانت بعض نصوصه قابلة لتعدد الفهم مما أدى إلى اختلاف أئمة الاجتهاد بما يسع الزمان والمكان كذلك، ومما تظهر به هذه القضايا مجتمعة صلاة الخوف. فالمكلف في الإسلام مكلف بالعبادة والعبودية والإيمان بالقدر والتوكل والأخذ بالأسباب، فمن عبادات الإسلام الصلاة والجهاد، والمسلم يقاتل متوكلاً على الله راضياً بقضائه، آخذاً بالأسباب ومن أهم مبادئ القتال التي ينبغي أن يراعيها المقاتل مبدأ المفاجأة، فهو من ناحية عليه أن يعمل الحيلة ليفاجئ خصمه وعليه أن يكون في غاية الحذر كي لا يفاجئه خصمه. وصلاة الخوف تجتمع فيه مراعاة كل ما مر. فالمسلم وهو يقاتل لا يغفل عن أداء الصلاة، وقد شرعت له صلاة الخوف ليستطيع أن يصلي في أي ظرف قتالي يواجهه، وكي لا يباغت المسلم من قبل الخصم شرعت صلاة الخوف بما يحقق الحذر من المفاجأة والمباغتة، وتعددت صورها في النصوص بما يسع الزمان والمكان، وذلك من مظاهر معجزات هذا الدين، فانسجام تكاليفه ومراعاته كل مصالح الإنسان الروحية والمادية، وإذا تأملت أقوال العلماء فيما ورد في صلاة الخوف تجد معجزة أخرى من معجزات الإسلام، وذلك أن القرآن الكريم تحدث في مقامين عن صلاة الخوف: المقام الأول: في سورة النساء وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (1). ولقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لصلاة الخوف سبع صيغ تحقق مقاصدها وقد أخذ بها جميعاً فقهاء الحنابلة لأنها بمجموعها تراعي الظروف التي يمكن أن تواجه المقاتل في عصر النبوة والعصور التي تشابهه في طرق القتال ووسائله. والمقام الآخر: الذي تحدث عنه القرآن عن صلاة الخوف هو ما ذكره في سورة البقرة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (2) أي صلوا مترجلين أو راكبين بالقدر الذي تستطيعون. ومن تأمل وسائل الحرب في عصرنا وجد أن تطبيق آية البقرة هو الذي يتلاءم مع ظروف الحرب في عصرنا. فالطيران والمدفعية والصواريخ لا تعطي مجالاً في عصرنا لصلاة الخوف كما وردت في سورة النساء، فإذا علمت أن أبا يوسف من فقهاء الحنفية قال: إن صلاة الخوف مشروعة في سورة النساء خاصة بعصر النبوة لأن الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي خاصة به ولأن للصلاة وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ميزة وفضلاً وأجراً لا ينالها الإنسان إلا بالصلاة وراءه، أما في غير عصر النبوة وما لم تكن الصلاة وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإمكان أني صلي المسلمون جماعات متعددة، ولم يوافق على اتجاه أبي يوسف بقية الأئمة ولكنا في عصرنا ندرك أهمية هذا القول حيث لا يمكن أن تتحقق صلاة الخوف كما وردت في سورة النساء على أرض الواقع. فوجود صيغة أخرى لصلاة الخوف في القرآن تسع زماننا، وشمولية النصوص بحيث راعت كل صورة محتملة تواجهها الأمة الإسلامية، واختلاف الأئمة بحيث رأى بعضهم كأبي يوسف خصوصية آيات سورة النساء في عصر النبوة، ووجود بعض الفقهاء الذين قالوا باستمرارية الأحكام التي وردت في سورة النساء بحيث طبقها المسلمون خلال عصور طويلة، حيث كانت وسائل القتال تشبه وسائل القتال في عصر النبوة حتى إذا جاء عصرنا الذي
أصبح انتشار الجندي فيه أثناء القتال قانوناً من قوانين الحرب الحديثة رأينا نص سورة البقرة الذي يسع هذا الوضع ورأينا كلام أبي يوسف في آيات سورة النساء، وذلك كله من معجزات هذا الدين الذي يسع الزمان والمكان، والتي كانت بعض نصوصه تؤدي إلى اختلاف أئمة الاجتهاد بما يسع الزمان والمكان، ومن ههنا تدرك ضيق أفق الذين يضيقون ذرعاً باختلاف أئمة الاجتهاد، فيجعلون ما هو ميزة لهذا الدين وكأنه وصمة عار على المقلدين للأئمة المجتهدين وها نحن بعد هذه المقدمة نستخلص لك عرضاً إجمالياً لصلاة الخوف.
عرض إجمالي
عرض إجمالي ثبتت صلاة الخوف في الكتاب والسنة، وصح أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في أربعة مواضع في غزوة ذات الرقاع وبطن نخل وذي قرد وعسفان، وقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين مرة، وصلاها الصحابة من بعده عليه الصلاة والسلام. وجمهور الفقهاء على أن الكيفيات التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقاً لآيات سورة النساء مشروعة بعده عليه الصلاة والسلام إلا ما كان من أبي يوسف كما رأينا. صلاة الخوف التي وردت في سورة النساء وتطبيقاتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سببها الخوف من هجوم العدو وذلك لا يتحقق إلا في حالة حضور العدو. وصلاة الخوف كما وردت في سورة البقرة لا تختص بحالة القتال بل تجوز في كل خوف: كهرب من سيل أو حريق أو سبع أو جمل أو كلب ضار أو صائل أو لص أو حية ونحو ذلك ولم يجد معدلاً عنه سواء في ذلك السفر والحضر والبحر والبر، ومع أن أكثر الفقهاء على جواز صلاة الخوف كما وردت في سورة النساء وعلى جواز صلاتها بالكيفيات التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتفقوا على أنه يجوز للجيش أن يصلوا بإمامين، كل طائفة بإمام بدلاً من صلاة الخوف بإمام واحد كما ورد في آيات النساء، واتفق الفقهاء على أنه في اشتداد الخوف وتعذر الجماعة يجوز للجنود تطبيقاً لآية البقرة أن يصلوا فرادى وركباناً وراجلين، في مواقعهم وخنادقهم يومئون إيماء بالركوع والسجود إلى أي جهة فرضها عليهم القتال إلى القبلة أو إلى غيرها، وإن قدروا أن يبدؤوا بتكبيرة الإحرام وهم متوجهون إلى القبلة ثم يتوجهون حيث فرض عليهم القتال أن يتوجهوا يكون أحسن. أما صلاة الخوف كما وردت في سورة النساء فقد جاءت الأخبار بأنها على ستة عشر نوعاً، في صحيح مسلم بعضها ومعظمها في سنن أبي داود وفي صحيح ابن حبان منها تسعة، ففي كل مرة كان صلى الله عليه وسلم يفعل ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، والمشهور من ذلك سبع كيفيات واختار الجمهور منها أقواها وأصحها لديهم وأجازها كلها الإمام أحمد. وإذ كانت هذه الكيفيات في حروب عصرنا غير عملية في الغالب فسنكتفي أثناء عرض
النصوص بذكر بعضها. ويسن للمصلي في الحرب ألا يتخلى عن سلاحه احتياطاً، والرخصة في وضع السلاح كائنة إذا كان ذلك لا يتنافى مع الحذر المطلوب. وأهم شيء في عصرنا بالنسبة لصلاة الخوف أن نعرف ما قاله الأئمة في التطبيقات العملية لآية البقرة في صلاة الخوف. قال الدكتور الزحيلي في كتاب "الفقه الإسلامي" وأدلته ما يلي عارضاً أقوال المذاهب الأربعة في صلاة الخوف حال شدة القتال وهي الصورة التي ذكرتها سورة البقرة. قال الحنفية: إن اشتد خوف العسكر بحيث لا يدعهم العدو يصلون وعجزوا عن النزول، صلوا ركباناً فرادى، لأنه لا يصح الاقتداء لاختلاف المكان بين الإمام والمأمومين، ويومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، وسقط التوجه للقبلة للضرورة، كما سقطت أركان الصلاة. والسابح في البحر: إن أمكنه أن يرسل أعضاءه ساعة صلى بالإيماء، وإلا لا تصح صلاته، كصلاة الماشي والسائف، وهو يضرب بالسيف، فلا يصلي أحد حال المسايفة. وقال الجمهور: تجوز الصلاة إيماءً عند اشتداد الخوف وفي حال التحام القتال، وهي صلاة المسايفة. وعبارة المالكية: تجوز الصلاة عند اشتداد الخوف، وفي حال المسايفة أو مناشبة الحرب، في آخر الوقت المختار، إيماء بالركوع والسجود إن لم يمكنا، ويخفض للسجود أكثر من الركوع، فرادى (وحدانا)، بقدر الطاقة، مشاة وركباناً، وقوفاً أو ركضاً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. فيحل للمصلي صلاة الالتحام للضرورة مشي وهرولة وجري وركض، وضرب وطعن للعدو، وكلام من تحذير وإغراء، وأمر ونهين وعدم توجه للقبلة، ومسك سلاح ملطخ
بالدم. فإن أمنوا في صلاة الالتحام أتموا صلاة أمن بركوع وسجود. وعبارة الشافعية: إذا التحم القتال أو اشتد الخوف يصلي كل واحد كيف أمكن راكباً وماشياً، ويومئ للركوع والسجود، إن عجز عنهما، والسجود أخفض. ويعذر في ترك القبلة، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح، ولا يعذر في الصياح بل تبطل به الصلاة، ويلقي السلاح إذا دمي دماً لا يعفى عنه، حذراً من بطلان الصلاة، فإن احتاج إلى إمساكه بأن لم يكن له منه بد، أمسكه للحاجة. ولا قضاء للصلاة حينئذ في الأظهر. وله أن يصلي هذه الصلاة (أي شدة الخوف) حضراً وسفراً، في كل قتال وهزيمة مباحين وهرب من حريق وسيل وسبع وغريم عند الإعسار، وخوف حبسه. وعبارة الحنابلة: إذا كان الخوف شديداً، وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم كالمريض، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها. ويتقدمون ويتأخرون، ويضربون ويطعنون، ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها. ويصح أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة، بل تجب، رجالاً وركباناً، بشرط إمكان المتابعة، فإن لم تمكن لم تجب الجماعة ولا تنعقد. ولا يضر تأخر الإمام عن المأموم في شدة الخوف، للحاجة إليه. ولا يضر تلويث سلاحه بدم ولو كان كثيراً، وتبطل الصلاة بالصياح والكلام لعدم الحاجة إليه. وتجوز هذه الصلاة لمن هرب من عدوه هرباً مباحاً كخوف قتل أو أسر محرم بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين، أو هرب من سيل أو سبع ونحوه، كنار أو غريم ظالم، أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من شيء مما سبق. (الفقه الإسلامي 2/ 442 - 444).
أقول: ومن ههنا نعرف أنه في حالة قيام المعركة يصلي الطيار والمقاتلون في الدبابات والمركبات والمشاة حيث أمكنهم بأي صورة قدروا عليها وإذا لم يكونوا على وضوء تيمموا وصلوا وفي الحرب الحديثة لا يستغني المقاتلون عن الاتصال بقياداتهم وخاصة الطيارون وقادة الدبابات ولا يستغنون عن الرد في أي لحظة يأتيهم خطاب، وبعض المقاتلين لا يستطيعون تأخير الكلام ولو لحظة كالقائمين على شؤون الرصد والرادارات وأمثال ذلك. وقد رأينا أن مذهب المالكية يجيز الكلام أثناء الصلاة لصالح المعركة. ومما مر نعرف أن النصوص التي ستمر معنا سيكون الكثير منها في التطبيقات العملية لآيات سورة النساء. وإلى نصوص هذه الفقرة:
نصوص في صلاة الخوف
نصوص في صلاة الخوف 2165 - * روى البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدموا، وتأخر الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. وفي رواية (1) عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم"، وفي رواية الموطأ (2) عن صالح "أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف: أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة، ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائماً ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا، فيكبرون وراء الإمام، فيركع بهم ويسجد، ثم يسلم، فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون". وفي رواية (3) الترمذي نحوه، وزاد في آخره، فهي له ثنتان، ولهم واحدة، وأخرج أبو داود (4) الأولى من روايتي البخاري ومسلم، ورواية الموطأ، وأخرج هو (5) والموطأ (6)
والنسائي (1) الرواية الثانية من روايتهما، وفي رواية للنسائي (2) قال: "يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة قبل العدو، وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ويركعون لأنفسهم، ويسجدون سجدتين في مكانهم، ويذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك، فيركع بهم ويسجد سجدتين، فهي له ثنتان، ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين" وله في أخرى (3) مختصرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة". 2166 - * روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصففنا صفين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدرا لصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً- قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم وفي أخرى (4) له قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً مع جهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر، قالوا: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقالوا: إنهم ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت
العصر صففنا صفين، والمشركون بيننا وبين القبلة- ثم ذكره- إلى أن قال: كما يصلي أمراؤكم هؤلاء". وفي رواية النسائي (1) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه، صلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم وجاء أولئك فقاموا مقام هؤلاء فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولهم ركعة ركعة". وله في أخرى (2) بنحو رواية مسلم الأول من أفراده، وله في أخرى (3) "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بأخرى ركعتين، ثم سلم" وله في أخرى (4) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف، فصلت طائفة معه، وطائفة وجوههم قبل العدو، فصلى بهم ركعتين، ثم قاموا مقام الآخرين، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، ثم سلم". (كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم): يفهم من هذا أن حراس الأمراء في زمن بني أمية كانوا يصلون الجماعة وراء أمرائهم إلا أنهم كانوا يؤدونها على صورة من صور الخوف. 2167 - * روى أبو داود عن أبي عباس الزرقي رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة؟ فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، والمشركون أمامه، فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصُف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركعوا جميعاً، وسجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء
السجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجد، وسجد الصف الذي يليه، ثم قام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعاً، فسلم عليهم جميعاً". وللنسائي (1) فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غفلة، فنزلت صلاة الخوف ما بين الظهر والعصر، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ففرقنا فرقتين: فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرقة يحرسونهم، ثم ركع وركع هؤلاء وأولئك، ثم سجد الذين يلونه، وتأخر هؤلاء الذين يلونه، وتقدم الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعاً الثانية بالذين يلونه والذين يحرسونهم، ثم سجد بالذين يلونه، ثم تأخروا، وقاموا في مصاف أصحابهم، وتقدم الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، فكانت لكلهم ركعتان ركعتان مع إمامهم". 2168 - * روى مسلم عن- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة". أقول: هذه صورة من صور صلاة الخوف أخذ بها الإمام أحمد ومنعها بقية الأئمة وتأولوها على غير ظاهرها، فهي على ظاهرها تفيد أن الإمام يصلي ركعتين وكل طائفة تصلي ركعة واحدة مع الإمام ثم تسلم، قال (النووي 5/ 197): هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف منهم الحسن والضحاك وإسحق بن راهويه وقال الشافعي ومالك والجمهور إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات وإن كانت في السفر وجب ركعتان ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها
منفرداً كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخوف وهذا التأويل لابد منه للجمع بين الأدلة والله أعلم. 2169 - * روى الشيخان عن- عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف: بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا، وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة" وفي رواية (1) قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة قال: وقال ابن عمر: إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكباً وقائماً يومئ إيماءً". وللبخاري (2) عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر نحواً من قول مجاهد: "إذا اختلطوا قياماً" كذا قال، وزاد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "وإن كانوا أكثر من ذلك صلوا قياماً وركباناً" وللبخاري (3) أن ابن عمر "كان إذا سئل عن صلاة الخوف؟ قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس، فيصلي بهم الإمام ركعة، وتقوم طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا، ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلوا ركعتين، فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالاً: قياماً على أقدامهم وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" قال مالك: قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي.
2170 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس معه "فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس معه، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً"، وفي أخرى (1) للنسائي قال: "ما كانت صلاة الخوف إلا سجدتين، كصلاة حراسكم هؤلاء اليوم خلف أئمتكم هؤلاء، إلا أنها كانت عقباً، قامت طائفة منهم وهم جميعاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجدت معه طائفة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاموا معه جميعاً، ثم ركع وركعوا معه، ثم سجد فسجدوا معه الذين كانوا قياماً أول مرة، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين سجدوا معه في آخر صلاتهم، سجد الذين كانوا قياماً لأنفسهم، ثم جلسوا، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسليم" وله في أخرى (2) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا". 2171 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، وأن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة، ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فتكون
لهم ركعة ركعة، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان". وفي رواية (1) أبي داود عن عروة بن الزبير "أن مروان سأل أبا هريرة قال: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عام غزوة نجد، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابلو العدو، ظهورهم إلى القبلة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبروا جميعاً: الذين معه، والذين مقابلو العدو، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا على العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو، ثم قاموا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه، ثم كان السلام، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا جميعاً، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة" وفي أخرى (2) له قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، حتى إذا كنا بذات الرقاع من نخل لقي جمعاً من غطفان ... فذكر معناه. وأخرج النسائي (3) رواية أبي داود، وقال في آخره: "ولكل واحدة من الطائفتين ركعتان ركعتان". أقول: المذاهب الثلاثة ما عدا الحنابلة تفهم النصوص التي ذكرت الركعة الواحدة على أنها ركعة مع الإمام وركعة أخرى صلتها منفردة، فالصلاة لم تنقص عن ركعتين وهي صلاة المسافر إلا في المغرب فإنها ثلاث.
2172 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرت الطائفة الذين صفوا معه، ثم ركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا، ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، ثم سجد هؤلاء لأنفسهم الثانية، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى، حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائفة الأخرى، فقاموا فكبروا، ثم ركعوا لأنفسهم، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجدوا معه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجدوا لأنفسهم الثانية، ثم قامت الطائفتان جميعاً فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركع وركعوا، ثم سجد فسجدوا جميعاً، ثم عاد فسجد الثانية، فسجدوا معه سريعاً كأسرع الأسراع جاهداً، لا يألون سراعاً، ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاركه الناس في الصلاة كلها". 2173 - * روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقاموا صفين: قام صف خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصف مستقبل العدو، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، وجاء الآخرون فقاموا مقامهم، واستقبل هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا". وفي رواية (3) بمعناه قال: "فكبر نبي الله صلى الله عليه وسلم وكبر الصفان جميعاً". قال أبو داود (4) "وصلى عبد الرحمن بن سمرة هكذا، إلا أن الطائفة التي صلى بهم ركعة ثم سلم، مضوا إلى مقام أصحابهم، وجاء هؤلاء فصلوا لنفسهم ركعة، ثم رجعوا إلى مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا قال أبو داود: حدثنا بذلك مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الصمد بن حبيب قال:
أخبرني أبي أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة كابل فصلى بنا صلاة الخوف". 2174 - * روى أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين، ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، ولأصحابه ركعتين ركعتين" وبذلك كان يفتي الحسن. قال أبو داود: وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات، وللقوم ثلاث. قال أبو داود: وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أخرى (1) للنسائي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالقوم الآخرين ركعتين، ثم سلم، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم أربعاً". 2175 - * روى أبو داود عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، قال: اذهب فاقتله، فرأيته وحضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي، أومئ إيماءً نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، قال: فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد". أقول: لقد صلى عبد الله بن أنيس هذه الصلاة لأنه لو صلى الصلاة العادية لكشف أمره وحيل بينه وبين تنفيذ المهمة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يأخذ العدو منه حذره، فتفوت عليه المفاجأة، وفي ذلك محل تأمل للذين يفتون في عصرنا للبحث عن تطبيقات مماثلة قد يضطر إليها المسلمون في صراعهم الحالي في عالم معقد.
2176 - * روى أبو داود عن ثعلبة بن زهدم قال: "كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة، ولم يقضوا". قال أبو داود: وروى بعضهم "أنهم قضوا ركعة أخرى". وفي رواية النسائي (1) "فقال حذيفة: أنا، فوصف فقال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة ركعة، صف خلفه، وطائفة أخرى بينه وبين العدو، وصلى بالطائفة التي تليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة" وفي أخرى له "فقال حذيفة: أنا، فقام حذيفة وصف الناس خلفه صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذي خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا". (طبرستان) ينسب إلى هذا الموضع الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري، صاحب التفسير المشهور، وطبرستان بلدان كثيرة واسعة يشملها هذا الاسم، خرج من نواحيها من لا يحصى كثرة من أهل العلم والأدب والفقه، والغالب على هذه النواحي الجبال، فمن أعيان بلدانها: دهستان، وجرجان، واسترباذ، وآمل، والإمام الطبراني نسبة إلى طبرية: من أعمال الأردن. 2177 - * روى الطبراني عن أبي العالية الرياحي أن أبا موسى كان بالدار من أصبهان وما بهم يومئذ كبير خوف ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسُنَّة نبيهم فجعلهم صفين طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها وطائفة من ورائها فصلى بالذين يلونه ركعة ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا مقام الآخرين يتخللونهم حتى قاموا وراءه فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة ثم سلم بعضهم على بعض فتمت للإمام ركعتين وللناس ركعة ركعة. وننقل لك فيما يلي تلخيصاً إجمالياً من كلام الإمام النووي رحمه الله إذ يقول في باب
صلاة الخوف في شرحه على صحيح مسلم (6/ 124 - 126): ذكر مسلم رحمه الله في الباب أربعة أحاديث أحدها حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة" وبهذا الحديث أخذ الأوزاعي وأشهب مالكي وهو جائز عند الشافعي ثم قيل إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معاً وقيل متفرقين وهو الصحيح. الثاني حديث ابن أبي حثمة بنحوه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة ركعة وثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة ثم ثبت جالساً حتى أتموا ركعتهم ثم سلم بهم وبهذا أخذ مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم وذكر عنه أبو داود في سننه صفة أخرى أنه صفهم صفين فصلى بمن يليه ركعة ثم ثبت قائماً حتى صلى الذين خلفه ركعة ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلم. وفي رواية سلم بهم جميعاً. الحديث الثالث حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم صفهم صفين خلفه والعدو بينهم وبين القبلة وركع بالجميع وسجد معه الصف المؤخر وقاموا ثم تقدموا وتأخر الذي يليه وقام المؤخر في نحر العدو فلما قضى السجود سجد الصف المقدم وذكر في الركعة الثانية نحوه وحديث ابن عباس نحو حديث جابر لكن ليس فيه تقدم الصف وتأخر الآخر وبهذا الحديث قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا كان العدو في جهة القبلة ويجوز عند الشافعي تقدم الصف الثاني وتأخر الأول كما في رواية جابر ويجوز بقائهما على حالهما كما هو ظاهر حديث ابن عباس. الحديث الرابع حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين" وفي سنن أبي داود وغيره من رواية أبي بكرة أنه صلى بكل طائفة ركعتين وسلم فكانت الطائفة الثانية مفترضين خلف متنفل وبهذا قال الشافعي وحكوه عن الحسن البصري وادعى الطحاوي أنه منسوخ ولا تقبل دعواه إذ لا دليل لنسخه فهذه ستة أوجه في صلاة الخوف وروى ابن مسعود وأبو هريرة وجهاً سابعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعة وانصرفوا ولم يسلموا ووقفوا بإزاء العدو وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة ثم سلم فقضى هؤلاء ركعتهم ثم سلموا وذهبوا فقاموا مقام أولئك ورجع أولئك فصلوا لنفسهم ركعة ثم سلم وبهذا أخذ أبو حنيفة وقد روى أبو داود وغيره وجوهاً
فائدة
أخرى في صلاة الخوف بحيث يبلغ مجموعها ستة عشر وجهاً وذكر ابن القصار المالكي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواطن والمختار أن هذه الأوجه كلها جائزة بحسب مواطنها وفيها تفصيل وتفريع مشهور في كتب الفقه قال الخطابي صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى ثم مذهب العلماء كافة أن صلاة الخوف مشروعة اليوم كما كانت إلا أبا يوسف والمزني فقالا: لا تشرع بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} واحتج الجمهور بأن الصحابة لم يزالوا على فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وليس المراد بالآية تخصيصه صلى الله عليه وسلم وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ا. هـ. فائدة: من خاف من عدو بحيث إذا قام رآه العدو صلى قاعداً ولا إعادة عليه، وهذا ينطبق على حالة الحرب وعلى حالات تقتضيها الحرب كحالة الكمين، وحالات الاستخفاء في الخنادق، ومن الصور التي ذكرها الحنابلة التي تجيز الصلاة قاعداً قصر سقف لعاجز عن خروج، ومن مظاهر ذلك في الحرب أن يكون الإنسان في ملجأ بسبب قصف صاروخي أو مدفعي وكان سقف الملجأ منخفضاً.
وصل: في ما حدث من جمع الصلوات يوم الخندق وقريظة وما يمكن أن يبنى عليه
وصل: في ما حدث من جمع الصلوات يوم الخندق وقريظة وما يمكن أن يبنى عليه لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صلاتين يوم الخندق على رواية وبين أكثر من صلاتين في روايات أخرى، والاتجاه الأقوى عند العلماء أن الجمع بين عدة صلوات بسبب الحرب منسوخ بصلاة الخوف في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1) ووجد من يقول بعدم النسخ ثم إنه في المسير إلى بني قريظة جمع بعض الصحابة في روايات صحيحة بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مما استفاد منه بعضهم أنه كما يجمع بسبب القتال المباشر بين عدة صلوات فإنه يجمع بسبب ما تتطلبه مصلحة الحرب من سرعة حركة وانتقال ومباغتة بين عدة صلوات، فما تقتضيه مصلحة الحرب له حكم الحرب. وفي عصرنا فإن لهذا الموضوع أهمية خاصة، ولذلك فإننا ننقل ما ورد في الجمع بين الصلاة يوم الأحزاب وتعليق صاحب نيل الأوطار عليه ثم ننقل بعض روايات البخاري لحادثة جمع الصلاة بسبب المسير إلى بني قريظة وتعليق ابن حجر عليه ثم نعلق على الحادثتين ملاحظين وضع المسلمين في عصرنا. أولاً: حادثة الخندق: 2178 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله "أن عمر جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله: ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "والله ما صليتها" فتوضأ وتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب". قال الشوكاني في نيل الأوطار: والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر
الاشتغال بالقتال وقد وقع الخلاف في سبب ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهذه الصلاة فقيل تركوها نسياناً وقيل شغلوا فلم يتمكنوا وهو الأقرب كما قال الحافظ: وفي سنن النسائي عن أبي سعيد أن ذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الترتيب بين الفوائت المقضية والمؤداة فأبو حنيفة ومالك والليث والزهري والنخعي وربيعة قالوا بوجوب تقديم الفائتة على خلاف بينهم وقال الشافعي والهادي والقاسم لا يجب ولا ينتهض استدلال الموجبين بالحديث للمطلوب لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب قال الحافظ إلا أن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" فيقوى قال وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذه انتهى. 2179 - * روى أحمد عن أبي سعيد قال "حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب يهوي من الليل كفينا وذلك قول الله عز وجل {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (1) قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك قال وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ". 2180 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود بلفظ "أن المشركين شغلوا رسول الله
ثانيا: حادثة بني قريظة
صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق" وساقا نحو الحديث. قال صاحب نيل الأوطار: قوله "يهوي" الهوي بفتح الهاء وكسر الواو وبياء مشددة السقوط والمراد بعد دخول طائفة من الليل والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بحرب الكفار ونحوهم لكن إنما كان هذا قبل شرعية صلاة الخوف كما في آخر الحديث والواجب بعد شرعيتها على من حبس بحرب العدو أن يفعلها: وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا منسوخ بصلاة الخوف وذهب مكحول وغيره من الشاميين إلى جواز تأخير صلاة الخوف إذا لم يتمكن من أدائها والصحيح الأول لما في آخر هذا الحديث، والحديث مصرح بأنها فائتة صلاة الظهر والعصر وحديث جابر المتقدم مصرح بأنها العصر وحديث عبد الله ابن مسعود مصرح بأنها أربع صلوات فمن الناس من اعتمد الجمع فقال إن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان في بعض الأيام الفائت العصر فقط وفي بعضها الفائت العصر والظهر وفي بعضها الفائت أربع صلوات ذكره النووي وغيره: ومن الناس من اعتمد الترجيح فقال إن الصلاة التي شغل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدة وهي العصر ترجيحاً لما في الصحيحين على ما في غيرهما ذكره أبو بكر بن العربي قال ابن سيد الناس والجمع أرجح لأن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال وهذا إسناد صحيح جليل انتهى. ثانياً: حادثة بني قريظة: 2181 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت "لما رجع النبي من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: فإلى أين؟ قال: ها هنا. وأشار إلى قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم غليهم".
2182 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال "كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة". 2183 - * روى البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم". قال الحافظ في "الفتح": (لا يصلين أحد العصر) كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري، ووقع في جميع النسخ عند مسلم "الظهر" مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون، وكذلك أخرجه ابن سعد عن أبي عتبان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ "الظهر" وابن حبان من طريق أبي عتبان كذلك. قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه. وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صواباً في حق إنسان وخطأ في حق غيره وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، قال: والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان قال: فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهاً من التأويل فهو مصيب انتهى. والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد، وخالف الجاحظ والعنبري. وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضاً: المصيب واحد وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد. وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده، وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ وله أجر واحد.
ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلوا العصر بعد ما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا أن يكون ذلك عاماً في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولا سيما والزمان زمان التشريع، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم، واستدل به ابن حبان على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر، وفيه نظر لا يخفى. واستدل به غيره على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف، وفيه نظر قد أوضحته في باب صلاة الخوف. وعلى ان الذي يتعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها يقضيها بعد ذلك لأن الذين لم يصلوا العصر صلوها بعد ذلك كما وقع عند ابن إسحق أنهم صلوها في وقت العشاء، وعند موسى بن عقبة أنهم صلوها بعد أن غابت الشمس، وكذا في حديث كعب بن مالك، وفيه نظر أيضاً لأنهم لم يؤخروها إلا لعذر تأولوه، والنزاع إنما هو فيمن أخر عمداً بغير تأويل، وأغرب ابن المنير فادعى أن الطائفة الذين صلوا العصر لما أدركتهم في الطريق إنما صلوها وهم على الدواب، واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول، قال: فإن الذين لم يصلوا عمدوا بالدليل الخاص وهو الأمر بالإسراع فترك عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا، لأنهم لو صلوا نزولاً لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع ولا يظن ذلك بهم مع ثقوب أفهامهم انتهى. وفيه نظر لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة المبالغة في الأمر بالإسراع فبادروا إلى امتثال أمره، وخصوا وقت الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها، فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا ولا يكون في ذلك مضادة لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركباناً يحتاج إلى دليل ولم أره صريحاً في شيء من طرق هذه القصة، وقد تقدم
تعليقات
بحث ابن بطال في ذلك في "باب صلاة الخوف". وقال ابن القيم في الهدي ما حاصله: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت ولا سيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها وأن من فاتته حبط عمله، وإنما لم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا فأخروا لامتثالهم الأمر. لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى. وأما من احتج لمن أخر بأن الصلاة حينئذ كانت تؤخر كما في الخندق وكان ذلك قبل صلاة الخوف، فليس بواضح، لاحتمال أن يكون التأخير في الخندق كان عن نسيان، وذلك بين في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر لما قال له ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال: والله ما صليتها. لأنه لو كان ذاكراً لها لبادر إليها كما صنع عمر. انتهى. تعليقات: أولاً: رأينا أنه مما ينبغي أن يدركه مسلمو عصرنا وهو شيء لا يفطن له الكثيرون، أنه متى دخلنا في السياسة دخلنا في الموازنات كأهون الشرين وأخف الضررين، ومتى دخلنا في الحرب والسياسة دخلنا في الفتوى الاستثنائية التي تلاحظ الزمان والمكان والأشخاص، على أن تكون هذه الفتوى صادرة من أهلها. ثانياً: إنه وإن قال الجمهور أن ما حدث يوم الخندق منسوخ إلا أن لقول علماء الشام الذين ذكرهم الشوكاني وجهاً قوياً، فكل ما يفيده حديث أبي سعيد الخدري أن آية {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} جاءت بعد حادثة الخندق وهذا قد يفيد النسخ، وقد يحمل كل من النصلين على أنه يطبق في بعض الحالات القتالية. ثالثاً: هناك حالات في عصرنا تضطر المسلمين إلى فتاوى مناسبة ومكافئة، ولعل ما ورد في صلاة الخوف، وفي حادثة الجمع بين الصلوات في المسير إلى بني قريظة، ويوم الخندق مما يجعلنا نستأنس لهذه الفتاوى التي يحتاج إليها العصر، فالتدريب على أنواع الأسلحة، والمناورات العسكرية لرفع المستوى القتالي، والتنفلات العسكرية في جيوش غير إسلامية قد لا تعطي فرصاً لإقامة الصلاة في وقتها أو على هيئتها، فالمسلم في هذه الحاجات الحرجة
بحاجة إلى فتوى تناسب الوضع الذي هو فيه، وعلى أئمة الفتوى أن يقدروا الظروف التي تحيط بالمسلم في مثل هذه الأحوال. رابعاً: أصبح واضحاً في عصرنا أن الجيش في بلدان العالم الثالث له الكلمة الأخيرة في فرض الأنظمة السياسية، والأنظمة السياسية في عصرنا تتدخل في كل شيء، فإذا صارت في طريق معاد للإسلام فقد تنهي الإسلام في بعض الأقطار إنهاءً تاماً كما حدث في مرحلة من المراحل في ألبانيا مثلاً، ولذلك فإن كثيراً من القوى العالمية والمحلية تتخير للجيش وترصد كل فرد فيه، وبعض هذه الأنظمة معاد للإسلام ويريد استئصاله، وكل من شمت منه رائحة الإسلام سرح أو اغتيل أو اعتقل والمسلمون في هذه الحالة بين خيارين: الخيار الأول أن يدخلوا الجيش على أمل التغيير أو يتركوا الجيش ليبقى الكفر مسيطراً، فلو افترضنا أنه وجد مثل هذا الوضع فالأفضل للمسلمين أن يدخلوا الجيش وأن يتستروا على أنفسهم، وإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات في حق الأفراد فمن باب أولى أنها تبيح المحظورات إذا ترتبت عليها مصلحة الإسلام والمسلمين. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعض المكلفين بمهمات قتالية أن يقولوا كلمة الكفر ليحققوا هدفاً كما أن بعض الصحابة صلوا وهم يمشون حتى لا ينكشف أمرهم لمن يريدون قتله وعلى هذا فإذا ما وجدت مثل هذه الظروف التي ذكرناها وهي موجودة في البلدان الإلحادية فإن على أئمة الفتوى أن يفتوا بما يلحظون به مصلحة الإسلام والمسلمين حاضراً ومستقبلاً، ثم إن هناك مهمات أخرى كمهمات التجسس على العدو والتي تقتضي أحياناً فتاوى استثنائية للنجاح فيها، إلا أن هذه الفتاوى الاستثنائية يجب أن تكون من أهلها، ويجب أن يكون أهلها مؤتمنين على أسرار من يستفتيهم، ومن حيث المبدأ نقول: إن هناك حالات تجيز للإنسان ي بعض الظروف أن يتيمم مكتفياً بمسح كفيه ووجهه دون أن يشرك الذراعين حتى لا ينكشف أمره وأن يجمع بين الصلوات الخمس قبل نومه وهو على فراشه يومئ بعينيه إيماءً، إلا أن هذه الفتوى وأمثالها في تكاليف إسلامية كثيرة لا يفتى بها إلا بعد موازنات دقيقة من أهلها، وفي ظروف نرجو أن لا توجد على الأرض الإسلامية، ولكنها في واقع الحال موجودة في بعض البلدان الإسلامية وغيرها.
قال سفيان الثوري رحمه الله: (العلم رخصة من ثقة، وأما التشدد فيعرفه كل الناس). ونحن في هذا المقام لا نفتي فتوى عامة لكن نقول: إن الفتوى تقدر زماناً ومكاناً وشخصاً فكل فرد نفتيه على انفراد بحسب وضعه. ومن أهم ما يحتاجه عصرنا أن يوجد فقهاء وأئمة في الفتوى يعرفون كيف يستخرجون الرخص ويضعونها في محلها، ولا شك أن هناك فارقاً كبيراً بين من يخرجون من الإسلام ويخرجون غيرهم بحجة التسهيل، وبين من يعرفون الرخصة الشرعية ويفتون بها لصالح الإسلام والمسلمين، وضمن مقتضيات الضرورة.
الباب التاسع صلاة المناسبات
الباب التاسع صلاة المناسبات وفيه مقدمة عن الصلوات عامة وفقرات * الفقرة الأولى: في صلاة الاستخارة. * الفقرة الثانية: في صلاة الحاجة وصلاة التوبة وصلاة من قُدِّمَ للقتل. * الفقرة الثالثة: في صلاة الاستسقاء. * الفقرة الرابعة: في صلاة الكسوف والخسوف. * الفقرة الخامسة: في صلاة الجنازة وأحكام الشهداء.
مقدمة
مقدمة فرض الله عز وجل علينا الصلوات الخمس، وشرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل صلوات أخرى منها رواتب الصلوات الخمس، ومنها الوتر، ومنها قيام الليل والتهجد ومنها سنة الضحى، ومنها النفل المطلق، ومنها سنة دخول المنزل والخروج منه، ومنها سنة الوضوء وتحية المسجد، ومنها سنة الخروج للسفر وسنة العودة من السفر، ومنها سنة وداع المنزل في السفر ومنها صلاة التراويح وصلاتا العيدين وصلاة الأوابين وصلاة التسابيح وكل ذلك مر معنا بمناسباته، وبعض ما مر معنا يعتبر من صلوات المناسبات إلا أنا أدخلناه في الأبواب الأكثر لصوقاً به. ومن صلوات المناسبات مما لم يمر معنا: صلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وصلاة كسوف الشمس وخسوف القمر وصلاة الاستسقاء وركعتا الطواف وركعتا الإحرام بالحج، وصلاة التوبة وصلاة الدعاء عند المالكية وصلاة ركعتين لمن قدم للقتل. وخصصنا هذا الباب لصلوات المناسبات التي لم تمر معنا من قبل ما عدا ركعتي الإحرام وركعتي الطواف اللواتي سنذكرها في جزء الحج.
الفقرة الأولى في صلاة الاستخارة
الفقرة الأولى في صلاة الاستخارة تقديم: شرع للمسلم أن يتبع الأمر ويترك النهي، وفي الأمور المباحة التي تتردد المصلحة فيها حاضراً أو مستقبلاً أن يستخير وأن يستشير، فالاستخارة لله والاستشارة لأهل الله ممن اجتمع لهم إمامة ومعرفة وخبرة في الأمور التي يستشارون بها، تجعلان المسلم أقرب إلى الإصابة وأجدر بالصواب فهو بالاستخارة يعرض نفسه لرحمات الله ومعونته، وبالاستشارة تجتمع له قوة إلى قوة في الرأي. والاستخارة شرعت بالسنة النبوية، وهي البديل المحكم لما كان عليه أهل الجاهلية من تطيير الطيور فإذا تيامنت أقدموا وإذا تياسرت أحجموا، كما أنها البديل المحكم لما يفعله الجهلة، إذ يستأنسون للإقدام والإحجام بأعمال غير معقولة ولا مشروعة، فشرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة. وأي شيء أعظم من أن تلقي أمرك لله وتطلب من الله أن يختار لك. والاستخارة صلاة ركعتين فدعاء كما سنرى، ثم بعد ذلك ينتظر المسلم ما ينشرح له صدره، فالعبرة في الاستخارة لانشراح الصدر والتيسير. وقد يحس الإنسان بالانشراح بعد الاستخارة مباشرة، وقد يرى بعد الاستخارة رؤيا يستأنس بها عن المراد. ففي الحديث الثابت: "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، الرؤيا الصالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له". وإذا لم يتبين للإنسان شيء من الاستخارة الأولى يكرر الاستخارة، وقد استحب بعض الفقهاء تكرارها إلى سبع، وبنوا ذلك على رواية ذكرها ابن السني، ثم إن السبعة عدد مبارك فالسموات سبع، والأرضون سبع والطواف سبع ورمي الجمار سبع وأيام الأسبوع
سبعة، ثم إن السبعة تعبر عن الكثرة عند العرب فمن كرر الاستخارة سبعاً فقد أتى بالكثير الطيب. عرف الحنفية الاستخارة بأنها طلب ما فيه الخير، وذكروا أنها تكون في الأمور المباحة التي لا يعرف وجه الصواب فيها وهي: ركعتان يدعو بعدهما بالدعاء المأثور كما سنراه، ويستحب افتتاح هذا الدعاء وختمه بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ في الركعة الأولى {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية (الإخلاص) بعد الفاتحة في الركعتين. ونص على قراءة هاتين السورتين في صلاة الاستخارة المالكية والشافعية وهي مندوبة في المذاهب الأربعة قال الحنفية ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء. وإليك هذين النصين في صلاة الاستخارة: 2184 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، وقادر لي الخير حيث كان، ثم رضني به". قال:
"ويسمي حاجته". 2185 - * روى أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم أمراً فليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كان كذا وكذا في الذي يريد خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري وإلا فاصرفه عني واصرفني عنه ثم قدر لي الخير أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله".
الفقرة الثانية في: صلاة الحاجة، وصلاة التوبة، وصلاة من قدم للقتل
الفقرة الثانية في: صلاة الحاجة، وصلاة التوبة، وصلاة من قدم للقتل - صلاة الحاجة: 2186 - * روى الطبراني في الصغير عن عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك على ربي فيقضي لي حاجتي وتذكر حاجتك ورُح إلي حين أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال ما كانت لك من حاجة فائتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف قال له جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في فقال عثمان بن حنيف والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي: "أو تصبر" فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ائت الميضأة" فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الكلمات فقال عثمان بن حنيف فو الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط. أقول: فحديث صححه الطبراني ووافقه الهيثمي وقال (الحاكم 1/ 526) فيه بعد أن ساق الحديث من رواية عون بن عمارة- وليس فيها صاحب الحاجة-: تابعه شبيب بن سعيد الحبطي عن روح بن القاسم- يقصد هذه التي هنا- بزيادات في المتن والإسناد والقول فيه قول شبيب فإنه ثقة مأمون ووثقه ابن المديني والدارقطني وقال أبو زرعة لا بأس به،
صلاة التوبة
(تهذيب 4/ 307). فحديث هذا شأنه هل يلتفت إلى تضعيف من ضعفه؟!. وكون ابن عدي قال في (كامله 4/ 1346) ابن وهب يحدث عن شبيب بالمناكير لا يعني أن كل حديث من طريقه منكر فلم يصحح هؤلاء الأئمة هذه الرواية إلا وعندهم ما رجح التصحيح. 2187 - * روى ابن ماجه عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: "إن شئت أخرت لك وهو خير وإن شئت دعوت" فقال ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في. 2188 - * روى الترمذي عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد: نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في. صلاة التوبة: 2189 - * روى الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
الصلاة ركعتين لمن قدم للقتل
عليه وسلم يقول: "ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له"، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ...} (1) إلى آخر الآية. أقول: ويشهد لصلاة التوبة شواهد كثيرة منها ما ذكره صاحب الترغيب والترهيب مما يزيد هذا المعنى الذي ذكره النص قوة. 2190 - * روى البيهقي عن الحسن البصري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أذنب عبد ذنباً، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى فيه ركعتين، واستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفره الله له". 2191 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فدعا بلالاً، فقال: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت الجنة البارحة، فسمعت خشخشتك أمامي"، فقال: يا رسول الله ما أذنبت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، وصليت ركعتين. وفي رواية: ما أذنت، والله أعلم. الصلاة ركعتين لمن قدم للقتل: 2192 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عيناً وأمَّرَ عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه،
فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم. فلما حس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع فأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحداً. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر. ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصماً، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة- يريد القتلى- فجرروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم. فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً- وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر- فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها، فأعارته، فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده. قالت ففزعت فزعة عرفها خبيب. فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بين جزع لزدت. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم أنشأ يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله. وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة. وأخبر- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. وبعث ناس من قريش إلى عاصم ابن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يأتوا بشيء منه يعرف- وكان قتل رجلاً عظيماً من عظمائهم- فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئاً".
أقول: هذه رواية البخاري والشاهد فيها أن خبيباً سن لمن قدم للقتل أن يصلي ركعتين.
الفقرة الثالثة صلاة الاستسقاء العرض الإجمالي
الفقرة الثالثة صلاة الاستسقاء العرض الإجمالي الاستسقاء: طلب السقي من الله تعالى بمطر عند حاجة العباد إليه بصلاة وخطبة واستغفار وحمد وثناء وقال أبو حنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، وإذا صلى الناس فرادى أو وحداناً جاز من غير كراهة لأنها نفل مطلق، وإنما الاستسقاء دعاء واستغفار، فلا يحتاج الاستسقاء إلى جماعة ولا خطبة ولا قلب رداء، ولا ينبغي أن يحضر كافر. وقال جمهور الفقهاء ومنهم أبو يوسف ومحمد من الحنفية. صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة حضراً وسفراً وتكرر في أيام ثانياً وثالثاً وأكثر حتى يسقيهم الله تعالى وإذا تأهبوا للصلاة فأمطروا قبلها صلوها عند المالكية، واجتمعوا عند الشافعية: للشكر والدعاء ويصلون صلاة الاستسقاء شكراً، ويخطب بهم الإمام على القول الأصح، وقال الحنابلة لا يخرج الناس حينئذ للصلاة، ويشكرون الله عز وجل، ويسألونه المزيد، إن خرجوا فأمطروا قبل أن يصلوا، صلوا شكراً لله تعالى وحمدوه ودعوه. وقد اتفق الجمهور غير أبي حنيفة على أن صلاة الاستسقاء ركعتان بجماعة في المصلى بالصحراء خارج البلد بلا أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها الصلاة جامعة. ويجهر فيهما بالقراءة كصلاة العيد، بتكبيرات عند الشافعية والحنابلة بعد الافتتاح قبل التعوذ سبعاً في الركعة الأولى وخمساً في الثانية مع رفع يديه حذو منكبيه ووقوفه بين كل تكبيرتين كآية معتدلة، ويجعل عند المالكية والصاحبين من الحنفية الاستغفار بدلاً من التكبير. وإذا قرأ سورة (الأعلى والغاشية) فحسن عند الحنابلة والصاحبين، والأفضل عند المالكية سورة (الأعلى) وسورة (الشمس)، وعند الشافعية سورة (ق) وسورة (القمر) وإذا قرأ ما شاء فلا حرج وكما تصلى صلاة الاستسقاء جماعة وهو الأفضل فإنها تصلى فرادى والأفضل أن تصلى في مكة والمدينة وبيت المقدس في مساجدها المقدسة وإذا خرج الناس لصلاة الاستسقاء فالأفضل أن يخرجوا مشاة وأن يلبسوا ثياباً متواضعة، وأن يظهر عليهم
التذلل والتواضع والخشوع لله تعالى وأن يجددوا التوبة، ويستسقون بالضعفة والشيوخ والعجائز والأطفال، وينبغي أن يقدموا الصدقة في كل يوم يخرجون فيه. ولا يشترط عند أبي حنيفة إذن الإمام لدعاء الاستسقاء ويشترط ذلك عند الشافعية لصلاة الاستسقاء. ولا تختص بوقت، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي عن الصلاة بغير خلاف. إلا أن الإمام يعلم الناس عن ميقاتها ليجتمعوا لها. والأفضل فعلها أول النهار كصلاة العيد، وإن استسقى الناس عقب صلواتهم أو في خطبة الجمعة أو في الركعة الأخيرة جاز وأصابوا، ولا يؤمر بها عند المالكية النساء والصبيان غير المميزين، وقال الشافعية والحنابلة: يندب خروج الأطفال والشيوخ والعجائز ومن لا هيئة لها من النساء، ولا يستحب عند المالكية إخراج البهائم ويستحب إخراجها مع أولادها عند الحنفية والشافعية على الأصح ويباح عند الحنابلة. ويستحب التوسل بذوي الصلاح. وقال أبو حنيفة: لا خطبة للاستسقاء. وقال محمد: يخطب بعد الصلاة خطبتين بينهما جلسة كالعيد وقال أبو يوسف: يخطب خطبة واحدة ويكون معظم الخطبة الاستغفار ويستقبل القبلة بالدعاء. وقال المالكية والشافعية: يخطب الإمام للاستسقاء بعد الصلاة خطبتين كصلاة العيد، وقال الحنابلة: يخطب خطبة واحدة، وتجوز عند الشافعية الخطبة قبل الصلاة. والجميع يستحبون الإكثار من الخطبة في صلاة الاستسقاء، ولا حد للاستغفار عند المالكية ويستغفر الخطيب في الخطبة الأولى عند الشافعية تسعاً وفي الثانية سبعاً، ويبدأ الخطيب عند الحنابلة بالتكبير تسعاً نسقاً، ويكثر فيها عندهم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن الاستغفار. ويدعو الخطيب بالمأثور ما أمكن وإلا فبما يحقق المقصود ويؤمن المأمومون على دعائه سراً إن أسر وجهراً إن جهر. ويستحب عند الصاحبين استقبال القبلة أثناء الدعاء وقال المالكية: يستقبل القبلة بوجهه قائماً بعد الفراغ من الخطبة، ولا يخص أحداً من الناس بدعاء وقال الشافعية: يستقبل الإمام القبلة بعد حوالي ثلث الخطبة الثانية ثم يدعو سراً وجهراً ثم يستقبل الناس بوجهه ويحثهم على الطاعة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ آية وآيتين ويدعو للمؤمنين
والمؤمنات ويختم بقوله: أستغفر الله لي ولكم. وقال الحنابلة: يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء للخطيب على خلاف خطبة الجمعة، ويرفع الناس أيديهم وقال أبو يوسف ومحمد: يقلب الإمام رداءه عند الدعاء، وصفة القلب إن كان مربعاً جعل أعلاه أسفله وإن كان مدوراً كالجبة جعل الجانب الأيمن على الأيسر ولا يقلب القوم أرديتهم ولا يسن القلب عند أبي حنيفة وقال الجمهور كقول الصاحبين إلا أنهم قالوا: يحول الذكور أرديتهم مثل الإمام وهم جلوس. ولا يستحب المالكية والحنفية تنكيس الرداء بل يكتفون بجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، واستحب الشافعية في الجديد تنكيس الرداء وجعل أسفله أعلاه. قال الحنابلة: ويظل الرداء محولاً حتى ينزع بعد الوصول إلى المنزل. وحكمة تحويل الرداء التفاؤل بتحويل الحال، إظهاراً بحسن الظن بالله تعالى. وإذا أريد الاستسقاء أمر الإمام الناس بالتوبة من المعاصي والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والخروج من المظالم وأداء الحقوق ويأمر بصيام ثلاثة أيام قبل صلاة الاستسقاء ويخرج الناس في آخر أيام الصيام أو في اليوم الرابع إلى الصحراء، وقال الشافعية: يلزم الناس امتثال أمر الإمام، وقال الحنابلة: لا يلزم. ويستحب للاستسقاء التنظف لا التطيب ويستحب لأهل الخصب أن يدعو لأهل الجدب، وأجاز المالكية التنفل قبل صلاة الاستسقاء وبعدها، والدعاء يطون ببطن الكف إذا كان لطلب شيء وتحصيله وبظهر الكف إلى السماء إذا أريد به رفع البلاء. انظر: (حاشية ابن عابدين على الدر 1/ 567)، (اللباب 1/ 121)، (والشرح الصغير 1/ 537 - 541)، (والمهذب 1/ 123)، (والمغني 2/ 430 فما بعدها)، (الفقه الإسلامي وأدلته 2/ 415 فما بعدها). أقول: إن من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم حوادث الاستسقاء في حياته عليه الصلاة والسلام بل إنه ما يكاد ينتهي من دعائه والناس في حالة يأس وإبلاس- وليس ما يدل على أن هناك احتمالات مطر- حتى يكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم فينزل المطر بشكل معجز مدهش واستمر
هذا الحال في أمته معجزة له صلى الله عليه وسلم وكرامة لهذه الأمة. إن من تتبع حوادث الاستسقاء في تاريخ الأمة الإسلامية وجد عجباً، فكم من مرة خرج المسلمون للاستسقاء فلم يرجعوا إلا والمطر يتنزل، وإني لأرجو أن يقوم طالب علم بتتبع حوادث الاستسقاء في تاريخ الأمة الإسلامية وفي واقعها، فإنه سيجد الكثير الذي يدل على معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستمرة وأن ما وعدنا به صدق وحق، والأمر بيد الله وله فيما يفعل حكمة، وكنا قد تحدثنا في كتابنا/ الله جل جلاله/ أن من الظواهر الكبرى التي تعرفنا عليه ظاهرة الاستجابة، وهي ظاهرة مستمرة في حياة الإنسانية ومن أبرز مظاهرها حوادث السقي بعد الاستسقاء ولقد شهدت مرة في بلدنا خروج الناس للاستسقاء ثلاثة أيام متوالية، فما كاد الناس ينتهون من دعائهم في اليوم الثالث حتى صبت السماء بركاتها بشكل عجيب، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب. وإلى نصوص هذه الفقرة:
- الدعاء والصلاة وقلب الرداء في الاستسقاء
- الدعاء والصلاة وقلب الرداء في الاستسقاء: 2193 - * روى أبو داود عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة عن أبيه قال: "أرسلني الوليد بن عقبة- وهو أمير المدينة- إلى ابن عباس يسأله عن استسقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتيته فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلاً متواضعاً متضرعاً، حتى أتى المصلى فرقي المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد". وزاد في رواية (1) "متخشعاً". وأخرجه النسائي قال: "أرسلني فلان إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء؟ فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متضرعاً متواضعاً متبذلاً، فلم يخطب نحو خطبتكم هذه، فصلى ركعتين". وله في أخرى (2) قال: "أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس: أسأله عن الاستسقاء؟ فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متذللاً متخشعاً متضرعاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين، ولم يخطب خطبتكم هذه" وأخرج الرواية (3) الأولى، وأول حديثه قال: "سألت ابن عباس" وإسناده حسن.
استنبط من قوله كصلاة العيد أنه يكبر في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً كما في العيدين وبه قال الشافعي وأحمد في قول: وقال مالك والصاحبان وأحمد في قول لا يزيد على تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال. (منهاج الطالبين 1/ 315)، (الكافي 1/ 319). وفي "النيل": تأوله الجمهور على أن المراد كصلاة العيد في العدد، والجهر بالقراءة وكونها قبل الخطبة (4/ 31) قال التهانوي (8/ 154): ولا يراد التشبيه في كونها مشتملة على التكبيرات كالعيدين، قاله الشيخ. وأما ما أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والدارقطني، ثم البيهقي في "السنن" عن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن طلحة قال: أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سنة الاستسقاء، فقال: "سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه، فجعل يمينه على يساره، ويساره على يمينه. وصلى ركعتين، كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ (بسبح اسم ربك الأعلى) وقرأ في الثانية (هل أتاك حديث الغاشية) وكبر فيها خمس تكبيرات" انتهى. قال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" كما في الزيلعي (2/ 240). فالجواب عنه ما أفاده الزيلعي: من وجهين، أحدهما ضعف الحديث، فإن محمد بن عبد العزيز هذا قال فيه البخاري: "منكر الحديث". وقال النسائي: "متروك الحديث". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، ليس له حديث مستقيم". وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: "يروي عن الثقات المعضلات، وينفرد بالطامات عن الأثبات، حتى سقط الاحتجاج به" انتهى ... والثاني أنه معارض بحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط ... عن أنس بن مالك، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى، فخطب قبل الصلاة، واستقبل القبلة، وحول رداءه، ثم نزل، فصلى ركعتين، ولم يكبر فيهما إلا تكبيرة". انتهى. 2194 - * روى الشيخان عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، فقلب رداءه".
زاد في رواية (1) "ثم صلى ركعتين". قال البخاري: كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم، لأن هذا عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، مازن الأنصار. وفي رواية أبي داود (2) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي، فصلى بهم ركعتين، جهر بالقراءة فيهما، وحوَّل رداءه، فدعا واستسقى واستقبل". وله في أخرى (3) قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فحول، إلى الناس ظهره يدعو الله- قال سليمان: واستقبل القبلة وحول رداءه، ثم صلى ركعتين، قال ابن أبي ذئب: وقرأ فيهما- زاد ابن السرح: يريد الجهر. وفي أخرى (4) بهذا الحديث- ولم يذكر الصلاة- قال: وحول رداءه، وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله". وفي أخرى (5) قال: "استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه خميصة له سوداء، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه". وللنسائي (6): "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء استقبل القبلة، وقلب الرداء، ورفع يديه". وقت التحويل عند استقبال القبلة للدعاء والحكمة في تحويل الرداء إظهار التذلل والافتقار إلى الله تعالى والتفاؤل بأنه سيتحول حال الضيق والقحط إلى حال الغيث والخصب بفضل الله تعالى.
- من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء والاستسقاء في صلاة الجمعة
2195 - * روى ابن خزيمة عن أبي هريرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماداً يديه، حتى رأيت بياض إبطيه. قال سليمان: ظننته يدعو في الاستسقاء. 2196 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى، فقلب رداءه وصلى ركعتين. قال المسعودي عن أبي بكر، عن عباد بن تميم، قلت له: أخبرنا جعل أعلاه أسفله، أو أسفله أعلاه، أم كيف جعله؟ قال: لا، بل جعل اليمين الشمال والشمال اليمين. 2197 - * روى الطبراني عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن ابن الزبير خرج يستسقي بالناس فخطب ثم صلى بغير أذان ولا إقامة وفي الناس يومئذ البراء بن عازب وزيد بن أرقم. 2198 - * روى الشيخان عن أبي إسحاق السبيعي قال: "خرج عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري، وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقوا، فقام زيد فاستسقى، فقام لهم على رجليه على غير منبر، فاستغفر، ثم صلى ركعتين، يجهر بالقراءة، ولم يؤذن ولم يقم". - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء والاستسقاء في صلاة الجمعة: 2199 - * روى البخاري عن عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب. وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وفي رواية (1) أخرجها البخاري معلقة: عن ابن عمر: (ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل 2200 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت السحاب يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي- أو قال: غيره- فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فا يشير بيده على ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهراً، ولم يأت أحد من ناحية إلا حدَّث بالجود". وفي أخرى (2) "أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ثم قال: يا رسول الله،
هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: وطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله، ما رأينا الشمس سبتا. قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: "اللهم حوالينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، قال: فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري". وفي أخرى (1) قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام الناس، فصاحوا، فقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، واحمرت الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا، فقال: "اللهم اسقنا"- مرتين- وايم الله، ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة فأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى بنا، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا
علينا"، وتكشطت المدينة، فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت على المدينة، وإنها لفي مثل الإكليل". وللبخاري (1) قال: "أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال، يا رسول الله، هلكت المواشي، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بشق المسافر، ومنع الطريق". ولأبي داود (2): قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه حذاء وجهه، فقال: "اللهم اسقنا". قال التهانوي (8/ 147): وفي عمدة القاري: فهذه الأحاديث والآثار كلها تشهد لأبي حنيفة أن الاستسقاء استغفار ودعاء. وأجيب عن الأحاديث التي فيها الصلاة أنه صلى الله عليه وسلم فعلها مرة، وتركها أخرى. وهذا لا يدل على السنية، وإنما يدل على الجواز اهـ. قلت التهانوي فيكون كل من الصلاة والدعاء مستحباً. لأنه صلى الله عليه وسلم لم يواظب على أحد منهما، ولكن الصلاة أحب، لاشتمالها على الدعاء وغيره اهـ. وعبارات البخاري تشير إلى إمكانية طي صلاة الاستسقاء بصلاة الجمعة فلقد ترجم البخاري في كتابه 2/ 507 هذه الترجمة: (الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) كما ترجمه في مكان آخر (2/ 501) بقوله:
(الاستسقاء في المسجد الجامع). قال ابن حجر: أشار بهذه الترجمة إلى أن الخروج إلى المصلى ليس بشرط في الاستسقاء لأن الملحوظ في الخروج المبالغة في اجتماع الناس وذلك حاصل في المسجد الأعظم بناءً على المعهود في ذلك الزمان من عدم تعدد الجامع بخلاف ما حدث في هذه الأعصار في بلاد مصر والشام اهـ كما ترجم البخاري أيضاً (2/ 508): (من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء). قال ابن حجر (2/ 501): فأشار بذلك إلى أنه إن اتفق وقوع ذلك يوم الجمعة اندرجت خطبة الاستسقاء وصلاتها في الجمعة وقال (2/ 508): وفيه تعقب على من استدل به لمن يقول لا تشرع الصلاة للاستسقاء لأن الظاهر ما تضمنته الترجمة. اهـ أي الاكتفاء بصلاة الجمعة. 2201 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين". ثم رفع يده، فلم يترك الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب- أو حول- رداءه، وهو رافع يده، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله".
- إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط
يظهر من النصوص السابقة أن للاستسقاء صوراً ثلاثاً. 1 - أن يخرج الإمام بالناس إلى ظاهر البلد فيعظ الناس ويذكرهم ويدعو الله تعالى ويصلي ركعتين كما في حديث عائشة. 2 - أن يصلي ويدعو دون خطبة كما في حديث ابن عباس. 3 - الدعاء على المنبر يوم الجمعة كما في حديث أنس، وهذا موضع اتفاق. أما الصورة الأولى والثانية فقال بها الجمهور وقال الإمام أبو حنيفة ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة ولا خطبة فإن صلوا وحداناً جاز وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار وذلك لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (1) والذي تدل عليه الأحاديث جواز الصور كلها وأنه يحصل بها المقصود فيتخير الإمام ما يراه أصلح لحال الناس. انظر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة (155 - 156). - إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط: 2202 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن قريشاً أبطأوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذتهم سنة، حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان، فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله لهم، فقرأ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (2) ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} (3) يوم بدر. زاد في رواية (4): فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا
- رفع الأيدي بدعاء الاستسقاء
الناس كثرة المطر، قال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم". وفي رواية (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال: "اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف ... وذكر الحديث. - رفع الأيدي بدعاء الاستسقاء: 2203 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يرى بياض إبطيه". وفي رواية (2): لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء. 2204 - * روى أبو داود عن عمير مولى آبي اللحم رضي الله عنه "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء، قائماً يدعو، يستسقي، رافعاً يديه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه". وأخرجه الترمذي عن عمير مولى آبي اللحم، وقال: كذا قال قتيبة في هذا الحديث عن آبي اللحم، قال: [ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد]، وعمير مولى أبي اللحم قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وله صحبة.
- ما يقوله في دعاء الاستسقاء
ولفظ الترمذي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم عند أحجار الزيت يستسقي وهو مقنع بكفيه يدعو. وأخرجه النسائي مثل الترمذي رواية ولفظاً. 2205 - * روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم التيمي رحمه الله قال: أخبرني من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند أحجار الزيت باسطاً كفيه". - ما يقوله في دعاء الاستسقاء: 2206 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يواكي، فقال: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، قال: فأطبقت عليهم السماء". وفي رواية (1) ذكرها رزين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: "اللهم اسق بلادك، وارحم عبادك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثاً مريئاً مريعاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير رائث"، قال: وكان إذا استسقى يمد يديه ويجعل بطونهما مما يلي الأرض، ويرفع حتى أرى بياض إبطيه. 2207 - * روى مالك عن عمرو بن شعيب رحمه الله عن أبيه عن جده "أن رسول الله
- ما يقول إذا رأى المطر
صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا استسقى: "اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت". 2208 - * روى الطبراني عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو إذا استسقى اللهم أنزل في أرضنا بركتها وزينتها وسكنها، وفي رواية (1) وارزقنا وأنت خير الرازقين. - ما يقول إذا رأى المطر: 2209 - * روى البخاري عن عائشة- رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: "اللهم اجعله صيباً نافعاً". وأشار بقوله نافعاً إلى أنه قد يكون المطر ضاراً إذا صار سيولاً فهذا يتعوذ منه كما أنه ربما لا يكون له نفع في الإنبات والخصب كما في الحديث: 2210 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليست السَّنَة أن لا تمطروا، ولكن السَّنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً". وفي ذلك عبرة أن الرجاء للسقيا يتعلق بإغاثة إلهية وإلا فإن الماء قد يتوفر ولا يحصل النبات أو يحصل النبات وتسلط عليه الآفات وفي ذلك ذكرى لمن كان له قلب.
- الإصابة من مطر السماء
- الإصابة من مطر السماء: 2211 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه، حتى أصابه من المطر، قلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: "إنه حديث عهد بربه". - تحريم الاستمطار بالأنواء والتحذير من الشرك بالله: 2212 - * روى أحمد عن معاوية الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يكون الناس مجدبين فينزل الله تبارك وتعالى عليهم رزقاً من رزقه فيصبحون مشركين". فقيل له وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. أقول: الشرك هنا هو نسبة الأشياء إلى أسبابها وقطع صلة ذلك بالله تعالى، فمن أنكر الأسباب فقد كفر، ومن جعل لها تأثيراً فقد أشرك. 2213 - * روى مالك عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب". قال في (شرح السنة 4/ 420 - 421):
قوله: "في أثر سماء" أي في أثر مطر، والعرب تسمي المطر سماء، لأنه ينزل من السماء. والنوء للكواكب الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر، يسقط منها في كل ثلاث عشرة ليلة نجم منها في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر يقابله من المشرق من ساعته، فيكون انقضاء السنة مع انقضاء هذه الثمانية والعشرين. وأصل النوء: هو النهوض، سمي نوءاً، لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءاً، وذلك النهوض، وقد يكون النوء للسقوط. وكانت العرب تقول في الجاهلية: إذا سقط منها نجم، وطلع آخر، لابد من أن يكون عند ذلك مطر، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك على النجم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. وهذا التغليظ فيمن يرى ذلك من فعل النجم، فأما من قال: مطرنا بنوء كذا، وأراد: سقانا الله تعالى بفضله في هذا الوقت، فذلك جائز. 2214 - * روى مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". 2215 - * روى أحمد عن سعد بن إبراهيم يعني ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما قال: كنت جالساً إلى جنب حميد بن عبد الرحمن، فمر شيخ جميل من بني غفار وفي أذنيه صمم- أو قال وقر- فأرسل إليه حميد فلما أقبل قال: يا ابن أخي أوسع له فيما بيني وبينك فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه فقال له حميد: حدثني بالحديث الذي حدثتني به عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال الشيخ: سمعت
- التوسل بالصالحين
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك". - التوسل بالصالحين: 2216 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم فاسقنا فيسقون". قال الحافظ (2/ 497): وقد بين الزبير بن بكار في "الأنساب" صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الحبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس. وأخرج أيضاً من طريق داود، عن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فذكر الحديث ... وقال الحافظ (2/ 495). وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري- وكان خازن عمر- قال: "أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له ائت عمر". قال الحافظ: (وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال المزني أحد الصحابة).
الفقرة الرابعة في الكسوف والخسوف
الفقرة الرابعة في الكسوف والخسوف مقدمة وعرض إجمالي: من معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام الكبرى إخراج الظواهر الكونية من مجال الوهم والتوهم وإدخالها في دائرة العلم وفي دائرة التوصل إلى معرفة الحقيقة في شأنها من خلال البحث، وربط الأسباب المسببات لمعرفة خالقها، والقيام بحقوق العبادة والعبودية شكراً له جل جلاله، يظهر ذلك في نصوص كثيرة. ففي معرض السؤال عن الأهلة جاء الجواب: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (1) فمن مجيء الجملة الأخيرة في هذا السياق نفهم أن الظواهر الكونية ينبغي الوصول إليها من خلال الطرق المؤدية على ذلك. وقد جاء في سورة العنكبوت: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (2) فالآية طلب عن البحث في الأرض للوصول إلى معرفة البدايات الأولى للحياة، وهو ما يسمى الآن بعلم المستحاثات، ومن أعظم ما يظهر فيه مجموع ما قلناه: ما شرع لنا بمناسبتي الكسوف والخسوف وما قاله فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كان الناس تغلب عليهم الأوهام في أمر الكسوف والخسوف فيربطون ذلك بأحداث أرضية، وتغلب عليهم الغفلة عن الله عز وجل الذي هو خالق كل شيء، ويغلب عليهم القيل والقال والتفسيرات والتخوفات فينشغلون بذلك عن عبادة الله عز وجل، فأزال الشارع هذه الأمور كلها، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لا ارتباط للكسوف والخسوف بما يجري على الأرض وأن الكسوف والخسوف من آيات الله التي تدل عليه وإنه إذا حدث الكسوف والخسوف، فأدب المسلم أن يقبل على الله عز وجل بالدعاء والصلاة، فيكون الكسوف والخسوف مذكرين للمسلم بما يجب عليه لله
خالق كل شيء من القيام بشؤون العبادة والعبودية، وبعد هذه المقدمة التي ستأتي أدلتها نستخلص لك من كتب الفقه خلاصة عن هذا الموضوع: غلب في اصطلاح الناس والفقهاء وعلماء الكون أن يخصص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر، فالكسوف: هو ذهاب ضوء الشمس أو بعضه في النهار بسبب وقوع ظل القمر بين الشمس والأرض، والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر أوب عضه ليلاً لوقوع ظل الأرض بين الشمس والقمر. وقد شرعت لنا بمناسبة الكسوف والخسوف صلاة وهي: سنة مؤكدة باتفاق الفقهاء، وهي مشروعة حضراً وسفراً للرجال والنساء، أي للمكلفين ومن تطلب منه الصلاة، ويدخل في ذلك الصبيان ولهم وللعجائز حضورها جماعة، ويؤمر بها من تجب عليه الجمعة اتفاقاً، وتشرع بلا أذان ولا إقامة، وتصلى جماعة أو فرادى سراً أو جهراً، بخطبة أو بلا خطبة وفعلها في مسجد الجماعة والجمعة أفضل، ولا يشترط لها إذن الإمام، ويسن الغسل لها والخطبة عند الشافعية، والوعظ ندباً عند المالكية، وذهب الجمهور غير المالكية والحنابلة إلى شروع الصلاة لكل ظاهرة كونية مفزعة كالزلزلة والصواعق والريح الشديدة، لكن الأصل فيما سوى صلاة الكسوف والخسوف أن تصلى فرادى، والحنابلة يوافقون الجمهور في الصلاة للزلزلة ويرى الحنفية أن صلاة الكسوف والخسوف ركعتان كهيئة الصلوات الأخرى العادية ولا تختلف عنها، وقال الجمهور صلاة الكسوف والخسوف ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجودان والجميع والجميع متفقون على الندب في إطالة القراءة والركوع والسجود لينجلي الكسوف أو الخسوف. وأجاز الحنابلة أن تؤدى صلاة الكسوف والخسوف على كل صفة وردت عن الشارع، فإن شاء أداها كما قال الحنفية وإن شاء أداها بركوعين في كل ركعة، وما يستتبع ذلك من رفع، وإن شاء أداها بثلاث ركوعات في كل ركعة أو خمس ركوعات في كل ركعة، لكن لا يزيد عندهم على خمس ركوعات في كل ركعة، ويخفي الإمام القراءة في صلاة الكسوف والخسوف عند أبي حنيفة وقال الصاحبان يجهر الإمام في صلاة الكسوف والخسوف، وقال المالكية والشافعية يسر الإمام في صلاة كسوف الشمس ويجهر في صلاة خسوف القمر وقال الحنابلة يجهر في صلاتي الكسوف والخسوف.
والجمهور على أن الكسوف والخسوف إذا وقعا في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لا تصلى فيها وذهب الشافعية إلى أنها تصلى في الأوقات الخمسة المنهي عنها كما تصلى في غيرها. ويندب عند المالكية تكرار صلاة الخسوف حتى ينجلي القمر أو يغيب في الأفق أو يطلع الفجر، ووقت صلاة الكسوف والخسوف من حين الكسوف والخسوف إلى حين التجلي، فإذا حدث التجلي أثناء الصلاة، أتمها خفيفة على صفة الصلاة كما نص عليه الحنابلة، وتفوت صلاة الكسوفين بالتجلي قبل الصلاة أو بغيبوبة الشمس كاسفة، أو بطلوع الشمس والقمر خاسف أو بطلوع الفجر والقمر خاسفاً ويقول الذين لا يرون صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها: إنه يشرع في هذه الحالة الدعاء والذكر، وإن فاتت صلاة الكسوف لفوات وقتها لم تقض، وقال الحنفية والحنابلة: لا خطبة لصلاة الكسوف، وقال المالكية: لا يشترط في هذه الصلاة خطبة وإنما يندب وعظ بعدها يثني فيه على الله عز وجل ويصلي ويسلم على نبيه عليه الصلاة والسلام. وقال الشافعية: يسن أن يخطب الإمام لصلاة الكسوفين خطبتين بعد الصلاة كخطبة الجمعة والعيدين بأركانهما ويعلقون جواز الخطبة في بلد فيه وال على إذنه، واتفق الفقهاء على استحباب الذكر والدعاء والاستغفار والصدقة وفعل القربات بهذه المناسبات. ففي الإسلام تكون هذه المناسبة مذكرة للناس بأن يقوموا بحقوق العبودية لله تعالى، ويدعو الإمام جالساً بعد الصلاة مستقبلاً القبلة إن شاء أو قائماً مستقبلاً الناس. واتفق الفقهاء على أن صلاة الكسوف تسن جماعة في المسجد ويصلي بالناس الإمام الذي يصلي بهم الجمعة إن وجد، وأجاز الحنابلة والشافعية صلاتها فرادى، وقال الحنفية: إن لم يحضر إمام الجمعة صلاها الناس فرادى ركعتين أو أربعاً في منازلهم. وأما صلاة خسوف القمر فإنها تصلى فرادى ويمكن عند الشافعية والحنابلة أن تصلى جماعة. وقال الحنفية: تصلى صلاة الخسوف ركعتين أو أربعاً فرادى في المنازل، وقال المالكية:
يندب لخسوف القمر ركعتان جهراً، وقال الشافعية والحنابلة: صلاة الخسوف كالكسوف بجماعة بركوعين وقيامين وقراءتين وسجدتين في كل ركعة، تؤدى جهراً لا سراً. وإذا اجتمعت صلاتان كالكسوف مع غيرها من الجمعة أو فرض آخر أو العيد أو الجنازة أو الوتر، وإن لم يخف فوته يقدم الكسوف، وتكفي عند الشافعية خطبة الجمعة عن خطبة الكسوف. أما إذا اجتمع عيد أو كسوف مع صلاة جنازة قدمت الجنازة على الكسوف والعيد كما تقدم الجنازة على صلاة العيد إن لم يخف فوتها وتقدم صلاة الكسوف على صلاة العيد والمكتوبة إن أمن الفوت. ويقدم الخسوف على الوتر عند الشافعية والحنابلة كما تقدم عند الشافعية على التراويح. وتقدم التراويح على الكسوف عند الحنابلة إذا تعذر فعلها. (انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1/ 565 - 566)، (الشرح الصغير: 1/ 532 - 536)، (المهذب: 1/ 122)، (المغني: 2/ 420 - 429)، (الفقه الإسلامي: 2/ 398 - 410). أقول: وحيث ما كان اختلاف للفقهاء في صلاة الكسوف والخسوف وصلاها الناس جماعة فإن الإمام هو الذي ينبغي أن يقتدى به، فالناس له تبع في هذه الحالة، وهو يختار الكيفية التي يراها إذا كان وراءه ناس من مذاهب مختلفة أما إذا كان في منطقة ليس فيها إلا مذهب واحد كتركيا مثلاً أو المغرب العربي حيث يغلب في الأولى المذهب الحنفي وفي الثانية المذهب المالكي فالأولى أن يراعي مذهب المنطقة. وإلى نصوص هذه الفقرة:
- الصلاة في كسوف الشمس وكيفيتها والتعوذ من عذاب القبر
- الصلاة في كسوف الشمس وكيفيتها والتعوذ من عذاب القبر: 2217 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، فأطال القراءة ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه، فأطال القراءة- وهي دون قراءته الأولى- ثم ركع فأطال الركوع، دون ركوعه الأول، ثم رفع رأسه، فسجد سجدتين، ثم قام فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم قام فقال: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة". وفي أخرى (1) نحوه، إلا أنه قال: "فسلم وقد تجلت الشمس، فخطب الناس ... " ثم ذكر الحديث. وفي أخرى (2) قال: "خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبَّر ... " وذكر نحوه، إلا أنه قال: ثم قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم سجد" وفيه "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف" ثم وصل به حديثاً عن كثير بن عباس عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات، ثم قال الزهري: فقلت لعروة: إن أخاك يوم كسفت الشمس بالمدينة- لم يزد على ركعتين مثل الصبح، قال: أجل، لأنه أخطأ السُّنة". وفي أخرى (3): "أنه صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر
فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات". قال: وقال الأوزاعي وغيره عن الزهري عن عروة عن عائشة: "خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً: الصلاة جامعة، فقام فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات". قال البخاري: تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري في الجهر. وفي رواية (1): وقال أيضاً "فصلوا حتى يفرَّج عنكم"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم- وفي رواية أتقدم- ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي، وهو الذي سيب السوائب". وفي أخرى (2) قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام. ثم ذكر الأربع ركعات، وإطالته فيها، وأن القيام والركوع في كل منها دون ما قبله. وفيه ... ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا"، ثم قال: "يا أمَّة محمد، والله ما من أحد أغير من الله: أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمَّة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً". زاد في رواية (3) "ألا هل بلغت؟ ".
