icon ONLINE ARABIC KEYBOARD ™
Advertisement

بديع الزمان سعيد النورسي

بديع الزمان النورسي ( (1294هـ - 1877م = 1379هـ - 1960م ) بقلم عبد الله الطنطاوي - مجلة المنار ، العدد 63 ، شوال 1423هـ الشيخ المجاهد العالم العامل بديع الزمان النورسي ، هو من هو علماً ومكانة في تاريخ تركيا الحديثة التي شهدت وما تزال تشهد تطورات خطيرة منذ بداية القرن العشرين ، وما تزال آثاره حتى الآن يتفاعل بها المجتمع التركي المعاصر ، الذي يلقى الألاقي في عهود العلمانية والعلمانيين الذين انسلخوا من دينهم ، وحاربوا شعوبهم في عقيدتهم وقيمهم وأخلاقهم. المولد : ولد سعيد النورسي الملقب بـ (بديع الزمان) في قرية (نورس) الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام (1294هـ - 1877م) مع أبوين صالحين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح ، ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر، كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن الماضي ، وبدايات هذا القرن. وإلى قريته (نورس) ينسب. علمه : وقد بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ طفولته ، ولما دخل (الكتاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته ، وبداهته ، وذكائه ، ودقة ملاحظته ، وقدرته على الاستيعاب والحفظ ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي ، فقد حفظ عن ظهر غيب ، ثمانين كتاباً من أمهات الكتب العربية كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة. كما عكف على دراسة العلوم العصرية ، أو العلوم الكونية الطبيعية ، (رياضيات ، وفلك ، وكيمياء ، وفيزياء ، وجيولوجيا) والجغرافيا والتاريخ والفلسفة الحديثة وسواها من العلوم ، حتى غدا عالماً فيها ، ومناظراً فذاً للمختصين بها ، وصار له رصيد ضخم من المعلومات ، مكنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة. كان طالب العلم سعيد النورسي شديد الاحتفال والاشتغال والتعلق بالفلسفة والعلوم العقلية ، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها ، كأكثر أهل الطرق الصوفية ، بل كان يجهد لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إياه مداومة النظر في كتب الفلاسفة. مع القرآن الكريم : في عام 1894 تناهى إلى سمعه أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) وقف في مجلس العموم البريطاني ، وهو يحمل المصحف الشريف بيده ، ويهزه في وجوه النواب الإنكليز ، ويقول لهم بأعلى صوته : ( ما دام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق ، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. لذا ، لا بد لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود ، أو نقطع صلة المسلمين به). فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من أعماقه : "لأبرهنن للعالم أجمع ، بأن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها ، ولا يمكن إطفاء نورها". رؤيا صادقة : ورأى النورسي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلم ، وسأله أن يدعو الله له : أن يفهمه القرآن ، ويرزقه العمل به ، فبشره الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، قائلاً له : سيوهب لك علم القرآن ، شريطة ألا تسأل أحداً شيئاً. وأفاق النورسي من نومه ، وكأنما حيزت له الدنيا بل أين هو من الدنيا ، وأين الدنيا منه.. أفاق وكأنما حيز له علم القرآن وفهمه ، فقد آلى على نفسه ألا يسأل أحد شيئاً ، استجابة لشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله ما تمنى، وصار القرآن أستاذه ، ومرشده وهاديه في الدياجير التي اكتتفت تركيا الكمالية. بديع الزمان في مهب الأعاصير : نستطيع تمييز مرحلتين في حياة الإمام سعيد النورسي : الأولى : مرحلة سعيد القديم ، وتبدأ من مولده حتى نفيه إلى بلدة (بارلا) عام 1926 ، وهذه المرحلة هي مرحلة الإعداد الذاتي لنفسه ، ومرحلة العمل الفردي ، وخوض المعارك السياسية ، مدافعاً عن الخلافة ، وعن القرآن والإسلام ، مهاجماً أعداء الإسلام وأعداء الخلافة والقرآن. وفي هذه المرحلة : وفي هذه المرحلة سافر إلى إستانبول عام 1896 ليقدم مشروعاً لإنشاء - جامعة إسلامية حديثة في شرقي الأناضول - بلاد الأكرد - وأطلق عليها اسم (مدرسة الزهراء) لتكون على منوال ( الأزهر ) في مصر ، غير أنها تختلف عن الأزهر بتدريس العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية والعربية ، وذلك من أجل النهوض بالأكراد المسلمين المهملين الذين يفنك بهم الجهل والفقر والتخلف ، ولكن النورسي لم يلق قبولاً من السلطان عبدالحميد ومن وزير داخليته. وفي عام 1907 سافر مرة أخرى إلى إستانبول ، للغرض ذاته ، وقابل السلطان عبدالحميد ، وانتقد الاستبداد ونظام الأمن واستخبارات القصر (يلدز) فأثار عليه حاشية السلطان ، وأحالوه إلى محكمة عسكرية. وكان النورسي في منتهي الشجاعة في التعبير عن رأيه أمام القضاة العسكريين ، الأمر الذي جعل رئيس المحكمة يحيله إلى الأطباء النفسانيين ، للتأكد من سلامة قواه العقلية ، وكانت لجنة الأطباء المؤلفة من طبيب تركي ، وآخر أرمني ، وثالث رومي ومن طبيبين يهوديين (!!!) قررت وضعه في مستشفى (طوب طاش) للمجانين) (!!!). وعندما حضر طبيب نفساني إلى المستشفى ، لفحص قواه العقلية ، بادره النورسي بحديث رائع عميق يأخذ بالألباب ، فما كان من الطبيب إلا أن يكتب في تقريره : لو كانت هناك ذرة واحدة من الجنون عند بديع الزمان ، لما وجد عاقل واحد على وجه الأرض. مع وزير الداخلية : ثم أحيل النورسي إلى وزارة الداخلية ، وكان الحوار التالي بينه وبين وزير الداخلية الذي حسب أن النورسي كسائر من عرف يمكن شراؤه بثمن بخس ، فلطالما اشترى الوزراء علماء بدارهم معدودة ، فكان الوزراء والعلماء والسائرون في ركابهم ، كارثة على الشعوب والمبادئ والقيم. - قال له الوزير في فرح