وفي أخرى (1) "ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت؟ ". وفي أخرى (2) قالت: "إن يهودية جاءت تسألها؟ فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائذاً بالله من ذلك"، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركباً، فخسفت الشمس، فرجع ضحى، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحجر، ثم قام يصلي، وقام الناس وراءه .. ثم ذكر نحو ما تقدم في عدد الركوع، وطول القيام، وأن ما بعد كل من ذلك دون ما قبله ... وقال في آخره: ثم انصرف، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر". وفي أخرى (3) نحوه، وفي آخره فقال "إني قد رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال، قالت عمرة: فسمعت عائشة تقول: فكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يتعوذ من عذاب النار وعذاب القبر". ولمسلم (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات. وفي أخرى (5) "أن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام قياماً شديداً، يقوم قائماً، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات، فانصرف وقد تجلت الشمس، وكان إذا ركع قال: الله أكبر، ثم يركع، وإذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفاً، فاذكروا الله حتى ينجليا".
أقول: استدل الشافعي وأحمد بهذه الرواية على مشروعية الخطبة بعد صلاة الكسوف وذهب الحنفية والمالكية إلى أن هذا التذكير كان عارضاً لتصحيح الاعتقاد فلا تسن خطبة للكسوف. وقد أخرج أبو داود (1) رواية ذكر فيها: "ثلاث ركعات، يركع الثالثة ثم يسجد، حتى إن رجالاً يومئذ ليغشى عليهم مما قام بهم، حتى إن سجال الماء لتصب عليهم، يقول إذا ركع: الله أكبر ... وذكر الحديث" وقال في آخره: "يخوِّف بهما عباده، فإذا كسفا فافزعوا إلى الصلاة". وله في أخرى (2) قال: كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فقام، فحزرت قراءته، فرأيت أنه قرأ سورة البقرة ... وساق الحديث، ثم سجد سجدتين، ثم قام فأطال القراءة، فحزرت قراءته، فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران .. " وساق الحديث من لفظ أبي داود. أقول: في الروايات التي مرت معنا رأينا ثلاث صيغ لصلاة الكسوف، صيغة ابن الزبير: التي قال عنها أخوه عروة أنه أخطأ السنة أي صلاها كصلاة الفجر، وابن الزبير خليفة راشد فاجتهاده عندنا أقوى من اجتهاد أخيه، فعمله يدل على أن صلاة الكسوف تصلى كما تصلى صلاة الفجر بركوع واحد وسجدتين في كل ركعة وهو الذي أخذ به الحنفية. والصيغة الثانية: أن يركع في كل ركعة مرتين، وأن يقرأ قبل الركوع الأول وقبل الركوع الثاني ثم يسجد سجدتين كالعادة. والصيغة الثالثة: أن يركع ثلاث ركوعات في الركعة الواحدة ويقرأ ثلاث مرات في كل ركعة ثم يسجد سجودين. وقد رأينا أن الحنابلة يجيزون أن يركع في الركعة الواحدة خمس ركوعات، قبل كل ركوع قراءة، ويعتبرون كلاً سنة والأمر واسع، وقد لاحظنا من الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب بعد صلاة الكسوف، والفقهاء على رأيين في هذا
الموضوع، فمنهم من اعتبر خطبته سنة دائمة ومنهم من اعتبرها خاصة بتلك الصلاة، ولاحظنا أن بعض الروايات تذكر رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم للجنة والنار وقد قربتا منه ولم يرهما أصحابه فدل ذلك على أن الجنة والنار مغيبتان عنا وإذا كانت الجنة فوق السماء السابعة الآن فهذا دليل على أن ما ذهبنا إليه من أن السماوات السبع والكرسي والعرش كلها من أمر الغيب. ويمكننا إجمال فوائد الأحاديث بما يلي: 1 - دل الحديث على مشروعية صلاة الكسوف وأن تؤدى بجماعة في المسجد، وقد اتفق العلماء على أنها سنة مؤكدة؛ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم إياها، وجمعه الناس عليها، وهذه أمارات التأكيد. 2 - دل حديث عائشة على أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، وقد اتفقوا على عدد الركعات أنه اثنتان، لكن اختلفوا في عدد الركوع: فذهب الحنفية إلى أنها تصلى بركوع واحد في كل ركعة. وأجاب الحنفية عن أحاديث تعدد الركوع بأجوبة اختار منها الكمال بن الهمام، القول بالاضطراب، لأن الرواة اختلفوا، فتارة قالوا ركوعين، وتارة قالوا ثلاثة ركوعات، وتارة قالوا أربعة ركوعات، وقالوا غير ذلك. فوجب أن يصلي ما هو المعهود في الصلاة وهو ركعتان بركوع واحد للركعة. فرجعوا بهذه الدلالة العمل برواية الركوع الواحد. وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه يركع في كل ركعة ركوعين عملاً بحديث عائشة وغيرها، وقالوا إنه أصح الروايات وأشهرها فيعمل به، ويكون راجحاً على الروايات الأخرى. وهؤلاء سلكوا أيضاً طريق الترجيح بين الروايات. أما الحنبلية فقالوا: الأفضل ما ورد في حديث عائشة، ولا مانع من الزيادة في الركوع عملاً بالروايات الأخرى. وهذا المسلك ذهب إلى الجمع بين الروايات والعمل بها جميعها.
- الشمس والقمر آيتان لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته
- الشمس والقمر آيتان لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته: 2218 - * روى احمد عن محمود بن لبيد قال كسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا كسفت الشمس لموت إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل ألا وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما كذلك فافزعوا إلى المساجد" ثم قام فقرأ بعض الذاريات ثم ركع ثم اعتدل ثم سجد سجدتين ثم قام ففعل كما فعل في الأولى. أقول: هذه الرواية تدل على أن ما فعله ابن الزبير كما مر معنا في إحدى الروايات السابقة كانت سنة، وهو الذي أخذ به فقهاء الحنفية وهذا النص يشهد لذلك. 2219 - * روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "بينما أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا، حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق، اسودت حتى آضت كأنها تنومة، فقال أحدنا لصاحبه: انطلق بنا إلى المسجد، فوالله ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته حدثاً، قال: فدفعنا فإذا هو بارز، فاستقدم فصلى، فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط، لا نسمع له صوتاً، قال: ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط، لا نسمع له صوتاً، قال: ثم سجد كأطول ما سجد بنا في صلاة قط، لا نسمع له صوتاً، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، قال: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، ثم سلم فحمد الله وأثنى عليه،
وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبده ورسوله ... ثم ساق ابن يونس خطبة النبي صلى الله عليه وسلم". وأخرجه النسائي، ولم يذكر "حتى آضت كأنها تنومة" وقال فيه: "فدفعنا إلى المسجد، قال: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الناس، قال: فاستقدم" والباقي مثله. وله في أخرى (1): "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب حين انكسفت الشمس، فقال: أما بعد .. ". وله (2) وللترمذي (3) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بنا في كسوف لا نسمع له صوتاً". قال محقق الجامع: وفي سنده ثعلبة بن عباد العبدي وهو مجهول لم يوثقه غير ابن حبان، قال الترمذي: حديث سمرة، حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن عائشة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ولعل ذلك لشواهده، فقد جاء عن ابن عباس قال: كنت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، فما سمعت منه حرفاً، رواه أحمد وأبو يعلى والبيهقي من حديث عكرمة عنه، وزاد في آخره: حرفاً من القرآن، وفي سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف، وللطبراني من طريق موسى بن عبد العزيز عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه: صليت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس فلم أسمع له قراءة، وقد ذكر هذه الروايات الحافظ في التلخيص، وقال الترمذي: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، يعني الإسرار بالقراءة في صلاة الكسوف، وهو قول الشافعي. أقول: وقد قال بذلك كثير من الفقهاء، وفي الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في كسوف الشمس وجهر بالقراءة فيها. قال أبو بكر بن العربي: والجهر عندي أولى لأنها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب، فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. وقال الحافظ في "الفتح" بعد ما ذكر أحاديث الإسرار في قراءته: وعلى تقدير صحتها، فمثبت
ما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجنة والنار في صلاة الخسوف
الجهر معه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وإن ثبت التعدد، فيكون فعل ذلك لبيان الجواز. اهـ. ما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجنة والنار في صلاة الخسوف: 2220 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، ثم بدأ فكبَّر، ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم انحدر بالسجود، فسجد سجدتين، ثم قام أيضاً، فركع ثلاث ركعات ليس منها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحو من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهينا إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه، فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس، فقال: "يا أيها الناس، إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا حتى تنجلي، ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، ولقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت، مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق المحجن، وإن غفل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء
- صلاة الرجال مع النساء في الكسوف
بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي، فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه". وفي أخرى (1) قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فأطال القيام، حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم سجد سجدتين ثم قام فصنع نحواً من ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات، ثم قال: "إنه عرض علي كل شيء تولجونه، فعرضت علي الجنة، حتى لو تناولت منها قطفاً لأخذته"- أو قال: "تناولت منها قطفاً، فقصرت يدي عنه- وعرضت علي النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار، وإنهم كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي". وفي أخرى (2) نحوه، إلا أنه قال: "ورأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة" ولم يقل "من بني إسرائيل". - صلاة الرجال مع النساء في الكسوف: 2221 - * روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "أتيت عائشة رضي الله عنها وهي تصلي، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت إلى السماء، فإذا النسا قيام، قالت: سبحان الله، قلت: آية؟ فأشارت برأسها: أي نعم، فقمت حتى تجلاني الغشي، فجعلت أصب على رأسي الماء، فحمد الله النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، قال: "ما من
تفتنون في قبوركم مثل، أو قريباً- لا أدري أي ذلك قالت أسماء؟ - من فتنة المسيح الدجال. يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن، أو الموقن- لا أدري أيهما قالت أسماء؟ - فيقول: هو محمد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد- ثلاثاً- فيقال: نم صالحاً، قد علما إن كنت لموقناً به، وأما المنافق، أو المرتاب؛ - لا أدري أي ذلك قالت أسماء؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته". وفي حديث (1) زائدة "لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس". قال البخاري: قالت أسماء: "فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس، فحمد الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: ". قال البخاري (2) في رواية وذكر نحو ما قدمنا، وفيه قالت: "فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً، حتى تجلاني الغشي، وإلى جنبي قرية فيها ماء، ففتحتها فجعلت أصب منها على رأسي، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد"- ولغط نسوة من الأنصار، فانكفأت إليهن لأسكتهن- فقلت لعائشة: ما قال؟ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، ولقد أوحي إلي: أنكم تفتنون في القبور مثل- أو قريباً- من فتنة الدجال" ثم ذكر نحو ما تقدم ... إلى قوله: "سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته" قال هشام: وقد قالت لي فاطمة فأوعيته، غير أنها ذكرت ما يغلَّظ عليه. وللبخاري (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقام فأطال القيام، ثم ركع
- إطالة القيام والركوع والسجود في الكسوف والركعة الأولى في الكسوف أطول
فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع، فسجد فأطال السجود، ثم رفع، فسجد فأطال السجود، ثم انصرف، فقال: "قد دنت مني الجنة، حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار، حتى قلت: أي رب، وأنا معهم؟ وإذا امرأة- حسبت أنه قال: تخدشها هرة- قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل"- قال نافع: حسبت أنه قال: من خشيش الأرض- أو خشاش- قال أبو بكر الإسماعيلي: والصحيح "أو أنا معهم؟ " قال: وقد يستخف إسقاط ألف الاستفهام في مواضع. - إطالة القيام والركوع والسجود في الكسوف والركعة الأولى في الكسوف أطول: 2222 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله"، قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال:
- الفزع إلى الدعاء والذكر والاستغفار عند كسوف الشمس
"إني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن". قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط". ولمسلم (1) في أخرى قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات. وقال: عن علي مثل ذلك. - الفزع إلى الدعاء والذكر والاستغفار عند كسوف الشمس: 2223 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خسفت الشمس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد، فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسلها الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل يرسلها يخوِّف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره". 2224 - * روى أحمد عن علي قال: كسفت الشمس فصلى علي فقرأ يس أو نحوها ثم ركع نحواً من قدر السورة ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ثم قام قدر السورة يدعو ويكبر ثم ركع قدر قراءته أيضاً ثم قال سمع الله لمن حمده ثم قام أيضاً قدر السورة ثم ركع قدر ذلك أيضاً حتى صلى أربع ركعات ثم قال سمع الله لمن حمده ثم سجد ثم قام إلى الركعة الثانية ففعل كفعله في الركعة الأولى ثم جلس يدعو ويرغِّب حتى انجلت الشمس ثم حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل.
2225 - * روى البزار عن علي قال انكسفت الشمس فقام علي فركع خمس ركعات وسجدتين ثم قام في الركعة الثانية مثل ذلك ثم قال ما صلاها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد غيري. أقول: رأينا أن مذهب الحنابلة أدخل في صيغ صلاة الكسوف أن يركع في الركعة الواحدة أربعة ركوعات أو خمسة وهاتان الروايتان عن علي تشهد لهاتين الصيغتين، وعلى هذا فهناك خمس كيفيات لصلاة الكسوف كل منها مشروع. قال الخطابي في "معالم السنن" يشبه أن يكون اختلاف الروايات في صلاة الكسوف، في عدد ركعاتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها دفعات، فكانت إذا طالت مدة الكسوف مد في صلاته، وإذا لم تطل لم يطل. قال ابن خزيمة: فجائز للمرء أن يصلي في الكسوف كيف أحب وشاء مما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من عدد الركوع، إن أحب ركع في كل ركعة ركوعين، وإن أحب ركع في كل ركعة ثلاث ركعات وإن أحب ركع في كل ركعة أربع ركعات، لأن جميع هذه الأخبار صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأخبار دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس مرات لا مرة واحدة.
الفقرة الخامسة في صلاة الجنازة وأحكام الشهداء
الفقرة الخامسة في صلاة الجنازة وأحكام الشهداء مقدمة وعرض إجمالي: إذا تأملت في النصوص التي تتحدث عن الزواج وفي الأحكام التي تتعلق بالنكاح، وإذا تأملت الأحكام المتعلقة ببعض الحدود كحد الزنا والقذف فإنك تجد الرعاية للذرية تبدأ بالنسبة للإنسان قبل الولادة فإذا عرفت أن الإسلام خص الطفل والمرأة والشيوخ بمزيد الوصايا والرعاية عرفت أن من خواص هذا الدين الرحمة بالمستضعفين والعاجزين، وإذا عرفت أن للطفل أول ما يولد أحكاماً وأن للإنسان إذا مات حقوقاً عرفت مظهراً من مظاهر شمولية هذا الدين لكل حالات الإنسان، وهذا مظهر من مظاهر أن هذا الدين دين الله. وحقوق الإنسان عند الوفاة كثيرة، وحقوقه إذا مرض كثيرة، فمن حق المسلم على المسلم أن يعوده إذا مرض ويتبع جنازته إذا مات، ونحن في كتابنا هذا سنخص أدب التعامل مع الموت بجزء خاص في القسم الرابع من أقسام هذا الكتاب كما سنخصص للكلام عن الطب والمرض جزءاً خاصاً في القسم الرابع كذلك، وها هنا نكتفي بذكر حق من حقوق الميت المسلم سواء كان رجلاً أو امرأة وطفلاً بالذكر وهو حقه أن يصلى عليه، وإذا كان للشهيد أحكام خاصة به ومنها ما له علاقة في الصلاة عليه واختلاف الفقهاء في بعض صور ذلك، ولكون الصلاة على الميت ألصق ببحث الصلاة، فقد ذكرنا هذه الفقرة هنا، وها نحن نستخلص لك خلاصة من كتب الفقه في أحكام الصلاة. - الصلاة على المسلم الميت غير الشهيد سواء كان ذكراً أو أنثى فرض كفاية على الأحياء بالإجماع إذا فعلها البعض ولو واحد سقط الإثم عن الباقين، وإذا أريدت الصلاة نودي: الصلاة على الميت يرحمكم الله ولا تجوز الصلاة على كافر أو منافق، وهي عند الحنفية: حق لكل مسلم مات إلا البغاة وقطاع الطريق إذا قتلوا في الحرب، وأهل العصبية والمكابر في
مصر ليلاً بسلاح. أو من تكرر منه الخنق في المصر، ولا يصلى عندهم على قاتل أحد أبويه إهانة له إذا قتله الإمام قصاصاً، أما إن مات حتف أنفه فإنه يصلى عليه والمراد بأهل العصبية هم الذين يتعاونون على الظلم، ويتعصبون لقوم أو قبيلة ويقتلون بسبب ذلك وهم ظالمون، ومن قتل نفسه عمداً يغسل ويصلى عليه على المفتى به عند الحنفية، ورأى قوم كأبي يوسف أنه لا يصلى عليه، وقال المالكية ولا يصلي الإمام على من قتله في حد أو قصاص، ويصلي عليه غيره، وقال المالكية وينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على المبتدعة ومظهري الكبائر، واستثنى الحنابلة من فرضية صلاة الجنازة الشهيد والمقتول ظلماً، والجمهور غير الحنفية على أن الشهيد لا يصلى عليه، ولم يصلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من غل من الغنيمة أي أخذ شيئاً من الغنيمة دون إذن الإمام. والأحق بالصلاة عند الحنفية على الميت السلطان إذا حضر أو نائبه إذا غاب، أو القاضي في حال غياب الاثنين، ثم إمام الحي، ثم الولي الذكر المكلف بترتيب عصوبة أو أولياء نكاح والأب يقدم على الابن ويقدم الأقرب فالأقرب، كترتيبهم في ولاية الزواج ولمن له حق التقدم أن يأذن لغيره ومن له ولاية التقدم أحق ممن أوصى له الميت بالصلاة عليه على المفتى به. فإن صلى عليه غير الوالي والسلطان ونائبه فللولي إعادة الصلاة ولو على قبره إن شاء وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي عليه بعده، فإذا دفن ولم يصل عليه صلى على قبره ما لم يغب على الظن تفسخه، وقال المالكية والحنابلة أحق الناس بالصلاة على الميت من أوصى الميت أن يصلي عليه ثم الوالي أو الأمير ثم الأولياء والعصبات على ترتيب ولايتهم في النكاح، لكن يقدم الأخ وابنه عند المالكية على الجد، ويصلي النساء عند المالكية حال عدم الرجال فرادى دفعة واحدة، ويقدم عند الحنابلة الأحق بالإمامة في المكتوبات، وقال الشافعية: الولي أولى بالإمامة من الوالي ولو أوصى الميت لغير الولي، ويقدم الأب ثم الجد وإن علا ثم الابن وإن سفل ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب ... فإذا لم يوجد عصبات قدم الأقرب فالأقرب من ذوي الأرحام فإن استوى الأولياء في الدرجة وكلهم صالح للإمامة فالأسن ولو
كان غيره أفقه منه، واتفقت المذاهب الأربعة على جواز الصلاة على الجنائز المتعددة دفعة واحدة وعلى أن إفراد كل جنازة بصلاة أفضل ويقدم الأفضل فالأفضل. وفي حال اجتماع الجنائز: قال الحنفية تصف صفاً عريضاً ويقوم الإمام عند أفضلهم أو تصف صفاً طويلاً مما يلي القبلة بحيث يكون صدر كل واحد منهم قدام الإمام محاذياً له. ولصلاة الجنازة عند الحنفية ركنان: التكبيرات الأربع والقيام، والسلام مرتين بعد التكبيرة الرابعة واجب عندهم، والنية شرط ولا تجوز الصلاة عندهم على الجنازة راكباً ولا قاعداً بغير عذر، وسنن الصلاة عندهم: التحميد والثناء والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأركان الصلاة عند المالكية: النية والتكبيرات الأربع والدعاء للميت بما تيسر وتسليمة واحدة والقيام للقادر عليه. وعند الشافعية والحنابلة: قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى ركن، وكيفية الصلاة عند الحنفية: أن ينوي المصلي الصلاة لله تعالى والدعاء لهذا الميت ثم يرفع يديه في التكبيرة الأولى فقط ويدعو بدعاء الثناء وهو (سبحانك اللهم ...) ثم يكبر التكبيرة الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر التكبيرة الثالثة ويدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين ثم يكبر الرابعة ويسلم، وجاز عندهم أن تقرأ الفاتحة بعد الثناء على نية الثناء لا على نية التلاوة، ويندب أن يدعو بالمأثورات، وإلا فما تيسر، ولو كبر الإمام خمساً لم يتبع، فيمكث المؤتم حتى يسلم مع الإمام إذا سلم، ولا يستغفر لصبي ومجنون، ولكن يدعو لهم بالمأثور كما سنراه. وأفضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنازة وغيرها هي الصلاة الإبراهيمية، وكما رأينا فإنه لا يرفع يديه إلا عند التكبيرة الأولى فقط ويضع بعد ذلك يده اليمنى على اليسرى تحت سرته حتى ينهي الصلاة. وصلاة الجنازة متقاربة في المذاهب.
وخلاصة الأمر هي ما يلي
وخلاصة الأمر هي ما يلي: أن صلاة الجنازة تبدأ بالنية وتشتمل على أربع تكبيرات ودعاء للميت حال القيام، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفاتحة وسلام إلا أن النية شرط لا ركن عند الحنفية والحنابلة، ومحل الدعاء عند الجمهور بعد التكبيرة الثالثة، وعقب كل تكبيرة حتى الرابعة على المعتمد عند المالكية، والصلاة على النبي مسنونة عند الحنفية، مندوبة عند المالكية، ركن عند الآخرين، والسلام واجب عند الحنفية ركن عند الجمهور، وقراءة الفاتحة مكروهة تحريماً بنية التلاوة جائزة بنية الدعاء عند الحنفية، ومكروهة تنزيهاً عند المالكية وركن عند الآخرين. ولو زاد الإمام عن أربع تكبيرات لا يتابعه المقتدي في الزيادة، وإنما ينتظره ليسلم معه عند الحنفية والشافعية، ويسلم عند المالكية، ويتابعه إلى سبع تكبيرات عند الحنابلة. وقال الحنفية: يندب أن يقوم الإمام بحذاء الصدر مطلقاً للرجل والمرأة، وقال المالكية: يقف الإمام عند وسط الرجل وعند منكبي المرأة وقال الشافعية: يندب أن يقف المصلي إماماً أو منفرداً عند رأس الرجل وعند عجز الأنثى. وقال الحنابلة: يقوم الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. والمسبوق يتابع الإمام فيما لحق ويتم ما فاته، وقال الحنفية وآخرون إذا كبر الإمام الرابعة فقد فاتت الصلاة. وأجاز الحنفية لمن لم يكن على طهارة وحضرت صلاة الجنازة وخاف إن توضأ أن لا يدركها جاز له التيمم، وقال الحنفية، يكره تحريماً الصلاة على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها. وقال المالكية والحنابلة: تحرم الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وغروبها وزوالها، وتجوز بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس والعصر إلى الغروب، وقال الشافعية: يجوز فعل الصلاة في جميع الأوقات ويكره عند الحنفية والمالكية تكرار الصلاة على الجنازة إن صلى عليها جماعة فإذا لم تكن صلي عليها جماعة أعيدت ندباً بجماعة قبل الدفن.
وأجاز الشافعية والحنابلة تكرار الصلاة على الجنازة مرة أخرى لمن لم يصل عليها أولاً ولو بعد الدفن، بينما يسن ذلك عند الشافعية، واتفق الفقهاء على جواز الصلاة على الميت بعد الدفن إذا لم يكن صلي عليها على تفصيلات الأئمة في هذا الشأن فمثلاً إذا غلب الظن أن الميت قد تفسخ في قبره فإنه لا يصلى عليه عند الحنفية، وأجاز الشافعية والحنابلة جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد وإن قربت المسافة ولم يكن في جهة القبلة لكن المصلي يستقبل القبلة وتتوقت الصلاة على الغائب عند الحنابلة بشهر كالصلاة على قبر، ولا تجوز الصلاة على الغائب عند الحنفية والمالكية، وقالوا إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خصوصية، ويصلى على المولود أو السقط عند الحنابلة إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر ويغسل أيضاً، والسقط هو ما وضعته المرأة ميتاً أو بغير تمام. واتفق الفقهاء على أن السقط إذا خرج حياً واستهل بأن سمع له صوت بكاء عند الولادة، ووجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره فإنه يغسل ويصلى عليه. ولا يصلى عند الحنفية على السقط إذا لم يستهل لكنه يغسل ويدرج في خرقة ويدفن، والشافعية كالحنفية في عدم الصلاة على السقط إذا لم يستهل، واستثنوا من ذلك إذا بلغ تمام أشهره فإنه يغسل ويصلى عليه، ويكره عند المالكية أن يغسل السقط أو يصلى عليه إذا لم يستهل صارخاً أو تتحقق حياته غلا أنه يغسل عنه دمه ويلف بخرقة ويوارى، والأصل أني صلى على الميت في المصلى وأما الصلاة في المقبرة على الجنازة فهي مكروهة عند الحنفية والشافعية وأجاز المالكية والحنابلة الصلاة على الجنازة في المقبرة، ويكره عند الحنفية والمالكية أن يصلى عليها في المسجد وأجاز ذلك الشافعية والحنابلة، والذين أجازوها في المسجد قيدوا ذلك فيما إذا لم يخش تلويثه. والشهيد عند الحنفية يكفن بثيابه ويصلى عليه ولا يغسل إذا استشهد وهو مكلف طاهر، أما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهدوا يغسلون عند أبي حنيفة كما يغسل الصبي والمجنون، وقال الصاحبان لا يغسلان ولا يغسل عن الشهيد دمه ولا ينزع عنه ثيابه لكن ينزع عنه الفرو والحشو والخف والسلاح مما لا يصلح للكفن وقال الجمهور: لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم، ويدفن
الشهيد بثيابه بعد تنحية الجلود والسلاح عنه ويستحب دفن الشهيد في مكان مصرعه، والبالغ وغيره سواء عند الجمهور، ولا يغسل الجنب ونحوه عند المالكية وهذا كله فيمن ينطبق عليه تعريف شهيد الدنيا والآخرة، وأما شهيد الآخرة فقط كالمرأة تموت في ولادتها والمبطون فهؤلاء يعاملون معاملة الموتى العاديين وعلى هذا لابد من تعريف من ينطبق عليه وصف شهداء الدنيا والآخرة الذين لهم أحكام خاصة قال الحنفية في التعريف بهذا النوع من الشهداء. الشهيد من قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو قطاع الطريق، أو اللصوص في منزله ليلاً أو نهاراً بأي آلة: مثقل أو محدد، أو وجد في المعركة وبه أثر كجرح وكسر وحرق وخروج دم من أذن أو عين، أو قتله مسلم ظلماً عمداً بمحدد، وكان مسلماً مكلفاً (بالغاً عاقلاً) طاهراً (خالياً من حيض أو نفاس أو جنابة)، ولم يرتث بعد انقضاء الحرب أي لا يموت عقب الإصابة. والارتثاث: أن يأكل أو يشرب أو يداوى، أو يبقى حياً حتى يمضي عليه وقت صلاة وهو يعقل، أو ينقل من المعركة حياً، أي وهو يعقل. أما المقتول حداً أو قصاصاً، فإنه يغسل ويصلى عليه، لأنه لم يقتل ظلماً، وإنما قتل بحق، وأما من قتل من البغاة أو قطاع الطرق فلا يغسل ولا يصلى عليه. وبه يتبين أن شروط تحقيق الشهادة عندهم: هي الإسلام والعقل والبلوغ، والطهارة من الحدث الأكبر، وأن يموت عقب الإصابة. وأن كل مقتول في المعركة مع العدو، أو قتل ظلماً، أو دفاعاً عن النفس أو المال فهو شهيد. أما من خرج حياً من المعركة، أو كان جنباً فلا تطبق عليه أحكام الشهيد. وقال المالكية: الشهيد: من مات في معترك المشركين، ومن أخرج من المعركة في حكم الأموات وهو من رفع من المعركة حياً منفوذ المقاتل، أو مغموراً (أي يعاني غمرات الموت: وهي شدائده): وهو من لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم إلى أن مات، فإن قتل في غير المعركة ظلماً، أو أخرج من المعترك حياً، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل وصلي عليه في
المشهور، كما أن من قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه، ويغسل الجنب. وقال الشافعية: الشهيد: هو من مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب، كأن قتله كافر، أو اصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو تردى في بئر أو وهدة، أو رفسته دابته فمات، أو قتله مسلم باغ استعان به أهل الحرب. فإن مات لا بسبب القتال، أو بعد انقضاء المعركة، أو في حال قتال البغاة، فغير شهيد في الأظهر. ولا تشترط الطهارة من الحدث الأكبر عند المالكية والشافعية، فمن مات جنباً فإنه لا يغسل. وقال الحنابلة: الشهيد: هو من مات بسبب القتال مع الكفار وقت قيام القتال، أو هو المقتول بأيدي العدو من الكفار، أو البغاة، أو المقتول ظلماً، ولو كان غير مكلف رجلاً أو امرأة. أو كان غالاً (خائناً): كتم من الغنيمة شيئاً. ومن عاد إليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو، لكن تشترط الطهارة من الحدث الأكبر كالحنفية، فمن قتل جنباً غسل. كذلك يغسل ويصلى عليه من حمل وبه رمق أي حياة مستقرة، وإن كان شهيداً. انظر: (حاشية ابن عابدين والدر: 1/ 582 - 597، 1/ 607 - 610)، (والهدية العلائية: 160 - 165)، (والشرح الصغير: 1/ 542 - 543، 1/ 553 - 560، 1/ 575 - 577)، (والمهذب: 1/ 132 - 135)، (وكشف القناع: 2/ 127، 2/ 113)، (والفقه الإسلامي: 2/ 483 - 508، 2/ 554 - 556). وإلى نصوص هذه الفقرة:
- أجر من صلى على جنازة وتبعها
- أجر من صلى على جنازة وتبعها: 2226 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان"، قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". زاد في رواية (1): قال ابن شهاب قال سالم بن عبد الله: وكان ابن عمر يصلي عليها، ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة قال: "لقد ضيعنا قراريط كثيرة". وللبخاري (2) قال: "من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط". ولمسلم (3) قال: "من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: أصغرهما مثل أُحُد". وفي أخرى (4): قال: قلت لأبي هريرة "وما القيراط؟ قال: مثل أُحُد". وفي أخرى (5): عن عامر بن سعد بن أبي وقاص "أنه كان قاعداً عند ابن عمر، إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج مع جنازة من بيتها، وصلى
عليها، واتبعها حتى تدفن، كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أُحُد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أُحُد"، فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة". 2227 - * روى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أُحُد". وفي رواية (1): "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القيراط؟ فقال: "مثل أُحُد". 2228 - * روى النسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تبع جنازة حتى يصلى عليها كان له من الأجر قيراط، ومن مشى مع الجنازة حتى تدفن، كان له من الأجر قيراطان، والقيراط مثل أُحُد". قال النووي في (شرح مسلم: 7/ 13 - 14): فيحصل بالصلاة قيراط وبالاتباع مع حضور الدفن قيراط آخر فيكون الجميع قيراطين تبينه رواية البخاري في أول صحيحه في كتاب الإيمان من شهد جنازة وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها رجع من الأجر بقيراطين فهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان ... وقال بعض أصحابنا يحصل القيراط الثاني إذا ستر الميت في القبر باللبن وإن لم يلق عليه التراب والصواب الأول وقد يستدل بلفظ الاتباع في هذا الحديث وغيره من يقول المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها وهو قول علي بن أبي طالب ومذهب الأوزاعي وأبي حنيفة وقال جمهور الصحابة والتابعين ومالك والشافعي وجماهير العلماء المشي قدامها أفضل وقال الثوري
- الصلاة على الغائب
وطائفة هما سواء قال القاضي وفي إطلاق هذا الحديث وغيره إشارة إلى أنه لا يحتاج المنصرف عن اتباع الجنازة بعد دفنها إلى استئذان وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو المشهور عن مالك وحكى ابن عبد الحكم عنه أنه لا ينصرف إلا بإذن وهو قول جماعة من الصحابة. - الصلاة على الغائب: 2229 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات". وفي رواية (2): نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، وقال: "استغفروا لأخيكم"، لم يزد على هذا. 2230 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، فكبَّر عليه أربعاً". 2231 - * روى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه- يعني: النجاشي-". وفي رواية الترمذي (5): "إن أخاكم النجاشي قد مات، فقوموا فصلوا عليه"،
فقمنا فصففنا كما يصف على الميت، وصلينا معه كما يصلى على الميت". قال النووي: فيه إثبات الصلاة على الميت وأجمعوا على أنها فرض كفاية والصحيح عند أصحابنا أن فرضها يسقط بصلاة رجل واحد وقيل يشترط اثنان وقيل ثلاثة وقيل أربعة وفيه أن تكبيرات الجنازة أربع وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه دليل للشافعي وموافقيه في الصلاة على الميت الغائب وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لإعلامه بموت النجاشي وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه وفيه استحباب الإعلام بالميت لا على صورة نعي الجاهلية بل مجرد إعلام الصلاة عليه وتشييعه وقضاء حقه في ذلك والذي جاء من النهي عن النعي ليس المراد به هذا وإنما المراد نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وغيرها وقد يحتج أبو حنيفة في أن صلاة الجنازة لا تفعل في المسجد بقوله خرج إلى المصلى ومذهبنا ومذهب الجمهور جوازها فيه ويحتج بحديث سهل بن بيضاء ويتأول هذا على أن الخروج إلى المصلى أبلغ في إظهار أمره المشتمل على هذه المعجزة- أي إبلاغهم بوفاة النجاشي. شرح مسلم (7/ 21). أقول: استدل من يقول بجواز الصلاة على الغائب بالصلاة على النجاشي رحمه الله، ومن ذهب إلى عدم جوازها اعتبر هذه الصلاة خاصة بالنجاشي. وفي الصلاة على النجاشي رحمه الله شهادة منه صلى الله عليه وسلم بإسلام النجاشي، وهذا أصل عظيم من أصول النظام السياسي في الإسلام، فالنجاشي مسلم كان يحكم شعباً غير مسلم بغير الإسلام فهذا يدل على أن المشاركة في الحكم على أي مستوى يمكن أن تكون جائزة في بعض الصور بل قد تكون مفروضة ولو كانت المشاركة في نظام كفري، وفي قصة يوسف عليه السلام ما يدل على ذلك لقوله تعالى: (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) (1)، فدل ذلك على أن شريعة المصريين حينذاك غير شريعة يوسف عليه السلام، ومع ذلك فقد طلب هو بنفسه أن يتولى الولاية التي وليها فيما بعد.
- التكبيرات في صلاة الجنازة
- التكبيرات في صلاة الجنازة: 2232 - * روى مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان زيد بن أرقم يكبِّر على جنائزنا أربعاً، وإنه كبَّر على جنازة خمساً، فسألناه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبِّرُها". وفي رواية النسائي (1): "أن زيد بن أرقم صلى على جنازة، فكبَّر عليها خمساً، وقال: كبَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم". 2233 - * روى الشيخان عن الشعبي قال: "أخبرني من شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قبر منبوذ فصفهم وكبر أربعاً قلت: من حدثك؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما". 2234 - * روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "صلى على سهل بن حنيف، فكبَّر، وقال: إنه شهد بدراً". قال الحافظ في "الفتح": كذا في الأصول لم يذكر عد التكبير، وقد أورده أبو نعيم في المستخرج من طريق البخاري بهذا الإسناد، فقال فيه: "كبر خمساً" وأخرجه البغوي في معجم الصحابة عن محمد بن عباد بهذا الإسناد والإسماعيلي والبرقاني والحاكم من طريقه فقال: "ستاً"، وكذا أورده البخاري في التاريخ عن محمد بن عباد، وكذا أخرجه سعيد ابن منصور عن ابن عيينة، وأورده بلفظ "خمساً"، زاد في رواية الحاكم: التفت إلينا فقال: إنه من أهل بدر، اهـ وهو عند الطبراني في الكبير وذكر ستاً. أقول: التكبيرات في صلاة الجنازة أربع في المذاهب الأربعة، ويرى الحنفية أنه إذا زاد الإمام على أربع فإنه لا يتابع، ويرى آخرون جواز المتابعة كما سيدل عليه نص لاحق عن
عبد الله بن مسعود، والظاهر من فعل الإمام علي رضي الله عنه أن أهل الفضل يمكن أن يخصوا بمزيد فضل، والتقيد بالأربع أفضل. قال النووي نقلاً عن القاضي عياض: واختلف الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر على أهل بدر ستاً وعلى سائر الصحابة خمساً وعلى غيرهم أربعاً قال ابن عبد البر وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى ولم يذكر في روايات مسلم السلام وقد ذكره الدارقطني في سننه وأجمع العلماء عليه ثم قال جمهورهم يسلم تسليمة واحدة وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من السلف تسليمتين واختلفوا هل يجهر الإمام بالتسليم أم يسر؟ وأبو حنيفة والشافعي يقولان يجهر وعن مالك روايتان واختلفوا في رفع الأيدي في هذه التكبيرات ومذهب الشافعي الرفع في جميعها وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء وسالم بن عبد الله وقيس بن أبي حازم والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق واختاره ابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي لا يرفع إلا في التكبيرة الأولى وعن مالك ثلاث روايات الرفع في الجميع وفي الأولى فقط وعدمه في كلها. (شرح مسلم 7/ 23 - 24). 2235 - * روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال لم يؤقت لنا في الصلاة على الميت قراءة ولا قول، كبِّر ما كبَّر الإمام وأكثر من طيب الكلام. 2236 - * روى الطبرني عن عمر بن أبي عطاء قال شهدت محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس بالطائف فوليه محمد بن الحنفية وكبَّر عليه أربعاً وأخذه من قبل القبلة حتى أدخله القبر وضرب عليه فسطاطاً ثلاثة أيام. 2237 - * روى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن قال: "صلى بنا أنس، فكبَّر ثلاثاً،
- ما يقرأ في صلاة الجنازة والدعاء للميت
وسلم، فقيل له، فاستقبل القبلة، وكبَّر الرابعة، ثم سلم". قال الحافظ في "الفتح": لم أره موصولاً من طريق حميد، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أنه كبر على جنازة ثلاثاً ثم انصرف ناسياً، فقالوا: يا أبا حمزة إنك كبرت ثلاثاً، فقال: صفُّوا، فصفوا، فكبَّر الرابعة. - ما يقرأ في صلاة الجنازة والدعاء للميت: 2238 - * روى مالك عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم "أن عبد الله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة". 2239 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب". وفي رواية (1) عن طلحة بن عبد الله بن عوف أن ابن عباس صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقلت له، فقال: إنه من السنة- أو تمام السُّنَّة. وأخرج البخاري (2) قال: "صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها سُنَّة". وفي رواية (3) النسائي قال: "صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته؟ فقال: سُنَّة وحق". قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق.
أقول: جمع الحنفية بين فعل ابن عمر وفعل ابن عباس بأن قالوا بأن الأصل بعد التكبيرة الأولى قراءة الثناء، فإذا جمع إليها المصلي الفاتحة على نية الثناء فلا حرج، وذهب بعضهم كالشافعية والحنابلة إلى أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الأولى ركن، انظر لمزيد بيان (إعلاء السنن 8/ 213 - 214). قال ابن بطال في شرح البخاري: اختلف في قراءة الفاتحة على الجنازة، فقرأ بها قوم على ظاهر حديث ابن عباس؛ وبه قال الشافعي. وكان عمر، وابنه وعلي، وأبو هريرة ينكرونه وبه قال أبو حنيفة، ومالك. وقال الطحاوي: من قرأها من الصحابة يحتمل أن يكون على وجه الدعاء لا التلاوة الخ اهـ. 2240 - * روى النسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: السُّنة في الصلاة على الجنازة: أن تقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم تكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة. وعن الضحاك بن قيس بنحو ذلك. 2241 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو سعيد المقبري: إنه سأل أبا هريرة: كيف يصلى على الجنازة؟ فقال أبو هريرة: أنا لعمر الله أخبرك: أتبعها من عند أهلها، فإذا وضعت كبرت، وحمدت الله، وصليت على نبيه، ثم قال: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به مني، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. أقول: كيفية صلاة الجنازة عند الحنفية أن ينوي الصلاة لله تعالى والدعاء لهذا الميت ثم يكبر التكبيرة الأولى، ثم يقرأ دعاء الثناء (سبحانك اللهم ...) وهو واضع يده اليمنى على اليسرى تحت سرته ولا يرفعها إلا في التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
ثم يكبر الثالثة فيدعو لنفسه وللميت وللمسلمين وللمسلمات ثم يكبر الرابعة ويسلم بعدمها يميناً وشمالاً، ويرى العلماء أنه يدعو بعد الثالثة للميت، وبعد الرابعة لنفسه ثم يسلم. قال الزرقاني فيه (أي في قوله: حمدت وصليت): إنه (أي أبا هريرة) لم يكن يرى القراءة في صلاتها. وفي المدونة الكبرى: قلت: لابن القاسم: أي شيء يقال على الميت في قول مالك؟ قال: الدعاء للميت. قلت: فهل يقرأ على الجنازة في قول مالك؟ قال: "لا! " قال ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وفضالة بن عبيد، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وواثلة ابن الأسقع، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وابن المسيب، وربيعة، وعطاء بن أبي رباح، ويحيى بن سعيد أنهم لم يكونوا يقرؤون في الصلاة على الميت. قال ابن وهب: وقال مالك: ليس ذلك بمعمول به في بلدنا، إنما هو الدعاء. أدركت أهل بلدنا على ذلك ا. هـ (1 - 158، 159). 2242 - * روى مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظنا من دعائه: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من القبر، أو من عذاب النار" قال عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. زاد في رواية (1) لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له وفيها "بماء وثلج وبرد". 2243 - * روى أبو داود عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك- زاد
في رواية: وحبل جوارك- فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم". 2244 - * روى الترمذي عن أبي إبراهيم الأشهلي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا". وزاد (2) فيه "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان". 2245 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناز، فقال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده". 2246 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى على الميت: قال "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا ولأنثانا وذكورنا من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم عفوك عفوك".
2247 - * روى أبو داود عن علي بن شماخ قال: شهدت مروان يسأل أبا هريرة: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة؟ قال: أمع الذي قلت؟ قال: نعم- قال: كلام كان بينهما قبل ذلك- قال أبو هريرة: سمعته يقول "اللهم أنت ربُّها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها إلى الإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء، فاغفر لها". 2248 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء". 2249 - * روى مالك عن سعيد بن المسيب قال: صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: "اللهم أعذه من عذاب القبر". أقول: الطفل غير مكلف، ولذلك لا يستغفر له كما سنرى، فالدعاء المأثور وإعاذته من عذاب القبر لعل المراد به ضمته. 2250 - * روى البخاري عن الحسن قال: يقرأ على الطفل فاتحة الكتاب، ويقول: "اللهم اجعله سلفاً وفرطا وذخراً وأجراً". قال الحافظ في "الفتح": وصله عبد الوهاب بن عطاء في كتاب الجنائز له عن سعيد بن أبي عروبة، أنه سئل عن الصلاة على الصبي، فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يكبر، ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفاً، وفرطاً، وأجراً. أقول: إذا ولد الطفل ميتاً لتمام حمله صلي عليه عند الشافعية أما إذا جاء قبل تمام أشهره فإن استهل صارخاً أو ظهر به علامة حياة قبل موته فإنهي صلى عليه عند الحنفية والمالكية والشافعية.
- الصلاة على الصغير
- الصلاة على الصغير: 2251 - * روى الطبراني عن عبد الله بن أبي طلحة أن أبا طلحة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن أبي طلحة حين توفي فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه في منزله فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو طلحة وراءه وأم سليم وراء أبي طلحة ولم يكن معهم غيرهم. 2252 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يصلى على السقط، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة". 2253 - * روى أحمد من حديث المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً عن يمينها أو عن يسارها والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة". 2254 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وذلك لا ينفي مشروعية الصلاة على الطفل، وإنما يدل على أن الصلاة عليه ليست للوجوب. - أين يقف الإمام من الرجل والمرأة: 2255 - * روى أبو داود عن نافع أبي غالب قال: كنت في سكة المربد فمرت جنازة ومعها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء
رقيق على بريذينة، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا الدهقان؟ فقيل: هذا أنس بن مالك، فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، وكبَّر أربع تكبيرات، لم يطل ولم يسرع، ثم ذهب فقعد، فقيل: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش أخضر فقام عند عجيزتها، فصلى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، أهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك هذه: يكبر عليها أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، قال: يا أبا حمزة، غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غزوت معه حنيناً، فخرج المشركون، فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل يحمل علينا، فيذقنا ويحطمنا، فهزمهم الله، وجعل يجاء بهم، فيبايعونه على الإسلام، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن علي نذراً إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجيء بالرجل، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله تبت إلى الله، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لا يبايعه، ليفي الآخر بنذره، قال: فجعل الرجل يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله، وجعل يهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتله، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئاً، بايعه، فقال الرجل: يا رسول الله، نذري، فقال: إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك، قال: يا رسول الله، ألا أومضت إلي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لنبي أن يومض"، قال أبو غالب: ثم سألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها؟ فحدثوني: أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها، يسترها من القوم". 2256 - * روى الشيخان عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "لقد كنت على
- تقديم الرجال على النساء في صلاة الجنازة
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني، وقد صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عند وسطها". وبهذا أخذ الحنابلة. وقد ترجم البخاري للحديث بقوله: (الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها). قال الزين بن المنير وغيره: المقصود بهذه الترجمة أن النفساء وإن كانت معدودة من جملة الشهداء فإن الصلاة عليها مشروعة بخلاف شهيد المعركة (الفتح 3/ 201). - تقديم الرجال على النساء في صلاة الجنازة: 2257 - * روى أبو داود عن مالك بن أنس بلغه "أن عثمان بن عفان وأبا هريرة وابن عمر كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة: الرجال والنساء، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة". 2258 - * روى أبو داود عن مولى الحارث بن نوفل قال: "شهدت جنازة أم كلثوم وابنها، فجعل الغلام مما يلي الإمام ... فأنكرت ذلك- وفي القوم ابن عباس وأبو قتادة وأبو سعيد وأبو هريرة، فكلهم قالوا: إن هذه السُّنة". وفي رواية (1) النسائي قال: "حضرت جنازة صبي وامرأة، فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه، فصلي عليهما وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم عن ذلك؟ فقالوا: السُّنَّة". 2259 - * روى النسائي عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهما زعم "أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعاً، فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القبلة، فصفهن
- وقت الصلاة على الجنازة
صفاً واحداً، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب، وابن يقال له: زيد، وضعا جميعاً، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، فوضع الغلام مما يلي الإمام، فقال رجل: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السُّنَّة". - وقت الصلاة على الجنازة: 2260 - * روى مالك عن محمد بن أبي حرملة مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب "أن زينب بنت أبي سلمة توفيت وطارق أمير المدينة، فأتي بجنازتها بعد صلاة الصبح، فوضعت بالبقيع، قال: وكان طارق يغلس بالصبح، قال ابن أبي حرمة: فسمعت عبد الله بن عمر يقول لأهلها: إما أن تصلوا على جنازتكم الآن، وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس". أقول: هذا النص يدل على أن مذهب ابن عمر أنه لا يصلى على الجنازة عند طلوع الشمس ويصلى عليها بعد طلوع الفجر، وقد رأينا أن للفقهاء ثلاثة اتجاهات، فمنهم من لا يرى الصلاة عليها في الأوقات الخمسة، ومنهم من لا يرى الصلاة عليها في الأوقات الثلاثة فقط، ومنهم من يرى جواز الصلاة عليها في كل الأوقات. 2261 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهم أن عبد الله بن عمر قال: "يصلى على الجنازة بعد الصبح، وبعد العصر، إذا صليتا لوقتهما". وفي رواية (1) ذكرها البخاري في ترجمة باب بغير إسناد قال: "كان ابن عمر لا يصلي إلا طاهراً ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه". قال الحافظ في "الفتح": وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عن الجنازة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر يقول: ما صليتا
الصلاة على الجنازة في المسجد
لوقتهما. أقول: وقد وصله مالك وقد تقدم بإسناد صحيح. (م). وأخرج الموطأ (1) أيضاً: أن ابن عمر كان يقول: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر". الصلاة على الجنازة في المسجد: 2262 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: "ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر ذلك عليها، فقالت: والله، لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه". وفي رواية (2) فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس- وفي نسخة: ما أسرع الناس- ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد. وفي رواية (3) لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: "أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه، وأُخرج من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها في المسجد، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به! عابوا علينا أن يمروا بجنازته في المسجد، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في جوف المسجد"، وقال: سهيل بن دعد- وهو ابن البيضاء- أمه بيضاء. 2263 - * روى أبو داود عن ابن أبي ذئب حدثني صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". قال النووي تعليقاً على حديث ابني بيضاء:
قال العلماء: بنو بيضاء ثلاثة إخوة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء اسمها دعد والبيضاء وصف وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري وكان سهيل قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وغيرها توفي سنة تسع من الهجرة رضي الله عنه وفي هذا الحديث دليل للشافعي والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد وممن قال به أحمد وإسحاق قال ابن عبد البر ورواه المدنيون في الموطأ عن مالك وبه قال ابن حبيب المالكي وقال ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك على المشهور عنه لا تصح الصلاة عليه في المسجد بحديث في سنن أبي داود من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له ودليل الشافعي والجمهور حديث سهيل بن بيضاء وأجابوا عن حديث سنن أبي داود بأجوبة أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به قال أحمد بن حنبل هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف. والثاني أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود ومن صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه ولا حجة لهم حينئذ فيه. الثالث أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه قال فلا شيء لوجب تأويله على فلا شيء عليه ليجمع بين الروايتين وبين هذا الحديث وحديث سهيل بن بيضاء وقد جاء له بمعنى عليه كقوله تعالى (وإن أسأتم فلها) الرابع أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه والله أعلم وفي حديث سهيل هذا الدليل لطهارة الآدمي الميت وهو الصحيح في مذهبنا (شرح مسلم 7/ 39 - 40). لكن قال في الخلاصة بعد أن بين أن سبب ضعف صالح هو الاختلاط لكن قالوا: إن سماع ابن أبي ذئب منه كان قبل اختلاطه ا. هـ. وكذا قال ابن القيم في زاد المعاد. قال التهانوي (8/ 228): فالحديث سالم عن الجرح وأما لفظ فلا شيء عليه غير محفوظ ... ومما يدل على ما ذهب إليه الحنفية إنكار الصحابة على عائشة. وأما ما ورد من الصلاة على الجنازة في المسجد في بعض الحالات فأجاب الحنفية: أنها واقعات حال لا عموم لها فيمكن أن يكون ذلك لعذر وفي العذر لا نمنع من ذلك إنما
- الصلاة على القبر
تكره في المسجد بغير عذر وذكر الحنفية أن النهي محمول على كراهية التنزيه انظر (الإعلاء 8/ 229). - الصلاة على القبر: 2264 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد/- أو شاباً- فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها- أو عنه- فقالوا: مات، قال أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها- أو أمره- فقال: دلوني على قبره، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم. 2265 - * روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى على قبر". 2266 - * روى الشيخان عن عامر الشعبي رحمه الله قال: "أخبرني من مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ، فأمهم وصفهم خلفه، وقال الشيباني: قلت للشعبي: من حدثك بهذا يا أبا عمرو؟ قال: ابن عباس". وفي رواية (1) زائدة قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبراً منبوذاً، فقالوا: "هذا دفن"- أو "دفنت- البارحة"، قال ابن عباس: فصفنا خلفه، ثم صلى عليها"ومنهم من قال: "إنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفلا آذنتموني؟ " قالوا: دفناه في ظلمة الليل، وكرهنا أن نوقظك، فقام فصفنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليها".
وفي أخرى (1) قال: "انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصلى عليه وصفوا خلفه، وكبَّر أربعاً". أقول: قال الحنفية: إذا دفن الميت ولم يصلَّ عليه صلي على قبره وإذا صلي عليه من غير الإمام أو السلطان أو نائبه فلوليه أن يصلي على قبره، وقد أخذوا ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ولي من لا ولي له، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. 2267 - * روى أحمد عن أنس أن أسود كان ينظف المسجد فمات فدفن ليلاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر فقال: انطلقوا إلى قبره فانطلقوا فقال إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله عز وجل ينورها بصلاتي عليها فأتى القبر فصلى عليه وقال رجل من الأنصار يا رسول الله إن أخي مات ولم تصل عليه قال فأين قبره فأخبره فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصاري. 2268 - * روى الترمذي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه "أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر". أقول: لم يقدر الفقهاء للصلاة على القبر في حالة جواز الصلاة عليه مدة لكن قيدوا ذلك بأن تكون الصلاة عليه قبل تفسخه، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، ففي أيام البرد والمناطق الباردة وبعض أنواع الأرضين يبطؤ التفسخ، والعبرة لغالب الظن. 2269 - * روى الطبراني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في بعض سكك المدينة فرأى رجلاً أسوداً ميتاً قد رموا به في الطريق فسأل بعض من ثم عنه فقال: "مملوك من هذا؟ " قالوا مملوك لآل فلان فقال: "أكنتم ترونه يصلي؟ ". قالوا: كنا نراه أحياناً
يصلي وأحياناً لا يصلي فقالك "قوموا فاغسلوه وكفنوه" فقاموا فغسلوه وكفنوه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه فلما كبر قال: "سبحان الله" "سبحان الله" فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال له أصحابه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناك لما كبرت تقول سبحان الله سبحان الله فلم قلت سبحان الله سبحان الله قال: "كادت الملائكة أن تحول بيني وبينه من كثرة ما صلوا عليه". 2270 - * روى النسائي عن يزيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "إنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فرأى قبراً جديداً، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: هذه فلانة مولاة فلان، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماتت ظهراً وأنت صائم قائل، فلم نحب أن نوقظك بها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفَّ الناس خلفه، فكبَّر عليها أربعاً، ثم قال: "لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم، إلا- يعني: "آذنتموني به- فإن صلاتي له رحمة". 2271 - * روى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف". وفي رواية (1) "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أُحُد بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات". وللنسائي (2) قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرطكم، وغني شهيد عليكم". أقول: صلاته صلى الله عليه وسلم بعد سنين على شهداء أحد خصوصية له صلى الله عليه وسلم ويصلح هذا الحديث دليلاً للحنفية الذين يرون الصلاة على الشهيد، والأصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على
- الصلاة على من عليه حق للعباد
شهداء أحد، فهذه الصلاة قد تكون بديلاً عن ذلك خاصة وقد ثبت أن من رؤيت جثته من شهداء أحد بعد فترة طويلة من دفنه وجدت كيوم دفنت تقريباً مما يدل على أنه بالإمكان أن تكون جثث شهداء أحد لم تأكلها الأرض، فلا تنافي بين ما قال بعض الفقهاء إنه لا يصلى على من دفن إذا تفسخ جسده، وبين صلاته عليه الصلاة والسلام على شهداء أحد بعد هذه المدة الطويلة. - الصلاة على من عليه حق للعباد: 2272 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدَّيْنُ، فيسأل: "هل ترك لدينه قضاء؟ " فإن حدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، قال: فلما فتح الله على رسوله كان يصلي ولا يسأل عن الدين، وكان يقول: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً أو كلاً أو ضياعاً، فعلي وإلي، ومن ترك مالاً فلورثته". 2273 - * روى البزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة فقام يصلي عليها قالوا: عليه دين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انطلقوا بصاحبكم فصلوا عليه" فقال رجل علي دينه فصل عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه. 2274 - * روى أحمد عن جابر قال توفي رجل فغسَّلناه وكفَّناه وحنَّظناه ثم أتينا به
- الصلاة على من قتل نفسه
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فقلنا تصلي عليه فخطا خطوة ثم قال "أعليه دين؟ " قلت: ديناران فانصرف فتحملها أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منها الميت" قال: نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك بيوم ما فعل الديناران قلت إنما مات من الأمس قال فعاد إليه من الغد قال قد قضيتهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الآن بردت عليه جلدته". أقول: عدم صلاته عليه الصلاة والسلام على من عليه دين فيه حض للمسلمين على أن يوفوا ديون أمواتهم فيقضوا بذلك حقوق الناس وترتفع عن الميت المؤاخذة وفي ذلك إشعار بأهمية حقوق العباد، ولو أن الإمام صلى على ميت دون أن يسأل عن ديونه، فذلك جائز، ولو أنه صلى عليه وهو يعلم أن عليه ديناً فذلك جائز، ولكن فعله عليه الصلاة والسلام فيه تأديب للمسلمين في مراعاة حق الدائن. - الصلاة على من قتل نفسه: 2275 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصلِّ عليه. أقول: تجوز الصلاة على من قتل نفسه ولكن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على الزجر حتى لا يقدم أحد على هذه الجريمة، وعلى هذا يحمل النص اللاحق بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على من سيذر في النص اللاحق وأجاز لأصحابه أن يصلوا عليه. قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة
- فضل كثرة المصلين على الجنازة
والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله وصلت عليه الصحابة وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من علي دين زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفائه وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا وعن مالك وغيره أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد وأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجراً لهم وعن الزهيري لا يصلى على مرجوم ويصلى على المقتول في قصاص وقال أبو حنيفة: لا يصلى على محارب ولا على قتيل الفئة الباغية وقال قتادة: لا يصلى علي ولد الزنا وعن الحسن لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا على ولدها ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير واختلفوا في الصلاة علي السقط فقال بها فقهاء المحدثين وبعض السلف إذا مضى عليه أربعة أشهر، ومنعها جمهور الفقهاء حتى يستهل وتعرف حياته بغير ذلك وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار فقال مالك والشافعي والجمهور: لا يغسل ولا يصلى عليه وقال أبو حنيفة: يغسل ولا يصلى عليه وعن الحسن: يغسل ويصلى عليه والله أعلم. (شرح مسلم 7/ 47 - 48). 2276 - * روى الطبراني عن أبي أمامة قال: توفي رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يوجد له كفن فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال "انظروا إلى داخلة إزاره" فأصيب دينار أو ديناران فقال: "كيتان صلوا على صاحبكم". - فضل كثرة المصلين على الجنازة: 2277 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفِّعوا فيه".
قال راويه- وهو عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة-: فحدَّثت به شعيب بن الحبحاب، فقال: حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الترمذي والنسائي إلى قوله: "إلا شُفِّعوا فيه". وقال في رواية (1) أخرى: "مائة فما فوقها". 2278 - * روى مسلم عن كريب مولى ابن عباس "أن ابن عباس مات له ابن بقديد- أو بعسفان- فقال: يا كريب، انظر ما اجتمع له من الناس، قال: فخرجت، فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول: هم أربعون؟ قال: قلت: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه". 2279 - * روى النسائي عن الحكم بن فروخ قال: "صلى بنا أبو المليح على جنازة، فظننا أنه قد كبَّر، فأقبل علينا بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم، ولتحسن شفاعتكم، قال أبو المليح: حدثني عبد الله عن إحدى أمهات المؤمنين- وهي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس إلا شفِّعوا فيه، فسألت أبا المليح عن الأمة؟ فقال: أربعون". 2280 - * روى أبو داود عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يموت، فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب" فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف، لهذا الحديث. وفي رواية (5) الترمذي قال: "كان مالك بن هبيرة إذا صلى على جنازة، فتقال الناس
- النهي عن الصلاة على الجنائز بين القبور
عليها جزأهم ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليه ثلاثة صفوف أوجب". أقول: والتوفيق بين هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بأن الله جاء بالمغفرة لمن شفع فيه مئة ثم أخبر أنه جاء بالمغفرة لمن شفع فيه أربعون ولمن صلى عليه ثلاثة صفوف. انظر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة (205 - 206) وشرح مسلم للنووي (7/ 17). - النهي عن الصلاة على الجنائز بين القبور: 2281 - * روى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور. - لا صلاة على منافق علم نفاقه: 2282 - * روى البزار عن حذيفة قال دعي عمر لجنازة فخرج فيها أو يريدها فتعلقت به فقلت اجلس يا أمير المؤمنين فإنه من أولئك فقال نشدتك بالله أنا منهم قال لا ولا أبرئ أحداً بعدك. أقول: نهى الله عن الصلاة على المنافقين: قال تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) (1). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع حذيفة على من هم منافقون حماية للصف الإسلامي أن يؤثر عليه هؤلاء، وإذا كان الميت من هؤلاء فقد منع عمر أن يصلي عليه، ولم يمنع غيره لأنه ليس مكلفاً بذلك، وإنما خص عمر بالتعرف على هذا المنافق لمقام عمر ومكانته.
- الأولى بالصلاة على الجنازة
- الأولى بالصلاة على الجنازة: 2283 - * روى الطبراني عن قيس بن أبي حازم قال اجتمع جرير والأشعث في جنازة فقدم الأشعث جريراً فصلى عليها. 2284 - * روى البزار عن أبي حازم قال: شهدت حسيناً حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص وهو يقول تقدم فلولا أنها السنة ما قدمتك وسعيد أمير على المدينة يومئذ. أقول: هذا دليل على أنه كان من المتعارف بين الصحابة أن الأولى بالصلاة على الميت الأمير أولاً. - التسليم في الجنازة: 2285 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال خلال كان يفعلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركهن الناس، إحداهن تسليم الإمام في الجنازة مثل تسليمه في الصلاة. 2286 - * روى مالك عن نافع- مولى ابن عمر- رضي الله عنهما "أن عبد الله بن عمر كان إذا صلى على الجنائز يسلم حتى يسمع من يليه". 2287 - * روى الطبراني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه انتظر أم عبد الله حتى صلت على عتبة.
وصل في أحكام الشهداء
وصل في أحكام الشهداء 2288 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لما حضر أحد دعاني أبي من الليل، فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن علي ديناً، فاقض، واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا، فكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته، غير أذنه". وفي رواية (1): "فجعلته في قبر على حدة". وفي رواية (2) أبي داود قال: "دفن مع أبي رجل، وكان في نفسي من ذلك حاجة، فأخرجته بعد ستة أشهر، فما أنكرت منه شيئاً إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض". 2289 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ " فإذا أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء"، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسِّلهم". وفي أخرى (3) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يجمع بين الرجلين والثلاثة من قتلى أحد، وقال: ادفنوهم في دمائهم، ولم يغسِّلهم".
2290 - * روى الطبراني عن سعيد بن عبيد وكان يدعى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم القارئ وكان له عدو فانهزم منهم فقال له عمر: هل لك في الشام لعل الله أن يمن عليك قال: لا إلا العدو الذي فررت منهم قال: فخطبهم بالقادسية فقال إنا لاقو العدو إن شاء الله غداً وإنا مستشهدون فلا تغسلوا عنا دماً ولا نكفَّن إلا في ثوب كان علينا. 2291 - * روى أبو داود عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: "جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقالت: أصابنا قرح وجهد، فكيف تأمرنا؟ قال: أوسعوا القبر، وأعمقوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. قيل: فأيهم يقدم؟ قال: أكثرهم قرآناً قال: أصيب أبي يومئذ عامر بين اثنين، أو قال: واحد". وفي رواية (1) الترمذي قال: "شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يوم أُحد، فقال: "احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآناً، فمات أبي، فقدِّم بين يدي رجلين". وفي رواية (2) النسائي قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، قالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: "قدموا أكثرهم قرآناً"، فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد. وفي أخرى (3) له قال "اشتد الجراح يوم أحد، فشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا". وفي أخرى (4) قال: "لما كان يوم أُحد، أصاب الناس جهد شديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"احفروا ... وذكر الحديث إلى قوله: أكثرهم قرآناً". 2292 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة رحمه الله بلغه "أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين، ثم السلميين- رضي الله عنهما- دفنا يوم أحد معاً، فجرف السيل قبرهما فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا كأنما ماتا بالأمس، وكان في أحدهما جرح قد وضع يده عليه، فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت؛ فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة". 2293 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم". وفي رواية (1) أبي داود قال: "كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم، فجاء منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، فرددناهم". وفي رواية (2) النسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة". 2294 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أُحد: أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم".
2295 - * روى أبو داود عن محمد بن شهاب رحمه الله أن أنساً حدثهم "أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم". وفي رواية (1) قال أنس: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على حمزة وقد مثل به، فقال، لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية ويحشر من بطونها، وقلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد". زاد في رواية (2): "ثم يدفنون في قبر واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل: "أيهم أكثر قرآناً" فيقدمه إلى القبلة. وفي أخرى (3) قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحمزة وقد مثل به، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره". وفي رواية (4) الترمذي: أن أنسأ قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة يوم أحد، فوقف عليه، فرآه قد مُثِّل به قال: "لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها"، قال: ثم دعا بنمرة فكفنه فيها، فكانت إذا مدت على رجليه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى وقلت الثياب، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنهم: أيهم أكثر قرآناً؟ فيقدمه إلى القبلة: فدفنهم، ولم يصل عليهم". تنبيه: ذكرنا في هذا الفصل ما يتعلق بالصلاة على الجنازة فقط أما الحقوق الأخرى من تكريم الميت وغسله ودفنه ... إلخ فسنذكرها في القسم الرابع من أقسام الكتاب في أدب التعامل مع الموت.
الباب العاشر في السجدات
الباب العاشر في السجدات وفيه مقدمة وفقرات الفقرة الأولى: في سجود السهو. الفقرة الثانية: في سجود التلاوة. الفقرة الثالثة: في سجود الشكر.
مقدمة
مقدمة أخرنا الكلام عن سجود السهو إلى آخر باب في جزء الصلاة، لأن سجود السهو جبر لما يطرأ على الصلاة من غير أن يبطلها سواء كان هذا الطارئ بالزيادة أو النقصان وإذا كان هذا الطارئ قد شرع له في بعض الحالات سجود السهو سواء في ذلك ما إذا كانت الصلاة فريضة أو نافلة فقد رأينا تأخير الكلام عن أحكام سجود السهو إلى ما بعد ذكر الفرائض والنوافل وإذا كانت سجدة التلاوة على نوعين سجدة التلاوة في الصلاة وسجدة التلاوة خارج الصلاة، وكان حق الأولى أن تذكر أثناء القراءة في الصلاة وحق الثانية أن تذكر في بحث السجدات المفردة كسجدة الشكر، فقد ارتأينا أن نؤخرها إلى بحث السجدات الذي خصصنا له هذا الباب لأن أحد نوعيها يشبه سجدة الشكر، وهكذا أدخلنا في هذا الباب سجود السهو وسجود التلاوة وسجود الشكر وخصصننا لكل من هذه الثلاثة فقرة خاصة بها.
الفقرة الأولى في سجود السهو عرض إجمالي
الفقرة الأولى في سجود السهو عرض إجمالي من أهم موضوعات الصلاة موضوع سجود السهو، فالفقه فيه مرتبط بفقه الصلاة كلها، ولذلك كان الاهتمام فيه يعتبر اهتماماً بفقه الصلاة عامة وها نحن نستخلص لك خلاصة من كتاب الفقه الإسلامي لهذا الموضوع. السهو في الشيء: تركه من غير علم. ولا مرية في مشروعية سجود السهو جبراً لنقص الصلاة وتفادياً عن إعادتها بسبب ترك أمر غير أساسي فيها، أو زيادة شيء فيها، ولا يشرع سجود السهو في حالة العمد، والحكم في حالة الترك المتعمد لشيء من الصلاة يختلف باختلاف المتروك فإذا كان ركناً بطلت الصلاة وإن كان واجباً تجب إعادة الصلاة عند الحنفية، وسجود السهو واجب على الصحيح عند الحنفية، سنة في الجملة في المذاهب الأخرى، قال الحنفية: يجب سجود السهو على الصحيح إذا ترك الإنسان واجباً سهواً كقراءة التشهد والسلام، أما إذا ترك ركناً فإن الصلاة تبطل بالترك نسياناً أو عمداً إذا علم بعد ذلك، ولم يعد له حق العودة إلى ما ترك، ويتحمل الإمام عند الحنفية سهو المأموم، فسجود السهو واجب على الإمام والمنفرد وإذا حصل السهو من الإمام وجب على المأموم أن يتابعه في سجوده وإن كان مدركاً أو مسبوقاً في حالة الاقتداء، وإن لم يسجد الإمام سقط عن المأموم، وإذا سلم الإمام قبل سجود السهو ثم سجد للسهو لا يتابعه المسبوق في السلام ويتابعه في السجود، ولذلك يستحب في المأموم أن لا يستعجل القيام قبل انتهاء الإمام من السلام حتى إذا كان على الإمام سجود سهو تابعه فيه، وإذا قام المسبوق لقضاء ما فاته فسها فإنه يسجد لسهوه. ويسقط سجود السهو إذا طلعت الشمس بعد السلام في صلاة الفجر أو احمرت في صلاة العصر أو فعل فعلاً يمنعه من البناء على صلاته بأن تكلم أو قهقه أو أحدث متعمداً أو خرج من المسجد أو صرف وجهه عن القبلة، والأولى ترك سجود السهو في الجمعة والعيدين لئلا
يشتبه الأمر على المصلين، وإذا سها في سجود السهو فلا سجود عليه، وقال المالكية: سجود السهو سنة مؤكدة للإمام والمنفرد بسبب زيادة أو نقص لسنة مؤكدة أو سنتين خفيفتين. وقال الشافعية: وإذا ترك الإمام سجود السهو لم يجب على المأموم أن يسجد بل يندب. وقال الحنابلة: سجود السهو وجب، وقد يكون مندوباً وقد يصبح مباحاً ويجب عندهم سجود السهو لما يأتي: أ- لكل ما يبطل الصلاة إن فُعل عمداً بالزيادة أو النقصان كترك ركن فعلي. ب- لترك كل واجب سهواً، كترك التسبيح في الركوع أو السجود. ج- الشك في الصلاة في بعض صوره كالشك في ترك ركن أو في عدد الركعات. د- لمن لحن لحناً يغير المعنى سهواً أو جهلاً، ويندب سجود السهو عندهم إن أتى بقول مشروع في غير موضعه ويباح سجود السهو لترك سنة من سنن الصلاة والنافلة كالفرض في حكم سجود السهو. وقد لخص حكم سجود السهو صاحب بداية المجتهد فقال (1/ 191). اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أو سنة؟، فذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض لكن من شروط صحة الصلاة. وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال وبين السجود للسهو في الأقوال وبين الزيادة والنقصان فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من شروط صحة الصلاة، هذا في المشهور، وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب وسجود الزيادة مندوب. ومكان سجود السهو عند الحنفية بعد السلام مطلقاً. وعند المالكية قبل السلام إن كان سببه النقصان أو النقصان والزيادة معاً وبعد السلام إن كان سببه الزيادة فقط وينوي وجوباً للسجود البعدي. ومحل سجود السهو عند الشافعية قبل السلام مطلقاً.
وعند الحنابلة الأفضل أن يكون قبل السلام أكثر وفي حالتين يسجد بعد السلام. - أن يسجد لنقص ركعة فأكثر وكان قد سلم قبل إتمام صلاته. - أن يشك الإمام في شيء من صلاته ثم يبني على غالب ظنه. وصفته عند الحنفية أن يسجد سجدتين بعد التشهد ثم يعيد التشهد ويأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء في قعدة السهو ولو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم قبل سجود السهو فلا حرج، وعند المالكية يتشهد بعد سجود السهو استناناً ولا يدعو ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. وعند الشافعية: يسلم مباشرة بعد السجدتين. وقال الحنابلة: إن سجد للسهو بعد السلام يأتي بالتشهد كتشهد الصلاة ثم يسلم، وإن سجد قبل أن يسلم لم يتشهد ويسلم عقبه ومن ترك السجود الواجب للسهو عمداً بطلت صلاته عندهم، وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل لم تبطل الصلاة. ومما قاله الحنفية في سجود السهو: 1 - لا يسجد للسهو في العمد إلا في ثلاث: ترك القعود الأول أو تأخيره سجدة من الركعة الأولى إلى آخر الصلاة، أو تفكره عمداً حتى شغله عن مقدار ركن. 2 - يسجد للسهو بترك واجب من واجبات الصلاة سهواً إما بتقديم أو بتأخير أو زيادة أو نقص، وهي أحد عشر واجباً، منها ستة واجبات أصلية، وهي ما يلي: الأول: ترك قراءة الفاتحة أو أكثرها في الركعتين الأوليين من الفرض. الثاني: ترك سورة أو ثلاث آيات قصار أو آية طويلة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة. الثالث: مخالفة نظام الجهر والإسرار: فإن جهر في الصلاة السرية نهاراً وهي الظهر والعصر، وخافت في الصلاة الجهرية ليلاً وهي الفجر والمغرب والعشاء، سجد للسهو. الرابع: ترك القعدة الأولى للتشهد الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية.
الخامس: ترك التشهد في القعدة الأخيرة. السادس: عدم مراعاة الترتيب في فعل مكرر في ركعة واحدة، وهو السجدة الثانية في كل ركعة، فلو سجد سجدة واحدة سهواً، ثم قام إلى الركعة التالية، فأداها بسجدتيها، ثم تذكر السجدة المتروكة في آخر صلاته، فسجدها، فيجب عليه سجود السهو بترك الترتيب؛ لأنه ترك الواجب الأصلي ساهياً، فوجب سجود السهو. أما عدم رعاية الترتيب فيما لا يتكرر كأن أحرم فركع ثم رفع ثم قرأ الفاتحة والسورة، فيوجب عليه إعادة الركوع، ويسجد للسهو. وكذلك ترك سجدة التلاوة وكل تأخير أو تغيير في محل فرض، كالقعود محل القيام وعكسه يوجب سجود السهو. السابع: ترك الطمأنينة الواجبة في الركوع والسجود، فمن تركها ساهياً وجب عليه سجود السهو على الصحيح. الثامن: تغيير محل القراءة في الفرض: بأن قرأ الفاتحة بعد السورة، أو قرأ السورة في الركعتين الأخريين من الرباعية، أو في الثانية والثالثة فقط، وجب عليه السهو. التاسع: ترك قنوت الوتر: ويتحقق تركه بالركوع قبل الإتيان به، فمن تركه سجد للسهو. العاشر: ترك تكبير القنوت. الحادي عشر: ترك تكبيرات العيدين أو بعضها، أو تكبيرة ركوع الركعة الثانية من صلاة العيد، فإنها واجبة. بخلاف التكبيرة الأولى. 3 - زيادة فعل في الصلاة ليس من جنسها وليس منها: كأن ركع ركوعين، فإنه يسجد للسهو. العود إلى ما سها عنه: من سها عن القعدة الأولى، ثم تذكر، وهو إلى حال القعود أقرب، عاد، فجلس وتشهد، وإن كان إلى حال القيام أقرب لم يعد، ويسجد للسهو. ومن سها عن القعدة الأخيرة، فقام إلى الخامسة، رجع إلى القعدة ما لم يسجد وألغى
الخامسة، ويسجد للسهو. فإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه، وتحولت صلاته نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وكان عليه أني ضم ركعة سادسة ندباً. وإن قعد في الرابعة قدر التشهد، ثم قام ولم يسلم يظنها القعدة الأولى، عاد إلى القعود ما لم يسجد في الخامسة، ويسلم، وإن قيد الخامسة بسجدة ضم إليها ركعة أخرى استحباباً، وقد تمت صلاته لوجود الجلوس الأخير في محله، والركعتان الزائدتان: له نافلة. الشك في الصلاة: إذا سها في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً؟ فإن كان ذلك أول ما سها (أي أن السهو لم يصر عادة له، لا أنه لم يسه في عمره قط)، استقبل الصلاة، وبطلت، أي استأنفها وأعادها، والسلام قاعداً أولى، وإن حدث الشك المذكور بعد السلام، فلا إعادة عليه، كما لا إعادة عليه إن شك بعد قعوده قدر التشهد قبل السلام. فإن كان الشك يعرض له كثيراً، بنى على غالب ظنه، إذا كان له ظن يرجح أحد الطرفين. وإن لم يكن له ظن أو رأي، أخذ بالأقل أي بنى على اليقين؛ لأنه المتيقن، ويقعد في كل موضع ظنه موضع قعوده، لئلا يصير تاركاً فرض القعود أو واجبه مع تيسر الوصول إليه، فإذا وقع الشك في صلاة رباعية أن الركعة هي الأولى أو الثانية عمل بالتحري، فإن لم يقع تحريه على شيء بنى على الأقل، فيجعلها أولى، ثم يقعد لجواز أنها الركعة الثانية، والقعدة فيها واجبة، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد ويسجد للسهو. ومما قاله المالكية في سجود السهو: يسجد للسهو بأسباب ثلاثة: نقص فقط، وزيادة فقط، ونقص وزيادة. أما النقص: فهو ترك سنة مؤكدة داخلة في الصلاة سهواً أو عمداً، كالسورة إذا تركها عن محلها سهواً، أو سنتين خفيفتين فأكثر كتكبيرتين من تكبيرات الصلاة سوى تكبيرة الإحرام، أو ترك تسميعتين أو تكبيرة وتسميعة. ومن أمثلة ترك سنة أيضاً: ترك جهر بفاتحة فقط ولو مرة، أو بسورة فقط في الركعتين بفرض كالصبح، لا نفل كالوتر والعيدين، مع اقتصار على حركة اللسان الذي هو أدنى السر، وترك تشهد ولو مرة لأنه
سنة خفيفة. ويسجد للنقصان قبل السلام. فإن أنقص ركناً عمداً بطلت صلاته، وإن أنقصه سهواً أجبره ما لم يفت محله، فإن فات ألغى الركعة وقضاها. وأما الزيادة: فهي زيادة فعل غير كثير ليس من جنس الصلاة، أو من جنسها. مثال الأول: أكل خفيف أو كلام خفيف سهواً. ومثال الثاني: زيادة ركن فعلي من أركان الصلاة كالركوع والسجود، أو زيادة بعض من الصلاة كركعة أو ركعتين، أو أن يسلم من اثنتين. ويسجد للزيادة بعد السلام. أما زيادة القول سهواً: فإن كان من جنس الصلاة فمغتفر، وإن كان من غيرها سجد له. وأما الزيادة والنقص معاً: فهو نقص سنة ولو غير مؤكدة، وزيادة ما تقدم في السبب الثاني، كأن ترك الجهر بالسورة وزاد ركعة في الصلاة سهواً، فقد اجتمع له نقص وزيادة. ويسجد للزيادة والنقصان قبل السلام، ترجيحاً لجانب النقص على الزيادة. ومما قاله الشافعية في سجود السهو: أن الزيادة الموجبة للسهو نوعان: قول وفعل، فالقول كالسلام في غير موضعه ناسياً، أو الكلام ناسياً، والفعل: كأن يزيد سهواً في صلاته ركعة أو ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً، أو يطيل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت، أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود على وجه السهو، فيسجد للسهو. وأما النقصان: فهو أن يترك سنة مقصودة، وهو أمران: الأول: أن يترك التشهد الأول ناسياً فيسجد للسهو، والثاني: أن يترك القنوت ساهياً، فيسجد للسهو؛ لأنه سنة مقصودة في محلها، فتعلق السجود بتركها، كالتشهد الأول. وإن ترك سنة غير مقصودة كالتكبيرات والتسبيحات، والجهر والإسرار والتورك والافتراش، وما أشبهها، لم يسجد؛ لأنه ليس بمقصود في موضعه، فلم يتعلق بتركه الجبران.
ويلاحظ أن التشهد الأخير إلى قوله: "وأن محمداً رسول الله، أو عبده ورسوله، أو رسوله" هو الواجب، وهذا هو السنة مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، أما الصلاة على الآل في التشهد الأخير فهي سنة وفي التشهد الأول خلاف الأولى على المعتمد، وقيل: مكروهة، فلا يسجد للسهو لترك ذلك، ولا لفعله. ومما قاله الحنابلة في سجود السهو: ومتى ذكر من زاد في صلاته، عاد إلى ترتيب الصلاة بغير تكبير، لإلغاء الزيادة، وعدم الاعتداد بها. وإن زاد ركعة كثالثة في صبح أو رابعة في مغرب أو خامسة في ظهر أو عصر أو عشاء، قطع تلك الركعة، بأن يجلس في الحال متى ذكر بغير تكبير، وبنى على فعله قبل تلك الزيادة، ولا يتشهد، إن كان تشهد، ثم سجد للسهو، وسلم، ولا تحتسب الركعة الزائدة من صلاة مسبوق. ووجبت مفارقة الإمام القائم إلى زائدة على من علم ذلك، لاعتقاده خطأه، ويتم المفارق صلاته لنفسه للعذر. وأما النقص في الصلاة: فمثل ترك الركوع أو السجود أو قراءة الفاتحة ونحو ذلك سهواً، ويجب عليه تداركه والإتيان به إذا تذكره، ويجب أن يسجد للسهو في آخر صلاته. وإن نسي التشهد الأول، لزمه الرجوع والإتيان به جالساً، ما لم ينتصب قائماً، وهذا متفق عليه. وإن استوى قائماً ولم يقرأ، فعدم رجوعه أولى، لحديث المغيرة، ويتابعه الإمام ويسقط عنه التشهد. وإن قرأ ثم قرأ التشهد، لم يجز له الرجوع، لحديث المغيرة، ولأنه شرع في ركن مقصود، كما لو شرع في الركوع، وتبطل صلاة الإمام إذا رجع بعد شروعه فيها، إلا أن يكون جاهلاً أو ناسياً وعليه سجود السهو لذلك. وكذلك حكم التسبيح في الركوع والسجود، ودعاء "رب اغفر لي" بين السجدتين، وكل واجب تركه سهواً ثم ذكره، فيرجع إلى تسبيح الركوع قبل الاعتدال لا بعده.
وأما الشك في الصلاة الذي يقتضي سجود السهو بعض صوره: فهو مثل أن يشك في ترك ركن من الأركان، أو في عدد الركعات، فيبني على المتيقن، ويأتي بما شك في فعله، ويتم صلاته، ويسجد للسهو وجوباً، ولا يسجد للسهو حالة الشك في ترك واجب كتسبيح الركوع أو السجود وإنما يسجد لترك الواجب سهواً. انظر: (فتح القدير 1/ 355 - 374)، (الشرح الصغير: 1/ 337 - 400)، (المهذب: 1/ 89 - 92)، (كشف القناع: 1/ 459 - 481)، (بداية المجتهد: 1/ 192 - 199)، (الفقه الإسلامي: 2/ 92 - 103، 106 - 108). وإلى نصوص هذه الفقرة:
- ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة
- ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة: 2296 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مالك بن بحينة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم بعد ذلك". وفي رواية (1) "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته، ونظرنا تسليمه، كبَّر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس". وفي أخرى (2) نحوه، وفيه: "فلما قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه؛ كبَّر فسجد قبل أن يسلم، ثم رفع رأسه ثم كبر فسجد، ثم رفع رأسه وسلم". وفي أخرى (3): "قام في صلاة الظهر، وعليه جلوس، فلما أتم صلاته: سجد سجدتين، يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس". وللنسائي (4): صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم. 2297 - * روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة قال زياد بن علاقة: "صلى بنا المغيرة بن شعبة، فنهض في الركعتين، فقلنا: سبحان الله! فقال: سبحان الله! ومضى، فلما أتم صلاته سجد سجدة قبل السلام ثم سلم". وفي رواية (5): "فلما أتم صلاته وسلم، سجد سجدتي السهو، فلما انصرف قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت". قال أبو داود: وفعل كفعل المغيرة: سعد بن أبي وقاص، وعمران بن حصين، والضحاك، ومعاوية،
- السهو إذا صلى خمسا
وأفتى به ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز. وفي أخرى (1)، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قام الإمام في الركعتين: فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، وإذا استوى قائماً فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو". أقول: اتفق الفقهاء على أن من نسي القعود الأول واستوى قائماً ثم تذكر أو ذكر لا يصح له أن يرجع إلى الجلوس، فإن رجع بطلت صلاته إلا أن الحنابلة قالوا تبطل صلاته إذا رجع بعد أن تلبس بالقراءة أما إذا كان للقعود أقرب فرجع إلى الجلوس فلا حرج عليه. قال في بداية المجتهد: واتفقوا من هذا الباب على سجود السهو لترك الجلسة الوسطى واختلفوا فيها هل هي فرض أو سنة؟، وكذلك اختلفوا هل يرجع الإمام إذا سبح به إليها أو ليس يرجع؟ وإن رجع فمتى يرجع؟ قال الجمهور: يرجع ما لم يستو قائماً وقال قوم: يرجع ما لم يعقد الركعة الثالثة. وقال قوم: لا يرجع إن فارق الأرض قيد شبر، وإذا رجع عند الذين لا يرون رجوعه، فالجمهور على أن صلاته جائزة. وقال قوم: تبطل صلاته. اهـ: (193 - 194). - السهو إذا صلى خمساً: 2298 - * روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فزاد أو نقص- شك بعض الرواة- أنه زاد- فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثنى رجليه واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء
أنبأتكم به، ولكني إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليبن عليه، ثم يسجد سجدتين". وفي أخرى (1) "أنه عليه الصلاة والسلام سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام" وفي أخرى (2) "قالوا: فإنك صليت خمساً، فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم"، وفي أخرى (3) لمسلم نحوه مختصراً، قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمساً، فقال: "إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون"، ثم سجد سجدتي السهو وله في أخرى (4) بنحو ما سبق، وقال: "فلينظر أحرى ذلك للصواب" وفي أخرى (5): "فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب" وفي أخرى (6) عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سويد قال: "صلى بنا علقمة الظهر خمساً، فلما سلم قال القوم: يا أبا شبل، قد صليت خمساً، قال: كلا، ما فعلت، قالوا: بلى، قال: وكنت في ناحية القوم وأنا غلام، فقلت: بلى صليت خمساً، قال لي: وأنت أيضاً يا أعور تقول ذلك؟ قال: قلت: نعم، قال: فانفتل فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما انفتل توشوش القوم بينهم، فقال: "ما شأنكم؟ " قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة؟ قال: "لا"، قالوا: فإنك قد صليت خمساً، فانفتل، ثم سجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: "إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون"- زاد في رواية (7): فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين.
- السجود إذا سلم من ركعتين أو ثلاث: 2299 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أو نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى اثنتين أخريين، ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع: وفي رواية (1) سلمة بن علقمة "قلت لمحمد- يعني ابن سيرين: في سجدتي السهو تشهُّد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة". وفي رواية (2) قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي- قال محمد: وأكثر ظني: العصر- ركعتين، ثم سلم، ثم قام على خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعم فهاباه أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين فقال: يا نبي الله، أنسيت، أم قصرت؟ فقال: "لم أنس ولم تقصر"، قال: بلى، قد نسيت، قال: صدق ذو اليدين، فقام فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبَّر". وفي أخرى (3) نحوه، وفيه: "ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليه مغضباً" وفيه: "فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً، فقال: ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع- قال: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلم". وفي أخرى (4) للبخاري قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، فقيل: صليت ركعتين، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم سجد سجدتين". وفي أخرى (5) له: "صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر ركعتين فسلم، فقال
له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله، أنقصت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أحق ما يقول؟ " قالوا: نعم، فصلى ركعتين أخريين، ثم سجد سجدتين، قال سعد: هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف- ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم، وتكلم، ثم صلى ما بقي، وسجد سجدتين، وقال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولمسلم (1) قال راويه: سمعت أبا هريرة يقول: صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله، أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، فقام ذو اليدين فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتم النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم. وفي رواية لأبي داود (2) (فأومؤوا: أي نعم) ولم يذكر الإجابة باللسان والترمذي: (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها بعد السلام. ذكر البخاري في هذا الحديث في كتابه في مواضع من سجود السهو وترجمه له بما يلي. - إذا سلم في ركعتين أو ثلاث في ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول (3/ 96). - إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول (3/ 97). - يكبر في سجدتي السهو (3/ 99) قال في "الفتح": اختلف في سجود السهو هل يشترط
له تكبيرة إحرام أو يكتفي بتكبير السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء. 2300 - * روى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق- وكان في يديه طول- فقال: يا رسول الله ... فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم" وفي أخرى (1) قال: "سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضباً، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم" وعند أبي داود (2): "فصلى تلك الركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتيها، ثم سلم" وله في أخرى (3): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم". وأخرج النسائي (4) روايتي أبي داود. أقول: قال الحنفية: التكلم في الصلاة ناسياً أو جاهلاً يبطلها واعتبروا حديث ذي اليدين منسوخاً بالأحاديث التي نهت عن التكلم في الصلاة وجمهور العلماء على اعتماد قصة ذي اليدين: أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناءً على ظن التمام لا يوجب بطلانها ولو سلم تسليمتين، وإن كلام الناسي لا يبطل الصلاة وكذلك من ظن التمام، وبعض العلماء قال إن الكلام الذي يجيز للناسي أن يبني على صلاته هو ومن وراءه، هو الكلام الذي يكون بالقدر الذي تحتاجه مصلحة الصلاة، وحدده بعضهم بالمقدار الذي جرى في حادثة ذي اليدين سواء من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من ذي اليدين.
2301 - * روى أحمد عن عطاء أن ابن الزبير صلى الغرب وسلم في ركعتين ونهض ليستلم الحجر فسبح القوم فقال ما شأنكم وصلى ما بقي وسجد سجدتين فذكر ذلك لابن عباس فقال ما أماط عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. 2302 - * روى أبو داود عن معاوية بن خديج رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوماً فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة، وخرج فأدركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فخرج فدخل المسجد وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى للناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: تعرف الرجل؟ قلت: لا، غلا أن أراه، فمر بي رجل، فقلت: هذا هو، فقالوا: هذا هو طلحة بن عبيد الله". 2303 - * روى الطبراني عن أبي عثمان النهدي قال: خرج أبو موسى الأشعري وأصحابه من مكة فصلى بهم المغرب ركعتين ثم سلم ثم قام فقرأ بثلاث آيات من النساء ثم ركع وسجد وسلم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: ذهب الحنفية إلى أن قراءة الفاتحة في الركعة الثالثة، من الثلاثية والركعتين الأخيرتين من الرباعية سنة، فلو أن الإنسان سبح بمقدار قراءة الفاتحة أو سكت جازت صلاته، كما أجاز الحنفية أن يقرأ بعد الفاتحة في الثالثة من الثلاثية والأخيرتين من الرباعية بشيء من القرآن والنص يصلح دليلاً لذلك كله لأنه يحتمل أكثر من وجه، فإذا حمل على أنه لم يقرأ إلا ثلاث آيات من النساء فذلك دليل على عدم وجوب قراءة الفاتحة وإن حمل على أنه قرأ بعد الفاتحة فذلك دليل على أنه لا حرج على الإمام ولا المنفرد أن يقرأ مع الفاتحة غيرها في الثالثة من الثلاثية وفي الثالثة والرابعة من الرباعية، والكلام كله في المكتوبة.
- السجود للشك
- السجود للشك: 2304 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: كم صلى: ثلاثاً، أو أربعاً؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً، شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع، كانتا ترغيماً للشيطان". ولأبي داود (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فإن استيقن أن قد صلى ثلاثاً، فليقم فليتم ركعة بسجودها، ثم يجلس فيتشهد، فإذا فرغ فلم يبق إلا أن يسلم، فليسجد سجدتين وهو جالس، ثم يسلم" ثم ذكر معنى ذلك، وللنسائي (3) قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليلغ الشك، وليبن على اليقين، فإذا استيقن بالتمام، فليسجد سجدتين وهو قاعد" وفي رواية (4) الترمذي عن عياض بن هلال قال: "قلت لأبي سعيد: أحدنا يصلى، فلا يدري كيف صلى؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فلم يدر: أزاد، أم نقص؟ فليسجد سجدتين وهو قاعد" وأخرج (5) أبو داود هذه الرواية، وزاد فيها "فإذا أتاه الشيطان، فقال له: إنك أحدثت، فليقل له: كذبت، إلا ما وجد ريحاً بأنفه أو صوتاً بأذنه". 2305 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان، فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس" وفي رواية (7) قال "إذا نودي
بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط، حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوِّب بها أدبر، فإذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري: كم صلى؟ فإذا لم يدر أحدكم: ثلاثاً صلى أو أربعاً؟ فليسجد سجدتين وهو جالس". ولمسلم (1): "إن الشيطان إذا ثوِّب بالصلاة ولى وله ضراط ... فذكر نحوه" وزاد: فهناه ومنَّاه، وذكَّره من حاجته ما لم يكن يذكر". أقول: إذا شك إنسان في صلاته كم صلى فإنه يبني على غالب ظنه، فإن لم يكن له غالب ظن بنى على اليقين بأن يبني على الأقل في حق العدد وللاحتمال بأنه قد غلط يبني على الأكثر في حق القعود فيجلس ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. 2306 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سجدتي السهو: "المرغمتين". أقول: سماهما كذلك لأنهما ترغمان الشيطان. 2307 - * روى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر: واحدة صلى، أو ثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يدر: ثنتين صلى، أو ثلاثاً؟ فليبن على ثنتين فإن
- التشهد في سجود السهو
لم يدر: ثلاثاً صلى، أو أربعاً؟ فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلِّم". قال في بداية المجتهد مبيناً حكم سجود السهو للشك (1/ 198): وأما سجود السهو الذي هو لموضع الشك فإن الفقهاء اختلفوا فيمن شك في صلاته فلم يدر كم صلى أواحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً على ثلاثة مذاهب. فقال قوم: يبني على اليقين وهو الأقل ولا يجزيه التحري ويسجد سجدتي السهو، وهو قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: إن كان أول أمره فسدت صلاته، وإن تكرر ذلك منه تحرى وعمل على غلبة الظن ثم يسجد سجدتين بعد السلام. وقالت طائفة: إنه ليس عليه إذا شك لا رجوع إلى اليقين ولا تحر، وإنما عليه السجود فقط إذا شك. - التشهد في سجود السهو: 2308 - * روى الترمذي عن عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم". وقال في الفتح (3/ 99): قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، لكن قد رود في التشهد في سجود السهو، عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف، فقد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله، أخرجه ابن أبي شيبة. وقد حكى بعض العلماء أن لفظة (ثم تشهد) شاذة تفرد بها أشعث الحمراني عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء. قال (في الإعلاء 7/ 142). وأما الجواب عن شذوذ رواية أشعت فكما ذكره في "الجوهر النقي" (1/ 186): قلت: أشعث الحمراني ثقة، أخرج له البخاري في المتابعات- في باب يخوف الله عباده
- إعلام الإمام بالسهو
بالكسوف- ووثقه ابن معين وغيره، وقال يحيى بن سعيد: ثقة مأمون، وعنده أيضاً قال: لم أدرك أحداً من أصحابنا هو أثبت عندي منه، ولا أدركت من أصحاب ابن سيرين بعد ابن عون أثبت منه، وإذا كان ذلك فلا يضره تفرده بذلك، ولا يصير سكوت من سكت عن ذكره حجة على من ذكره وحفظه لأنه زيادة ثقة، اهـ. أقول: ذهب الحنفية إلى وجوب التشهد بعد السهو، وفرق الحنابلة بين ما إذا كان سجود السهو بعد السلام أو قبله، فإن كان بعد السلام تشهد، ويسن عند المالكية أن يتشهد بعد سجود السهو استناناً، ولا يتشهد عند الشافعية بعد سجود السهو، وهل يأتي قبل سجود السهو عند الحنفية بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قولان في ذلك ويأتي بعد سجود السهو بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء مع التشهد. - إعلام الإمام بالسهو: 2309 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء". أقول: هذا في حالة سهو الإمام، فالمرأة تصفق وهي ملصقة أصل كفها بيدها والرجال يسبحون وذلك ليذكروا الإمام إذا سها، فإن كان سهوه بعد أن قام إلى الثالثة ليذكروه بالقعود فلا يعود، وإن كان سهوه بأن قام إلى ركعة زائدة فعليه أن يعود، وإن سها فقعد حيث لا ينبغي القعود فعليه أن يقوم وفي كل الأحوال هذه يسجد للسهو. وفي شرح مسلم قال النووي (4/ 145): " ... السنة لمن نابه شيء في صلاته كإعلام من يستأذن عليه وتنبيه الإمام وغير ذلك أن يسبح إن كان رجلاً فيقول سبحان الله وأن تصفق وهو التصفيح إن كانت امرأة فتضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر، ولا تضرب بطن كف على وجه اللعب واللهو فإن فعلت هكذا على وجه اللعب بطلت صلاتها لمنافاة الصلاة .. ".
الفقرة الثانية في سجود التلاوة عرض إجمالي
الفقرة الثانية في سجود التلاوة عرض إجمالي: هناك آيات في القرآن الكريم إذا قرأها المكلف أو سمعها يشرع له السجود بسبب ذلك على خلاف بين الفقهاء في بعض هذه الآيات وعلى خلاف في درجة المشروعية هل هي الوجوب أو ضمن ذلك، وعلى خلاف في بعض التفصيلات سنراها، وعدد السجدات عند المالكية في المشهور: إحدى عشرة، منها عشرة بالإجماع وهي: في سورة الأعراف الآية (206)، والرعد (15)، والنحل (49)، والإسراء (107)، ومريم (58)، وفي أول الحج (18)، وفي الفرقان (60)، وفي النمل (25)، وفي ألم السجدة (15)، وفي فصلت (38)، وفي ص (24). واتفق الحنفية مع المالكية على سجدة "ص" وهي عندهم أربع عشرة، بإضافة ثلاث أخرى: في سورة النجم (62)، وإذا السماء انشقت (21)، واقرأ باسم ربك الذي خلق (19)، أما سجدة الحج الثانية فإنها للأمر بالصلاة بدليل اقترانها بالركوع، والأحاديث الواردة بتفضيل سورة الحج بسجدتين فيها راويان ضعيفان. وقال الشافعية والحنابلة: السجدات أربع عشرة، منها سجدتان في سورة الحج، في أولها وآخرها (77)، أما سجدة ص فهي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، وتحرم في الصلاة على الأصح وتبطلها. وقد ثبتت مشروعية سجود التلاوة بالقرآن والسنة والإجماع، وسنرى نصوص السنة التي تتحدث عن ذلك، وأما القرآن فلقد قال تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) (1). وسجدة التلاوة واجبة على التراخي على القارئ والسامع عند الحنفية، سنة عند بقية
الفقهاء، وقال المالكية والحنابلة: إن السامع غير القاصد للسماع ليس مطالباً بها ولو على وجه الاستحباب، وعند الحنفية تجب على الفور إذا تليت في الصلاة، وإذا لم يسجد لها في الصلاة فإنها لا تقضى خارج الصلاة، فإن أنهى قراءته بآية السجدة فركع مباشرة بنية أدائها في الركوع أجزأت عنه فإن لم ينوها في ركوعه وسجد بعد ذلك مباشرة أجزأت عنه نوى أو لم ينو وإذا ركع أو سجد بعد آيتين من آية سجدة التلاوة فالحكم كذلك. أما إذا قرأ ثلاث آيات فأكثر فيجب أن يسجد لها سجوداً مستقلاً، وإذا سجد لها سجوداً مستقلاً بعد قراءتها مباشرة أو بعد قراءة ثلاث آيات فأكثر فالمستحب له بعد قيامه من السجود أن يقرأ شيئاً من القرآن ويجب على المأموم أن يتابع إمامه في سجود التلاوة، والجمهور على أن تخلف المقتدي عن متابعة الإمام في سجدة التلاوة يبطل صلاته وكذلك إذا سجد المأموم دون إمامه، ولا يسجد المأموم لقراءة نفسه فإن فعل بطلت صلاته. ويشترط لوجوب سجدة التلاوة عند الحنفية أن يقرأها، أو يسمعها ممن تجب عليه الصلاة واتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة سجدة التلاوة الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة والنية ولا يشترط لها عند الحنفية التحريمة ولا السلام، فهي عندهم سجدة بين تكبيرتين، سواء أداها الإنسان قائماً أو قاعداً ولا تعتبر التكبيرة الأولى تكبيرة إحرام وتجب السجدة على التراخي على خطيب الجمعة والعيدين والسامعين، ويكره للإمام الإتيان بها فوق المنبر فينزل إن شاء أن يؤديها على الفور فيسجد ويسجد الناس معه والمالكية كالحنفية في أن سجدة التلاوة لا إحرام فيها ولا تسليم، ويشترط عند الشافعية مع النية تكبيرة الإحرام على الصحيح ويشترط السلام أيضاً في الأظهر بعد القعود كالصلاة ولا يشترط التشهد في الأصح. وقال الفقهاء: يبطل سجدة التلاوة كل ما يبطل الصلاة إلا أن الحنفية قالوا لا تفسدها محاذاة المرأة الرجل وإن نوى إمامتها، وصفة السجود عند الحنفية أن يكبر للسجود دون رفع يديه ويسجد بين كفيه ثم يكبر للرفع وكل من هاتين التكبيرتين سنة ويرفع رأسه ولا يقرأ التشهد ولا يسلم، ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة وإذا كانت سجدة التلاوة خارج الصلاة يندب له على أن يزيد على ذلك ما ورد من مأثور، والمالكية كالحنفية، وعند الحنفية والمالكية يكبر القائم من قيام والجالس من جلوس، وقال الشافعية:
لا يسن له أن يرفع يديه عند التكبيرة لسجود التلاوة في الصلاة ويسن الرفع خارج الصلاة، ويقوم مقام سجود التلاوة لمن لم يرد فعلها، أن يقول أربع مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ومن كلام الحنابلة: ويكره للإمام سجوده لقراءة سجدة في صلاة سرية لئلا يخلط على المأمومين فإن فعل خير المأموم بين المتابعة والترك والأولى المتابعة، وأركانها عند الحنابلة السجود والرفع منه والتسليمة الأولى أما التكبيرة للهوي والرفع من السجود والذكر في السجود فهو واجب والجلوس للتسليم مندوب والأفضل سجوده عن قيام ويرفع يديه مع تكبيرة السجود إن سجد في غير الصلاة. وتتكرر السجدة بتكرر التلاوة عند الجمهور، ولا تتكرر عند الحنفية إذا كانت لآية واحدة في مجلس واحد. وإذا تكررت التلاوة من القارئ في أكثر من مجلس فعليه تكرار السجود أما السامع الذي لم يغير مجلسه فعليه سجدة واحدة، وقال المالكية: إذا كرر المعلم أو المتعلم آية السجدة فيسن السجود لقراءتها أول مرة فقط، ويكره تحريماً عند الحنفية ترك آية سجدة وقراءة باقي السورة. ويستحسن عندهم إخفاء آية السجدة عن سامع غير متهيئ للسجود. ولا يرى الحنفية والمالكية وغيرهم أن يداوم الإمام على قراءة سجدة ألم في فجر يوم الجمعة حتى لا يظن العامة فرضية ذلك، ومما نص عليه الحنابلة أنه لا يسجد سجدة التلاوة في الأوقات المنهي عنها التي لا يجوز فيها التطوع خلافاً للشافعية، ومما ذكره المالكية أن الإمام إذا كان يصلي صلاة سرية ومر بآية سجدة فإنه يجهر بها ليعرف من وراءه إذا سجد لها سبب السجود. انظر: (اللباب: 1/ 102 - 104)، (الشرح الصغير: 1/ 416 - 422)، (والمهذب: 1/ 85 - 86)، (كشف القناع: 1/ 521 - 526)، (والفقه الإسلامي: 2/ 110 فما بعدها). وإلى نصوص هذه الفقرة:
- في مؤكدات سجود التلاوة
- في مؤكدات سجود التلاوة: 2310 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلتي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". 2311 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته في غير وقت صلاة"، وفي أخرى (1) لأبي داود قال: "كان رسول الله يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبَّر، وسجد وسجدنا". في كونها سنة: 2312 - * روى البخاري عن ربيعة بن عبد الله أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر: (سورة النحل)، حتى جاء السجدة فنزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر". قال البخاري: زاد نافع عن ابن عمر "قال- يعني عمر- إن الله لم يفرض علينا السجود، إلا أن نشاء". هذا دليل لمن ذهب إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب بل هو على الندب، خلافاً لمن قال بالوجوب. 2313 - * روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قيل له: "الرجل يسمع
- سجدة الحج
السجدة ولمي جلس لها؟ قال: أرأيت لو جلس لها كأنه لا يوجبه عليه". قال الحافظ في "الفتح": وصله ابن أبي شيبة بمعناه من طريق مطرف قال: سألت عمران بن حصين عن الرجل لا يدري أسمع السجدة أو لا؟ فقال: وسمعها أولاً، فماذا؟ وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن مطرف أن عمران مر بقاص، فقرأ القاص السجدة، فمضى عمران ولم يسجد معه، وإسنادهما صحيح. - سجدة الحج: 2314 - * روى مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ (سورة الحج) فسجد فيها سجدتين، ثم قال: "إن هذه السورة فضِّلت بسجدتين". وفي سنده جهالة رجل من أهل مصر، ولكن له شواهد بمعناه يقوى بها، منها الذي بعده، ومنها ما ذكره ابن كثير في التفسير، قال: قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثني ابن أبي داود، حدثنا يزيد بن عبد الله، حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، حدثنا حفص بن غياث حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية وقال: إن هذه فضلت بسجدتين (م). 2315 - * روى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي (الحج) سجدتان؟ قال: "نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما". أقول: يصلح هذا النص دليلاً للحنفية: على أن درجة الطلب لسجود التلاوة درجة رفيعة ولذلك قالوا: إن سجود التلاوة واجب فهو دون الفرض وفوق السنة. - سجدة (ص): 2316 - * روى البخاري عن مجاهد قال: قلت لابن عباس: أأسجد في (ص) فقرأ:
- سجدة النجم
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} - حتى أتى- {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1) فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم، وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: "ليست (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها". وفي رواية (2) النسائي قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص)، وقال: "سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً". 2317 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (ص) وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم، فنزل فسجد وسجدوا". 2318 - * روى الطبراني عن مسروق قال: قال عبد الله: ألا هي توبة نبي ذكرت فكان لا يسجد فيها يعني سجدة (ص). - سجدة النجم: 2319 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (والنجم) فسجد فيها، وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قُتِل
كافراً"، وأخرجه النسائي مختصراً قال: "قرأ (النجم) فسجد فيها" وفي رواية (1) للبخاري قال: "أول سورة أنزلت فيها سجدة (النجم) قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف". 2320 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بـ (النجم)، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس". 2321 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (النجم) فسجد بها". 2322 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج "أن عمر بن الخطاب قرأ بـ (النجم إذا هوى)، فسجد فيها، ثم قام فقرأ بسورة أخرى". 2323 - * روى الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (النجم)، فلم يسجد فيها". وفي رواية (2) النسائي عن عطاء بن يسار: "أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام؟ فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء، وزعم أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم (والنجم إذا هوى) فلم يسجد".
- سجدة سورة الانشقاق والعلق.
2324 - * روى ابن خزيمة عن زيد بن ثابت، قال: عرضت النجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسجد منا أحد. قال أبو صخر: وصليت خلف عمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن حزم فلم يسجدا. - سجدة سورة الانشقاق والعلق. 2325 - * روى الشيخان عن أبي سلمة قال: "رأيت أبا هريرة قرأ: (إذا السماء انشقت) فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ قال: لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد"، وفي حديث أبي رافع الصايغ قال: "صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت: ما هذه السجدة قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه". ولمسلم (1): "أن أبا هريرة قرأ لهم: (إذا السماء انشقت) فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها". 2326 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} " وفي أخرى (2) قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". وللنسائي قال: "سجد أبو بكر وعمر، ومن هو خير منهما في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
- إجزاء الركوع مباشرة عن سجود.
2327 - * روى الطبراني عن عمر بن الخطاب أنه صلى الصبح فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فيها. 2328 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه كان يسجد في النجم واقرأ باسم ربك الذي خلق. - إجزاء الركوع مباشرة عن سجود. 2329 - * روى الطبراني عن ابن مسعود: قال إذا كانت السجدة آخر السورة فاركع إن شئت أو اسجد فإن السجدة مع الركعة. - ما يقول في سجوده: 2330 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته". 2331 - * روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحط عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سجدة ثم سجد، فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة".
الفقرة الثالثة في سجود الشكر عرض إجمالي
الفقرة الثالثة في سجود الشكر عرض إجمالي تستحب سجدة الشكر عند الجمهور إذا حصلت للإنسان نعمة أو جاءه خبر يسره على شرط أن يكون محل السرور مشروعاً. وقد أفتى الحنفية: باستحبابها وأن هيئتها مثل سجدة التلاوة، وكرهوا أن تؤدى بعد الصلاة مباشرة كما كرهوا أن تؤدى في الوقت الذي يكره فيه النفل وقال الشافعية: تسن سجدة الشكر لهجوم نعمة أو اندفاع نقمة أو رؤية مبتلى أو عاص يجهر بالمعصية، ويظهرها للعاصي لا للمبتلى وهي كسجدة التلاوة، وتصح على الراحلة للمسافر بالإيماء كسجدة التلاوة، وكسجود السهو للنافلة. وقال الحنابلة: يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، ويشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود التلاوة. وأجاز ابن حبيب المالكي سجدة الشكر إلا أن الأصل عند المالكية أنه يستحب عند حدوث نعمة أو اندفاع نقمة: صلاة ركعتين، أما مجرد السجود عندهم للشكر فهو مكروه وقد اتجه أبو حنيفة نفسه إلى كراهية سجود الشكر لعدم إحصاء نعم الله لكثرتها ولكن المفتى به عند الحنفية جوازها كما رأينا. وإلى نصوص هذه الفقرة: 2332 - * روى أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمر سرور، أو بُشِّر به، خر ساجداً، شاكراً لله تعالى"، وفي رواية الترمذي (1): "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أمر فسر به، فخر ساجداً".
2333 - * روى ابن خزيمة عن مجاهد وعطاء: أن ابن عباس كان يقول، ولقد حدثني أخي أن- رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلها خر بين العمودين ساجداً، ثم قعد، فدعا ولم يصل. 2334 - * روى أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها فدنوت منه فرفع رأسه قال: "من هذا؟ " قلت عبد الرحمن. قال: "ما شأنك؟ " قلت يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها. قال: "إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فبشرني، فقال: إن الله عز وجل يقول من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكراً". 2335 - * روى البزار عن جابر رفعه: قال: مر رجل بجمجمة إنسان فحدث نفسه فخر ساجداً، فقيل له: ارفع رأسك فأنت أنت وأنا أنا. أقول: الظاهر من النص أن السجود ها هنا كان شكراً لله، إذ رأى صاحبه ما يحدث للإنسان، فخرج ساجداً على النعمة التي هو فيها، فجاءه إلهام رباني مطالباً إياه بالتسليم لفعل الله، فكل شيء فعله وهو شأنه وحده ويحتمل أن يكون قد سمع خطاباً من الميت نفسه يذكره بأن كل إنسان له شأنه الخاص عند الله وهو المسؤول ومحاسب.
خاتمة وجسر
خاتمة وجسر لقد أنهينا عرض ما تيسر عرضه من نصوص الصلاة ومن فقهها، وقد مر معنا من قبل بمناسبة الكلام عن السيرة والعقائد كلام عن الصلاة، وستمر معنا مناسبات أخرى ستذكر الصلاة في سياق نصوص تتحدث عن الصلاة وغيرها بآن واحد، ولا غرو أن أخذت الصلاة هذا الحجم الكبير، فإنها أهم ما بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد العقيدة، وإذا كانت الصلاة عبادة بدنية وكان الهدف منها إقامة الشكر لله تعالى بأفعالها وأذكارها وكل ذلك ذكر لله تعالى، وإذا كانت قراءة القرآن فيها ركناً من أركانها فقد اخترنا أن يكون الجزءان اللاحقان في تلاوة القرآن وبعض المأثور في تفسيره، وفي الأذكار والدعوات لأن هذين الجزءين مكملان في الحقيقة للحكمة التي من أجلها شرعت الصلاة، وقد جعلنا هذه الخاتمة بمثابة الإشارة الأخيرة للصلاة وبمثابة الجسر الذي يوصل للحديث عن الجزءين اللاحقين من هذا القسم. القرآن ذكر بنص القرآن قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1). لاحظ في الآية كلمة {الذِّكْرُ} وكلمة {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وإذ كانت الحكمة في فرض الصلاة الذكر قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (2) وإذ كان القرآن ذكراً فقد جعلنا تلاوة القرآن بعد جزء الصلاة لأنها امتداد لعبادة الصلاة، كيف وقراءة القرآن ركن من أركان الصلاة تذكر قوله تعالى في الآية المتقدمة {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فإنك تدرك من خلالها أن القرآن مثير للفكر وباعث له ومهيج عليه، فإذا كان في الوقت نفسه ذكراً، عرفنا أهمية القرآن في العبادة. فالذكر والتفكر هما اللذان يوصلان الإنسان إلى التذكر بالحقائق المجبولة عليها ذاته وفي مقام العبودية لله ومقتضياه، وإنما يفعل القرآن ذلك كله إذا اجتمع مع
تلاوته التدبر قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ومن ها هنا كانت تلاوة القرآن مكملة للصلاة فلا عجب أن نجعلها بعد الصلاة. ومما يذكر به القرآن العودة إلى الله والحشر والنشر وهذا يبعث على التأمل باليوم الآخر والمحاسبة المستمرة للنفس والاستعداد للموت قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (2). لذلك ولكون التأمل جزءاً من التفكر، وهو مما تثيره تلاوة القرآن في النفس فقد ذكرنا هذا الموضوع بعد الصلاة لأنه مكمل لها في هذه الشؤون كلها. وتلاوة القرآن تكون أثراً عن قراءة في المصحف أو عن حفظ لقرآن، وقد جاءت نصوص تحض على حفظ القرآن كله أو على حفظ سور أو آيات مخصوصة، والحفظ عبادة زائدة على مجرد التلاوة لذلك أدخلنا النصوص الواردة في الحفظ في الجزء اللاحق لأنه من العبادات المباشرة كالصلاة. وقد جرت عادة المؤلفين أن يجمعوا بين النصوص الواردة في التلاوة والحفظ والتفسير في كتاب واحد وذلك أن من آداب التلاوة التدبر، ومما يعين على التدبر معرفة المعنى فأدخلنا هذا كله في الجزء اللاحق. وقد مر معنا في بحث الصلاة كلام عن قراءة القرآن في الصلاة وما هو مسنون فيها، كما مر معنا في قيام الليل شيء عن ذلك فليبق الإنسان على ذكر من ذلك، ومن فاته أن يقرأ المسنون في الصلوات المفروضة أو المسنون في صلاة الليل فلا تفوته القراءة ولو لم تكن في صلاة. كما مر معنا نصوص لها علاقة بسجدات القرآن أشرنا إليها أثناء الكلام عن سجدات التلاوة. وفي الصلاة ذكر وتذكر ودعاء وتلاوة قرآن وتفكر وتأمل ففيها تسبيح وحمد،
وفيها تذكر لليوم الآخر، وفيها دعاء في الفاتحة وغيرها، وفيها تلاوة قرآن أثناء القيام حقيقة أو حكماً وفيها تفكر وتأمل بمعانيها، وكما شرعت هذه المعاني داخل الصلاة فقد شرعت خارجها بل إن ما شرع في الصلاة هو الحد الأدنى منها وإن كان هو المقام الأرقى لأدائها. {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (1) تأمل هذا الثناء العاطر عليهم إذ يتلون الكتاب في صلاتهم ولكن كما شرع لنا أن نتلو الكتاب في صلاتنا فقد شرع لنا أن نتلو القرآن خارج الصلاة وكذلك قل في الذكر والتذكر والدعاء والتفكر والتأمل، بل هذه خارج الصلاة تكمل الصلاة في آثارها وتأثيرها وتقريبها إلى الله وإبعادها عن الفحشاء والمنكر. {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2). ولا ننسى أن من لم يقم الصلاة فقد أسقط الفرض الأكبر في الذكر ومما ذكرناه ندرك أن هناك صلة تكاملية بين الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية والأذكار. فلنتأمل معنى كلمة أركان الإسلام: إن الركن هنا ما قام عليه غيره لأن أصل المعنى مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام "إن الإسلام بني على خمس ... " ترى أي شيء بني على الصلاة في الإسلام؟. إن الصلاة في الإسلام هي ركن العبادات الذكرية والتأملية وعلى هذا فكل العبادات الذكرية والتأملية ترتكز عليها وتعاونها وبقدر ما يقوم ركن الصلاة وترفده مكملاته من تلاوة وأذكار وأدعية يزيد ذلك من إشراق الإيمان في القلب ويؤثر ذلك على إقامة حق الله في بقية الأركان وفي السلوك إلى الله ومن هنا نجد الصلة بين العبادة والهداية في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3).
ولذلك جعلنا الجزء الثاني في هذا القسم في الصلوات والجزء الثالث في التلاوة والجزء الرابع في الأدعية والأذكار، فالتلاوة الصحيحة والأدعية والأذكار وما يرافق ذلك من تفكر وتأمل وتذكر عبادات متممة ومكملة للصلاة ولدورها في إصلاح القلب والسلوك. والصلوات والأذكار والأدعية وتلاوة القرآن هي المظهر الأوضح لعبادة الله وهي بجملتها ذات تأثير يومي مباشر على سلوك الإنسان، فالزكوات والصدقات والصوم والحج والجهاد كلها تأخذ محلها في سلم العبادة، ولها تأثيرها ودورها في تزكية النفس وفي سلوك الإنسان، ولكن الزكاة المفروضة تؤدى مرة في العام وكذلك الصوم المفروض، والحج المفروض يؤدى مرة في العمر، والجهاد المفروض يكون أحياناً فرض عين وأحياناً فرض كفاية وأحياناً لا تتوافر أسبابه، وحتى نوافل هذه العبادات لا تستغرق من الوقت ما يمكن أن تستغرقه الصلوات والأذكار والدعوات وتلاوة القرآن من مجمل العمر التكليفي. فهناك صلوات يومية فرائض ونوافل ويندب للإنسان يومياً أن يقرأ القرآن ويدعو ويذكر ويتذكر ويتأمل، ولذلك قلنا إن الصلوات وهذه العبادات الأخرى هي المظهر الأول للعبادة، وبقدر ما يؤديها الإنسان يكون محققاً للحكمة من وجوده وإيجاده:. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1). كما أنها هي العامل الأكبر في إبقاء حياة العقيدة في القلب وحيويتها. إن ميزان السير إلى الله والعمل لليوم الآخر يتمثل بنيتين: العلم والذكر: 2336 - * روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة
ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً". وإذن فبقدر ما تعطي من وقتك للعلم الأخروي والذكر تعطي للآخرة، ومع أن أي عمل من أعمال الإسلام ولو لم يكن فيه ذكر مباشر هو ذكر ضمني، فإن الذكر المباشر هو أول ما ينطبق عليه وصف الذكر: والصلاة كلها ذكر، وتلاوة القرآن كلها ذكر، والدعوات والأذكار كلها ذكر وهذه كلها تقتضي تأملاً وتدبراً وتفكراً والتأمل والتذكر والتفكر ذكر في النهاية لذلك قلنا إن هذه الأمور هي المظهر الأول للعبادة. فإذا عرفنا أن الدعاء هو العبادة، وان التلاوة أرقى من الدعاء ففي الحديث الذي. 2337 - * روى الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شغله قراءة القرآن عن مسألتي: أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". تأكد لك ما ذكرناه عن الصلوات والأذكار والدعوات وتلاوة القرآن. وقد جرت عادة أهل السلوك إلى الله مع اهتمامهم الزائد بالصلاة فريضة ونافلة أن يرتبوا على أنفسهم ورداً يومياً يجمع بين الذكر من استغفار إلى صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهليل وتسبيح وبين تلاوة القرآن وبين التفكر في الملك والملكوت والتأمل في اليوم الآخر، وأن يحاولوا مع هذا الإكثار بقية يومهم وليلتهم من الذكر والتفكر تحقيقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية وقياماً بحق قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1). ويحرصون أن يتلقوا ذلك عن أهل العلم والسير إلى الله تحقيقاً لسنة التلقن
والتلقين التي كانت هي السائدة وهي الأصل في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وتابع التابعين بإحسان فهم يحرصون على إحياء سنة التلقن القرآني عن أهل ذلك، وسنة التلقن للسنة النبوية عن أهل ذلك، وسنة التلقن للأذكار والدعوات عن أهل ذلك، فمع التلقن تسري أنوار وأسرار إلى القلوب وعند عدم تيسر التلقن والتلقين، فالمطالعة والمذاكرة والمجالسة من الوسائل التي تنوب عن الأصل حال فقده. وقد ورد في تلاوة القرآن نصوص كثيرة في الكتاب والسنة وقد فرض علينا أن نقرأ القرآن كما أنزل، وهذا يقتضي أن نقرأه كما أقرأنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمر رسول الله أن يقرأه مرتلاً {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) لذلك كان أخذ القرآن من أهله وقراءته على الطريقة التي كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرائض وقد استقرأ علماء المسلمين طرق الأداء واستخرجوا أحكام ترتيل القرآن على كل الروايات التي وردتنا بالطرق المتواترة عن رسولنا عليه الصلاة والسلام فبأي رواية قرأ المسلم القرآن فعليه أن يلاحظ هذه الأحكام، ولذلك افترض على مريد قراءة القرآن أن يعرف هذه الأحكام، وافترض على من يحفظ شيئاً من القرآن أن يحفظه ملاحظاً هذه الأحكام وهذا يقتضي الاهتمام بحلقات القرآن وقراءته وإقرائه ومعرفة أحكام ترتيله. وقد نزل القرآن على سبعة أحرف ليسع لهجات العرب وطرائقهم في النطق وقد جمع القرآن كتابة في عهد خلافة أبي بكر على الرسم الذي يلحظ لغة قريش، ثم عمم ذلك عثمان رضي الله عنه فما وافق هذا الرسم من الأحرف السبعة لا زال حياً وما خالفه فقد انتهى دوره لإمكانية أن يستقيم لسان الأمة على ما وافق هذا الرسم بعد المرحلة الانتقالية فإذا ما ورد شيء من ذلك فإما أنه منسوخ أو أنه من باب التفسير لأن مصحف عثمان أجمع عليه الصحابة أنه كله قرآن غير منسوخ التلاوة، وهو منقول تواتراً ولم يتوافر لغيره هذان الشرطان فإذا ما سمعنا كلمة القراءات السبع أو القراءات العشر فليس المراد من ذلك الأحرف السبعة التي وردت في النصوص بل هي متضمنة لشيء من الأحرف السبعة مما وافق الرسم العثماني للمصحف، والمحافظة على هذه
القراءات من فروض الكفايات التي تلزم بها الأمة. وحفظ ما يلزم المسلم لإقامة صلواته واجب عيني وحفظ جميع القرآن سنة عينية وأن يكون لنا وردنا اليومي من تلاوة القرآن فذلك سنة عينية لمن كان قلبه سليماً وإيمانه كاملاً وفطرته مستقيمة، أما من كان في قلبه أمراض وتعينت تلاوة القرآن لشفائها، فهذا القدر في حقه فريضة عينية. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) بل كل الفرائض التي تتحقق بدون التلاوة تجعل هذا القدر من التلاوة فريضة عينية وقل مثل ذلك في الحفظ فالمسلم مكلف بطمأنينة القلب وبسلامته وعمارته بالأنوار، ولتلاوة القرآن ولحفظ بعضه دخل في ذلك. ومن ههنا كان للتلاوة اليومية ولحفظ القرآن وقراءته وإقرائه فضل عظيم. وها إن الجزء اللاحق يعطيك تصوراً عن كثير مما ينبغي معرفته عن القرآن وعن القيام بحقوقه بالقدر الذي يتفق مع مقاصد هذا الكتاب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
الجزء الثالث في تلاوة القرآن وما يتعلق به من علوم
الجزء الثالث من قسم العبادات الرئيسية في تلاوة القرآن وما يتعلق به من علوم وفيه مقدمة وبابان * المقدمة
مقدمة
مقدمة ليس هناك في هذا العالم كتاب أجدر من القرآن الكريم للاهتمام به ولا كتاب أعظم منه ولا أرقى ولا أعلى في كل شيء. وقد مر معنا حديث عن القرآن في قسم العقائد بمناسبة الكلام عن الكتب السماوية والدينية في هذا العالم، ومن خلال المقارنة بين القرآن وبين ما سواه من الكتب الدينية يدرك العاقل أي بعد سحيق بين علو القرآن وبين كتب الأديان كما آلت إليه بعد أن داخلها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وفي الأصل فقد جعل الله عز وجل لهذا القرآن من الخصائص الزائدة على كل كتاب أنزله من قبل ما يجعله أعظم كتاب أنزله الله تعالى، وإذا كان هذا محله بين الكتب السماوية التي هي أكمل الكتب وأرقاها وأسلمها وأصحها وأصدقها وأهداها فإنه لا يصح أن يقارن بكتاب سواه، بل المقارنة نوع من السخف والجنون، والاهتمام بكتاب الله تعالى له مظاهر متعددة منها: الاهتمام بعلومه وهو موضوع يتوسع على الزمن كعلم الإعجاز والمعجزات، وعلم القراءات، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم المتشابه والمحكم إلى غير ذلك، كما أن الاهتمام به يقتضي تلقياً وتلقناً للقراءات المتواترة التي وصلتنا بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقتض معرفة بتفسيره، وإقبالاً على تلاوته وتدبره وحفظه ومعرفة أحكام التلاوة، وهذا الاهتمام بالقرآن بعضه تطالب به الأمة بمجموعها فهو من فروض الكفاية أو من سنن الكفاية وبعضه يطالب به كل مسلم إما كفرض عيني أو كسنة عينية، فمن فروض الكفاية مثلاً أن يوجد قراءة يحافظون على القراءات المتواترة، ومن فروض الكفاية أن يوجد متخصصون في علوم القرآن، ومن المطلوبات العينية في حق كل مسلم على اختلاف في درجة الطلب: إتقان تلاوة القرآن، ومراعاة أحكام الترتيل وحفظ ما أمكن منه، وأن يكون للمسلم ورده اليومي من تلاوة القرآن، وأن يتعرف على شيء من علومه ولو إجمالياً وأن يعرف ما ورد في السنة عن هذا القرآن وأن تكون له دراسة في القرآن ومدارسه واجتماع، وأن يعرف ما يستطيع معرفته من تفسير الراسخين في العلم لآياته، وأن يعرف أحكام التعامل مع القرآن والآداب المطلوبة من المسلم تجاه القرآن، وهذه الموضوعات كلها تطلب في مظانها من الكتب المؤلفة فيها أو عند أهلها المختصين فيها، ويستطيع المسلم المثقف اللبيب تحصيل الكثير منها بجهده الشخصي وبعضها لابد أن يأخذه من أهله كعلم القراءات مثلاً.
وقد درج جامعو السنة النبوية أن يدخلوا في كتب السنة بعضاً مما ذكرناه، وإذا كان هذا الكتاب في السنة فننا سنذكر فيه ما استطعنا جمعه مما يرد عادة في كتب السنة عن بعض هذه الشؤون التي ذكرناها، وسنحاول من خلال المقدمات والتعليقات والمسائل والفوائد أن نعطي المسلم بعض ما ينبغي أن يعرفه عن كثير مما سبقت الإشارة إليه. ونكتفي في هذه المقدمة في أن نعرفك على بعض المعاني التي لابد أن تعرفها عن القرآن، فهذه كلمات نستخلصها من بعض كتب العلوم "كالإتقان" "ومناهل العرفان" حول القرآن، تحقق هذا المراد وذلك كله بين يدي هذا الجزء ولنبدأ على بركة الله. القرآن في اللغة: مصدر مرادف للقراءة ثم نقل إلى أن جعل اسماً علماً للكلام المعجز المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أسماء كثيرة جداً، ومعرفتنا بهذه الأسماء ومدلولاتها ومعرفة مَجْلاها في القرآن الكريم تعرفنا على عظمة هذا القرآن، وأشهر أسمائه بعد القرآن: الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل، والكتاب لأن علم على أعظم كتب الله أو لأنه ذكر فيه ما فرضه الله عز وجل على خلقه، ومن أسمائه الذكر لأن الله عز وجل قد أنزله مذكراً بحيث إنه عرضت كل معانيه بصيغة التذكير ومن أسمائه المشهورة التنزيل لأن الله عز وجل نزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيراً، وقد ذكر صاحب البرهان خمسة وخمسين اسماً للقرآن وأوصلها النووي إلى نيف وتسعين وقد جمع كل من الاثنين بين ما هو اسم للقرآن أو صفة له أو على إطلاقات وردت في القرآن تصف هذا القرآن ومن تأمل هذه الأسماء والصفات وعرف معناها ومجلاها عرف عظمة هذا القرآن من خلال أسمائه وحقيَّتها وقد نقل السيوطي في كتابه "الإتقان" عن صاحب "البرهان" ما جمعه من أسماء للقرآن الكريم، وفسر بعضها فقال رحمه الله: "وقال أبو المعالي عُزيزي في كتاب البرهان: اعلم أن الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً، سماه كتاباً مبيناً في قوله: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}. وقرآنا كريماً في قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وكلاماً: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}. ونوراً: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}. وهدى ورحمة: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. وفرقاناً: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. وشفاء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ}. وموعظة: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}. وذكراً مباركاً: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ}.
وعليا: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. وحكمة: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}. وحكيما: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}. ومهيمناً: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. وحبلاً: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}. وصراطاً مستقيماً: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا}. وقيماً: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا}. وقولاً فصلاً: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}. ونبأ عظيماً: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}. وأحسن الحديث ومثاني ومتشابهاً: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}. وتنزيلاً: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وروحاً: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}. ووحياً: {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}. وعربياً: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}. وبصائر: {هَذَا بَصَائِرُ}. وبياناً: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}. وعلماً: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}. وحقاً: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}. وهادياً: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي}. وعجباً: {قُرْآنًا عَجَبًا}. وتذكرة: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ}. والعروة الوثقى: {اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. وصدقاً: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}. وعدلاً: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}. وأمراً: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ}. ومنادياً: {يُنَادِي لِلْإِيمَانِ}. وبشرى: {وَهُدًى وَبُشْرَى}. ومجيداً: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ}. وزبوراً: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ}. وبشيراً ونذيراً: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. وعزيزاً: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}. وبلاغاً: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ}. وقصصاً: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، وسماه أربعة أسماء في آية واحدة: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} ا. هـ. فأما تسميته كتاباً: فلجمعه أنواع العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه، والكتاب لغة: الجمع، والمبين: لأنه أبان: أي أظهر الحق من الباطل. وأما الكلام فمشتق من الكلم بمعنى التأثير، لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم تكن عنده، وأما النور: فلأنه يدرك به غوامض الحلال والحرام. وأما الهدى: فلأن فيه الدلالة على لاحق، وأما الفرقان: فلأنه فرق بين الحق والباطل، وجهه بذلك مجاهد كما أخرجه ابن أبي حاتم، وأما الشفاء: فلأنه يشفي من الأمراض القلبية كالكفر والجهل والغل والبدنية أيضاً. وأما الذكر: فلما فيه من المواعظ وأخبار الأمم الماضية، والذكر أيضاً الشرف، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي شرف لأنه بلغتهم. وأما الحكمة فلأنه نزل على القانون المعتبر من وضع كل شيء في محله، أو لأنه مشتمل على الحكمة. وأما الحكيم فلأنه أحكمت آياته بعجيب النظم وبديع المعاني، وأحكمت عن تطرق التبديل والتحريف والاختلاف والتباين. وأما المهيمن: فلأنه شاهد على جميع
الكتب والأمم السالفة. وأما الحبل: فلأنه من تمسك به وصل إلى الجنة أو الهدى والحبل: السبب. وأما الصراط المستقيم: فلأنه طريق إلى الجنة قويم لا عوج فيه. وأما المثاني: فلأن فيه بيان قصص الأمم الماضية فهو ثان لما تقدمه، وقيل لتكرار القصص والمواعظ فيه. وأما المتشابه: فلأنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والصدق، وأما الروح: فلأنه تحيا به القلوب والأنفس. وأما المجيد: فلشرفه. وأما العزيز: فلأنه يعزّ على من يروم معارضته. وأما البلاغ: فلأنه أبلغ به الناس ما أمروا به ونهوا عنه، أو لأن فيه بلاغة وكفاية عن غيره. ا. هـ. من [الإتقان 10/ 67 - 68]. ومن أهم ما تميز به القرآن الكريم أسلوبه وإعجازه ومعجزاته وتبيانه لكل شيء، وهدايته للإنسان إلى كل خير وبأخصر الطرق فمن المعروف أن الخط المستقيم هو أقرب طريق وأقرب بعد بين نقطتين، وما من شيء في أبواب الهداية في العقائد والعبادات ومناهج الحياة، وفي أمر الدنيا والآخرة إلا وقد هدى الله الإنسان إليه، وهداه إليه بأقرب طريق وأخصره ولذلك قال الله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)، ومن تأمل هداية القرآن في كل شيء وقارنها بما عليه الخلق من ضلالات عرف أنه لا يمكن أن يكون هذا القرآن بشري المصدر ومن تأمل شمول البيان في القرآن لكل ما يحتاجه الإنسان ولكل ما تنبغي معرفته وقرأ مظاهر هذا التبيان في العلوم التي انبثقت عن القرآن في العقائد والفقه والتعامل البشري وما أعطانا إياه القرآن من تصور هائل للزمان والمكان إلى غير ذلك مما بينا تفصيلاً في كتابنا (الأساس في التفسير) عرف استحالة أن يكون هذا القرآن مصدره الإنسان، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2). وأما أسلوب القرآن فإنه لا يشبه أي أسلوب بشري ويكفي أن تعرف سياقات القرآن والمناسبات بين الآيات في السورة الواحدة، وكيف أن كل مجموعة سور من القرآن تشكل وحدة تمضي على نسق، وأن كل مجموعات القرآن تفصل على نسق واحد في سورة البقرة لتعرف أن أسلوب القرآن لا يمكن أن يكون بشري المصدر. قال تعالى في وصف كتابه
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (1). فما من شيء في هذا القرآن إلا وهو في أعلى الذرى سواء في ذلك فصاحته أو بيانه أو معانيه وما من شيء في القرآن إلا هو على غاية الحكمة، فكما أن هذا الكون مجلي لاسم الله الحكيم فهذا القرآن مجلي لاسم الله الحكيم كذلك. فإذا ما جئت إلى إعجاز القرآن ورأيت عجز البشر جميعاً في كل العصور عن أن يأتوا بسورة من مثله أوقفك هذا وحده على عظمة هذا القرآن وتميزه عن كلام البشر، فإذا ما أضفت إلى هذا كله أن في هذا القرآن معجزات متعددة منها التاريخي ومنها الكوني ومنها ومنها ... عرفت عظمة هذا القرآن، وعظمة منزله وإن له ميزان دقيق أن تعرف مقامك من خلال موقفك من القرآن فبقدر معرفتك بعظمته تعرف عظمة الله، وبقدر معرفتك به تعرف الله، وبقدر حبك له يتجلى حبك لله، وهذه القضايا الخمس بحار لا سواحل لها، وإن كل ما تكلم به الناس في أي واحدة منها فإنهم يبقون قريبين جداً من الشاطئ، وهيهات أن يصل الإنسان إلى الشاطئ الآخر من هذه القضايا الخمس: هداية القرآن، وشمولية بيانه وأسلوبه، وإعجازه ومعجزاته. وقد تكلم الكثيرون في الإعجاز، وتكلم الكثيرون في معجزات القرآن وفي أسلوبه، وفي شمولية بيانه وفي كمال هدايته ولا سبيل إلا الاستقصاء، فقد تعرضنا لكل هذه الأمور في كتابنا (الأساس في التفسير)، فلن نتعرض في هذه المقدمة لقضيتين شمولية البيان وكمال الهداية فذلك شيء محل تفصيله هذه السلسلة كلها (الأساس في المنهج) بكتبها الثلاثة: الأساس في التفسير، الأساس في السنة وفقهها، الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص. وإنما نستخلص لك خلاصة في موضوع أسلوب القرآن إعجازه ومعجزاته مستعينين بما كتب مضيفين إلى ذلك ما يفتح الله علينا من فضله جل جلاله.
- أولاً: أسلوب القرآن قال صاحب مناهل العرفان: الأسلوب في الاصطلاح: تواضع المتأدبون وعلماء العربية، على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه. أو هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك. معنى أسلوب القرآن: وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به، فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به. وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر، تتعدد بتعدد أشخاصهم، بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها، والفنون التي يعالجها ا. هـ. أقول: أولاً: إن الأسلوب البشري كما ألفناه وعرفناه مرتبط بثقافته اللغوية وثقافته الخاصة والعامة، وهو يعبر عن شخصية صاحبه وصفاته ويتأثر إلى حد كبير بمفاهيم صاحبه وقيمه، وأول ما نلحظه في أسلوب القرآن أنه يستحيل أن يكون بشري المصدر، فإنك تجد وأنت تقرأ القرآن أنك أمام خطاب يتوجه من ذات لا كالذوات، متصفة بصفات لا كالصفات مسماة بأسماء تتجلى في هذا القرآن وأنك أمام خطاب محيط بالزمان والمكان والحق والعدل والخير والشر بشكل لا يمكن أن يكون بشري المصدر، إنك تجد فيه خطاباً من ذات علوية قاهرة تخاطب كياناً مأموراً مأسوراً كما أنك تجد نفسك أمام ذات أحاط علمها بكل شيء، وتجد نفسك أمام كتاب يتحدث عن قدرة الله وأفعاله بما لا يمكن أن يصدر عن بشر، وتجد أن هذا القرآن مجلي لأسماء القرآن كلها، (ولله المثل الأعلى) كما تجد نفسك أمام
حق خالص وعدل لا مثيل له، يظهر هذا العدل في التشريع، ويظهر في ما أعده الله لأهل التكليف من جزاء وعقاب، وإن وصف الجزاء والعقاب لكافٍ أن يدلك على انه يستحيل أن يكون بشري المصدر. - ثانياً: ومما اعتدناه في أساليب البشر، أنك لا تجد في خطابهم ما يصمد على الزمان والمكان فكثيراً ما ينتقض كلام الإنسان بمرور الأيام، أما هذا القرآن فقد وسع أسلوبه الزمان والمكان فلا ينقضه شيء، بل كلما جاء زمان تفتح لأصحاب هذا الزمان من دقائق المعاني ما يسع زمانه، وذلك وحده معجز. - ثالثاً: ما من كتاب بشري إلا وللتناقض في محل إن في درجة الارتقاء بين كلام وكلام أو بيان وبيان أو معنى ومعنى أما أسلوب هذا القرآن فإنه يجري على نسق واحد. - رابعاً: وأسلوب هذا القرآن أسلوب متميز عن أساليب البشر، فهو لا يشبه شعراً ولا نثراً ولا طريقة من طرائق البيان المعتادة لدى البشر. - خامساً: ومن خواص أسلوب القرآن مسحته اللفظية التي تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي فإنك تجد فيه اتساقاً وائتلافاً في الحركات والسكنات والمدات والغنات والاتصالات والسكتات وتناسق الحروف مع بعضها والكلمات فيما بينها وتناسق الجرس في الآية والسورة بحيث تجد توقيعاً تتلقاه الآذان في كل مقطع من سورة وفي كل سورة بما ليس معهوداً في كلام البشر وقد أحست العرب بهذه الحقيقة منذ سمعت هذا القرآن، فإذا ما أضيفت إلى ذلك ملاءمة الجرس القرآني للموضوع الذي يتكلم به تجد شيئاً لا نظير له وأدركت ان أسلوب القرآن لا يمكن أن يكون بشري المصدر. - سادساً: شعور قارئه بقربه من فهمه فالعامي يستشعر أنه يفهمه، وكلما ارتقى الإنسان في مراتب الاختصاص والفهم تفتح له من الفهم ما يناسب قدراته وفيه لصحاب الاختصاصات مزيد فإذا عرفت أنه قد عرض لكل الموضوعات بأسلوب واحد وعلى غاية من البيان عرفت أن ذلك فوق الطاقة البشرية فإذا ما أصفت إلى ما سبق أن الأسلوب القرآني يخاطب الكينونة البشرية عقلاً وقلباً ويخاطب الكيان البشري كله خطاباً يجمع بين الحق
والجمال معاً أدركت سراً آخر من أسرار أسلوب القرآن فإذا ما عرفت أنه في خطابه الكينونة البشرية يذكر في قضية ما بالقدر الذي تحتاجه الكينونة البشرية رأيت أمراً عجباً. فإذا عرفت أن البشر قد اعتادوا على أنواع من الأساليب، أسلوب أدبي وأسلوب علمي وأسلوب مدرسي، وأسلوب خطابي إلى غير ذلك، ورأيت أن أسلوب القرآن واحد في قوة البيان وهو يتحدث عن كل الموضوعات مما لا تجده في أساليب الخلق عرفت أنك أمام أسلوب لا يمكن أن يكون بشري المصدر. - سابعاً: ولقد كان من مقاصدنا الرئيسية في كتابنا "الأساس في التفسير" أن نبرهن على ترابط الآيات في السورة الواحدة، وترابط سور كل مجموعة مع بعضها وكيف أن هناك سياقاً خاصاً لكل مجموعة يأتي على نسق واحد، بحيث يكون للقرآن كله سياق خاص، ولو عرفت من هذا النوع من سبك الكلام وإحكام سرده وترابط أجزائه وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره على أسلوب لا يمكن أن يخطر ببال بشر، هذا مع تنوع المقاصد وتعدد الطرائق للموضوع الواحد، لرأيت من ذلك عجباً لا ينقضي وفي تفسيرنا بيان تفصيلي لمثل هذه الشؤون، فأسلوب القرآن تجتمع فيه الوحدة البيانية والوحدة الموضوعية. والوحدة في السياق على أنواع شتى لا يكاد الناس أن يدركوا جزءاً من كمالاته. - ثامناً: وهناك شيء واضح في أسلوب القرآن أشرنا إليه من قبل وهو أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ متعددة وطرق جديدة بإجمال واختصار أحياناً وبإسهاب أحياناً، وإنك لتجد قارئه لا يمل من تكراره لما فيه من سلاسة وجدة وسياق وجرس وإيقاع، وكل ذلك دون أن يتناقض، فهو الحق الخالص، والصدق الخالص، وفي ذلك من الحكم ما لا يحيط به أحد، وإنما كمال العلماء يظهر بقدر ما يدركون من هذه الأسرار، هذا دون أن يكون في ذلك كله حشو أو حرف في غير محله أو كلمة في غير محلها، فإذا ما اجتمع إلى كل هذا غاية البيان عرفت أن هذا شيء جل عن طاقة البشر، وقد وصف بعضه أسلوبه بقوله: تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها ثم ذكر خصائص أسلوب القرآن فذكر القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، وخطاب العامة وخطاب الخاصة، وإقناع العقل وإمتاع العاطفة، والبيان والإجمال.
(انظر النبأ العظيم ص: 101 فما بعدها). ولقد تكلم المتكلمون عن أسلوب القرآن ولا زالوا يتكلمون ولا زال بينهم وبين التعبير الشامل عن خصائص أسلوب القرآن بون شاسع. ثانياً: إعجاز القرآن المراد بإعجاز القرآن أن الخلق عاجزون عن الإتيان بما تحداهم به لإظهار أن هذا الكتاب حق، وأن الرسول الذي أنزل عليه رسول صدق وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء ويخلط بعض الكاتبين بين إعجاز القرآن ومعجزاته، فالقرآن كله معجز، وقد تحدى الله الناس أن يأتوا بمثل أقصر سورة من سوره، فوقف الناس عاجزين، وهذا وحده دليل كافٍ أنك تجد البشر جميعاً لم يستطيعوا أن يخرقوا هذا التحدي، ومن حاول منهم أتى بالمضحكات ومع هذا الإعجاز في القرآن فإن في القرآن مالا يُحصى من المعجزات، وقد اختلط الأمر على بعض الكاتبين فأطلقوا على أنواع المعجزات اسم الإعجاز، فقالوا الإعجاز العلمي والإعجاز التاريخي، والإعجاز الغيبي إلى غير ذلك. وهي في الحقيقة معجزات زائدة على الإعجاز فوصفها بالإعجاز نوع من التجوز في الكلام، والتحقيق أن فيه إعجازاً ومعجزات وكلامنا هاهنا في إعجازه، ولقد تحدى القرآن الخلق جميعاً أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة واحدة من سوره، فوقف الخلق عاجزين، وهذا وحده يكفي العاقل ليعرف أن هذا القرآن معجز فأي إنسان في العالم يجرؤ على أن يقول قولاً بمقدار سطر أو سطرين ثم يتحدى العالم أن يأتوا بمثله ثم يقف الناس عاجزين عن فعل ذلك. ولقد كتب في إعجاز القرآن الكثير وألفت فيه الكتب المستقلة، ومن أعظم المؤلفين فيه في القديم: الخطابي والرماني والزملكاني والإمام الرازي وابن سراقة والقاضي أبو بكر الباقلاني، ومن المحدثين: مصطفى صادق الرافعي. وقد حاول كل من كتب أن يضع يده على سر الإعجاز من حيث البيان والفصاحة والإيقاع واجتماع وتضافر الأرقى من كل شيء في المعنى واللغة. ومع ذلك فإن كل ما كتب في هذا
الشأن هو بعض ما يقال ويبقى في الإعجاز سر هو كسر الروح بالنسبة للإنسان، فكما أن الله عز وجل قال عن الروح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (1). فكذلك هذا القرآن فإن الله عز وجل سماه روحاً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (2) فمهما تكلم المتكلمون في الإعجاز فإن الإعجاز شيء أعظم وأكبر وأدق أسراراً. لقد تفنن الكاتبون في التدليل على الإعجاز فمنهم من أقام الحجة على الإعجاز بما في هذا القرآن من معجزات ومنهم من أقام الحجة على الإعجاز باستسلام العرب لهذا الإعجاز، ومنهم من أقام الحجة من خلال عرضه للمعاني ومنهم من أقام الحجة بتبيان الفارق بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي، ومنهم من أقام الحجة على إعجاز القرآن من خلال نزوله مفرقاً وتناسقه وتناسب آياته وسوره، ومنهم من أقام الحجة على إعجازه من خلال التدليل على أنه اجتمع فيه ما لا يصل إليه البشر من أساليب وفصاحة وبيان، ومنهم من أقام الحجة على إعجازه بالمقارنة بينه وبين غير في ضروب الهداية في كل شيء وفي موقفه من كل شيء مبرهنين على أنه الأعلى والأهدى، ومنهم من برهن على الإعجاز من خلال ما فيه من سياسات في إصلاح النفوس والمجتمعات ومنهم من برهن على الإعجاز بتبيان ما في حروفه وكلماته وجمله وآياته وسوره من كمالات لا يتناهى حسنها وجمالها. وكما قلنا فإن كثيرين قد خلطوا في الكلام عن الإعجاز بين ما هو إعجاز في القرآن وبين ما هو معجزات، المهم أن الكثيرين ممن كتبوا في الإعجاز كان همهم أن يبرهنوا على أنه يستحيل أن يكون هذا القرآن بشري المصدر، إلا أنه كما ذكرنا فإن الإعجاز غير المعجزات، وكل من كتب في الإعجاز حاول أن يضع يده على السر، ولكن سر الإعجاز يبقى أكبر وأعظم وأدق من أن يستطيع أحد أن يعبر عنه على الكمال والتمام أما التدليل على استحالة أن يكون هذا القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم أو أن يكون بشري المصدر أصلاً.