وطمأنينة : إن السلطان يخصك بالسلام مع مرتب بمبلغ ألف قرش ، وعندما تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثلاثين ليرة كما أرسل لك ثمانين ليرة هدية سلطانية. - قال بديع الزمان هي شموخ : لم أكن أبداً متسول مرتب ، ولن أقبله ولو كان ألف ليرة لأنني لم آت لغرض شخصي ، وإنما لمصلحة البلد ، فما تعرضونه علي ليس سوى رشوة السكوت. - قال الوزير مهدداً : إنك بهذا ترد الإرادة السلطانية ، والإدارة السلطانية لا ترد. - أجابه بديع الزمان بتحد : إنني أردها ، لكي يستاء السلطان ويستدعيني عند ذلك أستطع أن أقول له قولة الحق. - قال الوزير متوعداً : إن العاقبة ستكون غير سارة. - قال بديع الزمان في استهانة : تعددت الأسباب والموت واحد ، فإن أعدم فسوف أرقد في قلب الأمة ، علماً بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضعاً روحي على كفي اعملوا ما شئتم ، فإني أعني ما أقول : إنني أريد أن أوقظ أبناء الأمة ، ولا أقوم بهذا العمل إلا لأنني فرد من هذا البلد ، لا لأقتطف من ورائه مرتباً ، لأن خدمة رجل مثلي للدولة لا تكون إلا بإسداء النصائح ، وهذه لا تتم إلا بحسن تأثيرها ، وهذا لا يتم إلا بترك المصالح الشخصية فإنني معذور إذن عندما أرفض المرتب. - ذعر الوزير من كلام الشيخ ، ومن صرامة موقفه ، فقال له لين : إن ما ترمي إليه من نشر المعارف في بلدك هو موضع دراسة في مجلس الوزراء حالياً. - بديع الزمان : إذن فلم يتأخر نشر المعارف ، ويستعجل في أمر المرتب ؟ لماذا تؤثرون منفعتي الشخصية على المنفعة العامة ؟ مع قره صو : ثم ذهب إلى (سلانيك) مقر يهود الدونمة ومشتقاتهم من جمعية (الاتحاد والترقي) و (الماسونية) وسواهما ، والتقى عدداً من شخصيات (الاتحاد والترقي) الذين كانوا يطمعون في كسب النورسي العبقري إلى صفهم ، وكان ممن التقاهم : (عما نوئيل قره صو) رئيس المحفل الماسوني ، وعضو مجلس المبعوثان (أي النواب) العثماني ، وكان قره صو يطمع في النورسي ، ولكن المقابلة بينهما لم تطل ، لأن قره صو فر هارباً من اللقاء ، وهو يقول : كاد هذا الرجل العجيب - النورسي - يدخلني في الإسلام ، بحديثه. و (قره صو) هذا هو أول صهيوني ماسوني عمل على خلع السلطان عبدالحميد وإلغاء الخلافة. شموخ الإيمان : وفي هذه المرحلة اتهم فيمن اتهم بحادثة 31 مارت (13/4/1909) وسيق إلى المحاكمة ، ورأى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلقين على أعواد المشانق ، ظناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه ، قال له الحاكم العسكري خورشيد باشا : وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة ؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين). فقام بديع الزمان سعيد النورسي وألقى على سمع المحكمة كلاماً رائعاً نقتطف منه ما يأتي : لو أن لي ألف روح لما ترددت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام ، فقد قلت : إنني طالب علم ، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة ، إنني لا أعترف إلا بملة الإسلام ، إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة ، لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله : ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف ، وتبدو من أعماق القلب ، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.. إنني متهيء بشوق لقدومي للآخرة ، وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذي علقوا في المشانق.. تصوروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها فاشتاق إليها ، إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها ، إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة ، إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية ، لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد والآن فإنها تعادي الحياة ، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا : فليعش الجنون ، وليعش الموت ، وللظالمين فلتعش جهنم. وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات. المجاهد : أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية ، والوطنية الضيقة ، كجمعية الاتحاد والترقي ، وجمعية تركيا الفتاة. انضم إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرية ، شكلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى ، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية ، ومحاربة أعدائها ، وكان قد انضم إلى هذه المؤسسة كثير من المفكرين والكتاب ، وكان النورسي من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها ، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبوا للدفاع عن الخلافة. وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقى دروسه ومحاضراته ، متجولاً بين القبائل والعشائر الكردية ، يعلمهم أمور دينهم ، ويرشدهم إلى الحق. وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق ، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية ، ووسائل علاجها. وفي سنة 1912 عين بديع الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول ، من الأكراد خاصة. في الأسر : وفي سنة 1916 تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية ، وخاضوا عدة معارك ضدها ، ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً ، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته ، الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك ، فاقتادوه أسيراً ، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين أربعة أشهر ، ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال ، إثر الثورة البلشفية في روسيا. عزة المؤمن : وذات يوم قدم هناك إلى المحكمة الح

مؤلفات بديع الزمان النورسي

  • إشارات الإعجاز
  • حقيقة التوحيد