فالأدلة على ذلك لا تتناهى: منها إعجازه ومنها معجزاته ومنها الكثير مما يستحيل عادة أن يصدر من إنسان في حق نفسه أو في حق غير، وقد حاولنا في كتابنا (الأساس في التفسير) وفيما كتبناه في كتاب (الرسول صلى الله عليه وسلم) أن نتحدث عن مثل هذه المعاني، ولكن كما قلنا: فإن التدليل على أن هذا القرآن من عند الله أوسع بكثير من الكلام على مجرد الإعجاز، فالأدلة على أن هذا القرآن من عند الله أوسع وأكثر، فآيات العتاب التي عاتب بها الله رسوله صلى الله عليه وسلم دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وما نزل من القرآن بعد طول انتظار دليل على أن هذا القرآن من عند الله، والحالة التي كانت تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول القرآن ثم يظهر على أثرها النص القرآني الذي لا مثيل له في الفصاحة والبلاغة والمعنى، دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وتحدي الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب أن يلاعنوه بأمر من القرآن وكذلك تحديه اليهود أن يتمنوا الموت دلائل واضحة على المصدر الرباني، ثم إن كل إنسان يحب أن ينسب لنفسه ما يعتبر فريداً من نوعه فلو كان غير رباني المصدر لنسبه لنفسِه صلى الله عليه وسلم وحاشاه. وإن قيل نسبه لربه ليكون أدعى لاستجابة الناس فالرد بسيط وهو لماذا لم ينسب أقواله كلها له؟ وما عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفتي الأمانة والصدق باعتراف خصومه وشهادة الواقع والأتباع تأبى عليه أن لا يكون في قمة الصدق. وما في القرآن من أنباء الماضي وحقائق الغيب مما لا يمكن أن يتلقى بالدراسة أو ينال بالفراسة دلائل ناطقة على ربانية المصدر. ويتوج ذلك كله بأن كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف في سيرته أنه اتصل بأحد من علماء زمانه (انظر لمزيد بيان كتاب: النبأ العظيم ص: 72 فيما بعدها) كل ذلك وغيره كثير مما يدخل في أدلة أن هذا القرآن من ند الله ولكن تحديد الكلام في الإعجاز هو جزء من هذا الموضوع الكلي الذي يسمى الإعجاز ومن هنا كان الكلام الذي ينصب على الإعجاز فقط هو الذي ينبغي أن يكون محل التركيز وقد كان، ولكن كل ما قيل في ذلك يبقى أقل من أن نعتبره محيطاً بأسرار الإعجاز. لقد تحدث بعضهم عن قوة تأثير القرآن في أعدائه وأوليائه، وهو في الحقيقة أثر عن
الإعجاز ويبقى الإعجاز محسوساً من خلال عجز البشر عن أن يأتوا بمثله ولكن الإحاطة بالإعجاز شيء فوق طاقة البشر وها نحن بعد هذا التقديم ننقل لك بعض ما قالوه في الإعجاز. قال السيوطي في [الإتقان 2/ 151]: "قال القاضي أبو بكر: وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم. قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال يحتذى ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعضه أدق وأغمض. وقال الإمام فخر الدين: وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب والسلامة من جميع العيوب وقال الزملكاني: وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف بأن اعتدلت مفرداته تركيباً وزنة، وعلة مركباته معنى بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى. وقال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله، فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علمٌ بإحاطته: أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، .... فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، ... ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جراً وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة، وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة. كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة عيسى بالأطباء". وقال الأصبهاني في تفسيره: "إن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المخصوص، وبيان كون النظم معجزاً
يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه فنقول: مراتب تألف الكلام خمس: الأولى: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف. والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام. والثالثة: يضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مبادٍ ومقاطع مداخل ومخارج، ويقال له المنظوم. والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له المسجع. والخامسة: أن يجعل مع ذلك وزن، ويقال له الشعر، والمنظوم، إما محاورة ويقال له الخطابة. وإما مكاتبة ويقال له الرسالة. فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، وللك من ذلك نظم مخصوص. والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك، لأنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما قال تعالى {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} تنبيهاً على أن تألفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخر وقال أبو حيان التوحيدي: سئل بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المعنى، وذلك أنه شبيه بقولك ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده. وقال الخطابي: ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب علهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حك الذوق. قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة، فمناه البليغ الرصين الجزل. ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود. فالأول أعلاها. والثاني أوسطها. والثالث أدناها وأقربها. فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي
الفخامة والعذوبة. وهما على الانفراد في نعومتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعاً من الذعورة. فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن ليكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم. وإنما تعذر عن البشر الإتيان بمثله لأمور. منها: أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه المنظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتواصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حاصل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاوة وتشاكلاً من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان لطريق عبادته، من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه وأداء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجهاً ذهب عنه الناس، وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذ قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي
الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه، قال تعالى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقال {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وقال الرماني: وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة والتحدي للكافة والصرفة والبلاغة والإخبار عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجزة. قال: ونقض العادة هو أن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر، ومنها السجع، ومنها الخطب، ومنها الرسائل، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة ويفوق الموزون الذي هو أحسن الكلام. قال: وأما قياسه بكل معجزة فإنه يظهر إعجازه من هذه الجهة إذا كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية وما جرى هذا المجرى في ذلك سبيلاً واحداً في الإعجاز، وإذ خرج عن العادة فصد الخلق عن المعارضة. قال البارزي في أول كتابه (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل) اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولابد من استحضار معاني الجمل أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ ثم استعمال أنسبها وأفصحها واستحضار هذا متعذر على البشر في أكثر الأحوال وذلك عتيد حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه وإن كان مشتملاً على الفصيح والأفصح والمليح والأملح، ولذلك أمثلة منها قوله تعالى {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} لو قال مكانه وثمر الجنتين قريب لم يقم مقامه من جهة الجناس، بين الجني والجنتين ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجني فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة ومنها {لَا رَيْبَ فِيهِ} أحسن من لاشك فيه لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب ومنها {وَلَا تَهِنُوا} أحسن من ولا تضعفوا لخفته و {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أحسن من ضعف، لأن الفتحة أخف من الضمة، ومنها {وَآمَنَ} أخف من صدق، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق و {آثَرَكَ اللَّهُ} أخف من فضلك، و {أَتَى} أخف من أعطى، و {وَأَنْذِرْ} أخف من خوف، و {خَيْرٌ لَكُمْ} أخف من أفضل لكم، والمصدر في نحو {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أخف من مخلوق، والغائب و {نَكَحَ} أخف من
تزوج، لأن فعل أخف من تفعَّلَ، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر. وللأستاذ مصطفى صادق الرافعي إشراقات في وصف القرآن ووصف إعجازه ننقل لك مقتطفات من كلامه لتقف على بعض أسرار الإعجاز. كان مما قال في وصف القرآن: آيات منزلة حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها ... ص 29. ألفاظ إذا اشتد فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب ... ص 30. ويتحدث عن حقيقة الإعجاز فكان مما قاله: القرآن معجز بالمعنى الذي يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفي الإمكان بالعجز عن غير الممكن، فهو أمرٌ لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغاً وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة؛ وإنما هو أثرٌ كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغةٌ إفراغاً من ذوْبِ تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان، إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله ... ص 156. ويتحدث عن أسلوب القرآن فيقول: "وهذا الأسلوب فإنما هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله ليس من ذلك: شيء إلا وهو معجز ص 188". وبعد أن عرض طبيعة أساليب العرب قال: "فلما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق. ليس في ذلك إعنات ولا معاياة، غير أنهم ورد عليهم من طرق
نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذا الجمل في جملته - ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعرُّ منه الجلود؛ حتى أحسُّوا بضعف الفطرة القوية، وتخلف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غير ما هم فيه، وأن هذا التركيب هو روح الفطرة اللغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم واطلع على قلوبهم ... ص 189. ويفيض في الكلام في وصف الإعجاز ومما قاله: وههنا معنى دقيقٌ في التحدي، ما نظن العرب إلا وقد بلغوا منه عجباً: وهو التكرار الذي يجيء في بعض آيات القرآن، فتختلف في طرق الأداء وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة، كالذي يكون في بعض قصصه لتوكيد الزجر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو في بعض عباراته لتحقيق النعمة وترديد المنَّة والتذكير بالنعم واقتضاء شكره، إلى ما يكون هذا الباب ... ص 193 - 194. ويضيف بعد كلام طويل: وفي القرآن مظهر غريب لإعجازه المستمر، لا يحتاج في تعرُّفه إلى روية ولا إعناتٍ، وما هو إلا أن يراه من اعترض شيئاً من أساليب الناس حتى يقع في نفسه معنى إعجازه؛ لأنه أمر يغلب على الطبع وينفرد به فيبين عن نفسهِ بنفسهِ، كالصوت المطرب البالغ في التطريب: لا يحتاج امرؤ في معرفته وتمييزه إلى أكثر من سماعه. ذلك هو وجه تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباين بنفسه لكل ما عُرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، وعلى أنه يؤاتي بعضه بعضاً، وتُناسب كلُّ آية منه كل آية أخرى في النظم والطرقة، على اختلاف المعاني وتباين الأغراض، سواءٌ في ذلك ما كان مبتدأ به من معانيه وأخباره وما كان متكرراً فيه، فكأنه قطعة واحدة ص 201. ثم يقول في وصف مظهر آخر من مظاهر الإعجاز: وبعدُ فأنت تعرف أن أفصح الكلام وأبلغه وأسراره وأجمعه لحرِّ اللفظ ونادر المعنى،
وأخلقه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسمُ مادة الطبع في معارضته، هو ذلك الذي تريده كلاماً فتراه نفساً حيَّة، كأنها تُلقي عليك ما تقرؤه ممزوجاً بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك - إن كنت بصيراً بالصناعة متقدماً فيها - كل مدخل، ولا تدع فيها إحساساً إلا أثارته، ولا إعجاباً إلا استخرجته ... ص 204. ويضيف معاني أخرى فيقول: ومعنى آخر هو أننا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة ... ص 206. وبعد انتهائه من الكلام على أسلوب القرآن وبدئه الكلام عن نظم القرآن قال: ذلك بعض ما تهيأ لنا من القول في الجهات التي اختص بها أسلوب القرآن فكانت أسباباً لانقطاع العرب دونه انخذالهم عنه، وإنما تلك الجهات صفاتٌ من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سر الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم ... ص 209. وفي خاتمة مقدمته التي قدم بها للحديث عن نظم القرآن قال: فأنت الآن تعلم أن سر الإعجاز هو في النظم، وأن لهذا النظم ما بعده؛ وقد علمت أن جهات النظم ثلاث: في الحروف، والكلمات، والجُمل، فههنا ثلاثة. ص 211. وأفاض في الكلام عن الحروف وأصواتها (212 - 219) وتكلم فيما تكلم عن إعجاز النظم الموسيقي في القرآن والفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن ومكانها من هذا النظم، وكون القرآن لا يخلق على كثرة الرد وكثرة التكرار ولا تمل منه الإعادة. ويتكلم عن تساوق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم بالهمس والجهر والقلقلة والصفير ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطاً وإيجازاً وابتداءً ورداً ... إلخ. ثم يتكلم عن الكلمات وحروفها (220 - 235) وكان مما قاله (ص: 224): ولما كان الأصل في نظم القرآن أن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية استحالة أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري
مجرى الحشو والاعتراض ... ويقول (ص 226) فلابد في مثل نظم القرآن من إخطار معاني الجمل وانتزاع جملة ما يلائمها من ألفاظ اللغة، بحيث لا تند لفظة ولا تتخلف كلمة ثم استعمال أمَسِّها رحماً بالمعنى وأفصحها في الدلالة عليه وأبلغها في التصوير وأحسنها في النسق وأبدعها سناء وأكثرها غناء ... ثم اطرد ذلك في جملة القرآن على اتساعه وما تضمن من أنواع الدلالة ووجوه التأويل ... ويقول (ص 228) وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجباً في موقعه والقصد به حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحركة ... ثم يأخذ في ضرب الأمثلة وبيان ما فيها من إعجاز ثم يقول (ص: 234): وما يشذُّ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سردها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروفه ومكانه من النطق في الجملة؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئاً فيما ليس فيه شيء. ثم يتكلم عن الجمل وكلماتها (ص 236 - 248) ومما قال (ص 241): تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة وأنت لا تعرف منها إلا روحاً تداخلك بالطرب وتشرب قلبك الروعة .... وإنك لتحار إذا ما تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك وأجمع لما في نفسك وأبين لهذه الحقيقة غير كلمة الإعجاز ص 246. ويختم هذا الفصل فيقول (ص 248):
وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو ألبست ألفاظاً أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها، حتى ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه بأعيانها وتركيبها. ثم تحدث عن غرابة أوضاعه التركيبية: وذلك أنك حين تنظر في تركيبه لا ترى كيفما أخذت عينُك منه إلا وضعاً غريباً في تأليف الكلمات، وفي مساق العبارة، وبحيث تبادرك غرابته من نفسها وطابعها بما تقطع أن هذا الوضع وهذا التركيب ليس في طبع الإنسان، ولا يمكن أن يتهيأ له ابتداء واختراعاً دون تقديره على وضع يشبهه، أو احتذاء لبعض أمثلة تقابله، لا تحتاج في ذلك إلى اعتبار ولا مقايسةٍ، وليس إلا أن تنظر فتعلم ... ص 249. ويتحدث عن الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية: فليس إلا أن تقرأ الآية على العربي أو مَنْ هو في حكمة لغة وبلاغة حتى تذهب نفسه مذهبها لا تني ولا تتخلف ... اهـ ص 262. وهكذا يعرض لنا الرافعي طرفاً من إعجاز القرآن. وقد شعر كل قارئ عجز الباحثين والمتكلمين عن الوفاء بحق الإعجاز فكان ذلك مظهراً آخر من مظاهر الإعجاز فلا نطيل أكثر من ذلك. ثالثاً: معجزات القرآن: ذكرنا أن في القرآن إعجازاً ومعجزات، ومعجزات القرآن لا يمكن حصرها، وكل معجزة من معجزاته كافية لتدل على أنه من عند الله عز وجل، ولتدل على أن محمداً كان رسولاً لله لا شك في ذلك ولا ريب، فكيف إذا اجتمع مع معجزات القرآن إعجازه؟! وكيف إذا كانت معجزات القرآن بعضاً من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنك لو تأملت معاني القرآن ونظرت إليها على أنها جاءت بواسطة رجل أمي فإنك تجد من خلال هذه النظرة معجزات لا يمكن
حصرها، وإذا نظرت إلى المكان الذي وجدت في هذه المعاني وهو جزيرة العرب، رأيت أن كثيراً من هذه المعاني القرآنية تدخل في باب الخوارق، وإذا نظرت إلى الزمان الذي نزل فيه هذا القرآن لوجدت استحالة أن توجد كثير من معاني القرآن في ذلك الزمان كما هي عليه في القرآن ولو تأملت ما حواه القرآن عن ماضي الإنسان لرأيت فيه من الخوارق الكثير، ولو تأملت ما ورد في القرآن مما كشفه النمو العلمي للإنسان لوجدت معجزات كثيرة. ولو أنك تأملت ما يسمى بالعلوم الإنسانية وعرضتها على القرآن لوجدت في ذلك كثيراً من الخوارق، ولو أنك تأملت ما انبثق عن القرآن من علوم تتوسع على مدى الزمان كالفقه مثلاً لرأيت كثيراً من الخوارق تدخل في باب المعجزات. ولو نظرت إلى العلوم التي انبثقت عن علوم القرآن لرأيت خوارق كثيرة، ولو نظرت إلى قصور الفلسفة في مباحثها الثلاثة: المعرفة والوجد والقيم بالنسبة لهذا القرآن لرأيت خوارق كثيرة. وهذا بعض ما في القرآن من معجزات فكيف إذا اجتمع لك مع هذا كله الحق والصدق في القرآن كله ودقة الوصف لما يعجز البشر عن أن يقولوا فيه إلا كلاماً متهافتاً وفي الكلام عن الله واليوم الآخر أعظم مثل على ذلك. ولهذا كله فإن الحديث عن معجزات القرآن واسع يحتاج الإنسان لكي يأخذ طرفاً منه أن يقرأ ما قاله المفسرون وأن يقرأ ما قاله المختصون في كثير من العلوم التي تعرض لها القرآن، وقد حاولنا في كتابنا "الأساس في التفسير" أن نعطي القارئ زاداً كثيراً في هذا الشأن، ولكن مع كثرة ما ذكرنا فإنه كُلٌّ من جُلٍّ ومن ذا الذي يحيط بمعجزات هذا القرآن الذي قال الله عز وجل فيه {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (2). ونحن هنا نقتصر على ضرب أملة مما ذكره السابقون ومما يفتح الله عز وجل به: أولاً: في عصرنا وجدت قوتان عظيمتان تتنافسان في الارتقاء في الأسباب، فتحاولان
أن تتعرفا على قوانين هذا الكون وما فيه لتسخرها في الصراع فيما بين الكتلتين: كتلة الشرق الشيوعي وكتلة الغرب الرأسمالي. ومن مظاهر هذا الصراع: الصراع على الفضاء في عصرنا. فالأقمار الصناعية والمحطات الفضائية وغير ذلك مظهر من مظاهر هذا الصراع، اقرأ قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} (1) فها هنا حديث عن معسكرين يرتقيان في الأسباب وأحد المعسكرين سيكون هو المغلوب، ونحن الآن نشهد بداية هذا الصراع بين المعسكرين. ثانياً: قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} (2) فهذه الآية تدل على أن الليل هو الذي يطلب النهار وهذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض تدور، لأنه لو كانت الشمس - وهي المنبع الضوئي للنهار- هي التي تدور حول الأرض لكان النهار هو الذي يطلب الليل. ثالثاً: لقد أعطانا القرآن تصوراً عن الزمان والمكان ما كان ليخطر ببال إنسان حتى إذا جاء عصرنا وعرفنا أبعاد النجوم، وعرفنا أن أيام بعض الكواكب والنجوم طويلة جداً، وعرفنا من سعة الكون ما لا يخطر ببال، أدركنا معجزة من معجزات القرآن إذ يقول الله تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (3) وقال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (4) وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (5). رابعاً: ومن ذا الذي كان يعرف في جزيرة العرب أن الأرض كروية، انظر إلى قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (6). لتجد فيه إشارة إلى هذه الكروية.
خامساً: من العلوم التي نشأت في العصور المتأخرة وأصبح لها دور كبير في مجالات شتى كإثبات الشخصية وإثبات بعض الجرائم علم البصمات الذي يرتكز على فكرة أن بصمة الإنسان لا تشبه بصمة إنسان آخر، ولهذا صلة بقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (1) البنان هو الذي فيه بصمة الإنسان، فالإشارة إليه معجزة يعرفه من تأمل. سادساً: وفي عصرنا عرف الإنسان شيئاً كثيراً عن السحاب وأنواع الكهربائية فيه ودور هذه الكهربائية في نزول المطر وانظر إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} (2). فإنك تجد معجزة من معجزات هذا القرآن. سابعاً: وفي عصرنا عرف الإنسان شيئاً عن أعماق المحيطات وعرف أن هناك أمواجاً ظاهرة وأمواجاً باطنة وانظر إلى قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} (3). لترى معجزة من معجزات هذا القرآن. ثامناً: وفي عصرنا عرف الإنسان فكرة الضغط الجوي وعرف أن الهواء المحيط في الأرض له قطر ينتهي به، وأن مآل من يصعد إلى السماء أن يختنق في النهاية وانظر إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (4) لترى معجزة من معجزات هذا القرآن. تاسعاً: ومن معجزات القرآن ما أخبر عنه القرآن من غيوب ماضية وهي من الدقة بمكان عظيم، فمن المعروف مثلاً أن ما يسمى بالتوراة الحالية تتحدث عن غرق فرعون فقط والحفريات الحديثة أوجدت جثث كل منْ هو مظنة أن يكون فرعون موسى، والقرآن يذكر الغرق ويذكر نجاة البدن. قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (5). وقد ثبت في حفريات بين النهرين أن البشر كانوا يعمرون أكثر من ألف سنة
كما نقلنا ذلك في تفسيرنا وفي قسم العقائد من هذا الكتاب، والقرآن يقول عن نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (1) والقرآن يحدثنا أنه ترك سفينة نوح آية ولا يزال البحث قائماً على قدم وساق على جبل أرارات لأن الأقمار الصناعية وجدت على ظهر هذا الجبل ما مظنة أن يكون بقايا سفينة. عاشراً: تحدث القرآن عن غيوب في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر صدق ذلك ومن أظهر هذا النوع من المعجزات ما أخبر عنه القرآن الكريم من أن الروم سيغلبون فارس بعد أن غلبوا وقد كان ذلك. ومن ذلك إخبار الله رسوله عن حفظه من الناس بقوله {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (2) وقد كان ذلك فلم يستطع أحد أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثرة الراغبين في ذلك. ومن ذلك إخبار الله رسوله عن انتصار الإسلام في كثير من الآيات وقد كان ذلك وهذا النوع من الإخبار بالغيوب المستقبلية كثير في القرآن وفي كل من ذلك معجزة من معجزات القرآن. حادي عشرك ولقد شارك اليهود والمصريون في عبادة أوزيرس الذي ينطق به الغربيون عوزر، وكان قدماء المصريين يعتقدون أن ابن الله وذهب بعض المفسرين إلى أن هذا والمراد بقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (3). ثاني عشر: والاستيعاب لمعجزات القرآن مستحيل وإنما ضربنا لك أمثلة لتعرف معنى ما ذكرناه من أن في القرآن إعجازاً وتعرف أنه مع كرامة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن أظهر على يده من المعجزات الحسية أكثر مما أظهره على يد الرسل السابقين ومع ذلك فقد خصه بهذا القرآن المعجز الذي فيه مالا يحصى من المعجزات ليكون حجة الله على البشر إلى قيام الساعة بأن محمداً رسول الله وأن القرآن من عند الله.
قال صاحب مناهل العرفان: وهنا نلفت النظر إلى أن القرآن بما اشتمل عليه من هذه المعجزات الكثيرة قد كتب له الخلود، فلم يذهب بذهاب الأيام، ولم يمت بموت الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب، ويتحدى كل منكر ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من هداية الإسلام وسعادة بني الإنسان. ومن هذا يظهر الفرق جلياً بين معجزات نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ومعجزات إخوانه الأنبياء عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة، وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد، قصيرة الأمد، ذهبت بذهاب زمانهم، وماتت بموتهم، ومنْ يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان ولا يسلم له شاهدٌ بها إلا هذا القرآن، وتلك نعمة يمنها القرآن على سائر الكتب والرسل وما صح من الأديان كافة. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} وقال عز اسمه {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ا. هـ وبعد فقد قال الله عز وجل: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (1). فالقرآن الكريم لمن عقل لا شك فيه أنه من عند الله عز وجل، وهذه مقدمة نتيجتها أن يهتدي الإنسان بالقرآن في أمره كله، وإنما تحدثنا عن أسلوب القرآن وإعجازه ومعجزاته لنصل إلى هذه النتيجة وهو أن نجعل القرآن الكريم هدانا في كل شيء، وهذا يقتضي تلاوة وفهماً وعلماً وعملاً، ونحن وإن كنا قد أجّلنا في هذه المقدمة الكلام عن هداية القرآن إلا أننا نجتزئ هنا بذكر شيء مما كتبه السيوطي في الإتقان تحت عنوان: (في العلوم المستنبطة من القرآن) وذلك للتذكير بالمراد الأول من إنزال هذا القرآن وهو الاهتداء به: قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال صلى الله عليه وسلم "ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله،
فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين. قال البيهقي: يعني أصول العلم. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن وقال أيضاً: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قلت: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم "إن لا أحل إلا ما أحل الله، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم. وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله. وقال ابن مسعود. إذا حدثتكم بحديث أنبؤكم بتصديقه من كتاب الله تعالى. أخرجهما ابن أبي حاتم. وقال الشافعي أيضاً: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. فإن قيل: من الأحكام ما يثبت ابتداء بالسنة. قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة، لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وفرض علينا الأخذ بقوله. وقال ابن برهان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد، ففهمه من فهمه وعم عنه من عمه، وكذا كل ما حكم به أو قضى به، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه. وقال ابن أبي الفضل المرسي في تفسيره: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم بها، ثم رسل الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم تضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه، فسموا القراء واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة
وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة، واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد ولفظاً يدل على معنيين ولفظاً يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره، واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين. وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك، فاستنطبوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه. وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضاً. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ. واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب، فإن عز عليم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عسر فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم وعرف عادتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك علم الفرائض،
فاستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق المبادي والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل وأم علوم القرآن ثلاثة: توحيد، وتذكير، وأحكام. فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتذكير منه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن. والأحكام منها التكاليف كلها وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب، ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن لأن فيها الأقسام الثلاثة، وسورة الإخلاص ثلثه لاشتمالها على أحد الأقسام الثلاثة وهو التوحيد. وقال ابن جرير: القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء: التوحيد، والأخبار، والديانات، ولهذا كانت سورة الإخلاص ثلثه لأنها تشمل التوحيد كله. وقال علي بن عيسى: القرآن يشتمل على ثلاثين شيئاً: الإعلام والتشبيه والأمر والنهي والوعد والوعيد ووصف الجنة والنار وتعليم الإقرار باسم الله وبصفاته وأفعاله وتعليم الاعتراف بإنعامه والاحتجاج على المخالفين والرد على الملحدين والبيان عن الرغبة والرهبة والخير والشر والحسن والقبيح ونعت الحكمة وفضل المعرفة ومدح الأبرار وذم الفجار والتسليم التحسين والتوكيد التقريع والبيان عن ذم الأخلاق وشرف الآداب. قال شيدلة: وعلى التحقيق أن تلك الثلاثة التي قالها ابن جرير تشمل هذه كلها بل أضعافها، فإن القرآن لا يستدرك ولا تحصى عجائبه. وقال الشيخ العز بن عبد السلام: وقد نوع الشارع في ذلك أنواعاً كثيرة ترغيباً لعباده وترهيباً وتقريباً إلى أفهامهم: فكل فعل عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب أو أقسم به أو بفاعله كالإقسام
بالشفع والوتر وبخيل المجاهدين وبالنفس اللوامة، أو نصبه سبباً لذكره لعبده أو لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو لشكره له أو لهدايته إياه أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارته أو وصف فاعله بالطيب أو وصف الفعل بكونه معروفاً أو نفي الحزن والخوف عن فاعله أو وعده بالأمن، أو نصب سبباً لولايته أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله أو وصفه بكونه قربة أو بصفة مدح كالحياة والنور والشفاء، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب، وكل فعل طلب الشارع تركه أو ذمه أو ذم فاعله أو عتب عليه أو مقت فاعله أو لعنه أو نفي محبته أو محبة فاعله أو الرضى به أو عن فاعله أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين أو جعله مانعاً من الهدى أو من القبول أو وصفه بسوء أو كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه أو جعل سبباً لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل أو لذم أو لوم أو ضلالة أو معصية أو وصف بخبث أو رجس أو نجس أو بكونه فسقاً أو إثماً أو سبباً لإثم أو رجس أو لعن أو غضب أو زوال نعمة أو حلول نقمة أو حد من الحدود أو قسوة أو خزي أو ارتهان نفس أو لعداوة الله ومحاربته أو لاستهزائه أو سخريته أو جعله الله سبباً لنسيان فاعله أو وصفه نفسه بالصبر عليه أو بالحلم أو بالصفح عنه أو دعا إلى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو احتقار أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه، أو تولي الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلماً أو بغياً أو عداناً أو إثماً أو مرضاً، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله أو جاهدوا فاعله بالعداوة أو نهوا عن الأسى والحزن عليه أو نصب سبباً لخيبة فاعله عاجلاً أو آجلاً، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعله بأنه عدو لله أو بأن الله عدوه أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه لا ينبغي هذا أو لاتكون أوامره بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضاده أو بهجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه في الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم على بعض، أو وصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله في شيء، أو ليس من الرسول وأصحابه، أو جعل اجتنابه سبباً للفلاح، أو جعله سبباً لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل هل أنت منته، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعاداً أو طرداً، أو لفظة قتل من فعله أو قاتله الله، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولايزكيه ولا يصلح
عمله ولا يهدي كيده أو لا يفلح، أو قيض له الشيطان أو جعل سبباً لإزاغة قلب فاعله أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل، فهو دليل على المنع من الفعل، ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة، وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، ومن الإذن فيه والعفو عنه، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، ومن السكوت عن التحريم، ومن الإنكار على من حرم الشيء من الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا، والإخبار عن فعل من قبلنا غير ذامّ لهم عليه، فإن اقترن بإخباره مدح دل على مشروعيته وجوباً أو استحباباً اهـ كلام الشيخ العز بن عبد السلام.
الباب الأول في فضل القرآن والإقبال على تلاوته وفي بعض الآداب والأحكام
الباب الأول في فضل القرآن والإقبال على تلاوته وفي بعض الآداب والأحكام فيه بعض ما خص بالذكر من آياته وسوره وفيه فقرات * الفقرة الأولى: في فضل القرآن وفي الإقبال عليه وتلاوته. * الفقرة الثانية: في بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالقرآن. * الفقرة الثالثة: في بعض ما خصَّ بالذكر من آياته وسوره.
المقدمة
المقدمة القرآن هو كتاب الإسلام وهو الأصل الذي ينبثق عنه كل ما سواه وهو الحاكم على كل ما عداه وه كلام الله الذي لم يشب ولم يخالط وهو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم العظمى بإعجازه ومعجزاته، والتركيز عليه هو الأصل الأصيل، فهو سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وسنة أصحابه ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكتب عنه إلا القرآن ابتداءً ثم أذن، وكان عمر يوصي الجيوش ألا يشغلوا الناس عن القرآن بشيء فيأمرهم بالإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الدارمي، فالقرآن له وضع متميز، ولذلك فإن المسلم يعطي الأهمية الكبرى من نفسه وحياته دراسة وتلاوة وفهماً وعلماً، فهو متواتر بلفظه ومعناه وهو معجز وفيه معجزات، والسنة بالنسبة له شارحة فدورها دور المفصِّل قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) فالقرآن هو الذي يثير التفكير والرسول صلى الله عليه وسلم فصل بسنته القولية والعملية هذا القرآن فما من شيء في السنة إلا ويرجع بشكل ما إلى القرآن، فمن اشتغل في القرآن لم يفته شيء من الهداية الربانية ولكنه لا يستغني عن السنة لضبط الفهم وتفسير النصوص والقيام بالمطلوب وعن الكتاب والسنة ينبثق الفقهان الكبير والأكبر على ضوء القواعد الصحيحة التي تضبط الاستنباط. ولكن الكتاب يبقى هو الأصل الأصيل والحاكم الأول والنهائي والحجة على الخلق جميعاً. وقد غلط أصناف من الخلق في شأن القرآن: غلط من أهمله وأقبل على علوم أخرى. وغلط من لم يعط العلوم التي يحتاجها بيانه وفهمه وما انبثق عنه وغلط من حاول أن يسوي بينه وبين غيره كهؤلاء الذين يحاولون ألا يجعلوا فارقاً في قوة الإلزام بين نص القرآن وحديث الآحاد. ولذلك قامت معارك بسبب كثير من تفصيلات هذه الشؤون، والربانيون من هذه
الأمة يجعلون محل تركيزهم الأول هو القرآن ثم السنة. {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (1). {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (2). ولابد من إرجاع الأمر إلى نصابه بإعطاء كتاب الله عز وجل الاهتمام الأول، ثم السنة لأنها تفصيل الكتاب ثم يأتي بعد ذلك ما يلزم لخدمتهما أو لدراسة ما انبثق عنهما. وفي الجملة فإن مما ينبغي أن يدخل في الدائرة الأولى لاهتمامات المسلمين: أولاً: أن يتقن المسلم تلاوة القرآن على ضوء الأحكام المستقرأة لقراءة من القراءات المتواترة، وهذا يقتضي دراسة لكتاب في أحكام الترتيل، وقراءة ختمة أو أكثر على يد القراء الذين تلقنوا هذا القرآن تلقناً وأتقنوه. ثانياً: أن يكون للمسلم ورده اليومي من تلاوة القرآن بقدر استطاعته. ثالثاً: أن يبذل المسلم جهداً في حفظ ما أمكنه من كتاب الله وليكن هدفه أن يحفظ القرآن كله. رابعاً: أن يعرف ما يلزم قارئ القرآن في المصحف أو عن ظهر قلب من آداب. خامساً: أن يكون له إلمام بعلوم القرآن كل بقدر طاقته وما يتسع له وقته، وعلوم القرآن منها النقلية كعلم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ ومنها البياني الذي له علاقة بعلوم اللغة العربية ومنها الموضوعات المتميزة التي انبثقت عن القرآن أو اقتضاها جمع موضوعاته الواحدة في كتاب واحد كإعجاز القرآن وأمثال القرآن، وأحكام القرآن، والأخلاق في القرآن، متشابه القرآن إلى غير ذلك. سادساً: ومن أهم ما ينبغي الاهتمام به علم القراءات المتواترة، فذلك علم يفترض كفاية
على المسلمين أن يتقنوه وأن يورثوه. سابعاً: وفي العادة فإن علوم القرآن وعلم القراءات ينصب في النهاية في تفاسير القرآن الكريم، وكثير من المفسرين أدخلوا في تفاسيرهم كل شيء لأن القرآن تعرض لكل شيء فتجد بعض المفسرين يدخل في التفسير علوم القرآن النقلية والعلوم البيانية والمكتبة القرآنية، وبعض التفاسير تميز بخصوصية والمسلم لابد أن يكون له اهتمام بالتفسير وعليه أن يتخير من التفاسير ما يلائم التخصص أو العصر. ثامناً: وينبغي أن يدخل في اهتمامات المسلم التعرف على المكتبة القرآنية التي يدخل فيها كل ما مر ويدخل فيها سواه كإعراب القرآن، والتصوير الفني في القرآن. وسيمر معنا ذكر لكثير مما يدخل في المكتبة القرآنية مما ينبغي أن يكون للمسلمين اهتمام فيه. وقد خصصنا هذا الباب لذكر بعض النصوص الحديثية التي تنسجم مع عنوانه وختمناه بمسائل وفوائد تتعلق ببعض الأحكام والآداب. وإلى نصوص هذا الباب.
الفقرة الأولى في فضل القرآن والإقبال عليه وتلاوته
الفقرة الأولى في فضل القرآن والإقبال عليه وتلاوته - فضل من يحمل شيئاً من القرآن ويقرؤه ويحافظ عليه والاجتماع على تلاوته: 2338 - * روى الطبراني عن أبي الأحوصِ قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هذا القرآن مأدُبةُ الله فمن استطاع أن يتعلم منه شيئاً فليفعلْ فإن أصغر البيوتِ من الخيرِ الذي ليس فيه من كتاب الله شيء وإن البيت الذي ليس فهي من كتاب الله شيءٌ كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرجُ من البيت يسمعُ فيه سورة البقرة". أقول: تشبيه القرآن بالمأدبة إشارة إلى أن في هذا القرآن غذاء العقل وفاكهته كما أنه غذاء للقلب والروح وفاكهة لهما، فالذين لا يجدون في القرآن الغذاء الشامل الكامل للعقل والقلب والروح مع قراءتهم إياه حظهم من القرآن ضئيل وقلوبهم مريضة، فليكثروا التلاوة والتأمل والتدبر والتفاعل مع هذا القرآن. 2339 - * روى الطبراني عن ابن مسعودٍ قال: "لكل شيءٍ سنامٌ وسنامُ القرآن سورةُ البقرة وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصَّلُ، وإن الشياطين لتخرجُ من البيت الذي يُقرأ فيه سورةُ البقرة وإن أصغر البيوت للجوف الذي ليس فيه من كتاب الله شيء". قوله: (وإن أصغر البيوت للجوف الذي ليس فيه من كتاب الله شيء) يدل على أن عمارة القلب منوطة بحفظ القرآن، وبقدر الحفظ مع سلامة القلب من الضلالة والبدعة تكون عمارة القلب. والرواية التالية تؤكد ذلك:
2340 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِبِ". 2341 - * روى أبو داود عن أبي هريرة (رض الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيُوتِ الله تبارك وتعالى يتْلُون كتاب الله عز وجلَّ، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمةُ، وحَفَّتْهم الملائكةُ، وذكرهم الله فمين عنده". أقول: إن من آثار تنزل السكينة زيادة الإيمان قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (1) وهذه واحدة مما يكرم الله عز وجل بها المجتمعين على تلاوة القرآن ومدارسته، فانظر إلى فضل الاجتماع على القرآن، وقد وردت نصوص تحمل على الاجتماع على أنواع أخرى من الخير فاحرص على الجمعة والجماعة والاجتماع على الخير. 2342 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أقول: "الم" حرفٌ، ولكن "ألفٌ" حرف، و"لامٌ" حرفٌ، و"ميمٌ" حرف".
2343 - * روى أحمد عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنتُ جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعتُه يقول: "تعلمُوا سورة البقرة، فإن أخذها بركةٌ وتركها حسرةٌ، ولا تستطيعها البطلةُ، ثم سكت ساعةً. ثم قال: تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهْرَوان، وإنهما تُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان أو فرقان من طير صوافَّ، وإنَّ القُرآن يلقي صاحبهُ يوم القيامة حين ينشقُّ عنه القبرُ، كالرجُل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبُك القرآن، الذي أظمْتُك في الهواجِر، وأسهرتُ ليلك، وإن كُلَّ تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيُعطى المُلْك بيمينه، والخُلْدَ بشماله، ويوُضع على رأسه تاجُ الوقارِ، ويُكسى والداهُ حُلَّتيْن لا يُقَوَّمُ لهما الدُّنْيا، فيقولان: بم كُسينا هذا؟ ويُقالُ لهما: بأخذِ ولدكُما القرآن، ثم يُقال له: اقرأْ واصعدْ في درج الجنة وغُرفِهَا، فهو في صعُودٍ ما دام يقرأُ هذاًّ كان أو ترتيلا". 2344 - * روى الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهِرُ بالقرآن مع السَّفرةِ الكرامِ البررةِ، والذي يقرأ القرآن ويتتَعْتَعُ فيه وهو
عليه شاقٌّ، له أجران". وفي رواية أبي داود (1) والترمذي (2): "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به الحديث" وليس فيه لفظة "يتتعتع" وقال أبو داود "وهو يشتد عليه". أقول: المقام الأرقى للأول الذي هو الماهر في القرآن، وكون الثاني له أجران لما يبذل في القرآن من جهد لا يقدم صاحبه على الأول في مقامه العالي الذي من آثاره استحقاقه الكينونة مع الملائكة. 2345 - * روى الجماعة عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلُ المؤمنِ الذي يقرأُ القرآن مثلُ الأتْرُجَّةِ، ريحُها طيبٌ، وطعمُها طيبٌ، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأُ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلوٌ، ومثلُ المنافق الذي يقرأ القرآن مثلُ الريحانة، ريحها طيبٌ، وطعمها مُرٌّ، ومثلُ المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، لا ريح لها، وطعمها مُرٌّ". وفي رواية (3): "ومثلُ الفاجرِ" في الموضعين. 2346 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلُ المؤمن الذي يقرأُ القرآن، مثلُ الأُتْرُجّة، ريحها طيبٌ، وطمعُها
طيبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، مثل التمرةِ، طعمُها طيبٌ، ولا ريح لها، ومثلُ الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة، ريحها طيبٌ، وطعمها مُر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظَلةِ، طعمُها مُرّ، ولا ريح لها، ومثل جليس الصالح، كمثل صاحب المسك، إن لم يُصِبْك منه شيء، أصابك من ريحه، ومثلُ جليس السوء، كمثل صاحب الكير، إن لم يصبْك منه سواده أصابك من دُخانه". 2347 - * روى مسلم عن عامر بن واثلة (رحمه الله) "أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسْفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبْزَى، قال: ومنِ ابنُ أبْزَى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإن عالمٌ بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفعُ بهذا الكتابِ أقواماً، ويضعُ به آخرين". أقول: الفرائض في النص تحتمل علم المواريث وهذا يشير إلى أهميته وتحمل العلم بالتكليف. لقد أنكر عمر رضي الله عنه على عامله أن يستخلف على أهل مكة مولى من الموالي لأن العرب تأنف أني ليها إلا منها، فيترتب على ما فعل فتنة كما أن ذلك يتنافى مع أدب مراعاة الرأي العام في المباح وهو من السياسات النبوية، فلما علل له ذلك بأن العلم والقرآن هما اللذان قدماه، رضي عمر، وفي ذلك إشارة إلى أن للعلم محله في التقديم، وهذا أمر يلاحظ، ولذلك جعلنا في بعض كتبنا معيار التقدم والتأخر في العمل الإسلامي المعاصر: الثقافة الإسلامية والخصائص والالتزام. 2348 - * روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيُحبُّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفاتٍ عظامٍ سمانٍ؟ قلنا (1):
نعم، قال: فثلاث آياتٍ يقرأ بهن أحدُكم في صلاةٍ خيرٌ له من ثلاثِ خلفاتٍ عظامٍ سمانٍ". 2349 - * روى مسلم عن عقبة بن عامرٍ (رضي الله عنه) قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصُّفَّة، فقال: أيُّكم يحبُّ أن يغدُو كل يوم إلى بُطحان - أو قال: إلى العقيق -فيأتي منه بناقتين كوماويْنِ في غير إثمٍ ولا قطيعة رحمٍ؟ فقلنا: [يا رسول الله] نحبُّ ذلك، قال: أفلا يعدو أحدُكم إلى المسجد، فيعْلَمَ - أو يقرأ - آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين، وثلاثٌ [خير له من ثلاثٍ]، وأربعٌ خير له من أربعٍ، ومن أعدادِهنَّ من الإبل". وفي رواية أبي داود (1) قال مثله إلى "كوماوَين" ثم قال: "زهراويْن بغير إثم بالله عز وجل ولا قطع رحم؟ قالوا: كُلُّنا يا رسول الله، قال: فلأنْ يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد، فيتعلَّم آيتين من كتاب الله عز وجل، خيرٌ له من ناقتين، وإنْ ثلاثٌ فثلاثٌ، مثلُ أعدادِهنَّ من الإبل". 2350 - * روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاهُ الله القرآن فهو يتلُوهُ آناء الليل والنهار فسمعهُ جارٌ له، فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما عملُ، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتي فلانٌ، فعملتُ مثل ما يعملُ".
- فضل تعلم القرآن وتعليمه
2351 - * روى الترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول (أي القرآن): يا رب حلِّه، فيُلبسُ تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زدْه، فيُلْبَس حُلّة الكرامة، ثم يقول: يا رب أرض عنه، فيقول: رضيتُ عنه، فيُقال له: اقرأ وارْقَ، ويُعطى بكل آيةٍ حسنةً". 2352 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارْق ورتِّلْ كما كنت ترتِّلُ في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخرِ آيةٍ تقرأُ بها". 2353 - * روى أحمد عن أبي هريرة - أو عن أبي سعيدٍ شكَّ الأعمشُ- قال: "يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارقه فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها". - فضل تعلم القرآن وتعليمه: 2354 - * روى البخاري عن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيركُمْ من تعلم القرآن وعلمَهُ" (1).
- في وجوب تعهد القرآن وعدم الغفلة عنه
2355 - * روى الطبراني عن أبي أمامة: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اشتريت مقسِمَ بني فلان فربحت في كذا وكذا قال: ألا أنبئك بما هو أكثرُ منه ربحاً قال: وهل يوجد؟ قال: رجلٌ تعلم عشر آيات، فذهب الرجل فتعلم عشر آياتٍ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره". - في وجوب تعهد القرآن وعدم الغفلة عنه: 2356 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعاهدُوا هذا القرآن، فوالذي نفسُ محمدٍ بيده، لهُوَ أشدُّ تفَلُّتاً من الإبل في عُقُلِها". 2357 - * روى أحمد عن عقبة بن عامرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا كتاب الله وتعادوه وتغنوا به فوالذي نفسي بيده لهو أشدُّ تَفَلُّتاً من النَّعَمِ في العُقُلِ". 2358 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مَثَلُ صاحبِ القرآن كمثلِ صاحب الإبل المُعَقَّلَةِ، إنْ عاهد عليها أمْسكَها، وإنْ أطْلَقَها ذهبتْ" (1).
وزاد مسلم في رواية أخرى (1): "وإذا قام صاحبُ القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكرهُ، وإنْ لم يقم به نسيهُ". أقول: القرآن عزيز كما وصفه الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (2) فهو لا يبقى في صدر صاحبه مع إهماله إياه وكان أحد شيوخنا يقول: إن القرآن يحن إلى صاحبه فإذا عاود صاحبه التلاوة والإقبال عليه عاد إليه. 2359 - * روى الجماعة عن عبد الله بن مسعودٍ (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئسما لأحدهِمْ أن يقول: نسيتُ آية كيت وكيت، بل هو نُسِّيَ، واستذكروا القرآن، فإنه أشدُّ تفصياً من صدور الرجال من النَّعَم من عُقُلها". وفي رواية (3) قال: "لا يقل أحدكم: نسيتُ آية كذا وكذا، بل هو نُسِّي".
- نزول الملائكة والسكينة على قارئ القرآن
2360 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: "من قرأ في ليلةٍ خمسين آية لم يُكْتَبْ من الغافلين، ومن قرأ مائة آيةٍ كُتِبَ من القانتين، ومن قرأ ثلثمائة آيةٍ كتب له قنطارٌ، ومن قرأ سبعمائة أفلح". 2361 - * روى النسائي عن السائب بن يزيد (رحمه الله) أن شُريحاً الحضرمي ذُكِرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوسَّدُ القرآن". - نزول الملائكة والسكينة على قارئ القرآن: 2362 - * روى البخاري عن أُسيد بن حُضيرٍ (رضي الله عنه) قال: "بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرةِ، وفرسُه مربوطةٌ عنده، إذْ جالت الفرسُ، فسكت، فسكنت الفرسُ، فقرأ، فجالت، فست، فسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه ولما أخَّره رفع رأسه إلى السماء (1)، فإذا مِثلُ
الظُّلَّة، فيها أمثالُ المصابيح، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اقرأ يا ابن حُضير اقرأ يا ابن حُضير قال: أشفقْتُ يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريباً، فانصرفت إليه، ورفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثلُ الظُّلَّةِ فيها أمثالُ المصابيح، فخرجتُ حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنتْ لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لاتتوارى منهم". 2363 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخُدري (رضي الله عنه): "أن أُسَيْد بن حضير بينما هو ليلةً يقرأ في مربدِه، إذْ جالتْ فرسُه، فقرأ، ثم جالتْ أخرى، فقرأ، ثم جالتْ أيضاً، قال أُسيد: فخشيتُ أن تطأ يحيى، فقمت إليها، فإذا مثلُ الظُّلَّة فوق رأسي، فيها أمثال السُّرُج عرجتْ في الجوِّ حتى ما أراها، قال: فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مِرْبَدي، إذ جالتْ فرسي، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضيرٍ، قال: فقرأتُ، ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فانصرفتُ، وكان يحيى قريباً منها، فخشيتُ أن تطأه، فرأيتُ مثل الظُّلَّة، فيها أمثال السُّرُج عرجتْ في الجوِّ حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تستمعُ لك، ولو قرأت لأصبحتْ يراها النساُ ما تستترُ منهم". أقول: هاتان الروايتان أصل أصيل في إثبات إمكانية انكشاف شيء من عالم الغيب للمسلم في حال إقباله على الله عز وجل، ولقد كثر الإنكار على الكشف وعلى أهله وليس ذلك ف محله إن جاءت الروايات عن صادق عدل، وكانت في دائرة الإمكان الشرعي. 2364 - * روى الشيخان عن البراء بن عازبٍ (رضي الله عنه) قال: "كان رجل يقرأُ (سورة الكهف) وعنده فرسٌ مربوطة بشطنيْن، فتغشَّتْه سحابةٌ فجعلتْ تدنو، وجعلَ (1).
فرسه ينفِرُ منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينةُ تنزلتْ للقرآن" وفي رواية (1): "اقرأ فلانُ، فإنها السكينةُ تنزلتْ عند القرآن" "أو للقرآن" وفي رواية (2): "تنزلتْ بالقرآن". ترجم البخاري (9/ 63) لحديث أُسيد بن حضير السابق بقوله: باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن قال ابن حجر كذا جمع بين السكينة والملائكة ولم يقع في حديث الباب [أي حديث أسيد السابق] ذكر السكينة ولا في حديث البراء الماضي في فضل الكهف (أي هذا) ذكر الملائكة ولعل المصنف كان يرى أنهما قصة واحدة ولعله أشار إلى أن المراد بالظلة في حديث الباب السكينة لكن ابن بطال جزم بأن الظلة السحابة وأن الملائكة كانت فيها ومعها السكينة والسكينة تتنزل أبداً مع الملائكة اهـ. وقيل إن صاحب هذه القصة هو أسيد أيضاً لكن قصة أسيد السابقة فيها انه كان يقرأ سورة البقرة وهذا ظاهره التعدد. وقعت لثابت بن قيس بن شماس قصة قريبة من قصة أسيد لكن في سورة البقرة أيضاً ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة والكهف جميعاً أو من كل منهما. [انظر الفتح 9/ 57]. النووي (6/ 82): قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، المختار منها أنها شيء من مخلوقات الله تعالى في طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة والله أعلم. وفي هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة الملائكة (وقال ابن حجر 9/ 64 وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلاً والحسن الصوت). قال النووي وفيه فضيلة القرآن وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة وفيه فضيلة استماع القرآن.
- حب القرآن وعلاماته
وقال ابن حجر وفيه منقبة لأسيد وفضل سورة البقرة في صلاة الليل وفضل الخشوع في الصلاة وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يُفوِّتُ الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح. - حب القرآن وعلاماته: 2365 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: "من أحبَّ أن يُحبَّه الله ورسوله فلينظر فإنْ كان يُحبُّ القرآن فهو يُحبُّ الله ورسوله". أقول: هذا ميزان لا يخطئ في التعرف على ما إذا كان الإنسان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وهو محبة قلبه للقرآن الكريم، وعلى هذا وبقدر ما يتعلق قلب الإنسان بهذا القرآن حباً وإجلالاً واحتراماً فإنه يكون قد تحقق بالصفة الأولى من صفات حزب الله يحبهم ويحبونه، وعلى هذا فإن مهمة الربانيين التركيز على القرآن الكريم من بداية السير إلى خاتمة العمر، قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (1). 2366 - *روى الشيخان عن ابن مسعود: "قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم اقرأ عليَّ القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأُ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: إني أحبُّ أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: حسبُك الآن، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان".
أقول: إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع القرآن من غيره وتأثره بهذا السماع حتى ذرفت عيناه علامتان على حب هذا القرآن والتفاعل معه وهذا ما ينبغي أن يحصِّله المسلم من خلال التركيز على صحة قلبه وكثرة إقباله على القرآن الكريم وتدبره.
الفقرة الثانية: في بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالقرآن
الفقرة الثانية: في بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالقرآن - وجوب تعلم القرآن وتعليمه وآداب ذلك: 2367 - * روى أحمد عن عبد الرحمن بن شبلٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقروا القرآن فإذا قرأتموه فلا تستكبروا به ولا تغلُوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به وقال: إن النساء هم أصحابُ النار. فقال رجلٌ: يا رسول الله أليس أمهاتُنا وأخواتُنا وبناتنا؟ فذكر كُفرَهن لحق الزوج وتضييعهن لحقه". وقد قرأ بعضهم جملة: (ولا تستكبروا به) على حرفين آخرين: (ولا تستكثروا به) (ولا تستأثروا به) والمعنى على الأول واضح فبعض الناس يستكبر بسبب أخذه القرآن، وعلى الثاني فالمراد عدم سؤال الناس بالقرآن استكثاراً، وعلى الثالث فالمراد أني علمه من يريد تعلمه. 2368 - * روى أحمد عن أبي سلامٍ قال: "كتبَ معاويةُ إلى عبد الرحمن بن شبلٍ أنْ عَلِّم الناس ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجمعهم فقال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تعلموا القرآن فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا". 2369 - * (1) روى الترمذي عن عِمران بن حُصينٍ (رضي الله عنه) أنه "مرَّ على
- إتقان القراءة
قارئ يقرأ القرآن، ثم يسألُ الناس به، فاسترجع عِمرانُ، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ القرآن، فليسأل الله به، فإنه سيجيءُ أقوامٌ يقرؤون القرآن ويسألون به الناس". - إتقان القراءة: 2370 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأُ القُرآن، وفينا الأعرابيُّ والعجميُّ، فقال: اقرؤوا، فكلٌّ حسنٌ، وسيجيءُ أقوامٌ يُقيمونه كما يُقام القِدْحُ، يتعجَّلونه ولا يتأجَّلونه". - التغني بالقرآن وتزيينه بالصوت: 2371 - * روى أبو داود عن البراء بن عازبٍ (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زيِّنُوا القرآن بأصواتكم". زينوا القرآن بأصواتكم: قال الخطابي في قوله: "زيِّنُوا القرآن بأصواتكم" قد فسَّرَهُ واحد من أئمة الحديث: زينوا أصواتكم بالقرآن، وقالوا: هذا من باب المقلوب، كما قالوا: عرضتُ الناقة على الحوض، وإنما هو عرضتُ الحوضَ على الناقة (1).
قال: ورواه معمر عن منصور عن طلحة، فقدم الأصوات على القرآن، وهو الصحيح. قال: ورواه طلحة عن عبد الرحمن بن عَوْسجةً عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا أصواتكم بالقرآن" أي: الهجُوا بقراءته، واشغلُوا أصواتكم به، واتخذوه شعاراً وزينة. وقال محقق الجامع في تفسيره الحديث على ظاهر الرواية الأولى ويكون ذلك بتحسين الصوت عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزيد حسناً وزينة بالصوت الحسن، وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بعث للقلوب على استماعه والإصغاء إليه، قال التوربشتي: هذا إذا لم يخرجه التغني عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف، فإن انتهى إلى ذلك، عاد الاستحباب كراهة، وأما ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى فيأخذون في كلام الله مأخذهم في التشبيب والغزل، فإنه من أسوأ البدع، فيجب على السامع النكير، وعلى التالي التعزيز. أقول: ما دامت أحكام التجويد مراعاة، والخشوع حاصلاً فكل ما يزيد التلاوة حسناً لا حرج فيه. 2372 - * روى الشيخان عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لشيءٍ ما أذن لنبيٍّ: أن يتغنى بالقرآن، يجهرُ به". 2373 - * روى أحمد عن سعد بن أبي وقاصٍ (رضي الله عنه) قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" (1).
- الجمع بين حسن التلاوة وحسن الفهم والإخلاص فيهما
أقول: دل هذا النص وأمثاله على أن من أدب المسلم أن يكون له أنس في القرآن وإيناس، وإنْ من لم يصل به هذا الأنس إلى درجة التغني في القرآن، فإنه لم يصل إلى حقيقة الإيمان الذي يجعله من هذه الأمة، وفي النص تهديد ووعيد شديدان، فحيثما ورد قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا) فذلك شيء مخيف، ولهذا فإننا نعتبر من الموازين التي على أساسها يختار الإنسان بطانته، من لم يقع في مثل هذا التهديد والوعيد فالله عز وجل يقول: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} (1) فإن ممن يدخل في هذا النص ضمناً كل من وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس منا، فليتكلف المسلم أن يكون له تغنٍ في القرآن في تلاوة مجردة أو في قراءة في صلاة ولا يتحرج من ذلك ولا يخجل منه فإن ذلك حرج أو خجل في غير محله. 2374 - * روى أبو داود عن عبد الله بن أبي يزيد (رحمه الله) قال: مَرَّ بنا أبو لُبابة فاتبعناهُ، حتى دخل بيتهُ، فدخلنا عليه، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة، فسمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، قال: فقلت لابن أبي مُليكة: يا أبا محمدٍ، أرأيت إذا لم يكنْ حسن الصوتِ؟ قال: يُحسِّنُه ما استطاع. - الجمع بين حسن التلاوة وحسن الفهم والإخلاص فيهما: 2375 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: "لقد عشتُ برهةً من دهري وإن أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزلُ السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّمُ حلالها وحرامَها
- صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
وما ينبغي أن يقفَ عنده منها كما تعلمون أنتم القرآن، ثم لقد رأيتُ رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأُ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمِرُه ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه وينثره نثر الدقل". 2376 - * روى البزار عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يظهرُ الإسلام حتى يختلف التجارُ في البحر وحتى تخوض الخيلُ في سبيل الله، ثم يظهر قومٌ يقرؤون القرآن يقولون من أقرأُ منا، من أعلم منا، من أفقه منا، ثم قال لأصحابه: هل في أولئك من خيرٍ؟ قالوا الله ورسوله أعلمُ. قال: أولئك منكم من هذه الأمة وأولئك هم وقودُ النار". 2377 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمروٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثرُ منافقي أمتي قُرَّاؤها: فأثخنوهم فالمأجورُ قاتِلُهم". 2378 - * روى أحمد عن عقبة بن عامرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثرُ منافقي أمتي قراؤها". أقول: هذا وأمثاله محمول على أهل البدعة من القراء ومن يوالي الكافرين مختاراً. - صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم 2379 - * روى أحمد عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال "سبحان ربي الأعلى" (1).
أقول: هذه سنة نبوية نجدها في أكثر من نص. مفادها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يتجاوب مع معانيه وذلك من آثار التدبر فعلى المسلم أن يفطن لذلك. 2380 - * روى النسائي عن أم سلمة (رضي الله عنها) "سألها يعْلي بنُ ممْلكٍ عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ قالت: ما لكم وصلاته؟ ثم نعتتْ قراءتَهُ، فإذا هي تنعتُ قراءةً مُفسرةً حرفاً حرفاً". وفي رواية الترمذي (1)، قالت: "ما لكم وصلاتَهُ؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينامُ قدر ما صلى، حتى يصبح، ثم نعتتْ قراءته، فإذا هي تنعتُ قراءةً مفسرةً حرفاً حرفاً". وللترمذي من رواية (2) ابن أبي مُليكة عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقطعُ قراءته: يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم يقف، وكان يقرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وأخرجه أبو داود (3) قال: قالت: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، يقطع قراءته آية آيةً. أقول: ويرى بعضهم أن الأصل هو الوقوف على رؤوس الآيات ولكن لهذه القاعدة استثناءات فالعبرة عندهم للمعنى وبناء على هذا قسم الوقف إلى أقسام، ومعرفة أحكام الوقف نصف علم الترتيل والنصف الآخر إعطاء الحروف حقوقها ومستحقاتها.
2381 - * روى البخاري عن قتادة (رحمه الله) قال: سألت أنساً عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كان يمدُّ مداً، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمدُّ ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. 2382 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مُغفَّلٍ (رضي الله عنه) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم-يوم فتح مكة على ناقته - يقرأُ سورة الفتح، فرجع في قراءته، قال: فقرأ ابن مُغفلٍ ورجع، وقال معاوية بن قُرة: لولا الناس لأخذت لكم بذلك الذي ذكره ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أبي داود قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو على ناقته- يقرأ سورة الفتح، وهو يُرجعُ. أقول: المشهور في تعرف الترجيع في الأذان أن يذكر الإنسان الشهادة بصوت غير مرتفع ثم يرفع صوته بها، فلعل أحد الأوجه في معنى الترجيع هاهنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ من سورة الفتح بصوت خفيض، ثم يعود ليقرأ ما قرأه بصوت مرتفع (1).
2383 - * روى الطبراني عن موسى بن يزيد الكندي قال: "كان ابن مسعود يقريء رجلاً فقرأ الرجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} مرسلةً، فقال ابن مسعودٍ ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال أقرأنيها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} فمددها". أقول: من المعلوم أن الهمزة أو السكون إذا جاءا بعد حرف المد في كلمة واحدة كما في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} فإنها تمد مداً واجباً مقداره أربع أو خمس حركات. ولقد استقرأ علماء القراءات كيفية أداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لقراءة القرآن، فاستخرجوا قواعد التجويد والترتيب في الممدود وكيفية النطق بالأحرف إلى غير ذلك من قواعد ينبغي أن يبذل المسلم جهداً في تعلمها. فإنها من المطلوبات العينية في حق كل تالٍ للقرآن. 2384 - * روى أحمد عن بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال نافعٌ أُراها حفصة - أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إنكم لا تستطيعونها. قال: فقيل أخبرينا بها. قال فقرأتْ قراءةً ترسلتْ فيها. قال فحكى لنا ابن أبي مليكة الحمد لله رب العالمين ثم قطع الرحمن الرحيم ثم قطع مالك يوم الدين. أقول: كما أن علماء النحو والصرف استقرؤوا اللغة العربية واستخرجوا قواعد النحو والصرف فكذلك علماء القراءات استخرجوا قواعد الترتيل استقراءً فأصبح علم الترتيل علماً قائماً بذاته فقارئ القرآن يجب عليه أن يقرأ القرآن مرتلاً وذلك بمراعاة طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأداء، وذلك لا يكون إلا بتلقن القرآن من أفواه المقرئين الذين يؤدونه كما تلقوه، ولا يستقيم ذلك بعد العصور الأولى إلا بمعرفة أحكام الترتيل كما دونها العلماء. فعلى المسلم أن يجمع وهو يقرأ القرآن ما بين أحكام التلاوة وتحسين الصوت والتخشع والتدبر (1)، ومن
- في كم يقرأ القرآن
فاته أن يتلقن القرآن من أفواه المقرئين فلا أقل من أن يقرأه عليهم ليصححوا له قراءته. - في كم يقرأ القرآن: 2385 - * روى الطبراني عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: "لا يُقرأُ القرآنُ في أقل من ثلاثٍ اقرؤوه في سبعٍ ويحافظُ الرجل على حزبه". 2386 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال: "من قرأ القرآن في أقل من ثلاثٍ فهو راجزٌ". 2387 - * روى مالك عن يحيى بن سعيدٍ (رحمه الله) قال: كنتُ أنا ومحمدُ بن يحيى ابن حبان جالسين، فدعا محمدٌ رجلاً، فقال: أخبرني بالذي سمعت من أبيك، فقال الرجل: أخبرني أبي: أنه أتى زيد بن ثابتٍ، فقال له: كيف ترى في قراءة القرآن في سبعٍ؟ قال زيد: حسنٌ، ولأن أقرأه في نصف شهرٍ أو عشرٍ أحبُّ إليَّ، وسلني: لِمَ ذاك؟ قال: فإني أسألك؟ قال زيدٌ: لكي أتدبَّرَهُ وأقف عليه. 2388 - * روى أبو داود عن شداد بن الهاد (رحمه الله) قال: سألني نافعُ بن جُبيرٍ بن مُطعمٍ، فقال لي: في كم تقرأُ القرآن؟ فقلت: ما أحزِّبُه، فقال لي نافع: لا تقل: ما أحزبه - وفي نسخةٍ: ما أجزئهُ - فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قرأتُ جُزءاً من القرآن" قال: حسبت أنهُ ذكره عن المغيرة بن شعبة. 2389 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ أنه كان يقرأُ القرآن في ثلاثٍ وقلما يأخُذُ منه بالنهارِ (1).
2390 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألمْ أُحبر أنك تصومُ الدهر، وتقرأُ القرآن كل ليلةِ؟ قلتُ: بلى يا نبي الله، ولم أُردْ بذلك إلا الخير، قال: فصُمْ صوْمَ داود - وكان أعبد الناس - واقرأ القرآن في كل شهرٍ، قال: قلت: يا نبيَّ الله، إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: فاقرأهُ في كل عشرين، قال: قلتُ: يا نبي الله، إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرٍ، قال: قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأهُ في كل سبعٍ، لا تزدْ على ذلك. قال: فشددْتُ فشُدِّدَ عليَّ، وقال لي: إنك لا تردي، لعلك يطولُ بك عمرٌ، قال: فصرتُ إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبِرْتُ ودِدْتُ أنِّي كنتُ قبِلْتُ رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم". في رواية (1) للترمذي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ القرآن في أربعين. وفي رواية (2) له أيضاً ... قال: أختمه في خمسة عشر؟ .. قال: اختمه في خمس ... 2391 - * روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يفقهْ من قرأ القُرآن في أقلَّ من ثلاثٍ". وفي رواية (3) لأبي داود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ القرآن في شهرٍ" قلتُ: أجدُ قُوةً، فناقصني وناقصتُه، إلى أن قال: "اقرأهُ في سبعٍ، ولا تزد على ذلك"، قلت: إني أجد قوة، قال: "اقرأ في ثلاثٍ، فإنه لا يفقهُ من قرأه في أقلَّ من ثلاث". أقول: إن قراءة القرآن في أقل من ثلاث جائزة ومأجور عليها وكان كثير من العباد
- في ختم القرآن
يقرءونه في ليلة فلم يفهموا من النهي المنع وإنما فهموا منه الإرشاد إلى الحد الذي يستطيع فيه الإنسان أن يجمع بين التلاوة والتدبر، وفهموا أنه إذا فاتهم أجر التدبر، فلا يفوتهم أجر التلاوة. والإكثار من التعبد ليس ببدعة إذا كان نوع العبادة مشروعاً. - في ختم القرآن: 2392 - * روى الطبراني عن ثابت أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم. - ماذا يفعل من نام عن حزبه؟: 2393 - * روى الجماعة إلا البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القارئ (رحمه الله) قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل". وفي رواية (1) الموطأ، فقرأهُ حين تزولُ الشمسُ إلى صلاة الظُّهر، فإنه لم يفُتْهُ أو كأنه أدركه". - قراءة القرآن عند ائتلاف القلوب: 2394 - * روى الشيخان عن (جُندُبِ بن عبد الله) رفعه: "اقرءوا القرآن ما
- في أحكام الجهر والإسرار بقراءة القرآن
ائتلفتْ عليه قلوبُكم، فإذا اختلفْتُم فقوموا". أقول: إذا كان هذا في حق القرآن، فكيف بالاختلاف الذي هو أثر عن اختلاف في قضية مصلحية يؤدي إلى تعكير القلوب، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته يقطع الاجتماع عندما اختلفوا في أمر كتابته في شأن الخلافة، وعلى هذا فمن أدب العلماء والدعاة أن يؤجلوا الجلسات التي تؤدي إلى تناكر القلوب حتى يتضح الحق، ويقبل الناس على الاجتماع بقلوب متآلفة. - في أحكام الجهر والإسرار بقراءة القرآن: 2395 - * روى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدريِّ (رضي الله عنه) قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهُمْ يجهرون بالقراءةِ، فكشف الستْرَ، وقال: "ألا إنَّ كُلكُمْ يناجي ربَّهُ، فلا يُؤذينَّ بعضُكم بعضاً، ولا يرفعْ بعضُكم على بعض في القراءة - أو قال: في الصلاة". أقول: في هذا النص آداب يغفل عنها الناس منها: أن جواز الجهر بالقرآن منوط بعدم التشويش وعدم الإيذاء، فإذا كان هذا في حق القرآن فمن باب أولى أن يقال في غيره، وقد توسع الناس في عصرنا في استعمال مكبرات الصوت في المساجد لغير الأذان وفي الاحتفالات رغبة في إسماع ربات البيوت فلينظر في هذا كله وليتعامل معه بما لا يؤذي الناس بحذر، وقد كان شيخنا الشيخ محمد الحامد رحمه الله يذكر أنه لا يصح أن يتحكم إنسان في الأجواء فيشوش على الطلاب والعباد بسبب من إسماع صوت بواسطة المكبرات وغيرها. وإذا حضر حفلة يمنع وضع المكبرات إلا بالقدر الذي يحتاجه السامعون الحاضرون، أما شعيرة الأذان فلها وضع خاص وعلى كل الأحوال، فالموازنة بين المصالح والمضار في مثل هذه الشؤون يحكمها الذوق الإسلامي ورغبة الناس واستعدادهم (1)، أما ما يفعله بعض الناس بإظهار المنكرات ونشرها وإشاعتها والتشويش على الناس بها فهذا مما يوجب التعزير
والإنكار ممن يستطيع ذلك. 2396 - * روى الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأُ في سورةٍ بالليل، فقال: "يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا: آيةً كنتُ أنسيتها من سورة كذا وكذا". وفي رواية (1): "أسقَطْتُهنَّ في سورة كذا". وفي أخرى (2) قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعُ قراءة رجلٍ في المسجد، فقال: "رحمه الله، لقد أذكرني آيةً كنتُ أنسيتُها". 2397 - * روى أبو داود عن عائشة قالت: إنَّ رجلاً قام من الليل، فقرأ فرفع صوته بالقرآن، فلما أصبح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمُ الله فلاناً، كأيِّنْ من آيةٍ أذكرنيها الليلة، كنتُ قد أسقطتها". 2398 - * روى أبو داود عن عقبة بن عامرٍ (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "الجاهرُ بالقرآن كالجاهرِ بالصدقة، والمسِرُّ بالقرآن كالمُسِرّ بالصدقة". قال الترمذي: معنى الحديث: أن الذي يُسِرّ بقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر، لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنما معنى هذا عند أهل العلم: لكي يأمن الرجل من العُجْب، لأن الذي يُسِرُّ [بالعمل] لا يُخاف عليه العجب ما يُخاف عليه في العلانية. أقول: وكما أن الجهر بالصدقة أحياناً يكون أفضل لبعض الحيثيات كأن كان المتصدق محل قدوة ليقتدي به الناس، فكذلك الجهر بالقرآن، فقد يكون أفضل لبعض الحيثيات كأن طلب بعض الناس من قارئ أن يقرأ لهم فيذكرهم، والإخلاص مطلوب في كل الأحوال، ومجاهدة النفس في حملها على الاستقامة الظاهرة والباطنة مطلوبة في كل الأحوال. 2399 - * روى الترمذي عن عبد الله بن أبي قيس (رحمه الله) قال: سألت عائشة رضي الله عنها، كيف كانت قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، أكان يُسِرُّ بالقراء، أم يجهرُ؟ فقالت: كُلُّ ذلك قد كان يفعلُ، رُبما أسرَّ بالقراء، ورُبما جهر، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً. 2400 - * روى الطبراني عن علقمة بن قيسٍ قال بتُّ مع عبد الله بن مسعودٍ ليلةً، فقام أول الليل ثم قام يُصلي فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يرجع يُسمعُ من حوله ولا يرجِّعُ صوته حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر (1).
- في من جمع القرآن من الصحابة
2401 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: لم يخافت من أسمع أذنيه. أقول: هذا مذهب ابن مسعود بأن أدنى المخافتة ألا يسمع الإنسان نفسه وهناك اتجاه ذكره بعض فقهاء الحنفية: أن أدنى المخافتة أن يسمع الإنسان نفسه وأدنى الجهر أن يسمع الإنسان جاره في الصلاة. - في من جمع القرآن من الصحابة: 2402 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة -كلهم من الأنصار - أُبيُّ بن كعبٍ، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيدٌ- يعني: ابن ثابتٍ، قلت لأنسٍ: من أبو زيدٍ؟ قال: أحدُ عمومتي. وفي أخرى للبخاري (1) قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجمع القرآن غيرُ أربعةٍ: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبلٍ، وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو زيدٍ، ونحنُ ورثْناهُ. وفي أخرى له (2): مات أبو زيدٍ: ولم يترُكْ عقباً، وكان بدرياً، واسم أبي زيد سعدُ ابن عبيدٍ. أقول: هذا كله يشير إلى اهتمام الصحابة بحفظ القرآن، وعلى كل مسلم أن يبذل جهداً.
- في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص أحدا بشيء من القرآن
في تحصيل ما يستطيع من القرآن وأن تكون همته حفظ جميع القرآن، وقد مر معنا أن ذلك سنة عين. 2403 - * روى البخاري عن سعيد بن جبير (رحمه الله) قال: إن الذي تدعُونَهُ المفصل هو المُحكم، قال: وقال ابن عباس: تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأتُ المفصَّلَ المحْكَمَ. وفي رواية (1)، أنه قال: جمعتُ المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلتُ له: وما المحكم؟ قال: المُفَصَّلُ. أقول: حققت في كتاب (الأساس في التفسير) أن المفصل يبدأ بالذاريات وفي النص ما يشير إلى نمط من أنماط الاشتغال بحفظ القرآن وهو البدء بالمفصل. - في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخصّ أحداً بشيء من القرآن: 2404 - * روى البخاري عن عبد العزيز بن رُفيعٍ (رحمه الله) قال: دخلتُ أنا وشدادُ بن معقل على ابن عباس، فقال له شدادٌ: "أترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم من شيءٍ؟ قال: ما ترك من شيءٍ، إلا ما بين الدفَّتَيْنِ، قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدَّفَّتين". أقوال: هذا رد على من زعم من الباطنية، وبعض غلاة الشيعة، وبعض الصوفية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص أحداً بشيء، نعم قد خص بعض الصحابة بأشياء غير تكليفية للأمة لمصالح مؤقتة تقتضيها مصلحة الأمة كإسراره لحذيفة بأسماء المنافقين، وكإسراره لأبي هريرة ببعض الأحداث والفتن التي ستظهر بعد وفاته عليه الصلاة والسلام في مرحلة مبكرة حتى إذا حدث لبس خيف به على مصلحة الأمة الإسلامية وجد من يزيل هذا اللبس.
- من أسرار القرآن
- من أسرار القرآن: 2405 - * روى الطبراني عن بعد الله بن مسعود قال: "من أراد العلم فليُثَوِّرْ القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين". وفي رواية: خير الأولين والآخرين. أقول: قال تعالى: {} (1) وكل يوم جديد يكتشف الناس فيه جديداً في إعجاز القرآن ومعجزاته، ومن ذلك أمر الإنسان والكون، قال تعالى: {} (2). 2406 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد ولكل حدٍ مطلعٌ. أقول: إن من تأمل فيما كُتب في إعجاز القرآن عرف أن الحرف القرآني لا ينوب غيره منابه وأن موضعه في كلمته معجز، ومن هاهنا كان للحرف القرآني حدُّه، وأن لهذا الحد ظهوراً، وهذا باب واسع فمن تأمل كل حرف في القرآن وعرف صفاته من همس أو وجهر واستعلاء أو استفال أو شدة أو رخاوة أو لين، إلى غير ذلك ونظر في كل حرف على حدة ونظر في ظهور الحروف في الكلمة والآية والسورة وما في ذلك من تجانس وتعاضد حتى كان هذا القرآن معجزاً بلفظه ومعناه أدرك سر هذا الأثر وعرف أن هذا الباب لا تنتهي عجائبه، ولقد حاول كثير من القدماء والمحدثين أن يلجوا هذا الباب فأتوا به بالمعجب
- أقسام القرآن ونسخه لما قبله وفضله على سائر الكتب
المطرب، وكان ممن مسه مساً رفيقاً فاستخرج من لطائفه الكثير سيد قطب رحمه الله في كتابه الظلال وفي كتابه التصوير الفني في القرآن. - أقسام القرآن ونسخه لما قبله وفضله على سائر الكتب: 2407 - * روى أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيتُ مكان التوراة السبع، وأعطيتُ مكان الزبور المئين، وأعطيتُ مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمُفصَّلِ". أقول: القول الراجح عندي نتيجة لاستقراءات قوية ذكرتها في التفسير أن السبع الطوال تنتهي ببراءة، وأن المئين تنتهي بالقصص، وأن المثاني تنتهي بسورة ق، ويبدأ المفصل بالذاريات وينتهي بسورة الناس آخر سورة في القرآن. - تلاوة القرآن من غير وضوء: 2408 - * روى أحمد عن أبي سلامٍ قال حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم بال ثم تلا آياتٍ من القرآن - قال هُشيمُ آياً من القرآن - قبل أن يمسَّ ماءً. أقول: هذا يدل على أن من أحدث حدثاً أصغر فله أن يقرأ القرآن، والمذاهب الأربعة على أنه لا يحق له مس المصحف إلا بعد وضوء أو تيمم حال جواز التيمم كما سيمر معنا بعد قليل حديث صحيح في ذلك. 2409 - * (1) روى الطبراني عن إبراهيم أن ابن مسعود كان يُقرئ رجلاً فلما انتهى إلى
- حكم مس القرآن
شاطئ الفرات بالَ وكفَّ عنه الرجل: فقال مالك؟ قال أحدثت. قال اقرأ فجعل يقرأ وجعل يفتحُ عليه. - حكم مس القرآن 2410 - * روى الطبراني في الكبير والصغير عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمس القرآن إلا طاهرٌ". - كراهة السفر بالقرآن إلى أرض العدو: 2411 - * روى مالك عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه: فمنع مالك أيضاً مطلقاً، وفصل أبو حنيفة، وأدار الشافعية الكراهة مع الخوف وجوداً وعدماً. وقال بعضهم كالمالكية، وستدل به على منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى المذكور فيه وهو التمكن من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك وإنما وقع الاختلاف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا؟ واستدل به على منع تعلم الكافر القرآن: فمنع مالك مطلقاً، وأجاز الحنفية مطلقاً، وعن الشافعي قولان، وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه، وبين الكثير فمنعه. ويؤيده قصة هرقل حيث كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات. وقد نقل النووي الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثل ذلك [انظر الفتح 6/ 134] (1).
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد تكلم بعض العلماء كالغزالي والنووي عن آداب تلاوة القرآن استنباطاً من الكتاب والسنة نلخص من كلامهم ما يلي: 1 - من المناسب اختيار الوقت الجيد لتلاوة القرآن، وأفضل الأوقات ثلث الليل الأخير ووقت السحر ثم قراءة الليل ثم قراءة الفجر ثم قراءة الصبح ... ثم قراءة باقي أوقات النهار. 2 - وكما تحدث العلماء عن اختيار الوقت المناسب تحدثوا عن اختيار المكان المناسب فالقراءة في بيت الله أفضل من غيره ويستحب أن يكون في مكان بعيداً عن الشواغل والموانع. 3 - اختيار الهيئة الصالحة بحيث يستشعر عبودتيه لله وتذلله وخضوعه كأن يستقبل القبلة جالساً جلسة التشهد أو أي جلسة أخرى مناسبة. 4 - أن يكون القارئ على طهارة تامة إذا مس المصحف وإن كان من غير مس فلابد أن يكون متطهراً من الجنابة والمرأة من الحيض والنفاس. 5 - استحضار النية عند التلاوة والإخلاص لله فيها من الالتجاء إلى الله والإقبال عليه والاستعاذة والبسملة إن كان من أول السورة باستثناء براءة. 6 - تفريغ النفس من شواغلها وقضاء حاجاتها وطلباتها فلا يكون جائعاً أو عطشاً أو قلقاً. 7 - الخشوع والخضوع والتفكر في كتاب الله والتأثر والانفعال والبكاء أو التباكي مع حصر الفكر وعدم شروده عن معاني القرآن. 8 - استشعار عظمة الله وكرمه وفيوضاته والوقوف أمام الآيات يتدبر معانيها ويدرك حقائقها ودلالاتها ودروسها وعبرها. 9 - استشعار القارئ أنه المخاطب بما يقرأ من آيات مكلف بالقيام بحقها وأوامرها والانزجار عن زواجرها فلذلك آثاره البليغة.
10 - التخلي عما يمنع من التدبر والخشوع والخضوع كارتكاب المعاصي أو النظر إلى المحرمات أو سماع الحرام أو إشغال الفكر والقلب بما لا يصح إذ هذه حواس التلقي فإذا لم تطهر كانت العائدة والفائدة أقل. ومما يساعد على فهم القرآن الكريم: أن يتحلى القارئ بما ذُكِر من آداب ثم يقف أمام الآيات وقفات تأمل وفحص وتدبر ويكررها مرات ومرات فقد يمن الله عليه بمعان ولفتات بما لا يجده عند غيره. ولابد من النظرة الفاحصة لسياق الآية وتركيبها ومعناها اللغوي وغريبها وإعرابها وظلالها وبلاغتها مع العودة إلى التفسير المأثور الصحيح ثم الاطلاع على ما كتب من تفاسير محررة علمية. وبعد هذا يستشعر القارئ الجانب التطبيقي العملي الواقعي للآيات المتلوة. هذه بعض الأمور التي تساعد على فهم كتاب الله عز وجل وتدبره ... ولرب قائل يقول إن اتباع هذا المنهج يعني أن لا يختم القارئ إلا بعد فترة طويلة لهذا فقد ذكر بعض العلماء أن على القارئ أن يكون له ورد تلاوة يقرأ فيه ما تيسر من جزء أو أكثر أو أقل ثم ورد حفظ بحيث لا يمضي يوم إلا وقد حفظ شيئاً من القرآن يحدد لنفسه ثم ورد تدبر وتفكر وفهم بحيث يقف عند آية كل يوم أو أكثر يتأملها ويحاول الاطلاع على كتب التفسير المتيسرة.
الفقرة الثالثة: في بعض ما خص بالذكر من آيات وسور
الفقرة الثالثة: في بعض ما خص بالذكر من آيات وسور الأصل أن يشتغل المسلم في الكتاب كله تلاوة وحفظاً وفهماً فالعكوف على تلاوته وختمه مرة بعد مرة وكرة بعد كرة والاشتغال اليومي به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (1) قال فقهاء الحنفية (وحفظ جميع القرآن سنة عين) وقد ورد في السنة النبوية حض على التلاوة اليومية لآيات بعينها أو سور بعينها كما ورد حض على تلاوة بعض السور أسبوعياً، ووردت نصوص في الحض على حفظ سور بعينها وكان بعضُ الصحابة يقدمون حفظ المفصل، كل ذلك استدعى تخصيص هذا الموضوع بالذكر. وسنرى في هذه الفقرة أن الأمر واسع في التخير من القرآن للحفظ، ولكن قد يكون من المستحسن تحقيقاً لهذه النصوص أن يأخذ الإنسان نفسه بالحفظ على مراحل: فالمرحلة الأولى: يعكف فيها على ما ورد فيه شيء يخصه: كالبقرة، وآل عمران، والكهف وسورة ألم السجدة وياسين والمفصل. وفي المرحلة الثانية: يكون التركيز على أخذ ما تبقى من قسم الطوال إلى منتهى براءة، ثم يكون عكوف على ما تبقى من القرآن، والأمر واسع، وهذه بعض النصوص التي وردت في تخصيص بعض القرآن في الذكر. - في البسملة: 2412 - * روى البزار عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف خاتمة السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم علِمَ أن السورة قد خُتمت واستُقبِلَتْ وابتدئِتْ سورةٌ أخرى.
- فضل سورة الفاتحة
- فضل سورة الفاتحة: 2413 - * روى البخاري عن أبي سعيدٍ بن المعلي رضي الله عنه قال: "كنتُ أصلِّي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أُجِبْه، ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصل، فقال: "ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} (1) ثم قال لي: ألا أعلمُك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: هي السَّبْعُ المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيتُه". أخرجه البخاري وقال: قال مُعاذ: ذكر الإسناد، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "هي السبع المثاني". وفي حديث أبي داود قال: "ما منعك أن تُجيبني؟ ". 2414 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خرَج على أُبي بن كعبٍ وهو يُصلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أُبيُّ، فالتفت أُبيٌّ فلم يُجبه، وصلى وخفف، ثم انصرف فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: وعليك السلام، ما منعك أن تُجيبني إذْ دعوتُك؟ قال: كنت في صلاةٍ، قال أفلم تجدْ فيما أُوحيَ إليَّ أن {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ قال: لا أعودُ إن شاء الله، قال: تُحبُّ أن أُعلِّمَك سورة لم يُنزَّلْ في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزَّبور، ولا في الفرقان مثلُها؟ قال: نعم، قال: كيف تَقْرَأ في الصلاة؟ قال فقرأ أمَّ القرآن،
- فضل خواتيم سورة البقرة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما أُنزِلَ في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلُها، وإنها سبعٌ من المثاني، والقرآن العظيم الذي أُعْطِيتُه". 2415 - * روى الترمذي عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل". 2416 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أم القرآن، وأُمُّ الكتاب، والسبعُ المثاني". - فضل خواتيم سورة البقرة: 2417 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "بينا جبريلُ عليه السلام قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فُتح اليوم، لم يُفتحْ قطُّ إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزلْ قطُّ إل اليوم، فسلَّم، وقال: أبشر بنورين أُوتيتهما، لم يؤتهما نبيٌّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أُعْطيته". 2418 - * روى الترمذي عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) "إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخَلُقَ السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختمَ
- فضل سورتي البقرة وآل عمران
بها سورة البقرة لا يُقرآن في دارٍ ثلاث ليال فيقْرَبُها شيطانٌ". 2419 - * روى أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آيتين أوتيتُهما من كنزٍ من بيتٍ من تحت العرش ولم يؤتهما نبيٌّ قبلي" يعني الآيتين من آخر سورة البقرة. وفي رواية (1) "أُعطيت خواتيم سورة البقرة من بيتٍ". 2420 - * روى أحمد عن حُذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أُعْطيتُ هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش لم يُعطها نبيٌّ قبلي". 2421 - * روى الشيخان عن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة ليلةً كفتاه". - فضل سورتي البقرة وآل عمران: 2422 - * روى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "يُؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعلمون به في الدنيا تقدمُه سورة البقرة وآل عمران - وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتُهن بعدُ - قال: كأنهما غمامتان - أو ظُلَّتان - سوداوان بينهما شرقٌ، أو كأنهما خِرقَان من طيرٍ صوافَّ، تُحاجّان عن صاحبهما". وعند الترمذي "ما نسيتُهنَّ بعدُ، قال: "يأتيان كأنهما غيابتان بينهما شرقٌ، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظُلَّتان من طير صوافَّ، تُجادلان عن صاحبهما. 2423 - * روى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهم فِرْقَان من طيرٍ صوافَّ تُحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركةٌ وتركها حسرةٌّ ولا تستطيعها البطلةُ". قال معاوية بلغني أن البطلة السحرةُ. 2424 - * (1) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
- في آية الكرسي
تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة". وزاد مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى أحدُكم الصلاة في مسجده، فليجعلْ لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيراً". 2425 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء سنامٌ، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي". - في آية الكرسي: 2426 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكَّلَني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثُو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاجٌ، وعليَّ عيالٌ، وبي حاجةٌ شديدةٌ، قال: فخليتُ عنه، فأصبحتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرُك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً وعيالاً، فرحمتُه فخليتُ سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعودُ، فعرفتُ أنه سيعودُ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرصدْتُه، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، ف قلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني، فإني محتاجٌ، وعليَّ عيالٌ، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هرٍ، ما فعل أسيرُك؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليتُ سبيله، فقال: أما إنه كذبك وسيعود، فرصدتُه الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعودُ ثم تعود، فقال: دعني، فإني أعلمك كلماتِ ينفعك الله بها، قلت: ما هُنَّ؟ قال (1): إذا أويتَ
- في السبع الطوال
إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية فنه لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربُك شيطان حتى تُصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هر ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول اله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليتُ سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ أية الكرسي من أولها، حتى تختم الآية {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان، حتى تصبح- وكان أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلمُ من تخاطبُ منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: قلتُ: لا، قال: ذاك شيطان". 2427 - * روى مسلم عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر، أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) فضرب في صدري وقال: ليهنك العِلْمُ أبا المنذر". وفي رواية (2) أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبا المنذر، أيُّ آية معك من كتاب الله أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أبا المنذر أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ... الحديث. - في السبع الطوال: 2428 - * روى أحمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع الطِوَل فهو حبرٌ".
- في سورة الكهف
وفي رواية (1) للحاكم: "خير" بدل "حبرٌ". - في سورة الكهف: 2429 - * روى الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضرَّه ومن توضأ فقال سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إل أنت أستغفرُك وأتوبُ إليك كُتِبَ في رقٍ ثم جُعل في طابع فلم يُكسَرْ إلى يوم القيامة". 2430 - * روى الحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". وفي رواية (2) للبيهقي "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق". 2431 - * روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "منْ حفظ عشر آياتٍ من أول (سورة الكهف) عُصِمَ من فتنة الدجال". وفي رواية (3) "من آخر الكهف".
- في فضل سورة تبارك "الملك"
وفي رواية (1) الترمذي "ثلاث آيات من أول سورة الكهف". - في فضل سورة تبارك "الملك": 2432 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من القرآن سورةٌ ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له. وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". 2433 - * روى الحاكم عن بن مسعود (مرفوعاً): "سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر". 2434 - * روى الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن مسعودٍ قال: كنا نسميها في عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم المانعة وإنها في كتاب الله سورةٌ من قرأها في ليلةٍ فقد أكثر وأطنب. 2435 - * روى الطبراني في الصغير والأوسط عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة وهي سورة تبارك". - في التكوير والانفطار والانشقاق: 2436 - *روى أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- في سورة الزلزلة
"من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيُ عينٍ فليقرأ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. - في سورة الزلزلة: 2437 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "أتى رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقرئني يا رسول الله، قال: "اقرأ ثلاثاً من ذوات آلر، فقال: كبرتْ سني، واشتد قلبي، وغلُظ لساني، قال: فاقرأ ثلاثاً من ذوات حم، فقال مثل مقالته، قال: اقرأ ثلاثاً من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: يا رسول الله أقرئني سورة جامعة، فأقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (1) حتى فرغ منها فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبداً، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرُّويجِل-مرتين-". أقول: هذا دليل لمن ذهب من أئمة السلوك إلى الله عز وجل إلى أن للشيخ المربي أن يتخير آيات أو سورة يلقنها للتلميذ حتى يتنور قلبه بمعرفة الله وليس عنده سورة أعظم من سورة الفاتحة توصل إلى معرفة الله الذوقية، القلبية بأسرع ما يمكن لمن جعلها ورده الدائم. - في سورة الإخلاص: 2438 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: "يا رسول الله، إني أُحِبُّ هذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال: "إن حُبَّك إياها أدخلك الجنة".
2439 - * روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلةٍ ثلث القرآن؟ قال: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن". وفي رواية (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاءٍ، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءاً من أجزاء القرآن". 2440 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أقرأ عليكم ثلث القرآن؟ فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} حتى ختمها. وفي رواية (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احُشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشدَ من حشد، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل، فقال بعضنا لبعضٍ: إني أُري هذا خبراً جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني قلت لكم: سأقرأُ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدلُ ثلث القرآن". سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: تسمى سورة الإخلاص وسميت سورة الإخلاص: إما لأنها خالصة لله تعالى في صفته، أو لأن اللفظ بها قد أخلص التوحيد لله تعالى. 2441 - * روى مالك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُردِّدُها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له- وكان
الرجل يتقالُّها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إنها لتعدِلُ ثلث القرآن". قال البخاري: وزاد [أبو معمرٍ: حدثنا] إسماعيلُ بن جعفر عن مالك عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سعيد قال: أخبرني أخي قتادة بن النُّعمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم- وفي رواية (1): قال: قال النبي صلى الله عليه سلم لأصحابه: "أيعجزُ أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلةٍ؟ " فشق ذلك عليهم، وقالوا: أيُّنا يُطيقُ ذلك يا رسول الله؟ فقال: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} ثلث القرآن". قال ابن الأثير: (ثلث القرآن) قد ذكر العلماء في كونه صلى الله عليه وسلم جعل (سورة الإخلاص) تعدل ثلث القرآن وجهاً صالحاً، فيه مناسبةٌ، قالوا: إن القرآن لا يعدو ثلاثة أقسام، وهي: الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه، أو معرفة صفاته وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسنه مع عباده، ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة، وهو التقديس، وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن. 2442 - * روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أقبلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال: "وجبتْ"، فقلتُ: ماذا يا رسول الله؟ قال: "الجنةُ" قال أبو هريرة: فأردتُ أن أذهب إلى الرجل فأبشره، ففرقْتُ أن يفوتني الغداءُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآثرتُ الغداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذهبتُ إلى الرجل فوجدتهُ قد ذهب".
- في المعوذتين
- في المعوذتين: 2443 - * روى النسائي عن عبد الله بن خُبيبٍ رضي الله عنه قال: "أصابنا طشٌّ وظُلمةٌ، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا ... [ثم ذكر كلاماً معناه] فخرج، فقال: قُلْ، قلتُ: ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} والمعوذتين- حين تمسي وحين تُصبح [ثلاثاً]، تكفيك كل شيء". وفي رواية (1) قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة، فأصبحت خلوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنوتُ منه، فقال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} حتى ختمها، ثم قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} حتى ختمها، ثم قال: ما تعوذَ الناسُ بأفضل منهما". 2444 - * روى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك "اقرأ يا جابرُ، قلت: وماذا أقرأ - بأبي أنت وأمي - قال: اقرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فقرأتُهما، فقال: اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما". 2445 - * روى مسلم عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تر آياتٍ أنزلت هذه الليلة، لم يُر مثلُهن قط {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. وفي رواية (2) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أُنزل - أو أنزلتْ - عليَّ آياتٌ لم يُر مثلهن قطُّ: المعوذتين" زاد في رواية (3) عند ذكر عقبة "وكان من رُفقاء أصحاب محمدٍّ صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية (1) أبي داود والنسائي (2) قال: "كنت أقودُ برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في سفر، فقال لي: يا عقبة، ألا أعلمك خير سورتين قُرئتا؟ فعلمني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فلم يرني سُررتُ بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله من الصلاة التفت إليَّ، فقال: يا عقبة، كيف رأيت؟ ". وفي رواية (3) للنسائي قال: "اتبعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكبٌ، فوضعتُ يدي على قدمه، فقلتُ: أقرئني (سورة هودٍ)، أو (سورة يوسف)، قال: "لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله من [آيات] أنزلت عليَّ الليلة، لم يُر مثلهن {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ". وله في أخرى (4) قال: "بينما أقودُ برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقبٍ من تلك النقابِ، إذ قال: "ألا تركبُ يا عقبة؟ فأجللْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرْكب مرْكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا تركبُ يا عقبة، فأشفقْتُ أن يكون معصيةً، فنزل فركبتُ هنيهةً، ونزلتُ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا أُعلِّمُك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس، فأقرأني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فأقيمت الصلاة، فتقدم فقرأ بهما، ثم [مرَّ بي]، فقال: كيف رأيت يا عقبة؟ اقرأ بهما كلما نمت وقمت". وزاد (5) في أخرى "م سأل سائلٌ بمثلها، ولا استعاذ مستعيذٌ بمثلهما". ولأبي داود (6) في أخرى قال: "بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجُحْفَة والأبْواء،
إذ غشيتنا ريحٌ وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: يا عقبة، تعوَّذْ بهما، فما تعوذ متعوذٌ بمثلهما، وقال: وسمعتُه يؤمُّنا بهما في الصلاة". وأخرج (1) الترمذي من هذا طرفاً آخر قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دُبرِ كل صلاة". 2446 - * روى الطبراني في الوسط عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أُنزلَ عليَّ آيات لم ينزل عليَّ مثلهنَّ: المعوذتين".
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - قراءة القرآن خارج الصلاة أفضل من سائر الذكر المندوب لكن الاشتغال بالمأثور من الذكر في محله كالرد على المؤذن، والدعاء بعد الأذان والأذكار المأثورة في أدبار الصلوات، إلى غير ذلك من أذكار ندب إليها في محلها أفضل من الاشتغال بتلاوة القرآن في ذلك المحل، وبعض القرآن أفضل من بعض. - يستحب حفظ القرآن إجماعاً، وعلى من حفظ منه أن يتعاهد المحفوظ بالتلاوة والمراجعة، وحفظه فرض كفاية إجماعاً، ويجب أن يحفظ منه ما تصح به الصلاة، وينبغي أن يهتم ولي الصغير والصغيرة بتعليمهما القرآن تلاوةً وحفظاً. - من المسائل التي نص عليها الحنفية: أن الاستماع لقراءة القرآن فرض كفاية وهذه رخصة، فكثيراً ما يفتح الناس المسجلات وغيرها على القرآن، فإذا ما اعتبرنا أن الاستماع فرض عين دخل الكثيرون في دائرة الحرج. - لا بأس بقراءة القرآن، والإنسان ماشٍ أو مضطجع أو جالس أو راكب إلا أن الكمال أولى. - يستحب للإنسان أن يكون له ورده القرآني اليومي بحيث يختم القرآن كل فترة من الزمن والمستحب ألا يتجاوز في ختمته الأربعين يوماً، فإذا ختمه في ثلاثة أو سبعة يكون أفضل، وبعض الناس يختمونه يومياً، والأجر حاصل ولكن يفوت صاحب ذلك التدبر وأجره، كما يفوت أجر الترتيل، فترتيل القرآن مع تدبره، أفضل من قراءة الكثير مع العجلة على أنه لا حرج في الإكثار ولو قل التدبر. - يستحب تحسين الصوت بالقرآن وتجب المحافظة على أحكام الترتيل كما تُلقيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. - يستحب التعوذ قبل القراءة وحمد الله تعالى بعدها كما يستحب البكاء والتباكي وأن يسأل الله عند آية الرحمة ويتعوذ عند آية العذاب ولا يقطع القراءة لحديث الناس إلا لحاجة وأن يتلقى القرآن من العدول الصالحين العارفين بمعاني القرآن، وأن يتطهر ويستقبل
القبلة إذا قرأ قاعداً، ويتحرى أن يعرضه كل عام على من هو أقرأ منه وألا يجهر بين مصلين أو نيام جهراً يؤذيهم كما لا يجهر بين من يقرأ القرآن جهراً يؤذيه. ويكره الجهر بالقراءة في المسجد لما فيه من التشويش على الآخرين. - بعض الناس يحرصون على مراعاة الآداب حرصاً يمنعهم من تلاوة القرآن وهذا خطأ، فالأدب مطلوب، لكن إذا فوت علينا قراءة القرآن أفضل. - تكره القراءة في المواضع القذرة، وحال تكشف العورات والعورة المعتبرة في الكراهة هي عورة الرجل من الرجل وعورة المرأة من محرمها. - المذاهب الأربعة على أنه لا يصح للمحدث حدثاً أصغر أو أكبر أن يمس المصحف، أما القراءة بدون مس فتمنع مع الحدث الأكبر ولا تكره مع الحدث الأصغر ولا مع نجاسة في ثوب أو بدن ولا حال مس الزوجة والذكر، وتكره استدامتها حال خروج الريح وإنما يمسك حتى تنقضي ويجوز للجنب أن يقرأ القرآن بقلبه سواء كان ذلك من حفظه أو من المصحف على ألا يمسه. - القراءة في المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب لأنه يجتمع فيهما السمع والبصر واللسان، ومن استمع لقارئ فإنه شريك في الأجر، ويكره الحديث عند القراءة لما لا فائدة فيه. - يستحب الدعاء عند ختم القرآن ويستحب لمن فرغ من ختمه أن يشرع في أخرى، ويسن لمن يختم القرآن أن يكبر آخر كل سورة ابتداءً من الضحى إلى آخر القرآن، ويستحب الإكثار من التلاوة في الأماكن الفاضلة كمكة والمساجد. - ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام مثل: جاء رجل فيقول: ثم جئت على قدر يا موسى. - ذكر السيوطي: أن نسيان القرآن كبيرة من الكبائر، صرح بذلك النووي، لكن فقهاء الحنفية قالوا: لا يعتبر نسيانه كبيرة إلا إذا نسي أصل القراءة من المصحف ومما ذكره النووي: سنية الاستياك لقراءة القرآن تعظيماً وتطهيراً. والمحافظة على قراءة البسملة أول
كل سورة غير براءة. - قال السيوطي: لا بأس بتكرير الآية وترديدها. وقال: الأولى أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف، ونقل عن شرح المهذب تعليل ذلك: لأن ترتيبه لحكمة فلا يتركه. أقول: وهو أدب تحسن مراعاته، ولا يترتب على عدم مراعاته إثم. ونقل السيوطي: أنه اشتهر عن المالكية تحريم الاقتباس وتشديد النكير على فاعله، لكنه نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام جوازه، واختار السيوطي التفصيل نقلاً عن بعض العلماء، فما كان منه في الخطب والمواعظ ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم والعهود فهو مقبول، وما كان في الغزل والرسائل والقصص فهو مباح، وما كان منه في هزل أو أن ينسب أحد ما لله لغير الله فهذا مردود والنكير قائم على أهل هؤلاء. - مما وصف به الخوارج قوله عليه الصلاة والسلام: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ومن ثم كان القرآن ميزاناً يعرف به الإنسان حال قلبه، فإذا كانت معاني القرآن تصل إلى قلبه ويتأثر بها فتلك علامة على صحة القلب، وإلا فإن القلب مريض يحتاج إلى علاج، وسبب المرض إما بدعة وإما مرض من أمراض القلوب، ولابد من التوبة من البدعة وغيرها من الذنوب، والإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء والأذكار، وقراءة القرآن تساعد على الشفاء، وللتفكر والتدبر محلهما في الخروج من مرض القلب إلى عافيته. - مما ينبغي أن يراعيه قارئ القرآن ترتيله ويدخل في الترتيل تحسين الصوت به ومعرفة أمكنة الوقوف وتجويد النطق بالحروف بإعطاء كل حرف حقه ومستحقه فلكل حرف حقه الذي يتمثل في إخراجه من مخرجه ومراعاة صفاته كالهمس أو الجهر والشدة أو الرخاوة أو التوسط والاستعلاء أو الاستفال والإطباق أو الانفتاح والإذلاق أو الإصمات والقلقلة والتفشي والصفير واللين والانحراف والاستطالة وعدم التكرير. وأما مستحق الحرف فهو ما يجب للحرف بسبب ما يأتي بعده أو قبله من حروف كالمد والترقيق والتفخيم وغير ذلك وهذه لا تنال إلا بأخذ علم الترتيل من أهله بأن يعرف الإنسان أحكام الترتيل وبأن يتلقن القرآن أو يقرأه على مقرئ يتقن هذا الفن. وقد نص بعض العلماء على أن قراءة ما يقرؤه الإنسان
مرتلاً فريضة عينية لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) ومن كلامهم: والأخذ بالتجويد حتم لازم ... من لم يجود القرآن آثم لكن من لم يلاحظ أحكام التجويد فهو آثم من حيثية ومأجور من حيثية ونرجو أن يكون أجره بتلاوة القرآن أكثر بما لا يقاس من إثمه.
الباب الثاني في بعض علوم القرآن
الباب الثاني في بعض علوم القرآن وفيه مقدمة وفصول. الفصل الأول في نزول القرآن على سبعة أحرف وفي القراءات
مقدمة
مقدمة كانت للعرب لهجات مختلفة وطرائق للأداء، واختصت بعض القبائل بكلمات للتعبير عن معنى فبعض القبائل كانت تلفظ حتى (عتى) وبعض القبائل كانت تلفظ أعطيناك: (أنيطناك) وبعض القبائل كانت تلفظ التابوت (التابوه) ومن المعروف أن من اعتاد على طريقة في الأداء وألفها ومرن عليها يصعب عليه أن يغيرها، وكان من حكمة الله عز وجل أنه أنزل القرآن على العرب بما يناسب ذلك تخفيفاً وتسهيلاً فتلقن الأصحاب رضي الله عنهم القرآن على هذه الأحرف السبعة بما وسع ما ألفوه وقتذاك من طرائق النطق في الأحرف والتعبير عن المعاني بكلماتهم التي اعتادوها، على أنه لا يعتبر قرآناً إلا ما تلقنوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون لأحد حرية الأداء والتعبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي ابتداءاً أن يكتب عنه غير القرآن ثم أذن، وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مرحلة تأسيسية كان بعض الأحكام يتنزل مراعياً فيه تلك المرحلة، حتى إذا وجد الاستعداد للحكم الدائم تنزل الحكم الدائم ونسخ الأول، ومن هنا وجد المنسوخ من القرآن. وقد توفي رسول الله والقرآن كله مكتوب ولكنه لم يكن مجموعاً، وآخر عرضة للقرآن في المدارسة بين رسول الله صلى الله عليه سلم وبين جبريل كان يعرفها بعض الصحابة، ومن ههنا كان الترتيب التوقيفي للقرآن غير معروف لدى الجميع، وبقي بعض الصحابة يحفظ شيئاً مما نسخت تلاوته على أنه قرآن، وقام أبو بكر رضي الله عنه بتكليف من يجمع القرآن كتابة بما يتفق مع العرضة الأخيرة، ولم يلحظ في هذه الكتابة جمع الناس على رسم واحد للمصحف، وإنما لحظ فيه أن تجتمع الكتابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والحفظ المتواتر عنه عليه الصلاة والسلام، ثم قام عثمان رضي الله عنه بتكليف عدد من الصحابة أن ينسخوا من هذا المصحف الإمام عدة نسخ ملاحظين في ذلك تواتر النقل وأن يجمعوا الناس على رسم واحد للمصحف يوافق لغة قريش وحدها، وأمر عثمان أن يحرق كل ما سوى ذلك فاستقر الأمر على رسم واحد وعلى ترتيب واحد واستقر الإجماع في المآل على هذا الرسم والترتيب، واستقرار الإجماع على ذلك يشير إلى أن الأمة اعتبرت أن ما سوى ذلك كان مرحلياً. وقد استقرت الأمة على اعتماد الرسم العثماني للمصحف واحتفظ القراء بما ورثوه من طرائق أداء ولهجات بما يتفق مع الرسم العثماني، ومن ههنا وجدت القراءات السبع والقراءات العشر، فهذه القراءات كلها متواترة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكونها منسوبة إلى علم من أعلام القراء لا ينفي تواترها، لأن من كان يقرأ هذه القراءة تلقاها معه أعداد كثيرة، وتلقاها منه أعداد كثيرة أشهر من اشتهر بها هو من نسبت إليه، وهذه القراءات ليست هي الأحرف السبعة بل هي بقية من الأحرف السبعة مما يتفق مع الرسم العثماني للمصحف والقراءات المعتمدة كلها يجتمع فيها ثلاثة أوصاف: أولاً: أنها متفقة مع الرسم العثماني للمصحف. ثانياً: أنها منقولة تواتراً. ثالثاً: أن كل كلمة فيها منسجمة مع قواعد اللغة العربية المستقرأة أو على وجه من أوجهها. ونلحظ من خلال الروايات أن بعض الصحابة أصروا على أن يستمروا على ما تلقوه بأنفسهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه في حقهم قطعي، ولكن ذلك لم يكن متواتراً بالنسبة للأمة، لذلك فإن الأمة اعتبرت كل ما خالف الرسم العثماني شاذاً ولا يعتبر قرآنا لان سبيله سبيل روايات الآحاد، والتواتر حاكم عليه إلا أن هذا الشاذ يعطينا تصوراً عما نسخت تلاوته ويعطينا تصوراً نستأنس به للتعرف على نماذج نتعرف بها على فكرة الأحرف السبعة كما أن بعضه يمكن أن نستأنس به لبعض الأحكام أو لترجيح وجه من أوجه التفسير. ولم يزل علم القراءات المتواترة من العلوم التي تهتم بها الأمة، واشتهر من هذه القراءات بعضها فغلب على غيره في بعض الأقطار وأياً ما قرأ القارئ من القراءات المتواترة فهو على خير وصواب. والكلام عن القراءات وعن الرسم العثماني للمصحف يوصلنا إلى فكرة علوم القرآن التي ينبغي أن تدخل في ثقافة كل مسلم: فهناك علم القراءات وعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم الرسم القرآني وعلم الترتيل وعلم الإعجاز وعلم المتشابه والمحكم وعلوم أخرى توضعت حول القرآن وهي مرتبطة به وهي تزداد سعة على مر الدهور، والإلمام بها منه ما هو فرض كفاية في حق الأمة ومنه ما هو فريضة عينية في حق أشخاص ومنه ما هو فريضة عينية في حق الجميع والمسلم
يستكثر من الخير وسنقتصر على ذكر ما وردت به نصوص مما له علاقة في فصول هذا الباب. ونحن في هذه المقدمة سنعطيك تصوراً عن كتابين في علوم القرآن كتاب متقدم قليلاً وكتاب متأخر تعرف من خلالهما الموضوعات الرئيسية التي تدخل في علوم القرآن. الكتاب الأول: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي وهو كتاب قديم. والكتاب الثاني: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني. وهو كتاب حديث. وفي هذا الموضوع كتب كثيرة منها المختصر ومنها المطول بحيث يستطيع المسلم أن يتخير كتاباً من هذه الكتب يناسب وقته وحاله على أن يكون هذا الكتاب موثقاً إما بشهرة مؤلفه في أنه من الثقات أو بتوثيق أهل العلم لهذا الكتاب. أ - تعرف بكتاب الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي رحمه الله المتوفى سنة 911 هـ، يتحدث السيوطي في مقدمة كتابه الإتقان في علوم القرآن عن عظمة هذا القرآن وما حوى وأنه كان يتعجب من المتقدمين إذ لم يُدَوِّنوا كتاباً في أنواع علوم القرآن، كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، ثم عرف أن شيخه: محيي الدين الكافيجي كتب كتاباً في علوم التفسير، قال عنه السيوطي: فإذا هو صغير الحجم جداً، وحاصل ما فيه بابان: الأول: في ذكر معنى التفسير والتأويل والقرآن والسورة والآية. والثاني: في شروط القول فيه بالرأي. وبعدهما خاتمة في آداب العالم المتعلم، فلم يشف لي ذلك غليلاً ولم يهدني إلى المقصود سبيلاً. ثم ذكر أن شيخه البُلْقيني ذكر له أن لأخيه قاضي القضاة جلال الدين كتاباً سماه (مواقع العلوم من مواقع النجوم) وذكر السيوطي كلام المؤلف في مقدمته، وأما كتابه فسينحصر في أمور هي: الأمر الأول: مواطن النزول وأوقاته ووقائعه، وفي ذلك اثنا عشر نوعاً: المكي، المدني،
السفري، الحضري، الليلي، النهاري، الصيفي، الشتائي، الفراشي، أسباب النزول، أول ما نزل، آخر ما نزل. الأمر الثاني: السند، وهو ستة أنواع: المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي صلى الله عليه وسلم، الرواة، الحفاظ. الأمر الثالث: الأداء، وهو ستة أنواع: الوقف، الابتداء، الإمالة، المدّ، تخفيف الهمزة، الإدغام. الأمر الرابع: الألفاظ، وهو سبعة أنواع: الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه. الأمر الخامس: المعاني المتعلقة بالأحكام، وهو أربعة عشر نوعاً: العام الباقي على عمومه، العام المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خص فيه الكتاب السنة، ما خصت فيه السنة الكتاب، المجمل، المبين، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، المنسوخ، نوع من الناسخ والمنسوخ وهو ما عمل به من الأحكام مدة معينة والعامل به واحد من المكلفين. الأمر السادس: المعاني المتعلقة بالألفاظ، وهو خمسة أنواع: الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر. وبذلك تكملت الأنواع خمسين، ومن الأنواع ما لا يدخل تحت الحصر: الأسماء، الكنى، الألقاب، المبهمات، فهذا نهاية ما حصر من الأنواع. ثم ذكر السيوطي أنه بعد ما قرأ كتاب القاضي جلال الدين البلقيني وجد أنه يحتاج إلى تحرير وتتمات وزوائد مهمات فكتب كتاباً سماه (التحبير في علوم التفسير) ضمنه ما ذكره البلقيني مع زيادات وإضافات وعدد أنواع العلوم التي تضمنها هذا الكتاب فبلغت 102 من العلوم، ثم ذكر أنه خطر له أن يستقصي في كتاب آخر كل ما يمكن أن يدخل في علوم القرآن، وإذا به يبلغه - وهو يشد الهمة لذلك - أن بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي أحد المتأخرين من فقهاء الشافعية أنه ألف كتاباً سماه (البرهان في علوم القرآن). وأنه ذكر فيه سبعة وأربعين علماً وختم الزركشي مقدمة الكتاب بقوله:
"واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يحكم أمره ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله والرمز إلى بعض فصوله، فإن الصناعة طويلة والعمر قصير، وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير". وبعد أن قرأ السيوطي هذا الكتاب قوي عزمه على إبراز ما قد نواه محاولاً الاستقصاء في علوم القرآن فألف كتابه الإتقان في علوم القرآن، فذكر ثمانين نوعاً فيه ثم قال: فهذه ثمانون نوعاً على سبيل الإدماج، ولو نوعت باعتبار ما أدمجته في ضمنها لزادت على الثلاثمائة وغالب هذه الأنواع فيها تصاريف مفردة وقفت على كثير منها، وذكر بعد ذلك المراجع التي رجع إليها في كتابه وسننقلها لك بعد أن نعطيك لمحة في أهم العلوم التي تعرض لها: معرفة المكي والمدني: ماله علاقة في النزول وأمكنته وأزمنته وأنواعه وأسبابه إلى غير ذلك، ثم تحدث عن أسماء القرآن وسوره، وعن جمعه وترتيبه، ثم تحدث عن قراءات القرآن ورواته وحفاظه وما يتعلق بذلك، وبعض أحكام التلاوة ثم تحدث عن آداب التلاوة وعن غريب القرآن، وأتبع ذلك ببعض العلوم، ثم تحدث عن الأدوات والقواعد التي يحتاج إليها المفسر، ثم تحدث عن المحكم والمتشابه وعن المجمل والمتبين والناسخ والمنسوخ والمنطوق والمفهوم، والحقيقة والمجاز والكناية والتعريض ومباحث لغوية وبلاغية أخرى، ثم تحدث عن الآيات المتشابهات المشتبهات وعن إعجاز القرآن وعن العلوم المستنبطة من القرآن وبعد ذكره أنواعاً من علوم القرآن، تحدث عن فضائل القرآن ثم بعد ذكره أنواعاً أخرى تحث عن رسم القرآن وآداب كتابته ثم تحدث عن التفسير وشروط المفسر وختم الكتاب بالحديث عن طبقات المفسرين وكانت مراجعه التي رجع إليها في هذا الكتاب ما ذكره بقوله: وهذه أسماء الكتب التي نظرتها على هذا الكتاب ولخصته منها، فمن الكتب النقلية: تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي الشيخ، وابن حبان، والفريابي، وعبد الرزاق، وابن المنذر، وسعيد بن منصور، وهو جزء من سننه، والحاكم وهو جزء من مستدركه، وتفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير، و"فضائل القرآن" لأبي عبيد، و"فضائل القرآن" لابن الضريس، و"فضائل القرآن" لابن أبي شيبة، "المصاحف" لابن أبي داود، "المصاحف" لابن أشته، "الردّ على من خالف مصحف عثمان" لابن أبي بكر
الأنباري، "أخلاق حملة القرآن" للآجري، "التبيان في آداب حملة القرآن" للنووي، "شرح البخاري لابن حجر"، ومن جوامع الحديث والمسانيد مال ايحصى، ومن كتب القراءات وتعلقات الأداء: "جمال القراء" للسخاوي، "النشر والتقريب" لابن الجزري، و"الكامل" للهذلي، "الإرشادات في القراءات العشر" للواسطي، "الشواذ" لابن غلبون"، "الوقف والابتداء" لابن الأنباري وللسجاوندي وللنحاس وللداني وللعماني ولابن النكزاوي، "قرة العين"، "الفتح والإمالة"، "وبين اللفظين" لابن القاصح، ومن كتب اللغات والغريب والعربية والإعراب: "مفردات القرآن" للراغب، "غريب القرآن" لابن قتيبة وللعزيزي، "الوجوه والنظائر" للنيسابوري، ولابن عبد الصمد الواحد "والجمع في القرآن"، ولأبي حسن الأخفش، "الأوسط الزاهر" ابن الأنباري، "شرح التسهيل والارتشاف" لأبي حيان، "المغني" لابن هشام الجني، "الداني في حروف المعاني" لابن أم قاسم، "إعراب القرآن" لأبي البقاء وللسمين وللسفاقسي ولمنتخب الدين، "المحتسب في توجيه الشواذ" لابن جني، "الخصائص" له، "الخاطريات" له، "ذا القد" له، "أمالي ابن الحاجب المعرب" للجواليقي، "مشكل القرآن" لابن قتيبة، "اللغات التي نزل بها القرآن" لأبي القاسم محمد بن عبد الله. ومن كتب الأحكام وتعلقاتها: "أحكام القرآن" لإسماعيل القاضي ولبكر بن العلاء ولأبي بكر الرازي وللكيا الهراسي، ولابن العربي ولابن اغرس ولابن خويز منداد، "الناسخ والمنسوخ" لمكي ولابن الحصار وللسعيدي ولأبي جعفر النحاس ولابن العربي ولأبي داود السجستاني ولأبي عبيد القاسم بن رسلان ولأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التيمي. "الإمام في أدلة الأحكام" لشيخ عز الدين بن عبد السلام، ومن الكتب المتعلقة بالإعجاز وفنون البلاغة: "إعجاز القرآن" للخطابي والرماني ولابن سراقة والقاضي أبي بكر الباقلاني ولعبد القاهر الجرجاني وللإمام فخر الدين ولابن أبي الأصبع واسمه "البرهان" وللزملكاني واسمه "البرهان" أيضاً ومختصره له واسمه "المجيد". "مجاز القرآن" لابن عبد السلام، "الإيجاز في المجاز" لابن القيم. "نهاية التأميل في أسرار التنزيل" للزملكاني. "التبيان في البيان" له. "المنهج المفيد في أحكام التوكيد" له. "بدائع القرآن" لابن أبي الأصبع: "التحبير" له. "الخواطر السوانح في أسرار الفواتح" له. "أسرار التنزيل" للشرف البازري. "الأقصى القريب: للتنوخي. "منهاج البلغاء" لحازم "العمدة" لابن رشيق. "الصناعتين" للعسكري. "المصباح" لبدر الدين بن مالء. "التبيان" للطيبي. "الكنايات" للجرجاني.
"الإغريض في الفرق بين الكتابة والتعريض" للشيخ تقي الدين السبكي له "الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص". "عروس الأفراح" لولده بهاء الدين. "روض الأفهام في أقسام الاستفهام" للشيخ شمس الدين بن الصائغ. "نشر العبير في إقامة الظاهر مقام الضمير" له "المقدمة في سر الألفاظ" المقدمة له. "أحكام الرأي في أحكام الآي" له. "مناسبات ترتيب السور" لأبي جعفر بن الزبير، "فواصل الآيات" للطوقي. "المثل السائر" لابن الأثير. "الفلك الدائر على المثل السائر". "كنز البراعة" لابن الأثير. "شرح بديع قدامة" للموفق عبد اللطيف. ومن الكتب فيما سوى ذلك من الأنواع: "البرهان في متشابه القرآن" للكرماني. "درة التنزيل وغرة التأويل في المتشابه" لأبي عبد الله الرازي، "كشف المعاني في المتشابه". "المثاني" للقاضي بدر الدين بن جماعة. "أمثال القرآن" للماوردي. "أقسام القرآن" لابن القيم. "جواهر القرآن" للغزالي. "التعريف والإعلام فيما وقع في القرآن من الأسماء والأعلام" للسهيلي. الذيل عليه لابن عساكر. "التبيان في مبهمات القرآن" للقاضي بدر الدين بن جماعة. "أسماء من نزل فيهم القرآن" لإسماعيل الضرير. "ذات الرشد" في عدد الآي وشرحها للموصلي. "شرح آيات الصفات" لابن اللبان. "الدر النظيم في منافع القرآن العظيم" لليافعي. ومن كتب الرسم: "المقنع للداني شرح الرائية" للسخاوي. شرحها لابن جباره. ومن الكتب الجامعة: "بدائع الفوائد" لابن القيم. "كنز الفوائد" للشيخ عز الدين بن عبد السلام. "الغرر والدرر" للشريف المرتضى. "تذكرة البدر بن الصاحب. "جامع الفنون" لابن شبيب الحنبلي. "النفيس" لابن الجوزي. "البستان" لأبي الليث السمرقندي. من تفاسير غير المحدثين: "الكشاف وحاشيته" للطيبي. تفسير الإمام فخر الدين. تفسير الأصبهاني، والحوفي، وأبي حيان، وابن عطية، والقشيري، والمرسي، وابن الجوزي، وابن عقيل، وابن رزين، والواحدي، والكواشي، والماوردي، وسليم الرازي، وإمام الحرمين، وابن برجان، وابن بريزة، وابن المنير. مالي الرافعي على الفاتحة. مقدمة تفسير ابن النقيب. "الغرائب والعجائب" للكرماني. "قواعد في التفسير" لابن تيمية. - فهذه مصادر السيوطي في كتابه الإتقان. ويلاحظ أن كتاب الإتقان يحتاج إلى تحرير ومراجعة وتحقيق وفيه مالا يرضاه العلماء
المحققون إلا أنه جمع علوماً كثيرة وفيرة مفيدة بلا شك. ب- تعريف بكتاب مناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد عبد العظيم الزرقاني وهو كتاب ظهر في الستينيات من القرن الرابع عشر الهجري، وفي الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي. يعتبر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن من الكتب التي أدت دوراً كبيراً في تقريب هذا العلم وتوضيحه، وله ميزان اقتضتها حاجات التأليف في عصر المؤلف: أولا: تبسيط هذا العلم مع قوة في التعبير وإشراق. ثانيها: تتبع الشبهات التي طرحها الكافرون في هذا العصر والرد عليها بإحكام وإسهاب. ثالثها: إظهار التآخي بين الإسلام والعلم في كل مناسبة. رابعها: تجلية أسرار التشريع الإسلامي وحِكَمِهِ لقطع دابر فكرة فصل الدين عن الدولة. خامسها: أن يكون بين يدي الدعاة كتاب ينزلون به إلى ميادين الدعوة والإرشاد وهم مؤهلون لذلك، وقد حاول المؤلف أن يستفيد مما كتب علماء الإسلام قديماً وحديثاً في القرآن الكريم وعلومه، والتفسير ومقدماته، وعلم التاريخ التشريعي، وعلمي أصول العقائد وأصول الفقه وعلوم اللغة العربية ومعاجمها، وراعي في التأليف أنه دخل في ساحة التأثير الفكري على الأمة الإسلامية وجود الفلسفة وما سمي بعلم الاجتماع وعلم النفس والأخلاق. وتحدث في مقدمته كيف أن هذا العلم الذي أطلق عليه علم القرآن كان أثراً في الأصل عن وجود مصنفات متنوعة وموسوعات قيمة في علوم كثيرة كعلم القراءات، وعلم التجويد وعلم الرسم العثماني للمصحف وعلم التفسير وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم غريب القرآن وعلم إعجاز القرآن وعلم إعراب القرآن إلى علوم أخرى كثيرة، كل منها بحر لا ساحل له مما اقتضى أن يوجد علم جامع يجمع علوم القرآن كلها يجمع فيه مقاصدها وأغراضها وخصائصها
وأسرارها ليكون العالم على بصيرة بهذه العلوم كلها، فيكون ذلك بمثابة المقدمة لمن أراد التخصص في واحد منها، ولكي لا يغيب عن طالب علم عِلْمٌ من العلوم التي خدمت هذا القرآن مما هو في نفسه حجة على الخلق أجمعين بأن هذا القرآن الكريم فيه ما لا يتناهى من العلوم، وهو حجة على خلق الله أجمعين وقد استطاع المؤلف أن يبرز ذلك كله مع إبراز كثرة ما خُدِم به هذا القرآن وعظمته. وقد قسم كتابه إلى سبعة عشر مبحثاً، وقد جعل المبحث الأول في التعريف بالعلم عامة وعلوم القرآن خاصة، وبالتعريف على القرآن الكريم وأنواع العلماء الذين تخصصوا في خدمة هذا القرآن. وجعل المبحث الثاني في تاريخ علوم القرآن وظهور اصطلاحاته والمراحل التي مر عليها هذا العلم حتى استقر كعلم خاص له اسم خاص وعرض لأهم الكتب التي ألفت فيه وأشار إلى شيء مهم وهو: أن هناك كتاباً ألف في القرن الخامس لإبراهيم بن سعيد الخوفي المتوفى سنة 430 هجرية اسمه (البرهان في علوم القرآن) وهو يقع في ثلاثين مجلداً، يوجد منه الآن خمسة عشر مجلداً، وعلى هذا فنه يصحح التصور الذي أعطانا إياه السيوطي عن نشأة هذا العلم وأخذه اسمه المعروف في عهد مبكر. وتحدث عن كتب ألفت في هذا العلم ووجدت تحت اسم علوم القرآن منها: ما ألفه ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هجرية في كتابيه: (الأفنان في علوم القرآن) و (المجتبي في علوم تتعلق بالقرآن) وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية. ثم تحدث عن تاريخ هذا العلم بقريب مما تحدث عنه السيوطي حتى وصل إلى كتاب السيوطي (الإتقان في علوم القرآن) وذكر أنه بعد السيوطي لم يظهر من أبداع في هذا العلم حتى جاء القرن الرابع عشر، فألف في هذا العلم عدد كبير من المؤلفين إما في علوم القرآن أو في علم من علوم القرآن أو فيما يخدم هذا القرآن ويرد الشبه عنه وقد حاول المؤلف أن يستفيد من القديم والحديث في مؤلفه، فتحدث في المبحث الثالث عن علم نزول القرآن، وأهم أبحاثه الجديدة أنه تحدث عن الِكَم والأسرار في نزول القرآن منجماً فذكر أربع حكم تحوي في طياتها خمس عشرة حكمة. وبهذه المناسبة ناقش منكري الوحي فأقام عليهم الحجة
بستة أدلة، ثم ناقش شبهاتهم فذكر عشر شبه ورد على كل منها تفصيلاً. وجاء بحثه الرابع مكملاً للبحث الثالث في أول ما نزل وآخر ما نزل في القرآن الكريم بنوع تفصيل ندر أن يوجد في مكان آخر مع ذكر مسائل وفوائد وتفصيلات وشبه وردود نفيسة. ثم تحدث في المبحث الخامس عن علم أسباب النزول، وفوائد هذا العلم والمسائل التي اعتاد المؤلفون أن يذكروها في سياق هذا العلم. ثم جاء بحثه السادس في نزول القرآن على سبعة أحرف، والاختلاف الكثير بين العلماء في فهم هذا الموضوع وترجيحه للرأي الأقوى في هذا الشأن، ثم رد على أربع شبه يثيرها بعض الناس تتعلق بأصل هذا الموضوع. ثم تحدث في مبحثه السابع عن علم المكي والمدني ورد شبهات يثيرها أعداء الإسلام فذكر ست شبهات وأجوبتها. ثم تحدث في المبحث الثامن عن علم جمع القرآن وتدوينه وعن الرسم العثماني للمصحف ورد على ست شبه يثيرها أعداء الله عز وجل حول هذا الموضوع ثم ذكر في هذا السياق مجموعة حجج أطنب فيها إطناباً كثيراً أثبت فيها أن هذا القرآن محفوظ بما جعل الأمر من الوضوح بحيث لا يماري فيه كافر، أما المؤمن فإن هذا الموضوع محسوم عنده أصلاً. ثم تحدث في مبحثه التاسع عن ترتيب آيات القرآن وسوره. ثم تحدث في مبحثه العاشر عن كتابة القرآن ورسمه وعن مزايا الرسم العثماني ووجوب الالتزام به، ورد على شبه كثيرة يثيرها المشوشون، وتحدث عن جوانب تاريخية في تطوير خدمة المصحف. ثم تحدث في المبحث الحادي عشر عن القراءات والقراء وعن تواتر القراءات العشر وعن الأئمة الذين تنسب إليهم القراءات العشر، ورد خمس شبه في هذا المقام. ثم تحدث في المبحث الثاني عشر عن التفسير والمفسرين، وذكر أنواع التفسير والجائز منه وغير الجائز، وناقش بهذه المناسبة اتجاهات ضالة أو خاطئة أو كافرة تتعلق بفهم القرآن الكريم.
ثم تحدث في مبحثه الثالث عشر عن ترجمة القرآن الكريم وأحكامها وما يتعلق بذلك. ثم تحدث في مبحثه الرابع عشر عن علم الناسخ والمنسوخ وناقش بإسهاب شبه الكافرين والضالين، وشُبَه النافين للنسخ وأسهب في الحديث عن النسخ إسهاباً كبيراً وذكر فيه تفصيلات مفيدة وختم بحثه بأن ذكر الآيات التي اشتهر بأنها منسوخة. ثم تحدث في مبحثه الخامس عشر عن علم من أعظم علوم القرآن وهو علم محكم القرآن ومتشابهه وناقش نقاشاً طويلاً كل الآراء التي تطرح أو طرحت في ساحة هذا العلم قديماً وحديثاً. ثم تحدث في مبحثه السادس عشر عن علم أسلوب القرآن الكريم فأتى فيه بالمعجب والمدهش وإن كان استفاد من غيره مبرهناً على تفرد أسلوب القرآن بما لا يشبهه أسلوب بشر. وختم كتابه في الحديث عن علم إعجاز القرآن وما يتعلق به مبيناً أن في القرآن إعجازاً ومعجزات، فالإعجاز في نفسه حجة وكل معجزة من معجزات القرآن حجة وذكر ما يدل على الإعجاز والمعجزات، وفي هذا السياق ذكر أنواعاً من المعجزات، وذكر وجوهاً كثيرة تثبت أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله العظيم. ثم ناقش نقاشاً طويلاً الشبهات التي أثارها كثير من الناس حول إعجاز القرآن ومعجزاته عبر العصور عامة وفي عصرنا خاصة. ولئن كان في بعض كلامه في هذا الكتاب مقال فنحن نعتقد أن العصمة للوحي، فما من كتاب صدر عن بشر عاديين (أي غير أنبياء) إلا ويمكن أن يكون فيه مقال، لكنه ما من شك أن من اجتمع له أن يقرأ كتاب الإتقان للسيوطي وكتاب مناهل العرفان للزرقاني فإنه يحصل من هذا العلم ما يعتبر عالماً فيه. ومن تتبع مباحث هذا العلم وجد نصوصاً كثيرة فيه ونحن سنقتصر على ذكر بعض النصوص التي ترد في كتب السنة تحت عناوين تتعلق بهذا العلم مع العلم أن كثيراً مما يمكن أن يدخل في مباحث هذا العلم مبثوث في هذا الكتاب في سياقات متعددة، وكما قلنا من
قبل إن إشاراتنا الفقهية لا تغني عن مطالعة كتب المذاهب الفقيية فإن إشاراتنا هاهنا إلى بعض التحقيقات في علوم القرآن لا يغني عن مطالعة الكتب التي تخصصت في علم من هذه العلوم أو في كل العلوم، وما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه. والمؤلفات في علم القرآن كثيرة ومنها المطول الذي يحتاج إلى صبر والعلم لا ينال إلا بصبر وها نحن ننقلك إلى ذكر بعض النصوص التي كانت أصلاً لبعض علوم القرآن.
الفصل الأول في نزول القرآن على سبعة أحرف وفي القراءات
الفصل الأول في نزول القرآن على سبعة أحرف وفي القراءات عرض إجمالي: اختلف العلماء في ماهية الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن على رسولنا عليه الصلاة والسلام حتى بلغت الأقوال التي ذكرها العلماء أكثر من أربعين قولاً مما دعا بعض العلماء إلى أن يعتبر أن هذه الأحرف السبعة من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وقد رُدَّ هذا القول وإنما ذكرناه ليعلم مقدار الخلاف في هذه الأحرف السبعة والذي نحب أن نقرره ههنا أن الأحرف السبعة غير القراءات السبع وقد غلط الذين توهموا هذا التوهم، والذي نرجحه أن القراءات العشر المتواترة والمجمع على قرآنيتها عند القراء فيها بقايا من الأحرف السبعة ولا يدخل فيها كل الأحرف السبعة وإذا أردنا أن نستأنس لمعرفة الأحرف السبعة فإننا نعرف ذلك من خلال النظر في القراءات المتعددة ومن خلال الروايات الصحيحة التي تذكر ألفاظاً تخالف الرسم العثماني للمصحف فالرسم العثماني كان على لغة قريش فما خالفها من الأحرف السبعة أسقط وما وافقها مما تناقله القراء في طريقة الأداء فهو من الأحرف السبعة، ولا نرى أن نقف كثيراً عند ماهية الأحرف السبعة لأنها قضية لا يترتب عليها عمل الآن لأن الإجماع منعقد على قرآنية القراءات العشر الظاهر أن الصحابة أجمعوا على أن ما خالف لغة قريش كان مرحلياً ومن ههنا أجمعت الأمة على أن ما خالف الرسم العثماني لا يعتبر قرآنا لأنه لم ينقل إلينا بالتواتر على أنه قرآن وذلك شرط من شروط القبول بقرآنية الكلمة. ولذلك قلنا إننا نستأنس بهذه الروايات للتعرف على كنه الأحرف السبعة دون الجزم بحمل الأحرف السبعة على ما ذكرناه. وإذا كان لابد من ذكر أهم الآراء في الأحرف السبعة فإننا نلاحظ أن هناك ثلاثة آراء كان لها نصيب كبير من القبول عند بعض العلماء:
الأول: أن القرآن لا يخرج عن سبع لغات من لغات العرب وهي لغة قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن باعتبارها أفصح اللغات. وهناك آراء تتفرع عن هذا الرأي. الثاني: أن المراد بالأحرف السبعة: أوجه من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة نحو هلم وأقبل وتعال وينسب إلى ابن جرير الطبري وربما فهم هذا الرأي على أنه سبع لغات من لغات العرب في الكلمات الواحدة. الثالث: أنها سبعة حروف في الاختلاف إذ الكلام في رأيهم لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف وهي: 1 - اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع ... 2 - اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر. 3 - اختلاف وجوه الإعراب. 4 - الاختلاف بالنقص والزيادة. 5 - الاختلاف بالزيادة والتقديم والتأخير. 6 - الاختلاف بالإبدال. 7 - اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة ... والترقيق والتفخيم .. ونرى أن الخوض في ترجيح الراجح لا طائل وراءه لأنه لا يجوز أن يقرأ بأي قراءة سواء كانت من لغات العرب أو من الزيادة والتقديم إن صح وقوعها أو يغر ذلك إلا أن يكون ذلك منقولاً بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيمكننا إذن القول إن الأحرف السبعة كيفيات أقرأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بحسب قدراتهم وما اعتادته ألسنتهم وهذه الكيفيات بلغت سبعة أوجه للتيسير على هذه الأمة، وجميع هذه الكيفيات وحي من الله لا يجةز لأحد أن يتصرف فيها بالتغيير والزيادة. ثم
جمع عثمان الناس على رسم واحد بحسب لغة قريش وهذا الرسم يحتمل وجوهاً عدة من القراءات لكن لا يقرأ بشيء من هذه الوجوه إلا إذا كانت منقولة بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها وحي. ومن ثم كانت القراءات العشر وهي غير الأحرف إذ قد تكون القراءة الواحدة مكونة من أكثر من حرف ... فالرسم العثماني الموجود، بنسخه المتعددة حفظ لنا أشياء من الأحرف السبعة لكن لا نستطيع القول إنه حفظ لنا الأحرف السبعة جميعها وإن كانت القراءات العشر محفوظة جميعها في الرسم العثماني وهذا يؤكد أن الأحرف غير القراءات وإن كانت القراءات أثراً عن الأحرف السبعة. والقراءات نوعان: قراءات شاذة، وقراءات معتمدة فالقراءات المعتمدة هي ما اجتمع فيها ثلاثة شروط: نقلها تواتراً وموافقتها للرسم العثماني وموافقتها لوجه من أوجه العربية وما لمي توافر فيه شروط من هذه الشروط الثلاثة. وما لم يجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة فإنه الشاذ الذي لا يعتبر قرآناً على أنه إذا جاءت قراءة متواترة توافق الرسم لا يجوز أن يقال إن اللغة لا تؤيدها لأن القرآن هو الحاكم على اللغة لا العكس. والقراءات المعروفة التي توافرت فيها هذه الشروط عشر قراءات فما خالفها في شيء ما فإنه شاذ. وههنا عدد من الأمور تحتاج إلى توضيح وإن كان مر معنا بعضها. أولاً: إن هذه القراءات العشر هي التي وصلتنا وقد اجتمعت فيها الشروط وهناك قراءات قد اجتمعت فيها هذه الشروط ولم تصلنا لانقطاع أسانيدها بانعدام جود من يتحملها. ثانياً: إن هذه القراءات العشر فيها بقية الأحرف السبعة مما وافق الرسم العثماني للمصحف. ثالثاً: إن كلاً من هذه القراءات العشر منقول تواتراً إلا أن من نُسبت إليه من القراء كان أشهر فيها من غيره وأكثر إتقاناً فاشتهرت به مع أن كثيرين مثله قد أخذوا قراءته ومن ههنا نعطيها حكم التواتر. رابعاً: يلاحظ أن كل إمام من أئمة القراءات العشر كان له أكثر من راوٍ وهناك
اختلافات بسيطة بين رواية راوٍ وآخر والسر في ذلك يعود إلى أن الإمام نفسه قد تحمل أكثر من رواية لقراءته فخص أحد تلامذته برواية وخص تلميذاً آخر برواية ثانية. خامساً: يلاحظ أن هناك اختلافات بسيطة في أحكام الأداء بين قراءة وقراءة كما أن هناك اختلافاً فيما يسمى بفرش الأحرف في بعض الكلمات بما يوافق الرسم العثماني للمصحف فبعض القراءات يكون حرف المضارعة فيها الياء وبعضها التاء وكل ذلك منقول تواتراً وقد حفظت هذه الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم كتاب ربها حفظاً منقطع النظير لوحظ فيه حقوق الحرف ومستحقاته إلى غير ذلك. وأما القراءات الصحيحة [التي لم تتواتر] الشاذة فهي لا تعتبر قرآناً ولكنها تخدم القرآن من حيث إنها تعتبر شارحة أو مفسرة أو مبينة لإجمال إلى غير ذلك. سادساً: إن الاختلاف في الأحرف السبعة وكذا في القراءات اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد أو تناقض فقد يكون الاختلاف في اللفظ فحسب والمعنى واحد ككلمتي (الصراط) و (السراط) وقد يختلف المعنيان ولكن يمكن الجمع بينهما كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} وقراءة {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينَ}. فيكون لكل قراءة معنى خاص بها ويمكن الجمع بين المعنيين وقد تختلف القراءتان من حيث المعنى لكن ليس بين المعنيين تناقض أو تضاد من ذلك قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} ومعناها أن الشيطان أوقعهما بالزلة والخطيئة وفي قراءة {فأزالهما الشَّيْطَانُ عَنْهَا} ومعناها أزاحهما وأبعدهما ... فهذان معنيان متغايران ولا يتناقضان بل يتكاملان .. سابعاً: في فهم الأحرف السبعة يجب ملاحظة أمرين اثنين مهمين: الأول: أن يكون في هذا الاختلاف تحقيق يسر ورخصة كما هو منطوق النصوص التي ستمر معنا. الثاني: أن يكون هذا الاختلاف أياً كان شأنه قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فالذين قالوا إن من الأحرف السبعة الاختلاف في الزيادة والنقص ونحو ذلك ويضربون على ذلك الأمثلة. نقول إن قبول هذا متوقف على ورود النص المتواتر وإلا فلا
يجوز ذلك .. وكذا ما يتعلق باللهجات واللغات فإن ورد النص الصحيح كان ذلك من الأحرف وإلا فلا. وفي حكمة تنزل القرآن على سبعة أحرف وتعدد القراءات وفي حكمة وجود القراءات الشاذة قال صاحب مناهل العرفان ما نختصر لك بعضه: إن الحكمة في نزول القرآن على الأحرف السبعة هو التيسير على الأمة الإسلامية كلها، خصوصاً الأمة العربية التي شوفهتْ بالقرآن، فإن كانت قبائل كثيرة، وكان بينها اختلاف في اللهجات ونبرات الأصوات، وطريقة الأداء وشهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات على رغم أنها كانت تجمعها العروبة، ويوحِّدُ بينها اللسان العربيُّ العام. فلو أخذتْ كلها بقراءة القرآن على حرف واحد، لشق ذلك عليها ... قال المحقق ابن الجزري: "وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها شرفاً لها، وتوسعة ورحمةً وخصوصيةً لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق ... وكان العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفةٌ وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغةٍ إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر. بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ، والمرأة، ومن لم يقرأ كتاباً كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فلو كُلِّفُوا العدول عن لغتهم، والانتقال عن ألسنتهم، لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلفُ وتأبى الطباع" ا. هـ. (ومن الحكم): جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسانٍ واحدٍ يوحد بينها، وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيراً من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة. فكان القرشيون يستملحون ما شاؤوا، ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوْب وحدَب ثم يصقلونه ويهذبونه ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة، التي أذعن جميع العرب لها
بالزعامة، وعقدوا لها راية الإمامة. ومنها بيان حكم من الأحكام، كقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} قرأ سعد بن أبي وقاص "وله أخُ أو أخت من أمْ" بزيادة لفظ "من أمٍ" [وهذه قراءة شاذة لكنها تفسر نصاً] فتبين بها أن المراد بالإخوة في هذا الحكم الإخوة للأم دون الأشقاء ومن كانوا لأب، وهذا أمرٌ مجمع عليه. ومثل ذلك قوله ذلك قوله سبحانه في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وجاء في قراءة: "أو تحْريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ" بزيادة لفظ "مؤمنةٍ" (وهي قراءة شاذة) فتبين بها اشتراطُ الإيمان في الرقيق الذي يعتق كفارة يمين. وهذا يؤيد مذهب الشافعي ومن نحا نحوه في وجوب توافر ذلك الشرط. ومنها الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين، كقوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قرئ بالتخفيف والتشديد في حرف الطاء من كلمة "يطهرنَ" ولا ريب أن صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في طهر النساء من الحيض لأن زيادة المبنَى تدلُّ على زيادة المعنى، أما قراءة التخفيف فلا تفيد هذه المبالغة، ومجموع القراءتين يحكم بأمرين: أحدهما أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر، وذلك بانقطاع الحيض. وثانيهما أنها لا يقربها زوجها أيضاً إلا إن بالغت في الطهر وذلك بالاغتسال، فلابد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء. وهو مذهب الشافعي ومن وافقه أيضاً. ومنها الدلالة على حكمين شرعيين ولكن في حالين مختلفين: كقوله تعالى في بيان الوضوء {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قرئ بنصب لفظ "أرجلكم" وبجرها، فالنصب يفيد طلب غسلها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ "رؤوسكم" المنصوب، وهو مغسول. والجرُّ يفيد طلب مسحها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ "رؤوسكم" المنصوب، وهو مغسول. والجرٌّ يفيد طلب مسحها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ "رؤوسكم" المجرور وهو ممسوح. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسح يكون للابس الخف وأن الغسل يجب على من لم يلبس الخف.
ومنها دفع توهم ما ليس مراداً كقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقرئ "فامضوا إلى ذكر الله". [وهي قراءة شاذة]. فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوبُ السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة، ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضيَّ ليس من مدلوله السرعة. ومنها بيان لفظ مبهم على البعض نحو قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وقرئ "كالصوف المنفوش" [وهي قراءة شاذة] فبينت القراءة الثانية أن العهن هو الصوف. ومنها تجلية عقيدةٍ ضل فيها بعضُ الناس: نحو قوله تعالى في وصف الجنة وأهلها: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} جاءت القراءة بضم الميم وسكون اللام في لفظ (وملكاً كبيراً) وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة، لأنه سبحانه هو الملك وحده في تلك الدار {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. والخلاصة: أن تنوع القراءات، يقومُ مقام تعدد الآيات. وذلك ضربٌ من ضروب البلاغة، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز. أضفْ إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل القرآن كله على تنوع قراءاته، يُصدِّق بعضه بعضاً، ويبينُ بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدفٍ واحدٍ من سموِّ الهداية والتعليم. وذلك- من غير شكٍ - يفيدُ تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف. ومعنى هذا أن القرآن يعجزُ إذا قرئ بهذه القراءة، ويُعجزُ أيضاً إذا قُرئ بهذه القراءة الثانية، ويُعجز أيضاً إذا قُريء بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرا. ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الووه والحروف!.
ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد صلى الله عليه وسل، لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناحٍ جمة في الإعجاز وفي البيان، على كل حرف ووجه، وبكل لهجة ولسان {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} ا. هـ مناهل العرفان. وإلى النصوص:
النصوص
النصوص 2447 - * روى الجماعة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ هشام بن حكيم ابن حزامٍ يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعْت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرةٍ، لم يُقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدْتُ أُساورُهُ في الصلاة، فتربَّصْتُ حتى سلم، فلبَبْتُهُ بردائِه، فقلت: من أقرْرأك هذه السورة التي سمِعْتُك تقْرَؤها؟ قال: أقْرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقودُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعتُ هذا يقرأ سورة الفرقان على حروفٍ لم تُقْرِئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله، اقرأْ يا هشامُ" فقرأ عليه لقراءة التي كنتُ سمعته يقرأن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أُنْزِلتْ" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأْ يا عمرُ" فقرأتُ القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنْزِلتْ، إنَّ هذا القرآن أُنْزِلَ على سبعةِ أحرفٍ، فاقرؤوا ما تيسر منهُ". ولكن، نقول إن الكلمة الواحدة قد يقرها القرشي بلغته والهذلي بلغته. أقول (1): قوله عله الصلاة والسلام في القراءتين (هكذا أنزلت) دليل على أن الأحرف
السبعة كلها وحي رباني وأنها كلها مأخوذة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا على ما تلقنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام ابن الأثير في تفسير الأحرف السبعة وجه من الوجوه التي فسرت بها الأحرف السبعة، والرسم العثماني جمع الناس على لغة قريش لأن القرآن نزل على قرشي وأجمع الصحابة على الرسم العثماني للمصحف فكان إجماعهم دليلاً على أن ما خالف الرسم العثماني روعيت فيه المرحلية في الخطاب، وما كان الصحابة ليجمعوا إلا على شيء قامت عليه الأدلة سواء عرفناها، أو لم نعرفها. 2448 - * روى مسلم عن أُبيٍّ بن كعب رضي الله عنه قال: كنتُ في المسجد، فدخل رجل يُصلي، فقرأ قراءة أنكرتُها، ثم دخل آخر، فقرأ قراءةً سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنَّ هذا قرأ قراءة أنكرتُها عليه: فدخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسُقط في نفسي من التكذيب، ولا إذْ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله لعيه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري، ففضْتُ عرقاً، وكأنما أنظرُ إلى الله عز وجل فرقاً، فقال لي: "يا أبيُّ، أرسل إليَّ: أن اقرأ القرآن على حرفٍ، فرددْتُ إليه: أنْ هونْ على أمتي، فردَّ إليَّ الثانية: أن اقرأهُ على حرفين، فرددتُ إليه: أن هونْ على أمتي، فردَّ إليَّ الثالثة: أن اقرأهُ على سبعة أحرف، ولك بكلِّ ردةٍ رددْتُكهَا مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفرْ لأمتي، وأخرْتُ الثالثة ليومٍ يرغبُ إليَّ الخلقُ كلُّهُم حتى إبراهيمُ". وفي رواية (1) أخرى قال: إن النبي صلى الله عليه سلم كان عند أضاة بني غفارٍ، فأتاه جبريلُ عليه السلام، فقال: إن الله يأمرُك أنْ تقرأ أُمَّتُك القرآن على حرفٍ، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنَّ أمتي لا تُطيقُ ذلك، ثم أتاه الثانية، فقال إن الله يأمُرك أنْ تقرأ أمتُك القرآن على حرفين، فقال: أسألُ الله معافاته ومغفرته، وإنَّ أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمَّتُك القرآن على ثلاثة
أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنَّ أمتي لا تطيق ذلك: ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيُّما حرفٍ قرؤوا عليه فقد أصابُوا. وفي رواية (1) لأبي داود عن أُبيِّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أُبيُّ، إني أُقْرِئتُ القرآن، فقيل لي: على حرفٍ أو حرفين؟ فقال الملكُ الذي معي: قل: على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملكُ الذي معي: قل: على ثلاثة، قلت: على ثلاثةٍ، حتى بلغ سبعة أحرفٍ، ثم قال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ، إن قلت: سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً، ما لم تختِمْ آية عذابٍ برحمةٍ أو آية رحمةٍ بعذاب". وفي رواية (2) للنسائي عن أُبيِّ قال: ما حاك في صدري منذ أسلمتُ، إلا أني قرأتُ آيةً، وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت، أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسول الله، أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم" وقال الآخرُ: ألمْ تُقْرِئني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم، إنَّ جبريل وميكائيل، أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيلُ عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرفٍ، وقال: ميكائيلُ استزدْهُ، حتى بلغ سبعة أحرفٍ، وكلُّ حرفٍ شافٍ كافٍ". وأخرج الترمذي (3) عن أبيِّ بن كعبٍ هذا المعنى بغير هذا اللفظ مُختصراً قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: يا جبريل، بُعثْتُ إلى أمةٍ أُمِّيِّنَ، فيهم العجوز والشيخُ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قطُّ، فقال: يا محمدُ إنَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرفٍ.
أقول: وفي الرواية الثانية لمسلم أن أصل التكليف كان بحرف واحد والظاهر أنه كان بحرف قريش، وأن ما زاد على ذلك من الأحرف السبعة كان رخصة روعي فيها حال العرب وقت تنزل القرآن. ولعل هذا يصلح دليلاً للإجماع على رسم واحد للقرآن، وقوله: إن قلت سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً لا يعني هذا أن الإنسان مخير في أن يبدل كلمة بكلمة بل المراد إذا أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حرف فهو قرآن، ويفهم من ذلك أن الأحرف السبعة قبل الرسم العثماني للمصحف تشمل هذه الصورة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض الآيات تختم بأكثر من خاتمة على أن يحافظ القاريء على ما تلقنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث إشارة إلى ما لا يبطل الصلاة كما أن فيه نموذجاً عملياً على الحال الذي كان يحدث للصحابة حال اجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى ما يغلب القلب أحياناً من وساوس ليست محل مؤاخذة ما دام الإنسان يجاهدها. 2449 - * روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرفٍ، فراجعتُه فزادني، فلم أزل أستزيده ويزيدُني، حتى انتهى إلى سبعة أحرفٍ" قال ابن شهابٍ: بلغني أن تلك السبعة الأحرف: إنما هي في الأمر الذي يكون واحداً، لا يختلفُ في حلال ولا حرام. أقول: يفيد النص أن الأحرف السبعة لا تتناقض، ولو أن الأحرف السبعة وصلتنا لكان فيها مظهر من مظاهر الإعجاز (1)، ولوجدنا فيها علماً كثيراً حول طرائق العرب في الخطاب ولهجاتهم المختلفة وتعبيراتهم عن المعنى الواحد بألفاظ متعددة ولكن هذه المصالح
أهدرها الصحابة أمام مصلحة توحيد الأمة على رسم واحد للمصحف، وفيما فعلوه كل الخير. 2450 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ آية سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها على خلاف ذلك، قال: فأخذت بيده، فانطلقْتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له، فعرفْتُ في وجهه الكراهية وقال: "اقرأ، فكلاكُما مُحْسِن، ولا تختلفُوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكُوا". أقول: هذا النص يفيد أن من قرأ شيئاً من القرآن على قراءة أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح لأحد أن ينكر عليه، ولكن بعدما أجمعت الأمة على الرسم العثماني للمصحف فلا يصح لأحد أن يعتب رما خالفه قرآنا لأن هذا الرسم مجمع عليه وغيره ليس كذلك، وهو منقول بروايات آحاد، أما القراءات المتواترة فليس لأحد أن ينكر على من قرأ بواحدة منها، وهي من بقايا الأحرف السبعة وليست هي الأحرف السبعة، إلا أنها توافق جميعها الرسم العثماني للمصحف، فإن القُرَّاء بعد أن أجمع الصحابة على الرسم العثماني للمصحف احتفظوا بما يوافقه من القراءات وتركوا ما سواه، فكل ما جاءنا من القراءات المتواترة متفق مع الرسم العثماني للمصحف، لكنه يختلف أحياناً في طرائق الأداء وأحياناً في فرش الحروف كما ذكرنا. 2451 - * روى أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "نزل القرآنُ على سبعة أحرفٍ. المراءُ في القرآن كُفر، ثلاث مراتٍ، فما عَلِمْتُم فاعْمَلوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالِمه" وفي رواية (1) "أُنزِلَ القرآنُ على سبعة أحرف عليماً حليماً غفوراً رحيماً".
2452 - * روى أحمد عن أبي الجهم أن رجلين اختلفا في آيةٍ من القرآن قال هذا تلقنتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الآخر تلقنتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "القرآن يُقرأ على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن مراء في القرآن كُفرٌ". أقول (1): المراء في القرآن بغير علم قد يوقع المتجادلين بالكفر، وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم التحذير ليكون جو الأخذ للقرآن سليماً. * * *
وصل في نماذج عن الأحرف والقراءات
وصل في نماذج عن الأحرف والقراءات 2453 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر - وأُراهُ قال: وعثمان - كانوا يقرؤون {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) بالألف. وقراءة ملك متواترة كهذه القراءة والرسم العثماني يشملها. 2454 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} (2). 2455 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (3) زاد في نسخة بكسر الخاء. 2456 - * روى أبو داود عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (4) زاد في نسخة، بنصب الراء. 2457 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (5) [بالرفع في الأولى].
2458 - * روى أبو داود عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فلتَفْرَحُوا} (1) بالتاء. 2459 - * روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ {هَيْتَ لَكَ} (2) وقال: إنما نقرأُ كما عُلمنا، وعنه: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} (3) يعني بالرفع. وفي رواية (4) أبي داود أنه قرأ (هيتَ لك) [فقال شقيق: إنا نقرؤها (هئتُ)] فقال: ابن مسعودٍ: أقرؤُها كما عُلِّمْتُ أحبُّ إليَّ. وفي رواية (5) له قال: قيل لعبد الله: إنَّ أُناساً يقرؤون هذه الآية (وقالت: هِئتُ لك)؟ فقال: إني أقرأ كما عُلِّمْتُ أحبُّ إليَّ، (وقالت: هَيْتَ لك).
2460 - * روى الطبراني عن تميم بن حَذلمٍ قال قرأت على عبد الله القرآن فلم يأخذ عليَّ إلا حرفين قلتُ {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (1) قال: {وكل آتُوه داخرين} وقلت {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا} (2) قال: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}. قوله أتوْه بالقصر: قراءة حفص وحمزة، وقرأ الباقون (آتُوه) ممدودة الهمزة مضمومة التاء. وقوله (كذبوا) فيها قراءتان: بالتخفيف كُذبوا وهي قراءة الكوفيين: حمزة والكسائي وعاصم وكُذِّبوا مشددة الذال وهي قراءة الباقين. 2461 - * روى الطبراني عن ابن مسعود أنه كان يقرأ {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}. 2462 - * روى أبو داود عن أُبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قرأ: {بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} (3) مَُقَّلةً". وفي أخرى (4) له قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه، وقال: "رحمةُ الله علينا وعلى موسى، لو صبر لرأى مِنْ صاحبه العجَبَ، ولكنه قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}، طوَّلها حمزَةُ الزَّيَّات.
2463 - * روى أبو داود عن ابن عباس قال: أقرأني أُبيِّ كما أقرأهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}. 2464 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}. قال أبو داود: يعني مخففة الراء، حتى أتى على هذه الآيات. 2465 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} (1) وتقول: الوَلَقُ: الكذبُ. قال ابن أبي مُليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها، لأنه نزل فيها. لم أجد هذه القراءة في عدد من كتب القراءات السبع والعشر وذكرها المفسرون وذكروا
فيها وجوهاً أخرى، والقراءة المشهورة. تلقَّوْنَه. والمعنى التلقي والتلقف بسرعة مع الإلقاء مباشرة دون تفكر وروية وقراءة تلِقُونَه: من ولْقَ الكلام الاستمرار في الكذب انظر [الآلوسي 18/ 119]. 2466 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: - وذكر حديث الوحي- قال: [فذلك] قوله جل ثناؤه {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (1). 2467 - * روى الشيخان عن يعْلي بن أمية رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ {وَنَادَوْا: يَامَالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (2) قال سفيان: في قراءة عبد الله (ونادوا: يا مَالِ). وفي رواية أبي داود (3) والترمذي (4): (يا ماَلِكُ). قال أبو داود: بِلا تَرْخيمٍ. أقول: قراءة الترخيم شاذة لأنها لاتتفق مع الرسم العثماني للمصحف وروي أنه قيل لابن عباس أن ابن مسعود قرأ (ونادوا يا مالِ) فقال ما كان أشغل أهل النار عن الترخيم. قال بعضهم: وهي وإن كانت شاذة إلا أن فيها فائدة بلاغية أنه من شدة العذاب يتقطعون الاسم (مالك) لضعفهم عن إتمامه (قطر الندى 214).
2468 - * روى مالك عن ابن شهاب كان عمر يقرؤها (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله). أقول: قراءة (فامضوا) شاذة لأنها تخالف الرسم العثماني للمصحف لكنها تصلح أن تكون تفسيراً لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا}. 2469 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (1). 2470 - * روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (مُذِّكِر) فردَّها علي {مُدَّكِرٍ} (2). وفي أخرى (3): سمعته يقول: (مُدَّكِر) دالاً. وفي رواية (4) أبي داود: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال أبو داود]: مضمومة الميم مفتوحة الدال مكسورة الكاف. 2471 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ} (1) كنا نفعُ الخشبة للشتاء ثلاثة أذرعٍ أو أقلَّ، ونسميه، القصر {كَالْقَصْرِ} (2) حبال السفن تُجمعُ، حتى تكون كأوساط الرجال. أقول: القراءة المشهورة {كَالْقَصْرِ} أي كالقصر في العظم ليست كالشجر والجبال .. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير {كالقَصَر} وهي أصول النخل والشجر، ومنه الخشبة التي كانت ترفع للشتاء وطولها ثلاثة أذرع أو أقل من أجل المدفئة والإحراق أيام البرد فقد ذكر ابن عباس أنهم كانوا يسمونها القصر. 2472 - * روى أبو داود عن أبي قلابة عمن أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} (3). هناك قراءتان سبعيتان متواترتان بقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} فقراءة حفص ومن وافقه على بناء يعذب ويوثق للمعلوم أي بكسر الذال والثاء. وقرأ الكسائي ووافقه يعقوب وآخرون بفتح الذال والثاء على البناء للمجهول فكانت قراءتهما لا يعذب عذابه أحد ولا يوثَقُ وثاقه أحد. انظر [الغاية في القراءات العشر: 292]. وانظر كتاب [الإقناع في القراءات السبع (2/ 180)]. وجاءت هذه الرواية تقرر قراءة الكسائي بفتح ذال يعذَّب وثاء يوثَق. 2473 - * روى الشيخان عن علقمة رحمه الله قال: قدم أصحاب عبد الله بن مسعود على أبي الدرداء رضي الله عنهما، فطلبهم فوجدهم، فقال: أيُّكم يقرأ قراءة عبد الله؟ قالوا: كُلُّنا، قال: فأيُّكم أحفظُ؟ فأشاروا إلى علقمة، قال: كيف سمعته يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (1) قال: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} قال أبو الدرداء: والله لا أتابعهم، ثم قال أبو الدرداء: أنت سمعته مِنْ في صاحبك؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يأبون علينا. وفي رواية (2): أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدونني أن أقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} والله لا أتابعهم عليه. ولمسلم (3) قال: أتى علقمةُ الشام، فدخل مسجداً، فصلى فيه، ثم قام إلى حلقةٍ، فجلس فيها، قال: فجاء رجلٌ فعرفتُ فيه تحوُّشَ القوم وهيْئتَهُمْ، قال: فجلس إلى جنبي، ثم قال: أتحفظُ كما كان عبد الله يقرأ فذكر بمثله.
مسائل وفوائد
مسائل وفوائد - يجد القارئ لكتب اللغة والنحو كثيراً من الكلام عما اختصت به بعض القبائل من لغات أو نطق لبعض الحروف أو طرائق أداء، وهذا كله يمكن أن يستأنس به لمعرفة الأحرف السبعة دون الجزم بأي منها على أنها من الأحرف السبعة وقد توسع الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب) في عرضه لهذه الموضوعات ومما ذكره في هذا الموضوع: ورأينا أن نقسم أنواع الاختلاف التي جمعناها إلى خمسة أقسام: (1) لغات منسوبة ملقبة. (2) لغات منسوبة غير ملقبة تجري في إبدال الحروف. (3) لغات من ذلك في تغير الحركات. (4) لغات غير منسوبة ولا ملقبة. (5) لغة أو لثغة في منطق العرب. النوع الأول: ومن أمثلته: (1) الكشكشة: وهي في ربيعة ومضر: يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيناً، فيقولون في رأيتك: رأيتكش، وبكش وعليكش؛ وهم في ذلك ثلاثة أقسام: قسم يثبت الشين حالة الوقف فقط، وهو الأشهر؛ وقسم يثبتها في الوصل أيضاً؛ وقسم يجعل الشين مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف، فيقولون في مررت بك اليوم: مررت بشِ اليوم، وفي مررت بِكْ- في الوقف - مررت بِشْ. وقد تروى الكشكشة لأسد وهوازن، وقال ابن فارس في فقه اللغة: إنها في أسد. (2) الكسكسة: وهي في ربيعة ومضر أيضاً: يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سيناً على ما تقدم؛ وقصدوا بالفرق بين الحرفين، السين والشين، تحقيق الفرق بين
المذكر والمؤنث في النطق. ونقل الحريري أن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر، وهي فيما نقله زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر. وروى صاحب القاموس أنها لتميم لا لبكر، وفسرها كما فسر الحريري. (3) الشنشنة في لغة اليمين: يجعلون الكاف شيناً مطلقاً، فيقولون في لبيك اللهم لبيك، لبيش اللهم لبيش. (4) العنعنة في لغة تميم وقيس: يجعلون الهمزة المبدوءة بها عيناً، فيقولون في إنك: عِنك، وفي أسلم: عَسْلم، وفي إذن: عِذَن، وهلم جرا. (5) الفحفحة في لغة هذيل: يجعلون الحاء عيناً، فيقولون في مثل حلت الحياة لكل حي: علت العياة لكل عيّ. (6) العجعجة في لغة قضاعة: يجعلون الياء المشددة جيماً فيقولون في تميمي "تميمج"؛ وكذا يجعلون الياء الواقعة بعد عين، فيقولون في الراعي: الراعج، وهكذا - وسيأتي في النوع الثاني عكس هذه اللغة - وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا فلا تكاد تظهر حروفهم، وقد سمى العلماء ذلك منهم "غمغمة قضاعة". (7) الوتم في لغة اليمن أيضاً: يجعلون السين تاء: فيقولون في الناس: النات، وهكذا. (8) الوكم في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب يكسرون كاف الخطاب في الجمع متى كان قبلها ياء أو كسرة، فيقولون في عليك وبكم: عليكِمِ وبكِمِ. (9) الوهم في لغة كلب: يكسرون هاء الغيبة متى وليتها ميم الجمع مطلقاً "والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة نحو عليهم وبهم" فيقولون في منهم وعنهم وبينهم؛ منهمِ وعنهِم وبينهِم. (10) الاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار يجعلون العين
للساكنة نوناً إذا جاورت الطاء، فيقولون في أعطى: أنطى وعلى لغتهم قرئ شذوذاً: "إنا أنطيناك الكوثر". (11) التلتلة في بهراء، وهم بطن من تميم، وذلك أنهم يكسرون أحرف المضارعة مطلقاً، وقد ذكر سيبويه في الجزء الثاني من كتابه مواضع يكون فيها كسر أوائل الأفعال المضارعة عاماً في لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز وذلك في نحو مضارع "فعل" إذا كانت لامه أو عينه ياءً أو واواً، نحو وجِلَ وخشَى، مثلاً، فيقولون: نيجل ونخشى؛ وهكذا، فراجعه في الكتاب فإن فيه تعليلاً حسناً. وقال في آخر هاذ الفصل: إن بني تميم يخالفون العرب ويتفقون مع أهل الحجاز في فتح ياء المضارعة فقط (12) القُطعة في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في مثل يا أبا الحكم يا أبا الحكا. وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو، لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام. (13) اللخلخلانية: وهي تعرض في لغة أعراب الشحّر وعُمان، فيحذفون بعض الحروف اللينة، ويقولون في نحو ما شاء الله: مشاالله. ومن لغات الشحر المرغوب عنها ما نقله صاحب المخصص من أن بعضهم يقول في السيف: شَلقَى. (14) الطُّمطُمانية في لغة حِمْير: يبدلون لام التعريف ميماً، وعليها جاء الحديث في مخاطبة بعضهم: "ليس من امْبِرِّ امْصِيامُ في امْسفر": أي ليس من البر الصيام في السفر. النوع الثاني: لغاتُ منسوبة غير ملقبة عند العلماء، ومن أمثلته: (1) في لغة فُقيم [دارم] يبدلون الياء جيماً، ولغتهم في ذلك أعمُّ من لغة قضاعة التي مرت في النوع الأول؛ لأنها غير مقيدة، فيقولون في بختي وعليّ؛ بختجٌّ وعلجٌّ. (2) في لغة مازن يبدلون الميم باءً والباء ميماً، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن: اطبئن.
ومما يريدونه: أن الخليفة الواثق المتوفى سنة 232 لما قدم عليه أبو عثمان المازني سأله: ممن الرجل؟ فقال: من بني مازن. قال: أي الموازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟ قال: من مازن ربيعة فكلمه الواثق بكلام قومه وقال: (باسْبُك)؟ يريد: ما اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميماً، قال المازني: فكرهت أن أحبيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر- لأن اسمه بكر - فقلت: بكر يا أمير المؤمنين! فأعجبه ذلك وقال لي: اجلس فاطبئن. يريد: اطمئن ... (3) في لغة طيء يبدلون تاء الجمع هاء إذا وقفوا عليها، إلحاقاً لها بتاء المفرد؛ وقد سمع من بعضهم. "دفن البناه، من المكرماه" يريد: البنات، والمكرمات؛ وحكى قطرب قول بعضهم: كيف البنون والبناه، وكيف الإخوة والأخواه؟ وسيأتي في النوع الرابع عكس هذه اللغة. (4) في لغة طيء أيضاً يقلبون الياء ألفاً بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كل ماضٍ ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنياً للمجهول، فيقولون في رضي وهُدي رضا وهدى؛ بل ينطِقون بها قول العرب: "فرسٌ حظية بظية" فيقولون. حظاة بظاة، وكذلك يقولون: النصاة، في الناصية. ومن لغتهم أنهم يحذفون الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكِّد بالنون، فيقولون في: اخْشينَّ وارمينَّ ... إلخ. اخْشَنَّ وارِمِنَّ. وجاء من ذلك في الحديث الشريف على لغتهم: "لتُؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها" تنسب هذه اللغة إلى فزارة أيضاً كما تنسب إلى طيئ. (5) في لغة طيئ على ما رواه ابن السكيت أنهم يبدلون في الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون هِنْ فعلتُ، يريدون: إن فعلت. (6) في لغة تميم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياءً على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو مبيع مبيوع؛ ولكنهم لا يفعلون ذلك إذا كانت عين الفعل واواً إلا ما ندر، بل يتبعون فيه لغة الحجازيين، نحو: مَقُول ومصوغ؛ وهكذا.
(7) في لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياءً ثم يدغمونها، توصلاً إلى كسر ما قبل الياء، فيقولون في عصاي وهواي: عصيّ وهويّ. ولا يفعلون ذلك إلا إذا كانت الألف في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو "فتياي" بل يوافقون الجمهور في إبقائها دون قلب، كأنهم كرهوا أن يزيلوا دلالتها على المعنى الذي أُلحقت بالكلمة له. (8) في لغة فزارة وبعض قيس يقلبون الألف في الوقف ياءً، فيقولون: الهُويْ وأفعي وحُبليْ. ومن تميم من يقلب هذه الألف واواً فيقول: "الهُدوْ وأفعوا وحبلو" ومنهم من يقلبها همزة فيقولك الهُدأ وأفعأ وحُبلأ". وقريب من قلب الألف واواً ما رواه ابن قتيبة عن ابن عباس: "لا بأس بلبس الحِذَوْ للمحرم": أي الحذاء وهو دليل على أن من بعض لغاتهم قلب الألف مطلقاً واواً. (9) في لغة خثعم وزبيد يحذفون نون "مِنْ" الجارة إذا وليها ساكن، قال شاعرهم: لقد ظفر الزوار أقفية العدا بما جاوز الآمال مِ الأسر والقتلِ وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفها كثير من الشعراء فتعاوروها. (10) في لغة بلحرث يحذفون الألف من "على" الجارة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الأرض، علأرضِ، وهكذا. (11) في لغة قيس وربيعة وأسد أهل نجد من بني تميم، يقصرون "أولاء" التي يشار بها للجمع ويلحقون بها "لاماً" فيقولون: "أُولالك. (12) في لغات أسماء الموصول: بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الفعل، وعلى لغتهم قول الفرزدق:
أبني كليب، إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلال وقول الأخطل: هما اللتا لو ولودت تميمُ ... لقيل، فخْر لهمُ صميمُ وتميم وقيس يثبتون هذه النون ولكنهم يشددونها، فيقولون: اللذان، واللتان؛ وذلك في أحوال الإعراب الثلاثة، وللنحاة في حكمة هذا التشديد أقوال ليست من غرضنا. وطيء تقول في الذي ذو، وفي التي ذات. ولا يغيرونهما في أحوال الإعراب الثلاثة رفعاً ونصباً وجراً. وقال أبو حاتم: إن "ذو" الطائية للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وإعرابها بالواو في كل موضع. وسيأتي في النوع الرابع بعض لغات غير منسوبة في أسماء الموصول. (13) في لغة ربيعة يقفون على الاسم المنون بالسكون في كل أحوال الإعراب، فيقولون: رأيت خالدْ، ومررت بخالدْ، وهذا خالدْ؛ وغيرهم يشاركهم إلا في النصب. وفي لغة الأزد يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة فيقولون جاء خالدو، ومررت بخالدي. وفي لغة سعد يضعفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكناً، فيقولون: هذا خالدّ، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر. (14) في لغة بلحرث وخثعم وكنانة يقلبون الياء بعد الفتحة ألفاً، فيقولون في إليك وعليك ولديه: "إلاك، وعلاك، ولداهُ". ومن لغتهم أيضاً إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجراً؛ وذلك لقلبهم كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفاً؛ فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان؛ وأنشد ابن فارس في فقه اللغة لبعضهم: تزود منا بين أذناه ضربةً ... دعته إلى هابي التراب عقيم
غير أنه خص هذه اللغة ببني الحارث بن كعب. قال ابن جني في "سر الصناعة": إن من العرب من يقلب في بعض الأحوال الواو والياء. الساكنتين ألفين للفتحة قبلهما، وذلك نحو قولهم في الحيرة: حاري؛ وفي طييء: طائي. (15) ذكر المبرد في "الكامل" أن بني سعد بن زيد مناة، ولخم من قاربها، يبدلون الحاء هاء لقرب المخرج، فيقولون في مدحته. مدهتُه؛ وعليه قول رؤبة: * لله در الغانيات المدّه * أي المدّح؛ وفي هذه الأرجوزة: * برَّاق أصلاد الجبين الأجله * أي الأجلح. وقال في موضع آخر: العرب تقول: هودج، وبنو سعد بن زيد مناة ومن وليهم يقولون: فودج؛ فيبدلون من الهاء فاءً. وفي أمالي ثعلب: أزد شنوءة تقول: تفكهون، وتميم يقولون تفكنون، بمعنى تعجبون. وأمثلة الاختلاف من هذا الضرب غير قليلة. (16) في أمالي القالي عن أبي زيد أن الكلابيين يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك في الاستفهام إذا أنكروا أن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو أن يكون على خلاف ما ذكر. فإذا قلت: رأيتُ زيداً، وأنكر السامع أن تكون رأيته قال: زيداً إنيه! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيدنِّيه! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت. وهذه الزيادة تجري في لغة غيرهم على النحو الذي تسمعه في لغة العامة من مصر، فإنك إذا قلت لأحدهم: رأيتُ الأسد، يقول: أسد إيه! فالعرب تحرّك آخر الكلمة إذا كان ساكناً وتلحق به الزيادة، فإذا قال رجل: رأيت زيداً، قالا: أزَيْدنيه! ويقول: قدم
زيدٌ فتقول: أزيْدُنيه! أما إذا كان آخر الكلمة مفتوحاً فإنهم يجعلون الزيادة ألفاً، ويجعلونها واواً إذا كان مضموماً، وياءً إذا كان مكسوراً، فإن قال: رأيت عثمان، قلت: أعثماناه! ويقول: أتاني عمر، فتقول: أعمروه! وهكذا. فإن كان الاسم معطوفاً عليه أو موصوفاً، جعلوا الزيادة في آخر الكلام؛ يقال: رأيت زيداً وعمراً، فتقول: أزيداً وعمرنيه! ويقال: ضربت زيداً الطويل، فتقول: أزيداً الطويلاه! وذكر سيبويه أنه سمع رجلاً من أهل البادية وقيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنيه! وإنما أنكر أن يكون رأيه على خلاف الخروج وسيأتي وصف لغة أخرى للحجازيين في النوع التالي: النوع الثالث: وهو من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات؛ ومن أمثلته: (1) "هلُمَّ" في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة "بمنزلة رُوَيدَ"، على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً؛ وتلزم في كل ذلك الفتح؛ وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد؛ فيقولون هَلُمَّ يا رجل، وهَلُمِّي، وهلُمُّوا، وهلْمُمن؛ وإذا أسندت لمفرد لا يكسرونها كما قال سيبويه، فلا يقولون: هلِمّ يا رجل، ولكنها تُكسَر في لغة كعب وغني. (2) في لغة تميم يكسرون أول فعِيل وفَعِل إذا كان ثانيهما حرفاً من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لئيم، ونحيف .. إلخ، بكسر الأول، ويقولون: هذا رجلٌ لِعبٌ، ورجلٌ محِكٌ وهذا ماضغٌ لهِمٌ "كثير البلع" وهذا رجل وغِلٌ "طفيلي على الشراب"، وفِخِد، ونحوها كل ذلك في لغتهم بالكسر وغيرهم بفتحه؛ وقد نقل صاحب المخصص في ذلك تعليلاً حسناً يرجع إلى الأسباب اللسانية. (3) في لغة خزاعة يكسرون لام الجر مطلقاً مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر ويفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم؛ فيقولون: المال لِك ولِهُ. ونقل اللحياني ذلك عن خزاعة أيضاً.
وفي "سر الصناعة" لابن جني عن أبي عبيدة والأحمر ويونس، أنهم سمعوا العرب تفتح اللام الجار مع المظْهَر، وقال أبو زيد: سمعت من يقول: وما كان الله ليعذبهم؛ وفي لغة هؤلاء يقولون: المال للرجل؛ ومثل هذه اللغة في عامية الشام. ولكن العرب إجماعاً "ومنهم خزاعة" على كسر اللام إذا اتصلت بياء المتكلم فلا يفتحها منهم أحد. (4) هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقاً إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لديه وعليه؛ ولغة غيرهم كسرها، وعلى منطق أهل الحجاز قرأ حفص حمزة: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} و {عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} وهي القراءة المتبعة أما غيرهم من القراء فيكسر الهاء. (5) في لغة بني مالك من بني أسد يضمون هاء التنبيه؛ فيقولون في يا أيها الناس، يا أيُّهُ الناسُ ويا أيُّهُ الرجلُ؛ إلا إذا تلاها اسم إشارة، نحو: أيُّهذا، فإنهم يوافقون فيها الجمهور. (6) في لغة بني يربوع- وهم من بني تميم - يكسرون ياء المتكلم إذا أضيف إليها جمع المذكر السالم فيقولون في نحو ضاربيَّ ضاربيِّ، وهكذا. (7) في لغة الحجازيين يحكون الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علماً كما نطق به؛ فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيداً، ومررت بزيد، يقولون: من زيدٌ ومن زيداً؟ أما إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علماً موصوفاً: كزيد الفاضل، فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: من الرجلُ؟ ومن زيدٌ الفاضلُ؟ في الأحوال الثلاث. وإذا استفهموا عن النكرة المُعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاءوا في السؤال بلفظة (من)، ولكنهم في حالة الرفع يُلحقون بها واواً لمجانسة الضمة في النكرة المُستفهم عنها، ويلحقون بها ألفاً في حالة النصب، وياءً في حالة الجر؛ فإذا قلت: جاءني رجل، ونظرت رجلاً، ومررت برجل؛ يقولون في الاستفهام عنه: (مَنو؟ ومضنا؟ ومني؟). وكذلك يلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع، فيقولون: (مَنَه)؟ في الاستفهام عن
المؤنثة، منان ومنَيْن؟ للمثنى المذكر، ومنتان؟ ومنتين؟ للمثنى المؤنث، ومنون؟ ومنين؟ للجمع المذكر، ومنات؟ للجمع المؤنث؛ وهكذا كله إذا كان المستفهم واقفاً؛ فإذا وصل أداة الاستفهام جرَّدَها عن العلامة، فيقول: من يا فتى؟ في كل الأحوال. وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: مَنُو، ومنا، ومنِي، إفراداً وتثنية وجمعاً، في التذكير والتأنيث. (8) من لغة الحجازيين أيضاً أنهم يعاقبون بين الواو والياء فيجعلون إحداهما مكان الأخرى؛ والمعاقبة إما أن تكون لغةً عند القبيلة الواحدة، أو تكون لافتراق القبيلتين في اللغتين، وليست بمطردة في لغة أهل الحجاز بين كل واو وياء، ولكنها محفوظة عنهم، فيقولون في الصواغ: الصيَّاغ؛ وقد دَوُخوا الرجل، ودَيَّخوه. وسمع الكسائي بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورُني أي يَضِيرُني- وقوم يقولون في سريع الأوبة: سريع الأيْبَة؛ ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول بعضهم: حكوُت الكلام، أي حكيته؛ وأهل العالية يقولون: القصْوَى، ويقول فيها أهل نجد القُصْيا. وقد وردت أفعال ثلاثية تحكي لاماتها بالواو والياء، مثل: عزوت وعزيْت، وكنوت وكنيْت، وهي قريب من مائة لفظة نظمها ابن مالك النحوي في قصيدة مشهورة. (9) في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافاً، فيقولون في فخذ، والرَّجُل، وكرُم، وعلم: فخْد، وكرم، والرَّجْل، وعلْم. وهذه اللغة كثيرة أيضاً في تغلب، وهو أخو بكر بن وائل. ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خففوا أيضاً فيقولون في العنُق والإبل. العنْق، والإبْل. (10) في "الخصائص" لابن جني عن أبي الحسن الأخفش: أن من لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل. (11) لغات في كلمات: تميم من أهل نجد يقولون: نِهْيٌ، للغدير، وغيرهم يفتحها.
والوُتر في العدد حجازية، والوتر - بالكسر - في الذحل: الثار. وتميم تكسرها جميعاً، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط. اللَّحد واللّحد: للذي يحفر في جانب القبر، والرَّفع والرُّفع: لأصول الفخذين، فالفتح لتميم، والضم لأهل العالية. يقال: وتِد، ووتد. وأهل نجد يُدغمونها فيقولون: وَدّ. وفي لغة بعض الكلابيين يقولون: الدِّواء، وغيرهم يفتحها. والعرب يقولون: شواظ من نار، والكلابيون يكسرون الشين. ويقولون: رُفقة، للجماعة، ولغة قيس كسر الراء. وقالوا: وجنة ووُجنة، وبالكسر لغة أهل اليمامة. أهل الحجاز يقولون: خمس عشرة، وتميم يقولون: خمس عشرة، ومنهم مني فتح الشين. والحجازيون يقولون: لعَمْري، وتميم تقول: رعَمْلي، وتحكي عنهم رعَمْري أيضاً. واللص في لغة طيئ، وغيرهم يقول: اللِّصْت. (12) لغات في الإعراب: في لغة هذيل يستعملون "متى" بمعنى "مِن"، ويجرُّون بها؛ سُمِع من بعضهم: أخرجا متى كُمِّه: أي من كُمه؛ ويروون من ذلك البيت المشهور: شَربْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعتْ ... متى لججٍ خضْرٍ لهُنَّ نئيجُ وفي لغة تميم ينصبون تمييز "كم" الخبرية مفرداً، ولغةُ غيرهم وجوبُ جره وجوازُ إفراده وجمعِه، فيقال: كم درهمٍ عندك، وكم عبيدٍ ملكتَ! وتميم يقولون: كم درهماً، وكم عبداً! في لغة الحجازيين ينصب الخبر بعد "ما" النافية نحو: ما هذا بشراً، وتميم يرفعونه. في لغة أهل العالية ينصبون الخبر بعد "إن" النافية، سُمِع من بعضهم: إنْ أحدٌ خيراً
من أحدٍ إلا بالعافية. الحجازيون ينصبون خبر ليس مطلقاً، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا؛ فيقول الحجازيون: ليس الطيبُ إلا المسك، وبنو تميم: إلا المسكُ. في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما عِلةُ منْعِه الوصفيَّة وزيادة النون، فيقولون: لست بسكرانٍ، ويلحقون مؤنثه التاء، فيقولون: سكرانة. في لغة ربيعة وغنمٍ، يبنون "مع" الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبتُ معه، وإذا وليها ساكن يكسرونها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبتُ مع الرجل، وغنْمٌ: حي من تغلب بن وائل. في لغة بني قيس بن ثعلبة يعربون "لدُن" الظرفية، وعلى لغتهم قرئ: "من لدُنِه علماً". الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزن فعال: كحزام، وقطام، على الكسر في كل حالات الإعراب؛ وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راءً وتمنعها من الصرف للعلمية والعدل؛ فإذا كان آخرها راءً كوبار "قبيلة" وظفار "مدينة" فهم فيها كالحجازيين. في لغة هذيل أو "عقيل" يعربون "الذين" من أسماء الموصول إعرابَ جمع المذكر السالم، قال شاعرهم: نحن الَّذونَ صبَّحوا الصباحا ... يوم النُّخَيل غارةً ملْحاحاً ومن لغة هذيل أيضاً فتح الياء والواو في مثل: بيضات، وهيآت، وعورات، فيقولون: بيضات، وهيآت، وعورات، والجمهور على إسكانها. النوع الرابع: وهو يشمل اللغات التي ذكرها العلماء ولم ينسبوها وتكون في جملتها راجعة إلى تباين المنطق واختلاف اللهجات، وهذا القسم هو اللغة أو أكثرها: لأن الذين دونها جمعوا كل لغات العرب وجعلوها لغة جنسية فلم يميزوا منطقاً من منطق، ولا أفردوا لغة عن لغة؛ إذ
كان ذلك من سبيل خدمة التاريخ اللغوي، وهم إنما أرادوا بصنيعهم خدمة القرآن وعلومه، فلولاه لمضت لغة العرب في سبيل ما تقدمها، ولماتت مع أهلها، وكان من يظفر اليوم بحرف منها فقد أحيا شيئاً من التاريخ. ولو أردنا استغراق هذا النوع لخرجنا بالكتاب عن معناه إلى أن يكون مُعحماً من معاجم اللغة: ولكنا نأتي شيء من نادره ونقتصر على القليل من غريبه مما يجانس ما قدمناه ويتحقق به نوعٌ من أنواع الاختلاف اللساني في العرب، ومن أمثلة ذلك: (1) إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي، والأراني، والضفادي. وفي الصحاح: قد يبدلون بعض الحروف ياء كقولهم: في أمَّا: أيْما وفي سادس: سادي، وفي خامس: خامي. وجاءت لغات الإبدال وكلها غير منسوبة ولا مُسماة، وهي كثيرة؛ ومنها نوع طريف يعدّ من "لغات اللغويين" لأنهم جمعوه ورتبوه؛ وهو في الألفاظ التي يُنطق فيها بلغتين بحيث يؤم التصحيف: كالتي تنطق بالياء والتاء والباء والثاء؛ ونحوها مما يقع في حروفه التصحيف، وهذه الحروف هي: ب ... ت ... ث ... ج ... ح ... خ ... د ... ذ ر ... ز ... س ... ش ... ص ... ض ... ط ... ظ ع ... غ ... ف ... ق ... ك ... ل ... ن ... وفالنون تشتبه بالتاء والثاء، والواو تشتبه بالراء؛ أما سائر الحروف فالاشتباه فيها ظاهر. وعلى أن هذا مما يرجع إلى الخط ويبعد أن يكون العرب أرادوه، ولكن اللغويين وفقوا في عده من لغات الإبدال، ومن أمثلته: الثَّرى والبرى: بمعنى التراب، وثجَّ الجريح ونجَّ: سال دمُه، وفاح الطيب وفاخ وهلمَّ جراً ... (2) من العرب من يجعل الكاف جيماص، فيقول مثلاً: الجعبة، في "الكعبة" وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفْلِطني، في "أفلتني" قال الخليل: وهي لغة تميمية قبيحة.
(3) نقل صاحب المخصص في "باب ما يجيء مقولاً بحرفين وليس بدلاً "أن بعض العرب يقول: أردت عن تفعل كذا، وبعضهم يقول. لألني في "لعلني" وقال في موضع آخر: وفي "لعل" لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي: لعلِّي، لعلني، علِّي، علَّني، لعنِي لغنِّي؛ وأنشد للفرزدق: هل أنتم عائجون بنا لعنَّا ... نرى العرصات أو أثر الخيام وتروى في "لعل" لغة بكسر اللام- لِعلّ-؛ و .... لغة عقيل الجر بلعل وهو مما عزاه إليهم أبو زيد، وغيره يقول إن ذلك في لغة بعض العرب. ومما أورده في هذا الباب: قرأ فما تلعثم، وبعضهم يقول: تلعْزَم. وتضَيَّفَت الشمسُ للغروب، وتضيفت، قال: ومنه اشتقاق الصيف. (4) وفي المخصص أيضاً عن السِّكِّيت في "لغات: عند" تقول: هو عِندي، وعُندي، وعَندي؛ ومنه أيضاً "لدن" فيه ثماني لغات، وهي: لدُن، ولُدُن، ولدّى، ولدُ، ولدْن، ولُدْن، ولَدْ، ولدىً؛ ومنه أيضاً في "الذي" لغات: الذي بإثبات الياء، واللذِ، واللّذْ، واللذيُّ؛ وفي التثنية اللذانِ، واللذانِّ، واللذا؛ وفي الجمع: الذي والذون واللاؤون، واللاءوا، واللائي- بإثبات الياء في كل حال - والأولى؛ وللمؤنث؛ اللائي، واللاء، واللاتي، واللتِ، واللاتْ، واللتان، واللتا، واللتانِّ؛ وجمع التي: اللاتي، واللات، واللواتي، واللوات، واللوا، واللاءِ، واللآتِ. ومن لغات "هو وهي": هُوْ -بالسكون- وهُوّ، وهِيّ، قال بعضهم: وتُحكى فيها لغةً رابعة، وهي أن تحذف الواو والياء وتبقى الهاء متحركة فتقول: هُـ، هِـ. ومن لغات "لا جَرَمَ" على ما رواه الكوفيون: لا جَرَ، ولا ذا جرم، ولا ذا جر، ولا إن ذا جرم؛ ولا عِنّ ذا جرم.
ومن لغات "نعم، حرف الإيجاب": نَعِم، ونِعِم، ونَحَم، بإبدال العين حاءً كما أبدلت الحاء من "حتى" عيناً في فحفحة هذيل فقيل: عَتّى، كما مر في موضعه. (5) بعض العرب يبدل هاء التأنيث تاءً في الوقف، فيقول: هذه أمَتْ، "في أمَهْ" وسُمع بعضهم يقول: يا أهل سورةِ البقرَتْ، فقال مُجيب: ما أحفظ منها ولا آيَتْ! ويؤخذ مما ذكره ابن فارس في فقه اللغة أن هذه اللهجة كانت من اللغات المسماة المنسوبة إلى أصحابها في القرن الرابع، ولكنا لم نقف على نسبتها. النوع الخامس: وهو ما يروونه على أنه لغة في الكلام أو لثغة من المتكلم، كالألفاظ التي وردت بالراء والغين، أو بالراء واللام، أو بالزاي والذال، أو بالسين والثاء، أو بالشين والسين؛ فكل ذلك مما يشك فيه الرواة، لا يجزمون بأنه لغة فرد أو لغة قبيلة، وقد قال الأنباري في شرح المقامات يذكر أنواع اللثغة في منطقهم: اللغثة تكون في السين، والقاف، والكاف، واللام، والراء؛ وقد تكون في الشين. فاللثغة في السين أن تبدل ثاءً، وفي القاف أن تبدل طاءً، وربما أُبدلت كافاً، وفي الكاف أن تبدل همزة، وفي اللام أن تبدل ياءً وربما جعلها بعضهم كافاً؛ وأما اللثغة في الراء فإنها تكون في ستة أحرف: "ع غ ي د ل ط"، وذكر أبو حاتم أنها تكون في الهمزة. ا. هـ. قلنا: وليس ما ذكره أبو حاتم بغريب، فقد رأينا في "بغية الوعاة" في ترجمة ركن الدين بن القوابع النحوي المتوفى سنة 738 أنه كان يلثغ بالراء همزة. وبعضهم يلثغ في اللام فيجعلها تاءً، ويسمونه الأرَتّ؛ أما النطق بالحاء هاء فيسمونه ههَّة، كقول صاحب الصحاح: اللَّهْمسُ لغةٌ في اللَّحْس، أو ههّة. (1/ 140/161).
الفصل الثاني في ترتيب القرآن وجمعه وجمع الناس على رسم واحد وفي حكم تنزيله منجما وفي أول ما نزل وآخر ما نزل
الفصل الثاني في ترتيب القرآن وجمعه وجمع الناس على رسم واحد وفي حكم تنزيله منجماً وفي أول ما نزل وآخر ما نزل وفيه عرض إجمال ونصوص
عرض إجمالي
عرض إجمالي إن مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله عز وجل أنه نزل خلال ثلاثة وعشرين عاماً، وهو مع كونه نزل مفرقاً فإن ترتيب آياته في السورة الواحدة وترتيب سورة على غاية من الكمال هي وحدها معجزة، فنزول القرآن مفرقاً وكونه على هذا الكمال في الترتيب ذلك وحده معجزة. وهذه إحدى حكم نزول القرآن منجماً، وهناك حكم أخرى سنرى بعضها في هذه الفقرة، وقد فصلنا في كتابنا (الأساس في التفسير) المعجزة الكبرى في ترتيب القرآن على ما هو عليه في المصحف العثماني مما يدهش الألباب وذلك يقطع كل لبس في أن ترتيب القرآن كان توقيفياً من الله عز وجل والأدلة على ذلك كثيرة، ولقد اجتمع لهذا القرآن كل لوازم الحفظ تحقيقاً للمعجزة في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) فقد اجتمع له أن حفظته الصدور والسطور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى ما يشاء الله عز وجل. فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة ما يوحى إليه من القرآن كما كان يلقن هذا القرآن لأصحابه تلقيناً ليْحَفظوه ويُحفِّظوه، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن مكتوب وإن كان غير مجموع. وكما كان مكتوباً فإنه كان محفوظاً في الصدور، وكان من توفيق الله لأبي بكر رضي الله عنه أنه جمع القرآن في مصحف واحد، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فجمع النسا على رسم واحد أجمعت عليه الأمة، ولا زال هذا الرسم هو الذي ترسم به كلمات المصحف مع مزيد عناية فيما يخدم إتقان التلاوة. وفي هذه الأمور كلها نصوص وعلوم يتعرض لها العلماء بمناسباتها في كتبهم ومما ذكره صاحب مناهل العرفان حول هذه الشؤون ما يلي: قال صاحب مناهل العرفان في الحكم والأسرار في تنجيم القرآن: (لتنجيم نزول القرآن الكريم [أي في نزوله مفرقاً] أسرارٌ عدةَّ وحِكَمٌ كثيرة، نستطيع أن نُجمِلَها في أرْبع حِكَمٍ رئيسية:
الحكمة الأولى
الحكمة الأولى تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية قلبه، وذلك من وجوه خمسة: الوجه الأول: أن في تجدُّد الوحي وتكرار نزول الملك به من جانب الحق إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، سروراً يملأُ قلب الرسول، وغبطة تشرح صدره. الوجه الثاني: أن في التنجيم تيسيراً عليه من الله في حفظه وفهمه ومعرفة أحكامه وحكمه. الوجه الثالث: أن في كل نوبة من نوبات هذا النزول المنجَّم معجزةً جديدة غالباً حيث تحداهم كل مرة أن يأتوا بمثل نوبة من نُوب التنزيل، فظهر عجزهم عن المعارضة. الوجه الرابع: أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه - المرة بعد الأخرى - تكراراً للذة فوزه وفلجه بالحق والصواب. الوجه الخامس: تعهُّد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يُهَوِّن عليه هذه الشدائد. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (1). الحكمة الثانية التدرُّج في تربية هذه الأمة الناشئة علماً وعملاً. وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضاً: أولها: تيسير حفظ القرآن على الأمة. ثانيها: تسهيل فهمه عليهم كذلك. ثالثها: التهميد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة، وعباداتهم الفاسدة، وعاداتهم المرذولة. وذلك بأن يُراضوا على هذا التخلِّي شيئاً فشيئاً، بسبب نزول القرآن عليهم
الحكمة الثالثة
كذلك شيئاً فشيئاً. رابعها: التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة، والعبادات الصحيحة، والأخلاق الفضالة، بمثل تلك السياسة. خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين، بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفيْنة بعد الفَيْنة والحين بعد الحين، من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين، وما وعد الله به عباده الصالحين، من النصر والأجر والتأييد والتمكين. {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (1). الحكمة الثالثة مُسايرةُ الحوادث والطواريء في تجدُّدها وتفرقها، فكلما جدَّ منهم جديد، نزل من القرآن ما يناسبه، وفصَّل الله لهم من أحكامه ما يوافقه. وتنتظم هذه الحكمة أموراً أربعة: أولها: إجابة السائلين على أسئلتهم عندما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيها: مُجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حُكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها. ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطئون فيها، وإرشادهم إلى شاكلة الصواب في الوقت نفسه. رابعها: كشف حال أعداء الله المنافقين، وهَتْك أستارهم وسرائرهم للنبي والمسلمين. الحكمة الرابعة الإرشاد إلى مصدر القرآن، وأنه كلام الله وحده، وأنه لا يمكن أن يكون كلام [النبي] صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه.
وبيان ذلك أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو مُحْكَمُ السرد دقيق السبْك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضُه برقاب بعض في سوره وآياته وجُمله [هذا مع نزوله منجماً]. وفي جمع القرآن وتدوينه قال الزرقاني: "فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد اتَّخذَ كُتَّاباً للوحي، كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته، مبالغةً في تسجيله وتقييده. وزيادةً في التوثُّقِ والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى، حتى تُظاهر الكتابةُ الحفظ ويُعاضِد النقشُ اللفظ. وكان هؤلاء الكُتاب من خيرة الصحابة، فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاوية، أبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وثابت بن قيس، وغيرهم. وكان صلى الله عليه وسلم يدلهم على موضع المكتوب من سورته، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتباً حسب إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الترتيب بتوقيف من جبريل عليه السلام، فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان يقول "ضعُوا كذا في موضع كذا" ولا ريب أن جبري لكان لا يصدر في ذلك إلا عن أمر الله عز وجل. أما الصحابة- رضوان الله عليهم- فقد كان منهم من يكتبون القرآن، بالمقدار الذي يبلغ الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يلتزموا توالي السور وترتيبها، وذلك لأن أحدهم كان إذا حفظ سورةً أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها، ثم خرج في سَرِيةٍ مثلاً فنزلت في وقت غيابه سورة، فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ثم يستدرك ما كان قد فاته في غيابه، فيجمعه ويتتَّبعه على حسب ما يسهل له، فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير بسبب ذلك. وقد كان من الصحابة من يعتمد على حفظه فلا يكتب جرياً على عادة العرب في حفظ أنسابها، واستظهار مفاخرها وأشعارها من غير كتابة. [ثم] ألقت الخلافة قيادها إلى أبي بكر رضي الله عنه وواجهتْ أبا بكر في خلافته هذه أحداثٌ شِدادٌ ومشاكل صعاب. منها موقعة اليمامة سنة 12 اثنتي عشرة للهجرة. وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة من أتباع مُسَيْلمة الكذاب، وكانت معركة حامية
الوطيس استُشهد فيه كثيرٌ من قُرَّاء الصحابة وحفظتهم للقرآن، ينتهي عددهم إلى السبعين، وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة، من أجَلِّهم سالم مولى أبي حذيفة. ولقد هالَ ذلك المسلمين، وعز الأمر على عمر، فدخل على أبي بكر وأخبره الخبر واقترح عليه أن يجمع القرآن، خشية الضياع بموت الحفاظ وقتل القراء. فتردد أبو بكر أول الأمر لأنه كان وقافاً عند حدود ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يجرَّه التجديد إلى التبديل، أو يسوقه الإنشاء والاختراع، إلى الوقوع في مهاوي الخروج والابتداع. ولكنه بعد مفاوضة بينه وبين عمر تجلَّى له وجهُ المصلحة فاقتنع بصواب الفكرة وشرح الله لها صدره، وعلم أن ذلك الجمع الذي يشير به عمر ما هو إلا وسيلة من أعظم الوسائل النافعة إلى حفظ الكتاب الشريف، والمحافظة عليه من الضياع والتحريف، وأنه ليس من محدثات الأمور الخارجة، ولا من البدع والإضافات الفاسقة. بل هو مُستمدٌّ من القواعد التي وضعها الرسول بتشريع كتابة القرآن، واتخاذ كُتَّاب للوحي، وجمع ما كتبوه عنده حتى مات صلوات الله وسلام عليه قال الإمام أبو عبد الله المحاسبي في كتاب فهم السنن ما نصُّه: "كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مُفرقاً في الرقاع، والأكتاف، والعسُب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكانٍ إلى مكان مجتمعاً، وكان ذلك بمنزلة أوراقٍ وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشراً، فجمعها جامع وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء" ا. هـ. اهتم أبو بكر بتحقيق هذه الرغبة، ورأى بنور الله أن يندب لتحقيقها رجلاً من خيرة رجالات الصحابة هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، لأنه اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن، ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفَّاظ القرآن، ومن كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العَرْضَة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم. وكان فوق ذلك معروفاً بخصوبة عقله، وشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه، واستقامة دينه. فاستشار أبو بكر عمر في هذا فوافقه. وجاء زيدٌ فعرض أبو بكر عليه الفكرة، ورغَّب إليه أن يقوم بتنفيذها فتردد زيدٌ أول الأمر ولكن أبا بكرٍ ما زال به يعالج شكوكه، ويبين له وجه المصلحة، حتى اطمأن واقتنع بصواب ما نُدب إليه، وشرع يجمع، وأبو بكر وعمر
وكبار الصحابة يشرفون عليه، ويعاونونه في هذا المشروع الجلل، حتى تمَّ لهم ما أرادوا {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. دستور أبي بكر في كتابة الصحف: وانتهج زيد في القرآن طريقةً دقيقة مُحكمة وضعها له أبو بكر وعمر، فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق، وتحريات شاملة، فلم يكتف بما حفظ قلبه، ولا بما كتب بيده، ولا بما سمع بأذنه. بل جعل يتتبَّع ويستقصي آخذاً على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين: أحدهما: ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني: ما كان محفوظاً في صدور الرجال. وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئاً من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدْلان أنه كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيدٌ بما تستحقُّ من عناية فائقة، فحفظها أبو بكر عنده. ثم حفظها عمر بعده. ثم حفظتها أمُّ المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن. ثم ردّها إليها كما يأتيك بيانه إن شاء الله. مزايا هذه الصُّحف: وامتازت هذه الصحف. أولاً: بأنها جمعت القرآن على أدقِّ وجوه البحث والتحرِّي، وأسلم أُصول التثبُّت العلمي، كما سبق شرحه لك في الدستور السابق. ثانياً: أنه اقْتُصِرَ فيها على ما لم تُنسخ تلاوته. ثالثاً: أنها ظفرت بإجماع الأمة ليها، وتواتُر ما فيها. ولا يطعن في ذلك التواتر ما مرَّ عليك من أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبو خزيمة، فإن المراد أنه لم يوجد مكتوباً إلا عنده، وذلك لا ينافي أنه وُجد محفوظاً عند كثرة غامرة من الصحابة بلغت حدَّ التواتر، وقد قلنا غير مرة: إن المعوَّل عليه وقتئذ كان هو الحفظ والاستظهار. وإنما اعتمد على
جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه
الكتابة كمصدر من المصادر، زيادة في الاحتياط ومبالغة في الدقَّة والحذر (ولا يعزُبَنَّ عن بالك أن هذا الجمع كان شاملاً للأحرف السبعة التي نزل بها القرآن تيسيراً على الأمة الإسلامية كما كانت الأحرف السبعة في الرقاع كذلك). جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت الفتوحات في زمن عثمان، واستبحر العمران، وتفرَّق المسلمون في الأمصار والأقطار، ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة إلى دراسة القرآن. وطال عهد الناس بالرسول والوحي والتنزيل. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام، يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبيِّ بن كعب، وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، وغيرهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري. فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة، بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف بل كان هذا الشقاق أشد؛ لبعد عهد هؤلاء بالنبوة، وعدم وجود الرسول بينهم يطمئنون إلى حكمه، ويصدرون جميعاً عن رأيه. وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع أو التقوا على جهاد أعدائهم، يعجبون من ذلك. وكانوا يُمعنون في التعجب والإنكار، كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن. وتأدى بهم التعجب إلى الشكِّ والمداجاة، ثم إلى التأثيم والملاحاة وتيقظت الفتنة. أضف إلى ذلك أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن لم تكن معروفة لأهل تلك الأمصار، ولم يكن من السهل عليهم أن يعرفوها كلها، حتى يتحاكموا إليها فيما يختلفون. إنما كان كل صحابي في إقليم يقرئهم بما يعرف فقط من الحروف التي نزل عليها القرآن. ولم يكن بين أيديهم مصحف جامع يرجعون إليه فيما شجر بينهم من هذا الخلاف والشقاق البعيد. لهذه الأسباب والأحداث، رأى عثمان بثاقب رأيه، وصادق نظره، أن يتدارك الخرْق
قبل أن يتسع على الراقع، فجمع أعلام الصحابة وذوي البصر منهم، وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة، ووضْع حدٍّ لذلك الاختلاف، وحسم مادة هذا النزاع، فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار، وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها، وألا يعتمدوا سواها وبذلك يرأبُ الصدع، ويجبر الكسر، وتعتبر تلك المصاحف العثمانية الرسمية نورهم الهادي في ظلام هذا الاختلاف، ومصباحهم الكشاف في ليل تلك الفتنة، وحكمهم العدل في ذاك النزاع والمراء، وشفاءهم الناجع من مصيبة ذلك الداء. تنفيذ عثمان لقرار الجمع: وشرع عثمان في تنفيذ هذا القرار الحكيم حوالي أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين من الهجرة، فعهد في نسخ المصاحف إلى أربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ، وهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهؤلاء الثلاثة الأخيرون من قريش. وأرسل عثمان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر، فبعثت إليه بالصحف التي عندها، وهي الصحف التي جمع القرآن فيها على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأخذت لجنة الأربعة هؤلاء في نسخها، وجاء في بعض الروايات أن الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثني عشر رجلاً وما كانوا يكتبون شيئاً إلا بعد أن يعرض على الصحابة ويقرُّوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على هذا النحو الذي نجده الآن في المصاحف. دستور عثمان في كتابة المصاحف: ومما تواضع عليه هؤلاء الصحابة أنهم كانوا لا يكتبون في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن، وعلموا أنه قد استقر في العرضة الأخيرة، وما أيقنوا صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يُنسخ. وإنما كتبوا مصاحف متعدِّدة، لأن عثمان رضي الله عنه قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين، وهي الأخرى متعددة.
ترتيب آيات القرآن
تحريق عثمان للمصاحف والصحف المخالفة: بعد أن أتم عثمان نسخ المصاحف عمل على إرسالها وإنفاذها إلى الأقطار، وأمر أن يحرق كل ما عداها مما يخالفها، سواء أكانت صحفاً أم مصاحف. وذلك ليقطع عرق النزاع من ناحية، وليحمل المسلمين على الجادَّة في كتاب الله من ناحية أخرى، فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التي توافر فيها من المزايا ما لم يتوافر في غيرها. وهذه المزايا هي: (1) الاقتصار على ما ثبت بالتواتر، دون ما كانت روايته آحاداً. (2) وإهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقرَّ في العرضة الخيرة. (3) وترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن. بخلاف صحف أبي بكر رضي الله عنه فقد كانت مرتبة الآيات دون السور. (4) وكتابتها بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التي نزل بها القرآن. (5) وتجريدها من كل ما ليس قرآناً كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحاً لمعنى، أو بياناً لناسخ ومنسوخ، أو نحو ذلك. وقد استجاب الصحابة لعثمان، فحرقوا مصاحفهم، واجتمعوا جميعاً على المصاحف العثمانية، حتى عبد الله بن مسعود الذي نقل عنه أنه أنكر أولاً مصاحف عثمان، وأنه أبى أن يحرق مصحفه، رجع وعاد إلى حظيرة الجماعة، حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية، واجتماع الأمة عليها، وتوحيد الكلمة بها. ترتيب آيات القرآن انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم بالمصاحف، كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه. بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم
يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحدٌ. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف، لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم، وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعاً، ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع. منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال: "كنت في الوفد الذي أسلموا من ثقيف: إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه: فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: طرأ عليَّ حزبٌ من القرآنِ فأردت ألا أخرج حتى أقضيه فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا نُحذِّبُه ثلاث سورٍ، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل من "ق" حتى نختم قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتجوا لمذهبهم أيضاً بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء، ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكانُ هذا التجانس والتماثل دائماً، لكن ذلك لم يكن، بدليل أن سور المسبحات لم ترتب على التوالي بينما هي متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله. بل فصل بين سورها بسورة "قد سمع" والممتحنة والمنافقين، وبدليل أن (طسم الشعراء وطسم القصص) لم يتعاقبا مع تماثلهما، بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي "طس". وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: "المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث وائلة: أعطيتُ مكان التوراة السبع الطوال". وكذلك انتصر أبو بكر الأنباري لهذا المذهب فقال: "أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرَّقه في بضع وعشرين سنة، فكانت السورة تنزل لأمرٍ يحدث والآية جواباً لمستخبر،
فوائد حول الرسم العثماني للمصحف
ويقف جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآيات والحروف، كله من النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن". وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة؟، فقال: قدمتا وأُلِّفَ القرآن على علم ممن ألَّفه به إلى أن قال: فهذا مما يُنْتَهى إليه ولا يُسأل عنه. أ. هـ. فوائد حول الرسم العثماني للمصحف: الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان، وذلك أن قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر، كُتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر. فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك بأن كنت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل، وذلك ليعلم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل. وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف الأصل رُسمت به. مثال الكلمة تكتب بصورة واحدة وتُقرأ بوجوه متعددة قوله تعالى {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} رسمت في المصحف العثماني هكذا: {إن هدان لساحران} من غير نقط ولا شكل ولا تشديد ولا تخفيف في نوني إن وهذان، ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال من هذان. ومجيء الرسم كما ترى، كان صالحاً عندهم لأن يُقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة. (أولها) قراءة نافع ومن معه إذ يشدِّدون نون "إن" ويخففون (هذان) بالألف. (ثانيها) قراءة ابن كثير وحده إذ يخفِّف النون في "إن" ويشدد النون في (هذان). (ثالثها) قراءة حفص إذ يخفف النون في "إن" و"هذان" بالألف.
الفائدة الثانية
(رابعها) قراءة أبي عمرو بتشديد (إن) وبالياء وتخفيف النون في (هذين). الفائدة الثانية: إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة، وذلك نحو قطع كلمة "أمْ" في قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} ووصلها في قوله تعالى {أمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إذ كتبت هكذا (أمن) بإدغام الميم الأولى في الثانية وكتابتهما ميماً واحدة مشددة، فقطع أمْ الأولى في الكتابة للدلالة على أنها أمْ المنقطعة التي بمعنى بل ووصل أمْ الثانية للدلالة على أنها ليست كتلك. الفائدة الثالثة: الدلالة على معنى خفيٍ دقيق كزيادة الياء في كتابة كلمة "أيدٍ" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بأيدٍ} إذ كتبت (بأييد) وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي: "ويَدْعُو الإنسانُ، ويمحُو الله الباطل، يوم يدْعُو الدَّاع، سندْعُوا الزبانية" فإنها كتبت في المصحف العثماني هكذا: "ويدْعُ الإنسانُ، ويمْحُ الله الباطل، يوم يدْعُ الداعِ، سندْعُ الزبانيةَ" ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع. قالوا: والسرُّ في حذفها من {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} هو للدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير. والسرُّ في حذفها من {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله. والسرُّ في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين. والسر في حذفها من {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش! ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي:
الفائدة الرابعة
"والسرُّ في حذفها من هذه الأربعة سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود". ا. هـ. الفائدة الرابعة: الدلالة على أصل الحركة مثل كتابة الكسرة ياء في قوله سبحانه {وإيتاء ... ذِي الْقُرْبَى} إذ تكتب هكذا {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ومثل كتابة الضمة واواً في قوله سبحانه {سأريكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} إذ كتبت هكذا {سَأُرِيكُمْ} ومثل ذلك الدلالة على أصل الحرف في نحو الصلاة والزكاة إذ كتبا هكذا: "الصلوة، الزكوة" ليفهم أن الألف فيهما منقلبة عن واو من غير نقط ولا شكل. الفائدة الخامسة: إفادة بعض اللغات الفصيحة، مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة دلالة على لغة طيئ ومثل قوله سبحانه: {يَوْمَ يأْتِي لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كتبت بحذف الياء هكذا (يأتِ) للدلالة على لغة هذيل. الفائدة السادسة: حملُ الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال، ولا يتَّكلوا على هذا لرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق في الجملة وينضوي تحت هذه الفائدة مزيَّتان: (إحداهما): التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف، مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته. فقد تخطيء المطبعة في الطبع، وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده، كالقلقلة والإظهار والإخفاء والإدغام والروم والإشمام ونحوها، فضلاً عن خفاء تطبيقها. ولهذا قرر العلماء أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها. بل لابدَّ من التثبُّت في الأداء والقراءة، بالأخذ عن حافظٍ ثقةٍ. وإن كنت في شكٍّ فقل لي بربك: هل يستطيع المصحف وحده بأيِّ رسم يكون، أن يدل قارئاً أيًّا كان على النطق الصحيح بفواتح السور
هل رسم المصحف توقيفي؟
الكريمة؟ مثل "كهيعص، حم عسق، طسم"؟؟؟ ومن هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحان {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} من كلمة "لا تأْمَنَّا"!. (المزية الثانية): اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتلك خاصة من خواصِّ هذه الأمة الإسلامية امتازت بها على سائر الأمم. هل رسم المصحف توقيفي؟ للعلماء في رسم المصحف آراء ثلاثة: (الرأي الأول): أنه توقيفي لا تجوز مخالفته. وذلك مذهب الجمهور، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كُتَّاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن فعلاً بهذا الرسم وأقرَّهم الرسول على كتابتهم، ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكَتْبَة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل. ثم جاء أبو بكر فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف، ثم حذا حَذْوَه عثمان في خلافته، فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف على تلك الكتبة وأقر أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وانتهى المر بعد ذلك إلى التابعين وتابعي التابعين، فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم، ولم ينقل أن أحداً منهم فكَّر أن يستبدل به رسماً آخر من الرسوم التي حدثت في عهد ازدهار التأليف، ونشاط التدوين، وتقدم العلوم. بل بقي الرسم العثماني محترماً متبعاً في كتابة المصاحف لا يُمسُّ استقلاله، ولا يُباح حِمَاه!. وأنت خبير بأن اتباع الرسول واجب فيما أمر به أو أقرَّ عليه لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والاهتداء بهدي الصحابة واجب خصوصاً الخلفاء الراشدين، لحديث العِرْبَاض بن سارية وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخُلفاء الراشدين منْ بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ" ولا ريب أن إجماع الأمة في أي عصر واجب الاتباع، خصوصاً العصر الأول. قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وانعقادُ الإجماع على تلك المصطلحات في رسم المصحف دليل على أنه لا يجوز العدول
عنها إلى غيرها. (الرأي الثاني): أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي، وعليه فتجوز مخالفته وممن جنح إلى هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته. وممن تحمَّس له القاضي أبو بكر في "الانتصار". (الرأي الثالث): هو ما ذكره صاحب "التبيان" وهاك كلامه: وأما كتابته - أي المصحف- على ما أحدث الناس من الهجاء، فقد جرى عليه أهل المشرق، بناء على كونها أبعد من اللبس، وتحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك وقد سئل. هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: "لا: إلا على الكتبة الأولى". قال في البرهان: قلت: وهذا كان في الصدر الأول، والعلم حيٌّ غضٌّ. وأما الآن فقد يخشى الالتباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "لا تجوز كتابة المصحف الآن إل على الرسم الأول باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاةً لجهل الجاهلين. "ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة" ا. هـ. أقول: ينبغي أن يراعي في كتابة المصاحف الرسم العثماني لأن القراءات جميعها تحفظ به، ولأن المأثور عن رسول الله وصحبه وعليه أجمعت الأمة. أما في المكاتبات العادية وفي الكتب المؤلفة فلا حرج أن يكتب شيء من المصحف بالإملاء المتعارف عليه عند أهل عصر من العصور. عدد المصاحف: اختلفوا في عدد المصاحف التي استنسخها عثمان رضي الله عنه، فصوَّبَ ابن عاشر أنها ستة: المكي، والشامي، والبصري، والكوفي، والمدني العام الذي سيَّره عثمان رضي الله عنه من محل نسخه إلى مقره، والمدني الخاص به الذي حبسه لنفسه وهو المسمى بالإمام. وذهب السيوطي وابن حجر إلى أنها خمسة. ولعلهما أرادا بالخمسة ما عدا المصحف الإمام
كيف أنفذ عثمان المصاحف العثمانية؟
فيكون الخلاف لفظياً بينه وبين سابقيه. وقيل إنها ثمانية: خمسة متفق عليها وهي الكوفي والبصري ولشامي والمدني العام والمدني الخاص، وثلاثة مختلف فيها وهي المكي، ومصحف البحرين، ومصحف اليمن وقيل إن عثمان رضي الله عنه أنفذ إلى مصر مصحفاً. ولعل القول بأن عددها ستة، هو أولى الأقوال بالقبول. والمفهوم على كل حال أن عثمان رضي الله عنه، قد استنسخ عدداً من المصاحف يفي بحاجة الأمة وجمع كلمتها. كيف أنفذ عثمان المصاحف العثمانية؟ كان الاعتماد في نقل القرآن - ولا يزال - على التلقي من صدور الرجال ثقةً عن ثقة وإماماً عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك اختار عثمان حُفَّاظاً يثق بهم وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية واعتبر هذه المصاحف أصولاً ثواني مبالغة في الأمر، وتوثيقاً للقرآن ولجمع كلمة المسلمين. فكان يرسل إلى كل إقليم مصحفه ما من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب، ثم نقل التابعون عن الصحابة فقرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم تلقياً عن الصحابة الذين تلقوه من فم النبي صلى الله عليه وسلم فقاموا في ذلك مقام الصحابة الذين تلقوه من فم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تفرغ قوم للقراءة والأخذ والضبط، حتى صاروا في هذا الباب أئمة يرحل إليهم ويؤخذ عنهم، وأجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم واعتماد روايتهم. ومن هنا نسبت القراءة إليهم، وأجمعت الأمة - وهي معصومة من الخطأ في إجماعها - على ما في هذه المصاحف، وعلى ترك كل ما خالفها من زيادة ونقص وإبدال، لأنه لم يثبت عندهم ثبوتاً متواتراً أنه من القرآن. المصاحف في دور التجويد والتحسين: المعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً، وهو بقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها. بيد أن المؤرخين يختلفون، فمنهم من يرى أن الإعجام كان معروفاً قبل الإسلام ولكن تركوه عمداً في المصاحف. ومنهم من يرى أن النقط لم يعرف إلا من بعدُ على يد أبي الأسود الدُّؤَلِيِّ.
وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت، واختلط العرب بالعجم، وكادت العجمة تمسُّ سلامة اللغة، وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يُلِحُّ بالناس، حتى ليشق على السوادِ منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة. هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ، فأمر الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاجُ - طاعةً لأمير المؤمنين - رجلين جليلين يعالجان هذا المشكل، هما نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني. وكلاهما كفء قدير على ما نُدب له، إذ جمعا بين العلم والعمل، والصلاح والورع، والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن وقد اشتركا أيضاً في التلمذة والأخذ عن أبي السود الدؤلي. ويرحم الله هذين الشيخين، فقد نجحا في هذه المحاولة، وأعجما المصحف الشريف لأول مرة، ونقطا جميع حروفه المتشابهة، والتزما ألا تزيد النقط في أيِّ حرف على ثلاث. وشاع ذلك في الناس بعد، فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف. وقيل: إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر. ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية، ثم تبعه ابن سيرين، وأن عبد الملك أول منْ نقط المصحف، ولكن بصفة رسمية عامة، ذاعت وشاعت بين الناس، دفعاً للبس والإشكال عنهم في قراءة القرآن. واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول، لم يكونوا يعرفون شكل الحروف والكلمات فضلاً عن أن يشكلوها. ذلك لأن سلامة لغتهم، وصفاء سليقتهم وذلاقة ألسنتهم كل أولئك كان يغنيهم عن الشكل. ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة؛ منهم العجم الذين لا يعرفون العربية، بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل إن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. فقرأها بجر اللام من كلمة 0 رسوله). فأفزع هذا اللحنُ الشنيع أبا الأسود وقال: عزَّ وجه الله أن يبرأ
من رسوله، ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: وقد أجبتك إلى ما سألت. وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى رعه هذا الحادث، وهنا جّدَّ جِدُّه، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسر نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين. طفق الناس ينهجون منهجه، ثم امتدَّ الزمان بهم فبدؤوا يزيدون ويبتكرون، حتى جعلوا للحرف المشدَّد علامة كالقوس، لألف الوصل جرَّة فوقها أو تحتها أو وسطها، على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة. ودامت الحال على هذا حتى جاء عبد الملك بن مروان، فرأى بنافذ بصيرته أن يميز ذوات الحروف من بعضها، وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط، وهنالك اضطرَّ أن يستبدل بالشكل الأول الذي هو النقط، شكلاً جديداً هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة والسكون. والذي اضطره إلى هذا الاستبدال، أنه لو أبقى العلامات الأولى على ما هي عليه نقطاً، ثم جاءت هذه الأخرى نقطاً كذلك لتشابها واشتبه الأمر. فميز بين الطائفتين بهذه الطريقة. ونِعمَّا فَعَلَ! حُكْمُ نقط المصحف وشكله: كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله، مبالغةً منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفاً من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه. ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: جرِّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وما روي عن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم إلى غير ذلك. ولكن الزمان تغيَّر- كما علمت - فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكل لنفس ذلك السبب أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفاً من أن يؤدي تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه. فمعقولٌ حينئذ أن يزول القول بكراهة ذينك الإعجام والشكل، ويحلَّ محلَّه القول بوجوب أو باستحباب الإعجام والشكل. لما هو مقرر من أن الحكم يدور مع علته وجوداً
وعدماً. قال النووي في كتابه التبيان ما نصه: قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه. وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط، فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفاً من التغيير فيه. وقد أُمن ذلك اليوم فلا يمنع من ذلك لكنه محدثاً، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك. والله أعلم ا. هـ. تجزئة القرآن: كانت المصاحف العثمانية مجردة من التجزئة التي نذكرها، كما كانت مجردة من النقط والشكل. ولما امتدَّ الزمان بالناس جعلوا يَفْتَنُّونَ في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات مختلفة الاعتبارات. فمنهم من قسم القرآن ثلاثين سماً، وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره، حتى إذا قال قائل: قرأت جزءاً من القرآن تبادر إلى الذهن أنه قرأ جزءاً من الثلاثين جزءاً التي قسموا المصحف إليها. وجرى على ذلك أصحاب الربعات، إذ طبعوا كل جزء في نسخة مستقلة، ومجموع النسخ الجامعة للقرآن كله يسمونه (رَبْعة). ويوجد من هذا القبيل أجزاء مستقلة بالطبع بأيدي صغار التلاميذ في المدارس وغيرهم. ومن الناس من قسموا الجزء إلى حزبين، ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء سموا كل واحد منها رُبْعاً. ومن الناس من وضعوا كلمة خمس، عند نهاية كل خمس آيا تمن السورة، وكلمة عشر عند نهاية كل عشر آيات منها، فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس، فإذا صارت هذه الخمس عشراً أعادوا كلمة عشر وهكذا دواليك إلى آخر السورة. وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلاً من كلمة خمس، ويكتب في موضع الأعشار رأس العين بدلاً من كلمة عشر. وبعض الناس يرمز إلى رؤوس الآي برقْمِ عددها من السورة أو من غير رقم. وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان يُنوِّه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية إلى غير ذلك.
وللعلماء في ذلك كلام طويل، بين الجواز بكراهة والجواز بلا كراهة، ولكن الخطب سهل على كل حال، مادام الغرض هو التيسير والتسهيل، وما دام الأمر بعيداً عن اللبس والتزيُّد والدخيل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}.
النصوص
النصوص - في عرضة جبريل الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2474 - * روى البزار عن سمُرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عُرِضَ القرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عرضاتٍ، قال: فيرون أن قراءتنا هي الأخيرةُ، فلا أدري في هذا الحديث أو غيره- يعني فيرون أن قراءتنا. أقول: في هذا النص دلالة على أن ترتيب القرآن توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل وقد ذكرنا في كتابنا (الأساس في التفسير) من أسرار ترتيب القرآن ما يعتبر وحده من المعجزات العظمى في هذا القرآن ولهذا الدين. 2475 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاه جبريلُ في كل ليلةٍ من رمضان، فيُدارسُه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الريح المرسلة". وفي رواية (1) نحوه قال: "وكان جبريل يلقاه كل ليلةٍ من رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن". 2476 - * روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: "كان يُعْرَضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآنُ كلَّ عامٍ مرةً، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه". قوله يُعْرَضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن: فيها روايتان: بضم أوله على البناء للمجهول،
- في جمع القرآن
وبفتح أوله بحذف الفاعل، والمحذوف هو جبريل كما في بعض الروايات ... (فتح الباري 9/ 46). أقول: إن مدارسة القرآن من قبل جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض جبريل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، كل ذلك مما يستأنس به على أن ترتيب القرآن توقيفي، لأن المدارسة والعرض يقتضيان ترتيباً. - في جمع القرآن: 2477 - * روى البخاري عن زيد بن ثابتٍ (رضي الله عنه) قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر جالس عنده، فقال أبو بكر: إن عمر جاءني، فقال: إن القتل قد استحَرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإنِّي أخشى أن يستحِرَّ القتل بالقُراء في كل المواطن، فيذهب من القرآن كثيرٌ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قال: قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خيرٌ، فلم يزل يُراجعني في ذلك، حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمُك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيدٌ: فوالله لو كلفني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن، قال: قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خيرٌ، قال: فلم يزل أبو بكر يُراجعني - وفي أخرى: فلم يزل عمر يراجعني - حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، قال: فتتبعتُ القرآن أجمعه من الرقاع والعُسُب، واللخافِ، وصدور الرِّجال (1)،
حتى وجدت آخِرَ سورةِ التوبة مع خُزيمة - أو أبي خزيمة الأنصاري- لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (1) خاتمة براءة، قال: فكانت الصُّحُفُ عند أبي بكر، حتى توفاه الله، ثم عند عمر، حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. قال بعض الرواة فيه: اللخافُ: يعني: الخَزَفَ. 2478 - * روى ابن خزيمة عن علقمة، قال: "جاء رجل إلى عمر وهو يعرفه، فقال: يا أمير المؤمنين، جئتُ من الكوفة وتركتُ بها رجلاً يُملي المصاحف عن ظهر قلبه. قال: فغضب عمر انتفخ حتى كاد يملأُ ما بين شُعبتي الرحل، فقال: من هو ويحك؟ قال: عبد الله بن مسعود. قال: فما زال يُسرَّى عنه الغضب ويُطفأُ حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك ما أعلم بقي أحدٌ أحقُ بذلك منه. وسأحدثُك عن ذلك. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمُرُ عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعُ قراءته، فلما كدنا أن نعرف الرجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أُنزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عبدٍ". قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سل تُعْطَهْ"، مرتين. قال: فقال عمر: فقلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه، قال: فغدوتُ إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سابقته إلى خير قطُّ إلا سبقني. هذا حديث أبي موسى. غير أنه لم يقل وانتفخ.
- جمع عثمان الناس على رسم واحد
وقال سلم بن جنادة: فما زال يُسرَّى عنه، وقال: واقف بعرفة، ولم يقل: لا يزال، وقال: يستمع قراءته، وقال: فقال عمر: والله لأغدونَّ إليه". أقول: هاتان الروايتان تؤكدان أن الجمع للقرآن كان جمعاً لما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن إظهار عمر الغضب ممن يملي القرآن من حفظه ليكتبه الناس دليل على ذلك ولم يخفف عن عمر إلا معرفته بإتقان المملي. - جمع عثمان الناس على رسم واحد: 2479 - * روى البخاري عن محمد بن شهاب الزُّهريِّ (رحمه الله) عن أنسٍ، أن حُذيفة ابن اليمان قدم على عثمان - وكان يُغازي أهل الشام في فتح إرْمينيَّة وأذربيجان مع أهل العراق - فأفزع حُذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نرُدُّها إليك، فأرسلتْ بها إليه، فأمر زيد بن ثابتٍ وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوُها في المصاحف، وال عثمان للرهْطِ القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابتٍ في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفقٍ بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرقَ. قال ابن شهابٍ: وأخبرني خارجة بن زيدٍ بن ثابت: أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدتُ آيةً من سورة الأحزاب - حين نسختُ الصحف- قد كنتُ أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (1) فألحقناها في سورتها من المصحف. قال في رواية (2) أبي اليمان: خُزيمة بن ثابتٍ الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين.
زاد في رواية أخرى (1): قال ابن شهابٍ: اختلفوا يومئذ في (التابوت) فقال زيد: (التابوهُ) وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص (التابوت) فرُفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه بلسان قُريش. أقول: قوله: (اختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد: التابوه): هذا نموذج على حرف من الأحرف السبعة التي كان يُقرئ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ملاحظاً لغات العرب ولهجاتها وقد قدم الصحابة مصلحة اجتماع الأمة على رسم واحد للقرآن على أي مصلحة أخرى وتفرع عن هذا التصرف أن بنى فقهاء المسلمين على ذلك فروعاً منها: أن لإمام المسلمين أن يفرض على الأمة حكماً متخيراً من أقوال أئمة الاجتهاد لوحدة القضاء. 2480 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر: أُبيُّ أقرأنا وإنا لندعُ من لحن أُبي، وأبيٌّ يقول: أخذتُ من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أتركُه لشيءٍ، وقال الله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (2).
- في وقوع النسخ في القرآن
قال الحافظ: وكان أبي بن كعب لا يرجع عما حفظه من القرآن الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أخبره غيره أن تلاوته نسخت، لأنه إذا سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل عنده القطع به، فلا يزول عنه بإخبار غيره أن تلاوته نسخت، وقد استدل عليه عمر بالآية الدالة على النسخ، وهو من أوضح الاستدلال في ذلك. أقول: إذا كان لأُبيِّ وأمثاله من الصحابة عذر بسبب ما ذكره الحافظ فإنه لا حجة لأحد بعدهم أن يخالف رسم المصحف لقراءة شاذة عن ذلك لمخالفة المتواتر والإجماع. وفي هذا النص توضيح لما ذكر من قبل أن المصحف العثماني خلا مما نسخت تلاوته. - في وقوع النسخ في القرآن: 2481 - * روى الترمذي عن أبي رفعه: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ عليه لم يكن الذين كفروا، وقرأ فيها، إن الدين عند الله الحنيفيةُ المسلمة لا اليهوديةُ ولا النصرانية ولا المجوسية، ومن يعمل خيراً فلن يُكفرهُ، وقرأ فيها، لو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو أن له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". 2482 - * روى أحمد: أن أُبياً قرأ لم يكن حتى بلغ {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}، ثم قرأ: (إن الدين عند الله الحنيفية) إلى آخر الزيادة، فقال: ثم ختم ما بقي من السورة. أقول: ما ورد في هذه الرواية من باب المنسوخ التلاوة ولذلك لم يدخل في المصحف الإمام، وفي هذه الرواية تفصيل لما كان يحافظ عليه أبي بسبب ما ذكرناه. 2483 - * (1) روى مسلم عن أبي الأسود الدؤلي (رحمه الله) قال: بعث أبو مُوسى إلى قُرَّاء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجلٍ قد قرؤوا القرآن، فقال: أنت خيارُ أهل البصرةِ
وقراؤهم، فاتلُوهُ، ولا يطولنَّ عليكم الأمدُ، فتقسُو قلوبكم، كما قستْ قلوبُ من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتُها، غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المُسبِّحات فأنسيتُها، غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا، لم تقولن ما لا تفعلون؟ فتكتبُ شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. أقول: في النص توضيح وتعريف على بعض منسوخ التلاوة من القرآن الكريم، وهو مما جرد من القرآن في المصحف الذي نسخ في عهد أبي بكر وفي نسخ المصاحف العثمانية، ومن المعروف أن أبا موسى قد أرسله عثمان مع نسخة من نسخ المصاحف العثمانية إلى أهل البصرة ليجمع الناس على الرسم العثماني للمصحف. وفي كلام أبي موسى توضيح لقُرَّاء البصرة أن هناك من القرآن ما هو منسوخ التلاوة وأن هذا المنسوخ لا يعتبر قرآنا، وفي ذلك إشارة إلى أن المصاحف العثمانية قد جردت من منسوخ التلاوة. وقد تعدد الروايات التي تشير إلى وقوع النسخ في التلاوة وهي صحيحة كما ترى. وبعض العلماء يرى أن نسخ التلاوة غير موجود وأن هذه الروايات إما خطأ من الصحابة بحيث ظن ما ليس بقرآن أصلاً أنه كان قرآناً ثم نسخ، أو أن الروايات معلولة. وبعضهم رأى أنه حتى نثبت وقوع نسخ التلاوة لابد من التواتر .. والرم في ظننا لا يحتاج إلى تواتر ما دام أنها قد نسخت. أما ما يقال إن هذه النماذج التي عرضت ليس فيها أسلوب القرآن فلا دليل على أنها كانت قرآناً ثم نسخت، فيجاب أن هذا طبيعي لأن الآية نسخ فلم يعد فيها سر القرآن ولا روحه ولا إعجازه، ثم إنه ربما تكون قد رويت بالمعنى وتصرف فيها الرواة فلا حجة في ذلك .. واحتج الذين قالوا إنه لا نسخ تلاوة وأن ما ورد على أنه منسوخ تلاوة سببه ظن خاطيء من بعض الصحابة بروايات عدة منها: 2484 - * روى البخاري: قال ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (1) "لو أن
لابن آدم ملء وادٍ مالاً لأحبَّ أن له إليه مثله؛ ولا يملأُ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". قال ابن عباس: فلا أدري من القرآن هو أم لا. قال: وسمعت ابن الزبير يقول ذلك على المنبر. وهذه الروايات نفسها وردت مصرح فيها أنها من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2485 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأُ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". 2486 - * روى البخاري عن عباس بن سهل بن سعد قال: "سمعت ابن الزبير على المنبر بمكة في خطبته يقول: يا أيها الناس، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لو أن ابن آدم أُعطي وادياً ملآن من ذهب أحبَّ إليه ثانياً، ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً، ولا يسدُّ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب". 2487 - * روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان؛ ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". وقالوا: كيف نستطيع أن نفهم حديث عائشة الذي رواه مسلم إن كان من منسوخ التلاوة، وليس من خطأ الصحابة وهو: 2488 - * روى الجماعة إلا البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) قالت (1): "كان فيما
- في مصحف حفصة
أنزل من القرآن: عشرُ رضعات معلومات تُحرِّمن، ثم نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفِّي رسول الله صلى الله لعيه وسلم وهن فيما يقرأُ من القرآن". مع أن العلماء قالوا فيه: معناه: أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله حتى إنه صلى الله عليه وسلم تُوفِّي وبعض الناس يقرأ خمس رضعاتٍ ويجعلها قرآناً متلواً لكونه لم يبلغه النسخ، لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ رجعوا عن تلاوته وأجمعوا على أن هذا لا يتلى [جامع الأصول 11/ 482]. هذا وكثير من الفقهاء لم يحتج بهذا الحديث لأسباب لا مجال لذكرها .. وقال نافو نسخ التلاوة: إذا كان قول عمر فيما رواه عنه سعيد بن المسيب: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) أخرجه مالك في الموطأ ... قرآناً منسوخاً مع بقاء حكمهما، فكيف نعرف حد الشيخ من غير الشيخ ... وإن كلمة البتة لم ترد في القرآن البتة ... هذه بعض وجهات النظر في منسوخ التلاوة، ونرى أن فيها رواية أبي موسى الأشعري السابقة. وغيرها ما يدل على وقوع منسوخ التلاوة ويؤكد ذلك قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (1) فقوله ننسها يدل على نسخ التلاوة أما قول القائل إن معنى ننسها ننسى الناس حكمها أو نحو ذلك فلا دليل عليه والله أعلم. - في مصحف حفصة: 2489 - * روى الطبراني عن سالم بن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألُها عن المصحف الذي نُسخ منه القرآن فتأبى حفصةُ أن تعطيهُ إياه فلما دفنَّا حفصة أرسل مروانُ إلى ابن عمر: أرسل إليَّ بذلك المصحف، فأرسله إليه. أقول: كانت حفصة رضي الله عنها مؤتمنة على المصحف بعد وفاة والدها وأقر ذلك عثمان رضي الله عنه، ولذلك أرجعه إليها بعد ما نسخ عثمان عنه فلما آل الأمر إلى بني أمية لم تر
- في أول ما نزل وآخر ما نزل
أن تتنازل عن هذه الصحف التي ائتمنها عليها خليفة راشد بعد أن آلت الإمرة إلى أن أصبحت أثراً عن ملك عضوض، وهذا يفيد إلى أن الطاعة تختلف باختلاف نوع الإمرة، وفعل ابن عمر في التسليم يفيد أن من حق الدولة المسلمة أن تضع يدها على ما يعتبر تراثاً للأمة مما لاحق شخصياً لأحد فيه. - في أول ما نزل وآخر ما نزل: 2490 - * روى الطبراني عن أبي رجاءٍ العُطارديِّ قال كان أبو موسى يُقْرِئُنا يُجلسنا حلَقاً حِلَقاً، عليه ثوبان أبيضان فإذا قرأ هذه السورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال: هذه الآيةُ أول سورة أُنزلتْ على محمد صلى الله عليه وسلم. 2491 - * روى البخاري عن عائشة: إنما نزل أول ما نزل سورةٌ من المصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناسُ إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ لا تشربوا الخمر قالوا: لا ندعُ أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندعُ الزنا أبداً. أقول: تشير السيدة عائشة رضي الله عنها إلى حكمة كبيرة من حكم تنزل القرآن منجماً وهي ملاحظة حال المخاطبين الأول واستعداداتهم، وبعد أن استقر التشريع أصبح الإنسان مكلفاً بالقرآن كله، ولكن أدب الدعوة الإسلامية لا زال ملحوظاً فيه البدء بالدعوة إلى الاعتقاد ثم العمل. فلابس خاتم الذهب الكافر لا تبدأ بدعوته إلى خلع الخاتم بل تبدأ بدعوته إلى الإسلام اعتقاداً، ثم إلى العمل بالإسلام. 2492 - * روى الشيخان عن البراء: آخرُ سورةٍ نزلت تامةً التوبةُ، وآخر آيةٍ نزلت آيةُ الكلالة. 2493 - * روى مسلم عن ابن عباس: إن آخر سورةٍ نزلتْ جميعاً {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} (1).
2494 - * روى الترمذي ع عمرو بن العاص: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. 2495 - * روى البخاري عن ابن عباس: آخر آية نزلت آية الربا. قوله: (وآخر آية نزلت آية الكلالة) هذه الآخرية نسبية فهي آخرية بالنسبة لأحكام المواريث، وسورة براءة آخريتها نسبية، فهي ليست آخر سورة نزلت كما سنرى بل هي من أواخر ما نزل. وآخر سورة نزلت كسورة هي سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ولا ينفي ذلك أن تكون نزلت بعدها آيات كما سنرى. أقول: كان الصحابة يركزون على أن سورة المائدة نزلت متأخرة للتأكيد على أنها ليست منسوخة الأحكام. ولا شك أن قسماً منها كان من أواخر ما نزل، وإذا كان المراد بسورة الفتح {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فالكلام هنا على إطلاقه في أنها آخر سورة نزلت، وإن كان المراد بسورة الفتح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} فالآخرية هنا تفيد أنها من أواخر ما نزل لأن سورة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} نزلت بعد الحديبية. 2496 - * روى الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} أنها آخرُ آيةٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: لتحقيق أن هذه الآية هي آخر الآيات نزولاً وهي تأتي مباشرة بعد آيات الربا في سورة البقرة، فهذا القول لا ينقض رواية ابن عباس السابقة بل هو تفصيل لبعض ما يدخل فيه (1). * * *
الفصل الثالث في بعض المأثور من التفسير وبعض أسباب النزول والناسخ والمنسوخ
الفصل الثالثُ في بعض المأثور من التفسير وبعض أسباب النزول والناسخ والمنسوخ راجع هذا الفصل ودققه فضيلة الشيخ/ عبد الحميد الأحدب
مقدمة
مقدمة: وضعنا هذا الفصل والفلين قبله ولهما علاقة بالتفسير بعد باب التلاوة، لأن التلاوة تحتاج إلى تدبر، والتدبر يقتضي فهماً ويعمق فهماً، وقد جرت عادة المؤلفين في الحديث الشريف أن يجعلوا التلاوة والتفسير المأثور متلاصقين، أو في مبحث واحد. والمراد بالتفسير هنا: التفسير الذي اعتاد المحدثون أن يذكروه في كتب الحديث وبعض المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين. ونحن نرى فارقاً كبيراً بين حجم ما يذكره المحدثون تحت باب التفسير، وأحجام الكتب المؤلفة فيما بعد في التفسير، وهذا يدل على أن الصحابة رضوان الله عنهم لم يكونوا يحتاجون إلى إفاضة في التفسير لقوة فهمهم عن الله عز وجل، ولإدراكهم معاني القرآن الكريم. فكلما ابتعدنا عن جيل الصحابة أصبح الناس بحاجة إلى جديد لفهم القرآن الكريم. غير أنه إذا كان حجم باب التفسير في كتب الحديث قليلاً نسبياً، فذلك يعود إلى شيء آخر، وهو أن الأصل أن السنة كلها بما في ذلك السيرة، هي شرح للقرآن الكريم وتفسير، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1). فالرسول صلى الله لعي وسلم مهمته البيان القولي والفعلي لكتاب الله عز وجل، ولذلك فإن بالإمكان أن نعتبر كل ما ورد في السنة شرحاً للقرآن الكريم وتفسيراً، ولذلك ندر ما تجد باباً في السنة إلا ويمكن أن تصدره ببعض آيات القرآن الكريم، وفي كثير من الأبواب نجد أحاديث هي من باب الناسخ والمنسوخ، أو من أسباب النزول، وذلك كله تفسير في الحقيقة. إلا أنه لوجود بعض المأثور الذي قد لا يدخل في أبواب أخرى، خص المحدثون التفسير بباب مستقل، ونحن نقتدي بهم فنذكر هذا الفصل ههنا، وهو ليس بعيداً عن موضوعات هذا القسم فتدبر القرآن عبادة، وهذا الفصل يعين على العبادة، وهذا الفصل علم بكتاب الله، وقد جعلنا العلم أحد أجزاء هذا القسم، وقارئ كتاب الله يهمه أن يعرف بعض ما ورد من مأثور التفسير، ولهذا جعلنا فصول هذا الباب مع باب التلاوة في جزء واحد.
عرض إجمالي لموضوع التفسير
عرض إجمالي لموضوع التفسير: إن كلمة تفسير القرآن كان لها من الهيبة والجلال والإجلال عند السلف الصالح ما ليس لها في عصرنا، لجرأة الناس على الإقدام على التفسير في مواعظهم وخطبهم وكتبهم دون أن يستشعروا خطورة الأمر الذي يقدمون عليه ودون أن يملكوا أدوات التفسير، وكما أن الناس في عصرنا تجرؤوا على مالا تنبغي الجرأة فيه، فإن كثيراً من المفسرين فيما مضى أدخلوا على أنواع من التفاسير طاماتٍ ما كان ينبغي لهم أن يجرؤوا عليها فعلم التفسير هو العلم الذي تخدمه كل العلوم: من علوم اللغة العربية إلى علوم القرآن والحديث إلى العلوم الكونية والاجتماعية والسياسية، وأول ذلك العلم المحيط بالسنة والعلم باتجاهات الراسخين في العلم من أئمة الهدى من أهل السنة والجماعة إنْ في العقائد أو في الفقه أو في دقائق علم القلب والأخلاق والسلوك وتزكية الأنفس، ولذلك كان العلماء قديماً لا يجيزون في التفسير إلا من أحاط علماً بهذه الأمور وغيرها. لقد وجدت علوم اللغة العربية وتوسعت من نحو إلى صرف إلى علوم البلاغة إلى فقه اللغة إلى صفات الحروف إلى غير ذلك، وكل ذلك لا يستغني عنه المفسر، وكان الصحابة أعرف الناس بأسباب النزول، وبعلم الناسخ والمنسوخ، وبالأحرف السبعة، وورثت الأمة هذه العلوم كما ورثت علم فضائل القرآن وآدابه وأحكامه، وفقه آيات أحكام ومحل السنة بالنسبة له، ووجد المختصون بعلم أصول الفقه وعلم أصول العقائد ليضعوا كل شيء في محله، والمفسر لا يستغني عن ذلك كله ليستطيع أن يضع كل نص في محله بالنسبة لمجموع النصوص القرآنية، ويستطيع أن يعرف دقائق المعاني، وليكون قادراً في النهاية على إبراز ما في هذا القرآن من إعجاز ومعجزات وخصائص وصفات. ومن المؤسف العجيب أنه وجد في عصرنا من لا يعطي من توافرت فيه هذه الشروط ثقته واحترامه، ويعطي لمن لم تتوافر فيه هذه الشروط ثقته واحترامه، وما ذلك إلا لعدم الرسوخ في العلم. لقد رأينا مثلاً أناساً لا يعتبرون لعلوم البلاغة محلاً في فهم القرآن، وكأن القرآن لم ينزل على أساليب العرب في الخطاب، وكأن علوم البلاغة ليست كعلوم النحو والصرف اللذين
لابد منهما لضبط النطق والفهم، كما أن علوم البلاغة لابد منها لضبط الفهم للنصوص. إن أمثال هؤلاء جعلهم بعض الناس أئمة في فهم القرآن الكريم، وحكماً على الراسخين في العلم ممن توافرت فيهم شروط المفسر الكامل، فالمفسر الكامل أصبح ضالاً عند أمثال هؤلاء. والذي ينكر أن يكون في اللغة العربية مجاز واستعارة وكناية وحذف مما يعتبر بدهيات عند أدنى طالب للعلم، أمثال هؤلاء جُعلوا مرجعاً وحكماً على الأولين، والذين يخالفون الإجماع في أصول عقدية أصبح بعضهم يعتبرهم حكاماً على المفسرين الذين اجتمع لهم فيما اجتمع من الرسوخ في العلم الرسوخ في علم الأصوليين. وذلك كله من غلبة الجهل والهوى وعدم معرفة الفضل لأهل الفضل. وهذا اقتضانا أن نخصص كتاباً سميناه الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص، لنرجع لمن يستأهل الثقة الجديرة به، ولنعرف أهل العصر على الزيف المخلوط بالدعاوى الكاذبة والممزوج في الوقت نفسه بكثير من الحق الذي يجعل الأمر ملتبساً، ولنعد إلى أصل الموضوع. وهذه خلاصات نستخلصها من كتابي الإتقان ومناهل العرفان في شروط المفسر للقرآن. أولاً: أن يحيط الإنسان بالقرآن الكريم وأن يكون دقيق الفهم له، فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً. ثانياً: أن يحيط بالسنة والسيرة لأنهما شارحتان للقرآن موضحتان له. ثالثاً: أن يعرف أقوال الصحابة في التفسير إذا كان لهم قول لأنهم أدرى بأسباب النزول وبفهم القرآن. رابعاً: أن يكون المفسر صحيح الاعتقاد، صحيح العمل، فمن كان صاحب بدعة أو هوى أو من فرقة ضالة كافرة أو مخالفاً للإجماع فإنه لا يؤتمن في الإخبار عن أبرار الله تعالى، وأن يكون من أهل الاجتهاد والمجاهدة والتقوى فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (1).
خامساً: أن يكون قادراً على أن يعرض القرآن عرضاً لا تتناقض به نصوص مع بعضها أو مع السنة الثابتة أو عمل الخلفاء الراشدين، أو يتناقض مع القطعيات العقلية. سادساً: أن يكون قادراً على الترجيح لأصوله الصحيحة فيما تعارضت فيه الأدلة. سابعاً: أن يكون ممتلئاً من علوم اللغة العربية، نحواً وصرفاً وبلاغة وفقه لغة ومعرفة بوجوه الإعراب ومفردات اللغة. ثامناً: قدرته على التمييز بين ما يمكن أخذه من كتب أهل الكتاب وما يجب رفضه، وقل مثل ذلك في التمييز بين ما أوصلت إليه الحفريات، وبعض العلماء يرى وجوب غلق باب الأخذ عن الإسرائيليات لما رأوا من طامات لا يحتملها العقل والشرع تدخل في كتب التفسير. تاسعاً: أن يعرف المتشابه والمحكم وأن يكون قادراً على حمل المتشابه على المحكم. عاشراً: أن يعرف أقوال أئمة الهدى من الراسخين في العلم في أصول الفقه، وأصول العقائد، والعقائد والفقه، والسلوك. حادي عشر: أن يعرف علوم القرآن وأن يعرف التحقيق في مفرداتها وخاصة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما يدخل في هذه العلوم ومما قاله صاحب مناهل العرفان في العلوم التي يحتاج إليها المفسر ناقلاً وملخصاً ما يلي: وقد بيَّن العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا: هي اللغة والنحو؛ والصرف، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول، والقصص، والناسخ، والمنسوخ، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم، وعلم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حبُّ دنيا أو ميل إلى المعاصي. قال الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال الإمام الشافعي: شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العِلْمَ نُورٌ ... ونور الله لا يُهْدى لعاصي هذه الشروط التي ذكرناها، وهذه العلوم كلها، إنما هي لتحقيق أعلى مراتب التفسير مع إضافة الاعتبارات المبهمة المنظورة في الكلمات القيمة الآتية: أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعَها القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيراً من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعانٍ، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد. فعلى المحقِّق المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزله والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه، وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية! فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه. وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته. ثانيها: الأساليب، فينبغي أن يكون عنده من علهما ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطُّن لنكته ومحاسنه، والوقوف على مُراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مُراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام. ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب. وعلم الأساليب (المعاني والبيان). ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب. ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مُسدَّدِين في النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع أتحسبون أن ذلك كان طبيعياً لهم؟ كلا. وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، لذلك صار أبناء العرب أشدَّ عجمةً من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعياً ذاتياً لهم، لما فقدوه في مدة خمسي سنة من بعد الهجرة. ثالثها: علم أحوال البشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبين فيه ما لم يبينه في غيره، وبين فيه كثيراً من أحوال الخلق وطبائعه وسننه الإلهية في البشر، وقصَّ
علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها. فلابدَّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشيء اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل وإيمان وكفر. ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه. ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة؛ من أهمها التاريخ بأنواعه. أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمالٌ صادرٌ عمن أحاط بكل شيء علماً. وأمرنا بالنظر والتفكير والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً ولو اكتفينا من علم المكون بنظرة في ظاهره، لكنَّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا مما حواه من علم وحكمة. رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوَّة من العرب وغيرهم لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه. يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". والمراد أن من نشأ في الإسلام، ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيراً لأحوال البشر، ومخرجاً لهم من الظلمات إلى النور. خامسها: العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشؤون دنيويها وأخرويها. اهـ. من مناهل العرفان. إذا عرفت ما ينبغي أن يتوفر في المفسر الكامل عرفت أن المفسر الكامل، إذا أراد أن يراعي كل أدوات التفسير فإنه يمكن أن يصل تفسيره إلى عشرات المجلدات، ولذلك فإن المفسرين كانوا على طبقات فمنهم من جمع مختصراً، ومنهم من جمع متوسعاً، ومنهم من اقتصر على أن يركز على علوم بعينها، وقد كثرت التفاسير، فلمع في كل عصر مفسرون كبار خدموا كتاب الله عز وجل الخدمة التي رأوا أن عصرهم يحتاجها، فوجد عندنا مالا
يحصى من التفاسير، ولابد للمسلم أن يميز بين نوعين من التفاسير، تفاسير أهل السنة والجماعة، وتفاسير الفرق الضالة، أو تفاسير أهل الشذوذ الذين خالفوا الإجماع، وغير المتمكن في العلوم لا ينبغي له أن يطالع إلا في تفاسير أهل السنة والجماعة ومع ذلك، فإن تفاسير أهل السنة والجماعة تأثر بعضها بثقافات خاطئة كانت محل اعتبار في عصورهم، ومن هاهنا فإن من المناسب للمسلم المعاصر أن يقرأ كتاباً موثقاً لمفسر معاصر، وقد كتبنا كتابنا الأساس في التفسير محاولين فيه أن نتجنب مثل هذه الأخطاء. وهناك كتب أطلق عليه اسم التفاسير وهي ليست في شيء من التفسير، وهي ما اصطلح عليه بالتفسير الإشاري وهذا النوع وجد في كتب خاصة ووجد في بعض التفاسير كجزء منها، وهو كما قلنا ليس من التفسير وإنما هو من باب تسجيل خواطر تقع في القلب عند تلاوة آية، فمن اعتقد أن مثل هذه الخواطر تفسير للقرآن عندما تتناقض مع ما قاله المفسرون الأثبات فإنه يكفر بذلك، فلابد من الانتباه إلى مثل هذا. ويقسم بعض المؤلفين التفسير إلى نوعين: تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي، وهو تقسيم مدرسي لا نعترض عليه لكنا نقول لا فارق في باب الهداية بين هذين النوعين من التفاسير ما دام أصحابه من أئمة الهدى الراسخين في العلم. ومن المناسب للمسلم المعاصر أن تكون له مطالعاته في كتب التفسير الموثقة حتى إذا أراد معرفة إعراب أو نكتة بلاغية عرف كيف يراجعها، ومن المناسب لأتباع كل مذهب فقهي من المذاهب الأربعة أن يرجعوا إلى تفسير لإمام من أئمة مذهبهم ليعرفوا وجهة نظر مذهبهم الفقهي من فهم الآيات كأحكام القرآن للجصاص، وكتفسير أبي السعود مثلاً من فقهاء الحنفية، هذا مع محاولة التعرف على مفردات القرآن في كتاب يجمعها ككتاب المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني فإنه قيم جداً، ومحاولة قراءة لتفسير معاصر شامل وموثق. ونحن في هذا الفصل سنقتصر على ذكر ما اعتاد المحدثون أن يذكروه في كتبهم تحت عنوان التفسير، وسنرى بذلك نموذجاً على التفسير المأثور بحق، كما سنرى أن اهتمامات
المحدثين في باب التفسير تنصب إلى حد كبير على أسباب النزول وعلى الناسخ والمنسوخ هذا وإننا لم نذكر كل ما أدخلته أصول هذا الكتاب (1) في هذا الفصل لأن بعضاً منها ذكر في سياقات أخر ففي قسم السيرة وقسم العقائد وفي بية أقسام هذا الكتاب وردت أشياء في سياقاتها الألصق بها، إذ كان بالإمكان إدخالها في فصل التفسير، ثم إن بعضاً منها ليس له أسانيد متصلة، وبعضها منقول عما بعد جيل التابعين وهذا لا يدخل في أصل موضوع هذا الكتاب، فلم نذكره وهناك أحاديث لصيقة بكتب التفسير عند المحدثين إلا أنها وردت عندنا في سياقات أخرى فكثير منها لم نذكره حتى لا يتكرر ما أمكننا ذلك وإلى نصوص هذا الفصل.
من تفسير سورة الفاتحة
من تفسير سورة الفاتحة قال البخاري: وسميت أم الكتاب، أنه يُبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة، والدين الجزاء في الخير والشر، كما تدين تدان، وقال مجاهد بالدين بالحساب، مدينين محاسبين "الفتح 8/ 155 - 156". 2497 - * روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى". أقول: لقد أمرنا أن ندعو الله عز وجل في الفاتحة بأن يجنبنا صراط اليهود والنصارى فإذا كان الأمر كذلك، وهؤلاء أهل كتاب بيقين، فمن باب أولى أن نتجنب صراط غيرهم، ومن وَصْفِ اليهود بالمغضوب عليهم، والنصارى بالضالين نعرف سبب الأمر بتجنب صراطهم مع أن موسى وعيسى رسولان عليهما الصلاة والسلام، ولكن أتباع موسى استقروا على ما يغضب الله، وأتباع عيسى استقروا على الضلال، والمنهاج الصحيح لموسى وعيسى عليهما السلام هو الإسلام ونحن وارثوه، ولكن صراطهم الذي أوصلهم للغضب والضلال هو الذي نهينا أن نسير فيه. 2498 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه" (1).
سورة البقرة
سورة البقرة 2499 - *روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قِيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} فبدَّلوا، فدخلوا بزحفون على أستاههم فبدلوا، وقالوا: حِطَّة حبَّةٌ في شعرةٍ". وفي رواية (1) الترمذي في قول الله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: "دخلوا متزحفين على أوراكهم: أي مُنحرفين". قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} قال: "قالوا: حبَّةٌ في شعرةٍ". 2500 - * روى البزار عن ابن عباس في قوله تعالى {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} قال أبو جهل لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأنَّ على عنقِهِ. فقيل: هو ذاك. قال: ما أراهُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو فعل لأخذتْه الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا". 2501 - * روى الشيخان عن انس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه قال: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقامِ. فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (1). 2502 - * روى الطبراني عن ابن عباس {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} كان إبراهيم احتجرها دون الناس، فأنزل الله: ومن كفر أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أمتعُهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار، ثم قرأ ابن عباس {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}. 2503 - * روى مسلم عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فمر رجلٌ من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، قد صلوا ركعةً، فنادى: ألا إنَّ القِبلة قد حُوِّلت، فمالوا كما هم نحو القبلة. وأخرجه أبو داود، وقال: فيه نزلت الآية، فمر رجلٌ من بني سلمة، وهم ركوعٌ في صلاة الفجر، نحو بيت المقدس، فقال: ألا إن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة - مرتين - قال: فمالوا كما هم ركوعاً إلى الكعبة. 2504 - * روى البخاري عن أبي سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "يجيءُ نوح وأمتُه، فيقول الله: هل بلغت؟ فيقول: نعم، أي ربِّ، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبيٍّ، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فنشهد أنه قد بلغ"، وهو قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1). إلا أن في رواية الترمذي، فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد- وذكر الآية إلى آخرها- ثم قال: والوسطُ، العدل. واختصره الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطا) قال: عدلاً. 2505 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال عدلاً. أقول: العدل، مفرد العدول، وهم الذين اتصفوا بصفة العدالة، فهم غير متهمين بضلال أو فسوق أو انخرام مروءة. 2506 - * روى الشيخان عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1) فوالله ما على أحدٍ جُناحٌ أنْ لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئسما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت على ما أولتها: كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلُّون لمناةَ الطاغية، التي كانوا يعبدونها عن المُشلَّلِ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أنْ نطوف بين الصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الطواف بينهما، فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما. قال الزهري: فأخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا العِلْم ما كنتُ سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يُهِلُّ لمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، فهل علينا من حرجٍ أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ} الآية ... قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بين الصفا والمروة، والذين كانوا يطوفون ثم ترجوا أن يطوَّفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت. وفي رواية (2): أن الأنصار كانوا قبل أن يُسْلِموا - هم وغسان يُهِلُّون لمناة - فتحرَّجوا
أن يطوَّفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سُنَّةً في آبائهم، من أحرم لمناة لم يطفْ بين الصفا والمروة، وإنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وذكر إلى آخر الآية. 2507 - * روى الشيخان عن عاصم بن سليمان الأحول رحمه الله قال: قلت لأنسٍ: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية، حتى أنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وفي رواية (1): كنا نرى ذلك من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ، أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل، وذكر الآية. وفي رواية (2) قال: كانت الأنصارُ يكرهون أن يطوَّفوا بين الصفا والمروة، حتى
نزلت: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. 2508 - * روى البخاري عن مجاهد رحمه الله قال: سمعتُ ابن عباس يقول: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الديَةُ، فقال الله عز وجل لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فالعفو: أن يقْبل الرجل الدية في العمد، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}: أن يطلب هذا بمعروفٍ، ويؤدي هذا بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كُتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قتل بعد قبول الدية. 2509 - * روى البخاري عن عطاءٍ رحمه الله أنه سمع ابن عباس يقرأ: (وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكينٍ) قال ابن عباس: ليست بمنسوخةٍ هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيُطعمان مكان كل يومٍ مسكيناً. وفي رواية أبي داود (1) قال: {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء منهم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى، وتم له صومُه، فقال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ثم قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وفي أخرى (2) له: أثبتتْ للحُبلى والمرضعِ، يعني الفدية والإفطار. وفي أخرى (3) له: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: كانت رُخصةً
للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة - وهما يُطيقان الصيام - أن يُفطرا، ويُطعمَا مكان كل يومٍ مسكيناً، والحُبلى والمرضع: إذا خافتا - يعني على أولادهما - أفطرتا وأطعمتا. وأخرجه النسائي (1) قال: في قول الله عز وجل {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: يُطيقونه: يُكلَّفونه، فديةٌ طعامُ مسكين واحد، فمن تطوع: فزاد على مسكين آخر، ليست بمنسوخة، فهو خير له، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} لا يرخص في هذا إلا للذي ل يطيق الصيام أو مريضٍ لا يُشفى. أقول: قراءة يُطوَّقونه: قراءة شاذة لأنها تخالف الرسم العثماني للمصحف، وهي كالتفسير لوجه من الأوجه التي تحتملها الآية. 2510 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قرأ {فِدْيَةٌ طعامِ مِسْكِينٍ} قال: هي منسوخة. هذه القراءة بإضافة فدية إلى طعام وبجمع كلمة مساكين قراءة نافع وابن ذكوان ومراد الراوي بالنسخ، نسخ الحكم لا نسخ التلاوة لأن هذه القراءة من القراءات السبع المتواترة وقراءة حفص كما هو المعلوم {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بتنوين فدية وإفراد مسكين، أما قراءة هشام أحد الرواة عن ابن عامر وهو من القراء السبعة فإضافة فدية وإفراد مسكين فتكون قراءته {فِدْيَةٌ طعامِ مِسْكِينٍ}. والخلاصة أن هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فيها ثلاثة آراء:
الأول: الذي يقول إن هاهنا حرفاً محذوفاً والتقدير وعلى الذين لا يطيقونه ونرى أن هذا لا يليق بجلال القرآن وإعجاز نظمه ولو كان مراداً لقيل: وعلى الذين لا يطيقونه. الثاني: أن هذه الآية في الذين يتحملونه بصعوبة كما ذهب إلى ذلك ابن عباس ومعناها أن الذين يجدون مشقة في الصوم كالحامل والمرضع والشيخ الهرم والمريض يمكنهم الفطر وعليهم فدية لكن الصوم أفضل ويبدو أن هذا لا يتفق مع يسر الشريعة وقول الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}. والرأي الثالث: وهو ما ذهب إليه ابن عمر ورجحه كثير من العلماء أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فقد كان أولاً يجوز لمن يستطيع الصيام ولم يرد أن يصوم أن يفطر ويخرج فدية فمن تطوع خيراً أي زاد على هذه الفدية فذلك خير ولكن مع التخيير يبقى الصوم أفضل ثم نسخ هذا وهو من حكمة التشريع في التدرج وأثبت الصوم على كل مستطيع دون تخيير وفي النصوص التالية ما يؤكد ذلك. 2511 - * روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: نزل شهر رمضان، فشقَّ عليه، فكان من أطعم كل يومٍ مسكيناً ترك الصوم، ممن يُطيقه، ورُخص لهم في ذلك، فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمروا بالصوم. 2512 - * روى الجماعة إلا الموطأ عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (1) كان من أراد أن يُفطر
ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وفي رواية (1): حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. 2513 - * روي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما نزل صومُ رمضان، كانوا لا يقربُون النساء رمضان كُلَّه، وكان رجالٌ يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (2). 2514 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) قال: وكان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ، وصاموا إلى القابلة، فاختان رجلٌ نفسه فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يُفطِرْ، فأراد الله أن يجعل ذلك يسراً لمن بقي ورخصة ومنفعةً، فقال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية فكان هذا مما نفع الله به الناس، ورخص لهم ويسرَ. 2515 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، إذا كان الرجلُ صائماً، فحضر الإفطارُ، فنام قبل أن يفطر، لم يأكلْ ليلتَهُ ولا يومَهُ، حتى يُمسي، وإن قيس بن صِرْمَةَ الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار، أتى امرأتهُ، فقال: أعندَكِ طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أنطَلِقُ فأطلبُ لك، وكان يومَهُ
يعملُ، فغلبتْهُ عينُهُ، فجاءت امرأتُهُ، فلما رأتْهُ، قالتْ: خيبةً لك، فلما انتصف النهار، غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ففرحوا فرحاً شديداً، ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. 2516 - * روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: نزلتْ هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجَّوا فجاؤوا، لم يدْخلوا من قِبَلِ أبواب البيوت، فجاء رجلٌ من الأنصار، فدخل من قِبَلِ بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (1). وفي رواية (2) قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. 2517 - * روى البخار يعن حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة (3). 2518 - * روى الترمذي عن أسلم أبي عمران رحمه الله قال: كُنا بمدينة الرُّوم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلُهم أو أكثرُ، وعلى أهل مصر: عُقبةُ بن عامرٍ، وعلى الشَّامٍ: فضالةُ بن عبيدٍ، فحمل رجل من المسلمين على صفِّ
الروم، حتى دخل فيهم، فصاح الناسُ، وقالوا: سُبحان الله! يُلقِي بيديه إلى التهلكة؟! فقام أبو أيُّوبٍ الأنصاريُّ، فقال: يا أيها الناس إنكم لتؤوِّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار: لما أعز الله الإسلام، وكثُر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إن أموالنا قد ضاعتْ، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصْلَحْنا ما ضاع منها، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه، يردُّ علينا ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وكانت التهلكة: الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوبٍ شاخصاً في سبيل الله، حتى دُفِنَ بأرض الروم. وفي رواية صحيحة (1) عند أبي داود قال: "غزونا من المدينة، نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبْدُ الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلْصقُوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس، مه مه، لا إله إلا الله يُلْقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوبٍ: إنما أُنزِلتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيهُ، وأظهر الإسلام، قلنا: هلُمَّ نُقيمُ في أموالنا ونُصْلِحُها، فأنزل الله عز وجل {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أنْ نقيم في أموالنا ونُصْلِحها، وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوبٍ يُجاهِدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية". فائدة: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد توفي سنة 46 للهجرة وهذا يعني أن هذه الغزوة غير الغزوة المشهورة سنة 52 التي توفي فيها أبو أيوب وكان على رأسها يزيد بن معاوية، أفاده العلامة أحمد شاكر ذكر ذلك محقق جامع الأصول -2/ 32. 2519 - * روى الطبراني في الكبير والأوسط عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما في
قوله تعالى قال {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال كان الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر الله لي فأنزل الله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. 2520 - * روى أحمد عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحملُ على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} إنما هو في النفقة. أقول: لعل ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أوضح مثال على أن النص القرآني تأخذ منه معنى، وتأخذ من محله في سياقه القريب السابق معنى، ومن سياقه القريب اللاحق معنى، ومن سياقه العام معنى، فهذا النص جاء في سياق الأمر بالإنفاق، فأخذ بعضهم من ذلك معنى: أن ترك الإنفاق إلقاء بالنفس إلى التهلكة. وجاء بعده قوله تعالى: (وأحسنوا) فاخذ بعضهم من ذلك: أن القنوط من رحمة الله إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وجاء قبل هذه الآية آيات القتال فأخذ بعضهم منها، أن إلقاء النفس إلى التهلكة هو: ترك القتال في سبيل الله تعالى. واستشهد عمرو بن العاص بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عندما صلى بأصحاب دون اغتسال من الجنابة خوف الهلاك فأخذ بظاهر النص، وهكذا تجد من خلال ظاهر النص وسياقه القريب سواء كان سابقاً أو لاحقاً، ومن السياق العام تتولد معانٍ كثيرة، ولقد أبرزنا هذا الموضوع في تفسيرنا وأبرزنا أن لكل سورة سياقها الخاص بها على ضوء محورها، وأن للقرآن كله سياقه، وبذلك أوضحنا أنه بسبب ذلك تتولد معانٍ لا حصر لها من هذا القرآن العظيم وذلك من معجزات هذا القرآن. قال ابن جرير الطبري 2/ 119 بعد ذكر عدة معانٍ للإلقاء بالتهلكة (1): فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولم يكن الله عز
رجل خص منها شيئا دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي. 2521 - * روى الشيخان عن عبد الله بن معقل رضي الله عنهما قال: "قعدْتُ إلى كعب بن عُجرة في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة - فسألته عن فدية من صيامٍ؟ فقال: حُملتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمْلُ يتناثرُ على وجهي، فقال: فقال: "ما كنتُ أُرى أنَّ الجهد بلغ بك هذا؟ أما تجدُ شاةً؟ " قلت: لا، قال: "صُمْ ثلاثة أيامٍ، واحلق رأسك"، فنزلت في خاصةً، وهي لكم عامة". أقول: هذا النص يشير إلى قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. فكعب بن عجرة يذكر أن به نزل هذا النص ولكنه عام، فخصوص السبب لا ينفي عموم اللفظ، وأقل النسك ذبح شاة، والصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة أصوُع من طعام على ستة مساكين. 2522 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهلُ اليمن يحجُّون، فلا يتزَوَّدُون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قَدِمُا مكة سألوا الناس، فأنزل الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1).
2523 - * روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أُنزلتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهُم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رئيهُما، فأنزل الله تعالى بعد (من الفجر) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار. 2524 - * روى الشيخان عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: لما نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، عمدت إلى عِقالٍ أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتُهما تحت وسادتي، وجعلتُ أنظرُ من الليْل، فلا يستبينُ لي، فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك له فقال: "إنما ذلك سوادُ الليْل وبياضُ النهار". واختصر النسائي: أن عدي بن حاتمٍ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قال: "هو سوادُ الليل وبياض النهار". وفي رواية للبخاري (1)، قال: أخذ عديٌّ عقالاً أبيض وعقالاً أسود، حتى كان بعض الليل، نظر، فلم يستبينان فلما أصبح قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلتُ تحت وسادتي خيطاً
أبيض، وخيطاً أسود، قال: "إنَّ وسادك لعريضٌ، أن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادك". وفي أخرى له (1) قال: قلتُ: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود: أهما الخيطان؟ قال: "إنك لعريض القفا، أن أبْصرت الخيطين" ثم قال: "لا، بل هما سواد الليل وبياضُ النهار". 2525 - * روى الشيخان عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدِمَ المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار، وأنه صلى قِبلَ بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شراً، وكان يعجبه أن تكون قبلتُه قبل البيت، وأنه صلى أول صلاةٍ صلاها صلاة العصر، وصلى معه قومٌ فخرج رجلٌ ممن صلى معه فمر على أهل مسجدٍ وهم راكعون، فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبلَ الكعبة، فداروا كما هم قِبلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولَّى وجهه قِبلَ البيت أنكروا ذلك. أقول: قوله: وأهل الكتاب أي أنهم كان يعجبهم ما يعجب اليهود من الصلاة إلى بيت المقدس. وفي رواية (2): أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وفي أخرى (3): وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يُوجَّه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجه نحو الكعبة، فقال السفهاء وهم اليهود {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. أقول: عُبِّرَ بلفظ الإيمان في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} عن الصلاة وذلك دليل على أن الصلاة هي المظهر الأول للإيمان ولأنها تذكر بأركان الإيمان، ولأنها تجديد للإيمان وبها حياة الإيمان وحيويته. 2526 - *روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف بإخواننا الين ماتوا وهم يصلُّون إلى بيت المقدسِ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية. 2527 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عُكاظُ ومجنَّةُ، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية؛ فلمَّا كان الإسلام، فكأنهم تأثَّموا أنْ يتجِرُوا في المواسم، فنزلت: (ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربِّكُمْ في مواسم الحجِّ) قرأها ابن عباس هكذا (1) وفي رواية (2): (أنْ تبتغوا في مواسم الحج فضلاً من ربكم). وفي رواية (3) أبي داود، أنه قرأ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} قال: كانوا لا يتَّجِرُون بمنىً، فأُمِروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات. وفي أخرى (4) له قال: إنَّ الناس في أوَّل الحج كانوا يتبايعونَ بمنىً وعرفة وسُوقِ ذي
المجاز وهي مواسمُ الحجِّ، فخافوا البيع وهم حُرمٌ، فأنزل الله عز وجل: (لا جُناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج) قال عطاء بن أبي رباحٍ: فحدثني عُبيد بن عميرٍ أنه كان يقرؤها في المصحف. 2528 - * روى أبو داود عن أبي أمامة التيميِّ رحمه الله قال: كنتُ رجلاً أكْري في هذا الوجه، وكان الناس يقولون لي: إنه ليس لك حجٌّ، فلقيتُ ابن عمر، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناساً يقولون: إنه ليس لك حجٌّ، فقال ابن عمر: أليس تُحرمُ وتُلبي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟ قلت: بلى، قال: فإن لك حجًّا، جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني، فسكت رسول الله فلم يُجِبْه حتى نزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وقال: "لك حجٌّ". 2529 - * روى البخار يعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان يطوفُ الرجل بالبيت ما كان حلالاً، حتى يُهِلَّ بالحج، فإذا ركب إلى عرفة، فمن تيسر له هديه من الإبل، أو البقر، أو الغنم، ما تيسر له من ذلك، أيُّ ذلك شاء، غير أنْ لم يتيسرْ له، فعليه ثلاثةُ أيامٍ في الحجِّ، وذلك قبل يوم عرفة، فإن كان آخر يومٍ من الأيام الثلاثة يوم عرفة، فلا جُناح عليه، ثم لينطلقْ حتى يقف بعرفاتٍ من صلاة العصر، إلى أن يكون الظلام، ثم ليدفعُوا من عرفاتٍ، فإذا أفاضوا منها، حتى يبلغوا جمعاً (1)، الذي يتَبَرَّزُ
فيه، ثم ليذْكُروا الله كثيراً، ويُكثِرُوا من التكبير والتهليل، قبل أن يصبحوا (ثم أفيضوا) فإن الناس كانوا يفيضون، وقال الله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) حتى يرموا الجمْرَة. أقول: بد النص بالإشارة إلى ما يفعله المتمتع بالحج من ذبح، فإن لم يتسر له الذبح صام ثلاثة أيام لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة، ويصوم إذا رجع إلى أهله تتمة العشرة ثم تحدث النص عما ذكره الله عز وجل بعد ذلك من آيات في سورة البقرة عن إفاضة من عرفات إلى المزدلفة ثم يفيضون من مزدلفة إلى منى وهناك يرمون جمرة العقبة فيذبحون ويحلقون ثم يطوفون بالبيت. 2530 - * روى أبو يعلي عن ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال على الإسلام كلهم. أقول: في هذه الآية مذهبان: أن الناس بعد آدم عليه السلام كانوا على الإسلام فاختلفوا فبعث الله الرسل عليهم السلام، وهذا الذي ذكره ابن عباس، والمذهب الثاني أن الناس جميعاً كفروا بعد إذ كانوا مسلمين على دين آدم عليه السلام فبعث الله إليهم الرسل. 2531 - * روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "في صِمامٍ واحدٍ" ويروى: "في سمام واحد" بالسين".
2532 - * روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحوَلَ، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. وأخرجه الترمذي قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأةً في قُبُلِها من دُبُرها ... وذكر الحديث وهو في الجماع من الخلف في الفرج. 2533 - * روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: "وما أهلكك؟ " قال: حوَّلْتُ رحْلي الليلة، قال: فلم يرُدَّ عليه شيئاً، قال: فأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبلْ وأدْبرْ، واتَّقِ الدُّبُرَ والحيضة. 2534 - * روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن ابن عمر - والله يغفرُ (1)
له- أوْهَمَ: إنما كان هذا الحي من الأنصار - وهم أهلُ وثنٍ- مع هذا الحيّ من يهود - وهم أهل كتابٍ - فكانوا يروْن أنَّ لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب: أن لا يأتوا النساء إلا على حرفٍ، وذلك أسترُ ما تكون المرأةُ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً مُنكراً، ويتلذذون منهن مُقبلاتٍ، ومدبراتٍ، ومستلقيات. فلما قدِم المهاجرون المدينة: تزوَّج رجلٌ منهن امرأةً من الأنصار، فذهب يصنعُ بها ذلك، فأنكرتْهُ عليه، وقالت: إنا كُنَّا نُؤتَى على حرفٍ، فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، حتى شري أمرهُما، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، أي: مُقبلاتٍ، ومُدبراتٍ، ومستلقياتٍ، يعني بذلك موضع الولد. 2535 - * روى مالك عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نزل قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (1) في قول الرجل: لا والله، وبلى والله". وفي رواية (2) أبي داود قال عطاء في اللغو في اليمين، قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو قولُ الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله" ورواه أيضاً عنها موقوفاً. 2536 - * روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنُسخ ذلك، فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2). 2537 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الناسُ والرجلُ يُطلِّقُ امرأته ما شاء أن يُطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرةٍ أو أكثر، حتى قال رجلٌ لامرأته: والله لا أطلقك، فتبينين مني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلِّقُكِ، فكلما همتْ عدتُك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) قالت عائشة: فاستأنف النساُ الطلاق مستقبلاً: من كان طلق، ومن لم يكن طلق". 2538 - * روى البخاري عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: كانت لي أختٌ تُخطبُ إليَّ، فأتاني ابن عم لي، فأنكحتُها إياه، ثم طلقها طلاقاً له رجعةٌ، ثم تركها حتى انقضت عدتُها، فلم خُطبت إليَّ أتاني يخطبها فقلت له: والله لا أنكحتُكها أبداً، قال: ففي نزلت هذه الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (4) الآية فكفرتُ عن يميني، وأنكحتُها إياه. وفي أخرى (5) للبخاري فيها: فحَمِيَ معقلٌ من ذلك أنفاً وقال: خلا عنها، وهو
يقدرُ عليها، ثم يخطبها، فحال بينه وبينها، فأنزل الله هذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه فترك الحَمِيَّة، واستقاد لأمر الله عز وجلَّ. أقول: الطلقة غير البائنة تعتبر طلقة رجعية أي يجوز للزوج أن يُراجع مطلقته ما دامت في العدة، فإذا انقضت العدة ولم يراجعها أصبح الطلاق بائناً بينونة صغرى، فلا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد عن تراضٍ، وكان معقل متألماً من زوج أخته لأنه كان باستطاعته أن يراجعها خلال العدة فلم يفعل وجاء بعد ذلك يطلبها، والظاهر أنها كانت راضية، فأراد أخوها منعها من الزواج بزوجها الأول، فأنزل الله ما أنزل. 2539 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في قوله تعالى: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (1) هو أن يقول: إني أُريدُ التزوج ولوددت أن تُيسر لي امرأةٌ صالحةٌ. أقول: ما دامت المرأة في العدة لا يجوز لأحدٍ أن يخطبها أو يواعدها سراً على الزواج بعد لعدة ولكن يجوز له التعريض بالنكاح كما ذكر ذلك ابن عباس. 2540 - * روى الستة إلا مالكاً عن عليٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
وفي رواية (1): "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر". وفي أخرى (2): ثم صلاها بين المغرب والعشاء. 2541 - * روى مسلم عن ابن مسعودٍ: حبس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرتْ، فقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً". 2542 - * روى مالك في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} عن عمرو بن رافعٍ مولى عمر بن الخطاب حدث أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال فاستكتبتني حفصةُ مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني بها فأمليها عليك كما حفظتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتُبها فيها فقالت اكتب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين). 2543 - * روى الستة إلا البخاري عن أبي يُونس مولى عائشة أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله علي وسلم.
أقول: يحتمل أن يكون ذكر صلاة العصر بعد الصلاة الوسطى من المنسوخ التلاوة كما يحتمل أن يكون تفسيراً توهم من سمعه أنه قرآن، ويدل على النسخ النص اللاحق. 2544 - * روى مسلم عن البراء: نزلت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وصلاة العصر} فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وقال رجل: فهي إذاً صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتُك كيف نزلتُْ، وكيف نسخها الله، والله أعلم. 2545 - * روى أبو داود عن زيد بن ثابتٍ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يُصلي صلاةً أشدَّ على أصحابه منها فنزلتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. أقول: هذا وجه آخر لتفسير الصلاة الوسطى وهو وجه ضعيف بالنسبة للوجه الأول، ومن النص نفسه نستشعر احتمال الخطأ، فالعصر هي التي تسبقُها صلاتان ويأتي بعدها صلاتان. 2546 - * روى الطبراني عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قال: "كانوا يتكلمون في الصلاة يجيءُ خادمُ الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته فنهوا عن الكلام" (1).
2547 - * روى البخاري عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا -إلى قوله- غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد نسختها الآية الأخرى، فلِمَ نكتُبها أو تدعُها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيرُ شيئاً منه من مكانه. أقول: قوله تدعها: أي تكتبها متروكة فهو شك من الراوي هل قال تكتبها أو تدعها وفي رواية فلم تكتبها قال أبو عثمان: تدعها يا ابن أخي أي اتركها مكتوبة. وتتمة الآية {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والآية هذه نموذج على ما نسخ حُكْمُه ولم تنسخ تلاوته. 2548 - * روى البخاري عن مجاهد بن جبرٍ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (1) قال: كانتْ هذه العدةُ، تعتدُّ عند أهل زوجها واجبٌ، فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} (2). قال: "فجعل الله لها تمام السنة سبعة أشهرٍ وعشرين ليلةً وصيةً، إن شاءتْ سكنت في وصيتها، إنْ شاءتْ خرجتْ، وهو قول الله عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، فالعدةُ كما هي واجبٌ عليها" زعم ذلك ابن أبي نُجيحٍ عنْ مجاهدٍ، قال ابن أبي نجيحٍ: وقال عطاء: قال ابن عباس: "نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله عز وجل: (غير إخراج) " قال عطاء: "إن شاءت اعتدتْ عند أهلها، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله عز وجل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} قال عطاءٌ: ثم جاء الميراث، فنسخ السُّكنى، فتعتدُّ حيث شاءت، ولا سكنى لها".
وفي رواية (1) أبي داود مختصراً، قال ابن عباس: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} "فنسخ ذلك بآية الميراث ما فرض الله لهن من الرُّبُع والثُّمُن، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهرٍ وعشراً. وفي أخرى (2) له قال ابن عباسٍ: "نسختْ هذه الآيةُ عِدَّتَها عند أهلها، فتعتدُّ حيث شاءت، وهو قول الله عز وجل: (غير إخراج)، قال عطاء: إن شاءت اعتدتْ عند أهله، وسكنت في وصيتها، وإن شاءتْ خرجتْ، لقول الله عز وجل {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} قال عطاء: ثم جاء الميراثُ فنسخ السكنى، تعتدُ حيث شاءتْ". وأخرج النسائي روايتي أبي داود. 2549 - * روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في الأنصار، كانت تكونُ المرأةُ مِقلاةً فتجْعَلُ على نفسها: إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلما أجْلِيَتْ بنو النضير، كان فيهم كثير من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندعُ أبناءنا، فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. 2550 - * روى أبو يعلي عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} قال: لم يتغيرْ.
2551 - * روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحنُ أحقُّ بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ويرحمُ الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسفُ، لأجبتُ الداعي". وفي رواية (1) الترمذي، قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الكريم بْنَ الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولو لبثت في السجن ما لبث، ثم جاءني الرسول: أجبتُ"، ثم قرأ {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (2) قال: "ورحمةُ الله على لوطٍ، إن كان ليأوي إلى ركنٍ شديد فما بعث الله من بعده نبياً إلا في ثروةٍ من قومه". أقول: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي" من باب الترخيص والرحمة بأمته عليه الصلاة والسلام ليبين لهم أن ما فعله يوسف عليه السلام في المراجعة لإثبات براءته قبل الخروج من السجن ليس مطلوباً من آحاد هذه الأمة، وهذا يدل على أن السجن نوع من العذاب الشديد.
2552 - * روى البخاري عن عُبيد بن عُمير رحمه الله قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم تروْنَ هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} قالوا: الله أعلمُ، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلمُ، أو لا نعلمُ، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضُربتْ مثلاً لعمل، قال عمر: أيُّ عملٍ؟ قال ابن عباس، لعملٍ، قال عمر: لرجل غنيٍّ يعملُ بطاعة الله، ثم بعث عز وجل له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله". وتمام الآية {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (1). 2553 - * روى الترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: في قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (2) "نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخلٍ، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصُّفة ليس لهم طعامٌ، فكان أحدهم إذا
جاع، أتى القِنْوَ، فضربه بعصاه، فسقط البُسْرُ والتمر، فيأكل، وكان ناسٌ ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشيصُ والحشفُ، وبالقنو قد انكسر، فيعلقه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أعطى، لم يأخذه إلا على إغماض أو حياءٍ، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدُنا بصالح ما عنده". 2554 - * روى الترمذي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشيطان لمةً بابن آدم، وللملكِ لمَّة، فأما لمةُ الشيطان، فإيعادٌ بالشرِّ، وتكذيبٌ بالحق، وأما لمةُ الملكِ، فإيعادٌ بالخير، وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فيحمد الله، ومن وجد الأخرى، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (1). أقول: هذا النص أصل فيما يذكره أهل القلوب مما يرد على القلب، فيقسمون ذلك أربعة أقسام، وسوسة الشيطان، ووارد الملك، وهاجس النفس، والإلهام الرباني، ولكل علاماته عند أهل القلوب ومن كان قلبه سليماً وطعامه حلالاً سهُلَ عليه أن يميز ما يلقى في قلبه.
2555 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية (1) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيقُ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نُطيقُها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بلْ قولوا: سمعنا وأطعنا، غُفرانك ربنا وإليك المصير" قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القومُ، وذَلَّتْ بها ألسنتُهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك: نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: نعم. 2556 - * روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلتْ هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} دخل قلوبهم منها شيءٌ، لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: سمعنا وأطعنا وسلَّمْنَا"، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلتُ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلتُ {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: فعلتُ.
وفي رواية (1) الترمذي مثله، وقال: فأنزل الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، وزاد فيه: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} ... الحديث. قال النووي: في الحديث إشفاق الصحابة من عدم قدرتهم القيام بما كلفتهم به ظاهر الآية. وقولهم (لا نطيقها) لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب. وقد اتجه العلماء في هذه الآية اتجاهين. الأولى: أن الآية {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ناسخة للأولى (وإن تبدوا). الثاني: أن الآيتين محكمتان ولا نسخ وأن الآية (وإن تبدوا) عموم يصح أن يشتمل على ما يُمْلَكُ من الخواطر دون ما لا يُملكُ فتكون الآية الأخرى مخصصةً، قال النووي فيما نقله عن الواحدي: والمحققون يختارون أن الآية محكمة غير منسوخة. وقال القاضي عياض لا وجه لإبعاد النسخ فإن راويها قد روى فيها النسخ. لكن اختلف في قول الصحابي نسخ كذا بكذا هل يكون حجة يثبت بها النسخ؟ والمحققون على أنه قد يكون قوله عن اجتهاد وتأويل فلا يكون نسخاً حتى ينقل عن رسول الله (باختصار وتصرف انظر شرح النووي على مسلم 2/ 149 - 151). 2557 - * روى الستة إلا مالكاً عن أبي هريرة رفعه: "إن الله تجاوز لأمتي مالم تكَلَّمْ به أو تعمل به وما حدَّثَتْ به أنفُسها".
سورة آل عمران
سورة آل عمران 2558 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) فقال: "فإذا رأيْتُم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأُولئك الذين سمَّى الله فاحذَرُوهُم". وفي رواية (2) الترمذي، قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفيها: "فإذا رأيتمُوهم فاعرفوهم" قالها مرتين، أو ثلاثاً. قال الشيخ حسنين محمد مخلوف عند قوله تعالى وابتغاء تأويله: "وطلب تأويل الكتاب وتحريفه، التأويل الباطل الذي يشتهونه والتحريف السقيم الذي يقصدونه زاعمين أنه الغاية المرادة منه، وذلك شأن أهل البدع والأهواء والملاحدة في كل عصر. وتبعهم في ذلك الذين سموا أنفسهم مبشرين في هذا العصر". اهـ صفوة البيان لمعاني القرآن. أقول: الفرق الضالة عن الإسلام وهي اثنتان وسبعون فرقة لم ترفض القرآن وإنما لجأت إلى هذا الأسلوب من التأويل الفاسد وتحكيم الهوى حتى خرج بعضها من الإسلام خروجاً تاماً وبعضها ضلت ولم تكفر، ومن دراسة لتاريخ الفرق التي أجمع أهل السنة والجماعة على ضلالها نتعرف على أنواع من المتشابه ضلت به هذه الفرق فما من فرقة إلا وقد ضلت بمتشابه بالنسبة لها أخذت به وأولته وتركت المحكم، ولا شك أن مما يدخل في الآيات المتشابهات آيات لها صلة بقضايا عقدية، فالنص يدل على ذلك قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} فمن ذهب إلى أن كل ما ورد في باب الاعتقاد لا يدخل في باب المتشابه،
فقد خالف النص مخالفة صريحة، وللعلماء اتجاهات في الوقف، فبعضهم يقف عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وبعضهم يقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. فعلى الوقف الثاني: فإن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد وصفت الآيات نفسها الراسخين في العلم فقالت: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} وفي أواخر سورة آل عمران وصف أولو الألباب بقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) فالراسخون في العلم هم من اجتمع لهم ذكر وفكر وتسليم وهداية ورسوخ في العلم، فهؤلاء إذا أوَّلوا فإنه يسلم لهم تأويله، وعندك علامة تفرق بها بين أئمة الهدى وأئمة الضلال. أما أئمة الهدى لا يخالفون إجماعاً، وقد ظهر بعض الناس قديماً وحديثاً يتابعون من خالف الإجماع ويحكمون على أئمة الهدى بالضلال، فهؤلاء يدخلون في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). 2559 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: تفسير قول المرأةِ الصالحةِ {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (2) أي: خالصاً للمسجد يخدمُهُ. 2560 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} (3)، اقترعوا فجرتْ أقلامُهُمْ مع الجرية، فعال قلَمُ زكريا الجرْيَة.
2561 - * روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكلِّ نبيٌّ وُلاةً من النبيين وإن وليِّي أبي وخليلُ ربي إبراهيم، ثم قرأ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (1). 2562 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} (2). قال: حُلماءُ فقهاء عُلماءُ. 2563 - * روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رجلٌ من الأنصار أسلم، ثم ارتدَّ، ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلْ لي من توبةٍ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل له من توبةٍ؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) فأُرسل إليه فأسلم. 2564 - * روى أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1) قال: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (2). قال أبو طلحة: يا رسول الله حائطي الذي في كذا وكذا هو لله ولو استطعت أسرَّهُ لم أعلنه، فقال: "اجعله في فقراء أهلك أدنى أهل بيتك". 2565 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك: قال: لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. أتى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، ليس لي أرض أحبَّ إلي من أرضي بيرحي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بيرحي خير رايح أو خير رابح" يشك الشيخ - فقال أبو طلحة: وإني أتقربُ بها إلى الله. فقال: "اجعلْها في قرابتك". فقسَّمها بينهم حدائق. أقول: في رواية البخاري: وفيه: بخ ذلك مال رايح ذلك مال رايح (بالياء في المرتين) وفي رواية (رابح) (بالباء). وفي رواية أحمد عن أنس: بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح. وسمى البستان بيرحاء. 2566 - * روى ابن خزيمة عن أنس، قال: لما نزلتْ هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة: أرى ربنا يسألنا أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت أرضي بيرحي لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلها في قرابتك" قال: فجعلها في حسان بن ثابت وأُبي بن كعبٍ. 2567 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال أن يُطاع فلا يُعصى وأن يُشكر فلا يكفر وأن يُذْكر فلا يُنْسى.
2568 - * روى الطبري عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} قال: القرآن. 2569 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخُلوا في الإسلام". 2570 - *روى أحمد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده رفعهُ في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرُها وأكرمُها على الله". 2571 - * روى أحمد عن ابن عباسٍ في قوله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال: هم الذين هاجروا مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم. 2572 - * روى الطبراني عن ابن عباس لما أسلم عبدُ الله بن سلامٍ وثعلبةُ بن سعية وأسدُ بن عبيد ومن أسلم من يهود، قالت أحبارُهم. ما آمن بمحمدٍ إلا شرارُنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله (1) {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ
آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}. 2573 - * روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (1) قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة، وما يسرُّني أنها لم تنزل، لقول الله {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}. 2574 - * روى البخاري عن (ابن عمر) كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمروٍ والحارث بن هشامٍ، فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} وأخرجها بسنده أن ابن عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: "اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً" بعدما يقول "سمع الله لمن حَمِده ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. وفي رواية (2) عن ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم العنْ أبا سفيان، اللهم العنْ صفوان بن أمية"، فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}، فتاب عليهم، فأسلموا فحسُن إسلامهُم. 2575 - * روى البزار عن (أبي هريرة) جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت قوله
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فأين النارُ؟ قال أرأيت الليل فالتبس كلُّ شيء فأين النهار؟ قال: "حيثُ شاء الله"، قال "فكذلك النارُ حيثُ شاء الله". أقول: الجنة فوق السماء السابعة، وسطح كل محيط أعظم من قطره، فلا غرابة أن يكون عرض الجنة عرض السماوات والأرض، وإذا كانت الجنة فوق السماء السابعة فكيف يستبعد أن يكون هناك فراغ للنار في قلب هذا المحيط الهائل. 2576 - * روى الطبراني عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما واستغفر الله إلا غفر له {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}. 2577 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فرُدَّتْ رايتُه ثم بعث فرُدَّتْ ثم بعث فردت بغلول رأس غزالٍ من ذهبٍ فنزلت {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}. أقول: رد الرايات إشارة إلى عدم النصر وذلك بسبب ذنب الغلول الذي هو السرقة من الغنيمة. 2578 - * روى البزار عن ابن عباس قال في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قال ما كان لنبي أن يتَّهِمه قوْمُهُ. أقول: في هذا النص دليل على عصمة الرسل عليهم الصلاة والسلام فلا يجوز لمسلم أن يتهم نبياً بأي ذنب، والنص يشير إلى استحالة الغلول من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أعظم من أن تتطلع أعينهم إلى شيء من الدنيا فضلاً عن أن يأخذوا شيئاً من الغنائم خفية مما لا يحل لهم (1).
2579 - *روى مسلم عن مسروقٍ. قال: سألنا عبد الله (هو ابن مسعودٍ) عن هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) قال: "أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال "أرواحُهُمْ في جوفِ طيرٍ خُضرٍ. لها قناديل معلقةٌ بالعرش. تسرَحُ من الجنة حيثُ شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطلع إليهم ربهم اطلاعةً. فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم ثلاث مراتٍ. فلما رأوا أنهم لن يُتْرَكُوا من أن يسألوا، قالوا: يا ربِّ نُريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لم حاجةٌ تُركوا". 2580 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: في قوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) قالها إبراهيم حين أُلْقِي في النَّار، وقالها محمدٌ حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}. أقول: وذلك كان بعد غزوة أحد إذ عبأ الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين وخرج لحمراء الأسد. 2581 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود في قوله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال يطوق شجاعاً أقرع له زبيبتان ينْقُرُ رأسه فيقول: مالي ولك فيقول أنا مالك الذي بخِلْتَ به، وفي رواية (3) عن عبد الله أيضاً قال: من كان له مال لم يؤدِّ زكاته طوِّقه يوم القيامة شجاعاً أقرع ينقُرُ رأسه فيقول: أنا مالك الذي كنت تبْخَلُ به {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
2582 - * روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحُوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وحلفُوا له وأحبُّوا أن يُحمدُوا بما لم يفعلُوا، فنزلتْ {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (1) الآية. 2583 - * روى الشيخان عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أن مروان قال لبوابه: اذهَبْ يا رافعُ إلى ابن عباس، فقُلْ: لئن كان كلُّ امريءٍ منا فرح بما أتى، وأحبَّ أن يُحمد بما لم يفعل مُعذباً لنُعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، فكتمُوه إيَّاهُ، وأخبرُوه بغيره، فأروْهُ أن قد استحمِدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحُوا بما أتوا من كتمانهم إياهُ ما سألهم عنه. 2584 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: والذي لا إله إلا هو ما من نفس حيةٍ إلا الموتُ خيرٌ لها إن كان براً فإن الله عز وجل يقول {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} وإن كان فاجراً فإن الله عز وجل يقول: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}.
سورة النساء
سورة النساء 2585 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان له عذْقُ نخلٍ، فكانت شريكته فيه وفي ماله، فكان يمسكُها عليه، ولم يكن له من نفسه شيءٌ، فنزلت: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (1). وفي رواية (2): أن عُروة سأل عائشة عن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا - إلى قوله- أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمةُ تكون في حِجْر وليِّها، فيرغبُ في جمالها ومالها، ويريد أن ينْتَقِصَ صداقها، فنُهُوا عن نكاحهن، إلا أن يُقْسِطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِرُوا بنكاح من سواهن، قالت عائشة: فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (3) فبين الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبُوا في نكاحها، ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوباً عنها في قلة المال والجمال، تركوها، والتمسوا غيرها من النساء، قالت: فكما يتركونها حين يرغبُون عنها، فليس لهم أنْ ينكحوها إذا رغِبُوا فيها، إلا أن يُقسِطُوا لها، ويُعْطُها حقها الأوفى من الصداق. وفي رواية (4) نحوه، وفيه قالتْ: يا ابن أختي، هي اليتيمةُ تكون في حِجْر وليها، تشاركُه في ماله، فيعجِبُه مالُها وجمالثها، ويريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهُوا عن نكاحهن، إلا أن يقسطوا لهن، ويبلُغوا بهن
أعلى سُنَّتِهِنَّ من الصداق. وفيه: قالت عائشة، والذي ذكر الله: أنهُ {يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} الآية الأولى، التي قال فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} قالت: وقول الله عز وجل في الآية الآخرة {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}: رغبة أحدهم عن يتيمته التي في حِجْره حين تكون قليلة المال، فنُهُوا أنْ ينْكِحُوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن. زاد في رواية (1) آخرة: من أجل رغبتهم عنهن، إذا كُنَّ قليلات المال والجمال. وفي أخرى (2) عنها في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى آخر الآية، قال: هي اليتيمة تكون في حِجْر الرجل، قد شرِكَتْهُ في ماله، فيرغبُ عنها أنْ يتزوجها، ويكره أن يُزوِّجها غيره، فيُدْخِلُ عليه في ماله، فيحْبِسُها، فنهاهم الله عن ذلك. وزاد أبو داود (3): قال يونسُ، وقال ربيعة في قول الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قال: يقول: اتركُوهُنَّ إن خفتم، فقد أحلَلْتُ لكم أربعاً. 2586 - * روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها في قوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (4)، إنما نزلتْ في والي اليتيم إذا
كان فقيراً: أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروفٍ. وفي رواية (1): أن يُصيب من ماله إذا كان محتاجاً بقدر ماله بالمعروف. 2587 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (2) قال: هي مُحْكَمَةٌ، وليست بمنسوخة. وفي رواية (3) قال: إنَّ ناساً يزعُمونَ أن هذه الآية نُسختْ، ولا والله ما نُسخت، ولكنها مما تهاون الناسُ بها، هما واليان: والٍ يرثُ، وذلك الذي يُرْزَقُ، ووالٍ لا يرثُ، وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أملك لك أن أعْطيكَ. أقول: من المسْتَحسَنِ على هذا القول للورثة إذا كانوا بالغين أن يهدوا لمن لا يرث من الأقارب إذا رضي الورثة بذلك، أما الوارث غير البالغ فليس لأحد أن يتصدق بشيء من ميراثه. 2588 - * روى البزار عن ابن عباس {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} قال: كن يُحْبَسْن في البيوت حتى يمُتْنَ فلما نزلَتْ سورةُ النور ونزلت الحدود نسختْها. 2589 - * روى أحمد عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إذا أنْزِلَ عليه كُرب لذلك وتَرَبَّدَ وجْهُه، قال: فأُنزِلَ عليه ذات يومٍ، فلُقيَ كذلك، فلما
سُرِّيَ عنه، قال: خُذوا عنِّي، خُذوا عني، فقد جعل الله لهنَّ سبيلا البِكْر بالبِكْر، جلدُ مائةٍ، ونفيُ سنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جلدُ مائةٍ والرجمُ. 2590 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (1) كانوا إذا مات الرجلُ، كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهُم تزوجها، وإن شاؤوا زَوَّجوها، وإن شاؤوا لم يزوِّجوها، فهم أحقُّ بها من أهلها، فنزلتْ هذه الآية في ذلك. وفي أخرى (2) لأبي داود، قال: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وذلك أنَّ الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضِلُها حتى تموت، أو تَرُدَّ إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك أي نهي عن ذلك.
2591 - * روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1). فكان الرجل يحْرَجُ أنْ يأكل عند أحدٍ من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنُسِخَ ذلك بالآية الأخرى التي في النور، فقال: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} (2) فكان الرجلُ الغنيُّ يدعو الرجل من أهله إلى طعام، فيقول: إني لأجنحُ أن آكل منه - والتجنُّحُ: الحرجُ- ويقول: المسكين أحق به مني: فأُحِلَّ في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وأحل طعام أهل الكتاب. 2592 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} قال إنها محكمة ما نسخت. 2593 - * روى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سُئِلَ عن الكبائر قال: ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين. 2594 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ورثة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) كان المهاجرون لما قدِمُوا المدينة يرثُ المهاجريُّ
الأنصاريَّ، دون ذوي رحمه، للأخوَّةِ التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، نسختها ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصْر والرفادةِ والنصيحة، وقد ذهب الميراثُ، ويُوصي له. وفي أخرى (1) لأبي داود قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} كان الرجلُ يحالف الرجل، ليس بينهما نسبٌ فيرثُ أحدهما الآخر، فنسخ ذلك الأنفال، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. 2595 - * روى مالك رضي الله عنه بلغه، أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الحَكَمَيْنِ اللذين قال الله فيهما: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} إنَّ إليهما الفُرقة بينهما والاجتماع. 2596 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يظلمُ
مؤمناً حسنةً، يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطْعَمُ بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكُن له حسنةٌ يُجزى بها. 2597 - * روى البخاري عن سعيد بن جُبير رحمه الله قال: قال رجل لابن عباس إني أجدُ في القرآن أشياء تختلفُ عليَّ، قال: ما هو؟ قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (1)، وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (2)، وقال: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (3)، وقال: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (4)، وقد كتموا في هذه الآية، وفي {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (5) فذكر خلْقَ السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ -إلى قوله- طَائِعِينَ} (6) فذكر في خلْقَ الأرض قبل خلقِ السَّماء، وقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (7) وقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (8) وقال: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (9) فكأنه كان، ثُمَّ مضى، قال ابن عباسٍ {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة في الصور، فيُصْعَقُ مَنْ في السموات ومنْ في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون، ثم في النَّفْخةِ الآخرة: أقْبلَ بعضهم على بعض يتساءلون، وما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} فإن الله يغفرُ لأهل الإخلاص ذنُوبَهُمْ، فيقول المُشْرِكُ: تعالوا نقولُ: ما كُنَّا مشركين، فيخْتِمُ الله على أفواههمْ، فتنطقُ جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عُرِفَ أن الله لا يكتمُ حديثاً، وعنده: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وخلق الأرض في
يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهُن سبع سموات في يومين آخرين، ثم دحى الأرض، أي: بسطها، وأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار، والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (1) فخُلقت الأرضُ وما فيها من شيءٍ في أربعة أيامٍ، وخُلِقَتِ السموات في يومين، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سمى نفسه ذلك، أي: لم يزلْ، ولا يزالُ كذلك. وإن الله لم يُرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، ويحكَ، فلا يختلفُ عليك القرآن، فإن كلاًّ من عند الله. أقول: اعتمدنا في تفسيرنا قولاً غير القول الذي قاله ابن عباس هاهنا في أن الأرض خلقت بعد السماء، ومجمل ما اعتمدناه أن السماء بمجراتها خلقت قبل الأرض والسموات السبع خلقت بعد الأرض، وقد اعتمدنا هذا التفسير بانين على بعض أقوال العلماء القدماء، لأن خلق الأرض متأخر في الزمن على خلق مجرات هذا الكون وهو شيء تؤكده كثير من الأبحاث العلمية ويشهد له ظاهر النصوص. 2598 - * روى الترمذي عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: صنع لنا ابن عوفٍ طعاماً، فدعانا، فأكلنا، وسقانا خمراً قبل أن تُحرَّمَ، فأخذتْ منا، وحضرت الصلاةُ، فقدَّموني، فقرأت: قلْ: يا أيُّها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبدُ ما تعبدون، قال: فخلَّطْتُ، فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2). وأخرجه أبو داود (3) أنَّ رجلاً من الأنصار دعاهْ وعبد الرحمن بن عوفٍ، فسقاهما قبل أن تحرَّم الخمرُ، فحضرت الصلاة، فأمَّهُمْ عليٌّ في المغرب، فقرأ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فخلَّط فيها، فنزلتْ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.
2599 - *روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2) نسختها التي في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3). 2600 - * روى أبو يعلي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نُمسكُ عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال إني ادخرت دعوتي شفاعةً لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعدُ ورجونا. 2601 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: إن في سورة النساء لخمس آياتٍ ما يسُرُّني بها الدنيا وما فيها وقد علِمْتُ أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}. 2602 - * روى الجماعة إلا الموطأ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النساء: 59] في عبد الله
ابن حُذافة بن قيس بن عدي السهمي، إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريَّة. قال ابن حجر في الفتح 8/ 254. قوله (نزلت في عبد الله بن حذافة) كذا ذكره مختصراً، والمعنى نزلت في قصة عبد الله ابن حذافة أي المقصود منها في قصته قوله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية، وقد غفل الداودي عن هذا المراد فقال: هذا وهم على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب فأوقدوا ناراً وقال اقتحموها فامتنع بعض، وهم بعض أن يفعل. قال: فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم إنما الطاعة في المعروف، وما قي للهم لِمَ لم تطيعوه؟ انتهى. والحمل الذي قدمته يظهر المراد، وينتفي الإشكال الذي أبداه، لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يطيعوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عدهم الفرارُ من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم. وقد روى الطبري أن هذه الآية نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد وكان خالدٌ أميراً فأجار عمار رجلاً بغير أمره فتخاصما فنزلت، فالله أعلم. واختلف في المراد بأولي الأمر في الآية، فعن أبي هريرة قال: هم الأمراء أخرجه الطبري بإسناد صحيح، وأخرج عن ميمون بن مهران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية: هم العلماء، ومن وجه آخر أصح منه عن مجاهد قال: هم الصحابة، وهذا أخص. وعن عكرمة قال: أبو بكر وعمر، وهذا أخص من الذي قبله، ورجح الشافعي الأول واحتج له بأن قريشاً كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر (1)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم
"من أطاع أميري فقد أطاعني" متفق عليه. واختار الطبري حملها على العموم وإن نزلت في سبب خاص، والله أعلم. اهـ. 2603 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} (1) قال كنت أنا وأُمِّي من المستضعفين. وفي رواية أخرجها (2) الإسماعيلي: قال: تلا ابن عباس {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} فقال: كنت أنا وأمي ممن عَذَر الله، أنا من الولدان، وأمي من النساء. 2604 - * روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوفٍ وأصحاباً له أتوُا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنَّا في عِزٍّ، ونحن مُشركون، فلما آمنَّا صِرْنا أذِلَّةً، فقال: إني أُمرتُ بالعفو، فلا تُقاتلوا، فلما حوَّله الله إلى المدينة أُمر بالقتال فكفُّوا، فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (3). 2605 - * روى الطبراني في الصغير عن عائشة رضي الله عنها قالت جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنك لأحبُّ إليَّ من ولدي وإني
لأكونُ في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فأنظر إليك وإذا ذكرتُ موتي وموتُكَ عرفْتُ أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيتُ أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}. 2606 - * روى الشيخان عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قلت لابن عباس: ألِمَنْ قتل مُؤمناً متعمداً من توبةٍ؟ قال: لا، فتلوْتُ عليه هذه الآية التي في الفرقان {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (1) قال: هذه آية مكيَّة، نسختْها آية مدنية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2). وفي رواية (3) قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فرحلتُ فيه إلى ابن عباس فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء. وفي أخرى (4) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بمكة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله {مُهَانًا} فقال المشركون: وما يُغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التي حرَّم الله، وأتينا الفواحش، فأنزل الله عز وجل {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5). زاد في رواية (6): فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له.
وفي رواية للبخاري (1) ومسلم والنسائي قال سعيد: أمرني عبد الرحمن بن أبْزَى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فسألته، فقال، لم ينسخها شيء، وعن هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قال: نزلت في أهل الشرك. وفي رواية (2) لأبي داود عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس فقال: لم نزلت التي في الفرقان {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرم الله ودعونا مع الله إلهاً آخر وأتينا الفواحش فأنزل الله {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فهذه لأولئك، قال: وأما التي في النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية، قال: الرجل إذا عرف شرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له، فذكرت هذا لمجاهد، فقال: إلا من نَدِمَ. ابن عباس يرى أن القاتل العمد لا توبة له مستدلاً بآية النساء معتبراً آية الفرقان نزلت في أهل الشرك أي قبل أن يسلموا يفعلون ما يفعلون فإن أسلموا فإن التوبة حاصلة لهم وقد أنزل الله الآية رداً عليهم إذا قالوا قد قتلنا النفس إلخ ... والجمهور على أن للقاتل توبة إذ أن في القتل ثلاثة حقوق حق الله وحق القتيل وحق أهل القتيل فحق أهل القتيل يسقط بالقصاص أو الدية، وحق الله تسقطه التوبة إن شاء الله أن يعفو، وحق القتيل يبقى في عنق القاتل فإن شاء الله أرضاه وأدخل القاتل الجنة وإلا فإن القاتل يعذب ما شاء الله أن يعذب ثم يخرج من النار في المآل إذا كان مؤمناً. قال النووي تعليقاً على جواب ابن عباس أن لا توبة: واحتج [ابن عباس] بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} هذا هو المشهور عن ابن عباس، وروي عنه: أن له توبة، وجواز المغفرة له،
لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) فهذه الرواية الثانية: هي مذهب جميع أهل السنة والصحابة والتابعين ومن بعدهم، وما روي عن بعض السلف، مما يخالف هذا، فمحمول على التغليظ والتحذير من القتل، والتأكيد في المنع منه، وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس - تصريح بأنه يُخلد في النار، وإنما فيها جزاؤه، ولا يلزم منه أن يجازى. اهـ. وقال ابن كثير 1/ 537: قال أبو هريرة وجماعة من السلف هذا جزاؤه إن جازاه ... ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه وكذا كل وعيد على ذنب ... لكن قد يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه وعلى قول ابن عباس أنه لا توبة له وعلى قول الجمهور حيث لا عمل صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها بداً بل الخلود هو المكث الطويل وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان) ... اهـ. 2607 - * روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما سُئل عمنْ قتل مؤمناً متعمداً، ثم تاب وآمن، وعمل صالحاً، ثم اهتدى؟ فقال ابن عباس: فأنَّى له بالتوبة؟ سمعتُ نبيكمْ صلى الله عليه وسلم يقول: "يجيءُ المقتول متعلقاً بالقاتل، تشخَبُ أوداجُهُ دماً، فيقول: أي رَبِّ، سل هذا فيم قتلني؟ " ثم قال: "والله لقد أنزلها الله، ثم ما نسخها". وفي رواية (2) له أيضاً وللترمذي: أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء المقتولُ بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجُهُ تشخَبُ دماً، يقول: يا ربِّ، قتلني هذا، حتى يدنيَهُ من العرش"، قال: فذكروا لابن عباس التوبة، فتلا هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} قال: ما نُسختْ هذه الآيةُ، ولا بُدِّلَتْ، وأنَّى له التوبة؟!.
بيّنا في التعليق السابق الفهم الذي يجمع بين الآيات دون القول بالنسخ في أي منهما ... وقد علق محقق الجامع فقال: 2/ 95. إن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول فيه، وإذا كان الشرك - وهو أعظم الذنوب وأشدها - تمحوه التوبة إلى الله تعالى، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتا القتل عمداً؟. 2608 - * روى أبو داود عن أبي مِجْلزٍ رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: هي جزاؤه، فإنْ شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعلَ. بهذا الأثر استدل الجمهور على تفسير الآية وبغيره من عمومات الشريعة ومقاصدها ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} راجع تفسير ابن كثير (1/ 537) وابن جرير ج 5/ 136 - 139 قال ابن جرير 5/ 139: وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال معناه ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه - إن جزاه - جهنم خالداً فيها ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه لأن الشرك من الذنوب فإن الله عز ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والقتل دون الشرك. 2609 - * روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَقِيَ ناسٌ من المسلمين رجلاً في غُنيمنةٍ له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه، وأخذوا تلك الغُنَيْمَ' (1)،
فنزلت: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وقرأها ابن عباس: السلام. ولفظ الترمذي قال "مرَّ رجلٌ من بني سُليْم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنمٌ له، فسلَّم عليهم، فقالوا: ما سَلَّمَ عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية. أقول: وقراءة ابن عباس من القراءات المعتمدة وهذه قراءة حفص ومن وافقه أما قراءة نافع وابن عامر وحمزة فبفتح اللام وبحذف الألف (السَّلَمَ). فالقراءتان سبعيتان متواترتان. 2610 - * روى أحمد عن عبد الله بن أبي حدْرَدٍ قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إِضَمٍ فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بنُ ربعي ومُحَلِّمُ بن جثامة بن قيسٍ فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مَرَّ بنا عامرُ بن الأضبط الأشجعيُّ على قعودٍ له معه متيع ووطْب من لبن فلم مر بنا سلم علينا فأمسكنا عنه وحمل عليه مُحَلِّمُ بن جَثّامة فقتله بشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ [السَّلَامَ] لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. وقع عند ابن جرير الطبري 5/ 140 (1).
أن مُحَلِّماً هذا جاء فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غفر لك الله فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ... إلخ فهذه رواية منكرة متناً وضعيفة سنداً وأحببنا ذكرها للإشارة إلى أنها منكرة. 2611 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (1) عن بدر والخارجون إليها. 2612 - * روى الطبراني عن زيد بن أرْقم رضي الله عنه قال لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاء ابنُ أمِّ مكتومٍ فقال يا رسول الله أمالي من رُخصةٍ؟ قال: "لا" قال: ابنُ أم مكتوم اللهم إني ضريرٌ فرَخّص لي. فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابتها. وعند الترمذي: لما نزلتْ غزوةُ بدرٍ، قال عبد بن جحش وابن أم مكتومٍ: إنا أعميان يا رسول الله، فهل لنا رخصةٌ؟ فنزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدة غير أُولي الضرر {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر. أقول: عبد بن جحش هو أخو عبد الله بن جحش وكان أعمى ووقع في المطبوع من نسخة الترمذي بتحقيق إبراهيم عطوة: عبد الله بدل عبد وهو وهم. انظر الإصابة (4/ 3) منْ كنيته أبو أحمد.
2613 - * روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، فجاء بكتفٍ، وكتبها، وشكا ابن أمِّ مكتوم ضرارته، فنزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. وفي أخرى (1) قال: لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعُوا فلاناً"، فجاءه، ومعه الدواةُ واللوحُ أو الكتفُ، فقال: "اكتُبْ (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) وخَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ابنُ أُمِّ مكتوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضريرٌ، فنزلت مكانها {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وفي رواية الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ائتوني بالكتف أو اللوح فكتب {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وعمرو بنُ أمِّ مكتومٍ خَلْفَ ظهره، فقال: هل لي رُخصة؟ فنزلت {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. وفي أخرى (2) له وللنسائي بنحوها، قال: لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} جاء عمرو بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وكان ضرير البصر - فقال: يا رسول الله، ما تأمرني؟ إني ضريرُ البصر، فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة". 2614 - * روى الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قال هم قوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزون معه لأسقامٍ وأمراضٍ وأوجاعٍ وآخرون أصحاءُ لا يغزون معه فكان المرضى في عُذْرٍ من الأصحاء. أقول: عندما يكون الجهاد فرض عين فإن من يتخلف من غير أولي الضرر عنه يكون آثما يستحق العذاب، وعندما يكون القتال فرض كفاية فيقاتل ناس ويقعد ناس من غير أولي الضرر فإن الله يفضل المقاتلين على القاعدين درجات منه، أما أولو الضرر الذين حبسهم العذر فهؤلاء إن كانت لهم نية صالحة صادقة في الجهاد، فهم شركاء في الأجر مع المقاتلين. 2615 - * روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان ناسٌ من أهل مكةَ قد أسلموا وكانوا مُستخفين بالإسلام. فلما خرج المشركون إلى بدرٍ أخرجوهم مُكْرَهين، فأصيب بعضهم يوم بدرٍ مع المشركين، فقال المسلمون أصحابُنا هؤلاء مسلمون أخرجوهم مُكْرَهين فاستغفروا لهم، فنزلت هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فكتب المسلمون إلى من بقي منهم بمكة بهذه الآية فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ظهر عليهم المشركون وعلى خروجهم فلحقوهم فرَدُّوهم فرجعوا معم فنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا فنزلتْ هذه الآية {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فكتبوا إليهم بذلك. 2616 - * روى الجماعة إلا البخاري والموطأ عن يعلي بن أمية (رضي الله عنه) قال: قُلت لعمر بن الخطاب (1) {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا} (1). فقد أمنَ الناسُ؟ فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "صدقةٌ تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته". 2617 - *روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (2) بلغتْ من المسلمين مبلغاً شديداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربُوا وسدِّدُوا، ففي كلِّ ما يُصابُ به المسلم كفارةٌ، حتى النَّكْبةُ يُنْكَبُها، والشوْكَةُ يُشَاكُهَا". وفي رواية الترمذي مثله، وفيه، شَقَّ ذلك على المسلمين، فشكوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث. 2618 - * روى أحمد عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً تلا هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال إنا لنُجزي بما عمِلْنا؟ هلكْنَا إذاً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم يُجزَى به المؤمنُ في الدنيا في مصيبة، في جسده، فيما يؤذيه". 2619 - * روى الشيخان عن جابرٍ (رضي الله عنه) قال: مَرِضْتُ، فأتاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعُودُني وأبو بكرٍ، وهما ماشيان فوجداني أُغمِيَ عليَّ، فتوضأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم صبَّ وضوءهُ عليَّ، فأفقْتُ، فإذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يُجبني بشيء، حتى نزلت آية الميراث. وفي رواية (1): فعقلْتُ، فقلت: لا يرثُني إلا كلالةٌ، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض. وفي أخرى (2): فلم يرُدَّ عليَّ شيئاً، حتى نزلتْ آيةُ الميراُث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3). وفي رواية (4) للترمذي مثل رواية البخاري ومسلم، وزاد فيها: وكان لي تسع أخواتٍ، حتى نزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. وفي رواية (5) لأبي داود قال: اشتكيتُ وعندي سبْعُ أخواتٍ، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفخ في وجهي فأفقْتُ، فقلتُ: يا رسول الله، ألا أُوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحْسِنْ، قلتُ، بالشطرِ؟ قال: أحْسِنْ، ثم خرج وتركني، فقال: يا جابرُ، لا أُرَاك ميِّتاً مِنْ وجعك هذا، وإنَّ الله قد أنزل فبَيَّن الذي لأخواتك، فجعل لهن الثُّلُثَيْنِ، قال: فكان جابرٌ يقول: أُنزِلَت فيَّ هذه الآية {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}.
سورة المائدة
سورة المائدة 2620 - * روى الجماعة إلى الموطأ وأبا داود عن طارق بن شهاب (رحمه الله) قال: قالت اليهودُ لعمر رضي الله عنه: إنكُمْ تقرؤون آيةً لوْ نزلتْ فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلَمُ حيثُ أُنزِلَتْ، وأين أُنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزلتْ: يوم عرفة وإنا والله بعرفة: قال سفيان: وأشُكُّ: كان يوم الجمعة أم لا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1). وفي رواية (2) قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلتْ معشرَ اليهودِ، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: فأيُّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلتْ فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، في يوم جُمعةٍ. 2621 - *روى الترمذي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قرأ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وعنده يهوديٌّ فقال: لو نزلتْ هذه الآية علينا لاتخذناها عيداً، فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عيدين: في يوم جمعةٍ، ويوم عرفة. 2622 - * روى أبو داود عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) نزلت هذه الآيةُ في المشركين، فمن تاب منهُم قبْلَ أنْ يُقْدَرَ عليه لم يمنعهُ أنْ يُقام فيه الحدُّ الذي أصابَهُ. 2623 - * روى مسلم عن البراء بن عازبٍ (رضي الله عنهما) قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي، مُحَمَّماً مجْلُوداً، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: "هكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشُدُك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثُرَ في أشرافنا، فكُنَّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا، تعالوا فلنجتمع على شيءٍ نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجْم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنِّي أولُ من أحيا أمرك إذْ أماتُوه، فأمر به فرُجم، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ
بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} (1). يقول: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفْتاكم بالرَّجْم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفَّار كُلها. وفي رواية أبي داود مِثلُهُ، وقال في آخرها: فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} - إلى قوله- {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} إلى قوله جل ثناؤه- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} - في اليهود إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} - في اليهود، إلى قوله- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال: هي في الكفار كلُّها، يعني: هذه الآي. أقول: وكل من لم يحكم بما أنزل الله من هذه الأمة فإنه ظالم لأنه لا عدل إلا بما شرعه الله، وهو إن استحل الحكم بغير ما أنزل الله كافر وإن فضل على حكم الله غيره، فهو كافر وإن حكم بغير ما أنزل الله غير مستحل ولا مفضل عليه غيره. فأدنى درجاته أنه فاسق، وللفتوى الاستثنائية في هذا المقام محل. 2624 - * روى أبو داود عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} إلى قوله: {الْفَاسِقُونَ}، هذه الآيات الثلاثُ نزلت في اليهود خاصة: قُرَيْظةَ والنَّضير. أقول: خصوص السبب لا ينفي عموم اللفظ، فهي فيهم وفي أمثالهم. 2625 - * روى أبو داود عن ابن عباس (رضي الله عنهما) كان قريظةُ والنضيرُ، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قَتل رجل من قُريظة رجلاً من النضير قُتِلَ به، وإذا
قتل رجل من النضير رجلاً من قُريظة فوديَ بمائة وسْقٍ من تمر فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، قَتل رجل من النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتُلْه، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلتْ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (1). ولأبي داود (2): قال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (3). فنسخت، قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (4). أقول: على القول بنسخ التخيير في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ بقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فهذا يفيد أن أحكام الشريعة الإسلامية تسري على كل مواطن في دولة الإسلام إلا ما كان من شؤونهم الخاصة التي أبيحت في شرائعهم ولم يأت في شريعتنا ما يدل على أنها كانت محرمة عليهم. ولذلك لم يجز فقهاء الحنفية أن يقتل المسلم خنزير النصراني أو يريق خمره ولو فعل فإن قاضي المسلمين يضمنه. 2626 - * روى الطبراني عن عياضٍ الأشعري قال لما نزلتْ هذه الآية: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم قوم هذا" يعني أبا موسى. وفي رواية (6): "هم أهل اليمن". أقول: لقد كان لأهل اليمن في الردة الأولى دور كبير في إخمادها، وإنهائها، ونرجو أن يكون لهم دور دائم في هذا المضمار، وكل من تحقق بصفات جند الله فالمرجو أن يكون له دور في إنهاء الردة المعاصرة.
2627 - * روى الطبراني عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: "قال رجلٌ من اليهود يقال له شاسُ بن قيسٍ إنَّ ربك بخيلٌ لا ينفقُ فأنزل الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (1). أقول: في نسخة الأصل تروي هذه الحادثة عن رجل اسمه النَّبَّاش بن قيس وفي تفسير ابن كثير أنه شاس بن قيس وهو الذي اعتمدناه وتروي الحادثة عن رجل اسمه فنحاص كذلك. كما في الطبري (6/ 194) وابن كثير (2/ 75) وفيهما عن ابن عباس: لا يعنون بذلك أني د الله موثقة ولكن يقولون بخيل يعني أمسك ما عنده بخلاً تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. 2628 - * روى الترمذي عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرسُ ليلاً، حتى نزل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (2) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسهُ من القُبَّةِ، فقال لهم: "يا أيها الناسُ، انصرفوا، فقد عصمني الله". 2629 - * روى الترمذي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبْتُ اللحم انتشرتُ للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرَّمتُ عليَّ اللحْمَ، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} (3). 2630 - * روى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج
المرأة بالثوب، ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. أقول: وذلك قبل تحريم نكاح المتعة، فقد كان مباحاً ثم حرم وكان فيشأنه اختلاف وكان في تحريمه اختلاف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقر الإجماع على التحريم بعد أن تبين لجميع المسلمين قطعية النصوص التي تحرمه، والنص لا يمنع الإنسان أن يمتنع عن تناول بعض الأطعمة المباحة لمصلحة يراها ولكنه يمنعه أن يحرم ذلك على نفسه. 2631 - * روى الطبراني عن همام بن الحارث أن ابن مُقَرِّنٍ سأل عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن إني حلفت أن لا أنام على فراشٍ سنةً فتلا عبد الله هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) كفر عن يمينك ونم على فراشك. قال إني موسِرٌ قال أعتقْ رقبة. قال عبدي سرق شيئاً من عندي. قال مالُك سُرِقَ بعضه من بعض. أي لا قطع عليه. قال أمتي زنت قال اجْلِدْها. قال إنها لم تحصن. قال إسلامُها إحصانُها. أقول: قوله: (أي لا قطع عليه): أي لا تقطع يد العبد إذا سرق من مال سيده، وإذا زنت الأمة فحدها خمسون جلدة سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، فالعبد والأمة لا يرجمان سواء كانا محصنين أو غير محصنين وحدُّهُما واحد وهو خمسون جلدة. 2632 - * روى أحمد عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاءٍ، فنزلت التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2) الآية، فدُعِيَ عمر، فقُرِئَتْ عليه، فقال: "اللهم
بيِّنْ لنا في الخمر بيان شفاءٍ" فنزلت التي في النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) فدُعِيَ عمر، فقُرِئَت عليه، فقال: اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيان شفاءٍ، فنزلت التي في المائدة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) فدُعي عمرُ فقُرئتْ عليه، فقال: انتهينا، انتهينا. إلا أن أبا داود زاد بعد قوله (وأنتم سكارى): فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقْرَبَنَّ الصلاة سكرانٌ. وعنده: انتهينا، مرة واحدة. 2633 - * روى مسلم عن (ابن مسعودٍ) لما نزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (3) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قِيلَ لي أنت منهم". وللترمذي (4): قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت منهم". أقول: إن كثرة الطعام المباح والشراب المباح يؤثر على سير السائرين إلى الله عز وجل، فالأصل أن ينتقل الإنسان من تقوى وإيمان وعمل صالح إلى مزيد من التقوى والإيمان، ثم إلى تقوى وإحسان فما دام الإنسان ينتقل في مراتب الكمال فلا جناح عليه فيما طعم من المباحات، أما إذا صرفه الاستغراق في المباح عن السير في مراتب الكمال فإنه يدخل في هذه الحالة في دائرة المخالفة للأدب وفي دائرة خلاف الأولى، وقد يدخل في دائرة الأمراض القلبية من بطر وأشر وغفلة، وقد يدخل في دائرة الإسراف، فعل المسلم أن ينتبه إلى ذلك، فلا يصرفه الطعام والشراب عن الارتقاء في مراتب الكمال وقوله عليه الصلاة والسلام لابن مسعود (أنت منهم) إشارة إلى أن ابن مسعود من الناس الذين لا يصرفهم طعام مباح عن التوجه الحق لله تعالى، والقيام بحقوقه، وأكثر الخلق عن هذا
غافلون قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (1) وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} (2) انظر شرح النووي على مسلم ج 16/ص 14. 2634 - * روى الترمذي عن ابن عباسٍ (رضي الله عنهما) قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريمُ الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. أقول: لما كانت الخمر مباحة فلم يكن على منْ آمن وعمل صالحاً جناح فيما طعم من المباحات، ومنها الخمر قبل أن تحرم، فلما حرمت وجد الجناح على من شربها ودخل في الحرام فلم يعد بذلك من أهل التقوى والإحسان بل أصبح من يشربها من الفاسقين إذا لم يستحل ذلك فإذا استحلها فقد كفر. قال الطبري: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك - أي من الخمر - في الحال التي لم يكن الله تعالى حرمها عليهم إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات. 2635 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ قال: لما نزل تحريمُ الخمرِ قالتِ اليهودُ أليس إخوانُكم الذين ماتوا كانوا يشربونها؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لي: "أنت منهم". 2636 - * روى الطبراني عن ابن عباسٍ قال: نزل تحريمُ الخمر في قبيلتين من قبائل شَربوا حتى إذا ثَمِلُوا عبثَ بعضُهم ببعضٍ، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته يقول فعل هذا أخي فلان والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما فعل هذا بي
وقال وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائنُ فوقعتْ في قلوبهم الضغائنُ فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال ناس من المتكلِّفين هي رجْسٌ وهي في بطن فلان قُتِلَ يوم بدرٍ وفلانٍ قتل يوم أُحدٍ، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. 2637 - * روى أبو داود عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2) نسختْها التي في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3). 2638 - * روى البخار يعن أنسٍ رضي الله عنه: "إنَّ الخمرَ التي أهريقت الفضيخ" قال البخاري: وزادني محمدٌ البيكنديُّ عن أبي النعمان قال [أي أنس] "كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مُنادياً فنادى، فقال أبو طلحة: اخرُج فانظرْ ما هذا الصوتُ، قال فخرجتُ فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمَت. فقال لي: اذهَبْ فأهرِقْها. قال فجرتْ في سككِ المدينة. قال وكانت خمرُهم يومئذٍ الفضيخُ، فقال بعض القوم: قُتل قومٌ وهي في بُطونهم، قال فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}. 2639 - * روى الشيخان عن أنس بن مالكٍ (رضي الله عنه) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطبةً ما سمعت مثلها قطُّ، فقال: "لو تعلمون ما أعلمُ لضحِكتم قليلاً،
ولبكيْتُمْ كثيراً". قال: فغطَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، ولهم خَنينٌ، فقال رجلٌ: من أبي؟ قال: فلانٌ، فنزلتْ هذه الآية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (1). وفي رواية أخرى (2): أخرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغتِ الشمسُ، فصلَّى الظُّهرَ، فقام على المنبر فذكر الساعة، وذكر أن فيها أمُوراً عظاماً، ثم قال: "من أحبَّ أن يسأل عن شيءٍ فليسألْ، فلا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتُكم، ما دمتُ في مقامي"، فأكثر الناسُ البكاء، وأكثر أن يقول: "سَلُوا" فقام عبد الله بن حُذافة السَّهْميُّ، فقال: من أبي؟ فقال: أبوكَ حُذافةُ، ثم أكثر أنْ يقول: "سلُوني"، فبرك عمر على رُكبتيه، فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا، فسكت، ثم قال: "عُرِضَتْ عليَّ الجنةُ والنارُ آنفاً في عُرْضِ هذا الحائط، فلم أرَ كاليوم في الخير والشرِّ"- قال: ابن شهابٍ: فأخبرني عبيدُ الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالتْ أُمُّ عبد الله بن حُذافة لعبد الله بن حُذافة: ما سمعتُ قطُّ أعَقَّ منك، أمِنْتَ أن تكون أُمُّكَ قارفَتْ بعض ما يُقارفُ أهل الجاهلية فتفْضحَها على أعين الناس؟ فقال عبد الله بن حُذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحِقْتُهُ. وفي أخرى (3) قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيءٌ، فخطب، فقال: "عُرِضَتْ عليَّ الجنةُ والنارُ، فلم أرَ كاليومِ في الخير والشرِّ، ولو تعلمون ما أعلمُ لضحكْتُم قليلاً، ولبكيتُم كثيراً"، قال: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومٌ أشدُّ منه، قال: غطَّوْا رؤوسهم، ولهم خنينٌ- ثم ذكر قيام عُمَرَ وقوله، وقول الرجل: مَنْ
أبي ونزول الآية. وفي أخرى (1) قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أحْفَوْهُ في المسألة، فصعِد ذات يوم المنبر، فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا بينتُهُ لكم"، فلما سمعُوا ذلك أرمُّوا ورهبُوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنسٌ: فجعلتُ أنظرُ يميناً وشمالاً، فإذا كلُّ رجلٍ لافٌّ رأسه في ثوبه يبْكي، فأنشأ رجلٌ - كان إذا لاحى يُدْعَى إلى غير أبيه - فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبو حُذافةُ"، ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، نعوذُ بالله من الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت في الخير والشر كاليوم قطُّ، إني صُوِّرتْ لي الجنةُ والنارُ، حتى رأيتُهما دون الحائطِ". قال قتادة: يُذكرُ هذا الحديث عند هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وأخرج الترمذي منه (2) طرفاً يسيراً، قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، منْ أبي؟ قال: أبوك فلانٌ، فنزلتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. قال النووي في تفسير كلمة أم حذافة: معناه: لو كنت من زنا فنفاك عن أبيك حذافة فضحتني. وأما قوله: "لو ألحقني بعبد أسود للحقته" فقد يقال: هذا لا يتصور، لأن الزنا لا يثبت ب النسب. ويجاب عنه: بأنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن ابن حذافة ما كان بلغه هذا الحكم، وكان يظن أن ولد الزنا يلحق
بالزاني، وقد خفي هذا على أكبر منه، وهو سعد بن أبي وقاص، حين خاصم في ابن وليدة زمعة، فظن أنه يلحق أخاه بالزنا. الثاني: أنه يتصور الإلحاق بعبد وطئها بشبهة، فيثبت النسب منه، والله أعلم. 2640 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كان قومٌ يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقولُ الرجلُ، تضِلُّ ناقَتُهُ: أين ناقتي؟ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية كلها. ويفهم من مجموع ما تقدم من الأحاديث وغيرها أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام امتحاناً له أحياناً واستهزاءً أحياناً، فيقول له بعضهم "من أبي؟ " ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته "أين ناقتي؟ " فقال لهم تعالى كره: لا تسألوا عن أشياء من ذلك إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه ساءكم إبداؤها وإظهارها. (م) 2/ 126. 2641 - * روى الشيخان عن سعيد بن المسيب (رحم الله) قال: البحيرةُ: التي يُمنع دَرُّها للطواغيت، فلا يحلبُها أحدٌ من الناس، والسائبة: كانوا يُسيِّبونها لآلهتهم، لا يُحمل عليها شيءٌ- وقال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عمرو بن عامرٍ الخُزاعيَّ يجُرُّ قُصْبَهُ في النَّارِ، وكان أول من سَيَّبَ السوائبَ" (1).
والوصيلةُ: الناقةُ البكر تُبَكِّرُ في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تُثَنِّي بعدُ بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إنْ وصلتْ إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر، والحام: فحلُ الإبل يضربُ الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابهُ، ودعُوه للطواغيت، وأعْفَوْه من الحمل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسموْهُ الحامي. وفي رواية (1) قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قمعةَ بن خندِفٍ، أخا بني كعبٍ، وهو يجُرُّ قُصْبَهُ في النار". استشكل بعضهم أن يكون عمرو بن لحي في النار وهو جاهلي ولا إشكال، لأن الظاهر أن عمرو بن لحي قد بلغته دعوة إبراهيم وإسماعيل ومع ذلك فقد أدخل الأصنام على جزيرة العرب، فهو إذاً ليس من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة نبي، بل كان ممن بلغته دعوة نبي ومع ذلك عبد الأوثان وسَنَّ لغيره أن يعبدها فضلَّ وأضلَّ. 2642 - * روى البخاري في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (2) الأوليان واحدُها أولى، ومنه: أولى به. والمعنى وآخران أي شاهدان آخران يقومان مقام الشاهدين الأولين من الذين استحق
عليه أي من الذين حق عليهم وهم أهل الميت وعشيرته والأوليان أي الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما [الفتح: 5/ 410]. 2643 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: خرج رجلٌ من بني سهم مع تميم الداريِّ، وعديِّ بن بداءٍ، فمات السهميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضةٍ مُخَوَّصاً بذهبٍ، فأحلفَهُما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وُجِد الجامُ بمكة، فقالوا: ابتعْناه من تميمٍ وعدي بن بداءٍ، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتُنا أحقُّ من شهادتهما، وأنَّ الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}. وقد جاء في شرح المفردات ص 333: إذا كان مسلم مع رفقة كفار مسافرين ولم يوجد غيرهم من المسلمين، فوصى وشهد بوصيته اثنان منهم، قبل شهادتهما، ويُستحلفان بعد العصر: لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، وأنها وصية الرجل بعينه، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً قام آخران من أولياء الموصي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ولقد خانا وكتما، ويقضي لهم. قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر العلماء. وممن قاله، شريح، والنخعي والأوزاعي، ويحيى بن حمزة، وقضى بذلك عبد الله بن مسعود في زمن عثمان، رواه أبو عبيد، وقضى به أبو موسى الأشعري، رواه أبو داود والخلال، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا تقبل، لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل في الوصية كالفاسق وأولى. ولنا (أي الحنابلة) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (1) الآية، وهذا نص الكتاب، وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس، وحمْلُ الآية على أنه أراد: من غير عشيرتكم لا يصح، لأن الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف
بين المفسرين، ودلت عليه الأحاديث، ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب اليمان لأن الشاهدين من المسلمين لا قسامة عليهما (م) 2/ 129. والذين قالوا لا تقبل إنما قالوا إن الآية منسوخة الحكم انظر الفتح (5/ 412) وتفسير ابن كثير 2/ 111. أقول: الظاهر أن ذلك كان من تميم الداري رضي الله عنه قبل إسلامه، فلا يجرح ذلك لتميم بعد أن أسلم وحسن إسلامه، فالإسلام يجُبُّ ما قبله وقد نص على ذلك ابن حجر في الفتح (5/ 411).
سورة الأنعام
سورة الأنعام 2644 - * روى الترمذي عن عليٍّ أن أبا جهلٍ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نُكَذِّبُك ولكن نُكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1). 2645 - * روى مسلم عن سعدٍ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة أنفارٍ، فقال المشركون له: اطرُدْ هؤلاء لا يجترئون علينا، قال وكنت أنا وابن مسعودٍ ورجلٌ من هُذيلٍ وبلالٌ ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (2). 2646 - * روى أحمد عن أبيِّ بن كعب في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (3) قال هن أربعٌ وكلُّهن واقعٌ لا محالة، فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسٍ وعشرين سنةً فألْبِسوا شيعاً وذاق بعضهم بأس بعضٍ، وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة: الخسفُ والرجمُ. أقول: قد حدثت حالات كثيرة في تاريخ الأمة الإسلامية وفي تاريخ الشعوب فيها خوف وفيها عذاب نازل، فكثيراً ما نزل بردٌ بحجم كبير أدى إلى أضرار كثيرة وقد وقع من ذلك في ألمانيا الغربية سنة 1982، إلا أن الحروب الحديثة سواء كانت بين شعوب الأمة
الإسلامية نفسها كالحرب العراقية الإيرانية أو بين أمة إسلامية وغيرها، أو بين الأمم عامة، يجتمع فيها القذف بأنواع القذائف الساقطة بواسطة الطائرات والمدفعية وغيرها، والانفجارات من باطن الأرض بواسطة الألغام، فإذاقة الناس بعضهم بأس بعض فيه جميع أنواع العذاب المذكورة في هذه الآية في حروب عصرنا، إلا أن ظاهر الآية يدل على الخسف والرجم السماويين. 2647 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما نزلت: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: أعوذُ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذُ بوجهك، قال: فلما نزلت: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاتان أهونُ، أو أيسرُ". وفي رواية الترمذي: "هاتان أهون، أو هاتان أيسرُ". 2648 - * روى الشيخان عن ابن مسعودٍ لما نزلتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) فشق ذلك على المسلمين، وقالوا أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك إنما هو الشِرْك ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ".
2649 - * روى الترمذي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: أتى ناسٌ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، أنأكلُ ما نقْتُلُ ولا نأكل ما يقتُلُ الله؟ فأنزل الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ، وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ، وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (1). وفي رواية (2) أبي داود قال: جاءت اليهودُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نأكلُ مما قتَلْنَا، ولا نأكلُ مما قتل الله؟ فنزلتْ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية. وفي أخرى (3) له: في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال: يقولون: ما ذبح الله - يعنون الميتةَ - لم لا تأكلونه؟ فأنزل الله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ثم نزل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وفي رواية أخرى (4) قال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فنُسخَ، واستثنى من ذلك، فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (5). وفي رواية (6) النسائي: في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال: خاصمهمُ المشركون، فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه وما ذبحتم أنتم أكلتمُوه؟
2650 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سَرَّكَ أن تعلمَ جهلَ العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (1). 2651 - * روى الترمذي عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: من سرَّه أنْ ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فليقرأْ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (2). 2652 - * روى مسلم عن (أبي هريرة) رفعه: "ثلاثٌ إذا خرجن {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} (3) طلوعُ الشمس من مغربها، والدجالُ، ودابة الأرض". 2653 - * روى الشيخان عن (أبي هريرة) رفعه: "يقولُ الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنةً، وإذا أراد أني عمل حسنةً فلم يعملهَا،
اكتبوها له حسنةً، فإن عملها فاكتبوها له بعشرِ أمثالها إلى سبعمائةٍ". وللترمذي (1)، وزاد: ثم قرأ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (2). وللشيخين عن ابن عباس (3) نحوه وفيه: "إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة".
سورة الأعراف
سورة الأعْرَافِ 2654 - * روى مسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كانت المرأة تطوفُ بالبيت وهي عريانةً فتقول: من يعيرُني تطوافاً؟ تجعلُه على فرجها، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كُلُّهُ ... وما بدا منه فلا أُحِلُّهُ فزلت هذه الآية {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (1). (تِطوافاً) قال النووي في شرح مسلم 18/ 162 - 163 هو بكسر التاء المثناة: ثوب تلبسه المرأة تطوف به، وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة، ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبداً، ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، وتسمى: اللقى، حتى جاء الإسلام، فأمر بستر العورة. فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يطوف بالبيت عريانٌ". 2655 - * روى أحمد عن (أبي واقدٍ الليثيِّ) أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حُنينٍ، مرَّ بشجرةٍ للمشركين كانوا يُعلِّقون عليها أسلحتهم، يُقال لها ذاتُ أنواطٍ، فقالوا يا رسول الله: اجعلْ لنا ذات أنواطٍ، كما لهم ذاتُ أنواطٍ، فقال: ٍ"بحان الله: هذا كما قال قومُ موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (2) والذي نفسي بيده لتركبُنَّ سنن من كان قبلكم". 2656 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (3) قال حمَّادٌ: هكذا - وأمسك
سليمانُ بطرف إبهامه على أنمُلةِ إصبُعِه اليمنى- قال: فساخ الجبلُ {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}. سليمان هو ابن حرب الراوي عن حماد: أي أن سليمان يشرح معنى قول حماد: هكذا .. وفي رواية (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر. 2657 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق اللهُ آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كُلُّ نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نورٍ، ثم عرضهم على آدم، فقال: أيْ ربِّ، منْ هؤلاءِ؟ قال: ذريتُك، فرأى رجلاً منهم فأعجبَُ وبيصُ ما بين عينيه، قال: أيْ ربِّ، من هذا قال: داودُ، فقال: يا رب، كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنةً، قال: ربِّ، زِدْهُ من عمري أربعين سنةً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين، جاءهُ ملك الموت، فقال آدمُ: أوَلم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تُعْطها ابنك داود؟ فجحد آدمُ، فجحدت ذريته، ونسي آدمُ، فأكل من الشجرة فنسيتْ ذريته، وخطيء فخطئت ذريتُه"ٍ.
أقول: جحود آدم عليه السلام كان عن نسيان، والناسي لا حساب عليه، وخطيئته إما أنها كانت عن نسيان أو كانت قبل النبوة، فالنص لا يجرح أصل العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 2658 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} (1) قال هو بلعَمُ وقال بلْعامُ. أقول: وقد نقلنا في كتابنا الأساس في التفسير ما ورد عن بلعام في كتب العهد القديم وما ذكره المفسرون حوله فليراجع. 2659 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال: نزلتْ هذه الآية في أمية بن أبي الصلت {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. قال ابن جرير في تفسيره (9/ 84): "والصواب من القول في ذلك: أن يقال إن الله تعالى ذكر أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته وهي الآيات. وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والإعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته وجائز أن يكون الذي كان الله قد آتاه ذلك بلعم وجائز أن يكون أمية وكذلك الآيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه .. فجائز أن يكون الذي أوتيها بلعم وجائز أن يكون أمية ... وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوة فغير جائز أن يكون معنياً به أمية ... ثم قال ابن جرير أنه لا خبر يوجب الحجة في من الرجل فالصواب أن يقال فيه ما قال الله ويقر بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله" اهـ بتصرف واختصار. 2660 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر في هذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ} قال
مر الله عز وجل نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. 2661 - * روى البخاري عن ابن الزبير (رضي الله عنهما) قال: ما نزلت: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) إلا في أخلاق الناس. وفي رواية (2) قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. قال الحافظ في الفتح: "وإلى ما ذهب إليه ابن الزبير من تفسير الآية، ذهب مجاهد، وخالف في ذلك ابن عباس، فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال: خذ العفو، يعني ما عفا لك من أموالهم، أي: ما فضُلَ، وكان ذلك قبل فرض الزكاة، وبذلك قال السدي، وزاد: نسختْها آيةُ الزكاة، وبنحو قال الضحاك وعطاء وأبو عبيدة، ورجح ابن جرير الأول واحتج له. وروى عن جعفر الصادق قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، ووجهوه بأن الأخلاق ثلاثة، بحسب القوى الإنسانية: عقلية، وشهوية، وغضبية. فالعقلية الحكمة، ومنها الأمر بالمعروف، والشهوية: العفة، ومنها أخذ العفو، والغضبية الشجاعة، ومنها الإعراض عن الجاهلين. وروى الطبري مرسلاً وابن مردويه موصولاً من حديث جابر وغيره: لما نزلت: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} سأل جبريل - فقال: لا أعلم حتى أسأله، ثم رجع فقال: "إن ربَّك يأمُرُك أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك".
سورة الأنفال
سورة الأنفال 2662 - * روى الشيخان عن ابن جُبيرٍ قلت لابن عباس سورة الأنفال؟ قال نزلت في بدر. 2663 - * روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: نزلت: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (1) في يوم بدر. 2664 - * روى مسلم عن سعدٍ لما كان يومُ بدرٍ جئتُ بسيفٍ، فقلتُ يا رسول الله: إن الله قد شفى قلبي من المشركين أو حو هذا، هَبْ لي هذا السيف، فقال: "هذا ليس لي ولا لك"، فقلتُ: عسى أن يُعطى هذا السيفُ من لا يُبلى بلائي. فجاءني الرسول وقال: "إنك سألتني وليس لي، وإنه قد صار لي، وهو لك"، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية. 2665 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} الآية (2)، قال: هم نفرٌ من بني عبد الدار. 2666 - * روى أحمد عن مُطَرِّفٍ قال: قلنا للزبير يا أبا عبد الله هما جاء بكم ضيَّعْتُم
الخليفة حتى قُتِلَ ثم جئتم تطلبون بدمه فقال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لم نكنْ نحسبُ أنّا أهلُها حتى وقعتْ منَّا حيثُ وقعت. 2667 - * روى الشيخان عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال أبو جهلٍ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (1) الآية، وعند الطبري: فلما أخرجوه، نزلت: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية (2). قال الحافظ في "الفتح": قوله: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا .. إلخ: ظاهر في أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة، فلعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم. وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن القائل لك هو النضر بن الحارث، قال: فأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح لاحتمال أن يكونا قالاه، ولكن نسبته إلى أبي جهل أولى. وعن قتادة قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها. وروى ابن جرير من طريق يزيد ابن رومان أنهم قالوا ذلك، ثم لما أمسوا ندموا فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. 2668 - * روى مسلم عن عُقبة بن عامرٍ (رضي الله عنه) قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1)، ألا إن القوةَ الرَّمْيُ- ثلاثاً. وزاد الترمذي ومسلم (2): "ألا إن الله سيفتحُ لكم الأرض، وستكفَوْنَ المؤونة، فلا يعجِزَنَّ أحدُكم أن يلْهُو بأسهمِهِ. 2669 - * روى البزار عن عبد الله بن مسعود في قول الله عز وجل: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قال نزلت في المتحابين في الله. 2670 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: لما نزلتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (3) كُتِبَ عليهم أن لا يفِرَّ واحدٌ من عشرةٍ، ولا عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) فكُتِبَ أن لا يفرَّ مائة من مائتين. وفي أخرى (5) له، ولأبي داود (6) قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذلك على المسلمين، فنزل: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية، قال: فلمَّا خفَّفَ الله عنهم من العِدَّة نقص عنهم من الصَّبْرِ بقدر ما خفَّفَ عنهم.
2671 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: افترض عليهم أن يقاتل كل رجل منهم عشرة فثقل ذلك عليهم وشق عليهم فوضع عنهم إلى أن يقاتل الرجل الرجلين فأنزل الله في ذلك: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلى آخر الآيات ثم قال: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يقول لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه ثم قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فقال العباس فيِّ والله نزلت حين أخبرْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي وجدت معي فأعطاني بها عشرين عبداً كلُّهم تاجرٌ بمالٍ في يده مع ما أرجو من مغفرة الله جل ذكره. 2672 - * روى أبو داود عن عمر لما كان يومُ بدرٍ وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى: {يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) ثم أحل لهم الغنائم. 2673 - * روى أبو داود عن ابن عباس: وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} كان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجرُ، فنسخت، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. 2674 - * روى الترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم تحِلَّ الغنائمُ لأحدٍ سُودِ الرُّؤوسِ من قَبْلِكم، إنما كانت تنزلُ نارٌ من السماء
فتأكلُها"- قال سليمان الأعمش: فمن يقول هذا إلا أبو هريرة الآن؟ - فلما كان يوم بدرٍ، وقعوا في الغنائم قبل أن تَحِلَّ لهم، فأنزل الله {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1). 2675 - * روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبيُّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني منكم رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أني بني بها ولما يبن بها .. " الحديث، وفيه: "حتى فتح الله عليهم، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار - لتأكلها" فيه: "فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم، ثم رأى ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا". قال الحافظ في "الفتح" وفيه اختصاص هذه الأمة بحل الغنائم، وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر. وفيها نزل قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} فأحل الله لهم الغنائم. 2676 - * روى الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه فجعلوا يتوارثون بذلك حتى نزلتْ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فتوارثوا بالنسب.
سورة براءة
سورة براءة 2677 - * روى أحمد عن (ابن عباسٍ) قلتُ لعثمان: ما حملكم على أن عمدْتُم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنْتُم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعْتُموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزلُ عليه السور ذواتُ العددِ، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا نزلتْ عليه الآيات فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً وكانت قصتُها شبيهة بقصتها، فقُبِضَ صلى الله عليه وسلم ولم يبينْ لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنْتُ بينهما، ولم اكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال. أقول: ذكرنا هذا الحديث لنشير إلى قضية مهمةٍ وهي أنَّ ترتيب السور توقيفيٌ وهذا الحديث لا يكون بحالٍ حجة لمن يقول غير ذلك فإن في سنده يزيد الفارسي فيه جهالة. إن انعقاد الإجماع على شيء لم يُعْرف دليلُه، دليلٌ على أنَّ هناك أدلةً ما قد أوصلت إلى الإجماع، وقد أجمع الصحابةُ على وضع سورة براءة بعد الأنفال ولذلك أسبابه وحكمه، فما أجمعوا إلا لأمر توقيفي كان سبباً في هذا الإجماع، وقد أثبتنا في كتابنا الأساس في التفسير دليلاً جديداً على أن ترتيب القرآن توقيفيٌ فلك دليلٌ يضافُ إلى مجموع الأدلة التي ذهب إليها القائلون بأنَّ ترتيب القرآن توقيفيٌ، ويشهدُ لذلك أدلةٌ كثيرةٌ. 2678 - * روى الشيخان عن سعيد بن جبيرٍ (رحمه الله) قال: قلتُ لابن عباسٍ (1):
سورة التوبة؟ فقال: بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل (ومنهم)، (ومنهم) حتى ظنوا أن لا يبقى أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها، قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: نزلتْ في بدر، قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: نزلت في بني النضير. وفي رواية (1): قلتُ لابن عباس: سورةُ الحشر؟ قال: قل: سورة النضير. قال الحافظ: قوله: ما زالت تنزل، ومنهم، ومنهم، أي: كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} وقوله: قل: سورة النضير، كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد: يوم القيامة، وإنما المراد به هنا: إخراج بني النضير. 2679 - * روى الشيخان عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنَّ أبا بكرٍ بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل حجَّةِ الوداع، في رهْطٍ يُؤذِّنُون في الناس يوم النحر: أن لا يحجَّ بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُرْيانٌ. وفي رواية (2): ثم أرْدَفَ النبيُّ بعليٍّ بن أبي طالب، فأمره أن يُؤذِّنَ بـ (براءةَ)، فقال أبو هريرة: فأذن مع في أهل مني ببراءة: أن لا يحجَّ بعد العام مُشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُريانٌ. وفي رواية (3): ويومُ الحجِّ الأكبر: يومُ النحر، والحج الأكبر: الحجُّ، وإنما قيل: الحج الأكبر، من أجل قول الناس: لعمرة: الحج الأصغر، قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحُجَّ في العام القابل الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجَّةَ الوداع مُشْرِكٌ.
وأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية (1)، وكان المشركون يوافُون بالتجارة، فينتفع بها المسلمون، فلما حرَّم الله على المشركين أنْ يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم مما قُطع عليهم من التجارة التي كان المشركون يُوافون بها، فقال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} ثم أحل في الآية التي تتبعُها الجزية، لم [تكن] تؤخذْ قبل ذلك، فجعلها عوضاً مما منعهم من موافاة المشركين بتجاراتهم، فقال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2): فلما أحل الله عز وجل ذلك للمسلمين: عرفوا أنه قد عاضَهُم أفضل مما خافوا ووجدوا عليه، مما كان المشركون يوافون به من التجارة. وفي رواية (3) أبي داود، قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذنُ يوم النحر بمنى: أن لا يحُجُّ بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُريانٌ، ويوم الحجِّ الأكبر: يوم النحر، والحج الأكبر: الحجُّ. وللنسائي في رواية (4) صحيحة: قال أبو هريرة: جئت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، قيل: ما كنتم تنادون؟ قال: كُنَّا ننادي: إنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنة، ولا يطوفَنَّ بالبيت عُريانٌ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فأجلُه - أو أمده - إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحُجُّ بعد العام مشركٌ، فكنت أنادي حتى صَحِلَ صوتي.
2680 - * روى الترمذي عن عليٍّ وقد سُئل بأي شيء بعثت في الحجةِ؟ قال بُعثتُ بأربعٍ: لا يطوفن بالبيت عريانٌ، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ فهو إلى مدَّتِه، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهرٍ، ولا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنةٌ، ولا يجتمع المشركون والمؤمنون بعد عامهم هذا. أقول: لقد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بعض المشركين عهودٌ مطلقة، وكان بينه وبين بعضهم عهود إلى أمدٍ، ولم يكن بينه وبين بعض المشركين أي عهد، فمن كان عهده إلى أمد فقد حوفظ على هذا المد، ومن كان له عهد مطلق أو لم يكن له عهد أعطى فرصة أربعة أشهر، ثم بعد ذلك فإنه لا عهد له. 2681 - * روى البخاري عن زيد بن وهبٍ (رحمه الله) قال: كنا عند حُذيفة، فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثةٌ، ولا بقي من المنافقين إلا أربعةٌ، فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمدٍ، تخبرونا أخباراً، لا ندري ما هي؟ تزعمون أن لا منافق إلا أربعةٌ، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا، ويسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفُساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعةٌ: أحدهم: شيخٌ كبيرٌ - لو شرب الماء البارد لما وجد بردَهُ. هكذا ورد الحديث في صحيح البخاري دون ذكر آية وإنما أشار لها وقد ترجم البخاري للحديث بقوله باب: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} (1) وقد أوردها صاحب جامع الأصول في صلب الحديث. قال المحقق: ولعل المصنف ذكرها في الحديث اعتماداً على الباب، فقد أورده البخاري تحت قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} الذي أورده فيه الحديث وقال الحافظ: تعليقاً على ذلك: هكذا وقع مبهماً، وقع عند الإسماعيلي من رواية ابن عيينة
عن إسماعيل بن أبي خالد بلفظ: "ما بقي من المنافقين من أهل هذه الآية: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية، إلا أربعة نفر، إن أحدهم لشيخ كبير. قال الإسماعيلي: إن كانت الآية ما ذكر في خبر ابن عيينة فحق هذا الحديث أن يخرج في سورة الممتحنة. وقد وافق البخاري على إخراجها عند آية براءة النسائي وابن مردويه، فأخرجا من طرق عن إسماعيل، وليس عند أحد منهم تعيين الآية، وانفرد عيينة بتعيينها، إلا أن عند الإسماعيلي من رواية خالد الطحان عن إسماعيل في آخر الحديث. قال إسماعيل: يعني الذين كاتبوا المشركين، وهذا يقوي رواية ابن عيينة، وكأن مستند من أخرجها في آية براءة، ما روه الطبري من طريق حبيب بن حسان عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقرأ هذه الآية: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. ومن طريق الأعمش عن زيد بن وهب نحوه، والمراد بكونهم لم يُقاتلوا، أن قتالهم لم يقع لعدم وقوع الشرط، لأن لفظ الآية: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا} فلما لم يقع منهم نكث ولا طعن لم يقاتلوا. وروى الطبري من طريق السدي قال: المراد بأئمة الكفر كفار قريش، ومن طريق الضحاك قال: أئمة الكفر: رؤوس المشركين من أهل مكة. أقول: كلام حذيفة في أنه لم يبق من أئمة الكفر إلا ثلاثة فذلك محمول على من أمرت الآية: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} بقتالهم في عصر النبوة، ولا يعني هذا أنه لم يبق أئمة كفر يجب قتالهم فيما بعد بل ذكر الحافظ في الفتح ما رواه الطبراني عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقرأ هذه الآية: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد ومن طريق الأعمش عن زيد بن وهب نحوه. فهذا يفيد أن أئمة الكفر قادمون وأن على هذه الأمة أن تقاتلهم. 2682 - * روى مسلم عن النُّعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد الإسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرام (1)، وقال
آخرُ، والجهاد في سبيل الله أفضلُ مما قُلتم، فزجرهم عمر، وقال: لاترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1). روى الترمذي عن عدي بن حاتمٍ [الطائيِّ] (رضي الله عنه) قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب، فقال: "يا عديُّ، اطرحْ عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) قال: إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه. هذا الحديث على غير شرطنا وإنما أوردناه لاشتهاره على ألسنة كثير من الناس ويظنونه مقبولاً ويحتج به بعض الناس على ذم تقليد أئمة المذاهب الأربعة وهذا في غاية البعد عن الحق فإن أولئك الأحبار إنما كانوا يحلون ويحرمون من عند أنفسهم لا من عند الله ولا يجوز بحال أن يقاس حد من المسلمين فضلاً عن الأئمة الأربعة عليهم. هذا مع ضعف الحديث قال الترمذي، (5/ 278): هذا الحديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطيْف بن أعْين ليس بمعروف في الحديث، اهـ. أقول: عبد السلام ثقة لكن غُطَيْف ضعيف ... والترمذي إنما حكم على غطيف. 2683 - * روى البخاري عن زيد بن وهبٍ (رحمه الله) قال: مررتُ بالرَّبَذَةِ، فإذا
بأبي ذَرٍّ، فقلتُ له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنتُ بالشام، فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلامٌ، فكتب إلى عُثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان: أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر عليَّ الناس، حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرتُ ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحَّيتَ، فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا عليَّ حبشياً لسمعتُ وأطعْتُ. قال الحافظ في "الفتح" 3/ 275 وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب، وفي ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه، حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذر، مع كونه كان مخالفاً له في تأويله، وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر، وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى إلى فراق الوطن، وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة، لأن في بقاء أبي ر بالمدينة، مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع عن المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه، لأن كلا منهما كان مجتهداً. وقال ابن كثير رحمه الله 4/ 157، 158: وكان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه، تحريم ادخرا ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية، فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. أقول: جمهور العلماء أنَّ من أدى زكاة ماله والحقوق المترتبة عليه من نفقة العيال وإطعام الجائع الذي عرف خبره صاحب المال وغير ذلك من الحقوق الواجبة لا يدخل في الوعيد الذي ورد في الآية.
روى أبو داود (1) عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: لما نزلتْ هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كبُرَ ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أُفَرِّجُ عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله، إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لكون لمن بعدكم، فكبر عمر، ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنزُ المرء؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليه سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته". أقول: هذا الحديث ضعيف لأن في سنده جعفر بن إياس هو ثقة لكن روايته عن مجاهد كما هي هنا ضعيفة لأنه لم يسمع منه كذا أعله شعبة انظر التهذيب (2/ 83). والذهبي لم يوافق الحاكم على تصحيحه بل قال: عثمان لا أعرفه والخبر عجيب اهـ وعثمان هو ابن القطان الخزاعي الراوي عن جعفر بن إياس عند الحاكم وإنما أوردناه للتنبيه عليه ولأن معناه صحيح بالجملة فمضمون هذا النص أصل من أصول نظام المال في الإسلام فالملكية إذا كانت عن طريق حلال وأُدِّيَ حقُّ الله فيها فهي محترمة ومباحة وليس لأحد الاعتداء عليها وليس لسلطة حق الأخذ منها بغير إذن صاحبها إلا بفتوى مبصرة من أهلها في حالات الضرورة أو الأوضاع الاستثنائية. 2684 - * روى الطبراني في الأوسط عن (ابن عمرو بن العاص) كانت العربُ يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يُصيبون الحجَّ إلا في كل ستٍ وعشرين سنةً مرةً، وهو النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حجَّ أبو بكرٍ بالناس، وافق ذلك العام الحجَّ فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من العام المقبل، فاستقبل الناس الأهلَّةَ، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدرا كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"، قال محمد بن محمد بن سليمان عن قوله: (إلا في ست وعشرين) لعله (إلا في كل ستة وثلاثين سنة) لأن الباعث لهم على الإنساء وهو أن يأتي الحجُّ كل عام في زمن الثمار ليجلبها عليهم
الحجاج، إنما يقتضي أن يستدبر الحج في تسع ذي الحجة في كل ست وثلاثين تقريباً، فلو أحلوا محرماً في عام ومُحرماً وصفر في الثاني، ومحرماً فقط في الثالث وحجوا في تاس ذي الحجة في الأعوام الثلاثة، ثم أحلوا صفر وربيع في الرابع وصفر فقط في الخامس، وصفر وربيع في السادس، وحجوا في تاسع المحرم في هذه الثلاثة، وهكذا في بقيتها، فإن عود الحج إلى تاسع ذي القعدة إنما يكون في تلك المدة، وبهذا يكون للحديث معنى صحيح والله أعلم. أقول: الآية المشار إليها في النص هي قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}. وقد ربط الله عز وجل أوقات الصلاة بظهور بدايات الشمس فجراً وبغياب الشفق ليلاً، وبظل الشمس وغروبها كما ربط الحج والصيام بالأشهر القمرية ليكون ذلك أدنى إلى معرفة العامة والخاصة بأوقات عباداتهم، وليكون ذلك أبعد عن التحريف والتبديل كما أن لارتباط صيام رمضان بالأشهر القمرية حكمه الأخرى منها: أن يتعادل صيام أهل الكرة الأرضية كل ستة وثلاثين عاماً تقريباً، ومن حكم ربط الحج بالأشهر القمرية مراعاة كل أصناف الناس، وليمر في أمكنتهم وأزمنتهم وأحوالهم، وبذلك يدور الحج بالنسبة للسنة الشمسية بحيث يمر في كل الفصول وفي ذلك رفق بأصناف من الناس قد لا يستطيعون الحج إلا في زمن يناسبهم أكثر من غيره، وهذا التأخير على القول بأن فرضية الحج على التراخي. 2685 - * روى أبو داود عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (1). نسختْها التي في النُّورِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
ونقل ابن الجوزي في زاد المسير 4/ 446، عن أبي سليمان الدمشقي: أنه ليس للنسخ هاهنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه، فعرضت لهم حاجة ذهبوا من غير استئذان. أقول: هناك اتجاه عند المفسرين أن الجهاد لا يحتاج إلى استئذان بل يسارع المسلم إليه بلا استئذان فضلاً عن أن يستأذن في تركه، فعلى هذا الاتجاه يُفهم قول ابن عباس أن آية سورة النور قد نسخت آية التوبة من حيث إن المسلم عليه أن يستأذن وحتى على الاتجاه الآخر في أن آية التوبة تتحدث عن منع الاستئذان في ترك الجهاد، فآية التوبة تجيز الاستئذان، لكن الاستئذان لترك الجهاد حين يكون فريضة عين إنما يكون لمعذور، فحتى المعذور يحتاج إلى إذن في ترك الجهاد لأنه قد يؤدي دوراً ما يناسب عذره. 2686 - * روى البخاري عن أبي مسعود البدري [عُقبة بن عمرو] (رضي الله عنه) قال: لما نزلت آيةُ الصدقة، كُنَّا نُحامِلُ على ظهورنا، فجاء رجلٌ فتصدق بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا [أي المنافقون]: مُراءٍ، وجاء رجل فتصدق بصاعٍ، فقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع هذا، فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1). وفي رواية (2): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السُّوق، فيُحامل، فيصيب المُدَّ، وإن لبعضهم اليوم لمائة ألفٍ. زاد في رواية (3): كأنه يُعَرِّضُ بنفسه.
وفي أخرى (1): لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة كُنَّا نتحاملُ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلتْ. وزاد النسائي (2) بعد قوله: لمائة ألفٍ: وما كان له [يومئذ] درهمٌ. 2687 - * روى الشيخان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) قال: لما تُوفي عبد الله - بن أُبي بن سلولٍ - جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أنْ يعطيه قميصه يُكَفِّنُ فيه أباه؟ فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تُصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيَّرَني الله عز وجل فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (3) وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (4). زاد في رواية (5): فترك الصلاة عليهم. قال في "الفتح" 8/ 253: أما جزم عمر بأنه منافق، فجرى على ما كان يطلعُ عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، وصلى عليه، إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام، كما تقدم تقريره، واستصحاباً لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده، الذي تحققت صلاحيته ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه
عمن يظهر الإسلام ولو كنا باطنه على خلاف ذلك، لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقل أهل الكفر وذلوا، أمر بمجاهدة المنافقين، وغير ذلك مما أُمر فيه بمجاهدتهم، وبهذا التقدير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. 2688 - * روى البخاري عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: لما مات عبد الله ابن أبي بن سلول، دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟! أعدَّدُ عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "أخرْ عني يا عمر، فلما أكثرت عليه، قال: أما إني خيرتُ، فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له، لزدتُ عليها"، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} قال: فعجبتُ بعد من جُرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ، والله ورسوله أعلم. وزاد الترمذي: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله. 2689 - *روى الترمذي عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (1).
وفي الباب عن سعيد بن المسيب عن أبيه أخرجه أحمد والبخاري ومسلم في الإيمان "أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: أي عم، قل: "لا إله إلا الله" أحاجُّ لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} اهـ. 2690 - *روى أحمد في قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} عن سهل بن سعد قال اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قُباء فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: "هو مسجدي هذا"، وفي رواية (1) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى قال: "هو مسجدي".
سورة يونس
سورة يونس 2691 - * روى الترمذي عن أبي الدرداء (رضي الله عنه) سأله رجلٌ من أهل مصر عن هذه الآية: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1)؟ قال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما سألني عنها أحد غيرك منذ أُنزلت: هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له". 2692 - * روى الترمذي عن عُبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: سألت رسول الله صلى الله لعيه وسلم عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: "هي الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن، أو تُرى له". 2693 - * روى مالك عن عروة بن الزبير بن العوام (رضي الله عنه) في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تُرى له".
سورة هود
سورة هود 2694 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال محمد بن عباد بن جعفر المخزومي إنه سمع ابن عباس يقرأ: {أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْني صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) قال: فسألته عنها؟ فقال: كان أناس يستحيون أن يتخلوا فيُفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. وفي رواية (2) عمرو بن دينار قال: قرأ ابن عباس: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} وقال غيره عن ابن عباس يستغشون: يغطون رؤوسهم. نقل ابن الجوزي في زاد المسير 4/ 77 عن ابن الأنباري: تثنوني: تفعوعل، وهو فعل للصدور، معناه: المبالغة في تثني الصدور، كما تقول العرب: احلولي الشيء يحلولي: إذا بالغوا في وصفه بالحلاوة. أقول: ما ورد في هاتين الروايتين لا يوافق الرسم العثماني للمصحف فهما قراءتان شاذتان لا تعتبران قرآنا، إلا أن لهما حكم التفسير. 2695 - * روى أحمد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الحِجْرَ في غزوة خطب الناس: "يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات، هؤلاء سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقة
ففعل، فكانت تردُ من هذا الفج، فتشربُ ماءهم يوم ورْدها، ويحلبون من لبنها مثل الذي كانوا يصيبون من غِبِّها، ثم تصدر من هذا الفجِّ، فعقروها، فأجلهم الله ثلاثة أيام، وكان وعد الله غير مكذوبٍ، ثم جاءتهم الصيحةُ فأهلك الله من كان منهم بين السماء والأرض، إلا رجلاً كان في حرم الله فمنعه حرمُ الله من عذاب الله، قيل يا رسول الله من هو؟ قال: أبو رِغَال". القصة في الآيات (61 - 68) من سورة هود. 2696 - * روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليُمْلِي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ"، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (1). وقال الترمذي: وربما قال: "ليُمْهِلُ". 2697 - * روى الشيخان عن ابن مسعودٍ (رضي الله عنه) أن رجلاً أصاب من امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (2) فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذه؟ قال: "لمن عمل بها من أمَّتي". ولمسلم (3) أيضاً قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، إني عالجتُ امرأةً
في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقْضِ فيَّ ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت على نفسك؟ قال: ولم يرُد النبي صلى الله عليه وسلم، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي رجلاً، فدعاه وتلا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقال رجل من القوم: يا نبي الله، هذا له خاصة؟ قال: "بل للناس كافةً". 2698 - * روى ابن خزيمة عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتُها إليَّ وباشرتُها وقبلتُها وفعلتُ بها كل شيء إلا إني لم أجامعها. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه. فقال عمر: يا رسول الله أله خاصةً أو للناس كافةً؟ فقال: "لا بل للناس كافة". 2699 - * روى البزار عن ابن عباس أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان تحبه امرأةً فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأذن له فانطلق في يوم مطيرٍ فإذا بالمرأة على غدير ماء تغتسل فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة ذهب يحرك ذكره فإذا هو به هدبةٌ فقام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صل أربع ركعات" فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) الآية.
سورة يوسف
سورة يوسف 2700 - * روى البخاري عن عروة بن الزبير (رضي الله عنه) أنه سأل عائشة عن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (1) أو كُذبوا؟ قالت: بل كذبهم قومهم، فقلت: والله، لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم، وما هو بالظن، فقالت: يا عُرَيَّةُ أجلْ، لقد استيقنوا بذلك، فقلت: لعلها (قد كُذبوا) فقالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظنُّ ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنوا أن أتباعم كذبُوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. وفي رواية (2) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: قال ابن عباس: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفةً، قال: ذهب بها هنالك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (3)، قال: فلقيتُ عروة بن الزبير، فذكرتُ ذلك له، فقال: قالت عائشة": معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم تزل البلايا بالرسل، حتى خافوا أن يكون من معهم من قومهم يُكذبُونهم، وكانت تقرؤها {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مُثقلةً. جاء في "زاد المسير" 4/ 296 وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "كُذِّبوا" مشددة الذال مضمومة الكاف، والمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم، فيكون الظن هاهنا بمعنى اليقين، وهذا قول الحسن وعطاء وقتادة وقرأ عاصمٌ وحمزة والكسائي "كُذبوا" خفيفة، والمعنى: ظن قومهم أن الرسل قد كُذبوا فيما وعدوا به من النصر، لأن الرسل لا يظنون ذلك. قال الحافظ في "الفتح" 8/ 267: أنكرت [أي عائشة] القراءة بالتخفيف، بناء على
سورة الرعد
أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته، ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء: عاصم ويحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ووافقهم من الحجازيين: أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، وأبي عبد الرحمن السلمي، والحسن البصري، ومحمد بن كعب القرظي في آخرين. سورة الرعد 2701 - * روى البزار عن (أنسٍ) بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله، فقال إيش ربك الذي تدعوني إليه، من حديد هو من نحاس هو من فضة هو من ذهب هو؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأعاده فقال مثل ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسله إليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل الله عليهم صاعقةً فأحرقتْهُ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قد أرسل على صاحبك صاعقةً فأحرقته"، فنزل: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (1).
سورة إبراهيم
سورة إبراهيم 2702 - * روى أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} (1) قال هي التي لا تنفض ورقها. وتمام الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}. 2703 - * روى الشيخان عن البراء بن عازبٍ (رضي الله عنه) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (2) قال: "نزلت في عذاب القبر". وفي رواية (3): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ إذا سُئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}. وفي أخرى (4) قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمدٌ صلى الله عليه وسلم". 2704 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} (5) قال: هم كفارُ أهل مكةَ.
وفي رواية (1) قال: هم والله كفارُ قريشٍ، قال عمرو هم قريشٌ، ومحمد: نعمةُ الله، {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال: النار يوم بدرٍ. 2705 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) فرفع يديه، وقال: "اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ - وربُك أعلم - فسله: ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله؟ فأخبره بما قال- وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك". 2706 - * روى مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (4) قلت: أينَ يكونُ الناسُ يومئذ يا رسول الله؟ قال: "على الصراط".
سورة الحجر
سورة الحِجْر 2707 - * روى أبو يعلي عن ابن عباس في قوله عز وجل: {لَعَمْرُكَ} (1) قال لحياتُك. 2708 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} (2) وقال: باب منها لمن سلَّ السيف على أمتي، أو قال" على أمة محمدٍ". 2709 - * روى النسائي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: أُوتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سبعاً من المثاني الطوَلِ. وفي رواية: في قوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (3)، قال: السبع الطِّوَلُ. 2710 - * روى الطبراني عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قال هي السبع الطول. 2711 - * روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما): {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (4) قال: هم أهل الكتاب: اليهودُ والنصارى، جزؤوهُ أجزاءً، فآمنوا ببعضٍ، وكفروا ببعضٍ.
سورة النحل
سورة النحل 2712 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) في قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (1) قال زيدوا عقاربَ أنيابها كالنخل الطوال. 2713 - * روى أحمد عن عثمان بن أبي العاص الثقفيِّ (رضي الله عنه) قال كنتُ عند رسول الله! جالساً إذ شخصَ ببصرِه ثم صوَّبَه حتى كاد أن يلزِقَ بالأرض قال وشخص ببصره قال أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. 2714 - * روى الطبراني عن مسروقٍ في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (2) قال: قال عبد الله بن مسعود إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين. فقال فروةُ رجلٌ من أشجع نسي، أن إبراهيم. فقال: ومن نسي، إنّا كنا نشبّه معاذاً بإبراهيم. وسئل عن الأمة فقال: معلمُ الخير، وسُئِلَ عن القانت فقال: مطيعُ الله ورسوله. 2715 - * روى الترمذي عن أُبيٍّ: لما كان يومُ أُحدٍ أُصيب من الأنصار أربعةٌ وستون، ومن المهاجرين ستة فمثلوا بهم، فقالت الأنصارُ: لئن أصبْنا منهم يوماً مثل هذا لنُرْبيَنَّ عليهم في التمثيل. فلما كان يوم الفتح أنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (3) فقال رجل لا قريش بعد اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن القوم إلا أربعةً".
سورة الإسراء
سورة الإسراء 2716 - * روى البخاري عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: في بني إسرائيل والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: إنهُن من العِتاقِ الأول، وهُن من تلادي. 2717 - * روى الشيخان عن ابن مسعود في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} كان نفرٌ من الإنس يعبُدون نفراً من الجنِّ فأسلم النفرُ من الجنُ فاستمسك الآخرون بعبادتهم فنزلت {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (1). 2718 - * روى البخاري عن ابن عباس: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} (2) هي رؤيا عينٍ أريها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به، والشجرة المعلونة في القرآن هي شجرة الزقوم. 2719 - * روى مالك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) كان يقول: دُلوك الشمس: ميْلُها.
2720 - * روى الترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تشهدهُ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار". وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح، يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال ابن كثير: فعلى هذا تكون هذه الآية: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قد دخل فيها كل أوقات الصلوات الخمس. فمن قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهو ظلامه: أخذ الظهر والعصر والمغرب والعشاء. ومن قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني صلاة الفجر، وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً من أقواله وأفعاله بتفاصيل هذه الأوقات على ما هي عليه اليوم عند أهل الإسلام مما تلقوه خلفاً عن سلف وقرناً بعد قرن. 2721 - * روى الشيخان عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يتوكَّأ على عسيبٍ - مرَّ بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: سلوهُ عن الروح؟ وقال بعضهم: لا تسألوه لا يُسمِعْكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعةً ينظرُ، فعرفْتُ أنه يوحي إليه، فتأخَّرْتُ حتى صعد الوحيُ، ثم قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (2) فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم: لا تسألوه. قال ابن القيم: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقاً، وإنما المراد به المأمور، والأمر
يطلق على المأمور كالخلق على المخلوق، ومنه {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر، والحكمة في إبهامه اختبار الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم مالا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه. قال ابن كثير في تفسيره 5/ 227: وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية، وقد يجاب عن هذا بأن تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}. أقول: وقد يكون سئل هذا وهو في مكة من قبل اليهود، بأن جاؤوه فسألوه أو أرسلوا له مع قريش، وهذا أولى من القول بتكرار النزول، ويؤكد هذا الرواية التالية: 2722 - * روى أحمد عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قالت قريشٌ لليهود: أعطونا شيئاً نسألُ عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوهُ عن الروح، فسألوه عن الروح؟ فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراةَ فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1). 2723 - * روى الدارمي عن شداد بن معقل أن ابن مسعود قال: ليُنْتَزعَنَّ هذا القرآنُ من بين أظهركم، قلت يا أبا عبد الرحمن: كيف يُنتزعُ وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يُسْرَى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد ولا مصحف منه شيء، ويصبح الناس فقراء كالبهائم، ثم قرأ عبد الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ
لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}. 2724 - * روى الجماعة إلا الموطأ وأبا داود عن ابن عباس (رضي الله عنه) في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (1) قال: أنزلتْ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة، وكان إذا رفع صوتهُ، سمعهُ المشركون فسبُّوا القرآن ومنْ أنزله ومن جاء به، فقال الله عز وجل: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}، أي: بقراءتك، حتى يسمعها المشركون: {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}: عن أصحابكَ، فلا تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}: أسمعهم، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن. وفي رواية (2): {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} يقول: بين الجهر والمخافتة. 2725 - * روى الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: أُنزل هذا في الدعاء: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}. قال الحافظ في الفتح، قوله: أنزل ذلك في الدعاء، هكذا أطلقت عائشة، وهو أعم من أن يكون ذلك داخل الصلاة أو خارجها. 2726 - * روى ابن خزيمة عن عائشة، قالت: نزلت هذه الآية في التشهد: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}.
سورة الكهف
سورة الكهف 2727 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيفٍ قال: نزلتْ هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (1) خرج يلتمس فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد فلما رآهم جلس معهم فقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم". 2728 - * روى مالك عن سعيد بن المسيب (رحمه الله) قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} (2) هي قول العبد، الله أكبرُ، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 2729 - * روى الشيخان عن سعيد بن جُبير (رحمه الله) قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نوفاً البكالي يزعُم أن موسى - صاحب بني إسرائيل- ليس هو صاحب الخضرِ. فقال: كذَبَ عدوُّ الله، سمعتُ أُبي بن كعبٍ يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلمُ؟ قال: أنا أعلم، قال: فعتب الله عليه إذْ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوْحى الله إليه: إنَّ عبداً من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال موسى، أيْ ربِّ، كيْفَ لي به؟ فقيل له: احمِلْ حُوتاً في مكتَلٍ، فحيثُ تفقدُ الحوت، فهو ثمَّ، فانطلق وانطلق معه فتاهُ، وهو يُوشعُ بن نونٍ، فحمل مُوسى حوتاً في مكتلٍ، فانطلق هو وفتاه يمشيان، حتى أتيا الصخرة، فرقد موسى وفتاه، فاضطرب الحوتُ في
المكتل، حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر، قال: وأمسك الله عنه جريةَ الماء حتى كان مثل الطاق فكان للحوت سرباً وكان لموسى وفتاه عجباً، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، ونسي صاحب موسى أن يخبرهُ، فلما أصبح موسى عليه السلام قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (1). قال: ولم ينصبْ حتى جاوز المكان الذي أُمِرَ به: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (2). قال: يقُصَّان آثارهما، حتى أتيا الصخرة، فرأى رجلاً مُسجَّى ثوباً، فسلم عليه موسى، فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: إنك على علمٍ من علم الله علمكهُ الله لا أعلمْهُ، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قال له الخضر: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (3) قال نعم، فانطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينةٌ، فكلموهم أن يحملوهُما، فعرفُوا الخضر، فحملوهما بغير نولٍ، فعمد الخضرُ إلى لوحٍ من ألواح السفينة، فنزعه، فقال له موسى: قومٌ حملونا بغير نوْلٍ، عمدت إلى سفينتهم، فخرقتها: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا،
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (1)، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ غلامٌ يلعبُ مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه، فاقتلعهُ بيده، فقتله، فقال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (2) قال: وهذه أشدُ من الأولى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} يقول: مائل، قال الخضر بيده هكذا فأقامه، قال له موسى: قومٌ أتيناهمْ، فلم يضيفونا، ولم يُطعمونا: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يرحمُ الله موسى، لوددتُ أنه كان صبر، حتى كان يقصُّ علينا من أخبارهما" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسياناً" قال: وجاء عُصفورٌ حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمُك من علم الله، إلا مثل ما نقص هذا العصفُور من البحر". زاد في رواية (4): "وعلم الخلائق" ثم ذكر نحوه. قال سعيد بن جبير: كان يقرأ: "كان أمامهم ملك يأخذ كل سفينةٍ غصباً" وكان يقرأ: وأما الغلام: فكان كافراً". وفي رواية (5) قال: "بينما موسى عليه السلام في قومه يُذكِّرهُم بأيام الله، وأيامُ الله: نعماؤه وبلاؤه، إذْ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً أو أعلم مني" قال ... وذكر الحديث. وفيه: "حوتاً مالحاً".
وفيه: "مُسجّى ثوباً، مستلقياً على القفا، أو على حُلاوةِ القفا". وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجَّل لرأي العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامةٌ"، قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} ولو صبر لرأى العجب، قال: وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه، ثم قال: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} لئامٍ، فطافا في المجلس، فاستطعما أهلها: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} إلى قوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} قال: وأخذ بثوبه، ثم تلا إلى قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} إلى آخر الآية (1): فإذا جاء الذي يُسخرُها وجدها منخرقة، فتجاوزها، فأصلحوها بخشبةٍ وأما الغلام فطُبع يوم طُبع كافراً، وكان أبواه قد غطفا عليه، فلو أنه أدرك: {يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}. وفي رواية (2) قال: "وفي أصل الصخرة عينٌ يقال لها: الحياة لا يُصيبُ من مائها شيءٌ إلا حييَ، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرَّكَ، وانْسلَّ من المكتل" وذكر نحوه. وفي رواية (3): "أنه قيل له: خُذْ حوتاً، حتى تُنفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً، فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلِّفُك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، فقال: ما كلَّفت كبيراً" .. وذكر الحديث. وفيه: "فوجدا خضراً على طنفُسَةٍ خضراء على كبد البحر، وأن الخضر قال
لموسى: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك، ياموسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه". وفيه في صفة قتل الغلام: "فأضجعهُ فذبحه بالسكين". وفيه: "كان أبواه مؤمنين، وكان كافراً: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} يحملهما حبه على أن يُتابعاهُ على دينه: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً}، لقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}، {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أرحمُ بهما من الأول الذي قتلَ الخضرُ". وفي رواية (1): "أنهما أُبْدِلا جاريةً". وفي رواية (2) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ: "أن ابن عباس تمارى هو والحرُّ بن قيس بن حصنٍ الفزاريُّ في صاحب موسى عليه السلام، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أُبيُّ بن كعبٍ، فدعاهُ ابن عباس فقال: يا أبا الطُّفيل، هلُمَّ إلينا فإنِّي قد تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لُقِيِّهِ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ فقال أُبي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل، فقال له: هل تعلَمُ أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله تعالى إلى موسى: بلى، عبدُنا الخضر، فسأل موسى السبيل إلى لُقِيِّهِ، فجعل الله له الحوت آيةً ... وذكر الحديث إلى قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فوجدا خضراً، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه". ولمسلم رواية (3) أخرى بطولها، وفيها: "فانطلقا، حتى إذا لقيا غِلماناً يلعبون،
قال: فانطلق إلى أحدهم بادي الرأي، فقتله، قال: فذُعِر عندها موسى ذُعرةً مُنكرةً، قال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند هذا المكان: "رحمةُ الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجَّلَ لرأي العجب، ولكنه أخذتْهُ من صاحبه ذمامةٌ". وفي رواية (1) في قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} قال: "كانت الأولى نسياناً، والوسطى: شرطاً، والثالثة عمداً". وفي رواية (2) لمسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}. وعنده (3) قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلامُ الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرْهق أبويه طُغياناً وكفراً". وفي رواية (4) الترمذي أيضاً: قال: "الغُلام الذي قتله الخضر: طُبع يوم طُبع كافراً .... " لم يزِدْ. وأخرج أبو داود (5) من الحديث طرفيْنِ مختصريْنِ عن أُبيِّ بن كعبٍ: الأول، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغلام الذي قتله الخضر: طُبع يوم طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً". والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبصر الخضر غُلاماً يلعبُ مع الصبيان، فتناول رأسه فقلعه، فقال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} الآية". قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: ثبت في "الصحيحين". أن سبب تسميته الخضر "أنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز تحته خضراء" هذا لفظ الإمام أحمد من رواية
المبارك عن معمر عن همام عن أبي هريرة. و"الفروة" الأرض اليابسة. في قول ابن عباس: (كذب عدو الله). قال العلماء: هو على وجه الإغلاظ والزجر عن مثل قوله، لا أنه يعتقد أنه عدو الله حقيقة، إنما قاله مبالغة في إنكار قوله لمخالفته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك في حال غضب ابن عباس لشدة إنكاره، وفي حال الغضب تطلق الألفاظ، ولا يراد بها حقائقها. قال في "الفتح" 1/ 219 قوله "هو أعلم منك" ظاهر في أن الخضر نبي، بل مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، وهو باطل من القول، ومن أوضح ما يُستدل به على نبوة الخضر قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وينبغي اعتقاد كونه نبياً، لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم: إن الولي أفضل من النبي، حاشا وكلا. قال النووي: "فتاه" صاحبه. و"نون" معروف، كنوح. وهذا الحديث يرد قول من قال من المفسرين: إن فتاه: عبد له، وغير ذلك من الأقوال الباطلة. قالوا: هو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف. قال النووي: قوله: "وأمسك الله عنه جِرْية الماء، حتى كان مثل الطاق" الجرية: بكسر الجيم، والطاق: عقد البناء، وجمعه: طوق وأطواق، وهو الأزج وما عقد أعلاه من البناء، وبقي ما تحته خالياً. والأزج: بناء مستطيل مقوس السقف. قال الحافظ في "الفتح" 1/ 154 قوله: "ذلك ما كنا نبغي" أي: نطلب، لأن فقد الحوت جُعِلَ آية، أي: علامة على الموضع الذي فيه الخضر. وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنت، والرجوع إلى أهل العلم عند التنازع، والعمل بخبر الواحد الصدوق، وركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار منه، ومشروعية وحمل الزاد في السفر، ولزوم التواضع في كل حال. ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر وطلب العلم منه، تعليماً لقومه ان يتأدبوا بأدبه. وتنبيهاً لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع. قال الحافظ في "الفتح" 1/ 220 قوله: "أنيَّ" أي: كيف بأرضك السلام. ويؤيده
ما في التفسير "هل بأرضي من سلام؟ " أو من أين، كما في قوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا}. والمعنى: من أين السلام في هذه الأرض التي لا يُعرف فيها، وكأنها كانت بلاد كفر، أو كانت تحيتهم بغير السلام، وفيه دليل على أن الأنبياء ومن دونهم، لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله، إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله. قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}. قراءة ابن كثير بإثبات الياء، وعاصم بحذفها. قال النووي: في الحديث: الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السلام عليه، قال القاضي؛ اختلف العلماء في قول موسى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} و {شَيْئًا نُكْرًا} أيهما أشد؟ فقيل "إمراً" لأنه العظيم. ولأنه في مقابلة خرق السفينة، الذي يترتب عليه في العادة هلاك الذين فيها وأموالهم، وهلاكهم أعظم من قتل الغلام، فإنها نفس واحدة. وقيل: "نكراً" أشد. لأنه قاله عند مباشرة القتل حقيقة. وأما القتل في خرق السفينة فمظنون. وقد يسلمون في العادة. وقد سلموا في هذه القضية فعلاً. وليس فيها ما هو محقق إلا مجرد الخرق. والله أعلم. قال الحافظ في "الفتح" 8/ 316: قوله: "يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه" أي: جميعه "وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه" أي: جميعه. وتقدير ذلك متعين، لأن الخضر كان يعرف من الحكم الظاهر مالا غنى بالمكلف عنه، وموسى كان يعرف من الحكم الباطن ما يأتيه بطريق الوحي. ووقع في رواية سفيان "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت" وهو بمعنى الذي قبله. (زكيَّة): بتشديد الياء وزاكية: " قراءتان سبعيتان متواترتان فقد قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر (زكية) وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير (زاكية)، وهما بمعنى واحد. (لتخذت): قرأ هذه القراءة (لتخذْتَ) بفتح التاء من دون تشديد وكسر الخاء من
القراء السبعة ابن كثير وأبو عمرو، قرأ الباقون بتشديد التاء وفتح الخاء وكلا القراءتين متواتران. (وكان وراءهم ملك): القراءة التي وردت في الحديث: (وكان أمامهم ملك). قال عنها الزركشي هي كالتفسير اهـ إذ أنها تخالف الرسم العثماني للمصحف فلا يجوز أن تقرأ على أنها قرآن. 2730 - * روى الشيخان عن (زينب بنت جحشٍ): أن النبي صلى الله عله وسلم دخل عليها فزعاً يقول: "لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فُتح اليوم من ردْم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه، وحَلَّق بأصبعيه الإبهام، والتي تليها، فقلت: يا رسول الله أنهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث". أقول: ذكر هذا الحديث ها هنا بمناسبة قوله تعالى في سورة الكهف: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (1) بمناسبة الكلام عن يأجوج ومأجوج في سورة الكهف، وقد حققنا الكلام عن السد في قسم العقائد ولعل في هذا الحديث إشارة إلى الغزو التتري والمغولي للأرض الإسلامية التي سقطت بسببه الخلافة العباسية، وهذا القدر من انفتاح يأجوج ومأجوج هو صغيرٌ بالنسبة لما سيكون من انفتاحهم على العالم زمن نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام. 2731 - * روى البخاري عن مصعب بن سعد بن أبي وقاصٍ قال: يعني أبي - سألتُ عن قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} (2).
أهم الحرْورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود: فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى: فكذبوا بالجنة، قالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (1) وكان سعدٌ يسميهم: الفاسقين. قال في الفتح 8/ 323: "الحرورية" بفتح الحاء المهملة وضم الراء نسبة إلى حروراء، وهي القرية التي كان ابتداء خروج الخوارج على علي منها. ولابن مردويه من طريق حصين عن مصعب "لما خرجت الحرورية، قلت لأبي: أهؤلاء الذين أنزل الله فيهم؟ " وله من طريق أبي القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل عن علي في هذه الآية، قال: "أظن أن بعضهم الحرورية". وللحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل قال: قال علي "منهم أصحاب النهروان" وذلك قبل أن يخرجوا، ولعل هذا هو السبب في سؤال مصعب إياه عن ذلك وليس الذي قاله عليُّ بن أبي طالب ببعيدٍ لأنَّ اللفظ يتناوله وإن كان السببُ مخصوصاً. في ابن كثير: عن مصعب قال: سألت أبي، يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله ... وهذا أصح. وفي البخاري هم الحرورية؟ بدون همزة. وفي البخاري وأما النصارى كفروا بالجنة بدل فكذبوا. 2732 - * روى الشيخان عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهُ ليأتي الرجُلُ العظيم السمينُ يوم القيامة لا يزنُ عند الله جناح بعوضةٍ، وقال: اقرؤوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (2) ".
2733 - * روى الترمذي عن أبي سعيد بن أبي فضالة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله الناس ليومٍ لا ريب فيه، نادى منادٍ: منْ كان يشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلبْ ثوابه منه، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك". أقول: ذكر هذا الحديث بمناسبة قوله تعالى في سورة الكهف: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} آخر الكهف (1).
سورة مريم
سورة مريم 2734 - * روى مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرؤون {يَاأُخْتَ هَارُونَ} (1) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك؟ فقال: "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم، والصالحين قبلهم". وأخرجه الترمذي: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: ألستُم تقرؤون ... وذكر الحديث. قال النووي: "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم إلخ ... " استدل به جماعة على جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وأجمع عليه العلماء، إلا ما قدمناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وكان في أصحابه خلائق يسمون بأسماء الأنبياء قال القاضي: وقد ذكر بعض العلماء: التسمي بأسماء الملائكة، وهو قول الحارث بن مسكين، قال: وكره مالك التسمي بجبريل وياسين. أقول: كان أهل نجران نصارى، فالتبس عليهم قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} مع أن النص واضح في أنهم سموها بأخت هارون إشارة إلى كمالها وتعجبهم انها مع كمالها قد جاءت بولد بلا أب اتهاماً منهم إياها بالزنا وحاشاها، وهناك اتجاه آخر ذكره السهيلي: قال: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران. 2735 - * روى الترمذي عن قتادة رحمه الله في قوله تعالى عن إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (2) قال: " قال أنسٌ: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما عُرِجَ بي رأيتُ إدريس في السماء الرابعة".
2736 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: "ما يمنعُك أنْ تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1). قال الحافظ في "الفتح": قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما بين أيدينا: الآخرة، وما خلفنا: الدنيا، وما بين ذلك: ما بين النفختين. 2737 - * روى البزار عن أبي الرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. 2738 - * روى مسلم عن (أم مُبشِّرٍ الأنصارية) أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (2) فقال صلى الله عليه وسلم قد قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (3). أقول: ذكر ابن كثير المناسبة التي وردت في شأنها هذه الرواية فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقال "لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية. فقالت حفصة أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ثم ننجي. 2739 - * روى الترمذي عن السُدِّي رحمه الله قال: سألت مُرَّة الهمداني عن قول الله تعالى:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فحدثني: أن عبد الله بن مسعود حدثهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يردُ الناس، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضْر الفرس ثم كالراكب في رحله، ثم كشد الرجُل، ثم كمشيه". 2740 - * روى الشيخان عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: كنتُ قينْا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دينٌ، فأتيته أتقاضاه وفي رواية قال: "فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئته أتقاضاه فقال: لا أعطيك، حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر حتى يميتك الله ثم تُبعث قال: وإني لميت ثم مبعوثٌ؟ قلت: بلى، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتي مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (1). وأخرجه الترمذي قال: جئتُ العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقاً لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ... الحديث. قال الحافظ في "الفتح": هو والد عمرو بن العاص: الصحابي المشهور، وكان له قدر في الجاهلية، ولم يوفق للإسلام. قال ابن الكلبي: كان من حكام قريش، وكان موته بمكة قبل الهجرة، وهو أحد المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عمرو: سمعت أبي يقول: عاش أبي خمساً وثمانين سنة، وإنه ليركب حماراً إلى الطائف، يمشي عنه أكثر مما يركب، ويقال: إن حماره رماه على شوكة، فأصابت رجله، فانتفخت، فمات منها. قال الحافظ في الفتح: قوله "حتى تموت، ثم تبعث" مفهومه: أنه يكفر حينئذ لكنه لم يُرد ذلك لأن الكفر حينئذٍ لا يتصور، فكأنه قال: لا أكفر أبداً، والنكتة في تعبيره
بالبعث: تعبير العاص بأنه لا يؤمن به، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل قوله هذا، فقال: علق الكفر، من علق الكفر كفر، أصاب بأنه خاطب العاص بما يعتقده، فعلق على ما يستحيل بزعمه، والتقرير الأول يغني عن هذا الجواب.
تفسير سورة طه
تفسير سورة طه 2741 - *روى أبو يعلي حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (1) سألته عن الفتون ما هو؟ قال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً. فلما أصبحتُ غدوتُ إلى ابن عباس لأنتجزَ منه ما وعدني من حديث الفتون فقال: تذاكر فرْعونُ وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكون فيه. وقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب. فلما هلك، قالوا: ليس كذلك، إن الله عز وجل وعد إبراهيم. قال فرعون: فكيف ترونه؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشِّفَار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يُذْبحون، قالوا: يُوشك أن تُفْنُوا بني إسرائيل فتصيرون إلى أن تُباشروا من الأعمال التي كانوا يكفونكم. فاقتلوا عاماً كل مولودٍ ذكرٍ فيقل نباتهم، ودعوا عاماً فلا يُقتل منهم أحدٌ فينشأ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يُفنَوْا بمن تقتلون فتحتاجون إلى ذلك، فأجمعوا أمرهم على ذلك. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يُذبح فيه الغلمان فولدته علانيةً آمنةً. فلما كان من قابلٍ حملت بموسى، فوقع في قلبها الهمُّ والحُزْنُ- وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ - ما دخل منه في قلب أمِّه مما يُراد به. فأوحى الله تبارك وتعالى إليها: {وَلَا